مراد الأول واتخذها عاصمة للسلطنة. متى تغلَّب فاتحٌ عليها فقد تغلَّب على سائر البلقان. ربَّ حلَقةٍ إذا سقطت , سقطت وراءها حلقات. حينئذٍ مدَّ النصرُ لها يدهُ فصافحتهُ بيدِ بايزيد الأول , ثم حالفَتهُ بيد مراد الثاني؛ فتمشَّت هيبتها في طليعة جيوشها , فملَك قومها مقدونيا وبعضَ بلاد الروم , واكتسحوا ألبانيا , ودوَّخوا الفَلاخَ , وفتحوا بلغراد. ثم مشى منها محمد على فروق حيث بنى عرشهُ على بقايا عرش قسطنطين , ووطَّد الخلافة على
أنقاض الإمبراطورية. أسعدَها بنو عثمان يوم كان نجمهم زاهراً ملء دائرته في سمائه , والهلال خفَّاقاً بالنصر على رؤوس الترك؛ فبني فيها سلُيم الثاني جامعهُ الشهير رافعاً قبَّتهُ على أعمدة من المرمر مباهياً بنها قبة آيا صوفيا في على أربعين هي وقبورُ بعض السلاطين كلُّ ثروتها من الآثار. عزٌّ مضى ومجدٌ تولَّى. لا حالٌ إلاَّ تحول , ولا دولةٌ إلاَّ تدول. عجباً لها! بينا هي سبيل السلاطين إلى الغرب , إذا هي طريق القياصرة إلى الشرق: مرَّ بها سليمان الثاني إلى فِيَنَّا , ومرَّ بها اسكندر الثالث إلى فروق! كُرَةٌ لصَوالجة الفاتحين يتراماها ملوكٌ , ويتلَقَّفُها ملوك. ما دخلها القائد بوسكيه أبَّانَ حرب القرم حتى خرج منها عقيبَها. تؤخذ اليوم(4/59)
بالسيف , وتنتزع غداً بالسياسة. فتَحَها جورجو قائدُ الروس , وانتزعتها منهُ معاهدةُ سان استفانوس! جوَّادةٌ بما لا تملك. لم تتحرَّر قط , ولكنها وهبت الشعوب الحرية , ولم تنعم بالاستقلال حقبةَ من الدهر , ولكنها أنعمت بهِ على جاراتها. لو استطاعت لأخذت مثل ما وهبت! سِجِلٌّ يكتبُ فيهِ القلم كما يكتبُ فيهِ السيف. لهذا صفحة تنطوي على دمٍ وعلى نار , ولذاك صفحة تنفتحُ على عهودٍ ومواثيق. ما كانت الأولى غير أسبابٍ , وما كانت الأخرى سوى نتائج. كذلك وقَّع فيها السلطان محمود معاهدةَ صلحهِ مع قيصر الروس , تلك المعاهدةَ التي وسعَّت منطقة روسيا في آسيا , وكتبتْ للسرب ورومانيا فاتحة عهدها بالاستقلال , وكذلك دُوّنَ فيها اعتراف التركِ بتحرّر الرُّوم , ذلك الاعترافُ الذي أعزَّ هؤلاء , وأطلقهم من ربقة الاستعباد. مَيدانٌ للحرب , لا ميدانٌ للعقل. ضرَبت فآلمتْ , وقاتلت فقتلتْ , ما أنكر أحدٌ بأسَها , ولا استخفَّ ملكٌ حملها. ليتها كانت ربَّةَ رأيٍ مثلما كانت ربَّة حسام. للقوَّةِ شأنٌ , وللسياسةِ شأن. ما وفَّقت بينهما , ولا استفادت من جمعها. فالبلادُ التي أغارت عليها عادت إليها مكتسحةً مُغيرة , والقومُ الذين أراقت دماءَهم , قويَ ساعدهم عليها فأراقوا دمها. وإنما الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك. مَن استفاد من نِعَم الأوَّل هوَّن عليهِ شرورَ الثاني.(4/60)
أدِرْنَه أخت بلافنا. كلتاهما كانت عريناً للأسود , ومعقلاً لأبطال لتاريخ أختانِ شقيقتانِ حمى عرضَيهما أخوانِ شريفان. ما تسلَّم قيصرُ الرُّوس الأولى إلاَّ مغموسةً بدماء الألوف من عساكرهِ , ولا بلغ قيصر البلغار الأخرى غلاَّ مشياً على جثثِ جنوده. ملكانِ ابتليا بملِكَين. ذانِكَ أعزَّهما تاجاهما , وهذان شرَّفهما سيفاهما. رَبَّ سيفٍ ردَّهُ فردينان إلى شكري احتراماً وإكراماً. غازيان لكلٍّ حقهُ من
الشرف والجاه. لتعتزّ أدرنه بفاتحيها. أسودٌ اقتنصتها من أسود! أيها الفاتحون أدِرنه المغتصبون حماها. هل فتحتم مدينةً أعزَّ أمِ اغتصبتم حمىً أجلَّ. أما واللهِ لو لم تكونوا لها أهلاً , ما ملكتم منها قِيدَ شبر , ولا تطلعتم إلى أسوارها إلا عن كثب. لم يبعها الترك رخيصة القدر , ولا اشتريتموها بخسة الثمن. فإذا وقفتم بقبور السلاطين فيها , قفوا خاشعين لذويها. الكريم مَن يعرف قدر الكريم. أولئك ملوك كبار أجلَّهمُ من قبلكم ملوك كبار. مَن ذا يقول لهم عنَّا: سلامٌ عليكم سلاطين عظاماً , وسلامٌ عليكم فاتحين أعزَّاء. هذا آخرُ عهدنا بكم. لتبقَ قبوركم مزارَ الأبطال وذكرى خالدةً لمجدكم الخالد. مباركةٌ هي تلك القبور , ومباركة حولها قبورُ حماتها البواسل. في ذمَّةِ البلغار ما في أدِرنه من رفات كريمة!! سلامٌ عليها وواهاً على عهدنا بها!!(4/61)
الجريحة الأبدية
قطرةُ الندى العالقة بغض الشجرة , عندما تنعكسُ عليها أشعةُ الشمس المشرقة تكون أشبه شيء باللؤلؤة الصافية. تلك القطرةُ اللؤلؤية , إذا هبَّ عليها النسيم الخدَّاع فأسقطها إلى الحضيض , امتزجت بالتراب , فتحوَّلت إلى وحلو ولكن يكفي أن يُصيبها شعاعٌ من الشمس المنعشة , حتى يُبخرها فيطهرها مما لحق بها من الأقذار , ويعيدها إلى صفلئها الأول. . . كذلك قل عن المرأة الطاهرة. فإن قلبها هو أشبهُ شيءِ بتلك اللؤلؤة الجميلة قبل سقوطها من على الغصن , بل هو أبهى وأسنى , فإذا هبَّت عليهِ لوافح الشهوات والأهواء , أسقطتهُ إلى وهدة الرذائل , فمرَّغتهُ في حمأة الدنايا , ولكن يكفيهِ شعاعٌ من الحب الطاهر حتى يخلصهُ من كل شائبة ويعيده إلى ما كان عليهِ من الجمال والبهاء. مسكينة المرأة , وتِعس حظّها في هذه الحياة. نفحتها قريحة الشعراء بألطف الأسماء , وجادت عليها مخيّلة العشاق بأجمل الألقاب:
سموها الشمس والقمر , وهي مسكينة المظلمة الفؤاد
رأوا فيها الغزال الشارد , وهي الرازحة المثقلة بتقاليد هذه الحياة
شبهوها بالزهرة النضرة , وهي المهشمة القلب الدامعة العينين في بلائها الشديد
لقّبوها بالحمامة البيضاء السابحة في الفضاء , وهي العصفور المقصوص الجناحين في قفص الحديد(4/62)
صوَرٌ وتشابيه , وأسماء وألقاب , هيهات أن تنطبق على حقيقة الواقع وواقع الحال. وليس من اسم ينطبق على هذا المسمى المسكين أحسن من الاسم الذي وضعهُ ميشله المؤرّخ الفرنسوي الشهير لما سمى المرأة الجريحة الأبدية كيف لا وهي جريحة ابنةً وزوجةً وأماً. . . .؟
بل كلها جروح دامية إذا تناولها إعصار هذه الحياة فتلاعب بها كما يتلاعب بأوراق الخريف , وطرحها أخيراً في مواخير البغاء , فتصبح ثغراً ضحوكاً باسماً , وقلباً خفوقاً دامياً؛ تغازل بالعين , وتبكي بالأخرى؛ وتداعب باليد , وباليد الثانية تسند فؤاداً تُصدّعهُ الذكرى. جمع أحد مشاهير المصوّرين حياة إحدى هذه التعيسات في خمسة رسوم بديعة الوضع والصنع. ففي الأول: صورة فتاة طاهرة ساذجة عند وصولها من قريّتها إلى المدينة؛ وفي الثاني: وقوعها بين مخالب أحد الذئاب البشرية؛ وفي الثالث: نزولها إلى
بيوت الفحشاء؛ وفي الرابع: نزولها في السجن , لأن الفاقة ساقتها إلى السرقة؛ وفي الخامس: امرأة ناحلة جرداء , عليها أسمال بالية , وهي تمدُّ يدَها إلى المارّين تستعطيهم هاتفةً: أعطوني حفظ الله أبناءكم من بناتي. . .! هذه هي صورة أكثر النساء اللواتي وُصمنَ بوصمة العار وهي صورة غنية عن الشرح والتعليق. ولكنَّ هناك فرضاً واجباً يتحتم علينا قضاؤه. فقلب هذه المرأة المسكينة كان ضحية الهيأة الاجتماعية. فعلى الهيأة الاجتماعية أن تضمد جرحه , وهي أدمتهُ؛ وتداوي قرحة , وهي أحدثتهُ. فتسكب عليهِ بلسماً , لا خلاًّ يزيده ألماً.
قال فيكتور هوغو: أيها الرجل - وكلنا هذا الرجل - لا تحتقر أبداً امرأة سقطت , لأنك لا تعرف تحت أي حمل ثقيل رزحت نفسها المسكينة(4/63)
أجل لا يليق بالإنسان أن يزدري تلك المخلوقة التي أعيتها أثقال هذه الحياة فسقطت إلى الحضيض , بل يجب عليهِ أن يمدَّ إليها كريمة فينتشلها من سقطتها ويرفعها من كبوتها. في فرنسا جمعية يرئِسُها الموسيو ليون بورجوا الوزير الفرنساوي السابق , هي أفضل من الجمعيات الخيرية , وأسمى غاية وأنبل مقصداً من سائر الأعمال المعروفة بالأعمال الإنسانية؛ خصص أعضاؤها ذواتهم بزيارة تلك المنازل النتنة التي دُفنت فيها الأنفس الحية فصارت تشبهُ القبور المكلَّسة: ظاهرها الرونق والبهاء , وداخلها التعاسة والشقاء. يزرون تلك الخبايا المظلمة , فيزورها معهم شعاع الحياة والرجاء فينعش الأفئدة الذابلة ويحيي القلوب المائتة. يزرون تلك المنازل فيأخذون من طُرح فيها من سفالة البشرية , ويضعونهُ في كير التنشيط ويدنونهُ من نار الأمل , فتُطهره ويصوغون منهُ نفساً جديدة طاهرة لا عيب فيها ولا دنس. ونحن في حاجة ماسة إلى مثل هذه الجمعية التي تخدم البلاد أجلّ خدمة فتعلّم السعيدات ما هي الشفقة والرحمة , وتعلّم التعيسات ما هو الصبر والرجاء.
أقوال مأثورة
كن على حذر من الكريم إذا هوَّنتهُ. ومن الأحمق إذا مازحتهُ ومن العاقل إذا أغضبتهُ. ومن الصديق إذا أفشيت بسرّه
ابن عبد ربهِ
قال بعضهم: انظر إلى المنتصح فإن أتاك بما لا ينفعك ويضرُّ غيرك فإنهُ شرّير. وإن أتاك بما ينفعك ويضرُّ غيرك فإنهُ طامع. وإن أتاك بما ينفعك ولا يضرُّ غيرك. فأصغِ إليه وعوّل عليهِ
الراغب الأصفهاني(4/64)
روسيا وبنو رومانوف
سبق للزهور أن نشرت صورة الشيخ يوسف الخازن صاحب الأخبار المحتجبة. وهو الكاتب المجيد الذي طالما طرب القراء لمقالاته الشائقة وأبحاثه الدقيقة. ويسر أن تقدم اليوم لقرائنا المقالة التالية منه , قال: في أوائل الشهر الماضي خُتِم القرن الثالث لجلوس مخائيل رومانوف على عرش روسيا , وهو جَدُّ الدولة المالكة فيها اليوم , فاحتفل الروسُ بذلك احتفالاً باهراً توفّرت فيه مظاهرُ الأُبهة والعظمة على ما يليق بالدولة التي تظلّلُ رايتها سدس بلاد الله مساحةً وعُشر عباده عدداً. فحجَّ القيصر إلى بيت جدهِ في موسكو , حيث يُحفَظُ المهد الذي ضمَّهُ واللعَب التي لها بها وسائر الذخائر المتروكة عنهُ , مما يحفظهُ الأبناءُ برّاً بالأبناءِ وافتخاراً بهم؛ وأقيمت الصلوات الحافلة في عاصمة روسيا تذكاراً للأموات ودعاءً للأحياء , بحضرة ستة عشر مطراناً يتقدَّمهم بطريرك أنطاكية , وقد جيءَ به خصيصاً من الديار الشامية لهذه الغاية؛ ووزّعت الصدقاتُ وأطلق السجناءُ وعفي عن كثيرين من المنفيين , ووردت على القيصر التهانئ من الملوكِ وروساءِ الحكومات وذوي الحيثيات , على ما فصََلت ذلك الجرائد اليومية. ولا غرابة إذا احتفلت روسيا مثل هذا الاحتفال بذكرى مخائيل رومانوف فإن لأبنائهِ فضلاً عظيماً عليها , ومآثر عديدة تخلّدُ ذكرى كثيرين منهم في التاريخ وتسوّغ الافتخار بهم: فإنهم تولّوا روسيا , ومساحتها ثمانية ملايين كيلومتر مربع بما فيها سبيريا؛ والبحران البلطقي والأسود مقفلان في وجهها , فلا منفذ لها إلاّ على البحر الأبيض حيث الجليد يكاد يجعل كلَّ منفذ والهواء سواء؛ وأسوج على كتفها قوية الساعد شديدة البأس , تضطرها إلى التنازل لها عن بعض الولايات؛ وبولندا حاجز قويٌّ بينها وبين دول الغرب تعزلها عنها , ولا تدع لها رأياً في مجالسهنَّ؛(4/65)
وفتوحات الترك تقصر نصيبها من إرث السلطة الرومانية الشرقية على لقب وشعار؛ والعنصر السافي , بوجه الإجمال , ضعيف الشأن , خامل الذكر لا يُعبأ بهِ , ولا يكترث له. وها هي الآن بعد ثلاثة مئة سنة من حكمهم على ما ترى: فإنهم ما اكتفوا بالمحافظة على ما ورثوه واسترداد ما اضطرّتهم الأحوال إلى التنازل عنهُ في بداية ملكهم , بل زادوه كثيراً بما ضموا إليهِ من الأملاك الواسعة في أوربا وآسيا وأميركا. على أنهم عادوا فباعوا ولا يتهم الأميركية للولايات المتحدة , كما باعت فرنسا من قبل ولاية لويزيانا , ومع ذلك فمساحة روسيا الآن تناهز ثلاثة أضعاف ما كانت عليهِ في أوائل القرن السابع عشر , عدا
الإمارات المستظلة بظلها والمناطق الداخلة في نفوذها. ومما يزيد هذه المساحة قيمة كونُها قطعة واحدة من الغرب إلى الشرق. فإن روسيا , من هذا القبيل , لا يضارعها سوى الصين والولايات المتحدة. أما الصين فانحطاطها لم يدع لها شأناً بين الدول ولسنا نظن أن مستقبلها يكون خيراً من ماضيها إذا اقتصرت عوامل الإصلاح على تغيير هيئة الحكومة ونظاماتها فإن مثل هذا التغيير ما كان يوماً دواءً شافياً لأمراض الضعف والانحطاط. وكفى بمصير البلاد العثمانية اليوم شاهداً. وأما الولايات المتحدة فمساحتها تسعة ملايين كيلومتر حال كون مساحة روسيا اثنين وعشرين مليوناً. نعم أن الولايات المتحدة مزية عظيمة على روسيا بالنظر إلى الموقع الجغرافي ووحدة الأمة وقابلية البلاد للعمران ولكن ما دامت دفة السياسة في يد أهل القارة القديمة فشأن روسيا أعظم وأرجع. أما البحر الأسود فقد أصبح بحيرة روسية لا ينازعها فيهِ منازع بفضل كاترين التي بسطت يدها على ساحله , ونقولا الذي دافع عتهُ دفاع الجبابرة , واسكندر(4/66)
الذي فك القيود وجدد فيهِ المعاقل والحصون رغم الأنوف. وما قيل عن البحر الأسود يقال عن البحر البلطيقي وقد قامت عاصمة الروس على ساحلهِ تفاخر رصيفتها الأسوجية فتفخرها على حداثة عهدها وترسل إليها مع كل موجة ذكرى بطرس الأكبر قاهر كرلوس الثاني عشر ومؤسس عظمة الدولة السلافية على أنقاض الدولة السكندينافية. أما بولندا فقد أمّحت من سجل الدول وكاد الانتصار لها لا يتعدَّى حركات كحركة المسيو فلوكه الصائح في وجه الإمبراطور اسكندر الثاني على سبيل الاحتجاج عند زيارتهِ باريس: لتحي بولندا يا مسيو! على أن فلوكه هذا هو نفسه الذي تغدى فيما بعد على مائدة الإمبراطور نقولا الثاني في بطرس برج ناسياً بولندا والبولنديين. لكن كيف كانت الحال فالأولى بالاحتجاج أن يوجّه إلى النمسا لأنهُ إذا كان اغتصاب الروس لبولندا ينم على الطمع فاغتصاب الساسة النمسويين لها لا ينم عن الطمع فقط بل عن قلة الوفاء ونكران الجميل أيضاً فإنهُ لا يخفي على أحد أنهُ لولا بولندا لباتت فيانا مرتعاً لخيل الترك ونالها منهم ما نال غيرها من العواصم التي فتحوها , ولا يزال النمسويون يحفظون حتى اليوم في بعض متاحفهم جمجمة يزعمون أنها جمجة قره مصطفى وهو الوزير الذي وقف عند وعيده لولا المعونة التي جاءتهم من بولندا. وقد أكبر النصارى كلهم يومئذٍ عمل البولنديين وتغنّوا بهِ في كل مكان وكلَّف البابا نقّاشاً من خيرة
النقاشين ان يخلد ذكراه على الرخام ويزّين بهِ كنيسة ماري بطرس في رومية. أما الترك فقد حقدوا على بولندا من أجل ذلك فكانوا أو من فكَّر في تقسيمها واقترحوه على روسيا قبل أن يخطر ذلك ببالها ولم تقدم عليهِ إلاّ فيما بعد بإلحاح النمسا وبروسيا. أما الهواجس التي جاءت من جانب الترك فما لبثت حتى زالت وتلاشت ولم(4/67)
يبقَ لها أثر في الصدور. نعم أن الترك أحرجوا بطرس يوماً فاضطر إلى توقيع معاهدة بروت على شروط لا ترضيهِ ولكن خلفاءَه انتقموا له أيما انتقام: وهذو معاهدة قينارجه - وقد أبت كاترين أن يوقعها الروس إلاَّ في مثل اليوم الذي وقعت فيهِ معاهدة بروت - ومعاهدة أدرنة ومعاهدة سان ستفانو كلها تشهد بأن نجم بني رومانوف كان أعلى من نجم بني عثمان وتبين الأسباب التي جعلت كلمة روسيا في الأستانة فوق كل كلمة. أما العنصر السلافي فقد كان ارتقاء روسيا وصعود نجمها في العالم السياسي خير منشط لهُ فدبت فيهِ روح جديدة وأخذ أبناءُ السلاف في كل مكان يحولون أنظارهم إليها والاتحاد معها وأن الاستظلال بظلها وأثبتت الأيام أنهُ لا تقوم لهم قائمة إلاَّ بالانضمام إليها والاتحاد معها وإن خالف ذلك منهم عاد بصفقة المغبون. وما كان بنيامين السلاف ليقف وقفتهُ اليوم ويخاطب النمسا ومن يشد مشدَّها بلهجة تحجم عنها الدول الكبرى لولا أن روسيا من ورائهِ تثبت عزمه وتشدّ أزره , وبيض القطا يحصنهُ الأجدلُ. والحق أن روسيا قد فعلت في سبيل أبناءَ جنسها ما لم يفعلهُ غيرها في القرون الحديثة وربما كان السبب في ذلك أن أبناءَ جنسها أكثر حاجة من سواهم إلى المساعدة والتعضيد. ولم تنحصر عناية الروس بأبناءَ السلاف فقط بل تناولت جميع الذين على مذهب الأرثوذكسية أيضاً فكان لليونان والسوريين حظ وافر منها والمشهور أنهُ لولا الروس ما قُرع جرس في سوريا ولا ارتفع صليب في جنازة مسيحية ولذلك كنت ترى المسيحيين العثمانيين بوجه الإجمال ضالعين مع روسيا في حربها مع اليابان ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى نفر من تلاميذ المدارس الأميركية لم تبلغهم عبر الماضي أو ظنوا أن الانتصار لدولة غير مسيحية على دولة مسيحية يعد دليلاً على(4/68)
الارتقاء وسعة الحلم والتنزه عن التعصب. على أن الارتقاء الاجتماعي في عهد بني رومانوف لم يبلغ في روسيا شأوَ الارتقاء السياسي وربما كان السبب الأكبر في ذلك أن الارتقاء السياسي يكفي للقيام بهِ أفراد معدودون تتوفر لهم الأسباب اللازمة وجلها مادية وذلك ميسور في كل آن
حال كون الارتقاء الاجتماعي لا بدَّ له من ارتقاء الأمة نفسها وهو أبعد بأوقات معينة قلما يمكن تعجيلها بلا ضرر. لذلك إذا صحَّ أن ينسب فضل الارتقاء السياسي إلى بني رومانوف لا يصح أن ينسب إليهم التأخر الاجتماعي. ومع ذلك فقد أخذت روسيا تخطو خطوات واسعة في ترقية الشؤون الاجتماعية نظرياً وعملياً. هذا ما صارت إليهِ روسيا في عهد أربعة عشر قيصراً وأربع قيصرات تولوها مدة ثلاث سنة وقل منهم من لم يترك مأثرة يعرف بها في التاريخ: فمخائيل رومانوف منظم الشؤون الداخلية , وألكيس ضابط القوانين ومنقح الكتب المقدسة , وفيودور ممهد سبل الاتفاق برفع أسباب النزاع والشحناءَ بين الأعيان والأمراءَ , وبطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة , وكاترين الأولى منقذة زوجها وجيشه برباطة جأشها وحسن فطنتها , واليصابات ماحية عقوبة الإعدام جابة لنداء المروءة , وكاترين الثانية الملقبة بسميراميس الشمال , واسكندر الأول صديق نابليون وخصمهُ , ونقولا الأول أمين الملوك على حقوقهم الإلهية , واسكندر الثاني محرر الفلاح , واسكندر الثالث حليف فرنسا. على أننا إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن العائلة المالكة اليوم في روسيا ليست من بني رومانوف حقيقة ولا بربطها بها إلاّ رابطة الرحم فأنها من سلالة بطرس(4/69)
الثالث وهو أمير الماني ارتقى عرش روسيا بعهد من حالته القيصرة اليصابات وقد انقرضت بها دولة رومانوف في روسيا كما انقرضت بسميتها دولة ثيودور في انكلترا , وكاترين نفسها ليست من بني رومانوف ولا هي روسية مطلقاً. فالعائلة المالكة في روسيا من هذا القبيل كالعائلة المالكة في النمسا فإنها تنسب إلى بني هبسبورج مع أنها ليست منهم إلاَّ من جانب النساء فلن جدها الإمبراطور فرنسيس الأول من بيت لورينّ ولكنهُ تزوج ماريا تيريزا ابنة الإمبراطور كرلوس السادس آخر بني هبسبورج وبواسطتها اتصل الملك بزوجها وأولاده منها ولكنهم ظلوا ينتسبون إلى عائلة أمهم. فروسيا والحالة هذه من جملة الممالك التي تحكمها دولة ألمانية كأنكلترا وبلغاريا ورومانيا. ويتصل نسب بني رومانوف من جانب النساءَ أيضاً ببني روريك وهم الدولة التي تولّت روسيا منذ أواسط القرن التاسع للميلاد وقد أدركوا في عصرهم شأناً عظيماً وصاهروا بني بليولوج أصحاب الأستانة وبني كآبه أصحاب فرنسا. ومن النوادر التي تذكر عن مصاهرتهم لملوك فرنسا أن بسببها سمي ابن هنري الأول ملك فرنسا فيليب: وذلك أن امرأة هنري الأول كانت من بني روريك
وكانت تتصل بني بليولوج من جانب النساء وهم يزعمون أنهم من سلالة فيليب المقدوني فسمت ابنها فيليب أحياءً لاسم أبي الاسكندر جدها المزعوم. ومما يجدر ذكره أيضاً عن بني رومانوف في هذا الباب أنهُ بينما كانت معظم الدول الأوروبية تتهافت على نابليون الأول لتزوجه بناتها بعد تطليقه جوزفين أبي بنو رومانوف أن يصاهروه. نعم أن نابليون لم يطلب مصاهرتهم صريحاً ولكن بدا من سفيرهِ في بطرس برج ما يدل على رغبة مولاه في أخت اسكندر الأول فبادرت والدتها وزوجتها زوجاً آخر حتى تسد السبيل في وجه نابليون. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب التي زادتهُ حنقاً على روسيا.(4/70)
ومن عادة بني رومانوف أنهم يشترطون بقاء بناتهم على المذهب الأرثوذكسي إذا تزوجنَ بغير أرثوذكسي ويشترطون عند زواجهم بغير أرثوذكسية أن تدخل زوجتهم في المذهب الأرثوذكسي أولاً وهي عادة تدل - بقطع النظر عن العقيدة - على رفعة الأخلاق وكرامة النفس فإن الدين كالعرض لا يتاجر بهِ.
يوسف الخازق
المرء ودنياه
عرف القراء أننا نرمي في ما ننشره لكتاب مختلفين من أصقاع مختلفة إلى جعل هذه المجلة مرآة تتجلى فيها حالة اللغة والأفكار في جميع الأمصار العربية. وفي مقالة الآتية التي جاءتنا من دار السلام وفي نشرناه قبلها لكتاب الزهور في العراق ما يصح أن يكون نموذجاً للأسلوب الإنشائي والحركة الفكرية في تلك الربوع التي عاشت اللغة العربية فيها عصرها الذهبي:
حياة المرءِ في دنياهُ ركبٌ ... يجوب الأرضَ في طولٍ عرضِ
فتغويرٌ لهُ في أرض قومٍ ... وتعريسٌ له في غير أرضِ
وأيام الشهور هي المطايا ... تحثُ السيرَ بعضٌ إثرَ بعضِ
وما عيشُ الفتى إلاّ غرورٌ ... كظل زائلٍ أو خفق ومضِ
يعيش ابن آدم في الدنيا وهو مغرور بزهوها , وزهرتها. مشبوب الفؤاد بحبها , طائر القلب إليها , مشغول الخاطر بقطعها ووصالها؛ يطلب منها الوفاء وهي تغدر بهِ ويتوسل إلى قربها بكل وسيلة وهي تخدعهُ , وتمنّيه بالوعد. وما مواعيدها إلاّ الأباطيل! ولو علم الإنسان - أن الدنيا غادة عطبول , وعاشق ملول. إن وصلت قطعت , وإن أعطت منعت. نعينها بؤس , وحلوها مرٌ , وراحتها تعب , وبقاؤها فناء , وعمارها خراب , وأهلها في خطر منها - ما ركن إليها بكله , وما سعى لها كلَّ(4/71)
السعي , وما بات وليس له من شغل شاغل سواها , ولا ذكر إلاّ ذكراها. . . أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا زخرُفها , وأطمعته أمانيُّها , واستغوته زينتها وطلاوتها , وانطلى عليهِ محالها. أصخ السمع , وعِ القلب , إلى وصف حال الدنيا وسيرتها مع أهلها ولا أظنك بمصغٍ ولا بواع! أيها الإنسان إن الدنيا كما جاء وصفها في القرآن المجيد ولا أبلغ من ذلك الوصف شيء كما أنزلناه من السماء , فاختلط بهِ نبات الأرض , فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً بينما تراها مقبلةً عليك بنضرتها , وبهجتها , ليس لها بعل غيرك , ولا دار سوى منزلك , ولا نظرة إلاّ إليك , تراها بأسرع من لمح البصر قطعتك الوداد , ومنحتك الصد والبعاد , فانقلب سرورك حزناً , وحلو عيشك مراً , وصفو شرابك رنقاً كدراً , وتركتك وحيداً فريداً , في مفازة من ضنك العيش , ووحشة الفقر , لا مؤنس لك ولا متوجّع , ولا ناصر لك ولا معين , كمن جاءه الموج من كل مكان , جفاك بجفائها الأصحاب , وأنكرك
الأقارب والأباعد والأهل والجيران. وصارت كل خلة كانت لك في الغنى مدحاً ذماً. فأضحى الذي يوّد أن تكون لك حاجة عنده , فيتقرب إليك بها وبتشرف بقضائها يتشاغل عن ردِّ سلامك إذا ما سلمتَ عليهِ لا لشيء هناك بل وفاءً منك بالودّ له! فهو يترك واجباً ويفعل محرماً , حذراً من أن تقول له قد بتُّ البارحة أنا وزوجي لنا سوى الماءِ والهواء , فهل لك أن تكرم عزيز قوم ذلّ , وشريفاً حسبه الجاهلون غنياً من التعفف؟ وأمسى الذي يوسط الواسطات إلى الحضور بين يديك أكره شيء في عينه النظر إلى وجهك. ولو في ليل ادلهمَّت دياجيره , كأنما ينظر إليك بعينين غير عينيهِ الأوليين.(4/72)
وبات الذي كان يفتخر بمجالستك , ومنادمتك في سفرك ومحاضرتك يستنكف من جلوسك إلى جنبهِ , ولو في قفز من الأرض لا رائح فيهِ ولا غاد. وعاد الذي كان يسعى في حسن خدمتك من قبل , أقبح شيء يراه حسن خدمتك له , فتراه يتأمر عليك , ويتذمر منك , ويحكم فيك حكم السادة على العبيد , ولا يرى حقاً لنعمتك التي أسبغتها عليهِ فيما مضى كأن لم تكن شيئاً مذكوراً! وراح الذي كان يتبرّك بلباس ثوبك الخلق , يفرّ منك فرار السليم من الأجرب وصار الذي كان يستنجدك في الملمات , ويلجأ إليك في المهمّات , يتربص لك الدوائر وينصب لك المكايد , ويؤلّب عليك إذا استنجدته في الخلاص من ورطة وقعت فيها , فإذا الذي يستنصرك بالأمس يستصرخك. أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا ظواهرها , وخفيت عليهِ بواطنها , فقام لها على قدم وساق , وشمّر لها عن ساعد الجد والاجتهاد , وأحبَّها حباً أعشى بصره عن مساوئها , وأعمه قلبه , وخامر عقله ولّبه , حتى استحوذ عليهِ شيطانها , وأخذت مجامع قلبه شهواتها. ويا أيها الإنسان الذي يتفانى في حبّ الدنيا ولا يلهج إلاَّ بذكرها , ولا ينشد إلاّ ضالتها , ولا يعرف إلاّ إياها , ولا ينظر إلى سواها , هلاّ اعتبرتَ بما عاملتْ بهِ تلك الدنيا آباءَك المتقدمين , وأجدادك السالفين , أهل القرون الأولى والقوم الجبارين؟ فكم أفنت من دول , وكم أبادت من الملوك الأُول , أرباب السطوة والسلطان , والأسرّة والتيجان , الذين عمروا فيها عمر نوح , وملكوا ملك سليمان , وبنوا بناء الاسكندر , وطغوا طغوّ قارون , وصالوا صولة النمرود , وحكموا حكم القياصرة , وعاشوا عيش الأكاسرة:
أين أين الملوك أين الرعايا ... أين أين القوّاد للأجنادِ
أين أين البناةُ أين المباني ... أين من شيّدوا كذات العمادِ(4/73)
أين اسكندرٌ وأين هِرَقْلٌ ... أين نمرود أين ذو الأوتادِ
أين قارون أين فرعون موسى ... أين كسرى وقيصر ذو الآدِ
أين من كتّبوا الكتائبَ للحر ... ب وصالوا بالمرهفات الحدادِ
أين من كانوا يحرصون على الما ... ل ومن كان كعبةَ القصَّادِ
هذه دورُهم تجيبك عنهم ... لو يجيب الجمادُ صوت المنادي
صرعتهم كأسُ المنون ولّما ... يستفيقوا حتى ليوم التنادي
وغدوا يُحملون من بعد عرش ال ... ملك في موكب على الأعوادِ
وغدا ما لهم وما جمّعوهُ ... للأعادي إرثاً وللحسَّادِ
وجفاهم أخوانُهم وبنوهم ... وجميع الحجَّاب والقوّادِ
وثووا في القبور من بعد ما كا ... نوا بعالي القصور كالأطوادِ
واستقروا في ضيّق اللحد يا س ... عدَ مقرّ السيوف في الأغماد
ورضوا بالتراب بعد فراش ... من حريرٍ مؤثرٍ ووسادِ
جمعتهم دارُ المنونِ جميعاً ... وهمُ من قبائل وبلادِ
فغدا الضدّ يألف الضدّ طوعاً ... وغريبٌ تآلف الأضداد
ومليك الزمان منهم له الدو ... دُ نديم بعد الحسان الخرادِ
فإذا كان هذا مسير الإنسان ومصيره , فينبغي للعاقل أن ينظر إلى الدنيا نظر معتبر , وإن يجعل مقامه فيها مقام مسافر , نزل دارها اليوم ويرحل عنها غداً. وإن يحاذر منها كل الحذر , لأنها عدوّ في ثيابِ صديق , وإن يبذر فيها ما طاب غرسه , وزكا أصله , ونما فرعه , وأينع ثمره , وحلا ذوقه , واعذوذب طعمه. لأنها مزرعة الآخرة , والمرء يحصد ما زرع. وإن لا يحزن على شيء فاته منها , ولا على شيء انقطع عنه بعد ما أصابه منها , بل ينبغي له أن ينزل ما أصاب منها , منزلة ما لم يصب. لأن جوهرّها عرض زائل , وكسبها خسران مبين. وإن لا يتزوّد من الدنيا إلاّ(4/74)
بقدر ما تمسّ الحاجة إليهِ. وأن يقنع بالشيء اليسير منها , إذ لا شيء أغنى من القناعة. ومن هضمَ دنياه وزهدَ فيها لآخرته , لم يحرمهُ الله بذلك نصيبه من الدنيا؛ ولم ينقصه من سروره فيها وأن لا يبيع آخرته بدنيا
غيره حتى ولا بدنياه. وينبغي للعاقل أن يستقرئ أخبار السالفين وأعمالهم , فيأخذ بالإحسان منها عملاً , ويترك القبيح , ويذهب مذهب من سلك طريقاً هداه إلى الحق , وإلى الصراط المستقيم , ويتجنّب منهاج قوم يجرُّ ناهجه إلى الضلال , وسوء المنقلب. وإن لا يكون غير ذي دين , فإن الدين رابطةُ الإنسان بحلاله وحرامهِ , وإن لا يظن إلاّ حسناً , ولا يكون شيء الاعتقاد في الناس , فإن سوء الاعتقاد في الناس , فإن سوء الاعتقاد روح الفساد. وينبغي للعاقل أن لا يُبغّض إلى نفسه عبادة ربه , وإن يساوي بين معاشهِ ومعاده , وإن لا يترك مجالاً لنفوذ أحدهما على الآخر. وأن يعمل فيها عمل من يأمل أن يموت هرماً , وعمل من يرجو أن يموت غداً. وأن لا يفرح بالكثير من المال إذا ناله , لا يحزن لقلته إذا فقد الكثير منه. وإن يصنع المعروف مع كل فردٍ من أبناء جنسه. وإن يجود على الناس بما وسع الله عليه من الرزق , وينتهز فرصة نعم الله عليهِ , فيتفضل بها قبلَ زوالها. لأن الغد وراء الغيب , والمرءُ لا يعلم من نفسه إلاّ ماضيها وحاضرها. فهو في مستقبله كالأعمى المسالك طريقاً وعراً في ليلة ليلاء , لا يدري أينَ يضع قدمه , في النار أم في البحر. وينبغي للعاقل أن يكون جلداً صبوراً إذا ما انتابته نوائب الزمان , وطوارق الحدثان. وإن لا يترك حاسديه يشعرون بما أصابه من المصائب. وأن يكون ذا حزم وإقدام , وأن لا يصدّه أدنى عائق يعيقه عما يحاوله من صعاب الأمور. وأن لا يتهاون بصغار الأشياء ولا يستعظم في عين كبارها. فإن الصغار يلدن الكبار. ومن هاب الشيء العظيم خسر ما دونه. وينبغي للعاقل أن ينظر على عيب نفسه , قبل أن ينظر إلى عيب غيره. وأن(4/75)
يغض طرفه عن عيب أخيه ولا يفاتحه بهِ مخافة أن يفاتحه بمثله. وأيّ الرجال المهذب وينبغي للعاقل أن يتعلم العقل من المجنون , والحلم من رأي السفيه , وحسن الأخلاق من سيئها , والعلم من الجاهل , والأدبَ من السافل , والدين من الكافر. وأن يأخذ الوفاء عن غدر اللئيم , والعبرة عن الدهر. واللبيب من اتعظ بغيره. وينبغي للعاقل تهذيب نفسه وتعويدها فعل الخير وكل ما ينفع الناس عامّة , ورفض ما يضرُّ بهم. وينبغي للعاقل أن يكون صادق اللهجة , حسن العشرة طلق المحيا في سرائه وضرائه. خفيف الطبع وقوراً وفيّاً , تصدق أقواله وأفعاله. وأن يكون أميناً محبَّا للفضل وأهله , منصفاً يتبع الحق حيث كان , ويطلبه حيث وُجد. وينبغي للعاقل أن يكون سليم القلب واسع الصدر سمحاً
صفوحاً , محبّاً للسلم مبغضاً للحرب لأن الحرب داء قتال , يفتك بالنفوس فتكاً ذريعاً. وأن لا ينبغي على أحد , لأن البغي شر والشر يورث الدماء , وأن لا يعادي أحداً , ولا يضمر سوءاً لأحد , لأن المرءَ قليل بنفسه كثير بأصحابه. وينبغي للعاقل أن لا يحتقر صغيراً لصغره , ولا يوقّر كبيراً لكبره , إذ المرء بأصغريه أو كما قال أبو الحسن علي: المرء مخبوءٌ تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه. وان يأخذ الحكمة ولو نطق بها مجنون ويأخذ ما يوافق رأيه من قول غيره , ولا ينتقد ما يخالف رأيه منه كونه خالفه. فلكل فردٍ من البشر رأي والكمال لله وحده.
بغداد
كاظم الدجيلي(4/76)
في رياض الشعر
أنتَ يَا مَن أنتَ في عي ... ني وفي قلبي مصوَّرْ
لك أهدي صورتي فان ... ظر إليها وتذكّرْ
نقولا رزق الله(4/77)
عرس في معركة
نظمت في سنة 1902 عقيب ثورة البكسر في الصين
وَففَا للوداعِ ذاتَ عشيّهْ ... هُوَ يبكي كالطفل وهيَ شجيَّهْ
وقفةً كلٌّ منهما ودَّع الآ ... خَرَ فيها مستقبِلا للمنيَّةْ
حالَ دونَ العناق بينهما كت ... مانُ تلك المحبةِ السرّية
ففُؤآدانِ يخفقانِ ولحظٌ ... يتناجى ولوعةٌ عذريّةْ
بينما كان والدها إلى الفل ... ك يؤمَّان مركباً حربيّهْ
وهْيَ فيها مَسُوقةٌ مثلما كا ... نت تُساقُ الذبائح البشريّة
وهديرُ الأمواج يدوي وقلْبُ ال ... صبِّ عند النوى يهابُ دويّهْ
وصفيرُ البخارِ يُنذرُ بالبي ... نِ وغوغاءُ عصبةٍ نوتيّهْ
رشقتهُ بنظرةٍ ثمَّ قالت ... لستُ أنسى هواكَ ما دمتُ حيَّهْ
لي حُبّي الذي عرفتَ ووجدي ... ولكَ العهدُ والوفاءُ وصيّهْ
نشأا عاشَقينِ طفَلينِ كلٌّ ... منهما يحسَب الغرامَ سَجيّهْ
حفظا في الطريق والبيت والكُ ... تَّابِ سرَّ الهوى وفي البريّةْ
شهدَ الناسُ أنَّ بين الصغيري ... نِ ائتلافاً وصحبةً أخويّهْ
ثمَّ شُبَّ الهوى كذاكَ رويداً ... وكذا للهوى نكونُ المزيّهْ
وقضى اللهُ بالنوى حين جدَّ ال ... وَجدُ بين الفتى وبين الصبيةْ
إذ قضى الدهرُ أن يكون أبوها ... كاتباً في السفارةِ الصينيةْ
نازحاً عن معاهدٍ مرَّت الغُب ... طةُ فيها بسرعةٍ برقيّهْ
من بلادِ الألمان موطنِ قومٍ ... عُرفوا بالجهادِ في الوطنيّةْ(4/78)
وهيَ أرضٌ يعيشُ تحتَ سماء ال ... علمِ فيها من شاَء والمدنيّةْ
سارَ عنها لكي يجاورَ أقوا ... ماً تساوَوا في الجهلِ والهمجيّةْ
صحبتهُ زوجٌ لهُ وابنةٌ عذ ... رآءُ كانت كأنها مسبيّهْ
نبذت داعيَ الغَرامِ وقامت ... بفروضِ المحبّةِ البنويّةْ
قبل عهدِ التاريخ في الصينِ أقوا ... مٌ أقامت مجهولةَ الذريّةْ
من بني آدمٍ إذا كان حقاً ... والداً للسُلالةِ البشريّةْ
جهلوهُ وأنكروا كلَّ دينٍ ... غيرَ ما أشركت بهِ الوثنيّةْ
كلُّ شيء لديهمِ قدَّستْهُ ... روحُ رب تجول فيهِ خفيّةْ
يجدُ الباحثُ المؤرخُ فيهم ... أمماً ميتةً وتُحسَبُ حيّةْ
وقفتْ بين أن تموتَ وتحيى ... وقفةً خيلَ أنَّها أبديّةْ
وأبى الغربُ أن تظلَّ كسدٍّ ... في سبيلِ الحضارةِ العصريَّةْ
فصلاَها حرباً يشبُّ لظاها ... بينَ عصرِ العلوم والجاهليَّةْ
وهيَ حربٌ في الصينِ قامت لأ ... نَّ الصينَ تهوى بقاءها صينيّةْ
وترى كلَّ دولةٍ دونها شأ ... ناً وبطشاً ونجدهً وحميَّةْ
والحديث المصنوعَ ألعوبةَ الطف ... ل تراهُ أو بدعةً وحشيَّةْ
والعدوَّ اللدودَ كلَّ غريب ... فهي تقضي بقتلهِ أمنيَّةْ
مَن يَمتْ في قتالهِ من بنيها ... نال حظَّ الشهيدِ في الأبديّةْ
سنَّةٌ ناصبوا بها الشرقَ والغر ... بَ عِداءً والعلمَ والحريَّةْ
وتداعوا فقامَ كلٌّ ينادي ... اقتلوا الأجنبيَّ والأجنبيَّةْ
لا تظنُّوا مالاً نهبتم حراماً ... لا تظنُّوا نفساً قتلتم بريَّةْ(4/79)
بينما كانت الشوارعُ في با ... كينَ تُكسى بحلّةٍ قرمزيَّةْ
نسجتْها أعضاءُ ميتٍ قتيلٍ ... أو جريحٍ مستهدفٍ للمنيَّةْ
ومرائي السماء سوداءُ يغشا ... ها دُخانُ القذائف الناريَّةْ
برزت للعُداةِ بكرٌ رداحٌ ... تتجلَّى كأنها حوريَّةْ
تقذفُ النارَ من يديها فيرتدُّ ... ونَ عنها بأوجه مشويَّةْ
وهي تلك التي وصفنا جَواها ... ووصفنا شؤونها الحبيَّةْ
كانَ في قلبها بقيةُ صبرٍ ... ثم زالت باليأسِ تلك البقيَّةْ
أغضبتْها الحياةُ كالحلمِ تمضي ... وديارُ الحبيبِ عنها قصيَّةْ
ورأت أنَّ قومَها بين حصرٍ ... وإسارٍ أشدَّ منهُ أذيَّةْ
والمنايا إليهمِ تتمشى ... عابساتٍ لكنْ خُطاها بطيَّةْ
فارتمت تقحمُ العدى وتنادي ... أيُّها الموت خذْ ياتي الشقيَّةْ
ثم دمّرْ مني سفينةَ يأسٍ ... بينَ أمواجِ دهرِها مرميَّةْ
رُبَّ صبٍّ قضى شهيدَ هواهُ ... وشجاعٍ في الحربِ ماتَ ضحيَّةْ
قال منهم مقدَّمٌ فتنتهُ ... مذ رآها ألحاظُها البابليَّةْ
لا تمدُّوا يداً إليها بسوءِ ... بل خذوها أسيرةً أو سبيَّةْ
وإذا صائحٌ يصيحُ فِراراً ... يا رجالَ الديانةِ البوذيَّةْ
داهمتكم مدافعٌ مهلكاتٌ ... وجنودٌ على الجنودِ قويَّةْ
نجدة لو دفعتموها لخلَّتْ ... دُورَ باكينَ من بنيها خليَّةْ
ثمَّ وافى من الفرنجة جندٌ ... هو عنوانُ وحدةٍ دوليَّةْ
فلغاتٌ في النُطقِ مختلفاتٌ ... ونفوسٌ لم تختلفْ في النيَّةْ
فوقَها كلُّ رايةٍ أنزلَ المج ... دُ عليها آياتهِ الحربيَّةْ(4/80)
نظّمتهُ ممالكُ الأرضِ جيشاً ... تتباهى بمثلهِ الجنديَّةْ
يتمنّى الجُنديُّ لو أنّهُ الج ... ثَّةُ في بعضِ رايةٍ مطويّةْ
وغَدا فارسٌ يشقُّ غبارَ الح ... ربِ بين الكتائبِ البكُسريّةْ
وقعت عينُه على غادةٍ تُس ... تاقُ للسبيِ وهيَ غضبي عصيَّةْ
بين قومٍ صفرٍ إذا الحربُ ثارت ... نفروا كالنعامِ في بريّةْ
سامَ فيها حبيبةً سامَه طو ... لُ نواها والوجدُ كلَّ بليّةْ
هيَ كانت مناهُ لمَّا تردَّى ... برضاهُ الملابسَ العسكريّةْ
فدنَا لا يَرى قيادةَ غيرِ ال ... حبّ بالطوعِ والخضوعِ حريّةْ
ونجا بالفتاةِ من ربقة السب ... يِ إلى حفلةِ الزواجِ الهنيّةْ
فاستظلاَّ منها برحمةِ أيدٍ ... شأنها الرفق أنها والديّةْ
سُرَّ ذاك الزواجُ غير العروسَيْ ... نِ أباً صالحاً وأمّاً تقيّةْ
ورفاقاً في الحرب كانوا جنودا ... ثم صاروا من بعدِها جمعيّةْ
تسأل اللهُ أن يبارك عِرساً ... قامَ بين المعاركِ الدمويّةْ
نقولا رزق الله
بين الشريف وصبري
سمع إسماعيل صبري باشا بيتي الشريف الرضي , وهما:
أرى بعد وردِ الماءِ في القلبِ غلَّةً ... إليكِ , على أني من الماءِ ناقعُ
وإني لأقوى ما أكونُ طماعةً ... إذا كذبتْ فيكِ المُنى والمطامعُ
فقال مجاراة لهُ:
يا مورِداً كنتُ أغنى ما أكونُ بهِ ... عن كلِّ صافٍ إذا ما بات يُرويني
عندي لمائكَ , والأقداحُ طوعَ يدْي ... ملأى من الماءِ , شوقٌ كاد يُرديني(4/81)
في سبيل الشرق
لم يبقَ لي إلاّ الشبابُ , وأنهُ ... ديباجةٌ ضمن الأسى أخلاقَها
نزلتْ بثهلانَ الهمومُ فلم يُطقْ ... حتى نزلنَ بكاهلي فأطاقها
وكرهتُها , ومن الغرائبِ أنني ... لشديدِ ألفتها كرهتُ فراقها
أشتاقُ أطّرحُ الهمومَ ويقتضي ... ظمأى على الآلام أن أشتاقها
ولربما عرف المحبُّون التي ... تجني الشقاء فأصبحوا عشَّاقها
شأن الفراشةِ واللهيبِ فإنها ... تغشاهُ وهو مسببٌ إحراقها
يشكو الصبابةَ كلّ يوم مُدَّعٍ ... وأحقُّنا دعوىً بها من ذاقها
لو نصفتْ تلك الحمامة لوعتي ... نضتِ الخضابَ ومزَّقت أطواقها
يا هذهِ , حتى الغصونُ لما بها ... نثرَتْ على وجه الثرى أوراقها
مثلَ التي لَزِمَ الخفوقُ جناحَها ... أصبحتُ مرتكضَ الحشا خفّاقها
داءٌ تحاماه الطبيبُ , وعلّةٌ ... طلب العليلُ فلم يجد أِفراقها
مرَّتْ بنا الأممُ الطليقةُ , وانثنتْ ... أخرى تُعالج أسرها ووثاقها
هذي الجياد , فمن تعاطي شأوَها ... يا شرقُ فيك ومن أراد سباقها؟
يا مشرقَ الشمسِ المنيرةِ , أنها ... وأبيكِ شمسك فارقت إشراقها
أما لياليكَ التي قد أقمرتْ ... فلقد طوت لكَ محوها ومحاقها
فاقت وبزَّتْ أمةٌ غربيَّةٌ ... من بزَّها في المشرقين وفاقها
وإذا أراد اللهُ رقدةَ أمَّةٍ ... حتى تضيعَ , أضاعها أخلاقها
ملّك الضلالُ زمامها , فإذا حبت ... أو أمسكت سببَ المعالي عاقها
رأت العدالةَ لا تروقُ لعينها ... فتلمَّستْ في الليل ظلماً راقها
عجلت على البلوى فساقت نفسها ... للموت , أو عجل البلاءُ فساقها(4/82)
ما عذرُ طائفةٍ أضاعت مصرها ... أن لا تُضيعَ شامها وعراقها
برزتْ وقابلها الزمان بسيفهِ ... فأطنَّ ساعدها وعرقبَ ساقها
أين الذين إذا اكفهرَّتْ أوجهٌ ... هبُّوا لنا طُلْقَ الوجوه عتاقها
للهِ أطماعٌ أصابت خُلفها ... فيهم وآمالٌ رأتْ إخفاقَها
نظرتْ إلى الحُلم الجميل فهاجها ... ورنت إلى الطيفِ الملمِّ فشاقها
أو ما تشوقُكَ يا خيالُ بقيةٌ ... في أنفسِ لك كابدتَ أشواقَها؟
محمد رضا الشببي
رائع الشيب
دَبَّ قتيرُ الشيبِ في مفرِقي ... سبحانَ من طرَّز هذا الشعارْ
طار الغرابُ الجونُ من فرعهِ ... ما لغرابٍ فوق فرع قرارْ
قد كنتُ من فودَيَّ في ليلة ... يا ليت لم يطلع عليَّ النهارْ
أغضَبني الشيبُ ملمّاً وقد ... اعذرُهُ لو يكتفي بالعُذارْ
سحابةُ الشعرِ إذا صرَّحت ... بالبرقَ فاضت بالدموع الغزارْ
مُلْكُ النجاشي في نواحي الورى ... ليس سوى بعضِ ليالٍ قصارْ
يسودُّ بختي بالبياض الذي ... بان على الهامةِ بعد السرارْ
جفَّ رطيبُ الجسمِ يا عاذلي ... فصرتُ أخشى فيهِ وقعَ الشرارْ
تأمل النسرين في لمتي ... قابلَ في الوجنة لونَ البَهارْ
قد ضحكَ الشيبُ برأسي وقد ... ضحكتُ لما قيل هذا الوَقارْ
نسيب ارسلان(4/83)
مصارع الأدباء
بلغ من بغضيَ للشعر أن صرتُ أعرض عن سوانح معانيه في لوامع قوافيه. القاعد بالجدود عن منازل الشرف , المتواكل بالعزمات عن بلوغ نهايات الأرب. إحدى فتن الخيال. تجري بها البدائة فتتلقَّاها مسامعُ بالقبول , وتتلقاها مسامعُ بالملل أبعدْ به وبطلاّ به. يتهادى أمراءُ الذَّهب بين شوار وبين سبلندِدْبار تُساقِط أعطافهم الجنيهات , ويطوفون حول معاهد الصبوة في عواصم الغرب من مُنْتْ كارلو إلى مُنْتْ كارلو. ثم يأوون إلى بيوتٍ كثرت فيها الديكة والحمائم , ثمَّ يصبحون في لزباتهم يهبون المال في دعاوي ومخاصماتك فطلاق وزواج وميراث وشركة يتخلل ذلك كله لعب الورق واستشارة الوكيل وإدلال الكاتب , وما أدراك ما الكاتب , وبيع الأطيان واقتراض المال. بدرانٌ تفيض العسجدَ , وتنفجر عن ذوب اللُّجين , والشاعر يريد أن يبيع ديوانهُ بقرصٍ من الطعميّة فلا يجد مشترياً , والكاتب يعرض دفاتره مجَّاناً فلا يرى قارئاً فسبحان الله! عَلَمٌ من أعلام العراق. هو أبو القصائد المحبَّرة والقوافي المحكمة. نزيلٌ بمصر , مقيمٌ في دار حزنه يعالج أيامهُ , ويعاني شدائدها وليس بمصر مَن يقول له أين أصبحتَ أيها الأديب العظيم؟ أحمد مفتاح رجلُ البلاغة , يموت ويدفن ولم تكتب خبر وفاته جريدة من الجرائد فيما علمت. ومحمد إمام العبد وهو شاعر مجيد يوُسّدُ بالأمس التراب , ولا يتقدَّم أحد ليقيم له ليالي مأتمه. وفي بلاد الغرب يصنعون التماثيل للشعراء , ويسمّون بأسمائهم الشوارع والدوارع , ويجعلون لميلادهم ولموتهم أياماً في كل سنة هي بمنزلة أيام الأعياد. ويقولون بمصر: الدستور والجلاء والمؤتمر , وتكتب الجرائد ليحيَ وليسقط. من يحيى ومن يسقط أيها المساكين؟(4/84)
لكل أمريء في هذه الأمة موضع يميّزه؛ والناس في درجاتهم متقاربون. وليس رجلٌ ينكره معارفه , ويتجافاه أقرب أقاربه إلاّ الأديب. فهو إذا برَّز على أقرانه حسدوه , وإن أقصر عنهم حقّروه , وإن ولج جمعاً جالت فيهِ أبصار المستهزئين. وله في خلقه أناسٌ يفخرون بملابسهم , وليست بصنع أيديهم , ولا أنسجتها من نسجهم , ولا أثمانها من كسبهم , ولا زينتُها تجمل ما قبح من أشكالهم. أولئك يطاؤون الهامات , ويذلّون الرقاب , ويتهادون في كل مزدحمٍ , تهاديَ الكواعب الرُّود في الوشي والبرود. طواويسُ الرجال يقضون طوال الأعوام في ديوان الحياة , ثم يخرجون منهُ كما تخرج الأنعام من تحت السقائف , لا متزودين ولا مستخلفين. إلى حيث ألقت رحلها! ننظر إلى الكتاب
المطبوع بإحدى اللغات الأجنبية فنرى مكتوباً على جلدهِ: الطبعة العشرون والطبعة الخمسون وأكثر من ذلك. وقد يكون عدد نسخ الكتاب , في الطبعة الواحدة , عشرة آلاف على الأقل , وليس في الشرق كتاب طُبع مرَّتين إلاّ نادراً أو ما كان متضمناً للمجون. وجرائدنا يأكل مشتركوها أثمان اشتراكهم فيها , ويكتفي قرّاؤها بنسخٍ يأخذوها من المشتركين , أو يقرأونها في القهوات. قرأها أشهراً وأياماً. وأغرب منهم من جاءته جريدة الجامعة العثمانية وهي جريدة كانت تنشرها الجامعة العثمانية وهي بيروت , وتعطيها من دون ثمن , ويُكتب على غلافها مجاناً فردَّ الرجل الجريدة بعد أن كتب على غلافتها بالعربية والفرنساوية مرفوضة. رفضَ الفضل ورفض الكرامة. لا طال ذنب زمانه! ولم يخجله كرَمُ الذين أحسنوا بها عليهِ إحساناً لم يقع على مستحقّهِ ومثل هؤلاء المخلوقات كثير بيننا ولا فخر!(4/85)
يموت أدباؤنا , وتُطفأ أنوار المعاني في عقولهم , وتبقى بيوتهم خاليةً وأجدائهم دائرة , وليس فينا من تحدّثهُ نفسهُ بأن ينقّبَ عن آثارهم , وينشرَ للأمة ما طويَ من معارفهم إقراراً بفضلهم , وتخليداً لذكرهم , واستفادة من آثار قرائحهم. ونحاول بعد ذلك أن نجاري الأمم أو أن نُشبه عباد الله. ما أكبرَ جهلنا بأقدارنا , وما أبعدنا عن مواضع الأنصاف. لا أديبُ العراق أجدتهُ فرائده , ولا الأستاذ مفتاح هنأته بلاغته , ولا أمام العبد أغناهُ شعره. وأنَّ نسخة من قصة القاضي والحرامي أو قصة دليله المحتالة لأحبُّ إلى عامّتنا , وأشهى إلى خاصبّتنا من درر هؤلاء العظماء وجواهرهم , وأدعى للشجون ثم أبعثُ للطرب من قصائدهم وقصولهم. سقاهم الله! رعاهم الله! عاشوا مظلومين. وأودعتْ بطون المقابر كنوزاً يتباهى بأمثالهم ملوكُ الأرض. يروى أنَّ بعض الانكليز يقول لو خُيّرنا بين أن نخسر الهند كلها أو نخسرّ شكسبير لاخترنا خسارتنا للهند , ولأبقينا شاعرَنا عوضاً عنها ونحن ماذا نقول؟ نقول لتحيَ الديكة والحمائم , أم نصيح ليحيى الدستور؟؟ أنا لنطمعُ اليوم في أن ننال ما لا يتاح نا إلاّ بعد خمسين عاماً فمَثلنا مَثل جماعة من العميان قيل إنّهم ركبوا أحدَ المعابر القوارب ليعبروا النيل. فقال قائلهم: هل لكم في الخروج من المركب من غير أن تدفعوا أجراً؟ قالوا بلى. قال: إذن فاسمعوا لما أقول. إذا قارب المعبرُ الشاطئَ صاح النوتي. فلّق. فثِبُوا هنالك وثبةَ رجلٍ واحد , وتفرَّقوا هرباً , واعلموا أنهُ لا يترك معبرَهُ ويعدو وراءكم. فقبلوا المشورة. وكان النوتيُّ يسمع المؤامرة وهم لا يشعرون.
فلما توسّط النهر صاح. فلّق فوثبَ العميان فوقعوا في البحر وغرقوا. وأني لأخشى أن ينادينا الغرورُ نداءَ النوتيّ فنغرق غرق العميان. الأمة في حاجة إلى نوابغها غرباءُ بينها , والصوت الأرنّ والقول(4/86)
المسموع ما يهتف بهِ قوم صمتت ألبابهم , ونطقت ألسنتهم. هم المسيطرون وهم الزعماءُ حَسْبُ الأديب في الشرق نعوتاً تكال له كبلَ الحشف. فهو الأديب الفاضل , والشاعر البليغ , والكاتب البارع , واللودغيّ والألمعي وغير ذلك. وليت هذهِ النعوت تحي لمن تصدق فيهِ , أو فيمن تكاد تصدق فيهِ. ولكنهُ مشارك فيها مشاركة الغبن. أهل البلدة كلهم أدباءُ فضلاءُ بلغاءُ فصحاءُ , ما سلم من ذلك ملكٌ ولا سوقة. وأظنُّ هذه هي المساواة التي يطلبها مجانين الدستور , لا المساواة في الحقوق التي يثني عليها أهل الأنصاف. ألا مَن مبلغٌ عني كلَّ أديب في الشرق أنهُ أديب وأنهُ فاضل , وأنهُ لوذعي , وأنهُ ألمعي , وأنهُ فصيح , وأنهُ بليغ وأنهُ عند الناس وجودُهُ مثل عدمهِ , وأنهُ أهون على أمراءِ الذهب من ديك من ديكة الهند , أو من حمامةٍ من حمائم اليمن. كنت ذات يوم راجعاً من دار البريد وفي يدي سيكارةٌ هي أخرى أخواتها. فمرَّ بجانبي رجلٌ يسرع في مشيتهِ , فاستطارها من يدي حتى وقعت على الأرض! وكان اليومُ شديدَ الهاجرة لافحَ الحر. فلما توسطت الشارع رأيت عربةً نظيفة فيها رجلٌ من رعاع القوم , وأمامه اثنانِ من الإوزّ. ثلاث رفقةٍ في خير عربةٍ , يقودها جوادانِ مطهَّمان. فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا ربّ تُلهمني الشعرَ , وتُجري يراعيَ بما يستطيعُ من النثر , وتجعلُ عبادك يدعونني بالأديب إن صدقاً وإن كذباً , ثمَّ أرى أني أحقرُ من الإوز في هذا الشرق؟؟ ثم انصرفت صابراً. هذا ميدان واسع , يتعب الجائل في أرجائهِ. ولولا حقوقٌ للأدب وأهله ما سطّرتها. ثلاثة إخوانٍ: مكروبٌ ودفينان. أما الرثاء فبعضُ ما يجب ولن يفوتني ما استطعت منهُ , وأما النحيبُ فأني سوف انتحي. فَمن لي بمَن يساجلني الدمعَ , ويشاركني في الشكاية. أما أنّا لمظلومون!!
ولي الدين يكن(4/87)
تأثير الدين في المدينة
أهمُّ المبادئ التي تسير عليها الأمم , وتُعتبر منار التاريخ وعماد الحضارة , المبادئ الدينية؛ وقد كانت الدوام أهمَّ عنصر في حياة الأمم , وهي لذلك أهمُّ عنصر في تاريخها. فأكبر حوادث التاريخ التي أنتجت أعظمَ الآثار هو قيامُ الديانات وسقوطُها. وأوّلُ المسائل الأساسية , في الأزمان الغابرة وفي الأزمان الحاضرة , المسائلُ الدينية. ولو أن الإنسانية رضيت بموت جميع آلهتها لكان هذا الحادث أعظمَ الحوادث التي تمَّت فوق وجه ارض منذ ظهرت المدنيات الأولى. لا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ جميع النظامات السياسية والتدبيرات الاجتماعية قامت , منذ بداية التاريخ , على معتقدات دينية , وأن الآلهة هي التي لعبت أكبر دور في الحياة الإِنسانية , وأنَّ الدّين أسرع مؤثر في الأخلاق لا يدانيهِ مؤثر اللهمَّ إلاَّ الحب؛ والحب دينٌ , إلاّ أنهُ دِين ذاتيٌّ غير دائم. وإذا أردت أن تعرف على أي حال تكون الأمة التي اهتاجها خيالهُا فانظرْ إلى فتوحات العرب والحروب الصليبية والاضطهاد الأندلسي وحال انكلترا أيام البوريتيين وسانت بارتلمي في فرنسا وحروب الثورة الفرنساوية. إلاّ أن للأوهام سحراً مستمرّاً شديدَ التأثير يتغير بهِ المزاج العقلي تغيراً كلياً. خَلَقَ الإنسان الآلهة ولكنها ما لبثت أن استعبدتهُ. وأنها بنتُ الأمل لا بنتُ الخوف كما وصفها لوقريس لذلك كان تأثيرها سرمديّاً. لقد كان من تأثيرها فيهِ أن جعلت عقله متشبعاً بفكرة السعادة فامتازت بذلك على كل مؤثر سواها , وقصرت الفلسفة عن إدراك هذه الغاية حتى الآن. نتيجة كل حضارةٍ إن لم نقل غايتها , وكلِّ فلسفة , وكلِّ دين , تكوينُ حالات عقلية خاصة , بعضها يقتضي السعادة , وبعضها لا يقتضيها. وترجع السعادة(4/88)
إلى أحوال النفس أكثر مما ترجع إلى الأحوال الخارجة عنها. فلربما كانت الضحايا فوق مواقدها أسعد من قاتليها. وكم فالح أرض بيديه يقضمُ الكسرة مفروكةً بالنوم أسعدُ بكثيرٍ من موسر متدفق الثروة تكاثفت حولَهُ الهموم. ومن دواعي الأسف أنَّ الحضارة في هذا الزمان خلقت للإنسان جمعاً من الحاجات , ولم تُعطهِ وسائلَ دَفعها , فتولَّدَ من ذلك عدمُ الرضاء في النفوس. قالوا الحضارة بنت الرقيّ. نعم وهي أمُّ الاشتراكية وأمُّ الفوضى. وهما صوتان مربعانِ تصيح بهما جموعٌ قلَّ إيمانها فاستولى اليأس على قلوبها. أين حال الأوروبي الذي تولاّه القلق , وهاجت أعصابهُ وأصبح غير راضٍ بحظهِ , من حال الشرقي الراضي بما قدر له. إنما الفرق بينهما في حالة النفس دون سواها. وإنما يُغيّر الأمة مَن يُغيّر من
تَصوّرها , ويجعلها تفكّرُ وتعمل غيرَ ما عملت. يجبُ على الهيئة أن تسعى في إيجادِ حال عقلية يكون فيها الفرد سعيداً وإلاّ فأجَلُ الأمة قصير. فما قامت الأمم حتى الساعة إلاّ متكئةً على خيال فيهِ قوَّةُ اجتذاب النفوس , وما سقطت واحدة منها إلاّ بزوال سلطان هذا الخيال. من أكبر خطأ هذا الزمان اعتقادُ الناس أنَّ النفس تجدُ السعادة في الأشياء الخارجة عنها. قل أنَّ السعادة فينا ونحن الذين نوجدُها. وشذَّ ما كانت بعيدة عنا. أنّا هدمنا خيال العصر الماضي فصرنا نرى انهُ لا حياة لنا من بعد هذا الخيالو وأنا إذا لم نوفق إلى الاستعاضة عنهُ فأنا هالكون. أكبرُ المحسنين لبني الإنسان الذين يجب على الأمم أن تُقيمَ لهم أفخم التماثيل من الذهب الوهاج , هم أولئك السحَرة القادرون الذين خلقوا لها الخيالات. أولئك يولدون أحياناً بين البشر , ولكنهم لا يولدون إلاّ قليلاً. أقاموا أمامَ سيول الآمال الفانية - وهي الحقائق التي لا قدرة للإنسان على معرفة غيرها , وفي وجه هذه الدنيا العبوس الجامدة - حجاباً من الأوهام القوية فسروا عن الإنسانية , وستروا ما في(4/89)
الحياة من غضاضة ومَضض , وخلقوا جناتِ النعيم فنيطَ بها الرجاء وتوالت الأحلام. وإذا رجعنا على الجهة السياسية علمنا أيضاً كيف كان تأثيرُ المعتقداتِ شديداً. والسببُ في قوة الدين العظيمة كونهُ العاملَ الوحيدَ الذي تتوحَّد بهِ وقتاً ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها. فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقامَ غيره من العناصر التي يتكوَّن منها روحُ الأمة والتي لا تنتج هذه النتيجة إلاّ إذا أربت وتمَّ نضجها بالوراثة. نعم لا يتغير مزاج الأمة العقلي بمجرَّد استيلاء دين على قلبها؛ غير أنَّ جميع القوى تتَّجه نحو غاية واحدة هي الانتصار للمعتقد الجديد , وفي ذلك سرّ قوتها العظمى. لذلك تجد أن قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر هذا التطوُّر الوقتي أعنى عصرَ تديّنها , وتأسيس أكبر الممالك لتي أدهشت العالم كان في عصر تدينها. كذا اتحدت بعض قبائل العرب بفكرة محمد صلى الله عليهِ وسلم فاستطاعوا قهر أمم كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء. وشادوا تلك الدولة الكُبرى. وعليهِ يتضح أنهُ كان للدّين شأن كبير في سياسة المم لأنهُ هو العامل الوحيد سريعُ التأثير في أخلاقها. نعم أن الآلهة ليسوا خالدين , ولكنَّ المبدأ الديني باقٍ لا يزول. يغفي زماناً , ثم ينشط متى ظهر ربّ جديد. وهو الذي استطاعت بهِ فرنسا وحدَها منذ قرن أن تقاوم أوروبا كلها. فعرف البشر مرَّة أخرى درجة تأثير المعتقدات الدينية. لأن الأفكار التي امتلكت العقول في
ذلك العصر كانت في الحقيقة ديناً جديداً نفخَ في الأمة من روحهِ فأنعشها. لكنَّ الآلهة التي برزت من خلال تلك المعتقدات كانت لطيفة المادة فلم تدم إلاَّ قليلاً؛ على أن سلطانها , مدَة وجودها , كان سلطاناً كبيراً. بعد ذلك نقول أن قدرة الديانات على تغيير روح الأمم قدرة فانية. فقلما تدوم المعتقدات على قوَّتها الأولى زمناً يكفي لتغيير الخلق تغييراً تاماً. سببهُ أنَّ قوَّة الأحلام لا تلبثُ أن تفتر ويرجع المأخوذُ بسكرتها بعض الرجوع إلى اليقظة فتظهر حقيقة الخلق العتيق.(4/90)
يظهر على الدوام خُلق الأمة حتى وسلطان الدين في منتهى شدته فتراه في الصبغة التي أنصبغ بها الدين عند الأمة التي اعتنقتهُ , وفي المظاهر التي تنشأ عنهُ. انظرْ إلى الفرق العظيم بين المعتقَد الواحد في انكلترا واسبانيا وفرنسا تجد أنهُ كان من المستحيل ظهور البروتستنتية في اسبانيا أو رضي انكلترا بإقامة الاضطهاد محكمة التعذيب بين ربوعها؛ ل تأمل حال الأمم التي دانت بالبروتستنتية تظهر لك أخلاقها الأساسية الأولى بادية عليها , وأنها بالرغم من افتتانها بمعتقداتها , لا تزال محتفظة بميزاتِ مزاجها العقلي , أعني الاستقلالَ ومضاءَ العزيمة وتدبّرَ الأمور قبل الأخذ بها وإباءَ الخنوع والاستذلالَ لسيّد يصدر في أمره عن الهوى. يتولّد تاريخ الأمم السياسي والأدبي والفّني من معتقداتها؛ إلاّ أن هذه كما تؤثر في الخُلق تتأثر أيضاًَ بهِ. فمفاتيح حياة الأمة خلقها ودينُها. والأول دائم من حيث صفاته الأولى , وعدمُ تغيره هو السبب في حدة تاريخ كل أمة واطراده. أما المعتقدات فقابلة للتغير. وتغييرُها هو السبب في أنَّ التاريخَ يحكي كثيراً من الانقلابات في الأمم. اليوم تميل الأمم القديمة على السقوط. فهي تهتزّ من الوهن , ونظاماتها تتداعى واحداً إثر واحد. وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من إيمانها الذي قامت عليهِ حتى الآن. فإذا فقدتهُ كله قامت حتماً مقامهُ حضارةٌ جديدة مؤسسة على معتقد جديد. لأن التاريخ يدلنا على أن الأمم لا تحيا طويلاً بعد اختفاء معبوداتها , وأنَّ الحضارات التي جاءَت مع تلك المعبودات تذهب بذهابها. ألا لا شيءَ أفعل في التخريب من أثرٍ معبودٍ يموت.
أحمد فتحي زغلول
وكيل نظارة الحقانية(4/91)
في جنائن الغرب
أنشودة روسية
من العادات المتبعة في روسيا أنه يحق للقيصر أن يطلق امرأته ويبعدها إلى أحد الأديرة إذا لم تضع له ولياً للعهد. وقد عثرنا على أنشودة يتغنى بها القرويون في روسيا تصف حالة القيصرة عند تركها القصر الإمبراطوري , فأحببنا أن نترجمها لقراء الزهور
كلٌّ حزينٌ في موسكو , لأنَّ القيصر غضب على القيصرة وأبعدها عن عينهِ أرسلها إلى هناك , إلى ما وراءَ جدران الدير.
وبينما كانتِ الأميرةُ تمرُّ بالقصر , أخذت تنوحُ وتبكي قائلةً:
أيها القصرُ الأبيض المفروش بالمخمل والحرير , أما من عودةٍ إليك؟
أما من عودةٍ إليك , فأروّحَ النفس بين جدرانك , وفي رياضك الغنّاء!
أما من عودةٍ إليك , فأرى سيدي القيصر , وأسمعَ كلامهُ العذب؟
كلٌّ حزينٌ في موسكو , لأن القيصر غضِب على القيصرة , وأبعدها عن عينيهِ خَرَجت القيصرة من القصر , وقفتْ في السلّم , فتنهدت وقالت للحرس بصوت متقطّع , والعَبَراتُ تخنقها:
أسرجوا الخيلَ للرحيل , فقد أزفت ساعةُ الفراق , سيروا رويداً , وأخرجوني على مهل من موسكو عسى سيدي أن يرقَّ , عساهُ أن يرثي لحالي
وكان جواب الحرَس عساهُ أن يرقّ , عساه أن يرثي لحالكِ!
لكنَّ قلبَ القيصرِ كجدران قصرهِ صَلْبٌ , لا يرقُّ ولا يلين
في الدير , تقرع الأجراس حزناً لاستقبال القيصرة الحزينة
كلٌّ في موسكو حزينٌ , لأن القيصر غضب على القيصرة وأبعدها عن عينيهِ!(4/92)
الدموع
أنِست بسمعي حنين دمع الفتاة؛ وكئِبتُ في نفسي لذرف دمع العذراء. ورشفت بيدي كأس دمع الفؤاد. فأحزنني الأول ساعةً ذكرتها العمر؛ وسهّدني الثاني ليلةً سقمت بعدها الشهر؛ وأسكرني الثالث مدةً آلمتني الدهر. ما هاجت أشجان الروح إلاَّ وسالت من الأنامل على الأوتار دموعاً؛ وما امتلأ إناءُ النفس إلاَّ وفاض من المقل على الخدود دموعاً. ما اشتدَّت
لوعةُ الفؤاد إلاَّ وانسكبت في الصدر دموعاً.
الدموع أنشودةُ النفس مع تسابيح الملائكة
همسُ القلب في أذن الفضاء
حديثٌ بلسان الحمام النائح
الدموع أكليلٌ , أزهاره الكآبة الصامتة , ينثرها اليأس على ضريح الأمل
قريض تنظمه العيون
عبير العنبر المحترق
أشواك ورد الهوى
أزهار العاطفة , تنبتها المحبة , ويسقيها الحنان , فيجنيها الجوى
بنات الشهور , يحب لبها الألم , وتتمخض بها النفس , فتلدها الحسرة
فديتُ بنفسي عواطف تتحرَّك في الصدر فتئنُّ لها الجوامد. تذرفها الروح دموعاً من الأنامل فتكفكفها الملائكة بأنفاسها وتجففها بحفيف أجنحتها لتصعدها إلى العرش الأعلى كبخور العفاف أو كبخار ذبيحة الطهر
دموعٌ ليست عبرات فردي إلاَّ أبردها ناراً , وأخفها ألماً(4/93)
والهف قلبي على شعائر شواعر , يثيرها الشجن فتحمّر الخدود , ثم تنصبُّ في المحاجر كما يصبّ الصبح الندى في أفواه الصدَف لتتحوَل إلى قطرات لا تبلغ لآلئ العالم يأسرها عشر ثمنها
ويح الحشا من قطرةٍ. لو سقطت على الحجر القاسي لرقَّ وذاب حرقةً
أما الفؤاد الذي كان نصيبه من الجهاد لهفةً ودموعاً , فليشرب الكأس حتى الثمالة. عساها أن تبرّد بمرارتها لهيباً أشعله الوجد , ونفخت فيهِ الصبا. ليبكِ بدمع المداد وبمقلة الغمام , مع الصفصاف المستحي والزهرة المائلة إلى الذبول , والنجم السائر إلى الأفول. والقدّ المائل على النحول
ليكفّرَ بدمعه عما جناه بحبهِ فكان عليهِ عوضاً عن النعمة نقمة , وعن العذوبة عذاباً. لعل النحيب يروي غليله ويشفي عليله
لو لم تخفف الدموع أشجان الروح , وتسكّن أحزان النفس , وتبرّد حسرة الفؤاد. لذابت
معها الحياة , وذوت في ربيعها زهرة العمر
حلب
يوسف توتل
الصداقة
قال عليّ بن أبي طالب لابنهِ الحسي: ابذلْ لصديقك كلَّ المودّة , ولا تطمئن إليهِ كلّ الطمأنينة , وأعطه كلَّ المؤاساة , ولا تفشِ إليهِ كل الأسرار
قال المأمون: الأخوان ثلاث طبقات. طبقة كالغذاء , لا يُستغني عنهُ , وطبقةٌ كالدواء يُحتاجُ إليهِ , وطبقةٌ كالداءِ الذي لا يحتاج إليهِ.(4/94)
في حدائق العرب
حبُّ الوطن
قال عُمر بنُ الخطّاب: لولا حبُّ الوطن لخرب بلدُ السوءِ. وكان يُقال بحب الأوطان , عمرت البلدان
وقال جالينوس: يتروَّحُ العليل بنسيم أرضهِ , كما تتروَّحُ الأرضُ الجدية ببلّ المطر
وقال بقراط: يداوي كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضهِ , فإن الطبيعة تنزعُ إلى غذائها. ومما يؤكد ذلك قول إعرابي وقد مرض بالحضر , فقيل لهُ: ما تشتهي؟ - فقال: مخيضاً رويّاً , وضبّاً مشويّاً
وقيل: أحفظ أرضاً أرسخك رضاعّها , وأصلحك غذاؤها , وارعَ حمى اكتنفك فناؤه
وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة , وإلى مولدها توَّاقة وحدّث بعض بين هاشم , قال: قلت لإعرابي: من أين أقبلت؟ - قال من هذه البادية. قلت: وأين تسكنُ منها؟ قال: بساقط الحمى , حمى ضرّية , ما إن لعمر اللهِ أُريد بها بديلاً , ولا ابتغي عنها حولاً , حفّتها الفلوات , فلا يملولحُ ماؤها , ولا تحمى تربتها , ليس فيها أذى ولا قذى ولا وعكٌ ولا موم؛ ونحن بأرفه عيشٍ , وأوسع معيشة , وأسبغ نعمة؟ قلتُ: مما طعامكم؟ قال: بخ بخ الهبيد والضباب والبرابيع مع القنافذ والحيَّات , وربما واللهِ أكلنا القد , واشتوينا الجلد , فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً؛ فالحمدُ للهِ على ما رزق من السعة , وبسط من حسن الدعة.(4/95)
وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية , إذا انتصف النهار , وانتعل كلُّ شيء ظلَّهُ؟ فقال: وهل العيش إلاَّ ذاك , يمشي أحدنا ميلاً , فيرفض عرقاً كأنهُ الجمان , ثمَّ ينصبُ عصاهُ ويلقي عليها كساهُ , وتقبل الرياحُ من كل جانب فكأنهُ في إيوان كسرى. وقيل لآخر: ما الغبطة؟ قال: الكفاية , ولزوم الأوطان , والجلوس مع الإخوان , وقيل: فما الذل؟ قال: التنقٌّل في البلدان , والتنحي عن الأوطان. وكان يُقال: الغريب عن وطنهِ ومحل رضاعهِ كالغرس الذي زايل أرضهُ , وفقد شربهُ , فهو ذاوٍ لا يُثمر , وذابل لا ينضر. . . والجالي عن مسقط رأسهِ كالعير الناشر عن موضعهِ الذي هو لكل سبعٍ فريسة , ولكل كلبٍ قنيصة , ولكل رامٍ رمية
وقال الشاعر:
نقّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى ... وحنينُهُ أبداً لأول منزلِ
عن الجاحظ
المتوفي سنة 255هـ=868م
خواطر
لكارمن سليفا ملكة رومانيا الحالية
سيمّون غالباً سليم الطويّة مَن ليس بذي عقل نبيه!
متى وُجد المر في حالة محزنة ومركز حرِج غلبت على لسانه الترَّهات. ألا ترى أن الكلب يعوي متى خاف
ذوو العقول يحجبهمٍ ذوو العظمة كما تُحجَب النجوم أمام الشمس!(4/96)
أندية الأدباء الحرة
نعت الماتين إلى قرائها , في أحد أعدادها الأخيرة , قهوة من قهوات باريس المعدودة وهي القهوة الانكليزية وقالت أن أعضاء الجوكي كلوب حضروا احتضارها واحتفلوا تحت رئاسة البرنس يواقيم مورات بتابيتها وعزى بعضهم البعض على تصرم أنفاسها ثم ودعوها الوداع الأخير بأن شربوا مئات من زجاجات الخمور التي طال عليها القدم منها ما يرجع عهد عصيره إلى سنة1874 وإلى سنة 1865 وإلى سنة 1858. ومن غريب الاتفاق , أنني بعد مطالعة هذا النعي , أتاني صديق من زبائن الاسبلندد بار وقال: البقية في حياتك! فقد عزمت شركة استين على استئجار نصف عمارة الخاصة الخديوية المشرقة على شارع كامل فتصبح الاسبلندد بار , وهي محط رحال الأدباء ورجال القلم , أثراً بعد عين!! فأخبرت صديقي بنبأ الماتين عن القهوة الانكليزية وقلت له: إذا صحَّ خبرك فليست الاسبلدد بار أول نادٍ حر للأدباء تذهب بهِ الأيام أو ينطوي ذكره ولا يخلد له خبر. وربما لا يوجد الآن في مصر عشرة يذكرون قهوة انطون وهي قهوة خشية كانت مجمعاً للأدباء والمشتغلين بالسياسة والفلسفة في أواخر أيام إسماعيل. ففيها جلس جمال الدين ومحمد عبده وسليم تقلا وتحت ظلال أشجارها غرست أول بذرة لفك الشرقيين من قيود الاستعباد الفكري. وبقيت ملتقى لذوي الأفكار الناضجة حتى عهد الثورة العرابية. ثم تحوَّلت ندوة للمغنى والرقص البلدي وأنشئت في مكانها عمارة بنك الكريدي ليونيه الحاضرة. ورغب الكثيرون من أهل الأدب , بعد الاحتلال الانكليزي , عن السياسة وتفرغ رجال النهضة الأدبية إلى الأدب الخالص فاتخذوا قهوة كتكوت بشارع(4/97)
المشهد الحسيني محبطاً لرحالهم فكنت ترى في هذه القهوة البلدية الشيخ الشنقيطي الكبير , والشيخ حسن الطويل , وسلطان بك محمد - أيام كان شيخاً معمعماً - والشيخ محمد النجار , ومحمد أفندي أبا الفضل , والشيخ أحمد القوصي , والشيخ عبد الرحمن قراعة , والشيخ سيد المرصفي وغيرهم. وكانت مجالسهم الليلة في هذه القهوة مجالس أدب راقية يتناشدون فيها الشعر وينثرون درر النثر , ويتنقلون في رياض الأدب والتاريخ والمنطق من القديم إلى الحديث. ثم فرقت بينهم أيدي الحدثان فمات البعض واشتغل البعض بشؤون الحياة وأصبحت قهوة كتكوت وقد خلت جوانبها من ذوي الألباب والفطن. وانشقّ أساتذة مدرسة دار العلوم وطلبتها عن إخوانهم طلبة الزهر الشريف فتألفت من أولئك حلقة جديدة في قهوة باب الحلق كان
رعماؤها الشيخ أحمد مفتاح والشيخ الحملاوي والشيخ محمود أبو النصر والشيخ محمد المهدي يحيط بهم عدد من الأنصار والمريدين من تلاميذ المدارس العالية وطلبة مدرسة المعلمين الناصرية. ثم تغلب الاشتغال بالسياسة على النظر في الأدب فكانت عمارة متاتيا الواقعة إلى جانب لبوستة والمحكمة المختلطة مثابةً لرجال القلم. فكان يجلس في طرفها المدعو القهوة العمومية الشيخ عبد القادر المغربي وعبّد الحميد أفندي الزهراوي والمرحوم حسين وصفي رضا - أخو صاحب المنار - وأمام العبد والشيخ محمد الشرباتلي وعهدنا بالأخر ليس بعيداً: فقد كان يحرّر في القهوة كل يوم أربع أو خمس جرائد أسبوعية فيأتيه صاحب إحدى هذه الجرائد ويدفع له الأجرة فيقوم بعد ساعة ومعهُ كتابة تزيد على حاجة جريدته. واحتلَّ القسم الأوسط المسمى قهوة جراسمو المرحوم إبراهيم بك المويلحي وإلى جانبه أحمد أفندي فؤاد صاحب الصاعقة وحافظ بك إبراهيم - قبل أن يضع رواية البؤساء ومحمود أفندي واصف. واستأثر بقهوة اسطنبول - في عمارة متانيا أيضاً - كتّاب الترك الأحرار(4/98)
الذين نفتهم الحكومة العثمانية في عهد عبد الحميد ففيها كتب محمد أفندي قدري - الكاتب التركي العربي الشهير - وأحمد بك سيد - ناظر الضربخانة العثمانية سابقاً - وصاحب ميزان أبلغ رسائلهم التي هزّوا بها أركان السلطنة العثمانية وفيها بدأ السيد عبد الرحمن الكواكبي يبث آراءه الحرة في إصلاح الشرق وأهله. واتخذ بعض الأدباء السوريين قهوة مصوبع بالفجالة محلاً مختاراً لاجتماعهم وكان يرأس هذه الاجتماعات الأستاذ إبراهيم أفندي الجمال ويحضرها المرحوم ميشيل الحكيم وإبراهيم أفندي النجار والمرحوم خليل الجاويش وأخوه نجيب أفندي الجاويش فيقصون ساعة ظهر كل يوم إلى جانب البنك فيتناولون الابريتيف ممزوجاً بما رقَّ وراق من بدائع المنثور والمنظوم. وراقت قهوة الشانزيليزيه في عيني حضرة العالم الفاضل صاحب الهلال ولكنهُ أبي أن يختلط بزبائنها فألف له حلقة من الأدباء وبعض كبار موظفي الحكومة الذين يميلون إلى الأدب والأدباء. فكان يحضر جلستهم كل ليلة سليم بك باخوس مدير الأموال المقررة في محافظة مصر وعزيز بك أبو شعر الموظف في نظارة الأشغال وحبيب بك دبانة من كبار موظفي المالية سابقاً ونعوم بك شقير مدير قلم التاريخ في نظارة الحربية. وكان يتردَّد إليهم من حين إلى آخر الشيخ يوسف الخازن ونجيب أفندي مشعلاني وأخوه تسيب وأنطوان
الجميّل وأمين تقي الدين وولي الدين بك يكن وسليم أفندي سركيس. ومع أن القهوة عامة فإن الغرف التي حجزت لهذه الفئة المباركة لم يكن يجسر على ولوجها غير أصدقائهم ومن يدعونهم لمشاركتهم في مباحثهم الأدبية الرائقة. وكانت المحروسة بار معروفة لسنوات خلت بأنها مؤتمر عصبة شاعر امير أحمد بك شوقي. وكان شوقي نقطة الدائرة ويزين المكان بجانبه خليل المطران ويحيط بهم عشرات من أدباء المصريين ورجال القلم الفرنسويين وفي مقدمتهم كاستنر وكولورا وغيرهما فيقرعون الكاس بالكاس ثم ينصرف كلٌّ إلى مكتبته(4/99)
ويمتشق قلمه لمحاربة زميله الذي شرب معهُ المدامة سائغة!! وزهت دولة التمثيل والممثلين تحت زعامة المطرب المبدع الشيخ سلامة حجازي فعمدوا إلى باربريكلي أمام مرسح اسكندر أفندي فرح فلم تكن تقع العين في هذا البار إلاّ على ملحن ينشد دوراً أو ممثلة تراجع فصلاً أو مترجماً ينقل رواية جديدة ففي ناحية فهيم وأبو العدل وعلى مائدة مريم سماط وميليا ديان. وفي منعرج إلياس أفندي فياض وعبد الرزاق بك عنايت وفي غرفة اللعب جماعة آخرون ممن ضايقنهم جلبة زملائهم ففضلوا عليهم كسب أو خسارة بضع قروش في لعبة السبعة ونصف. وأنشأ المسيو اندريا في شارع عابدين قهوة خصصها لطلبة مدرسة الحقوق الخديوية وعنونها باسم مدرستهم فتهافتوا عليها وانضم إليهم جماعة من طلبة مدرسة القضاء الشرعي وبعض طلبة المدارس العالية الذين يسكنون في حي عابدين. فكن الجالس في هذه الندوة لا يسمع إلاّ اسم فوستان هيلي ودالوز ومناقشات فتيان القضاء في الشؤون الأدبية الحاضرة وأحوال السياسية الداخلية. ولبثت هذه القهوة زاهرة بأهلها حتى أنشئ نادي المدارس العالية وعنيت الحكومة بمراقبة التلاميذ ومنعهم عن الاشتغال بالسياسة قم سميت قهوتهم قهوة الحزب الوطني فقهوه وبار القمر ولا يزال الكثيرون من المحامين ورجال النيابة والقضاة الشبان يحنون إلى هذه القهوة ويذكرون بها أحلى أيامهم التي قضوها فيها مشتغلين بالأدب ودرس القانون. وقد اندرست هذه الأندية الحرة بتحوّل الأدباء عنها ولم يبق غير الاسبلندد بار التي يهددوننا بزوالها بعد أن رنت في ساحتها أصوات الأدباء وأهل السياسة عشرين سنة متوالية ولم ينصفها أحد بكلمة قبل حضرة الكاتب الفاضل اسكندر أفندي شاهين رئيس المحرّرين في جريدة الوطن أو بعده إذ كتب عن جمعيتها مقالة في مجلة سركيس منذ سنة هي كل ما أُرخت بهِ هذه الندوة
السياسية الحرة.
توفيق حبيب(4/100)
ثمرات المطابع
ما كان أهنأني وأسعدني ... لو كان ينفعُ معشري قلمي
أنا لي فؤادٌ لا أُنزّهُهُ ... لكن يراقبُ ما يقول فمي
ولي الدين يكن
التجاريب - كتابٌ عني بطبعهِ ونشرهِ حضرة الفاضل فؤاد أفندي مغبغب , وهو مجموعة مقالات اجتماعية خطّها يراعُ أديبٍ من خيرة أدباءِ العصر ,(4/101)
وأنزههم قلماً , وأمضاهم بلاغةً , عنينا به ولي الدين بك يكن الكاتب المشهور , وصديق قرّاء الزهور. التجاريب تكاد تكون صفحةً من الصحائف السود ولم ينسَ القرّاء ما في الصحائف السود من تنهدات وزفرات تأخذ بمجامع الفؤاد , وتحرّك كامن العواطف. في هذه وفي تلك , كما في المعلوم والمجهول أنّهُ رجلٍ حرّ صادق , يردّد صداها قلم شاعرٍ ملَكَ أسرار البلاغة واستسلمت له عرائس المعاني. ولكنَّ الشاعر في التجاريب كثيراً ما يشفُّ عن الوطني الذي يتألم مما آل إليه وطنهُ المفدَّي , ويحاول أن ينزل إلى ميدان السياسة ليناضل عن حوزتهِ. ما جرى قلم وليّ الدين قط إلاَّ بما خفق بهِ قلبهُ وتحرَّك له لبُّهُ , وهذا سرُّ تأثير كتاباتهِ. أقرأ مقدمة مؤلفهِ الجديد تفهمَ بعض ما يخالج ذلك الصدر. وهاك المقدمة مكتوبة بخط يده.
مقدمة المؤلفَّ بخط يده
كل ما يتعلمه المرء من حوادث الأيام تجربة. وما يستفيد التجربة مستفيدها إلا وقت امتلكها بشيء يخسره من الأمل. ولو كنا نعني بتقيد الغطات وهي أقمع ما بقي مفاضت من الكتب الضجة وسالت. ولكن ما يسلم من النسيان قليل وفي ذاك القليل ذكرى إذا استعادها المرء وجد راحة في استعادتها. هذه آلام مصورة وشكاوي متجسدة. هذه هدية العداد المطروح إلى الأفئدة المقروحة. أن للأفئدة منجيا تتفارق في تتألف إذا لم تنفع اليوم تنفع عدا.(4/102)
فنشكر صاحب التجاريب على هديتهِ , ونحن واثقون أن فيها النفع الجزيل لكلّ من يطالعها , وأن كلّ أديب يحبُّ الأدب وذويه سينافس بإقتنانها وهي خير مقتنى.
سرّ تطوُّر الأمم - إذا سألتَ عن إفراد رجال القانون والقضاء والتشريع في مصر , يُذكر لك في مقدمة من يُذكر سعادة أحمد فتحي باشا زغلول المحامي فالقاضي فوكيل نظارة العدل. وإذا سألت عن نخبة المؤلّفين والكتّاب الاجتماعيين الذين أفادوا بلادهم بما كتبوا
وسطّروا , يُورد لك , في طليعة الأسماء اسم أحمد فتحي زغلول , صاحب سرّ تقدم الانكليز السكونيين وروح الاجتماع وسرّ تطوُّر الأمم الخ. وعندما سألنا , في السنة الماضية , جمهور القراء عن نوابغ مصر الأحياء , ورد ذكر فتحي زغلول في جملة هؤلاء النوابغ. فكلُّ ذلك ينبئ عن قدر الرجل وفضله واجتهاده , وعن تقدير الأمة والحكومة لخدماتهِ الجليلة ولصفاتهِ العالية. وآخر أثرٍ أتحف بهِ سعادتهُ عالم المطبوعات هو كتاب سرّ تطوُّر الأمم لواضعهِ الكاتب الاجتماعي الدكتور جوستاف لوبون وقد تناول فيهِ أبحاثاً خطيرة وموضوعات جليلة فبحت في مذاهب المساواة في العصر الحاضر وروح التاريخ , وطباع الشعوب النفسية , وظهور أخلاق الأمم في عناصر مدنيتها , وتاريخ الأمم باعتباره مشتقاً من أخلاقها؛ وتحوُّر صفات الأمم بتأثير المبادئ والمعتقدات الدينية , وتحلُّل الخُلق وسقوط الأمم إلى غير ذلك من الأبحاث الاجتماعية التي باتت تشغل الخواطر وتستوقف أبصار المفكّرين. وقد نشرنا في غير هذا المكان من هذا الجزء فصلاً يدلُّ على نمط الكتاب وأسلوب المترجم.(4/103)
قال حضرة الكاتب المفكّر أحمد لطفي بك السيد في فصل كتبه في الجريدة عن الكتاب الذي نحن بصدده أنهُ عاد فتحي باشا في منزله وقد أبلَّ من انزعاج ألمَّ بهِ فوجده في مكتبهِ بين أوراقهِ ومحابره مشتغلاً بوضع شرح للقانون المدني المصري , فسأله: أيهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟ فقال: هذه رياضتي وأشار إلى كتاب سرّ تطوُّر امم. فرجلٌ هذه رياضتهُ وهو على ما يعرفهُ الناس في مركزٍ يشغل معظم وقتهِ ويستغرق عمله الجهد العظيم لجديرٌ باحترام الأمة التي يخدمها بأمانةٍ وعقلٍ ونشاط.
تاريخ الصحافة العربية - من الأعمال الشاقة على المؤرخ كتابة تاريخ صادق عن الصحافة العربية. وقد طالما بحث الباحثون في هذا الموضوع ولكنهم لم يفوهُ حقهُ , ولا محَّصوا أخباره , لكثرة ما اعترضهم من المصاعب فإن الصحف التي ظهرت في بدء النهضة الحالية قد أمست اليوم نسياً منسيّاً ومات أكثرها بموت أصحابها فلم تحفظها مكتبة , ولا أَّخرها أديب. لذلك حاول حضرة الوجيه الفاضل الفيكونت فيليب دي طرَّازي أن يكتب هذا التاريخ غير مكترث لتلك العقبات فنقَّب كثيراً وبحث مُجدّاً حتى توفَّق إلى معرفة ما فات غيره من الحقائق فوضع التاريخ المذكور وهو يحتوي على أخبار كل جريدة وكل مجلَّة عربية ظهرت في العالم حتى يومنا الحاضر , مع جملة حسنة من صوَر أصحابها
ومنشئيها وكتَّابها , وشفع ذلك كله ببيانات وافية عن حياة كل جريدة ونزعتها السياسية أو خطئها الأدبية فكان مؤلَّفه هذا أشبه بقاموس يُرجع إليهِ , ويستفاد بهِ. وبين أيدينا الآن الجزء الأول منهُ وهو يقع في 150 صفحة مطبوعة طبعاً جميلاً. فنثني على الكاتب أحسن الثناء ونتمنى أن يقدّر الأدباء عمله قدره فيكون لكتابه ما يستحقه من الرواج.(4/104)
القواعد الجلية في علم العربية - هذا الكتاب لواضعهِ المفضال حضرة الأب حبرائيل أدّه اليسوع من أشهر الكتب المدرسية في علمي الصرف والنحو. وقد درس فيهِ قواعد العربية عددٌ كبيرٌ من الناشئة وعرفوا سهولة أسلوبهِ وحسن ترتيبهِ. وقد أعاد طبعهُ الآن حضرة العالم الأب خليل أدّه وأبرزه في حلة جديدة من حيث التقسيم والضبط فزاد في جلائهِ وضبطهِ وزقّهُ إلى تلاميذ الصفوف المختلفة في ثلاثة أجزاء جميلة الشكل , متقنة الوضع , مثل كلّ ما تصدره مطبعة الآباء اليسوعيين.
دمعة القلم - جمع تحت هذا العنوان حضرة الفاضل حنا أفندي نقّاش ما قاله الأدباءُ ونظمهُ الشعراء في رثاء الوجيه المحسن المرحوم جورج كرم أحد أعيان السوريين في الإسكندرية وكلها تدلُّ على ما كان للفقيد الكريم من المكانة والمنزلة السامية في قلوب عارفيه على اختلاف طبقاتهم.
من أمير إلى سلطان - رسالة قدَّمها المغفور له البرنس مصطفى فاضل باشا إلى السلطان عبد العزيز سنة 1866. وهي تتضمن آراء في إصلاح المملكة العثمانية مبنية على نظريات صادقة واختبارات شتى ترجمها إلى العربية سعادة أحمد فتحي باشا زغلول ونشرتها مطبعة المعارف. وهي من الرسائل التي يجدر بالقراء مطالعتها في الآونة الحاضرة.
ثلاثة تُكبّر الإنسان عما هو: الرزانة والكرم والعفو
وثلاثة تُبقي الإنسان على ما هو: التشبث بالرأي , والاحتفاظ بالفوائد , والبعد عن النصيحة
وثلاثة تصغّر الإنسان عما هو: البخل والأنانية واللؤم.(4/105)
أزهار وأشواك
مصائب قوم
قرأتُ في الجرائد أنّ فريقاً من أقارب غرقي الباخرة تيتانيك التي يذكر القراء خبر غرقها منذ مدة في لجج الأوقيانوس ينوون أن يقاضوا الشركة أمام المحاكم ويطالبوها بالتعويض المالي. ويبلغ مجموع ما يطلبون ثمانية ملايين ريال أو أكثر. وفي مقدمة المطالبين بالتعويض - بل المطالبات لأن الأكثر نساء - مسز هريس فإنها تطلب 200 ألف جنيه مقابل غرق قرينها و 5500 جنيه قيمة الأمتعة التي فقدتها هي وفي جملتها عقد من اللؤلؤ ثمنه ألفا جنيه. ومنهنَّ مسز كاريزا تطالب بمبلغ 35 ألف جنيه ثمن ما فقدت من الملابس والحلي: بينها ماسة قرنفلية اللون قيمتها أربعة ألاف جنيه , ودبابيس لبرنيطتها قيمتها مئة جنيه , وجونلاَّ بيضاء قيمتها 19 جنيهاً!! ومنهنَّ مسز ملْت تطالب بمبلغ 20 ألف جنيه ثمن قرينها المفقود. ومسز فوتريل تطالب بمبلغ 60 ألفاً ثمن قرينها أيضاً وبمبلغ 20 ألفاً ثمن صورة بالزيت تمثّل جركسية في الحمام وبمبلغ 11 ألف جنيه ثمن 110 ألاف قدم من الرقوق التي تطبع الصور المتحركة عليها. ومنهنَّ الكونتس روذس تطالب بألفي جنيه مقابل أمتعتها الشخصية منها خاتم ماس ثمنه 200 جنيه. وبين أصحاب القضايا رجل وامرأته يطالبان بمبلغ 30 ألف جنيه عن ابن فقد هو وقرينته وأولاده كلهم. صدق والله الشاعر القائل:
بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ(4/106)
من وليّ الدين
بين ولي الدين بك يكن وصاحَبي الزهور ألفةٌ بلا كلفة. وقد دارت بينهم مراسلة لطيفة منذ سافر ولي الدين إلى الثغر الإسكندري. واعقاد صاحب المعلوم والمجهول في رسائلهِ أن يجعل مدير هذه المجلة شخصاً واحداً بأن يشتقَّ لهما اسماً من شطرٍ من اسم هذا وشطرٍ من اسم ذاك. ولعلَّ في هذا الاشتقاق خير ردٍّ على الدكتور وغيرته. ومن محاسن الاتفاق أن وقعت بيدي آخر رسالةٍ كتبها ولي الدين , فأحببت أن أضمها إلى أزهاري لما فيها من عرف الإِخلاص وأريج المودّة الصادقة , قال:
رمل الإسكندرية - محطة مظلوم باشا في 7 مارس سنة 1913
أخي انطوان تقي الدين
أنا أسير الفراش من منذ آخر كتاب أنفذته إليك. وهذا الكتاب أسطّره على ذلك المضجع الخشن. طال أمد السقام وأوحشتني الصحة. ويا ليتني إذ لم أفز بالصحة فزت برقدة يستريح الجسم فيها. لا هذه ولا تلك. أفٍ لأحكام المقدور. قصارى الانتصاف أن أكون لديه صاغراً. مضت لياليَّ كلها في سهادٍ مطّرد. ما عالجتُ النوم مرّة , قرَّبته مني قيد شعرة. أضطجعُ على سريري , وآخذ الكتاب من الكتب أقرأهُ حتى آتي على آخرهِ. ولقد أقرأهُ وأنا لا أفهم ما فيهِ. تلك استعانتي على أهاويلِ الدياجي , استعانة الضعيف بأضعفِ الحيَل. ولقد صبَّحتني اليوم زهورُك وأنا على سريري قائمٌ كأنف عبد الحميد على وجههِ. فإذا الزهور تبشّرنا باستهلال سنتها الرابعة - أطال الله عمرَ الزهور(4/107)
وعمرَي كاتبيها وصاحبيها. الآن وجبت التهنئة. ولكن هيهات! لا يهبط الإلهام على الشاعر الموجع. أمَّا وصفك لفروق ونوحُك عليها , فقد هزّا روحي هزّا. رعى الله فروق ما أفتنها. هي أوَّل ثغرٍ بسم لوجهي بعد ثغرَي الوالدين. ثمَّ لم ألقَها بعد ذلك إلاَّ باكيةً وباكياً. ائتلفت العناصر فقامت بها الأشياءُ. وقامت فروقُ من عنصر واحدٍ لست أُدري ما هو , ولكنُّهُ عنصر يُظلم عنده الراديوم. كنت أشتاق إلى فروق لمضياع غير أن فروق ناشز لا تدوم على ودّ. ليتها م تكن. وليتها إذ كانت في دون هذا الجمال. عفا الله عنك! أثرتَ شجوني , وأنا أكاد أعجز عن إجالة القلم ضعفاً. ولقد قلت:
ما لهذا السقام لازَمَ جسمي ... حَلّ مني ما بينَ عظمي وجلدي
كلَّ يومٍ أذوبُ شيئاً فشيئاً ... ولقد ذابَ قبلَ ذلك كبدي
فإذا صرتُ في التراب دفيناً ... خبّروا الشعرَ أنهُ ماتَ بعدي
تعبتُ وكنت أودُّ أن لا أتعب , لأحدّثك طويلاً , لأُساجلك الدموع. وأنَّ أمامي لثلاث قصائد كاملة هي هديتي للزهور ولكني لا أستطيع نسخها , وخطها مشوّش. فاصبر , عسى أن تراجع الحياة شاعرها , فيصدقك روايتها , سلامٌ عليك وشكر لك على ما تولبني من العناية. ليس بشاعر. ولكنهُ رصّاص سرَّاق وهو ينسج على منوال الطبقة السافلة من أمثال ابن الفارض من الشعراء الحشَّاشين أو شعراء البديع. وما زال يعانق غصنَ ألبان والأراكِ حتى لواهُ - لواهُ الله!
أكرر سلامي وتحياتي. وافِني بأخبارك سلامتك
أخوك
ولي الدين يكن(4/108)
خمسة جنيهات للرافعي
بيتان من الشعر أُعجب بهما الشيخ أحمد آل إبراهيم أحد سراة الهند , فأحب أن يعرف شاعرهما , فسأل عنهُ وديعاً البستاني سميرَه الأديب , فخانتهُ الذاكرة , فسأل صديقتهُ مجلة الزهور فلم توفّق أكثر منهُ , فحوّلت السؤال بدورها إليَّ , فكان حظي من الشاعر حظ من سُئل قبلي , فطرحتُ بالسؤال على قرّائي في جزء سابق , فلم تخب آمالي , لأنّ بين قرَّائي نخبة الأدباء المتضلّعين , وجاءَني الجواب الشافي من أبي السامي مصطفى صادق الرافعي وقد نشرته ص: 494 سنة 3 وضمنتُ له حينئذٍ جائزة من آل إبراهيم. فُحقّقت آمالي للمرة الثانية , وكان حظي من قرّائي الأغنياء حظي من قرّائي الأدباء. فما لبث يريد مصر إن حمل إلى الهند ذلك الجواب حتى وافاني بريد الهند بكتابٍ تضمن الجائزة المؤمَّلة , وهي حوالة بخمسةٍ من الذهب , أدفعها للرافعي حين الطلب. . . بورك في آل إبراهيم الكرام , وبورك في البستاني الصغير , وبورك في الرافعي الأديب , بركة شملتهم جميعاً ولم ينلني منها لا خيرٌ ولا أذى , وإنما حسبي من أبي السامي الرضي. . .
حاصد
ثروة هائلة
تقولُ العربُ في أمثالهم أغنى من قارون. ولكن التاريخ لم ينبئنا عن مبلغ غنى الرجل , لنقابل بين ثروتهِ وثروة ملوك المال في عصرنا هذا: توفي في الشهر الغابر المثري الأميركي الشهير ببير بونت مورغن عن ثروةٍ قلما اجتمعت لرجلٍ , وقد قدَّرتها الدايلي تلغراف بمبلغ يتراوح بين العشرين مليوناً والمئة مليون جنيه , وقالت أن السبب في هذا الاختلاف الكبير في التقدير كون مورغن يملك كثيراً(4/109)
من التحف القديمة التي دفع بها أموالاً طائلة كالصورة التي اشتراها بمبلغ 100 ألف جنيه. فإذا أريد بيعها لم يشترها أحد بذلك المقدار. وقالت أيضاً أن ثروته الخصوصية دون ثروة المسترروكفلر والمستر كارنيجي بكثير ولكن قيمة الشركات والأعمال المالية التي كان يتولاها مورغان تفوق كل ماتولاه إنسان قبله. وقد قدرتها التيمس بمبلغ ألفي مليون جنيه وهو قدر يبلغ عشرة أضعاف الغرامة الهائلة التي دفعتها فرنسا إلى ألمانيا بعد حربها المشهورة. على أن كاتباً في الديلي تلغراف قدَّر تلك القيمة بمبلغ 1300 مليون جنيه وقال أن هذا القدر يزيد 200 مليون جنيه على الدخل السنوي لأمم الأرض الكبرى وعدتها 43أمة. وهو يزيد 400 مليون جنيه على جميع ما في الأرض من الذهب المسكوك نقوداً وغير المسكوك. ولو بدأ إنسان يعد هذا المال من ساعة ولادته على نسبة جنيه في الثانية وبقي يعد ويحسبّ الأيام كلها بلياليها من غير انقطاع لانتهى من العد وهو ابن 63سنة. على أن أعظم من هذا القدر هو قيمة الأعمال المالية التي كان مورغن يتولاها وللمستر روكفلر سهم كبير فيها. ففي السنة الماضية عين مجلس النواب الأميركي لجنة لتحقيق ما لهذه الشركة من التأثير في شؤون البلاد المالية والصناعية. وبعد تحقيق دام عدة أشهر وضعت اللجنة تقريراً قالت فيهَِ أن في أيدي الرجلين 36 بالمئة من ثروة أميركا المتداولة بين الأيدي ومصادرها الطبيعية وقدَّرت قيمة ما تمتلكه هذه الشركة بمبلغ 7950 مليون جنيه. منهُ نحو 3000 مليون قيمة أعمال صناعية. ونحو 3400 مليون قيمة سكك حديد. ونحو 800 مليون قيمة بنوك وغيرها من المعاهد المالية. و2 مليون قيمة مناجم من بترول وغيره. ونحو ذلك قيمة أعمال أخرى. ولبيان عظم هذا القدر تصوَّرْ أن رجلاً شرع يعدُّه على نسبة جنيه في الثانية من عهد موت كرومويل في انكلترا ومزاران في فرنسا لانتهى من عدّهِ في هذه السنة الجارية بفرض أنهُ عاش هذه المدة كلها وطولها نحو 250 سنة. ولو شرع في عدّه من الآن لانتهى سنة
2163.(4/110)
ولما توفي مورغن أوقفت بورصة نيويورك الأعمال حداداً عليهِ خمس دقائق وهذه أول مرة أوقفت البورصة أعمالها هذه المدة الطويلة!! منذ نشأتها إكراماً لرجل من الناس. كان مورغن قليل الكلام كثير الكلف بالإيجاز. قابل إمبراطور ألمانيا فقال: قابلت الإمبراطور فأحببتهُ. أما الإمبراطور فقال فيهِ: لم أجد في حديثهِ دليلاً على أنهُ مدرك تمام الإدراك ما في العالم التجاري من أسباب الائتلاف والاختلاف. وقد أدهشني جهله لتقدم الأمم التاريخي والفلسفي. وليس في سياستهِ الاقتصادية أو اقتصاده السياسي محل للاهتمام بالاشتراكية التي ستصبح عن قريب أعظم المسائل حيثما كان. وقد اعترف بأنهُ لم يهتم بها إلى حد أن يعرف حقيقة ماهيتها تزوج مرتين. ففي الأولى قصد باريز سنة 1859 لرؤية خطيبته وكانت مريضة بل مسلولة فامتنعت عن الزواج طبعاً فأقنعها مورغن بأن تتزوجه وقال: أني أدور بك الأرض لتعود إليكِ صحتكِ. فاقترن بها سنة 1861 وانقطع عن الأعمال وتفرَّغ لعمل كل ما يُحسن صحتها. ولكن ذلك كله لم يجدِ نفعاً , فتوفيت بعد زواجهما ببضعة أشهر. وعاد فأكب على أعماله كعادته ولم يتزوَّج ثانية إلاّ بعد مضي ثلاث سنوات على زواجه الأول. كان مورغن لا يضنّ بدفع الرواتب الهائلة عند الحاجة. وأكبر راتب دفعهُ هو أو غيره إلى مستخدم , ما عدا رواتب الملوك , هو مبلغ خمسين ألف جنيه للمستردوكنيس وكيل المالية المصرية سابقاً والسير كلتون دوكنس فيما بعد. فإنهُ لم يكد يستعفي من مصر ويعين عضواً مالياً في مجلس والي الهند حتى عرض عليهِ مورغن خدمة عنده بالراتب المذكور وضمن له الراتب. فقبل ولكن لم تطل مدة خدمته عنده لأنهُ مات بعد سنوات قليلة من فرط الجهد وتراكم العمل عليهِ.(4/111)
دروس
يجب أن نأخذها من النحلة
تعلمنا النحلة:
1 المثابرة على العمل , لأن النحلة لا تتخلّى عن عملها قط
2 الإخلاص والطاعة , لأن النحل يحب ملكتهُ ويطيعها
3 محبة الأوطان , لأن النحلة لا تترك بيتها إلاّ للضرورة ولوقت قصير
4 النظافة , إذ لا أنظف من بيت النحلة وخليتها
5 الرفق والعطف على الآخرين , فالنحلة لا تترك رفيقة لها في ضيق
6 وجوب الاستيقاظ باكراً
7 وجوب التمتع بالهواء النقي
8 المسالة والمودَّة , فقلما تشاجر النحل
وصايا الحكماء
أيام الدهر ثلاثة يوم مضى لا يعود إليك. ويوم أنتَ فيهِ لا يدوم عليك. ويوم مستقبل لا تدري ما حاله ولا تعرف من أهلهُ
الأبشيهي
اسمان متضادَّان بمعنى واحد: التواضع والشرف. وقيل إذا ارتفع الشريف تواضع وإذا ارتفع الوضيع تكبَّر
القيرواني
سُئل سقراط: لماذا لا تتكلم أجاب: خلق لي أذنان وفم واحد لكيما يسمع الإنسان أكثر مما يتكلم
قال رجلٌ: أصعبُ الأشياء أن ينال المرءُ ما لا يشتهيهِ. فسمع كلامهُ بعض الحكماء فقال: أصعب من ذلك أن يشتهي ما لا ينالهُ
العاملي(4/112)
العدد 34 - بتاريخ: 1 - 5 - 1913
شاعرية خليل مطران
على راية الفرقة يعلّق القائدُ شارةَ المجد والشرف , عندما يبلي أفراد تلك الفرقة البلاء الحسن في مواقع القتال. . . وفي ميدان النهضة الأبية الحديثة أبلى شعراؤنا بلاءً حسناً , فكأن سمو أفندينا المعظَّم قد علَّق تلك الشارة على رايتهم إذ وضعها على صدر شاعرنا خليل مطران. . . فليهنأ الخليل لواءَ الشعر العصري؛ وليهنأ النيشان الذي حلَّ على صدر يحوي الدرَّ والجوهر؛ وليُحمَد مليكُ البلاد على آلائه وليُشكر. . . . أما بعد. فقد رأيت أن خير ما يصاغ من التهاني في مثل هذا الاحتفال الزاهر هو حديثٌ أُطار حكم إياه , أيها السادة , عن المحتفَل بهِ وعن شاعريته. فأقول:
منشدٌ للغرامِ لم يشدُ إلاّ ... كان إنشادُهُ نواحاً شجيَّا(4/113)
شاعرُ كان عمرُهُ بيتَ تشبيبٍ ... وكان الأنينُ فيهِ الرويَّا
إنَّ في نظمهِ لحسّاً لطيفاً ... باقياً منهُ في السطورِ خفيَّا
هي أبيات كتبها خليل مطران على الصفحة الأولى من ديوان الشاعر الفرنسوي ألفرد ده موسه ولا يسع من ينظر فيها إلا أن يقابل بين حالَتيْ الواصف والموصوف , وشعر الأول والثاني , فيجدها تنطبق أتمّ الانطباق على الاثنين: كأن الشاعرَ العربي وصف حاله لما وصف حال الشاعر الإفرنجي. . . من المعروف أن لحياة الكاتب , والمحيط الذي ينشأ ويعيش فيهِ تأثيراً كبيراً في كتابته. ويرى على ذلك دليلاً واضحاً في شعر خليل: دبَّ شاعرنا وشبَّ تحت سماء سوريا الجميلة , بين جبالها وقممها البيضاء , أمام بحرها الصافي وأمواجه الزرقاء , فجاءَ شعره رقيقاً لطيفاً. . . ترعرع وكبر في وادي النيل بين آثار المدينة القديمة وصروحها العظيمة , فكان إنشاده فخماً عظيماً. عاش تارة في القرى والجبال , فتشرَّب حب الفضيلة والطبيعة , فأسمعنا الشعر زاهراً طاهراً؛ وعاش طوراً في المدن , فراعه ما فيها من التعاسة والشقاء , فألقى علينا إنشاده مبكياً زاجراً. قال في مقدمة ديوانه أن القارئ يدارجهُ مدراجةً تمثِّلهُ لديهِ في كل حالة مرَّ بها ولقد أصاب في ذلك , فإن شعره بالحقيقة رسمٌ تمثَّلت لنا فيهِ كل أطوار صاحبه , وارتسمت بين أبياتهِ كل عواطف قلبه , وتأثرات فؤاده. وهذا سرُّ محاسن شعره العديدة. وصف لنا خليلٌ حياته في صبا , بين آثار بعلبك , فتمثلناه:(4/114)
نَزقاً بينَهنَّ غرّاً لعوباً ... لاهياً عن تبصُّرٍ واعتبارِ
مستقلاً عظيمها مستخفّاً ... ما بها مِن مهابة ووقارِ
نتبارى عَدْواً كأنا فراشا ... روضة ما لنا من استقرارِ
ثم بعد أن كبر وخاض معترك هذه الحياة نلقاه:
في هجرةٍ لا أنسَ فيها ... للغريب ولا صفاء
تتقاذفُ الآفاقُ بي ... قَذْف العواصف للهباء
وتُحيطُ ب يلججُ الصروف ... فمن بلاءِ في بلاء
وهكذا يمكننا أن ندرس حياة خليل شطراً شطراً , من مطالعة ديوانه سطراً سطراً. قلنا أنه عاش بين جمال الطبيعة ومظالم البشر؛ وهذا ما قوَّي فيهِ الخيال والشعور. ومعروفٌ أن هاتين القوّتين هما جناحا الشاعر يحلّق بهما إلى أعلى سماء الشعر؛ ويأمن تهشمهما إذا كان العقل رائدهُ في حياته العلوية. وقد قال في مقدَّمة ديوانهِ إنّ شعره هو شعر الحياة والحقيقة والخيال أي أنَّ الذي أوحاهُ هو الحسُّ والعقل والمخيَّلة. وهذا هو التقسيم الذي نتبعه في درس شعره:
1 - الخيال:
هو أقوى قوانا العقلية لأنه وحده القوة الفاعلة الموجدة , وسائر القوى , كالحس والحافظة والعقل , ليست إلا قوى مفعولة تتأثر وتعمل بما يطرأ عليها. وإذا كان الشعر كما حدَّه مرمونتل صورة تتكلم أو كلاماً(4/115)
يصوِّر وهو كذلك , يكون الخيال شرط الشاعرية الأول. وقد قيل: الشعر هو ابنُ البكر. وبفضل هذه القوَّة يفوق الشاعرُ المصوِّرَ , لأنه بكلمة واحدة كثيراً ما يمثِّل لنا مشهداً يقتضي تصويره ألواناً مختلفة وتفاصيل متعددة. وكثيراً ما رأينا خليلاً أدقَّ تصويراً وأبلغ رسماً من أمهر المصوّرين , فإذا وصف مثلاً الجنديّ الجريح وقائده يقلّدُهُ وساماً , قال:
. . . . فقلَّده وساماً ... وكلُّ جراحةٍ فيهِ وسامُ
وإذا كانت نفسهُ مثقلةً بالهمّ , يرى ذلك الهم
. . . . كبحرٍ ... ضمَّ في جوفهِ البعيد غريقاً
وإذا شكت عينهُ المسَّهدة طول الليل , فهي:
تحسب السرجَ في حشاهُ قروحاً ... وترى الشهبَ في سماهُ حروقا
وهذا بيتٌ تكاد تكون كلُّ كلمةٍ فيهِ صورةً حسية
وإذا تبسم أمامه عبدٌ يرى ابتسامهُ ... . . . . . مثل وميضٍ في حالكٍ مسودّ
ويرى الليلة الجميلة:
أشبهَ بالجاريةِ الغراءِ ... في حلةٍ شفافةٍ سوداءِ
وإذا تمثَّل الشمسَ منيرةً في كبد السماء , تصوِّر له مخيلتهُ المتقدة هذا المنظر تصويراً يعجز عنه قلم المصوّر , فيقول:
تبعثُ الشمسُ باهرات شعاعٍ ... تغتدي بانحدارِها شبهَ رُبدِ
فهي في الأفق تارةً مسحاتٌ ... من بهارٍ وتارةُ نثرُ وردِ(4/116)
وهي بين الغصون نسج دقيقٌ ... من نضارٍ يشفُّ عن لازوردِ
وإذا خاطب الغادة الحسناء , قال لهما:
أنتِ ابتسامٌ صيغ في قطرةٍ ... من الندى في قَبَسٍ من صباح
وإذا رأى قرطين حلقاً في أُذن تلك الحسناء تصوَّرهما دُرّاً جرى من صَدَف
وإذا رآها مكللةً بزهر الفل أعجب بالورد يحمل فلاَّ
وإذا كانت تلك الغادة مقبلة رآها:
. . . . كالغصنِ أثقلهُ الجني ... فمال قليلاً واستوي متقوّما
وإذا وصف الصبية اللعوبَ الطروب , قال فأبدع وصفاً وتشبيهاً:
ضحّاكةٌ كالنَورِ في الزهَرِ ... رقاصةٌ كالغصن في الوادي
كرَّارةٌ كنسيمة السحرِ ... ثرثارةٌ كالطائرِ الشادي
وهل تكون مثل هذه الفتاة إذا نزل بها همٌّ إلاَّ:
كطائرٍ راقَهُ غديرٌ ... فرقَّهُ جانحاً وطارْ
وإذا عبث لهواء بشعرَها قال:
وتناثرت ضُفرُ الفتاةِ غمائماً ... سترت عن الأبصار طلعة نجمها
وإذا وصف الولد الذي لا يقرُّ له قرار. قال:
كزهرة روض تمرُّ بها ... فتقلقها النُسُمُ السائره
وإذا تكلم عن السفن الحربية المائسة على ظهر البحار وصفها كالجنّ في جدِّ العواصف
تلعب وإذا وصف سلطة الملك صاحب الشوكة والاقتدار , قال:(4/117)
أنت الرجاءُ فأي شيء ترتجي ... والروعُ أنت شيء ترهبُ
والملكُ جسمُ أنت فيهِ هامةٌ ... ويداك مشرقُ شمسهِ والمغربُ
أو قال أيضاً فأجاد:
وكأنَّ درَّة سيفهِ عينٌ ترى ... ما تحت قائمِ سيفهِ آجالا
فما أبلغ هذه الاستعارات والتشابيه وما أجمل!
وإذا وصف جبلا مزحلقاً صوَّره:
كثيرَ الثلوم كأنَّ الفتى ... إذا زلّ يهوي على مبردِ
وهو بيتٌ من قصيدةٍ عصماء عنوانها فتاة الجبل الأسود فيها من الوصف الفتان ما شاء الخيال وشاءَ التفنن. من ذلك أنه عندما يصف جمال الفتاة وهي بارزة إلى ساحةِ القتال لا يصفهُ كما وصف جمال غيرها من الحسان , بل يراعي مقتضى الحال , ويستعير كل صوره من التعابير الحربية , فيقول:
لهيبُ الحروبِ على وجنتيهِ ... والنقعُ في شعره الأسودِ
وفي عينهِ مثلُ برقِ السيوفِ ... وظلُّ المنيّةِ في الأثمدِ
وعندما تنكشف حقيقة هذا الفتي - أو بالأحرى هذه الفتاة - فتكشف عن صدرها أمام قائد الأعداء , يُبدع خليل في وصفها أيما إبداع إذ يقول:
وأبرز نهدَي فتاةٍ كَعابٍ ... بطرفٍ حّيي ووجهٍ ندي
كَحُقَيْ لُجيَنٍ بقفلَي عقيقٍ ... وكنزين في رَصَدٍ مرصدٍ
فكبَّر مما رآهُ الأميرُ ... وهلّل كلٌّ من الشُهَّدِ(4/118)
وراعَهَمُ ذانك التوأمان ... وطوقاهما من دم الأكبدِ
ورثبُهما عند ما أُطلقا ... إلى ظاهر الدرع والمجسدِ
كوثبِ صَغار المها الظامئاتِ ... نفرْنَ خفاقاً إلى موردٍ
ويطول بنا المقال لو جئنا على ذكر كل ما توحي المخيلة إلى شاعرنا من لطائف الابتكار. وله قصيدة شهيرة في وصف بعلبك هي مجمع الصوَر وملعب الخيال. وقد جعلتهُ بحقٍّ يسمى شاعر بعلبك والأهرام وبالإجمال فإن خيال خليل يزين ويحسن ويحلي كل ما تقع
عليهِ أبصاره , فيحقُّ له أن يقولَ كما قال لعروس شعره:
وأبدلُ نور الشمس ما شاءتِ المنى ... عقيقاً وتبراً ساكباً ونضارا
وأنظمُ من زُهر الدجى لكِ خاتماً ... وتاجاً وعقداً فاخراً وسوارا
وأصنعُ نوطاً باهراً من هلالها ... وأنسج من غزل الضياء دثارا
وهذا الذي وضع خليل في مقدمة شعراء الطبقة الأولى في الوصف. أما في الشعر القصصي والخطة التي اختطها للنظم العربي في هذا الباب , فاقرأوا عين الأم ونابوليون الأول وليمون يوسف أفندي وحكاية شاعر وشهيد المرؤة والعصفور والعقاب ومقتل بزرجمهر والطفلة البويرية وحكاية عاشقين والجنين الشهيد الخ تروا المقام المرء شاعراً. إذ يكون نظمهُ والحالة هذه بارداً جامداً , نرتاح إليهِ ونجد فيهِ بعض البهجة , لكنهُ لا يحرّك فينا ساكناً ,. ولا يثير شعوراً كامناً , كما نرى ذلك في شعراء الوصف؛ فإن هناك ركناً آخر يقوم عليهِ بيت الشعر وهو الحس أو الشعور.(4/119)
2 - الشعور
قال خليل مطران في مقدمة ديوانه: وليس أكثر شعري هذا بين الطرس والمداد إلاَّ مدامع ذرفتها , وزفرات صعَّدتهاو وقطع من الحياة بدَّدتها؛ ثم نظمتها فتوهمت أني استعدتها. وهكذا يتحقق لنا قوله الأول أن شعره ليس فقط شعر خيال. بل هو أيضاً شعر حياة ومن القول ما يؤثر في النفس وأنّ خلا من كل صورة , لأنهُ صورة الحياة الحقيقية. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. كقوله مثلاً في مشاكاة وهي من أوليات قصائده:
أرى مثل سهديَ في الكوكبِ ... أحلَّ بهِ مثلُ ما حلَّ بي
يهيمُ هياميَ من وجدهِ ... ويهربُ من مهدهِ مهربي
ونجتازُ من هذا الفضاَء الرحيبَ ... إلاَّ بنا فهو لم يرحبِ
فيا نجمُ ما النارُ تُفني حشاكَ ... وما سيلُ مدمعك الصيّبِ
أسِرَّ هواكَ إلى صاحبٍ ... يؤاخيك في همك المنصبِ
أما كلُّ ذي كلفٍ متعب ... شريكٌ لذي الكلفِ المتعبِ
فهذه أبيات كلها رقةٌ وشعور على خلوّها من الصوَر وأساليب البديع. وأن في المواضيع الشعرية المبتكرة التي طرفها خليل لبرهاناً واضحاً على شعورٍ كبير مقرون بخيال حادّ.
فالحادثة البسيطة تُهيج عواطفَهُ وتثير أشجانهُ. فينظمها ويجيء نظمُها محرّكاً عواطف قارئهِ مهيجاً أحزانه. اسمعهُ يتكلم عن مهد الطفل تظنهُ الأم الحنون:(4/120)
ويهزُّهُ خفقُ الفؤادِ ... على مناجاةِ الضمير
وإذا سمع ذاك الطفل يناغي في مهده , فضَّل مناغاته على هديل الطيور وتغريد البلابل:
. . . . . . . . . . . فكلما ... أنشدَ علّم الطيورَ النغما
وجمعَ الأملاك حول المهدِ ... يُسمعها شدوَ المنى والسعدِ
هو يشعر بالألم فيصوّر لنا الفؤادَ المتألم:
كشلو بأنياب الهمومِ مبضَّعِ
ويدري أي تأثير يصيبُ القلب المجروح فيمثّل عواطفهُ المكسورة
كجرحٍ قد ألطّفُهُ بلمسي ... وإن هو مسَّهُ غيري أُضامُ
هو يفهم قيمة الدمعة التي قال لامرتين أن فيها من الشعر أكثر مما في دواوين الشعراء , فيمثّل لنا الدموعَ غاسلة كل إثم , مطهرة من كل دنس. وهو ذاق من الحب حلوهُ ومرَّهُ فيمثّل لنا الحب تارة غاية الحياة , وطوراً الباعث على كل أمر عظيم:
والحبُّ ألزمُ للأرواحِ ما عظمت ... ود يكونُ لها أدعي إلى العِظَمِ
أما تحديده للحب فهو:
الحب في المعنى العميم الكامل ... معنى المراحم والفداءِ الشامل
يعرف أن قلب الإنسان يعيش ويفنى من هذه العاطفة في وقت معاً فيقول:
اسكريني على الدوام وأفني ... مهجتي أدمعاً وعزمي حريقا(4/121)
وينصح أخوانه إذ يقول:
أحباي إني مذ أفقتُ من الهوى ... شقيٌّ فكونوا الدهرَ فيهِ سكارى
أما الذي لم يُدرك هذه العاطفة فهو لم يُدرك سرَّ هذه الحياة:
من لم يُحبّ فما الصفاء لهُ ... صفوٌ وما أكدارُهُ كدرُ
ويرى الحياةَ ولا يعيش كما ... مرَّت على مرآتها الصوَرُ
ويقول عن قلبه وهو يعني كل قلبك:
يبغي الشفاء من الولوعِ ... ولا شفاء مع الولوعْ
ألف الصبابةَ فهي أمٌّ ... مُرضع وهو الرضيعْ
والطفلُ يشقى بالفطامِ ... فكيفَ يقبلُهُ مطيعْ
لا متسع لدينا أيها السادة لذكر كل ما يجول في صدر شاعرنا الرحب العواطف , كحنينه إلى الوطن , وعطشهِ إلى ذلك المنهل الصافي الذي روى صباه , ووفائه لأصدقائه ونزوعه إلى كل أمر نبيل. فإن هو الغصن الرطب يميل بهِ كل نسيم , أو وجه البحيرة الصافي يحرِّكه كل ريح. وهو القائل عن نفسه:
والذي درعُهُ فؤادٌ رقيقٌ ... فجريحٌ إن يقتحَمْ أو يقاجم
فمسكين ذو القلب الرقيق في معترك هذه الحياة إذ يبيت
وفي الجسم نارٌ يلذعُ القلبَ وقدُها ... وفي القلبِ نارٌ مثلها تلذعُ الجسما
وإذا كان صاحب القلب الرقيق شاعراً من طبقة خليل فهو يصيح:
أنا الألم الساجي لبعد مزافري ... أنا الأملُ الداجي ولم يخبُ نبراسي(4/122)
أنا الأسدُ الباكي أنا جبلُ الأسى ... انا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ
رقَّت حواشي مهجته وشفَّت عن محرّكات نفسهِ , فسمعنا خفوق قلبه , ورأينا ذلك القلب كما يصوّره:
وقلبي مسموعُ الخفوق معلَّقٌ ... بمنهدمِ الأركان أجوفَ معتلّ
بل ما أبلغ التصوير وما أشدّ التأثير عندما ينادي:
الله في صدر وهي ... وتقوَّست منهُ العظامْ
خاوٍ كجوف الغار تم ... لأُهُ المخاوف والظلامْ
إلاّ سراجاً حائلاً ... فيهِ يُنير بلا ابتسامْ
روحٌ تضيء على ضر ... يحٍ في صميم القلب قامْ
المجال واسع لكتابة درس من أبلغ الدروس النفسية في شعور الشاعر يُقتبَسُ من شعر الخليل بل أن في قصيدته المساء التي أنشدها وهو عليلٌ في مكس الإسكندرية كفاية. فمن يطالعها يرى قلباً أذابته الصبابة والجوى ويسمع الشاعر يشكو اضطراب خواطره إلى البحر وهو:
ثاوٍ على صحر أصمَّ وليت لي ... قلباً كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موجٌ كموجِ مكارهي ... ويفتها كالسقمِ في أعضائي
والبحرُ خفَّاقُ الجوانب ضائقٌ ... كمداً كصدري ساعةَ الإمساء
تغشى البريةَ كدرةٌ وكأنها ... صعدت إلى عينيّ من لحشائي
ومن كانت هذه حالته يرى في غروب الشمس دمعة تذرفها الطبيعة على موته فيخال تلك الشمس المؤذنة بالزوال:(4/123)
مرَّت خلالَ غمامتين تحدُّراً ... وتقطَّرت كالدمعةِ الحمراءِ
فكأنَّ آخرَ دمعةٍ للكون قد ... مُزِجَتْ بآخر دمعي لرثائي
فمن منا لم يشعر يمثل هذه الكآبة. ولكن قليلٌ من له مثلُ هذه المقدرة على إبراز هذه العواطف في ذلك القالب الفتان. يتمنى شاعرنا أن يكون له قلبٌ كالصخرة الصماء ونحن نتمنى أن يبقى قلبه رقيقاً , ليأتي بمثل هذه الآيات البيَّنات. فكما أن الشجرة لا يسيل ماؤها إلاّ من جراحها فكذلك قلبُ الشاعر لاّ يسيلُ شعره إلا من جراحه. او كما أن العنقود لا يجود بعصيره الطيب , ما لم تضغطهُ يد الأحزان والشقاء. . . . قال اسكندر دوماس بعد مطالعته ديوان فكتور هوغو , وفيهِ ما فيهِ من توجُّع فؤاده: فليتبارك الربُّ الذي يُرسل لنا مثل هذه المصائب , ليخرج من صدرنا مثل هذا الهتاف البديع. . .!
3 - العقل
أيها السادةز رأينا في شعر خليل عمل القوَّتين الأساسيتين في الشعر - أي الخيال والشعور؛ وهما قوَّتان قد تشردان إذا لم يكن هناك قوة ثالثة - وهي العقل - تخفف من غلوائهما. وقد أصاب قدماءُ اليونان إذ صوَروا الشاعر في مركبة يقودها جوادان جامحان - هما الخيال والشعور - وجعلوا زمامهما في يد العقل لئلا يطوّحا بالشعر على الهاوية. وهذا ما قصده أيضاً من حدَّد الشعر بأنهُ الفلسفة(4/124)
تحمل زهراً وهذا ايضاً ما أراده خليل , لما قال إن شعره شعر خيال وحياة وحقيقة. فهو الشاعر الفيلسوف الذي يمعن النظر في حوادث هذا الكون وعللها ومعلولاتها , ويستنتج منها العبَر والحكم. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. شهد الفيلسوف جول سيمون احتفالاً أُقيم إكراماً لنابليون الثالث , فنظر إلى الشعب المتجمهر الهاتف هتاف النصر نظرة غضب وازدراء , وقال لمن حوله هكذا يخلقون الظُلاَّم. . .! هذا ما قاله الفيلسوف الإفرنجي , فإليكم ما قاله شاعرنا العربي
عن كسرى وقومه:
هم حكّموهُ فاستبدَّ تحكُّماً ... وهمُ أرادوا ان يصولَ فصالا
والجهلُ داءٌ قد تقادمَ عهدهُ ... في العالمينَ ولا يَزالُ عضالا
لولا الجهالةُ لم يكونوا كلُّهم ... إلاّ خلائقَ أخوةً أمثالا
لكنّ خفضَ الأكثرين جناحَهم ... رفعَ الملوكَ وسوَّد الأبطالا
وإذا رأيتَ الموجَ يسفلُ بعضُهُ ... ألفيتَ تاليَهُ طغى وتعالا
نقصٌ لفطرةِ كلّ حيٍّ لازمٌ ... لا يرتجي معهُ الحكيمُ كمالا
فهذه أبيات كلها حكمة وفلسفة اجتماعية. ولا يشنّ شاعرنا الغارة على السلطة بل يريدها مبنيةً على العقل والتروي , ألا وهو القائل والحكم أعدلُ ما يكون جدالا ولكن هو الاستبداد يملي عليهِ مثل هذه الأبيات:
نعم هي دارٌ للملوكِ عتيقةٌ ... ولكن غَدَتْ للفحش داراً وبئسما
بناءٌ بمالِ الناسِ جبايةً ... ولو ذوّبوا تذهيبهُ لجرى دما(4/125)
كذلك هو يشجب الأعمال الجائرة أينما رآها. اسمعوه يخاطب ملوك مصر بناة الأهرام:
لم يُغنِكم منهُ البناءُ عاليا ... والأرضُ نهباً والملوك أعبُدا
وكان يُغنيكم جميلُ الذكرِ لو ... خفضتمُ اللحدَ وشدتم بالهدى
وهو القائل أيضاً:
معرَّةُ الظلمِ على مَن ظلْم ... وحُكم مَن جَارَ على مَن حكَمْ
كل هذا لأن الخليل فهم مهمة الكاتب , ولاسيما الشاعر , وهي مناصرة الخير ومناهضة الشرّ؛ فإذا رأى القويّ يعبث بحقوق الضعيف يهتف:
فيمَ احتباسك للقلْم ... والأرضُ قد خُضبت بدمْ
سدِّدْ قويمِ سنانهِ ... في صدرِ مَنْ لم يستقمْ
اليوم يوم القسطِ قد ... قامَ الأُلى ظَلَموا فقمْ
ثم ينبه قومه للنهوض من ثبات الجهل فيقول:
تمنا على جهلٍ وقد ... عاشَ الكرامُ ونحن لمْ
فإذا انقضت آجالنا ... فمن الرُّقادِ إلى العَدَمْ
وإذا بُعثنَا بعدها ... فكأنها رُؤيا حلمْ
يرى الخليل أجيال الناس تجيء وتنقضي يرى الممالك تشيد بالصوارم وتفنى بالمعايب. فبعد ذلك يقول:
ولم أرَ شيئاً كالفضيلة ثابتاً ... نَبَتْ عنهُ آفاتُ البلى والمعاطبُ
ثم نراه , وقد كادت المصائب تصرعه , يصيح من قلب مكلوم:(4/126)
غلبتني صروف دهري على صب ... ري وأفنته نارُها في الملاحم
الأمان الأمانَ ألقيتُ سيفي ... وطويتُ اللواء تسليمَ راغم
ولكن إِن هيَ إلا نفثة مصدورها , لا يلبث بعد تفريجها أن يعود فيظهر مظهر الجلد:
شأني مكافحةُ الخطوب إذا دجا ... نقعُ الحوادثِ في الليالي السودِ
وفي شعر مطران قصائد كثيرة تتطلب درساً مستقلاًّ لما جاءَ فيها من المبادئ الاجتماعية يضطرنا ضيق المقام إلى التنويه بذكرها فقط مثل وفاء والعقاب وحكاية عاشقَين والجنين الشهيد والطفل الطاهر الخ. كل ما ذكرناه من المختارات بهي جميل - وهناك أيضاً غير ذلك محاسن عديدة. وبدائع شتى - وهي على ما رأيتم فيها من الجمال والسناء كالجواهر كانت أجمل وأسنى لو رأيتموها منظومة في عقدها لا منثورة مستقلة كما أوردتها. وقد عرف شاعرنا أن يستفيد من لغات الأجانب دون تقليد , وينهج نهج قدماء العرب دون تقييد؛ فاحترس بصبغة العرب في التعبير. وادخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير. فكانت نتيجة ذلك أنه أرغم الشعر العربي على أداء الحاجات الجديدة دون أن يتخطى ما سنَّ له من القواعد القديمة. قلنا بلا تقييد ولا تقليد لأن خليلا نزوع إلى الحرية في كتاباته كما هو شغف بها في حياتهِ.(4/127)
هذا بعض الشيء عن شاعرية خليل مطران وعبقريته. وقد رأيتم أيها السادة الخطة الجديدة التي اختطها للشعر العربي - وهي خطة المستقبل. فحق لنا بعد ذلك أن تعده أستاذاً علّماً في هذا الفن. وحق لعصرنا أن يفاخر به وبأمثاله من شعرائنا النابغين أبهى عصور اللغة العربية. أجل يا سادة , جال الشعراء في عصر العباس جولة وصلوا بها حبل النسب بين العصرَين الزاهرَين , والعهدَين الناضرَين: عهد بها الرشيد والمأمون , وعهد عباسنا الميمون. فعقدت في هذا لشوقي في ذلك الألويةُ لابن الوليد وابن هانئ. وعقدت في هذا لشوقي وصبري وحافظ ومطران.
فوضع مولانا - حرسه الله - بيده الكريمة آية رضاه على صدر علَمها الخفاق فوق رأس فارسها السباق. كما يضع القائد شارة الفخر على لواء النصر - ولفرسان البيان أسوة بفرسان الميدان.
اليمين
إنما يحملُ الرَّجلَ على الحلف إحدى هذه الخِلال: إما مهانة يجدها في نفسه وضرَعٌ وحاجةٌ إلى تصديق الناس إيَّاه؛ وإما عيٌّ بالكلام حتى يجعل الإيمان لهُ حشواً ووصلاً؛ وإما تهمةٌ قد عرَفها من الناس لحديثهِ فهوَ يُنزل نفسهُ منزلةَ مَن لا يُقبَل منهُ قولٌ إلاَّ بعد جهد اليمين؛ وأما عبثٌ في القول , أو إرسال اللسان على غيرِ رويَّةٍ ولا تقدير.
ابن المقفع(4/128)
خواطر
في الخيرات والشرور
ترك الأوَّلون من البشر للإخلاف كثيراً من الخيرات , وخلَّفوا لهم وافراً من الشرور؛ وقد مرَّ الدهرُ تلوَ الدهرِ , وجاءَت أجيال خلف أجيال , وتلك الشرور ثابتة لم تزحزحها العقول , ولم تمتنع عليها النفوس؛ بل كأنَّ السعيد الفائز من الإخلاف , هو المحتفظ الضنين بذلك التراث , فإذا ما تأملنا في أبديَّة هذه الأسواء وشبهِ إزاليتها , وجب علينا أن لا ننظر إلى محافظة الأجيال على تلك التركة المباركة بنظر التهاون , وأن لا نجعل علَّتها التصادف , بل يجب أن نحني الرأس قليلاً أمام ما هنالك من المجهولات التي اقتضت هذا الأمرَ , عسى أن يُفتحَ لنا بابٌ من أبواب العلم بعد تأدية هذه السجدة سجدة الاعتراف بوفرة أسرار الكون وعظمتها , وليس ما يخفي على أكثر البشر إلاّ من الأسرار. ولقد اختلف كثيراً نظرُ المفكرين في الموازنة بين الخير والشرّ , ومآل الأقوال كلها إلى ثلاثة: من يرى أن البشرّ أكثر , ومن يرى أن الخير أغلب , ومتوسط يرى أن بين الخير والشر تعادلاً مع رجحان خفيف لجانب الخير. يقول مغلّبو الشر: ألم ترَ أيها الإنسان إلى كثرة الأمراض , ووفرة الأحزان , وشدة العدوان , وغلبة الحرمان , وشيوع الشكوى , وعموم البلوى؟. . . ألم ترى كيف يقلُّ أولو اليسار حتى يستطاعَ عدُّهم , وكيف(4/129)
يكثر المعسرون حتى يفوقوا العدّ , ويعيَ عن لحاقهم المقدار؟. . ألم ترَ كيف يشبع الجهل حتى يصعد كل تلعة , ويهبط كل واد , ويدخل كل بلدة , ويزور كل بيت , ويحلّ كل دماغ , وكيف يتقاصرُ العلم , ويتقلص ويختبئ وينطوي حتى تُشَدَّ إليهِ الرحال , وتُحملَ في سبيله الأثقال , وتُبذل في التفتيش عليهِ الأموال , وتُنفق فيهِ السنون الطوال , حتى إذا ما اهتدى الطالبون إلى جنابه , وجدوا حوله طائفة من الحواجز , فيرجع بأكثرهم الملل والضجر واليأس , وما يفوز باقتحام تلك الحواجز إلا قليل من الطالبين , وما الطالبون بكثير. . . ألم ترَ إلى العقول السليمة - على قلَّتها - كيف يؤذيها الجهل المُجذِر بما اخترع من حكايات وتهاويل , وكيف يسمُّها العلم الأبتر بما وضع من شروح وتآويل؛ وإلى النفوس الكريمة كيف يقزّزها ظهور القبيح وإذاعته , وكيف يؤلمها خفاء الجميل وإضاعته؟. . . وانظر إلى الشهوات كيف تطغى ولا تقف عند حد , وكيف قضت علينا بالاستمرار في النصب؛ وانظر إلى قلة
من تألفه النفس , وإلى كثرة ما يحول مع هذا بينها وبين إلفها , وإلى ما يصيبها بعد هذا كله من سهام الفراق , وما يعروها بسببه من الجوى؛ وتأمل في قصر الآجال مع طول الآمال , وقلة المعاضدين مع كثرة المعاندين , وضعف الوسائل مع قوة الرغائب , وتهجم الظلمات مع تحجب النور؛ وارمِ ببصرك إلى كثرة الزمني والمبرسمين وأرباب العاهات , ولا تتغافل عما يرافق العجز والاحتياج من المهانة , وللإحساس بالمهانة آلام(4/130)
عظيمة , وقل لي بعيشك ما أكثر العجز والاحتياج في هذه الحياة؛ بل قل لي أي الناس شيء من العجز وشيء من الاحتياج؟ هبك مليكاً , ألا ترى أنك عاجز عن كثير , ومحتاج إلى كثير؟ فماذا يخامر قلبك كلما وجد طعم العجز , وماذا تجده نفسك كلما ذاقت الاحتياج , وما هذا الدنيا التي لم يسلم من آلامها صغير ولا كبير , ولا جليل ولا حقير , ومتى يكون خيرها أكثر من شرّها إذا كان هذا شأنها من ادّخار الآلام لكل ذي روح على اختلافٍ وتفاوتٍ بينهم في المقادير فقط؟؟ ويقول مغلّبو الخير: لقد جعل الفاطر لنا البصرَ لنرى بهِ كلّ محسوس , وأكرمنا بالبصيرة لنطّلع بها على ما وراءَ المرئي , وقد ملأ السمواتِ والأرض بما لا يُعدُّ ولا يحدُّ مما يبهج النفوس ويسرُّها , فلماذا تعمى الأبصار والبصائر عنها كلها , ولا ترى إلاَّ الأمراض وآثارها؟ أفننسى نِعَم الشمس , أم آلاء الأرض؛ أتسخير البحر ننسى أم استخدم البرّ , أنغفل عما يُفيضهُ التعاون البشريُّ العام من بركات العقول , وثمرات الهمم والنفوس , أم عما توحيه الفطرة الإنسانية من تعاطف القلوب , وما تؤتيه من لذيذ العلاقة بين المحبّ والمحبوب؟ يا للعجب كيف تقعُ الأبصار على بعض الأقذاء , وتعجز عن أن تسمحها بالتقانة إلى روضة فيها. أطيبُ الأقوات للسمع والشم والبصر؟ أين ذهب عن الأبصار جمال هذه القبة الزرقاء وقد طرحت عنها جلبابَ الغيوم , وحسرت لئام الدجون , فأشرق محيَّاها , فقابلته الأرض راقصةً تترنَّح أعطافها الأغصان , وتصفّق أكفّها النسائم , وأين ذهب عن البصائر جمال الحيّ(4/131)
القيوم الذي نفخ من روحهِ في والد هذه الذرّية المباركة الحاملة لواء خلافته في الأرض نعني النوع الإنساني ألا ترزق البصيرة تجليّاً من تجلياتهِ تضيء بهِ الدنيا كلها لها فلا يبقى إلاّ مسابح نور , ومسارح آمال ورجاء وسرور. لو صحَّ أن الشرّ في هذه الدنيا هو الأغلب , لكان سير هذا النوع الإنساني إلى ما هو أنهُ أقبح وأنقص , لا إلى ما هو أجمل وأكمل , مع أن المشاهد هو أنهُ كان طول دهره
سائراً إلى التكّمل , وآخذاً بالتغلي والتجمّل , فلقد كان الإنسان كهذه الحيوانات السارحة في القفار , أليفَ آجام وحليفَ أوجار , يدور يلتمس لمأكله ورقاً وعشباً , ويردُ الغدران والأنهار فيعبّ منها عبّاً , لا يزرع ولا يصنع , ولا يقني ولا يجمع , لا أداة لديه ولا ماعون , ولا عهد عنده ولا قانون , ثم قفز من بيئتهِ تلك قفزةً إذ ألهمه الفاطر أن يتخذ شيئاً من الأداة , فاصطنع من الحجارة قواطعَ وقواشرَ ونواحت , وفصَّل بهذه الأدوات الحجرية ما شاء أن يفصّل من أعواد الشجر على حسب ما هدته إليه الحاجة. فعمل من الأعواد مِخيَطاً ومسماراً , ومخرزاً ومحفاراً , ومقياساً ومعياراً , وظلَّ كذلك يتدرّج بهذه الصناعات الابتدائية حتى توصَّل إلى الحديد , وهُدِيَ إلى معرفة التصرُّف فيهِ فيومئذٍ دخل في دور جديد فصله عن الأدوار الأولى , ومن بعد ذلك بدأ يأتي بالبدائع والطرَف من الصناعات حتى أصبح بيته وماعونه وآنيته وأكسيته وأثاثه ورياشه وسائر طُرَف زينته أشياء لا نقف عند حدّ! وقد تحسنت عند ذلك سحنتهُ وبنيتهُ ,(4/132)
وتهذّبت طباعهُ , وانقلب شتاتهُ اجتماعاً , وفوضاه نظاماً , وبلغ من العلم حظاً تقصر كل مبالغة عن وصف عظمه؛ وما الجهل الباقي بشيء يصح أن يسمى عقبةً في سبيل سلطان العلم الماضي الحكم لأن كثير الجهل قليل , فألفُ ألف جاهل مثلاً يستطيع أحد العقلاء أن يجعلهم تابعين لكلمته كما تتبع الغنم صوت راعيها. . . هذا وما نحن بمنكرين كثرة الشرور , ولكنَّا مع كثرتها قلما رأينا شيئاً منها إلاَّ ورأينا أمامه قوىً بها يحتمل الناس شدائدها. فإذا صح أن نسمي كلَّ شيء من الشدائد مثلاً شرّاً لزم أن يصح تسمية ما يقابلها من القوى خيراً على أنه ليس من الحق أن نُطيَّر بالشدائد , ونتبرَّم بها , وننقم عليها في حين أن كثيراً منها مربيات ومرقيَّات للأفراد والجماعات , ويا لله كيف يكون طعم الهناء لولا العناء؟ وكيف كنا نستطيع أن نعرف سائر الأنواع المسماة خيرات لولا ما يقابلها من أضدادها إذ لولا المرض , لقال قائلٌ: ما هي نعمة الصحة , ثم ما هي الفضيلة لولا الرذيلة , وما هو الانبساط لولا الانقباض , وما هو الذكاء لولا البلادة , وما هو المجد والرفعة لولا المهانة؟ فكأن هذه الشرور إنما وجدت ليكمل بها حظنا مما هي أضدادها. يشكو معلّبو الشرّ من الأمراض وبديهي أن صحة أكثر الأفراد هي الأغلب فإن مرض أحدهم في العمر مرة أو مرتين أو أكثر كان ذلك لتتضاعف لذته يوم يرجع إليهِ بعد الهجر حبيّبه العظيم الذي هو العافية؛ وإن كانت نهاية بعض
الأمراض الموت فذلك - والموت محتوم - خير من اختطافه خطفة واحدة على حين غرة , ولوقوع موت الفجأة في بعض(4/133)
الأحيان تعرف فضل المرض الذي به يتمكن المرءُ من وضع بعض الوصايا ومن التهيؤ لاستقبال الأبدية بنفس مطهرة بالندم على بعض الزلات , وبه يتمكن أهله من حسن توديعه فيزودون نفسه بأثمن شيء عند النفس وهو شذى الإخلاص , ويتزودون من مرآه برؤية أعلى شيء وهو إباء الحبيب أن يفارق احبَّاءَه , فهو والحالة هذه ينشدهم بلسان الحال:
ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا ... ولكنْ لا خيارَ مع الزمانِ
وهم ينشدونه:
إذا ترحَّلتَ عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون همُ
ويشكو مغلّبو الشرّ من الجهل , ولو فقهوا لدروا أن ليس كل جهلٍ يُعَدُّ شرَّا , فإنه لو أصبح كل الناس فلاسفة لحلَّ بالدوران البشري ما يحلُّ بهِ إذا أصبحوا كلهم أغنياء. على أن من يمعن النظر كثيراً يجد في غباوة كثير من البشر فائدة ليست بأقلّ من الفائدة التي يجدها في ذكاء بعض الأفراد , وحسبك من فوائد الغباوة لأصحابها أنهم أقلّ تذمراً وامتعاضاً , فهم لا يذوقون الآلام التي يذوقها النبهاء من مشاهدتهم عيوب مجتمعهن وتقصيره عن غيره مثلاً. وحسبك من فوائد تلك الغباوة للمجتمع أن أصحابها لهم مما يدورون حوله من رحى الأعمال التي عرفوها شغل شاغل عن إحداث الفتن والمشاغبات التي توجع الرأس أحياناً على قلة نفع. وتلك الأعمال التي أشرنا إليها قلَّ أن يصبر عليها سواهم مع أنها قد تكون مما تشتدُّ إليها حاجة الجمهور. وبعد فأيَّ شيء ينقمون مما يسمونه الشرور , وهي إمَّا من اللاتي(4/134)
تعمُّ فيهوّنها ذلك العموم , وأمَّا من اللاتي يقلُّ وقوعها , فتمرُّ وتنقلب إلى خير أحياناً. تأمَّل مهما تعاظم مُصاب أهل بيت بميتهم , تجد كلَّ واحدٍ يستطيع أن يهجم على نيران حزنهم برشةٍ من التسلية التي يدور محورها على كون هذا الموت أمراً محتوماً , وشيئاً طبيعيّاً , وأنه سبيل الأحياء أجمعين , وأنه ما من أهل بيت إلاّ وقد أصيبوا بمثل هذا على أنَّ الفوائد التي يعرفها العقلاءُ في الموت يمنعهم عن إدخاله في زمرة ما يسمى الشرور. ينظرون إلى الحاضر ولا يتفكَّرون في العواقب. فتعظم بمثل هذا شكواهم , تأمَّل كم من فقير قد ألمه فقرُهُ , فساقهُ حثيثاً إلى السعي والاكتساب فلم كان فقرهُ السابق شرّاً أم
كان باعثاً لتحصيل لذَّة الغنى المكتسب التي تفوق لذَّة الغنى الموروث. . . وتأمل كم من مريضٍ أزعجهُ المرضُ وأخافهُ , فتذكَّرَ ما كان أهمله في الصحة , فلما أتيح له عناق العافية هبَّ نشيطاً للأخذ بما كان قد أهمله؛ فهل كان مرضه شرّاً , أم كان باعثاً لتحصيل لذّة عمل الواجب بعد إهماله , ومولّداً للذة عناق العافية بعد الصدود. . . وتأملْ كم من عاجزٍ قد أقعده عجزهُ عن كثير مما يأتيه أُولو الأشر والبطر , فأحدث له ذلك صيتاً حسناً , وآتاه حسنُ الصيت قوةً أصبح قادراً بها على نيل بعض ما كان محروماً منه؛ فهل كان عجزهُ شرّاً أم كان موجداً للذاتهِ من حسن الصيت ثم القوة ثم الفوز. . . لعمرك ليس الشرُّ أن لا تكون الآن قويّاً , فإنك قد نقوى وتجد لذةً عظيمة؛ وكم من ضعيف(4/135)
قوي , وإنما الشرُّ أن تكون قوياً فتفقد هذه القوة. وكم من قوي قد ضعف , فما كثرة الضعفاء العتيدين أن يقووا سوى كثرة أبواب الأم الذي هو روح الحياة وباعث النشاط , والخير كل الخير في هذا , وما قلة الأقوياء المعرَّضين لفقد القوة سوى قلة أبواب الوجل الذي هو باعث الغمّ والانقباض , والشر كل الشر في هذا. فسبحان من هذا نظامهُ وأثر حكمته ورأفته , والله رؤُف بالعباد. ويقول المتوسطون: إن أعجب ما في الخيرات والشرور أنك تراها متقابلة كفريقين من العسكر قد وقف أمام كل صف آخرُ مثله في الجانب المقابل كأنما قد وُكل إليها أن لا يألوكلُّ فريق منها جهده في حفظ القلعة التي هو قائم عليها. بيد أن الجيوش التي نعهدها لا تلبث ساعة أو بعض ساعة من الدهر , حتى يقرع أحدها الآخر ويفلَّه , وأما جيشنا المنن والمحنَ فإنهما ما برحا متوافقين منذ أولية هذا النوع , ولعلهما سيظلاَّن مكانهما ما دار بنا المدار , ولكن من سير الإنسان نحو التكمل نفقع أن ثمَّةَ رجحاناً لجانب الخير على جانب الشرّ إلا أنه رجحانٌ خفيف جداً جداً إذ لولا ذلك لما كان الخطو إلى التكمل بطيئاً بهذه الدرجة. كل هذا قاله المفكرون. وقد أكثر مغلّبو الشرّ من ترداد شواهدهم والتغني بفلسفتهم , كأنهم وجدوا المجال واسعاً , والنغَم مؤثراً , إذ لا أوقع في نفس المفجَّعين من إظهار التألم مثلهم , وذمّ الدنيا التي هي مثار فجائعهم , ومدار محَنهم , وكثير من أهل هذا الرأي كانوا شعراء قد ضاقت عليهم مذاهب المعاش , فأشبعوا دنياهم ذمّاً وهجواً وملأوا الأسفار بوصف(4/136)
شرورها من مثل قول حريريهم:
إيَّاك والدنيا الدنَّية إنها ... شركُ الردى وقرارة الأكدارِ
دار إذا ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً تبَّا لها من دارِ
أما مغلّبو الشر فلم نرَ لفلسفتهم كثيراً من الشروح الضافية , وإنما وقفن على قليل منها في أخبار وآراء بعض الصوفية والفلاسفة. وقد رأينا بعضهم لا يكتفي بتغليب الخير , بل يذهب إلى أنه لا شرّ على الإطلاق , وأن الكون كله خيرٌ محضنٌ من خيرٍ محض. وما اختلاف المفكرين والفلاسفة وأصحاب الأديان بتعريف الخير والشرّ , وتعيين أنواع كل واحد منهما بأقلّ من اختلافهم في الموازنة بينهما. كلاَّ , بل هو أكثر بكثير. وإذا ما نحن استطعنا أن نُرجع إلى ثلاثةٍ عددّ مذاهب المختلفين في الموازنة فإننا لا نستطيع أن نُرجع إلى عدد معيَّنٍ مذاهبَ المختلفين في التعريف وتعيين الأنواع. ولا يدري مقدار عذر هؤلاء في استلافهم هذا إلاَّ من جال نظره طويلاً في ميادين الطبيعة البشرية وسبر كثيراً أحوال الأفراد والجماعات , وتأمل مليّاً فيما يقعُ فيهِ الحسُّ والعقل من الأغلاط , وعرف جيداً ما للعادات والتقاليد من النفوذ والتأثير , وما لها من المنافع والمضارّ , فرجل أوتي هذا النصيب العظيم من الخبرة يعرف أنه ليس من البديهيّ معرفة ما هو الخير , وما هو الشرّ. فلا يهزأ حينئذٍ بكثرة اختلاف المختلفين فيهما من أهل الأديان والفلسفات , ولا يتكهم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب الأديان والفلسفات , ولا يتهكم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب النفس وحرمانها من الشهوات الحيوانية , ولا على آخرين ضادّوهم كل(4/137)
المضادَّة فرأوا أن الخير كل الخير في اللذات وإنالة النفس كل ما تشتهيه. وكذلك لا يعجب من قد وصفنا حظه من الإطلاع لأَقوام يبكون , لكثرة ما يضحك الناس , وآخرين يضحكون من كثرة ما يبكون , فسبحان من خلق بين هؤلاء البشر جذور الائتلاف والاختلاف , وجعل هذا التباين في الأفكار , آيةً خالدة قاضية بمزيد التبصر والاعتبار.
عبد الحميد الزهراوي
الحب
بين شوقي ووليّ الدين
تراءَت لهُ على مستشرف حجرتها صبحاً , حين لم يلقِ عن أعطافهِ ثيابَ الكرى , والصبحُ كبسمةِ الرضي على الثغر الألمى , والروضُ كالأمل الغضّ في الفؤاد الفتيّ. فلمَّا اعتدلت في نظرهِ جانست محاسنُها محاسن الوجد بين الروحين على أجنحة الزفرات تبعثُ حنيناً وأنيناً وهياماً شديداً؛ فذلك حيث يقول شاعر الشرق شوقي بك:
نظرةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم توالى كرورُ الإصباح , وكما تكبُر الأجسادُ تكبُر الأرواح , وكما تكبُر الصبابات؛ واللواعجُ ثمارٌ تُسقي مغارسُها بالدموع , والسبابُ خضبُ تنضج به اللواعجُ , ونسائم السَحر تُغري الأشواق ,(4/138)
ووجهُ الربيع يزيد الجرأة على الفتنة. وإذ طال تعارُضْ الوجهين , وتقابُلُ النظرَين , جاءَت طمأنينةٌ تمسكُ الروح ساعة اضطرابها , فتألّقَ لها على الشفتين بارقٌ افترَّ عن مثل الدرّ المنظم؛ فذلك حيث يقول شاعر الجمال:
. . . . فابتسامةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم استمرَّ الغرامُ , وتراضي القلبان , وإذنَ كلٌّ لصاحبهِ بما أذن , فكانت حاجة إلى الإِعلان , فارتفعت يمينٌ كورَقة الآس , أُمرَّتْ على جبين كنفس الطفل , وإذا في الوجهةِ المقابلةِ رأسٌ ينخفضُ إجلالاً وخشوعاً وكذلك يضرع المطيعُ للمطَاع؛ فذلك حيث يقول شاعر الخيال:
. . . . . . . فسلامٌ. . . . . . . . . . . . . . .
ثم نما الهوى وارباهُ التراضي , فاشتاقت الأذانْ إلى مثل حظّ الأعين , ولا بدَّ لما يُسَرُّ من الإِعلان؛ فتَساجلَ الشكايةَ صريعاها , وقام اللسانان سفيرَين عن القلبين. هنالك حلاوةٌ تمازجُها المرارةُ , وراحةٌ يتخللها التعب , وللوجدِ بيانٌ لا تركّبهُ ألفاظٌ , ولا تؤديه عبارة فبهما فاض ماء النفسِ من الثغرين المتباعدَين؛ فذلك حيث يقول شاعر البيان:
. . . . . . . . . . فكلامٌ. . . . . . . .
ثم تعارضت في الروحين قوَّتان من السلب والإيجاب , وقعت شرارتهما على الحسّ فاضطرَم. غير أن الحكمة أطفأت ذاك الأُوار , والصبرُ في أوائل الصبابة يغلُبُ عليها ,
فتعالَجَ المحبَّانِ بالأمانيّ وما زالا يتواصيان بالرأي حتى غلبا عليه , فاستثار الشوق كمينَ النفسين , فاتفقتا(4/139)
على التداني؛ فذلك حيث يقول شاعر الحُبّ:
. . . . . . . . . . . . . فموعدٌ. . . .
فلمَّا بلغَ الأمرُ أقاصيَهُ , وعصفت شرّةُ الشباب بالرأي والجَلد فاستطارتهما , ضربَ الصبَّانِ على سلاسل الأسر فتساقطت حلقانهما في صلصلةٍ تصمّم الآذان , وانطلقَ سهيلٌ يطلب الثُّريا , وضمَّ الروحَين عناقٌ هو خاتمة السعادة والشقاء.
لله أنت يا شوقي بك؟ إذ تقول:
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ ... فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
هذه روايةُ الغرام في بيت واحد , لو نطق به الدهر لتاهت به صروفه.
وليّ الدين يكن
الزهر
رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون , إِمَّا في أكمامها , وآثار الصحة بادية عليها؛ وأمَّا زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بينَ بين. لاهُنَّ نواشز خالعات العذار , ولا هنَّ متخذات ستوراً من الأكمام والأفنان. أسفرنَ فكلهنَّ قرة للعين ولذة للشم ومبعث لحركات العواطف. لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور ولكنها في الواقع جميلة. كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمَّها وبين آيات الحب. جلَّت حكمة الله أن تتناولها عقولنا. ولكن الاستقراء دلَّ(4/140)
على أن هذا النوع الأنساني منذ نشأ على اليوم يتعشق الزهر , ولا يطيب له مجلس لهوٍ إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثوراً ومنظوماً صحباً أو أشتاتاً. بل كلنا يود أن يكون له بستان فيه زهر. ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية. ومَن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيراً أن يقيم وقتَ أنسه على قرب من زهر الفول. ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية الفخَّار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره. بل أصبح من القضايا البديهية أن الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به. وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسباً ثابتاً بين الزهر والأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب. لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيفٍ بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة الدليل. ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أن الزهر من دواعي التقريب بين القلوب , ومن عوامل الائتلاف بين الجنسين. وقد كان دائماً مفتاحاً تستفتح به هدايا الوداد. بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه وهو الحب. وإذا كان الزهر من دواعي الحبو وكان الحب داعية حفظ النوع , وكان الربيع خير الفضول في وقرة زهره وجماله , فهل يستطاع الأمل بأن هذا الربيع يدعو اللواة المماطلين من أبنائنا وبناتنا إلى فكّ الاعتصاب الذي لزمهم أو لزموه هذه السنين الأخيرة عن أكبر واجب حيوي؟ فينزل(4/141)
كل منهم عن المثل الأعلى في خياله إلى ما دونه من الأمثلة. ولا يتشدَّد في التمسك بالاعتبارات الإضافية كفقر الزوج أو مركز أبيها في الحكومة. . . الخ وأن يتساهلوا بعض الشيء ولو في بعض الشروط المعقولة عندهم غير المقبولة عندنا نحن الآباء لا بحجة العقل ولا الدين ولكن بحكم العادة الطويلة. هل يستطاع الأمل بأن هؤلاء المماطلين
المعتصبين يخففون عنا كابوس الخوف من قلة النسل في الفرقة المتعلمة من الطبقة الوسطى؟ أنهم لو ذاقو تلك السعادة الزوجية , وشملهم سلام العيشة العائلية , وشعروا بلذة عواطف الأبوَّة لما احتاجوا إلى ألحافنا في المسئلة , ولندموا على ما ضيعوا من ربيع الحياة.
أحمد لطفي السيد
أقوال مأثورة
قال لقمان لابنه: لا يكوننَّ الديك أكيسَ منك ينادي وقت السحر وأنت نائم.
عاتب أخاك بالإحسان إليه , وأردد شرَّ بالإنعام عليه
قيل لحكيم: أيُّ الملوك أفضل: ملك اليونان أم ملك الفرس؟ فقال: من ملك غضبهُ وشهوتهُ فهو أفضل
ما رأيت أحداً إلا ظننتهُ خيراً مني , لأني من نفسي على يقين منهُ على شكّ
العاملي
لا تفرح بالغني والرخاء , ولا تغتمّ بالفقر والبلاء؛ فإنَّ الذهب يجرَّب بالنار والمؤمن يجرَّب بالبلاء
الإمام علي(4/142)
في رياض الشعر
ذكرت الهوى
ذكرتُ الهوى أيامَ يصفو فنحتسي ... ويضفوا لصبى عن جانبَيهِ فنكتسي
نقضّي مُنانا من رياض وأوجهٍ ... ونشفي صَدانا من شفاهٍ وأكؤسِ
لذاذاتُ عيشٍ صالحٍ كُنَّ أنعماً ... فأعقبنَ من حدثانِ دهرٍ بأبوسِ
طوينا بقاياها ففاضت من الأسى ... بقايا قلوبٍ جازعاتٍ وأنفسِ
خلت أرُبع الأهواءِ إلاّ من البلى ... يعّفي بها آثارَ ملهى ومجلسِ
تعوّضتُ عنها بالياً بعد مُونقٍ ... وبُدّلتُ منها موحشاً بعد مؤنسِ
ألا هل لأيامِ الشبيبةِ رجعةٌ ... فأطمعَ في ماضٍ من العيشِ موئسِ
تمتعتُ من دهري بظبيٍ مرتبٍ ... فقد عاد يرميني بسيدٍ عمَلَّسِ
أقول لنفسي والأسى يستثيرُها ... مكانكِ أن النفسَ بالنفسِ تأتسي
ألم تعلمي أنَّ الزمانَ بأهله ... يدورُ وأنَّ الصفوَ نغبةُ محتسِ؟
متى تطلبي ما ليسَ للدهر شيمةٌ ... تُعاقي عن الأمر المرومِ وتحُسبي
أجدّك هل تقضين كلَّ لُبانةٍ ... بطول التمّني أو بطولِ التلمُّسِ
إذا الحاجُ لم تُقدَرْ فليس بنافعٍ ... تقحّمُ أصليتٍ وإقدامُ مُدعسِ
صرفتُ رَجائي عن مطالبَ جمّةٍ ... وليس الذي يرجو المحالَ بكتسِ
وعفتُ الدنايا فاحتفظتُ بمنصبي ... وأبقيتُ عرضي طاهراً لم يدنسِ
سجيّةُ حرِّ النفسِ لا متعرّضٍ ... لعوراَء يبغيها ولا متمرّسِ
كريمٍ متى ما يَعْدُ كفّيه منفسٌ ... يُدلَّ بأغلى منهُ قدراً وأنفَسِ
وما فاتني غُنمٌ إذا عفَّ مطمعي ... وعُرّيَ من سوءِ الأحاديثِ ملبسي(4/143)
إذا ضرّس اللؤمُ الوجوهَ فشأنَها ... بقيتُ ووجهي وافرٌ لم يضرَّسِ
وما راعني إلاّ حسودٌ يعيبني ... على ما يرى من طيبِ عودي ومغرسي
لقد عجمتني الحادثاتُ فلم يلنْ ... مجسّي على بؤسِ الحياةِ وملمسي
أخوضُ الخطوبَ السودَ غير منكّبٍ ... وألقى المنايا الحمرَ غير معبّسِ
وأسمو إلى العاني أُفرّجُ همَّهُ ... إذا ما عنتهُ كريةٌ لم تنفّسِ
ولم تُخزني في مشهد ألمعيَّتي ... ولا خانني رأيي وصدقُ تفرّسي
ولست كساعٍ بالأباطيلِ والرَّقى ... إلى الناسِ يُزجيها بضاعةَ مفلسِ
متى أقلْ قولاً فلستُ بكاذبٍ ... أصادي بهِ نفعاً , ولا بمدلّسِ
تعوَّدَ مني الدهرُ شيمةً فاضلٍ ... وما اعتدتُ منهُ غير شيمة مومسِ
كلانا على ما آستنَّ جارٍ ومن يُقَدْ ... إلى الشيمةِ العسراءِ يُعصَ ويشمسِ
وأعلمُ أني ما حييتُ مقلّبٌ ... فؤادي وعيني في ضياءِ وحندسِ
أحمد محرم
فؤاد حافظ
يا خافقاً قُلْ لي متى تسكنُ ... للهِ ما تُخفي وما تُعلنُ
يا ليتَ شعري عنك في أضلعي ... ماذا تقاسي أيُّها المُثخَنُ
وما الذي أبقاهُ من مهجتي ... ومن حياتي داؤكَ المزمنُ
يا ثغرَهُ من ذا الذي يحتسي ... بَرد ثناياك ولا يؤمنُ
يا قدَّه هذي قلوبُ الورى ... معروضةً طوبى لمن تطعنُ
يا لحظهُ مُرْنا بما تشتهي ... كلّ محالٍ في الهوى ممكنُ
حافظ إبراهيم(4/144)
زهرة ورد
أممتُ الحديقةَ عند السحَرْ ... أشمُّ نسيمَ الصبَّا والزهَرْ
وقد نشرَ الفجرُ أسلاكَهُ ... فدبَّ بجفنِ النيامِ الشررْ
وأنشدَتِ الطيرُ آيَ الصباحِ ... فأيقظتِ الزهرَ مثل البشرْ
ومرَّ النسيم بيقظي الرُّبي ... فبشَّ بهِ كلُ ثغرٍ عطِرْ
وكانت إلى جانبي زهرةٌ ... بثوبِ الكرى والندى المنهمِرْ
فأيقظتُها وهي في كِمتها ... كبكرٍ ببُرد الحيا تستترْ
فهبَّت , وفي جفنها فترةٌ ... وفي خدّها حمرةٌ , تعتذرْ
وفي شفتَيها الندى مالكٌ ... عليها الكلام كثغرٍ حصرْ
فمالت إليَّ كأني بها ... تسائلُ عن حالتي والخبرْ
فقلتُ: أراكِ بأسر الكرى ... كأنكِ مغرمةٌ بالسَّمرْ
فهل أنتِ مثليَ مفتونةٌ ... بَما في الطبيعة يَسبي البصرْ
فقالت: وقد طار عنها الندى , ... أيُعذَلُ صبٌّ يُطيل السهرْ
فما أنتَ منا بأسمى شعوراً ... وليس الهوى فيكمُ محتكرْ
فقلتُ: وأنّى لمثلكِ قلبٌ ... خفوقٌ بنار الجوى يستعرْ
نشدتكِ لا تدَّعي بالغرامِ ... ففاهِمُ أسرارهِ قد ندَرْ
يضنّون في حبّهم بالقشورِ ... ولبُّ الهوى عنهمُ مستترْ
وهل يتمشى الهوى في النباتِ ... وبعضُ قلوبِ الورى كالحجرْ
فقالت: أما زنتَ صدر حبيبِ ... فؤادك في باقةٍ كالزُهُرْ
أنا زهرةُ الوردِ رمزُ الغرامِ ... حياةِ النفوسِ وروحِ الفِكَرْ
عشقتُ الطبيعة روحَ الجمال ... وحسبيَ في شمسِها والقمرْ(4/145)
تبثُّ الحياةَ بهذا الوجودِ ... فتُقرأُ آياتُها في الصوَرْ
وأما الغرامَ فلا ندَّعي ... وليس لنا منطقٌ للهذَرْ
وأنّا علِمنا من الحكماه ... بأنَّ السكوتَ وعاءُ الدُررْ
فنحن سُكوتٌ وفي صمتنِا ... لَننطقُ في معجزات السوَرْ
وإذا جاَء دوري الجوابِ ... أتت هندُ في الموعد المنتظرْ
فعرَّفتُ بينهما ناشراً ... لِطيِّ حديثٍ شذاهُ انتشرْ
وحكَّمتُها بيننا بالرضي ... فقالت وقد بادلتني النظرْ
هي الجاذبيّةُ بين النفوسِ ... تدسُّ الغرامَ بسلكِ البصرْ
هي الجاذبية بين العناصرِ ... إن تَعْدُ منظومها ينتثرْ
وفي عالم الزهرِ تمشي الحياةُ ... وما من شعورِ لها أو وطرْ
فقلتُ: وأتى لها مثلَنا ... شعورٌ نغذّيه منذُ الصِغَرْ
عشقتكِ ما فتنتني العيونُ ... ولا ثغركِ الممتلي بالدُرَرْ
ولكن بنفسكِ لي جاذبٌ ... هو الكهرباءُ فأين المفرْ
هو الحبُّ يحيا بروحِ الجمال ... ولا تستبيهِ الحِلي والحِبَرْ
وأنتِ الجمالُ فمَنْ عاذري ... إذا لم أكن فيهِ ممن شَعَرْ
فجودي على شاعرٍ بهواكِ ... بآي السني حليةً للفكَرْ
فما الشعرُ دونكِ مهما علا ... بأكثر من طَللٍ مندثِرْ
وذي زهرة الورد رمزُ الهوى ... أزفُّ إلى صدركِ المزدهرْ
فكلٌّ تلفَّتَ بي شاكراً ... وبشَّ بصاحبهِ وافتخرْ
وجاَء الضحى ناثراً عقدَنا ... إلى الملتقى في رياضِ السحرْ
لبنان
أحمد تقي الدين(4/146)
إذا ذهب الربيع
أطلتِ تدلُّلاً وأطلتُ صبراً ... كلانا باذلٌ ما يستطيعُ
لقد أودعتِ قلبكِ ما بقلبي ... فضاعَ وكنتُ أحسبُ لا يضيعُ
رددتِ تضرُّعي ورددتِ دمعي ... فليس يُجاب عندكِ لي شفيعُ
فيا ويلاهُ من قلبٍ عصيٍّ ... يذوبُ بحبهِ قلبٌ مطيعُ
ويا لهفي على أملٍ مباح ... يدافع دونه يأسٌ منيعُ
ويا حزني على هذه الأغاني ... أردّدُها وليس لها سميعُ
أسيدتي الرفيعةَ إنَّ روحي ... يقرّبها إليكِ هوى رفيعُ
وأيام الصفاءِ وإن توانت ... يُطاردُ ركبها نأيٌ سريعُ
إذا ذهب الربيعُ ولم أُمتَّعْ ... بنضرتهِ فلا عاد الربيعُ
ولي الدين يكن
شاعر يسلو
مَن مبلغُ الغيدِ عني قصةً عجباً ... تَبكي وتَضحكُ منها الغيد في حينِ
إني سلوتُ فلا هجرْ فيهدمني ... بهِ الغرامُ ولا وصل فيبنيني
فلتلبسِ الغيد من نسج الضحى حُللاً ... ولتعلم اليوم أني غير مفتونِ
وليُمتعِ النفسَ غيري في خمائلها ... وليقطفِ الورد من تلك البساتينِ
وليَهتَصِرْها أفانيناً مُهدَّلةً ... وليجنِ رمَّانَ هاتيكَ الأفانينِ
تلك الغصونُ وكم لوَّيتها بيدي ... وبتُّ أحصي جناها بالموازينِ
حين المحبةُ تحت الكرم تُرضعنا ... والسحبُ ترضعُ أولادَ الرياحينِ
عبد الحليم المصري(4/147)
الإنشاء المترهل
شرح الدكتور شميل يطبع كتابه حوادث وخواطر وأتيح لنا أن نقف على مقدمته فاقتطفنا منها الكلمة الآتية في انتقاد هذا النوع من الإنشاء الذي ضاع فيه فريق من كتاب العصر قال:
عنيتُ في الصيف الماضي 1912 بتقييد بعض حوادث مما مرَّ عليَّ , وتَعليق بعض خواطر مما يعنَّ لي , عسايَ أن أجد فيها ما أشغل بهِ أوقات الفراغ. وأفرّج كُرب العزلة. حتى إذا كاد الصيفُ ينقضي نشبتِ الحرب البلقانية , فوقفتُ في تلك حيث وقفت , وعلَّقت على هذه ما علَّقت. ثم ضممتُ إلى ذلك بعض ما تيسر لي العثور عليهِ من مطويٍّ لم يُنشر , ومنشورٍ مبعثر. وجمعتُ الكل في هذا الكتاب , فجاءَ من كل حرش عصا أو من كل نبتة زهرة على ذوق القارئ. وسمَّيتهُ حوادث وخواطر حوادث هي بعض مذكَّراتي في حياتي القليلة الاختلاط الكثيرة الاعتزال. إن لم تتسع للرواية فقد تستوقف بدقة التحليل؛ وإن أقفزت من القديم المأنوس فقد يكون فيها شيءٌ من الجديد الطليّ؛ وأن كثر فيها الجدُّ فقد لا تخلو من الفكاهة؛ وإن كثرت فيها المعلَّقات الخصوصية فلم أُهمِل من خلالها المرامي العمومية. حوادث لم أنقلها عن يومية مدوَّن فيها كلُّ ما كان يعرض لي كما يفعل البعض , ولاسيما الإفرنج في مذكَّراتهم , ولكنني اعتمدتُ فيها على ذاكرةٍ قلما تخونني في الوقائع , وغن كانت كثيراً في التاريخ. وخواطر هي بعض أفكاري أُطلقها تجول في ما حولي , وتمرُّ بي حتى أعماق نفسي , وتنطق عن نظري الخاصّ ولو خالفت أحكامي أحكام سواي. وإن لم أدَّعِ لها العصمة فإني أربأُ بها أن تميلَ مع الهوى ولو لَقيَتْ ما لَقيَتْ من عواصف(4/148)
العواطف الغالبة حتى الساعة على أفعال سائر الناس , والمتمكنة فينا أكثر من سوانا على نوع خاصّ. حوادث وخواطر سردتها سرداً كما جاءَت غير متَّبعِ فيها نهجاً مخصوصاً. ولم أتعَّمل فيها غالباً لئلاّ يجمح بي جواد المبنى فيخرجني عن جادَّة المعنى. فهجرت الوحشيَّ الفحليَّ , ولم أقع في الحضريّ المترهّل , وتقرَّبتُ كثيراً من العامة , عسى أن تكون البلاغة في ما كان أدنى إلى تبليغ المراد. قلت الحضريّ المترهّل لأني أرى اليوم مَيلاً كبيراً للتباري في نهج من الإنشاء إن أجاد فيهِ البعض فقد قلَّ فيه المفلحون. وإن حلا في بعض المواقف فمن المُصاب ما يُغثي. يترقق فيهِ اللفظ حتى لا يكاد يغشى السمع. يطوف على الأزهار ويناجي نفوس الكواكب , ويستمطر دموع الملائكة , ويثير أشجان القلوب.
ولكن يحار الجنان في فهمهِ إذا تقَّصاه إلى لبّه. فلا هو نشيد الأناشيد , ولا هو مراثي أرميا , ولا هو مصابرة أيوب , حتى ولا هو تسبيح داود على قيثارتهِ. أو هو خليط منها يتلألأ ولكن كالبرق الخلَّب. ولا يبقى من جيّده في الذهن إلا أثر النسيم على صفحات الماء , ومن رديئةِ إلا أثر الكابوس في الحالم. وشأنهُ في الحالين شأن الماس الكاذب , فلا هو حليةٌ للتنافس , ولا هو الفحم النافع باعتبار أن الماس الحقيقي فحم متبلور. كأننا لم نهجر التقعر الجاف إلا لنقع في الرقيق المائع. وبينهما ضحايا الفكَر مقتولة على مذبح هيكل العواطف الثائرة أو الذابلة. ولكم عرض لي وأنا أسمع هذا الشعر الجديد المنثور , أن تذبل عيناي , وتتدلى يداي , ويتهادى ذراعاي , كأنهما جناحان هبَّا بي للتصفيق ولكنهما هبَّا متكسرين كأني بهما الطير الواقع. وما الناس بحاجة إلى هذا التنويم المخدّر بعد ذلك أني تنزَّلت إليهم , بل أريد أني تحديثُ الأسلوب الذي ينفتح للجميع على حد سواء , بدون أن يُضطرَّ فيهِ إلى تعمُّل يوجبه التأنق في الإنشاء , كثيراً ما يذهب بجهد الكاتب , وقد يستمهل(4/149)
فهم القارئ حيث يجب أن يُستحثّ , ونحن إن لم نكن في عصر بالقياس إلينا فإلى عصر بالقياس إلى سوانا الوقت فيه ثمين , عسانا أن لا نبقي مقيدين في الأغلال على الأجيال. واستعملتُ كثيراً من ألفاظهم التي تعبر جيداً عن المراد , والتي إن وجد بعد العناء في معجم اللغة ما يقوم مقامها , فقد يعزُّ حتى على الأديب مغزاه حتى يتقصاه مكانه , والمقصود من الكتابة ليس الإغلاق. كما أني أثبتُّ كثيراً من كلامهم الجاري مجرى المثل , لأن الأمثال حكمة الشعوب التي تعبر عن أحوالهم وَمجرى أفكارهم في كل أطوارهم. ونهجت نهج الأمم الراقية من متقدمين ومتأخرين , ونهج العرب أنفسهم في أبَّان حضارتهم في مستحدثات الصناعة ومستنبطات العلم , فلم أتحوّل عن مسمياتها في لغاتهم , إلاّ حيث أمنت اللبس ولم أخشَ التشويش , ولاسيما في هذا العصر الكهربائي الذي يتدفق فيه المستجد كل يوم تدفق السيل , حتى صار التحوُّل عنهُ إلى أوضاع الاجتهاد خروجاً عن المأنوس المدرك إلى الوحشيّ المغلَق , متبعاً في كل ذلك سنّة التحوُّل التي تتناول كل شيءِ في الطبيعة والإنسان في العمران , والتي لا يقوى عليها حتى ولا الجامدون المتمكنون من جمودهم مهما جمدوا. حوادث وخواطر لم أدارِ فيها ولم أحابِ , وإن أغضب ذلك النفوس التي لم تألف إلا الهدهدة. وإذا كنت أُكثر فيها الانتقاد أطلقهُ على ما حولي وأتناول بهِ حتى
نفسي فلأن الانتقاد يبعث على التفكير. عسى أن يغلب علينا ما لا نحبَّ مما يُحمد فنحسَّ بفكرنا لا أننا نفتكر دائماً بشعورنا وقلما تنجح أعمال العقل إذا غلبته العواطف. ولا أخشى حملات العقلاء , فاحترام كل فكر ضروري لحياة الفكر. والإصغاء إلى كل نظر واجب. وأدفع حملات سواهم متستنصراً عليهم أبناءَهم من أصلابهم فهم الذين يثأرون منهم. يثأرون الإفراد المجنيّ عليهم والمجتمع الذي يسيئون إليهِ. وسرعان ما يكون هذا الاثئار اليوم.
الدكتور شميل(4/150)
نهضة اللغتين
العربية والتركية
حياة الأمم في آدابها العالية , وبيانها الخالد , بها تنهض , وتسمو , وتماشي الدهر , وبها تستعزّ؛ ولكَم من أمة كفل لها بيانُ لغتها بعثَها بعد أن طوى جهلُ حكامها صحيفة وجودها؛ وفي بعث هذه الأمم التي ناهضت الترك وتناهضهم اليوم في سهول تراقية والروملي خير دليل وبرهان , فلئن هبّ علماءُ الغرب وشعراؤه سنة 1820 لنجدة الأمة اليونانية فهم إنما أرادوا بإحيائها إحياء لغة اليونان. فقد ضمنت أقلام كتبة آثينا الذاهبين الخالدين هذا الوجود الحاضر لمن استخلفوهم على لغتهم في ديارهم. فهم بما كتبوه منذ ألفي سنة بعثوا أمة اليونان منذ تسعين سنة. للّغات كالأمم أدوار عزةٍ وانكسار , ولقد زهت لغتا العرب والفرس في أعزّ أيام دولهما؛ فكانت اللغة العربية في القرنين الثالث والرابع للهجرة في أوج عظمتها ورقيّها , وفي مثل ما نرى فيهِ اليوم لغات باريس ولندن وبرلين. فكانت تغصّ أروقة حلقات الدرس في مدنها وهي أشبه شيء بجامعات مدن الغرب الكبرى في يومنا الحاضر بمئات الطلاب القادمين إليها انتجاعاً للعلم , كما تكتظ مدارس عواصم الغرب في هذا العصر بطلاَّب الشرق , ولم أرَ أمة شذّت عن هذه القاعدة غير الأمة التركية لأسباب تضيع في شرحها وتعليلها آراءُ علماءِ الاجتماع. مرت الأمة التركية بدور عزّة وعظمة لم ينقصا في شيءٍ عن عزّة وعظمة أرقى الأمم التي مشت قبلها على وجه هذه البسيطة. فلقد جاءت عشائرها مئات من جبال الأورال في الشمال واجتمعت ملايين عند أسوار فينا. فكانت ككرة الثلج تزداد في تدحرجها ضخامة إلى أن ضعفت فاضمحلت بفعل النواميس الطبيعية , كما اضمحلت(4/151)
الأمم التي تقدمتها بفعل هذه النواميس نفسها. ولقد بلغت الأمة التركية هذا المبلغ من الرقي والنهوض , ولغتها في الحضيض , لا شعر , ولا بيان , ولا آداب سامية , فكأن تلك الحروب والفتوحات جرفت الأمة كلها في سيرها إلى الموت والفناءِ. إلا أن الباحث المدقق يجد أن الأمة التركية كانت كلها منذ بدءِ الفتح تشغل مناصب السيادة الملكية والعسكرية فلا تعرّض مقاتل أفرادها على الهلاك إلاّ على قَدَر. وما كان أولئك الذين فتحوا الديار وهاجموا الأسوار إلا أبناءُ هؤلاء الأسرى الذين سقطوا في حروبهم مع الترك بين أيديهم فاعتنقوا الإسلام ووقفوا أجسامهم على خدمة الحرب , فسار
أبناؤهم على آثارهم إلى أن اضمحلت أجواق الانكشارية التي قادت أعلامها خافقة إلى النصر في كل مكان فكان في استطاعة الترك في أيام عز دولتهم أحياءُ بيان لغتها وضربها على أعناق الدهر خالدةً خلود جميع اللغات التي تقدمتها والتي جاءَت وستجيءُ بعدها. غير أنه لم يكن شيءٌ من ذلك. فلقد مالت شمس عظمة تلك الدولة إلى الأفوال والغروب وشمس نهضة لغتها لم تبزغ بعد؛ وهذا الحادث الغريب , الشاذّ , من أغرب الحوادث التي يسطرها التاريخ في صحائفه لأبنائه الآتين. بدأت نهضة اللغة التركية الحديثة منذ خمسين سنة مضت فأخذت ترتقي وتنمو برغم الحوائل التي حالت دون نموّها في الثلاثين سنة التي مرَّت بها من حكم عبد الحميد. فكتب أدباؤها , وترجموا جلّ مؤلفات كتّاب الغرب وعلمائهم في العلوم والفنون , والشعر والأدب. وساعدهم على ذلك وجود حكومةٍ لهم منهم تمدّهم بعضدها , ومدارس في كل نوع من أنواع العلوم. في العلوم الحربية والبحرية , وفي التاريخ والحقوق والاقتصاد وعلوم التجارة والزراعة , فامتلأت مكاتبهم بآثارهم وأخذت لغتهم في الزهو والإشراق , والحكومة في أحرج أدوار حياتها تنتقل من انكسار إلى انكسار , ولعلّ السبب في إقبالهم على النهوض بلغتهم في هذا الدور والعصر هو الانتفاع بها كسلاح لمقاومة الفناءِ. فاشتغلوا بإحياء اللغة لفوائدها(4/152)
لا لذاتها , كما فعل غيرهم من الأمم. فقد انصرف العرب عن الاشتغال بالمُلك إلى الاشتغال بالأدب , وانصرف الترك إلى الاشتغال بالأدب , طمعاً باستبقاءِ المُالك. ولقد ماشيت اللغة التركية في فروق خمسة أعوام رأيتها فيها سائرة بقدم الجبّار إلى الانتشار والاعتزاز , فعمل لها أبناؤها في خمسة أعوام مثل ما عمل لها آباؤهم في خمسين سنة إن لم أقل أكثر. وكفاني دليلاً على اتساع الحركة الفكرية في الآستانة أن أقول أن عدد مطابعها بات أربعة أضعاف ما كان عليهِ منذ خمسة أعوام. وإن أجرة المرتّب التي كانت لا تتجاوز خمسة عشر غرشاً مرَّ عليها دور بلغت الستين غرشاً في اليوم. وقد رأى أدباءُ الترك أن لا مفرٌ لهم من إنشاءِ نادٍ يجمع شتاتهم , يشتغلون فيهِ بإيجاد الألفاظ ونحت المعاني وبعث اللغة , فانشأوا نادياً لهم أطلقوا عليهِ اسم فجر آتي لم يَخلُ من فائدة في نهوضهم فكان غرَّة مطلع ذلك الفجر. وعملوا مجدّين في ما أرادوه فكانت هذه الأعوام الخمسة التي مرَّت بهم سنوات بركة وإسعاد في اللغة فقط. وإذا نظرنا إلى كتَّاب اللغتين العربية والتركية في هذه السنوات الأخيرة نجد
الآخرين أغزرَ مادة , وأصحّ سنداً , وأقوى بياناً. ليس مَن ينكر نهضة الآداب العربية الكبرى منذ الربع الأخير من القرن الماضي إلى هذا اليوم؛ فلقد بلغت دولة الشعر والأدب فيها مبلغ أزمانها الراقية في أيام العرب الأولى الزاهرة , إلاّ أن الحركة العلمية وما يلحقها لا تزال ضعيفةً من كل وجه , فكتب التاريخ والعلوم قليلة لا تروي ظمأ الوارد , ونظام العمل على النهوض بها مفقود , فكم من كتاب ثمين بدأ ذووه بهِ وطووه. وهذه مجلدات دائرة المعارف وكتاب آثار الأدهار لا تزال تنتظر أناساً يكملون ما بدأ بهِ السلف الصالح. ففي مصر وسوريا والعراق حركة أدبية كبرى اليوم لا نظام لها ولا رابطة تربط ذويها , على أن حصولها سهل , وإحداثها غير بعيد المنال. وفي نظارة المعارف(4/153)
رجل كحشمت باشا دلّت سوابق أياديهِ على اللغة العربية على أن يديه لا تنكمشان عن مساعدتها. ففي قليل من عناية أمراء هذه النهضة يُحقق الأمل ويتم الرجاء. وأول حلقة من حلقات هذا النهوض إنشاء ندوة للمشتغلين بالأدب يسنّ لها نظام يربط أبناءَه في مصر وسوريا والعراق حتى والمهاجر الأميركية. فتكون هذه الندوة أشبه شيءٍ بغرّة الفجر الآتي العربي , ونجمة هذه اللغة التي تهدي بنيها إلى أفضل السبل للنهوض العربية ففي تنظيمها وتسييرها في سبلها خير ضامن لها بالبقاء. فإلى العمل والنهوض أيها الأدباء
مصر
إبراهيم سليم نجار
عهود الغادات
صديقتي العزيزة أنيسة
إليك مني هذا النبأ الغريب. أنه لنبأ غريبو لأنهُ كان في اعتبارك واعتباري غير محتمل الوقوع. ولكن صدق القائل لا مستحيل على وجه الأرض. تودّين أن تعرفي هذا النبأ في الحال. ولكني أقول لكِ أحزريه. ربما تظنين أني صرت غنياً عظيماً كأني اكتشفت كنزاً , تحسبين أن الحكومة عينتني وزيراً , أو غير ذلك من الأمور الغريبة. ولكن أمثال هذه الأمور وإن تكن غير منتظرة أقرب في اعتبارك واعتباري مما سأقوله لكِ , لأنكِ لن تحزريه. وليس ذلك لأنهُ لا يحدث مثله كلَّ يوم وكلَّ ساعة بل لأنهُ كان عندنا غير محتمل الوقوع. أقول لكِ بلا تطويل في المقدّمات أن أمينة قاطعتني , وكنت أود أن أراكِ وأنتِ تترددين في تصديق هذا النبأِ , بل أن أرى دهشتك وقد تحققتِ صحته لأشاهد أبلغ حالة من حالات الانذهال والتعجب. ولكن لا صبر لي على كتمان هذا(4/154)
الحادث عنكِ إلى حين اللقاء. نعم أن أمينة نسيت أو تناست ذلك الحبَّ الشريف الشديد المتبادل الذي كان يربط روحينا برابطٍ كنتُ أظن أن ما من قوة في الوجود تقدر على قطعة حتى ولا الموت. فهل تصدقين هذا النبأ. أنتِ صديقتها الحميمة ومستودع سرّ فؤادها. أنتِ التي طالما رأت الوجد يُسيل من مآقيها العبرات , وطالما سمعت الهوى يصعّد من صدرها الزفرات , وطالما رنّت في آذانك أقسامها المغلظلة بأن أتوس هو حبيبها الوحيد الدائم , وأنها إنما بحبه تحيا. أنتِ التي تعرفين كلَّ ذلك. هل تصدقين أنني صرت لديها كغريب , كأنَّ لم يكن شيء مما كان. نعم هكذا حصل والأدهى أنها لا تريد أن تقدم سبباً لهذه المقاطعة سوى إن هذا الحب لا حاجة إليه ولا فائدة. لكَم قلت لها - وأرجوكِ عذراً وصفحاً - إن قلوب النساء متقلبة , وإنها بقدر تسرُّعها في الميل تتسرع في الانحراف؛ فكانت تقول لي لستُ من تلك النساءِ إن حبي لكِ لهو دمي الذي يجري في عروقي؛ فحياتي هي البرهان على دوام وجوده. وها هي الآن تحيا وتزداد يوماً عن يوم عافية ونضارة. يقولون أن جسم الإنسان مجموعٌ مؤلف من خلايا حيوية صغيرة جداً دائمة الفناء والتجدد. فهل تظنين أن هذا الناموس الطبيعي - أي الفناء والتجدد - يغيّر هوية الشخص فيصيّره اليوم غير ما كان منذ سبع سنين. إن أميال النفس المختلفة - وسيدها الحب - لا توجد في الإنسان عفواً , بل لا بدَّ لها من سبب. ولا أنكر أن هذه الأميال تتغير أو تضمحل , ولكنها كما وُجدت بسبب , فزوالها
يجب أن يكون لسبب أيضاً , وبقدر ما يكون الميل شديداً , يكون سببه عظيماً. فزوال هذا الميل الشديد يقتضي أن يكون سببهُ عظيماً أيضاً. فهل تستطيعين أن تستخرجي لي من أعماق صدرها سبب هذا الانقلاب العظيم(4/155)
أنتِ تعرفين تاريخ حبنا كلهُ وتقدرينه قدره من الاعتبار لأنهُ حبٌّ روحي كنا بكل جرأة نباهي بهِ ونفاخر. ولكني لا أعلم إذا كنتِ تعرفين كيف نبت هذا الحبّ ونما , فاعلمي يا أنيسة أنني أنا الذي كنت ضحية هذا الحب بلا ذنب. كنت يوماً أتنزه مع نسيبةٍ لي , فالتقينا اتفاقاً بأمينة تتنزه مع قريب لها , وكان بيني وبين تعارف سابق , وبينها وبين نسيبتي مثله , فتبادلنا التحيات واجتمعنا نتحدث في شؤون مختلفة , فما انتهت جلستنا حتى شعرت بأني نزلت من فؤاد أمينة منزلاً حسناً. ثم تلاقينا فمدَّت إليَّ يد التوّدد , فمددت لها يد الترحاب , وكل منا يعجب بسجايا الآخر , وهكذا نما الحب واشتد وتمكن مني. لم أتعشقها من نظرة كما يقولون , ولا سعيت في جذب قلبها نحوي بالنصبي , وهي خالية الذهن مني , ولا سبقتها ببث الحب. بل لطالما عملتُ على إطفاء ما كان يتقد في نفسها من الشغف بي اتقاءً لمبادلتها هذا الوجد خشية أن تنقلب عليَّ يوماً , ويكون ولعي بها قد أزمن , فلا يبقى إلى الشفاء سبيل فأشقى وتسعد , وأتألم ولا تبالي؛ ولكنها كانت قادرةً , فلقحت دمي بمكروب هواها , وتركتني هازئة , ولسان حالها يقول: أشفَ أن قدرت. هل أقول أن مظاهرها تلك كانت تفنناً في اختلاب الألباب واستهواء العقول. إنكِ لا توافقيني على هذا القول , وأنا لا أجسر على الجزم بهِ. إنكِ تعرفين منها أنَّ حبها كان حقيقياً كحقيقة وجودها , ولكن يمكنني الآن أن أكرر قولي لكِ - ولو ساءَك - أكرره ولا أقبل فيهِ جدالاً , ولا بضده اقتناعاً أن قلب المرأة سريع الميل سريع الانحراف. أن حبّ المرأة فجائي الحدوث فجائي الزوال ولعلها في هذا الخلق أسعد حظاً من الرجل , فلا تأسف على هناء ضاع ولا تذكر حباً كان , في حين أن ثبات الرجل في حبٍ لا أمل له فيه ولا عزاء , إنما هو كل الشقاء. أن الراويات الموضوعة التي تمثل وفاء المرأة وخيانة الرجل في الحب , إنما هي(4/156)
تخيلات يٌقصد بها التأثير على طبع المرأة الفطري لجعلها وفية ولو خانها الرجل , ولكن عبثاً يتعب هؤلاء القصاصون. لقد أطلتُ القول وأنتِ تنتظرين أن تعرفي كيف صارت هذه المقاطعة. نعم , وإليك البيان: تعلمين أنا كنا نتقابل ونتكاتب , فزرتها يوماً فوجدتها غائبة عن منزلها , فكتبتُ إليها فلم آخذ جواباً ,
فكتبت ثانية فجاءَني منها الكتاب الآتي نصهُ:
10 ابريل حضرة الفاضل الكريم المحترم
تشرفت بكتابيك الأول والثاني , المؤرخين في 7و9 الجاري , وها أنا أجاوب حضرتك عليهما معاً , فأقول: لقد رأيت بعد التفكر الطويل أن علاقتنا القديمة لا حاجة إليها ولا فائدة منها؛ ولذا أرجوك أن تعذرني على عدم تمكني في المستقبل من مكاتبتك ومقابلتك , بيدَ أني أبقى ذاكرة على الدوام مكارم أخلاقك وحسن شمائلك؛ ولا أزال اعتبر نفسي الصديقة المخلصة.
أمينة
دهشت من هذا الكتاب , ولم أفهم ما أقرأ لأول وهلة , فكررتُ القراءة على مهل , ويداي ترتجفان , وعيناي تحدقان في هذه الحروف المرسومة , لعلي استنتج من أشكال رقمها حالة الانفعال النفسائي التي كانت أمينة عليها عند كتابتها؛ فوجدتها متناسقة جميلة , على أحسن ترتيب , مما يدلُّ على أن الكاتبة كانت على أتمّ ما يكون من الرواق والارتياح؛ وجعلت أفسر هذا الكتاب الوجيز كما يفسرون طلمساً مبهماً , فأخذ تفسيره عندي ما لو كتب لملأ مجلداً.
صرت بعد العزيز والحبيب حضرة الفاضل الكريم المحترم
نعم ما دام أن قلبها قد انقلب , فقد صار حبنا لا حاجة إليه ولا فائدة منه. على أنهُ قد كان ذا فائدة , وإليه حاجة فيما مضى , قد كان الدم الذي بهِ تحيا.
والمرء يحب الذكرى اللذيذة؛ فأخذت مجموعة رسائل أمينة وجعلت أقلب في(4/157)
صفحاتها , فوقع نظري للحال على كتاب سأنقل إليكِ بعضاً منهُ. قالت: الوقت الآن نصف الليل. الناس نيام والطبيعة هادئة ساكنة. لا صوت , ولا حركة. لم أستطع النوم فقمت إلى الحديقة لأناجيك. جلست على المقعد وتخيّلتك واقفاً بجانبي ترنو إليّ بتلك النظرات وتبسم لي. نسيم لطيف يمرّ إليك قولي أحبك دائماً. تنشق هذا النسيم فإن روحي صائرة معه إليك.
ولا يخلو كتاب من كتبها من مثل هذا المعنى
قلت لها مرة؛ بل غير مرة: يا أمينة تحدثني نفسي بأن حبك هذا لا يدوم , ويا لشد ما أخشى زواله , فقالت: بل يدوم إلى الأبد. قلت: اسمعي. لا ينشأ الحب عبثاً , بل لابد أن
يكون في المحبوب مزية أو مزايا راقت في نظر المحب فأب صاحبها , وإذا كنتِ قد رأيت بي مزية تحبينها , فلست متفرداً بها وحدي , بل أنها توجد في غيري , وربما بصورة أعظم وأجلّ. وقد يوجد من يتخلى بمزايا ومحاسن متعددة , والقلب يميل إلى الأفضل. قالت لقد رأيت كثيراً ولم أرَ مثلك. قلت سترين في المستقبل. قالت لن يوجد مثلك أبداً. راجعت ضميري فلم أجدني أتيت سبباً يوجب هذا الانقلاب. وأنت تعلمين أنها حرّة بفؤادها وسلوكها , فالسلطة الأدبية لا تؤاخذها على حبها هذا الشريف ولا سلطة شرعية عليها تحول دون استمراره وإعلانهِ. فليس إذاً هنالك سبب خارجي دعا إلى هذا الانقلاب والسبب منها ولا شك. فما هو؟ لقد صح إنذاري. ورأت من هو أفضل مني حاولت الجمع بين حبين , ولكن غيرة الحبيب الجديد قطعت صلة الحبيب القديم. هي تظنني أجهل هذا السبب فدعيها مطمئنة إلى ظنها. . . هنيئاً لها. . .!
أنوس(4/158)
ثمرات المطابع
دليل لبنان وسوريا - صدر الجزء الأول من هذا المؤلف الذي يهتمُّ بوضعهِ حضرة الكاتب الفاضل الشيخ بولس مسعدو وقد تناول فيه البحث جغرافية سوريا الطبيعية والاقتصادية والسياسية وما يتعلق بتجارة تلك البلاد وصنائعها وفنونها وأديانها وطوائفها ولغاتها وحضارتها إلى غير ذلك من الأبحاث التي تدلّ على اجتهاد عظيم وتنقيب كبير لجمع المعلومات والمستندات اللازمة وإبرازها في أحسن قالب والكتاب مقدم إلى دولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي الذي عرف السوريون قاطبةً أياديه وأيادي الأسرة العلوية عليهم وعلى بلادهم. ولا نشك في أن الإقبال سيكون عظيماً على هذا الكتاب لاسيما في مطلع فصل الصيف حيث يكثر عدد مرتادي لبنان وسوريا انتجاعاً للعافية فيجدون في دليل لبنان وسوريا كل ما يبتغون من الفوائد عن البلاد التي يقصدونها. وقد اهتمَّ الأجانب كثيراً بوضع مثل هذا الدليل لبلادهم تشويقاً للسائحين وتسهيلاً للمسافرين. فلم يكن بدٌّ من تأليف مثله عن لبنان وعدد المصطافين فيه يزداد عاماً فعاماً. فنشكر لمسعد أفندي خدمته هذه ونثني على جده ونشاطهِ.
الترجمان الطلياني - عنيت إدارة المكتبة العمومية المشهورة بما لها من الآثار الطيبة في عالم المطبوعات بوضع هذا الترجمان الطلياني باللفظ العربي , فجاء شاملاً وافياً بالغرض المقصود. وهو مصدَّر بملحوظات مفيدة عن اللغة الطليانية وكيفية النطق بحروفها , يليها معجم وافٍ في مفرادتها مرتبة حسب المعاني , ثمّ فصول عديدة للتخاطب في مواضيع متنوّعة. وقد وُضع بعد كل كلمة أو جملة معناها العربي وكيفية التلفُّظ بها بحروف عربية حتى أنهُ ليسهل على الراغب في اللغة الطليانية أن يتعلّمها وحده لفظاً وفهماً بدون مساعدة أستاذ.(4/159)
الحفلة الإكرامية
لخليل أفندي مطران
حُيّيتَ يا وطناً القلوبُ إلى ... أرجائهِ وبهِ الأرواحُ تغبطُ
شمسُ المعارفِ في علياهُ جامعةٌ ... أطرافَهُ وهي فيما بينها وَسَطُ
ففي ذرى الأرْزِ حبلٌ من أشعَّتها ... يُلقى وحبلٌ على الأهرام منبسطُ
إبراهيم اليازجي
في الحفلة التي أقامتها مجلة سركيس في الرابع والعشرين من الشهر الماضي , احتفالاً بالأنعام على خليل أفندي مطران بالمجيدي الثالث , تجلَّت هذه الشمس بأجلى مظاهرها , وألقت من قرصها الذهبي المتقد أشعة الحبّ والوئام والصفاء على مصر وصوريا اللتين كان يمثلها في دار الجامعة نخبة الأدباء والفضلاء والوجهاء في القطرين الشقيقين.(4/161)
المحتفَل بهِ رجلٌ عرفهُ عشراؤه بالمرؤة ودمائه الخلق وسعة الصدر وعفة اللسان والوفاء للصديق , فأحبه الجميع. وكأن الشاعر عناه بقوله:
إذا كنتَ من كل الطباع مركّباً ... فأنتَ إلى كل القلوب حبيبُ
هذه بعض صفات الرجل؛ أما الشاعر الذي في بُرْدَي خليل , فقد عرَفتهُ النفوس خلاَّباً ساحراً , والأفئدة محرّكاً مستفزّاً. شهدت له بكلّ ذلك نبضات قلوب قرَّائه , كما شهد له إخوانه في الأدب بقوَّة بيانه , وذكاء جنانه , فاسمع ما قالوا فيه في تلك الحفلة , وشهادة مثل هؤلاء حجة. قال حافظ بك إبراهيم:
قد سمعنا خليلكم فسمعنا ... شاعراً أقعد النهى وأقاما
وطمعنا في شأوهِ فقعدنا ... وكسرنا من عجزنا الأقلاما
نظمَ الشامَ والعراقَ ومصراً ... سلكُ آياتهِ فكان الإِماما
فمشى النثر خاضعاً ومشى الشع ... رُ وألقى إلى الخليل الزمانا
فعقدنا له اللواَء علينا ... واحتفلنا نزيدُهُ إكراما
وما أبلغ هذه الشهادة إذا جاءت تزكيتها من حفني بك ناصف القائل:
يا شعر مطران لعب ... تَ بلبّنا ونفثتَ سحرَكْ
للهِ ما أحلاكَ يا ... سحرَ البيان وما أمرَّكْ
إن ملتَ يوماً للثنا ... ءِ نثرتَ في الأسماعِ دُرَّكْ
وإذا استفزَّك عابثٌ ... يوماً كفانا اللهُ شرَّكْ
وإذا هويتَ خلبتَ مَنْ ... تهواهُ واستنزلتَ بدركْ
وقال نقولا أفندي رزق الله:
تأمّلْ كرافائيلَ وارسمْ فهذهِ ... أمامَك دنيانا وأنتَ المصوِّرُ(4/162)
صفِ الجوَّ والأفلاكَ والأرضَ والسما ... وما تُظهِرِ الأيامُ منها وتُضمرُ
ترنّم ببتِ الشعرِ تُنعِشْ نفوسنا ... فنحنُ ومن في الشرقِ نُصغي ونكبرُ
وقال نعوم بك شقير:
ويبدو كما شاَء في شعرهِ ... فطيرُ الأراكِ وليث الأجمْ
إذا رامَ ذمّاً فجمرُ الغضى ... وإن رامَ مدحاً فزهرُ الأكَمْ
فقلتُ: أشاعرُ هذا الزمانِ ... خليلٌ؟ فقال الزمانُ: نعمْ!
وقال أحمد أفندي نسيم:
قوافٍ , لو أنَّ الحسنَ صاغَحروفها ... بعقدٍ , لكانت لؤلؤاً وزبرجدا
ولو سمعتها الطيرُ في وكناتِها ... لقالت هديل الشعرِ عاد وغرَّدا
ففي شعرهِ روحُ المهلهلِ تارةً ... وآوانةً روحُ الوليدِ إذا شدا
وقال أسعد أفندي داغر:
أمير القوافي الذي صيتُهُ ... كشمسِ الضحى عمَّ تسيارهُ
فرنّت قصائدُهُ في العراقِ ... وجابت تهامةَ أشعارُهُ
وفي مصر ديوانُهُ عامرٌ ... ورهط البلاغةِ نظّارُهُ
كل هذه الشهادات الثمينة سجَّلها لمطران أستاذُ الشعر في هذا العصر إسماعيل باشا صبري إذ قال:
قلمٌ تصدرُ الحقائقُ عنهُ ... حالياتٍ في أجملِ الأبرادِ
ولسانٌ يمسي يُدّبرُهّ فك ... رٌ كبيرُ النهى كبيرُ المرادِ
وكان رئيس الحفلة وهلالها الساطع دولة الأمير الخطير البرنس محمد علي باشا شقيق مليك مصر , فجاءت شهادته لوحدها جامعةً لشهادة الأدباء(4/163)
والأصدقاء , والشعراء والقرَّاء
فقال من خطبته النفسية:
ولقد سمعتُ منذ زمانٍ طويل بشهرة ذلك الشاعر الطائر الصيت , فاتهجتُ بما وصل إليَّ من أفكاره السديدة التي تنبئُ عما هو عليهِ من علوٍّ في الهمة , وثبات في الرأي , ووفور في العلم. ولم يكن إعجابي بهِ لما أوتيهِ من المواهب الجليلة في دولة العلم فقط , بل لما تحلّى بهِ أيضاً من الأخلاق الكريمة التي تحمله دائماً على سلوك طريق الاستقامة , وتباعد بينه وبين التحقير للغير , حتى صار بذلك محبوباً مرموقاً بعين الإجلال والاعتبار , متأهباً لنيل المجد والفخار. . . ولستُ أدَّعي أن أقدّم لقراء الزهور في بضع صفحات كل ما قيل في هذه الحفلة النادرة وقد كلَّف سركيس جمعُهُ مئة وستين صفحة من مجلتهِ , ولا أن أصف في سطور قلائل ما شهدتُ ورأيت في دار الجامعة وقد تقصر عن ذلك الصفحات الطوال. غير أنه لا يسعني إلاَّ أن أخصَّ بالذكرِ إخواننا أُدباء لبنان وسوريا , فإنهم أحبوا اغتنام هذه الفرصة لأحكام الروابط الأدبية لمتينة التي تربط الأمتين , فأوفدوا أدبيهم الكبير وشاعرهم البليغ شبلي بك ملاَّط ليمثلهم في هذه الحفلة , فقام بمهمتهِ خير قيام , وأنشد قصيدة عصماءَ اهتزَّ لها السامعون طرباً , كما يحقُّ لموفديهِ أن يهتزُّوا لها عجباً , وقد أكرمت مصر في شخصهِ الكرم أدباءَ المصريين للضيوف الأدباء حدّث ولا حرج. . . . أعود إل الحفلة فأقول: وقد أراد فريقٌ من أصدقاءِ خليل مطران(4/164)
والمعجَبين بهِ أن يقدّموا له شيئاً غير الشعر غير الشعر الثمين والنثر الغالي؛ فأهدت إليهِ السيدة النبيلة مدام تقلا باشا والدة صاحب الأهرام ديوانه مجلداً في غلافٍ نفيس من الفضة المحلاَّة بالذهب فكانت الهدية غايةً في الذوق اللطيف , وأهدي إليهِ سعادة عبد الله باشا صفير قلماً ذهبياً , رمزاً إلى التبر الذي يسيل من قلم الشاعر , وقدَّم إليهِ عزتلو حبيب بك لطف الله النيشان المجيدي المنعم عليهِ بهِ. وحمل إليه مندوب سوريا من سعادة سليم بك أيوب ثابت ساعةً ذهبية جميلة. وأهدت إليه السيدة الفاضلة لبيبه هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق أبياتاً من الشعر في إطار جميل كتبتها بخطها الظريف.
وقدَّمت له الكاتبة الشهيرة الآنسة مي باقةً جميلة - في شكل خطبة غراء - جمعت أزهارها من رياض الخيال , ورياحينها من حدائق الشعور , فعطَّر شذاها الأرجاء وأنعش الأرواح. هذا بعض ما جمعتُه لقرائي عن تلك الحفلة التي تحدَّثت بها أنديتنا ومجتمعاتنا
الأدبية كل هذه الأيام. أما صديقي سليم سركيس فكل ثناءٍ عليهِ يظلُّ همته وتفانيه وكفاه بنجاح فكرته مدحاً وتقريظاً. ولئن كان الخليل أهلاً لكل ثناءٍ قيل فيه فإن السليم الذي كان زنبلك كل هذه الحركة يستحقّ أيضاً حظّاً وافراً من الثناء. وقد بتنا نتوقع له نصيباً من إنعامات أمير النيل لنعقدّ له حفلة لم ترَها عين , ولم تسمع بها إذن , ولا خطرت على قلب بشر.(4/165)
عصا حافظ وجزمة الشميّل
حافظ إبراهيم وخليل مطران يشتغلان الآن معاً بترجمة كتاب علم الاقتصاد للكاتب الفرنسوي ليروى - بوليو؛ فتراهما يروحان ويجيئان بين المكتبة والمطبعة , ويبحثان وينقّبان عن لفظةٍ عربية تؤدّي معنى الاصطلاحات الأفرنجية. وليس ذلك دائماً بالأمر السهل؛ وسأعود إلى زيارة التفصيل عن هذه المساًلة في جزءٍ آتٍ. ولم أذكر اليوم كتاب علم الاقتصاد إلاّ عَرَضاَ فقط , لأنهُ جمعني في 6 أبريل الماضي بأحد نصفي المعرّب حافظ بك إبراهيم , فلمحتُ في يدهِ عصا عليها شارةٌ نُقِشَ فيها تاريخ إهدائها إليهِ , فإذا هو 6أبريل 1907. اتفاقٌ غريب! وأغربُ منهُ أن تلك العصا قد رافقت حافظاً ستة أعوامٍ كاملة , سلمت فيها من البيع والرهن والسرقة.
عجباً له فظ العنانَ بأنملٍ ... ما حفظُها الأشياَء من عاداتها
ولعلّي أدركتُ السرَّ في بقائها , فهو يهشُّ بها على غنمهِ ولهُ بها مآرب أُخرى: فبها يضربُ القوافي فتتفجّرُ لَهُ سحراً حلالاً , كما كان موسى يضربُ بعصاهُ الصخرَ فيتفجّرُ لهُ ماءً زلالاً. أو لعلَّ عصا حافظ لها منزلة من نفسهِ كمنزلة جزمة الدكتور شميّل , وقد أودعها كلّ ضروب الفلسفة. وحكاية هذه الجزمة أنني زرتُ يوماً الدكتور الحكيم برفقة رهطٍ من الأدباء , فوجدناه في غرفة عيادتهِ جالساً إلى مكتبهِ , وهو في ملابس البيت؛ فحادَثَنا وحادثناهُ مدةً؛ ثم اشتدَّ الجدالُ على مسألةٍ من المسائل , فقال الحكيم هازلاً دعوني أشدّ جزمتي , فأكون أقوى حجةً , وأكثر استعداداً للمناقشة قال , ونهض إلى مخدعهِ , وعاد على تمام الأهبة بعد أن شدَّ جزمتهُ , فقلت له: قد أدركتُ سرَّك يا حكيم , وعرفتُ مواطن الضعف فيك , فإنَّ منزلة هذه الجزمة(4/166)
منك منزلة شعر شمشون منهُ , فضحك الشميّل ضحكتهُ المعتادة , فزدتُ جرأةً وقلت: متى اشتدَّ تقريعك لنا في جلسات سبلندد بار
سنعمد إلى جزمتك , وننزعها من رجليك , فندعك أعزل بلا سلاح. . .) أما وقد عرف القرَّاءُ سرَّ حافظ والشميّل , فلينزعوا من الأوَّل عصاه , وليسلخوا من الثاني جزمتهُ , إذا أرادوا أن يستريحوا من فلسفة هذا وشعر ذاك. على أنني أخشى , وقد بحتُ بالسرّ , أن يتحوَّل القراءُ إلى جزمجية وحطّابين , حتى يتمتعوا طويلاً بذلك الشعر الرّيق , والنثر الشيّق.
حاصد
من كل حديقة زهرة
ابتدع أحد الأطباء الأميركان طريقةَ لخدمة المرضى , وهي أنه رَّبى كثيراً من الحمام الزاجل وجعل أوكار هذا الحمام إلى جانب صيدليته. فإذا ما دُعي لمعالجة مريض , حمل معه بعض الحمام فيكتب الوصفة , ويعلّقها بعنق الحمامة , ثم يُطلقها إلى الصيدلية , فيتناول الصيدلي الوصفة , ويركّبها , ويرسلها إلى المريض مع راكب درَّاجة.
دعا مدير سجن سنت كوانتن في سان فرنسيسكو الممثلة سارة برنار لتمثل أمام 1900 سجين في ملعبٍ أقامه في فناءِ السجن. وبعد التمثيل ناط المسجونون بواحدٍ منهم تلاوة خطاب باسمهم وجَّهوه إلى الممثلة الشهيرة. وحدث في سجن ريفرهرد أن سجينة شكت مدير السجن لأنه يعاملها معاملة سيئة. فأظهر التحقيق أن السجَّانين يقيمون حفلات رقص وغناء داخل السجن للنساءِ والرجال , فالسجَّانون ومديرهم كانوا يفضّلون الرقص مع الفتيات الأصغر عمراً من الشاكية التي أربى عمرها على الخامسة والأربعين.(4/167)
وأنشأ الأميركان في نيويوك سجناً للأزواج المطَّلقين الذين يأبون دفع النفقة لنسائهم جعلوه نادياً يلعب فيه المسجونون ويأكلون ويستحمون ويتعاملون كأنهم في أحد لاندية. وقد دلَّ أحصاءُ السجون الأميركية وميزانيتها على أن هذه الحكومة تنُفق على السجين من هؤلاءِ في كل عام 18500 فرنك.
يعرفُ علماءُ الفراسة أخلاقَ الإنسانِ من أسرَّةِ وجهه وتقاطيع رأسه. ويعرفُ فريقٌ منهم هذه الأخلاق والأميال والأهواءَ في الإنسان من خطوط يدهِ. وقد ظهر في أوروبا مذهبٌ جديدٌ , وهو أن الإنسان يُعرَفُ من تركيب رجلَيهِ وقدميه. وأصحاب هذا المذهب يقولون الرِّجْلُ هي الرَّجُلُ واشتهرت الكونتس دي روشفو كولد في ذلك وألفت في هذا الفن كتاباً.
سنّت ولاية ايلينوا الأميركية قانوناً للصحافة يقضي بالاّ يُسْمح لأحدٍ بتعاطي الحرفة الصحافية في تلك الولاية دون أن يكون حاملاً الشهادة بذلك بعد أن يقضي أربع سنين في تلقي هذا الفن. ولا يعطي الشهادة إلا إذا امتُحِنَ أمامَ لجنةٍ تثبّتُ قدرتهُ وأدربهُ وطيب أخلاقهِ. ومن راسل جريدة دون أن يكون حاملاً الشهادة يغرَّم من دوار إلى خمسة دولارات وتغرَّم بمثل ذلك الجريدة نفسها.
سئل كثيرون من كبار الفرنسويين رأيهما في تخويل المرأة حق الانتخاب كالرجل؛ فكانت الغالبية من المنكرين على المرأة هذا الحق. ولكنَّ فريقاً منهم استثنى من ذلك المرأة التي لا
يمثّل عائلتها أحدٌ في الانتخاب. فهذه تخوَّلُ حقَّ الانتخاب. أما المتزوجة فيرى أن زوجها ينوب عنها
أمثال الصينيين في الزواج أن الزواج قلعةٌ محاصرة: من كان خارجاً عنها , يودُّ الدخول إليها؛ ومن كان فيها , يودُّ الخروج منها(4/168)
العدد 35 - بتاريخ: 1 - 6 - 1913
معاهد التعليم
في مصر
وقعت إلينا نسخةٌ من كتاب الإحصاء السنوي العام للقطر المصري وهو الكتابُ الذي أخذتْ تنشرهُ منذ أربع سنوات إدارة الإحصاءِ الأميرية. فوقفنا فيهِ عند الفصل الذي يبحث في المدارس وما يتعلَّقُ بها , لأنَّ الأذهان منصرفة في الآونةِ الحاضرة إلى معاهد التعليم؛ وأفكار التلاميذ ووالديهم حائمةٌ حولَ الامتحانات التي جرت أخيراً لنيل الشهادتين الابتدائية والثانوي؛ والجميع يتسقَّطون أخبار النتيجة النهائية , إذ أن مستقبل الفريق الكبير من الناشئة متوقفٌ على تلك النتيجة. طالعنا الفصل المذكور مرتاحين إلى ما أظهرتهُ لنا الأرقام الموجودة فيهِ من دلائل التقدُّم والتحسين المستمرّ في معاهدنا العلمية , من حيث ترقيها وازدياد عددها , وتكاثر الطلاَّب المقبلين عليها. وقد طالما سمعنا في المدَّة الأخيرة إطناباً جماً في ارتقاءِ المعارف في ربوعنا , وثناءً وافراً على(4/169)
النهضة الأدبية في مصر , على أننا لم نرَ , للدلالة على هذه النهضة وذلك الارتقاء , أبلغ برهاناً وأنصع بياناً من الأرقام التي جمعناها عن مدارسنا وعددها وعدد أساتذتها وتلاميذها؛ وها نحن نعرض على القراء نتيجة بحثنا على الصورة الآتية:
نوع المدارس عددها عدد أساتذتها تلاميذها مجموع التلاميذ
مدارس الحكومة 70 1014 14222 751 14973
مدارس الأوقاف 19 977 17877 182 18059
مدارس مجالس المديريات ومدارس تساعدها الحكومة 74 646 7501 1741 9242
مدارس حرّة 428 2510 45996 10527 56523
كتاتيب الحكومة 146 507 9901 5268 15169
كتاتيب حرّة 3556 7414 191687 18758 210445
مدارس أجنبية 479 2769 33591 21074 54665
المجموع 4772 15837 320775 58301 379076
فيؤخذ من هذا الجدول أن عدد المدارس في القطر المصري بين أميرية وحرّة , وأهلية وأجنبية , يبلغ 4772. وفيها الكتَّابُ والمدرسة الثانوية والابتدائية , والمدارس الصناعية ,
والمدارس العالية للطب والحقوق والزراعة والتجارة الخ. ويبلغ عدد المختلفين إليها 379. 076 تلميذاً وشاباً يردون فيها موارد العلم الصافية , ويستقون منها مناهل الآداب العذبة , حتى تنمو في صدورهم ثمار المعارف والفضيلة , فيكونوا لبلادهم وأمتهم فخراً ومجداً.(4/170)
هذا عدا الذين يتلقون العلم في جامعات أوربا وكلياتها الكبرى سواء كان في أرساليات الحكومة , أو على نفقتهم الخاصة , وليس هؤلاء بالعدد القليل. وبمثل هذا الجيش من الطلبة والشبيبة المتعلمة يتعزّز مقام الأمم , وترفع رايتها , ويزداد عمرانها وفلاحها. أما عدد الأساتذة فقد بلغ 15. 837. وكفانا لبيان خطورة المهمة الملقاة على عاتقهم أبراد ما قالهُ بسمرك داهية الألمان أثر انتصارهِ على فرنسا في حرب السبعين: أننا غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة. فعلى الحكومة والحالة هذه أن تمهد لبلادها سبل الانتصار في معترك هذه الحياة بانتقاء أساتذة المدارس الأميرية من نخبة الرجال أدباً وفضلاً وعلماً , وأن تعني بوضع قانونٍ يضمن توفر هذه الشروط في أساتذة المدارس الحرَّة. ومما يراهُ القارئ أيضاً في الجدول الذي قدّمناهُ أن للأجانب 479 مدرسة في القطر المصري يدرس فيها 54. 665 طالباً وطالبة. وهذا العدد هو تقريباً سُبْعُ مجموع التلاميذ في مصر , وهي مأثرةٌ تذكر للأجانب مع الشكر الوافر. أما إحصاءُ هذه المدارس الأجنبية من حيث عددها , فأن للأميريكان منها 188 مدرسة , وللفرنسويين 152 , وللإيطاليين 49 , ولليونان 42 , وللانكليز 30 , وللنمسويين 8 , وللهولنديين 2 , و3 لأمم مختلفة. وأما من حيث عدد التلاميذ فإن المدارس الفرنسوية تأتي في مقدَّمة المدارس(4/171)
الأجنبية , إذ أن عدد تلاميذها 21. 019 , وتليها مدارس الأميريكان وعدد تلاميذها 14. 749.
هذه حالة معاهدنا العلمية مثبتة بالأرقام المأخوذة من أوثق المصادر. وقد رأينا تكلمةً للفائدة أن نقارن بينها وبين ما جمعنا من الأرقام عن حالة تلك المدارس منذ أربع سنوات ليتبين القارئ درجةَ الترقي والتقدُّم التي بلغتها في هذه المدّة من الزمن. وإليك المقابلة بينَ الحالتين:
السنة المدرسية عدد المدارس عدد التلاميذ ذكور أُناث
1907 - 19084094294. 937 253. 923 41. 014
1911 - 1912 4772 379. 076 329. 076 320. 775 85. 301
ومن هذا الجدول يُستدلُّ أنَّ عدد المدارس زاد في أربع سنوات 678 مدرسة , بمعدَّل 169 أو 170 مدرسة جديدة في السنة. وهذه نتيجة تبهج وتسرّ. ومن المعلوم أن من يفتح مدرسة يقفل سجناً. أما مجموع عدد التلاميذ , فقد زاد في المدة نفسها 84. 139 أي بمعدَّل 21. 035 تلميذاً في السنة وهو عددٌ لا يستهانُ بهِ ترك جيوش الجهل لينضمّ إلى جيش النور والعرفان. وإذا أخذنا عدد التلاميذ منذ أربع سنوات نجد أن نسبة الطالبين إلى المجموع هي نسبة 13. 91 إلى 100. أما في السنة المدرسية 1911 - 1912 فإن نسبة الطالبين هي 84. 62 إلى 100 ونسبة الطالبات هي 15. 38 إلى 100. فيظهر من هذه المقابلة أن(4/172)
نسبة التلميذات إلى مجموع التلاميذ قد زادت بعض الزيادة. على أنها لا تزال قليلة جدّاً؛ فكأنهُ ليس عندنا مقابل كل 85 تلميذاً على وجه التقريب إلاَّ 15 تلميذة. وهذا نقصٌ في إدارة التعليم عندنا يجب التذرّع بأنجع الوسائل لملافاتهِ , لأنه لا يخفي ما يترتب على هذا الفرق البّين من الأضرار. فإننا إذا أعددنا فتياناً متعلمين , يجب أن نهيئَ لهم فتياتٍ متعلمات يفهمنَ أفكارَهم , ويُدركنَ عواطفهم , فيشاركنهم في الحياةِ مشاركة حقيقية. وشأن المرأة في تدبير المنزل وتربية العائلة معروف لا حاجة بنا إلى تفصيله في هذا المقام. ولا شكَّ في أن هذا لتقصير في تعليم البنات هو السبب الأكبر لإعراض شباننا عن الزواج أو للبحث عن شريكة حياتهم بين الأجنبيات. والنساءُ نصف الأمة. فهل تُعَدُّ الأمة متعلمةً راقيةً إذا علّمنا نصفها , وأهملنا - أو كدنا - النصف الآخر. هذا , وإذا ظلَّ التقدّم في معهدنا مطّرداً على هذه النسبة , أي بزيادة 170 مدرسة و 21. 035 تلميذاً في السنة , فأنَّهُ لا يمضي على مصر زمنٌ طويل حتى تصبحَ في مصاف البلاد الراقية في آدابها ومعارفها وعلومها , ولاسيما إذا لاحظنا العناية بتنقيح برنامج الدروس شيئاً فشيئاً وتطبيقهِ على حاجات الزمان والمكان. وقد رأينا من وزير معارفنا المفضال أحمد للوصول إل هذه الغاية الجليلة في هذا العصر , عصر المنافسة في مضمار العلوم والآداب.(4/173)
أمام مهدها
كتبها ولي الدين في طفلة له رآها تحتضر وهي في الشهر الثالث من عمرها
أَقصرتْ عنكِ وسائلُ العناية , وخابت في استبقائكِ آمال القلبين المشفقين اللذين طال خفوقها عليكِ في الليالي الطويلة. وها أنتِ اليوم على وشك التوديع. لم تتعلمي ما يقولُ المودّعون , لأنكِ لم تبلغي سنَّ القول. ولستِ تفهمين ما يُقال فيكِ , لأنكِ لم تصلي إلى زمن الفهم. أشفقتُ عليكِ من أُوجاع تُحسّين بها ولا تُدركينها. ثلاثةُ أشهرٍ , كثلاثِ طرفاتٍ بالجفن , مضت وكأنها لم تكن. ليت الشفاهَ التي لامست قبلاتها تينك الوجنتين الذابلتين جفّت قبلَ أن تكونَ ممرّاً للتأوُّهِ. . .! وليت تلك الأنفاس التي سرتْ على وجهكِ الغضّ التهبت في أحشائنا قبل أن تنقلب زفرات. . .!
أعددتك ذخراً , وإذا بكِ مسلوبة. ظننتكِ لي , فإذا بكِ للثرى. لهفي عليكِ إذ تذهبين , ولم تري من سطوري ما يكون لكِ عظةً من بعدي! بل لهفي علىَّ إذْ أَستندي عيونَ النيّرات بمصراعٍ ارتجلهُ , وأنا أطلبُ اليومَ فيكِ كلامَ الرثاءِ , فلا تساعفني المعاني. إن يخطئكِ الحمام , وهيهات ما أظنهُ فاعلاً! فقد أبقى لي الدهرُ أملاً كاد يزمع الرحيل. وإنْ يأخذكِ كما أخذ أجدادَكِ وجدَّاتكِ من قبل , فقد أسرعتِ في قطع طريق يتظالع في قطعها الخلائق.(4/174)
أتيتِ نقيةً , وتذهبين نقية , كتقطرة الطَلّ على ورقةٍ من الورد , تلمعُ بكرةً , ولا تلبث أن تُستطار بخارأً. بين نوحات الثاكلات , وترجيع الحمائم بالأسحار , وبكاءِ السماءِ , وابتسام الأرض تضادٌّ يغيظ الموجَع. لا أشكو بثي فيكِ؛ ولكني استبقيه لأعتصرَ منهُ ذوبَ الشجون , ولأخاطبَ بهِ نفسي ناصحاً كلما غلبت عليها غفلات هذه الدار , وكادت تكون لها فتنة. لا أستطيع دفعاً لشيء يسوقهُ المقدور , ولكني وفيٌّ أضمن لكِ ألاَّ يلتام جرح يومك هذا. تزولين أنتِ وتبقى ذكراكِ. كذاك الحياة , تزول الهيولى وتبقى الصوَر. . .
ولي الدين يكن
الأغاني في الحروب
ذهب فريق من العلماءِ على أنَّ منشأ اللغات الغناءُ. لأن الغناءَ في عرفهم هو صورة الخيال الواقعة تحت الحس , أو استفاضة مما في النفس عند امتلائها. وفي تاريخ الأقدمين أن امفيون باني أسوار طيبة كان يدفع العمال إلى العمل بجد ونشاط بالغناءِ والأناشيد , ألا تراهم في مصر يفعلون ذلك حتى الآن؟ وفي أساطير اليونان أن الشعب انتصر في معركة سلامين بأغاني سولون , فنجي البلاد بعد سقوطها. وفي التوراة أن الإسرائيليين كانوا إذا خرجوا لحربٍ يسير مغنوهم أمامهم. وفي التاريخ لحديث أن الفرنساويين لما سمعوا أنشودة المرسيلييز سنة 1792 , وقد(4/175)
اجتاح العدوُّ بلادهم , وقبض على ناصية أرضهم , تولتهم الحماسة , وهزَّتهم النخوة , فألفوا صفوفهم الممزَّقة , وقوَّتهم الضائعة؛ فبرز ضعافهم أشداء , وجبناؤهم شجعاناً , ومتطوعتهم منتظمة , فانتصروا. وفي وصايا بولس رسول النصرانية رتلوا وغنوا الصلاة. وفي الآيات القرآنية: {ورتلِ القرىن ترتيلاً} وفي التوراة نشيد الأناشيد , وفي أخبار داود أنه ما كان يزيل كربته إذا ذكر أمرُ شاوول إلاّ الغناء. وفي أخبار السحرة والعرّافين أنه ما استأثروا الألباب ولعبوا بالعقول إلا بعد ترويضها بالغناء. ويؤكد هوارس أنّ مصر تقدَّمت غيرها من أُمم الأرض بالمدينة والحضارة , لأنها تقدَّمت غيرها بالغناءِ. وفي أقوال أحد شعراء الفرنساويين: إذا تآخت الأَصوات , دنت القلوب من الوئام وإذا اجتمع الناس لأمرٍ , لا تنفق عواطفهم ولا تتحد أميالهم إلاّ إذا اتحدت أصواتهم بأنشودةٍ واحدة. وكان الأطباء يداوون المرضى بالأغاني. وروى هوميروس وبلوتارك أن القدماءَ كانوا إذا جلسوا بعد الأكل والقصف يغنون فيفثأون من ثمولهم. ومن أقوال لوبز في الغناء أنهُ في الكلام كاللون في الصور. ومن الأغاني ما يبكي ويرقق , وهو لما كان من الشعر في الغزل والشوق إلى الوطن والبكاء على الشباب والمرائي والزهد. ومنها ما يطرب , وهو لما كان في نعت الشراب , وذكر الندماء والمجالس والصبوح والدساكر. ومنها ما يشوقُ وترتاح إليهِ النفس كصفة الأزهار والأشجار(4/176)
والمنتزهات والصيد؛ ومنها ما يسرُّ ويُفرح ويحث على الكرم والجود , وهو لما كان في المديح والفخر وصفة الملوك. ومنها ما يشجّع وهو لما كان في الحرب وذكر الوقائع والغارات والأسرى والنصر والفوز والفخر. ولكل أمة أغانيها وأناشيدها , ومن هذه الأناشيد والأغاني تعرف عاداتها وأخلاقها وتاريخها وأطوارها. وتتوارث السلالات ذلك جيلاً بعد جيل , وقرناً بعد قرن , حتى أن
نوتية المراكب في نيل مصر يغنون اليوم رعمسيس توارثاً وتقليداً بقولهم وهم يجذّفون يا رمسو يا رمسو وفي سوريا يلقبون أغاني الحرب والقتال بالحوربة , ويشقون منها فعل حورب كما أنهم يلقبون أغاني الفرح بالهوربة ويشقون منها فعل هوبر ولربما ورثوا هذه اللفظة من هورا الرومانية والإغريقية , فضلاً عن الحدو الذي ينشدونهُ عند السير والمشي لا وراءَ القوافل والظعن فقط , بل في كل سير سريع يتطلّب الحماسة والنشاط. وكان غزاة العرب الذين دوّخوا المشارق والمغارب إذا خرجوا لغزوةٍ أو لقتالٍ أو لحرب , تغنوا بأشعارهم الحماسية , فيفور الدم في عروقهم وتهيج أعصابهم وتحمى نفوسهم , ويدفعهم الفخر إلى إتيان العجائب. وكانوا إذا اشتبك الأبطال بالقتال , وكفوا عن التغني بالأشعار يوقفون نساءهم يغنينهم , وفي يد الواحدة منهن مقرعة تضرب بها الفارين , وفي يدها الأخرى قارورة ماء تسقي منها الجرحى. وهذه العادة لا تزال عادتهم في حروبهم وهي أيضاً من عادات الأرناؤوط وشعوب البلقان , حتى قال(4/177)
أحد الضباط الأوروبيين الذين شهدوا المعارك البلقانية أن الأناشيد والتغني بحكايات الأبطال كانت من أقوى العوامل في فوز البلقانيين. والشعوب السلافية تلقت هذهِ العادة عن الشعوب الشرقية الحربية كالعرب منذ أربعة قرون. والأغاني والأناشيد هي التي صانت قومية البلقانيين من الضياع وصانت لغاتهم من النسيان؛ فهم منها حفظوا تاريخ أسلافهم ومجد أجدادهم وأسماءَ أبطالهم. وقد تفرَّد في نظمها العميان إذ كانوا يطوفون القرى والدساكر , وينشدون هذهِ الأناشيد على توقيع الرباب والقزلة. وإذا ذكرنا نحن أشعار عنترة والمهلهل , عرفنا كيف يكون تأثير هذه الأناشيد في نفوس الأمم وعصابات الشبان وطوائف الجند. وتاريخ الإفرنج طافح بمثل ذلك بما رووهُ عن غيليوم تل والسيد ورولان. وفي حكايات الصربيين والبلغاريين حكاية بطلٍ من أبطالهم في القرن الخامس عشر يسمونهُ ماركو قره لجيفيتش , كان يلبس جلد الذئب , ويتسلَّح بخنجرٍ مرصع بالذهب والفضة , ويركب جواداً يسمّى شاراتز , ولهم فيهِ القصائد والأناشيد التي يحفظها كبارهم وصغارهم , ويتغنون بها في البيوت والمنازل والأفراح والمآتم والحقول والمتنزهات , حتى أنهُ لا يوجد طفلٌ واحدٌ بلقاني لا يتمنى أن يكون ماركو. وإليك ما يقولون عنه:
إذا ضرب ماركو بسيفهِ ترك خصمهُ شفعاً بعد أن كان وتراً
إذا طعن ماركو برمحهِ أطار خصمهُ إلى ما فوق رأسهِ(4/178)
وإذا دار ماركو دورتين فلَّ الجيش بدورانه
ومن قولهم فيه , في تخليصه الأسرى:
يا غابتي الخضراء , ما أذبلكِ ,
ويا مروجي الزهراء ما أبيسكِ ,
أصابك الزمهرير فأيبسك ,
أم اتقد فيك السعير فأحرقك؟
فردت الغابة على ماركو بصوت خافت:
يا بطلي المفدّى , وأشجع بطل!
مرَّ بي عربيٌّ أسود ,
وبيده سلاسل الأسر الثلاث:
في واحد الفتيات ,
وفي الأخرى العرائس ,
وفي الثالثة الزوجات
وفي قصيدة أُخرى تخاطب ماركو جدَّته بهجر القتال إلى الحرث والزرع , فيصغي إلى نصيحتها ويأخذ بزرع الحقل على جانب الطريق , إلى أن يهبط محصلو الأعشار على الفلاحين فيسلبوهم أموالهم ومزارعهم فيترك ماركو المحراث إلى السيف ويخلّص المال من سالبيه , ثم يحمله إلى أصحابهِ وهو يخاطب جدتهُ بقولهِ:
انظري أني لحارث ,
لا الحقول ولا المزارع ,(4/179)
بل طريق الملك والسلطان
وروت إحدى صحف بلغراد أنه أثناء معركة بريليب ضعف الصربيون وجنبوا وأخذوا بالتقهقر , فصاح ضابطٌ منضباط الفرقة: هناك مقام ماركو وهنا وطنه فاهربوا , اهربوا إلى جدار منزله وبالقرب من محل القتال كان موطن ماركو على ما جاءَ في حكاياتهم. فارتدَّت الفرقة إلى الهجوم وقاتلت حتى انتصرت.
ومن أناشيد الأروام:
لن تصير تركية تلك الهضاب التي ينزلها الأرناؤوط ,
فاتناريوس حيٌّ يهزأ من الباشوات ,
فما دام الثلجُ يكسو الأكام ,
وما دام زهرُ الربيع يكسو المروج ,
وما دامت الأودية تغصُّ بالماء ,
لا نخضع ولا نستكين ,
ولنجعل مغاور الذئب مساكننا ,
ولنترك العبيد يسكنون الدور محنيي الظهور
وفي أغاني البلغاريين إن يوجانا الفتاة البلغارية رأت موكباً لكريمة الفتاة التركية؛ فهجمت على خفر الموكب فمزّقتهُ , وقالت لكريمة شعراً:
لم يبقَ إلاَّكِ يا كريمة
في المركبة المذهبة
فاخرجي رأسك الأبيض(4/180)
لأقطعه بحد الحسام
ومنذ عشرين سنة ألَّف ملك الجبل الأسود روايةً سماها إمبراطورة البلقان ومن أشعاره فيها:
فلتبقَ أرض البلقان , أرضاً لشعبنا!
ولتخرج أرض البلقان , حرَّةً من قيد الغريب!
وإلاَّ فالموت للبلقانو خيرٌ من الاستبعاد!
وقس على ما نذكر ما لم نذكر من قصائدهم وأشعارهم وأناشيدهم التي أثارت الحمية في رؤوسهم أثناءَ القتال , وحفظت تاريخهم وجنسيتهم وأملهم وشجاعتهم قبل الحرب , بل أعدَّت نفوسهم لثورات كما أعدَّتها للنصر. ونحن العرب الشرقيين عندنا كثير من هذه الأناشيد والأشعار الملأى بها الأسفار. ولكنَّ الأغاني في مجالسنا تُثبّط اليوم هممنا , وتضعف نفوسنا. فهي عبارة عن ندبٍ وبكاءٍ ونواح للوصال , وذلٍّ في الليل وصَغار في
النهار. فهل يريد المغنون والمنشدون والناظمون والسامعون أن يخرجوا من الذلة وضعف النفس على الفخر والحماسة والمجد؟ لقد آن لنا أن نعرف أنَّا شعبٌ حيٌّ ذو تاريخ وأبطال وأقوال بل أفعال.
وهذه الأغاني التي درج عليها المغنون العرب نُقِلت عن مغنيي الخلفاءِ في بغداد , بعد أن أخذهم الترف وتولاَّهم النعيم , وانصرفت نفوسهم(4/181)
إلى اللهو والزهو والخلاعة , كالرومان في آخر عهدهم. فنقلها عنهم الحضر وسكان المدن. ولكنَّ أَهلَ البادية والجبال ظلُّوا على ما كان عليهِ آباؤهم , ولا يزالون على ذلك حتى الآن في غنائهم وعيشتهم وتقاليدهم وفخارهم وشجاعتهم. فإذا أردنا العود إلى مجدنا فلنعد إلى صلب الشعب في بواريهِ وقفاره , حيث نجد الكرّم والجود والشجاعة والحماسة والنبل والشرف والعزّة والآنفة.
داود بركات
الجامعة المصرية
في خمس سنوات
في اليوم الأخير من شهر سبتمبر سنة 1906 نشر مصطفى بك كامل الغمراوي , أحد أعيان مديرية بني سويف , دعوة على صفات الجرائد المصرية سأل فيها سراة المصريين وأفاضلهم التعاون على إنشاء مدرسة جامعة. وختم دعوته بقوله أنني اكتتب لهذا العمل الخطير بمبلغ 500 جنيه ثم حضر إلى العاصمة وخاطب بعض الأفاضل وذوي الرأي في المسئلة فلقي منهم كل رعاية وانعطاف. وكان في طليعة منشطيه سعادة سعد باشا زغلول - وكان يومذك مستشاراً في محكمة الاستئناف - فدعا إلى منزله في حي المنيرة الراغبين في إتمام أمنية الغمراوي بك فاجتمعوا لأول مرة في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر سنة 1906.(4/182)
وكان أول عمل فكروا فيهِ هو إبعاد المشتغلين بالصحافة عن المشروع وانتخبوا سعادة سعد باشا زغلول وكيلا للرئيس - الذي يكونون قد اتفقوا عليه فيما بعد - وقاسم بك أمين سكرتيراً , وأصدروا أول منشور باسم الجامعة جاء فيهِ: إن المقصود هو إنشاء مدرسة علوم وآداب لك طالب مهما كان جنسه ودينه بدون مداخلة في السياسة. ويقتصر فيها على إلقاء دروس أدبية وعلمية وفلسفية تنوّر عقول الطالبين وتربي ملكاتهم وتهذب عواطفهم وتبلغ بهم الكمال في أنواع ما يتلقونه بها من العلوم.
مضى على هذه الجلسة شهران ولا شاغل للأقلام إلاَّ الجامعة وتنشيطها؛ ونهض لمعاكستهم نفر قالوا أنه لا يجب الإقدام على العمل ولا التشجيع عليهِ إلاَّ إذا صبغت الجامعة بالصبغة الدينية. ولكن هذا الرأي لم يصادف هوى من قلوب المشتغلين بالمسئلة. ثم عقدت الجلسة الثانية وأعلن فيها سعادة باشا زغلول تخليه عن المشاركة العملية في لجنة الجامعة لتعيينه ناظراً للمعارف وأكد أنه لا يفتر عن تعضيد المشروع. وألقى المرحوم قاسم بك أمين خطبة ضمنها خلاصة ما تم للمشروع في شهرين وهو:
أولاً - اهتم كثيراً في البحث يرئس اللجنة من الأمراء فلم يفلح ولذلك وقفت حركة الاكتتاب.
ثانياً - خاطب أحد أمراء البيت الخديوي في ن يكون رئيساً للجامعة فلم يقبل ولم يرفض(4/183)
ثالثاً - طلب مساعدة الحكومة فلم تقبل لأنها تعتقد أن مشروعاً كبيراً كمشروع الجامعة لم
يأتِ الوقت المناسب لأن تقوم بهِ الأمة.
رابعاً - إن سمو الخديوي أظهر ارتياحاً إلى المشروع والقائمين بهِ وانتخب قاسم بك أمين رئيساً , وانتدب حضرة محمد بك فهمي. وسارت اللجنة في أعمالها بهمة ونشاط ولم يعترها كلل ولا ملل مع وفرة ما صادفتهُ من العقبات وتثبيط العزائم , فاكتتب له الكثيرون - وفي مقدمتهم سمو الخديوي - بمبالغ طائلة من المال. ووقف له بعضهم مساحات واسعة من الأراضي. وكان في مقدمة الواقفين المرحوم حسن باشا زايد أحد أعيان مديرية المنوفية حيث وقف مئة فدان , ثم عوض بك عريان المهدي من أعيان بني سويف وقد وقف لها 83 فداناً. ويقدر ثمن أطيان الجامعة كلها بمبلغ 170 ألف جنيه وبلغ ريعها في السنة الماضية 861 جنيهاً و615 مليماً. وقبل صاحب الدولة البرنس أحمد فؤاد باشا أن يكون رئيساً للجامعة. وكان أول عمل أتاهُ إرسال عشرة من الشبان المصريين الحاصلين على الشهادة الثانوية وبعض ديبلوات المدارس العالية إلى أوربا لدرس العلوم العالية حتى إذا أتموا دروسهم عادوا إلى مصر للتدريس في الجامعة المصرية. وفي أول مايو سنة 1908 سمي سعادة أحمد باشا زكي مدّرساً لتاريخ التمدن الإسلامي وأحمد بك كمال لتدريس تاريخ الشرق القديم. وتقرر أن(4/184)
يلقي أساتذة ثلاثة: فرنساوي وانكليزي وإيطالي محاضرات في آداب لغاتهم ثم تترجم إلى العربية بعد إلقائها. واستؤجر معمل سجائر جناكليس بائع الدخان اليوناني الشهير , في قصر النيل فمحي اسمه من على واجهتها المبنية على الطراز العربي الأنيق , وأُبدل باسم الجامعة المصرية وتاريخ إنشائها مكتوباً باللغتين العربية والفرنسوية. وفتحت أبوابها لإلقاء المحاضرات في أول أكتوبر سنة 1908 ثم أُعلن افتتاحها رسميّاً بعد ذلك بشهر واحد تحت رئاسة سمو الخديوي المعظم.
وانعقدت الجمعية العمومية للجامعة يوم 29 ابريل الماضي وقدَّم مجلس الإدارة تقريراً للأعضاء عن حالة الجامعة جاء فيهِ أنهُ لم يمضِ سوى أربع سنوات منذ حظيت الجامعة برعاية سمو الأمير مولانا الخديوي المعظم عباس حلمي الثاني وهي فترة لا تعد شيئاً في عمر الجامعات إذ لو راجعنا تاريخها وم لزم لتكوينها من الوقت الطويل لوجدنا أن الجامعة المصرية خطت خطوات واسعة في هذا الزمن القصير ولا جدال في أن القائمين بأمر الجامعة وفي مقدمتهم دولة الرئيس لم يفتروا ساعة واحدة عن ترقية هذا المعهد الكبير.
وفي خلال السنوات الأربع الماضية كان دولة الرئيس يقضي فصل الشتاء في مشاركة الأعضاء في الإِشراف على جميع أعمال الإدارة , فإذا حل الصيف يمضي معظم أوقاتهِ وهو بعواصم أوربا في مفاوضة بعض العلماء في الحضور إلى مصر(4/185)
للتدريس في الجامعة , ويخاطب وزراء المعارف ورؤساء الجامعات بفرنسا وانكلترا وألمانيا في مساعدة تلاميذ الجامعة المصرية بأوربا على تلقّي العلوم في المعاهد العلمية الكبرى , ويحث هؤلاء التلاميذ على الجدّ والاجتهاد في التحصيل حتى يشرّفوا أمتهم بعلمهم. ولكن هذه المجهودات لم تثمر الثمرة المنتظرة منها فإن المتأخّر من الاكتتابات لم يُدفع منهُ شيء للجامعة. ولم يكتتب لها أحد بشيء في السنة الماضية , وامتنع أحمد بك الشريف عن أن يدفع للجامعة دخل المئة الفدان التي حبسها عليها فاضطر مجلس الإدارة إلى النظر في أمر مقاضاتهِ ورأت الإدارة أن الإِقبال على حضور محاضرات التاريخ القديم والاقتصاد الزراعي فألغتهما. وكذلك ألغت الفرع النسائي ريثما توفَّق لوضع برنامج الخطة التي تتبعها فيهِ بحيث يكون موافقاً لحاجات السيدات المصريات وكان عدد اللائي يحضرن هذه الدروس 41 سيدة. وأصبحت العلوم التي تلقى في الجامعة قاصرة على الآداب وتاريخها والفلسفة وتقويم البلدان والتاريخ الإسلامي. ويدرّس آداب اللغة العربية الأستاذ الشيخ محمد الخضري. ويدرس آداب تاريخ هذه اللغة المسيو جاستون فيت. ويدرّس تاريخ الأمم الإسلامية الأستاذ الشيخ محمد الخضري. ويدرس الفلسفة العربية وعلم الأخلاق الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري. ويدرّس تاريخ المذاهب الفلسفية الأستاذ لويز ماسنيون.(4/186)
ويدرّس تاريخ آداب اللغة الانكليزية الأستاذ برسي وايت. ويدرّس تاريخ آداب للغة الفرنسوية الأستاذ لويس كليمان. وقد عني اثنان من طلبة الجامعة منذ أربع سنوات بجمع المحاضرات وطبعها في مجلة خاصة. ولكنهما لم يجد شيئاً من الإقبال عليها فعطلاها. وأخذ مجلس الإدارة على عاتقه طبع هذه المحاضرات في كتب مستقلة فبلغ ما أنفقه على طبعها في السنة الماضية 336 جنيهاً و961 مليماً. وكان عدد الطلبة الذين قيدوا أسماءهم في السنة الأولى نحو 300 طالب منهم عدد كبير من طلبة المدارس العالية والأزهر , ثم أخذ عددهم يتناقص شيئاً فشيئاً , فكان في السنة الماضية 123 طالباً , وفي هذه السنة 75 طالباً فقط. وتدل الأنباء الواردة من أوربا عن حالة إرسالية الجامعة أن أعضاءها قد
برهنوا بما أبدوه من مثابرتهم جدّهم في تحصيل المعارف على أنهم أهل لأن تعتمد عليهم الجامعة في خدمتها خدمة خالصة. وعهد مجلس الإدارة إلى سكرتير الجامعة في ترتيب المكتبة على النسق المتبع في مكاتب أوربا العمومية , وينتظر إتمام هذا الترتيب بعد سنة , ثم تُفتح أبواب المكتبة للجمهور.
وفي جلسة الجمعية العمومية الأخيرة طلب دولة الأمير فؤاد باشا إقالته من رئاسة الجامعة. فقبلها الأعضاء آسفين وقرروا إسناد رئاسة الشرف إليه , ودوَّنوا هذا القرار في خطاب حمله إليه وفد مؤلف من أصحاب(4/187)
السعادة حسين رشدي باشا وأحمد شفيق باشا وعبد الخالق ثروت باشا. ثم قرروا باتفاق الآراء أن يعهدوا في الرئاسة إلى البرنس يوسف كمال باشا والرئيس الجديد خير خلف لخير سلف. فهو منشئ مدرسة الفنون الجميلة , وصاحب الأيادي البيضاء على الجامعة ونادي المدارس العالية. فقد وهب الجامعة مئة فدان , وأعطى النادي قطعة أرض مساحتها 1200 متر في الجيزة , وتبرع بمبلغ ألفي جنيه لبناء دار للنادي في هذه الأرض , وتعهد بإنشاء مكتبة للنادي عهد في ترتيبها لحضرة حيدر بك فاضل شناسي. وقد أعلن خبر هذه المنحة السنية سعادة أحمد باشا زكي على ملأِ من الأدباء والأفاضل في جلسة عقدت بنزل الكونتيننتال , وختم خطبته بقوله أن الأمير يوسف كمال أصبح بعطيته خليقاً بأن يلقب بحامي المعارف والآداب , ونصير الأساتذة والطلاَّب ولا تزال الحكومة ثابتة على رأيها الذي أبدته منذ سبع سنوات , وصرّح بهِ فخامة اللورد كرومر في أحد تقاريره وهو أنه لم يحن الوقت الذي يكون فيهِ للمصريين مدرسة جامعة وقد تناقلت الألسنة إشاعة فحواها أن فخامة اللورد كتشنر خاطب دولة البرنس فؤاد في ضم الجامعة إلى الحكومة أو جعلها تحت إشراف نظارة المعارف. فلم يوافقهُ الأمير على هذا الطلب. ولكن الكثيرين يؤكدون أنه لابد من ضم هذا المعهد العلمي الكبير إلى الحكومة آجلاً أو عاجلاً , فيصبح على جانب مدارس الطب والحقوق والهندسة والزراعة مدرسة للعلوم الأدبية يتخرَّج منها أدباء بديبلومات!!
توفيق حبيب(4/188)
في رياض الشعر
بين شاعرين
في الشهر الماضي انتخب أهالي دير القمر حضرة الفاضل داود بك عمون مندوباً عنهم في مجلس إدارة جبل لبنان , وقد برح مصر لهذا الغرض , فاذكرتنا هذه المناسبة مراسلة شعرية كانت قد جرت بينه وبين صديقه حافظ بك إبراهيم في سنة 1902 , وكان داود بك مصطافا في لبنان , فرأينا أن ننشرها لقراء الزهور وهي من خير ما قاله شعراء العصر:
كتب حافظ إلى عمون:
شَجَتنا مطالعُ أقمارِها ... فسالت نفوسٌ لتذكارِها
وبتنا نحنُّ لتلك القصورِ ... وأهلِ القصور وزوَّارِها
قصورٌ كأنَّ بروجَ السماءِ ... خدورُ الغواني بأدوارِها
ذكرنا حماها وبين الضلوعِ ... قلوبٌ تَلَظّى على نارِها
فمرَّت بأرواحِنا هِزَّةٌ ... هيَ الكهرباءُ بتيَّارِها
وأرضِ كستها كِرام الشهورِ ... حرائرَ من نسج آذارِها
إذا نقّطتها أكفُّ الغمامِ ... أرتكَ الدراري بأزهارِها
وإن طالعتها ذُكاءُ الصباحِ ... أرتك اللّجينَ بأنهارِها
وإن دبَّ فيها نسيم الأصيلِ ... أتاك النسيمُ بأخبارِها
وخلٍّ أقامَ بأرض الشامِ ... فباتت تدلُّ على جارِها
وأضحت تتيهُ بربّ القريض ... كتيهِ البوادي بأشعارِها
وللنيلُ أولى بذاك الدلالِ ... ومصر أحقُّ ببشَّارِها
فشمّرْ وعجّل إليها المآبَ ... وخلِّ الشامَ لأٌدارها(4/189)
فكيف لعمري أطقتَ المقامَ ... بأرضِ تضيق بأحرارِها
وأنتَ المشمّرُ إثرَ المظا ... لمِ تسعى إلى محوِ آثارِها
ثأرتَ الليالي وأقعدتها ... بمصقولِ عزمِك عن ثارِها
إذا ثُرتَ ماجت هضاب الشام ... وباتت تَرامي بثوَّارِها
ألستَ فتاها ومختارَها ... وشبلَ فتاها ومختارِها
إذا قلتَ أصغت ملوكُ الكلام ... ومالت إليكَ بأبصارِها
أداودُ حسبك أن المعاليَ ... تسبُ دارك في دارِها
وأنَّ ضمائرَ هذا الوجودِ ... تبوحُ إليك بأسرارِها
وأنك إمَّا حللت الشامَ ... رأيناك جذوةَ أفكارِها
وغن كنتَ في مصر نعم النصير ... إذا ما أهابت بأنصارها
حافظ إبراهيم
فكتب إليهِ عمَّون:
أمِنْ ذكرِ سلمى وتذكارِها ... نثرتَ الدموعَ على دارِها
وعفتَ القصورَ لأجلِ الطلولِ ... تطالعُ طامس آثارها
وقفتُ بها ليلتي ناشداً ... عساها تبوحث بأسرارِها
وللدارُ أنطقُ آياتها ... من الروايات وأخبارِها
تعيدُ عليكَ ليالي الحمى ... بأنجمها وبأقمارِها
سلالمٌ عليكَ زمانَ الشبابِ ... ربيعَ الحياةِ بآذارها
لأنتَ مخفّفُ أحزانِها ... وأنتَ مسوّعُ أكدارِها
ولولا الشبابُ وذكرى الشبابِ ... لعاشَ الفتى عمرَه كارها
قطعنا الحياةَ بهِ حلوةً ... وقد جاء إبَّانُ إمرارِها(4/190)
أطوّفُ في الشرقِ علّي أرى ... بلاداً تطيبُ لأحرارِها
فلم أرَ إلاّ أموراً تسوءُ ... وتصدعُ أكبادَ نظَّارِها
فظلمٌ بتلك وذُلٌّ بهذي ... وجهلٌ مُغشٍّ لأبصارِها
تعقُّ مراحمَ رُعيانها ... وترعي الولاء لجزَّارِها
إذا شاَء قاسمُ رفعَ الحجابِ ... تسمَّيهِ هاتِكَ أستارِها
فلا قولَ إلاّ لجهَّالها ... ولا رأيَ إلاّ لأغرارِها
يدبُّ التراخي على تِرْبها ... ويجري الخمولُ بأنهارِها
منالُ الترّقي بإرغامها ... ومَرجى الفلاحِ بإخبارِها
أهذا الذي أورثتْ أهلَها ... بلادُ العلومِ وأنوارِها
عدمتُ حياتي إذا لم أقِف ... حياتي على نفعِ أقطارِها
أحافظُ هذا مجالُ العُلى ... فشمّرْ سبقِ بمضمارِها
أشوقي أحافظُ طالَ السكوتُ ... وتركُ الأمورِ لأقدارِها
فصوغا القوافيَ مصقولةً ... وشِقّا الجلودَ ببتّارها
عساها تحرِّكُ أوطاننا ... وتنشرُ ميّتَ أفكارِها
أقولُ وأعلمُ أني سأُرمي ... بأني محرّكُ ثوَّارِها
وأني الدخيلُ وأني الغريبُ ... وأني النصيرُ لقُهَّارِها
أحبُّ بلادي على رُغمها ... وإنْ لم ينْلني سوى عارِها
ولست بأوّلِ ذي همّةٍ ... تصدَّى الزمانُ لإنكارِها
داود عمون(4/191)
الأنفة في الحب
من حيد الشعر وأطيبه القصيدة التي ننشرها هنا وقد رأيناها في بعض الجرائد على أشكال مختلفة: فالبعض أغفل اسم شاعرها جهلاً به , والبعض اقتضب أبياتاً منها , وغيره أبدل الأربلي أصلاً ومنشأ , البحراني أني مولداً , المتوفي في سنة 585 للهجرة وقد مدح بها بعض الأمراء فانتصرنا منها على النسيب لرقته , قال:
رُبَّ دارٍ بالغضى طالَ بَلاَها ... عكف الرَّكبُ عليها فبكاها
درسَتْ إلاَّ بَقايا أسطرٍ ... سمح الدَّهرُ بها ثمَّ محاها
كان لي فيها زمانٌ وانقضى ... فسقى اللهُ زماني وسقاها
وَقَفتْ فيها الغوَادي وقفةً ... ألصقتْ حَرَّ حياها بثراها
وبَكتْ أطلالَها نائبةً ... عن جفوني أحسنَ اللهُ جزَاها
قلْ لجيران مواثيقهُمُ ... كلَّما أحكمنُها رثَّت قواها
كنتُ مشغوفاً بكم إذْ كنتمُ ... شجَراً لا تبلغُ الطيرُ ذُراها
لا تبيتُ الليلَ إلاّ حَولها ... حَرسٌ ترشحُ بالموتِ ظباها
وإذا مُدَّتُ إلى أغصانها ... كفُّ جانٍ قُطعتْ دون جَناها
فتراخي الأمرُ حتى أصبحتْ ... هَمَلاً يطمعُ فيها مَن يَراها
تُخصبُ الأرضُ فلا أطرقُها ... رائداً إلاَّ إذا عَزَّ حِماها
لا يَراني اللهُ أرعى روضةً ... سَهلةَ الأكنافِ مَن شاَء رعاها
وإذا ما طمعٌ أغرى بكم ... عرَضَ اليأسُ لنفسي فثناها
فصباباتُ الهوىَ أوَّلُها ... طمعُ النفسِ وهذا مُنتهاها
لا تظنُّوا لي إليكم رجعةٌ ... كشفَ التجريب عن عيني عماها
إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبةً فيما سواها(4/192)
ذكرى الشباب
تُمسي تذكّرنا الشبابَ وعهدَهُ ... حسناءُ مرهَفةُ القَوام فنذكرُ
هيَفاءُ أسكَرَها الجمالُ وبعض ما ... أوفى على قدرِ الكفايةِ يُسكرُ
تَثِبُ القلوبُ إلى الرؤوس إذا بدت ... وتُطلُّ من حَدَقِ العيونِ وتنظُرُ
وتبيتُ تكفرُ بالنحور قلائدٌ ... فإذا دنت من نحرها تستغفرُ
ويزيد في فمِها اللآلئُ قيمةً ... حتى يسودَ كبيرَهنَّ الأصغرُ
إسماعيل صبري
سكر صبابة
أبتَ الصَّبابة مورداً ... إلاّ شؤونك وهي شكري
يا ساقيَ الدمع الذي ... من مقلتيهِ يسيلُ خمراً
لا غروَ أن بدت الصبا ... بة وهي في عينيكَ سكري
خليل مطران
دمعة على الشباب
ضحكاتُ الشيبِ في الشَعَرِ ... لم تدع في العيش من وطرِ
هنَّ رسلُ الموتِ سانحةٌ ... قبلّهُ والموت في الأثرِ
يا بياضَ الشيبِ ما صنعت ... يدُك العسراءُ في الطررِ
أنت ليلُ الحادثات وإن ... كنتَ نورَ الصبح في النظرِ
ليت سوداَء الشبابِ مضتْ ... بسوادِ القلبِ والبصرِ
فالصبى كلُّ الحياة , فإن ... مرَّ , مرَّتْ غبطةُ العمرِ
مصطفى لطفي المنفلوطي(4/193)
مجدلية أخرى
لم تكن أوَّلَ من أساءَ إليها الرجلُ فإنَّ أمثالها كثيراتٌ ممن دفعهنَّ الجهلُ إلى ارتكاب ما ارتكبنهُ , وإلقاء تحيَّة الوداع على الفضيلة والعفاف. أليست أزقّتنا مزدحمة بأقدام هؤلاء البائسات؟ أليست المدن الكبرى قائمة على أطلال بابل , والرذيلة تمثّلُ أفظعَ أدوارها في زواياها المظلمة؟ أَليس السين والتاميز وارثَين لماء للتيبر الذي شربته رومية الفاجرة , وماء الفرات الذي ارتوت بهِ نينوى الزانية؟ أليست شوارعنا مسارح لتمثيل تلك الأدوار التي تقشعرُّ لها الأبدان , وتتململ لها العظام التي في القبور؟ أَهذهِ مدنيَّتك أيها العالم , وهذهِ فضيلتك أيها الإنسان؟
مستبدٌّ أنت؟
إن كنت ملكاً فكن عادلاً؛ وإن كنت بشراً فكن عاطفاً؛ وإن كنت غنيّاً فأنفق ثروتك في غيرِ الزوايا المظلمة. لماذا تحفر هاويةً لسقوط المرأة؟ كفى ما أوصلتها إليهِ من البؤس والشقاء
تائهة في باريس!
في تلك المدينة العظيمة؛ في ذلك الأوقيانوس المتلاطم؛ وحيدة لأبيتَ لها فتأوي إليه , ولا سقف تحته. للطيور أوكار , وللبهائم زرائب. وأما هي فليس لها أين تسند رأٍسها.
الرواية القديمة! باعت نفسها لرجل سامها في عرضها. أعطتهُ قلباً(4/194)
مملوءاً إخلاصاً. فنقدَها ثمنهُ خزياً وعاراً. فتحت لهُ صدراً رحيباً , فحفر لها مهواةً أرحب. تركت العالم من أجله فترك لها كل مذلة وهوان.
رحماك! إلى أين تقذف بي أيها الإنسان؟
اصرخي ما شئت أيتها البائسة؛ أَغبتِ أَبويكِ فطرداكِ؛ أَغضبتِ العالم فنبذك؛ أَغضبتِ اللهَ فأدار وجههُ عنكِ.
اصرخي ما شئتِ. قولي لذلك الجالس على كرسي العدل , الرابض على عرش الرحمة: الهي الهي لماذا تركتني؟ أَلستِ مرفوعةً على صليب الهوان , وتحت قدميكِ هاوية الأبدية أللإقرار لها.
علمَ تلومين البشر؟ هلا بعتِ عفافكِ إلاَّ للوحوش الضارية؟ هلاَّ ساومتِ في عرضكِ إلاَّ على قوارع الطرق؟ ألم تعلمي أن الأزهار التي يفترسها لكِ الإنسان الوحش , وأنتِ في ثوب العفاف , تنقلب أشواكاً متى خلعتِ ذلك الثوب؟ هو ذا الأحلام التي كنتِ تعللين بها
نفسكِ قد انقلبت إلى خيالات مرعبة فهي تصوّر لكِ الآن ظلمات الأبدية وتمثّل لعينيكِ هاوية الشقاء أللإقرَار لها
الدير!. . . .
وهل تمادى بكِ الغرورُ حتى زعمتِ أن الدير مأوى الساقطات؟
هل توهّمتِ أن السقف الذي يظلل بنات الله الطاهرات يظلل أمثالكِ من الفتيات اللواتي لسنَ عذارى ولا أُمهات؟(4/195)
أيكون الدير مأوًى لراحاب وهيروديار ومرغريت وفرناند؟
الدير؟. . .
هل يكون الدير ملجأً للواتي كسرنَ وصية الله القائل لا تزنِ؟
هل يكون الدير مأوًى لمن هجرنَ العفاف وأسأنَ إلى المجتمع العمراني وآثرنَ منعطفات الطرق على الهياكل والمعابد؟
هل الدير ملجأ لكل امرأةً يطاردها العالم لينزل بها العقاب على ما أتتهُ من الشرور والمآثم؟
أجل! إن لم يكن الدير ذلك فيجب أن يكون كذلك؛ يجب أن يكون أوَّل محطة على الطريق إلى السماء
تائهة في باريس!. . .
بيت أبيها موصدٌ في وجهها؛ وباب الدير موصد في وجهها؛ وباب السماء موصد في وجهها فإلى أين تأوي؟
هنيئاً لكِ يا خالعة ثوب العفاف. ألم تنتعمي بالسعادة التي كنتِ تحلمين بها؟ فماذا تطلبين بعد؟
مبيتاً؟. . .
هو ذا قوارع السبل!
هو ذا مهاوي الشقاء!
هو ذا القبر!(4/196)
ووراء ذلك القبر وحشة الأبدية اللاَّنهاية لها , وحجاب الظلمة يكتنف النفس فيزيد في عذابها , كلّ لحظة قرون وأحقاب مملة.
رحماك اللهم! إن عرشك ليس عرشَ العدل فقط بل عرش الرحمة أيضاً. فانظر إليَّ من فوق عرشك هذا دون عرشك ذاك. واذكر إنك جبلت المرأة على الضعف , وقذفت بها بين برائن الرجل المستبد.
رحماك اللهم! إنك تؤدَّب ولكنك أنزه من أن تنتقم. فقاصصْ ولكن أجمل مع القصاص متَّسعاً من الرحمة. عاقبو ولكن اجعل مع الشدة منفذاً. إنك ارحم من أن تبخل على شقية مثلي بنظرة شفقة وإحسان.
إلى أين اذهب يا الله؟ ألم تجعل للطيور أعشاشاً , وللثعالب أوكاراً , وللبهائم زرائب؟ فأين أسند رأسي في هذا الليل الحالك - في هذه المدينة المظلمة - في هذا الأوقيانوس المتلاطم؟ ألم تعفُ عن راحاب وتغفر للمجدلية؟ ألم تقل لتلك البائسة التي شكوها إليك: ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي بعد؟ ألم تقل أن الإعلاّء هم الذين يتاجون إلى طبيب؟
يا لك من عصرٍ شديد النحسِ ... ضاعت بهِ الرحمة تحتَ الشمسِ
لم تلق مأوى فيهِ غيرَ الرمسِ ... وغيرهُا ممتَّعٌ بالأنس
في عالم أحلامُهُ غرورٌ
سليم عبد الأحد(4/197)
أسباب الحرب البلقانية
من الكتب المائلة للطبع في الآونة الحاضرة كتاب الحرب في البلقان لحضرة الكاتب البليغ يوسف أفندي البستاني وهو جامع لجميع أسباب الحرب وحوادثها ونتائجها , ولنحو أربعين رسماً من رسوم رجالها , ولأُهم آراء الكتاب الحربيين والمؤلفين في هذا الموضوع. وقد اقتطفنا من كلامه عن أسباب الحرب الفصل التالي. قال:
من رام أن يقف على حقيقة تلك الحرب الهائلة ويدرك أثرها العظيم في الشرق والغرب يلزمه أن يعرف أسبابها وحوادثها ونتائجها. وأنّا بادئون بذكر تلك الأسباب واحداً فواحداً مع الإيجاز , ومعتمدون على نخبة من أقطاب لسياسة إلاّ مشهداً كبيراً فاجعاً من رواية تلك المسألة التي تعددت فيها الفصول وأدمت مشاهدها العيون يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع , وغلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة فإن كل أمّة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضاً مقدَّساً وآيةً من آيات الوطنية. فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعلهُ عنواناً للظلم , ومثلاً للقسوة , وعدواً أبدياً يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمِه. انظر إلى اليونان تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكلّ عجوز بالية يردّ دون ذكر مجدهم القديم , ويعدّون التركي مغتصباً لأرضهم هدَّاماً لدولتهم , هضّاماً لحقوقهم , ويمزجون ما يحويهِ تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم ليربّوا فيهم كراهة التركي , ويحملوهم على التفكير المستمرّ في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم , ويجعلوا طلب الثأر نصب(4/198)
أعينهم على أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتماماًَ خاصاً بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإلياذة الخالدة , ويردّدون على الأخصّ , من الحوادث الغابرة , قصة يسمونها حكاية علي باشا في يانيا فيعزون إليهِ من الفظائع والأهوال ما يشيب الطفل في مهده , ويزعج الميت في لحده. وهم يجعلون فيها القطرة بحراً والصفر سفراً ويرتبونها كما يشاء الخيال , إذ لا يهمم منها إلاّ أن تجيء في شكل يُبكي النساء والأطفال , ويُثير قلوب الرجال. قال كاتب فرنساوي كبير يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ أنَّ حكاية يانيا حضَّت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلتهُ في الحرب الأخيرة حضّاً كبيراً وأثرت فيها تأثيراً شديداً. فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر
اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا. وترى النساء ينقلنَ تلك الحكاية إلى أولادهنَّ ويذكرنَ ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها وأضفْ إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث لفشل الكبير الذي حلَّ بهم في حرب سنة 1897. فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعةً من الضباط الفرنساويين فنظَّموا لهم جيشهم , وجددوا مدافعهم. وكان يزيدهم حقداً على حقد أنَّ الحكومة العثمانية ظلّت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدُها على مقبض السيف لتوقع الرُعب في قلبها وتمنعها من ضمّ جزيرة كريت إلى أملاكها. وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة.
وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أنَّ الحقدَ ينمو في قلوبهم منذ سنة 1393 أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا. وإذا أراد(4/199)
القارئ أن يعرف مبلغ بغضهم للتركي - وكلّ موظفٍ عثماني هو تركي عندهم - فحسبُهُ أن يقرأ شيئاً مما يلقونهُ على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنهُ زار صوفيا , عاصمة البلغار , منذ بضعة أعوام , وذهب يوماً مع نسيبٍ له كان معتمداً عثمانياً سامياً في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء لمدينة؛ وبينما كانا مارّين أمام بيت إحدى العجائز , خرجت هذه وبيدها قدرٌ من الأقذار المختلفة وقذفت بهِ على طربوشيهما وملابسهما العثمانية. وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور. وهو أنهم تركوا مجلةً صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرةً لكل بلغاري فيتذكر على الدوام ما كانت عليهِ بلادهم في عهد الحكم التركي. والواقع أن تاريخ البلغار منذ سقوط دولتهم سنة 1393 إلى سنة 1877 كان تاريخ ذُلٍّ وهوانٍ فإنهم كانوا أرّقاء تلعب الأكفُّ التركية في رقابهم , وإذا شكوا حكمتِ السيوف في هاماتهم. ولبثوا سنواتٍ عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محقدٍ أشرف من محتدهم حتى صَّحت فيهم حكمة القائل أن الاستعباد يُفقدَ الشعوبَ فضيلة الرجولية على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوبٍ على أمره وله تاريخ قديم , يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طياتِ الزمان ويحنّون إليهِ وهم في روايا بيوتهم , ويشكون بصوتٍ خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنةِ حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامل قُبيلَ معاهدة برلين. وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة: أولها أنَّ ولاة أمورهم غلوا أشدَّ غلوٍّ في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد؛ والثاني أن روسيا العدوَّة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتعدهم بالعون والمدد؛ والثالث أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.(4/200)
بقيت تلك العوامل الثلاثة تعدّ نفوسهم للثورة ونزيد حقدهم المتأجج حتى هبوا ينفضون عنهم غبار الذُلّ العتيق. ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة 1875 رأى ذوو الإِقدام منهم أنَّ الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة. على أنهم لم يكنفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى. ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة لأن قسماً كبيراً منهم كان لا يزال خائفاً من سادته الأتراك. وما ترامى خبر فتنتهم على الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجباً. إلاَّ أنهُ أخطأ الطريقة المثلى فأطلق عليهم ألوفاً من الجنود غير المنظمة بدلاً من أن يسير إليهم جنوداً نظامية تحت امرأة قائد عاقل يضع اللينَ في محلهِ والشدة في موضعها. وروى قنصلاً فرنسا وانكلترا في تقاريرها الرسمية إن عدد ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين 15 و20 ألف نفس فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوربا , وهبّ غلادستون فألقى خطبهُ الشهيرة عن تركيا والأتراك وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضاً بالمسلمين الآمنين. ولا غرو فإن الحادث الأكبر ينسي الحادث الأصغر؛ وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بأرزاء الآخرين , وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل ولا يتغير ما دام الإنسان إنساناً. وقليل هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيء. على أن هذا كلهُ بعضُ ما جرى بين العدوّين وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحدهُ من صوفيا بل زحف هو وحِقدُ خمسماية سنة!. . .
وليس حقدُ الصربيين وأهل الجبل الأسود على الأتراك بأخفّ من حقد اليونانيين والبلغاريين. فإنهم مثل حلفائهم يربّون في أبنائهم محبة الثأر من تركيا ,(4/201)
ولا ينسون انتصار الأتراك عليهم وفتكهم الذريع بهمز ذكر البير مالي الأستاذ الكبير في التاريخ
السياسي أن المؤرخ الصربي ليوبا كواتشفيتش وقف يرثي ابنه الذي قتل في إحدى معارك الحرب البقانية فقال:
يا بنيَّ ننم بسلام فقد أوفيتَ دينك للوطن. وقل لدوشان ولا زار بل قد لجميع شهداء قوصوه أن أمتهم ثأرت لقوصوه. . . ولقد دلت الحرب على أن الثأر الذي أشار إليهِ هذا المؤرخ الصربي هو أمنية كل فرد من أمته , وأنَّ الحقد على الأتراك شامل لطبقاتها. قال أيضاً الموسيو البير مالي أن معارك قوصوه - التي حدثت من نحو 500 سنة - ما زالت تذكر عندهم كما تذكر حوادث رب السبعين عند الفرنساويين , وما برحوا يرددون تذكار القيصر دوشان والقيصر لأزار حتى الآن. ثم روى الأستاذ نفسه دليلاً على احتفاظ الصربيين بما يُضرم الضغينة في قلوبهم على الأتراك قال: أن ألفاً من الصربيين كانوا سنة 1809 محصورين في أحد المعاقل على مقربة من مدينة نيش , فرأوا أن الأتراك أوشكوا أن يستولوا على م وقعهم عنوةً؛ فاختاروا أن ينسفوا معقلهم بما كان عندهم من البارود على أن يقعوا أحياء في أيدي أعدائهم؛ ثم جاء الأتراك بعد نسفه وفصلوا رؤوسهم عن ذاك البرج محفوظاً على شكله؛ فرفعوا الجماجم ودفنوها في مقبرةٍ وابقوا البرج ليراه الأبناءُ والأحفاد , ولقبوهُ ببرج الجماجم , وأصبح أمره موضع قصص العجائز والوالدات في البيوت والأساتذة في المدارس. وليس من غرض هذا الكتاب أن نفيض في شرح الوقائع التاريخية التي أشعلت نار ذاك الحقد. فأنا تختم الكلام عن هذا السبب الأول من أسباب الحرب بما تضمنهُ قانون أصدرتهُ حكومة الجبل الأسود سنة 1484 ليكون دليلاً آخر على(4/202)
الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضاً وهو: إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه. وكلّ من يفرّ أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد ويُصبح محتقراً منبوذاً من آلهِ , ثمَّ يُلبس ثوب امرأة ويُعطى مغزلاً ليشتغل بهِ مع النساء , وتعمد النسوة أنفسهنَّ إلى طرده كما يطرد الجبان الذي يخون وطنه وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يؤملون النصر.
يوسف البستاني
سفراء الدول
يلعب السفراء في الآونة الحاضرة دوراً خطيراً في الحوادث التي تشغل الآن العالم قاطبة. وبهذه المناسبة ننشر للقراء المقالة الآتية التي كتبها خصيصاً للزهور حضرة الكاتب المجيد اسكندر أفندي شاهين صاحب الرأي العام ورئيس تحرير الوطن قال: إذا كان لك على الزمان قضية وفي صدرك الكريم من أهل الزمان غلة لأنهم لم ينصفوك أو لأن عامتهم نسبت فضلك إلى سواك فاعلم أن لك في هذا الظلم شركاءَ يقومون بكبير الأعمال ويُمدح غيرهم من سراة الرجال. هم السفراءُ ينوبون عن ملوك الأرض وشعوبها وينجزون المهام العسيرة على نعهلٍ , ويحلّون المعضلات من وراءِ الحجاب فلا يدري الجمهور بما فعلوا ويزعم الأفراد أن الفضل في الحل لمعاشر الملوك والوزراءِ. ولطالما تغنَّت الأقوام بمدح ملك وردّدت ذكر ذكائهِ الشديد ورأيهِ السديد مع أن الملك لم يكن إلاَّ عاملاً برأي سفيرهِ , ولو ترك الأمر لهُ لبقيت الحالة كما كانت أو ساءَت وتغيَّر تاريخ بني الإنسان. وربما وقع الوزير في(4/203)
خطأِ يحمله على الخروج من منصبهِ وتحمُّل مرارة وسخط المواطنين , أو رأي الناس يكتبون التاريخ مقلوباً على عادتهم من قدم , وينسبون إليهِ الغلط في السياسة والتدبير وهو مع ذلك بلا ذنب يوجب الملام غير أنهُ وثق بأحد السفراءِ , وعمل برأيهِ أو تحمَّل تبعة غلطهِ الكبير. فالسفير في هذه الممالك هو القوَّة الكامنة وراءَ العرش وهو المحرّك خفيَ عن الأبصار يدير المسائل , ويقضي في الأُمور بالنيابة عن الملوك والوزراء ولكن عامة الخلق لا تفطن إلى وجودهِ في كثير من الأَحوال ولا تنصفه حين توزّع مدائحها على جليل الأَعمال. ما سمعت بسفير نال حقّه ثناءِ الجمهور إلاَّ حين عُقد مؤتمر السفراءِ في لندن وعهدت الدول إلى أعضائهِ الحاليين تسوية المشاكل والبتّ في معظم ما يتعلق بحرب البلقان ومستقبل الشرق القريب. قلت أن السفير نائب للملك أو للدولة في البلد التي يندب لأنتيابها فهو أكبر من الوزير مقاماً يتقدَّمهُ في المحافل الرسمية وقد يتقدَّم بعضَ الأُمراءِ أيضاً فما يعلوهُ في موضع عمله غير ملك البلاد أو الرئيس. وراتب الوزير على الجملة أقل من راتب السفير لأَن وزراءَ الغرب يقتضون حوالي خمسة آلاف جنيه في السنة وأما السفراءُ فرواتبهم من ستة آلاف إلى عشرة في العام. وربما كان سفير الجمهورية الفرنسية في لندن أعظم الأقران راتباً لأنهُ ينال من مال بلادهِ 260 ألف فرنك أو أكثر من عشرة آلاف جنيه؛ ولهُ في عاصمة الانكليز قصر منيف ومقام عظيم.
ولا يقلّ السفراءُ في العواصم الكبرى مقاماً عمن ذكرت ولو أن الراتب(4/204)
أقل ألفاً أو ألفين فإن السفير واحد في الكرامة سواء كان في لندن أو في غيرها من العواصم التي يُعرف فيها وكلاءُ الدول العظمى باسم السفراءِ وهي باريز وبطرسبرج وبرلين وفينا ورومية والأستانة وواشنطون وتوكيو وبكين. وأما الدول الثانية مثل اسبانيا والبلجيك وبقية هذه الممالك والجمهوريات فإن مندوبي الدول فيها يعدّون وكلاءَ سياسيين ورواتبهم تختلف ما بين ألف جنيه في السنة وسبعة آلاف وهو راتب وكيل الدولة الانكليزية في مصر ودريد وريودي جانيرو عاصمة جمهورية البرازيل. وليس يعدّ هذا الراتب كبيراً على السفير أو وكيل الدولة لأنهُ ينبغي لهُ أن يعيش عيشة الملوك وأن يحيي الليالي الراقصة ويؤلم الولائم ويكون في مقدمة أهل البذل والعطاء. وقد كان السفراء قبل هذه الأيام يأخذون معهم من بلادهم جيشاً جرَّاراً من العمَّال والصنَّاع والخدَمة والأطباء وسواهم حتى يكون كل ذي علاقة بقصر السفير من أهل بلادهِ وتعد سفارتهُ مملكة ثانية لملكهِ في عاصمة الدولة الأخرى ولكنهم قللوا من هذا الإسراف في الزمان الأخير. وما زالت السفارة في كل بلاد تعدّ جزءاً من أرض المملكة التي جاء منها السفير: فسفارة الروس في باريز قطعة من أرض روسيا تسري فيها الأحكام الروسية ولا سلطة لفرنسا وقانونها على من دخل أرض هذه السفارة وقس على هذا ما جرى مجراه. يذكرني ذلك بما كان من أمر ملك الانكليز وإمبراطور النمسا في إحدى السنين الماضية فإن الإمبراطور كان قد وعد بزيارة الملك في لندن قم رأى أنَّ الكبر أقعد همتهُ وصيَّر(4/205)
السفر خطراً عليهِ فعدل عن تلك الزيارة ولما ذهب ملك الانكليز بعد ذلك إلى فينا قام الإمبراطور لاستقباله للسلام عليهِ في السفارة الانكليزية وتعشى فيها ليقال أنهُ زار قرينهُ في أرض انكليزية وهي سفارة انكلترا في عاصمة النمسا. ويذكر من هذا القبيل أيضاً أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة لا يدخل سفارة أجنبية لأن قانون الجمهورية يحظر عليهِ السياحة في الأقطار الخارجية مدة الرئاسة , والسفارة عندهم أرض أجنبية كما تقدم البيان فمقام السفير مقام ملك ولهذا تراهم يهتمون غاية الاهتمام لانتقاء السفراء وقد يتنازل رئيس الوزارة عن كرسيه حتى يذهب سفيراً إلى عاصمة من العواصم الكبيرة وتعرض الوزارة من حين إلى حين على بعض السفراء فيأبونها مثل المسيو وادنتون سفير فرنسا السابق في لندن كان رئيس الوزارة الفرنسية ومثل اللورد
دفرن سفير انكلترا السابق في باريز عرضت عليهِ الوزارة مراراً فلم يقبلها ولقد قال اللورد بامرستون يوماً وهو أحد وزراء الانكليز المشهورين أنه ليس في كل عشرة ملايين رجل أكثر من واحد يصلح للسفارة. وقوله صحيح لما أن السفير يدير سياسة الدولة التي ترسله والدولة التي تقبله على السواء فهو في يده السلم والحرب إذا كان قليل الميل إلى السلام كان إضرام الحرب على يده من أسهل الأمور. ولما كان هذا المقام السفير وهذا شأنه فهم قد خصُّوه بامتيازات شتى حتى جعلوه مساوياً لملك البلاد التي يقيم فيها وإذا شاء السفير أن يخاطب القيصر أو الملك رأساً في كل أمر فلا سبيل إلى إرجاعهِ عما يريد. ولكن(4/206)
السفراء وهم دهاة الأمم وجبابرة العقول يؤثرون الوصول إلى غايتهم بطرق اللطف والمجاملة فلا يصرّون على حق لهم يولد الجفاء أو يدعو إلى النفور. وقد بدأوا بإعطاء لسفير حقوق الملك من نحو 185سنة. وكان منشأ هذا الامتياز في لندن إذ حدث فيها أن بعض المتآمرين وأصحاب الدسائس قبضوا على سفير روسيا في لندن وخطفوهُ من وسط المدينة , وأودوا به لأسباب تتعلق بسياسته في داخلية روسيا. فكبر الأمر على حكومة الانكليز وأصدرت أمراً باعتبار سفراء الدول الكبيرة مثل ملك انكلترا في الامتيازات والحقوق حتى لا يبقى سبيل إلى الاعتداء عليهم كما حدث لسفير الروس. واجتمع بعد ذلك مؤتمر للدول في باريز رأى أعضاؤه أن انكلترا أصابت في منح هذه الامتيازات للسفراء , فأجمعوا على تعميم هذا المبدأ في جميع العواصم على السواء. وعلى هذا فإن السفير مثل الملك فوق القانون يمكنهُ أن يأتي ما شاءَ من المنكرات ولا حرج عليهِ ولا سلطة تقوى على رده؛ فكل ما يمكن فعله في هذه الحالة أن الدولة ترجو دولة السفير المذكور إقالته أو نقله من بلادها. ولكن هذا لا يحدث من السفراء وهم رجال الأدب الباهر واللطف المشهور والعقول الكبرى في كل زمان. كذلك عمَّال السفارات وأقاربهم يعدون من أصحاب الامتيازات لا سلطة للحكومة المحلية عليهم بقوة هذا الامتياز وقد تجري محاكمته داخل السفارة حسب قانون بلاده الأصلية. ولكن هذا لا يحدث أيضاً إلا فيما قلّ. وأكثر السفراء يتنازلون عن حق(4/207)
سفارتهم فيما لو حدث أمر يخالف قانون لبلاد من أحد عمَّالهم ويسلمون ذلك العامل للحكومة المحلية احتراماً لها ولقانونها. حدث مثل هذا من عهدٍ غير بعيد في لندن إذ اعتدى روسي على أحد الأهالي وصفعه على وجهه في قارعة الطريق فلما علم السفير الروسي بما جرى أمر
عامله في خدمة السفارة فأثر الرجل عدل انكلترا على ضياع المركز وحكم عليهِ بغرامة مع أنه كان يمكن إنقاذه من العقاب. ومن هذا القبيل أن سفير الأمير كان في باريز صدمت عربته عاجلة صغيرة لأحد الأهالي فحطمتها ولما رأى السفير ذلك عرض على الرجل أن يعوض عليهِ ما فقد في الحال ولكن الرجل كان ذا نزق فلم يكلم السفير وأقام عليهِ قضية وكان كاتب المحكمة جاهاً مثل صاحب القضية فقبلها وأرسل إنذاراً إلى السفير كأنما السفير تحت سلطة القانون. فأعرض السفير الأميركي عن الإنذار وأرسله إلى وزارة الخارجية وكانت النتيجة أن الإنذار الغي في الحال والكاتب عزل وحقوق الرجل ضاعت بقوة الامتياز الذي خصَّ بمعاشر السفراء ويحق لنساء السفراء ما يحق للملكات لأن السفير يتقدم وزراء الأمة التي يقيم في أرضها ولزوجته حق التقدم أيضاً على كل نساء المملكة ما خلا الأميرات. وقد حدث أشكال بسبب امتياز النساء هذا في روميه من بضعة أعوام لأن إحدى الأميرات دعت عليَّة القوم إلى ليلة راقصة فلما انتهى الرقص دعت الأميرة بعض صاحباتها وقريباتها للطعام ولم تدعُ زوجة السفير الفرنسي ولا زوجة السفير الانكليزي إلى المائدة فخرجت(4/208)
السيدتان من قصر الأميرة مغتصبتين. وأنكر السفيران فعل الأميرة وطلبا من حكومة إيطاليا أن تحملها على الاعتذار وكانت حكومة الطليان في أو الأمر مستخفة بالحكاية فلما كثرت عليها المسائل والرسائل من لندن وباريز اضطرت على العدول عن رأيها وأرضت السفيرين. ويعفي السفراء من الضرائب المحلية والعوائد ورسوم الجمارك حتى أن الأشياء الواردة باسم السفير أو أحد عماله من الخارج ترسل بلا تفتيش ولا تنقيب. وربما ذكر القراء ما حدث في الإسكندرية من زمان قريب بشأن هذا الامتياز فإن قنصل روسيا وقع في مشكلة ورأى عمال الجمرك أن الصناديق التي ترد باسمهِ أو بأسماء مختلفة لترسل على يده إلى من يشاء كثرت فيها المهربات فأفضى الأمر إلى أن الحكومة الروسية عزلت قنصلها أو نقلتهُ من الإسكندرية ولكن حكومة مصر لم يكن لها سلطة عليه مع أنهُ أهانها وهرَّب الممنوع إلى بلادها على طريقة كان لها دوي كبير. على أن السفير لا يجوز له شيء واحد لقاء كل هذه الامتيازات هو التدخل في السياسة الداخلية المتعلقة بالبلاد التي يقيم فيها فإذا عرف عنبهُ تداخل من هذا القبيل ولو كان صغيراً سقط من مقامهِ العالي واضطرّ إلى الرحيل. وقد يحدث من هذا القبيل ما يوقع السفير في حيرة وعقدة لا حلَّ لها
مثل أن يكون حزب الأحرار في انكلترا مخالفاً لحزب المحافظين في عقد المخالفة مع روسيا فإذا سئل سفير الروس رأيهُ يوماً وهو يعلم أن عقد المحالفة يفيد بلاده لم يجز له أن يمدح حزباً ويذم حزباً(4/209)
في البلاد ولا أن يعضد فريقاً بقول له أو رأي لأن أقل إشارة بهذا المعنى تعدّ تدخلاً في السياسية الداخلية لا يجوز. وهذا أيضاً قليل حدوثه. اعلمُ من قبيله حادثة واحدة قديمة جرت في لندن حين تدخل سفير النمسا في سياسة الأحزاب الداخلية تدخلاً لو تمَّ المراد منهُ لأدى إلى سقوط وزارة الانكليز. وقد كان صنيع هذا السفير يومئذٍ شاذاً إلى الغاية القصوى وموجباً للغضب حتى أن حكومة الانكليز أعرضت عن المجاملة وامتياز السفراء وقبضت على هذا السفير وأمرت بمحاكمته فحكم عليهِ القاضي بالحبس. ولما علمت النمسا ببيان ما فعل سفيرها في لندن تبرأت منهُ ورضيت بمحاكمتهِ ومعاقبته فلم ينشأ أشكال ولا حرب. واذكر حادثة أخرى قريبة العهد من هذا النوع هي أن رجلاً من الأميركيين أرسل إلى سفير انكلترا في واشنطون كتباً يسأله فيهِ رأيه عن أي الرجال أصلحهم لرئاسة الجمهورية الأميركية وكان الرئيس يومئذٍ المستر كليفلاند وهم يسعون في إعادة انتخابه فكتب السفير - واسمه اللورد ساكفيل - رداً إلى صاحبه الأميركي يقول أن كل أميركي يحب الخير لبلاده يجب أن يسعى في بقاء المستر كليفلاند رئيساً لجمهوريتها. ونشرت بعض الصحف الأميركية هذا الكتاب فهاج الجمهور ولاسيما الحزب المخالف لكليفلاند وعدوا تدخل السفير الانكليزي في أمورهم الداخلية إثماً لا يغتفر حتى أن المستر كليفلاند اضطر إلى طلب إقالته وأعاد إليهِ أوراق تعيينه فكان لتلك الحادثة صدى ودوي من نحو عشرين سنة وكادت تؤدي إلى وقوع الحرب بين الانكليز والاميركان(4/210)
لأن اللورد سولسبري وهو يومئذٍ وزير الانكليز عدَّ فعل الرئيس إهانة لسفيره فلم يعيّن سفيراً بدله حتى انتهت الانتخابات الأميركية وخرج كليفلاند من منصب الرئاسة. هذا الذي لا يجوز للسفراء وأما الذي يجوز فأكثر منهُ كما رأيت وليس في الأرض فئة أخرى تتنعم بكل هذه النعمة وهذا الامتياز في ديار المتدنين.
اسكندر شاهين
الأندلس الجديدة
ننشر لقراء الزهور في الصفحات التالية قصيدة عصماء في رثاء مقدونيا وخروجها من يد الدولة العثمانية بعد عقد الصلح في مؤتمر لندرا. وهذه القصيدة من أبدع ما جاءت به قريحة شاعر عربي , فقد جمعت من جزالة اللفظ ومتانة السبك وسمو الخيال وبلاغة الإرشاد ما يستغفر القارئ طرباً عند كل بيت من أبياتها , ويستوقفه معجباً بكل معنى من نعانيها. أما ناظم دررها الغوالي فيحق له أن يجلس على عرش دولة البيان ويلقب بأمير الشعر في هذا العصر , كما يسلم بذلك كل من يطالع هذه القصيدة النفسية , وإن كان يؤاخذ شاعرها بأنه مزج الدين بالسياسة ولا دين للسياسة. فها هي الدول التي كانت معادية لتركيا بالأمس تكاد اليوم تشهر بعضها على بعض حرباً طاحنة وهي على دين واحد ومعتقد واحد:
يا أختَ أندَلسُ عليكِ سلامُ ... هوَتِ الخلافةُ عنكِ والإِسلامُ
نزلَ الهلالُ عن السماءِ فليتَها ... طُويت وعمَّ العالمينَ ظلامُ
أزرى بهِ وأزالَهُ عن أوجهِ ... قَدَرٌ يحطُّ البدرَ وهو تَمامُ
جرحان تمضي الأمَّتانِ عليهما ... هذا يسيلُ وذاك لا يَلتامُ
بكما أُصيبَ المسلمون َ وفيكما ... دُفنَ اليراعُ وغيّبَ الصمصامُ
لم يُطو مأتمُها وهذا مأتمٌ ... لبُسوا السوادَ عليكِ فيهِ وقاموا
ما بين مصرعها ومصرعكِ انقضت ... فيما نحبُّ ونكرهُ الأيَّامُ(4/211)
خلَت لقرونُ كلَيلةٍ وتصرَّمت ... دولُ الفتوحِ كأنها أحلامُ
والدهرُ لا يألو الممالكَ منذراً ... فإذا غفلنّ فما عليهِ مَلامُ
مقدونيا , والمسلمونَ عشيرةٌ ... كيف الخؤولةُ فيكِ والأعمامُ؟
أتراهموا هانوا وكانَ بعزّهم ... وعلوِّهم يتخايلُ الإسلاُم؟
إذ أنتِ نابُ الليثِ , كلُّ كتيبةٍ ... طلعت عليكِ فريسةٌ وطعامُ
ما زالتِ الأيامُ حتى بُدّلت ... وتغيَّر الساقي وحالَ الجامُ
أرأيتِ كيف أُديلَ من أسُدِ الشرى ... وشهدتِ كيف أُبيحت الآجامُ
زعموكِ همّاً للخلافة ناصباً ... وهلِ الممالكُ راحةٌ ومنامُ
ويقولُ قومٌ كنتِ أشأمَ موردٍ ... وأراكِ سائغةً عليكِ زحامُ
ويراكِ داَء المُلك ناسُ جهالة ... بالمُلكِ منهم علّةٌ وسقامُ
لو آثروا الإصلاحَ كنتِ لعرشهم ... ركناً على هامِ النجومِ يقامُ
وهمٌ يقيّدُ بعضُهم بعضاً بهِ ... وقيودُ هذا العالمِ الأوهامُ
صُوَرُ العَمى شتى وأقبحُها إذا ... نظرتْ بغير عيونهنَّ الهامُ
ولقد يقامُ من السيوفِ وليسَ من ... عثراتِ أخلاقِ الشعوبِ قيامُ
ومبشّرٍ بالصلح قلتُ لعلَّهُ ... خيرٌ عسى أن تصدقَ الأحلامُ
تركَ الفريقان القتالَ وهذهِ ... سلمٌ أمرُّ من القتالِ عقامُ
ينعي إلينا المُلكَ ناعٍ لم يطأ ... أرضاً ولا انتقلت بهِ أقدامُ
برقٌ جوائبهُ صواعقُ كلُّها ... ومن البروقِ صواعقٌ وغمامُ
إن كان شرٌّ , زارَ غير مفارقٍ , ... أو كان خيرٌ , فالمزارُ لمامُ
بالأمس أفريقا تولَّت وانقضى ... مُلكٌ على جيد الخضّمِ جسامُ(4/212)
نظم الهلالُ بهِ ممالكَ أربعاً ... أصبحنَ ليس لِعقدهنَّ نظامُ
من فيتحِ هاشم أو أميَّة لم يضعْ ... أساسَها تترٌ ولا أعجامُ
واليوم حُكمُ الله في مقدونيا ... لا نقضَ فيه لنا ولا إبرامُ
كانت من الغربِ البقيةُ فانقضت ... فعلى بني عثمانَ فيهِ سلامُ
أخذَ المدائنَ والقرى بخناقها ... جيشٌ من المتحالفينَ لهامُ
غطَّت بهِ الأرضُ الفضاءُ وجوهَها ... وكست مناكبَها بهِ الآكامُ
تمشي المناكرُ بين أيدي خيلهِ ... أنَّى مشَى والبغيُ والإجرامُ
ويحثّه باسم الكتابِ أقسّةٌ ... نشطوا لما هو في الكتاب حَرامُ
ومسيطرون على الممالكِ سُخّرت ... لهم الشعوبُ كأنها أنعامُ
من كلِّ جزّارٍ يرومُ الصدرَ في ... نادي الملوكِ وجدّهُ غنَّامُ
سكّينهُ ويمينهُ وحزامهُ ... والصولجانُ جميعُها آثامُ
عيسَى سبيلُك رحمةٌ ومحبةٌ ... في العالمينَ وعصمةٌ وسلامُ
ما كنتَ سفَّاك الدماءِ ولا امرأً ... هانَ الضعافُ عليهِ والأيتامُ
يا حاملَ الآلامِ عن هذا الورى ... كُرت عليهِ باسمكَ الآلامُ
أنت الذي جعلَ العبادَ جميعَهم ... رَحماً وباسمكَ تُقطع الرحامُ
أنتِ القيامةُ في ولاية يوسفٍ ... واليومَ باسمكَ مرتين تقامُ
كم هاجَهُ صيدُ الملوكِ وهاجَهم ... وتكافأَ الفرسانُ والأعلامُ
البغيُ في دينِ الجميعِ دنّيةٌ ... والسلم عهدٌ والقتالُ ذمامُ
واليومَ يهتف بالصليبِ عصائبٌ ... همُ للإله وروحهِ ظُلاَّمُ(4/213)
خلطوا صليَبك والخناجرَ والمُدى ... كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ
أوَ ما تراهم ذبَّحوا جيرانَهم ... بين البيوتِ كأنهم أغنامُ
كم مُرضَعٍ في حجر نعمتهِ غدا ... ولهُ على حدِّ السيوفِ فطامُ
وصبيةٍ هُتكت خميلةُ طهرها ... وتناثرت عن نَورهِ الأكمامُ
وأخي ثمانينَ استبيح وقارُهُ ... لم يُغنِ عنهُ الضعفُ والأعوامُ
وجريحِ حربٍ طامي وأدُوهُ لم ... يعطفهمو جرحُ دمٍ وأوامُ
ومهاجرينَ تنكَّرت أوطانُهم ... ضلّوا السبيلَ من الذهولِ وهاموا
السيفُ إن ركبوا الفرارَ سبيلُهم ... والنطعُ إن طلبوا القرار مقامُ
يتلفَّتون مودّعينَ ديارَهم ... واللحظُ ماءٌ والديارُ ضرامُ
يا امةً بفروقَ فرَّقَ بينهم ... قَدرٌ تطيشُ إذا أتى الأحلامُ
فيما التخاذلُ بينكم ووراءكم ... أممٌ تُضاعُ حقوقُها وتضامُ
الله يشهد لم أكن متحزّباً ... في الرزءِ لا شيَعٌ ولا أحزامُ
وإذا دعوتُ إلى الوثام فشاعرٌ ... أقصى مناه محبةٌ ووئامُ
من تُضجرُ البلوى فغايةُ جهدهِ ... رُجْعَى إلى الأقدار واستسلامُ
لا يأخذنَّ على العواقب بعضكم ... بعضاً فقِدْماً جارتِ الأحكامُ
تقضي على المرءِ الليالي أو لهُ ... فالحمد من سلطانها والذامُ
من عادةِ التأريخ ملءُ قضائهِ ... عدلٌ وملءُ كنانتَيهِ سهامُ
ما ليس يدفعهُ المهنَّدُ مصلَتاً ... لا الكتْبُ تدفعهُ ولا الأقلامُ
إنَّ الآُلي فتحوا الفتوح جلائلاً ... دخلوا على الأسُدِ الغياضَ وناموا
هذا جناه عليكمو آباؤُكم ... صبراً وصفحاً فالجناة كرامُ(4/214)
رفعوا على السيف البناء فلم يَدُمْ ... ما للبناءِ على السيوف دوامُ
أبقي الممالكِ ما المعارف أسُّهُ ... والعدل فيهِ حائطٌ ودعامُ
فإذا جرى رشداً ويمناً أمرُكم ... فامشوا بنور العلم فهو زمامُ
ودعوا التفاخرَ بالتراث وإن غلا ... فالمجد كسبٌ والزمان عصامُ
إن الغرور إذا تملَّك أمةً ... كالزهر يُخفي الموت وهو زؤامُ
لا يعدلنَّ المُلك في شهواتكم ... عَرَضٌ من الدنيا بدا وحُطامُ
ومناصبٌ في غير موضعها كما ... حلَّت محلَّ القدرة الأصنامُ
الملكُ مرتبة الشعوبِ فإن يفتْ ... عزَّ السيادة فالشعوب سوامُ
ومن البهائم مُشبَعٌ ودلَّلٌ ... ومن الحرير شكيمةٌ ولجامُ
وقف الزمانُ بكم كموقف طارقِ ... اليأس خلفٌ والرجاءُ أمامُ
الصبر والإِقدام فيهِ إذا هما ... قَتلاَ فأقتلُ منهما الإِحجامُ
يُحصي الذليلُ مدى مطالبهِ ولا ... يُحصي مدى المستقبَلِ المقدامُ
هذه البقية لو حرصتم دولةٌ ... صال الرشيد بها وطال هشامُ
قِسمُ الأئمةِ والخلائف قبلكم ... في الأرض لمن تُعدَل بهِ الأقسامُ
سرَت النبوَّة في طهورِ فضائهِ ... ومشى عليهِ الوحيُ والإِلهامُ
وتدفَّقَ النهرانِ فيهِ وأزهرت ... بَغداد تحت ظلالهِ والشامُ
أثرتْ سواحله وطابت أرضهُ ... فالدرّ لجٌ والنُضار رغامُ
شرَفاً أدِرنَهُ هكذا يقف الحمى ... للغاصبين وتثبت الأقدامُ
وتردُّ بالدمِ بقعةٌ أُخذت بهِ ... ويموت دون عرينهِ الضرغامُ
والمُلك يؤخذُ أو يُرَدُّ ولم يزل ... يرث الحسامَ على البلاد حُسامُ
عِرضُ الخلافةِ ذاد عنهُ مجاهدٌ ... في الله غازٍ في الرسول همامُ(4/215)
نستعِصمُ الأوطانُ خلف ظباتهِ ... وتعزُّ حول قناتهِ الأعلامُ
عثمان في بردَيه يمنع جيشهُ ... وابن الوليد على الحمى قوَّامُ
علم الزمان مكان شكري وانتهى ... شكر الزمان إليه والإِعظامُ
صبراً أدرْنهُ كل ملكٍ زائل ... يوماً ويبقى المالك العلاَّمُ
خفَتَ الأذانُ فما عليكِ موحّدٌ ... يسعى ولا الجُمَع الحسان تقامُ
وخبت مساجدُ كنَّ نوراً جامعاً ... تمشي إليهِ الأسد والآرامُ
يدرجنَ في حرم الصلاة قوانتاً ... بيضَ الإزار كأنهنَّ حمامُ
وعفَت قبور الفاتحين وفُضَّ عن ... حفرِ الخلائف جندل ورجامُ
نُبشت على قعساء عزَّتها كما ... نُبشت على استعلائها الأهرامُ
في ذمة التاريخ خمسةُ أشهر ... طالت عليكِ فكل يوم عامُ
السيف عار والوباءُ مسلطُ ... والسبل خوفٌ والثلوج ركامُ
والجوع فتَّاكٌ وفيكِ صحابةٌ ... لو لم يجوعوا في الجهاد لصاموا
ضنُّوا بعرضِكِ أن يباعَ ويُشتري ... عِرضُ الحرائر ليس فيهِ سوام
ضاق الحصارُ كأنما حلقاتهُ ... فلكٌ ومقذوفاتها أجرامُ
ورمى العدى ورميتِهم بجهنَّمٍ ... مما يصبُّ الله لا الأقوامُ
بعتِ العدوَّ بكل شبرٍ مهجةً ... وكذا يباع المُلك حين يرامُ
ما زال بينك في الحصار وبينهُ ... شمُّ الحصون ومثلهنَّ عظامُ
حتى حواكِ مقابراً وحويتهِ ... جثثاً فلا غبنٌ ولا استذمامُ(4/216)
أزهار وأشواك
نقل رفات اليازجي
أمضي وتبقى صورتي فتعجَّبوا ... تمضي الحقائقُ والرسومُ تقيمُ
والموت تحلبهُ الحياةُ فلو حوى ... روحاً لمات الهيكلُ المرسومُ
الشيخ ناصيف اليازجي
لا يحقُّ لنا بعد الآن أن نقولَ أن الشرق لا يزال يجهل قدر أُدبائهِ ونوابغهِ. فإن الحركة التي رأيناها في هذه السنة لإكرام الإحياءِ من أدبائنا وكتَّابنا , وتخليد ذكر الدارجين منهم تدلُّ على نهضةٍ مباركةٍ في(4/217)
النفوس وترقٍّ محمود في الأخلاق. أقول ذلك بمناسبة الحفلة المؤثرة التي أُقيمت على أحد أرصفه.
أنت في الدنيا كضيف نازلٍ ... حلَّ في الأحياءِ حيناً وانصرَفْ
فاحيَ بالذكرِ إذا العمرُ انقضى ... واجعلِ الرسمَ من لجسمِ خَلَفْ
الشيخ إبراهيم اليازجي
محطة مصر في الرابع من الشهر الجاري وداعاً لعظامٍ بالية كانت تحييها بالأمس روح نابغة من نوابغ كتَّابنا , وقد أتى جمهورٌ من الأدباءِ والوجهاء(4/218)
والفضلاء في مصر يشيعون تلك العظام بتجلة وإكرام كما يُشيَّع الأمراءِ والملوك , واحتشدوا يبكون سليل الأسرة اليازجية ويعدون فضلهُ ومناقبهُ. افتتح التآبين والمرائي سعادة أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار فأطنب في مدح الفقيد وغيرتهِ على لسان العرب ورثاهُ باسم مصر بكلام فصيح بليغ , ونحا نحوهُ حضرة رفيق بك العظم , فأتى في خطاب جامعٍ على لمحةٍ من تاريخ اللغة العربية ونهضتها منذ نصف قرن على يد أمثال البستاني والنقاش واليازحي والأسير والشدياق. وتكلم على الأثر الدكتور خليل بك سعادة موجّهاً الخطاب إلى الفقيد الكريم وقد أخذ التأثر منهُ ومن الحاضرين مبلغه. ثمَّ ألقى خليل مطران قصيدةً من شعرهِ المعروف بسموّ الأفكار وابتكار المعاني , قال في مطلعها:
أحننتَ من شوقٍ إلى لبنانِ ... وارحمتا لكَ من رميمِ عانِ
شوقٌ تكابدُهُ ويثوي منكَ في ... مثوى الرُّؤَى من مهجةِ الوسنانِ
جسُّوا مظنَّةَ حسِّه , أفنابضٌ ... فيها فؤادُ متيّمٍ ولهان
واستطلعوا الرسمَ المحبلَ فهل بهِ ... يومَ المآب الفرّة عينانِ
وقال في ختامها مخاطباً نعش الفقيد:
أبلغْ وديعتَنا إلى أحبابنا ... واحمل تحيّتنا إلى الأوطانِ
كنا نودُّ بك المصيرَ إلى الحمى ... وتأسّيَ الإِخوانِ بالإِخوانِ
لكن عدانا البينُ دون عناقِهم ... فتولَّ وليتعانقِ الدمعانِ
وأنشد أسعد أفندي داغر أبياتاً جميلة استنهض بها سوريا لتستقبل الوديعة الثمينة التي تردّها إليها مصر اليوم.(4/219)
ثمَّ صفر البخار مؤذناً في الرحيل وقطر العجلة الخصوصية التي تقلُّ رفات فقيد اللغة وقد كُسيت بأكاليل الزهر والريحان. وسارت وراءَها الأبصار والقلوب تشيعها من القطار إلى الباخرة ومن الباخرة على ثغر بيروت حيث يستقبلها أدباءُ سوريا كما ودَّعها أدباءُ مصر لتُضمّ هناك عظام إبراهيم إلى عظام أبيهِ ناصيف , وشقيقهِ , خليل في مدفنٍ واحد وقد كتبت عليهِ تلك الأبيات التي تصدق في الوالد والولد وهي من نظم الفقيد:
هذا مقامُ اليازجيِّ فقف بهِ ... وقُل السلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى
حَرَمٌ تحجُّ إليهِ أربابُ الحجي ... أبداً وتدعو بالمراحمِ سَرمدا
هو مغربُ الشمسِ التي كم اطلعت ... في شرقِ آفاقِ البلاغة فرقَدا
فخرُ النصارى صاحبُ الغُرر التي ... ضرَبتْ على ذكرِ البديع وأحمدا
هذا عمادُ العلم مال بهِ القضا ... فأمال ركناً للعلوم مشيَّدا
أمسى تجاهَ البحر جانب تربةٍ ... هي مجمع البحرين أشرف محتدا
فعليك يا ناصيفُ خيرُ تحيةٍ ... طابت بذكرك حيثُ فاح مردّدا
لو أنصفتك النائبات لغيَّرت ... عاداتها ووقَتكَ حادثة الرَّدى
تتنزلُ الأملاكُ حولك بالرضي ... ويجودُ فوقك باكراً قطرُ الندى
وجميلُ حظّك في المماتِ برحمةٍ ... أرّخ وفضلكَ في الصحائف خُلّدا
هذا بعض ما يسمح لي المقام وقاراً بذكرهِ عن حفلة مساء يوم الأربعاء على محطة مصر. وقد زاد الموقف وقاراً وخشوعاً وجود أخت الفقيد السيدة وردة اليازجي الشاعرة المجيدة وهي متشحة بالسواد , مكسورة الفؤاد. نظرتُ إليها عن بعد محترماً حزنها , وراثياً
لمصائبها , ولم أتمالك من سكب دمعة عند منظر هذه الخنساء الجديدة.
حاصد(4/220)
ثمرات المطابع
شرح القانون المدني - هذا كتاب لم يوجد في مصر باللغة العربية من قبل اليوم؛ وربَّ كتابٍ واحدٍ يعدل جملة كتب. وضعهُ سعادة المفضال أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقَّانية؛ وكفى بذكر اسم(4/221)
ذلك الرجل دليلاً على فضله. وقد رمى سعادته بنشر هذا المؤلَّف النفيس إلى ثلاثة أغراض: أولها تقريب قواعد القانون المدني من أذهان الكافة تسهيلاً لمعرفة أحكام المعاملات؛ وثانيهما إفادة طلية الحقوق في درسهم بما يجدونه فيهِ من المرشد إلى المعلومات التي يحتاجون لمراجعتها فيكون لهم منهُ متنٌ يذكرّهم بما تلقّوه؛ وثالثهما استنهاض همة القانونيين إلى الاشتغال بالقانون المدني ووضع ما يحتاجه من الشروح باللغة العربية ليكون لنا من وراءِ عملهم مؤلفات تغنينا عن ألتماس علم القانون من غيرنا على الدوام. فالكتاب سوى المشتغلين بعلم الحقوق من طلَبةٍ ومحامين وقضاة. فإن القانون المدني المصري إنما أُخذ في معظمهِ عن وجوه شتى , فلا جرَم أن يكون قد مشقَّات جلَّى , حتى تسنّى له أن يُخرج للناس هذا المؤلَف المفيد. وغلى هذا أشار سعادتهُ بقوله: أتعبني النصُّ الفرنساوي بإيجازه المخلّ وتشويش ترتيبه الذي يشتت الذهن ويضيع الوقت؛ ولكنَّ النصَّ العربي أعياني أعياءَ. وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام هي: قسم الأشخاص والأموال وما يترتب عليها من الحقوق؛ وقسم التعهدات والالتزامات؛ وقسم العقود المعينة والتأمينات؛ وقسم الأدلة. واعتمد في ذلك جميعه الرجوع إلى أشهر المؤلفين باللغتين العربية(4/222)
والفرنساوية فجاءَ الكتاب الذي بصدده مرجعاً يُرجع إليه , ومورداً سائغاً يُستقى منه. فشرحُ القانون المدني حلقة جديدة أُضيفت إلى سلسلة ذهبية مما ألَّفهُ وترجمهُ أحمد فتحي زغلول تلك السلسلة التي تعلّق اسم هذا الرجل المفضال إلى جانب أسماء الرجال الذين عملوا حقيقةً على إفادة الأمة المصرية , وخدموها أجلَّ الخدمات , فحفظ لهم التاريخ الذكر الطيّب والجميل العظيم.
محاسن الطبيعة - للمرحوم الللورد افبري شهرة واسعة بين أهل العلم والأدب لا يجهلها أحد ممن وقف على مؤلفاتهِ الكثيرة وآرائهِ الشهيرة. وقد نُقلت مؤلفاته إلى معظم اللغات الأوروبية وغيرها وكان للغة العربية حظ بأربعة منها عني بنقلها غليها حضرة الكاتب الأديب وديع أفندي البستاني وهي: معنى الحياة ومسرات الحياة والسعادة والسلام ومحاسن الطبيعة. وقد ظهر الكتاب الأخير حديثاً فإذا بهِ كسائر مؤلفات ذلك الرجل العظيم
آية من آيات السحر الحلال إذ بحث فيهِ المؤلف في عالَمي الحيوان والنبات ثمَّ تناول وصف المناظر التي يتألف منها عالم الشهادة كالبحور والأنهار والبراكين والجبال والأودية والأفلاك على اختلاف أنواعها. فوصف محاسن كل منها بما لم يبقَ معهُ مطمع لمستزيد , ونسَّق كلامهُ أحسن تنسيق بحيث يأخذ بمجامع الفؤاد فلا يكاد القارئ يفرغ من قراءَة وصف حتى يتشوّق إلى(4/223)
غيره , وهذه إحدى مميزات هذا الكتاب. ولا شك أن اللغة العربية في افتقار شديد إلى أمثال هذه المؤلفات الأدبية مع أنها غنية بالكتب التي كان يجب أن تكون غنيةً عنها. ويسرنا أن نرى اليوم للّغة من ورائها حياة جديدة. ولا يخفي أن مقياس ارتقاء كل أمة هو مؤلفاتها الأدبية فبقدر انتشار هذهِ المؤلفات تكون رفعة شأنها ومبلغ عظمتها. والمجال أضيق من أن يتناول إسهاباً في وصف كتاب محاسن الطبيعة المشار إليهِ فهو حافل بفوائد تضيق هذه السطور عن تعدادها ويكفي القول بأنهُ من الكتب التي قد اهتمت مطبعة المعارف المعارف بنقلها ونشرها مع ما هو معروف عن هذه المطبعة من الحرص في نشر الكتب الجزيلة النفع بين أبناء اللغة العربية. ومما يزيد في قدر الكتاب الذي نحن بصدده أنهُ صدر بيننا على أثر وفاة مؤلفهِ اللورد افبري؛ فقد نعه إلينا البرق منذ أسبوع بعد أن ناهز الثمانين من عمره. فذهب مبكيّاً عليهِ وترك وراءهُ ذكراً يبقى ما بقي العلم والأدب.
لسان العرب - مجلة تاريخية اجتماعية عليمة أدبية يصدرها في الأستانة مرَّة في كلّ شهر حضرة الفاضل أحمد عزت أفندي الاعظمي. وقد تصفحنا ما ورد علينا منها فراقنا ما احتوائهُ من المواضيع ورجونا لها سعة الانتشار.(4/224)
العدد 36 - بتاريخ: 1 - 7 - 1913
الرئيس بوانكاره
في بلاد الانكليز
ثلاثةٌ من رؤساءِ الجمهورية الفرنسوية زاروا عاصمة بريطانيا العظمى في السنوات العشر المنقضية: زارها مسيو أميل به سنة 1903 , وكانت الدولتان لا تزالان في مناظرةٍ شديدة , فأُبرم في السنة التي تلت الاتفاقُ الانكليزي الفرنسوي الذي قلب سياسة العالم , وغير موقف دول أوروبا تجاه بعضها بعض. وزارها مسيو أَرمان فاليير سنة 1908 , وكانت الدولتان العظيمتان قد أدركتا فوائد اتفاقهما , وشعر العالم بنتيجة اتحادهما؛ وجاء المعرض الانكليزي الفرنسوي الذي أُقيم في لندرا محكماً تلك الروابط الجديدة بين أبناءُ السين وأبناءِ التاميز. وزراها مسيو ريمون بوانكاره في الشر الفائت. فبالغ الشعب(4/225)
البريطاني في إكرامهِ والاحتفاءِ بهِ. وتجلَّى اتفاق فرنسا وانكلترا بأبهى مجاليهو وأسنى مظاهره. قال أحد كبار الساسة الانكليز منذ نصف قرنٍ ما اتفقت فرنسا وانكلترا على أمر , إلاَّ وكان ذلك الأمر لخير الإنسانية وتابيد العدل والآن نسمع شعوباً كثيرة تئنُّ , وأُمماً عديدة تشكو. ونرى من جهةٍ ثانية فرنسا وانكلترا متصافحتين متفقتين. فهل يكون هذا الاتفاق لخير تلك الأمم الشاكية , وإنصاف هاتيك الشعوب المظلومة. . .؟ هذا ما يرجوهُ المتعطشون إلى العدل , الراغبون في الحرية , التائقون إلى الحياة.
أكرمت بريطانيا العظمى في شخص زائرها الكريم دولة الحرية والمساواة والإخاءِ , تلك الكلمات الثلاث التي ستعيّد لها الأمة الفرنسوية في الرابع عشر من هذا الشهر , والتي نحاول كلُّ أُمةٍ من الأمم المتدينة أن تجعلها شعاراً لها. أكرم الانكليز في شخص رئيس الجمهورية ممثّل صديقة اليوم , وحليفة الغد , ونصيرة النور والعرفان. وأكرموا فيهِ فوق ذلك الرجل الممتاز بصفاته العالية وأخلاقهِ السامية , الخطيب المفوّه , والكاتب التحرير , والسياسي القدير الذي أجمع الجميع على احترام شخصيته. فقال لهُ ملك بريطانيا وإمبراطور الهند في خطبة الترحيب , ما لم(4/226)
نسمعه في الخطب التي يتبادلها رؤساء الحكومات وأصحاب التيجان , قال: أنا سعيدٌ بأن أرى في ضيافتي رجلاً ممتازاً بخدمة ِ الجليلة , ذا شهرةٍ بعيدة , ليس فقط في عالم السياسية , بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي موضوع مجدٍ لفرنسا منذ ثلاثة قرون تحسدها عليهِ أوروبا جمعاء هذا
ما قالهُ جورج الخامس الذي لا تغيبُ الشمس عن أملاكهِ لابن الشعب الذي توصَّل بجده واجتهاده إلى أعلى مقام يحلمُ بهِ الإنسان. أمّا الأمة الانكليزية فقد عبَّرت عن إعجابها وابتهاجها , كما يُعبّر الشعب , بلا تصنُّع ولا تكلُّفٍ. فكان هتاف التحية والنصر يتصاعدُ من كل الصدور , لفرنسا ولرئيسها وللحرية! ولم ينسوا في هتافهم اللورين , أم الرئيس , وابنه فرنسا المفقودة! وكان الرجالُ والنساءُ حاملين الأزهار الزرقاء والبيضاء والحمراء: ألوان الراية الفرنسويةز وفي أحد الشوارع سُمع صوت الفوتوغراف يحيي الرئيس وينشد المرسلييز , كما سمع صوت الببغاءِ يحيي أغسطوس قيصر عند دخوله رومه. . . .
ثلاثة أيام قضاها بوانكاره في عاصمة الانكليز بين مجالي الابتهاج ومظاهر الحفاوةً: عند وصوله يَّاهُ الأسطول الانكليزي بإطلاق المدافع؛ وعند سفره شيَّعتهُ ست طياراتٍ محلقةً فوق البارجة التي تقلّه. وهكذا أرادت انكلترا أن تحيي فرنسا وطن فنّ الطيران.(4/227)
وقد كان للطيارين شأن يذكر في هذه الزيارة. فإن جريدة الماتن سألت كبار رجال السياسة والأدب رأيهم في زيارة الرئيس لانكلترا وطبعت من العدد الذي نشرت فيه الأجوبة ثلاث نسخ على الحري , فلم ترسلها في البريد بل سلمتها إلى أحد الطيارين الفرنسوين؛ فحملها طائراً من باريس إلى لوندرا , ودفع نسخةً منها إلى الملك جورج , نسخةً إلى الرئيس , ونسخةً إلى محافظ لوندرا.
ولم تنقض هذه الزيارة دون أن نسمع صوتاً للشعراء - صوتاً واحداً - ولو كان ذلك عندنا لسمعنا ألف صوت. . .! شاعر انكلترا الكبير روديرد كيبلنغ حيَّا الرئيس بقصيدة وجهها إلى فرنسا , قال:
أنت التي عرفت كلّ شقاء معروف وتغلبت عليه
لأنكِ تحملين في صدرك حب الحياة السليم: وهو درع بلاد غاليا
ففي مغامر النعمة لا تعرفين حداً. وفي مواطن الجهد لا تعرفين ضعفاً
أنت الرهيبة بقوةٍ تستمدينها من تربةٍ لا ينفد غناها
تحكمين أشدّ الأحكام على قدرك وشأنك. وأنتِ الأمة الرؤوفة بالغير
أنتِ الأولى في إتباع الحقيقة الجديدة , والأخيرة في ترك الحقائق القديمة
أنتِ فرنسا التي تحبها كل نفس عطوفة إلى حب الناس
أتذكرين إننا قبل مولدنا كنا جنباً على جنب نضطرب , كنا معاً في حجر رومة متحرجين لنبدأ بالعراك ,(4/228)
قبل أن يعرفوا تباين لغاتنا كانوا يعرفون مستقبل مهمتنا
كل واحد من هذين الشعبين كان في آن واحد يهيئ مستقبله , ويرتّب مصير أخيه
فلهذا هززنا نحن الاثنتين الإنسانية إلى أن صارت الأرض كلها أرضنا!
ومن أقصى العالم إلى أقصاه أثارت منازعاتنا السلطات وشيدت عروشاً وقوضت عروشاً
وذلك لكي يسد الواحد منا الطريق في وجهِ الآخر
تلك شعوب اتخذن لها مقدَّماتٍ لنا. فكانت أجيرات سخطنا وغضبنا
لهذا ملانا البحار عواصف , واجتزنا أبواب العالمين الجديدة دون أن نعرف من منا نحن الاثنين كان السابق
أتذكرين؟ ويد كل واحد منا على قائم سيفه. وكلنا مستعد ليضرب. وكلنا واثق بأن الملتقى , مهما كان , أثل إلى المعركة. كنا شاكي السلاح , لا يخطو أحدنا خطوة إلاّ أوقفته قوة الآخر , أو دفعته إلى الأمام.
لقد اجتزنا طول العصور والأحقاب وقطعنا عرض البحار كلها
فأين تقهقرتِ أمامنا؟؟ ومتى تقهقرنا أمامكِ؟؟
سلي أمواج البحار: كل موجة منها قد عرفت إحدى معاركنا
أجل حالت بيننا أحياناً شعوب أخرى. لكننا كنا نتركها لنعاود الكرة على بعضنا بعض , لأننا كنا نلذ جميعاً بتعادلنا في الجلاد
كان كل واحد منا للآخر سراً وجزعاً وحباً , كنا نتقابل بشعارنا
فأية معركة كانت تشرّف أحدنا بالعراك كمعاركنا ونحن الخصمان الباسلان
كان أحدنا ينتزع من حلق الآخر شهادة له ببسالته , وهتاف إعجاب به
وكلانا صب في جام أخيه دمه ممزوجاً بدمعه: أفراح البأس , والآمال بلا حد , والأشجان الشديدة.(4/229)
وكل ما لوَّت الحياة , وكل ما رفعها وأعلاها منذ ألف عام , أعمال تنوءُ بها القوى , ومعارك تحت كل شمس وسماء: هذه هي أفعالنا المشتركة يا فرنسا الصديقة!
متعانقين الآن تحت عب. واحد من الذكرى والندم أصبحنا نتوق إلى الراحة , ضاحكين من الخدع القديمة التي صرنا الآن نزاها ألا عيب. وننظر إلى إقبال سنين جديدة متسائلين هل يمكن أن تثور عواصف أشد من التي أثرناها. والآن نسمع أصواتاً جديدة تتعالى وتتساءل وتتفاخر وتنادي كما كنا ننادي صاخبين , عندما تتدفق جماهيرنا , أتذكرين؟؟
حباً بالحياة ذاتها كان أحدنا يتفحَّص حسام الآخر , فأي دمٍ وأي حسام يفعلان أكثر مما فعلنا؟؟
فيا لها من مدرسة صارمة تعلمنا فيها أن يعرف الواحدُ منا الثاني
نحن الذين تغازينا سواحلنا وتناهبنا منازلنا
من يوم رنّ سيفُ برنّوس وهو واقع في ميزان رومه!
ونحن اليوم نتماسك ثانية جسماً لجسم لصون سلام الأرض بالسهر عليه نقياً من كل دم
فكان لهذه القصيدة أعظم وقعٍ في النفوس , وتناقلتها صحف الأمتين معلقة عليها الكلمات لما تضمنتهُ من الشعور الصحيح والخيال الراقي. انبرى لردّ التحية الشاعر الفرنسوي فرنان غريك , ونحن نقتطف من قصيدته بعض مقاطعها:
أجل أيها الرفاق! كلانا أبلى في القتال بلاءٍ حسناً(4/230)
كان أسطولانا يجوبان البحار , ويطرقان المواني , يبحث الواحد عن الثاني
كان أسطولكم ضخماً قويّاً متغلباً على ثبَج البحر
وكان أسطولنا رشيقاً فتَّاكاً مزيناً بالأعلام وكلاهما ملك البحر والهواء
رآهما العالم من بريطانيا العظمى إلى أميركا يتقاتلان في أماكن لا اسم لها ولا ذكر وقد أصبحت مشهورة بعد معاركنا. . .
والآن , وقد أطرحنا الحقد , يمكننا أن نقص على بعضنا بعض تاريخ مواقعنا الهائلة دون أن نخجل من الماضي
أما جان درك ونابوليون فإن احترامكم وتمجيدكم لها الآن يمحو كلَّ ذكرٍ سيء. . .
بلى بقال عنا معشر الفرنسويين أننا نملأ الأرضَ ضجيجاً , ونصمّ الآذان بمناداتنا بالحرية والمساواة والإخاءِ
بلى ولكننا كثيراً ما نجتزّ رؤوس بعضنا بعش من أجل هذه الكلمات , وذلك ليستفيد العالم!
فلنأتلف يا انكلترا ذات العقل الشريف واليد القوية
فنقوى حينئذٍ على تسكين آلام وسدّ ينابيع الدمّ.(4/231)
عطلة الصيف
هذا هو الجزءُ الأخير الذي يصدر من مجلة الزهور قبل عطلة الصيف. وموعدنا والقراءُ الكرام أوَّل أكتوبر القادم.
أصدرت إدارة هذه المجلة في سنتها الأولى , بعنوان مصر وسوريا عدداً كبيراً ممتازاً جمعت فيه أقوال الكتَّاب والشعراءِ قديماً وحديثاً في القطرين الشقيقين , كان لهُ أحسن وقع في عالم الأدب. وقد عزمت في هذه السنة أيضاً على إصدار عددٍ ممتازٍ في موضوع خاص شأن المجلات الكبرى في أوروبا. ولما كانت الزهور لم تفتأ منذ نشأتها تواصل السعي في إيجاد صلة تعارفٍ بين أدباءِ الأقطار العربية , رأت - إتماماً للفائدة , وإِجابة لرغبة الكثيرين من القرّاء - إن تجعل موضوع ذلك العدد الخصوصي.
مراكش والجزائر وتونس وطرابلس
وسنتجمع فيه خلاصة ما يهم القرّاء معرفتهُ عن تلك البلاد العربية , وحالتها الأدبية والاجتماعية , ومشاهير كتَّابها وشعرائها , ومدارسها وصحافتها وأنديتها , إلى غير ذلك من الشؤون المتعلقة بها. وسنسعى إلى الحصول على الصور والرسوم اللازمة زيارة في التفكهة والفائدة. ونحن نرغبُ إلى قرائنا أن يمد بآرائهم , ويواعدنا بما لديهم من المعلومات عن هذا الموضوع , لتكون هذه الهدية التي نعدُّها لهم أكثر فائدة , وأتمَّ رونقاً.(4/232)
زواج ابنة غليوم الثاني
أو مصالحة أُسرتي هانوفر وهو هنزُلرن 24 أيار 1913
كثر عدد الذين خافوا على الإمبراطور الألمانية من سنة 1913. وذهب القوم في تأويل هذا الخوف وتعليله مذاهب شتى. وقد رووا لنا - وكانت مجلة الزهور في جملة الراوين - ما تنبأ بهِ بعضهم للإمبراطور غليوم الأول من أن سنة 1913 ستكون سنة شؤمٍ وبؤسٍ على أُسرة هو هنزلرلمان , وأنهُ يخشى فيها على الإمبراطورية الألمانية من الانقراض. وها قد مضى من هذه السنة نصفها , ولم نرَ فيها ما يُنذر بتحقيق تلك النبوة , بل إنَّ عامنا هذا لم يحمل حتى الآن في طيات أيامهِ ولياليهِ إلاَّ ما سرّ له الألمان وابتهجوا. فقد وقع فيهِ تذكاران مجيدان كانا داعيةً لإقامة الأفراح والأعياد في ألمانيا عامةً وفي بروسيا خاصةً: أولهما تذكار مرور مئة سنة على قيام الشعوب الألمانية ونهضتها في وجه الفاتح الإمبراطور غليوم الثاني على عرش مملكة بروسيا وإمبراطورية ألمانيا , فاحتفل في الشهر الفائت بالعرس الفضي لملكهِ , كما احتفل بالعرس الفضي لزواجه. وقد شاءَت الأقدار إن تزداد أفراحُ الإمبراطورية الألمانية والسلالة المالكة بحادثٍ لم يكن منتظراً , لا بل كان بعيد الإمكان , ألا وهو مصالحة سلالة هو هنزُلرن المالكة مع سلالة ملوك(4/233)
هانوفر المعروفة باسم برنزويك. فرأينا بهذه المناسبة ذكر لمحة تاريخية عن هذا الحادث الذي علَّقت عليهِ الصحف أهمية كبرى فنقول: لا يخفي أنَّ إمبراطورية ألمانيا الحالية حديثة العهد , نادى بها المتحالفون الألمان وقت سكرهم بخمرة الانتصار على فرنسا , وهم مجتمعون في قصر فرسايل في بداية سنة 1871 وحيَّوا كبيرهم وعميدهم ملك بروسيا بلقب إمبراطور ألمانيا , وذلك انتقاماً لشعوبهم من الفرنسويين إذ كان نابوليون الأوَّل قد ألغى بمعاهدة برسبورغ لقب إمبراطور ألمانيا وذلك في أواخر سنة 1805. وكانت إمبراطورية ألمانيا الأولى التي ألغاها نابوليون قد تأسَّست سنة 962 ميلادية وقد أكملت ترتيب نظامها الأساسي والإداري في أواسط القرن الرابع عشر فكان يرئسها إمبراطورٌ كاثوليكي المذهب تعترف له الشعوب المسيحية الغريبة بميراث ملوك الغرب الرومانيين. وكان ينتخبهُ سبعة أمراء ألمان: أربعة من العلمانيين , وثلاثة من علية الاكليروس. وكان يطلق على كل من هؤلاء الأمراء السبعة لقب المنتخِب , ولكن لما ظهرت الانقسامات الدينية منذ بداية القرن السادس عشر , وكثرت لما ظهرت الانقسامات الدينية منذ بداية
القرن السادس عشر , وكثرت الاضطرابات والحروب والمداخلات الأجنبية , أصبحت سلطة الإمبراطور وهمية وشرفية أكثر مما هي فعلية؛ وصار كلُّ واحدٍ من الأمراءِ يعتبر ذاته مستقلاًّ , حتى أنه لما حدثت الثورة الفرنسوية , كان في الأراضي المعروفة باسم الإمبراطورية الألمانية ما لا يقلُّ عن 350 مملكة وإمارة ودوقية ومدنية حرّة تدّعي كل منها الاستقلال التامّ. وكانت تقسم إلى ثلاث طبقات.(4/234)
1ً - طبقة المنتخبين وهي فوق سائر الطبقات , وكانت مؤلفة من رئيس أساقفة مايانس , ورئيس أساقفة كولونيا , ورئيس أساقفة تريف ومن الكونت بالأتين وملك بوهيما والدوق دي ساكس وأمير برندبورج. وكان قد أُضيف غليهم منتخبان وهما الدوق دي بافاريا في سنة 1624 , والدوق دي هانوفر في سنة 1692. فصار الأمراء المنتخبون تسعة. ثمَّ إن الإمبراطور ضمَّ لقب بوهيما إلى ألقابه , وصار أمير برمدبورج ملكاً على بروسيا في سنة 1701 , والدوق دي هانوفر ملكاً على انكلترا سنة 1714 وانقرض فرع بافاريا سنة 1779. فأصبح لقب منتخب محصوراً في الواقع بخمسة أمراء يعترفون بتابعيتهم للإمبراطور. وبعد حروب الثورة الأولى منح الإمبراطور لقب منتخب لكلٍّ من دوق ورتمبرغ , وأميرهس كاسيل تعويضاً لهما عما خسراه من اراضي التي أخذتها فرنسا.
2ً - طبقة الأمراء وفيها أكثر من 290 أميراً من الأكليروس والعلمانيين , وأول هؤلاءِ الأمراءِ حامل لقب أرشيدوق دوتريش وقد ارتقى صاحب هذا اللقب أريكة الإمبراطورية منذ سنة 1274 , وحصر المنتخبون الملكَ في سلالتهِ فعلياً منذ سنة 1439.
3ً - طبقة المدن الحرّة , وعددها 51 مدينة , أشهرها فرنكفورت حيث كان يصير انتخاب الإمبراطور.
هذه هي الإمبراطورية الألمانية التي ألغاها نابوليون سنة 1805.
ولما سقط هذا العاهل وأتت الدول المنتصرة ترتب هيئة أوروبا في مؤتمر فينَّا سنة 1815 , أصبحت ألمانيا أو البلدان الجرمانية تؤلف تحالفاً(4/235)
أو اتحاداً الاتحاد الجرماني يحتوي على 39 دولة ودويلة , في مقدمتها إمبراطورية النمسا وممالك بروسيا وبافاريا وهانوفر وورتمبرج وساكس. وكانت النمسا تفضّل بقاء هذا الترتيب لأن إمبراطورها كان حاصلاً على رآسة هذا الاتحاد , وسلطتها كانت ممتدَّة على شعوب غير ألمانية كالمجر وشمالي
إيطاليا وبوهيما وبولونيا. أما بروسيا فإنها كانت متضايقة من هذا النظام أولاً لبقائها تابعة للنمسا وبنوع ما تحت سيادتها , وثانياً لأن أملاكها وولاياتها كانت منفصلةً عن بعضها بعض , ومتفرقة إلى أقسام متباعدة الأطراف , وكان فريدريك الثاني أكبر ملوكها قد قضى مدة ملكه الطويلة بالحروب رغبةً في الحصول على توحيد حدود مملكتهِ , فلم يدرك إلاَّ بعض غايتهِ. وعليهِ كان جلّ همّها تغيير الحالة الموجودة في سنة 1815 والتوثب عى جيرانها الألمانيين لتسوية حدودها بضمّ ما هو موافق لأملاكها. وكانت مملكة هانوفر أهم العقبات في سبيل تلك الغاية وكانت مساحتها نحواً من 39 ألف كيلومتر وسكانها أكثر من ثلاثة ملايين. وكان دوقها قد نال لقب منتخب منذ سنة 1692 , وهو المنتخب أرنست أغوستوس؛ وتوفي في 1698 , وفي سنة 1714 صعد ابنه المنتخب جورج على عرش انكلترا فعرِف بالملك جورج الأوَّل , ذلك لأن أقرب نسيب بروتستاني للملكة حنة ستوارت المتوفاة بدون عقب. فجمع بشخصه السلطة على انكلترا وعلى هانوفر. وجعل مؤتمر فينا هانوفر مملكةً سنة 1815. ولكن لما كانت هذه المملكة تحت سلطة ملوك(4/236)
انكلترا لم يكن ملوك بروسيا ليتجاسروا على التحرش بها. فلما توفي وليم الرابع الانكليزي سنة 1837 آلت نوبة في انكلترا إلى فيكتوريا ابنة أخيه. وأما في هانوفر فلما كانت الشريعة تحرّم جلوس النساءِ على العرش آل الملك إلى أخيهِ أرنست الأوَّل حتى سنة 1851 حيث توفي وورثه ابنه جورج الخامس. وفي عهده حدثت حروب فرنسا وسردينيا ذد النمسا ففشلت هذه وخسرت أكثر أملاكها في إيطاليا , كما أن حرب القوم كانت قد أفقدتها ثقة روسيا. فاغتنمت بروسيا هذه الحوادث وعملت بتدابير بسمارك الداهية الدهماء فاضطرت النمسا إلى إتباع سياستها في الوثوب على مملكة الدنمرك وافتتاح ولايتي سلسفيك وهولستين ودوفية لوينبورغ. ولكنَّ اتفاقهما لم يطل فوقع الاختلاف بين المنتصرين وحاول كلٌّ منهما اتخاذ مجلس الاتحاد آلة بين يديه. ولكنَّ الأكثرية انضمت إلى النمسا وفي مقدمتها ملك هانوفر , ودوق ناسو ومنتخب هسّ كاسل. فشهرت بروسيا الحرب عليهم , وما لبث جنودها أن اقتحمت حدود خصومها. وفي أقل من ثلاثة أشهر انتهت الحرب بانتصار بروسيا التام على النمسا وجميع محالفيها؛ وأشهر مواقع هذه الحرب موقعة سادوفا تموز سنة 1866. وعقد الصلح بين بروسيا والنمسا , فقبلت هذه بخروجها من التحالف وبكل ما
تجريه بروسيا في جرمانيا. فأعلنت بروسا ضمَّ مملكة هانوفر ودوقية ناسو وإمارة هسّ كاسّل ومدينة فرنكفورت إلى أراضيها , فأصبحت جميعها ولايات بروسية عادّية ثم أرغمت(4/237)
بروسيا أمراء وملوك الواقعة شمالي نهر المين على الانضمام إليها بتحالف دعي بتحالف دعي تحالف ألمانيا الشمالية. وهكذا أصبحت أراضي مملكة بروسيا كلها متصلة بعضها ببعض لا يحتللها أرض مملكة غريبة. فاحتيج جورج الخامس على سلب مملكته وضمها لبروسيا بمنشور أرسله من فينا إلى جميع ملوك أوروبا. لكن احتجاجه لم يجدهِ نفعاً إذ أن نسيبتهُ وابنة عمهِ فيكتور يا ملكة انكلترا كانت حماةً لولي عهد بروسيا فلم تحرّك ساكناً. وكان احتجاجه سبباً لغيظ ملك بروسيا الذي ضبط حينئذٍ أملاك جورج الخامس الخصوصية وحجز على دخلها ووضعت هذه الأموال في صندوق دُعي بمال أسرة كولف ولما انتصرت بروسيا على فرنسا وتألف من البلدان المنتصرة إمبراطورية جامعة لخمس وعشرين مملكة وإمارة ومدينة حرَّة ولولاية الالزاس واللورين احتج أيضاً جورج الخامس على هذا الانضمام. وفي سنة 1878 توفي جروج الخامس فخلفهُ ابنهُ الوحيد ارنست أغوست المولود سنة 1845 , فأعلن الملوك والحكام وفاة ولدهِ وجلوسهِ بعدهُ معيداً ومكرَّراً احتجاجه على كل ما أجري في ألمانيا منذ سنة 1866 وأنه يكتفي مع حفظ حقوقه بمملكة هانوفر بأن يدعي دوق دي كمبرلند وهو لقب جده في انكلترا قبل أن يكون ملكاً على هانوفر ودوق دي برنزويك ولونبرج. وفي السنة نفسها اقترن بثالثة بنات خريستان التاسع ملك الدنمرك فصار عديلاً لولي عهد انكلترا أدوار السابع وولي عهد روسيا اسكندر الثالث. ولما انقرض فرع أسرتهِ(4/238)
المالك على برنزويك بوفاة غليوم بدون عقب سنة 1884 , كان يجب أن يصير هو دوقاً على برنزويك التي هي إحدى ممالك وإمارات ألمانيا المتحدة ولكن الإمبراطور وكمجلس التحالف رفضاً إعطاءهُ هذه الدوقية ما لم يقبل بضم الهانوفر ويستعيد منشورات اعتراضه السابقة , فرفض؛ وبقيت دوقية برنزويك تحت ولاية وصيٍّ إلى اليوم. وفي العام الماضي 1912 , لما توفي فردريك الثامن ملك الدنمرك فجأةً في همبرغ وتعين ميعاد دفنه في 24 أيار في كوبنهاغ , توجه ابنُ أختهِ وهو بكر الدوق أرنست المذكور في أتوموبيل مجتازاً ألمانيا ذاهباً إلى الدنمرك لحضور المأتم. فحدث اصطدامُ الأتوموبيل , وسقط الأمير الشاب قتيلاً وهو في الثانية والثلاثين من عمره ونقلت
جثته إلى كوبنهاغ فاحتفل بدفنه مع خاله بوقتٍ واحد فكان لهذا الحادث المكدر تأثير سيءٌ في كل العالم لاسيما وأنه كان قد جرت مفاوضات سرية ليتنازل الدوق أرنست عن حقوقهِ لابنه هذا وهو يخضع لما جرى في ألمانيا فيصير دوقاً مالكاً على برنزويك. فسعى الأقارب والأمراء بين الإمبراطور وهذا الدوق التعس الحظّ حتى نجحت مساعيهم بواسطة الحب لأن الابن الوحيد للدوق ارنست , واسمهُ كأبيه , أرنست أغوست , رأى ابنة الإمبراطور وعلق بحبها فتصالحت الأسرتان وخطبت الأميرة للأمير. وفي 24 أيار احتفل بزواجها في برلين في حفلةٍ شائقة سار فيها الإمبراطور مع الدوقة ثم الدوق مع الإمبراطورة , ثم سائر الملوك والأمراء الألمان المتحالفين وأمراء من كل الأسر المالكة. وبلغت التحف والهدايا المقدمة إلى العروسين 12(4/239)
مليون فرنك. وهكذا عاد الصفاءُ بين السلالتين منذ نحو 50 سنة , وعادت دوقية برنزويك إلى أمرائها الأصليين؛ ولم يبق في انكلترا أمراء من الدم الملكي القديم. بل عادوا إلى ألمانيا , وهي مسقط رأسهم الأوَّل. ولم يعد باقياً أثر للعداوات والمناوآت القديمة التي كانت بين بروسيا ومخاصمها في ألمانيا لأن الإمبراطور الألماني أضحى على وفاق تام مع جميع الذين غلبهم جدُّه ووزيرهُ بسمارك.
سليم خطار الدحداح
حكمة قاضٍ
من أغرب الأحكام الصينية أن أربعةً من تجار القطن خافوا أن يسطوا الفأر على قطنهم فابتاعوا هرّاً بأن دفع كل واحد منهم ثمن فخذ. فحدث أن الهرّ جرح بفخذٍ من أفخاذه فربط جرحه بالقطن وبلَّ بالغا. . فقضت الصدفة التعسة بالتهاب الضماد وفرار الهرّ إلى أكداس القطن فأحرقها. فأقام أصحاب الأفخاذ الثلاث السليمة الدعوى على صاحب الفخذ الجريح. فأصدر القاضي حكمهُ بأن الفخذ الجريح لم يحمل الهرّ إلى القطن ولكن الأفخاذ السليمة هي التي حملته. فعلى أصحابها أن يدفعوا ثمن قطن صاحب الفخذ الجريح.
ثلاثة لا يعرفون إلاَّ في ثلاثة مواضع. لا يعرف الشجاع إلاَّ عند الحرب. ولا الحكيم إلاَّ عند الغضب. ولا الصديق إلاَّ عند الحاجة إليه.
للمستعصمي(4/240)
الحركة الصهوينة
الحركة الصهوينة حركة ملية اجتماعية ذات قواعد مقرَّرة يرمي بها فريقٌ من بني إسرائيل إلى إيجاد وطنٍ خاص لشعبهم تحقيقاً لما ورد في نبؤات أرميا ويوئيل من أنهُ تأتي أيام يردُّ الله فيها سبي شعبه إسرائيل فيقمون مدنهم الخربة , ويسكنون بها , ويغرسون كروماً , ويشربون خمورهم وقوله بلسان عاموس النبي: واغرسهم في أرضهم , ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم وقوله بلسان أشعيا وميخا: إن الخلاص يأتي من صهيون؛ والقدس تكون المركز الذي تصدر منه الشريعة ثم ما جاء في التلمود وغيره مشيراً إلى أن المسيا بن يوسف يجمع بني إسرائيل حوله ويزحف على القدس , ويتغلب على قوة الأعداء ويعيد العبادة إلى الهيكل , ويقيم ملكه. وقد طفق القوم يفكرون في هذا الموضوع , ويحاولون تنفيده بعد أن خرَّب طيطس هيكل سليمان في سنة 70 للمسيح. ولكن لم يتجاوز تفكيرهم حد الكتابة شعراً ونثراً حتى دعاهم إلى العمل شبتاي زيبي في القرن السابع عشر , فلبّاه بعضهم؛ إلاَّ أنه لم يفلح في ما أراد. ثم حاول غيره الاقتداء بهِ فتألفت العصابات وأُنشئت الجمعيات , ورمى القوم بأبصارهم على أميريكا تارة وغلى فلسطين طوراً. وجدّ الكتَّاب في التذكير والحض وتكوين رأي إسرائيلي عام. وكتب سلفادور المؤرخ اليهودي رسالة في سنة 1830 قال فيها: إن مجرَّد عقد مؤتمر في أوروبا يعيد فلسطين(4/241)
إلى اليهود. فتألفت جمعية الأليانس الاتحاد الإسرائيلي وبدأ القوم باستعمار فلسطين فأنشأوا مدرسة مكوى إسرائيل على مقربة من يافا. ثم ظهرت كتب ورسائل مختلفة في الموضوع أهمُّها كتاب واجبات الأمم في أن يُعيدوا إلى الشعب اليهودي قوميته ورسالة إعادة القومية اليهودية وفي هذه الرسالة التي نشرت سنة 1868 صرَّح فرنكل لأوَّل مرة بإعادة تشييد حكومة يهودية في فلسطين وذلك بشراء البلاد من تركيا وقال - من باب الاحتياطّ الكلي -: أنه إذا لم يكن ابتياع فلسطين ميسوراً فلنطلب وطناً معيناً في جهة أخرى من الكرة الأرضية لأن الغاية الوحيدة هي إن يكون لليهود وطنٌ وأن يكونوا أحراراً فيه وألَّف المسيو موريتس ستينشيدر حوالي سنة 1840 جمعية من طلبة المدارس الإسرائيلية لنشر فكرة استعمار فلسطين. ثم أُلِّفت سنة 1866 الجمعية الفلسطينية العمومية وجمعية الاستعمار السوري الفلسطيني. وخاطب المستر (0لورانس الفانت الحكومةَ العثمانية في مدّ خطٍّ حديدي في وادي الفرات لإسكان مهاجري اليهود على جانبيه وإنشاء مهجر لليهود في نواحي السلط فلم يُجب له
طلب. ولكن القوم لم ينثنوا عن سعيهم في جمع المال وتأليف الجمعيات هنا وهناك حتى تمكنوا في سنة 1874 من إنشاء أول مستعمرة إسرائيلية في فلسطين. وبينما هم جدٍّ واجتهاد ظهرت في أوربا حركة الانتيسيميتزم أي مضادة اليهود فصرفت فريقاً كبيراً منهم عن التفكير في مسئلة الاستعمار وطفقوا يحاربون أعداءهم بقوة القلم حيناً وبقوة المال حيناً آخر. ولكن(4/242)
هذه الحركة اتسع نطاقها وأخذت حكومات عديدة ترغم اليهود على الجلاء عن بلادها فزاد تشبثهم بإيجاد ذيَّاك الوطن المنتظر لجمع شملهم وتحريرهم من عبودية الحكومات المتفننة في إيذائهم. ونشر المسيو هرتسل العالِم الإسرائيلي النمسوي في سنة 1895 كتابه اليودنستات (0الوطن اليهودي وقال فيه: إن الانتيسيمتزم خطر لا يُهدّد اليهود فقط بل العالَم بأسره , ولا يمكن اجتنابه لأن اليهود شعب يتعذَّر امتزاجه بمن حواليه في الحياة الاجتماعية؛ فلا بدَّ من تملكهم متسعاً من الكرة الأرضية يكفيهم لأن يجتمعوا فيه ويقيموا لهم وطناً خاصاً بهم ثم اقترح تشكيل لجنة تقوم بالأعمال الأولية العلمية والسياسية وشركة أللاستعمار يكون رأس مالها خمسين مليون جنيه انكليزي لامتلاك الأرجنتين أو فلسطين وإدخال اليهود إليها بطريقة منظمة. فتقبَّل اليهود وجمعياتهم رأيه بالرضي والارتياح وعينوه رئيساً للجمعيات التي اشتركت في تنفيذ اقتراحه فدعاها إلى مؤتمر عام عقدوه في مدينة باسّل وحضره 204 أعضاء يمثل بعضهم جمعيات مختلفة وقرروا فيه ترويج تعليم اللغة العبرانية وإنشاء لجنة خصوصية للآداب اليهودية وتأسيس صندوق مالي للإعانة وتأليف جمعية عاملة تنفذ اقتراحات المؤتمر فألِّفتْ هذه الجمعية واشتغلت بطبع خطب هرتسل وماكس نوردو وأعدَّت ما يلزم لتأليف نقابة استعمارية إسرائيلية. وانعقد المؤتمر الثاني في أغسطس سنة 1898 بمدينة وقرر تأليف النقابة وجعل اللسان العبراني لغة قوم موسى وتربية الإسرائيليين(4/243)
بحسب قواعد التهذيب الحديثة. ثم انعقد المؤتمر الثالث في 18 أغسطس سنة 1899 بمدينة باسل وقرئت فيه عدَّة تقارير دلَّت على نجاح الجمعيات الصهوينة وتكاثر عدد المنتظمين في سلكها , واقترح بعضهم استعمار قبرص فرفض طلبه بدون مناقشة فيه. وانعقد المؤتمر الرابع في 16 أغسطس سنة 1900 بمدينة لندن. وتمكن هرتسل من مقابلة السلطان عبد الحميد مرَّتين فأنعم جلالته عليه بالنيشان المجيدي. ثم انعقد المؤتمر الخامس في مدينة باسل في يوم 26 دسمبر سنة 1901 وتقرَّر
فيهِ عقد المؤتمر مرة كل سنتين وأن تنعقد في الفترات الواقعة بين المؤتمرات اجتماعات يحضرها أعضاءُ الجمعية الكبرى. ولاحظ زعماء الإسرائيليين أنهم غير ناجحين في استعمار فلسطين فخاطبوا فخامة اللورد كرومر في استعمار العريش فلم تجبهم الحكومة المصرية جواباً يحسن الوقوف عنده. ثمّ خاطبوا الحكومة الانكليزية في استعمار إحدى الجهتين وقال المسيو هرتسل: إن شرقي أفريقيا ليست صهيون ولا يمكن أن تكون كذلك وقال الأستاذ ماكس نوردو: لو أمكن إحداث مثل هذا المقر - يعني أقريقيا الشرقية - فهو لا يكون إلا دار عزلة مظلمة وتوفي هرتسل في 3 يوليو سنة 1903 فوصفتهُ دائرة المعارف(4/244)
الإسرائيلية بقولها: إنه السياسي اليهودي الوحيد الذي كرَّس حياتهُ لخدمة قومه واستطاع أن يقوم بما لم يستطعهُ فرد ولا جماعة في سبيل إعلاء شأن الصهوينة وتثبيتها؛ فقد كانت هذه المسئلة في بدئها مسئلة خيرية زراعبة , فصيرها هرتسل اقتصادية سياسية وانتخب الأستاذ ماكس نوردو الفليسوف الألماني المعروف خلفاً لهرتسل في رياسة المؤتمرات والجمعية العاملة؛ فرأس المؤتمر السابع الذي عقد في 27 يوليو سنة 1905 وصدق على قرار خلاصته أن الهيئة الصهوينة تبقي ثابتة لا تتحول عن إعداد وطن لليهود في فلسطين. ولا تزال المؤتمرات الإسرائيلية تعقد مرة كل سنتين في عاصمة من عواصم أوربا والجمعيات الصهوينة تنتشر في جميع الأقطار الشرقية والغربية ويتسع نطاقها فبلغت ألوفاً واشترك فيها مئات الألوف من الإسرائيليين على اختلاف طبقاتهم يمدونها بالآراء ويساعدونها بالمال كلٌّ على قدر طاقته؛ فتمكنوا من إنشاء المصرف اليهودي الاستعماري ثمَّ صندوق الذخيرة الوطنية الإسرائيلية والمقصود بهذه الذخيرة المال الذي يجمعهُ اليهود لاسترداد أرض فلسطين وجعلها مقراً لليهود المتشتتين في أنحاء المعمورة المعرضين لاضطهادات الحكومات المختلفة وازدرائها بهم. ومركز رياسة اللجنة العاملة لصندوق الذخيرة في مدينة كولونيا الألمانية. وقد بلغ رأس ماله 120 ألف جنيه انكليزي في سنة 1901. وللقوم في جمع المال طرق مختلفة أبانوها في منشوراتهم المطبوعة(4/245)
بالفرنسوية والانكليزية والألمانية؛ وأهمها طريقة الصناديق الخصوصية وهي صناديق مقفلة ذات ثقب منهُ النقود , ويرسل منها صندوق لكل من أراد فيضيع فيه ما يفيض عن نفقاته أو ما يقرّره على ذاته أسبوعيَّا أو شهريّاً ثم يأتي مندوب الجمعية في
وقتٍ معيّن ويفتح هذا الصندوق ويأخذ ما فيه ويقفله. وتقول الجمعية في نشراتها أن الادّخار في الصندوق الخاص هو خير وسيلة لتدريب الصغار على معرفة الواجب عليهم نحو شعبهم. ومنها طوابع البريد والتلغراف وتذاكر التهنئة والتعزية: وهي أوراق خاصة يبتاعها الصهويونيون ويستخدمونها في مكاتباتهم الخاصة. ومنها الكتاب الذهبي: وهو سفر مطبوع على ورق صقيل ومجلد تجليداً مزخرفاً فخماً يشتمل على اسم مَنْ يدفع للجمعية 10 جنيهات. ومنها دفاتر المذكرات: وهي تحتوي على قلم رصاص وتقويم وكمية من ورق الكتابة تخصص لتدوين ما يتبرع الصهونيون بهِ في الاحتفالات العامة والخاصة لتنفيذ فكرة الصهيوينة. ومنها أشجار الزيتون. فكل من يدفع 20 غرشاً تُغرَس باسمه شجرة زيتون في إحدى مزارع الاستعمار الصهيوني. ومنها تسجيل الأراضي باسم أهل الخير. فكل من يدفع جنيهين يشتري باسمهِ - حساب الجمعية - دونم وترسل إليه حجة تملكه. ولا تفتر جمعية الذخيرة يوماً عن إيجاد طرق جديدة لحث الإسرائيليين على البذل. وقد تمكنت بأن تأتي بما جمعته بأعمال خطيرة جليلة أهمّها شراء(4/246)
ستة آلاف دونم من الأراضي على مقربة من بحيرة طبريا , وإنشاءُ مزرعتين كبيرتين للزيتون في حولدا وبن شامن وعدة حدائق لزراعة البرتقال والليمون والاترنج في شدراح وجنينة صامويل. أما المدارس الصناعية والزراعية والعالية التي أنشئت بمال الذخيرة في حيفا ويافا والقدس لتربية النشء الإسرائيلي وتعليمه فحدّث عنها ولا حرج. وهكذا قل عن المستعمرات الزراعية وبيوت العمَّال التي أنشئت في أنحاءِ فلسطين فتحوّل بها القفر البلقع إلى روض أزهر. وقد أتاحت لي الظروف التعرف إلى جماعة من المشتغلين بهذا الموضوع في القاهرة والاختلاط بهم فعلمت أن لهم مندوباً خاصاً يتردّد على بعض المدارس الابتدائية ويلقي على تلاميذها دروساً يبين فيها حقيقة الصهيوينة وما يجب على كل إسرائيلي عمله لتنشيطها ومسعدتها ولهم مجلة فرنساوية شهرية اسمها النهضة الإسرائيلية يوافيها أئمة الكتاب الصهيونية وأنصارها. وقيمة اشتراكها السنوي ثلاثة فرنكات. ولهم نادٍ خاص كبير في حيّ الإسماعيلية. ونحو عشر جمعيات تشتغل بجمع المال وإرساله إلى اللجنة الرئيسية في كولونيا. ويعني صهيوني , مصر بمطالعة كل ما يردُ عنهم في الجرائد المحلية ويعقبون عليه. وقد انعقدت الجمعية العاملة للصهيونيين في مدينة فينا يوم 10 يونيو مقدمة
للمؤتمر الذي سينعقد في شهر سبتمبر القادم المسائل المعروضة عليه يأخذ في تنفيذها بقوة مالهِ ورجالهِ
توفيق حبيب(4/247)
أثر عرابي ثمين
في مبحث الصوت , وأسباب حدوث الحروف
ممَّا يقولُهُ بعضُهم في الموازنة بين علم الشرق في الزمن الغابر , وعلم الغرب في الوقت الحاضر , أنَّ تقدُّم العلم الغربيّ مسيَّرٌ في الغالب بيد الصناعة , وأن للغاية الاقتصادية تأثيراً على مبدئه. فهو مثلُ الحضارة الغربية عمليٌّ أكثر منهُ نظريّ , وإلى الماديّ أقربُ منهُ إلى الأدبيّ. أمَّا العلم الشرقيّ فإنّ مدينة الشرق لم تنحُ بهِ نحواً خاصاً. ولذلك كان ينمو مع المدارك البشرية على قدرها. ولو أتي له الاستمرار في طريقهِ حتى يُدرك عصرَ الطباعة فالبخارِ والكهرباءِ , لكان لهُ في المستقبل شأنٌ غيرُ شأنهِ في الماضي. هذا ما يقولُهُ بعضهم في الموازنة بين العلمين؛ ويقولون زيادة على ذلك إنَّ العلمَ النظريَّ لم يبلغْ في أوربا اليومَ المنزلة التي بلغها في آسيا من قبل. ولعلّ الخاطرَ الأوّل الذي خطر لي عند إطّلاعي على رسالةِ الرئيس أبي عليّ الحسين بن سينا في أسباب حدوث الصوت والحروف كان من هذا القبيل , فقد قلتُ في نفسي ساعتئذٍ: لماذا تفيضُ الفلسفةُ الطبيعية الحديثة في بيان أشكالِ النور وألوانهِ وتحلُّله وتركّبهِ عند في بيان أشكال الصوتِ وأوصافهِ عند مرورهِ بالحنجرة وعبث اللسان بهِ في أطراف الفم , كما فعل ابن سينا قبل تسعمائة سنة في الكتاب الذي هو موضوعُ بحثنا الآن؟ نبهّني إلى كتاب ابن سينا عالمٌ جليلٌ محقّق , فرأينهُ من أنفس مدّخرات خزانة العالِم الفاضلِ أحمد تيمور بك , ولكنهُ واأسفاه! قد تناولتهُ يدُ التحريف والتصحيف حتى لا يكاد الإنسانُ يثقُ ببقاء جملةٍ منهُ على أصلها. فزادني هذا الأمرُ شوقاً إلى نشره وإحيائهِ تعريفاً للخلفِ بمآثر السلَف , وإعلاماً بما للعرب(4/248)
من فضيلة السبق في تحقيق أسباب حدوث الصوت , وخدمةً للّغة بلفْت الأنظار إلى مبحثٍ آخر من مباحثها , وهو أسباب حدوث الحروف وكيفية حدوثها. واصلنا البحث عن نسخة ثانية من هذا الأثر العربيّ الثمين , واستعنا بكثير من الإخوان , إلى أن عثر صديقي المسيو ماسينيون أستاذ تاريخ مذاهب الفلسفة العربية في الجامعة المصرية على اسم هذا الكتاب في فهرس المكتبة البريطانية في لوندرة ثمَّ أراد أن يكون عملهُ أكملَ فكتب إلى من أخذ لنا نسخةً فطوغرافية منهُ؛ فإذا هي لا تقلُّ عن النسخة الأولى تحريفاً , إلا أنَّ معارضة النسختين ومراجعة الكتب التي نقل أصحابها عن رسالة الحروف لابن سينا مثل كتابي
المواقف والمقاصد , وكتاب التفسير الكبير للفخر الرازي , ومبحث تشريح الحنجرة واللسان من قانون ابن سينا , قد صححت لنا الأغلاط التي يظهر أنها هي التي حالت دون عناية المستشرقين بنشر الكتاب: فظهرت لنا من كليهما نسخة تغلب الصحة عليها , ويطمئنُّ القلب إليها.
الرسالة اسمها أسباب حدوث الحروف وهي في ستة فصول هذا بيانها:
الفصل الأول - في سبب حدوث الصوت ,
الفصل الثاني - في سبب حدوث الحروف ,
الفصل الثالث - في تشريح الحنجرة واللسان ,
افصل الرابع - في الأسباب الجرئية لحرفٍ حرفٍ من حروف العرب ,
الفصل الخامس - في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب ,
الفصل السادس - في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تُسع
يقول ابن سينا في سبب حدوث الصوت:
أظنُّ أنَّ الصوتَ سببهُ القريب تموُّجُ الهواءِ دفعة وبقوة وبسرعة من أيّ(4/249)
سبب كان. ثم ذلك الموج يتأدّى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموّجه فتحسّ به العصبة لمفروشة في سطحه. والذي يُشترط فيهِ من أمر القرع عساه أن لا يكون سبباً كليّاً للصوت , بل كأنهُ سببٌ أكثريّ؛ ثم إن كان سبباً كليّاً فهو سبب بعيدٌ , ليس السببَ الملاحق لوجود الصوت , والدليل على أن القرع ليس سبباً كليّاً للصوت أن الصوت قد يحث أيضاً عن مقابل القرع وهو القلع.
فإذن العلة القريبة - كما أظن - هو التموّج
فالتموّج نفسهُ - كما يقول ابن سينا - هو الذي يفعل الصوت
وأما حال التموّج من جهة الهيئات التي تستفيدها من المخارج والمحابس في مسلكه فتفعل الحروف.
وتعريف الحرف في كتاب ابن سينا هو هيئة للصوت عارضة لهُ يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدّة والثقل تميزاً في المسموع
والحروف بعضها - من حيث الصوت - مفردة؛ وبعضها مركبة. فالمفردة تحدث عن
حبسات تامة للصوت - أو للهواء الفاعل للصوت - تثبعها أطلاقات دفعة , والمركبة تحدث عن حبسات غير تامة لكن تتبعها أطلاقات. والمفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق , وذلك أن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحس فيه بصوتٍ حادث عن الهواء وهو مستكن بالحبس , وزمان الإطلاق لا يحس فيه بشيء من هذه الحروف لأنها لا تمتد في الزمان الذي لا يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق.
ويقول ابن سينا في تشريح الحنجرة أنها مركبة من غضاريف ثلاثة:
1 - الغضروف الدرقي , وهو موضوع إلى قدّام ويناله الحبس في المهازيل(4/250)
عند أعلى العنق تحت الذقن. وشكله شكل القصة , حدبته إلى خارج وإلى قدام وتقيعره إلى الداخل وإلى خلف
2 - عديم الاسم , وهو خلف الدرقي مقابل سطحه ,
3 - الغضروف الطهر جاري , وهو كقصعة مكبوبة على الغضروفين السابقين ويقول في تشريح اللسان أنه مركب من ثماني عضل: اثنتان تأتيان من الزوائد السهمية التي عند الأذن يمنةً , ويسرة , وتتصلان بجانبي اللسان , فإذا تشنجتا جذبتا جملة اللسان إلى قدام فتبعها جزء منه وامتد وطال. واثنتان من العضلين السالفين من أضلاع هذا العظم تنفذان بين المعرضين والمطولين ويحدث عنهما توريب اللسان. واثنتان موضوعتان تحت هاتين وإذا تشنجتا بطحتا اللسان.
هذا ملخص الفصول الثلاثة الأولى؛ وكلها مقدمات لبيان كيفية حدوث كل حرف من الحروف العربية والحروف الأخرى التي توجد فيما عرفه ابن سينا من لغات آسيا المنتشرة يومئذٍ في فارس وما يليها. وهو يقول مئلاً في بيان كيفية لفظ حرف الخاء أنهُ يحدث من ضغط الهواء إلى الحدّ المشترك بين اللهاة والحنك ضغطاً قويّاً مع إطلاق , تهتزّ فما بين ذلك رطوبات يعنف عليها التحريك إلى قدَّام , فكلما كادت تحبس الهواء زوحمت , وقسرت إلى خارج في ذلك الموضع بقوَّةٍ. والقاف يحدث حيث تحدث الخاء ولكن بحبس تامّ. وأما الهواء فمقداره ومواضعه فذلك بعينه. ويقول في كيفية لفظ الجيم أنهُ يحدث من حبس تام بطرف اللسان وبتقريب للجزء القدّم من اللسان من سطح الحنك المختلف الأجزاءِ
في النتوءِ والانخفاض مع سَعة من ذات اليمين واليسار وإعداد الرطوبة , حتى إذا أطاق نفذ الهواءُ في ذلك المضيق نفوذاً يصفر لضيق المسلك , إلا أنهُ يتشذب لاستعراضهِ ويتمم صفيرهُ خللُ(4/251)
الأسنان وتنقص من صفيره وترده إلى الفرقعة الرطوبةُ المندفعة فيما بين ذلك متفقعة , ثم تتفقأ , إلا أنها لا يمتد بها التفقُّع إلى بعيد ولا تتسع , بل تفوقها في المكان الذي يطلق فيه الحبس. والشين تحدث كما يحدث الجيم بعينه ولكن بلا حبس البتة , فكأنما الشين جيم لم يحبس وكأن الجيم شين ابتدأت بحبس ثم أطلقت. ويقول في كيفية لفظ الصاد أن الذي يفعله هو حبس غير تامّ أضيق من حبس السين وأيبس وأكثر أجزاء حابس طولاً إلى داخل مخرج السين وإلى خارجه حتى يطبق اللسان أو يكاد يطبق على ثلثي السطح المفروش تحت الحنك والمنخر ويتسرَّب الهواء عن ذلك المضيق بعد حضر شيء فيه من وراء ويخرج من خلل الأسنان , وأما السين فتحدث عن مثل حدوث الصاد إلاَّ أن الحابس من اللسان فيه أقلّ طولاً وعرضاً فكأنها تحبس العضلات التي في طرف اللسان , لا بكليتها بل بأطرافها. ويقول في وصف الفاء التي تكاد تشبه الباء ف - أنها تقع في غلة الفرس عند قولهم فرندي9) تفارق الباء لأنهُ ليس فيها حبس تام. وتفارق الفاء بأن تضييق مخرج الصوت من الشفة فيها أكثر وضغط الهواء أشد حتى يكاد يحدث بسببه في السطح الذي في باطن الشفة اهتزاز. ومن ذلك الباء المشدّدة ب - الواقعة في لغة الفرس عند قولهم ببروزي وتحدث بشد قوي للشفتين عند الحبس وقلع بعنف وضغط الهواء بعنف.
وأما الفصل الأخير فهو من أغرب المباحث وألطفها وأكثرها حاجة إلى الدرس(4/252)
والبحث والتدقيق لأن ابن سينا حاول أن يأني فيها لكل واحد من الحروف العربية بما يشبهه من الحركات الغير النطقية , مثل صدور صوت يشبه حرف القاف عن شق الأجسام وقلعها. والغين عن غليان الرطوبة في أجزاء كبار تندفع إلى جهة واحدة. والكاف عن قرع كل جسم صلب كبير على بسيط آخر صلب مثله. والشين عن نشيش الرطوبات وعن نفوذها في خلل أجسام يابسة نفوذاً بقوة. والطاء عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان بل ينحصر هنالك هواءٌ له دويٌّ. والتاء عن قرع الكف بأصبع قرعاً بقوة. والفاء عن حفيف الأشجار.
وبعد فإن الذي يطالع الرسالة كلها يظهر له أن ابن سينا كان جديراً بأن يقول في آخرها:
إني قد بلغت الكفاية , وعبّرت عن المقداد الذي تبلغه مني المعرفة. وقد أهداها إلى الأستاذ أبي منصور محمد بن علي بن عمر الخيَّام وهو الذي اقترح عليه تصنيفها , ولا يقل أن يكون أبو منصور هذا حفيد الخيام الخراساني صاحب الرباعيات لأن الخراساني كان معاصراً للرئيس ابن سينا وتلميذاً له. وعلى كل حال فهذا الكتاب الصغير نموذج للعلم الشرقي الذي لو أتيح له الاستمرار في طريقه حتى يدرك عصر الطباعة فالبخار والكهرباء لكان له شأن غير شأنهِ.
القاهرة
محب الدين الخطيب
لا يتعادل الحبُّ بين اثنين؛ بل يكون قويّأً في إحداهما , وهذا الذي يتألَّم , وضعيفاً في الآخر , وهو الذي يضجر.
إرباً بنفسك أن تكون الحبيبَ الذي يلي حبيباً جار أو ظلم؛ لأن الثأر يؤخذ منكَ وأنت يرىٌ من الذنب(4/253)
في رياض الشعر
وعشنا على بؤسٍ
ليالي , أبلي من همومي وجدّدي ... لكِ الأمرُ , لا تَقوى على ردّه يَدِي
فما أرتجي والأربعون تصرَّمت ... ولا عيشَ إلاَّ ينتهي حيثُ يبتدي
سكتُّ سكوتاً لا يَربكِ امتدادُهُ ... فلا خاطري باقِ ولا الشعر مُسعدي
ولا فيَّ من روح الشبابِ بقيةٌ ... ولستُ بمشتاق ولستُ بموجدِ
حزنتُ على الماضي ضلالاً ومنْ يَعشْ ... كما عشتُ لم يحزنْ ولم يتجلَّدِ
وماليَ منهُ خاطرٌ غير أنني ... عدلتُ فلم أفتكْ ولم أتعبَّد
سقى الله داراتِ القرافةِ ديمةٍ ... ترفُّ على قوم هنالك هُجَّدِ
تعوَّدَ كلٌّ بؤسها ونعيمَها ... وعشنا على بؤسٍ ولم نتعوَّدِ
أحنُّ إلى تلك المراقدِ في الثرى ... ولو استطيعُ اليومَ لاخترتُ مرقدي
فأنزلتُ جسمي منزلاً لا يملّهُ ... يكونُ بعيداً عن أعادٍ وحُسَّدِ
وما يتمنّى الحرُّ في ظلّ عيشةٍ ... تمرُّ لأحزارٍ وتحلو لأعبُدِ
كأنَّ بها وقراً على كلّ كاهلٍ ... فمن يتكبَّدْ حمَلهُ يتكبدٍ
لقد أتعبني , والمتاعب جمةٌ ... مسيرةُ يومي بين أمسَي والغدِ
ألما يئنْ أن يستريح مجاهِدٌ ... ألما يئنْ أن يبلغَ المنهلَ الصَّدِي
تزهدتُ في وصل المعالي جميعها ... ومن يَطَّلبِها كاطلابيَ يزهدِ
وبتُّ تساوت في فوأدي مناهجٌ ... تُؤدّي لخفض أو تؤدي لسؤدُد(4/254)
وإنيَ في بيتٍ صغيرٍ مهدَّمٍ ... كأنيَ في قصرٍ كبيرِ مشيَّدِ
عنا اللهُ عن قومٍ أتانيَ غَدْرُهم ... فربَّ مسيءِ لم يُسئ عن تعمُّدِ
وكم من نفوسٍ يستطيلُ ضلالُها ... ولكن متى ما تُبصرِ النورَ تهتدِ
فزعتُ من الآمالِ باليأس عائداً ... فإِن تَدْنني منها اللُباناتُ أبعدِ
فلا ترتعي مني بقلبٍ معذَّبٍ ... ولا تنجلي مني لطرفٍ مسهَّدِ
فيا ريحُ إن يعصفْ بيَ الشجو سكّني ... ويا غيثُ إن يُضرْمنيَ الوجدُ أخمد
ويا ساكناتِ الطير في دولة الدُّجى ... أرى , إن دعاكِ الصبحُ , أن لا تغّردي
لديَّ شكاياتٌ وأنتِ شجيَّةٌ ... فإِن تستطيبيها لشجوكِ أنشدي
ولا تحسَبي التقليدَ يذهبُ حسنَها ... فكم حسناتٍ قد أتت من مقلّدِ
تركتُ الغنى لا عاجزاً عن طلابهِ ... وأنزلْتُ نفسي من منازلِ محتدي
وهذي بحمدِ الله مني براَءةٌ ... فيا أفقُ سجّلها ويا أنجمُ اشهدي
وليّ الدين يكن
إلى الله
يا ربِّ أين تُرى تقامُ جهنَّمُ ... للظللين غداً وللأشرارِ
لم يُبقِ عفوُكَ في السماواتِ العلى ... والأرضِ شبراً خالياً للنار
يا ربّ أهلْني لفضلك واكفني ... شَطَطَ العقولِ وفتنةَ الأفكارِ
ومرِ الوجود يشفَّ عنك لكي أرى ... غضبَ اللطيف ورحمةَ الجبَّارِ
يا عالِمَ الأسرارِ حسبيَ محنةً ... علمي بأنك عالمُ الأسرارِ
أخلقْ برحمتك التي تسَعُ الورى ... ألاَّ تضيقَ بأعظمِ الأوزارِ
إسماعيل صبري(4/255)
لكنَّ مصراً
ناظم هذه القصيدة شاعر مطبوع , عرفته مصر يوم كان ينشر في صحفها باكورة ثمار قريحته. ثم نشر هنا ديوانه , فتوسمنا فيه سليقة شعرية ما زالت تنجلي في كل ما نظمه بعدئذ. وقد أرسل إلينا من الولايات المتحدة - حيث هو يقيم الآن - القصيدة الآتية يحيي بها مصر ويحن إلى وادي النيل:
أشقى البرية نفساً صاحب الهمم ... وأتعسُ الخلق حظاً صاحبُ القلمِ
عافَ الزمانُ بني الدنيا وقيّدَهُ ... والطيرُ يُحبَسُ منها جيّدُ النغَمِ
وحكّمت يدُه الأٌلامَ في دمِه ... فلم تصنهُ ولم يعدل إلى حكمِ
لكلّ ذي همةٍ في دهرهِ أملٌ ... وكلُّ ذي أمل في الدهرِ ذو ألمِِ
ويلُ الليالي لقد قلّدنني ذرياً ... أدنى إلى مهجتي من مهجةِ الخصمِ
ما حدثتني نفسي أن أحطّمَهُ ... إلاَّ خشيتُ على نفسي من الندمِ
فكلما قلتُ زهدي طارد كلَفني ... رجعتُ والوجدُ فيهِ طاردٌ سأميِ
يأبى الشقاءُ الذي يدعونهُ أدباً ... أن يضحكَ الطرسُ إلا إن سفكتُ دمي
لقد صحبتُ شبابي واليراع معاً ... أودي شبابي. . . فهل أبقي على قلمي؟
كأنما الشعراتُ البيضُ طالعةً ... في مفرقي أنجمٌ أشرقنَ في الظُلمِ
تضاحك الشيبُ في رأسي فعرّض بي ... ذو الشيب عند الغواني موِضعُ التُهمِ
فكلُّ بيضاء عند الغيدِ فاحمةٌ ... وكل بيضاء عندي ثغرُ مبتسمِ
قل للتي ضحكت من لَّمتي عجباً ... هل كان ثمَّ شبابٌ غير منصرمِ
قد صرتُ أنحلَ من طيفٍ وأحير من ... ضيفٍ واسهرَ من راعٍ على غنمِ
وليلةٍ بتُّ أجني من كواكبها ... عقداً كأني أنالُ الشْهبَ من أمّمِ
لا ذقَ طرفي الكرى حتى تظلَ يدي ... ما لا يفوزُ به غيري من الحلُم(4/256)
ليس الوقوفُ على الأطلال من خُلُقي ... ولا البكاءُ على ما فاتَ من شيَمي
لكنّ مصراً وما نفسي بناسيةِ ... ملكية الشرق ذات النيلَ والهرمِ
صرفت شطرَ الصبي فيها فما خشيت ... رجلي العثارَ ولا نفسي من الوصمِ
في فتيةٍ كالنجومِ الزُهر أوجهُهم ... ما فيهمَ غير مطبوعٍ على الكرمِ
لا يقبضونَ مع اللأواء أيدَيهمُ ... وقلما جادَ ذو وَفر مع الأزمِ
في ذمة الغربِ مشتاقٌ ينازعهُ ... شوقٌ إلى منهبطِ الآياتِ والحِكَمِ
ما تغرب الشمسُ إلا أدمعي شفقٌ ... تنسى العيونُ لديهِ حمرةَ الغيمِ
وما سرت نسماتٌ نحوها سحراً ... ألا وددتُ لو أني كنت في النسمِ
ما حالُ تلك المغاني بعد عاشقها ... فإِنني بعدها للسُهد والسقمِ
بين الجوانحِ همٌّ ما يخامرُني ... ألا وأشرقني بالباردِ الشمِ
جادَ الكنانة عني وابلٌ غَدِقٌ ... وإن يكُ النيل يغنيها عن الديمِ
الشرقُ تاجٌ ومصرٌ منه درَّتهُ ... والشرقُ جيشٌ ومصر حاملُ العلَمِ
هيهات تطرفُ فيها عينُ زائرها ... بغير ذي أدبٍ أو غير ذي شمم
أحنى على الحرّ من أمٍّ على ولدٍ ... فالحرُّ في مصرَ كالورقاء في الحَرمِ
ما زلتُ والدهرُ تنبو عن يدي يدُهُ ... حتى نبتْ ضلةً عن أرضها قدمي
الولايات المتحدة
إيليا أبو ماضي
مكارم الأخلاق
سلوتُ بحمد اللهِ عنها وأصبحت ... دواعي الهوى من نحوِها لا أجيبها
على أنني لا شامتٌ إن أصابها ... بلاءٌ ولا راضٍ بوجهٍ يعيبها
شيخ النحاة(4/257)
عشرون عاماً
في أواسط الشهر الجاري يغادر مصر حضرة الكاتب المعروف اسكندر أفندي شاهين رئيس تحرير جريدة الوطن قاصداً الديار البرازيلية وحضرته من الكتَّاب المجيدين في اللغتين العربية والانجليزية فأحببنا بهذه المناسبة أن ننشر للقرّاء صورة هذا الصحافي القديم , وإن تُشيّعهُ بكلمة وداع باسم الصحافة التي خدمها زهاء ربع قرن , سائلين له في غربته كلّ توفيق ونجاح. وقد نشرنا في الصفحات التالية كلمته في وداع مصر , قال:(4/258)
في مثل هذا اليوم من عشرين سنة مضت - في اليوم الأوَّل من شهر يوليو سنة 1893 - رأيتُ أن أبتاع من بعضهم جريدة أسبوعية اسمُها الرأي العام كنت أطبعُها لشابَّين سوريَّين لم يتفقا على تحريرها , ولكنهما اتفقا على تركها لي؛ فاشتغلتُ بها من ذلك اليوم , وجعتُ أغيّر ما بها على مهلٍ , وأحرّرها من رقِّ الرياء , لأنها نشأت على عبادة السلطان عبد الحميد ومدح أبي الهدى , وما بقيَ من أساليب الوطنية التي كانت شائعةً في ذلك الزمان , حتى جعلتها الرأيَ العام المعروف في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي. وتدرَّجتُ منها إلى الاِشتغال بتحرير الجرائد اليومية , وبغير هذا من فنون القلم إلى أن بلغتُ هذا النهارَ من عمريَ الصحافي , وذكرتُ ذيَّاك العمرَ الطويلَ وهاتيك الحوادث الكثيرة والعبر المتوالية؛ فقلت إني آنَ لي أن أستريحَ قليلاً من عناء حرفةٍ لم تفارقني ولم أخن عهدَها في كلّ هذه السنين؛ لعلَّ الراحةَ تجدّد القوى وتنسي بعض الذي مرَّ من متاعب التحرير والتحبير. وماذا أقول وما الذي أسطّر هنا من خزانةٍ وعت أموراً تضيق بها المجلدات , وذاكرةٍ طالما أغنتني عن بعيد الكتب وعزيز المؤلفات؟ لعمرك لو أنني أسطرُ عشرَ الذي يجول الآن في ذهني بينا أنا أخطّ هذه السطور لأغنيتك عن مطالعات أسبوعٍ أو شهرٍ من الزمان. أٌول ذلك لأنني ذاهبٌ إلى أبعد القارَّاتِ عن هذا القطر لأقضي فيها أشهراً , وليس يدري غيرُ الله كيف يكون الختام. أنا النفسَ ألفت بلاداً قضيت فيها زهرةَ العمر وجئتها من نحو 29 عاماً؛ فعسيرٌ عليها أن تحنَّ إلى وادٍ(4/259)
غير وادي النيل , أو أن تطلبَ اللقاء بخلاَّنٍ غير الذين عاشرتهم كل هذا العمر الطويل. فسواءٌ جرت سفينة الأرزاق بما تشتهي نفسي وتتمنى جوارحي , أو سارت الأقدار بي في سبيل آخر , فلأذكرنَّ عهد الولاء إلى آخرِ العمر. والهُ يفعل بعباده ما يشاء. ولقد ساءَني أناسٌ مدةَ هذه السنين وساءَ ظنهم بي فكانوا يتهموني في أوَّ الأمر بخيانة الدولةِ وعداءِ السلطان؛ ثم رجعوا إلى رأيي بعد أن طال عهد
الجفاء. واتهموني بعد ذلك بمصانعة الدولة الانكليزية لأنتفعَ بأموالها؛ ثم ظهر أن التهمةَ أبعد عن الصدق مما بين القطبين. وقالوا أني كنتُ مفرّقاً بين طوائفِ المصريين , فثبت نقيضُ الذي قالوا بعد أن تغيرت بعضُ الخواطر على حين. وقد مضى الآن زمان هذه المزاعم ومضى تأثيرها , فكان على الجملة كما أتمنى , وبقيَ في الأذهان عامةً حقيقة أعدُّها أثمنَ من المال المكنوز؛ ألا وهي أنني خدمت الحقَّ في كل حياتي الصحافية خدمةَ الذي يقدِّم الحقَّ على كل مصلحة أو شأن. وعرفتُ بالصدق لا يختلفُ ضميري عن لساني , ولا تخون نفسي الحقّ في حال من الأحوال. هذا هو فخري وهذا جزائي من الناس بعد الاشتغالِ عشرين سنة بالكتابة والتحرير؛ ونعم الجزاءُ ونعم الأجرُ الكبير وليس يؤخذُ مما تقدَّم أنني العصمةَ والكمال؛ بل إن خطتي كانت خطةَ الصراحة والصدق. فسواء صدقت آرائي في هذه المسائل العديدة التي كتبتُ فيها أو أخطأت , فإنَّ القولَ كان صادراً عن اعتقاد بصحته , وعن عزم على إيراد الحقيقة وإهمال كل مصلحة يفيد فيها(4/260)
الكذب والرياء. فإذا قدّر لي أن أعودَ إلى هذا القلم رجعتُ إليهِ ولم ارجع عن المبدأ الذي أفخر بهِ وقد رأيته أنفعَ من مبادئ الذي يتقلبون مع الأهواء , ويبدون في كل يوم بشكل جديد. وأسأتُ في ما مضى إلى كثيرين أيضاً ربما كان معظمهم من الزملاء الذين يقضي اختلافُ نفساً بقصد إيلامها ولا تهجمت على رجل بالطعن , وأنني كنتُ أحزنُ لما يصيبُ الخصمَ الصحافي ولا حزنَ أصحابه والأخصاء الأقربين. على أن المطاعنَ الصحافية كلها خطأ قبيح , ولابدَّ أن يكون قلمي قد زلَّ مراراً وأغضبّ بعض الرفاق فاسألهم الصفحَ والمعذرة , وأرجو أن يكون عامنا الحالي آخرَ أعوامِ التجريح والمشاتمة في عالم التحرير. قلتُ أن الذي تعي ذاكرتي من حوادث هذا العمر الصحافي والذي يعنُّ لي إيرادهُ شيء كثير. فإذا شاء قراء الوطن أن أوافيهم بشيء من أذوق الراحة أياماً. وأمَّا اليوم فاكتفي بشكرٍ عام أرسلهُ إلى كل صديق كريم وذي وداد طلب لي الخير فيما مضى؛ وأسأل الله أن يوفق كلًّ منا إلى الغرض الذي يطلبه , وأن يديمَ أيامَ الصفاء والهناء لجميع الأخوان الذين عرفتهم في وادي النيل.
اسكندر شاهين(4/261)
صاحب البرق
عشت شقيّاً ولم أبالِ ... ولم يمرَّ الهنا ببالي
أعلّلُ النفسَ في نهاري ... وألزمُ الدرسَ في الليالي
رقَّ شعوري فرقَّ جسمي ... ورقَّ ديني ورقَّ مالي
بشارة خوري
إذا قلتَ في تعريف البرق: إِنها جريدة اجتماعية أدبية انتقاديه - كما هو مكتوب في صدرها - فإنك لم تخصصها بهذا القول؛ ولكنك إذا قلتَ فيها: إِنها جريدة يحبّها النشء السوري المتأدب , وإِنها(4/262)
في سوريا جريدة السوريين المهاجرين في الأقطار الأميركية فقد ميزتها حينئذٍ بصفتين خصيصتين بها. نشأت في بيروت على أثر إعلان الدستور في تركيا , ولم يكن لها رأس مالٍ ماديّ قط , ولا معنويّ سوى أدب منشئها ونشاطهِ , وسوى تلك الفوضى الهائلة التي انتشرت في البلاد يومئذ. على أنها ما برحت سائرة في طريقها يدفعها نشاط الشباب إلى الأمام , وتحببها حرية القلم إلى القرَّاء حتى بلغت اليوم السنة الخامسة من حياتها وقد بلغت معها شأواً كبيراً من النجاح. هذه هي جريدة البرق التي اثني عليها حضرة الكاتب الشهير سليم أفندي سركيس ذلك الثناء الطيّب في حفلة إكرام خليل أفندي مطران الشاعر المحبوب؛ فإنَّ البرق دعت أنصار الأدب في سوريا إلى الاشتراك في تكريم شاعر القطرين وأرسلت إليهِ باسم أولئك الأدباء هدية جميلة اعترافاً بفضله ونبوغهِ. أما صاحب البرق , بشارة أفندي الخوري , ففي ما دون الثلاثين من العمر. وهو ذكيُّ الفؤاد , عصبي المزاج , سريع التأثر. إذا كتب راضياً سالت كلماتهُ رضيً وصفاءً , وإذا كتب غاضباً قطر قلمهُ سّماً زعافاً. وهو شاعر مجيد ليس للصناعة أثرٌ ما في شعره وإن كان أثرها يظهر على الغالب في نثره؛ ذلك لأنهُ يقول الشعر عفواَ الخاطر غير مغضوب عليهِ , ويكتب على الأكثر محمولاً على الكتابة إما بحكم السياسة وإِما بحكم الأحوال. ولقد أُتيح للزُّهور أن تنشر شيئاً من شعره في بعض(4/263)
أجزائها السابقة - والزُّهور كما يعهدها القرَّاء لا تنشر من الشعر إلاَّ الجيّد المختار - فكن في الذي روته لهُ , على قلّتهِ , دليلٌ على الإجادة والمقدرة. على أنَّ ذلك القليل لم يكن كافياً لإظهار الشاعر بمظهره الحقيقي من الشاعرية فرأينا أن نختار اليوم مما وقع إلينا من شعره ما لعلَّه أن يكون أدلَّ
على فضلهِ , وأفصح عن بيانهِ وأدبهِ:
قال من قصيدة:
يا هندُ قد الِفَ الخميلةَ بلبلٌ ... يشدو فتصطفقُ الغصونُ وتطربُ
هوَ شاعرُ الأطيارِ لا متكبّرٌ ... صَلِفٌ ولا هو بالإمارةِ معجَبُ
تتعشَّقُ الأزهارُ عذْبَ غنائهِ ... فإذا شدا فبكلِّ ثغرٍ كوكبُ
والغصنُ - والأوراقُ آذانٌ لهٌ - ... ماذا تُرى فيها النسيم يتبتبُ؟
وإذا الضُحى لمعت بوارقُ ثغرهِ ... نادي بأجناد الطيورِ تأهبوا
فسمعتَ للأطيار موسيقي على ... نغماتِها يأتي النهارُ ويذهبُ
والصوتُ موهبةُ السماءِ فطائرٌ ... يشدو على غصنٍ وآخرُ ينعبُ
هي للهزارِ مكانةٌ من أجلها ... دبَّت بأفئدةِ الحواسدِ عقرَبُ
فتألبوا من حولِ أشمطَ أشيبٍ ... يحدو به للشرّ أشمطُ اشيبُ
فإذا همُ حولَ الغرابِ عصابة ... بأحطَّ من أخلاقها تتعصَّبُ
فشكوا لبعضهمِ الهزارَ وجذوةً ... بفؤادِ كلٍّ منهمُ تتلهبُ
وتشاوروا فإذا الوشايةُ خيرُ ما ... شَرَكٍ به يقعُ الهزارُ فيُعطبُ
فسعوا بهِ فإذا الهزارُ مقفَّصٌ ... والبومُ منطلِقُ الجوانحِ يلعبُ
يا هندُ إني كالهزارِ فإن يكنْ ... هو مذنباً فأنا كذلك مذنبُ(4/264)
وقال من قصيدة:
أيهِ لبنانُ والجداولُ تجري ... فيك برداً فتنعش الظمآنا
أيهِ لبنانُ والنسيمُ عليلاً ... يتهادى فيعطف الأغصانا
حبذا السفح معبداً لصغار ال ... طير تشدو لربها الالحانا
خافقات الجناح للشمس آناً ... خافقات الفؤاد للحب آنا
آمنات في السفح كاسرة الج ... وِّ فلا تأتلي بهِ طَيرانا
فترفّ الأديمَ تختلس الح ... بَّ وتظمى فتقصدُ الغدرانا
وإذا الشمس ودَّعت ودَّعت تل ... ك السواقي والزهرَ والأفنانا
واستقرَت في وكرها آمناتٍ ... كلُّ قلبين يخفقان حنانا
مطبقات الجفون يحفظها الأم ... ن كما الجفن يحفظ الإنسانا
أيّها ذي الطيور مَن قسم الح ... ظَّ ومَن قال للشقا كن فكانا
أيّها ذي الطيور حسبكِ في السف ... ح انطلاقاً جوانحاً ولسانا
أتجيدينهُ البيان على الأفنا ... ن والناس لا تجيد البيانا
وتعيشين والرجال بلبنا ... ن يموتون شقوة وهوانا
إن كفَّا تفصل الثوب للعر ... سِ لكفٌّ تفصّل الاكفانا
ولهُ في بكاءِ والده:
وقفتُ حيالَ القبر ما أنا بسٌ ... بشعرٍ ولكن مقلتي تنبس الشعرا
وهل كنتُ عند القبر غيرَ قصيدةِ ... بواكي قوافيها تُرى دون أن تُقرا
فتىً دامع العينين مضطرب الحشا ... يكفكف باليمنى ويسند باليسرى
وفي عينه ما يعجز الوصفَ بعضهُ ... وفي صدره ما بعضهُ يُحرج الصدرا(4/265)
وله من قصيدة ضمّنها حكاية قال:
فتىً يتعثَّرُ في لؤمهِ ... كما يتعثرُ في جهلهِ
نواظرُهُ تحت أقدامهِ ... كباحثةٍ ثَمّ عن أًصلهِ
لتسقِطُ أمُّ الجنين ابنّها ... إذا حلمت بفتىً مثلهِ
ولو أبصرت عينهُ وجهَه ... لقلتُ العفاءُ على نسلهِ
ولهُ وقد طالما جلس إلى الكأس حزيناً فما زال بها حتى سُرّيَ عنه وفارقها يتهادى انبساطاً:
تبسمُ وشعشع لي السلافة في الكأسِ ... فثغرك في ليل الحوادث نبراسي
ولا تلمَس الكأس التي قد رشفتها ... أخاف على كفَّيك من حرّ أنفاسي
يقول ليَ الآسي فؤادك موجعٌ ... فَمن أنبأ الآسي بفعلك يا قاسي
وينصحني الأخوانُ بالخمر إنها ... عى زعمهم تشفي من الآلم الراسي
فها أنا أستشفي بها كلَّ ليلةٍ ... ألم ترَني استتبعُ الكأسَ بالكأسِ
وأعجبُ من نفسي ودائي بمهجتي ... أعالجهُ بالخمر ترقى إلى رأسي
وله من قصيدة في وصف أرز لبنان الشهير:
جبالٌ على شكل الهلال محيطةٌ ... بمفرق قاديشا تناجي الغواديا
قوائمُ حول الأرز منّاعةٌ له ... إذا صادمته الحادثات عواديا
وما الأرز إلا آية اللهِ في الورى ... فبوركَ ضخمَ الجزع ريّانَ ناميا
أو ليس في هذه المختارات القليلة ما ينمُّ عن شاعرية فطرية تُحلّ صاحبها منزلةً عالية بين الشعراء المجيدين؟ أنَّ المستقبل بسَّام لصاحب البرق والوسائل متوافرة لديه من ذكاء عزم وتوقّد فكرة ونشاط شباب.(4/266)
ثمرات المطابع
خواطر في الحقوق والأدب - هذه مجموعة تلك امقالات الغراء التي كان ينشرها في جريدة الأخبار حضرة الكاتب الفاضل سامي أفندي الجريديني المحامي المشهورز وإنَّ الأدباء ليذكرون مقدار التأثير الذي كانت تؤثرهُ مباحثهُ الطليّة في النفوس , وصدى لاستحسان الذي كانت تجده كل مقالة منهاز جمعها حضرتهُ ضنّاً بفائدتها وحرصاً عليها فجاءت كتاباً شاملاً أبحاثاً دقيقة في مواضيع شتىَّ كالربا والطلاق وحقوق الملاَّك وحقوق الحياة ونظريات صادفة في آداب اللغة العربية مفرغة جميعها في قال لطيف رشيق العبارة سهل المأخذ لا يبعد عن الإفهام , مؤيدة وذوق سليم في الانتقاد. وقد عرف قراء الزهور مقدرة سامي أفندي في الكتابةو وأجادته في التعبير من ترجمته لرواية يوليوس قيصر التي نشرت متسلسلة في هذه المجلة فكان لها وقع حسن جداً في النفوس واتخذها تلاميذ المدارس معواناً لهم على تفهَّم شكسبير واستيعاب أغراضه ومعانيه. فنثني على حضرّته كل الثناء.
الإسعاف الأوّلي - لم يعجب أحدٌ من عارفي فضل الدكتور محمد عبد الحميد ونشاطهِ في خدمة العلم من وجود اسمهِ في الشهر الفائت مدرجاً بين أسماءِ الذين أنعمت عليهم الحضرة الفخيمة الخديوية بلقب(4/267)
البكوية , بل قابل الجميعُ هذا الأنعام بالاستحسان التامّ بالنظر إلى ما لحضرة هذا الطبيب المجتهد من الخدم الجليلة في سبيل العلم. فإن كتبهُ الطبيبة التي يتابع نشرها باللغة العربية أصبحت تؤلف مكتبة قائمة بنفسها وآخر كتاب أتحفنا بهِ هو كتاب الإسعاف الأولي الذي يتضمن ما يجب أن يعرفهُ الجميع. ولا يخفي ما في هذا الموضوع من الفائدة. فنثني على همة الدكتور عبد الحميد بك ونرجو لمؤلفاتهِ النفسية كل رواج.
تاريخ الحرب البلقانية - يحملُ إلينا البريد أكداساً من الكتب الأفرنجية الموضوعة في تاريخ الحرب التي تأججت نيرانها هذه السنة في شبه جزيرة البلقان. وقد رأينا فريقاً من كتاب العربية طرقوا أيضاً هذا الموضوع , مما دلَّنا أن المؤلفين عندنا أخذوا أيضاً شضعون الكتب في الحوادث الجارية لفائدة القراء , ومن هذا النوع تاريخ الحرب البلقانية لكاتبه المنشيء المتفنن سليم أفندي العقاد الصحافي البيروتي المعروف. وقد تنول فيه لمحةً من تاريخ الدول البلقانية وجغرافية بلادها ومقدمات تلك الحرب الطاحنة وما جرى فيها من
المواقع , وما دار من المفاوضات كلّ ذلك بعبارة طلية منسجمة تنمّ عن عهد مكين بين الكاتب والقلم. والكتاب مزين بأربعة عشر رسماً وخريطتين حربيتين.
رجال المعلّقات العشر - كتابُ تفيس وسفرٌ جليل أهدنهُ(4/268)
إلينا مكتبة المنار الشهيرة في مصر. وقد وضعهُ حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى الغلاييني مدرّس اللغة العربية في الكتب السلطاني والكلية العثمانية في بيروت , وضمّنهُ تاريخ شعراء المعلقات العشر وأنسابهم ونفيس أشعارهم وما اتفق لهم من الحوادث مما يجدُ القارئ فيه لذةً وفائدة كبيرتين. وقد ضبط الشعر بالشكل الكامل وشرحهُ شرحاً وافياًَ لمساعدة المطالع على تفهّم المفردات والمعاني. وصدّر الكتاب بمقدمتين جليلتي النفع ضافيتي الذيول: الأولى تتضمن خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام , والثانية تشتمل خلاصة تاريخ أدب اللغة العربية من لدان العصر الجاهلي حتى الزمن الحاضر. ولم يدّخر المؤلف وسعاً في مراجعة الدواوين وكتب الأدب القديمة والحديثة , حتى جاء عمله متقناً وافياً بالغرض. ولا نشك في أن الإقبال سيكون عظيماً على هذا الكتاب الجميل في إبان النهضة العربية الحاضرة.
منتخبات الشيخ أمين الحدَّاد - قلنا في الزهور سنة 3 صفحة 307 كلمةً في المرحوم الشيخ أمين الحداد من حيث هو كاتبٌ وشاعر , فلا حاجة بنا اليوم إلى زيارة القراء تعريفأً بهِ. إنما يسرّنا أن نعلن محبي النظم الرائق والنثر الطلي أنهُ صدر في عالم المطبوعات كتابٌ نفيس جمع بين دفَّتيهِ مئتين وثلاثين موضوعاً من المواضيع التي جال فيها قلم الفقيد. والفضل في نشر هذا الكتاب عائد لحضرة الأديب المشهور الشيخ سلامة حجازي الذي أراد أن يطبعه على نفقتهِ الخاصة تخليداً لمآثر أبناء الحداد وتذكاراً لإشتغاله مع المرحوم الشيخ نجيب بفن التمثيل(4/269)
العربي الذي بلغ على يدهما مبلغاً بعيداً من الإتقان.
صحيفة طفل - الآنسة أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية كاتبة يحقُّ أن يقال فيها أنها تغمس قلمها عندما تكتب في دموع عينيها أو دم فؤادها لأن كتابها النفيس العائلة المصرية زهور سنة 3صفحة 325 كله حسّ وشعور أما كتيّبها الجديد فهو صحيفة فتاةٍ , ابتسامة جميلة تترقرق في خلالها دمعة مؤثرة.
آداب المراسلة - كتابٌ وضعهُ حضرة العالم الفاضل الخوري بطرس البستاني , وضمّنه كلَّ ما يجب على الطالب معرفته من أًصول المراسلة وقواعدها وأنواعها المتعددة , وشفعهُ
بأمثلةٍ كثيرة تمرّن التلميذ على تطبيق تلك القواعد. وفي ذيل الكتاب مواضيع شتى ليتوسع فيها الطالب فتتقوَّى فيهِ ملكة الإنشاء. كل ذلك بأسلوبٍ جليّ واضح , مما يجعل لهذه الكتاب فائدة كبرى.
حديث القلوب - عرّفنا القراء بالكاتب الشهير لأمينه في الزهور سنة 2 صفحة 293 يومَ نشرنا فصلاً له ترجمه لهذه المجلة الأديب حنا أفندي صاود. وقد أكمل حضرتهُ ترجمة الكتاب برمتهِ ونشره لقراء العربية فجاءَت الترجمة سلسة العبارة فصيحة الأسلوب.(4/270)
التصريف الملوكي - هذا كتيّب في التصريف من صنعة أبي الفتح عثمان بن عبد الله ابن جنّي النحوي المشهور عنيَ بتصحيحهِ وشرحهِ السيد محمد سعيد بن مصطفى النعسان الحموي وطبعته شركة التمدن الصناعية. وهو كتاب حريّ بطلبة قواعد اللغة وأصولها أن يطالعوه بامعان وتدقيق لما فيه من الفوائد.
زهرة الشباب في لغة الأعرب - جاءَنا الجزء الأوَّل من هذا الكتاب لمؤلفهِ الأديب السيد عثمان أفندي لطفي من المدرسين بمدرسة سعيد الأوَّل , وهو يشتمل على قواعد النحو على طريقة السؤال والجواب , ويلي كلّ درس تمرين على القواعد التي مرّ شرحها. فنشكر للمؤلف غيرته على لسان العرب.
تربية الطفل - للدكتور سروبيان طبيب مستشفى لادي كرومر وطبيب ملجأِ الأطفال اللقطاء في مصر عناية خصوصية بنشر الكتب الطبيَّة المفيدة التي لا غنى عن الرجوع إليها. ومن هذه الكتب كتاب تربية الطفل وهو على صغر حجمه جامع لفوائد جلّى إذا نشئ الطفل بحسبها نشأ قويَّ البنية جيد الصحة. فنوجه أنظار الأمهات خصوصاً إلى هذا المؤلَف المفيد ونتمنى له الرواج.(4/271)
جناية شبرا
مررت مُبكراً في الصباح بوليس الأزبكية في ميدان باب الحديد , ودخلت على حضرة المأمور أروم محادثتهُ لعلّي أن استفيد منهُ خبراً ما لجريدتي الأيام التي أنشرها في مصر منذ بعيد. وكانت بيني وبين هذا الموظّف النشيط صداقة قديمة العهد لم يكن يمنعني من أجلها شيئاً يجيزهُ لهُ القانون. وفيما نحن نتحدّث سمعنا ضجيجاً عالياً في باحة الدائرة , وصارخاً يصرخ ملء فيه: أين المأمور؟ أين المأمور؟ فالتفتَ إليَّ صاحبي وقال: أنَّ خلف هذا الصياح أمراً جللاً. فتبسمت وقلت: ذلك ما جئت إليك من أجله. ولم أكد ألفظ الكلمة الأخيرة حتى دخل علينا رجل فوق الخمسين من العمر تدلُّ ملامحهُ على القلق والخوف. ولم يتمهّل ريثما يسألهُ صاحبي عما يريد من مفاجأتهِ لنا على تلك الصورة بل قال: تفضَّل يا حضرة المأمور إلى منزلي نمرة 13 بشارع سلامة في شبرا , فقد ارتُكبِت الليلةَ فيهِ جناية فظيعة. إنَّ يداً أثيمةً امتدَّت إلى ابنتي في سريرها فقتلتها شرَّ قتلة. . . مسكينة أدماء! واهاً عليك يا أدماء!
فقال المأمور وقد مدّ يدهُ إلى التلفون: ومَن القاتل؟
فأجاب الرجل: لا أعرفهُ ياسيدي. أننا أطلنا السهرَ الليلة البارحة إذ كنَّا نعدُّ المعدَّات لحفلات هذا النهار , فقد كان اليوم موعداً لزواج أدماء بابن عمّها ووارثي الوحيد بعدها , ونمنا على أن نبكّر إلى العرس فبكَر إلينا المأتمز
وفيما كان الرجل يتكلم , كن المأمور قد أخذ يخاطب بالتليفون وكيل النيابة العمومية.
ولم تمضِ إلاَّ دقائق قليلة حتى وقفت بنا العربات أمام المنزل المعيَن. وكنتُ(4/272)
قد استأذنتُ صديقي في مرافقتهِ فركبت إلى جانب والد أدماء , وفاتحتهُ الحديث قائلاً: ألا تشرّفني بمعرفتك يا سيّدي؟ أما أنا فاسمي: وسيم الريّان صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها فقال: وأنا فرج الله خوري مصوغات وجواهر في لخان الخليلي. وكانت باحة المنزل حين وصولنا قد كادت تغصّ بايأس يتهامسون بينهم؛ فأمر المأمور رجالهُ بتفريقهم , ثمَّ دخل ودخلنا وراءَه فلقينا الخادمة تبكي بمرارة وتنأرّه على سيدتها. وكان هنالك أيضاً شابٌ في نحو الثلاثين من العمر يروح ويجيء قلقاً مضطرباً , ولم يكن في عينه أثر للبكاء قط؛ غير أنَ بياض المقلتين كان قد تحوّل إلى احمرار قرمزيّ كأن الدم جال فيهما بدَلَ الدمع. ثمَّ سأل المأمور صاحب الدار عن مكان وجود الجثة , فمشى أمامنا إلى غرفة في أقصى
المنزل وقال: هنا. . . . هنا غرفة أدماء. ودخلنا فأبصرنا على سرير في إحدى الزوايا فتاةً شاحبة اللون , وإحدى يديها ملقاة على جانبها الأيسر حيث تدفق الدمُ قضرَّج ملابس نومها البيضاء وأغطية فراشها. وهي ما تزال في السرير كأنها نائمة نومةً طبيعية , ممّا دلّ على أن قانلها فتك بها في خلال رقادها. وكانت على الأرضو حذاء السرير , سكّين حادّة من السكاكين التي تُستعمل في مطابخ البيوت؛ وهي ملوثة بالدم أيضاً. أما الجاني فلم يكن أحد يعرف شيئاً عنهُ؛ غير أنّ خفير الحيّ شهد بعدئذ بأنهُ أبصر في المنزل المقابل غرفةً بقيت مُنارةً معظم الليل , وخيال شابٍّ كان يروح ويجيء فيها حيناً بعد حين. ثمَّ انطفأ نورها في نحو الساعة الثالثة صباحاً. وأثَّر فينا جميعنا منظر الجثة وعلى مقربة منها الآلة القاتلة فارتعشنا واقشعرّت أبداننا. وكان الطبيب قد دخل الغرفة حينئذٍ؛ فجسَّ نبض الفتاة , ثمَّ انحنى بإذنه على صدرها يتسمّع خفقان قلبها. وكأنما خامرَهُ شكّ في موتها فأخذ مرآه وأدناها من فمها برهة , ثم تأملها فأبصر عليها شبه غشاوة مما دلهُ على أنهُ لم تزل في ذلك(4/273)
الجسم بقية من الحياةز فالتفت إلينا وقال: هي حية لم تمت بعد! وكأن لفظة الحياة نبهّت خطيب الفتاة فأجفل وتفدّم خطوة إلى السرير محملقاً في الطبيب كمن فوجئ بما لم يكن يوّقع. أمَّا الأب فترامى على أقدام الطبيب وهو يقول لهٌ: أحيها. . . بربّك أحيها. ثمَّ جثا يصلّي. ورأيت في تلك الساعة ما لم أرَهُ من قبل: أباً جاثياً يدعو الله وملء نفسه خشوع ورجاء وملء ناظرَيه ذلّة وحزن؛ وعاشقاً تتنقّل نظراته من السرير إلى الطبيب إلى السكين؛ ورجالَ حكومة واجمين ينظرون بلهفة وأمل؛ وطبيباً أحدقت به القلوب كأنَّ كهربائية انتقلت منها إلى يديه فحركتهما على ذلك الجسم المسجّى بدون حراك. ورأيتني وحدي في ذلك الموقف ثابت الجأش أرى وألاحظ , وأعي غير ذاهل , حتى لقد ظنتني اسمع خفقة كلّ قلبٍ في كلّ صدر , وأحسّ دبيب كلّ خاطرٍ في كلّ ضمير. حينئذ أشار الطبيب فخرج الجميع من الغرفة , وأقام هو وحده يعالج الفتاة. وبثَّ المأمور رجاله في المنزل وحواليه , ثمَّ أخذ في التحقيق الأوّليّ فعرف أنّ ربَّ البيت يسمَّى فرج الله خوري وأنّه يتَّجر في الخان الخليلي بالمصوغات والحجارة الكريمة , وأن ابنته وحيدة لهُ واسمها أدماء وقد توفيت والدتها وهي في نحو الخامسة من عمرها فربّها أبوها وأدّبها في المدارس ولم يشأ أن يتزوج ثانية حبّاً بها وغيرة عليها. أمّا الشاب خطيب أدماء فاسمه سليم خوري
وهو ابن أخٍ للخواجا فرج الله؛ هاجر بعد وفاة أبيه إلى الترانسفال وأقام فيها نحواً من عشر سنواتو ثمَّ جاء القاهرة للتزوّج بأدماء والإقامة في هذا القطر. وفي نحو التاسعة جاء وكيل النيابة العمومية وشرع في التحقيق الدقيق فلم يلبث أن توصّل على معرفة الجاني؛ فإن الخادمة أطلعتهُ على علاقات أدماء بفتىً يدعى فؤاد اليافي يسكن منزلاً مجاوراً. وكان كثيراً ما يحادث أدماء من النافذة(4/274)
متى خيّم الليل ونام الخواجا فرج الله. وكانت الخادمة تنقل رسائله على سيدتها وتحمل أجوبتها إليه؛ قالت وأن آخر رسالة جاءت بها منه كانت في نفس الليلة التي ارتكبت فيها الجناية وقد ناوَلها إياها بيدٍ مرتجفة وفي نظراتهِ معنى الاضطراب والغضب. . . وعثر وكيل النيابة على تلك الرسالة تحت وسادة أدماء فإذا هي هذه:
وعدتِ ثم أخلفتِ. ويلٌ لكِ يا ظالمة! أعقبي حبّنا إن تكوني زوجةً لسواي؟ تالله لن يكون ذلك أبداً. ليس والدك الذي ارادو بل أنتِ التي اثرتِ ابن عمك عليَّ. كذبتِ في غرامكِ , كما كذبتِ في عهودكِ. أمَّا أنا فلن أكذب في عزمي. آليتُ ألاَّ يسعد ابن عمَّكِ بك , وأشقى أنا بدونك. الويل لي إذا كان المأتم غداً بدلاً من العرس!!
فؤاد
ثمَّ طرق رججال البوليس منزل فؤاد اليافي وقد اقتنع وكيل النيابة كلّ الاقتناع بأنَّ فؤاداً هو الجاني لا غيره , وبأن الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة إنما هو الغيرة والغرور. ومما أيَّدَ هذا الاقتناع أن فؤاداً لم يبت ليلتهُ كلَّها في منزلهِ؛ فقد جاء في نحو الساعة السابعة مساءًو وخلا بنفسهِ في غرفتهِ الخاصة دون أن يتناول طعام العشاء. ولما افتقدَه أهله في الصباح لم يجدوه , ولكنهم وجدوا رسالة منهُ على مكتبهِ. فأنَرَ وكيل النيابة بها فإذا فيها ما يأتي:
إلى والديَّ العزيزين
ليس في استطاعتي أن أشهد غداً عرس جارتنا أدماء لأن الغيرة تأكل قلبي. لذلك أنا ذاهبٌ اسلاعةَ إلى حيث لا أدري. ومتى شفِيَت نفسي من آلامها عدتُ إليكما. ساِمحا زلَّتي , وترقَّبا أخباري.
فؤاد
ودقَّقت النيابة في استجاء حقيقة العلاقات بين فؤاد وأدماء , فوقعت على رسائل كثيرة في حوزة الفتاة أزالت كلَّ شبهة عن غرام فؤادٍ وغبرته. واتصلت بها من شهودٍ كثيرين أمور تافهة في حدّ ذاتها , ولكنها إذا أضيفت إلى مجمل القرائن(4/275)
كنت دلائلَ قوية على ثبوت الجريمة على ذلك الشابز ولما توافرت الأدّلة على هذا الشكل أمرت النيابة بتعقّب الجاني , وضيّقت عليهِ سُبُل الفرار من القطر لمصري بما بثتهُ من العيون والأرصاد. وفي ذلك النها نفسهِ ورد على نيابة مصر تلغراف من بوليس الاسكندرية يُفيد إلقاء القبض علىالمتهم وهو يتأهب للسفر إلى أوروبَّا على إحدى البواخر. فجاء هذا دليلاً جديداً على أنَّ فؤاداً هو الجاني , لأنَّ سفرَه الفجائي لم يكن إلاّ بَغية الفرار من وجه القضاء والعدل. واتّصل خبرُ الجناية بصحف العاصمة فنشرتهُ , كعادتها في أمثاله , مقتضباً ومذيّلاً بكلمات الثناء على مهارة النيابة العمومية , وتيقَّظ رجال البوليس. أما أنا , وقد رأيتُ بعيني , وسمعت بأذني , فإني رويت الحادث في الأيام مسهباً في تفضيل وقائعهِ كلَّ الإسهاب. ثمَّ قلت في ختام كلامي: إنَّ على النيابة أن لا تغشى عينيها الأدلّة من نحو الشذوذ في الاتفاق فيكون فؤاد بريئاً من التهمة التي أصقها بهِ نكد الحظّ. لم أقل ذلك عفوَ الخاطر أو من قبيل التفلسف في الأمور؛ وإنما بنيت قولي على توافرِ عقائد في نفسي حسبتها براهين تجيزُليَ نفيَ التهمة عن فؤادِ , والقاءها على عاتق سواه. فعزمت على أن استكشفَ الحقيقة مهما اقتضيتهُ من عناءٍ ومال , لأنّ الصحافي الماهر هو مَن بذل جهدهُ لمعرفة الحقائق , ثم سبق إلى نشرها؛ وإنما بهذين اشتهرت الأيَّام ومشت في طليعة الجرائدِ العربيَّة الكبرى. أمَّا شكوكي فبدأت حيث بدأ اقتناع النيابة العمومية. هي كانت ترى كلُ شيءٍ إيجاباً في حين كنت أراهُ أنا سلباً. فغيرة فؤاد وتهديدهُ , وسهرهُ وقلقه , ورسالتهُ إلى والديهِ , وسفرهُ إلى الاسكندرية , وعزمهُ على مغادرة القطر , كانت جميعها(4/276)
دلائل وقرائن عليهِ في نظر عليهِ في نظر مَن يأخذ الأمور بظواهرها. غير أنَّ النيابة ذهب عن بالها أن تبحث , في الدرجة الأولى , عن الطريق التي سلكها فؤاد إلى الغرفة النائمة فيها أدماء حتى تمكن من ارتكاب الجنلية. أمَّا أنا فلم أغفل هذا الأمر قط , فقد عرفتُ أنَّ الخواجه فرج الله أقفل بيدهِ باب المنزل قبل أن نام , وترك المفتاح في ثقب الغال من الداخل. ثمَّ علمت أنَّ الخادمة , لمَّا أفاقت في الصباح , وجدت الباب مفتوحاً فاستنكرت ذلك كما استنكرهُ سيدها والخواجة
سليم أيضاً. ولو تنبَّه رجال التحقيق إلى أنَّ الغال لا يمكن فتحهُ بمفتاحٍ من الخارج , ما دام أن َّ المفتاح متروك في ثقبهِ من الداخل , لأدركوا مثليَ أنَّ الجاني إمَّا أن يكون غريباً , وإمَّا أن يكون بعض أهل أدماء. فإن كان الأوَّل اقتبضى أن يكون لهُ شريك ممَّن في المنزل فمكَّنهُ من الدخول؛ وإن كان الآخر وجب أن يكون أحد اثنين: إمَّا الخادمة , وإمَّا الخواجة سليم. وأمَّا أن يكون الجاني قد دخل البيت من غير بابهِ فمما لم يكن معقولاً قط لأن العلوَّ شاهق جدّاًو والبيت مطلٌّ من جميع جهاتهِ على الشوارع المنارة حيث الخفراء والمارّة لا يبرجون بين رواحٍ ومجيء. أضِفْ إلى هذا كلهِ أنَّ البرد كان قارساً في تلك الليلة , وأن النوافذ جميعها بقيت مقفلة حتى الصباح. ولما تشبَّعت من هذهِ الحقائق بحثت عن سيرة الخادمة مُنقباً نستقصياً فعرفت أيها قديمة العهد في منزل الخواجه فرج الله , وأنها اعتنت بأدماءِ بعد وفاة والدتها , وحنَت عليها كما لو كانت أمَّها الحقيقة , وأحبَّبتها بإخلاص شديد , فكانت لها خادمةً وأمَّا وصديقة معاً. أوَ بعد هذا ما يستوقف شبهاتي عليها؟ ولكنني وقعت حينئذٍ في حيرة شديدة: فلا ظنوني بواقفة عند الخواجه فرج الله , ولا شكوكي بمنتقلةٍ إلى الخواجه سليم. ذلك والدٌ وهذا خطيبٌ وابن عمّ.
فمن الجاني إذاً؟ أشيطانٌ من جهنم , أم ملكٌ من السماء؟؟
ولقد حاولت كثيراً أن أذهب مذهب النيابة العمومية في اتهام فؤاد اليافي فلم(4/277)
أستطع. وزادني تشبثاً في رأيي هذا أنَّ فؤاداً لم ينكر الجريمة كلَّ الإنكار فقط , بل بكى بُكاءً مرّاً حين درى بها إشفاقاً منهُ وحناناً على أدماء. وقد جرَّب إقناع رجال التحقيق بأنَّ تهديدهُ لحبيبتهِ لم يكن إلاَّ تهديداً كاذباً حاول أن يتعلَّق بهِ , وهو آخر سلاح كان قد بقيَ لهُ , كما يحاول الفريق التعلُّق بالطحلب في الماءو وأن عزمهُ على السفر لم يكن إلاَّ يأساً وقنوطاً لأن نفسه لم تكن تطيق أن يرى أدماء لسواه. على أنَّ كل ذلك لم يفدهُ شيئاً , بل أحالتهُ النيابة العمومية على محكمة الجنايات ليحاكم أمامها كقاتل متعمد. وراجعتُ نفسي مراراً في إتهام الخواجة سليم خوري فما ازددتُ إلاَّ اعتقاداً بكونهِ الجاني الأثيم. فقد تبيّنتُ أموراً جديرة بالاعتبار , أغفل وكيل النيابة بعضهاو وحملَ بعضها الآخر على محامل شتى. من ذلك: أنَّ الخادمة عرفت السكّين التي طُعنت بها أدماء أنها سكّين مطبخها , مما دلَّني على أنَّ اليد التي استعملها وصلت إلى مكانها بدون عناء. وهل يُعقل أنَّ قاتلاً متعمداً يجيء
ليقتل , تحت جنح الليل , فيجيء بدون سلاح على نيَّةِ أن يجد لهُ سلاحاً ما في المكان الذي نوى الجناية فيهِ؟ ومن ذلك أنَّ الجاني كان على يقين من أن أدماء لا تقفل بابها من الداخل في الليل. وأنَّي لغريبٍ عن المنزل أَن يكون على بيّنةٍ من هذا الأمر؟ ومن ذلك ايضاً أنَّ سليماً كان يحسب الطعنة قاتلة؛ فلما فأجاهُ الطبيب بقوله إنَّ أدماء حيَّة لم تمت , أجفل في مكانهِ إجفال مؤملٍ بوغِتَ بضياع أملهِ. ومن ذلك أخيراً تبدو عليهِ في أقوالهِ وحرركاتهِ جميعها. فكلَّ ذلك قوَّي اعتقادي بأنَّ اليد التي جنت إنما هي يدُ سليم دون سواه. ولكنَّ إقدامي على إتّهام الرجل في الأيام كان مجفوفاً بالخطر. فالبيّنات على خطورتها كن يمكن دحضها بمثلها. ولذلك عوَّلت بعد التفكير الطويل على كتمان شكوكي في نفسي , مع مواصلة التحرّي الدقيق. وكان أوَّل خاطر خطر لي أن أبحث عن ماضي سليم وتاريخهِ في(4/278)
الترنسفال. فأرسلت رسالة برقية إلى زميلي صاحب جريدة جوهسبورج دايلي نيوز في مدينة جوهنسبوج اطلعتهُ فيها على دخائل نفسي وطلبت إليهِ , بما للزميل على الزميل من الحقوق , أن يوقفني على حقيقة سليم؛ فجاءَني تلغراف منهُ بعد أيام قصيرة محتوياً على هذه الكلمات شكوك في محلهاز التفصيل مع البريد وكانت أدماء في خلال هذه المدة قد تماثلت لشفاء , وأخذت تعاودها العافية على مهل. أما شهادتها لدى وكيل النيابة العمومية فكانت قاصرة على أنها بادلت فؤاداً المحبة ووعدتهُ بالزواج , ولكنها أكرهت على النكث بعهدها أمام إرادة والدها وإلحاحهِ الشديد وقد أطلعت خطيبها سليماً عى علاقاتها السابقة بفؤاد ولم نكتمهُ شيئاً منها. ولما جاءتها رسالة التهديد بم تحفل بها كثيراً. ثم نامت ولم تدرِ ما جرى كيف جرى. وأقمتُ انتظر بريد الترنيسفال وأنا على مثل الجمر حتى وردت عليَّ بعد مضيّ شهر الرسالة التي نبّثت به تلغرافيَّا , فنشرتها في الأيام وعلَّقت عليها خواطري وظنوني وخلاصة هذه الرسالة منذ عشر سنوات لم يأتِ في خلاها عملاً نافعاً قط بل كان على العكس من ذلك فاسد السيرة , سافل الأخلاق. وقد حكمت عليهِ محاكم جوهنسبورج ثلاث مرَّات لثلاث جرائم ارتكبها كانت خاتمتها سرقة قضى أربع سنوات محبوساً من أجلها , ولما أخرج من السجن علق بفتاةٍ روميةٍ مجهولة النسب فتزوَّجها. وكان يُحبّها حبّاَ عظيماً ورزق منها ابنتين وولداً ذكراً. هذا مجمل ما حوتهُ الرسالة. أمَّا النيابة العمومية فاستدعت سلماً إليها على أثر ما نشرتهُ الأيام ولم تزل بهِ حتى أقرَّ بأنهُ هو الذي ارتكب
الجناية التي اتهم بها فؤاد أفندي اليافي. قال أنهُ نكب في الرنسفال بالفقر المدفع ولم يكن يعلم أنَّ عمّة بملك ثروة كبيرة في مصر. وقد كتب عمّه اليهِ في الزمن الأخير ملحَّا عليهِ بأن(4/279)
يجيء القطر المصري فيزوّجهُ بابنتهِ الوحيدة فتتحوَّل إليه ثروة طائلة. فحار في أمرِه بين أن يأبى وأن يقبل فإنَّ زواجهُ السابق في جوهنسبورغ يحول دون زواجهِ الآخر في مصر وأنَّ حبّهُ لزوجته وأولادهِ يمنهعُ من التخلّي عنهم رغم ما كان يمكن أن يعقب تخلّيهِ من الحوادث والمشاكل. ورأى من جهة أخرى أنهُ إذا لم يأتِ مصر حرم مالاً وفيراً كان في أشد الحاجة إليه. لذلك وجد أنَّ الطريقة المثلى أن يحتال على ثروة عمّهِ بكلّ أنواع الحيل فإن لم تسعده هذه ارتكب الحناية غير هيّاب ولا وجل. وساعده على تحقيق أمانيهِ وجودُ العلاقات الحبيّة بين أدماء وفؤاد اليافي وتجاور بيتيهما. فأقام يترصد فرصة مناسبة لاغتيال الفتاة بدون أن يكون موضعاً للشبهات ولكنه أحجم أكثر من مرَّة عن ارتكاب الجناية حتى كانت ليلة الزواج وقد أطلعتهُ أدماء على رسالة فؤاد التهديدية فلم يجد خيراً من تلك المناسبة؛ فأشار على ابنة عمهِ بوجوب الاحتفاظ بالرسالة , على نية أن يجعلها مرشدا لرجال التحقيق , ودليلاً يصرف شبهاتهم عنه إلى فؤاد , وقد فتح الباب ليوهم دخول القاتل منهُ , وهو يحسب أن رسالة التهديد وفتح الباب دليلان كافيان لإثبات التهمة.
واشتهر بين الناس فضلى باستكشاف حقيقة هذه الجناية فأكبر الجميع عملي , وأعلن ولاة الأمر شكرهم لي أما أنا فلم يسرَّني هذان الإِكبار والشكر بقدر ما سرَّني زواج فؤاد أفندي اليافي بأدماء كريمة الخواجه فرج الله خوري. وكان ذلك على أثر صدور الحكم على سليم الجاني بالأشغال الشاقة.
وسيم السريَّان
صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها(4/280)
العدد 37 - بتاريخ: 1 - 10 - 1913
فردي
رواية عائدة الأوبرا الخديوية
نبغ في إيطالية طائفة من رجال الفنون الجميلة شرَّفوا اسم بلادهم , وأعلوا مقامها بين الأمم , فأولوها فخراً لم تنله هي ولا غيرها بالحروب والفتوحات الجسام. ولقد ينقلب وجهُ العالم السياسيّ فتبيد دولٌ وتُشاد دول , ويبقى لإيطالية المجدُ المؤثّل والعزُّ الوطيد , ما دام للشعر والموسيقى والتصوير دولةٌ ورجال , ودولة هذه الفنون الجميلة دائمة ما دام للإنسان قلبٌ يخفق ونفسٌ تتعشَّقُ الجمال. تحتفل تلك البلاد في هذه السنة بعيد فردي أحد نوابغها المشهورين في عالم الأتغام , بمناسبة مرور قرن كامل على ولادتهو ولا تسلْ عن معالم الأفراح وحفلات التكريم التي تُقام في هاتيك الربوع احتفاءً بذاك اليوم السعيد. وهكذا الأمم الحيَّة الراقية تكرم ذكرى رجالها النوابغ , فتبعث في صدور أبنائعا روح النشاط والهمة.(4/281)
ليس فردي بالرجل الغريب عنا حتى ندعَ عيدهُ يمرُّ دون أن نقول فيهِ كلمة , ونطرح على ضريحهِ باقةً من الزهر أسوة بسائر الأمم التي هبت لتكريم ذكرهِ. فهو مؤلف عائدة وعائدة أول رواية ملحّنةٍ ظهرت على مسرحنا الوطني الأكبر الأوبرا الخديوية وضعها بناءً على طلب خديوي مصر الأسبقو وجعل وقائعها في مصر , ومثِّلت لأول مرة في مصر , ولا تزال الأجواق الاوربية التي تجيء البلاد في كل شتاء تمثّلها بنجاح عظيم؛ لذلك رأينا أن نقول كلمةً في الرجل وأعمالهِ وروايتهِ وعلاقتهِ بنا.
ولد فرنسيس يوسف فردي في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1813 في إحدى قرى دوقية بأرمه التي كانت تابعةً في ذلك العهد لإِحدى مقاطعات فرنسة؛ وكان والداهُ يُديران فُندُقاً صغيراً يُساعدهما دخلهُ على تربية أولادهما؛ فأظهر منذ حداثة سنةِ ميلاً إلى علم الأنغام والتوقيع. فكان يقصد في كل صباح كنيسة القرية فيخدم القَّداس ويتمرَّنُ مقابل ذلك على الضرب على أرغن قديم كان في الكنيسة. ولكي للبث أن أتقن كل الأنغام الدينية والترانيم الطقسية فعُهد إليهِ بإدارة جوقة الكنيسة. وكان مستخدما عند أحد باعة الخمور لقاءً راتبٍ يمكنهُ من القيام بحاجتِ معيشتهز وظلَّ على هذه الحالة حتى الثامنة عشرة من عمره. وكان صاحب الحانة نفسه مولعاً بالموسيقى فرأى في الفتى استعداداً لهذا الفن الجميل , فوالاه بمساعداته تى مهّد له السفر إلى مدينة ميلانو والبقاء فيها ثلاث(4/282)
سنوات كامة يأخذ الفنَّ عن
مشاخير أربابهِ. وقد اقترن في غضون ذلك بابنة مساعدهِ بائع الخمرو فكانت له خير شريكة في حياته. ولمَّا أنس فردي من نفسه الإِستعدادَ اللازم , أخذ يضع قطعاً موسيقية , ويؤلِّف روايات ملحّنة من المعروفة عند الإفرنج بالأوبرا. فلاقى نجاحا يذكر , وعُرف اسمه بين كبار الموسيقين. ولم تكن العقبات التي لاقاها لتُضعف عزيمته , أو تخمد نار همته؛ بل كان يواصل الدرس والعمل ليصلح من أسلوبه , ويصقل أنغامه. فلحَّن في خلال سبع عشرة سنة عشرين رواية أشهرها: نبوكد نصَّر , وأورشليم , وهزناني , ومكبث عن شكسبير , وريجولتُّوا عن رواية مضحك الملك لفكتور هوغو وترافياتا عن لأدم أو كاميليا لدوس. وعظمت شهرتهُ على أثر تلحينه رواية مكبث فإنهُ تمكّن من أن يبرز بالألحان والأنغام تلك العواطف المتنوّعة التي عبَّر عنها شكسبير ببيانه السحريّ. ففي الليالي الثلاث الأولى لتمثيلها كان المسرح مكتظاً بالحاضرينو وقد أخذ الطرب منهم كلَّ مأخذ , فكانوا يطلبون المؤلف كل ليلة فوق الثلاثين مرة , وأركان القاعة تكد تتفوَّض من شدة التصفيق وهتاف الإِعجاب. وكانوا في ختام التمثيل يطوفون به المدينة ويرافقونه إلى منزله مهللين مكبرين. ورأى مواطنوهُ وجوب تكريم عبثريته فقدَّموا له أكليل غار من الذهب إشارة إلى تبوّئه عرش الموسيقى. ومن ثم نجاورت شهرة فردي حدود وطنه وعظم اسمه في أوربة , فمثِّت رواياته في أكثر العواصم والمدن الكبرى.(4/283)
وكما أن المصاعب التي لا فاها لم تقعد بهمته فكذلك لم يُسكره نجاه الباهر , بل ظل عاملاً مجد يرتقي من الحسن إلى الأحسن. وهذا شأن النابغين.
وكانت مملكه سردينيا في ذلك العهد تسعى إلى إنشاء مملكة إيطالية الجديدة بخلع نير النمسة وتأليف الوحدة الوطنية الإيطالية. فلعب فردي دورا خطيراً في تلك الحوادث السياسية , وكان ينتمي إلى الحزب الإِستقلالي فجاهد في سبيلهِ جهاداً مذكوراً. وكان الشعب يرى في رواياته تلميحاً ظاهراً وإِشارة بيّنة إلى الأماني الوطنية التي كانت تشغ أفكار ذلك الجيل؛ فساعد ذلك على بعد صيتهِ وانتشار شهرتهِ. وكان شعار حزب الاستقلال فيكتور عمانوئيل ملك إيطالية ` ومن غرائب الإتفاق أنك لو أخذت الحرفَ الأوَّل من كل كلمة من هذه الكلمات لكان لديك اسم فردي وهكذا ظلَّ اسمهُ مدةً شعاراً لطلاب استقلال المملكة الإِيطالية , فكانوا ينادون به في جميع الاحتفالات القومية والمظاهرات
الشعبية. وعلى أثر تأليف مجلس النوَّاب الإِيطلي , انتخب فردي عضواً فيه سنة 1861 وفي نوفمبر سنة 1874 انتخب عضواً في مجلس أعيان المملكة. ولما احتفلت إيطالية سنة 1889 بيوبيلهِ الماسي , أرادت الحكومة أن تنعم عليهِ بلقب مركيز فأبى قبول هذا اللقب(4/284)
وكانت وفاته سنة 1901. ومن أشهر رواياته عائدة التي سبقت الإشارة إليها في صدر هذا المقال وضعها بناء على طلب المغفور له الخديوي إلاَّ سبق سماعيل باشا , وكانت أول روايةٍ مُثِّلت في الأوبرا الخديوية دسمبر سنة 1871 ولا يزال الكثيرون في مصر يذكرون تلك الحفلة الشائقة. ولا تزال رواية عائدة عروس المسارح وموضوع إعجاب محبي الموسيقى , وقد ترجمها إلى اللغة العربية المرحوم سليم نقاش , وهي من الروايات التي يمثلها الشيخ سلامة حجازي.
أما موضوعها فنلخّصه في ما يأتي:(4/285)
وقعت عائدة ابنة ملك الحبشة أمونسرو أسيرةً في يد فرعون مصر. فأهداها إلى ابنتهِ أمنريس لتكون من وصيفاتها. وكانت على جانبٍ عظيمٍ من الجمال والظرف فنالت حظوة لدى مولاتها. وصارت في وقتٍ قصير صديقة حميمة لها بل أختاً محبوبةز ورآها رادامس كبيرُ قوّادِ فرعونو فأحبّها؛ وأحبتهُ لبسالته وكرم أخلاقه. فلم يلبثا أن تعاهدا على الود الدائم. وكانت امتريس ابنة فرعون تكتم في فؤادها لرادامس حباً شديداً فخامرها ريبٌ في أمرهما وأخذت تُراقبها سرّاً لتقف على دخيلة الأمر وقد آلت على نفسها أن تنتقم من عائدة إذا ما أيقنت من حبها لرادامِس. وفي تلك الأثناء زحف أمونسرو ملك الحبشة بجيوشه على مصرَ , واستولى على طيبة فنهب وسبا , فخرج عليه رادامِس من مَنفْ بجيوش جرّارة وهزمهُ شرَّ هزيمة , ودخل طيبة منصوراً مثقلاً بالغنائم ومعهُ عددٌ كبيرٌ من الأسرى. وكان بينهم ملك الحبشة نفسهُ متخفياً بلباس ضابط. ثمَّ عاد القائد الظافر إلى منف حيث جرى له استقبالٌ باهر , ووضعت على رأسه أكاليلُ الغار , وأقيمت الحفلات الدينية في الهياكل شكراً للآلهة. وسأل رادامس فرعونَ مصر أن يعفو عن الأسرى , فأجابهُ إلى سؤله , وأطلق سراحهم جميعاً ما عدا أمونسرو فإنهُ أبقاهُ أسيراً مع عائدة وكان قد عرف أنهُ أبوها(4/286)
وأراد فرعون أن يُجزل لرادامس المكافأة فعرض عليه أن يزوّجهُ ابنتهُ أمنريس على أن القائد كان لا يزالُ أميناً على عهد عائدة وقد عقد النية على الاقتران بها كيف كان الحال. فأوعز إليها أن توافيه ليلاً إلى مكان قرب هيكل
إيزيس. وكان أمونسرو قد عرف في مدة أسره شغف قائد المصريين بابنته , فرأى أن يستخدم هذا الحبّ للتغلُّب على مصرو لاسيما وغن الحبشان كانوا يتأهبون لاستئناف القتال. فكمن للحبيبين قرب الهيكل , وهكذا تمكن من أن يسمعَ القائدَ المصريّ يتفق مع عائدة على الهرب ويعين لها الطريق الذي سيسيران فيه لئلا يلتقيا بالجيوش المصرية الزاحفة لمقابلة الجيوش الحبشية. ولما ظهر من مخبإِه ذُعر رادامس وأدرك أنه خان(4/287)
بلادهُ لأن عدوها أطلع على خطة الجيش. واتفق أن امتريس كانت في تلك الأثناء في هيكل إِيزيس , وبينا هي خارجة مع الكاهن رأت المجتمعين وسمعت بعض حديثهم. فلم ير رادامس إلاَّ أن يسلم نفسه كخائن لوطنه , وفاز امونسرو مع ابنته بالهرب أما رادامس فحكم عليه بأن يدفن حيّاً , فعرضت عليه ابنة فرعون عفو أبيها إِن هو أعرض عن عائدة فأبى؛ ولما أُزل في القبر المعدّ لهُ وجد أن عائدة قد سبقتهُ إليه: فدُفنا معاً.
وقد وقفنا على العقد الذي وضع بشأن رواية عائدة فأحببنا أن نطلع القراء عليه , والأصل محفوظٌ في سجلات الأوبرا الخديوية وهذه ترجمتهُ:
بين الموقعين أدناه:
مسيو أوغست مارييت بك باسم وإِذن سمو إسماعيل باشا خديوية مصر من جهة , ومسيو جوزف فردي مؤلف موسيقيّ من جهة ثانية تم الاتفاق على ما يلي:
يتعهد مسيو فردي بتأليف موسيقي رواية ملحنة أوبرا مؤلفة من أربعة فصول عنوانها عائدة التي قبل بموضوعها مع حفظ حق التعديلات التفصيلية التي قد يوافق إِدخالها تُمثل هذه الأوبرا في تياترو الأوبرا الخديوية في القاهرة خلال شهر يناير سنة 1871.(4/288)
ينظم أشعارها الإِيطالية شاعرٌ يختارهُ مسيو فردي , ولا يكلف مسيو فردي الحضور إلى القاهرة لمراقبتها وحضور مراجعاتها , بل يمكنهُ أن يرسل من قبله شخصاً يختارهُ لإِرادته العمل وإِعداده حسب رغائبه إذا وجد ذلك ضرورياًز بعد تمثيل عائدة في القاهرة يحقُّ لمسيوج فردي أن يمثلها في أوروبة على المسرح أو المسارح التي يختارها. يختار مسيو فردي في جوقة التمثيل الإيطالية الموجودة في القاهرة الممثلين الذين يقومون بأدوار الرواية. الموسيقي والكلام في رواية عائدة يكونان في مصر ملكاً تامّاً لسموّ الخديوي. يحفظ مسيو فردي لنفسه ملكية الكلام والموسيقى في سائر أقطار العالم يرسل مسيو فردي إلى مصر ,
أو يسلم في باريس في الوقت المناسب , إلى مندوب سمو الخديوي نسخة ملحنة من موسيقى عائدة يتقاضى مسيو فردي مقابل هذا العمل مبلغ 150 ألف فرنك. يُدفع هذا المبلغ على قسطين: خمسين ألف فرنك يوم توقيع الاتفاق , ومئة ألف فرنك يوم يسلم مسيو فردي أو يرسل إلى سمو الخديوي موسيقى عائدة. كتبت من هذا العقد نسختان في باريس في 29 يوليو 1870.
مقرٌّ بما فيه
الأمضاء: ا. مارييت(4/289)
أقبل هذا العقد مع التعديلات الآتية:
أوّلاً: الدفع يحب أن يكون ذهباً
ثانيّاً: إذا حدث حادث غير منتظر مهما كان ولا علاقة لي أنا بهِ أعني لغيرِ تقصير مني فلم تمثّل الأوبرا في القاهرة خلال شهر يناير من سنة 1871 , يكون لي الحق في تمثيلها أينما شئت بعد مضيّ ستة أشهر من ذلك التاريخ
الإمضاء: جوزبي فردي
إلى القراء
كان في النية كما وعدنا القرَّاء أن نخصّص هذا الجزء من الزهور بأبحاث أدبية اجتماعية عن حالة مراكش والجزائر وتونس وطرابلس الغرب كما خصصّنا الجزئين 6 و7 من السنة الأولى لهذه المجلة بموضوع مصر وسورية وذلك رغبة منّا في زيادة القراء معرفة بالأقطار العربية وأخبار نهضتها الفكرية. على انهُ لم يتسير لنا تهيئة جميع المعدات اللازمة بالنظر إلى صعوبة الحصول على المعلومات التي يقتضيها الموضوع. فرأينا , من أجل ذلك , أن نؤجلَ إصدار الجزء الموعود بهِ. ريثما تصلنا التفاصيل والمعلومات التي طلبناها من أنحاء مختلفة , فتتوافر لدينا المعدَّات اللازمة لجعل البحث مستوفياً يُرضي القراء ويفيدهم؛ وسيتمُّ لنا ذلك عن قريب , إِن شاء الله.(4/290)
تجاه البحر
ذهبتْ إلى الاسكندرية أصطاف. . . أستغفر الله! كبُرتْ كلمة الاصطياف بواسع معناها على ما يمكنني من سوانح الفراغز بل ذهبت لقضاء أيام ألتمسُ فيها راحةً من عناءِ الأعمال. فلمّاً بلغتُ النَزْلَ كان أوَّل مطلبِ لي أن أرى البحر؛ فتمشيت إليهِ , وحاذيت إِفريزَه الجديد , متخطراً على رَسلي , حتى انتهيت إلى حدّ الرصيف غرباً فعمدت إى صخرة وثويت عليها.
ثويت مفترجاً متخلّياً متروّحاً
غير أنني لم ألبث أن وجدتُني قد أُخِذت
أُخذْت بمحاسن ما أرى , واغتربتُ عن نفسي ساعةً. فلمَّا عدتُ من غربتي , حسبتنُي هيكلاً يتلهَّب بين تلك البسطةِ المائيَّة التي تُحيطُ بي لم يكن إلاَّ أن رسوت بجسمي مطلاًّ على ذلك الفضاء المتحشرج الليّن , المتضرّب المتلوّن , حتى مضى نظري طافياً فوق اللجج , طاوياً أبعادها , ملمّاً بآفاتها. وتدافعت خواطري متخذةً من أشعة النظر أسباباً ترتقي عليها أو سفائن تستقلُّها. فارْقَتٌ جسمي كما تفراقُ النحلْ الخليَّة , وانصرفت أشتاتاً بين السماء والماء. إنَّ للخواطر جنى عذباً تجنيهِ من آيات الماء الملِحْ. . . جنى معهُ(4/291)
التعب , وتعبهُ هو الراحة , على حدّ قول القائل:
إنما الراحة تبدي ... لٌ لنوع التَعَبِ
والتداوي نصَبٌ ... يُشفى بهِ من نصَبِ
ما صفةُ ذلك الجنى. . .؟
لا تكلّفوها شاعراً قديراً , ولا كاتباً تحريراً , ولا حكيماً خبيراً؛ بل ليسأل كلٌّ منكم نفسهُ عما أحسَّ وتصوَّر حين جلسَ إلى البحر مثل تلك الجِلْسَةِ. جنيت من تلك الرحلة الفكرية تعباً مرُيحاً , وأردت تدوينَ ما كسبهُ ذهني من محصولها , فعجزت عن أقلّهِ , ولم يسعني سوى أن أتنفس الصعداءَ بهذا النداء:
أيها البحر الشائقُ المهيب:
ماذا يبلغ علمُ إِنسانٍ جاهلٍ ضعيف من أسرار جلالك وجمالك؟ إذا طغَتِ الموجةُ من أمواجك فاستجمَعَت خضراءَ , وانحذفت رابية شماءَ , تأخذ العنان بعفُرتها البيضاء , فأيّ فكرٍ يُكبرُها إِكبارَها , وإن هي منك إِلاَّ أُلعوبة تتجدُّدُ كلَّ ثانيةٍ , وأعجوبة بينا هي الأولى
إذا هي الثانية. فإذا ملك النفسَ وملأَ الحسَّ إِعظام تلك الآياتِ , فما الذي تفعله الرَّوعةُ بالمتطلّع حين تهبطُ الرابية , وتنفعر لها الهاوية , فتقصف وهي متداعية , حتى تَنِشَّ نشيشاً , وقد تكسّرت إلى ألوف أجزاءٍ من الماس(4/292)
المتشعّب واللؤلؤء والمختلف النضار الساكب أو المتبسّط والجمان المصوغ أو المُتناثر. فإذا التمس العقلْ مزيداً وتعمَّق إلى مضطَرَب الذُّرَيراتِ فما حَيرتهُ ودهشتهُ لدى كل قطرةٍ , وفي القطرة جُزيئاتٌ لا تُعّدُّ: هذه تبسمُ وردية , وتلك ترقص لازوردية؛ إِحداها تحجلُ محمرّة , وأختها تزحف مخضرَّة؛ بعضها ينظرْ باللجَين شزراً , وبعضها يُضمرُ النار ويصفو مفترّاً
أيها البحر الشائقُ الجميلً!
تُجاهك لا يحسن إلاَّ التعجُّبُ والسكوت؛ وأنَّ مع السرور برؤيتك لأسفاً دويّاً من أنك أنت أيضاً حيٌّ وأنت أيضاً ستموت.
خليل مطران
أين أقام في مصر
العلماء الذين صحبوا نابليون بونابرت
كان مسيو جورج لجران قد قدَّم إلى المجمع العلمي المصري في شهر مارس سنة 1913 درساً عن منزل في القاهرة عاش فيهٍِ فريقٌ من العلماءِ الذين رافقوا بونابرت إلى مصرو وهذا المنزل لا يزال محفوظاً إلى اليوم وهو قرب ميدان الناصرية في شارع الكومي عند آخر حارة حسن كاشف الواقعة بين مدرسة الناصرية ومكتب البوستة. وكان في سنة 1798 إبان الحملة الفرنسوية مُلكاً لإبراهيم السناري الأسود , وهو اليوم ملك الأوقاف. وقد تمنى مسيو لجران على المجمع العلمي المصري أن يتخذ الطرق اللازمة لحفظ هذا الأثر من الدمار. فاجبيت أمنيتهُ وعينت لجنة حفظ الآثار العربية مبلغاً من المال للشروع(4/293)
في ترميم المنزل. وفي آخر أغسطس الماضي اجتمع في المنزل نفسهِ فريقٌ من الجالية الفرنسية يتقدمهم مسيو فوشه وكيل فرنسة ومسيو كرترون قنصلها في مصر فألقى عليهم مسيو ليجران خطاباً تلخصهُ في ما يأتي: هذا المنزلُ القديم الآن كان حديث البناءِ عندما فتح القائد بونابرت مصر سنة 1798. فإن البنائين والرسَّامين كانوا قد أتموا تشييده ونقشهُ منذ مدة يسيرة. وهذه المِطفرة الناشفة الآن كانت تُلطّف الهواءَ؛ والطنافس لثمينة تفرش هذا الرخام الأبيض , والمقاعد ول هذه القاعة تنتظر سيّد المنزل , وهو إبراهيم السنَّاري الأسود وكيل مراد بك الشهير الذي كان ينازع إبراهيم بك الكبير سيادة مصر في ذلك العهد. وكان إبراهيم السناري الأسود كما يدلُّ اسمهُ قاتم اللون أمَيل إلى السواد منهُ إلى السمرة. ويؤخذ من تاريخ الجبرتي أنهُ ولد في دنقلع حوالي سنة 1770؛ فهجر بلاده وهو يافع , ونزل النيل حتى بلغ القاهرة. فلم يجد فيها سبيلاً لكسب معاشه , فتابع السير حتى المنصورة حيث اضطر أن يكون بواباً في أحد المنازل. على أن إبراهيم كان على جانبٍ من الذكاء فتعلم القراءة والكتابة ثمَّ التركية والحساب. وانصرف من ثمَّ إلى الفنون السحرية , فأصبح أشهر من قال البخت أو أعدَّ الطلاسم والتعاويذ. ونال حظوةً في عيني المعلوك الشابوري , فاستصحبهُ إلى الصعيد , حيث توصل إبراهيم إلى التقرُّب من مراد بك. فكان ذلك بداية افترار ثغر الدهر لهُ. ولم يلبث(4/294)
أن أصبح صديق سيده وموضع ثقتهِ , فغمرهُ هذا بالهدايا والنعم. ولمَّا نزل مراد في الجيزة في السراي التي قامت محلها اليوم إصلاحية
الأحداث على طريق الأهرام عُيّنَ السناري وكيلاً له في القاهرة. فكان إبراهيم يفلوض امراء المماليك باسم مولاه , وصار منذ ذلك العهد مسموع الكلمة بعيد النفوذ. وكان له في القاهرة أبنية عديدة عندما صحّت عزيمتهُ على بناء هذا المنزل الذي نحن فيهِ , ولم يدّخر وسيلةً في توفير أسباب الهناء والرخاء في منزله الجديد , ويمكننا أن نتثبَّت ذلك بالعيان ممَّا بقي أمامنا من الآثار , وإن كان قد ذهب معظمها ولعبت بهِ يدُ الدهر التي لا تُبقي ولا تَذّر. ولو قدرت هذا الجدران على الكلام لإفادتنا أنهُ عند انتشار خبر وصول الفرنسيين إلى القطر بقيادة الجنرال بونابرت واستيلائهم على الاسكندرية , ترك مراد بك مزاحِمَهُ إبراهيم بك يحشد رجاله بالقرب من بولاق , وجمع هو جموعهُ وزحف لمقابلة الفاتح وفي 14 يوليو 1798 تقابل الفريقان في شبراخيت , فولى المماليك الأدبار. وبعد ثمانية أيام نازلهم بونابرت في أنبابة حيث توجد الآن المحطة الحالية. وفي مساء ذلك اليوم نام بونابرت في سراي مراد بك عدّوهِ المغلوب. أما مراد بك ففرَّ إلى الصعيد؛ ولحق إبراهيم السناري بسيدهٍ ولم يفارقهُ مدة الثلاث سنوات التي ظلّ يناوش الفرنسيين أثناءَها. وهكذا ترك السناريّ المنزل الذي نحن فيهِ. وعهد بونابرت بعد انتصاره هذا إلى الجنة في أن تختار منزلاً له(4/295)
ولأركان حربهِ. فوقع اختيارها على منزل محمد بك الألفي وكان قد تمَّ بناؤه منذ ثلاثة أسابيع فقط , وكان هذا المنزل قائماً شمالي ميدان الأزبكية بين فندق شبرد والنادي الفرنسي الحاليين. ولا صحة لما يُروي عن أن في القاهرة اليوم منازل عديدة قد سكن فيها بونابرت. ولكن المرجح أن القائد الفرنسي ذهب إلى الديوان الأكبر الذي لا يزال منهُ بعض حجر في شارع الرّويعي وشارع البواكي فوق محل سبيرو؛ وقد زار بونابرت أيضاً منزل الشيخ السادات والشيخ البكري , ولكني لم أجد قط ما يدلّ على أنهُ اتخذ لسكنه محلاً غير منزل ألفي بك. أمَّا الحاشية العسكرية والملكية فقد اتخذت لسكناها سرايات البكوات والمماليك حول الأزبكية , وقد درست آثارها كلها. وكان مع الحملة العسكرية بعثة علمية مؤلفة من 135 عضواً ولم يكن بدٌّ من إيجاد منازل لهم وللمجمع العلميّ المصريّ الذي ألَّفوه. فوقَّع بونابرت أمراً صريحاً بهذا المعنى يقضي بإسكانهم بقرب المعسكر العام بالأزبكية. ولا ندري ما الذي حال دون تنفيذ ذلك الأمر. على أن المقرّر أن مونج وبرتوله وكافارلي قصدوا إلى السيدة زينب؛ واحتلوا منازل عديدة كان قد تركها المماليك أنصار
مراد بك. وكان أجمل هذه البنايات منزل حسن بك الكاشف الذي قامت على أنقاضهِ مدرسة الناصرية الحالية. وكان تجاه هذا المنزل قصرٌ فخم لقاسم بك حيث يوجد الآن مكتب البريد الجديد , ومن الجهة الثانية للشارع كانت حديقة متسعة الأطراف وإلى جانبها سراي لعلي بك وقد(4/296)
محا معوَل الهادمين كل هذه الآثار , ولم يبقَ إلاَّ منزل إبراهيم السناري الذي نحن فيهِ الآن. هذه هي المنازل التي سكنها أعضاءُ لجنة العلوم والفنون التي رافقت الحملة الفرنسية. فاتخذ قصر حسن بك الكاشف مقرّاً للمجمع العلمي , وحوّلت حديقة قاسم بك معرض للتاريخ الطبيعي , فجمع فيها العالم جوفري سانتهيلير عدداً كبيراً من الحيوانات , واستنبت البذور التي قد استحضرها من فرنسة. وكان هناك أيضاً مكتبة عمومية يرتادها من يشاء , ومعامل كيماوية كان يُجري فيها العالم برتوله تجاربهُ ويلقي دروسه , فأمّها الكثيرون من الوطنيين وأخذوا يدرسون مدنية الغرب. وأقام كونته إلى جانب المعامل ورشاً أخرجت للمستعمرة الجديدة كل ما تحتاجهُ من آلات وأدواتٍ ومعدّات. وكان قصر قاسم بك من نصيب المغني فيلّوتو الذي درس أصول الموسيقى العربية على أربابها , وألّف فيها وصنّف. وسكن سائر علماء الحملة من فلكيين ومهندسين ومستشرقين وغيرهم حول تلك البقعة. أما منزل السناري هذا فوضع تحت تصرُّف المصوّر رغو لأن هذه القاعة الفسيحة كانت في غاية الموافقة. وكان بونابرت قد عهد إلى ذلك المصوّر في تصوير أعيان البلاد ووجهائها. وفي هذا المكان رسمت صور الشيخ السادات والشيخ البكري وغيرهما من أعيان الديوان الكبير والديوان الصغير. وكان نابوليون وهو منفيٌّ في جزيرة القديسة هيلانة(4/297)
يذكر الرسوم البديعة التي زين بها المصوّر ريغو سراياه في الأزبكيةز وحدث لريغو في هذا المنزل حوادثه متنوّعة فكان السذَّج ينظرون إليهِ كأنهُ ساحرٌ ويشيعون أن أعضاء بشرية معلقة إلى حائط القاعة التي يسكنها مشيرين بذلك إلى الصور العديدة التي كانت عنده. واتفق يوماً أنهُ أراد تصوير أحد النوبيين القادمين إلى مصر , فرضي النوبي بذلك ولما جلس المصوّر أمامهُ , ومزج الألوان , وأخذ يرسم على القماش تقاطيع الرجل وهيئته , قام هذا مذعوراً وخرج مستجيراً من شرّ إبليس. وكان جماعة العلماء يعيشون في راحةٍ وصفاء منصرفين إلى أبحاثهم ودروسهم , إلى أن حدثت فتنة القاهرة في أواخر أكتوبر سنة 1798 , فوجدوا أنفسهم منفصلين عن المعسكر العام. وكان عندهم شيءٌ من
السلاح للدفاع , على أنهم كانوا قليلي الخبرة في استعماله؛ ففكّروا هنيهة في أن يتركوا مقرَّهم ويلجأُوا إلى الأزبكية , ولكنهم خافوا على المكتبة والمجموعات العلمية من أن تذهب فريسة الثائرين , فأثروا البقاء حيث كانوا وإِن عرّضوا حياتهم للخطر , وتحصنّوا في المنازل وأقاموا الخفراء عند مدخل شارع حسن كاشف وقرب سبيل السيدة زينب , إلى أن تمكّن الجنرال لأنّ من نجدتهم وإعادة المياه إلى مجاريها. وبعد سكون الفتنة رجع العلماءُ إلى أعمالهم حتى يناير سنة 1800 فسافروا إلى الاسكندرية على نية الرجوع إلى فرنسة بموجب اتفاقية العريش. فحال دون ذلك نقض الاتفاقية. ثم حدثت موقعة المطرية ,(4/298)
وثورة القاهرة الكبرى وعودة إبراهيم بك إلى لعاصمة فاضطراه إلى مغادرتها لمعاودة القتال. وهكذا رجع العماءُ ثانيةً إلى المنازل المتقدّم ذكرها , ولكنَّ إقامتهم هذه المرة كانت أشبه شيءٍ بالمنفى. وجاءَ الطاعون فزاد موقف الفرنسيين حرجاً. ولما غُلبَ القائد مينو وتقهقر إلى الاسكندرية , أصدر القائد بليار نائبة في القاهرة الأمر إلى العلماء بأن يوافوه إلى القلعة حيث يكونون بمأمنٍ من الطوارئ. فرفضوا بتاتاً لأنهم كانوا يشعرون بأنهم بين أصدقائهم الوطنيين في حرز حريز. ولم يذكر العلماءُ قطّ أنهم وجدوا بين المصريين رجلاً واحداً أساء إليهم أو لم يحسن معاملتهم. وظلوا كذلك إلى أن جلت الحملة الفرنسية نهائياً عن الديار المصرية. أما إبراهيم السناري فإنه عاد منزله هذا , ولكنهُ لم يذُق فيهِ الراحة طويلاً , لأن القائد العثماني لم يدّخر وسعاً في إِبادة سلطة المماليك وتوطيد سلطة الباب العالي في مصر , وقد روى لنا الجبرتي مقتل السناري في الإسكندرية. ولكان هذا الرجل اليوم نسياً منسيّاً لولا أن فريقاً من العلماء احتلوا منزله , وهم الذين عرّفوا مصر القديمة إلى العالم , وذلك لخير العلم والإِنسانيةز
سئُل أعرابيٌّ: هل لك في الزواج؟
فقال: لو استطعتُ لطلقتُ نفسي(4/299)
عظة الحسون
عشيَّةَ يومٍ وقد أخذت عين الشمس المحمرَّة تغمض وتذبل , وقف الحسون على غصت صفصافةٍ قد تدلَّت أغصانها فوق جدول ماءٍ صافٍ؛ حيث اصطفت على ضفتيهِ الطيور على تباين أشكالها واختلاف أجناسها قال الحسون وقد سرَّهُ ائتلاف إِخوانه الطيور حول ذاك الجدول , تستقي من مائهِ , ومن ثمَّ تتفيأُ بظلّ تلك الصفصافة دون أدنى حسد أو تنازُع: إخواني , كنت ظننتُ أن تفاوت طبقاتكم وأجناسكم يحدث بينكم شيئاً من القلاقل والمشاغب , ولكني والحمد لله رأيت خلاف ما ظننت , فكأن تعدد مشاربكم , وتشتت جماعاتكم , وتباعد مساكنكم , كل هذا لم يكن إلاَّ دافعاً لكم لتسلكوا سبيل الألفة والمحبة , فضلاً عن أنكم سمحتم لمثلي أنا ابن الشعب الصغير فيكم بأن أعظكم كأنني عظيمكم , فالمولى يوفقكم وينميكم ويرزقكم بُرّاً وماءً. أما عظتي التي أعددتها لمثل هذا الاجتماع لتلقي على مسامعكم في أوَّل هذا الفصل فهي: ترون ولاشك أن الربيع قد برز بحلته وظهر بحسن طلعته؛ وأخذت أنفاسه المنعشة تمرُّ مقبّلةً مباسم الزهور , وزهور الثغور. وأخذتم أيضاً تشعرون بالواجب عليكم , وأنه يقتضي علينا أن نمزّق جماعاتنا المتحدة أفواجاً ونتفرَّق اثنين اثنين؛ بحيث نتألف أزواجاً تصفيق أجنحة(4/300)
وتغريد ألسنة أرى أن السرور قد استفزَّكم وأنا أعذركم على هذا , إِذ ليس أشهى من قرب الأحباب , ولا ألذّ من العزلة لعشيقين افترقا مدةً فذاقا الأمرّين. أجل , إِننا سنفترق الآن لنجتمع غداً. نفترق الآن اثنين اثنين , لنعود أربعة وخمسة؛ نفترق الآن لكي نعشش فنعتاض مما أفقدتنا تعديات البشر القساة؛ نفترق لنعلّم الإنسان كيف يجب عليهِ أن يسعى لأولاده , ويجتهد بمساعدة زوجته. نفترق لنصير أزواجاً أصحاب عمل وأرباب بيوت فنكون أعضاءَ عاملين في محيطنا الأدبي والمادّي. نذهب الآن ليفتش كل عصفور منا على عصفورة تناسبه وتعجبهُ , فيحبها وتحبهُ , ويتعاونان على تربية أفراخها الصغيرة. إِياكم أن يعتدي أحدكم على عصفورة صاحبه؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخصام والمقاتلة. وقد قال الكيم الغيرة قاسية كالموت والمحبة عميقة كالهاوية. إِياكم أن يبقى أحد منكم دون حليلة , لأنهُ يكون عرضة للانتقاد وإلقاء الشبهات , والويل لمن تقع الشكوك عن يده , ويقود أخاه إلى عمل الإِثم. إخواني أن الزيجة واجبة لازمة لاسيما وأنها لا تكلفنا شيئاً نحن جماعة الطيور بيت من القش اليابس , وحبة حنطة من الحقل وقطرة ماء من النهر هذا كلّ ما نتكلفهُ , فلا نحتاج القصور , لأن
قصورنا الجدران العالية والأشجار الباشقة , ولا نطلب الرياش , فكل ما في الطبيعة من تلك التي لم يلبس سليمان كواحدة منها هو لنا , ولا نطمع بالحلى , فإن ملابسنا لا تتغير فهي ثابتة مثل قلوبنا.(4/301)
تناسلوا وتكاثروا. وعيشوا اثنين اثنين طول هذا الفصل بمحبة وأمانة؛ وليرعَ بعضكم بعضاً , وليكن كلٌّ منكم أميناً على عهد زوجته , لا تخونوا لأن الخيانة من طباع اللئام. أوصوا فراخكم بأن يحبوا فراخ سواكم لأننا بدون محبة ووفاق لا يمكننا أن نعيش ونحفظ كياننا. قبل أن نفترق إلى أعمالنا ألفت أنظاركم إلى شيء مهم. وهو أنهُ غداً يأتي الأولاد , فيخربون بيوتنا ويسرقون أفراخنا ويأكلونهم؛ ولو كنت ممن يميلون إلى فعل الشرّ لقلت لكم: أفقأوا أعينهم! ولكن لا. فهذا يضرُّ بنا لأن ابن آدم حقود , فتجنبوا البشر كثيراً , لأنهم إذا كانوا يقتلون ويأكلون بعضهم بعضاًو فكيف تكون حالهم معنا؟ لا تتمثلوا بهم , إذ يأتون إليكم وبينهم المسيحي والنيّ واليهودي , وكلهم قد اتفقوا على الشرّ والاعتداء عليكم. أقول لكم اتحدوا , ولكن على الخير لا على الشرّ , فكما أنهم يتحدون على الشرّ دون الخير كذلك أنتم اتحدوا ولكن على الخير لا على الشرّ. غداً يؤمُّنا الصيادون. فلنهرب! أتعرفون إلى أين؟ إلى مكان لا تظنونهُ موافقاً وأميناً ولكنهُ على عكس ما تظنون. غداً بعد ما يتم نتاجنا , ويجتمع شتيتنا , وتلئم أسرابنا , نقصد بلاد البلقان هناك يلهو عنا الإنسان بقتل أخيهِ الإنسان.
مراد أبي نادر
ليس لكذوب مرؤة, ولا لضجورٍ رياسة , ولا لملول وفاء , ولا لبخيل صديق.(4/302)
الفضيلة
وجدتني يوماً من أيام هذه الحياة في عاصمةٍ من عواصم هذا العالم استفزتني فيها مشاهد متباينة أضحكنَ وابكينَ؛ وظللتُ متجولاً في مشارعها وشوارعها , وأنديتها وأوديتها , كأني ناشد ضالةً وهل تنشد في ظلمات هذه المدينة إلاَّ الفضيلة الضائعة لا بل الضالة لأنها هبطت من المحل الأرفع وهوت من الفضاء إلى ثرى الغبراء ومن عالم النور والسيَّارات والشموس , إلى عالم الظمة ظلمة الفضاء والعقول والنفوس , ونزلت من السماء سماء الصمت والسكون والراحة الأبدية , إلى حضيض جلبة الإنسان , وعجيج الحيوان , فضلَّت هذه الفضيلة وأضلَّت. ضلَّت حين لم تجد سكناً تأوي إليهِ في جديد مُستقرٍّ اختارته , وعرفت أنها التاثت بحمأة الخطيَّة , وأضلَّت لأنها تركت الفلاسفة والشعراء كحاطبين في الظلام. أضلَّتهم لأنها ربة عَبَدها الناس , لا جميع الناس , ولكن عبدها الشاعر والفيلسوف , وسجد لها الأدبيون والأخلاقيون وهم لا يدرون أين يضعون لها شطر الوجوه , فضلَّوا وأضلُّوا كما فعلت الآلهة من قبل فيا لضلال العابد والمعبود! ضائعة أنت أيتها الفضيلة وأنتم أيها الفلاسفة والشعراء وأركان الحكمة والآداب كل منكم فضيلةٌ أرضية ضائعة ضياع فضيلة السماء في الأرض؛ كل منكم فضيلة ضائعة ولكن يست بأرضيةٍ كما قيل , لأنكم أرواح سماوية , وجواهر مجرَّدة , هبطت مع الآلهة إلى الأرض, فضاعت(4/303)
آلهتكم وضعتم معها أنتم في ثنيَّات القرون. حقيقة كشفتموها ومَثَلٌ ضربتموه هو أن الأرض الخبيثة لا ينبت فيها الطيَّب بل الخبيث. الأرض الخبيثة تبخلُ على الزهرة بشيءٍ من قواها الحيوية فتخرجها ضعيفة القوام لا تقوى على الفواعل. تتأُر حتى من النسيم البليل , وتحرقها حتى حرارة شمس الخريف المعتدلة , ثم أنها تُودّع الحياة غير شبعانةٍ من الأيام كأنها أمل في صدر الفتاة ما عتم القضاء أن رماه باليأس فأطفأ نوره أما الأشواك فلها من التربة السوداء كل حياةٍ تجعلها راسخة الجذور رسوخ حب الأثرة في نفوس الجبَّارين , وتبرزها محدَّدة الرؤوس كأنها حراب الجنود المسخَّرة لتدمير الشعوب الضعيفة , وتكوّنها جاثيةً على الرمال كأَنما هي رؤوس الأرواح الشريرة نافرةً من بطون الأَرضين على وجه البسيطة. الفضيلة تلك الزهرة الضعيفة القوام لا تلبث أشواك الاجتماع أن تقضي عليها , لأن نفوس البشر تربة خبيثة لا تغذّي الأزهار ولكنها تغذّي الأشواك السامة , تبسطها على طريق المصلحين فتدمي أقدامهم , وتملأ بها سبيل التعسء فتزيد آلامهم , فيا تعست تلك
التربة الخبيثة وتعس من ورائها الجناة الآثمون! الفضيلة زهرة عطرة لا تحبُّ أن تخرجها الأرض , لا بل لا تحب هي أن تخرج من الأرض , لأنها لا تُريد أن تتغذّى بعناصر أشقياءِ هذا العالم تدكّهم عروش الظالمين , وتحشرهم في الأجداث المظلمة , فتحلهم الطبيعة غذاءً لها , فبئس غذاء الأشواك لا غذاء الورود , وبئست تلك(4/304)
الهياكل المحنَّطة التي أنفوا عليها حتى من فعل الطبيعة , والتي تحبّ الكبرياء حتى وهي أجداثها العميقة , والتي أقامت من الأهرام دليلاً على الجبروت. الفضيلة زهرة لا تحبّ أن تستمد من هواء هذه الأرض لأن هذه أنفاس وتلك حسرات ممتزجة بجواهره الفردة. نفثات صدورٍ وآلام , وحسرات كرام , لا تحب أن تنمو عليها تلك الزهرة الطاهرة , لأنها لا تريد أن تجتذب من الهوء آلام البشر وحسرات الإنسانية الشقية , ولا تحب أن تعيش في محيط تلك الأمواج الاثيرية التي يبعثها أنين المظلومين , وعجيج الفقراء , وأصوات الحزاني. حقاً أن الزهرةة قصيرة مدى الحياة لأنها شاعرة حسَّاسة ذات ضمير ووجدان في ظواهر هذه النفوس البشرية , فلذلك تتأثر وتتألم وتذبل تموت. فسلام على الزهرة! ما أشبه تلك الزهرة بالفضيلة , ما أشبهها بتلك التي تخالج صدر الأديب وتعالج نفس الفيلسوف , تريد أنتنمو لتكون فيَّاضة الوجود عى العالم بأسره , فتمنعها الرذيلة فيموت حاملها وتموت قصيرة مدى الحياة بموتهِ , فيا لرزية الإنسانية بفقدكِ أيتها الفضيلة!
النجف
محمد رضا الشببي(4/305)
في رياض الشعر
إلى الأمير عمر باشا طوسون
تألفت في مصر جمعيتان لمدّ يد المساعدة للدولة العثمانية وتخفيف ويلات القتال في الحرب الطرابلسية والحرب البلقانية , وهما جمعية إِعانة الدولة وجمعية الهلا الأحمر وقد ترأس الأولى دولة الأمير عمر باشا طوسون , والثانية دولة الأمير محمد علي باشا , فطاف الأميران البلاد مستنهضين الهمم , مستنديين الأكفّ , فبذل المصريون المال وكل أنواع المساعدة بكرمٍ وسخاءٍ , فاستطاعت جمعية جمع الإِعانات إِمدادَ الدولة بما فرَّج كربتها وسهّل عسرها , وتمكّنت جمعية الهلال الأحمر من تضميد جروح المقاتلين وإِسعاف المنكوبين ومؤاساتهم , مما رفع قدر مصر في عين الإِنسانية , وخلّد ذكر أُمرائها الفخام وأبنائها الكرام , وجعلهم مضرب مثل إِذا ما ذُكر الكرم والمرؤة. ولقد كان أبسط الجميع كفّاً , وأكرمهم يداً , وأبعدهم عزمةً دولة الأمير الخطير البرنس عمر باشا طوسون , فجاد بالمبالغ الطائلة من مالهِ الخاصو وبذل ما له من النفوذ البعيد وما عُرِف بهِ من الهمة العلياءِ لجمع الإِعانات للجيش العثماني , حتى أُعجب الجميع بسخائهِ وحميّتهِ , وإِن كانوا قد عرفوا دولة الأمير سبَّاقاً إلى كل مكرمة وتعوّدوا أن يروا له في كل مأثرةٍ يداً. وقد اعرب عن هذه العواطف كبير شعرائنا وأستاذهم - سعادة(4/306)
اسماعيل صبري باشا - بأبياتٍ كالذهب الأبريز رونقاً وجلاءً , فسألناه أن نحلّيَ بها جيد الزهور اعترافاً بمأثر الأمير , وحفظاً لهذا الشعر الجميلو فأجاب ملتمسناو وهذه هي الأبيات:
لك الإِمارةُ , والأقوام ما برحت ... بكلّ عالي الذري في الكون تأتمرُ
لو لم تَرثها لما ألقت أعنتها ... إلاَّ إليك خلالٌ كلها غررُ
يا ابن الأُلى لو أطلُّوا من مضاجعهم ... يوماً عليك لقالوا: إيهِ يا عُمَرُ
أعدتَ أيامهم في مصرَ ثانيةً ... حتى توهَّم قومٌ أنهم نُشروا
وسرتَ سيرتهم حى كأنهمُ ... إذا خطرتَ بأرضٍ مرةً خطروا
للهِ درُّك كم نبَّهت من هممٍ ... تثني على أهلها الآصال والبكرُ
وكم تعهدتَ جرحى من أسودِ وغىً ... أن يكشرِ الدهرُ عن أحداثهِ كسروا
مستندجداً من بني مصر أُلي شممٍ ... إذا رأوا ثلمةً في حوضهم جبروا
مستهيماً هامياً والنيلُ في وجلٍ ... من أن تجودَ بهِ أيمانكم حذِرُ
حتى تفاهمت الأرحامُ وادَّكرت ... ما بينها الأهلُ والخلانُّ والاسرُ
وآذن البرُّ بالسقيا وما فتئت ... منهمْ ومنك صنوفُ البرّ تنتظرُ
وحرَّكت كلَّ كفٍّ بالندى مِقَةٌ ... حتى تعجبتِ الأنهارُ والغدُرُ
والناسُ أن قام يستسقي الكريمُ لهم ... سحائب الفضل , بشّرهم فقد مُطروا
أبي علاءُ سعيدٍ أن يشابههُ ... إلاَّ ابنُ دوحتهِ إن قام يفتخرُ
ما زال يحمدهُ رائيك مُدَّكراً ... والأصل بالفرعِ إن حاكاهُ يُدَّكرُ
إسماعيل صبري(4/307)
رثاء فردي
نشرنا في صدر هذا الجزءِ كلمةً عن فردي وحياتهِ وروايتهِ عائدة , ونتحف القرَّاءَ الآن بأبيات غراء , نظمها أمير الشعر والإلهام في رثاءِ أمير الأنغام , قال:
فتى العقل والنغمةِ العالية ... مضى ومحاسنه باقية
فلا سوقةٌ لم تكن أنسهُ ... ولا ملك لم تزنْ نادِيهْ
ولم تخلُ من طيبها بلدةٌ ... ولم تخلُ من ذكرها ناحيه
يكاد إذا هو غنَّى الورى ... بقافيةٍ يُنطقُ القافيه
يتيه على الماس بعضُ النحاس ... إذا ضمَّ ألحانهُ الغاليه
وتحكم في النفس أوتارُهُ ... على العود ناطقةً حاكيه
وتبلغ موضعَ أوطارها ... وتغشى سريرتها الخافيه
وكم آيةً في الأغاني لهُ ... هي الشمس ليسَ لها ثانيه
إذا ما تنادى بها العازفون ... قل البرق والرعد من غاديه
فإن همسوا بعد جهر بها ... فخفق الحليّعلى الغانبه
لقد شاب فردي وجاز المشيب ... وعَيدا شبيبتها زاهيه
تمثل مصرَ لهذا الزمانِ ... كما هي في الأعصر الخاليه
ونذكر تلك الليالي بها ... وننشد تلك الرؤى الساريه
ونبكي على عزّنا المتقضي ... ونندب أيامنا الماضيه
فيا آل فردي نعزيكمُ ... ونبكي مع الأسرة الباكيه
فقدنا بمفقودكم شاعراً ... يقلُّ الزمانُ لهُ راويه
شوقي(4/308)
شاعرة تهاجرُ شاعرا
تُمسين ناسيةً وأُمسي ذاكرا ... عجباً أشاعرةٌ تهاجرث شاعرا
فهل الملائك كالحسانِ هواجرٌ ... إن الملائك لا تكون هواجرا
إن كنتُ لا أسعى لداركِ زائراً ... فلكم سعى فكري لدارِكِ زائرا
وأخو الوفاءِ يصونُ منهُ غائباً ... أضعافَ ما هو صانَ منهُ حاضرا
يُصيبك طيرُ في ترجيعهِ ... يا ليتني في الروض أصبحُ طائرا
ويهزُّ منكِ الزَّهرُ في زفراتهِ ... نفساً تظلُّ لها النفوسُ زوافرا
قد عشت دهرَكِ بالمحاسن صبَّةً ... وقضيتُ دهري بالمحاسن حائرا
هذا اتحادٌ في الرغائبِ والهوى ... أبداً ترينَ من المشاهد ما أرى
أنَّا اقتسمنا السحرَ فيما بيننا ... لله ساحرةٌ تساجلُ ساحرا
لابدَّ في هذي الحياةِ من الهوى ... أنَّ الهوى يهب الحياةَ نواظرا
ولقد تهبُّ عليهِ يوماً سلوةٌ ... فتُنيمُ ساهرةً وتترك ساهرا
يا ويحَ ذي قلبٍ يناجي مثلهُ ... يدعوه مؤنسهُ فيبقى نافرا
قلبان: ذو صبرٍ يعاني هاجرا ... أو هاجرٌ ظلماً يعذّبُ صابرا
متوافقانِ على الشكايةِ في الهوى ... كم جائرٍ في الحبّ يشكو جائرا
إن كان قلبي في التصبرِ مذنبا ... فليُمسِ قلبكِ في التصبر عاذرا
سيعود ذاك الودُّ أبيض ناصعاً ... ويصير هذا أخضر ناضرا
ولي الدين يكن(4/309)
الليالي الماضيات
نشرنا في الجزء الأخير من السنة الماضية في معرض الكلام عن رئيس الجمهورية الفرنسية الجديد - مسيو ريمون بوانكاره - ترجمة أبياتٍ صحيفة 536 نظمها يوم انتقل
من حضن الحياة العائلية إلى ميدان الجهاد والعمل؛ واقترحنا على شعرائنا أن ينظموها شعراً عربيّاً. فكان خير ما جاءَنا من هذا القبيل الأبيات التالية وإن كان ناظمها قد توسَّع في المعنى وتصرَّف بالأصل , قال:
هي الأيامُ سلسةُ الحياةِ ... وماضي العيش منها غيرُ آتِ
وقد جعل المهيمن من قديم ... مصيرَ العالمين إلى المماتِ
وليس بخالدٍ للناس شيءٌ ... سوى حسناتهم والسيئاتِ
وأعمالُ الفتى إن مات كانت ... ممثّلةً لهُ إحدى الصفاتِ
يكرّرُ ذكرها التاريخ دهراً ... وترويها أحاديثُ الرواةِ
رغيداً عيشهُ ما دام حيّاً ... وأيُّ فتى كذلك أو فتاةِ
إليكِ يا دنياي عنّي ... فإِني قد سِئمتُ من الحياةِ
وما أسفي على عيشٍ رغيدٍ ... ولا وقتٍ صفا من حادثاتِ
ولا أسفي على كسلٍ مضرٍّ ... يسمَّى راحةً عند الوُناةِ
ونفسي لم تكن إن غادرتني ... دواعي البشر تأسى للفواتِ
ولكني أسفت على سماءٍ ... صفت في الصيف من كل الجهاتِ(4/310)
ونارٍ أصطليها في شتاءٍ ... ودفءٍ في الليالي البارداتِ
وإخوان صفوا وأبٍ ودودٍ ... وخلٍّ ذي وعودٍ صادقات
ذوائبَ أسرة قومٍ ... وأخوة شدّةٍ وبني ثقات
وأمٍ من ذوات العَطف تحنو ... على طفلٍ حنوَّ المرضعاتِ
تبيت الليل ساهرةً عليهِ ... ونام من العشيّ إلى الغداةِ
وأيامي الجميلةُ قد تقضَّت ... وولّت بالشبيبة مديراتِ
على أنَّ التأسّفَ ليس يُجدي ... على تلك الليالي الماضيات
كاظم الدجيلي
استبداد واستبداد
يكرمُ المرءُ مستبدّاً بخصمٍ ... حيث لاقى كفؤاً لهُ فاستبدَّا
فإذا ما استبدَّ يوماً بخصمٍ ... غير كفوءِ لهُ اعتدى وتعدَّى
خليل مطران
تحت صورة شمسية
سرقتِ بحيلةٍ يا شمس رسمي ... فأشرقَ زاهياً غضَّ الإِهاب
إذا وافى المشيبُ أقولٌ فيهِ: ... على رُغمِ الزمان أرى شبابي!
حليم دموسي(4/311)
الصحافة
الصحافة صناعة الصحف. والصحف جمع صحيفة وهي قرطاس مكتوب. والصحافيون القوم ينتسبون إليها ويشتغلون فيها. والمراد الآن بالصحف أوراق مطبوعة تنشر الأنباء والعلوم على اختلاف مواضيعها بين الناس في أوقات معينة. فإنَّ فيها من تواريخ الأُول وأخبار الدول وفكاهات الروايات وغرائب الاكتشافات وأسعار التجارة وفنون الصناعة وضروب الانتقاد وشؤون الاقتصاد وأخلاق الغرباءِ وعادات البعداء ما يغني عن التوجه إلى بلادهم ومخالطة شعوبهم والوقوف على أحوالهم. ولذلك عوَّل الفضلاء على إِنشاء الصحف , بحيث أصبح سكان أقاصي المشرق يصل إليهم خبر أقاصي المغرب بأقرب حين , بعد إن كانت الأنباء تتجاوز الأيام العديدة للوصول من مكان إلى مكان آخر مجاور لهُ. فتأتي مختلفاً فيها لا يكاد الباحث عنها يعلم الحقيقة. وأوَّل من استعمل لفظة الصحافة بمعناها الحالي كان الشيخ نجيب الحداد منشئ جريدة لسان العرب في الإسكندرية وحفيد الشيخ ناصيف اليازجي. وإليهِ يرجع الفضل في اختيارها , فقلّده سائر الصحافيين من بعده. وكانت تسمى الصحف في أول عهدها الوقائع ومنها جريدة الوقائع المصرية كما دعاها بهِ رفاعة بك الطهطاوي. وسمُيت أيضاً غزتة نسبة إلى قطعة من النقود بهذا الاِسم كانت تباع الصحيفة بها فعُرّفت كذلك. وقيل أيضاً أنَّ أول صحيفة ظهرت في(4/312)
البندقية سنة 1566 كانت تسمى غزتة فشملت هذه التسمية كل صحيفة بلا استثناء. ولما نشأت الصحافة العربية أُطلقت عليها لفظة غزتة لأنَّ هذه الصناعة كانت حديثة العهد عند الناطقين بالضاد ولا أثر لها لدى كتابهم الأقدمين. ولما أنشأ خليل الخوري سنة 1858 حديقة الأخبار في بيروت أطلق عليها لفظة جرنال وهي كلمة فرنسية معناها يومي أي المنسوب إلى اليوم للدلالة على الصحف اليومية بينا كانت جريدتهُ أسبوعية وإِليك ما كتبهُ أديب إسحاق في نبذة لهُ عنوانها مباحث في الجرائد قال: ولا مناسبة بين الجرنال وبين الجريدة إلاَّ أن يقال أنهُ أُطلق أولاً على الصحائف اليومية من قبيل تسمية الشيء بما هو عليهِ ثمَّ عممهُ الاصطلاح فعرِفت بهِ الجرائد يومية كانت أو غير يومية ثمَّ رأى الكونت رُشَيد الدحداح اللبناني صاحب جريدة برجيس باريس الباريسية سدَّ هذه الثلمة فاختار لفظة صحيفة وجرى مجراه أكثر أرباب الصحف في ذاك العهد وبعده. فما كان من أحمد فارس الشدياق اللبناني صاحب الجوائب في القسطنطينية ومناظر الكونت رشَيد الدحداح في
بعض المسائل اللغوية إلاَّ أنهُ عقد العزيمة على استعمال لفظة جريدة وهي الصحف المكتوبة كما ورد في معجمات اللغة. ومن ذاك الوقت شاع اسم الجريدة لدى جميع الصحافيين بمعناها العصري ومنهم من استعمل غير ذلك من المسميَّات كالقس صابونجي السرياني صاحب النحلة الذي اتخذ لفظة نشرة بمعنى جريدة أو(4/313)
مجلة. وهكذا صنع المرسلون الأميركيون أصحاب النشرة الشهرية والنشرة الأسبوعية99 في بيروت وغيرهم. ومن تلك المسميَّات أيضاً الورقة الخبرية أو الرسالة الخبرية وقد استعملتها جريدة المبشر مع أكثر الصحف الدورية في بلاد الجزائر المغربية التابعة لحكومة فرنسا ومنها أوراق الحوادث وهو الاسم الذي أطلقهُ للدلالة على صحف الأخبار نجيب صوايا منشئ مجلة كوكب العلم في القسطنطينية. وكان الصحفيون لا يفرّقون أولاً بين الجريدة وبين المجلة في الاستعمال. ومن المعلوم أن الإفرنج أطلقوا اسم المجلة على الصحف الدورية التي تصدر على شكل الكراسة. فلما تولى الشيخ إبراهيم اليازجي إدارة مجلة الطبيب البيروتية سنة 1884 بالاشتراك مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل بك سعادة أشار باستعمال لفظة مجلة وهي صحيفة علمية أو دينية أو أدبية أو انتقادية أو تاريخية أو ما شاكل تصدر تباعاً في أوقات معينة. فأثبتها بمعناها العصري وتابعته في هذا الاصطلاح جميع المجلات التي صدرت بعدها والتي كانت قبلها. ثم شاعت في جميع الأقطار العربية شيوعاً أجهز على المعنى الأصلي حتى صار مهجوراً بالمرَّة. فلا يتبادر الآن إلى ذهن المطالع لدى عثوره على لفظة مجلة إلاَّ الصحيفة الدورية دون سواها ولا يطلق أحد من كتاب العصر هذه التسمية على صحيفة فيها الحكمة إلاَّ إذا كانت تصدر تباعاً في آونةٍ معينة. ومع ذلك إذا طالعت المعاجم العصرية لا ترى فيها للفظة المذكورة معناها الحالي الشائع بل القديم(4/314)
المهجور. هكذا توفق العرب المولدون إلى وضع أسماء لمسميَّات الصحافة الحديثة. وهو مطلب غير بعيد على أهل هذه اللغة طلبوه بأسبابه ودخلوه من أبوابه. وتختلف مواضيع الصحف باختلاف غايات أصحابها ونزعاتها ومشاربهم فتارة تكون دينية وطوراً سياسية وحيناً أدبية. وقس عليها العلمية والفنية والانتقادية والروائية والهزلية والتهذيبية والإخبارية والعمرانية والقضائية والأخلاقية والتاريخية وغيرها. ولكل من هذه التقاسيم الكبرى فروع بل فروع يطول بنا شرحها لكثرتها فنضرب عنها صفحاً. وقد
أصاب الدكتور شبلي شميل فيما كتبهُ بهذا المعنى قال: الصحف أنواع بقدر المواضيع التي تتناولها معارف البشر. وربما قصروها على فرع من علم بل على مبحث من فرع استيفاءً للبحث. وساعدهم على ذلك كثرة خاصتهم وحب عامتهم لرفع شأن العلم. . . بحيث لم تنقصهم في سبيلها النفقات التي هي لحياة الصحف كالغذاء لحياة الأبدان. فتكاثر عددها عندهم جدّاً حتى صارت فوائد العلم بها قريبة المنال عامة العرفان في كل مكانز إذ ليس للعلم وطن يؤثره على وطن ولما كانت الصحف تصدر في آجال معلومة فقد سماها الإفرنج الصحف الدورية أو الصحف الموقوتة أعني لأنها تنشر شهرية أو أسبوعية أو يومية. بل منها أيضاً ما يصدر مرَّتين في الشهر أو الأسبوع أو اليوم أو غير ذلك من المواعيد.
فيليب دي طرازي(4/315)
الحرب والسلم
افتتاح قصر السلام في مدينة لاهاي
لا يُنكر أحدٌ أنَّ الحربَ مجلبةُ الدَّمار والبوار , ومدعاةٌ لخراب العباد والبلاد , لما يتقدَّمها ويصحبها ويليها من بذل الأموال وسفك الدماء وتخريب الأمصار. فهي من بقايا الهمجية ومن آثار التوحش. لذلك هبَّ قومٌ من دُعاة الإنسانية يناهضون فكرة التسليح ويعملون على إِبطال القتال بتعميم مبدأِ التحكيم العام والاِستناد إليهِ بدلاً من التعويل على السيف والدفع. فسخر منهم الآخرون , وعدُّوا أمنيتهم من قبيل الأحلام , وإِن كانوا وأِباهم متفقين على ويلات الحرب وفظائعهم. ذلك لأنهم يرون الحرب دائمة ما دام الإِنسان ذا طمع , وقد يُدرج الإِنسان في كفنهِ , ولا يموت الطمع في صدره. والتاريخ شاهد لا ترد شهادتهُ في هذا الموضوع. فإن الحرب في نظرهم شرٌّ ولكنهُ شرٌّ متحتم الوقوع. على أن أنصار السلم لم يعبأ وأبهزءِ الهازئين , ولا بتصنيع الحوادث أحياناً لآمالهم بل ظلوا يكتبون ويخطبون ويسعون لنشر مباديهم , حتى أخذت فكرة التحكيم العام في المشاكل الدولية ترسخ شيئاً فشيئاً في الأذهان. ورأينا أكثر من مشكلة في هذه السنين تُحَلُّ عقدتها بالطرُق السلمية , بعد أن كانت مثيلاتها في الماضي لا تُحل إلاَّ بظبي الحراب وبإشعال البارود. فكرة السلم العام خطرت لكثيرين من الفلاسفة والاِجتماعيين منذ(4/316)
زمنٍ بعيد , ولكنها لم تبرز بشكل حسيّ إلاَّ منذ نحو ربع قرن. وذلك أنَّ فريقاً من كتَّاب الإنكليز , وفي مقدمتهم مستر ستدِ صاحب مجلة المجلات المشهورة , رأُوا وجوب تعميم هذه الفكرة. وأوحي إلى البعض أن اسكندر الثالث قيصر الروس يميلُ ميلاً أكيداً إلى إِيقاف التسليح في العالم. فما كاد هذا الاعتقاد يتجسم في رأس مستر ستدِ , حتى نهض يعمل بجدٍّ واجتهاد لتحقيق تلك الأمنية. فكتب عريضة وقَّعها من كل ذي مقام في بلاد الانكليز , وقدّمها إلى حكومتها ملتمساً منها فيها مخاطبة الدول في سبيل إِيقاف التسليح وتحديده. فأرسلت وزارة الخارجية الانكليزية تلك العريضة إلى القيصر. وبينما القيصر يتحفَّزُ للعمل , نشبت الحرب بين الصين واليابان فكان من العبث محاولة إِقناع الدول بإيقاف التسليح , ودويُّ المدافع يقصف في بعض إِنحاء العالم , فاضطر القيصر إلى تأجيل العمل وحالت وفاته دون متابعة الأمر. غير أن القيصر الحالي الذي خلفه لم يكن أقلَّ منهُ رغبةً في ذلك فدعا الأمم إلى السلام ,
ولبَّث الشعوبُ نداءَهُ. وكانت نتيجة ذلك عقد المؤتمر الأول في لاهاي عاصمة هولندة سنة 1899. ثم أراد أحد ملوك المال , مستر أندرو كارنجي , أن يشترك مع ملوك السياسة في هذا العمل المجيد , وأن يضع لمشروع السلام أثراً خالداً , فوضع سنة 1903 تحت تصرُّف حكومة هولندة مبلغ مليون ونصف مليون من الريالات لإقامة البناء اللازم لمحكمة لاهاي وإِنشاء مكتبة عمومية لمحكمة التحكيم المستديمة. فسرَّ ذلك حكومة هولندة وزاد(4/317)
افتخارها باختيار عاصمتها مركزاً مستديماً للسلام , وكعبةً تحجُّ إليها الآمال , فأرادت أن تشترك في المشروع اشتراكاً فعليّاً , وتُظهر للمستر كارنجي على هبتهِ العظيمة , فقرّرت إِنفاق مبلغ 56 ألف جنيه من خزانة الحكومة لابتياع خمسين ألف متر مربع من حديقة كانت قسماً من المتنزه الملكي. فتم البيع في آخر يوليو سنة 1905.
وقد تمَّ البناءُ الآن , وجرى الاحتفال الرسمي بافتتاح قصر السلام في الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي بحضور مندوبي الدول. وقد جاءَ هذا البناءُ فخماً , لطيف الشكل , خلواً من كل ما يدلُّ على العظمة الوحشية أو الحربية التي امتازت بها الأبنية الكبيرة حتى الآن. وقد زيّنت واجهة الدور الثاني من القصر بعدَّة تماثيل ترمز إلى العلوم والمعارف العصرية والمزايا الإِنسانية الراقية. وفي صدر البرج الكبير تمثال للتجارة , وآخر للصنائع , وبين نافذتي الواجهة قامت تماثيل شتى من اليسار إلى اليمين تمثّل البلاغة وحسن الطوية وقوَّة الإِرادة والسلطة أو القدرة والدرس والبحث والحكمة والإِنسانية والثبات ونُصيب إلى جانبي نافذة القاعة الكبرى تمثالان يمثّلان العدل والقانون كأنهما حارسان يحرسانها. ونُصِب فوق كل ذلك تمثال ملكة السلام بشكلها المعروف وقد جعلت يديها على قبضة سيف مسلول , لفَّت حوله خريطةً مكتوبة إِشارة إلى الشرائع السائدة. وتحت هذا التمثال فوق الرتاج أسدان فاغران فاهيهما. يفصل بينهما برج(4/318)
يحرسانها رمزاً إلى أنهُ لم تبقَ ثمت حاجة إلى القوَّة الوحشية لحراسة الحصون وإِنفاذ قرارات السلام. وهناك عدا هذا التماثيل الرمزية أربعة تماثيل أخرى تمثل أربعة رجال عظام: أحدهما تمثال هوجو جروتيوس أول مجاهد في سبيل الشرائع الدولية أهدته جمعيات السلام؛ والثاني تمثال الملك أدور السابع أهدتهُ جمعية السلام العام؛ والثالث تمثال السر رندل كريمر الذي كان يعمل مع كارل ماركس ومازيني في سبيل التحكيم الدولي , أهدته لجنة
التحكيم الدولي؛ والرابع تمثال المستروليم ستدِ صاحب مجلة المجلات الانكليزية , أهدته نقابة الصحافيين في هولندة. فيكون أبطال السلام الذينُ نُصبت تماثيلهم في القصر أربعة: قاضٍ وملكُ دستوريٌّ وزعيمُ عمَّالٍ وصحافيّ. أما داخل القصر فغاية في الإتقان والأبدع , وقد نُقِشت الرسوم العديدة على زجاج نوافذهِ , منها في المدخل الخارجي ما يدلُّ على فظائع الحروب ونكباتها من سيوف مخضبة بالدماء لا تعف حتى عن العجائز , وأمهات مضطربات جزعاً على أولادهنَّ , وقصور مهدَّمة , وكنوز مبعثرة , وجثث معفرة يظلها الموت. أما قاعة عقد المؤتمرات الكبرى فطولها نحو 74قدماً وعرضها 41. وهي تسع نحو 300 رجل , أمام كلّ واحد منهم طاولة للكتابة. وفي صدر القاعة نافذة كبيرة ملوَّنة الزجاج , وضع في جانب منها تمثال يمثل العدل , وإلى يسار هذه النافذة مواضع للجلوس درجات بعضها فوق بعض. أما مكتبة القصر فكبيرة متسعة تشغل جانباً كبيراً منه , وفيها أثمن(4/319)
الكتب وأكثرها فائدة وألذها تلاوة. وقد علقت في إِحدى قاعات القصر صورة مكبرة بالزيت تمثل المستر أندروكارنجي الذي تبرع بنفقة هذا البناء الفخم. والهدايا التي في القصر كثيرة لا تحصى أهدتها إليه حكومات العالم ومن جملتها سجادة ثمينة جاءته من الحكومة العثمانية وهي تملأ ارض قاعة الاجتماع الكبرى.
في سنة 1915 سينعقد مؤتمر السلم العام في هذا القصر الذي مرّ وصفهُ. وسيكون لدى المجتمعين أمورٌ خطيرة ومشاكل معضلة يتناولها البحث , وأهمها زيادة التسليح في العالم إلى حدٍّ كادت ترزخ تحتهُ أغنى الحكومات. وقد يصدرُ في ذلك القصر قرارٌ يقضي بإبطال الحروب وتحريمها , ويُناط أمرُ إِنفاذه بحكومات العالم بأسرهِ , فيتم ذلك الحلم الجميل وينصرف الإِنسان عن قتال أخيهِ الإِنسان إلى ما يُرقيّ شؤونهُ أدبيّاً وماديّاً. وقد تكون أوربة في حربٍ عمومية طاحنة إبَّان عقد المؤتمر , وقصف المدافع يُصمَّ الآذان , فلا يسمع أحدٌ صوتَ خطباءِ السلام وأنصار التحكيم , فيظل السلم العام حلماً من الأحلام , ويبقى العدل نوراً ضئيلاً تحجبهُ غياهب المطامع والغايات , ولا ينفك الحقُّ متضعضع الأركان تقوّضهُ القوَّة وتسحقهُ.(4/320)
أفكار وآراء
لا يطيق التردّد إلاّ النفوس الصغيرة , كما أن لشفق لا يسرُّ إلاَّ الخفّاش.
هيجو
الساقط من أعلى الشجرة لا يستنكف من أن يتمسك بأصغر الأغصان.
هيجو
لاشيء يحقّر الصغير في عيني نفسه كوجوده بجانب العظيم
أرفنك
ما أعظم السرور الذي ينشره محبُّ الخير في دائرته , وما أصدق ما قيل: إِن القلب الحنون نبع سرورٍ منعش يجلو الغمَّ عن النفوس
أرفنك
لا سلام بلا فضيلة. السلام كقوس قزّح ركنه في الأرض , وقوسه يتوارى في الزرقاءِ؛ تغسلهُ السماءُ بألوان النور , ولا يظهر إلاَّ بين الغيوم والدموع؛ هو انعكاش الشمس الأبدية , يُعرب عن وجود الأمن والطمأنينة , هو علامة ميثاقٍ بين الله والناس.
لتون
نهر الحزن العميق يجري بهدوء وسكينة.
لتون
لصيت الإنسان وما يقال عنه تأثير في مستقبله لا يقلُّ عن تأثير أعماله.
هيجو
من لا يبتغي إرضاء الناس , ولا يخشى سحطهم يتمتع بسلام تم
كمبس(4/321)
من ارتكب الرذيلة توصلا إلى الفضيلة , أنزل الفضيلة في سوق التجارة حبّ الذات أصل لكل فضيلة وكل رذيلة. فأسمى الفضائل أساسها حبُّ الذات , وأفظع الرذائل ناتجة عن الأنانية , ولذا قيل أحبب قريبك كنفسك. ما دام الداء مستتراً لا ينجع فيه دواء. أمهر الأطباء من كشف الداء قبل معالجته. أفظع العلل الرياء لأنه يستر كل داء. السعادة ككل فضيلة تتولد من ضدَّين: القناعة والاجتهاد. أفضل سبيل للإنسان أن يتخذ الوسط بين كل طرفين متضادين: كن كريماً لا مسرفاً ولا بخيلاً؛ لا جباناً ولا متهوراً؛ نزوعاً إلى العلياء ,
لا حسوداً طامعاً ولا مهملاً متقاعداً.
فؤاد شطاره
من كل حديقة زهرة
قالوا أميركا بلاد العجائب وقد أصابوا. فمن أمثلة ذلك ما تناقلته الصحف عن المستر بريان وزير الخارجية الأميركية الحالي. رأى هذا الوزير أن مرتبة البالغ خمسة وستين ألفاً وخمسمئة فرنك لا يكفيه فعزك على إلقاء محاضرات مأجورة واتفق لهذه الغاية مع مدير جوق متنقل يتولى التمثيل في المدن المجاورة لواشنطن عاصمة الولايات المتحدة. ففي أثناء الفترات بين الألعاب البهلوانية والغناء يقف الوزير فيلقي محاضرته. وللوزير 50 بالمئة من الدخل. فإن قل الدخل , فله المئتان والخمسون دولاراً الأولى من دخل كل ليلة.(4/322)
ويضطر الوزير أن ينام ويأكل في القطار ليتسنى له أن يقوم بوظيفته مهام الوزارة في النهار وإلقاء المحاضرات في الليل.
أصدر الأستاذ ويلكوكس في جامعة كورنل الولايات المتحدة إحصاء أثبت فيه أن الوفيات بين العازبين هي أكثر منها بين المتزوجين. فإن المتوفين بين سن 40 و 50 كانوا 9 وونصف في المئة من المتزوجين و 19 ونصف من العازبين. أما النساء فإنهم لا يكسبن كثيراً بالزواج ولكنه مقرر أن النساء المتزوجات هي أطول عمراً من النساء اللواتي لا أزوج لهن.
قرأت إحدى الانكليزيات في الجمعية العلمية الانكليزية مقالا عن عادة قتل الملوك في مصر القديمة. فقالت أن هناك أدلة كثيرة تثبت قتل القدماء لملوكهم تضحية كاليونان وأهل كريت وبابل وسورية والحبشة. وذه البلاد أما مجاورة لمصر وإما لها علاقة شديدة بها. والفكرة الأساسية في قتل الملوك هي اعتقاد القوم بأن إله الخصب والزكاء مجسد في الملك وأن خير البلاد ورفاهها متوفقان على وجوده متمتعاً بالصحة. فإذا كبر أو جاوز حدّاً معلوماً من السنين قتل ليتسنى للإله المقيم فيه أن ينتقل منهُ إلى من هو أصغر منهُ سناً وأقوى بدناً فلا يدركه انحطاط أو هرم.
بعد فتح ترعة السويس خطر للفرنسيين نقض برزخ بناما وفتح ترعةٍ تصلُ بين الأوقيانوس الهادي والاطلانطيكي , ثم اشترى الأميركيون هذا الامتياز , وقدروا النفقات اللازمة لإنقاذ المشروع بمبلغ 720 مليون فرنك. على أن ما أنفقوه حتى الآن يزيد على 1500 مليون , ولا يزال هناك قسم من العمل غير ناجزٍ , وسيجزي الاحتفال بترعة بناما في السنة القادمة وقد دعت حكومة الولايات المتحدة حكومات أوربة للاشتراك فيهِ.(4/323)
أزهار وأشواك
أخبار الأدباء
عاد القرَّاء وعدنا , بعدما قضوا - ولم نقضِ - أياماً في أعالي الجبال , أو على شواطئ البحر , فنهنئهم بسلامة العودة. أما بعد , فأول ما أنا محدّثهم به بعد هذه الغيبة هو بعض أخبارٍ عن أدبائنا وأعمالهم وتنقلاتهم , ومعظمهم من أصدقاء الزهور وأصدقاء قرَّائها: كثيرون هم الأدباء الذين نقلتهم الحكومة في هاتين السنتين من مقاعد التحرير إلى كراسي الدواوين , وقد ذكرتهم في حينهم. وآخر من وضعت يدها عليه في هذا الصيف ولي الدين يكن , فقد ألحقته بنظارة القانية , فأصبح صاحب الصحائف السود ولمعلوم والمجهول بقرب صاحب النظرات. وقد حدثت في هذا الصيف أيضاً حركة مباركة في إدارات صحفنا اليومية , فرأينا الأهرام والمقطم على ما هما عليه الآن من كبر الحجم وغزارة المادة وتوفر الأخبار البرقية والمحلية. وقد انضمَّ على تحرير الأهرام سليم سركيس وهو الكاتب المعروف , وسليم عقّاد وهو آخر صحافي هجر سوريا إلى وادي النيل. وعهدت رياسة تحرير المحروسة إلى فرح أنطون , ورياسة تحرير الوطن إلى الشيخ يوسف الخازن بعد سفر اسكندر شاهين إلى البرازيل , وترسل تحرير مصر توفيق حبيب. هذا أهم ما جرى في الدوائر الصحافية. أما في سائر الأدب(4/324)
فإن حافظ إبراهيم وخليل مطران قد هجرا سماء الخيال , وقضيا صيفهما إلى جانبي في مطبعة المعارف يشتغلان في ترجمة كتابٍ في علم الاقتصاد , وقد أنجزا أربعة أجزاء منه , وهما يُعدَّان الآن الجزء الخامس. وقلّما قابلت الواحد منهما إلاَّ ورأيت حوله هالة من الكتَّاب , هذا يساعد على وضع لفظة عربية لترجمة بعض المصطلحات , وذاك يُعيد النظر في البروفة قبل طبعها. . . أما شوقي فقد اتصل بي أنه سيتحف عالم الأدب عن قريب بالجزء الثاني من الشوقيات. هذه جريدة أخبارنا الادبية دوّنها بكل اختصار.
توارد خواطر
كان المارشال دي لكسمبرغ من أبسل قوّاد فرنسة وأشجعهم على عهد لويس الرابع عشر , وقد أحرز من الانتصارات في الحروب ما رفع قدره في بلاده , وألقى الرعب في قلوب أعدائه. وكان المارشال أحدب الظهر , على أنه لم يكن يرى في ذلك عيباً , بل كأنه كان
يتمثل بقول الشاعر العربي:
لا تظننَّ حدبةَ الظهرِ عبباً ... فهي في الحسن من صفات الهلالِ
وكذاك القسيُّ محدَوْدباتٌ ... وهي أنكي من الظبا والعوالي
كوَّنُ اللهُ حدبةً فيَّ إن شئتَ ... م من الفضلِ أو من الأفضالِ
فأتت ربوةً على طودِ حربٍ ... واتتْ موجةً ببحر نوالِ
ما رآها النساءُ إلاّ تمنَّت ... أن غدت حليةً لكلّ الرجالِ
واتصل يوماً بالمارشال أن أحد أعدائها قال: ألا يمكنني أبداً أن(4/325)
اغلب هذا الأحدب؟ فأجاب المارشال: ومن أين عرف الأعداء أنني أحدب , وما ولّيتهم ظهري قطّ. . .! فاشتهر جوابهُ , ودوّنه لنا التاريخ وعُدَّ آيةً في الفخر والدلالة على الشجاعة. ذكرني بالمارشال وجوابه ما روته لنا الجرائد عن الأسود جونسن الأميريكي بطل البوكس المشهور وزعيم الملاكمين الذي لم يقو على صرعه أحدق حتى الآن. ذلك أنهُ كان يتنزَّه في سيارته فصدمته سيارة أخرى , فأصيب بجرح في ظهره؛ وبينما كان الطبيب يضمد له الجرح قال جونسن: نازلت أشدَّ المصارعين وأُصبت بلكماتٍ شديدة , ولكن هذه هي المرة الوحيدة التي أصبتُ فيها بظهري! توارد خواطر لطيف بين القائد دي لكسمبورج الفرنسي , والمصارع الأميريكي.
تاريخ جديد
اعتاد الناس أن يؤرّخوا مراسلاتهم بتاريخ الشهر الإفرنجي أو الهجري أو القبطي , ولا أعرف في بلادنا تاريخاً متداولاً بين العامة والخاصة غير هذه التواريخ الثلاثة. لي صديق أديب - والحمد لله كل أصدقائي من الأدباء - موظف في إِحدى النظارات , يراسلني وأراسله مرّة في الأسبوع على الأقل , لأنه يتعذر علينا الاجتماع دائماً لكثرة المشاغل , فنعتاض بالمكاتبة - والمكاتبة نصف المشاهدة؛ هذا فضلاً ما أجده في رسائله من الأدب(4/326)
الجمّ والمُلح المستظرفة. وما كان ليخطر لي ببال أن أذكره لقرَّائي لولا الكتاب الأخير الذي جاءني منه , وقد أعجبتني طريقة تأريخه. صدَّر كتابه في الخامس والعشرين من الشهر , فلم يكتب التاريخ: في 25 من شهر كذا؛ ولم يقل كما كان يقول العرب: لخمسٍ بقين من شهر كذا؛ بل كتب: لخمسٍ بقين لقبض ماهينة الشهر. . . وفي هذه العبارة الموجزة بياناً
على حالة نفس الكاتب وحالة جيبه أوفى وأدلّ من الشكوى بقصيدة تعادل أبياتها تائيّة الفارض عدّاً. . .
للتفكهة
في قسم الحساب , الأستاذ يسأل التلاميذ:
لنفرض أنَّ لدى ثمانية منكم 48 تفاحة , و39 خوخة , و56 برتقالة و 15 بطيخة و 14 شمَّامة , فماذا يصيب كلاَّ منكم؟
أحد التلاميذ: وجع بطن. . . .
يجب أن نتزوج
لم أجد حتى الآن ما يوافقني
ولكن يمكنك أن تجد فتاةً عاقلة حكيمة محبة ظريفة كامرأتي
إِذن سأنتظر أن تترمل امرأتك. . .
حاصد(4/327)
ثمرات المطابع
تاريخ مصر - عرف القرّاء مما نشرناه للسيدة هند اسكندر عمون في مجلة الزهور من الأبحاث الشائقة أن هذه الكاتبة الفاضلة لا تُعالج من المواضيع إلاَّ التي تقتضي بحثاً وتدقيقاً , ولكل كاتب أسلوب وولع في مواضيع خصوصية. ولقد رأت شدة احتياج المدارس إلى كتاب يتضمن تاريخ مصر القديم والحديث , بطريقة جامعةٍ سهلة المنال يقف الطالب فيها على الحوادث مع معرفة عللها ومعلوماتها دون أن يضيع في التفاصيل , فأقدمت على هذا العمل الشاق بهمةٍ ونشاط , وجمعت المعلومات اللازمة من أوثق المصادر وأثبت الموارد , ووُقفت إلى وضع كتاب استوفت فيه شروط الكتابة شكلاً وموضوعاً , فجمعت في صفحاته الثلثمئة جميع أطوار التاريخ المصري منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا , وضمنته نظرات صادقة في أحوال البلاد ومدنيتها على عهد كل دولة من الدول التي تعاقبت في حكمها؛ كل ذلك بأسلوب فصيح رشيق خلو من الحشو والفضول. ولقد أطلعت اللجنة المناط بها فحص الكتب في نظارة المعارف العمومية على هذا السفر النفيس , فراقها العمل وقدرت الكتاب حق قدره , فقررت تدريسه في المدارس الأميرية كما قرَّرته إدارة المدارس الأميريكية ومعظم مجالس المديريات , فكان إجماع هذه الدوائر العلمية على اقتناء هذا الكتاب خير شهادة على مقدرة المؤلفة وعلى فائدة تأليفها وأهميته.(4/328)
وقد تولّت نشر هذا الكتاب مطبعة المعارف الشهيرة , فأخرجته بحلة جميلة شائقة , وهو مزين برسوم وصورٍ عديدة , مضبوطة أعلامه وكلماته الصعبة بالشكل التام.
تاريخ الصحافة العربية - أشرنا إلى الجزء الأول من هذا المؤلف النفيس الذي عني بوضعه حضرة الفيكونت فيليب ده طرَّازي. وفي يدنا الآن الجزء الثاني منه وهو يقع في 336 صحيفة تناول البحث فيها الحقبة الثانية من تاريخ الصحافة العربية منذ افتتاح قناة السويس إلى التذكار المئوي الرابع لاكتشاف العالم الجديد 1869 - 1892. ويكفي تقليب صفحات هذا الكتاب للدلالة على ما بذله مؤلفه الفاضل من السعي والاجتهاد لجمع هذه المعلومات المتفرقة عن موضوع متشعب الأطراف قليل المستندات. فقد استوعب فيه تاريخ الصحف والصحافيين في بلاد الدولة والبلاد الأوربية , مع ذكر منشأ كل صحيفة وبحثٍ في أسلوبها وخطتها وتاريخ منشئيها ومحرريها , وصور مشاهير الكتّاب وترجمة حياتهم مما يدلُّ على استقراء وتنقيب وحسن ذوقٍ في التدبيج والترتيب , فجاء هذا الكتاب
حاوياً تاريخ الأدب والنهضة العربية في تلك الحقبة , ناشراً ذكر رجال أفاضل وكتّاب مجيدين لم تكن الأيام حافظةً عنهم للخلف شيئاً يذكر , بل كانت آثارهم تكاد تُدرس لو لم يهتم حضرة الفيكونت بهذا العمل الجليل , ولقد أحسن الياس أفندي حنيكاتي الأديب البيروتي المعروف في اقتراحه على الصحافيين والأدباء تقديم هدية لناشر(4/329)
تاريخ الصحافة إقراراً بجميل خدمته الوطنية. وقد نشرنا في غير هذا المكان من الجزء الحالي نبذةً من هذا الكتاب للدلالة على أسلوبه.
العراقيات - في العراق طائفة من الكتّاب والشعراء قلّ ما كان يعرفه عنهم أهل بلادنا , ولقد عنيت الزهور بهذا الموضوع كثيراً فأثبتت تراجم البعض منهم , ونشرت للبعض الآخر شيئاً غير يسير من المنظوم والمنثور. ولقد جاءنا أخيراً كتاب العراقيات لجامعيه الأدباء رضا وظاهر وزين أثبتوا فيهِ مختارات من شعر عشرة من مشاهير شعراء العراق وهم: السيد الحبّوبي والسيد الطباطبائي والسيد حيدر الحلي والشيخ جواد شبيب والشيخ كاظم الأزري والشيخ عباس النجفي والسيد جعفر الحلي والشيخ عبد الباقي الفاروقي والشيخ عبد المحسن الكاظمي والأخرس البغدادي. فاستحق ناشرو هذا الكتاب كل ثناء من محبي الآداب العربية.
حقائق وعبر - مجموعة مقالات أدبية ومباحث اجتماعية للأديب اسكندر أفندي الخوري البيتجالي , نشر بعضها في مجلة الزهور فليس كاتبها إِذن بالمجهول لدى قرَّائنا؛ يكتب بما يشعر وكما يشعر , فيُسمع من خلال كلماته أنَّاتٌ , ويلمح بين سطوره دمعات , فهو يتألم مما تتألم منه شبيبة العصر. وكتابه جديرٌ بالمطالعة.(4/330)
آداب اللياقة - هو كتيب يتضمن قواعد في الأدب الاجتماعية وأصولاً في قوانين المعاشرة استخلصها المؤلف مما أقرَّته العادة , وأجمعت عليه الأذواق , وتوافرت على الأخذ به الطبقات المهذبة في الأمم الراقية. فموضوعه نافع مفيد , بل هو لازم لمعرفة آداب السلوك في المعيشة واللبس والأكل والشرب والحديث والتزوار والمجتمعات الخ. والمؤلف من كتَّابنا المجيدين , وهو محمد أفندي مسعود , الصحافي وصاحب جريدة النظام بالأمس والمحرَّر الفني الآن في نظارة الداخلية. وقد خدم النشءَ بكتابه هذا خدمةً كبيرة , ورأت نظارة المعارف أن تقرّر آداب اللياقة للمطالعة في مدارسها بالنظر إلى عظيم فائدته.
جزيرة الذهب - عنوان رواية ترجمتها عن الألمانية حضرة الفاضلة السيدة ماري قرينة الصحافي القدير إبراهيم أفندي نجّار المعروفة لدى قرَّاء الجرائد برسائلها الإخبارية وأبحاثها المتنوعة. والرواية شائقة الحوادث جميلة المغزى طلية العبارة ستلاقي من محبي المطالعة إقبالاً واستحساناً.
أعذب ذكرى - مجموعة مقالات عربية وفرنسية وانكليزية في مواضيع أدبية وأخلاقية مما ألقاه مدرسة الفريز في بيروت في حفلاتهم المدرسية , وهي تنم عن استعداد منشئيها للكتابة وتدلُّ على عناية المدرسة بتثقيف عقول تلاميذها.(4/331)
مسز لوتي
حادثة محزنة جرت في ضواحي الاسكندرية
بقلم أديب مصطاف في كبوسيزاره
عرف الدكتور لوتي , طبيب الأسنان الأميركيُّ الطائر الصيت في الإسكندرية , الفتاة آسين. يزبك في بيروت منذ ثماني عشرة سنة أو أكثر مدبّرةً لمنزل طبيب أميركيّ يحترفُ طبَّ الأسنان مثلهُ , تعاونهُ آناً في مستوصفهِ , وتعاون زوجتهُ آناً في تدبير منزلها. واتفق أنَّ ذلك الطبيب شاخ واغتنى من صنعتهِ , فترك للدكتور لوتي مستوصفهُ , وانتقل مع عائلتهاِ إلى الولايات المتحدة , وانتقلت الفتاة آسين إلى منزل والدتها , وبعد أيامٍ أدرك لوتي قدر حاجتهِ إليها , بالنظر إلى حداثة عهدهِ في بيروت وجهلهِ بلغة البيروتيين , فطلبها , فأجابت والدتها:
أنت أعزب , وهذه بنتٌ , وليس من عادات البنات في الشرقِ أن يعاشرنَ عزَّاباً
قال: إني إذاً أخطبهاو وهذه يدي!
فمدّت الفتاةُ إليهِ وصافحتهُ , وأصبح لوتي وآسين من تلك الساعة خطيبين , كلٌّ منهما مؤتنسٌ بالآخر وراضٍ عنهُ كلَّ الرضي.
ثمَّ رأى لوتي , بعد عقد الخطبة , أنَّ بيروتَ أضيقُ من أن تسع مطامعهُ , أو تُبلغهُ الشهرة التي تصبو إليها نفسهُ , فقرَّر السفر إلى الإسكندرية والإقامة فيها. وكاشف خطيبتهُ ووالدتها بعزمهِ , واقترن قبل سفرهِ من بيروت بالآنسة آسين حتى لا يفصلها عنهُ عائق. ثمَّ ركب وإياها البحر إلى الإسكندرية , وأصبحت آسين من تلك الساعة مسز لوتي.(4/332)
ولقد حققت الأيامُ للطبيب آمالهُ في الإسكندرية قطارت شهرتهُ , وكثر الإقبال عليهِ من جميع أحياء المدينة , حتى ضاق مستوصفهُ بالوافدين إليهِ. وكانت آسين تعاونهُ في أعمالهِ , كما كانت تعاونُ قبلهُ الطبيب الشيخ في بيروت؛ وكانت المحبةُ تزدادُ بينهما على مرّ السنين حتى أصبحا مضرب المثل في ذلك بين جميع المعارف والأصدقاءِ. وولدت آسين خلال ذلك ولداً وثلاث بنات , فازدادت بولادتهم روابط المحبة بين الزوجين , وأصبح لوتي لا يترك مستوصفهُ إلاّ إلى زوجهِ يباسطها , وإلى أولاده يلاعبهم ويداعبهم. ومضى أربعة عشر عاماً وهذه حالها من الغبطة والهناءِ , لم يتكدَّر صفوهما , ولا تسرَّب إلى قلبيهما همٌّ.
وبينما هما بحبوحة الرغد إذا بوالدة لوتي قدمت من الولايات المتحدة لتزور ولدها فلما اجتمعت بهِ وبزوجهِ وأولادهما , نفرت من الزوجة وانعطفت على الأولاد , وانطلق لسانها في تعبير أمهم وتحقيرها في أعينهم , هازئة بها وبجنسيتها قائلة: أنتم أميركيون , يشرّفكم انتسابكم إلى أبيكم , ولا يحطّ من قدركم إلاّ أن يعرف الأميركيون أن أمكم آسين! وقد تمادت في تنفيرهم منها , بل حرَّضتهم على مقاطعتها والترفع عن ملازمتها ومصاحبتها في الزيارات وأمام أعين الناس.
كانت آسين نرى وتسمع ذلك كلهُ فتكتم الكمد وتظهر الصبرَ والجلد؛ ولم تكاشف زوجها بشيء مما تعانيه , ولا خاطبت حماتها بكلمة عتبٍ أو ملام , إلى أن اعتراها ذهولٌ شديد ذهب بلبّها وأفقدها صوابها. فحار زوجها في علتها ونقلها بيديهِ إلى المستشفى وأقام ساهراً عليها. وكأنما شعورها بعطفهِ وحنانهِ كشف عنها ذلك الذهول , فلم يمضِ عليها أسبوعان حتى عاد إليه صوابها. وكأنَّ ما أصابها خلق في(4/333)
نفسها قوَّةً لم تكن فيها من قبل فباحت لزوجها من جهةٍ , وللقنصلية الأميركية من جهةٍ أخرى , بما تفعله حماتها في منزلها مما كان سبب علتها. على أثر ذلك ردّ الدكتور لوتي والدتهُ إلى الولايات المتحدة , وردّ غيابها إليهِ وإلى زوجهِ وأولادهما تلك العيشة الهنيئة التي كانوا فيها من قبل , غير أنها لم تطل أكثر من أربعة أعوام إذ عادت أم لوتي , وقد عقدت عزيمتها على السفر بولدها لوتي , وأبنائهِ الأربعة دون أمهم إلى الولايات المتحدة. وكان الولد قد بلغ السادسة عشرة من عمرهِ , وبلغت البنت الكبرى الثامنة عشرة , والصغرى الرابعة عشرة. فاستأنفت سيرتها الأولى مع الأم والأولاد , وزادت عليها أنها اغتنمت فرصة بلوغ البنات لتشويقهنَّ إلى التزوُّج من بعض الأغنياءِ الأميركيين , وتمكنت من استمالتهنّ إليها. ولم ترَ آسين من زوجها في هذه المرَّة عطفاً في شيء , ولم تكشف له عن سريرتها لاعتقادها أنهُ لا تخفي عليهِ خافية من أمر أمهِ وأعمالها وأقوالها , بل لزمت الصمت , وتولتها الكآبة والحزن , ودبَّ في فؤادها اليأس والجزع , وباتت منغصة العيش تقضي الليالي سهداً وبكاءً , وتصبح حيرى يتنازعها عاملان بين أن تنتصف لنفسها من حماتها وتظهر سلطتها في منزلها وعلى أولادها , وهو العامل الأول , وأن تضحي نفسها فدّى لفلذات كبدها ولوالدهم الذي أحبتهُ وأخلصت له الودّ , وهو العامل الثاني. ومضت عليها أيام في هذه الحيرة حتى أخذ الجزعُ
منها كلَّ مأخذ ونحل جسمها ووهنت قواها إلى حدّ أنها عافت الطعام والشراب , وعجزت ركبتاها عن حملها , فارتمت في مخدعها خائرة العزم , وقد غلب عليها العامل الثاني. ولو علمت في تلك الساعة بأنّ زوجها نسي حبها واشتغل قلبهُ عنها بحبّ أخرى من النساءِ لباحت بما تكتمهُ , بل لربما كانت اختارت العامل الأول. إلاّ أنها كانت تحبهُ حبّاً مفرطاً , ولم يكن ليخطر في مخيلتها أنهُ يخونها في عهد أو ميثاق.(4/334)
وفي غسق الليل الذي عقدت عزيمتها فيهِ على الانتحار , أخرجت من خزانة أثوابها قميصاُ طرّزتهُ بيدها على أن تقدّمهُ في الصباح هديةً إلى زوجها في عيد ميلادهِ وفتحت نافذة غرفتها في كمبوسزاره وهي بقميص النوم , وكان القمر في أتمّ لمعانهِ يتلألأ ضوءُهُ على صفحات البحر العجاج , والأمواج تتلاطم وتتكسرُ على الصخور فيسمع لها هديرٌ يطرق الأذن , وترسل في النفس بعض الرعدة والخوف. غير أن آسين لم ترتعد فرائضها ولم تنثنِ عن عزمها , بل تراجعت وقد وطنت النفس على اتخاذ رحب البحر قبراً , وأمواجهُ كفنا. ثم أغلقت النافذة واستدعت إليها بنتها الكبرى , وسلمت إليها حسابات المنزل وما معها من النقود وقالت لها:
- إني مريضة يا ابنتي , وقد بلغتِ أنتِ من العمر حدّاً يلزمكِ فيهِ أن تعلمي تدبير المنزل , فاستلمي الحسابات
ثمَّ قبلتها , واستدعت ولدها وابنتيها الأخريين وقبلتهم قبلة الوداع الذي لا لقاءِ بعدهُ. . .
وعند الساعة الحادية عشرة من ذلك الليل عادت إلى النافذة , وكان أهل المنزل نياماً؛ فألقت نظرةً ثانيةً على البحر وأمواجهِ؛ ثمَّ أسرعت إلى الباب , ففتحتهُ وانسلّت منهُ إلى الشاطئ حتى انتهت إلى مكانٍ يشرف على غورٍ عميق , فألقت بنفسها إليهِ. وكان زوجها قد سمع , وهو في مخدعهِ , رنة الجرس في باب المنزل عند بضع دقائق , ولم يسمع حركةً تدلُّ على دخول قادم , فنهض وتفقد الغرف , فلم يرَ زوجتهُ في غرفتها ولا في غيرها فانطلق إلى الشاطئ يبحثُ عنها , فلم يرَ لها أثراً.(4/335)
عند فجر اليوم التالي نهض شقيقهُ هرّي مبكراً , وهو يجهلُ ما حدث , وأطلَّ بمنظارهِ على البحر , فكان أوَّلُ ما وقعت عينهُ عليهِ جثةً منتفخة ضاق عنها قميصها فتمزَّق. فنادي شقيقهُ الطبيب , فأقبل يتبعهُ الأربعة , فما أبصروا الجثة تتقاذفها الأمواج , حتى صاح
الرجل من أعماق قلبهِ:
هذه زوجتي. .!
وصاح الأولاد:
هذه أمنا. . .!
وخنقتهم العبرات ثمَّ تراكضوا واخرجوا الجثة وقد اقتضى استخراجها من البحر استخدام أربعة من الرجال؛ فستروها ببعض الملابس وحملوها إلى المستشفى ومنهُ نقلت إلى المرقد الأخير. . .
هذه حكاية مسز آسين لوتي التي روت الصحف خبر انتحارها في هذا الصيف , وفي قصتها عبرة وعظة.
الثعلب والعوسجة
قيل أنَّ ثعلباً أراد مرَّةً أن يصعد حائطاً , فتعلّق بعوسجةٍ , فعقرت يده , فأقبل يلومها؛ فقالت له:
يا هذا لقد أخطأتَ حتى تعلقت بي , وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء
ابن حمدون(4/336)
العدد 38 - بتاريخ: 1 - 11 - 1913
نابوليون أول
والمقابلة بينه وبين أعظم مشاهير الرجال
وهو فصل من كتاب تاريخ الإمبراطورية لموسيقو تيارس الفرنسوي
بقلم حضرة الشيخ سليم خطار الدحداح
ترجمة المؤلف
نبدأُ بترجمة المؤلف وقد أخذناها ملخصةً عن أشهر المعجمات التاريخية وأحدثها عهداً: هو المسيو لويس أدولف تياريس من أشهر الكتَبةِ في جبل الفرنسيس لهذا العهد , ومن أعلامِ ساستها العظام. ولِدَ في مدينة مرسيليا في الخامس عشر من نيسان أبريل سنة 1797 لأبوين فقيرَين. وكان أبوه أحدَ فعلةِ إدارة المرفأ في تلك المدينة. وكانت أمهُ مولودة الشرق في بيتٍ فرنسوي النجار ولها صلة قربى مع عائلة شينيه التي نبغ منها في تلك المدة الشاعران المشهوران. ويظهر أنَّ والدَ المسيو تياريس توفي وهو في حال الصغر , فأخذتهُ عائلةُ أمهِ ورتبهُ عندها , وكانت مع فقرها أحسنَ حالاً من أبي صاحب الترجمة. وكانت لا تخلو عن بعض علاقاتٍ مع أُلي الوجاهةِ والنفوذ في تلك المدينة , فأتيحَ لها نظم لويس في(4/337)
عداد طلبة المدرسة الرسمية المسماة ليسه مارساييل بلا مُقابل ولا عوَض. فمكثَ فيها مدةً طويلةً , حتى أتمَّ دروسه الثانويَّة , وحاز قَصَب السبقِ في أكثر المراتب والحلقات المدرسية - وكثيراً ما يَقعُ مثلُ ذلك للتلاميذ الفقراء في بيوت العلم , لما يُكثرون من الجّد والاجتهاد مُكتبين على التحصيل رجاء المصيرِ إلى غاية تترقىَّ بها حالتهمُ الوضعية وفي حالِ خروجهِ من المدرسةِ المذكورة دخل كلية مدينة اكس حيثُ تلقّى فنَّ القوانين والحقوق. وحصل في سنة 1819 على شهادة المحاماة. وفي هذه المدرسة الكليّة تعرَّف بالمسيو مينيه واستمرَّا صديقين عزيزين إلى آخر حياتهما. وقد ظهر تيارس , وهو تلميذٌ , كما عُرِفَ في سائرِ حياتهِ مجتهداً محبّاً للعلوم والمعارف , ميَّالاً إلى عدم الاقتصار على إتّباع خطةٍ واحدةٍ , شأنَ من طُبعِ على مساماةِ الأمور الجسام , وتوقد الذهن والحماسة. وفي سنة 1821 قَدِم تيارس مدينة باريس , وكانت حينئذٍ فرنسا في قبضةِ المملكة , ومصيرها إلى الهون , بعد انكسارات نابوليون الأول وتقهقُرِ الدولةِ بعد عظمتها , ولشمول شدَّة القلقِ قلوبَ الشعبِ , وتوزُّع خواطرِ الفرنسيس بين حبّ الملكيين وبغضهم , والميل إلى الجمهورية أو الأسف
على الإمبراطورية. فجاءَ تيارس ملتجئاًُ إلى مانويل وهو إذ ذاك أحدُ نوَّاب مجلس الأمة المعاكسين للبوربون , فمضى بهِ إلى المثري لافيت وعرَّفهُ بهِ وقدَّمهُ لهُ , وكانا كلاهما من أصدقاءِ الدوق دورليان رتيس الفرع الآخر الملكي وهو الذي ملك فيما بعد باسم لويس فيليب من سنة 1830 إلى سنة 1848 وهكذا توصل تيارس دفعةً واحدة إلى أعلى المراجع , وتعرَّف بأشهرِ رجالِ الأمة وأخذ يجتهد ويسعى حتى أحرز ذكراً متشاهراً. وقد أُشرب في قلبهِ لأول وهلةٍ بغض الأسرة المالكة , وجعل همَّهُ السعيَ لقلبها وإركاسها؛ وأخذ يُساعد في إنشاءِ جريدةٍ شهيرة مدعوة كونستيتوسيونل أي الدستوريّ واتّفق أن دخل صديقهُ مينيه في(4/338)
تحرير جريدة كوريه فرانسه وشرع تيارس منذ سنة 1823 في وضع تاريخ الثورة الفرنسوية فأكملهُ سنة 1827. فجاءِ تأليفاً كبيراً ذا عشرةِ أجزاءِ بحثَ فيها عن أسباب الثورة وحوادثها ونتائجها , وأعمال دولة فرنسا في خلال السنوات العشر المنقبضة بين سنة 1789 وسنة 1799 , منذ أُخذَت قلعةُ الباستيل إلى أن أستأثر بونابرت بالسلطة. ولكن يؤخذ على المؤلف في هذا التأليف فرطُ تشيُّعهِ لدعوة أهل الثورة , وشدَّة استسلامه للتقادير , واضطرار الرجال والناس إلى التسليم بهذا المعتقَد القدَريّ غير أن هذا التاريخ , على علاّتهِ , قد جعل لصاحبهِ منزلةً رفيعة بين أدباء فرنسا وأوربا بأسرها حتى صار يُحتسب من رجال الدنيا المعدودين. وفي غرَّة عام 1830 أنشأ هو ومينيه وأرمان كارول جريدةً سياسيةً , دعوها الناسيونال وكان لها شأنٌ كبير في هبوط شارل العاشر من عُلاه آخر تموز يوليو من تلك السنة. ثم أنَّ تياريس وبعض أصحابهِ هم الذين زيّنوا لويس فيليب للشعب؛ وكان تزيينهم إياه أقوى سببٍِ في صيرورته ملكاً على فرنسا. فأخذ هذا يقرّب إليه تيارس مكأفأة لهُ على خدمة. وكان من ثمرات تقرُّبهِ أنهُ عاضد وزارة لافيت ثم لمّا انقلبت هذه الوزارة , عمد تيارس إلى تعزيز وزارة كزيمير برّبي الشهير. ومن بعد موت هذا السياسي , انتظم تيارس في سلك الوزراء إذ سُمّيَ ناظراً للداخلية , وذلك في 11 تشرين الأول أكتوبر سنة 1832 وأشهر ما كان لهُ في عهد وزارتهِ توصّلهُ إلى إلقاءِ القبض على الدوقة دي برّي , والدة الكونت دي شامبور , التي كانت ساعيةً لإيقاظ راقدِ الفتنة , وإيقاد نار الثورة , مُطالبةً بحقوق ملكِ ابنها الأرثية على فرنسا ولكن يُخذ على وزيرنا الوسائط الغير الشريفة التي استعملها مع آلتهِ دوتز الإسرائيلي طلباً لهذه الدوقة
الأسيرة. ومنذ 11 تشرين الأول أكتوبر سنة 1832 إلى 29 من تشرين الأول(4/339)
سنة 1840 أي في مدة ثماني سنين كاملة تولى تيارس منصة الوزارة عدة مرارٍ , فكان تارةً في وزارة الخارجية وأخرى في الداخلية , وأحياناً في وزارة المعارف , وكثيراً ما تولى كلاًّ منها على حدةٍ , أو إحداها منضمةً إلى رئاسة الوزراءِ وأظهر في جميعها قوَّة جنان , ورباطة جأش نادرتين غريبتين. واشتهر بمحافظتهِ على كل ما يؤُولُ على مجد فرنسا , وبنزعته إلى إضعاف سلطه الملك الذاتية. وهو الذي حدَّد القوانين الدستورية بهذه الكلمات الشهيرة امَلِكُ بملكُ ولا يحكم. وفي 15 تموز يوليو سنة 1840 حدث أن اللَورد بلمرستون السياسي الانكليزي تمكن من عقد محالفة أوربية دون إدخال فرنسا فيها , قصدَ طرد رجال حكومةِ مصر من سوريا والأناضول. فبلغ ذلك الموسيو تيارس , وكان حينئذٍ رئيساً للوزارة وناظراً للخارجية , وابتدر إنكار هذا العمل محتجّاً على صاحبهِ , وحمل المَلك على إظهار الاستياءِ ممّا كان , ومازال بهِ حتى اضطّرهُ إلى تحصين باريس , وتعبئة جيوش فرنسا , وتسليح صنف الرديف والجند الاحتياطي , طلباً لشرف فرنسا. وتأهَّبَ للحرب ولكنَّ الملكَ تخوَّف من هذه الاستعدادات , واوجبَ على وزيرهِ أن يدَعَ المنصب مستقيلاً ففعل. وكان تيارس في مدَّةِ وزارتهِ قد حَصَل من لَدُن الانكليز على الرخصة بنقل رفات نابوليون الأول إلى فرنسا. ثمَّ خلف تيارس على الوزارة مناظرهُ المؤرّخ غيزو الشهير , وكان جانحاً إلى السلم ومُطاوَعَةِ الملك. أمَّا تياريس فإنهُ بهذين العملين الأخيرين , وهما نقلُ بقايا نابوليون واستعدادهُ لمحاربة أوربا , قد استمال الشعب إليهِ وحصل على محبتهِ وثقتهِ , واستمرَّ تيارس مدَّةَ السنوات الثماني التي مضت على زوال وزارته وسقوطه من منزلته إلى حين خلع الملك لويس فيليب , رئيساً لجميع المناوثين الذين حاولوا اهباط غيزو. . . وفي الـ 24 من شباط فبراير سنة 1848 خُلع لويس فيليب من تخت الملك , فانحاز تيارس إلى الجمهورية , وكان قد شرع بتأليفِ تاريخ لحكومة نابوليون الأول سمَّاهُ الحكومة القنصلية والإمبراطوريَّة(4/340)
وفي عهد الجمهورية الثانية من سنة 1848 إلى سنة 1852 كان عضداً للجمهورية ونائباً في المجلس. ولما تولىَّ لويس نابوليون رئاسة الجمهورية , كان تيارس في عداد خصومهِ. وبالجملة فقد آل الأمر بتيارس إلى أخذهِ مع من سيقوا إلى السجون بحادثة ثاني كانون الأول سنة 1851 ووضع في سجن قلعة مزاس بضعة أيام ثم
أبعد عن فرنسا وفي شهر آب سنة 1852 إذن له في الرجوع إلى وطنهِ فعاش فيهِ مدة إحدى عشرة سنة بعيداً عن السياسة والحكومة ملازماً الوحدة والانفراد منقطعاً إلى التأليف فأكمل في سنة 1857 انتخب نائباً في مجلس الأمة وكان من أعظم معاكسي نابوليون الثالث وقد اشتهرت خطبُهُ سنة 1870 مخالفة للرأي في شبوب الحرب على بروسيا. وبعد أن شبَّت نارها واشتدَّ أوارها ودارت على فرنسا الدوائر وأسر نابوليون الثالث كان تيارس في عداد الداعين إلى تشييد الحكومة الجمهوريّة وذهب من قبل الحكومة الجديدة معتمداً إلى لندرة ففيانا فبطرسبورج ففلورنسا سعياً وراء الحصول على مساعدة واحدة من انكلترا أو النمسا أو الروسية أو إيطالية ضد دولة بروسيا المنتصرة فلم يحل بأقلّ نتيجة وقد أتمَّ هذه الرحلة الشاسعة بمدة لا تزيد على عشرين يوماً على كثرة تقدُّمهِ في السن وفي الـ 30 من تشرين الأول حصل بواسطة الروسية على الإذن بدخول باريس ليستجير الحكومة في مخاطبة بروسيا عقداً للصلح. وبعد عقد الهدنة وتسليم باريس شرع الفرنساويون بتنظيم الحكومة وتجديد الانتخابات فانتخب تيارس نائباً من قبل ثلاثين ولاية فاختار النيابة عن ولاية السين على نيابات سائر الولايات وذلك في 8 شباط سنة 1871 وفي 17 منهُ سمي رئيساً للحكومة الإجرائية ولمَّا شبت نار الثورة المعروفة بالكومونية أو الاشتراكية واستولى دُعاتها على باريس سلّم تيارس قيادة جيش لحكومة إلى الماريشال دي مكماهون(4/341)
ونال من بروسيا الإذن بزيادة الجيش فافتتح مكماهون باريس بعد حرب شهر ونصف آخر وحصار أسبوع كامل. ثم أن مسيو تيارس تمكن بحكمتهِ وجدّه وتعويل الدول عليهِ من تجديد قوة أدبية لفرنسا على أثر حطمتها الهائلة وبعث المتموّلين على تأدية أموال الغرامة الباهظة. وفي 12 ىب سنة 1871 انتخب رئيساً على الجمهورية وتأتي لهُ بعد ذلك عقد مقاولات جديدة مع ألمانيا لتقريب آجال الغرامة الحربية وخروج جنود ألمانيا من فرنسا وفي 5 آذار سنة 1873 أعلن للمجلس , والناس يغبرون مهللين مصفقين بالأيدي , أن خامس أيلول عامئذٍ هو موعد خروج آخر جندي ألماني من أرض الجمهورية. فقرَّرت ندوتا النواب والشيوخ أن المسيو تيارس قد استحق معرفة جميل الوطن. . . بيدَ أنهُ لم يستطع طول المكث والاستمرار في منصبه , إذ كان معظم النواب ضد الجمهورية؛ وبدا له عندئذٍ , فهوَّل على الهيئة النيابية بالاستقالة , فأقيل في الـ 23 من أيار سنة 1873 , وأديل منهُ
الماريشال دي مكماهون رئيساً للجمهورية. فاعتزل تيارس مظاهر السياسة , إلاّ أنهُ بقي رئيساً فخريّاً لحزب الجمهورية ولمناوئي حكومة الماريشال وفي 30 كانون الثاني سنة 1876 انتخب عضواً لمجلس الشيوخ نائباً عن ولاية بلفور. وفي خلال سنة 1877 توفي في مدينة سان جرمان وقد تجاوز الثمانين سنة من عنره فأقام له الفرنساويون مأتماً عظيماً يندر مثله. ومن آثاره الجليلة عدَّة تأليف نخصّ منها بالذكر تاريخ لأس وأعماله المالية , طُبع في سنة 1826 و 1858 , وحقوق التملك طبع في سنة 1848 ومذهب الاشتراكيين سنة 1849 والقديسة هيلانة سنة 1862 وهي جزيرة منفى نابوليون الأول , وواترلو آخر مواقع نابوليون الأول سنة 1863. وأشهر مؤلفاتهِ كلها التأليفان اللذان ذكرناهما أولاً في سياق ترجمته , وهما تاريخ الثورة , وتاريخ الحكومة القنصلية والإمبراطورية. وقد ختم الموسيو تيارس هذا التأليف الأخير بوضع مقابلة أو موازنة بين أعظم مشاهير الرجال - يريد بهم أشهر من جاء(4/342)
ذكرهم في التواريخ الغربية من فاتحين وملوك وقوَّد - وهم بحسب تواريخ مجيئهم: الإسكندر المكدوني. وانّيبال القرطجني. ويوليوس قيصر الرومانيز وشارلمان الفرنكي أو الفرنساوي. وفريدريك الثاني الكبير البروسياني. ونابوليون الأوَّل. ولما رأيت طول باع المؤلّف المشار إليهِ في وضع هذه الموازنة وبيان منزلة كل واحد من هؤلاء الرجال الأَعاظم خلوّاً عن ضلع أو تشبُّع أحببت نقلها إلى اللغة العربية حبّاً بالإفادة:
الإسكندر
هو الإسكندر المكدوني المعروف بالكبير الملقب عند العامة بذي القرنين. ولد سنة 356 قبل المسيح وخلف أباه قيليبس على ملك مكدونية سنة 336 أي في السنة العشرين من سنيه وتوفي سنة 323 أي في السنة الثالثة عشرة من ملكه.
نشأ الإسكندر على آداب اليونان , وتشرَّب أميالهم ونزعاتهم إلى الزهو والخيلاء , وورث عن أبيهِ فيلبس جيشاً حسن الدربة والانتظام. فما لبث بعد استوائه على عرش الملك أن نهض للفتوح , فسطا على آسيا ودخلها إذ لم يجد إلاّ مملكة الفرس الهابطة الساقطة ومضى قدماً في غزاوتهِ حتى انتهى إلى أقاصي حدود المعمور وقتئذ. ولو لم تثبطه جنودهُ عن مزيد إقدام في التوغل والاستقصاءِ , لداوم الزحف إلى البحر المحيط الهندي. ولما اضطَّر إلى القفول لم يبقَ له إلاّ أمنّية واحدة وهي تجديد غاراته واستئناف غزاوته. ولا تحسبنّ
أيها القارئ اللبيب أن الإسكندر كان يقصد بالفتوح نفعاً أو خيراً لوطنهِ الذي لم يكن ليقوى على الاستئثار بتلك المظاهر , وإنما كن أقصى مرادهِ بذلك تمهيد مهيع عظيم في وجه رائد مطامعه وأمانيه؛ فغاية متناه بُعدُ الصيت وطائر السمعة والأبهة الخيالية وتحرّي مرضاة شعب أثينا. وقد ذكر المؤرَّخون شهرته بالكرم والحلم والرحمة والعدل , إلاّ أنهُ أقدم على(4/343)
قتل أشهر قوَّاد عساكره برمنيون وفيلوتاس وصديقه كليتوس لأنهم أطالوا ألسنتهم تنقُّصاَ لأعمالهِ الممجدة. وهذه البغية وإضرابها كانت ضالّته المنشودة في جميع آماله وأعماله - وما أجيبه قصداً وما أعقمها غايةً , فهي أسفل غايات عظام الرجال , وأخس شيء في مطامعهم - وبين هو يلتمس لأخر مرة قسطاً من الراحة لجيشه , أملاً في استئناف زحفاته وحملاته مطبقاً بها الأرض من أقاصيها إلى أقاصيها , وقد تبسَّط ملاءَة بموارد الخير والترف والغبطة والهناء في أكتاف آسيا , داهمته المنيّة فقضى وهو على الأرجوان مفرطاً في تعاطي الخمور والمسكرات , منغمساً في المنكرات والملاهي والملاذ الدنوية. . . أجل إن الإسكندر قد بهر عقول كل الأجيال والشعوب ببسالتهِ وسطوته , ولكن لا حياة في هذه الدنيا أعقم وأشأم وأبلغ في الإسراف وقلة الحيطة والصلاح من حياته؛ فإنهُ لم يجاوز بالتمدن اليوناني إلى ما وراء أيونيا وهي قسم برّ الأناضول المشتمل على أزمير إلى حدود القسطنطينة وسوريَّة؛ وقد كنتا قبله على نحو من ذلك؛ فذهب مغادراً جيل اليونان والديار التي داسها بالفتوح في حالة الفوضى شاغبة شاغرة برجلها , حتى كأنهُ أعدَّها وجعلها بأطرافها عرضة لمستحوذة الرومان: وبالحق قد فضل الفيلسوف على هذه الأعمال الفارغة أعمالَ فيلبومن ذلك القائد الحكيم الذي توصل , مع عدم اشتهاره بمثل هذه الشهرة العظيمة , إلى أن أطال حياة بلاد اليونان واستقلالها مدة بضع سنوات.
للكلام صلة(4/344)
التدبير المنزلي
في مدارسنا ومعاهدنا العلمية نهضةٌ حقيقية تناولتْ جميع فروع التعليم والتدريس. ولنظارة المعارف على هذه الحركة المباركة يدٌ تُذكرُ مع الشكر الجزيل. وقد أصابت مدارسُ البنات قسطاً وافراً من هذه النهضة , وأصبحت تتدرَّج شيئاً فشيئاً في مدارج الترقي والكمال. ومن الموادّ التي وجَّهت إليها النظارة اهتماماً خاصّاً , درس الاقتصاد المنزلي , ولا يخفي على أحد ما في هذا العلم من الفوائد الجمة. وقد أحببنا بهذه المناسبة أن ننقل هنا شيئاً عن مزاولة ذلك التعليم في بريطانية العظمى أطلعن عليهِ حديثاً في إحدى المجلات لعل النظارة تجد فيهِ ما يقع لديها موقع الاستحسان. أعارت بريطانية العُظمى ولاسيما انكلترا تعليم تدبير المنزل اهتماماً عظيماً في السنوات الأخيرة , فشادت عن سعةٍ مدارس المعلّمات لهذا الغرض , وأَنشأت في المدارس الابتدائية والثانوية فروعاً خاصَّةً بتعليم الاقتصاد المنزلي. وازدرى فريق من الانكليز ذلك الفنَّ الجليل فانبرى أشهر خطبائهم وأعظم كتَّابهم لرفع شأنهِ , وأعانهم ذَوو الأمر بنفوذهم الواسع , وشدَّدت الحكومة على ربَّات المنازل في تدبير منازلهنَّ فمن ذلك مثلا , أنَّ إِحدى المحاكم الانكليزية أصدرت يوماً حكماً على(4/345)
سيدة بالسجن والغرامة هذه حيثيات الحكم: حيث أن زوجة ب. كانت تقضي أكثر أوقاتها أمام وجهات المخازن الكبيرة , تتأمل القبعات والثياب المعروضة فيها , وماليتها لا تمكّنها من ابتياع مثل هذه الثياب؛ وحيث أنَّ جيرانها وبعض مفتشي البوليس رأوا رأي العين قذارة بيتها وسوء ترتيبه , وحيث أنهم رأوا زوجها يكنس ويغسل بدلاً منها الخ. فقد حكمت عليها المحكمة بالسجن الخ. وأصدرت محكمةٌ أُخرى حكماً على امرأة بالغرامة لأنها تحققت قذارة رأس ابنتها. ولم تكتفِ الحكومة بذلك وبما فاه بهِ الخطباءُ , وخطَّتهُ أقلام الكتَّاب مما يرفعُ شأن التدبير المنزلي , بل أشارت بوضع شهادة جديدة تُدْعى ليسانس الاقتصاد المنزلي تعدل قيمة الليسانس في العلوم الأُخرى العالية. ولم يلبث أمرُ هذه الشهادة أن نال أهمية كبرى لدى طبقات الانكليز المختلفة. فصار أكثرهم يعتبرُها حلية المرأة , والشرط المتمّم لتهذيبها , مثريةً كانت أو فقيرة. وأصبح اليومَ الرأيُ العامّ يمتدح ما كان بالأمس يذّم , ويُعظم ما كان يحتقر. وكانت بعض المدارس الثانوية قد أَبدت علناً عدم استحسانها لهذا المشروع , ورأت وضعَ الطبخ في بروجرامها إزاءَ اللاتينية واليونانية مُحطّاً من قدر العلم. فلم تلبث أيضاً أن انقاذت إلى الرأي العام , إِمَّا لاعتقادها بصحتهِ , وإِمَّا اضطراراً
وخوفاً من إِعراض الطالبات عنها. ولم يقعد هذا الفوز الباهر ذوي النفوذ في انكلترا عن متابعة السعي في توفير الوسائل التي تحبّب إلى الشابات تعلُّم تدبير المنزل والتي تحسّنهُ في(4/346)
عيون الأفراد , فأوعزت في جلوسترشاير مثلاً إلى كلّ ممرّضة من ممرّضات المجلس البلدي أن تعود الفقراء , وتمرّضهم مجاناً , وأن تعلّمهم قواعد حفظ الصحة وتنظيف المسكن والملبس , وأن تترك منزلها مفتوحاً أبداً ليدخلهُ من شاء رؤية حسن تدبيرها المنزلي. وقد روى بعض من زاروا تلك المنازل أنها تلمع كالشمس نظافةً وبهجةً رغم بساطة أثاثها ولمَّا كان تعليم الشابة تدبير المنزل ومعيشتهِ وواجباتهِ , فقد رأت بريطانية أن تُرَبّي حُبَّة في فؤادها منذ الصغر , وأن تزرعَ في نفسها - وهي لا تزال خاليةً من كلّ زرع - ولعاً بالترتيب والتنظيف والاقتصاد لا تؤثّرُ فيهِ طوارئُ الحياة وأدوارها , فأفسحت لتعليم تدبير المنزل مجالاً واسعاً في روجرام تعليم مدارس الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية وفي الجامعات الكبرى. فغدا بذلك أمر الاهتمام بشؤُون المنزل يُرافق الفتاة كلَّ أيام دراستها , كما يُرافقها سائر أيام حياتها بعد خروجها من المدرسة إذ تصبح ربَّة منزل.
طرق تدبير المنزل سبقت ألمانية وبلجيكية وأميريكة بريطانية العظمى إلى هذا العلم , وخبرته السنين الطوال , ورأت بريطانية أن تستفيد من ذلك الاختبار , لتتقي الوقوع فيما وقعت فيهِ تلك الدولُ من الخطأ , فوجَّه وزير المعارف إلى تلك البلاد الإِرساليات لدرس طريقة التعليم المثلى. ولم يلبث المرسلون أن عادوا إليهِ بتقاريرهم فعرضها على المدارس , وأجاز لكلّ مدرسةٍ أن تختار الطريقة التي تراها ملائمةً(4/347)
لمركزها وظروفها , عازماً على تقرير أوفاها بالغرض وأحسنها نتيجة في بروجرام المدارس. على أن كلّ هذه الطرق المتَّبعة الآن , وإِن فَضُلَ بعضهُا البعض الآخرَ قليلاً , طرقٌ حسنةٌ سهلة , تسير بالطالبة , خطوةً خطوة , من أوَّل الطريق حتى آخره دون أن تكلّ أو تملّ.
مدارس الأطفال الغالب الآن في هذه المدارس الاقتصار على تعليم الصغيرات إِزالة الغبار عن الأثاث , وترتيب الأمتعة بخلاف هذه المدارس في ألمانية. فإنها تعلمهنَّ أيضاً مبادئَ غسل الثياب وطبخ الأطعمة.
المدارس الابتدائية تُعطى طالباتها في لندره 60 أُمثولة في فنّ الطبخ يستغرق كلٌّ منها 3
ساعات , ولا تأتي التلميذة عليها إِلاَّ وتكون قد أَلمَّت علماً بكلّ أصناف الطعام والحلوى وباصطناع الخبز , وبطرق حفظ الفاكهة والبقول زمناً , وبطبخ بعض المآكل للمرضى والأطفال و40 أمثولة في غسل الثياب وكيّها على أَحدث الطرق بما فيها الثياب الصوفية والموَّنة , وفي رئق البالية منها. و 40 أمثولة في تدبير المنزل وتنظيفه , وفي أضرار المراحيض والمداخن وتطهيرها , ودروساً أُخرى في قواعد حفظ الصحة والعناية بالأطفال , وفي علم الحيوان والنبات , وفي طرق معالجة الأمراض والطوارئ الفجائية , ريثما يحضر الطبيب , وفي مضار الكحول , ودروساً في علم الاقتصاد المنزلي , وتنسيق الصرف على نسبة الدخل. غير أنَّ هذا البروجرام يختلفُ قليلاً المقاطعات , ففي جلوسترشاير مثلاً تراجِعُ الطالبات قبل الانتقال إلى المدرسة(4/348)
الثانوية في 10 دروس كلَّ ما تكون قد تعلمتهُ في المدرسة الابتدائية. وفي ليستر تبدأ الابنة دروسها , وهي في السابعة من عمرها , وتُعطى في السنة 50 أمثولة في الطبخ , يستغرق كلٌّ منها ساعة واحدة , فإذا ما بلغت الحادية عشرة , تُعطى 50 أُمثولة أُخرى في الغسل. فتبلغ بذلك ساعات درسها المئة سنويّاً. وفي ليفربول تتعلم التلميذات بعض القواعد الصحية عن ظهر قلوبهنَّ , كما يتعلمنَ هنا معاً بصوتٍ مرتفع الحروفَ الهجائية. فمن تلك القواعد التي يرددنها: من يحفظ فمهُ نظيفاً لا تُؤلمه أَسنانهُ وحيث لا تدخل الشمسُ يدخل الطبيب. وغيرها من نوعها. أمَّا فيما يختص بتعليمهنَّ العناية بالأطفال , فإِن المعلَّمِة تقودهنَّ فرقاً إلى مهد الطفل عند أُمه , حيث تُريهنَّ رأي العين كيفية الاعتناء بالطفل , وملاعبته ولفّه وتقميطه الخ. وقد تمكنت إِحدى هؤلاءِ الطالبات بهذه الطريقة من الاعتناءِ بأخيها كلَّ الزمن الذي قضتهُ والدتها في المستشفى , وكان عمرهُ عندما عُهد بهِ إلى عنايتها 14 يوماً.
المدارس المركزية ورأت بعضُ المدارس تعذُّر وجود جميع الأدوات والمعدّات اللازمة لتعليم تدبير المنزل في كلّ واحدة منها , فاتفقت على إنشاء معهدٍ مركزي عمومي , اشتركت في تأثيثهِ , فتذهب إليه طالبات كل مدرسة منها في مواعيد معيَّنة , حيث يتعلمنَ تدبير المنزل نظريّاً وعمليَاً وفي هذه المدارس المركزية قسمٌ ليليٌّ لتعليم الشابات.
التعليم في المنازل ومتى تقدمتِ الطالبةُ قليلاً في هذا الفنّ(4/349)
تذهب مرّةً في الشهر إلى منزل إِحدى المعلّمات , فتُديره بمعرفتها ليتسنى لها بدّلك تطبيق القواعد العلمية المدرسية على
العمل في بيتٍ منفردٍ. وفي تشستر وليفربول يؤجّر المجلس البلدي لهذا الغرض بأجَر متهاودةٍ منزلاً مؤنثاً لمعلّمات الابتدائية. وقد أبدت كثيرات من هؤلاء التلميذات مهارة عظيمة ونشاطاً وذكاءً في العمل؛ وكثيراً ما توصل البعض منهنَّ إلى اصطناع أبدع أمتعة المنزل من أشياء قديمة بالية لا قيمة لها. فمن ذلك أنَّ إِحداهنَّ أخذت مرَّة صندوقاً للشحن , وكستهُ قماشاً ظريفاً , وزانتهُ برسوم جميلة , فكانت منهُ مكتبة بديعة المنظر تليق بردهة استقبال. وحوَّلت أُخرى جرابات صوف بالية إلى ثوب طفل يصلح للأعياد , واصطنعت غيرُها من علب الحلوى إطاراً للصوَر متناً جميلاً. ولا ريب في أنَّ مثل هؤاء الطالبات يحوّلنَ منازلهنَّ إلى جنَّات غنَّاء. ولا تُتِمُّ الابنةُ دروسها الابتدائية إلاَّ وتكون قد خاطت كلَّ جهازها من القميص حتى القبعة , ومهرت كذلك في التمريض والعناية بالأطفال , وفي الغسل والطبخ , وفنون الاقتصاد , واصطناع الأبسطة , وتنجيد المقاعد والكراسي , والرسم والتصوير وسائر الأشغال اليدوية.
الاقتصاد المنزلي في المدارس الثانوية لم تُفسح هذه المدارس لتدبير المنزل المجال الذي أفسحتهُ المدارس الابتدائية ومدارس الأطفال , وذلك لأنَّ الطالبة تدخلها وقد أضحت من فضليات ربَّات المنزل , لا ينقصها إلاَّ النزر القليل , فتراجع فيها كلَّ ما تعلَّمت قبلاً مع التطويل(4/350)
والإِسهاب. وقد أرادت بعضُ هذه المدارس أن تصبغَ علم تدبير المنزل بصبغةٍ علمية , فضمَّتهُ إلى علمي لطبيعيات والكيمياء , وزادت فيه تعليم الطالبات كيفية تطبيق المبادئ الكيماوية على الشؤون المنزلية , فتوسَّعت في درس المواد التي يتركب منها كلُّ نوعٍ من أنواع الأغذية وكيفية تحولها الكيماوي بالطبخ والاختمار , وفحص المآكل بالمجهر , وطريقة اصطناع المسكَّرات والحلويات , ودرس محلولات خاصة بتنظيف الأمتعة والأقمشة , وغسلها من أصوافٍ وأجواخ وحرائر وجلد ورخام وزجاج وخشب , وكذلك في علم الآليات , وبعض دروس مالية وتجارية , كتسليف النقود والاسترهان , وتحرير العقود والصكوك , ومسك الدفاتر إلى غير ذلك مما يطولُ شرحهُ.
مدارس المعلّمات أما المعلّمات المكلَّفات بالتعليم في المدارس الابتدائية والثانوية فيتعلمنَ في مدارس عالية خاصة بتحضيرهنَّ للتدريس تعدّهنَّ للشهادات المنزلية العليا المقبولة من الحكومة , وتؤهلهنَّ للتعليم برواتب تتراوح بين 70 و 300 جنيه سنويّاً. ولا تقبل هذه
لمدارس إِلاَّ حاملات الشهادات الثانوية. ومن تتناوله دروسها علم الحياة , وعلم الميكروبات , والحقوق المدنية , والاقتصاد , ومسك الدفاتر. ومن هذه المدارس كلية تدبير المنزل في أيدنبرج وفيها , عدا ما تقدَّم ذكره في الكليَّة السابقة , أقسامٌ خاصَّة بتعليم كلّ فرعٍ من(4/351)
فروع تدبير المنزل على حدة , فتقصده كلُّ فتاة روم الاختصاص بفرع من هذه الفروع , وتخرج منهُ بعد 6 أشهرٍ بشهادة مربية أولاد أو مدبرة منزل أو طاهية الخ. وتُلقي كلية أيدنبرج أيضاً في العاصمة والضواحي محاضراتٍ في حفظ الصحة والتمريض والعناية بالأطفال وما شابه ذلك. فترى أنَّ التعليم المنزلي في بريطانية قد كاد يبلغُ حدَّ الكمال وهو لا يزال في طورهِ الأوَّل , فإِنهُ في حالتهِ الحاضرة يمكّن كلَّ انكليزية من إتقان شؤونها المنزلية , ويعلّمها كيف تُؤَنث منزلها بنفسها , فتصنع الأبسطة , وتحبكُ قشَّ الكراسي , وتُصلح الأقفال , وتزين الجدران والأمتعة بالرسوم والنقوش , وتتعهد بنفسها زرع أزهار حديقتها , وتقي تلك الأزهارَ في غرف المنزل من الذبول السريع , وتختار الألوان التي تتفق مع بعضها بعض في تنسيق الأمتعة وترتيبها بذوقٍ يزيدها جمالاً ورونقاً؛ فتجعلُ منزلها شعاعاً من نور نفسها , ونسمةً من حياتها , يُنير ويُحيي الأفئدة التي يضمُّها بين جدرانهِ. ولقد صدق الوزير الانكليزي الذي قال: إِن إدارةَ المنزل جيداً تستدعي من المقدرة والبراعة والذكاءِ فوق ما تستدعيه إدارة مملكة واسعة ولا ريب في ن مثل هذا التعليم في مصر , يؤثر تأثيراً سعيداً في الحياة العائلية وفي أخلاق الأمة وصحة عقولها وأبدانها , وفي سلامها ونجاحها , ويصرف اهتمام شابَّاتنا عمَّا لا يجديهنَّ نفعاً إلى ما يضمن سعادة أسرِهنَّ.
هند اسكندر عمون(4/352)
الضمير
الضميرُ قوَّةٌ من قوى النفس , بها يُقابل الإنسانُ أعمالهُ على الناموس الأدبي , ويشعر بالسرور أو الكدّر لمطابقة أعمالهِ لذلك الناموس أو لمخالفتها. فالضمير يستحثُّ الإنسان على إِتمام الواجب , ويدفعهُ على عمل الخير , أو يبكّتهُ على ارتكاب المنكر. فهو بشير السعادة الأبدية , ونذير الهلاك الدائم. ليست أفعال الحيوان ناجمةً عن شعورٍ بوجوب قضائها , وتَحتُّم إِجرائها. بل هي ناتجة إِما عن خوفٍ واقع , وإِما احتياج دافع. وليس الإنسان كذلك , بل أنَّ لمبدع الحكيم خصَّهُ بطبيعةٍ أدبية , وصفاتٍ كمالية فطرية. فسنَّ له من ناموس المحبة الكامل , وجعل له قائداً يُرشدهُ إليهِ , ودليلاً يدلهُ عليهِ , وما ذاك المرشد الدليل إلاَّ الضمير. إذا أردنا أن نحكم على أعمال الغير , نتصوَّر ما يبدو لنا من أعمالهم وما ينبئ عن أفعالهم. ونقابل ذلك على الناموس الأدبي , فيتّضح لنا ما ينطبقُ عليهِ , وما يشدُّ عنهُ , ومن ثمَّ يكون حكمنا صحيحاً مبنيّاً على التحقيق , صادراً عن العقل الأدبي وليس عن الضمير , لذلك لا نشعر في هذا الحكم بنخره ولا بمدحه. وليس الضميرُ معلولَ الخوف , إذ أنهُ موجودٌ في تسنموا أسمى المراتب , واستلموا زمام الأمور , يديرونها كيفما شاؤوا وشاءَ الهوى , فخافهم الجميع ولم يخافوا أحداً.(4/353)
وليس الضمير أثراً لملكةٍ استحكمت في الأذهان بالتكرار , ورسخت في النفوس مع تمادي الأدهار , ولا مما تدعو إليه قوَّة الوهم , أو صلاح المعيشة , أو حبُّ السلام , فإن هذه عللٌ متباينة في ذاتها , فضلاً عن تفاوت الأشخاص , في الميل إليها , والاستعداد الفطري لقبولها , فمعلوماتها تكون مختلفة في الماهية ومتعدّدة , والضمير لا يتعدّد في الإنسان , ولا تتفاوت ماهيته باختلاف الأحوال والأزمان. وقد خط بعضهم الضمير مع البواعث الأدبية كالميل للرحمة , وإيثار العدل , وحبّ الحقيقة. هذه البواعث هي غرائز أدبية , ضرورية لإرشاد الإنسان ولاسيما في حالته الأولى , حينما كان حجاب الجهل مسدولاً , وهي تظهر في هيئات خصوصية معدودة , وأفعال محصورة محدودة , ولا تتضمن واجباً كالضمير , فضلاً عن أنها كثيراً ما يعارض بعضُها بعضاً , فهي مفتقرة إلى قانون يُنظّمها: تعطف الغنيَّ عواطفُ الشفقة على الفقراء وتدفعهُ لمساعدتهم , ولربَّما جنح بعضهم من جراءِ ذلك إلى الخمول , فانقطع عن العمل , متربعاً على بساط الكسل , فتكون الرحمة لمثل هؤلاء ظلماً , والإحسان إليهم إِساءةً وجرماً. وكثيراً ما تكون الرحمة واجبة , حيث العقاب ضروري اقتضاءً للعدل؛ فإن
كان العدل مجرّداً , لا دخل للمحبة فيه , تعذَّر وجود الرحمة. لذلك لابدَّ لهذه البواعث من شروطٍِ تجب مراعاتها , ونظام تجري عليه , حتى الحقيقة فإنها لا تقال في كل الأوقات. والضمير يشابه العقلَ في بعض أعماله: فإنَّ من أعمال العقل(4/354)
إِدراك الأوليَّات , نحو كل جسم موجود في مكان , وكل تغير حادث في زمان , وكل حادث له سبب وما أشبه من البديهات التي لا تفتقر إلى برهان , ولا يختلف فيها اثنان. كذلك من أعمال الضمير ما هو بديهي لا يحتاجُ إلى شروط وسائط , كالرغبة في الخير والابتعاد عن الشرّ , تسديداً لمطالب الناموس الأدبي , الأمر بعمل الخير , واجتناب الضير. فمن آثر لشرَّ على الخير يسيء لنفسهِ أولاً ويضعف صوت ضميره , لعدوله عن سبيل الحق المنير وتسكعه في ظلمات اغرور. وقد يحو بين الضمير والحقيقة حجابٌ من نسيج الجهل , أو فاصل من مادة المآرب الشخصية , أو غشاءِ من ظلمة التهوُّر في دنايا الدنيا فينجح المرءُ إلى الشر بدلاً من الخير , ويشتري الضلالة بالهدى , ويسقط من أوج الفضيلة , إلى أقصى دركات الرذيلة , وبئس المصير , مصير المنافقين. أمَّا المستقيم في أعماله , الصادق في أقواله , المتحلي بحلي الفضائل السالك في منهج الكمال , فله من راحة ضميره الحيّ سرورٌ لا يحيط به الوصف , ولا يقوى على تبيان محاسنه البيان. سرور لا يدانيه في التأثير جمال المناظر الطبيعية , ولا عذوبة الأنغام الموسيقية , فلا غرو إِن قيل. إِن الضمير صوت الله في الإنسان.
جرجس عبد الملك(4/355)
الشرق وأُبناؤه
اعتاد دولة الأمير الخطير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي أن يقوم في كل سنةٍ برحلة في ناحيةٍ من أنحاء العالم , وأن يدوّن عند عودتهِ آراءَه وملاحظاتهِ ووصف ما رأى وشاهد في كتابٍ ينشرُهُ ويهديه إلى أصدقائِهِ تذكاراً لرحلته. وقد سافر في العام الماضي إلى الولايات المتحدة , وعرف القراءُ من الصحف اليومية ضروب الحفاوة والإِكرام التي قام بها السوريون في العالم الجديد ترحيباً بالأمير الشرقي المصري الكبير. فنشر دولته في كتابٍ تفصيل رحلتهِ هذه , وذكر السوريين بكل إطراءِ , وأثنى على همتهم وإقدامهم , واحتفاظهم بقوميتهم العربية في أقصى الأصقاع. ونحن اليومَ ناقلون عن هذا الكتاب الجليل صفحةً عن حالة الشرق , عسى أن يكون فيها عبرة وذكرى. قال الأمير حفظه الله: إنَّ الثلاثين سنة التي قضيتُ معظمها جائلاً في أنحاء أوربا , والتي لا أُنكر المزايا التي اكتسبتها فيها بمعاشرتي واختلاطي بكبراءِ رجالها المفكّرين والمصلحين , قد زادت في قلبي حبَّ بلادي وتعلُّقي بالشرق والشرقيين. فبكلّ جوارحي أُنادي فليعش الشرق وأبناؤه! جديرٌ بنا أن نفتخر ببلادنا العزيزة , مهبط الأنبياء , ومنبع الأديان وأصل التاريخ , مصدر التمدين. فذكرُ مجد الشرق يُحزنني. فأين نحن الآن من عظمتنا الماضية؟ أُلقوا معي نظرةً في تاريخ حياة أجدادنا. أنهُ كان مجيداً: فكم بلادٍ فتحوها بشفار سيوفهم , وكم أمم أخضعوها بقوَّتهم وشدَّة بأسهم! إِنهم لم يتركوا وسيلةً لإِعلاءِ شأنهم , وإظهار عظمتهم ,(4/356)
ونشر سلطانهم , إلاَّ اتخذوها , مُقدِمين عليها بلا خوفٍ ولا وَجلٍ. ولم يدعوا باباً يوصلهم إلى غايتهم الشريفة , إلاَّ طرقوه بدون تردُّد أو تهاون. فالتاريخ يشهد إذاً بما كان لهم من صفات الفاتحين , كالشهامة والأقدمين , ولاسيما التفاف بعضهم حول بعض , وجمع شملهم ووحدة كلمتهم وإخلاصهم وشدَّة حبهم لبلادهم. فبالله ماذا جرى لنا حتى أصبحنا في مؤخرة الأمم المتمدينة؟ إِنَّ بلادنا لم تتغير , رجالها هم أبناءُ أولئك الأجداد وأحفاد أولئك الأبطال. فماذا دهانا حتى وصلنا إلى هذه الدرجة التي لا تسرّ؟ أظنُّ أننا تهاونّاً في أمورنا , فحلَّت علينا المذلة والمسكنة , وتركنا شؤوننا فغشيَنا من النعس ما غشيَنا
الأمير محمد علي
الرقص المصري
قال العلاّمة ويلكنسون المؤرّخ الانكليزي في كلامٍ لهُ عن الحضارة المصرية: إِنَّ نساءَ قدماءِ المصريين كنَّ يرقصنَ في الفرح والترح على السواءِ. وتوجد في المقابر المصرية , في بني حسن بمديرية المنيا , صورٌ عديدة تمثّل الراقصات وهنَّ يتمايلن طرباً وسروراً على نغمات الدفوف والعيدان. ولا يختلف رقص البطن المعروف عند المصريين الآن. وأُضيفُ إلى ذلك أنَّ لباسَ الرقص عند بعضهنَّ كان عبارةً عن نسيجِ رفيع من القطن مفصَّل بشكل الجسم , ومنهُ يُرى(4/357)
النحر والبطن والساقان. وكان بعضُهنَّ يرقصنَ قبيحة , وفي أيديهنَّ الدفوف والصاجات وروى بعضُ المؤرخين أن المصريين تعلموا رقصَ البطن من الفرس , عندما أتوا إلى مصر فاتحين. فأتقنتهُ نساؤهم , وبرعنَ في حركاتهِ وسكناتهِ , ولبثت الراقصاتُ موضعاً لاحترام العامَّة والخاصَّة , حتى فت المسلمونَ مصر , فدالت دولة الرقص. كما قضي على غيرها من فنون قدماء المصريين وعاداتهم. ثم دبّت روح الحياة في مصر في منتصف القرن الماضي. ووجد من سعى إلى ترقية الآداب والفنون. فنهضت الموسيقي , وارتقى الغناءُ , وترعرع النثر والنظم. أما الرقص فبقيَ مهملاً , لأن أبناءَ البلاد منعتهم أحكام الدين والعرف والعادات عن أن يقتبسوا عن الإفرنج الرقص الذي يشترك فيهِ الجنسان اللطيف والنشيط معاً. بل كانوا يرون أنَّ مجرَّد النظر إلى راقصةٍ أمرٌ لا تجيزهُ الآداب. وكاد فن الرقص يُصبح نسياً منسيّاً لولا نسوةٌ من أهالي الصعيد أَتقنَّهُ بعض الإتقان , ولكنهنَّ لم يكنّ يرقصن جهراً في الأندية أو المراسح خوفاً من الحكومة. وكان بعض التراجمة والأدلاءِ يقودون السائحين إلى بعض مواخير في القاهرة , فترقصُ النسوة أمامهم بتهتُّك شائنٍ , وحركاتٍ معيبة؛ بل كان بعضهنَّ يرقصنَ عارياتٍ , فيخرج السائحون ساخطين على مصر ورقصها , ويكتبون عن الرقص المصريّ قادحين , بناءً على ما شاهدوا بعيونهم من الأمور التي لا ترضاها أحطُّ طبقات الأمم المتوحشة , وكانت(4/358)
كتابة هؤلاء السائحين من أكبر البواعث لحمل المصريين على مشاهدة هذا الرقص. فكانوا يبذلون العشرات من الجنيهات للتمتع سرّاً برؤية راقصة وهي تشتغل بصناعتها الشائنة. ثمَّ أخذ الرقصُ المصريُّ ينتشر شيئاً فشيئاً في الموالد التي تقام في الوجه القبلي. وقد تعلمتهُ النسوة المبتذلات اللائي أمرت الحكومة بنفيهنَّ من العاصمة وبعض جهات الوجه البحري إلى مدينة أخميم. وعرفتُ منذ نحو 35 سنة راقصة تدعى بنت أبو شنب كان
يحضر رقصها الألوف. ومتى بدأت في العمل صمت الحاضرون كأنهم في معبد. فإذا انتهت طافت بهم لجمع النقطة فلا يقلّ ما تجمعهُ في الجلسة الواحدة عن مئتي جنيه!! ومن الغريب أنهُ بينما كان الرقص المصري منحطّاً في مصر لا يُرى إليهِ إلاَّ بعين الازدراءِ , كان بالغاً أعلى درجات الرقي في أكثر بلاد الشرق والمغرب الأقصى. وجرى حديث في هذا المعنى منذ نحة 25 سنة بين المسيو مانولي يوانيدس صاحب قهوة ألف ليلة وليلة ورجل من المغاربة فذكر المغربي أنهُ توجد في تونس نسوة يُجدن الرقص المصري بلا تهتُّكٍ ولا تبذُّل. فاتفق المسيو يوانيدس مع مُحَدّثهِ على أن يُحضِرَ بعض هؤلاءِ النسوة للرقص في مصر. فلبَّى الطلب. وفُتِحت أوَّل قهوة للرقص البلدي في شارع كلوت بك خلف قهوة اللوفر في سنة 1887. وكانت أُجرى الدخول إلى هذه القهوة غروش صاغاً للدرجة(4/359)
الأولى , وخمسة قروش للدرجة الثانية. ومع أنَّ المسيو يوانيدس كان يدفع لهذه الجوقة التونسية ستة جنيهات في الليلة , فإِن مكاسبهِ كانت عظيمة لإِقبال المصريين على قهوتهِ وإعجابهم برقص أولئك التونسيات. ورأى جماعةٌ من اليونانيين أن يقتدوا بالمسيو يوانيدس فأنشأوا في العاصمة والإسكندرية وبعض مدن الأقاليم قهواتٍ عدَّةٍ للرقص البلدي. وتعلَّمت المصريَّات الصناعة , وأحكمنَ الملابس اللازمة لها. ووضع لهنَّ مشهورو الملكّنين أدوراً يرقصنَ على أنغامهاز وساعدَهنَّ على إِتقانها فريقٌ من مشهوري الطبَّالين. ووضع النظام المتبع في القهوات الراقصة , وهو أن يغني المغنون دورهم , ثم تتبعهم الراقصة , فتخرج إلى المرسح ملتفةً بعباءَة ولا تلبث أن تبدأَ بالرقص على نغماتِ العود والقانون والدربكَّة , وهي تتمايل في كسائها المعروف , وهو قميص من الشاش , وفوقه صدرةٌ حريرية مزركشة تستر الثديين , وتنُّورة مفوَّفة بالأشرطة المذهبة. ومتى أتمَّتْ دورها يعود المغنُّون , فالرقص وهكذا. وبلغ عدد قهوات الرقص البلدي في العاصمة منذ عشر سنوات 19 قهوة. ثمَّ فترت حرارة المصريين في الإِقبال على هذه القهوات , فانحطَّ عددُها إلى ستّ قهواتٍ , منها ثلاث مهدَّدةٌ بالإفلاس.
وكانت هذه القهوات عامرةً بعددٍ يُذكر من شهيرات الراقصات , بين مصريات وسوريات وفارسيات ومغربيات , ومنهنَّ من حازت مادليات من أكبر معارض وأميريكا إِعجاباً بصناعتهنَّ. وبلغت أُجور الشهيرات منهنَّ نحو 60 جنيهاً في الشهر.(4/360)
ولكن هؤلاء
البارعاتِ المتفنِّنات قد تعب بعضهنَّ وملَّ , وشاخ البعض , واكتفى البعض بما جمعنَ من مال وعقار. فأهملنَ الصناعة. ولم يبقَ في القهوات إلاَّ راقصات مقلّدات لا يزيد راتب أكبرهنَّ عن عشرين جنيهاً في الشهر. ويكتفي بعضهنَّ بأخذ ثلثي قيمة ما يفتحهُ لهنَّ الزبائن من زجاجات البيرة , ويختلف ثمن الزجاجة من عشرة قروش إلى ثلاثين قرشاً. وقرن بعضهنَّ الرقص بالغناء. وقد اشتدَّت المزاحمة يوماً بين اثنين من أصحاب القهوات على غنيةٍ مصرية تجيد الفنَّيْن , فبلغت أُجرتها 150 جنيهاً في الشهر عدا نصيبها في ثمن ما يُفتح لها من زجاجات البيرة والشمانيا. ولبثت الحكومة زمناً , وهي متأثرة بأقوال أعداءِ الرقص المصري فصادرتهُ , وأمرت بإقفال بعض مراسحهِ. فقاضاها أصحاب هذه المراسح أمام المحاكم المختلطة , فأصدرت محكمة الاستئناف حكماً قالت فيهِ إِنَّ الرقص المصري فنٌّ من الفنون الجميلة , وليس فيهِ شيء مخالف للآداب بالمرَّة ولكن هذا الحكم لم يقنع الكثيرين من أدباء المصريين , فحمل الأديب الكبير محمد بك المويلحي على الرقص وأنديته حملةً شعواء في كتابهِ حديث عيسى بن هشام وزار المستر رودي الكاتب الانكليزي هوة النوفرة عندما كان يرأٍس تحرير جريدة الأجبشن ستندرد أحد ألسنة الحزب الوطني , فأعجب بها , وأعلن إعجابه في مقالة نشرها في تلك الجريدة , فقامت قيامة الصحف المصرية عليهِ , وأنَّهم صاحب المؤيد المرحوم مصطفى كامل(4/361)
منشئ الأجبشن ستندرد بأنهُ يدعو المصريين إلى الدَّعارة والفجور. ثم أخذ بعض الناقدين وأهل الرأي والمدركين حقيقة الفنون الجميلة يخفقِّون من انتقادهم على الرقص البلدي , ولاسيما بعد أن شاهدوا في أوربا وأمريكا ومصر من الرقص الإفرنجي المعيب والتهتك الذي لا زيادة بعده لمستزيد. وقد حدث منذ شهرين أنَّ راقصة انكليزية أرادت السفر إلى الهند فقامت الصحف الانكليزية مناديةً بالويل والثبور , وطلبت من الحكومة منعها عن عزمها بدعوى أن الهنود لا ينظرون إلى حركات هذه الراقصة بالعين التي يرى بها إليها أدباءُ الانكليز. وهكذا شأن القوم معنا , فمهما تحشَّمت الراقصة المصرية , عدُّوا رقصها تهتكاً وابتذالاً. ومهما تهتكت الراقصة الأجنبية ورفَّ الشفوف فأعلن ما استتر وجوباً وجوازاً من أعضائها , عدُّوا عملها نهاية الرقي العقلي والأدبي. وسبحان مقسم العقول والأرزاق.
مصر
توفيق حبيب
حكم
- الأملُ هو الخبز الذي تتغذى منهُ النفس كلَّ يوم.
- إذا افتكرتَ بمصائب أمس الدابر , هانت مصائب اليوم الحاضر.
- الابتسامة في ثغر بعض الناس تشبهُ وخز السنان
- أنشد مغنٍّ بين يدي المأمون هذا البيت:
وإني لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبٍ ... يروقُ ويصفو إن كدرتُ عليهِ
فصاح بهِ الخليفة: ويحك! جئني ب_هذا الصديق وخذ نصف المملكة(4/362)
متاحف الآثار في مصر
ألقى المسيو ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصريّة خطبةً في الجمعية العلمية الفرنسية في باريسو تكلم فيها عن أعمل الحفر والآثار في مصر , جاء فيها عن المتاحف قولُهُ: إنَّ إنشاءَ متاحف المديريات في نظري أمرٌ لابدَّ منهُ. وكنت من أول وصولي إلى مصر 1881 - 1886 قد رأيت أنَّ متحفَ بولاق يضيق عن لستيعاب كل ما تُخرِجهُ ارض مصر والآثار , وأنهُ لابدَّ من إنشاءِ متحفٍ في الإسكندرية , تُعرض فيهِ آثار العهدِ اليوناني الروماني. لكنَّ الحوادث السياسية التي جرت في ذلك الحين حالت دون تحقيق هذه الأمنية. ولما رجعت سنة 1899 وجدتُ الآثارَ المجموعة في الجيزة مكدَّسةً بعضها فوق بعض فصمَّمت النية على أن أُنشئَ في جهات مختلفة متاحفَ محليةً تُعرَض فيها الآثار المختصة بكل مديريةٍ , الدالة على تاريخها وحياتها القديمة. أمَّا الآثار التي تتعلَّق بالتاريخ المصري العام فتوضع في متحف القاهرة. وبما أن ميزانية المصلحة لم تكن تقدرُ على القيام بالنفقات الطائلة التي يتطلبها المشروع , رأينا أن نشركَ الأفراد , أو بالأحرى الدوائر المحلية , في الأمر. فبدأنا نحو سنة 1901 بالأقصر , لكننا لم ننجح في سعينا. وفي(4/363)
سنة 1905 عاودنا الكرَّة ثانيةً , وفاوضنا شركة ترعة السويسو فلم نَفُزّ بالنتيجة التي كنَّا نرجوها بفضل مساعدة البرنس دارنبرغ , مع انهُ كان في الإسماعيلية في ذلك العهد شبهُ متحفٍ جُمعت فيهِ الآثارُ التي كان قد وجدها المسيو كليدا في حفر الترعة. ولم يكن الأمر كما تقدَّم في أسيوط وأسوان. فإن مساعيَّ هناك كُلِّلَتُ بالنجاح التام \. والفضل في إنشاء متحف أسوان عائد إلى مصلحة الرذي التي تنازلت لنا في أواخر سنة 1911 عن البناية التي كانت قد شيدتها لمهندسيها في جزيرة أنس الوجود. وقد جمعنا في المتحف المذكور الآثار التي وجدها في بلاد النوبة بين 1908 و 1911 الخواجات ريستر وفيرث , وفتحنا أبواب المتحف للعموم في أول سنة 1912 وأرصدت لنا نظارة المالية سبعة آلاف فرنك للإنفاق عليهِ. فهو والحالة هذه متحف الحكومة المصرية. والفضل في إنشاء متحف أسيوط عائد لسيد بك خشبه الذي كان قد نال رخصةً بإجراء حفريات في المديرية. وكان يتاجر بالنصف الذي هو حصتهُ من الآثار المكتشفة. لكن أحمد بك كمال المتولي مراقبة الحفر من لَدثن مصلحة الآثار تمكَّن من إقناعهِ بأن الواجب الوطني يقضي عليهِ بأن ينشئ على نفقتهِ في مسقط رآهِ متحفاً يجمع فيه على الأقلّ قسماً من الصنف الذي يخصهُ فأنشأ المتحف
وتسلمناه هذا العام. وقد نحا هذا النحو مجلسان آخران ويمكننا القول أن المشروع سائر في أحسن السبل.(4/364)
في رياض الشعر
المراسلات السامية
كنا قد نشرنا في السنتين الأولى والثانية الزهور شيئاً من المراسلة الشعرية التي دارت بين الشاعرين الكبيرين المرحوم محمود باشا سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان , فلاقى ذلك الشعرُ النفيسُ استحساناً لدى الجميع. وها نحن ننشر اليومَ قصيدةً أرسلها الأمير شكيب , وهو في طبريّة , إلى المرحوم محمود سامي باشا يتشوَّق إليهِ ويعزّيه بفقد كريمةٍ له:
أيُّ ريٍّ بالصحف والأقلامِ ... لفؤادٍ إلى لقائِك ظامِ
وتناجي الأرواحِ بُعداً وفي القر ... بِ تَلاقي الأرواحِ والأجسامِ
كلما شئتُ شَدَّ رحلي إلى مص ... ر نَبتَ بي عوائقُ الأيَّامِ
تعتفي سَيرتي وبيني وبين ... النيل لم يبقَ غيرُ سهمٍ لِرامِ
ولقد طالما تمثّلتُ ذك الم ... ساء يجري وكنتُ في الأوهامِ
كم أراني الخيالُ لقباً وهذا ... غيرُ ما جاد طيفكم من لمامِ
وجذبنا من الحديث غُصوناً ... وسهرنا إلى نحولِ الظلامِ
وروينا من القريضِ الذي تس ... كر منهُ العقولُ من دون جامِ
وَنَجرْنا إلى القلوب عهوداً ... قد تمادت كذاك شأنُ الذِمامِ
سيقولُ الأميرُ ماذا الذي عا ... قَ وماذا يحولُ دون المرامِ
ما نأت دارُ من تُحبُّ وعيبٌ ... نقصُ ذي قدرةٍ على الإِتمامِ
بيننا ليلتانِ لكن مع الغي ... ب سواءٌ يومانِ أو ألْفُ عامِ
وعزيزُ اللقاء والإِلْفُ لم تش ... حط بهِ الدارُ زائدٌ في الهيامِ(4/365)
ليس ما بيننا سوى البحرِ يومي ... ن ولكن سواهُ بحرٌ طامِ
دون مصرٍ بحران منهُ ومن آ ... خرَ بحرُ الوشاة والنُّمَّامِ
ذاك بحرٌ تسيرُ فيهِ سَفينٌ ... من حظوظ اللئام كالأعلامِ
وكلامٌ يدرونَهُ أنّهُ الإِف ... كُ ولكن يبغون صيدَ الحُطامِ
ومَقالٌ إنّا من العصبة الفت ... يانِ والطاعنين في الأحكامِ
أنا أرجو في مصرَ لقيا عظامٍ ... ودُّهم بات سارياً في عظامى
صلةُ الإِلّ بيننا وأرى الآ ... داب أقوى فينا من الأرجامِ
وحنيني إلى الذي طالمااشتق ... تُ بعيداً فكيفَ وهوّ أمامي
الأميرُ المحمود بالاسمِ والفع ... ل وكم خالفَ الفعالُ الأسامي
سيدٌ إن تحجَّ كعبةَ عليا ... هُ تَجِدْ ما نسيت منهُ الموامي
باهرُ القدرِ إن تزِنْهُ مع الأقو ... امِ في الفضلِ مال بالأقوامِ
مُفردٌ خافَهُ الزمان فناوا ... هُ كذاك العِظامُ حربُ العِظامِ
جدَّ في حصرِ بأسهِ وهْوَ لو جا ... لَ لقيدوا طُرّاً بغير خزامِ
كحسامٍ خبا سناهُ بغَمدٍ ... وسواهُ غَمدٌ بغير حُسامِ
ولع الدهرُ بالغرائب والبخ ... تُ أحَلَّ الليوثَ تحت النعامِ
أيُّها السَّيدُ الهُمام ومن يكف ... يهِ أن قيل فيهِ محمود سامي
لك ذكرٌ قد طار في الشرق والغر ... بِ وفضلٌ أدناهُ فوق الهامِ
هل تراهم أخفوا علاك وهل تخ ... في فِعالُ الليوث في الآجامِ
ولعمري ذكاك مثلُ ذكاءِ ... هل تغيب الشموسُ طيَّ الغمامِ
ولأنتَ الذي نشرتَ بذا الع ... صرِ قريضاً طوى أبا تمَّامِ
من رواهُ ولم يخَلْ ربَّهُ قد ... عاصر الوحيَ والتقى بالتهامي
أدَبٌ حزتَهُ وليس كذا الق ... سم من الحظّ سائرُ الأقسامِ(4/366)
ولعمري مع ذاك أيُّ علاءِ ... لم تكن منهُ في الذّرى والسنامِ
أخَّر الدهرُ منك شهماً تسامى ... أن ينال الجوزاءِ بالأبهامِ
ولئن جزتَ عن وزارةِ أمرٍ ... لم تزل صدرَ دولةِ الأفهامِ
إن صلاك الزمانُ حرباً عواناً ... فقديمٌ عدوانهُ للكرامِ
ولعمري الذي دهاك أخيراً ... كان وقعَ السهام فوق السهامِ
لا تَخَلْ كنتَ في الفجيعةِ فرداً ... كلُّ قلب لجرح قلبك دامِ
قد سكبنا نظير شعرك دمعاً ... في نواحِ كنو وُرق الحمامِ
إن بكينا فقد بكينا على حز ... نك والثُّكل أعظم الآلامِ
والذي راح فليهنّأ على فر ... قة دارٍ ليست بدار مُقامِ
هذه سنَّةُ الليالي فأدعو ... ك إلى الصبر سنِّةِ الإسلامِ
شكيب أرسلان
الشاعر والليل والطيف
اللهَ في وجدٍ وفي مأملِ ... من لي بعود الزمنِ الأوَّلِ
قد كنتُ أشكو عذَّلي في الهوى ... فصرت مشتاقاً إلى عذَّلي
ملّلْتُ عذبَ اللوم جهلاً بهِ ... لو كنت أدري الحبَّ لم أملل
ما أولعَ القلبَ بما يجتني ... وأفتنَ العينَ بما تجتلي
أهفو لسهدي. ليتَ لي مثلَهث ... وليتني في ليلي الأليل
إذْ أترك الأنجم في أفقها ... شوقاً إلى نبراسيَ المُشَعلِ
وأُحكم الكَوَّةَ دون الصبَّا ... وأوصدُ البابَ على الشَّمأل
واعتلي كرسيَّ مستكبراً ... كالمَلْكِ فوق العرشِ إذ يعتلي
سيجارتي مشعلة في فمي ... ثم يراعي من على أنْمَلي(4/367)
وقهوتي أبريقُها مُترَعٌ ... إذا أنا أفرغتهُ يمتلي
في حجرةٍ كالقلب في ضيقها ... لو حُمّلَتْ غيري لم تحملِ
تَسمعُ مني في سكون الدُّجى ... ما يسمع الروضُ من البلبلِ
له يطيبُ اللّبثُ في عشه ... ولي يطيب اللبث في منزلي
إنّا اقتسمنا الليلَ ما بيننا ... لهُ الكرى في الليل والسهد لي
كتبي تناجيني فتمشي بها ... عيناي من شكل إلى مشكل
ما بين أوراقٍ بها غضةٍ ... وبين أوراق بها ذبَّل
يا خلواتٍ الوحي في تيهه ... ملأتِ قلبَ الشاعر المختلي
سوانحي منكِ وفيكِ انجلت ... فأنزلي الآيات لي أنزلي
يا طيفها لا ترتجعْ معجَلاً ... لا تُقْنعُ الزورةُ من معجل
إني وحذي حجرتي مأتمنٌ ... فأنَسْ إلى صبك لا تجفلِ
أُدنُ قليلاً قد أطلت النوى ... جُدْ مرةً بالله لا تبخل
لو لم تكن تشتاقني نفسها ... يا طيفها ما كنتَ بالمقبل
عيناك عيناها كذا كانتا ... والوجه ذاك الوجهُ لم يبدل
أعرف لحظيها برغم النوى ... فكم أصابا قبل ذا مقتلي
جسي بهذا الكفِ صدري ترى ... ما فيهِ من نار جوى موغل
أظلَّني همٌّ فلم أنتبهْ ... إلا وقد أوغلتُ في المجهل
إِن كان هذا ما دعوه الهوى ... فمثل هذا الليل لا ينجلي
يا مهجتي يا جلدي يا صِبا ... إِن لم أمت وجداً فلا بد لي
ولي الدين يكن(4/368)
من زوايا الذاكرة
وناضرة خفَّ فيها النسيمُ ... فخفَّ إلى قصدِها محملي
هواءٌ أرقُّ من العاطفا ... تِ وماءٌ ألذُّ من السلسلِ
تذكرتُ عاطفةَ المغرَمينَ ... فجاورتُ منعطف الجدولِ
وآلمني مُجْتَلَي وَردةٍ ... تكادُ تذيبُ حشا المجتلي
وذابلةٍ من بناتِ الحقولِ ... ولولا الظما قطُّ لم تَذبلِ
أبخلُ الطبيعة أودى بها ... واشا الطبيعةَ لم تَبخلِ
ستقطُفها بعد إهمالها ... يدُ الموتِ كالولدِ المُهْمَلِ
حسدتُ الزهورَ لأن الزه ... ور كأخوان جامعةٍ مُثّلِ
ومّما يُجدِّد ذكرى الهوى ... هوا بين أغصانها الميِّلِ
فهذا يقولُ لذاك: اعتنقْ ... وذاك يُشيرُ لذا: قَبّلِ
فما لبني جنسنا الأكرمين ... قد افترقوا كالمهى الجفّلِ
يُبيدُ القويُّ حياة الضعي ... فِ ويودي المسلّحُ بالأعزلِ
فأين , ودؤكم الاختلا ... فُ , أطباءُ دائِكُمُ المُعضِلِ
فمرتفعون لأوج السماءِ ... وهارون للدَرَك الأسفلِ
وأجبنُ من ضافرٍ في الحياةِ ... وأضرى من الأَسَد المُشبلِ
ومظلمةِ ساد منها السَكو ... نُ بليلٍ بعيدِ المدى أليلِ
بصرتُ بها تحتَ جنح الظ ... لامِ بأشباح ضامرة هزّلِ
رمت بهم لمهاوي الشقاءِ ... يدُ الزمَنِ القلَب الحوّلِ
فهم ينشدون نشيداً علي ... هِ ملامحُ حالهمِ المجملِ
فكم نظر الناس من تحته ... م وهم ينظرون لنا من علِ
محمد رضا الشبيبي(4/369)
التدواي بالثمار
العنب العنبُ ثمرٌ لذيذٌ ومفيد للصحة إفادة عظيمة , لأنهُ يحوي كثيراً من الأملاح المعدنية كالبوتاس والكلس والمنيزيا والحديد. وعلى ذلك يكون العنب عبارة من مزيج مياه معدنية مفيدة. ويُعَدُّ العنبُ من الأغذية المهمة , فهو يقوي العضلات ويسهل الهضم ويكثر الدم ويُنّقيه. ويستَعملُ العنب في أوروبا علاجاً لمن يُصابُ بسوء الهضم وتلبُّكٍ في المعدة أو احتراق في الأمعاء , كما يستَعملُ بنوعٍ خاصّ ضّد المغص والإِسهال والباسور , وغير ذلك. وقد قال بعض الأطباء الفرنسويين: إنّ العنب يُستعمَلُ كدواءٍ لالتهابِ الخصيتين , ولإفراز السموم , حتى أن الفُرْسَ إلى اليوم يصفونهُ للمسموم كعلاج نافع , كما يستعمله للغاية نفسها بعضُ أقوام الهندِ الصينية. ويقسم العنب إلى قسمين: العنب الأبيض , والعني الأسود وينضم إليهِ العنب الأحمر وتكثر الموادُّ المعدنية في العنب الأحمر والأسود , كما أن هذا الأخير يُنَبّهُ الأعصاب أكثر من الأبيض , ولذلك يُوصَفُ لمن أُصيب بفقر الدم وضعف القوى العضلية , في طوِر النَقَه , ويستعمَلُ العنبُ الأبيض لتسهيلِ الهضم والأدوار. أمَّا التداوي بالعنب فمدَّتُهُ لا تقلُّ عن ثلاثة أيامٍ , ولا تزيد عن سنة: ففي اليوم الأول يؤكل مقدار كيلو منه , ثم تزادُ هذه الكمّيةُ بالتدريج يومياً , إلى أن يكونَ مقدار التناول في اليوم الأخير خمسة كيلوغرامات. ويجبُ إجراءُ الرياشة البدنية في هذه المدة بواسةِ المشي لا أقلَّ من ساعة في الفلوات والحدائق لاستنشاق الهواء النقي الذي يكسب الصحة جودة. والمهم في هذا أن يكون العنب جديداً , كما يُشترَط أن يُغسَلَ جيداً حذراً ممَّا يعلق بهِ من الغبار والأوساخ التي لا تخلو منها حوانيت البائعين , فضلاً عن أن(4/370)
قشر العنب قابلٌ لتخمُّرِ الميكروبات المتنوعة. ويجبُ طرح بزوره وقشوره عند الأكل. أمَّا إذا كان جديداً نظيفاً فلا حاجة لتقشيره إلا إذا القصد من تناوله تسهيل الهضم؛ فحينئذٍ يؤكل ببزوره وتطرح قشوره. وأكثر البلاد تعويلاً على المعالجة بالعنب , بلاد ألمانيا المشهورة بترقي فن الطب. ويُقال إنَّ اليونانَ والرومان الأقدمين استعملوا العنب علاجاً. وفي سويسرا وأوستريا مستشيفات خصوصية للمداوة بالعنب ويزداد عددُ المرضى الذين يَفِدون كلَّ سنةٍ إليها. ويجب ألاَّ ننسى أنَّ الفائدَة المطلوبة من التداوي بالعنب لا تتمُّ ولا تكمل إلا بالتنزّه واستنشاقِ الهواء النقي. ويقول بعض الأطباء إن لعصيرِ العنب أو شرابه في مداواة العلل هذا التأثيرَ عينهُ. ويجب شرب هذا الشراب قبل تناول القهوة بقليل. ويقولون إنَّ
تناولَ قدَحٍ من شراب العنبِ يعدل أكل 200 - 400 غرام منهُ. ويجب حفظ هذا الشراب في آنية نظيفة تحفظ في أماكن خاليةٍ من الرطوبة ويرتئي بعضُ الأطباء أن يُسَّخنَ هذا الشرابُ في حمام مريم قبل شربهِ , فيكون تأثيرهُ أشدَّ وأعظم. وقد عم استعمال هذا الدواء في أوربا كلها , والكثيرون يستعملونه علاجاً شافياً لكثير من الأمراض المزمنة.
حب التوت الشامي اكتشف الأطباءُ مؤخراً علاجاً الأوروبيون أعظم علاج وجد من الثمار وهو حب التوت الشامي وقد جرَّبهُ مكتشفه لمداواة المسلولين , فكان النجاحُ إليفه. وهو يقول: إنّ لشرابِ التوت هذا التأثيرَ نفسه. وقد بيَّنَ ذلك المسيو بورت والمسيو رمولن الكيماويان الشهيران بتحليلهما حب التوت تحليلاً كيماوياً , فوجدا أن في هذا الثمر المفيد قليلاً من حمض السالسيليك الذي يجعلُ لهُ رائحةً لطيفةً عند نضجه. ويفيد حبُّ التوت لمداواة الأمراض الروماتيزمية؛ ويُستعملُ أيضاً في أوربا نوع من حبّ التوت يأتي من(4/371)
جبال سافوى لمن أصيبوا بهذا الداء. والسببُ في انتخابهِ من تلك الجبال أنّ التوتَ هنالك يحوي كثيراً من حمض الساليسيليك بدليل جودة رائحتهِ ولذة طعمهِ. ويؤكدُ كثير من الأطباء أنّ حبَّ التوتِ يُفيدُ النزلة الصدرية كما يشفي المصابين بالسلّ الرئوي على ما المعنا سابقاً. وما السلُّ الرئويُّ إلاّ نزلةٌ صدرية تفاقم أمرها. وقد شهد أمهرُ الأطباء في هذا العصر بفائدةِ هذا الثمر ومثل هذه الأمراض , وقالوا إنهُ الترياقُ الشافي. وقد نقل لنا التاريخ عن المحقق فونتل أنّهُ كان يُحبُّ حَبَّ التوتِ كثيراً فكان لا يمرُّ بهِ يومٌ دون أن يتناولَ بقدرِ ما يتيسَّرُ لهُ. وقد قيل إنّهُ كان مريضاً ذات يومٍ , فزارهُ بعضُ أصدقائه , وسأله أحدهم قائلاً: كيف صحتك اليوم يا فونتل؟ فأجابهُ هذا على الفور: ليست جيدة يا عزيزي. إن آلام الأمراضِ قبل حلول أوان الصيف ومجيء موسم حب التوت. وكان يعتقد أن حب التوت سبب تعافيه وطول حياتهِ. أما التداوي بحب التوت فهو يُشبه التداوي ببقية الثمار. ويُشترطُ في أكلهِ أن يكونَ , والمِعدَةُ فارغةٌ , لئلاّ يضرَّ ويُسبّبَ سوء هضم لبرودته. ووقت الصباح أحسن الأوقات لتناوله لأَن المعدة تكونُ فارغةً. وهو لا يغسل بالماءِ لئلاّ تذهب رائحتهُ للطيفة , غير أنهُ يجب الاعتناءُ بقطفه وأن يكون نظيفاً ويترك بعقبه. أما المصابون بالأمراض الجلدية كالجرب والزهري الخ فليتجنبوا حبَّ التوت كلَّ التجنُّبِ , لأنّهُ يزيدُ الداءَ شدةً بتكثيره المادة في الجلد.
الليمون الحامض وما قلناه عن حبّ التوت نقولُهُ عن الليمون , فهو يُفيد في أمراض الحلق والنوبات العصبية الخفيفة والإِغماءِ. والليمونُ أكبرُ مضادّ لتعفُّنِ(4/372)
الأمعاءِ , كما أنهُ يفيدُ المصابين بالهيضة الكوليرا والصفراء والبلغم وأمراض الكَبِد وقد شهد طبيبٌ شهيرٌ أنَّ الليمون علاجٌ مفيدٌ للمُصابِ بعلة هي من نوع علل الروماتيزم وانتشر استعمال الليمون علاجاً لهذه الأمراض في ألمانيا وسويسرا ونتج عن استعمالهِ نتائج مفيدة نافعة. واقتصر المُصاب على تناول 175 - 200 ليمونة بك المدة. والتداوي بالليمون يجري على طريقة التداوي بالعنب , أي أن يُخذَ في اليوم الأول مقدارٌ قليل , فيزداد يوماً فيوماً؛ ثم متى حصل الشفاء التامُّ يتناقص رويداً رويداً. ولقائل أن يقولَ: ألا يحصل ضررٌ من أكل مقدار كثير كهذا من الليمونَ لا يؤثِّر في الهضم ِإلا تأثيراً خفيفاً نافعاً وأما تأثيره في الأسنان فقليلٌ جدّاً لا يُعتَدُّ بهِ , فضلاً عن أنَّ الوسائط اللازمة في ذاك الوقت تمنع كل ضرر.
أما طريقة المداواة فإليك بيانها:
يأكل المصاب في اليوم الأَول ليمونةً واحدةً , ويشرب في اليوم الثاني عصيرَ ليمونتين , وفي اليوم الثالث أربع ليمونات وفي اليوم الرابع ست , وفي الخامس ثماني , وفي السادس إحدى عشرة , وهلم جراً حتى اليوم العاشر فيشرب عصير خمس وعشرين ليمونة على دفعات متوالية , ثم تنقص الكمية كما تزايدت , ولا بأس من مزج عصيره بقليل من السكر لتسهيل تناوله. وسنعودُ في فرصة قريبة إن شاء الله إلى ذكر فوائد غير ما تقدم من الأثمار.
أنطاكية
نقولا كي عبد المسيح شكري(4/373)
في حدائق العرب
ظهر في الشهر الغابر كتابٌ عنوانه حديقة الزهر وضعهُ باللغة الفرنسية حضرة الأديب واصف بك بطرس غالي , ضمنهُ بحثاً شائقاً في الشعر العربي وأنواعهِ وأساليبهِ , مع ترجمة مقطوعاتٍ شعرية منهُ. فقابل الفرنجُ هذا الكتاب بالارتياح لأنَّهُ عرَّفهم بشاعرية قومٍ لهم في عالم الخيال المقام الأرفع. ومن جملة ما ترجمهُ واصف بك الحادثة الآتية نرويها لقرّائنا في أصلها العربي , لما فيها من بلاغة الوصف وجمال الأسلوب:
بشر بن أبي عوانة والأسد
كان بشر بن أبي عوانة العبدي صعلوكاً: فأغار على ركب فيهم امرأةٌ جميلة , فتزوَّج بها , ما رأيتُ كاليوم. فقالت:
أعجب بشراً حَوَرٌ في عيني ... وساعدٌ أبيضُ كاللجينِ
ودونُهُ مسرحُ طرف العينِ ... خمصانةٌ ترفلُ في حجلينِ
أحسن من يمشي على رجلينِ ... لو ضمَّ بشرٌ بينها وبيني
أطال هجري وأدام بيني ... ولو يقيس زينها بزيني
لأسفر الصبحُ لذي عينينِ
قال بشر: ويحك من عنيت؟ فقالت: بنت عمك فاطمة. فقال: أهي من الحسن بحيث وصفتِ؟ قالت: وأكثر وأزيد , فأنشأ يقول:
ويحك يا ذات الثنايا البيضِ ... ما خلتني عنك بمستعيضِ
فالآن إِذ لوَّحتِ بالتعريضِ ... خلوتِ جوّاً فاصغري وبيضي
لا ضُمَّ جفناي على تغميضِ ... إِن لم أشل عرضي من الحضيضِ(4/374)
ثم أرسل إلى عمّهِ يخطب ابنته , ومنعهُ العمُّ أمنيته , فآلي ألاَّ يرعي على أحدٍ منهم , إِن لم يزوّجه ابنته. ثم كثرت مضرَّاته فيهم , واتصلت مضرَّاته إليهم. فاجتمع رجال الحيّ إلى عمه وقالوا: كفَّ عنا مجنونك. فقال: لا تلبسوني عاراً , وأمهلوني حتى أُهلكه ببعض الحِيَل. فقالوا: أنت وذاك. ثم قال له عمه: إني آليت أن لا أزوّج ابنتي هذه إِلاَّ ممن يسوق إليها ألف ناقةٍ مَهراً , ولا أرضاها إِلاَّ من نوق خزاعة. وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريقَ بينهُ وبين خزاعه , فيفترسهُ الأسد. لأنَّ العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق؛ وكان فيه أسدٌ يسمَّى داذاً , وحية تدعى شجاعاً , يقول فيهما قائلهم:
افتكُ من داذٍ من شجاعِ ... إن يكُ داذٌ سيدَ السباعَ
فإنها سيّدةُ الأفاعي
ثم إِنَّ بشراً سلك ذلك الطريق , فما نصّفه , حتى لقي الأسد , وقمص مهره , فنزل وعقره. ثم اخترط سيفهُ إلى الأسد , واعترضه وقطَّهُ , ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أفاطِمَ , لو شهدتِ ببطن خبتٍ ... وقد لاقى الهزبرُ أخاك بشرا
فلمَّا بلغت الأبياتُ عمَّهُ , ندم على ما منعهُ من تزويجها , وخشيَ أن تغتالَهُ الحيةُ , فقام في أُثره وبلغه وقد ملكتهُ سورة الحية. فلمَّا رأى عمه , أخذتهُ حمية الجاهلية , فجعل يدَهُ في فم الحية , وحكّم سيفه فيها فقال:
بشر إلى المجد بعيد همهُ ... لما رآه بالعراءِ عمهُ
قد ثكلته نفسهُ وأمه ... جاشت بهِ جائشةٌ تهمهُ(4/375)
قام إلى ابن للفلا يؤمه ... فغاب فيهِ يدُهُ وكمهُ
ونفسه نفسي وسمي سمهُ
فلما قتل الحية , قال عمه: إني عرَّضتك طمعاً في أمرٍ ثنى الله عناتي عنهُ , فارجع لأزوَّجك ابنتي , فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخراً , حتى طلع أمرد كشقّ القمر على فرسه مدجّجاً في سلاحه. فقال بشر: يا عمّ إني أسمع حسَّ صيد. وخرج فإذا بغلامٍ على قيد فقال: ثكلتك أُمك يا بشر , إِن قتلت دودة وبهيمةً تملأ ما ضغيك فخراً؟ أنت في أمان أن سلَّمت عمك. فقال بشر: من أنت لا أم لك؟ قال: اليوم الأسود , والموت الأحمر. فقال بشر: ثكلتك من سلحتك قذفت بك من بطنها فقال: يا بشر ومن سلحتك أيضاً. وكرَّ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه , فلم يتمكن بشرق منهُ وأمكن الغلام عشرين طعنةً في كلية بشر , كلما مسَّهُ شبا السنان حماه عن بدنه أبقاءً عليهِ. ثم قال: يا بشر كيف ترى أليس لو أردتُ لأطمعتُك أنياب الرمح؟ ثم ألقى رمحه واستلَّ سيفهُ فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف , ولم يتمكَّن بشرق من واحدة. ثم قال: يا بشر سلّم عمَّك واذهب في أمان. قال: نعم ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت. قال: أنا ابنك. فقال: يا سبحان الله ما قارنتُ عقيلةً قط , فإني لي هذه المنحة؟ فقال: أنا ابنُ المرأة التي دلَّتك على ابنة عمك. فقال بشر:
تلك العصا من هذه العصية ... هل تلد الحيةَ غيرُ الحية
وحلف لا ركب حصاناً ولا تزوَّج حصاناً , ثم زوج ابنة عمه لابنه.(4/376)
أبو العلاء المعري
ثِقةَ الدهورِ وحجَّةً الأزمانِ ... خذْ من بيانِكَ ذمّةً لبياني
أُعيي القريضَ فإنْ بلغتُكَ خانني ... قَلمي وعيَّ عن المقالِ لساني
وعت القياصرَ والملوكَ وراعني ... ما فيك وحدَك من جلال الشانِ
لكَ في الملوك الخالدين على البلى ... أسمى العروشِ وأُمنُ التيجانِ
تهوي الأسرَّةُ والمماليكُ تنقضي ... وسريرُ ملككَ راسخُ الأركانِ
ملكٌ عليهِ من الخلود سرادقٌ ... فخمٌ يهابُ جلاَلهُ الملَوان
تهوي جبابرةُ الخطوبِ حيالهُ ... صرعى منكّسةً على الأذفانِ
وترى الدهورَ إذا مررنَ بساحهِ ... فوضى الخُطى يعثرنَ بالحَدثانِ
يدلفنَ من كبرٍ وفرط كهولةٍ ... وشبابُ مجدكَ دائمُ الرَّيعانِ
تبني العقولُ وترفعُ الأيدي وما ... يسطيعُ شأوَكَ رافعٌ أو بانَ
صدع الزلازلَ ما بنيتَ وهدَّها ... ما للزلازلِ بالبروجِ يدان
أدركتَ أسرارَ الوجود وجُزتها ... ترتادُ أسرارَ الوجودِ الثاني
تدنو فتبعدُ والمخاوف جمَّةٌ ... والحجبُ شتَّى والحتوفُ دوانِ
تهتاج إن ومضت فإن هيَ أمسكتْ ... زادتكَ أشجاناً على أشجانِ
صانعتَ شاردّها فقلنا عاشقٌ ... طربٌ يصانعُ شاردَ الغزلانِ
وشكوتَ هاجرَها فقالوا كاشحٌ ... ظلموكَ! تلكَ سجيةُ الولهانِ(4/377)
جهلوا مرادَك , والعقولُ مراتب ... والناسُ بالألباب والأذهانِ
أكبرت رزَء العقلِ حينَ رأيتهُ ... رهنَ العمى وغضبت للإنسانِ
تجري الأُمورُ وليس يعلمُ كنهها ... وهو المراد بهذهِ الأكوانِ
ويقالُ أعمى في الحياةِ وبعدَها ... والدينُ والدنيا لهُ عينانِ
كلٌّ له ذكرى وكلٌّ عبرةٌ ... تجلو اليقينَ وصادقَ الإيمانِ
فلئن حجبت عن الغيوبِ فإنها ... لله ذي الجبروتِ والسّلطانِ
أعلى لكَ الغرُفاتِ يومَ لقيتَهُ ... وحباك ما تبغي من الرضوانِ
فرأيتَ منزلَهُ العظيمَ وأجرهُ ... وحمدت عُقبى العلم والعرفانِ
شغفت بكَ الدنيا تُريدك دامقاً ... وشغفت بالإِعراض والهجرانِ
تجلو زخارفها فتُغمضُ دونها ... عينَ الحكيم وتنثني بأمانِ
فتنت محاسنها العقولَ ولم تزل ... في حيرةٍ من عقلكَ الفتانِ
صارمتها وكشفتَ عن سوآنها ... ليُفيقَ مختبلٌ ويقصرُ عانِ
وصددت عن صلفِ الملوكِ وكبرهم ... متعالياً عن ذِلّةٍ وهوانِ
أغناكَ عن آلائهم وهباتهم ... أنَفُ الشريفِ وعفّةُ المتغاني
ورضيتَ بينكَ هازئاً بقصورهم ... وجليلِ ما رفعوا من البُنيانِ
بيتٌ أناف على الكواكب رفعةً ... فدنا يمسّحُ ركنَهُ القمرانِ
لم يحكهِ كيوانُ في عليائهِ! ... بيتُ الحكيمِ أجلُّ من كيوانِ
لو رُدَّ كسرى أو تأخرَ عصرُهُ ... فأذنتَ , حجَّ إليكَ بالإيوانِ
لو كنتما منّي بحيثُ أراكما ... لَلثمتُ تربَكما إذاً فشفاني
فحمدتما في الظالمين ضراعتي ... ورفعتما في الخالدينَ مكاني(4/378)
خيرُ المناسك حلَّ حيث حللتما ... للناسكين وأنتما الحرَمانِ
أوتيتَ من أخلاقِ ربِّكَ رحمةً ... لم يُؤتها بشر وفرطَ حنانِ
أشفقتَ من وطءِ التراب على الأُلى ... غالَ الترابُ وكلُّ حيٍ فانِ
يمشي الفتى يختالُ فوقَ رفاتهم ... جذلانَ فعلَ الشاربِ النشوانِ
الجوُّ أرواحٌ تفيضُ وأنفسٌ ... والأرضُ من رمُمٍ ومن أكفانِ
عفتَ الأذى ونهيتَ عن مكروههِ ... وأمرتَ بالمعروفِ والإحسانِ
ورحمتَ حتى الوحشَ في فلواتها ... وحميتَ حتى الطيرَ في الأوكانِ
ورثيتَ للشاكين من بلوائهم ... فحملتَ ما حملوا من الأحزانِ
ومسحتَ دمعَ النائحاتِ معزياً ... فكففنَ عن نوحٍ وعن إرنان
ونسينَ من هولِ الفجائع ما مضى ... وسلَونَ بعد تعذّر السلوان
شرعٌ بعثتَ بهِ ودينٌ لم تقمْ ... فيهِ لغير الواحدِ الدّياّنِ
بوركتَ في دينِ المسيح وأحمدٍ ... ومُدحتَ في الأنجيل والقرآن
الشرقُ معتزٌ بفضلكَ معجَبٌ ... والغربُ مغتبطُ بذكرك هاني
بإملاء بحكتكَ المسامعَ والنُهى ... واحكْم فما شيءٌ سوى الإذعانِ
ما زلتَ من قبلِ المماتِ وبعدهِ ... شيخَ النُهى وحكيم كلّ زمانِ
الأرضُ حافلةٌ كعهدِكَ بالأذى ... والناسُ فوضى والحياةُ أماني
أحمد محرم(4/379)
ضرب زيدٌ عمراً
مسكين زيدٌ وعمروٌ فإِنهما ما زالا منذ سيبوَيْه يتضاربان ويترافسان إكراماً لساداتنا النحاة. فتارةً يكون زيد ضارباً وطوراً يكون مضروباً. لي صدي من العلماء المستشرقين أنفق السنين الطوال في درس اللغة العربية والإطلاع على شواردها وضوابطها. دخلتُ عليهِ ذاتَ يوم فرأيتُ وجهه يطفح بشراً وهو يقول: الحمد لله! الحمد لله!
فقلت: ما الخبر؟
فقال: لقد أخذ عمروٌ بثأره
فقلت: وكيف ذلك؟
فأجاب: لقد أنفقتُ عشرين عاماً وأنا أدرس كتب النحاة وأطالع مؤلَّفات الأئِمَّة فلم أجد مثالاً للفاعل والمفعول إلاَّ قولهم ضرَب زيدٌ عمراً وقد عثرت الآن على مَثلٍ جديد وهو قولهم ضرب عمروٌ زيداً فالحمد لله لأن عمراً أخذ بثاره من زيد فضربهُ ولو مرَّة واحدة في الحياة في كلام هذا العالِم حكمةٌ سامية. فإن الشرقيين يتقاتلون ويتضاربون كتضارب زيدٌ وعمروٍ في كتب النحاة. وما ذلك المثال إلا دليل على الطباع والأخلاق. يبدأ الأوربي أجروميته بتصريف فعل أحبَّ. ويبدأ الشرقي(4/380)
أجروميته بتصريف فعل ضرب أو قتل. ذلك يتمرَّن على الحب وهذا يتمرَّن على الضرب والقتل. فيحق للأوربي والحالة هذه إذا أراد أن يتعلَّم الصرف العربي أن يتقلَّدَ سيفه وترسه اتقاءً شرّ المضاربات بين زيد وعمرو. رحم الله سيبويه! ما ضرَّهُ لو أنهُ أَبدل فعل ضرب بفعل أحبَّ أو غيره من الأفعال التي لا تضطرّ القارئ أن يحمل دروعه وأسلحته؟ ألم يكن في قاموس غير ذلك المثل الشؤوم؟ حقّاً لو أراد عمروٌ أن يتقاضى زيداً أمام المحاكم لظلَّ القضاة ينظرون لأمر لهما بمعالجة أربعين عاماً. ولو عددنا الجروح التي في رأس كل منهما لاحتجنا إلى جيش من الكتبة والحاسبين. ولو استشهدنا سيبويه ونفطوَيه لشهدا على كلٍّ منهما بالاعتداء على رفيقهِ. أفما كان الأجدر بقاضي الصلح أن يصلح بينهما ويعيد الأمن إلى نصابه بين عائليتهما حفظاً للراحة العمومية؟
في كتب النحو أمثلة أخرى تدل على طباعنا. من ذلك قولهم مات زيد وهو وايم الله لا يزال حيّاً يُرزق يضرب عمراً من جديد. وقد ازرَقَّ عمروً وعُقِر من شدَّة الضربات والرفسات. وزاد الطين بلَّةً أن جمعية الإسعاف أهملتهُ ولم تشفق عليهِ. فوا رحمتاه على
عمرو! إنهُ لن يخلص من ضربات زيد ولو مات زيدٌ عشرين مرَّة في كتب النحاة.(4/381)
إذ لا تكاد تسمع نعيَّه حتى يعود إلى الحياة ويستأنف ضرب عمروٍ. فهو كالسنَّور له سبعة أرواح.
ومن أمثلة النحاة أيضاً - أو بالحري علماء الصرف - قولهم: أحوَل وأعرج وأقطع إلى غير ذلك من الأمثلة التي لم تكن تبرح من فكر سيبويه. ولو جمعنا جميع أصحاب العاهات الذين أحيا النحاة ذكرهم لضاقت بهم الأرض والسماء. ولعلَّهم أُصيبوا بعاهاتهم من جرَّاء ضرب زيدٍ لعمروٍ وغيره. ومن البليَّة أيضاً قول ساداتنا النحاة إِن أمثال الأحوال والأعوَر والأعرج لا ينصرفون. فسيظلون يلازموننا إلى أن يقوم رجل أشدّ بطشاً من زيد , فيبطش بهم كما بطش هذا بعمروٍ , ويُريح تلاميذ المدارس منهم.
سامحك الله يا سيبويه!
ومن البليَّة أيضاً أنَّ النصب عند النحاة حالة من حالات الإعراب. ومثلها الخفض أيضاً. وقد يرفعون من لا يستحق أن يُصفع بالأحذية. فإذا قُلنا سرق زيدٌ مال عمرو قالوا يجب رفع زيد , لأنهُ ارتكب جناية فعل السرقة ويجب خفض عمرو , لأنهُ الشخص المسروق منهُ.
ما شاء الله كان!. . .
أيُرْفَعَ زيدٌ ويُعلَى شأنهُ لأنهُ سَرق , ويُخْفَض عمرو وتُداس حقوقه(4/382)
لأن زيداً سرَق منهُ؟ فيا لله من هذا الظلم والاستبداد! ألم يكن في وسع النحاة أن ينصفوا عمرواً ولو مرة وحدة في الحياة؟
حاشية - بمزيد السرور وعظيم الابتهاج وننعي إلى طلبة الصرف والنحو حضرة الشيخ عمرو , عدوّ زيد. وجار بكرو ونسيب نفطويه. انتقل من الديار الفانية بعد عمر قضاه في احتمال الضربات من عدوّه زيد وقد أسلم الروح فراح شهيد النحاة على أثر الجروح المميتة التي أُصيب بها على أُمّ رأسه. فانصرف مع أنهُ كان أعوَر. والتمست جمعية الشفقة على الحيوانات من عدوّه زيد أن لا يلحق به إلى دار الخلود. وسيُحتفل بتشييع جنازته من دار نفطويهَ إلى قبر سيبويه ليُدفَنَ معهُ وتستريح عظامه الموضوضة. وسيثنْقَش على ضريحهِ: ضرب زيدٌ عمرواً. . .
سليم عبد الأحد
حِكَم للإِمام علي
من وَضَعَ نَفْسَهُ مواضِعَ التُّهمَة فَلاَ يلومَنَّ مَنْ أسَاءَ بهِ الظنَّ
النَّاس أعْداءُ ما جَهلُوا
آلَةُ الرّئاسَةِ سَعَةُ الصّدْرِ
ما اختْلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلاّ كانَتْ إحْدَاهمَا ضَلاَلة
مَنْ لَمْ الصّبرُ أهْلَكهُ الجَزَعُ(4/383)
فكاهة
كان رجلٌ يكثرُ الطعامَ على العشاء , فإذا نام غطَّ غطيطاً هائلاً , وشخر شخيراً متواصلاً , فيقلق زوجتهُ , فتوقظهُ ليُغيّر ضجعتهُ ويريحها من غطيطه , فكان يغضب ويجادلها قائلاً: ما أنا غططتُ وشخرتُ , بل أنتِ فتصمتُ , وتصبرُ على مصيبتها حتى عيل صبرها وفارقها جلدها. فعمدتُ أخيراً إلى حيلةٍ تحجُّهُ بها , وتقنعْهُ عساهُ أن يُقَلّلَ من نهمتهِ , ولا يغطّ في نومهِ. فجاءَتهُ ذاتَ يومٍ , وبيدها الفونوغراف , وأدارتهُ وقالت: أتعلم ما هذا الصوت؟
فقال: هديرُ البعير , بل نهيقُ الحمير , لا بل قباعُ الخنزير , بل مواءُ السنانير , بل طنين الزنانير.
وكان كلما أدارت مرّةً , غيَّر حكمهُ في الصوت؛ وهي تقول لا حتى ضاق صدره. فقال: قولي لي ما هو , وأريحيني , من هذه الأصوات المنكرة التي تملأُ الجسمَ رعدةً وقشعريرة. قالت: هذه أصواتُ شخيرِكَ التي صبرتُ عليها الأعوامَ , ولم تصبر عليها أنتَ لحظةً من الزمان. فقد وضعتُ الفونوغراف فوق رأسك وأنتَ نائمٌ , فدوَّنَ ما أنتَ سامع. فإِذا أيقظتُك بعد الآن , فاترك الحِجَاجَ والجدال , وارثِ لحالتي , واطلب إلى اللهِ أن يُصبّرني على مصيبتي. فسكتَ خجلاً , ثمَّ أطرقَ هُنيهة وقال: اثنان لا بّدَّ من تركها: النهمةُ على العشاء , ومجادلة النساءِ(4/384)
أزهار وأشواك
اللغة والأسرة والحكومة
في مصرَ اليومَ مسائل ثلاث تشغلُ الرأي العام: اللغةُ , والأُسرةً , والحكومة. لا يحسُنُ بي أن أدّعها تمرُّ دون أن أقول فيها كلمتي. سأضطرُّ على الإيجاز , ولن أُحاول استيعاب الموضوع , لأن كلَّ مسألة من هذه المسائل تُعَدُّ من العُقَدِ الاجتماعية التي لا يسهلُ حلُّها: باتَتْ لغتنا في حاجةٍ قصوى إلى الإصلاح , ولم يبقَ بالإمكان الجمود بها على ما كانت عليهِ حيال النهضة الحديثة التي بدَت طوالعُها. ولقد تنبَّه الخواطرُ إلى هذا الأمرِ على أثر المنشورات التي أصدرتها نظارةُ المعارف , فتراجع صداها في صحفنا اليومية , وتناولتها أقلام الكتَّاب بين منتقدٍ ومقرّظٍ. دار البحث أوَّلاً على مسألة الكتب المدرسية ووجوب ضبطها بالشكل لكي يعتاد التلاميذ منذ حداثة سنّهم , تقويمَ لسانهم وفصاحة نطقهم. ولا يخفي ما للشكل في اللغة العربية من الأهمية ليستقيم المعنى ويتمَّ المقصود؛ وكم من مرَّةً نقرأُ الجملةَ على صورةٍ معيَّنةٍ حتى إِذا ما وصلنا إلى آخرها وأحطنا بها , نجدُ أننا أسانا تلاوتها على نحو ما تلوناها أوَّلاً. فنردّد حينئذٍ ما كان يقول المرحوم قاسم أمين كلُّ لغةٍ تُقرَأُ لتُفْهَم , , إِلاَّ اللغة العربية , فإِنها تُفْهَم لتُقرأُ أُورِدُ مثلاً على ذلك جملةً قرأتُها في إِحدى المقالات التي كُتَبِتْ في هذا الموضوع , وهي حسن(4/385)
صرف المال في وجوه الخير فيمكنك أن تقرأها على وجوه مختلفةٍ لتجرُّدها من الحركات فتقول:
1ً - حَسَنق صَرْفُ المالِ في سبيل الخير , أي محمود
2ً - حَسُنَ صَرْفُ المالِ في سبيل الخير , أي جَمُلَ
3ً - حُسْنُ صَرْفِ المالِ في سبيل الخير , أي جمال
4ً - حَسِّنٌ صَرْفَ المالِ في سبيل الخير , بمعنى الأمر
5ً - حَسَنٌ صَرَفَ المالَ في سبيل الخير , أي سي حسن هو الذي صرف المال
6ً - حَسَنُ! صَرّفِ المالِ في سبيل الخير , إذا ناديت حسناً وأمرتهُ
7ً - حَسَنُ! صُرِفَ المالُ في سبيل الخير , إذا ناديت حسناً وأخبرتهُ عن صرف المال
وفي هذا كفاية على أهمية الشكل في اللغة
أما المسألةُ الثانيةُ فهي مسألة الأُسرة , دار عليها البحث بمناسبةِ الحربِ القلمية التي أثارها
إِنشاءُ جمعيةٌ في مصر لتحرير المرأة , وخوض الكتَّاب في مسألة الحجاب والسفور. قال فريقٌ لا سبيل إلى إصلاح الأمَّة إلاَّ بإصلاح الأسرةِ , ولا تصلحُ الأسرة إلاَّ بصلاح المرأةِ , ولا تصلح المرأة إلاَّ إذا رفعت الحجاب واشتركت مع الرجل في الحياة ورافقتهُ في نزهاتهِ ورياضاتهِ بدلاً من أن يرتادَ الأندية العمومية فيجالس أساتذة السهر وفلاسفة اللهو والملذَّات.(4/386)
وقام فريقٌ ثانٍ بالويل والثبور , وعظائم الأمور , ويستنزل اللعنات على دُعاة السفور , صارخاً بهم يا لثارات الدين والقومية! مكانكم أيها السفهاء! فو اللهِ ما دعا دعاةٌ إلى شرِّ مما دعوتم , ولا تحركت الألسن بأسوأِ مما تحرَّكت بهِ ألسنتكم , ولا جرت الأقلام بأضرّ مما جرت بهِ أقلامكم , فليت ألسنتكم عُقِدَت , وأقلامكم قُصِفَتْ. هذا بعض ما اتحفنا بهِ الجرائد في هذا الموضوع. والغريب العجيب إن سيداتنا - وهنَّ موقداتُ نار هذه الحرب - لم يُبدينَ رأياً , ولا رفعنَ صوتاً , ساعة نرى أخواتهنَّ الغريبات في هذهِ الآونة يُزَاحمنَ الرجال , ويطالبهم بما يريد الرجال أن يُريحوهنَّ من متاعب هذه الحياة. أمَّا المسألةُ الثالثةُ التي شغلت صحافتنا وكانت موضوع أحاديثنا , فهي مباشرة الانتخابات للجمعية التشريعية التي حلّت محلّ مجلس شورى القوانين. لستُ أُريدُ الخوضَ في ما إِذا كان هذا التغيير يُعَدُّ تدرُّجاً نحو السلطة النيابية , فليس ذلك من شأني. وقد عرف القراءُ من جهةٍ ثانية نتيجة الانتخابات الأولية , وقرأوا البروجرامات السياسية التي عرضها المرشَّحون على الرأي العام , وسنعرف عن قريبٍ أسماء الذين يقرُّ قرارُ الأمة على انتخابهم لتمثيلها. إِنما الأمرُ الذي أسفنا لهُ , هو إِغضاءُ الكثيرين عن الانتفاع بحقّهم في الانتخاب. قرأَ الغيرُ , كما قرأتُ , خبرَ ملكِ إيطاليا وكيف أنهُ اشترك في الانتخاب إلى لمجلس النواب في بلادهِ منذ شهرٍ , فإنهُ ذهب بنفسهِ إلى دائرة الانتخاب التابع لها ورمى ورقتهُ في الصندوق كأحد أفراد رعيّتهِ. في هذا مثالٌ جميل , وقدوةٌ حسنة.(4/387)
مَنْ كَتَبَ سَوفَ يكتبُ
يقولُ الإفرنج في أمثالهم من شَرِبَ سوف يشرب إِشارة إلى أن مُدْمِنَ الخمرة لن يُقلعَ عنها. ويصحُّ إِن نقولَ من كتبَ سوف يكتب بمعنى أنَّ مُدمِنَ الكتابةِ لن يكسرَ قَلَمهُ. والصحافة هي إِدمانُ الكتابة فمن زاولها مدَّةً , وذاقَ حلوها ومُرَّها لن يعرف أن يعيش بعيداً عنها. والأمثلة على ذلك كثيرة. عَلِمَ القرَّاءُ أن اسكندر أفندي شاهين الصحافي المعروف قد ودَّع
الصحافة يوم غادر الديارَ المصرية قاصداً البلاد البرازيلية لتَعَاطي التجارة فيها , بعد أن خدم القلَمَ بأمانةٍ وإِخلاص مدَّةً ربع قرنٍ. وقد أقام لهُ يومئذٍ زملاؤُهُ حفلة لتوديعهِ , وتمنى عليهِ الكثيرون ألاَّ يهجر الكتابة هجراً تامّاً , لأنَّ لهُ في ميادينها جولاتٍ صادقة , وكنت بين المشتركين في الحفلة , فتبسَّمت لدى سماعي التعبير عن هذه الأمنية , لأنَّهُ كان قد بلغني أن الصديق اسكندر قد وَضَعَ في حقيبةِ سفرهِ كليشة حفرها في مصر باسمٍ جريدةٍ قد يُصدرها في البرازيل. ولم تلبث الأيام أن جعلت الظنَّ حقيقة , فقد حمل إلينا البريد منذ أسبوعين رزمةً من أميريكا الجنوبية , ففضضتها , وإذا فيها جريدةٌ يومية بثماني صفحات عنوانها أميركا وأبحاثها متنوّعة لذيذة , وعبارتها منسجمة طليّة , وهي لصاحبها ومحرّرها اسكندر شاهين. فأيقنتُ أنَّ من كتبَ سوف يكتب وتمنّيتُ لأميركا نجاحاً وخيراً كثيراً.
حاصد(4/388)
ثمرات المطابع
مصر الجديدة - لم يبقَ أحدٌ في مصر لم يسمع باسم رواية مصر الجديدة أو لم يقرا عنها شيئاً في الصحف اليومية , إِذا لم يكن قد توفَّق إلى حضورها. وهي الرواية التمثيلية التي وضعها الكاتب المعروف فرح أفندي أنطون منشئ الجامعة ورئيس تحرير المحروسة الغراء , وقد مثّلها جوق أبيض في الأوبرا خلال الشتاءِ الماضي , فكان الإِقبالُ عليها عظيماً. جاءَتنا هذه الرواية مطبوعةً فطالعناها بلذةٍ لا تقلُّ عن لذّة مشاهدتها على المسرح لما تضمنتهُ من الآراءِ الاجتماعية والعظات البليغة والأبحاث النفسية في أحوال الشرقِ عموماً , وحالة مصر على الخصوص , بقالبٍ روائي لطيف.
الأمراض المعدية - للدكتور العالم الفاضل عزتلو محمد عبد الحميد بك طبيب مستشفى قليوب فضل لا ينكر على اللغة العربية؛ فقد وضع بها أكثر من أربعة عشر مؤلفاً في الطبّ كانت خلواً منها؛ وأتحفتها اليوم بكتابٍ نفيس في الأَمراض المعدية فجاءَ حلقة جديدة في السلسلة الذهبية التي صاغها من قبل. وفي هذا المؤَلف أبحاث مفيدة جدّاً في الأمراض التي تنتقل من المريض إلى السليم بواسطة الهواء أو الماء أو الحشرات أو الطعام أو الشراب أو الملامسة وفي طريق الوقاية منها مما يحسن بكل(4/389)
قارئٍ أن يقف عليهِ ويستفيد منهُ. أننا نتمنى أن يكون في كلّ بيت مكتبة وأن تزدان كلّ مكتبة بمؤلفات هذا النطاسي الفاضل.
تقويم البشير - هو أوفي تقويمٍ يصدرُ باللغة العربية من حيث الإتقان ودقة المعلومات وتنوّع الأبحاث وضعهُ حضرة العالم الفاضل الأَب لويس معلوف مدير جريدة البشير وصاحب قاموس المُنجِد وضِمنَّهُ كلّ ما يُقال عن تواريخ السنة مع فوائد كثيرة في الجغرافية والتاريخ والمالية والفلك والصحة وآداب اللغة. ويزيد هذا التقويم إتقاناً سنةً فسنةً , حتى يصحَّ أن يقال إِنهُ يتدرّجُ شيئاً فشيئاً ليكون في اللغة العربية كتقويم هاشت في اللغة الفرنسوية.
النظرات - هو مجموع المقالاتِ الشائقة , والنبذُ المستملحة التي نسج بردها , ووشى طرازها الأديبُ مصطفى لطفي المنفلوطي وقد نشرنا رأينا في الكتاب وصاحبهِ الزهور مجلّد 1 ص 80 , وفي يدِنا الآن الطبعة الثانية من هذا السفر النفيس. نهنئ المؤلّف برواج كتابهِ وإِقبال الجمهور عليهِ.
ملخص التاريخ القديم - كتيّبٌ صغير جمع في صفحاته ملخّص تاريخ المصريين والفينيقين واليونان والرومانيين والقرطاجنيين والفتوحات الإِسلامية والحروب الصليبية والدولة التركية , كل ذلك بعبارةٍ رشيقة وأَسلوبٍ جميل يدلُّ على براعةِ المؤلّف المتستّر.(4/390)
تاريخ حرَبي البلقان - للكاتب السياسي البليغ يوسف أفندي البستاني نظرات دقيقة في السياسية وفد أكسبهُ طول عهده بالصحافة إطلاعاً واسعاً , وخبرةً تامة. فلما شبَّت الحرب البلقانية شرع يتتبَّع حوادثها , ويستقصي أخبارها من أصدق الموارد ويدرس باعتناءٍ كلَّ م يقولهُ كتَّاب أوروبا فيها حتى وقف على دقائقها وتفهَّم أسرارها. فأخذ حينئذٍ بكتابة تاريخ لها جامعٍ لأسبابها ووقائعها ونتائجها , فجاءَ كتابهُ في أكثر من ثلاثمائة صفحة حافلة بكل الفوائد التي تقتضيها كتابة التواريخ ومحتويه على خريطتين ونو أربعين رسماً. فنلفت الأنظار إلى هذا الكتاب المفيد. ولعلَّنا أن نعودّ إلى الكلام عنهُ في جزء قادم لإِيفائهِ حقَّهُ.
كيف ينهض العَرَب - عنوان رسالةٍ وضعها الأديب عمر أفندي الفاخوري ضمَّنها شذرةً تاريخية في عوامل نهوض العرب وأسباب سقوطهم , ودعا قومه إلى شدّ أواصر العنصرية العربية واعتناق هذا المذهب السياسي دون نظرٍ إلى معتقدهم الديني , وقد بيَّن أن العَرَب لا ينهضون إِلاَّ إذا أصبحت العربية , أو المبدأُ العربي , ديانةً لهم يغارون عليها كما يَغارُ المسلمون على قرآنِ النبي الكريم , والمسيحيّون على إنجيل المسيحِ الرحيم الخ هذه الفكرة يسعى إلى تعميمها فريقٌ من أنصار الإصلاح في البلاد العثمانية , وقد بدأ بصيصُ نورِها يلمَعُ من أنحاء مختلفة.(4/391)
بين اليمن والشام - عنوان قصيدةٍ غرّاء من نوع الشعر القصصي نظم عقدها حضرة الشاعر الكبير شبلي بك ملاَّط مندوب أُدباءِ سوريا في حفلة تكريم خليل أفندي مطران. وهي قصَّة غرام حدثت وقائعها في عهد لخلفاء الأمويين فسبكها حضرتُهُ بقالبٍ سهل المأخذ رصين التركيب وطبعتها جريدة المراقب الغراء في بيروت.
مفكّرة المعارف - صدرت هذه المفكرة الشهيرة لسنة 1914 وهي صغيرة الحجم كبيرة الفائدة وتمتاز عن غيرها بما أُضيف إليها من الآيات والأمثال الحكيمة في ذيل كل صفحة وتاريخ أشهَر الاختراعات والاكتشافات وضبط الأعياد الدينية والمدنية. وهي مطبوعة على ورق جيّد ومجلَّدَة تجليداً متقناً وثمنها أربعة غروش صاغ وتُطلَبُ من جميع المكتبات في
مصر.
مجلة فرعون - توفيق أفندي حبيب من أعرفِ الكتَّاب بشؤون مصر وحوادثها الخصوصية , يعرف منها كثيراً ويروي ما يعرف بأسلوبٍ خفيف يلذّ القارئ ويُسلّي المطالع. وقد أعاد في هذه الآونة أصادر مجلتهِ فرعون التي وقفها على البحث في أحوال الطائفة القبطية وشؤونها الاجتماعية. فنتمنى لها رواجاً رفيعاً في عالم الأدب.(4/392)
العدد 39 - بتاريخ: 1 - 12 - 1913
الأوقاف في القطر المصري
تاريخها ونظامها وناظرها الجديد
أُنشئَ ديوان الأوقاف لأوَّل مرَّةٍ على عهد المغفور لهُ محمد علي باشا الكبير جدّ الأسرة الخديوية بموجب الأمر الصادر سنة 1251هـ=1835 م وما لبث أن صدر أمرٌ بإلغائه بعد ثلاث سنوات. ثمَّ أُلِّفَ للمرَّة الثانية في 11 رجب سنة 1267 هـ=1851م بناءً على قرار المجلس الخصوصي الذي صدر بأمر المرحوم عباس باشا الأوَّل. وكان هذا القرار يشتمل على عشر موادّ , خلاصتُها: أن يُطلبَ من نظَّار الأوقاف الخيرية بيانٌ عن أعيان الأوقاف الجارية في نظارتهم وما يتجمَّع من إِيرادها ووجوه إِنفاقها , وما يفضلُ بعد ذلك منها لمراجعتها. وأُطلِقَ على ذلك اسم المحاسبات؛ وأن يكونَ النظَّارُ مسؤولين عما يحدثُ من العجز في الأعيان , وأن يُحالَ(4/393)
أمرُ من يُخالِفُ منهم شرطَ الواقفِ إلى المحكمة الشرعية , حتى إذا ثبتَ للقاضي اختلاسهُ , عزلهُ وولىّ بدلاً منهُ؛ وأن تتكفَّل الحكومة بنفقات الديوان من ماهيَّات المستخدمين وغيرها , لأنَّ شرطَ الواقفين يقضي بأن لا يُنفَقَ شيءٌ في أي وجهٍ كان ممَّا لن يُعيِّنهُ الواقفُ واستمرَّ الديوانُ في مراجعة المحاسبات الواردة من نظَّار الأُوقاف لغاية سنة 1275 هـ=1858 م إِذ أحيل إليه بعضُ أوقافٍ ذات إِيراد فقضت الحاجةُ حينذاك بإِنشاءِ خزانةٍ خاصَّةٍ بهِ. وفي السنة التالية صدَر قرارٌ آخرُ على عهد المرحوم محمد سعيد باشا يقضي بأن يُنفَقَ من خزانة الأوقاف ماهيَّات المستخدمين مباشرةً , وأن تُسدِّدَ المالية للديوان قيمة ما يُنفقُهُ في هذا الباب. وفي سنة 1277 هـ=1860 م صدرَ أمرق عالٍ جاءَ فيهِ: أنَّ نفقاتِ الديون تبلغ 47702 قرشاً يؤدّي ديوانُ الأوقاف منها 19234 قرشاً ونصف قرش مما يخصصه على إيرادات الأوقاف التي يبلغ إيرادها 98896 قرشاً , وتدفع خزانةِ الحكومة الباقي. ثمَّ صدر ثالث سنة 1280 هـ=1863 م على عهد المرحوم إسماعيل باشا خديوي مصر السبق متوَّجاً بأمرٍ عالٍ يقضي بأن يُنِفقَ الديوانُ في ما هيَّات مستخدميهِ مبلغ 20470 قرشاً , وأن تُنِفقَ الحكومةُ مبلغ 20350 قرشاً. وباشر الديوان صرف الماهيَّات من خزانتهِ , ووضعها ضمن النفقات التي خصَّصها على إيرادات الأوقاف. ومن هذا العهد أخذ ديوان الأوقاف ينمو ويزداد في الارتقاءِ , لأن(4/394)
أوقافاً كثيرة من مصر والأقاليم أُحيلت إليهِ , وذلك بعد صدور الفتوى
الشرعية بأنَّ كلَّ ناظرِ وقفٍ يموتُ أو يختلسُ يُحال ما تحتَ يدهِ من الوقف إلى الديوان. وأول ما اتّصل بهِ من هذا القبيل ما كان من الوقف تحت إِدارة ذنون آغا دار السعادة بأمرٍ من الخديوي إسماعيل باشا سنة 1280 هـ=1868 م وفي السنة نفسها أُضيفت إلى الديوان أوقاف الحرَمين بعد أن كان لها ديوانٌ خاصّ تحت نظارة المرحوم إبراهيم أدهم باشا. وما زالت الأوقافُ تُحال إلى الديوانِ وقفاً بعد وقف حتى أربت على المئة وقفٍ في سنة 1289 هـ=1873 م.
وفي تلك السنة صَدَرَ أمرق عالٍ بانتخاب خمسين شخصاً من نجباءِ الطلبةِ , من سنّ العشرين إلى الثلاثين , بعد امتحانهم ليكونوا معلّمين للغّة العربية والتركية في المدارس الأهلية , وأن يُعيَّنَ لكلّ منهم مدَّة التعليم مئةُ قرشٍ شهريّاً. وكان ذلك أولَ ما درج بهِ ديوانُ الأوقاف من الأعمالِ الخيرية في المنفعةِ العامَّةِ. ولما اتسعت دائرة أعمالِ الديوان , وأصبح مصلحةٍ مهمَّةً ذات أقلام عديدة رأى أُلو الأمر أَن يحوّلوهُ إلى نظارةٍ سنة 1296 هـ=1879م , وعُيّن محمود سامي باشا البارودي المشهور ناظراً للأوقاف في وزارة رياض باشا. وهكذا جُعِل ديوان الأوقاف لأوَّل مرَّة نظارةً من نظارات الحكومة كما جُعِل الآن. ثمَّ صدر أمرٌ عال في 23 يناير سنة 1884 بإعادة نظارة الأوقاف(4/395)
مصلحة قائمةً بنفسها. ومفادُ ذلك الأمر أنهُ من الواجب أن تكونَ الأحكام المختصَّة بمسائل الأوقاف مطابقةً للأحكام الشرعية , فلا ارتباطَ لها بالنظارات الموكول إليها النظر في الأمور الإِدارية والسياسية؛ ولذلك اقتضت الإرادة جعلها إِدارة قائمةً بذاتها وأن تكون الأوامر التي تصدرُ بشأنها من الجناب العالي مباشرةً. وفي سنة 1895 وُضِعت لديوانِ الأوقاف لائحةٌ يجري عليها ويرتبطُ بقيودها , وقضت تلك اللائحةِ بوضعِ ميزانية منتظمة على الطريقة التي تسير عليها الحكومة في ميزانيتها. ولمَّا أخذت المالية في مباشرة هذا الأمر وجدت أمامها عقبةً حائلةً دون الوصولِ إلى الغرَض , وهي أنهُ كان في ديوان الأرقافِ حسابٌ خاصٌّ بكل وقفٍ , فكانت الطريقة الحسابية عبارةً عن حساباتٍ متعدّدةٍ بقدر عدد الأوقاف التي تحت إِدارتهِ , وكان لا يستطيعُ وفاءَ ما يطهرُ من العجزِ في إِيرادات الأوقافِ الفقيرة بأخذهِ عن زيادة إِيرادات الأوقاف الغنية. فصدر أمرُ مجلس النظَّار بتعيين لجنةٍ من العلماءِ لدرس المسألة وتوحيد الحسابات. وصدرت الإِرادة السنية سنة 1896 بإتّباع الطريقة التي
أفتى بها العلماءُ , وهي أنَّ الأوقافَ الخيريةَ تنقسمُ أقساماً بحسب وجوهِ إِنفاقها , وأنَّ ما يزيدُ في إِيرادات تلك الأقسام عن نفقاتها بعد وفاءِ ما يظهرُ من العجزِ في أيّ قسمٍ من أقسامها يتكوَّن منهُ مالٌ احتياطي لا يمكن التصرُّف فيهِ إلاَّ بأمرٍ عالٍ يصدرُ بناءً على طلب مدير الأوقاف بعد أخذ رأي مجلس الإدارة أو المجلس الأعلى حسب الحال.(4/396)
وقد اسثنيت من ذلك أوقاف الحرَمين. وبناءً على المادَّة 57 من اللائحة , انتدبت نظارة المالية حضرة جورج بك طلاماس لمراجعة حسابات الديوان , فوُضعت نماذج الدفاتر والاستمارات للأعمال الحسابية بالاتفاقِ بين المندوب ورجال الديوان. وقد نصَّت اللائحة الصادر بها الأمر العالي المؤرَّخ في 13 يوليو سنة 1895 على اختصاص الديوان بما يأتي:
1ً - إِدارة الأوقاف التي تؤول إلى الخيرات وليس النظر مشروطاً فيها لأحد
2ً - إِدارة الأوقاف التي لا يُعلَمُ لها جهة استحقاق
3ً - إِدارة الأوقاف التي ترى المحاكم الشرعية وجوب إِحالتها إلى الديوان مؤقتاً بضمّ مديرِهِ ناظراَ مع ناظر الوقف
4ً - إِدارة الأوقاف التي يُقامُ الديوان حارساً قضائياً عليها
5ً - إِدارة الأوقاف التي يَرغبُ نظَّارها ومستقوها في إِحالتها إلى الديوان من تلقاءِ أنفسهم.
أمَّا الوظيفة الدينية والأدبية التي يُؤدَّيها ديوان الأوقاف فِإِنَّهُ يُقيم الشعائر الدينية في المساجد , ويُنفِّذُ شروطَ الواقفين في وجوهِ البرّ التي عيَّنوها , ويبذلُ المساعدةَ على نشر التعليم بالمدارس والكتاتيب والمعاهد العلمية , ويُديرُ ملاجئ أُنشئت للعجزةِ والبائسين , ومستشفيات وعيادات طبية مفتوحة للفقراءِ مجاناً , ويمدُّ بالمرتبات السنوية عدَّةَ جمعياتٍ خيرية ومدارس صناعية , ويتولَّى بالصدقات الشهرية مؤاساة كثيرين(4/397)
من أهل البيوت ذوي الخصاصةِ ممن أخنى عليهم الدهرُ بصروفهِ , وتصدَّقُ أيضاً على الفقراءِ وأبناءِ السبيل في أيام المواسم والأعياد. أمَّا إِيراداتُ الأوقاف فقد بلغت في سنة 1902 - 246000 جنيه مصري , وبلغت في العام الماضي 511. 100 جنيه , فتكون الزيادة في مدة عشر سنوات 265. 100 جنيه. وقد زادت أيضاً النفقات تبعاً لنموِّ الإِيرادات , فإِنها كانت منذ عشر سنوات 209. 362 جنيهاً فبلغت في العام الغابر 480. 805 جنيهات
ويُدير ديوانُ الأوقاف 1435 مسجداً في القطر المصري , منها 530 مسجداً في مدينة القاهرة وحدها. ويبلغ عدد خَدَمةِ هذه المساجد 8047 بين مشايخ ومدرّسين وأئمة وخطباء ومؤذّنين وميقاتيين وقرَّاء وملاحظين. أمَّا المعاهد العلمية الدينية التي يُنفق عليها الديوان فهي الجمع الأزهر ومشيخة علماء الإسكندرية ومشيخة الجامع الأحمدي ومشيخة الجامع لدسوقي ومشيخة علماء دمياط , فيها 640عالماً ونحو 20. 500 طالب.(4/398)
ويتبع ديوان الأوقاف 151 مكتباً محالة إدارتها إلى نظارة المعارف العمومية مقابل مبلغ 24. 677 جنيهاً يدفعهُ الديوان للنظارة. ويصرف أيضاً مبلغ 1500 جنيه بصفة إعانات لمدارس يُراقب إِدارتها , هذا عدا الإعانات المخصَّصة لبعض المدارس الأهلية. وللأوقاف 11 مستشفى وعيادةً طبية يُنفق عليها في السنة نحواً من 17000 جنيه , وهي مستشفى الجذام ومستشفى الأزهر ومستشفى قلاون , وعيادات المنشية ومصر القديمة وبولاق وطنطا والإسكندرية والبعثة الطيبة الحجازية ومخزن الأدوية العمومي والمستشفى العبَّاسي. ويُدير الديوان من التكايا والملاجئ: تكية المدينة المنوَّرة , ومكة المكرّمة , وطره في مصر , وتكية النساء في مصر أيضاً , والقباري في الإسكندرية , وملجأ الأطفال في مصر , ويبلغ ما يُنفقهُ عليها في السنة 22000 جنيه تقريباً , وعدد الفقراء والمعوزين الذين يقيمون فيها أو تُصرف لهم الأغذية منها 245. وتبلغ الإِعانات التي يمنحها في السنة للمدارس والجمعيات الخيرية حوالي 13500 جنيه , منها 5000 جنيه للجامعة المصرية , و 1000 لجمعية رعاية الأطفال , و2000 لملجأِ الأيتام بالإسكندرية , و 1000 لمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية , و 500 للكتبخانة و 50 لجمعية الرفق بالحيوان. الخ. ويُدير ديون الأوقاف , غير الأوقاف الخيرية وأوقاف الحرَمين الشريفين , أوقافاً أهلية تُحال إليهِ , بعد تقريره في النظر عليها من قَبِل القضاة الشرعيين. وتبلغ هذه الأوقاف 465 وقفاً , يأخذُ الديوان من(4/399)
مواردها 10 في المئة رسم إِدارة بموجب لائحة الإِجراءَات ويُديرها كما يدير الأوقاف الخيرية سواء بسواءٍ.
هذا ما يسمحُ المقام يذكرهِ عن ديوان الأوقاف الذي صدرت الإِرادة السنية في الشهر الغابر بتحويلهِ إلى نظارةٍ من نظارات الحكومة يرأسها الوزيرُ الهمام المدبّر أحمد حشمت باشا ناظر المعارف السابق. ويرى القارئ ممَّا تقدّم أن المجالَ واسعٌ لرجلٍ كحشمت باشا أن
يسير بالأوقاف على المنهاج الذي سار بهِ في المعارف , فإنهُ بعث أثناءَ السنوات القلائل التي قضاها في تلك النظارة روحاً جديدة في اللغة العربية بتنشيطهِ التأليف في هذه اللغة , وتوسيع التعليم بها , وبتقريبه كتَّابها وأُدباءَها وشملهم برعايتهِ وتزويدهم بإرشاد ونصائحه , فرأينا نهضة حقيقية للتأليف في فروع العلوم والآداب كافةً , ولا شكَّ في أن تاريخ النهضة الحديثة في الآداب العربية سوف لا ينفكُّ مقروناً باسم حشمت باشا. والآمال معقودة الآن على همة هذا الوزير العامل بأنهُ سينهض بالأوقاف ويزيدُ في نموّها ومنفعتها إِداريّاً وأدبيّاً , فنرى لهُ فيها من المآثر ما رأينا لهُ في المعارف , فلا يُلاقي غداً إلاّ ما لاقاهُ بالأمس من الثناء على همتهِ البعيدة , وإِطراءِ إِدارته الرشيدة.(4/400)
رحلة صيف
ذهبتُ إلى الإسكندرية , وفي تقديري أن أقضيَ ثمَّتَ يومين , وفي تقدير الله أن أقضيَ شهرين. فما هو إِلاَّ أن خَلَت ليلةٌ حتى باغتَني داءٌ , فضرب وأثقل , ثم تمكَّن فأعضل , ثم أناخَ بكلكل. فلمَّا صوتُ بعد أيام من سكرتهِ , ونجوتُ من مضطرَب غمرتِه , نهضتُ ببقية الجسم الباقية , كما تُلبس الخرقة البالية , وعرضتُ نفسي على الباخرة , فالباخرةُ تحملني إِمَّا إلى الشرق وإِما إلى الغرب. فقيل: مكانك يا هذا الخيال! إِنّ الباخرةَ لا تستقلُّ بك في زمن وباءٍ , وقد تستقلُّ بأشباه الجبال. قال الطبيب: فعليك بالمكس! حَسُنَ هواؤها , وجلَّ رواؤها. فقصدتُ المكس وما أدراك ما هي الآن. هي إِحدى ضواحي الإسكندرية , قليلةُ المساكن حقيرتها , تمتدُّ سلسلة أبنيتها مستطيلةً بين شاطئِ البحر والرمل. الهواءُ فيها جافٌّ نقيٌّ عاصف , والبحرُ شديد الخفوق لا يملُّ من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبُها. والمنظر على الجملة بديعٌ في مطلع الشمس وفي مغربها؛ وللشمس فيها تجلّياتٌ باهرةٌ خلالَ الغمام , وللغمام تشكُّلٌ وتلوُّن فاتنان , وللأُفق تأنُّقٌ عجيبٌ في ترتيبِ قدر المنطقة التي يتحزَّم بها وإبرازها في أبدع زينةٍ بين الورديّ فالبنفسجيّ فالفستقيّ فالزمرديّ فاللازورديّ(4/401)
فالسنجابيّ , فما بينها من الألوان التي تُلطِف اجتماعها وتزيدها بهاءً على التنويع. ومن محاسنِ المكس أنَّ الحكومةَ مهملتُها , فهي من أجل هذا لم تزل قطعةً من الطبيعة يعيش فيها الإنسان , كما يُجبُّ أن يعيش المتمتع طالبُ الراحةِ. فإذا مرَّ في طريق , فالطريقُ غيرُ ممهَّدَة ولا مستقيمة ولا محفوفةٍ بصفيَّن من الشجر يحجبان النظرَ , كما تُحجبُ عيون الخيل التي تجرُّ المركبات؛ بل هي ضيّقةٌ فواسعة , صاعدةٌ فمنحدرة , رملية فحجرية ممتدَّةٌ فمنعطفة , فيها للسائرِ ما لا يألفهُ فيستجدُّهُ كلَّ آنِ. وفيما حولها من المسافات المفتوحة ما ينطلق معهُ النظرُ على مدى البحر الفسيح تارةً , وعلى مدى الرملةِ الوعساءِ طوراً.
رأيتُ في خلال إِقامتي بالمكس بعضَ الأشياءِ التي تجدرُ بالذكر
رأيتُ الملاَّحاتِ وعلمتُ للمرَّةِ الأولى علمَ الشهادةِ والتحقيق كيف يُصْنَعُ هذا المصلح الذي يُصلِح غذاءَنا , وينزلُ من حاجيّات حياتنا في المنزلة الأُولى , حتى أن الأمصارَ التي لا يُوجد فيها وتستوردُهُ من بعيد على ظهور الدواب تتداول قطَعَهُ تداولَ النقود. وإني لاستحيي أن أصف بالدقة كيف يُصنع الملحُ , لأنَّ أجهلَ الناسِ يتصوَّرُهُ. ولكنني لا أخاف
القولَ إِنَّ البلادةَ مستحكمٌ في قلوبنا , نحن الشرقيين , متمكنةٌ من لحمنا ودمنا إلى حدّ أنَّنا لا نتكلَّفُ الرؤيةَ ولو عن كَثَبَ , لنعلمَ مِن دقائق الأمر ما لم يُلمَّ بهِ تصوُّرُنا إِلماماً تامّاً من مجرّد الأخبار.(4/402)
رأيت أيضاً مصطَنعَ الحجارة الضخمة المربَّعةِ التي تُعدُّ لإِتمامِ جدارِ الرصيف الشرقي بالإسكندرية , وقد تمَّ منها ألوفٌ يجدُها الناظرُ معروضةً على خَطٍّ مُستطيل , وهي تُحمَلُ على ظهورِ البواخرِ بواسطةِ مرفعةٍِ بخاريةٍ منصوبة على رأس صخرة متقدّمة في البحر. رأيتُ حيث ينتهي النظر من المكس شبه قريةٍ ذات خضرةٍ تدعى العجمي عاقني عن تفقُّدها ضعفّ الجسم؛ فسألتُ أحد ساكنيها , فقال إِنَّها لا مزَّيةَ لها عن سائر القرى المجاورة إلاَّ بشيءٍ: وهو أن البحرَ يمدُّ هناك ذراعاً , ثمَّ يعطفهُ منها جزيرة. وفي الجزيرة مقامٌ لوليّ يُعرف بالعجمي , وهذا المقامُ غاصٌّ بالمراكب الصغيرة المُهداةِ إليهِ نذوراً , والنواتي يعتقدون أنهُ شفيعُهم , وأنهُ ببركة هذه النذور يرقُّ لهم ويُنقذهم من أخار البحر.
ما أحوجَ الإنسانَ إلى الإِيمان!
هذا كلُّ ما رأيتهُ م جانبٍِ؛ أمَّا من الجانب الآخر , وهو الذي ينتهي إليهِ الترام قادماً من الإسكندرية , فالذي استلفني أمران: أحدهما وجودُ حمَّام هناك واسع متقن , ومنديَين للشرب , هذا من خشبٍ قائم فوق الحمَّام , وذاك مبنيٌّ من الحجر على شكل سرادق رحيب , بينهُ وبين الحمَّام خطواتٌ. وفي كل مساءٍ يستقدم أصحاب هذين المنتدَيَين جوقَتَي موسيقي لإِطراب الحضور , الواحدة منهما أرمنية تضرب ألحاناً شرقية وألحاناً غربية , والأُخرى إفرنجية تضرِبُ ألحاناً إفرنجية(4/403)
مختارة بإتقان لا تبلغهُ الأولى. ولكنَّ ألحانه الأولى التي فوق الحمَّامِ يزدحم الناس فيها ألوفاً كلَّ يوم , بخلاف الأخرى التي بجانبها , فلا يجتمع فيها إلاَّ أفرادٌ. ولو شئتُ أن أُفصل أسباباً لنجاح هذه وفشل تلك , لفعلت؛ ولكنَّ مذهبي أن السبب الذي ترجع إليه تلك الأسبابُ بجملتها هو نفس السبب الذي تشقى به أحياناً أمةٌ صالحةٌ وأرضٌ خصبة وعملٌ متقَن , وتسعد بهِ أمةٌ فاسقةٌ وأرض قحلةٌ وعمل ناقصٌ. فسمّهِ ما شئت ويذكرني نجاحُ قهوةً الحمَّام قهوة أخرى أنشئت في المنازل منذ تسع سنين , أي حينما مُدّ الخطُّ الحديديُّ إلى المكس , فكنَّا إِذا شئنا التنزُّه ركبنا القطارَ إلى المنازل , ووجدنا الناسَ مزدحمين وقوفاً وجلوساً , والمكاسبُ تتدفقُ على صاحب المكان
من كلّ صوب. فلما افتقداها هذه المرَّة تراباً أو صانعٌ يضربُ قطعة خشب , كما تتحرَّك الجرذانُ الجسيمة في بعض الخرائب العتيقة. ذلك أنَّ وجود الترام قتَلها , لأنهُ عطَّل الخط الحديدي , فأبطلهُ , والترام لا يمتدُّ إليها , بل هو بعيدٌ عنها. فأيُّ سببٍ نردّ إليه أمثال هذه الانقلابات التي تكون في عالم الغيب ثم تفاجئ من حيث لا تظن. أما الأمر الثاني الذي استوقفني وشجاني , فهو ما رأيتهُ على كئيبٍ ممتدٍّ شبه القَتَبْ بين البحر وبيم طريق الترام من المدافع القديمة أدواب الدفاع عن مدخل الثغر. تدلُّ مركزُ هذه المدافع على أنها كانت منصوبةً وراء القَتَب , كما(4/404)
تُنَسَّقُ الإِبَرُ في ورَقَتِها , وكلُّها من الطراز الضخم , إذا أقبل عليها الناظرُ من بعيد ظنَّها بعض الوحوش الضارية من أسدٍ ومرٍ وفهدٍ , فإذا دنا منها لم تزُل مهابتها من قلبه , ولكنه رأى الموت قد مدَّ عليها كفناً من أشّعة النهار وأنداءِ الليل ثم طبع عليها أصابعَهُ , فهي منقَّطة بنقط صفراء نحاسية , وخضراء طحلبيّة , على قشر عاتم صادئ , ومنها ما انكسرت له ساق , فانقلب على جانبهِ , ومنها ما أصابتهُ ضربة في شفتهِ , فانشقَّت والتوَت , ومنها ما أدلى بعنقهِ الطويل إلى التراب كأنه يعضُّهُ في أحشائهِ.
منظرُ موتٍ وخراب وعار. دنوت من هذه الأشياء وأنا أسيفٌ أُرسل النظرة إلى الغيب , فأرى بها أُمم الشرق كلَّها مجتمعة تدبُّ دبيب الحشرات لاصقةَ الجباه بالأرض من الضعف والجبن ودناءة المطالب , وأطلق الزفرة من صدري , فأؤبن بها مجداً عظيماً ملأ العالم زمناً , ثم دفنهُ ذووه في بعض زوايا التَّرك والإهمال , ووكلوا إلى الذين ابتلوا بهِ قديماً أمر البحث عنهُ وجلاءِ آثاره التي غالها الصدأُ وغشيها نبات النسيان , حتى نخرها إلى الصميم , واذرفْ العبرة فأبكي سماءَ انطوت طيَّ الجلباب , ونجوماً غارت في التراب , ومعالم عامرة صارت إلى تباب. ثم وضعتُ رجلي على عنق الكبير من تلك الضواري الجامدة , وأثقلتُ وطأتَها عليهِ وقلتُ: يا أيها الأسد جُعِلْتَ للزئير فاستنبحوك , وللافتراس فكّموك , وللوثب فقيّدوك؛ فلينسجِ العارُ عليهم مثل ما نسج على جلدك. فإذا نهشتك الأيام نهش الكلاب الشلو , فليشهد عليهم كلُّ(4/405)
أثرٍ في البلاد من بعدك. فإنهم خفضوا رايةً , وأضاعوا جيشَ بَرٍّ , وأغرقوا أساطيل بحر , وأذلوا أمة , وأضاعوا وطناً. هذا كل ما في المكس من قديمٍ وحديث وهو قليل؛ غير أن مناظر الطبيعة فيها غاية ما يُتمنَّى؛ نقاوة الهواء وصفاءُ الطبع وسلامة ُ المعيشة من المصطلحات المزعجة المتعبة أفضلُ وسائل التعافي والسرور
ونشاط النفس.
خليل مطران
الزهور - في ديوان الخليل بضعُ صَفَحاتٍ شعرّيةٍ عنوانُها حكاية عاشَقين بدأت في سنة 1897 وانتهت في سنة 1903. والمقالةُ التي نشرناها في الصّفحات السابقة إنّما كتبها خليلٌ في أواخر عهدِهِ بتلك الحكايةِ يَومِذهبَ إلى رَملِ الإسكندرية مستشفياً من دائَينِ كانا قد ألمّا بهِ ووصفهما وصفاً بديعاً ملئهُ عواطِفُ نفسٍ حزينةٍ يائسةٍ في قصَائِدَ من أجود الشعر نختار الأبيات التالية من إحداها؛ قال:
إنّي أقمتُ على التعِلَّةِ بالمُنى ... في غُربةٍ قالوا تكونُ دوائي
إنَ يشفِ هذا الجسمَ طينبُ هوائها ... أيُلِطّفُ النّيرانَ طيبُ هَواءِ
عَبَثٌ طوافي في البلدٍِ وعِلَّةٌ ... في عِلّةٍ مَنفايَ لاستشفاءِ
متفرِّدٌ بصبابتي متفرِّدٌ ... بكآبتي مفرِّدٌ بعنائي
شاكٍ إلى البحرِ اضطرابَ خواطري ... فيُجيبني برياحهِ الهوجاءِ
ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ وليتَ لي ... قلباً كهذي الصخرةِ الصَمَّاءِ
يَنتابُها خفّاقُ لجوانبِ ضائِقٌ ... كمَداً كصدري ساعةَ الإِمساءِ(4/406)
تغشى البريِّة كدْرَةٌ وكأنّها ... صِعدتْ إلى عينيَّ مِن أحشائي
والأفقُ مُعتَكِرٌ قَرِيحٌ جفنُهُ ... يُغضي على الغَمرَاتِ والإِقذاءِ
ولقد ذكرتُكِ والنّهارُ مُودِّعٌ ... والقلبُ بينَ مَهايةٍ ورَجاءِ
وخواطري تبدو تِجاهَ نواظري ... كَلْمى كدامِيَةِ السَّحابِ إزائي
والدَّمعُ من جفني يَسيلُ مشعشاً ... بسنى الشععِ الغاربِ المترائي
والشمسُ في شَفَقٍ يَسيلُ نُضارُهُ ... فوقَ العَقيقِ على ذُرى سوداءِ
مرَّت خلاَلَ غمامَتينِ تحدُّراً ... وتقطّرتْ كالدَّمعةِ الحَمراءِ
فكأنَّ آخِرَ دَمعةٍ للكونِ قد ... مُزِجَتَ رآخرِ أدمعي لرِثائي
وكأنني آنستُ يَوميَ زائِلاً ... فرأيتُ في المرآةِ كيفَ مسائي
الإِنتقاد
بينَ نَقْدِ المؤلّفات هنا , ونقدِها هناك فرقَانِ: أحدُهُما يتعلّق بالنّاقِدِ والآخر يتعلّق بأثر النقد في الأذهان. أمّا الأوَّل فهو أن الناقد هناك ينتقد الكتاب من حيث ذاتهِ؛ فلو لم يكن للكتاب صَاحبٌ لا ينتقدَهُ , وهنا ينتقدهُ باعتبار شخص مؤلفِهِ. أي أنهُ ينتقِدُ الكتاب بل صَاحبَ الكتاب في كتابه. وأمّا الثاني , وهو أثرٌ طبيعي للأوَّل , فهو أنَّ للانتقاد هناك أثراً ظاهراً في الكتاب من حيث رواجه وكساده , وشهرتهِ وخمولِهِ. فكما يقول المنتقد يقول الناس بقولهِ. وهنا يمرُّ الانتقاد بالأذهان مرّاً فلا يبقى من آثارهِ فيها إلاّ أثرٌ واحد وهو أن الكتاب جليل القدر سني القيمة!!
مصطفى لطفي المنفلوطي(4/407)
انيبال
هو قائد من أهل قرطجنة ولد فيها سنة 247 قبل المسيح ومات سنة 183. يجدرُ بنا أن نعرضَ عن الكلام في حياة الإسكندر المكدوني الذاهبة على غير طائلٍ وجدري , ونأخذّ في ذكر حياةٍ لا يفضلها حياةٌ نبالةً وحماسةً: ألا وهي حياة القائد انيبال فنقول: هو الرجلُ الذي أتاهُ الله جميعَ مواهبِ العقلِ , وجودةِ الطبع , وزيّنهُ بأفضلِ ضروب الاستعداد التام لإِتيان أشرفِ المساعي , وأسمى الأعمال الخطيرة. وُلدَ في بيت قادةٍ اشتهروا بالذود والدّفاع عن استقلال مدينتهم , حتى الممات. وكانت روحهُ كأنها نوعٌ من المعدن قد صيغَ في وسط أتون البغض والحقد المتّقد حول رومه بجزلِ مطامعها. وإذ بلغ التاسعةً من عمره فارقَ قرطجنة وصحب أباهُ إلى حيث كان منتوي أجداده قصدَ أن يحيا ويموتَ في محاربة الرومان. فدلَّ ذلك أن الأعمال الحربية كانت مرتاد أمانيهِ ومرمى هممهِ. فاعتاد منذ صغره الرُّقادَ في ساحات الوغى. ومواطن القتال ليكفَي بهذا الاعتياد الوجعَ في عُنُقهِ من تعادي خَشِن الوساد , وفي سائر جسمه التبرُّم من الاضطجاع على مثل شوك القتاد وليأمن مظانَّ المخاوفِ , ويتمرَّنَ لبُّهُ على تدُّبر الأَعمال الحربية بحيث يكون , في أعظم الأهوال وأشدِّ الحروب , أفضلَ من غيرهِ في أصفى الأحوال والأوقات. ثم بعدَ وفاةِ أبيهِ أميلكار العظيم , وصهرهِ أسد روبال اللذينِ قضيا نحبهما قتيلين في حومات الوغى , انتخبه الجيشُ القرطجنب قائداً عاماً , مع أنَّ سنيهِ لم تتجاوز الست والعشرينَ إذ ذاك , خلافاً لرأي مجلس الملاء القرطنجي , لأنهُ كان ينفسُ على بيت بركا - بيت انيبال - عظمَ مكانتهِ وشهرتهِ. ولما استولى انيبال على قيادة الجيش جعَلهُ مثلهُ ممتلئاً حقداً وحنقاً على الرومانيين , ومُحرِزاً إقداماً وثباتاً بليغين. ثم زحف بهِ في أكباد أوروبا , وكانت(4/408)
حينئذٍ مجهولة المسالك , كأواسط أفريقية الآن , واجتازَ جبالَ البيرينه وجبال الألّب في ثمانينَ ألفَ جنديّ , وقد فقد منهم أكثرَ من خمسين ألفاً في مسيره الشاقّ الشاسع الخارق العادة؛ واستمرَّ سائراً لا تصدُّهُ الصعابُ والعقباتُ المتنوعة اعتقادَ وجوبِ محاربةِ رومه في بلادها , للتمكن من الاستحواذ عليها , إلى أن دخل إيطالية , مشيراً على رومه أتباعها ورعاياها فوثب على القواد الرومانيين واضطرَّهم إلى مزايلة مراكزهم ومعسكراتهم الحصينة ومنازلتهِ , بتظاهرهِ باستصغار شأن بعض القوَّاد , والاستخفاف بقلة شجاعتهم , وبما زيَّن لكبرياء وخيلاء قوم آخرين منهم؛ وما زال بهم حتى ظهر عليهم شيئاً فشيئاً وكاد يكتبهم
ويقهرُهم كافةً , لولا أن تصدَّى له قِرنٌ مكافئ له في الشدّةِ والبأسِ , وهو فابيوس الذي أشار بأنَّ من الواجب أن يُقاوم هذا الجبارُ يس بقوَّةِ السلاح في وقائع حرب لا يطمع منها بالغلبة عليهِ , بل بفضل الثبات الذي هو من فضائل رومه الحقيقية. ولما رأى انيبال غلطهُ بانكالهِ على الغالبين لعدم ثباتهم , وتحقق عدمَ إمكانهِ أخذ رومه ذهب إلى جنوب إيطاليا , وكانت البلادُ ثمَّةَ متمدّنة وحكوماتها متآلفةً من مجالسِ أشرافِ مستبدَّةٍ برعاع الشعب , فخضد شوكة الشرفاء مع كونه شريفاً , وسلّم مقاليدَ الحكومة إلى لشعب , وجعل مدينة كابو عاصمة حكومتهِ , متباعداً نزيها عن الملاهي والملاذّ خلافاً لما توهم أو أوهم كثيرٌ من المؤرّخين , إذ أنهُ لم يكنِ يعرفُ مواردَ الترَفِ والتلذّذ , ولم يذّقْ طعمها في كل حياتهِ. ثم جدَّد نشأةَ جيشهِ وأغناهُ بمسلوبات فتوحِ البلدان. وما منعه خذلانُ أهل وطنهِ إياهُ أن استدعى إليهِ بشعوب الأرض وشبَّ الحربَ في اليونان وآسيا مستثيراً سكان الدنيا قاطبةً لمقاومة الرومان. وما زال مدَّةَ اثنتي عشرة سنة فاتكاً بكلّ جيشٍ روماني يخرُج لقتالهِ , ولهُ من نفسهِ ناصرٌ معين , وهو رابط الجأش , رسوخ القدم في إيطاليا , حتى أنَّ الرومانيين باتوا قانطين من جلائه عن بلاد إيطاليا. ولكن أنى يومٌ نقلوا فيهِ مراكزَ القتالِ ومواقفهُ إلى أفريقية , تحت أسوار قرطجنة , فاستغاثت بهِ مدينته , فخرج يقاتلُ العدو بجيشهِ المتضعضع جيشاً منظماً(4/409)
جديداً , فنكص جدُّهُ الباسق ونقص حظّه السابق , فلم يجد بدّاً من أن يدين لسيبيون الجديد الطالع نزولا على حكم الدعر وتقلبات الأيام , فعاد متحسراً متقطعاً إلى وطنهِ , وجعل يسعى في لمّ شعثهِ وإصلاح أحواله , ليصيرَ قادراً على نزال الرومانيين كرةً ثانيةً. ثم وشى بهِ مواطنوه المتلبسون بالجور والاستبداد تشيعاً للرومانيين , ففرَّ إلى المشرق لائذاً بحمى أنطويوخوس الكبير ملك سوريا. ثمَّ لجأ من مداومةِ القتالِ , فتناول سمّاً وقضى بهذا السبب. وهو آخرُ بطل من أبطال عشيرته لأنهم بأجمعهم ماتوا ميتتهُ أحراراً في سبيل هذا القصد المقدَّس , وهو مدافعة التسلُّطِ الأجنبي ومقاومته. ومن الممتنع إيجادُ مظهرِ ضعفٍ في تضاعيف حياة هذا الرجل العجيب المتحلي بكل مزايا المرؤة والعقل والإِقدام. أجل لا يستطاع التماسُ مثلِ هذا الضعف أو هذه النقيصة. ونحن نحاول فيهِ وجود ميل ذاتي كحبّ المال أو الملذَّات أو الطمع أو غيره ولكن لا نجدُ في الرجل إلاّ ميلاً واحداً وهو بغضهُ أعداء وطنه. قد نسب إليهِ تيت ليف المؤرخ الروماني
البخلَ والقسوة ولكن تهمتهُ هذه في غير محلها. نعم إن انيبال قد جمع أموالا طائلة , ولكنه لم يستعملها قط لأغراض ذاتية , وإنما كان يخصصها لدفع رواتب جيشهِ. قلنا إنَّ أهلَ وطنه كانوا قد تركوا نصرتهُ , والجيش المذكور لم يعصَ قط أوامر قائده انيبال , لما له من السطوة والهيبة والحكمة خلافاً لأمثاله من الجيوش المؤلفة من جنود غرباء وعصابات بربرية مختلفة الجنسية والوطن واللغة. وقد(4/410)
أرسل انيبال إلى قرطجنة عدَّة إمداد ممتلئةً بالخواتم والفتخ الذهبية التي أخذها إسلاباً من قتلى أشراف الرومانيين ولكن لم نجدُ لهُ في تضاعيف التاريخ ذكر مُنكَر أناه , ولم يسفكْ دمَ إنسان بلا حرب. فينتج من كلامنا أنّ شهادةَ المؤرخ الروماني تعودُ على قائدنا هذا بالفخر والشرف. وبالاختصار فإن أقوالَ التواريخ والأزمنة التي توالت بعد هذا البطل سيردّده جميعُ الأمم والأجيال إلى منقضي العالم. وذلك أنَّ مظهرَ حياةِ هذا القائد المجيد , لهو أشرفُ مظاهر الحياة البشرية في هذه الدنيا لدلالتهِ على همةِ عالية , ومدارك سامية يندرُ وجودُها , خصوصاً حياته خلت عن كل أربٍ شخصي , وأثرة ذاتية , لم يلابسها إلاّ هوى فرد , ألا وهو حبُّ الوطن حتى أنهُ قضى أخيراً شهيد محبته لوطنه.
يوليوس قيصر
قائد روماني ولد سنة 100 قبل المسيح وتوفي 44 ق. م.
ها أنّا موردون ترجمة شهيد آخر لم يتفانَ في حبّ وطنهِ , ولكن ذهب قتيل الطمعِ - نريد بهِ هذا الرجل العجيب المنقطع النظير , الذي لم يكن يخلو عن ضربٍ من ضروب النقائض والرذائل , وكانت حياتهُ كلها عبارةً عن سلسلة تعدّياتٍ على وطنهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ هو قيصر ثالثُ الرجال العظام المشاهير في الأقدمين. وُلدَ ونشأ وشبَّ متحلياً بصنوف الصفات , فإنهُ كان شجاعاً فصيحاً لطيفاً كريماً جواداً مفرطاً في السخاء؛ بيدَ أنهُ كان يؤثِرُ السذاجةَ في أعماله؛ ولكن لم يكن عندَه أٌلُّ همّ في أن يفرق بين الخير والشرَ , لا في العمل ولا المبدأ. وكان قصارى همهِ ومبدأ جميع أعماله طلب الغاية التي قصّر عن بلوغها(4/411)
ماريوس وسيلاً نريد بها التسلط على وطنهِ. كان قصد الإسكندر الاستيلاء على جميع العالم المعروف وقتئذٍ؛ ووقف انيبال حياتهُ كلها على وقاية وطنهِ من النشوب في عبوديةِ الأعداء. أما قيصر فكانت غايتهُ القصوى أن يملك رومه التي تفرَّدت بالاستيلاءِ على كلّ الدنيا تقريباً. ونراه قد اتخذ كلَّ الوسائل إدراكاً هذه الغاية , غيرَ متذمّم من الإسفاف إلى الذرائع السافلة , بيدَ أنهُ لم يَردْ مواردَ الجور والجنَفِ تفادياً من الارتطام بأغلاط ماريوس وسيلاّ. وقد تدرَّج في الخطط والمراتب من وظيفة إديل إلى وظيفة بريتور ثم إلى رتبة رئيس أحبار العاصمة؛ وعقد ديوناً رابيةً ليرشوَ المنتخبين , لأنّ كلَّ هذه الوظائف كانت تُنال بالانتخاب , واستغوى الرجال والنساءَ , مستفسداً المتزوّجين وغيرهم استفادَةُ عامة الشعب. وما كفاهُ ما أتاه من ضروب الفساد حتى عمد إلى استعمال الوسائط الأدبية , فأصبح أعظمَ خطيبٍ في رومه بعد شيشرون. وما زال حتى صار علّة عدة كثيرين من بوادر الفرَح والريب في رومه؛ فأعيتهُ الإقامةُ بها فاتفق مع كراسّوس البخيل , وبمبيوس المتكبر , واختصَّ نفسهُ بحكومة ولاياتِ غاليا قصدَ تدويخ هذه البلاد الواسعة , لا ليزيدَ مجدَ رومه , بل ليحشدَ عساكرَ قاهرةً , ويجمع أموالاً وافرةٌ , فيقضي ديونهُ وديونَ أشياعهِ. فأقام مدة ثماني سنين في غاليا يحاربُ أيامَ الصيف , ويعودُ آونة الشتاءِ إلى دسّ الدسائل , ويدبّرُ من معسكرهِ في ميلانو مجر عجرفة بمبيوس وبخل(4/412)
كراسوس. وبذلك تسلّط مدة عشر سنين على مجرى الأحوال الرومانية. ثم توفي كراسوس
في آسيا , ولم يبقَ بينهُ وبيم بمبيوس رجلٌ ثالث يمنع تماديها في الطمع ولبغي , عمد أولاً إلى استعمال الحيل لإِرجاءِ القتالِ بينهما , إذ كان قد شعر بسوء عاقبتهِ , حتى أنهُ لما تعذَّر عليهِ مجانبةُ القتال , اجتاز نهر روبيكون وسار لمساوة بمبيوس , وهناك ترك كما قال مدلاّ بسطوته , قائداً بلا جيش , وذهب إلى اسبانيا فشتت جحافل بمبيوس التي كانت بإمرة أفرانيوس. ثم غادر اسبانيا , واجتاز إيطاليا مسرعاً شاخصاً على أبيروس إدراكاً لعدوّهِ. فصادف بمبيوس نفسه وجعل يقاتله الكرَّةَ بعد الكرة , وكانت الوقعة الفاصلة لتلك الحرب الشهيرة سهول فرسال فتغلّبَ عليهِ , واستأثر بالسلطة المطلقة , فلاذ بمبيوس بالهرب منهُ خوفاً إلى أن لاقى أجله قتيلاً في مصر. ثم إنَّ قيصر جعلَ يتعقبُ بقايا حزب بمبيوس في أفريقية واسبانيا , وقهرهم كافةً , وفتح شمالي آسيا. ثمَّ عاد إلى رومية ليتلذَّذ بثمارِ انتصاراتهِ على جميع أعدائهِ ومناوئيهِ. ثم أسَّي فيها ما يعبَّرُ عنهُ بالإمبراطوريَّة الرومانية , ولكنهُ ذهب قتيلاً بفتكةِ الجمهوريين , لأنهُ أراد الإِسراعَ في وضعِ الاسم للمسمَّى , بعد أن ملك العالم مدة تزيد على أربع سنوات. فما سبق إيرادهُ من أخبار هذه الحياة يرى أن كل الوسائلِ والتدابير المذكورة كانت سيئة كالغاية التي سعى إليها قيصر. ولكن ينبغي أن يعترَف لهُ بالفضل من جهةٍ واحدة وهي أنهُ قصد أن يحوّل هيئة الحكومة من كونها جمهوريَّة إلى كونها إمبراطوريّة. ليس بأنواع القتل وسفك الدماءِ , كما فعل ماريوس وسيلاّ ,(4/413)
ولكن بتعطيل الآداب الملائمة أخلاق الرومان , وبحسب قوّةِ العقل المناسبة لسموّ مداركهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ الغريب الذي كان من أعظم أرباب السياسةِ , وخطيباً شهيراً وبطلاً صنديداً , وعائقاً في الأرض فاسدَ الأخلاقَ , يظلم بلا رحمةٍ , ويرحم بغير حدّ ولا قياس , لهُ مزيةٌ خاصة بهِ دون سواه. وهي أنهُ خُلق عجيب يخبر عنهُ آخر الدهر بكونهِ أكمل إنسان وجد على الأرض.
للكلام صلة
الأناشيد الوطنية
قال أحَدُ مشاهيرِ كتَّابِ الانكليز إِنَّ الذي يضعُ لحناً وطنيّاً لقومهِ يضعُ لهم قوانينَ جديدة وهو قول لا مبالغةَ فيهِ. إِذ أنَّ الأناشيد الوطنيةَ هي التي شحذَت السيوفَ , وحرَّرتِ الأرقَّاءَ , وكوَّنتِ الأُمم , ورفعت الممالك , ووحَّدَت قلوبَ أهل البلد الواحد. وهي التي تُذَكي نارَ الوطنيَّة , وتجلو صدأها؛ يتوكأ عليها قوَّادُ الأُمم إذا أجهدَهم السيرُ , ويهشّونَ بها على أتباعهم إذا حادُوا عن الطريق. ينشدُها الغريبُ فيذكر قومهُ , ويرفعُ بها المنفي عقيرتَهُ فيتذكَّرُ وطنهُ. فهي روحُ الوطنية , والوطنيةُ قوامُ البلاد؛ وهي رسولُ الشُّعور , والشعورُ منبتُ الوطنية. وهي الصلةُ بين القلوب؛ والقلوب منشأُ الشعور. وأفعلْ الأناشيدِ الوطنيةِ في الأفئدةِ وأشدُّها تأثيراً على النفوس ما وافقَ لحنُهُ الموسيقيّ ألفاظَهُ فامتزجا بمخيِّلةِ الشاعر الملحّن قبل أن(4/414)
يظهرَ لحيّز الوجود. حتى إذا أدَّى كلٌ من القلب والرأس ما يطلبهُ هذا النشيدُ منهما برزَ فكان قوَّةً حيَّةً تدفعُ القوم لخدمة وطنِهم , والذَّود عن حياضِهِ , والعملِ لرفعة شأنه. سألَ أحدُهم شاعراً من كبار الشعراءِ أن يُعَلِّمَهُ الأوزانَ فأجابهُ: إذا لم يُوحِ قلبُكَ إليك الشعرَ فما تنظمتُهُ لا يكونُ شِعراً هكذا الأناشيدُ الوطنيَّة. فإنها لا تَفعلُ فعلها في النفوسِ إِلاّ إذا كان منشأها القلبُ ولا أعرفُ نشيداً وطنيّاً تطيرَ لهُ القلوب , وتثب الأفئدة , ويجري الدم حارّاً في العروق عند سماعه , مثل المرسلييز نشيدِ فرنسا الوطني. لم يوضع ليكونَ نشيدَ الثورةِ الأفرنسية , ولكنهُ هيأَ النفوسَ لها. وُضِعَ عندما كان لويسُ السادسُ عشرَ الآمرَ الناهي. فلما أعلنَ الحربَ على النمسا عام 1792 اقترح محافظُ مدينة ستراسبرج وضع نشيدٍ يستفزُّ بهِ هِمم الشبَّانِ للدّفاعِ عن بلدِهم. فلَبَّى طلَبهُ يوزباشي اسمهُ روجيه دي ليل. جادت عليه الطبيعة بإِبداع الشاعرِ وابتكارِ الملحّن. فنظمَ النشيد ولحَّنهُ بين مساءٍ وصباح. وقد كانَ من تأثيرهِ على النفوسِ أن تطوَّعَ في الحاميةِ المدافعةِ تسعمائة شابٍّ في يومٍ واحد. ولم يكن أحدٌ يحلمُ , ولا لويسُ السادسُ عشرَ نفسهُ , بما سيكونُ من الأهميَّةِ للمرسييز الذي كان يُسمَّى نشيد جيش الرين حتى مشى أهلُ مرسيليا لباريز يترنَّمونَ بهِ طولَ الطريق فنُسِبَ إليهم. ولا يقلُّ نشيدُ غريبالدي عن المارسييز. ويكفي أن نقولَ في(4/415)
تأثيرَهُ إنَّهُ وحَّدَ إيطاليا المبعثرة , ونفَخ فيها روحاً صيَّرتها كما نراها الآن بعد أن كانت نهباً مقسمَّاً. وأيُّ إِنسانٍ لا يتحرَّكُ للعملِ عندما يسمعُ جارَهُ يُنشدُ انهضوا يا أخواني , واطردوا من بلادكم عدوَّها الغريبَ بالسيفِ , وانشروا أعلامكم , ولتفرح قلوبُكم التي
تقَدِّمونها بفخرٍ فداءَ وطنكم أمَّا الولايات المتحدةُ الأمريكية فلها من الأناشيد الوطنيَّةِ حظٌّ وافر. غير أنّ نشيدها الرسميُّ منك يا بلادي ليسَ بالنشيدِ الذي يترنَّم بهِ الجمهور. وإذا سألت أبناء الولايات المتَحدة أن يختاروا من أناشيد هم واحداً لاختاروا بين 1 ينكي دودل و 2 العَلَم المرصَّع بالنجوم و 3 جسم جون براون ` و 4 السير في جورجيا و 5 أرض دكسي لأنَّ كل هذه الأناشيد وُضِعَتْ إِمَّا إِبَّانَ الحربِ أو في أيام الثورة. فالنشيدان الأوَّل والثاني كان أوَّلُ العهد بهما في الثورةِ الأمريكية التي قدت انكلترا فيها أغلى ماسةٍ في تاجها. والثالث هو الذي حرَّر عبيدَ أمريكا , وأدار رحى الحرب الأهلية بين الولايات الشماليةِ والولايات الجنوبيةِ. والرابع والخامس كانا نشيدَي هذهِ الولايات في تلك الحرب. ولقد لحَّنَ أحَدُ أخواننا السوريين نشيداً عنوانهُ لأجلك يا أمريكا ووضَعَهُ بين أيدي رجال الولايات المتحدةِ للنظرِ في إِحلالهِ محلَّ النشيدِ الرسميّ الحالي.(4/416)
ولم يحفظ التاريخ بين صفحاته , خلافَ المرسييز وغريبالدي , عن نشيدٍ وطنيّ أنَّهُ أثر في النفوسِ مثلَ ربّنا أحفظ الملك عام 1896 عندما كانت تستعدُّ انكلترا لمحاربة أمريكا. فإنه أظهرَ ما خفي في صدر جون بل من العواطف الكامنة. وما زال منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا يُنشدُهُ البريطانيّون في انتصارهم فيملأهم فِرحاً وسروراً , وفي خذلانهم فيوليهم شجاعة وإِقداماً. أمَّا تاريخهُ فيرجع إلى سنة 1766 إذ كان يُنشدُ باللاتينية في عهد جيمس الثاني. إلا أنه يوجد في انكلترا نفسها من يعارضُ في جعلهِ نشيداً رسميّاً. والمعارضون قسمان: الأول يقول إِنه لا يجوزُ دينيّاً أن نطلب من الله سحقَ أعدائنا. فهم ينشدون بدَلهُ بارك يا رب وطننا وفيهِ يرجونَ للهَ حفظَ بلادِهم وحمايتها وانتشار السلامِ في العالم حتى يُصبحَ عدوُّهم صديقاً. والقسم الثاني يَضعُ الشعبَ في المقامِ الأوَّل , ويرى أن يُهتَفَ باسمهِ لا باسمِ الملوك. فوضَعَ لنفسه متى تنجّي الشعبَ يا ربَّنا ` ومطلِعُهُ متى تنجّي الشعب ياربّنا يا إله الرمة لا الملوك فقط بل الشعوبَ , لا التيجانَ , ولكن بني الإِنسان ولا يزالُ في انكلترا من يظنُّ أنَّ هذا في صحة الملك ` هو أحقُّ بجعلهِ نشيداً وطنيّاً من ربنا احفظِ الملكَ إِلاَّ أنهُ لا يتَّفقُ مع الذَّوقِ تحيّةُ ملكِ من بيتِ هانوفر بنشيدٍ وُضِعَ على نُفوسِ الشعبِ لاستردادِ سلالةِ ستوارت(4/417)
مثل بني دندي والملك على سطح الماء وفي اللغةِ الانكليزية عددٌ غيرُ قليلِ من الأناشيدِ الوطنيةِ للشعراء: بيرنز
وتمسون وموروكمبل تُحمّس الجبان , وتحيي ميّتَ الإِحساسِ مثل احكمي يا برْيطانيا وكثيراً ما نرى أنَّ النشيد الذي تنتخبُهُ الحكومة لا يتَّفِقُ مع ذوق الجمهور فيتركهُ كما في الولايات المتحدة. كذلك في ألمانيا؛ فإنك في أغلب الأحايين لا تسمعُ الشعبَ يترنمُ بالنشيد الرسمي. بل تجدُهُ يُنشدُ اليوم بحماس المراقبة على الرين لا يقلُّ عن حماس آبائهم يومَ كانوا ينشدونه قبلَ أخذِ الالزاس واللورين. غيرَ أنَّ لنشيدِ مارتين لوتر أو كما سمَّاه الشاعرُ هنريك هين مرسييز الإصلاح رنّةٌ لطيفة , وذكرٌ جميل , وتاريخٌ سارٌّ. فهو لا يزالُ يُسمَع اليوم بألمانيا كما سُمع في معركة لوتزن وفي حرب فرنسا. بل كلَّما جدَّ حادثٌ جَلل. ولقد عناهُ الفيكونت دي فوج أحد كبار كتَّابِ فرنسا في انتقادهِ رواية السقوط لا ميل زولا حيث قال إِنَّ من سمع الأصوات التي ملأت وادي الميوز ليلةَ أوّل سبتمبر سنة 1870 يعرف كيف غُلِبَت فرنسا على أمرِها ولا يجهلُ أحدُنا ما كان من التأثير الشديد لنشيدِ الدستور العثماني عام 1908 فالعهدُ ليسَ ببعيد. فقد أشعل نارَ الوطنية في قلوب العثمانيين ,(4/418)
وعلَّمهم أن الحرية حقٌّ , والعدلَ واجبٌ , والمساواة طبيعية. فأصبحوا لا يرضونَ بالذُّل , ولا يرضخون للاستبداد. وما زال كالكهرباء يغلي الدّم في عروقهم , ويثيرُ الشعورَ في قلوبهم , حتى كان منهُ أن خَلَع عبد الحميد. أمَّا نشيدُ الجمهورية الصينية فأشهرُ من أن نشيرَ إليهِ. وهو أكبر برهانٍ على أنّ الأناشيدَ الوطنية هي التي ترفعُ الأمم من وهده الانحطاط. وهل كان يجول بفكرٍ أحدِنا أنّ الصين تصير يوماً ما جمهورية؟؟
نظرة إلى مصر بعد كل ما مرَّ بنا
لا يوجدُ في هذا القطرِ ما يُطلقُ عليه نشيدٌ وطني سوى سلام الخديو هذا الخديو له الفخار وهو ليس مما يدفع القومَ لبذل النفس والنفيس في سبيل بلادهم. وما عداهُ فأناشيدُ يترنم بها أطفال المدارس في الاحتفالات. وجلُّها بل كلها من نظم شاعرِ الأمير أحمد شوقي بك وهي ممَّا يشكرُ عليها. إلاَّ أنها ليسَ لها الوقع الذي غيرها من الأناشيد الوطنية. والسبب على ما أظنُّ كون شوقي بك شاعراً غير ملحِّن. وقد اقترحَ بعضهم في الجريدة منذُ ثلاثة أعوام وضع جائزة لمن ينظم أحسن نشيدٍ وطني. ولا أرى لذلك فائدة. إذ أَن النشيد الذي يجب أن يكون نشيد مصر الوطنيّ لا يكون الباعث عليهِ حبُّ المال. واليوم الذي تجتمع فيهِ الوطنية الحقة والشعر والموسيقي في قلب احد أبناء النيل هو اليوم الذي نسمع فيهِ نشيدنا المنتظر؟
اتبره - السودان
عز الدين صالح(4/419)
في رياض الشعر
البستاني الشاعر والبستاني الوزير
بين الأستاذ عبد الله أفندي البستاني العالم اللغوي الشهير وسليمان أفندي البستاني ناظر. التجارة والزراعة صلة وداد متينة عدا ما بينهما من صلات القرابة والأدب. فلما ألقيت إلي البستاني الوزير مقاليد الوزارة , كتب إليه البستاني الشاعر بالقصيدة العصماء التي نحن ناشروها هنا. ثم دارت بينهما , على أثر ذلك , مراسلة نتوقع الفوز بها لننشرها في الزهور. أما الأستاذ عبد الله فأشهر من أن نعرفه إلى القراء وهو أستاذ معظم أدباء سوريا , وزعيم العلماء اللغويين فيها , وكبير الشعراء المجيدين في ربوعها. ولقد تلطف حضرته فوعد الزهور بأن ينشر فيها سلسلة مقالات لغوية انتقادية تكون تكملة لتلك المباحث اللغوية الشائقة التي كان ينشرها المرحوم اليازجي في الضياء. ولعلنا أن نبدأ بها منذ الجزء القادم.
كتب إليه أوّلاً بالتاريخ الآني:
لي مع سليمانَ قلب لا يُزايلُهُ ... خوفَ الرقيبِ ففيهِ كلُّ أسراري
إن نابَني بعدَهُ شوقٌ يؤرّخُهُ ... فإِنَّني مستعيرٌ قلب خطّارِ
1913
ثمَّ كَتبَ إليهِ:
تَرَحّلْ إلى مولاكَ يا قلبُ عَجلانا ... وأبقِ لصدري بعدَ بُعْدِكَ نيرانا
كأنّكَ في دارِ الشقاءِ معذّبٌ ... تحنُّ إلى دار السعادةِ وَلْهانا
فها أنتَ ذا يا قلبُ تهجرُ أضلُعاً ... عليكَ انحنتْ لا تبتغي منك هُجرانا
وأنتَ الذي أدمنتَ إيقاظَ أعيُني ... وأسأمتَ نجمَ الليل تخفقُ يقظانا
فكم سكِرتْ بالدمعِ إّ كنتَ خافقاً ... ولكن بصَهباءِ الهوى كنت سَكراناً
ولولاك ما اسودَّت لياليَّ إنما ... سيُسفِرْنَ بيضاً , أن قفوتُكَ , غُرَّانا(4/420)
أتشكو عذاباً في الضلوعِ وأنتَ قد ... جعلتَ بحرّ النار صدريّ حَرَّانا
جرى الدمعُ غازيّاً عليها زادَها ... سعيراً ولمَّا هجتَ خلتُكَ بركانا
وساءكَ أن تنتابَها سِنةث الكَرى ... وسرَّكَ أن أرعى السوافرَ سَهرانا
عهدتكَ ذا رفقٍ بها صائناً لَها ... فلاتكُ في عهدٍ لمولاكَ صوَّانا
ألم يكُ إنساناً لها ابتهجت بهِ ... ولم تكُ تهوى غيرَهُ قَطُّ إنساناً
أتتركه قَرْحَي ومولاك ناظِرٌ ... يعزُّ عليهِ أن تُقَرَّحَ أجفانا
كمِ التمستْ منك الهُجُوعَ لأن ترى ... دموعاً بنحرِ الطيفِ تُعْقدُ مَرجانا
فمِمَّنْ تعلّمتَ الجفاَء ولم تكُنْ ... ترى غيرَ مولاك الأنيسَ إلى الآنا
تُنفّذ أمرَ الدهرِ فيَّ وما عنا ... أبيٌّ لذي حيفٍ لهُ أنقاد مِذعانا
أما أنت تدري أنَّ مولاك مَوثلي ... إذا بان للعينيِ أو عنهما بانا
وقامَ بنصري منذُ عهدِ صبائهِ ... وما خانَ عهدي قَطَ بل غيرُهُ خانا
ولستُ أرَى غيرَ ابن عمّي أخي ولا ... أرى أبداً أبناء آدمَ إخوانا
فما أكثرَ الإِخوانَ في مَذهب الهوى ... وليسوا إذا نالوا هوى النفسِ خُلاّنا
ومَن عجمَ الأخلاقَ لم يكُ سائِلي ... على مَنْحِ قلبي لابن عمّيَ برهانا
ولم يُلهِهِ عَنّي نعيمٌ غَنَا لَهُ ... وصَعْبُ شقاءِي إن فكرتُ بهِ هانا
وهانَ عليهِ أن أحلّ بأرضهِ ... كما حلَّ إسرائيلُ في أرض كنعانا
فموسى من المنّانِ قد نالَ منّه ... ولقياهُ مَنٌّ ما بهِ كان منّانا
فيا قلبُ سرْ واسكنْ إليهِ فأنتَ ما ... فُطرتَ لترضى غَيره فيك سكّانا
بحرمةِ أشواقي إليه توقَّ أن ... يرى فيك ناراً لوَّعتنيّ أزمانا
فدّعها بصدري خوفَ لذعِ أناملٍ ... على الطرس قد خطَّت بياناً وتبيانا
وإلاَّ فكن كالبدرِ بالشمسِ مزهراً ... وما فيهِ نارٌ بل بأنوارها ازدانا
أحبُّ إليهِ أن براها كما رأى ... بحوريبَ موسى النارَ مرتفعاً شانا(4/421)
وإِياكَ ذِكرى لوعتي بفراقهِ ... مَخَافة أن تلقاه يلتاعُ أحزانا
وناسمْهُ عني بالسلام يظنَّهُ ... إذا اشتمَّ ريّاه تجسّم ريحانا
قيا قلبُ لم يقنَعُ برؤيةِ طيفهِ ... فقد شاقك الجثمان تخفق لهفانا
فكن بارحاً مثواكَ مرتحلا إلى ... فروقَ وطب واشهد لمولاك جثمانا
وفي كلِّ نادٍ بالجلالِ مؤرَّخٍ ... تجَلّدْ ولا تخفق بنادي سليمانا
1913
عبد الله البستاني
المشيب
يا شَيبُ عَجَّلتَ على لِمّتي ... ظُلماً فيا ابنَ النُّورِ ما أظلَمَكْ
بدّلتَ بالكافورِ مسكي وَما ... أضواهُ في عيني وما اعتَمَكْ
مَنْ يقبلُ الفاضحَ في سَاتِرٍ ... فهاتِ ليلايَ وخُذْ مريَمكْ
غرَّكَ أنّ الشَّيبَ عند الورى ... يُكرَمُ , هل في الغيد من أكرَمَكْ
نَفّرْتَ عني غانياتِ الطلي ... ويحك قد أسقيتَني عَلْقَمَكْ
دعونَني الشيخَ وكنتْ الفتى ... أخَّرني الدَّهرُ الذي قدَّمكْ
ونالَ من حولي ومن قوّتي ... جَورُ زمانٍ فيَّ قج حكَّمَكْ
سرعانَ ما أذبلتَ من صبوتي ... بناركَ البيضا فما أضرَمَكْ
وشدَّ ما لاقَتْ عيوني فلو ... ينطقُ لي جفنٌ إذّنْ كلَّمَكْ
ورُبَّ لمياَء منيعِ اللّمى ... تقولُ ما أسقيهِ إلاّ فمَكْ
تخاطِبُ البدرَ على تَمّهِ ... جلَّ الذي من غرَّني جسّمَكْ
كنتُ مع العفّةِ أحيا بها ... وهل بلا ماءٍ يَعيشُ السَمَكْ
فرَّنْ كمثلٍ الخشفِ مذعورةً ... لما رأت في مفرِقي مِخْذَمَكْ(4/422)
وصارتِ النظرةُ لي حسرَةً ... تقولُ للطرفِ أفضْ عَندَمكْ
وما كفى يا شَيبُ حتى لقدْ ... فَضحتَ أسرارَ مِنِ اسْتكتمَكْ
أيُّ خضابِ لم يكن ناصلاً ... عنكَ ولو بالليل قد عمَّمكْ
فليتَ أيامَ شبابي التي ... أرقَتها غّدْراً أراقتْ دَمَكْ
وأنتَ يا ظَبي النقا ما الذي ... أغراكَ بالهجرِ ومَنْ عَلَّمَكْ
ما لبياضِ الرأس حكمٌ هنا ... لكن سوادُ الحظِ قد ألزّمكْ
لو لم يُغِرْ هذا على لونِ ذا ... لم تجفُ ذا الشيخَ وما استخصمَكْ
ما خلتُ أن ترضي بنقصِ الوفا ... واللهُ بالحسن لقد تمَّمَكْ
يا ربِّ ما طالَ زمانُ الصبّى ... كأنهُ طيفٌ سرى وانْهمَكْ
وهكذا الأيّامُ تطوى بنا ... سُبحانَك اللهمّ ما أعظمَكْ
رضيتُ يا ربي بما ترتضي ... فلا تخيّبْ مُذْنباً يمَّمَكْ
وأنتَ يا شيبيَ خُذْ بي إلى التق ... وى عسى الرحمنُ أن يرَحَمكْ
عبد الحميد الرافعي
هل أنت في مصر
إذا كنتَ في مصرٍ ولم تكُ ساكناً ... على نيِلِها الجاري فما أنتَ في مصرِ
وإن كنتَ في مصرٍ بشاطئِ نيلها ... وما لكَ من شيءٍ فما أنتَ في مصرِ
وإن كنتَ ذا شيءٍ ولم تك صاحباً ... لإِلفٍ له لطفٌ فما أنتَ مصرِ
وإن كنتَ ذا إلفٍ ولم تكُ مالكاً ... لكيسٍ حوي ألفاً فما أنتَ في مصرِ
وإن حزتَ ما قُلنا ولم تكُ هائماً ... بمَيلٍ لمن تهوى فما أنتَ في مصرِ(4/423)
في قينة تُنشد
يا مَن بكى الرَّبعَ أفنى في معَاهِدِهِ ... شبابَهُ وبَكى الأيَّام والسَّكنَا
تعالَ أُسْمِعكَ شَدْواً يستعيدُ بهِ ... فؤَادُك الرَّبعَ والأحبابَ والزمنا
خليل مطران
أنتِ والدَّهرُ
أسيدتي. لا الدَّهرُ يُسعِفُ مطلبي ... ولا أنتِ إنّي حِرْتُ بينكما جدّاً
إذا رُمتُ شيئاً جِئتماني بِضِدِّهِ ... لقد صِرْتِ لي ضِدّاً وقد صارلي ضدَّا
سألتُكِ ودّاً فاسْتطبتِ لي الجفا ... وأمَّلْتُ قرباً فارتضى الدَّهرُ لي البعدا
تشابهتما جَورْاً وغدراً وقوَّةً ... فصيّرتهِ ندّاً ولم تقبلي ندَّا
فلا تحرماني لذّةً من تألّمٍ ... ولا تسلباني الوجدَ لن أسلوَ الوجدا
خذا جسدي والروحَ فاقتسماهما ... ولكن دعا لي وحدَه ذلك الكبدا
حفظتُ بهِ عهداً وأخشى ضياعَهُ ... وغني لأُبقي الكبد كي أُبقيَ العهدا
ولي الدين يكن
يا آسيَ الحيّ
يا آسيَ الحيّ هلْ فَتّشتَ في كبدِي ... وهلْ تبيّنتَ داءً في زواياها
أوَّاهُ من حُرُقٍ أودتْ بعظَمِها ... ولم تَزَلْ تتمشّى في بقاياها
يا شوقُ رِفقً بأضلاعٍ عصفتَ بها ... فالقلبُ يخفُقُ ذُعراً في حناياها
إسماعيل صبري(4/424)
اللينوتيب العربية
اللينوتيب آلة جديدة لجمع حروف الطباعة سطوراً كاملة لم يتوفق اللّغويّون حتى الساعة لتعريب اسمها. وصفوة ما توصف بهِ إنها آلة مؤلفة من جملة قطع تدار بقوة الكهرباء ويستخدمها عامل واحد , يجلس تلقاءها على كرسيّه. ويضغط على أزرار مبسوطة أمامهُ , كتِب على كل زرٍّ حرف. من حروف الهجاء على مثال الآلة الكاتبة ومتى ضغط على الزر سقطت أمامهُ قطعة نحاسية محفور عليها الحرف المطلوب في مصّفٍ خاص وهكذا حتى يتم جمع سطر كامل , فيقراه ويصحح ما يكون قد وقع فيهِ من الخطأ برفع الأحرف المغلوطة , ويضبطهُ بوضع الأسداس وغيرها من أصول صناعة التنضيد. ثم يدير لولباً آخر فينزل على السطر المحفور المصفوف صفّاً أفقيّاً جزء من الرصاص المصهور لا يلبث أن يجمد ويتحول إلى سطر من أحرف مجموعة جمعاً لا شائبة فيهِ إلا الخطأ الذي قل أن يسلم منهُ منضدُ. ويتم الجمع والسبك بهذه الطريقة في مدة لا تتجاوز ثلث المدة اللازمة للجمع باليد. وإن كان في الجمع باللينوتيب عيب واحد هو عيب التصحيح فإنه إذا وقع خطأ في حرف واحد في السطر وجب تغيير السطر بأكمله. وقد انتشرت اللينوتيب في مشارق الأرض ومغاربها من باكين إلى طنجة. وتنضد بها الحروف في جرائد فرنسا اليومية عدا ستاً , منها الجريدة الرسمية.(4/425)
وكان الكثيرون من أهل الصناعة أنه يصعب إيجاد لينوتيب عربية. ولكن بعض المتفننين من عمال المطابع ذلل هذه الصعوبة. وسبق الكاتب الفاضل نعوم أفندي المكرزل , صاحب جريدة الهدى العربية التي تصدر في نيويرك , غيره من أصحاب الصحف العربية في استخدام اللينوتيب لصف حروف جريدته. وأقام يوم بدأ بالعمل بها - وكان ذلك منذ سنتين ونصف على ما أذكر - احتفالاً شائقاً حضرهُ جمهور كبير من رجال الأقلام والمشتغلين بالصحف من سوريين وأمريكيين وتأتينا جريدتهُ يومياً في ثماني صحف كبيرة مصورة لا تنقص ترتيباً ودقة في صناعتها عن صحف أميريكا اليومية. ولا شك في أن الفضل في بلوغ هذه الصحيفة مبلغها من الترقي عائد إلى البيئة التي تصدر فيها وإلى ما هو معروف عن صاحبها من المقدرة في صناعتهِ.
وكان ينتظر أن يعم استعمال اللينوتيب مطابع الصحف اليومية في الآستانة لأسباب عدة منها وفرة عدد ما يطبع من كل واحدة من هذه الصحف , ومهارة صفافي الحروف الأتراك
وجمال خط كتابهم , وتعويلهم قسمين إذا دعت الحالة إلى ذلك فلا يحتاجون إلى مراجعة السطور وزيادة عدد الأسداس بين الكلمات كما يعمل صفافو الأحرف العربية لإيقاع نهاية الكلمة في آخر السطر. وقد سألتُ أحد أدباء الأتراك عن سبب امتناع الصحف التركية الكبرى عن استخدام اللينوتيب فما أحار جواباً.(4/426)
وكذلك لم تستخدم اللينوتيب في مطابع القاهرة وبيروت , وهما مركزا النهضة الأدبية العربية , ويوجد في كل منهما دور للطباعة لا تنقص أهمية عن دور الطباعة الكبرى في لندن وبرلين وباريس. بل سبقنا أخواننا المراكشيون في طبع مطبوعاتهم الرسمية والشبيهة لها باللينوتيب. فقد نشرت مجلة في عددها الصادر في شهر نوفمبر الماضي رسالة وردت إليها من مكاتبها في طنجة يؤخذ منها أنهُ أنشئت في رباط الفتح وفي الدار البيضاء مطبعتان كبيرتان جهّزتا بعدد من اللينوتيبات - على حد قولك أسطرلابات - من بينها لينوتيب عربية وضعت في مطبعة رباط وتصف بها الآن أحرف الجريدة الرسمية لحكومة المغرب الأقصى وجريدة السعادة الشبيهة بالرسمية. وزينت المجلة رسالة المغربية. وجريدة السعادة المشار إليها جريدة نصف أسبوعية يحررها الأديب اللبناني وديع أفندي كرم. وقد عرفتهُ قبل ذهابه إلى المغرب الأقصى إِذ كان يشتغل في الجرائد اليومية بالقاهرة. وقد مرَّ بنا منذ خمس سنوات قاصداً لبنان فجرى بيني وبينه حديث عن جريدته وإقبال المغاربة على مطالعتها فقال لي: إِن القوم هناك يعتقدون أن الصحف بدعة يحرّمها الدين. ولم نتمكن من إِقناعهم بخطأِهم إِلاَّ بأن أتينا بشيخين من علمائهم وأجلسناهما في مكتب التحرير كما توضع التماثيل في مخازن تجار الملابس , وأبحنا زيارتنا لكل قاصد من الأُدباء وأهل الفضل. وكلما وفد علينا واحد منهم نشير إلى شيخ من الشيخين فيبدأ في شرح الصحافة وفوائدها وعدم(4/427)
مخالفتها للدين. ولكن هذه العملية لم تكن لتقنع الكثيرين بأن الدين لا يحرّم مطالعة صحف الأخبار!! فذكَّرتني هذه المحادثة بما جرى بيني وبين الشيخ الكتاني , وهو أحد أئمة الدين في المغرب الأقصى. وكان قد حضر إلى القاهرة في أواخر سنة 1903 وأقام بيننا أسبوعين ترددت عليهِ خلالها غير مرَّة. وتحادثنا في عدة شؤون خاصة وعامة. فأتى يوماً ذكر الوراقة والطباعة فقال الأُستاذ رضي الله عنهُ: أنا لا أحب السير في أسواق الورَّاقين. قلت ولم يا مولاي؟ قال: لأنهم يبيعون فيها الورق الأبيض وربما أُخذ شيءٍ منه وكتب عليهِ
ما يخالف القرآن. ولا شبهة في أنهُ عند انتشار اللينوتيب في المغرب الأقصى تبدد بقوَّة مطبوعاتها أوهام الشيخ الكتاني وأمثاله وتجدد فرنسا بقوَّة الكهرباء ما درستهُ أيدي الظلم من علوم المغرب وآداب أهله الزاهرة.
ومن المصادافات الغربية أنهُ في الشهر الذي طبعت فيهِ الجريدة الرسمية للدولة المغربية الشريفة المحمية باللينوتيب وزَّع بعضُهم رسالة مصُورّة على أصحاب المطابع والمشتغلين بالصحف في القاهرة والاسكندرية قال فيها إِنه أنشأ في العاصمة مستودعاً كبيراً للينوتيب العربية. وقد طبعت هذه الرسالة طبعاً متقناً على اللينوتيب. وضمنها ناشرها بحثاً فنيّاً في فضل صف الأحرف باللينوتيب على تنضيدها باليد. ثم أخذ تدحض براهين القائلين بصعوبة تصحيح أحرف اللينوتيب. ومما جاءَ في(4/428)
هذه الرسالة أن استعمال اللينوتيب ينشأ عنا أمور ثلاثة وهي: زيادة كمية العمل , وتقليل النفقات , وفتح أبواب جديدة للرزق. ولا يقتصر النفع على إتمام الجمع بسرعة بحروف نظيفة جديدة على الدوام بل أن ترتيب الصحائف يوفر وقتاً كبيراً بدون خوف من وقوع الخطأ. وليس هذا فقط بل إِنَّ بعضهم أنشأ في القاهرة مدرسة خاصة يديرها مهندس ميكانيكي اختصاصي باللينوتيب. ولكل من يشتري واحدة أو أكثر من عدد اللينوتيب أن يدخل من أراد في تلك المدرسة ليتعلم إدارة اللينوتيب بالمجان. ولكن هذه البيانات والتسهيلات لم تقنع أصحاب المطابع العربية وتدعوهم إلى صفّ أبطال الحروف باليد والاستعاضة عنها باللينوتيب. ولهم في ذلك حجج بعضها مالي وبعضها صناعي. وليس هنا مجال تأييد أحد الرأيين أو تفنيده. وكل ما أرجوه أن يتوفق كتابنا إلى تحسين خطَّهم ويمتنعوا عن التغير والتبديل في المسودّات. وحينذاك لا يكون هناك حائل يحول دون استخدام اللينوتيب بشرط أن يزداد عدد ما يطبع سواء من الكتب والمجلات والجرائد فيقوم بنفقات هذه الآلة المدهشة وأجور العاملين فيها وما يلزمها من كهرباء ورصاص ثمَّ أن لا ينسى من يؤَرخ الصحافة العربية والطباعة أن الفضل في تعميم اللينوتيب عائد كغيره من محسنات الطبع إلى الغرب ومخترعيهِ.
القاهرة
توفيق حبيب(4/429)
أفضل الوسائل
لإنهاض السلطنة
خطرِ لنا عند الفراغ من تأليفِ هذا الكتاب , أن نستطلع آراء نخبة من أكابر العلماء وفحول الكتّاب , عن أفضل وسيلة تنهضُ بالسلطنة بعد كبوتها , وتزيدُ في يقظةِ الأمّة بعد غفوتها؛ فسألنا من أسعدنا الحظ بالوصول إليه , قُبَيل صدورِ هذا المؤلف , أن يصوغ لنا فكرتهُ الأساسية في أسطر قليلة فتكرَّموا بتلبية الطلب , أدامهم الله زهراً نضيراً في بستان العلم والأدب. وإليك آراءَهم مرتبة حسب تواريه ورودها:
قال سعادة فتحي باشا زغلول:
أقرئك السلام وبعد فسؤلك همُّ ومطلبك أهمّ
الدولة العليّةُ , رعاك الله , مجموعٌ يحتاج في سياستهِ وإنهاضهِ إلى حكمةٍ عاليةٍ وبصرٍ بالأمور كبير. فإذا غلبَ الرأيُ الهوى , وبطلَ التفاضلُ بين العناصر , وأقيم وزن العدل , وتساوى الناس جميعاً في الحقوق وفي الواجبات: وإذا خلصت نيَّات أهل الزعامة , وصدقت عزائم ذوي الرئاسة , ففضَّلوا مصالحَ الأمة على المنافع الفردية , وجدَّ الكلُّ في طلب الإصلاح فنشروا التعليمَ , وعنوا بالأمور الاقتصادية فاستبقوا لأنفسهم مرافقَ البلاد وكنوزها , وذلَّلوا السبُلَ وأَمَّنوا السابلة , وقرَّبوا المسافات ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا؛ وإذا احكموا نزانَ الجندِ وهذَّبوه لا(4/430)
شك أنَّ الدولةَ ناهضةٌ من سقطتها , وأنّ الأمّةَ ناشطةٌ من عقالها , وأنها نائلةٌ من الحضارة والمناعة مكانا عليّا.
وقال الدكتور فارس أفندي نمر:
حضرة الفاضل؛ إن كان المقصودُ من السلطنة في سؤالكم الحكومة والأُمَّةُ في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إِنهاضها متعدّدةٌ: منها ماديٌّ ومنها أدبي. ولكل واسطةٍ منها قوَّة لا يُستغني عنها وخصوصاً وسائط العلم والمال. على أنَّ في الحكومة وفي الأُمةِ رجالاً م ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم إِدراكٌ ولا يسار؛ ولكن الذي ينقصُنا هو تربيةُ الحكومة على الأخلاق القويمة والصفاتِ المنظَّمة والمرقّيةِ لشؤون الهيئة الاجتماعية حتى نستطيع الاتحادَ والتعاونَ على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالِنا , ونحنُ جماعات , كما يستطيع كثيرون منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم , وهم أفراد.
وقال الدكتور شبلي شميل:
الدولة لا تنهض إِلاَّ بثلاثة: رجالٌ ومالٌ ووقتٌ؛ والرجالُ بالعلم والتربية , والمال بالموارد. فهل ذلك متوفرو ولاسيما الوقتَ وحالنا في الاجتماعِ كما هي من قلَّةِ التكافؤ مع ما هو عليهِ اليوم من شدَّةِ التنازع؟ والجواب على ذلك يدل على المصير.(4/431)
وقال السيد رشيد رضا:
الدولة كائن حي يحفظ وجودُها بالسنّة التي تُحفظ بها حياة سائر الأحياء: وهي سلامةُ مزاجها في نفسها ووقايتهُ مما يعدو عليهِ من الخارج فأمَّا سلامةُ مزاجِ دولتنا العثمانية في نفسها ووقايتهُ مما يعدو عليهِ من الخارج. فأمَّا سلامةُ مزاجِ دولتنا العثمانية في نفسهِ فإِنما يكون بإقامةِ الشرعِ العادل في القضيةِ , والمساواةِ في الحقوق بين الرعية , وبناءِ إِدارة المملكة على أساسِ اللمركزية , وجعِ السلطة العليا شقَّ إلا بلمة بين العنصرَين اللَّذين يتكوَّن منهما الماء والهواء. وأما وقايتُها مما يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوطٌ بدلوِ أوربةَ الكبرى فهنّ أصحابُ المطامع فيها ومطامعهُنَّ متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنةً على نفسها من اقتسامهنّ إياها بالقوَّة؛ فيجب أن نتقي استيلاءَهنَّ على البلادِ بقوّة المال والسياسةِ أي بالفتح السلمي , وأن نقوّي مزاج الأُميّةِ بالمالِ والعلم وإعدادِها للدفاع عن نفسها. فإذا هي فرَّطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأُوربْيّينَ وبقيت على تبذيرها وتوهمّها إنها تستطيع أن تحمي نفسَها منهنَّ بقوَّتي الدول: البرية والبحرية الرسميتينِ , ولم تجعل كلَّ أعمادِها على الأُمة , فالخطرُ عليها من الفتح السلمي أقربُ وأقَوى من خطرِ الفتح الحربي.
وقال داود أفندي بركات:
رأيي في إصلاحِ السلطنة العثمانية أن تُقسَم مناطقَ , وأن تكونَ كل منطقة مؤلفةً من العناصر المتفقة في التقاليد والعادات واللغةِ ,(4/432)
فتُعطى الاستقلالَ الإداريَّ تبتُّ من أموره كلّ مالا يتناول منطقةً أخرى أو أكثرَ من منطقة. ويُعيّنَ لكل منطقة مندوبٌ سامٍ يعاونهُ مجلس إدارة يؤلف من النّيين في الأمور الماليَّة والإداريةِ والقضائيةِ والعسكرية , ويؤخذ للمركز العام جزءٌ معينٌ من دخل كل منطقةٍ , وتُلغى الضرائب العشرية , وتقرَّر ضرائبُ ثابتة معينة على الأملاك , وتوضع قوانين للشركات على اختلاف أنواعها , ويوحّدَ القضاءُ فلا
يكون من اختصاص رجالِ الدين إلاَّ الأمورُ الشخصيّة. فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة.
ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة.
وقال جرجي بك زيدان:
العلَّة الحقيقيةُ في حالة الدولة العثمانية اليوم فَقرُ المملكة واضطرابُ الحكومة. والحكومة الدستورية في أيدي الأمة والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق , عريقةٌ في الانقسام بسبب ما توالى عليها من أعصرِ الفساد. أما المملكة ونعني الولاياتِ الباقيةَ منها في آسيا فليس فقرُها أصليّاً فيها؛ وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها: فالعراقُ كانت وحدَها مملكة البابليّين والآشوريين وبها اعتزّ العباسيّون في إبَّان دولتهم وكانت جبايتها ثلثَ جباية مملكتهم الواسعة الممتدّة من حدود الهند إلى شواطئ الاتلاتنيكي. وسوريا كانت مؤلفةً من عدَّة دُول ثم(4/433)
اعتزَّ بها السلوقيّون أجيالاً؛ وكذلك آسيا الصغرى وظلّت مدة هي أعظم اركان الدولة العثمانية. فهذه الولاياتُ إذا أُحسنت سياستُها وإدارتها صارت غنية. وهذا لا يتمُّ والأمة تقدَّم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولةِ العثمانيةِ إنما هي ترقية الشعب وهو لا يقدرُ أن يرقّي نفسهُ رغم استعدادهِ الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؟ إنما يشترط أن يكون مستبدّاً وهذا لا يتيسّر والحكومة دستورية. فلا بدَّ من الاستعانة بالأجانب. وأسلمُ الطرُق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثِقُ بصداقتها فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها من مطامع الدول الأخرى بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وُفّفت إلى ذلك في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها.
وقال سامي أفندي قصيري
لما كانت الدّولة العثمانيةُ فيما مضى دولةً استبداديةً قائمةً على حكومة الفرد كانت تقوى بقوّة ذلك الفرد , وتضعف بضعفهِ , وتسعدُ بسعدهِ , وتشقى بشقائهِ. أما الآن وقد أُعلن فيها الحكمُ الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان , وتبدَّلت حكومة الفرد بحكومة الأمة , فصلاحُ الحكومةِ قائمٌ بصلاح الأمَّة. ولا يكون ذلك في رأيي إلاَّ بنشرِ التعليم الحرّ بين طبقاتها , والفصل بين دُنياها ودينها , والتأليفِ بين عناصرِها وطوائفها حتى تُصبحَ
جميعها كتلةَ واحدةً يحرِّكُها من أعلاها إلى أسفلِها عاملٌ(4/434)
واحدٌ هو عاملُ الوطنيةِ , وتجمعُها من أقصاها إلى أدناها جامعةٌ واحدةً هي الجامعة العثمانية.
وقال اسكندر بك عمون
أصلَحُ نظامٍ للدولة , على ما بين العناصرِ والولاياتِ العثمانيّة من التبايُن في الحاجاتِ والأخلاق والعاداتِ والتقاليدِ , وعلى ما بينَ أهليها من التفاوُتِ في الحضارة , أن تُجعَلَ ممالكَ أو ولاياتٍ مستقلّةً في جميع شؤونها الخاصةِ استقلالاً تامّاً حتى في قوانينها وفي شكل حكومتها مع ارتباطها جميعاً في الشؤونِ العموميّةِ على نحو نظامِ الولايات المتَّحدةِ الأميركانية , أو الممالكِ الجرمانية , فتُسمَّى حينئذٍ الولاياتِ أو الممالكَ العثمانيَّةَ المتحدة. ولهذا النظام مزيّةٌ على كل نظامٍ آخر وهي: أنهُ النظامُ الوحيدُ الذي يمكنهُ أن يجمع بين الولاياتِ والإِماراتِ العربيَّةِ في جزيرة العربِِ وسائر الولايات الأخرى الممتازة وغير الممتازة.
وقال أمين أفندي البستاني
سألتني رأييَ في الدولةِ ومصيرها: جازَ بالدولة في هذا العام عبرةٌ كبرى إذا لم تعتبر بها نالها ما هو شرٌّ منها. وللدولةِ الآن بقيَّةُ مُلْكِ هو أبعدُ مدى , وامنعُ حمىً , وأطيبُ بقعةً من جلِّ الممالك الأُوربيةِ. فهل لها أن تعدِلَ الباقي من هذا المُلْكِ وتمنَعهُ حادثات الدهر؟ الله أعلم(4/435)
على أنَّ الدولةَ لا تجهلُ أشراطَ المُلْكِ على المالكِ وما هو مُبقٍ لهُ , وما هو ذاهبٌ بهِ حتى لقد أصبحت الدلالةُ على وجوهِ الإِصلاحِ المنشودِ من مبتذَلاتِ الكلامِ , وملوكاتِ الأفواه والأقلام. فهلْ للدولةِ أن تعملَ بما علَّمها الدهرُ على حين لم يبقَ لها من ناصرٍ إِلاّ ما تسعى إليهِ من ترميم هذا المُلكِ العزيز؟ وإِلاّ فقد قضى الله بما لا دافع له ولا مانعَ منهُ , وحسبُكم الإِشارة يا ألبَّاء هذه الدولة. فاعدلوا بين ضروبِ الرعيَّةِ لأنَّ دولتَكم مستمدَّةٌ من جملتها لا من أبعاضِها , وقدّموا الكفؤَ على غيره مهما كانت نبعتُهُ ومنبتُ أسلتهِ , واستعملوا الأجنبيَّ في تدبيرِهِ , واسلكوا القصدَ في عملكم من غير سرفٍ ولا تفريطِ , وخذوا بالجديد الصالحِ , واخلعوا القديمَ المبتذلَ ثم أعدّوا للمُلْكِ عدّتَهُ من رجالٍ ومال؛ والله الواقي في هذا الباقي.
وكتب إليَّ عالمٌ كبيرٌ لم يشأ أن يُنْشَر اسمهُ قال: إِن الأمر عويصٌ جدّاً لأن في السلطنة
فواعل كثيرة متناقضةً بعضها خفي , ولقد سمعتُ مرَّة المرحوم نوبار باشا رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إِن لو رد دربي ألقى عليهِ سؤالاً مثل سؤالك وطلب منه أن يرتاءي رأياً , أو يضعَ مشروعاً نافعاً للسلطنة العثمانية؛ قال نوبار: فأخذتُ القلم وكتبتُ أن يُنشأَ في السلطنة محكمةٌ مختلطةٌ مستقلَّةٌ تُرفعُ إليها الشكاوي من المأمورين فتحاكمهم وتنفّذَ الحكومة ما تحكم بهِ عليهم
فما أدقَّ هذا الانتقادَ , وما أرقَّ هذا التهكُّم!. . .(4/436)
الممرضة
وضع حضرة الدكتور سروبيان طبيب مستشفى لادي كرومر وملجأ الأطفال كتباً في علم الصحة وقدمها إلى نظارة المعارف العمومية لتعليمها في مدارسها , وقد تناول فيها ما ينبغي على الطلبة معرفته في هذا الفن فكتبه بعبارة واضحة وزين الكتب بالصور والرسوم. فجاء عمله متمماً وافياً بالغرض منه. وقد نقلنا من أحد الفصول الكلمة التالي , في وصف الممرضة. قال:
قد يُصابُ عزيزٌ لنا بمرض عُضال فيكون على المرأة وحدَها أن تمرَضهُ وتعتني بهِ. أوَ ليستَ الرشاقة والرقَّة والحنان من الصفات التي تغلب في النساءِ ويقتضيها فنُّ التمريض؟ غير أن هذه المزايا الجميلة لا تكفي وحدَها بل يجب أن تقترنَ بالخبرة والمعرفة , وترافقها على الخصوص زلاقةٌ في العمل والحديث. ولئن كن العطفُ شرطاً في معاملة المرضى , فإن اللطف من مستلزمات هذا الفنّ الدقيق.
لطفٌ في العمل , وعذوبة في اللسان؛ كلاهما لا غنِى عنهُ:
أيتها الممّرضة , ما للمريض غنِى عن عذوبتكِ. كلميهِ بوادعةٍ كما تكلّمين الطفل الصغير. وليكن ملءَ صوتك دِعةٌ ورزانةٌ , وعلى شفتَيكِ شبهُ ابتسام. ما للمريض غنى عن لطفكِ ورفقكِ. لِتَمَسَّهُ يدكِ مسّاً لا تقسُ عليهِ قساوة. لَمْسٌ دون لَهوجةٍ , ورشاقة دون تسرُّعٍ , ولطفٌ دون برودةٍ!!
لا تغضبي ولا تنفري. قد تسمعين منهُ سوءاً , وقد تُلاَقين فظاظةً؛ فلا تُسئِكِ إِساءتهُ , ولا تَرُعكِ فِظاظتهُ؛ وقد ينفرُ منكِ , ويتطلَّبُ بديلاً(4/437)
عنكِ فلا تنفري منهُ ولا تقابليهِ بغير التسامح واللين. لا تثقل عليكِ شكواهُ وكثرةُ مشتهياتهِ , فإن الممرّضة المخلصةَ تجدُ دائماً وسائلَ لتعزية المريض وتلطيف همومه. نفسُها الفاضلة توحي لها , وقلبُها الشفوق يملي عليها. هي مرآة مريضها. يرى في وجهها صورة ما يحسُّ بهِ في نفسهِ , ويُبَصر في عينيها سيماءَ ما في فؤاده. تشكو لشكواه وترضي لرضاه. فإِن حدَّثها عن نفسهِ أصغتْ إليه واعيةً أمرَهُ متهمَّةً لشؤونهِ؛ الهدوء في حركاتها , والرَّزانة في سكناتها. وأمَّا الإِخلاص والحنان فملءُ عملها الشريف.
هذه هي الممرضة وتلك هي صفاتها الجميلة ومزاياها الغرَّاء!
ومن جملة واجبات الممرّضة أن توصدَ باب مريضها دون عائديهِ , ولاسيَّما متى كان داؤهُ
عُضالاً , وحالهُ خطرة. فيُستقبل العائدون في حجرة أُخرى. وحينئذٍ فإن السكينةَ لابدَّ منها لأن المريض لا يقوى على تحمُّلِ الجلبة. وإِذا أَعضل الداءُ وأَشفى المريض فمن المحتَّم على أهلهِ وممرّضيهِ أن يتحاشوا قدَّامهُ كلَّ علامات القلق والخوف فلا يقرأ على وجوههم نبأ انقطاع الرَّجاء , ويرى في عيونهم نذيرَ الشرّ ودُنوّ الأجل. لأن المريض , في تلك الحال , كثيرُ الشكوك , كثيرُ المخاوف؛ يحاول أن يسترقَ نظرة يفهم منها حقيقة أمرِه , أو يختلسُ إِشارة يعلمُ بها ما يخفي عليهِ من حالهِ الصائر إليها.(4/438)
إِنَّ أفضلَ ما يؤَاسي به مريضٌ على شفا الموت اعتقادٌ مستمرٌّ في نفسه بزوال الداءِ وقرب الشفاء.
وقال من جملة كلام عن العناية بالطفل:
أما في البيت فلا يُترك الطفل طول يومهِ في مهدهِ , بل يُحمل من ينٍ على حينٍ على الذراع ويُتَمَشَّى به. ومتى بلغ الشهر السادس أو السابع من عمره يوضع كلَّ يومٍ , مدَّة من الزمن , على حصيرٍ أو سجَّادةٍ أو بساطٍ حيث يمكنهُ أن يلهوَ ويلعبَ. فتتقوَّى كُلاَه , وتشتدُّ رجلاهُ , وهو يحاول القعود وحده , ثمَّ الانتقال من مكانه فيحبو , ثمَّ يدبُّ مستنداً إلى يديه ورُكبتيه. ثم يحاول بعد مدةٍ أن ينهض منتصباً فيستعين بالكراسي أو بما يلاقيهِ قدَّامهُ , فيتعلَّم بذلك الوقوف على قدميهِ. ثمَّ يأخذ بأن يباعد بين ركبتيه , ويخطو خطواتهِ الأولى ممسكاً بالمقاعدِ؛ ومتى أَنِسَ من نفسهِ القوَّة الكافية يترك كلَّ مسند ويمشي وحده.(4/439)
والصغيرُ الذي يتعلم المشيَ على هذه الصورة ينشأُ ثابتَ القدمينِ مستقيم الفخذين. أما محاولة تمشية الطفل قبل الأوان فلا تفيد شيئاً بل قد تعودُ عليه بالضرر. فإذا أُرغمَ على الوقوف على رجليه مثلاً قبل أن تقويا على حملِ جسمه , تقوَّست رجلاه ونشأ مشوَّهاً لأن عظمهُ لم يكن قد تصلَّبَ بعد.
الدكتور سرو بيان
العذول والخيال
أبيات تُغني في بَشرَف
عاذلي في هَوى الحبيبْ ... جاَءني في دُجَى الظّلامْ
قُلتُ فرَّقتَ يا رقيبْ ... بين جفنَيَّ والمَنَامْ
حسبُك السعيُ في النّهارْ ... بينَ خلٍّ وخلِّهِ
ساهدٌ فاقِدُ القرارْ ... أعفُ عنهُ وخلّهِ
قال يا عاشِقَ الجمالْ ... إنما العاذِلُ الغيورْ
كيفَ تخلو مع الخيالْ ... في خفاءٍ ولا أزورْ
خليل مطران(4/440)
في أي شهر وُلدت؟
كنا قد نشرنا في بعض أجزاء الزهور على سبيل الفكاهة شيئاً مما توصل إليه المغرمون بدرس طوالع الناس من تأثير الشهور والأيام في أخلاق المواليد. وقرأنا في جريدة الشعب اللبنانية خلاصة لتلك الملاحظات مترجمة عن كتاب شيرو فرأينا أن ننشرها في مطلع العام الجديد.
إن الذين يولدون في شهر يناير كانون الثاني يُولدون أصحابَ أفكارٍ واسعة وعقولٍ راجحة وصبرِ وثبات أمام المصائب وميلٍ للاشتغال بما هو مفيدٌ للبشر. ولهم افتتانٌ في الحبّ والواجب العمومي , ولهذا كثيراً ما ينظُر أصحابهم وخلاَّنهم إلى أعمالهم بعين الاستغراب. وأخلاق مواليد شهر فبراير شباط قريبةٌ من أخلاق مواليد شهر يناير المذكور. ولكن مولود فبراير يمتازُ عن مولود شهر يناير بنجاحهِ في أعمالهِ وبإفادتهِ الغير أكثر ممَّا يُفيد نفسهُ وبطول قامتهِ ومزاجهِ الحادّ وسرعة تأثُّرهِ لأقلّ الأمور. ومواليد شهر مارس آذار يتطلعون إلى الغد بتشوَّق , لا لأجل شيء غير معرفتهم كيفية مركزهم , وماذا يُضم رلهم المستقبل في الغد. وقد لاحظ شيرو أنَّ أفكارهم هذه ناتجةٌ بالأكثر عن التشوُّق ليعرفوا أرؤساءَ سيكونو في المستقبل أم مرؤوسين. وأكثر أصحاب الفنون من موسيقيين وشعراء وعلماء وُلدوا في مارس , ولكن هؤلاء في الغالب يفتقرون للتشجيع قليلاً. وأما مواليد شهر ابريل ونيسان فهم متصلبو الرأي , ذوو إِرادةٍ قوّية عشَّاق للحروب والمخاصمات , ويمتازون على غيرهم بمقدرتهم على حسن إِدارة الأعمال , ولكنهم في الغالب يكونون محرومين من(4/441)
السعادة في الزواج وبالنادر يتزوَّجون بمن يحبون. ومواليد شهر مايو أيار من خصائص طباعهم وأخلاقهم الإِخلاص والمودَّة. فهم إذا أحبوا يُحبُّون. وإِذا جاهروا بالعداوة يُقاتلون أعداءَهم بصلابةٍ حتى الموت , ولا يتكتَّمُون في المقاتلة , لأنهم يُبغضُون الخداعَ والمداهنة والغشَّ. وقد لاحظ شيرو أنَّ مولود مايو لا يتزوَّج باكراً وإِذا كان خلاف ذلك فإِنما يكون نادراً وشاذّاً. وأمّا مواليد شهر يونيو حزيران فمتقلّبون لا يستقرُّون على حالٍ تتناوب نشاطهم الحرارة والبرودة في وقتٍ واحد. ومن ميولهم الولَع بالتمثيل والمحاماة والخطابة. وأشهرُ الخطباءِ والمحامين والممثلين وُلدوا في يونيو. ولو كان مواليد هذا الشهر ممن يخصّصون أنفسهم بشيءٍ لبرَّزوا في أي حلبة اطَّلبوها في هذه الحياة. ومواليد شهر يوليو تموز ميَّالون إلى الأسفار , ولهم ولعٌ بالمقامرة والربح السريع , لكنهم متقلّبون أيضاً
كمواليد شهر يونيو وقلَّما يشرعون في عمل ويُتمّونهُ. ومواليد شهر أغسطس آب غالباً ما يكونون من عُشَّاق الثوب العسكري وقيادة الجيوش والاشتغال بالأمور العمومية , ومن صفاتهم عزَّة النفس والحرّية الفكرية والاستقامة ورقَّة الشعور والسماح , وكثيراً ما خُدِعَ مواليد أغسطس بأمورٍ مهمَّةٍ , وانقلبَ سماحهم إلى قسوةِ قلبٍ شديدة بغَّضتهم إلى الناس.(4/442)
وأما مواليد شهر سبتمبر أيلول فقد اشتهروا بالانتقاد العلمي وسرعة الخاطر وذرابة اللسان وقوَّة الذاكرة وإِدراك خطأِ الغير لأوَّل لمحة؛ ولكنهم قبل كل شيء يصرفون جلَّ اهتمامهم إلى أُمورهم الخصوصية. وفي شهر أكتوبر تشرين الأول وُلد أشهرُ المقامرين وأكثر المبذّرين الذين لا يكترثون كثيراً للمال. وقد لاحظ شيرو إن أكثر مواليد هذا الشهر يميلون إلى درس الحقوق ويشتهرون في المحاماة والقضاء والفقه؛ وأما في زواجهم فنادراً ما يكونون سعداء لأنهم يُعظّمون أٌلّ الأمور ويهتمون لها اهتماماً شديداً. وأما مواليد شهر نوفمبر تشرين الثاني فقد اختصوا بأخلاق تقضي بالعجب. فإن الفضيلة ونقاوة الفكر تلازمانهم قبل بلوغ العشرين من عمرهم. ولكنَّهم في الغالب يكونون ضعفاء الإرادة سلِسُو المقادة يميلون كيف تميل بهم الشهوة دون ما اكتراث للنقاوة والأدب. وأكثر مواليد هذا الشهر ممن اختصُّوا بقوّةٍ جاذبة يستميلون بها عشراءَهم , ولكن أكثرهم يكون من ذوي النفوس الصغيرة التي تتضاءل عند شدّ النوازل والأمور. وفي شهر دسمبر كانون الأول وُلد أكثر العمال النشيطين الذين أدركهم الموت قبل أن يُدركهم الكلل والفتور. ولكن شيرو لاحظ أنَّهم ينتقلون من حرفةٍ إلى أُخرى بسرعة. فبينما يكونون أساتذة , فإذا بهم كهنة أو تجار أو صيارف. ولكنهم في الغالب لو أُطلقت يدهم في كل عمل يميلون إليهِ لأحرزوا بهِ القدح المعلَّى وما جاراهم فيهِ مجارٍ.(4/443)
ثمرات المطابع
ديوان المازني - عنيّت الزُّهور منذ نشأتها بنشر المختار من الشعر العصري فلم يصدر جزءٌ من أجزائها قط إلاَّ وفيهِ بضعُ صفحاتٍ جامعة لأجوَد ما نظمهُ في حينهِ كبار شعراء مصر وسوريا والعراق. وكان هؤلاء الأفاضل , وما برحوا إلى اليوم , يختصُّون هذه المجلَّة بنفثاتِ قرائحهم حتى حقَّقوا غايتها التي إنما أُنشئت لها وهي أن تكون صلة تعارفٍ بين أدباء اللغة العربية في كل قطرٍ. على أننا نأسف أن يكون بين شعراء مصر المجيدين شاعر لم توفَّق الزهور بعدُ إلى عرض شعرهِ الطيّب على قرَّائها المتشتتين في الأقطار العربية والأميركية وهو إبراهيم عبد القادر أفندي المازني؛ فإن هذا الشاعر العصري كاد أن يكون مجهولاً منَّا نحن مقيمون في مصر وحضرتهُ من أبنائها الأفاضل , فكيف بزملائهِ الأدباء في سوريا والعراق وغيرهما. وليس حظ سائر الصحف والمجلاَّت المصرية بأجمل من حظّ الزهور في هذا المعنى. لذلك يقُّ لنا أن نقول إِنَّ ديوانهُ فاجأنا مفاجأةً في خلال هذا الشهر , ولكن مفاجئة الحَسَن السارّ. قلّبنا هذا الديوان صفحةً صفحةً فما وقعتِ العين فيهِ على موضوعٍ مبتذل قط. فليس هناك مديح أو رثاء أو تهنئة أو عزاء؛ بل الديوان في مجملهِ مجموعة عواطف جاشت بها النفس فنظمها الفكر شعراً , والشعرَ ما صدرَ عن النفس وأرسلهُ الخاطر عفواً؛ فالمازني بحكم هذه القاعدة المأثورة شاعر مطبوع لا ينظم إِلاَّ خطراتِ خاطرِهِ , ولا يترجم بمنظومهِ إِلاَّ(4/444)
عواطف نفسه. وإذا صحَّ رأينا فيهِ , ونحن لا نعرفهُ , كانت نفسهُ أميلَ إلى الحزن واليأس منها إلى الفرح والرجاء. فإننا ما قرأنا لهُ قصيدةً خاليةً من وصف همومهِ ومتاعبهِ وشكاياتهِ أو من إِشارة إلى ذلك على الأقل. فكنا نتخيلهُ من خلال معانيهِ عبوس الوجه معقَّد الجبين ليس على شفتيه ابتسام , ولا في ظواهر وجههِ ما ينمّ عن رضى في نفسه. وفي يقينا أن نارَهُ التي لم تطفأ منذ استهلَّ ديوانه في الصفحة الأولى بأبيات الإهداءِ حتى ختمهُ في الصفحةِ الأخيرة بالخاتمة إلى صديق هي التي أحرقت ألفاظهُ وذهبت برونقها , وملأت ديوانهُ عواصف وزوابع , وهموماً وأشجانا , وآلاماً وأوجاعاً , ويأساً ودموعاً حتى اشتبه علينا قول شوقي: خُلِقَ الشاعرُ سمحاً طرباً. ولقد كنَّا نودُّ لو كان المجال أوسعَ فننشر للقراءِ شيئاً من قصائدهِ يزيدهم معرفةٍ بهِ ولكننا نجتزئُ بالمقتطفات التالية للدلالة على الأسلوب الذي يسير عليهِ والمعاني التي يتناولها في شعره:
قال بعنوان: فتىً في سياق الموت:
نعدُّ أنفاسَهُ ونحسبُها ... والليلُ فيهِ الظلامُ يلتطمُ
إذا خروجُ الحياةِ أجهَدَهُ ... تساقطت عن جبينهِ الدّيمُ
صدرٌ كصدرِ الخضمّ مضطربٌ ... جحافلُ الموتِ فيهِ تزدَحِمُ
إن قام ملنا لهُ بمسمَعِنا ... أو نام خفَّت بوطئِنا القدَمُ
كأنما الخوفُ من تردُّدهِ ... خيلٌ لها من رجائنا لُحُمُ
خلناهُ قد ماتَ وهو في سنةٍ ... ونائمَ الجفنِ وهو مخترمُ
قد قلَّصت ثغرَه منيتُهُ ... كأنهُ للحِمامِ يبتسِمُ(4/445)
وقال بعنوان: حالة ثورة النفس في سكونها
فؤادي من الآمال في العيش مجدبُ ... وجوي مسودّ الحواشي مقطّبُ
تمرُّ بي الأيَّامُ وهي كأنها ... صحائفُ بيضُ للعيونِ تقلّبُ
كأنْ لم يخطَّ الدهرُ فيهنَّ أسطراً ... يبيتُ لها الإنسانُ يطفو ويرسبُ
شغلتُ بماضي العيشِ عن كل حاضرٍ ... كأني أدركتُ الذي كنتُ أطلبُ
وما كلَّتِ الأيَّام من فرطِ عَدْوِها ... ولا عطّل الأفلاكَ خطبٌ عصبصبٌ
لقد كان للدنيا بنفسي حلاوةٌ ... فأضجرني منها الأذى والتقُّلبُ
وقد كان يُصببني النسيمُ إذا هفا ... ويعجبني سجعُ الحمامِ ويُطربُ
ويفتنني نومُ الضياءِ عشيَّةً ... لى صفحةِ الغدران وهي تُسبسبُ
فما لي سقى اللهُ الشبابَ وجهلهُ ... أراني كأني من دمائي أشربُ
ومالي كأني ظلّلتني سحابة ... لها من محفوفاتِ الأساودِ هيدَبُ
سأصرخُ إمَّا هاجتِ الرّيحُ صرخةً ... تقولُ لها الموتى ألا أين نهربُ
وقال بعنوان: الملل من الحياة
أكلّما عشتُ يوماً ... أحسستُ أني مُتُّهْ
وكلّما خلتُ أني ... وجدتُ خِلصاً فقدتُهْ
لا أعرفُ الأمن عمري ... كأنني قد رُزِئتُهْ
ما تأخذُ العينُ إلاّ ... ما ملّلني ومللنُهْ
كأنّ عينيَ مدلو ... لةٌ على ما كرهتُهْ
تُضيئُني الشمسُ لكن ... لأجتلي ما أجمتُهْ
ثوبُ الحياةِ بغيضٌ ... يا ليتني ما لبستُهْ(4/446)
تاريخ الحرب البلقانية المصوَّر - أهدي إلينا حضرة الكاتب البارع سليم أفندي العقاد الجزء الثاني من كتابه تاريخ الحرب البلقانية المصوَّر وهو يقع في 150 صفحة ويحتوي تاريخ المواقع منذ شهرَ الجبل الأسود الحرب على الدولة العثمانية حتى ختام هذه المأساة على أبواب الآستانة. والكتاب مصدَّر برسوم الملوك والقوَّاد ورجال السياسة الذين كانَ لهم شأن في هذه الحرب. وإِنَّ ما يُعرفُ بصاحب هذا التَّاريخ من العلم والأدب يضمن لكتابه الانتشار التام ولاسيما أن الجزءَ الأول منهُ قد تداولتهُ الأيدي , ولقيَ كلَّ ارتياح من جمهور الأدباء.
السلوى - اشتهرت المطبعة الأدبية في بيروت بكل عملٍ حسنٍ ومأثره غراء. ومن مآثرِها الأخيرة إِصدارها مجلةً قصصية أسبوعية سمَّتها السلوى , أودعت فيها أجمل القصص , وأطيب الفكاهات , فجاءَت سلوى للشيخ في زاويتهِ , وتفكهةً للفتاة في خدرها , وأُنساً للشاب في أوقات فراغه. وهي مكتوبة بلغةٍ سليمةٍ رشيقةٍ , ومطبوعة طبعاً جيداً أمَّا اشتراكها السنوي فخمسة فرنكات في بيروت وستة في الخارج.
فتاة لبنان والرزنامة السليمة - أهدت إلينا حضرة الفاضلة الأدبية سليمة أبي راشد نسخةً من روزنامة جميلة وضعتها لمعرفة التواريخ في مدة القرن العشرين , وهي لطيفة الوضع جميلة الحفر تدلّ على براعةٍ وحسن ذوق. وبهذه المناسبة نذكر ان حضرة الآنسة المشار غليها قد عزمت على إِصدار مجلةٍ أدبية باسم فتاة لبنان فنتمنى لها النجاح التام.(4/447)
دفع الهجنة - هذا كتابٌ وضعهُ معروف أفندي الرصافي الأديب العراقي وقد ضمنَّهُ عدَّة كلماتٍ وألفاظ عربيةٍ جمعها من اللغة العثمانية ليتدبَّرها كلُّ أديبٍ عربيٍّ فتكون واقية لهُ من العجمة , وحاميةً من اللكنة وقد وصف هذه الألفاظ المجموعة بقولهِ إنَّ منها ما استعمله أهل العثماني في غير معناه العربي , ومنها ما لم يكن منها عربيّاً وهم يحسبونهُ عربيّاً , وقد أخذها العرب منهم فاستعملوها استعمالهم وهم لا يشعرون. فوضع حضرتهُ هذه الرسالة وقد سمَّاها دفع الهجنة في انتضاح اللكنة ليفرق بين معاني تلك الألفاظ العربية ومعانيها
العثمانية ونشرها أوَّلاً في مجلة لسان العرب الغراء ثم طبعتها هذه على حدةٍ , فاستحقَّ الواضع والناشر الثناء الطيّب.
الزمان - تُعَدُّ جريدة الزمان الصادرة في بونس ايرس عاصمة الجمهورية الفضية الأميركية من أرقى جرائد السوريين المهاجرين , وأجلَّها فائدةً. فما برحت منذ ثماني سنين تخدم الجالية السورية الخدمات الحسنة وتوفر لها الوقوف على أخبار السياسة وحوادث الوطن , وتنشر المقالات الشائقة في كلّ موضوعٍ نافعٍ. وقد دخلت منذ حينٍ في عامها التاسع , فأصدرت لتلك المناسبة عدداً خاصاً منها مزداناً بالرسوم , مشبعاً بالمقالات الغراء , فلصاحبها الفاضل , ومديرَيها الأديبين ورئيس تحريرها الكاتب البارع كلُّ ثناءٍ على أدبهم الجمّ , وسعيهم المبارك في الخدمة العامة.(4/448)
مختارات الزهور
إسماعيل صبري باشا
أكثر ما ينظم فلخطرة تخطر على باله من مثل حادثة يشهدها أو خبر ذي بال يسمعه أو كتاب يطالعه. ولما كان لا ينظم للشهرة بل لمجاراة نفسه على ما تدعوه إليه , فالغالب في أمره أنه يقول الشعر متمشياً , وربما قاله بحضرة صديق وهو مائل عنه بعنقه. وله بين حين وحين أنة بمثل ما تنطق لفظة ايه مستطيلة ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة على ستة , وقلما يزيد على هذا القدر إلا حيث يقصد قصيدة وهو نادر. شديد النقد لشعره كثير التبديل والتحويل فيه حتى إذا استقام على ما يريده ذوقه من رقة اللفظ وفصاحة الأسلوب أهمله ثم نسيه. وهكذا يمرّ به الآن بعد الآن فيجيش في صدره الشعر فيرسل بيتيه إطلاق زوجي الطائر فيذهبان في الفضاء ضاربين من أشطرهما بأجنحة ملتمعة , شاديين على توقيع العروض إلى أن يتواريا وينقطع نغمها من عالم النسيان.
ذلك هو الشعر للشعر
خليل مطران
فرعون وقومه
لا القومُ ولا الأعوانُ أعواني ... إِذا ونى يومَ تحصيلِ العُلى وإنِ
ولستُ إِنْ لم تؤيّدني فراعنةٌ ... منكم بفرعونَ عالي العرشِ والشانِ
ولستُ جبَّارَ ذا الوادي إِذا سلمتْ ... جبالُهُ تلك من غاراتِ أعواني
لا تقربوا النيلَ إِن لم تعلموا عمَلاً ... فماؤُهُ العذْبُ لم يُخلَقْ لكسلانِ
ردُوا المجرَّة كدّاً دونَ موردهِ ... أو فاطلبوا غيرَهُ ريّاً لظمآنِ
وابنُوا كما بَنَتِ الأجيالُ قبلكمُ ... لا تتركوا بعدَكم فخراً لإِنسانِ
أَمرتُكم , فأطيعوا أمرَ رَبّكمُ ... لا يَثنِ مُستمِعاً عن طاعةٍ ثانِ
فالمُلكُ أمرٌ وطاعاتٌ تُسابقُهُ ... جنباً لجنبٍ إلى غاياتِ إِحسانِ
لا تتركوا مستحيلاً في استحالتهِ ... حتى يُميطَ لكم عن وجه إِمكانِ
مقالة قد هَوَتْ من عرش قائلها ... على مناكب أبطالٍ وشُجعانِ
مادَت لها الأرض من ذُعرٍ , ودان لها ... ما في المقطَّمِ من صخرٍ وصوَّانِ
لو غيرُ فرعونَ ألقاها على ملأِ ... في غير مصر لعُدَّتْ حُلمَ يقظانِ
لكنَّ فرعونَ إن نادى بها جبلاً ... لبّت حجارتُهُ في قَبضةِ الباني
وآزرتْهُ جماهيرٌ تسيلُ بها ... بطاخ وادٍ بماضي القومِ ملآنِ
يبنون ما تَقِفُ الأجيالُ حائرةً ... أمامهُ بين إِعجابٍ وإِذعانِ
من كلّ ما لم يَلِدْ فكرٌ ولا فُتِحَتْ ... على نظائرهِ في الكون عَينانِ
ويُشبهونَ إِذا طاروا إلى عمَلٍ ... جنّاً تطيرُ بأمرٍ من سُليمانِ
برّاً بذي الأمرِ , لا خوفاً ولا طمعاً , ... لكنَّهم خُلقوا طُلاَّبَ إِتقانِ
أهرامُهم تلك , حيِّ الفنَّ متَّخذاً ... من الصخورِ بروجاً فوق كيوانِ
قد مَرَّ دهرٌ عليها , وهي ساخرة ... بما يُضَعْضعُ من صَرحٍ وإِيوانِ
لم يأخذ الليلُ منها والنهارُ سوى ... ما يأخذ النملُ من أركان ثهلانِ
كأنها - والعوادي في جوانيها ... صَرعى - بناءُ شياطينٍ لشيطانِ
جاَءت إليها وفودُ الأرض قاطبةً ... تسعى اشتياقاً إلى ما خلَّدَ ألفاني
فصغَّرت كلَّ موجودٍ ضخامتُها ... وغضَّ بنيانُها من كلّ بُنيانِ
وعادَ مُنكِرُ فضلِ القومِ معترفاً ... يُثني على القوم في سِرٍّ وإِعلانِ
تلك الهياكلُ في الأمصار شاهدةٌ ... بأَنهم أهلُ سبقٍ , أهلُ إِمعانِ(/)
وأَنَّ فرعونَ في حَولٍ ومقدرةٍ ... وقومَ فرعونَ في الإِقدام كفؤانِ
إذا أقام عليهم شاهداً حَجَرٌ ... في هيكل قامتْ الأُخرى ببرهانِ
كأنما هي - والقوام خاشعةٌ ... أمامها - صُحُفٌ من عالَمِ ثانِ
تَستقبلُ العينَ في أثنائِها صُوَرٌ ... فصيحةُ الرمز دارتْ حولَ جُدرانِ
لو أنها أُعطِيَتْ صوتاً لكانَ لهُ ... صدىً يُروّع صُمَّ الأُنس والجانِ
أين الأُلى سَجَّلوا في الصخرِ سيرتَهم ... وصَغَّرُوا كلَّ ذي مُلكٍ وسلطانِ
بادُوا , وبادَتْ على آثارهم دُوَلٌ ... وأُدرِجُوا طيَّ أخبارٍ وأكفانِ
وخلَّفوا بعدَهُم حرباً مُخلَّدةً ... في الكون ما بينَ أحجارٍ وأزمانِ
وزُجزِحوا عن بقايا مجدِهم , وسطا ... عليهمِ العلمُ ذاك الجاهلُ الجاني
ويلٌ لهُ! هتك الأستارَ مُقتحِماً ... جلالَ أكرمِ آثارٍ وأعيانِ
لَلْجَهْلُ أرجحُ منهُ في جهالتهِ ... إِذا هُما وُزِنا يوماً بميزانِ
رثاء المرحوم بطرس باشا غالي
لهفَ الرياساتِ على راحلٍ ... قد كانَ ملَء العينِ والمِسمعِ
لهفَ العُلى قد عُطّلَتْ من سنا ... بدرٍ هوى من أوجِها الأرفعِ
تبكي المرؤاتُ على بطرسٍ ... ذاك الهُمامِ الماجدِ الأروَعِ
فتَّشتُ لمَّا لم أجِدْ مقلتي ... كفوءاً عن الفضل ليبكي معي
فقيلَ لي: قد ساَر في إِثرهِ ... يومَ دفنَاهُ , ولم يرجعِ
يا مجرياً دمعَ الملا أبحراً ... أدْركهمُ يا مُرقىَ الأدمُعِ
يا نازلاً بين وفودِ البلى ... آنستَهُمْ يا مُوحِشَ الأربُعِ
عينيَ فيكَ اليومَ قبطيّةٌ ... تروي الأسى عن مُسلِمٍ موجعِ
يهيمُ من وجدٍ ومن لوعةٍ ... في الجانبِ الأيسرِ من أضلُعي
ويأخذُ البرَّ وآيَ الوفا ... عن الكتابِ الطيّبِ المَشرَعِ
يا من سقاني الجمَّ من ودّهِ ... هذا ودادي كلُّهُ فاكرَعِ
يا حاملَ القلبِ الكبيرِ الذي ... لم ينقُضِ الميثاقَ قُمْ واسمعِ
رثاء المرحوم إسماعيل ماهر بك
القاضي في المحكمة المختلطة
أناعي ماهرٍ , لم تدرِ ماذا ... أثرتِ من الشجونِ الكامناتِ
نعيتَ إِليَّ أياماً تقضَّتْ ... بإسماعيلَ غُرّاً صافياتِ
ألا مَنْ للضعيفِ إذا تقاضى ... ولم يرَ شخصَهُ بينَ القُضاةِ!
ومِنْ للعدلِ إِن رَفَعَتْ بُناةٌ ... دعائَمهُ , ولم يكُ في البُناةِ!
أماهرُ! إِنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ... وما جَزَعي عليكَ من التقاةِ
فما لي , والأناةُ مِلاكُ نفسي ... هلعتُ ولم تُجمِّلْني أناتي
وما لي , إِن أُمرتُ ببعضِ صبرٍ ... رأيتُ الصبرَ إِحدى المعجزاتِ
أماهرُ! كُنتَ فيما مرَّ أُنسي ... فَمنْ لي في الليالي الباقياتِ؟
وكُنتَ إِذا شكوتُ تبيتُ وجداً ... تُردِّدُ ما يَريبُك من شكاتي
وتسألُ ساري النَّسماتِ عنّي ... حُنوّاً والبروقَ الوامضاتِ
ومن يفقدْ شبيهَك يبكِ دُنياً ... تولَّتْ بالمودَّة والمِقاتِ
كذَبتُك لو صدقتكَ بعض ودّي ... لهدَّ جوانبي صوتُ النُعاةِ
ولاستقصتْ حيالَ النعشِ عيني ... وراَءك راحِلاً همَ البُكاةِ
برْغمي أن تَقلَّصَ مِنكَ ظلٌّ ... وقاني حقبةً لفحَ الحياةِ
وأن نضبَتْ خلالٌ كُنْتُ منها ... أعُبُّ لديكَ في عذبٍ فراتِ
وأن صفرتْ يميني من ودادٍ ... غنيتُ بهِ لياليَ خالياتِ(/)
أخي! ما حيلتي إِلاَّ سلامٌ ... يزورُك في المساءِ وفي الغداةِ
وإِلاَّ الدمعُ أَنثرُهُ عقيقاً ... على ذكرى حُلاكَ الغائباتِ
قضيتَ , فكنتَ أسرعَنا مسيراً ... إلى غُرَفِ الجِنان العاليات
راحة القبر
إِن سئِمتَ الحياةَ , فارجع إِلى الأر ... ضِ تَنمْ آمناً من الأوصابِ
تلك أُمٌّ أَحتى عليكَ من الأُ ... مِّ التي خلَّفتكَ للإتعابِ
لا تَخَفْ , فالمماتُ ليسَ بماحٍ ... منك إِلاَّ ما تشتكي من عذابِ
كلُّ ميتٍ باقٍ , وإِن خالف ال ... عنوانُ ما نُصَّ في غضونِ الكتابِ
وحياةُ المرءِ اغترابٌ , فإِن ما ... تَ , فقد عاد سالماً للترابِ
إلى الأمير
عمر باشا طوسون
بمناسبة إعانته جرحى الحرب البلقانية
لك الإِمارةُ , والأقوامُ ما بَرحتْ ... بكلّ عالي الذُّري في الكونِ تأتمرُ
لو لم تَرثْها , لما ألقتْ أعِنّتَها ... إِلاَّ إليك خِلالٌ كلها غُرَرُ
يا ابنَ الأُلى لو أطلُّوا من مضاجعِهم ... يوماً عليك لَقالوا: إِيهِ يا عُمَرُ!
أعدتَ أيَّامَهُم في مِصرَ ثانيةً ... حتى توهَّمَ قومٌ أنهم نُشِرُوا
وسرتَ سيرتَهم , حتى كأنَّهمُ ... إِذا خطرتَ بأرضٍ مرَّةً , خَطَروا
للهِ دَرُّك! كم نبَّهتَ من هممٍ ... تُثني على أهلها الآصالُ والبكَرُ
وكم تعهدتُ جرحىً من أسودِ وغىً ... إِن يكشرِ الدهرُ عن أحداثهِ كشروا
مستنجداً من بني مصرٍ أُلي شمَمٍ ... إِذا رأوا ثلمةً في حوضهم جَبَروا
مستهمياً هامياً , والنيلُ في وجَلٍ ... من أن تجودَ بهِ أيمانُكم حذِرُ
حتى تفاهَمتِ الأرحامُ , وادَّكرت ... ما بينها الأهلُ والخلاَّنُ والأسَرُ
وآذن البرُّ بالسُقيا , وما فتِئت ... منهم ومنكَ صنوف البرّ تُنتَظرُ
وحرَّكت كلَّ كفٍّ بالندى مِقَةٌ ... حتى تعجَّبَتِ الأنهارُ والغُدُرُ
والناسُ , إِن قام يستسقي الكريمُ لهم ... سحائبَ الفضل , بشّرْهم فقد مُطِروا
يأبى عَلاءُ سعيدٍ أن يُشابِهَهُ ... إِلاَّ ابنُ دوحتهِ إِن قام يَفتخرُ
ما زال يحمَدُهُ رائيك مُدَّكَِراً ... والأصلُ بالفرعِ إِن حاكاهُ يُدَّكَرُ
إلى سابا باشا
تعزية بفقد ولده
سابا , اتق اللهَ , وخلِّ الأسى ... لجاهلٍ يُعْذَرُ في جهلهِ
لا تكتَرِثْ بالرزءِ , وانهضْ بهِ ... فالرأيُ كلُّ الرأي في حَملهِ
مثُلكَ مَن يلجأُ , إِن راعَهُ ... يومٌ بمكروهٍ , إِلى عقلهِ
قضى فريدٌ وهو غضُّ الصِّبي ... وخلَّفَ الحسرةَ في أهلهِ
وقابلتهُ في الجنانِ العُلى ... ملائكٌ للهِ في شكلهِ
واهاً لهُ من غصُنٍ ما نما ... حتى ذوى واجتُثَّ من أصلهِ
سابا , ابكِ لكن كالحكيم الذي ... يَخافُ أن يُطعَنَ في نُبلهِ
واصبرْ , فكم من جَزعٍ آكلٍ ... من صحّةِ المرءِ ومن فضلهِ
فالليث , لا تُنسيهِ أحزانُهُ ... مقامَهُ , إن ضِيمَ في شبلهِ
الشباب والمشيب
لم يدرِ طَعمَ العيش شُبَّانٌ ... ولم يُدركهُ شِيبُ
جهلٌ يُضلُّ قوى الفتى ... فتطيشُ , والمرمى قريبُ
وقوىً تخورُ , إِذا تشبَّثَ ... بالقوى الشيخُ الأريبُ
فيما يُقالُ كبا المغفَّلُ ... إِذ يُقالُ خبا اللبيبُ
أوَّاهُ! لو عَلِمَ الشبابُ ... وآهِ! لو قدرَ المشيبُ(/)
فؤادي
أقصِرْ فؤادي! فما الذِّكرى بنافعةٍ ... ولا بشافعةٍ في رّدّ
سلا الفؤادُ الذي شاطرتَهُ زمناً ... حُمْلَ الصَبابة , فاخفقْ وحدَك الآنا
هلاَّ أَخذتَ لهذا اليومِ أُهبتَهُ ... من قَبلِ أن تُصبح الأشواقُ أشجانا
لَهِفْي عليكَ قضيتَ العمرَ مقتحِماً ... في الوصلِ ناراً وفي الهِجرانِ نيرانا
عبد بلا ثمن
يا مَنْ أقامَ فُؤَادي إِذْ تملَّكَهُ ... ما بَينَ نارَين من شوقٍ ومن شَجَنِ
تفديك أَعينُ قومٍ حولَكَ ازدحَمتْ ... عَطشى إلى نهلةٍ من وجهِكَ الحسنِ
جرَّدتَ كلَّ مَليحٍ من مَلاحتهِ ... لم تَتَّقِ اللهَ في ظَبيٍ ولا غُصُن
فاستبقِ للبَدرِ بين الشُّهْب رتبتَهُ ... تملكْهُ في أوجهِ عبداً بلا ثَمَنِ
ساعة الودع
أتُرى , أنتَ خاذِلي ساعةَ التو ... ديعِ يا قَلبُ في غَدٍ أم نصيري؟
ويكَ! قلْ لي متى أراكَ بجنبي ... راضياً عن مكانِكَ المهجورِ؟
ساعةَ البين , قطعةٌ أنتِ قُدَّتْ ... للمُحبّينَ مِنْ عَذابِ السَعيرِ
لا تَحيني , روحي الفِداءُ لماحي ... كِ غداً منْ صحيفةِ المقدورِ
إلى الله. . .!
يا ربِّ! أين تُرى تُقامُ جهنَّمٌ ... للظالمين غداً وللأَشرارِ
لم يُبقِ عفوكَ في السماواتِ العُلى ... والأرضِ شبراً خالياً للنارِ
يا ربِّ! أهّلْني لفضلكَ واكفني ... شَطَطَ العقولِ وفتنةَ الأَفكارِ
ومُرِ الوجودَ يشفَّ عنكَ , لكي أرى ... غضَبَ اللَّطيفِ ورحمةَ الجبَّارِ
يا عالِمَ الأَسرارِ , حسبيَ محنةً ... عِلمي بأَنكَ عالِمُ الأَسرارِ
أخلِقْ برحمتِكَ التي تسَعُ الورى ... ألاَّ تَضيقَ بأعظمِ الأوزارِ
يا آسىَ الحيّ
يا آسيَ الحيّ هَلْ فَتَّشتَ في كَبدِي ... وهلْ تبيّنتَ داءً في زواياها
أوَّاهُ! من حُرَقٍ أودَتْ بمُعظَمِها ... ولم تَزلْ تتمشَّى في بقاياها
يا شوقُ , رِفقاً بأضلاعٍ عَصفتَ بها ... فالقلبُ يخفُقُ ذُعراً في حناياها
الوفاء
إِذا خانَني خِلٌّ قديمٌ , عَقَّني ... وفوَّقتُ يوماً في مَقاتِلهِ سَهمي
تعرَّضَ طَيفُ الودِّ بيني وبينهُ ... فكسَّر سهمي , فانثنيتُ ولم أرمِ
ذكرى الشباب
تُمسي تُكّرُنا الشابَ وعهدَهُ ... حسناءُ مرهَفةُ القُوامِ , فَنذكرُ
هيَفاءُ أسكَرَها الجمالُ , وبعضُ ما ... أوفى على قدرِ الكفايةِ يُسكِرُ
تَثِبُ القلوبُ إلى الرؤوس إِذا بَدَتْ ... وتُطِلُّ من حَدَقِ العيونِ وتنظُرُ
وتبيتُ تكفرُ بالنحورِ قلائدٌ ... فإذا دنَت من نحرها تستغفِرُ
ويَزيدُ في فِمها الآلئُ قيمةً ... حتى يسودَ كبيرَهنَّ الأصغرُ
يا موت
يا موتُ هأَنذا فَخُذْ ... مَا أبقَتِ الأيامُ منَي
بيني وبينَكَ خطوةٌ ... إِن تَخْطُها , فرَّجْتَ عنَي
بين الشريف وصبري
سمع إسماعيل صبري باشا بيتي الشريف الرضي , وهما:
أرى بعد وردِ الماء في القلبِ غِلَّةً ... إليكِ , على أني من الماءِ ناقعُ
وإِني لأقوى ما أكونُ طماعةً ... إذا كذبتْ فيكِ المُنى والمطامعُ
فقال مجاراةً لهُ:
يا مَورِداً , كنتُ أغنى ما أكونُ بهِ ... عن كلِّ صافٍ إذا ما بات يرويني
عندي لمائِكَ , والأقداحُ طوعَ يدي ... ملأى من الماءِ , شوقٌ كاد يُرديني(/)
أحمد شوقي بك
ينظم بين أصحابه فيكون معهم وليس معهم , وينظم في المركبة وفي السكة الحديدية وفي المجتمع الرسمي وحين يشاء وحيث يشاء. ولا يعرف جليسه أنه ينظم إلا إذا سمع منه بادئ بدء غمغمة تشبه النغم الصادر من غور بعيد ثم رأى ناظريه وقد برقا وتواترت فيهما حركة المحجرين , ثم بضر به وقد رفع يده إلى جبينه وأمرّها عليه إمراراً خفيفاً هنيهة بعد هنيهة فإذا قوطع في خلال النظم , انتقل إلى أي بحث يباحث فيه , حاضر الذهن صافيه , جميل البادرة كعادته في الحديث. ثم إذا استأنف ذلك المنظوم ولو بعد أيام طوال عاد إليه كأنه لم ينقطع عنه مستظهراً ما تمّ منه حافظاً لبقية المعنى الذي يضمره. يكتب القصيدة بعد تمامها وربما تمت ونسيها شهراً ثم ذكرها فكتبها في جلسة واحدة يكلف أحياناً بمعارضة المتقدمين ولا يندر عليه أن يبزّهم. لا يجهد فكره ولا يكده في معنى أو في مبني. فأما المعنى فيجيئه على مرامه أو على أبعد من مرامه ولا ينضب عنده لأنه يستخلصه من عقل فوار الذكاء ومعارف جامعة إلى أفانين الآداب في لغات الإفرنج والأعراب فلسفة الحقوق وحقائق التاريخ وغرائب السير التي يحفظ منها غير يسير إلى مشاركات علمية وتنبيهات فنية استفادها من مطالعته في صنوف الكتب واتخذها عن ملحوظاته ومسموعاته في جولاته بين بلاد الشرق والغرب صياغة أبي تمام ومن وثبات المتنبي ومن مفآجات الشريف ومن مسلسلات مهيار.
وفي المجموع تجد صفة عامة للنظم وهي أنه نظم شوقي.
ذلك شعر العبقرية والتفوق.
خليل مطران
الأندلس الجديدة
يا أُختَ أندلُسٍ , عليكِ سَلامُ ... هَوتِ الخِلافةُ عنكِ والإِسلامْ
نزلَ الهِلالُ عن السماءِ فليتَ ا ... طُوَيتْ , وعمّ العالمينَ ظلامُ
أزرى بهِ , وأزالَهُ عن أوجِهِ ... قَدرٌ يحطُّ البدرَ وهو تَمامُ
جرحان تَمضي الأُمتَّانِ عليهما ... هذا يَسيلُ , وذاك لا يَلتامُ
بكُما أُصيبَ المسلمون , وفيكما ... دُفِنَ اليَراعُ , وغُيّبَ الصَّمصامُ
لم يُطوَ مأتمُها , وهذا مأتمٌ ... لبِسُوا السَوادَ عليكِ فيهِ وقامُوا
ما بين مصرِعها ومصرعكِ انقضت ... فيما نُخبُّ ونَكرَهُ الأيَّامُ
خلَتِ القُرونُ كلَيلةٍ , وتَصرَّمتْ ... دُوَلُ الفُتوحِ كأنَّها أحلامُ
والدهرُ لا يألو الممالِكَ مُنذِراً ... فإذا غَفلنَ فما عليهِ مَلامُ
مقدونيا , والمسلمونَ عَشيرةٌ ... كيف الخُؤولةُ فيكِ والأَعمامُ؟
أتُراهمُ هانُوا , وكانَ بعزِّهم ... وعُلوِّهم يَتخَايلُ الإِسلامُ؟
إذْ أنتِ نابُ الليثِ , كلُّ كتيبةٍ ... طلِعَت عليكِ فريسةٌ وطَعامُ
ما زالتِ الأيَّامُ حتى بُدِّلتْ ... وتَغيَّرَ الساقي , وحَالَ الجامُ
أرأيتِ كيف أُديلَ من أُسُدِ الشَّرى ... وشَهدتِ كيفَ أُبيحتِ الآجامُ
زعموكِ هَمّاً للِخلافةِ ناصباً ... وهلِ الممالكُ راحةٌ ومَنامُ
ويقولُ قومٌ كنتِ أشأمَ مورِدٍ ... وأراكِ سائِغةً عليكِ زُحامُ
ويِراكِ داَء المُلْكِ ناسُ جهالةٍ ... بالمُلكِ منهم عِلّةٌ وسقامُ
لو آثرُوا الإصلاحَ كنتَ لعرشِهم ... رُكنْاً على هامِ النجومِ يُقامُ
وهمٌ يقيِّدُ يعضُهم بعضاً بهِ ... وقيودُ هذا العالَمِ الأُوهامُ
صُوَرُ العَمى شَتَّى , وأقبحُها إذا ... نظرَتْ بغيرِ عيونهنَّ الهامُ
ولقد يُقامُ من السيوفِ , وليسَ من ... عثَراتِ أخلاقِ الشعوب قيامُ(/)
ومبشِّرٍ بالصلحِ قُلتُ: لعلَّهُ ... خيرٌ , عسى أن تصدقَ الأحلامُ
ترَكَ الفريقانِ القتالَ؛ وهذهِ ... سلمٌ أمرُّ من القتالِ عُقامُ
ينعي إلينا المُلكَ ناعٍ لم يطأْ ... أرضاً ولا انتقلتْ بهِ أقدامُ
برقٌ جوائُبهُ صواعِقُ كلُّها ... ومن البرّوقِ صواعِقٌ وغمامُ
إن كانَ شرٌّ , زارَ غير مفارقٍ ... أو كان خيرٌ , فالمزارُ لمامُ
بالأمسِ أفريقا تولَّت وانقضى ... مُلكٌ على جِيدِ الخضّمِ جُسامُ
نَظَمَ الهِلالُ بهِ ممالِكَ أرَبعاً ... أصبحنَ ليسَ لعِقدِهنَّ نِظامُ
من فتْحِ هاشِمَ أو أُميَّةَ لم يضَعْ ... أساسَها تَتَرٌ ولا أعجامُ
واليومَ حُكْمُ اللهِ في مقدونيا ... لا نقضَ فيهِ لنا ول إِبرامُ
كانت من الغربِ البقيةَ فانقضت ... فعلى بني عُثمانَ فيهِ سلامُ!
أخذَ المدائنَ والقُرى بخناقِها ... جيشٌ من المتحالِفينَ لهامُ
غطَّت بهِ الأرضُ الفضاءُ وجوهَها ... وكست مناكبهَا بهِ الآكامُ
تَمشِي المناكِرُ بين أيدي خَيلهِ ... أنَّى مشَى , والبَغيُ والإِجرامُ
ويحثُّهُ باسمِ الكتابِ أقسَّةٌ ... نشَطُوا لما هوَ في الكتابِ حَرامُ
ومسيطرونَ على الممالكِ سُخِّرتْ ... لهم الشعوبُ كأنها أنعامُ
من كلّ جزَّارٍ يرومُ الصدرَ في ... نادي الملوكِ وجَدَّهُ غنَّامُ
سكّينهُ , ويمينُهُ , وحزامُهُ ... والصولجانُ , جميعُها آثامُ
عيسَى سبيلُك رحمةٌ ومحبَّةٌ ... في العالمينَ وعصمةٌ وسلامُ
ما كنتَ سفَّاكَ الدماءِ ولا امرأً ... هانَ الضعافُ عليهِ والأيتامُ
يا حامِلَ الآلامِ عن هذا الورى ... كُثرتْ عليهِ باسمكَ الآلامُ
أنتَ الذي جعلَ العبادَ جميعَهم ... رَحِماً , وباسمِكَ مرَّتين تُقامُ
كم هاجَهُ صِيدُ الملوكِ وهاجَهم ... وتكافأَ الفرسانُ والأَعلامُ
البغيُ في دينِ الجميعِ دنّيةٌ ... والسلِمُ عَهدٌ والقتِالُ ذِمامُ
واليومَ يهتُفُ بالصليبِ عصائبٌ ... همُ للإلهِ ورُوحهِ ظُلاَّمُ
خلطُوا صليبَكَ والخناجرَ والمُدى ... كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ
أوَ ما تَراهم ذبَّحوا جيرانَهم ... بين البيوتِ كأنَّهم أغنامُ
كم مُرضَعٍ في حجْرِ نعمتهِ غدا ... ولهُ على حدِّ السيوفِ فطامُ
وصبيّةٍ هُتكتْ خميلَةُ طهرِها ... وتناثرتْ عن نَورِهِ الأَكمامُ
وأخي ثمانينَ استُبيحَ وَقارُهُ ... لم يُغنِ عنهُ الضّعفُ والأعوامُ
جِريحِ جربٍ ظامئٍ وأدُوهُ لم ... يعطفْهمُ جرحٌ دَمٍ وأوامُ
ومهاجرينَ تنكَّرت أوطانُهم ... ضلّوا السبيلَ من الذهولِ وهاموا
السيفُ , إِن ركبوا الفِرارَ , سبيلُهم ... والنطعُ , إِن طلبوا القرار , مقامُ
يتلفَّتونَ مودِّعينَ ديارَهم ... واللحظُ ماءٌ , والديارُ ضرامُ
يا أمَّةً بفروقَ فرَّقَ بينَهم ... قَدَرٌ تَطيشُ إذا أتى الأحلامُ
فيما التخاذُلُ بينكم , ووراَءكم ... أممٌ تُضاعُ حقوقُها وتُضامُ
الله يشهدُ لم أكن متحزِّباً ... في الرزءِ لا شِيَعٌ ولا أحزامُ
وإذا دعوتُ إلى الوئامِ , فشاعِرٌ ... أقصى مناهُ محبَّةٌ ووئِامُ
من تُضجرُ البلوى فغايةُ جُهْدِهِ ... رُجْعَى إلى الأقدارِ واستسلامُ
لا يأخذَنَّ على العواقبِ بعضُكم ... بعضاً , فقِدْماً جارتِ الأحكامُ(/)
تقضي على المرء الليالي أو لهُ ... فالحمدُ من سُلطانِها والذَّامُ
من عادةِ التأريخِ ملءُ قَضائِهِ ... عدلٌ , وملءُ كِنانتَيهِ سَهامُ
ما ليسَ يدفعُهُ المهنَّدُ مُصلَتاً ... لا الكُتْبُ تدفعُهُ ولا الأقلامُ
أنَّ الأُلى فتحوا الفُتوحَ جلائلاً ... دخلوا على الأسُدِ الغِاضَ وناموا
هذا جناهُ عليكمُ آباؤُكم! ... صبراً وصفحاً , فالجُناةُ كرامُ
رفعوا على السيفِ البناَء فلم يَدُمْ ... ما للبناءِ على السيوف دَوامُ
أبقي الممالكِ ما المعارفُ أسُّهُ ... والعدلُ فيهِ حائطٌ ودعامْ
فإذا جرى رشَداً ويُمناً أمرُكم ... فامشوا بنورِ العلمِ فهو زمامُ
ودعوا التفاخرَ بالتُّراث وإن غلا ... فالمجد كَسْبٌ والزمانُ عصامُ
إن الغرورَ إذا تملَّكَ أمَّةً ... كالزَّهرِ يُخفي الموتَ وهو زؤامُ
لا يعدلنَّ المُلكَ في شهواتِكم ... عَرَضٌ من الدنيا بدا وحُطامُ
ومناصبٌ في غيرِ موضعِها كما ... حلَّت محلَّ القدرةِ الأصنامُ
الملكُ مرتبةٌ الشعوبَِ , فإنْ يفتْ ... عزَّ السيادةِ فالشعوبُ سوامُ
ومن البهائِمِ مُشبَعٌ ومدلَّلٌ ... ومن الحريرِ شكيمةٌ ولجامُ
وقف الزمانُ بُكم كموقفِ طارق ... اليأسُ خلفٌ والرجاءُ أمامُ
الصبرُ والإِقدامُ فيهِ إذا هُما ... قَتَلاَ , فأقتلُ منهما الإِحجامُ
يُحصي الذليلُ مَدى مَطالبِهِ ولا ... يُحصي مَدى المستقبَلِ المِقدامُ
هذي البقيَّةُ , لو حرضتم , دولةٌ ... صالَ الرشيدُ بها , وطالَ هشامُ
قِسمُ الأئمَّةِ والخلائفِ قبلَكم ... في الأرضِ لم تُعدَلْ بهِ الأقسامُ
سرَتِ النبوَّةُ في طَهورِ فَضائهِ ... ومشى عليهِ الوحُي والإِلهامُ
وتدفَّق النَّهرانِ فيهِ , وأزهرت ... بغدادُ تحت ظِلالهِ والشامُ
أثرتْ سواحلُهُ , وطابت أرضُهُ ... فالدرُّ لجٌّ , والنُّضارُ رغامُ
شَرَفاً أدِرْنَةُ! هكذا يقِفُ الحمى ... للغاضبينَ , وتثبيُ الأقدامُ
وتردُّ بالدمِ بُقعةٌ أُخِذتْ بهِ ... ويموتُ دون عرينهِ الضَّرغامُ
والمُلكُ يُؤخذُ أو يُرَدُّ ولم يزْل ... يرِثُ الحُسامَ على البلادِ حُسامُ
عِرْضُ الخِلافةِ ذادَ عنهُ مجاهِدٌ ... في الله غازٍ , في الرسولِ هُمامُ
تستعصِمُ الأوطانُ خلف ظُباتِه ... وتعزُّ حولَ قَناتهِ الأعلامُ
عثمانُ في بردَيهِ يمنعُ جيَشهُ ... وابنُ الوليدِ على الحمى قوَّامُ
عَلِمَ الزمانُ مكان شكري وانتهى ... شكرُ الزمانِ إليهِ والإِعظامُ
صبراً أدِرْنَةُ! كلُّ مُلكٍ زائِلٌ ... يوماً ويبقى المالِكُ العلاَّمُ
خفَتَ الآِذانُ فما عليكِ موحِّدٌ ... يسعى , ولا الجُمَع الحسانُ تُقامُ
وخَبتْ مساجدُ كُنَّ نوراً جامِعاً ... تمشي إليهِ الأسْدُ والآرامُ
يدرجنَ في؛ َرمِ الصلاةِ قوانتاً ... بيضَ الإزار كأنهنَّ حَمامُ
وعفَت قبورُ الفاتحينَ , وفُضَّ عن ... حُفَرِ الخلائفِ جندلٌ ورجامُ
نُبشت على قَعساءِ عزَّتها كما ... نُبشت على استعلائها الأَهرامُ
في ذمَّةِ التأريخ خمسةُ أشهرٍ ... طالت عليكِ , فكلُّ يومٍ عامُ
السيفُ عارٍِ , والوباءُ مسلَّطُ ... والسُبْلُ خوفٌ , والثلوجُ ركامُ
والجوعُ فتَّاكٌ , وفيكِ صحابةٌ ... لو لم يجوعوا في الجهادِ لصاموا(/)
ضنُّوا بعرضِكِ أن يُباعَ ويُشتري ... عِرضُ الحرائر ليسَ فيهِ سوامُ
ضاقَ الحصارُ كأنما حلقاتُهُ ... فلَكٌ , ومقذوفاتُها أجرامُ
ورَمَى العدى , ورميتهم بجهنَّم ... مما يصُبُّ الهُ لا الأقوامُ
بِعْتِ العدوَّ بكلِ شبرٍ مهجةً ... وكذا يباعُ المُلكُ حين يُرامُ
ما زالَ بينَكِ في الحصارِ وبينهُ ... شُمُّ الحصونِ ومثلهنَّ عِظامُ
حتَّى حواكِ مقابِراً وحويتِهِ ... جُثثاً , فلا غُبْنٌ ولا استذمامُ
على قبري
أقولُ لهم في ساعةِ الدَّفنِ خَفِّفُوا ... عليَّ ولا تُلقوا الصخورَ على قبري
ألم يكفِ همٌّ في الحياةِ حملتُهُ ... فأحملَ بعدَ الموتِ صخراً على صخرِ
كان سمو الأمير وشاعره يشارفان بعض الأعمال , ولم يكن لشوقي بك ما يتقي به حرّ الهاجرة فناوله سموّ الأمير مظلة في يده فقال على الفور:
عبَّاسُ مولاي أهداني مظلَّتَهُ ... يظلِّلُ اللهُ عبَّاساً ويرعَاهُ
ماَلي وللشمسِ أخشاها وأحذرُها! ... مَنْ كان في ظلِّهِ فالشمسُ تخشاهُ
أيُّها المنتحي بأسوانَ جاراً ... كالثُريَّا تُريدُ أن تَنقضَّا
اخلعِ النعلَ واخفضِ الطرفَ واخشعْ ... لا تحاولْ من آيةِ الدهرِ غَمضا
قفْ بتلكَ القصورِ في اليمِّ غَرقي ... ممسِكاً بعضُها من الذُّعرِ بعضا
كعَذارى اخفينَ في الماءِ بَضّاً ... سابحاتٍ بهِ , وأَبدينَ بَضَّا
مُشرفاتٍ على الزَّوالِ , وكانت ... مُشرفاتٍ على الكواكب نَهضَا
شابَ من حولها الزمانُ , وشابت ... وشبابُ الفنونِ ما زالَ غَضَّا
رُبَّ نقشٍ كأنَّما نفضَ الصَّا ... نعُ منهُ اليدَينَ بالأمس نفضَا
ودُهانٍ كلامعِ الزَّيتِ مرَّت ... أعصرٌ بالسراجِ والزَّيتُ وضَّا
وخطوطٍ كأنَّها هدبُ ريمٍ ... حسنتْ صِنعةً وطولاً وعرضا
وضحَايا تكادُ تَمشي وتَرعى ... لو أصابت من قدرةِ اللهِ نَبضا
ومحاريب كالبروجِ بَنتها ... عَزَماتٌ من عزْمةِ الجنِّ أمضى
شيَّدت بعضَها الفراعينُ زلفىً ... وبنى البعضَ أجَنبٌ يترضىً
ومقاصيرَ أُبدِلتْ بفتاتِ ال ... مسكِ تِرباً , وباليواقيتِ قضَّا
حظُّها اليوم هدَّةٌ , وقديماً ... صرفت في الحظوظ رفعاً وخفضا
سقَتِ العالمينَ بالسعدِ والنح ... س إلى أن تعاطتِ النحسَ مَحضاً
صنعةٌ تُدهِشُ العقولَ , وفَنٌّ ... كان إِتقانُهُ على القومِ فَرضا
يا قصوراً نظرتُها وهي تقضِي ... فسكبتُ الدموعَ , والحقُّ يقضي
أنتِ طُغرا , ومجد مصر كِتابٌ ... كيفَ سامَ البِلى كتابَكِ فَضَّا؟
وأنا المحتفي بتأريخِ مصرٍ ... من يصُنْ مَجَدَ قومِهِ صانَ عرِضا
لم تُمتْ أمَّةٌ , ولا بادَ شعبٌ ... اقرضوا الذِكرَ والأحاديثَ قَرضا
رُبَّ سرٍّ بجانبَيكِ مُزالٍ ... كان حتى على الفراعينِ غَمضا
قُلْ لها في الدُّعاءِ لو كان يُجدي: ... يا سماَء الجَلالِ لا صرتِ أرضا
حارَ فيكِ المهندسونُ عُقولاً ... وتولَّت عزائمُ العلمِ مَرضى
أينَ ملْكٌ حيالَها , وفريدٌ ... من نظامِ النعيمِ أصبحَ فضَّا؟
أين فرعونُ في المواكبِ تَترى ... يُركضُ المالكينَ كالخيلِ ركضا؟
ساق للفتح في الممالِك عرضاً ... وجلا للفَخارِ في السلمِ عرضا
أين إِيزيسُ تحتها النيلُ يجري ... حكمتْ فيهِ شَاطئَين وعرضا؟(/)
أسدلَ الطرفَ كاهِنٌ ومليكٌ ... في ثَراها , وأرسلَ الرأسَ خفضا
يُعرَضُ المالكون أسرى عليها ... في قيود الهوان عانينَ جَرضى
مالَها أصبحتْ بغير مُجيرٍ ... تشتكي من نوائبِ الدّهر عضَّا
هيَ في الأسرِ بين صخرٍ وبحرٍ ... مَلْكةٌ في السجون فوقَ حضوضى
أين هوروسُ بين سيفٍ ونطعٍ ... أبهذا في شرِعهم كان يُقضي؟
ليت شعري! قضى شهيدَ غرامٍ ... أم رماهُ الوشاةُ حِقداً وبُغضا؟
رُبَّ ضربٍ من سوطِ فرعونَ مضٍّ ... دونَ فعلِ الفراقِ بالنفسِ مَضَّا
وهلاكٍ بسيفِهِ وهوَ قانٍ ... دونَ سيفٍ من اللواحظِ يُنضى
قتلوهُ فهل لذاك حديثٌ؟ ... أين راوي الحديثِ نثراً وقرضا؟
شيمةُ النيل أن يفي , وعجيبٌ ... أحرجوهُ فضيَّعَ لعهدَ نقضا
حاشَهُ الماءُ فهو صيدٌ كريمٌ ... ليتَ بالنيلِ يومَ يسقطُ غيضَا
شيَّدوا المال , والعلومُ قليلٌ ... أنقذوهُ بالمال والعلمِ نقضا
نكبة بيروت
على أثر ضرب الأسطول الإيطالياني لمدينة بيروت
تليت في الحفلة التي أقيمت في مصر برئاسة دولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب الخديوي لمساعدة منكوبي تلك الحادثة:
يا ربِّ أمرُكَ في الممالك نافذٌ ... والحُكمُ حكمُك في الدَّمِ المسفوكِ
إِن شئتَ أهرقْهُ , وإِن شئتَ احمِهِ ... هوَ لم يكن لسواكَ بالمملوكِ
واحكمُ بعدلك , إِنَّ عدلَك لم يكنْ ... بالممتَرَي فيهِ ولا المشكوكِ
ألأِجْلِ آجالٍ دَنتْ وتهيَّأتْ ... قدَّرتَ ضربَ الشاطئِ المتروكِ
ما كان يَحميهِ ولا يُحمي بهِ ... فُلُكانِ أنعمُ من بواخرِ كوكِ
هذي بجانبها الكسيرِ غريقةٌ ... تهوي , وتلكَ برُكنها المدكوكِ
بيروتُ , مات الأُسدُ حتفَ أُنوفهم ... لم يَشهروا سيفاً ولم يحموكِ
سبعون ليثاً أُحرقوا أو أُغرقوا ... يا ليتهم قُتلوا على طبروكِ
كلٌّ يصيدُ الليثَ وهو مقيَّدٌ ... ويعزُّ صيدُ الضيغمِ المفكوكِ
يا مَضرِبَ الخيَم المنيفةِ للقرى ... ما أنصفَ العُجْمُ الألى ضرَبوكِ
ما كُنتِ يوماً للقنابلِ موضعاً ... ولوَ أنَّها من عسجدٍ مسبوكِ
بيروتُ , يا راحَ النزيلِ وأُنسَهُ ... يمضي الزمانُ عليَّ لا أسلوكِ
الحسنُ لفظٌ في المدائنِ كلِّها ... ووجدتُهُ لفظاً ومعنىً فيكِ
نادمتُ يوماً في ظلالِك فتيةً ... وسموا الملائكَ في جلالِ ملوكِ
يُنسون حَسَّاناً عصابةَ جُلَّقٍ ... حتى يكادَ بجلّقٍ يفديكِ
تاللهِ ما أحدَثتِ شرّاً أو أذىً ... حتَّى تُراعي أو يُراعَ بنوكِ
أنتِ التي يحمي ويَمنعُ عِرضَها ... سيفُ الشريفِ وخنجرُ الصعلوكِ
أن يجهلوكِ فإن أُمّكِ سورِيَا ... والأبلقَ الفردَ الأشمَّ أبوكِ
والسابقينَ إلى المفاخر والعُلى ... بَلْهَ المكارمَ والنَّدَى أهلوكِ
سالت دماءٌ فيكِ حولَ مساجدٍ ... وكنائسٍ ومدارسٍ وبُنوكِ
كنَّا نُؤمِّلُ أن يُمَدَّ بقاؤُها ... حتى تبلَّ صدى القنا المشبوكِ
لكِ في رُبى النيل المبارَكِ جيرةٌ ... لو يقدرون بدمعِهم غَسَلوكِ
يكفيكِ بُرءاً للجراحِ ومرهماً ... أنَّ الأمير محمَّداً يأسوكِ
لو يستطيعُ كرامُ مصرَ كرامةً ... لمحمَّدٍ بقلوبهم ضمدوكِ
هو في ابتناءِ المجد صورةُ جَدّهِ ... أذكرتِ إبراهيم في ناديكِ؟(/)
العصر والعصفور
نظمت في خلال أسبوع الطيران الذي أقيم في مصر الجديدة من 6 - 13 فبراير شباط سنة 1910
قُمْ سُليمانُ , بِساطُ الرّيحِ قامَا ... مَلَكَ القومُ من الجوِّ الزمَانا
حينَ ضاقَ البَرُّ والبحرُ بهم ... أسرَجُوا الريحَ وسامُوها اللّجاما
صارَ ما كان لكم مُعجزةً ... آيةً للعِلمِ آتاها الأناما
قدرةٌ كنتَ بها منفرِداً ... أصبَحتْ حصَّةَ من جَدَّ اعتزِاما
عينُ شمسٍ قامَ فيها مارِدٌ ... من عفاريتكَ يُدعى لتهاما
يَملأُ الجوّ عَزيفاً كلَّما ... ضَربَ الريحَ بسوطٍ والغَماما
ملَك الجوّ تليهِ عصبةٌ ... جَمعتْ شَهماً وندباً وهُماما
فاستووا فوقَ مناطيدِهمِ ... ما يُبالونَ حياةً أم حِماما
وقبوراً في السَّمواتِ العُلى ... نزلوا , أم حُفُراتٍ ورغَاما
مطمئنّين نفوساً كلَّما ... عبستْ كارثةٌ زادوا ابتساما
صهوةَ العزِّ اعتلوا تحسبَهُم ... جَمْعَ أملاكٍ على الخيلِ تَسَامى
رفعُوا لولبَها فاندَفَعتْ ... هل رأيتَ الطيرَ قد رَفَّ وحاما
شالَ بالأذنابِ كلٌّ , ورَمى ... بجناحَيهِ كما رُعتَ النّعاما
ذهبتْ تسمو فكانت أعقُباً ... فنسوراً , فصُقوراً , فَحماما
تنبري في زرَقِ الأفْقِ كما ... سبَحَ الحوتُ بدأ ماَء وعَاما
بعضُها في طلَبِ البعضِ كما ... طارَدَ النسْرُ على الجوّ القطاما
ويراها عالَمٌ في زُحَلٍ ... أُرسِلتْ من جانبِ الأرضِ سَهاما
أو نجوماً ذاتَ أذنابٍ بدت ... تُنذرُ الناسَ نُشوراً وقياما
اجعلوها رُسلَكم أهلَ الهوى ... تنقلُ الأشواقَ عنكم والغَراما
واستعيروها جَناحاً طالما ... شغفَ الصبَّ , وشاقَ المستهاما
يَحملُ المضني إلى أرضِ الهوى ... يَمنَاً حلَّ هواهُ أم شاما
أركَبُ اللّيثَ ولا اركبُها ... وأرى ليثَ الشَّرى أوفى ذِماما
غدرَت جيرونَ لم تحفَلْ بهِ ... وبما قرصِ من فوزٍ وراما
وقعتْ ناحيةً فاحترقتْ ... مثلَ قرصِ الشمسِ بالأفْقِ اضطراما
راضَها باليُمنِ من طلعِتَهِ ... خيرُ مَن حَجَّ ومَن صلَّى وصاما
كخليلِ اللهٍ في حضرتِهِ ... خرَّتِ النَّارُ خشُوعاً واحتِراما
ما لروجه صاعِداً ما ينتهي ... أتُراهُ آثرَ الجوَّ فراما؟
كلَّما دارَ بهِ دورتَهُ ... أبدتِ الريحُ امتثالاً وارتساما
أنا لو نُلتُ الذي قدْ نالَهُ ... ما هبطتُ الأرضَ أرضاهَا وخُصاما؟
هل ترَى في الأرضِ إِلاَّ حَسَداً ... ورياءً ونزِاعاً وخُصاما؟
مُلْكُ هذا الجوِّ في مِنعَتِهِ ... طالما للنَّجمِ والطيرِ استقاما
حَسَدَ الإنسانُ ربّيهِ بما ... أوتيا في ذروةِ العزّ اعِتصاما
دخَلَ العِشَّ على أنسُرِهِ ... أتُرى يَغشى من النَّجمِ السَّناما
أيُّها الشرقُ , انتبْه من غفلةٍ ... ماتَ مَنْ في طُرُقاتٍ السَّيل ناما
لا تقولنَّ عظاميٌّ أنا ... في زمانِ كان للناسِ عصاما
شاقتِ العلياءُ فيهِ خَلَفاً ... ليس يألوها طلاباً واغتناما
كلَّ حينٍ منهمُ نابغةٌ ... يفضلُ البدرَ بهاءً وتماما
خالِقَ العصفور , حيَّرتَ بهِ ... أُمماً بادُوا وما نالُوا المراما
أفنوا النقدينِ في تقليدهِ ... وهوَ كالدرهمِ ريشاً وعِظاما
أتَرى القوَّةَ في جُؤجؤِهِ ... وهو بالجؤْجؤِ ماضٍ يترامى(/)
أم تَراها في الخوافي خَفِيَتْ ... أم مقرِّ الحولِ في بعضِ القُدامى؟
أم ذناباهُ إذا حرَّكَهُ ... يَزِنُ الجسمَ هبُوطاً وقِياما؟
أم بعينَيهِ إذا مَا جالتَا ... تكشفانِ الجوّ غيثاً أم جهاما؟
أم بأظفارٍ إذا شبَّكَها ... نفذت في الريحِ دفعاً واستلاما؟
أم أمدَّتهُ برُوحٍ أُمُّهُ ... يومَ ألقتْهُ وما جازَ الفطاما؟
فَتلقَّاهُ أبٌ كم من أبٍ ... دونهُ في الناسِ بالوُلْدِ اهتماما
فَلَكيٌّ هُوَ إِلاَّ أنَّهُ ... لم يَنَلْ فهماً , ولم يُعطَ الكلاما
طِلْبةٌ قد رامَها آباؤُنا ... وابتغاها من رأَى الدّهرَ غُلاما
أسقَطَت ايكارَ في تجربةٍ ... وابنَ فرناسَ فما اسطاعا قياما
في سبيلِ المجدِ أودى نَفَرٌ ... شهداَء العلم أعلاهم مقاما
خلفاءُ الرُسْلِ في الأرضِ همُ ... يبعثُ اللهُ بهم عاماً فعاما
فطرةٌ من دَمِهم في مُلْكِهِ ... تملأُ المُلْكَ جَمالاً ونِظاما
رَبِّ , إنْ كانت لخيرٍ جُعِلتْ ... فاجعَلِ الخيرَ بناديها لزاما
وإِنِ اعتزَّ بها الشرُّ غداً ... فتعالت تُمطِرُ الموتَ الزؤاما
فأملأِ الجوَّ عليها رَجَماً ... رحمةً منكَ وعَدلاً وانتقاما
يا فرنسا لا عدِمنا مِنَناً ... لكِ عندَ العلمِ والفنِّ جُساما
لطفَ اللهُ بباريسٍ ولاَ ... لَقِيتْ إلاَّ هناءً وسَلاما
روَّعت قلبي خُطوبٌ روَّعتْ ... سامِرَ الأحياءِ فيها والنِّياما
أنا لا أدعُوا على سَينٍ طغى ... إن للسّينِ وإِن جارَ ذِماما
لستُ بالناسي عليهِ عيشةً ... كانتِ الشهدَ , وأحباباً كراما
آية العصر
في سماء مصر
نظمت على أثر قدوم فدرين وبونيه طائرين من باريس على مصر سنة 1914
يا فرنسا نلتِ أسبابِ السماءِ ... وتملَّكتِ مقاليدَ الجواءِ
غُلبَ النَّسرُ على دولتهِ ... وتنحَّى لكِ عن عرشِ الهواءِ
وأتتكِ الريحُ تمشي أمَةً ... لكِ يا بلقيسُ , من أوفى الإماءِ
رُضتَ بعد جَماحٍ , وجَرت ... طوعَ سلطانَينِ: علمٍ وذكاءِ
لكِ خيلٌ بجناحٍ أشَبهت ... خَيلَ جبريلَ لنصرِ الأنبياءِ
وبريدٌ يسحبُ الذيلَ على ... برُدٍ في البرِّ والبحرِ بِطاءِ
تطلعُ الشمسُ فيجري دونَها ... فوقَ عُنْقِ الريحِ أو مَتنِ العماءِ
رِحلةُ المشرقِ والمغربِ ما ... لبثت غيرَ صباحٍ ومساءِ
بسلاءُ الأنسِ والجنِّ فِدىً ... لفريقٍ من بنيكِ البُسَلاءِ
ضاقتِ الأرضُ بهم فاتَّخذوا ... في السَّمَواتِ قبورَ الشُهداءِ
فتيةٌ يمسون جيرانَ السُّها ... سُمراَء النجمِ في أوجِ العَلاءِ
حُوَّماً فوق جبالٍ لم تكن ... للرياحِ الهوجِ يوماً بوطاءِ
لسليمانَ بساطٌ واحدٌ ... ولهم ألفُ بساطٍ في الفضاءِ
يركبونَ الشُّهْبَ والسُّحْبَ إلى ... رفعةِ الذكرِ وعلياءِ الثناءِ
يا نسوراً هبطُوا الوادي على ... سالفِ الحبّ , ومأثورِ الولاءِ
دارُكم مصرُ , وفيه قومُكم ... مرحباً بالأقرَبينَ الكرَماءِ
طرتمُ فيها فطارت فَرَحاً ... بأعزّ الضيفِ خيرِ النُّزلاءِ
هل شجاكم في ثَرى أهرامِها ... ما أرقُتم من دموعِ ودِماءِ
أين نسرٌ قد تلقَّى قبلَكم ... عَِظِةَ الأجيالِ من أعلى بناءِ
لو شهدتم عَصرَهُ أضحى لهُ ... عالَمُ الأفلاكِ معقودَ اللِّواء(/)
جَرَحَ الأهرامَ في عزَّتِها ... فمشَى للقبر مجروحَ الإباءِ
أخذت تاجاً بتاجٍ ثأرَها ... وجزت من صلَفٍ بالكُبرَياءِ
وتمنَّت لو حوَت أعظَمهُ ... بين أبناء الشموسِ العُظماءِ
جلّ شأنُ الله هادي خَلْقِهِ ... بهُدي العلم ونُورِ العُلمَاءِ
زَفّ من آياتِهِ الكبرى لنا ... طِلبةً طالَ بها عهدُ الرَّجاءِ
مركبٌ لو سلَفَ الدَّهرُ بهِ ... كان إحدى مُعجزاتِ القُدماءِ
نِصفُهُ طيرٌ , ونصفٌ بشرٌ! ... يا لها إحدى أعاجيبِ القضاءِ!
رائعٌ , مرتفعاً أو واقعاً , ... أنفُسَ الشُّجعانِ قبلَ الجُبناءِ
مُسرَجٌ في كلِ حينٍ مُلَجمٌ ... كاملُ العدَّةِ , مرموقُ الرواءِ
كبساطِ الريحِ في القدوةِ أو ... هُدهُدِ السيرةِ في صدق البلاءِ
أو كحوتٍ يرتمي الموجُ بهِ ... سابحٍ بينَ ظهورٍ وخَفاءِ
راكبٍ ما شاَء مِن أطرافهِ ... لا يرى من مركبٍ ذي عدَواءِ
ملأَ الجوَّ فِعالاً , وغدا ... عجبُ الغُربانِ فيهِ والحِدَاء
وترى السُّحبَ بهِ راعدةً ... من حديدٍ جُمعت لا من رواءِ
حَملَ الفولاذَ ريشاً , وجَرى ... في عِنانَينَ لهُ: نارٍ وماءِ
وجناحٍ غيرِ ذي قادمةٍ ... كجناحِ النَّحلِ مصقولٍ سواءِ
وذُنابي كلّ ريحٍ مسهَّا ... مسَّهُ صاعقةٌ من كهرباءٍ
يتراَءى كوكباً ذا ذنبٍ ... فإذا جدَّ فسَهَما ذا مَضاءِ
فإذا جازَ الثريَّا للثرى ... جَرَّ كالطاووسِ دَيلَ الخَيَلاءِ
يملا الآفاقِ صوتاً وصدىً ... كعزيفِ الجنِّ في الأرضِ العَراءِ
أرسلْتهُ الأرضُ عنها خَبراً ... طَنَّ في آذانِ سُكَّانِ السماء
يا شبابَ الغدِ , وابنايَ الفدى ... لكمُ , أكرمْ وأَعززْ بالفِداءِ!
هل يمدُّ اللهُ لي العيشَ , عَسى ... أن أراكم في الفريقِ السُّعداءِ
وأرى تاجكمُ فوقَ السُّهى ... وأرى عرشكمُ فوقَ ذُكاءِ
من رآكم قالَ مصرُ استرجعتْ ... عزَّها في عهدِ خوفو ومناءِ
أُمَّةٌ للخلدِ ما تَبني , إِذا ... ما بَنى الناسُ جميعاً للعَفاءِ
تعَصمُ الأجسامَ من عادِي البِلى ... وتقي الآثارَ من عادِي الفناءِ
إِنْ أسأنا لكُمُ أو لم نُسِئْ ... نَحنُ هلكى فلكُم طولُ البَقاءِ
إنما مصرُ إليكم وبكم ... وحقوقُ البِّرِ أوى بالقضاءِ
عصرُكم حُرٌّ ومستقبلَكُم ... في يمينِ اللهِ خيرِ الأُمنَاءِ
لا تقولوا حطَّنا الدَّهرُ , فما ... هوَ إِلاَّ من خيالِ الشُّعراءِ
هل علمتم أُمَّةً في جهلِها ... ظهرت في المجدِ حَسناَء الرداءِ
باطنُ الأمَّةِ من ظاهرِها ... إِنَّما السائِلُ من لونِ الإِناءِ
فخذوا العلمَ على أعلامِهِ ... واطلبوا الحكمَة عند الحكماءِ
واقرأوا تاريخكم واحتفظوا ... بفصيحٍ جاَءكم من فُصَحاءِ
أنزلَ اللهُ على ألسنِهم ... وَحْيَهُ في أعصُرِ الوحيِ الوضاءِ
واحكموا الدنيا بسلطانٍ فما ... خلقتْ نُضرتُها للضعفاءِ
واطلبوا المجدَ على الأرضِ , فإن ... هيَ ضاقت فاطلبوهُ في السماءِ(/)
كرمة ابن هاني
لشاعر أمير مصر ولع بشعر ابن هاني شاعر هارون الرشيد. وقد أطلق على منزله في المطريه اسم كرمة ابن هاني وكان هذا المنزل مزداناً بأبهج الزينات ليلة عودة سمو الخديوي من الحج فاتفق أن سموه مرَّ تلك الليلة أمام كرمة ابن هاني فألفى شاعره واقفاً على الباب فقال له: يا شوقي أعجبتني قصيدتك كما أعجبتني زينتك مشيراً بذلك إلى قصيدة شاعره في معارضة البوصيري وهي التي سماها طراز البردة فارتجل شوقي بك الأبيات الآتية كحاشية لطراز البردة المذكورة:
زَينُ الملوكِ الصِيدِ مرَّ بزينتي ... كَرَماً , وبابُ اللهِ طافَ ببابي
يا ليلةَ القدْرِ التي بُلّغتُها ... ما فيكِ بعدَ اليومِ من مُرتابِ
ما كُنتُ أَهلاً للنَوالِ , وإِنما ... نفحاتُ احمدُ فوقَ كلِّ حسابِ
لمَّا بلغتُ السؤلَ ليلةَ مدحِهِ ... بعثَ الملوكَ يُعظّمون جنابي
بَدرانِ: بدرٌ في السماءِ مُنوّرٌ ... وأَخوهُ فوقَ الأرض نورُ رِحابي
هذا ابن هاني نال ما قد نلت من ... حَسبٍ نُدِلُّ بهِ على الأحسابِ
قد كان يسعى للرشيدِ وبابهِ ... فسعى الرشيدُ إليهِ وهو ببابي
الرق والحرية
نظمت في سياق خطاب لكنار محبوس في قفص على أثر المقالات التي نشرتها باحثة في البادية في المرأة والحجاب
صَدَّاحُ , يا مَلِكَ الكنا ... رِ ويا أميرَ البُلبُلِ
قد فُزتُ منكَ بمعبَدٍ ... ورُزقتُ قربَ الموصِلي
وأُتيحَ لي داودُ مِز ... ماراً وحُسْنَ ترتّلِ
فوقَ الأسرَّةِ والمنا ... برِ قطُّ لم تَتَرجَّلِ
تهتزُّ كالدنيارِ في ... مُرتجِّ لحظِ الأحوَلِ
وإذا خطرتَ على الملا ... عِبِ لم تَدَعْ لممثّلِ
ولكَ ابتداَءاتُ الفَرَزْ ... دَقِ في مقاطعِ جروَلِ
ولقد تَخذتَ من الضُّحى ... صُفْرَ الغلائِلِ والحُلي
ورويتَ في بيضِ القلا ... نِسِ عن عَذاري الهيكلِ
يا ليتَ شِعرِيَ! يا أَسيرُ ... شَجٍ فؤادُكَ أم خَلِي
وحليفُ سهدٍ أم تَنا ... مُ الليلَ حتى يَنجلي
بالرُّغمِ منّي ما تُعا ... لِجُ في النّحاسِ المُقفَلِ
حِرْصي عليكَ هوىً ومَنْ ... يُحرِزْ ثميناً يَبخُلِ
والشِحُّ تُحدِثُهُ الضرو ... رةُ في الجَوادِ المُجزِل
أنا إن جعلتُك في نُضا ... رٍ بالحريرِ مُجلَّلِ
ولففتُهُ في سُوسَنٍ ... وحففتُهُ بقرُنفْلِ
وحَرقتُ أزكى العودِ حَو ... لَيهِ , وأغلى الصندَلِ
وحملتُهُ فوقَ العيو ... نِ وفوقَ رأسِ الجدوَلِ
ودعوتُ كلَّ أغرَّ في ... مُلْكِ الطيورِ محجَّلِ
فأتتكَ بينَ مُطارحٍ ... ومحبِّذٍ ومدلّلِ
وأمرتُ بابني فالتقا ... كَ بوجهِهِ المتلِّلِ
بيمينِهِ فالوذّجٌ ... لم يُهدَ للمتوكّلِ
وزجاجةٌ من فضّةٍ ... مملوَءةٌ من سَلسَلِ
ما كنتُ يا صدَّاح عن ... دَك بالكريم المفضلِ
شُهْدُ الحياةِ مشوبةً ... بالرِّقّ مثلُ الحنظلِ
والقيدُ , لو كان الجما ... نَ منظَّماً , لم يُحَملِ
يا طَيرُ , لولا أنْ يقو ... لوا جُنَّ قلتُ تَعقَّلِ
اسمعْ فرُبَّ مفصِّلٍ ... لك لم يُفدْكَ كمُجمِلِ
صَبراً لما تشقي بهَ! ... أو ما بدَا لكَ فافَعلِ
أنتَ ابنُ رأيٍ للطبيـ ... عِة فيكَ غيرِ مبدَّلِ
أبداً مَرُعٌ بالإسا ... رِ مهدَّدٌ بالمقتَلِ
إِنْ طِرتَ عن كَنَفِي وقعـ ... تَ على النُّسورِ الجُهَّلِ
يا طَيرُ , والأمثالُ تُضـ ... رَبُ للبَّيبِ الأمثَلِ
دُنياكَ مِن عادانِها ... أن لا تكونَ لأعزَلِ
أو للغبيّ , وإِن تعلَّ ... لَ بالزمانِ المُقبِلِ
جُعِلَتْ لحرٍّ يُبتَلي ... في ذي الحياةِ ويبتلي(/)
يَرمي ويُرمى في جها ... د العيشِ غيرَ مُغَفَّل
مُستجمِعٍ كاللّيثِ ما ... يُجهَلْ عليهِ يَجَهَلِ
أسَمِعت بالحكَين في ال ... إٍسلامِ يومَ الجندل
في الفتنةِ الكُبرى , ولو ... لا حكمةٌ لم تُشَعلِ
رِضيَ الصحابة يوم ذ ... لكَ بالكتابِ المنزَلِ
وهُمُ المصابيحُ الرُّوا ... ةُ عن النبيِّ المرسَلِ
قالوا الكتابُ , وقا ... م كلُّ مفسِّرٍ ومؤوِّلِ
حتى إذا وَسعتْ معا ... ويةً وضاقَ بها علي
رجعوا لظلمٍ كالطبا ... ئعِ في النفوس مؤَصَّلِ
نزلوا على حُكْمِ القو ... يِّ وعند رأيِ الأحيَلِ
صَدَّاحُ , حقٌّ ما أقو ... لُ حفلتَ أم لم تَحفلِ
جاورتَ أندي روضةٍ ... ولَلتَ أكرمَ منزِلِ
بين الحفاوةِ من حُسَي ... نٍ والرّعايةِ من علي
وحنانِ آمنةٍ كلمّ ... كَ في صبِاك الأوَّلِ
صحْ بالصبَّاحِ وبَشّرٍ ... الأبناَء بالمُستقبَلِ
واسألْ لمصرَ عِنايةً ... تأتي وتهبطُ من عَلِ
قلْ: ربَّنا افتح رَحمةً ... والخيرَ منكَ فأرسلِ
أدْرِكْ كنانَتك الكري ... مةَ ربَّنا وتَقبَّلِ
فأجابه بعضهم ولعله حفني بك ناصف عن باحثة في البادية يشير إلى حجاب المرأة قال:
سمَّيتَني مَلِكَ الكَنا ... رِ وأنتَ ربُّ المنزلِ
وجعلتَني رَهْناً لأقفا ... اصِ الحديدِ المُقفَلِ
وظننتَ صيحةَ لوعتي ... في الأسرِ صَدْحَ البُلبُلِ
قد كنتُ صدَّاحاً ول ... كن في الزمانِ الأوَّلِ
فوقَ الغصونِ الناعما ... تِ على ضفافِ الجدولِ
بين الرياضِ المزهرا ... تِ بنرجسٍ وقُرُنفلِ
والطيرُ أصدحُ ما يكو ... نُ على الغديرِ السَلسلِ
حيثُ الرياحُ مزاهرٌ ... لغنائِهِ المسترسلِ
أنا باغمٌ لا صادحٌ ... مذ صرتُ رَهْنَ المعقلِ
عجباً! أتطربُ من نيا ... حٍ من شَجيٍّ مُعوِلِ
علَّلَتني وسجنَتني ... خَوفَ اصطيادِ الأجدَلِ
وزعمتَ أنَّكَ مانعي ... من باشِقٍ أو أخيَلِ
إِن لم تكنْ لي حارِساً ... من كلِّ عادٍ مُقبِلِ
وتذودُ عنّي بالقنا ... وتُصيبُ ذاتَ المقتَلِ
فالحصنُ والبيداءُ يس ... تويانِ عند الاعزَلِ
والقفلُ ليس بمانعٍ ... من كلّ لصٍ أحوًلِ
كم من رسائلَ أُرسلتْ ... طيَّ النسيمِ المرسَلِ
كم من ذئابٍ قد عدَتْ ... دون الرّتاجِ المقفلِ
كم من نِعاجٍ قد عُقر ... نَ بعقرِ دارٍ من عَلِ
أنتَ القوي ملكتَني ... وأراكَ لستَ بمرسِلي
وأراكَ تقتلُني بحجَّ ... ةِ حبِّكَ المتمحَّلِ
لو كان حبُّك صادقاً ... لفككتَني من معقِلي(/)
خليل مطران
نشأ تحت سماء سوريا , بين أوديتها الخضراء وجبالها البيضاء , أمام بحرها الصافي وأمواجه الزرقاء , فجاء شعره رقيقاً لطيفاً. وترعرع وشبَّ في وادي النيل بين آثار المدنية القديمة وصروحها العظيمة , فكان أنشاؤه فخماً عظيماً. عاش تارةً في القرى والجبال , فتشرَّب حب الفضيلة والطبيعة , فأسمعنا الشعر زاهراً طاهراً. وعاش طوراً في المدن , فراعه ما فيها من التعس والشقاء , فألقى علينا إنشاؤه مبكياً زاجراً. شعره مجمع الصور وملعب الخيال , ونفسه كالصحيفة الحساسة ينطبع عليها كل ما يمر بها , بل الغصن الرطب يميل به كل نسيم , بل وجه البحيرة الصافي تحركه كل ريح , فالخليل شاعر الشعور والخيال , وشاعر بعلبك والأهرام. أما من حيث المبنى فقد عرف أن يستفيد من لغات الأجانب دون تقليد , وينهج نهج قدماء العرب دون تقييد. فاحترس بصبغة العرب في التعبير , وأدخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير.
تحية الشام لمصر
تليت في الحفلة التي أقيمت في مصر برئاسة دولة الأمير محمد علي باشا الجناب الخديوي لمساعدة منكوبي تلك الحادثة:
إلى مصرٍ أزفُّ عن الشامِ ... تحيَّاتِ الكرامِ إلى الكرامِ
تحيَّاتٍ يَفضّ الحمدُ منها ... فَمَ النَّسَماتِ عن عَبَقِ الخُزامِ
نُدبتُ لها وجرَّأني اعتددِي ... بأَقدارِ الدُّعاةِ على القيامِ
إذا ما كان معروفٌ وشكرٌ ... مبادَلةَ التَّصافي والوئِامِ
فحُبّاً أيُّها الوَطَنانِ! إِني ... وسيطُ العقدِ في هذا النظامِ
وسيطُ العقدِ. . . لا عن زَهوِ نفسٍ ... أقَلُّ الرأيِ يُلزمني مَقامي
ولكن عن ولاءٍ بي أكيدٍ ... وعن رَعيٍ وثيقٍ للذِّمامِ
أعِزْني ثغرَ بيروتَ ابتساماً ... أَصُغْ فَرْضَ الجميلِ من ابتسامِ
ويا بحراً هناكَ أعِزْ ثنائي ... نفيسَ الدرِّ يُنظَمُ في الكلامِ
ويا غاباتِ لبنانَ المفدَّى ... مِنَ الدَّوحِ المجدَّدِ والقُدامِ
أراكِ على الكِنانةِ عاطِفاتٍ ... وقد ذُكِرت. أمَيلُكِ مِنْ غَرامِ؟
أمدّيني بأرواحٍ زواكٍ ... لأقرئَها الزكيَّ من السلامِ
بلادي , لا يَزالُ هواكِ منّي ... كما كانَ الهوى قبلَ الفِطامِ
أُقبِّلُ منكِ حيثُ رَمى الأعادِي ... رُغاماً طاهراً دونَ الرَغامِ
وأَفدي كلَّ جُلمودٍ فَتيتٍِ ... وَهي بقنابِلِ القومِ اللئامِ
فكيفَ الشبلُ مختبطاً صريعاً ... على الغبراءِ , مهشومَ العظامِ؟
لَعَمرُ المُنصفينَ! أبعدَ هذا ... يُلامُ المستشيطُ على المَلامِ؟
لحى اللهُ المطامِعَ حيثُ حَلّتْ ... فتلكَ أشدُّ آفاتِ السَّلامِ
تَشوبُ الماَء وهو أغرُّ صافٍ ... وتَمشي في المشارِبِ بالسّقامِ
أيُقتلُ آمِنٌ , ويقال رَفِّهْ ... عليكَ فما حِمامُكَ بالحِمامِ؟
ستَسعدُ بالذي يُشقيكَ حالاً ... وتنعمُ بعدَ خسفٍ بالمقامِ
فإِمَّا أن تعيشَ وأنتَ حُرٌّ ... فذاك من التَّغالي في المُرامِ
وإِمَّا أنْ تُساهِمَ في المعالي ... فَطائشةٌ بَمِرماكَ المرامي
مضى عهدٌ يُجارُ الجارُ فيهِ ... ويُؤْخذُ للحلالِ من الحرَامِ
وهذا العهدُ مَيدانُ التباري ... بلا حَدٍّ إلى كسبِ الحُطامِ
مُباحٌ ما تشاءُ فَخّذْهُ إِمَّا ... بحقِّ الرأيِ أو حَقِّ الحُسامِ(/)
ولا تُكرِثْكَ نَوحاتُ الثَّكالي ... ولا شكوى ضميرِك في الظَّلامِ
أساتِذةَ المطامِعِ ما ذكرتم ... هُوَ الناموسُ يَقدُمُ وهو نامِ
فلا يَضعَفْ ضعيفٌ , أو نراهُ ... لنابِ اللَّيثِ يَصلحُ في الطَّعامِ
فهمنا مأَخْذَ الجاني علينا ... وأَعذارَ السواسيةِ العظامِ
وأنَّ بَديلَ عصرٍ كانَ فيهِ ... عجافُ القومِ مُلْكاً للضِّخامِ
زمانٌ سادَ شعبٌ فيهِ شعباً ... وأنزلَهَ بمنزلةِ السَّوامِ
فَقومٌ مِن ملوكٍ كيفَ كانت ... مراتبِهُم , وقَومٌ م طغامِ
وبين العُنصرَينِ خِلافُ نوعٍ ... على كونِ الجميعِ من الأنامِ
أقولُ , وقد أفاقَ الشرقُ ذُعْراً ... مِنَ الحالِ الشبيهةِ بالمنامِ
على صَخَبِ الرواعدِ في حماهُ ... ورَقصِ الموتِ بين طلىً وهامُ
أقولُ بصوتهِ لحُماةِ دارٍ ... رماها من بُغاةِ الغربِ رامِ
أُباةَ الضَّيمِ من عَرَبٍ وترَكٍ ... نسورَ الشمّ , آسادَ الموامي
قرومَ العصرِ فُرساناً ورَجْلاً ... نُجومَ الكرِّ من خلفِ اللِّثامِ
بنا مَرَضُ النعيمِ فنَسِّمُونا ... وغىً يَشفي من الصفوِ العٌقامِ
بنا بَردُ المكوثِ فأدفُئوِنا ... بحُمَّى الوثْبِ حيثُ الخطبُ حامِ
بنا عطلُ السَماعِ فشنّفونا ... بقعقَعةِ الحديدِ لدى الصُّدامِ
لقد جئتم ببرهانٍ عظيمٍ ... على أنَّا نعودُ إلى التمامِ
وأنَّا إِن جَهلْنا أو غَلِطْنا ... أنِفنأ أنْ نُعاتَبُ باحتكامِ
وأنَّا حيثُ فاتحَنا كذوبٌ ... بميعادٍ فَطِّنا للختامِ
فإن زينَت لنا الأقوالُ عفنا ... تعاطِيهَا كما كرِةِ المُدامِ
على هذا الرجاءِ , ونحنُ فيهِ ... نَسيرُ موفّقينَ إلى الأمامِ
مثولي رافعاً إِجلالَ قومي ... إلى عباسٍ المَلِكِ الهُمامِ
إلى مَلكِ التضامنِ والتآخي ... عميدِ الشرقِ من بعدِ الإِمامِ
وجَهري , جُهدَ ما تسَعُ المعاني , ... بمدحِ شقيقهِ السنَّمِ المقامِ
متمِّ إِمارةِ الأصلِ المعلَّى ... بفضلٍ باذِخٍ كالأصلِ سامِ
وأدعو أن يُعزَّ اللهُ مِصراً ... ويوليَها السعودَ على الدَّوامِ
الأسد الباكي
دعوتُكَ أَستشفي إِليكَ , فوافِني ... على غيرِ علمٍ منك أَنَّكَ لي آسي
فإِنْ ترَني , والحزنُ ملءُ جوانحي ... أُداريهِ , فليَغررْكَ بِشري وإيناسي
وكم في فؤادي من جراحٍ ثخينةٍ ... يُحجِّبُها بُردايَ عن أعيُنِ الناسِ
تخذتُ لهمّي عينَ شمسٍ مباَءةً ... فثمَّتَ إِضحائي فريداً وإِغلاسي
يخالون أَني في مَتاعٍ حيالَها ... وبئس متاعُ الحيّ جيرة ديماسِ
أرى روضةً لكنَّها روضةُ الرَّدى ... وأُصغي وما في مِسمعي غيرُ وسواسِ
وأنظرُ من حولي مُشاةً ورُكَّباً ... على مُزجَيَاتٍ من دُخانِ وأفراسِ
وما عينُ شمسٍ غيرُ ما ارتجلَ النُّهى ... بقفرٍ جديبٍ من مَبانٍ وأغراسِ
بنوها فأَعلوها , وما هوَ غيرُ أن ... جرَتْ أحرفٌ مرسومةٌ فوقَ قرطاسِ
بَدَتْ إِرَمٌ ذاتُ العمادِ كأنَّها ... من القاعِ شَاَّتها النجومُ بأمراسِ
كفَتها ليالٍ نَزرةٌ فتجدَّدتْ ... ثوابتَ أَركانٍ رواسخَ آساسِ
وغالَطَ فيها البعثَ ما خَالَطَ الحلى ... بها من ضروبٍ مُحدَثاتٍ وأجناسِ
هناكَ أُبيحُ الشجوَ نفساً منيعةً ... على الضيم مهما يَفللِ من باسي(/)
يمرُّ بيَ الأخوانُ في خَطَراتَهم ... أُولئك عُوَّادي وليسوا بجلاَّسي
أهشُّ إليهم ما أهشُّ تلطُّفاً ... وفي النفسِ ما فيها من الحزن والياس
ذرونيَ وانجوا من شظايا تُصيُبكم ... إِذا لم أُطِقْ صبراً فأطلقتُ أنفاسي
فإِنّي على ما نالني من مَساَءةٍ ... لأرحمُ صَحبْي أن يثلمَّ بهم باسي
ذرونيَ لا يملكْ وجيفي قلوبكم ... إِذا مرَّ ذاك الطيفُ وادَّكَر الناسي
فتا للهِ! لولا ذلك الطيفُ والهوى ... لهُ مُسعِدٌ , لم يملكِ الدهرُ إِتعاسي
ذرونيَ أحْسُ الخمرَ غيرَ مُنفَّرٍ ... عن الوردِ منها نِفرةَ الطائر الحاسي
فرُبَّتَ كأسٍ عن شفاهي رددتُها ... وقد قتلَ الدمعُ السُلافةَ في الكاس
ذرونيَ أُنكِّسْ هامتي غيرَ مُتَّقٍ ... ملامةَ رُوَّادٍ وشُبهةَ جُوَّاسِ
فبي حرَّةٌ بكرٌ ضلوعي سياجُها ... أراش عليها سهمَهُ معتدٍ قاسِ
أُعيدُ إليها كلَّ حينٍ نواظري ... وأخفضُ من عطفٍ على جرحها راسي
يكادُ يبثُّ المجدُ ما لا أَبثُّهُ ... من السقَمَ العَوَّادِ والسأَمِ الراسي
أنا الألمُ الساجي لبُعدِ مزافري ... أنا الأملُ الداجي ولم يخْبُ نبراسي
أنا الأسَدُ الباكي , أنا جبلُ الأسى ... أنا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ
فيا منتهى حُبّي إلى منتهى المنى ... ونعمةَ فكري فوقَ شقوة إِحساسي
دعوتُك أستشفي إليكَ , فوافِني ... على غير علمٍ منكَ أَنَّكَ لي آسي
إقرار ومناب
أو
تذكارات الطفولة
هَلْ تذكُرِين , ونحنُ طِفْلانِ , ... عَهْداً بزحلةَ ذكرُهُ غُنْمُ
إِذْ يلتَقي في الكَرْمِ ظِلاَّنِ ... يَتضاحَكانِ وتأنسُ الكرمُ؟
هل تذكُرِينَ بلاَءنا الحَسنَا ... حينَ اقتطافِ أطايبِ العِنَبَ
نُعطي ابتسَاماتٍ بَها ثَمنَا ... وبنا كنَشوتِها من الطَّرَب؟
هل تذكرِينَ غداةَ نَخطُرُ عُنْ ... مَلكَيَنِ حُفَّا بالمسَرَّاتِ
بينَ السَّماواتِ النَّواضرِ منْ ... عُليا ودُنيا والثُريَّاتِ؟
والنَّهرُ. . . هلْ هُوَ لا يزالُ كما ... كُنَّا لذاكَ العَهدِ نألفُهُ
يَسقي الغِياضَ زُلالَهُ الشبَّما ... ويَزيدُ بهجَتها تعطُّفُهُ
يَنصبُّ مُصطَخباً على الصّخرِ ... ويَسيرُ مُعَتدِلاً ومُنعرِجَا
يَطغي حيالَ السدِّ , أو يجري ... مُتضايِقاً آناً , ومنفَرِجَا
متُخلِلاً خُضْرَ البَساتِينِ ... مُتهلِّلاً لتحيَّةِ الشَّجرِ
متُضاحِكاً ضَحِكَ المجانينِ ... لملاعبِ النَّسماتِ والزَّهَرِ
واهاً لذاكَ النّهر! خلَّفَ لي ... عطَشاً مُذِيباً بعدَ مصدَرِهِ
يا طالَما أوردتُهُ أمَلي ... وسَقيتُ وهمي من تصوّرِهِ
تَمتدُّ أيَّامُ الفِراقِ , وبي ... ظمأى لذاكَ المنهلِ الشَّافي
وبِمسمَعي لهديرِهِ اللَّجِبِ ... وبناظري لجمالهِ الصافي
تلكَ المعاهدُ بُدِّلتْ خَطَلاً ... بمعاهدٍ مدنيَّةِ الزِّيَنِ
كانت غوانيَ فاغتدتْ بحليً ... ألقتْ عليهَا شُبهةَ الزَّمنِ
الدَّهرُ أغلَبُ , وهوَ غَيَّرها ... وكذاك كانت شيمةُ الدّهرِ
لو أدرَك الجنَّاتِ صيَّرها ... من حسنِ فطرتِها إلى نُكرِ
ما أَنسَ لا أنسَ العقيقَ وقد ... جزناهُ بعدَ السَّيلِ نفترِجُ
كان الرَّبيعُ وكان يومُ أحد ... ومسيرُنا متمعِّجٌ زَلِجُ(/)
ونَبيهةُ الكبرى ترافِقُنا ... مجهودةً ضجَّتْ من التَّعَبِ
ولها صُويحبةٌ توافِقُننا ... حسناءُ كلَّ الحسنِ في أدَبِ
ضَحَّاكةٌ كالنَّورِ في الزَّهَرِ ... رقَّاصةٌ كالغُصْنِ في الوادِي
كرَّارةٌ كنَسيمةِ السَّحَرِ ... ثرثارةٌ كالطائِرِ الشادِي
صنَعتْ بقلبي صُنعَها فإِذا ... هو يُنكرُ القرُبى ويجحدُها
تَركَ الهوى الأهليَّ واتَّخذا ... تلكَ الغريبةَ عنهُ يعبدُها
وكذاكَ قلبُ الطّفلِ يلتَفِتُ ... إِنْ يُلفِ حُبّاً غيرَ ما ألِفا
كالطائر البَيتيِّ ينفَلِتُ ... تَبعاً لسانحةٍ بهَا شُغِفَا
حُسْنٌ تملَّكني فأدَّبني ... ما شاَء في قولي وفي فِعلي
وبمثلِ لَمْحِ الطَرْفِ اكسبَني ... خُلُقاً , وعلَّمني على جَهلي
أوحى إليَّ دَداً أُجرّبُهُ ... في آيةِ من فطنةٍ وَدَدِ
فجمعتُ صلصالاً أركِّبُهُ ... وصنعتُ تمثالاً لها بيَدي
صوَّرتُ شبِهَ الفَرخُ في وكرِ ... من غَيرِ سَبقٍ لي بتَصويرِ
فأتى على ما شاَءهُ فِكرْي ... ورضيتُ عن خَلقِي وتقديري
ما كانَ ذاكَ الفرخُ مُعجزةً ... فتَّانةً الإِتقانِ والحُسْنِ
كلاَّ! ولم أجعلْهُ معجزةً ... لكفاَءةِ الحذَّاقِ في الفنِّ
فلَرُبَّ عينٍ فيهِ لم تَكُنِ ... في الحقِّ غيرَ مظنَّةِ العَينِ
ومظلَّةٍ للزغبِ لم تبنِ ... حتى ولا ريشُ الجناحَينِ
ولعلَّ ذاكَ العِشَّ لم تَفِرِ ... فيهِ شروطُ الوضْعِ والنقشِ
لكنْ على حلمٍ من النَّظَر ... تُستامُ فيهِ معالمُ العِشِّ
رسمٌ على تلكَ العُيوبِ بدا ... لحبيبتي من أعجَبِ العجَبِ
فتناولتْهُ برقَّةٍ وغَدا ... بين الصواحبِ أنفسَ اللِّعَبِ
أمُحيِّري الأحلامِ بالهرَمِ ... وبُناةَ بابلَ فتنةِ الحقُبِ
ومهندسي اليونانِ من قِدَمِ ... والفُرْسِ والرُّومان والعرَبِ
ومشيِّدي بَغدادَ والجسْرِ ... وممصِّري الأمصارِ للبدوِ
ومزخرِفي الحمراءِ والقَصْرِ ... حيثُ انتهىَ بهِمِ مَدى الغزوِ
إِي رافئيلُ , المبدعَ الصُّورا ... أي ميِكَلنجُ , الناقشَ الباني
أي كلَّ فإنٍ تاركٍ أَثَرا ... من طابعِ التخليدِ في فانِ
لا تستعزَّ بكم روائِعُكم ... ممدوحةً في الشرقِ والغربِ
أتَرونَ كم صَغُرَتْ صنائِعُكم ... في جَنْبِ ما صَنَعَتْ يدا حُبّي
بدليل أنَّ حبيبتي فرِحتْ ... بهدَّيتي وقَضَتْ لها عَجَبا
ومضتْ تُداعِبُها وما اقترحتْ ... شيئاً يُتمّ لها بها أرَبا
يومٌ تقضَّى , والفراقُ تلا ... سرعانَ ما وافى وما انصرما
بهوىً تولَّدَ فيهِ واكتهلا ... في ساعتَيهِ وشاخَ وانعدما
ولَّى , وأبقي في دُجى الماضي ... شفَقاً بعيداً واضحَ الأثَرِ
كم أَجتليه وراَء أَنقاضِ ... وأقولُ: يا أَسفي على سَحَرِي!
هذي حكايةُ حالةٍ عَبَرتْ ... واستُغرِقَتْ في لُجَّةِ المِحَنِ
ما زلتُ أُنقذُ كلَّما ذُكِرَتْ ... قِطَعاً طَفتْ منها على الزَمَنِ
فإذا صفاءُ النفسِ عاوَدَني ... وأقرَّني فوقَ التباريحِ
دَالَ الهوى الأهليُّ من حَزَنْي ... وبقيتُما رَيحانَتي رُوحي
إلى أبنائنا
رجال الغد
يا سِبْطَ يَحيى , وسَليلَ العُلى ... حيَّى الرِّضي طالِعَكَ المجتَلي
وسَلَّمَ اللهُ الوليدَ الذي ... هلَّ , فمَا أبهى وما أجملا!(/)
كأنَّ ذّوبَ العاجِ صلصَا لُهُ ... وأنَّ معنى الحبِّ ما مَثَّلا
ناهيك بالعينَينِ من قوَّتَيْ ... ذِهنٍ , ومن نُورَيْ حِجيً أُرسِلا
كحسنهِ الحسنُ إذا ما غَفا ... وذِيدَتِ الأعيُنُ أن تغفَلا
مُحرِّكاً في نومهِ تغَرَهُ ... كأن في الرُّؤيا رضاعاً حَلا
لا الحلَلُ الغرَّاءُ من هَمِّهِ ... ولا يُبالي باهراتِ الحلي
جَذلانُ من نَشوةِ أحلامهِ ... وأينَ منها نَشَواتُ الطِلي
تَراهُ قُرباً , وكأنَّ الكرى ... يحملُهُ فوقَ السُهى محمَلا
كطائرٍ يظهرُ تحليقُهُ ... بمظهرِ الترجيحِ ممَّا عَلا
فإِنْ صحَا فالدَّهرُ عَبدٌ لهُ ... يُرضيهِ مطواعاً , وإِلاَّ فَلا
وكلُّ حَيٍّ فمنوطٌ بأنْ ... يفهمَ ما يَهوى وأن يَفعلا
سِيَّانِ في اللطف وفي الظرفِ ما ... أَساَء من أمرٍ ومَا أجَملا
لهُ , ولا الناسِ عِلْمُ الذي ... يَرى ويستحسنُ أن يُعمَلا
وحَولُهُ الحَولُ , فإن يفتَتِنْ ... فسِحرُهُ السّحرُ ولَنْ يُبطلا
أنِلْهُ ما شِئتَ فكيفَ اشتهى ... تحويلَهُ من فَورهِ حُوّلا
فليَكُنِ المفتاحُ ثَدياً جَرى ... بالكوثرِ العذْبِ كما أمَّلا
ولتَكُنِ السَّاعةُ جِنّيَّةُ ... تُديرُ في داخِلِها مِقوَلا
وليكُنِ الكرسيُّ إِن حَثَّهُ ... قطارَهُ ينساقُ مستعجِلا
وكلُّ ما شكَّلَهُ فليكُنْ ... مَهما عَصى الطبعَ كما شكّلا
يا وَلداهُ أسعد , وعِش , واغتنْمْ ... مِنَ السُّرورِ المغنَمَ الأجزَلا
لكنَّ دَهراً جئتَ فيهِ أبى ... عليكَ أَن تركَبَ مُستسهلا
أدبرَ بالشَّرقِ , ولا يبتغي ... إلاَّ بأمثالِكَ أن يُقبلا
اليومَ لا تعقلُ , لكنْ غَداً ... تكونُ ممَّن سَلفُوا أَعقَلا
ما اليومُ , ما القابلُ؟ هذا مضى ... بِنا ولم نَشعرْ , وهَذا تلا
اسْمَعْ شكاتي فهي أن لم تُفِدْ ... حالاً ففيها النَّفعُ مستقبَلا
كان لنا مَجدٌ نزلنا بهِ ... مِن السَّماواتِ العُلى منزلا
لا يُنكَرُ منَّا إِذا ... قُلنا غّداةَ الفَخرِ: نحنُ الأُلى!
وكانَ منَّا كلُّ ذي مِرَّةٍ ... إِن صالَ فرداً كسَرَ الجحفلا
وكانَ منَّا كلُّ ذي فطنةٍ ... يكاشِفُ الوحيَ , ويَهدي المَلا
وكانَ منَّا كلُّ حامي حِمىً ... لا تطرُقُ العُصْمُ لهُ مَعِقلا
وكانَ مُلكُ الأرضِ مُلْكاً لنا ... وحُكْمُنَا في الأُمَمِ الفيصَلا
لكنَّهُ عِزٌّ مضى وانقضى ... يذَنبِ مَن خانَ ومن أَهمَلا
تراكمتْ أغلاطُنا آخذاً ... بعضٌ ببعضٍ فانتهينا إلى. .
ولا أُسَمّي مُنتهانا , فقد ... يؤثَرُ بعضُ الشيء أن يُغْفَلاَ
واحربا! بتنا وما شائِنا ... إلاَّ اعتذارٌ يُشْمِتُ العُذَّلاَ
وما تبقَّى غيرُ أبنائِنا ... تعزيةً للنفسِ أو مأملا
عساهُمُ أن يُصِلِحوا بعدَنا ... ما أفسدَ الظُلاَّمُ منَّا. . ألا. . .
أي نلَ يحيى , أن يجئْ عهدكم ... ردُّوا على الأوطانِ عِزّاً خلاَ
أنَّا نُرَجّي جيلَكُم كلَّهُ ... أن يَتِرَ المجدَ ول يخملاَ
فَمَنْ دعا يومئذٍ , واجدٌ ... فينا عديدَ الخيرِ مُستكمَلا
الراجلَ الجَلْدَ الذي لا يضهي ... عَزْمٌ لهُ , والفارِسَ الأبسلا
والعالِمَ المثمرَ تعليمُهُ ... أجْملَ ما علَّمَ أو فصَّلا
والوالدَ البَرَّ بأَبنائهِ ... يُرخِصُ في تأديبهم ما غلا(/)
والحُرَّةَ الهيفاَء لا تنثني ... عن عَوَجِ الأغراسِ أو تعدِلا
والصانعَ البارعَ في صنُعهِ ... يُتقنُ مفتنّاً ومسترسلاَ
والزارعَ الحاذقَ في شأنهِ ... يَعافُ أن يجمَدَ أو يكسلا
بمثلِ هذا الجمعِ مِن وُلْدِهِ ... تَشفى جِرَاحُ الوطنِ المُبتلي
أي نجلَ يحيى , كُنْ إذا حقَّقوا ... آمالَنا نَدَبهمُ المفضلا
بالعلمِ والحزمِ اعتضدْ واعتدِدْ ... لِتغدوَ الأرشدَ والأمثَلاَ
إِنَّا مُعِدُّوكَ ليومٍ بهِ ... تكونُ ذاكَ السيّدَ الموئِلاَ
في ذلكَ العهدِ وقد صِرْتَ في ... أترابِكَ الأمكنَ والأرَجلاَ
تذكَّرِ الطفلَ الذي كُنتَهُ ... وحاش ذاكَ الخُلْقَ أن يُبْدلاَ
إذ كنتَ في مهدِكَ لا تَتّقي ... لو أنَّ طوداً راسخاً زُلزلا
ولا تُرَاعِي طاغياً قادِراً ... ولا تُحابي بَطلاً مبُطلا
ولا تَني بالسُؤْلِ حتَّى تَرى ... مُحقَّقاً ما عزَّ أن يُسأَلا
وتجهلُ الأثمَ بأنواعِهِ ... كما تَرى العفَّةَ أن تجهلا
عظائِم الدُّنيا تُحِبُّ الفَتى ... في أكثَرِ الأخلاقِ مُستطفلا
تلك مُنانا يا بَنينا , فإِنْ ... تمَّتْ محوتُم ذنبَنا المخجلا
هيَّا أعيدُوا المجدَ فينا إلى ... ما كانَ من سيرتهِ أوَّلا
قطرة دم
لقي الشاعر سيدة في إصبعها خاتم فصه من الياقوت فقال لصاحب كان معه:
حذارِ لقلبك من لحظِها ... فما فيهِ من رحمةٍ للمحبِّ
ألم ترَ في يدها خاتَماً ... بهِ قطرةُ الدمِ في شكلِ قلبِ؟
الفلّ
زانت الرأسَ بفلٍّ ... هو بالرأسِ تحلَّى
ما رأتْ قبلكِ عيني ... وردةً تحملُ فلاّ
في قينة تنشر
يا مَنْ بكى الرَّبعَ أفنى في معَاهِدهِ ... شبابَهُ , وبَكى الأيَّامَ والسَّكنَا
تعالَ أُسْمِعْكَ شَدْواً يستعيدُ بهِ ... فؤَادُك الرَّبعَ والأحبابَ والزَمنا
دموع الحبيب
دموعُكَ صُنْها , أو فغالِ بمثلها ... من الدُرِّ إِلاَّ عن صوانٍ من الحبِّ
فإِن تَغلبِ الأشجانُ قلبكَ مرَّةً ... على أمرهِ فاذرفْ دموعك في قلبي
إلى سابا باشا
تعزية بفقد ولدهِ
ما في الأسى من تفتُّتِ الكبدِ ... مِثلُ أسى والدٍ على ولَدِ
كم بطلٍ عاشَ وهو ذو صَيَدٍ ... فردَّهُ الثكلُ غيرَ ذي صَيَدِ
أَهوَنُ من رزئهِ عليهِ أذىً ... كفاحُ جيشٍ أو مُلتقى أَسدِ
سابا , لك اللهُ وهو ألطفُ مَنْ ... يأسو جريحاً , وأنتَ ذو رَشَدِ
إِنَّ قلوباً مُحيطةٌ بكَ من ... كرامةٍ ساهمتكَ في الكمَدِ
لهفي على ذلك الحبيبِ ذوى ... مُنهَصِرَ الغصنِ لم يُنلْ بيدِ
مادَ نسيمٌ بهِ فماتَ وفي ... معطفهِ رِقَّةٌ من الميَدِ
مات كنُضْرِ الفرُوعِ يلزمُها ... بعدَ الردى حسنُها إلى أمَدِ
في جاهِ أوراقِهِ وبينَ حُلي ... أزهارهِ من مبشِّرِ ونَدي
في عزِّ مُلك الصِّبي وحاشيةٍ ... من غُرِّ آمالهِ بلا عددِ
في منتهى مجدِهِ وصولتِهِ ... إِذا يقتلُ السعدَ لاهياً ويَدِي
ويصدُمُ المكرَ غير ملتفِتٍ ... ويقحمُ الدهرَ غيرَ مُرتَعِدِ
ويتركُ اللومَ حائراً وَجِلا ... منعقداً في لسن منتقِدِ
يا راحلاً في الغداة عن نِعَمٍ ... تترى وعن بسطةٍ وعن رَغَدِ
وتاركاً رسمَهُ لفاقِدِهِ ... مصوَّراً بالجراحِ في الخلَدِ
لا أنكرَتْ روحُك التي أمِنَتْ ... ما فارقت من مخاوفِ الجسَدِ(/)
وبينما كان الشاعر ينظم هذه الأبيات الرقيقة إذ استوقفت قلمه ألحان محزنة تصدح بها موسيقي كانت سائرة في الطريق , فإذا هو بجنازة تسير خلف طبل وبوق. فسأل عنها فقيل إنها جنازة شابّ مات في العشرين من عمره. فأثر هذا الموكب الكئيب السائر على النغمات المفجعة في نفس الشاعر وهو لا يعرف ذلك الفتى المتوفي فقال: وهذا يأخذ حصته في الطريق وكتب فيه الأبيات التالية:
مشهدٌ سُيّرَ في طبلٍ وبوقِ ... عِظةٌ جُنَّتْ فغنَّتْ في الطريقِ
عِظَةُ الموتِ وما عهدي بها ... أن تزفَّ النعشَ في تدليلِ سوقِ
لا ولا عهدي بها خاطبةً ... عن ثغورٍ من نحاسٍ وحلوقِ
ويحُ تلكَ القِطَعِ الصفراءِ في ... صوِتها حِسُّ جراحٍ وحُروقِ
مَن تُرى علَّمها ما مَزَجت ... من وَجيفٍ وعويلٍ ونَعيقِ
ألقتِ الفجعْةَ , فاستولت على ... كلِّ سمعٍ , وأَجفَّتْ كلَّ ريقِ
تلك شكوىً عن فؤادٍ ثاكلٍ ... صاخبِ الآلامِ , رنّانِ الخُفوقِ
يا أباً يبكي ابنهُ ملتَمِساً ... ذلكَ التنبيهَ للحسِّ الصَّعيقِ
واضحٌ عذْرُكَ مَهما تفتنِنْ ... للعدوِّ الصُّلبِ والخدنِ الرفيقِ
آهِ مِن نارِ الجوى! فَهْيَ التي ... تفجرُ البُركانَ من قلبٍ رقيقِ
آه من صدْعِ النَّوى! فهو الذي ... يُرسِلُ الأحزانَ كالسَّيلِ الدفوقِ
أن تُذيبوا هكذا أكبادنا ... يا بَنينا , فالرَّدى أقسى العقوقِ
هل للهموم قلوب
ألقى الجمالُ عليكَ آيةَ سحرهِ ... فغدوتَ ما شاَء الجمالُ حبيبا
حتى الهمومُ سَمتْ إِليك بودِّها ... من كان يحسبُ للهموم قلوبا
الزهرات الثلاثاء
نظمت في وداع أحد القضاة
صبَّح الأزهار طيفٌ مَلَكيٌّ يبهرُ ... بالزهورِ
يا لها بكراً كحور الخلدِ هبَّتْ تخطرُ ... في البكورِ
قلَّدت جبهتَها في نَسقٍ زاهي البياضِ ... تاجَ عهنِ
وأعارَتْ ثوبها من خيرِ ألوانِ الرياضِ ... كلَّ حسنِ
أملٌ بادٍ وسعدٌ مستعيرٌ شخصَ نورِ ... للعيونِ
وبهاءٌ في حياءٍ مستعيرٌ شخصَ تورِ ... للعيونِ
نجم صبحٍ كلُّ آنٍ يجتلي فيهِ سناه ... فهو فجرُ
مَنءْ تكونين , حماكِ اللهُ يا هذي الفتاة؟ ... أنا مصرُ
دَرَتِ الأزهارُ ما جاَءتْ له تلك العروسْ ... من مرامِ
إِنَّ للأزهارِ أبصاراً تَرى سرَّ النفوسْ ... من لمامِ
فأحسّتْ ذاك منهنَّ وقالت قولَ فكرِ ... لا لسانْ
أفمنكنَّ ثلاثٌ يتقدمنَ لأجرِ ... يا حسانْ؟
قالت الوردةُ: ما للعدل مثلي من مثالِ ... فاجتليني
في بياضي واحمراري آيتا الحكم الحلالِ ... فاجتنيني
قالتِ الزنبقةُ الغراءُ: إِني رسمُ حسِّ ... للنزاهة
هي شكلي وقوامي ولها عفَّةُ نفسي ... والنباهة
قالتِ السوسنةُ البيضاءُ شفَّافاً سناها ... عن سماحه
أنا والرحمةُ كالمرآةِ والوجهِ اشتباها ... وصباحه
بعد ذاك اجتمعتْ تلك المجيباتُ الحسانُ ... للهديَّة
في نظامٍ أكسبتهنَّ بهِ تلك البنانُ ... صوغَ حليه
حليةٌ باليدِ زانتْكَ بها مصرُ الفتاة ... رسم حالِ
رسم أبهى ما بهِ يَحْلي على الدهرِ القضاة ... من خلالِ(/)
وليّ الدين بك يكن
شاعر ملء روحه الشاعرية , وملء قلمه الفصاحة. يستهوي النفس بسلاسة ألفاظه ومتانة قوافيه وعذوبة أسلوبه , ويملكها برقة معانيه التي يصورها تصويراً كله سلامة في الذوق ونزاهة في الفن , فتراه يسترضي القارئ ساعة يرضي حتى ليملأ قلبه سرواً وصفاء , ويستبكيه حين يبكي حتى ليجعله يلمس دموعه لمس اليد , ويحسّ بناره تتأجج من خلال ألفاظه. وقد مازجت الشاعرية , وهي سجية فيه , نفساً عزيزة حساسة , وقلباً طاهراً رقيقاً , فهو إذا تأثرت نفسه وخفق فؤاده قال الشعر فأرسله عفو الخاطر دون إعنات فكر , أو جهاد قريحة لو أعطي امرؤ قوة تصوير النفوس من اهي صوَّر نفس ولي الدين بك يكن بأقرب إلى حقيقتها مما صوَّرها به صاحبها في شعره.
شكوى المنفي
قالها يوم نفي إلى سيواس وتخلي عنه أصحابه
حيَّا ربوعَكِ قَطرُ ... يا مصرُ! لله مصرُ
ما لي إليك سبيلٌ ... هذا خلاءٌ وبحرُ
غرَّ الأعادي انكساري ... والانكسارُ يَغرُّ
وسرَّهم طولُ نفيي ... ومثلُ نفيي يَسرُّ
هم حسبِونيَ أقضي ... عنهم وما ليَ ذكرُ
هيهاتِ! بعدي رجالٌ ... والفجرُ يتلوهُ فجرُ
عينٌ بكت قبلَ هذا ... وسوفَ يبسمُ ثغرُ
اِرتجعي يا أَماني ... بالوصلِ قد طالَ هجرُ
إِنَّا عهدناكِ أوفى ... عَهداً إذا خانَ دهرُ
فبينما أنتِ زُهرٌ ... إذا بكِ اليومَ غُبرُ
فليسَ يرفعُ جِدٌّ ... وليس يَخفضُ هذرُ
مرَّتْ عِذابُ الليالي ... وكلُّ عَذْبٍ يمرُّ
أَلتزمُ الصبرَ كُرهاً ... وليس للحُرِّ صبرُ
وأسلِكُ الحلمَ نفسي ... ومسلِكُ الحلمِ وعرُ
لَبَّيكَ يا مجدَ قومي ... لَبَّي نِداَءك حرُّ
دافعتُ دونَ فروقٍ ... قوماً رحلتُ وقرُّوا
سادُوا بها , فلكلٍّ ... نهيٌ عليها وأمرُ
ما كُنتُ أُغلَبٌ لولا ... قومٌ ثَبتُّ وفروُّا
ضاقَ المجالُ عليهِم ... ضيقاً , ولم يُغنِ كرُّ
وفي العيونِ ازوِرارٌ ... وفي الجوانحِ ذُعرُ
فبتُّ تِلقاءِ ليثٍ ... كأنَّما هو قَسْرُ
لهُ شَباةٌ وظِفرٌ ... ولي شَباةٌ وظفرُ
يعدو إِليَّ فأَعدو ... إليهِ؛ زَأرٌ فزأرُ
فَرِيعَ في البيدِ ذئبٌ ... وريعَ في الجوِّ نَسرُ
وظلَّتِ الحربُ بيني ... وبينهُ تستمِرُّ
فاضطُّرَّ للصُلح رُغماً ... ومَنْ بغي يُضطَّرُّ
واغتالني بعدُ غدراً ... وشيمةُ النذلِ غَدرُ
لا يَقصدوني بعُذرِ ... فما على الجبّنِ عُذرُ
بيني وبين الأعادي ... يومٌ , إذا طالَ عُمرُ
إِن عشتُ أَدركتُ وِتْري ... أو متُّ , فالوِتْرُ وِترُ
حتَّامَ أخفضُ قدري ... وما تَعالاهُ قدْرُ
إِن أُمسِ فيهم أَسيرتً ... قد يعتري الحرَّ أسرُ
رضيتُ سيواس داراً ... وما بسيواسَ شرُّ
جنَوا عليها , فأمستْ ... قد أَقفرتْ فهي قفرُ
فلا بها الروضُ خَصْبٌ ... ولا بِها الزَّهرُ نَضرُ
إِندَرسَت مُطرِباتي ... وأصبحت وهيَ دُثرُ
فليسَ لي ثمَّ نظمٌ ... وليسَ لي ثمَّ نثرُ
وكم بمصرَ أديبٌ ... يشدو فترقصُ مصرُ
لَهْفي على سانحاتٍ ... كأنَّما هيَ سحرُ
يقولُها قائلوها ... فيعتري الناسَ سكرُ
لؤلؤ الدمع
لا تذكريني , فإنَّ الذِكر يُرجعُ لي ... عاداتِ وجديَ في أياميَ الأُولِ
وعالجيني بيأسٍ منكِ ينفعُني ... أَلبرءُ باليأسِ يُنسي السُقمَ بالأَملِ(/)
طابَ التجافي فلا تأساكِ قسمتُهُ ... إذا مللتِ فما يُشكيكِ من مللي
لسائمِ الودِّ إِمَّا يَنصرمْ بدَلٌ ... منهُ , وليسَ لراعي الودِّ من بدَلِ
دعي لياليَّ , أوطاني تطالبُني ... بها فلا تشغلي نفسي بلا شُغُلِ
وكفكفي الدمعَ , هذا الدمعُ يفتنُني ... أشجى الشِكايات عندي أدمعُ المقَلِ
هي اللآلئُ تطفو في المحاجر لا ... تختارُ للسبحِ إِلاَّ موضعَ الكَحَلِ
لو لم أكنْ شاعراً أصبحتُ حاسدَها ... فلؤلؤُ الدمعِ منهُ لؤلؤُ الغزَلِ
وعشنا على بؤس. . .
لياليَّ , أبلي من هُمومي وجدّدِي ... لكِ الأمرُ , لا تَقوى على ردِّهِ يَدِي
فما أرتجي , والأربعونَ تَصرَّمت ... ولا عيشَ إِلاَّ ينتهي حيثُ يبتدي
سكَتُّ سكوتاً لا يَرِبْكِ امتدادُهُ ... فلا خاطري باقٍ ولا الشعِرُ مُسعدي
ولا فيَّ من رُوحِ الشَّبابِ بقيَّةٌ ... ولستُ بمشتاقٍ ولستُ بموجَدِ
حزنتُ على الماضي ضلالاً؛ ومنْ يَعشْ ... كما عشتُ لم يحزَنْ ولم يتجلَّدِ
وما ليَ منهُ خاطِرٌ , غيرَ أنني ... عدلتُ فلم أفتكْ ولم أتعبَّدِ
سقى الله داراتِ القرافةِ ديمةً ... ترفُّ على قومٍ هنالكَ هُجَّدِ
تعوَّدَ كلٌّ بؤسَها ونعيمَها ... وعشنا على بؤسٍ ولم نتعوََدِ
أحنُّ إلى تلك المراقدِ في الثرى ... ولو أَستطيعُ اليومَ لاخترتُ مرقدي
فأنزلتُ جسمي منزِلاً لا يملُّهُ ... يكونُ بعيداً عن أعادٍ وحُسَّدِ
وما يتمنّى الحرُّ في ظلّ عيشةٍ ... تمرُّ لأحرارٍ , وتحلو لأعبُدِ
لقد أتعبتني , والمتاعبُ جمَّةٌ ... مسيرةُ يومي بين أمسيَ والغدِ
ألمَّا يئنْ أن يستريحَ مجاهدٌ ... ألمَّا يئنْ أن يبلغَ المنهلَ الصَّدِي
تزهَّدتُ في وصلِ المعالي جميعِها ... ومن يَطَّلبِهْا كأطّلابيَ يزهدِ
وبتُّ , تساوت في فؤادي مناهِجٌ ... تُؤدّي لخفضٍ , أو تؤدّي لسؤدُدِ
وإِنيَ في بيتٍ صغيرٍ مهدَّمٍ ... كأنيَ في قصرٍ كبيرٍ مشيَّدِ
عفا اللهُ عن قومٍ أتانيَ غَدْرُهم ... فربُّ مُسيءٍ عن تعمُّدِ
وكم من نُفوسٍ يستطيلُ ضلالُها ... ولكن مَتى ما تُبصرِ النورَ تهتدِ
فزعتُ من الآمالِ باليأسِ عائِذاً ... فإِن تُدْنني منها اللُّباناتُ أبعُدِ
فلا ترتعي منّي بقلبٍ معذَّبٍ ... ولا تنجلي مني لطرفٍ مسهَّدِ
فياريحُ إِن يعصف بي الشجوُ سكّني ... ويا غيثُ إِن يُضرمْنيَ الوجدُ أخمدِ
ويا ساكناتِ الطيرِ في دولةِ الدُّجى ... أرى , إِن دعاكِ الصبحُ , أن لا تغرّدي
لديَّ شِكاياتٌ , وأنتِ شجيَّةٌ ... فإِن تستطيبيها لشجوِكِ أنشدي
ولا تحسبي التقليدَ يُذْهِبُ حسنَها ... فكم حسناتٍ قد أتت من مقلِّدِ
تركتُ الغنى لا عَاجزاً عن طِلابهِ ... وأنزلتُ نفسي من منازلِ محتدي
وهذي بحمدِ الله منّي براَءةٌ ... فيا أُفْقُ سجّلْها ويا أنجمُ اشهدي
ما كان
تنأى فتُدنيكَ آمالٌ مكذّبةٌ ... لم تُبقِ ذكراً ولا هيأتَ سلوانا
قد كان ما كان من قلبي ومن نظري ... يا ليتَ ما كان قبلَ اليوم ما كانا
الشاعر والليل والطيف
اللهَ في وجدٍ وفي مأملِ ... مَنْ لي بعَودِ الزمَنِ الأَوَّلِ
قد كنتُ أشكو عُذَّلي في الهوى ... فصرتُ مشتاقاً إلى عُذَّلي
ملِلتُ عذبَ اللومِ جهلاً بهِ ... لو كنتُ أدري الحُبَّ لم أمللِ(/)
ما أولعَ القلبَ بما يجتني ... وأفتنَ العَينَ بما تجتلي
أهفو لسُهدي , ليتَ لي مثلَهُ ... وليتني في لَيليَ الأَلْيَلِ
إِذْ أترثكُ الأَنجُمَ في أُفْقِها ... شوقاً إلى نبِراسيَ المُشعَلِ
وأُحكِمُ الكوَّةَ دونَ الصبّا ... وأُوصِدُ البابَ على الشَمألِ
وأعتلي كرسيَّ مستكبراً ... كالمَلْكِ فوقَ العرش إِذ يعتلي
سيجارتي مشعَلةٌ في فمي ... والطرسُ محمولٌ على أنْمُلي
وقهوتي إِبريقُها مُتْرَعٌ ... إذا أنا أفرغتُهُ يمتلي
في حُجرةٍ كالقلبِ في ضيِقها ... لو حُمّلتْ غيريَ لم تحملِ
تَسمعُ منّي في سكونِ الدُّجى ... ما يَسمعُ الروضُ من البُلبلِ
لهُ يَطيبُ اللّبْثُ في عشّهِ ... ولي يطيبُ اللَّبثُ في منزِلي
إِنَّا اقتسمنا الليلَ ما بيننا ... لهُ الكرى في الليلِ والسهدُ لي
كُتْبي تُناجيني فتمشي بها ... عينايَ من شكلٍ إلى مشكلِ
ما بين أوراقٍ بها غَضَّةٍ ... وبينَ أوراقٍ بها ذُبَّلِ
يا خَلَواتِ الوحيِ في تيهِهِ ... ملأتِ قلبَ الشاعرِ المختلي
سوانحي منكِ وفيكِ انجلت ... فأنزِلي الآياتِ لي أنزِلي
يا طَيفَها , لا ترتجعْ معجَلاً ... لا تُقْنعُ الزّورةُ من مُعجَلِ
إِنيَ وحدي , حُجرتي مأمنٌ ... فا أْنَسْ إلى صّبَكَ , لا تُجفلِ
أُدنُ قليلاً , قد أطلتَ النوى ... جُدْ مرَّةً , باللهِ لا تبخُلِ
لو لم تكن تشتاقُني نفسُها ... يا طيفَها ما كُنتَ بالمُقبلِ
عيناكَ عيناها , كذا كانَتا ... والوجهُ ذاك الوجهُ , لم يُبدَلِ
أعرفُ لحظَيها برُغمِ النوى ... فكَمْ أصابا قبلَ ذا مقتلي
جسّي بهذا الكفِّ صدري ترَيْ ... ما فيهِ من نارِ جوىً موغلِ
أظلَّني همٌّ فلم أنتبهْ ... إلاَّ وقد أوغلتُ في المجهلِ
إِن كان هذا ما دعوهُ الهوى ... فمثلُ هذا الليلِ لا ينجلي
يا مهجتي , يا جَلَدِي , يا صبي ... إِن لم أمُتْ وجداً فلا بُدَّ لي
نظرة
نظرتُ إِليها نظرةً فتأثَّرتْ ... وبانَ على الخدَّين من نظرتي أثَرْ
ولمَّا تراَءى الوجدُ بيني وبينها ... مددتُ له ستراً من الرأيِ فاستترْ
وقد كِدتُ أنسى كَبرتي فادَّ كرتُها ... وراجعتُ نفسي أن يُراجِعَها الصِّغَرْ
تضنُّ بها النُعمى , وتبذلُها المُنى ... وتنأى بها السلوى , وتدنو بها الفِكَرْ
فيجذبُني وجدي , وتدفعني النُّهى ... ويُنهضُني شوقي , ويُقعدُني الكِبَرْ
أرى في دياراتِ الأحبَّةِ أوجُهاً ... فأطلبُ إِغضاءً , فيسبقُني النظرْ
ويُلمُّ بها يَشتارُ منها محاسناً ... كذا النحلُ يشتارُ العسولَ من الزَّهَرْ
وكم ليَ في الألحاظِ سرّاً مُكتَّماً ... ينمُّ عليهِ اثنانِ: شِعريَ والحوَرْ
مضى زمنُ اللهوِ الذي لستُ ساخطاً ... على ما مضى منهُ , وذا زمنُ الِعبَرْ
فأسكتَني ما أسكت الوُرقَ في الدُّجى ... وأنطقَني ما أنطقَ الوُرْقَ في السحَرْ
كِلانا لهُ , إِن ردَّد النوحَ , سامعٌ ... فتسمُعني كُتْبي ويسمعُها الشجَرْ
تمنَّت قلوبٌ أن أكونَ دخلتُها ... ولا غروَ , لكنْ آفةُ الوِرْدِ في الصَدَرْ
أنتِ والدَّهرُ
أسيَدتي , لا الدَّهرُ يُسعِفُ مطلبي ... ولا أنتِ , إِنّي حِرْتُ بينكما جدّاً
إِذا رمتُ شيئاً , جئْتماني بضدِّهِ ... لقد صِرْتِ لي ضِدّاً وقد صار لي ضدَّا(/)
سألْتُكِ ودّاً فاسْتطبتِ ليَ الجفا ... وأمَّلْتُ قُرباً , فارتضى الدَّهرُ لي البُعدا
تشابهتُما جَوْراً وغدراً وقوَّةً ... فصيّرتهِ نِدّاً , ولم تقبلي نِدَّا
فلا تحرماني لَذَّةً من تألّمٍ ... ولا تسلباني الوجدَ , لن أسلوَ الوجدا
خذا جسدي والروحَ فاقتسماهما ... ولكنْ دعالي وحدَهُ ذلك الكبْدا
حفظتُ بهِ عهداً وأَخشى ضياعَهُ ... وإنّي لأُبقي الكبدَ كي أُبقيَ العهدا
نفسٌ مكرَّمة ونفس تزوري
غيّرتِ عهدَكِ في الهوى فتَغيَّرا ... ملَكَ الهوى قلبي وقلبُكِ ما درى
كُوني كما أنا في الغَرامِ وفيَّةً ... لا تهجريني , ما خُلقِتُ لأُهجَرا
أَصبحتُ فيكِ من الوُلوعِ بغايةٍ ... إِن زدتِ حسناً لا أزيدُ تحيُّرَا
بلَغَ المدَى بي كلَّ شيءٍ في الهوى ... فإذا أردتُ زيادةً لن أقدرَا
يسمو بكِ الحسنُ المُدِلُّ إلى السَّما ... ويَمُتُّ بي الجِدُّ المذلُّ إلى الثرى
مَاذا التخالُفُ في المحبَّةِ بيننا ... نفسٌ مكرَّمةٌ ونفسٌ تُزدرى
ينفكُّ عمري في الهوى متقدِّماً ... ويظلُّ سَبقي في الهوى متأخِرا
وأكادُ أحسَبُ في غَرامِكِ شقوتي ... لو كان يُسعَدُ عاشقٌ بين الورى
عندي حديثٌ إِن أردتِ ذكرتُهُ ... مَنْ لي بأن تُصغي إليَّ وأذكُرَا
عصفت بهِ ريحُ الملامةِ موهناً ... فجرى على وجهِ العذولِ وغَيَّرَا
لا تُنكري نَظَراتِ عيني خلْسةً ... اللهُ قد خلقَ العيونَ لتنظرا
وقفَتْ عليكِ فما انثنت عن منظرٍ ... فُتنتْ بهِ إِلاَّ لتطلبَ منظَرا
أرسلتِ طيفَكِ في المنامِ يزورُني ... فدَنا وولَّى وهو يعثُرُ بالكرى
لم يُبقِ من أثرٍ سوى تبسامةٍ ... خطرُتْ على نفسِ الهوى فتأثَّرا
أتبعتُهُ أملي فأقصرَ دونَهُ ... ولوِ استمدَّ بلفتةٍ ما أقصَرا
لا يعذلوني في غَرامِكِ ضِلَّةً ... من هامَ فيكِ فحقُّهُ أن يُعذَرا
رقَّتْ حواشي الرَّوعِ فيكِ صبابةً ... ونَهى النُهى عنكِ الفؤادَ فأعذَرا
قلبي يحسُّ وهذهِ عيني تَرى ... مَا حِيلتي في مَا يحسُّ ومَا يرى
إِن تصبري عنّي فقلبُكِ هكذا ... أمَّا أنا فأخافُ أن لا أصبِرا
شاعرة تهاجرُ شاعراً
تمسين ناسيةً , وأُمسي ذاكرا , ... عجباً! أشاعِرةٌ تُهاجِرُ شاعرا
فهل الملائكُ كالحسانِ هواجرٌ؟ ... إِنَّ الملائكَ لا تكونُ هواجرا
إِن كنتُ لا أسعى لدارِكِ زائراً ... فلكم سعى فكري لدارِكِ زائرا
وأخو الوفاءِ يَصونُ منهُ غائباً ... أضعافَ ما قد صانَ منهُ حاضِرا
يُصيبكِ طيرُ الروضِ في ترجيعهِ ... يا ليتني في الروضِ أُصبحُ طائراً
ويهزُّ منكِ الزَّهرُ في زَفَراتهِ ... نفساً تظلُّ لها النفوسُ زوافرا
قد عشتِ دهرَكِ بالمحاسنِ سبه ... وقضيتُ دهريَ بالمحاسنِ حائرا
إِنَّا اقتسمنا السحرَ فيما بيننا ... للهِ ساحرةٌ تُساجِلُ ساحرا
لابدَّ في هذي الحياةِ من الهوى ... إِنَّ الهوى يهبُ الحياةَ نواظرا
ولقد تهبُّ عليهِ يوماً سلوةٌ ... فتُنيمُ ساهرةً وتتركُ ساهِرا
يا ويحَ ذي قلبٍ يُناجي مثلَهُ ... يدعوهُ مُؤنسَهُ فيبقى نافرا
قلبانِ: ذو صبرٍ يُعاني هاجِراً ... أو هاجرٌ ظلماً يُعَذِّبُ صابرا
متوافقانِ على الشِكايةِ في الهوى ... كم جائرٍ في الحبّ يشكو جائرا(/)
إِن كان قلبيَ في التصبُّرِ مذنباً ... فليُمسِ قلبُكِ في التصبُّرِ عاذِرا
سيعودُ ذاك الودُّ أبيضَ ناصعاً ... ويصيرُ هذا العهدُ أخضرَ ناضرا
إذا ذهب الربيع
أطلتِ تدلُّلاً وأطلتُ صبراً ... كِلانا باذِلٌ ما يستطيعُ
لقد أودعتِ قلبَكِ ما بقلبي ... فضاعَ وكنتُ أحسَبُ لا يَضيعُ
رددتِ تضرُّعي ورددتِ دمعي ... فليسَ يُجابُ عندَكِ لي شفيعُ
فيا ويلاهُ من قلبٍ عَصيٍّ ... يذوبُ بحبّهِ قلبٌ مُطيعُ
ويا لَهفي على أمَلِ مُباحٍ ... يدافِعُ دونَهُ يأسٌ منيعُ
ويا حَزني على هذي الأغاني ... أردِّدُها وليسَ لها سميعُ
أَسيّدتي الرفيعةَ , إِنَّ روحي ... يقرّبُها إِليكِ هوىً رفيعُ
وأيَّامُ الصفاءِ وإِن توانت ... يُطارِدُ ركبَها نأيٌ سريعُ
إذا ذَهبَ الربيعُ ولم أُمتَّعْ ... بنُضرَتِه فلا عادَ الربيعُ
الفتاة العمياء
أنشدتها فتاة عمياء في حفلة مدرسة الحياة الجديدة للبنات الكفيفات في مصر
سادتي , إِنَّ في الوجودِ نفوساً ... ظلَمتْها الأقدارُ ظُلماً شديدا
هيَ تشقي من غيرِ ذنبٍ جَنَتْهُ ... ولَكم مذنبٍ يعيشُ سعيدَا
رحِمَ اللهُ أعيُناً لم تشاهِدْ ... منذُ كانت إِلاَّ لياليَ سُودَا
تتمنَّى لو فُتِّحتْ فَتَملَّتْ ... من جمالِ الوجودِ هذا الشُهودَا
تَتناجي حمائِمُ الروضِ صُبحاً ... لا نراها , ونَسمعُ التغريدا
ويكونُ الربيعُ منَّا قريباً ... فنظنُّ الربيعَ منَّا بعيدَا
حينَ ترنو إلى الوُرودِ عيونٌ ... ليت شعري كم تستطيبُ الورودا
أبويَّ اللَّذينِ أوجدتماني ... أتُريدانِ شقوتي؟ لن تُريدا
عشتما في ظلالِ شملٍ جميعٍ ... أنا وحدي وجدتُ شملي بديدا
وإذا كنتُ قد وُلدتُ فقيداً ... ليتني كنتُ قد فُقدتُ وليدا
سادتي , إِنَّنا صَبرنا امتثالاً ... ما ضجرنا ولا شكونا الجدُودا
فانظروا نَظرةَ الكرامِ إلينا ... وارحمُوا أدمعاً تخذُّ الخدُودا
الملك المظلوم
مكانكَ الأفقُ فما أنزَلَكْ ... بُدّلتَ عنهُ الأرضَ أمْ بَدَّلكْ؟
يا مَلَكَ اللهِ أيرضي المَلَكْ ... مُلكَ الثرى من بَعد مُلكِ الفَلكْ؟
كلاَّ! فَلنْ تألَفَ هذا الأنامْ ... خُلِقتَ من نورٍ وهُمْ مِن ظلامْ
أينَ جِناحاكَ؟ متى فارقاكْ؟ ... قد سَقَطا في الأرض أم في السِّماكْ؟
لو صَدَقاكَ الوِدَّ ما زايلاكْ ... بل صَعدا للأُفْقِ واستصحباكْ
إِنكَ لَلأَوْلى بذاكَ المَقامْ ... مِثلُكَ لا يهنأُ فوقَ الرُّغامْ
مَنْ عَندنا يفهمْ هذا الجَمال؟ ... أيُّ امريءٍ يهوى صفاتِ الكمال؟
أنتَ خيالُ الحُبِّ نِعمَ الخيالْ! ... حَذَارِ! لا تدخلْ قلوبَ الرّجالْ
تِلكَ قلوبٌ دَهرَها في اضطرامْ ... كأنَّها مُوقَدَةٌ بالأثامْ
إِنْ تُؤْتَ خيراً بينهم يحسدوكْ ... وإِن تَجُدْ بالفضلِ لا يَحمَدُوكْ
دانَيْتَهم لكنَّهم أبعدُوكْ ... لوْ صرتَ رَبَّ القوْمِ لم يَعبَدُوكْ
أُفٍّ لِخلْقٍ ليسَ فيهِ كِرامْ ... هلْ كرَمٌ يسكنُ هذي العِظامْ
تَبقى لياليكَ , وتفنى المنى ... بين الهمومِ الكُثْرِ , بينَ الضنى
وَيلي! فكم تحملُ هذا العنا ... كَمْ تشتكي أنتَ وأبكي أنا!
قدْ نَفّدَ الدَّمعُ فهلْ للغَمامْ ... كمدمعي إِن زادَ فيهِ الهيامْ؟(/)
تَفتِنُ لكنْ لستَ تدْري الفِتَنْ ... كذاكَ يُؤْذي كلُّ شيءٍ حَسنْ
بهذهِ الروحِ وهذا البدَنْ ... تَلقي مِنَ الناسِ سِهامَ الضَّغنْ
لله ما أظلمَ تِلك السهامْ! ... ألم تُصِبْ غيرَ فؤادِ الغرامْ؟
تغفرُ جُرْمَ الناسِ إِنْ أجرَموا ... وتحملُ الظُّلمَ ولا تظْلمُ
قد غنِموا منكَ , ولا تغنَمُ ... منهم , ولو تَعْلَمُ ما أعْلَم
خاصمَتهم عَذلاً , وإِنَّ الخُصامْ ... أعْدَلُ ما يحبو الكرامُ اللئامْ
أبكيكَ أمْ أَرثيكَ؟ هلْ نافعُ ... دَمعٌ ونَوْحٌ والقَضا واقعُ؟
هذا شقاءٌ ما لهُ دافِعُ ... اسمعْ فإِنَّ اللهَ لي سامعُ
قُلْ: أيُّها الأرضُ عليكِ السَّلامُ ... تحيَّةٌ بالدَّمعِ لا بالكلامْ
حافظ بك إبراهيم
يقول الشعر , في كل مكان يتفق له فيه أن يخلو بنفسه , ومن عادته دخول حديقة الأزبكية بعد الظهر طلبا لتلك الخلوة , ولا يختلط عليه الفكر خلال الضجيج المحيط به. يتعب في قرض قريضه تعب النحات الماهر في استخراج مثال جميل من حجره يؤثر الجزالة على الرقة وله فيها آت يطرق الموضوع في الغالب من جوهره وربما نظم أكثر الأبيات قبل المطلع شأن الصانع القدير الذي يبدأ بأصعب مت بين يديه آمنا أن تهن عزيمته دون الإجادة بعد ذلك عالماً أن الكلام لابدّ أن تأتيه في أي مقام طيعاً ولو بعد حين.
حاضر المحفوظ من أفصح أساليب العرب ينسج على منوالها ويتخير نفائس مفرداتها وأعلاق حلالها.
إذا صبّ البيت في قالب من العروض أعاده نغماً على سمعه مستشيراً بذلك ذوقه عن طريق إذنه وطالما صدقته الآذن بنصيحتها. أما تغنيه فبدوي أخذه عن الشيخ عبد المحسن الكاظمي وطريقته أن ينطق بالكلمات ملحنة تلحيناً ساذجاً من إطالة في الحروف المعتلة
ووجفة في القرار كرة أربعة أنفاس وتقتضب. له غرام باللفظ لا يقل عن الغرام بالمعنى. وفي أقصى ضميره يؤثر البيت المجاد لفظاً على المجاد معنى. فإذا فاته الابتكار حيناً في القصور لم يفته الابتكار حيناً في التصوير. أولع بالاجتماعيات فقال فيها وأجاد ما شاء.
كبير الآمال عاثر الجد تجد على أكثر منظومه أثراً من ألم النفس أو مسحة من الشكوى وتحمل بعض حروفه من بثه ما يلذع لذع النار الكامنة في غير متقد. فهو على الجملة أحد الثلاثة الذين هم نجوم الأدب العربي في مصر لهذا العصر ولكل من تلك النجوم منزلته وإضاءته وأثره الخالد.
أما شعره فشعر البيان وإن من البيان لسحراً
خليل مطران
الأم مدرسة
كم ذا يُكابدُ عاشقٌ ويُلاقي ... في حبِّ مصرَ كثيرةِ العشَّاقِ
إِني لأحملُ في هواكِ صبابةً ... يا مصرُ , قد خرجت عن الأطواقِ
لهفي عليكِ! متى أراكِ طليقةً ... يحمي كريمَ حماكِ شعبٌ راقِ
كلِفٌ بمحمودِ الخِلالِ , متيَّمٌ ... بالبذلِ بين يديكِ والإِنفاقِ
إِني لتُطربني الخِلالُ كريمةً ... طرَبَ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقِ
ويهزُّني ذكرُ المروَءةِ والندى ... بين الشمائلِ هزَّةَ المشتاقِ
ما البابليَّةُ في صفاءِ مزاجها ... والشربُ بين تنافسٍ وسباقِ
والشمسُ تبدو في الكؤوسِ وتختفي ... والبدرُ يشرقُ من جبين الساقي
بألذَّ من خُلُقٍ كريمٍ طاهرٍ ... قد مازجتهُ سلامةُ الأذواقِ(/)
فإذا رُزِقتَ خليفةً محمودةً ... فقدِ اصطفاكَ مُقسّمُ الأرزاقِ
فالناسُ هذا حظُّهُ مالٌ , وذا ... علمٌ , وذاك مكارمُ الأخلاقِ
والمالُ , إِن لم تَدَّخِرْهُ محصنَّاً ... بالعلم , كان نهاية الإِملاقِ
والعلمُ , إن لم تكتنفْهُ شمائلٌ ... تُعليهِ كان مطيَّةَ الإِخفاقِ
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَهُ ... ما لم يتوَّجْ ربُّهُ بخلاقِ
كم عالمٍ مدَّ العلومَ حبائلاً ... لوقيعةٍ وقطيعةٍ وفراقِ
وفقيهِ قومٍ ظلَّ يرصدُ فقهَهُ ... لمكيدةٍ أو مستَحلِّ طلاقِ
يمشي , وقد نُصبتْ عليهِ عمامةٌ ... كالبرج لكن فوق تلِّ نفاقِ
يدعونهُ عند الشقاقِ , ومادَرَوا ... أنَّ الذي يدعونَ حلفُ شقاقِ
وطبيبِ قومٍ قد أحلَّ لطبّهِ ... ما لا تُحِلُّ شريعةُ الخلاّقِ
قتلُ الأَجنَّةِ في البطونِ , وتارةً ... جمعُ الدوانقِ من دمٍ مهراقِ
أغلى وأثمنُ من تجاربِ علمهِ ... يومَ الفخارِ تجاربُ الحلاقِ
ومهندسٍ للنيل باتَ بكفِّهِ ... مفتاحُ رزق العامل المطراقِ
متعنّتٍ تندى وتيبسُ كفُّهُ ... بالماءِ طوعَ الأصفر البرَّاقِ
لا شيَء يلوي عن هواهُ , فحدُّهُ ... في السلب حدُّ الخائن السرَّاقِ
وأديبِ قومٍ تستحقُّ يمينهُ ... قطعَ الأناملِ أو لظى الإِحراقِ
يلهو ويلعبُ بالعقولِ بيانُهُ ... فكأَنَّهُ في السحر رقيةُ راقِ
في كفّهِ قلمٌ يمجُّ لعابهُ ... سُمّاً وينفثُهُ على الأوراقِ
يَرِدُ الحقائقَ وهي بيضٌ نُصَّعٌ ... قدسيةٌ علويَّةُ الإِشراقِ
فَيردُّها سوداً على جنَبَاتها ... من ظلمةِ التمويهِ إِلفَ نطاقِ
عَرِيتْ عن الخلق المطهَّرِ نفسُهُ ... فحياتهُ ثقلٌ على الأعناقِ
مَنْ لي بتربية النساءِ فإِنَّها ... في الشرق علَّةُ ذلك الإِخفاقِ
الأُمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها ... أَعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ
الأُمَّ روضٍ , إِن تعهَّدَهُ الحيا ... بالريّ , أورقَ أيَّما إِيراقِ
الأُمَّ أُستاذُ الأساتذةِ الأُلى ... شغلت مآثرهم مدى الآفاقِ
أنا لا أقولُ: دعوا النساءِ سوافراً ... بين الرجالِ يجُلنَ في الأسواقِ
يدرُجْنَ حيث أردنَ , لا مِن وازعٍ ... يحذرنَ رقبتَهُ , ولا من واقِ
يفعلنَ أفعالَ الرجالِ لواهياً ... عن واجباتِ نواعسِ الأحداقِ
في دُورِهنّ شؤونُهنَّ كثيرةٌ ... كشؤون ربّ السيفِ والمزراقِ
كلاَّ , ولا أدعوكُم أن تُسرِفوا ... في الحُجْبِ والتضييق والإِرهاقِ
ليستْ نساؤُكُمُ حليً وجواهراً ... خَوف الضياع تُصانُ في الأحقاقِ
ليستْ نساؤُكُمُ أثاثاً يُقتنى ... في الدُّورِ بين مخادعٍ وطباقِ
تتشكَّلُ الأزمانُ في أدوارِها ... دُوَلاً , وهنَّ على الجمود بواقِ
فتوسَّطوا في الحالتَين , وأَنصفوا ... فالشرُّ في التقييد والإِطلاقِ
ربُّوا البناتِ على الفضيلةِ , إِنَّها ... في الموقفَين لهنَّ خيرُ وثاقِ
وعليكمُ أن تستبينَ بناتُكم ... نورَ الهدى وعلى الحياءِ الباقي
خيبة الأمل
وخَيَّبَ آمالي وُقوفُك دونَها ... وأنَّكَ عندَ الظالمينَ مكينُ
يسرُّكَ أني نائمُ الجدِّ عاثرٌ ... ويُرضيكَ أنّي للخطوبِ ألينُ
لِيَهْنِكَ ما بي من أسىً وخصاصةٍ ... وتقليبيَ الكفَّيْنِ حيثُ أكونُ(/)
شكوى المتيم
كم تحتَ أذيالِ الظَّلامِ مُتَيَّمُ ... دامي الفؤادِ وليلُهُ لا يَعلَمُ
ما أنتَ في دُنياكَ أوَّلُ عاشقٍ ... راميهِ لا يحنو ولا يَترحَّمُ
أهْرمتَني يا لَيلُ في شرخِ الصِّبي ... كم فيكَ ساعاتٌ تُشيبُ وتُهرِمُ
لا أنتَ تُقصِرُ لي ولا أنا مُقصِرٌ ... أتعبتَني وتعبتَ , هل من يحكمُ؟
لله موِقفُنا وقد ناجيتُها ... بعظيم ما يخفي الفؤادُ ويكتمُ
قالت مَنِ الشاكي؟ تسائلُ سِرْبَها ... عنّي - ومَن هذا الذي يتظلَّمُ؟
فأجبنها وعجبنَ كيفَ تجاهلتْ ... هوَ ذلكَ المتوجّعُ المتألِّمُ
أنا مَن عَرفتِ ومَن جهلتِ ومَن لهُ ... لولا عيونُكِ حُجَّةٌ لا تُفحَمُ
أسلمتُ نفسي للهوى وأظنَّها ... ممَّا يُجشِّمُها الهوى لا تَسلَمُ
وأتيتُ يحدو بي الرجاءُ ومَن أتى ... متحرِّماً بفنائِكم لا يُحرَمُ
أشكو لذاتِ الخالِ ما صنعت بنا ... تلك العيونُ وما جناهُ المِعصَمُ
لا السهم يرفُقُ بالجريحِ , ولا الهوى ... يُبقي عليهِ , ولا الصبَابةُ تَرحَمُ
لو تَنظُرينَ إليهِ في جَوفِ الدُّجى ... مُتملمِلاً من هولِ ما يتجشَّمُ
يَمشي إلى كنفِ الفراش محاذراً ... وَجلاً يؤخّر رجلَهُ ويقدِّمُ
يَرمي الفراشَ بناظرَيهِ , ويَنثني ... جَزَعاً , ويُقدمُ بعدَ ذاك ويُحجمُ
فكأَنَّهُ واليأسُ ينسفُ نفسَهُ ... للقتلِ فوقَ فراشِه يَتقدَّمُ
رُشفت بهِ في كلّ جَنبٍ مديةٌ ... وانسابَ فيهِ بكلِّ رُكنٍ أرقَمُ
فكأَنَّهُ في هَولهِ وسَعيرهِ ... وادٍ قَدِ اطَّلعَتْ عليه جهنَّمُ
هذا وَحقِّكِ بعضْ ما كابدتُهُ ... من ناظرَيكِ , وما كتمتُكِ أعظمُ
قالت: أهذا أنتَ؟ ويُحكَ فاتَّئِذ ... حتى مَ تُنجِدُ في الغَرامِ وتُتِهمُ
كم نَفثةٍ لك تَستَثيرُ بها الهوى ... هاروتُ في أُثنائِها يَتكلَّمُ
إِنَّا سَمعنَا عنكَ ما قد رابنَا ... وأطالَ فيكَ وفي هواكَ اللُّوَّمُ
فاذهبْ بسحرِك قد عرفتُكَ واقنصِدْ ... فيما تُزيِّنُ للحسانِ وتُوهمُ
أصغت إلى قولِ الوشاةِ فأسرَفت ... في هجرها , وجنَت عليَّ , وأجرموا
حتَّى إذا يَئِس الطبيبُ وجاَءها ... أنّي تَلِفتُ تَندَّمتْ وتندَّموا
وأتت تعودُ مريضَها لا بل أتت ... منّي تُشيِّعُ راحلاً لو تَعلمُ
لوعة وأنين
أنا في يأسٍ وهمٍّ وأسىٍ ... حاضرُ اللَّوعةِ موصولُ الأَنينْ
مُشتهينٌ بالذي لاقيتُهُ ... وهو لا يدري بماذا يَستهينْ
سُوَرٌ عندي لهُ مكتوبةٌ ... وَدَّ لو يسري بها الرُّوحُ الأَمينْ
إِنني لا آمنُ الرُّسلَ , ولا ... آمنُ الكُتْبَ على ما يحتوينْ
لا فتى إلاَّ على
رثاء المرحوم علي باشا أبو الفتوح وكيل نظارة المعارف
جَلَّ الأسى فتجمَّلي ... وإذا أبَيْتِ فأَجْمِلي
يا مصرُ قد أودى فتا ... كِ ولا فتىً إِلاَّ علي
قد مات نابغةُ القضا ... ءِ وغابَ بدرُ المحفلِ
وعدا القضاءُ على القضا ... ءِ فصابَهُ في المقتلِ
حلاَّلُ عقدِ المعضلا ... تِ قَضَى بداءٍ مُعضِلِ
ويحَ الكنانةِ ما لها ... في غمرةٍ لا تنجلي
باتت وكارثةٌ تم ... رُّ بها وكارثةٌ تلي
يا زَهرةَ الماضي ويا ... ريحانةَ المستقبَلِ
كنَّا نُعِدُّك للشدا ... ئدِ في الزمانِ المُقبلِ
يا لابسَ الخُلق الكري ... م المطمئنّ الأمثلِ(/)
فارقتنا في حينِ حا ... جتِنا ولم تتمهَّلِ
يا رامياً صدرَ الصع ... ابِ رماك رامي ألجدلِ
يا حافظاً غَيبَ الصدي ... قِ ويا كريمَ المِقوَلِ
أيُّ المحامِدِ غَضَّةً ... بحلاكَ لم تتجمَّلِ
تلهو لداتُكَ بالصِّبي ... لهواً وأنت بمعزلِ
تسعى وراَء الباقيا ... تِ الصالحاتِ وتغتلي
بين المحابرِ والدفا ... ترِ دائباً لا تأتلي
أدركتَ علم الاخري ... ن وحزْتَ فضلَ الأوَّلِ
أدنى مرامك همَّةٌ ... فوقَ السماكِ الأعزلِ
وأجلُّ قصدكِ أن ترى ... مصراً تسودُ وتعتلي
دَرَجَ الأحبَّة بعد ما ... تركوا الأسى والحزنَ لي
لم يحلُ لي من بعدهم ... عيشٌ ولم أتعلَّلِ
لي كلَّ عام وقفةٌ ... حرَّى على مترحِّلِ
أبكي بكاَء الثاكلا ... تِ وأصطلي ما أصطلي
لم يبقَ في يوم الفقي ... دِ عزيمةٌ لم تفللِ
يومٌ عبوسٌ قد مضى ... بفتىً أغرَّ محجَّلِ
من لم يشاهدْ هولَهُ ... عند القضاءِ المنزَلِ
لم يدرِ ما قَصْمُ الظهو ... رِ ولا انخذالُ المِفصلِ
يا قبرُ ويحك ما صنع ... تَ بوجهِهِ المتهلّلِ
عبَّسْتَ منهُ نضارةً ... كانتْ رياضَ المجتلي
وعبثتَ منهُ بطرَّةٍ ... سوداَء لمَّا تنصُلِ
يا قبرُ هل لَعِبَ البِلى ... بلطافِ تلك الأنمُلِ
لهفي عليها في الطرو ... س تسيلُ سيلَ الجدولِ
لهفي عليها في الجدا ... لِ تحلُّ عقدَ المشكل
لهفي عليها للرحا ... ءِ وللعُفاةِ السؤلِ
يا قبرُ ضيفُك بيننا ... قد كانَ خيرَ مؤمَّلِ
لم ينقبضْ كبراً بنا ... ديهِ ولم يتبذَّلِ
إني حللتُ رحابَهُ ... فنزلت أكرمَ منزلِ
ونهلتُ من أخلاقِهِ ... فوردتُ أعذبَ منهلِ
فؤاد حافظ
يا خَافِقاً قُلْ لي متَى تسكُنُ؟ ... للهِ! ما تُخفي ومَا تُعلِنُ
يا ليتَ شعري عنكَ في أضلُعِي ... ماذا تُقاسي أيُّها المُثْخَنُ؟
وما الذي أبقاهُ مِنْ مهجتي ... ومِنْ يأتي داؤكَ المُزمِنُ
يا ثَغرَهُ , من ذا الذي يحتسي ... بَردَ ثناياكَ ولا يُؤْمِنُ
يا قَدَّهُ , هذي قلوبُ الورى ... معروضةٌ , طوبى لمن تَطْعَنُ
يا لحظَهُ مُرْنا بما تَشتهي ... كلُّ مُحالٍ في الهوى مُمكنُ
داود بك همون
شاعر مقلّ , ولكنّ قليله رفعه إلى منزلة قصر عنها كثيرون من المكثرين ويمتاز نظمه بمتانة السبك وفخامته , وسمو المعني وجدته , ويدل دلالة واضحة على توقد ذهن وشدة عارضة وعزة نفس , أما نفَسه فجاهلي عصري معاً.
الملك والشعب
عَذيرِي مِن خُلُقٍ باسِلِِ ... أحدَّ وأَمضى منَ الذَّابِلِ
صَليبٍ على القسرِ , لا يلتوي ... إِذَا غَمزتْهُ يَدُ الناقِلِ
إِذا شاقَني الأمرُ صعبُ المنالِ ... مَضيتُ ولو أَنهُ قاتلي
وإِن حالَ مِن دونِه حائِلٌ ... مَشَتْ أخمَصايَ على الحائِلِ
حَديدُ قُوى النفسِ , ذو همَّةٍ ... تَضايَقُ في جَسَدِ ناحِلِ
وأَورَثَنيها فتىً أَمثلُ ... وأُورِثُها لفتىً ماثِلِ
بلوتُ الزّمانِ وأهلَ الزَّمانِ ... فَخُذ رأي مختَبِرٍ عاقِلِ
رأَيتُ الملوكَ إذا أُطلِقُوا ... أضرَّ منَ الجارِفِ الغائِلِ
نُفوسُ الرعايا , وأعراضُها ... وأرزاقُها , أَكلةُ الآكِلِ
وُعودُهمُ بَرقُها خُلَّبٌ ... وأقسامُهم ضحْكَةُ الهازلِ
ولو عَقلُوا قيَّدُوا نفسَهم ... ومَنْ لكَ بالمطلَقِ العاقِلِ(/)
فتلكَ القيودُ ضمانُ العُروشِ ... تُوطِّدُها في المَدَى القابِلِ
حقوقُ الملوك بتقديسها ... دعاوى على الحقِّ للباطِلِ
همُ الأُجَراءُ وإن تُوِّجُوا ... عليهم لنَا عَمَلُ العامِلِ
وما ميَّزَ اللهُ أشخاصَهم ... بشيءٍ ولكن رضَي الخامِلِ
بني الشَّرقِ , هبُّوا فقد طَالما ... زحفتُمُ في الدَّرَكِ السافِلِ
إلى مَ تنامُونَ عن حقِّكم ... وتعبثُ فيكم يَدُ العامِلِ
ويظلُمكُمُ رَجُلٌ واحِدٌ ... = وأنتم عِدَادُ الدُّبي النازِلِ
فدونَكُم العلمَ فهوَ المحرِّ ... رٌ , والرِّقُ لازمَةُ الجاهِلِ
وخَلُّوا الدِّياناتِ طيِّ القلوب ... وكونوا عن الخُلْفِ في شاغِلِ
ألم تَنظروها غدَتْ آلةً ... لتفريقِ جمعِكُمُ الحافلِ
ولا تَرهبُوا الموتَ , فالموتُ لا ... يُؤَخّرُهُ وَجَلُ الواجلِ
حنين إلى لبنان
هَاجَ أشواقي إِلى الدِّمَنِ ... طائِرٌ غنَّى على فَنَنِ
إِيهِ يا قُمريُّ , إِنَّ بِنَا ... فوقَ ما يُبكيكَ من شَجَنِ
ولَوَ أنَّ الدمعَ مُنطَلِقٌ ... لهمَى كالعارِضِ الهَتِنِ
إِنَّما بالرُّغمِ أحبسُهُ ... خشيةَ التَلوامِ واللَّسنِ
حبَّذا المصطافُ في جَبلٍ ... ينطَحُ الجوزاَء بالقنَنِ
موئلِ الأحرارِ من قِدَمٍ ... وأُباةِ الضيمِ من زَمَنِ
ليسَ لبنانٌ لمكتَسحٍ ... بضعيفِ العزمِ مُمتَهنِ
سَلْ ملوكَ الرُّومِ كيفَ غداً ... عرشُهم مستوهنَ الرُّكُنِ
علَّمَ الأهلونَ جيشَهمُ ... فنَّ نظمِ النحرِ باللدِنِ
فبنُو لبنانَ أُسْدُ وَغىً ... أُطلِقَتْ فيهم يَدُ المِحَنِ
واختلافُ الدّينِ أورَثَهم ... عِلَلَ الأَحقادِ والإِحَنِ
ليتَ ذا عَزمٍ يضمُّهمُ ... ضّمَّةَ الأعضاءِ في البَدَنِ
فيُعيِدُوا السَّابقاتِ مِنَ المج ... دِ والعلياءِ للوطنِ
يا بني أُمّي , إذا حَضرَت ... ساعتي والطبُّ أَسلمَني
إِجعلوا في الأرزِ مقبرَتي ... وخّذوا من ثلجِهِ كفَني
يوم فلادمير
نظمت إبان الحرب الروسية اليابانية
لا تلوموا تلك السّيوفَ الدَّوامي ... جَلَتِ الشكَّ عن عُقولِ الأنامِ
علَّمْتَهُم أن لا حياةَ لشعبٍ ... رازحٍ تحتَ مطلَقِ الأحكامِ
أيُّ نصفٍ ترجون من حاكمٍ يح ... سبُ هذي الرقابَ كالأَنعامِ
وَرِثَ المُلكَ بالرّجالِ , وبالما ... ل , كأنَّ الرجالَ بغضُ الحطامِ
فإِذا اهتمَّ مِنَّةً بالرعايا ... فاهتمامُ الجزَّارِ بالأغنامِ
قَيصرُ الروسِ قامَ بينَ البرايا ... ناشراً دَعوةَ الهُدَى والسلامِ
ذاكِراً أنَّنا بَنُو رجُلٍ فَر ... دٍ خُلِقْنا للحُبِّ لا للخصامِ
مُوعِزاً بانعقادِ مُؤتَمَرِ التح ... كيمِ يقضي في المعضِلاَتِ الجِسام
ضَحِكَ الضاكحونَ منها وعدُّو ... ها أمانيَّ نَيْلُها بالمنامِ
رُبَّ أمرٍ صعبِ المنالِ بعيدٍ ... صَيَّرَتْهُ العقولُ سهلَ المرامِ
هَبْهُ حلماً فالسعيُ فيهِ جَميلٌ ... وجَمالُ الحياةِ بالأحلامِ
هذهِ الأرضُ ترتجيكَ فحقّقْ ... ظنَّها فيكَ يا سليلَ الكرامِ
لكَ في منحِها السلامَ أيادٍ ... خالداتٌ غُرٌّ مَدَى الأيَّامِ
ولبثنا عيونُنا شاخِصاتٌ ... ناظرينَ انجلاَء ذاكَ الغمامِ
فإذا بالسَّلامِ حَربٌ عَوانٌ ... كلَّ يومٍ نيرانُها في اضطرامِ(/)
قيصرَ الروسِ , لا تُضيّقْ على الصُّف ... رِ مَدَاهمو فالصّفْرُ أهلُ انتقامِ
لكَ مُلكٌ رَحَبُ الفضاءِ فَسيحٌ ... فَتَعَهَّدْ أجزاَءهُ بالنّظامِ
أَفَمهما أَوجستَ من شعبكَ المو ... تورِ خوفاً دفعتَهُ للصّدَامِ؟
لا رَعاكِ الإِلهُ يا أرضَ منشو ... را , ولا بَلَلَتْ ثراكِ الهَوامي
ما لعُقبانِكِ اتُّخمِنَ , وغُدرا ... نكِ أصبحنَ بالدماءِ طوامِ
كم خميسٍ وافاكِ يمرَحُ زهواً ... ثمَّ لم يبقَ منهُ غيرُ العظامِ
شَهَرَ الحربَ شاهروها , وباتوا ... في أمانٍ والقتلُ في الأقوامِ
سَئِمَ الرُّوسُ فتكَها , بئستِ العي ... شةُ من ذِلَّةٍ لموتٍ زُؤامِ!
قالَ مقدامُهمُ: هلمُّوا إلى الوا ... لدِ نشكو مظالِمَ الحُكَّامِ
ومَشوا للمليكِ عُزلاً , ومُدلي ... نَ إليهِ بِحُرْمةٍ وذمامِ
فتلقتَّهُمُ جنودُ أبيهم ... بِرَشاشِ الرَّدى وحدِّ الحُسامِ
ملأتْ منهمُ الشوارعَ أشلا ... ءُ كراديسُ فهيَ كالآكامِ
َقيصرَ الروس , إِنَّ شعبَك أولا ... دُكَ فاربأْ وأشفقْ على الأرحامِ
أفهذا الحقُّ الإِلهي أن يُقت ... لَ شعبٌ أتاكَ لاسترحامِ
زالَ ما كُنتَ تدّعيهِ من الحقِّ ... بما سالَ مِن دماءٍ حرامِ
أحمد محرَّم
أحمد محرم في شعره نسيج وحده هو أقرب الشعراء المعاصرين ديباجة من شعراء العرب. وما زال يعاني ذلك في أول أمره معاناة حتى ملكه اليوم وصار ملكة في طبعه. وليس في طباع الشعراء طبع أدلّ من طبعه ومن طبع حافظ إبراهيم على جودة الألفاظ. وكما أن خليل مطران فاق النظراء بل فاق كثيراً من القدماء في معانيه. فكذلك أحمد محرم وحافظ فاقا النظراء بل فاقا كثيراً من القدماء في ألفاظهم وتراكيبهما. وأقرب وصف في هذا الباب أن يقال أن خليلا أبلغ شعراء زماننا , وأن محرماً وحافظاً أفصحهم.
ولي الدين يكن
أبو العلاء المعري
ثقةَ الدُّهورِ , وحُجَّةَ الأزمانِ ... خذْ من بيانِكَ ذِمَّةً لبياني
أُعيي القريضَ فإنْ بلغتُكَ خانَني ... قلَمي , وعيَّ عن المقالِ لساني
رُعْت القياصرَ والملوكَ , وراعَني ... ما فيكَ وحدَك من جَلالِ الشانِ
لكَ في الملوكِ الخالدينَ على البلى ... أسمى العروشِ وأثمنُ التيجانِ
تهوي الأَسرَّةُ , والممالكُ تنقضي , ... وسريرُ مُلكِكَ راسِخُ الأركانِ
مُلْكٌ عليهِ من الخُلودِ سُرادقٌ ... فخمٌ يهابُ جلالَهُ الملَوانِ
تهوي جبابرةُ الخُطوب حِيالَهُ ... صرعى مُنكِّسةً على الأذقانِ
وترى الدُّهور إذا مررنَ بساحهِ ... فوضى الخُطى يَعثُرنَ بالحَدَثانِ
يدلفُنَ من كبرٍ وفرطِ كهولةٍ ... وشبابُ مجدِكَ دائمُ الرَّيَعانِ
تبني العُقولُ , وترفعُ الأيدي , وما ... يسطيعُ شأوَكَ رافعٌ أوبانِ
صدَعَ الزلازلَ ما بنيتَ وهَدَّها ... ما للزلازلِ بالبروجِ يَدانِ
أدركتَ أسراَ الوجودِ وجُزتها ... ترتادُ أَسرارَ الوجودِ الثاني
تدنو فتبعدُ , والمخاوف جمَّةٌ ... والحُجْبُ شَتَّى , والحتوفُ دوانِ
تهتاجُ ومَضت , فإن هيَ أمسكتْ ... زادتكَ أَشجاناً على أشجان
صانعتَ شاردَها فقُلنا عاشِقٌ ... طرِبٌ يصانِعُ شاردَ الغُزلانِ
وشكوتَ هاجرَها فقالوا كاشِحٌ ... ظلموكَ! تلكَ سجيَّةُ الولهانِ(/)
جهلوا مُرادَك , والعقولُ مراتبٌ ... والناسُ بالأَلبابِ والأَذهانِ
أكبرت رزَء العقلِ حينَ رأيتهُ ... رهنَ العمى , وغضبت للإنسانِ
تجري الأُمورُ وليسَ يُعلمُ كنهُها ... وهو المرادُ بهذهِ الأَكوانِ
ويُقادُ أعمى في الحياةِ وبَعَدها , ... والدَِينُ والدُنيا لهُ عَينانِ
كلٌّ لهُ ذِكرى , وكلٌّ عِبرةٌ ... تجلو اليقينَ وصادقَ الإيمانِ
فلئن حُجبتَ عن الغيوبِ فإِنَّها ... لله ذي الجَبروتِ والسُلطانِ
أعلى لكَ الغرُفاتِ يومَ لقيتَهُ ... وحَباكَ ما تبغي من الرّضوانِ
فرأيتَ منزِلةَ العليم وأجرَهُ ... وحمدتَ عُقبي العلمِ والعرفانِ
شُغفتْ بكَ الدنيا تُريدُك وامقاً ... وشُغِفتَ بالإِعراضِ والهُجرانِ
تجلو زخارفَها فتُغمضُ دونَها ... عينَ الحكيم , وتنثني بأمانِ
فتنت محاسِنُها العقولَ , ولم تزلْ ... في حيَرةٍ من عقلِكَ الفتَّانِ
صارمَتها وكشفتَ عن سوائِها ... ليُفيقَ مختَبلٌ ويُقصرَ عانِ
وصددتَ عن صلفِ الملوكِ وكبرِهم ... متعالياً عن ذِلَّةٍ وهَوانِ
أغناكَ عن آلائِهم وهباتِهم ... انَفُ الشّريفِ وعِفَّةُ المتغاني
ورضيتَ بيتَك هازئاً بقصورهم ... وجليلِ ما رفعوا من البُنيانِ
بيتٌ أنافَ على الكواكبِ رِفعةً ... فدنا يمسِّحُ رُكنَهُ القَمرانِ
لم يحكهِ كيوانُ في عَليائهِ! ... بيتُ الحكيم أجلُّ من كيوانِ
لو رُدَّ كسرى , أَو تأَخرَ عصرهُ , ... فأذنتَ , حجّ إليكَ بالإِيوانِ
لو كنتما منّي بحيثُ أراكما ... لَلَثمتُ تربكما إِذاً فشفاني
فحمَدتما في الطائفين ضَراعتي ... ورفعتما في الخالدينَ مكاني
خيرُ المناسِكِ حلَّ حيثُ حللتُما ... للناسكينَ وأنتُما الحرَمانِ
أُوتيتَ من أخلاقِ ربِّك رَحمةً ... لم يُؤتَها بشرٌ , وفرطَ حنانِ
أشفقتَ من وطءِ التراب على الأُلى ... غالَ التُّرابُ , وكلُّ حيٍ فإنِ
يمشي الفتى يختالُ فوقَ رفاتِهم ... جذلانَ فعلَ الشاربِ النشوانِ
الجوُّ أرواحٌ تَفيضُ وأنفسٌ ... والأرضُ من رممٍ ومن أكفانِ
عفتَ الأذى ونَهيتَ عن مكروهِهِ ... وأَمرتَ بالمعروفِ والإِحسانِ
ورحِمتَ حتَّى الوحشَ في فَلَواتِها ... وحميتَ حتَّى الطيرَ في الأوكانِ
ورثيتَ للشاكينَ من بلوائِهم ... فحملتَ ما حملُوا من الأحزانِ
ومسحتَ دَمعَ النائحاتِ معزّياً ... فكففنَ عن نوحٍ وعن إِرنانِ
ونسينَ من هَول الفجائع ما مَضى ... وسلَونَ بعد تعذُّر السُلوانِ
شَرعٌ بُعثتَ بهِ , ودينٌ لم تَقمْ ... فيهِ لغير الواحدِ الديَّانِ
بُوركتَ في دين المسيحِ وأَحمدٍ ... ومُدِحتَ في الإِنجيلِ والقُرآنِ
الشرقُ معتزٌّ بفضلِكَ معجَبٌ ... والغربُ مُغتبِطُ بذكرِكَ هاني
أملأ بحكمتِكَ المسامِعَ والنُهى ... واحكمْ فما شيءٌ سوى الإِذعانِ
ما زلتَ من قبلِ المماتِ وبعدِهِ ... شيخَ النُهى وحكيمَ كلِّ زمانِ
الأرضُ حافِلةُ كعهدِكَ بالأذى , ... والناسُ فَوضى , والحياةُ أماني
الشباب والمشيب
آثارُ عِينِكِ في الفُؤَادِ كُلومُ ... ترمي فَينفذُ سهمُها المسمومُ
لا أنتِ ظالمةٌ , ولا بكِ قسوةٌ ... أنا في معارضةِ النبالِ مَلومُ
ما لي أُخاطِرُ , والمنيَّةُ مثقلةٌ ... نجلاءُ أو كشحٌ أقبُّ هضيمُ(/)
أرمي فأخطئها وَيقرعُ سهمُها ... قلباً تشكُّ سوادَهُ فَيهيمُ
باتت مغاضِبةً , وبثُّ كأننَّي ... من طول ما أَهذي بها محمومُ
نامت , ولي عَيْنٌ تساقَطَ هدبُها ... سُهداً , وأُخرى دمعُها مسجومُ
نَظرت فأغضبَهَا المشيبُ , وإِنَّهُ ... ذّنبٌ إلى البيضِ الحسانِ عَظيمُ
إني , وإن ودّعتُ عهدَ شبيبتي , ... لأُسامُ حاجاتِ الصِّبي وأسومُ
لي في الهوى كِبدٌ تذوبُ , ومهجةٌ ... حَرَّى , وقلبٌ مُوجَعٌ مكلومُ
وسمُ المشيبِ بعارضَيَّ ظَلامةٌ ... شنَعاءُ سُنَّ لمثلِها التحكيمُ
نَفذَ السنينَ عليَّ , وهيَ منيعةٌ ... كُثرٌ تظاهرَ سردُها الملمومُ
ما زلتُ أدَّرعُ الحياةَ وأحتمي ... حتَّى استُبيحَ شَبابيَ المَظلومُ
مُلْكٌ أحاطَ بهِ المشيبُ , فتاجُهُ ... رثُّ الجَلالِ , وعرشُهُ مَهدومُ
تلهو الحياةُ بنا , ونلهو بالمُنى ... ومُنى النفوسِ وسَاوسٌ وهُمومٌ
هيَ دولتانِ: فللشبيبةِ دَولةٌ ... تهوي , وأُخرى للمشيبِ تقومُ
كلٌّ على حينٍ , وكلٌّ زائِلٌ ... إِنَّ الفناَء مواشِكٌ محتومُ
بَيني وبينَ الأَربعينَ مَفازةٌ ... فيها لناجيةِ السنينِ رَسيمُ
تهوِي بمخترقِ الدُّهورِ يحثُّها ... حادٍ بأسرارِ الدُّهورِ عليمُ
حَمَلت إليّ من الغُيوبِ رِسالةً ... يُعيي المنجّمَ سِرُّها المكتومُ
كَذِبَ المنجّمُ ليسَ يعلمُ ما طوت ... حُجُبُ الغيوبِ كواكبٌ ونُجومُ
فَلئِن حَييتُ لأَعَلمنَّ خَفيَّها ... ولئِن قضَيتُ فنَّني لزعيمُ
هزَمَ السلوُّ هوَى التي لم أَسلُها ... يومَ استقلَّ المهزومُ
ناشدتُها أيَّامَ تَسمحُ لي ضُحىً ... فتكونُ صَيدي والظلامُ بَهيمُ
أسمو لها والنجمُ في فَلَكِ الدُّجى ... حيرانُ يَغرقُ مرَّةً ويَعُومُ
وأَشقُّ عنها الخِدرَ يهدرُ دونَه ... عَجِلٌ إلى حَدِّ الحُسامِ غَشومُ
إِن تُنكري وَضَحَ المَشيبِ بلمَّتي ... فلقد تكون ولَونُها يَحمومُ
أو تُعرِضي عنّي الغداةَ , فربَّما ... أعرضتُ عنكِ ومفرِقي ملثومُ
بِيني كما بانَ الشَّبابُ , كلا كما ... شَجَنٌ لنفسي في الحياةِ مُقيمُ
يا ساقِييَّ , وما قَرعتُ كؤوسَها ... إِلاَّ ليُقلِعَ همّيَ المركومُ
مَا لي أُتابُعها , وقلبيَ ثائرٌ ... هيَمانُ تلفحهُ جوانحُ قيِمُ
هل تعلَمانِ لما أُعالجُ شافياً؟ ... فلقد عَبيتُ , وإِنني لحكيمُ
وشكيَّتي سَفَهُ الزَّمانِ , وأنَّهُ ... وغْدُ الحوادثِ والصروفِ لئيمُ
أشكوهُ ما قصرَت يدايَ وفاتَني ... ما أبتغي من حاجتي وأرومُ
ما لي سوى الإِصلاح من أربٍ , وما ... في شرعتي أَن يُحمدَ المذمومُ
ألحقُّ حقٌّ لا سبيلَ لردِّهِ ... ولوَ أنَّ أفلاكَ السماءِ خُصومُ
والناسُ عندَ خِلالِهم وفعالِهم ... ألوغدُ وغدٌ , والكريمُ كريمُ
النفس الأبية
ذكرتُ الهوى أيامَ يصفو فنَحتسي ... ويضفو الصّبَي عن جانبيَهِ فنكتسي
نُقَضّي مُنانا مِن رياضٍ وأوجُهٍ ... ونَشفي صَدَانا من شِفاهٍ وأكؤُسِ
لذاذاتُ عيشٍ صالحٍ كنَّ أنعُماً ... فأُعقبنَ من حدْثانِ دهرٍ بأبؤُسِ
طَوينا بقاياها ففضت من الأسى ... بقايا قلوبٍ جازعاتٍ وأنْفُسِ
خَلَتْ أربُعُ الأهواءِ إلاَّ من البِلي ... يُعفّي بها آثارَ مَلْهىً ومَجلسِ(/)
تَعوَّضتُ عنها بالياً بعد مونقٍ ... وبُدّلتُ منها مُوحشاً بعد مؤنِسِ
ألا هلْ لأَيَّامِ الشبيبةِ رجعةٌ ... فأطمعَ في ماضٍ من العَيشِ مؤنِسِ
تَمَتَّعْتُ من دَهري بظبيٍ مربّبٍ ... فقد عادَ يرميني بسِيْدٍ عَمَلَّسِ
أقولُ لنفسي , والأسى يستثيريُها: ... مكانَكِ إِنَّ النفسَ بالنفسِ تأتسي
ألم تَعلمي أنَّ الزمانَ بأهلهِ ... يدورُ , وأن الصَّفْوَ نغبةُ محتسِ؟
متى تطلبي ما ليسَ للجَّهر شيمةٌ ... تُعاقي عن الأمرِ المَرومِ وتُحبسي
أجدَّكِ هل تقضين كلَّ لبُانةٍ ... بطول التمنّي , أو بطولِ التلمُّسِ؟
إذا الحاجُ لم تُقْدَرْ فليسَ بنافعٍ ... تقحُّمُ إِصليتٍ وإِقدامُ مُدْعسِ
صرفتُ رجائي عن مطالبَ جمَّةٍ ... وليسَ الذي يرجو المحالَ بكيّسِ
وعفتُ الدَّنايا , فاحتفظتُ بمنصبي ... وأبقيتُ عِرْضي طاهراً لم يُدَنَّسِ
سجيَّةُ حُرِّ النفس لا متعرّضٍ ... لعوراَء يَبغيها ولا متمرّسِ
كريمٍ متى ما يَعْدُ كَفَّيهِ مُنفسٌ ... يُدِلَّ بأغلى منهُ قدراً وأَنفَسِ
وما فاتني غثنمٌ إذا عَفَّ مطمعي ... وعُرذيَ من سوءِ الأحاديثِ مَلبسي
إذا ضرَّسَ اللؤمُ الوُجوهَ فشانَها ... بقيتُ ووجهي وافرق لم يُضَرَّسِ
وما راعني إلاَّ حسودٌ يَعيبُني ... على ما يرى من طيبِ عُودي ومَغرسي
لقد عجمَتني الحادثاتُ , فلم يَلِنْ ... مَجسّي على بُؤْس الحياة وملمسي
أخوض الخطوبَ السودَ غير منكّبٍ ... وألقى المنايا الحمرَ غيرَ معبّسِ
وأسمو إلى العاني أُفرّجُ هَمَّهُ ... إذ ما عَنتهُ كُربةٌ لم تُنَفَّسِ
ولم تُخزِني في مشهدٍ ألمعيَّتي ... ولا خانني رأيي وصدقُ تفرُّسي
ولستُ كساعٍ بالأَباطيل والرُّقى ... إلى الناس يُزجيها بِضاعةَ مُفلِسِ
متى ما أقلْ قولاً فلسْتُ بكاذبٍ ... أًصادي بهِ نفعاً , ولا بِمُدلِّسِ
تعوَّدَ مني الدهرُ شيمةَ فاضلٍ ... وما اعتدتُ منهُ غيرَ شيمةِ مومسِ
كلانا على ما استنَّ جارٍ , ومن يُقَدْ ... إلى الشيمةِ العسراءِ يُعْصَ ويُشمسِ
وأعلمُ أنّي ما حييتُ مُقَلّبٌ ... فؤادي وعيني في ضياءٍ وحَندسِ
حفني بك ناصف
هو من شعراء هذا العصر المجيدين , ولعله أكثر الأدباء إطلاعاً على تاريخ أدبيات اللغة. تولى القضاء زمناً فعرفه الناس عالماً متشرّعاً كما عرفوه شاعراً قديراً. على أنه يميل في غالب شعره إلى المباسطة فيوردها بقالب جيد منمق.
على البحيرة
سَلِ المَها بين إِفيانٍ ولُو زانِ ... ماذا فعلنَ بقلبِ المُغرمِ العاني؟
إِذْ كُنَّ في الفُلْكِ كالأقمارِ في فَلَكٍ ... يُشْرِفنَ فيهِ على ألعابِ نيرانِ
فكم من الأرضِ سهمٌ للسماءِ , وكم ... سهمٌ تسدَّدَ لي من تحتِ أجفانِ
يعلو البُحيرةَ من نيرانِها شَرَرٌ ... كزفرتي حين يجري مَدْمَعي القاني
يذهبنَ بالفُلْكِ أيماناً ومَيسرةً ... فيها , ويَطرَبنَ من توقيعِ ألحانِ
سِرْبٌ يُغنّينَ بالأفواهِ مُطربةً ... وَثُلَّةٌ بِرَباباتٍ وعيدانِ
والوُرْقُ في الشاطئ الأدنى تجاوِبُها ... تُبدي أفانينَ شَدْوٍ بينَ أفنانِ
عيون وعيون
أرجِعُوا لي يا غِيدَ ماريمباد ... مُهجتي قبلَ عَوْدتي لبلادي
إِنني قد شَدَدتُ رحلي وأهلي ... في انتظاري , فأطِلقُوا لي فؤادي(/)
ليتَني لم أزُرْ حِماكُم , فإِني ... في هواكم أضعتُ كلَّ رَشادي
وبَراني الضَّنا , فصارتْ ثيابي ... فوق جسمي كمضربٍ ذي عِمادِ
وأتاني السَّقامُ من حيثُ أبغي ... صحَّةً , وانهزمتُ قبلَ الجِلادِ
حَدَّثوا أنَّ في حِماكم عُيوناً ... تَذرُ الناسَ ضامري الأجسادِ
صَدَقوا , إِنّها عيونٌ ولكن ... كُحِلتْ منذُ خَلْقِها بسوادِ
جنِّبوني ذكرَ العيونِ فقلبي ... في ارتعاشٍ من فعلِها وارتعادِ
فهيَ كالكهرباءِ تُومي بلحظٍ ... فتدقُّ الأجراسَ في الأكبادِ
إلى إسماعيل باشا صبري
يوم تقلد وظيفة النائب العمومي
لم يَنَلْها سواكَ من أهلِ مصرِ ... والمعالي بالخاطِبِ الكُفءِ تدري
طَمَحَتْ أنفُسٌ إليها فصانت ... حُسنَها عنهمُ صيانةَ بِكرِ
راوَدوها عن نفسِها فاستخفَّتْ ... بنُهاهُم , وقابلَتهم بهجرِ
وابتغت كُفأَها فكنتَ رِضاها ... فهيَ شمسٌ جَرَتْ إلى مستقَرِّ
أمضِ فينا القانونِ لا فرقَ فيهِ ... بين زيدٍ من الرعايا وعمرِو
وانْصُرِ الحقَّ ما استطعتَ وأصلحْ ... أمرَهُ , إِنَّ نصرَهُ خيرُ نصرِ
لا تكُنْ ليّناً فتُرمى بضُعفٍ ... لا ولا جافياً فتُرمى بكسرِ
بين هذا وذاك نَهجٌ حميدٌ ... آمنٌ مَنْ يجوزُهُ كلَّ شرِّ
مرآة القلب
ودَّعتُ باريسَ وقلبي بها ... عند فتاةٍ حُسنها يفتنُ
ترنو بمغناطيسِ أحداقه ... فتُجْذَبُ الأرواحُ والأعينُ
الدرُّ من مَبْسِمها يستحي ... وإِن تثنَّتْ تَخجَلُ الأغصنُ
الشيخ يغدو في هواها فتىً ... وفي حلاها يفصحُ الألْكَنُ
يروقني في طبعها أنَّها ... صريحةٌ تُظهرُ ما تُبطنُ
مرآةُ ما في قلبها وجهُها ... فكلُّ شيءٍ عندها مُعْلَنَ
صورتُها تنطِقُ أنَّ الذي ... صوَّرها في صُنعهِ مُتِقنُ
وصف قنا
أرسلها إلى وزير الحقانية يشكره على ترقيته إلى وكالة محكمة قنا
رَقَّيتَني حِسّاً ومعنى ... فَلِصُنْعِكَ الشكرُ المثنَّى
وجعلتَ رأسَ الحاسدي ... نَ بمصرَ من قدميَّ أدنى
أسكنتَني في بقعةٍ ... فيها غدوتُ أعزَّ شأنا
أرِدُ المشارعَ سابقاً ... والسبقُ عند الوردِ أهنأ
بَلَدٌ إذا حلَّتْ بهِ ... قدَماكَ قلتَ حللتُ حصنا
جبلُ المقطَّمِ حولهُ ... متعطّفٌ كالنون حُسنا
فخَّارهُ لَهَجَ الأنا ... مُ بمدحهِ يُسرى ويمنى
يكفي لترويجِ الأوا ... ني أن يقال قِنا فتُقنى
الدُّومُ فيهِ دائمٌ ... يَفني الزمانُ وليسَ يفنى
والسدرُ كالرّمانِ , والجُمَي ... زُ كالبَيض المحنَّى
قالوا شخصتَ إلى قِنا ... يا مرحباً بقِنا وإِسنا
قالوا قِنا حرٌّ فقل ... تُ وهل يردّ الحُرَّ قِنَّا
سرُّ الحياةِ حرارةٌ ... لولاهُ ما طيرٌ تغنَّى
كلاّ! ولا زَهرٌ تبسَّ ... م لا ولا غُصُنٌ تثنَّى
ها قد أمنتُ البردَ وال ... بُرَدَاَء , والقلبُ اطمأنَّا
ووُقيتُ أمراضَ الرطو ... بة واستراقَ الريح وَهنا
وأنامُ غيرَ مدثّرٍ ... شيئاً إِذا ما الليلُ جنَّا
قد خفَّتِ النفقاتُ إذ ... لا أشتري صوفاً وقطنا
وفَّرْتُ من ثمن الوقو ... دِ النصفَ أو نصفاً وثُمنا
فإِذا بدتْ ليَ حاجةٌ ... في الغسلِ ألقى الماَء سخنا
أو رُمتُ طبخاً أو علا - جَ الخبز ألقى الجوَّ فرنا
عشْ في القُرَى رأساً ولا ... تسكنْ مع الأذنابِ مُدْنا(/)
واربأْ بنفسك أن تثرى ... مستمرئاً في العيش جبنا
ودعِ الجزيرةَ والمها ... والجسرَ والظبيَ الأَغنَّا
واسلُ الأغاني والغوا ... ني واسألِ الرحمانَ عَوْنا
أبناء الحكماء
أتقضي معي , إِن حانَ حَيني , تجاربي ... وَما نلتُها إِلاَّ بطُولِ عناء
ويُحزِنني أَنْ لا أرى ليَ حيلةً ... لإعطائِها مَن يَستحقُّ عَطائي
إذا ورَّثَ المثرونَ أبناَءهم غِنىً ... وجَاهاً , فما أَشقي بني الحُكماءِ!
أمين بك ناصر الدين
هو من أشهر شعراء سورية. مطبوع على الشاعرية , جواد القريحة ضليع من اللغة , متمكن من تاريخ الآداب. أما أسلوبه فمتين رشيق , بعي عن التصنع والتعقيد. يتفنن به حسب المواضيع التي يطرقها , ومواضيعه شتى. وأما معانيه فيتحدى فيها على الغالب معاني الشعراء الأقدمين ولكنه يلبسها حلةً جديدة شائقة.
صدى اليأس
آثرَ الدَّهرُ أن أعيشَ كئيبا ... بينَ قومي , وفي بلادي غريبا
تنتحي قلبيَ الهمومُ دراكاً ... وإِليَّ الخطوبُ تُزْجي الخُطوبا
حَسِبَ الدَّهرُ أنني مِن جَمَادٍ ... فرماني بالنائباتِ ضُروبا
غيرَ أنَّ الأرزاَء ما أفقدَتني ... جَلَداً راسخاً وَعُوداً صليبا
ضاعَ رأيي في مَنْ أرى حين أمست ... ألْسُنُ الناسِ لا تُطيعُ القلوبا
تارةً أحسَبُ الحبيبَ بغيضاً ... وزَماناً أرى البَغيضَ حبيبا
كم رأيتُ ابتسامةً فوقَ ثغرٍ ... ثمَّ عادت مِن بعدِ ذاكَ قُطوبا
ولكَم بتُّ راضياً عن أُناسٍ ... حين أصبحتُ غادَروني غَضوبا
ولكم قد وثقتُ بالبعضِ , لكن ... قد أبى الخُبْرُ أن أكونَ مُصيبا
ينتحيني الأنامُ من غيرِ داعٍ ... ومتى أذعُ لا أُلاقِ مُجيبا
يحسَبون الجميلَ أسوأَ صُنْعٍ ... والسجايا المُكَمِلاتِ عُيربا
وَدَّ غيري دوامَ عصرِ شبابٍ ... بينما جئتُ أستحِثُّ المَشيبا
حَبَّذَ الشَّيْبُ في دُجَى الشَّعْرِ صُبْحاً ... مُنبئاً أنَّ للحياةِ غُروبا
لا تظُننَّ أنَّ في العيشِ طِيباً ... ضَلَّ مَنْ ظَنَّ في الخبائثِ طيبا
وكفى بالشقاءِ طَلْقُ لسانٍ ... عن خطوبِ الحياةِ قامَ خطيبا
أرقبُ النجمَ في الدياجي , وما مِن ... وَلهٍ بِتُّ للنُّجومِ رَقيبا
غيرَ أني أرى لهنَّ خُفوقاً ... كفؤادٍِ يُحيي الظلامَ طَروبا
ويَزيدُ النَّسيمُ قلبيَ حَرّاً ... مثلَ نارٍ بالرّيحِ زادت لهيبا
وإذا ما رأيتُ إِشراقَ شمسٍ ... قلتُ يا ليتَهُ يعودُ مَغيبا
إِنَّ سَتر الظلامِ يحجُبُ عنّي ... كلَّ شيءٍ أريدُهُ محجوبا
يا هَزارَ الأراكِ إِنَّكَ أَوفى ... في الملذَّاتِ من سِواكَ نصيبا
أنتَ تشدو على الغصونِ سروراً ... وأنا أجعلُ القريضَ نحيبا
أنتَ تبغي البقاءِ في ظلِّ دَوْخٍ ... وأنا أبتغي الفناءِ القريبا
لكَ في الطيرِ أوفياءُ , وإِني ... لم أجِدْ في الأنامِ إِلاَّ مُريبا
يا هَزارَ الأراك لو كنتَ مثلي ... لاستحالَ الصُّداحُ منكَ نَعيبا
ليسَ من طبعيَ الكآبةُ , لكن ... آثرَ الدهرُ أن أعيشَ كئيبا
النحو في الشعر
سأَلَتني عنِ التنازُع يوماً ... غادَةٌ بالجمالِ تَسبي وتُصبي
قُلتُ إِنْ كان للتنازُعِ معنىً ... فَهْوَ ما بَينَ ناظرَيْكِ وقَلبي(/)
مناجاة صورة
أراكَ يا رسمُ , لا تَنفكُّ مبتَسِمَا ... أذاكَ شأنُكَ أم ذَوقُ الذي رَسَما؟
تَستقبلُ الصُّبحَ جَذلاناً بلا سبَبٍ ... ولا يسؤُكَ أن تَستقبِلَ الظُّلَما
سِيَّانِ عندَكَ: يومٌ كلُّهُ طرَبٌ ... وآخرٌ بسِماتِ الهمِّ قد وُسِما
ولا يروعُكَ سيفُ الموتِ منصَلِتاً ... والخطبُ مندَفِعاً , والدَّهرُ مُنتَقِما
كفاك يا رسمُ , فخراً أنَّ مثلَك لم ... يَنقُلْ لحاجتِهِ فوقَ الثَرى قَدَما
كفاكَ عزّةَ نفسٍ أن تدومَ , ولا ... تأتيك مِنَّةُ إِنسانٍ قدِ احتكما
لا ينطوي لكَ قلبٌ ما بقيتَ , عل ... حقدٍ , ولا يتعدَّى طبعُكَ الكَرما
وأنتَ خيرُ نديمٍ للذينَ رأوا ... تجنُّبَ الناسِ أمراً يَدفعُ السأَما
تَرعى لراسِمكَ العهدَ المتينَ , ولا ... أرى من الناسِ إِلاَّ مُخفِراً ذِمماً
والحيُّ يَسقَمُ أحياناً , وأنتَ على ... أتمّ عافيةٍ لا تَعرفُ السَّقَما
ويُدرِكُ الهَرمُ الإِنسانَ بَعدَ مدىً ... وأنتَ غضُّ شبابٍ آمِنٌ هَرَما
وتهزُمُ الناسَ أرزاءٌ تروعُهمُ ... في حينٍ يرجِعُ عنكَ الرزءُ مُنهَزِما
أراكَ تُفصِحُ عمَّا فيكَ من طربٍ ... وإِن عدِمتَ لِساناً ناطِقاً وفما
سَلِمتَ يا رسمُ , من همٍّ ومن كدرٍ , ... وما على الأرض حَيٌّ منهما سَلِما
يا ساهراً لم يَذُقْ ليلاً غرارَ كرىً ... وراقِداً لم يؤرَّقْ مُنذُ مَا رُسِما
تُضاحِكُ الشمسُ منك الوجهَ مشرقةً ... ويلثمُ البدرُ ثغراً منكَ قد بَسما
لكَ الطبيعةُ صفوَ العيشِ قد قَسَمَت , ... وضِدُّهُ وجزيلُ اليأسِ لي قُسِما
كُنْ موضِعي وَلأْكُنْ رسماً , فذلك لي ... خيرٌ , وخُذْ فِكرتي والطِرسَ والقَلَما
الابتسام
عاشِقانِ التَقَيا فابتسَما ... وأذاعا للورى ما انكتما
فتلا الناسُ على وجهَيهما ... ما احتوى القلبانِ من سِّرهما
ظَهَرَتْ أسطرُهُ واضحةً ... حين لم يُمْسِكْ بَنانٌ قَلَمَا
وأتى الشَّاعرُ , والشَّاعرُ لو ... راقَهُ منظرُ شيءٍ نَظَمَا
واتسامُ الحبّ حلوٌ فانثنى ... واصفاً إيَّاهُ وصفاً مُحكَمَا
هو في القلبِ سرورٌ عكَست ... فوقهُ العينُ شعاعاً فَنَمَا
وعليها وعلى الثغرِ بدا ... مُعرِباً من شَغَفٍ ما أعجَمَا
بل هو المرآةُ تبدو للفتى ... في مُحَيَّا مَنْ كَسَتْهُ السَّقَمَا
فإذا ما وجهُهُ قابَلَها ... عادَ منها بضياءٍ مُفْعَمَا
هوَ نورٌ ساطعٌ لكنَّهُ ... بين قلبيَ عاشقَين انقسمَا
فإذا ما العينُ بالعينِ التقت ... حلوَلَ الجزآنِ أن يَلْتَئِمَا
وإذا الوجهانِ ضاَءا فرَحاً ... تمَّ للجزئَينِ أن ينتظمَا
هو في قلبِ المعنَّى ماسَةٌ ... رَخُصَ الدرُّ لديها قِيَمَا
ولها أسني شعاعٍ كلمَّا ... جَذَبتْهُ نظرةً زانَ الفَمَا
ينجلي مزدَهِراً , حتى إذا ... غضَّتِ الأبصارُ عنهُ أظلمَا
كشعاعِ البدرِان إن حَدَّقَتِ ال ... عينُ فيهِ بالجفونِ التحما
وإذا العينُ انقضى تحديقُها ... أبصرتْ ذاك الشّعاعَ انفصما
هوَ برقٌ لامعٌ إن ملأَتْ ... كهرباءُ الحُبّ قلباً تُيِمَا
زهرةٌ تبدو على الثغرِ ولم ... تكُ ضمنَ القلب إلاَّ بُرعما
وقلبُ المغرمِ الصبّ على ... شفَتيهِ بالهوى قد رُسِمَا
وضميرُ الغادةِ الحسناءِ في ... وجهها ساعةَ تَلقي المغرَما(/)
بل هو الحبُّ الذي قد ضمَّهُ ... كلُّ قلبٍ بالغَرامِ اضطرَما
فتراهُ العينُ في العينِ إذا عاشقانِ التقيا فابتَسما
نقولا رزق الله
شاعر بالطبع , متصرف في فنون الشعر , جيد الحبك , رائق الحبك , رائق الأسلوب , مليح الديباجة , يرمي في شعره على اختلاف مواضيعه إلى حكمة بالغة أو عبرة اجتماعية. ينظم في كل وقت بين ترجمة رواية أو إنشاءِ مقالة أو إدارة عمل , فيكاد لا يجفّ لقلمه حبر , وهو مع ذلك لا يشكو مللاً ولا يبالي تعباً.
الشعر والشعراء
هل عَرفتُم لعَاشِقٍ ... عَشِقَ الأرضَ قلبُهُ والسماَء
تقطَعُ البَرَّ منهُ لحظةُ عَينٍ ... حينَ يجتازُ فكرُهُ الجوزاَء
يُصلحُ الحسنُ عندَهُ كلَّ خُلقٍ ... فيُسوّي الأَحياَء والأشياَء
شَبَّ مُذْ شَبَّ عاشِقاً لا يُبالي ... حِكمةً كانَ عِشقُهُ أم خَطاَء
عَشِقَ الرَّوضَ والغياضَ وأزها ... رَ الرَّوابي والأغصُنَ الخضراَء
وصِغارَ النجومِ تَبدُو وتخفي ... والدَّراري والقبَّةَ الزَّرقاَء
وفضاَء البحارِ , والسُّحبَ تحكي ... سُفناً تحتها تشقُّ الماَء
وسكون الدُّجى كأَنَّ الكرى ألْ ... قى عليهِ معَ الظلامِ غطاَء
هامَ بالغابِ زانَها الشَّجرُ العا ... لي وَزانَ الفضاَء والصَّحراَء
يسمعُ الوحشَ والطيورَ فيهوي ... كلَّ صوتٍ كأنَّ فيهِ غِناَء
أيُّ تاجٍ يُتوِّجُ الغابَ في ك ... لِّ صباحٍ يُزالُ عنها مَساَء
دررٌ من أِشعَّة الشَّمس صِغتْ ... ملأَتها مَهابةً وبَهاَء
وإِذا الشمسُ بالحِجابِ توارتْ ... تكتسي الغَابُ حلَّلةً سوداَء
تحتَها تَنضوي الطيورُ فتُمسي ... دُونَها كلُّ جَنَّةٍ غنَّاَء
إِنَّ في الغابِ للقَوافي عَروساً ... جَمَّةَ الحُسنِ تفتُنُ الشُّعراَء
تَتراَءى فلا يَراها سِواهم ... وَهيَ ليست لغيرِهم تتراَءى
ولذا يَرتجي مِنَ الزَّمَنِ الشَّا ... عِرُ لو أنهُ يُجيبُ رَجاَء
عيشةً في الخلاءِ لا عيبَ فيها ... غيرَ أنْ ليسَ يسمعُ الضوضاَء
حيثُ لا خُبثَ في الهواءِ ولا في ال ... تربِ والماءِ يجلبُ الأدواَء
حيثُ لا رزقَ كلمَّا رَكَضَ المر ... ءُ مُجدّاً وراَءهُ يتناَءى
فهْوَ ما بينَ خوفِ سَبقٍ وكدٍّ ... كغريقٍ يُصارِعُ الأنواَء
لا تَطيبُ الحياةُ إِلاَّ لمن يه ... ربُ منها ويهجُرُ الأَحياَء
ليتَ شِعري متى أرى شُعَراَء ال ... شرقِ يوماً بفضلِهِم أَغنياَء
ورثوا مَن تقدَّموهم فنالوا ... شرَّ إِرثٍ مَذلَّةً وشَقاَء
بين هجوٍ كالسبِّ أو هوَ أدنى ... ومديٍ تَعدُّهُ استجداَء
عُوِّدوا الذُّلَّ فالكبيرُ كبيرٌ ... فيهمِ حينَ يَسأَلُ الكُبراَء
ليسَ كالمالِ للقرائحِ سُمٌّ ... حينَ يلهو بَيعاً بها وشراَء
إِنَّما الشعرُ للنفوس غذاءٌ ... أَفَسَدُوهُ فصيَّروهُ هذاَء
يتبعُ الشِعرُ أهلَهُ فامتهاناً ... وابتذالاً أوْ عِزَّةً وإِباَء
أيها الشَّاعِرُ , اتَّقِ اللهَ واذكُرْ ... أَنَّ للشِعرِ حِكمةً عَلياء
كُنْ دليلاً إلى سبيلٍ سويٍّ ... ومَناراً يُبدِّدُ الظَلماَء
ثمَّ لا تَنْسَ موطِناً كان يوماً ... لكَ كالأُمِّ نِسبةً ونَماَء
فاحترمْ عهدَهُ وعهدَ بينهِ ... ثمَّ عَلّمْهمُ كذاك الوَفاَء(/)
عَلّمِ الشعبَ أنَّ للشعبِ ديناً ... يَمنَحُ النفسَ قُوَّةً ورَجاَء
قُلْ لهُ إِنَّهُ كذلك حُرٌّ ... يعبدُ اللهَ مُطلقاً كيفَ شاَء
خُلِقَ الدّينُ رَحمةً؛ غيرَ أنَّ ال ... ناسَ كانوا لبعضِهم أَعداَء
هَدَموهُ سِرّاً , وشادوهُ جَهراً ... وأقاموا منهم لهُ رُؤَساَء
فانبرى بعضُهم عَدوّاً لبعضٍ ... يخدعونَ الجُهَّالَ والبُسَطاَء
عمرَك اللهَ ليس أعجَبُ أمراً ... من رُؤوسٍ تُهشِّمُ الأعضاَء
ليسَ هذا القريضُ إلاَّ حديثَ ال ... رُوحِ أوحتْ بنظمِهِ إِيحاَء
فَتملَّكْ بهِ العواطِفَ , وأملأ ... كلَّ نفسٍ فَضيلةً وعَلاَء
واتَّخذْهُ إلى القلوبِ سبيلاً ... وتَلطَّفْ تصَطدْ بهِ العَنقاَء
لا تُهاجِمْ بهِ عَفافَ العذَارى , ... لا تُضِلَّ الأحداثَ والضُعَفاَء
لُذْ برأيِ الجمهورِ في كلِّ صَعبٍ ... وَصُنِ العدلَ وارحمِ البُؤَساَء
لا تَصفْ أيَّ حالةٍ قبلَ أن تد ... رسَ منها الأَفعالَ والأسماَء
لا تُقلِّد فيهِ ولا تتكلَّفْ ... في لمعاني مَشقَّةً وعَناَء
قُلْ سَلامٌ على القديمِ , ودَعْهُ ... فكفانا نُقلِّدُّ القّدَماَء
وتعلَّمْ إذا رأيتَ دَعِيّاً ... كيفَ تَعمى عن أن تَرى أدِعياَء
وتَجلَّدْ لصنعةٍ مَنَح اللَّ ... هُ ذَويها تجلُّداً وعَزاَء
لهوىً في نفوسِهمْ زاوَلوها ... وكذا اللهُ يخلقُ الأهواَء
عَشِقُوها فأسكَرتْهم زماناً ... ثمَّ ماتوا من سُكرِهم فُقراَء
فهمُ كالشّموعِ نفَنى احتراقاً ... وهُمُ كالشُّموعِ تُلقي ضِياَء
رحِمَ اللهُ مَن مَضى , ولنُفاخِرْ ... أنَّ للعلمِ عندنا شُهَداَء
كرامة المرأة
يا رَبَّنا أجِرِ العذارى ... مِنْ كَيْدِ مَنْ خَلَعَ العِذَارا
أجِرِ الحسَانَ السَّاذجا ... تِ ونجِّ الأحداثّ الصِّغَارا
من كلِّ فَظٍّ في السما ... جةِ والوقاحةِ لا يُبارَي
سكرانَ سكرَ جهالةٍ ... ولربَّما شَرِبَ العقارا
ألِفَ القبيحَ , فما يُبا ... لي أن يجرَّ عليهِ عارا
يمشي ويَثنى عطفَهُ ... وكأنَّ في عينيهِ نارا
أو يغتدي متقلَِّدا ... خُلُقاً ووجهاً مُستعارا
وإِذا رأى منهنَّ وا ... حدةً تبسَّمَ أو أشارا
أو راحَ يتبعُها ويأ ... ملُ أن يزورَ وأن تُزارا
حتَّى يطوفَ ببيِتها ... ليلاً , ويرصدَهُ نهارا
ما أوفرَ العثّراتِ لل ... غاداتِ , وُقِّيَت الِعثارا
من كلِّ سافرةٍ تودُّ ... لوَ أنها اتخذتْ سِتارا
كي لا ترى ثقلاَء ين ... بو عنهمُ الطرفُ احتقارا
وخريدةٍ , لولا الخما ... رُ , حياؤُها كان الخمارا
تمضي لحاجتِها , ولا ... ترنو يميناً أو يَسارا
لا سَمْعَ تُلقيهِ إلى ... ما قيلَ سِرّاً أو جِهارا
هيَ واللواتي مثلها ... يفعلنَ ذاك ولا فَخارا
يحَسبْنَ تطرئةَ الوجو ... هِ على محاسنها شنارا
أُولاءِ ربَّاتُ الفضا ... ئلِ قد رفعنَ لها منارا
لكنْ مِنَ الغاداتِ مَن ... لا اسماً يَصُنَّ ولا إِزارا
أُولِعنَ بالأسواق فه ... ي لهنَّ ما بَرِحَتْ مَزارا
يمشينَ فيها , لا حيا ... َء , ولا احتشامَ , ولا وقارا
متأوِّداتٍ كالقنا ... مترنِحاتٍ كالسُّكارى
يُبرزنَ أجياداً كأَج ... ياد الظباءِ ولا نفارا
وترائباً لَصِقَ المش ... دُّ بجانبَيها واستدارا(/)
أو يرتدينَ ملابساً ... شفَّافةً عمَّا توارى
ويُجِلنَ في مَن حولَه ... نَّ لواحظاً ترنو حَيارى
خلاَّبةً في قلب عا ... شِقِهنَّ يُضرِمنَ الأُوارا
ولقد يكنَّ عقائِلاً ... يُولينَ ذا الجهلِ اغترارا
أشكالهنَّ المصْيبا ... تُ تُثيرث في لنفسِ المثارا
تُغري بهنَّ المستها ... مَ فؤادُهُ والمُستطارا
يا من تليقُ بها الكرا ... مةُ حاذِري ذاكَ الصَّغارا
صوني جمالاً طالما ... أولاكِ تيهاً وافتخارا
لا كان حُسنٌ فيكِ لم ... يكثنِ العفافُ لهث شعارا
أنتِ وهنَّ
أنا أُسعدتُ مرَّةً في حياتي ... بالهوى , وادَّعيتُهُ مرَّاتِ
كانَ قلبي كطائرٍ يتغنَّى ... هائماً في مسارح الجنَّاتِ
خاطراً بين أغصُنٍ وقدودٍ ... طائراً بين أنفُسٍ طائراتِ
ثَملاً كأسُهُ من الوَرَق الأخ ... ضرِ ملأَى من الندى قَطَراتِ
يجتلي ما يروقُ من زَهَرِ غضٍّ ... ويَجني ما طابَ من ثمراتِ
كان في قلبي رُوحاً يرفُّ على الما ... ءِ ويَسري كألطفِ النَّسماتِ
فيُجاري على هواهُ الجواري ... ويُناجي بِحُبّهِ السابحاتِ
سابحاً يرتمي ببحرٍِ أجاجٍ ... لاهياً يرتوي بعذبٍ فُراتِ
ذاكراً فيهِ قولَ مَن قالَ: إِنَّ ... الحُبَّ كالماءِ كان أصلَ الحياةِ
إِنَّ قلبي الصغيرَ يكبرُ إِن هبَّ ... تْ عليهِ عواصفُ النَّكَباتِ
ريشةُ الطائرِ المحلّقِ في الج ... وّ ومَرْسى شوامخِ الرَّاسياتِ
كان حُرّاً يجولُ ما بين أسرى ... بشباكٍ لمثلهِ قابضاتِ
هازئاً بالقلوب يُورثها الذُلَّ ... هوىً صائدٌ بلحظِ مَهاةِ
حامَ حومَ الفَراش حول لظى ... الحبّ ولكن لم يُكوَ بالجمَراتِ
مستضيئاً بالنارِ يعشو إليها ... وَهْيَ نارٌ تُضيءُ كالمشكاةِ
أيها القلبُ كنتَ بالعشق تلهو ... كنتَ تلهو بسيّد الكائناتِ
كدتَ تحكي الجمادَ لولا دمٌ كال ... قِدْرِ يَغلي على مدى الأوقاتِ
كدت تُلقي السلاحَ شأن كميٍّ ... لم يَجِدْ قَطُّ مثلهُ في الكُماةِ
لَستَ يا قلبُ في الندامى إذا دا ... رت كؤوسُ الهوى ولا في السُّقاةِ
غير كأسٍ رمتكَ بين السكارى ... وازَنَتْ سكرةٌ بها سكَراتِ
من لحاظٍ تفيضُ في النفس نوراً ... كشعاعٍ يمرُّ في ظُلُماتِ
أيُّ سرٍّ ناجى بهِ الطرفُ قلبي ... كتمتهُ نواهبُ اللَّحَظاتِ
بين ألحاظِها وبين فؤادي ... خافياتٌ مكتومةٌ عن ذاتي
أَلقِ دِرعاً لبسته فهو لا يم ... نعُ سهماً ترميهِ عينُ فتاةِ
حينما يخلَعُ الجمالُ عليها ... حللاً من محاسنٍ فاتناتِ
حين يبدو فجرُ الشباب وتغدو ... بنتُ حوَّاَء آيةَ الآياتِ
فتريكَ الجمالَ والطهرَ في أب ... دعِ ما صَوَّرَت يدُ النحَّاتِ
في قَوامٍ مهفهفٍ ومحيّاً ... كامِل الحسنِ كاملِ الحسَناتِ
يتجلَّى فيهِ العَفافُ ضياءً ... ساطعاً ضمنَ هالةٍ من حياةِ
طالما نازعتْ عليهِ قلوبٌ ... أعيُناً من جمالهِ ناهباتِ
رَبِّ , إِن الجمالَ نُورٌ ونارٌ ... لحياةٍ قدَّرتَهُ ومَماتِ
أنتَ سلَّطتَهُ علينا فقامت ... فِتَنٌ للعيونِ والمُهجاتِ
ربِّ , هذي قلوبُنا تتشاكى ... فأجِرْها من الجمالِ العاتي
فَتَنَتْنِي سمراءُ كالفجر لولا ... أنها تنجلي بلا ميقاتِ
لَوْنُها مثلُ لَوْنِه حينما تن ... جابُ عنهُ غياهبُ الظلُماتِ(/)
وتقومُ الأَطيارُ تخطبُ في الرو ... ضِ على منبرٍ مِنَ الشجَراتِ
وتظلُّ الأَطيار ترنو إليها ... مبصراتِ الأحداقِ أو مُصغياتِ
زهَّدَتني في البيضِ والسُّمرِ عينا ... ها وما فيهما من العاطفاتِ
قالتا لي , فكان ما قالتاهُ ... لغةَ الحبّ , وهيَ أمُّ اللغاتِ
هيَ حلَّتْ قَيداً لفكري وعقداً ... من لساني , وأَطلقت كلماتي
خامَرَ الحبُّ قلبَها مثلما خا ... مرَ قلبي , فأنصَتَتْ لشكاتي
عنّفتني على التغزُّل والتش ... بيب في غيرِها من الغاداتِ
ذكَّرتني قصائدي في الغواني ... وَمُناجاتهنَّ في أبياتي
ثم قالت: مَنْ هندُ تلك التي تخ ... لو بها في مكامنِ الغاباتِ؟
أو تُؤَدي إليك منها رسالا ... تِ الهوى خَطْرةٌ من النَسماتِ
واللواتي علقنَ طرفَكَ بالنجمِ ... فأمسيتَ ترصدُ النيّراتِ؟
كلَّ يومٍ يوحي إليك جمالُ ... بسلامٍ عليهِ أو بصلاةِ
قلتُ: لا عذرَ لي سوى أنني الشا ... عرُ يُوحِى إليهِ بالآياتِ
هِمْتُ في عالم الخيال إلى أن ... أرشدتني إلى الهوى خَطَواتي
بتُّ أهواكِ بعد ما عَجَمَ الده ... رُ زماناً عُودي وهزَّ قناتي
إنَّ هنداً عروسُ شعري وبنتٌ ... ليراعي وخاطري ودواتي
هيَ دلَّتْ عليكِ قلبي كما دلَّ ... على الزهرِ عاطرُ النفَحاتِ
واللواتي شاغلنَني , رُحنَ منّي ... يائساتٍ , فلا تقولي اللواتي
ما عشقتُ الجمالَ حين تجلَّى ... فيكِ لكن عشقُ حسنَ الصفاتِ
ما أرتكِ المرآةُ وجهَكِ إلاَّ ... وأراني النعيمَ في مِرآةِ
نحن رُوحانِ بالغَرامِ اتَّحدنا ... لا قضى الدهرُ بيننا بشتاتِ
ليتَ من حظنا الخلودَ لتبقى ... آيةُ الحبِّ آيةً للحياةِ
إلياس فياض
شاعر يتدفق شعره طبعاً وسلالة , لطيف التخيل , واضح المنهج , شائق اللفظ , ليس في نظمه تعسف ولا تعمل ولا غموض , كأنما استعمار شعره ونقاوة ألفاظه من صفا باله , ونقاوة قلبه. نظم في أكثر مواضيع الشعر فأجاد , وترجم جملة حسنة من الروايات فكان نثره كشعره من السهل الممتنع.
النسيم العاشق
هذه قِصَّةٌ جَرَتْ لنسيمِ ال ... روضِ فيما مضى مِن الأزمانِ
وَرَدَتْ في كتابِ سِخرٍ قديمٍ ... خطَّهُ فكرُ ساحرٍ شيطانِ
لم يكنْ قادِراً على فَهمِ معنا ... هُ سوى شاعرٍ لَعوبِ المعاني
وُجِدَ الشعرُ حينما وُجدَ السِحْ ... رُ شقيقَينِ ليس يَفترِقانِ
قيل إِنَّ النسيمَ قد كان يوماً ... يتمشَّى على رُبى لُبنانِ
كتمشي المُصطافِ لا شغلَ يدعو ... هُ سوى حُسنِ منظرِ الوديانِ
هائماً لا يَقرُّ منهُ قرارٌ ... من مكانٍ يميلُ نحو مكانِ
تارةً يلثمُ الزُّهورَ , وطوراً ... يرتمي في معاطِفِ الأغصانِ
إذ أتى منزلاً عظيماً لشيخٍ ... من شيوخ القُرى رفيعِ الشانِ
فانبرى داخلاً إليهِ من الكوَّ ... ةِ وثباً من غيرِ ما استئذانِ
ثّمَّ بنتٌ للشيخ تغزلُ صوفاً ... وهي في مأمنٍ من الحَدَثانِ
تَغزلُ الصوفَ كفُّها , ولها جف ... نانِ بالسحرِ والهوى غَزِلانِ
عبَثَ الزائرُ الجسورُ بشَعرٍ ... ناعمٍ فوقَ رأسِها الفتَّانِ
فتدلَّتْ أطرافُهُ الشُّقْرُ مِن فو ... قِ عيونٍ سُودٍ وخَدٍّ قانِ
ورأَى صاحبي النسيمُ جمالاً ... ما رآه من قبلُ في إِنسانِ(/)
فغدا شاخِصاً إِليها , مُديماً ... نحوَها نظرةَ الفتى الحَيرانِ
ذلك الأَهوَجُ الخفيفُ المُرائي ... ألقليلُ الثباتِ في كل شانِ
فاضحُ العاشِقينَ , ناشرُ أسرا ... رِ الهوى بينَ كلّ قاصٍ ودانِ
أصبحَ الآنَ بابنةِ الشيَّخ صَبّاً ... مُستهاماً بحُبِّها مُتفاني
عاشِقٌ لا يُرى , ويكفيهِ منها ... أن يَراها في كلّ حالٍ وآنِ
حيُث كانت يكونُ: في البيتِ أو في ال ... رَّوِ , بين النسرِينِ والريحانِ
كلُّ شيءٍ منها يراهُ , فما تخ ... جلُ منهُ وليس بالخجلانِ
همُّهُ كلُّ همِّه أن يراها ... في سرورٍ وغبطةٍ وأمانِ
جاعلاً نفسَهُ كما تشتهي بَرْ ... داً فحرّاً على اختلاف الزمانِ
فإذا اللَّيلُ كانَ ليلَ شتاءٍ ... يَخزُ البرْدُ فيهِ وَخْزَ السِّنانِ
صار حالاً إلى هواءٍ لطيفٍ ... فاترٍ وفْقَ نسبةِ الميزانِ
وإذا اليومُ كان يوماُ شديداً ... يَلذَعُ الحرُّ فيهِ كالنيرانِ
جاَءها كم ذُرى الجبالِ بنفحٍ ... مُنعشِ الرُّوحِ , منعشِ الجثمانِ
وإِذا استَشْعَرَ انقباضاً بها يو ... ماً مضى مُسرعاً إلى البستانِ
وأتاها من الطيورِ الشوادي ... بأرقِّ الأنغامٍ والألحانِ
وإذا الفصلُ كان فصلَ خريفٍ ... وغدا الرَّوضُ مثلَ وجهِ العاني
وخلا خِدْرُها من الزَّهرِ: من ور ... دٍ ومن نرجسٍ ومن أُقحوانِ
سارَ خلفَ الفراشِ في الحقلِ يَجني ... هِ , كما تُجتَنَى زهورُ الجِنانِ
وأتاها منهُ بباقاتٍ حُسنٍ ... مُدهشاتٍ من سائرِ الألوانِ
من عقيقٍ ولا زَوَردٍ وياقو ... تٍ وتبرٍ وأبيضٍ كالجُمانِ
تتجارى في خِدرِها طائراتٍ ... لامعاتٍ الجناحِ كالعقيانِ
وإِذا كان في يدَيها كتابٌ ... دَرْسُهُ مُحوجٌ إِلى الإِمعانِ
وانتهت من تلاوة الوجهِ منهُ ... ثمَّ همَّتْ بدرسِ وجهٍ ثانِ
فتراهُ بنفخةٍ قَلَبَ الوجهَ فلي ... سَتْ تحتاجُ مدَّ البنانِ
ولكم وقفةٌ لهُ ليس تُنسَى ... عندَ ذاك السريرِ ذي الأركانِ
وقدِ استحوَذّ النعاسُ عليها ... وتولَّى الكَرى على الأَجفانِ
يجتلي حُسنَ معصمَينِ أضاءا ... فوقَ مَلمومِ صدرِها الملآنِ
ولكم زَحزَحَ الستارَ , وأدنى ... ثغرَهُ فوقَ ثغرِها الظمآنِ
فرواها كما ارتوى , دون أن تخ ... جَلَ منهُ وليس بالخجلانِ
هكذا عاشَ في هواها زماناً ... ناعمَ البالِ خاليَ الأَشجانِ
حاسباً أنَّ للصفاءِ دواماً ... هل دوامُ الصفاءِ بالإِمكانِ؟
وَدّعِ الحبَّ يا نسيمُ , فقد جا ... َءك خصمٌ أقوى إلى الميدانِ
جاء مَنْ يَخطبُ الفتاةَ فتىً في ... عصرِهِ كانَ أبسطَ الفتيانِ
ما لهُ ميزةٌ على من سواهُ ... غيرُ مالٍ يَفيض كالغدرانِ
غرَّها كثرةُ الحلي , فمالت , ... وقديماً تهوى الحليَّ الغواني
رضِيَتْهُ بعلاً , فيا خيبةَ الآ ... مالِ م ذلك المحبِّ العاني
آهِ! مهما يكُ النسيمُ لطيفاً ... طَيِّبَ النَّشرِ عاطرَ الأردان
كيفَ يَسطيعُ صدَّ مالٍ وجاهٍ ... وحُليٍّ بهيَّةِ اللَّمَعانِ
لَهْفَ قلبي عليهِ! بعد مزيد ال ... عزّ يُمسي في ذلَّةٍ وهوانِ
واقفاً خلفَ كوَّةِ البيتِ يشكو ... بأنينٍٍ كأنَّةِ الثكلانِ
ولهُ كالحَمامِ طوراً هديلٌ ... وفحيحٌ آناً كما الثُّعبانِ(/)
ولكَم حدَّثَتهُ بالشّرِ نفسٌ ... ما لها بالشُّرورِ قبلُ يدانِ
فابتغى أن يصيرَ عاصِفَ ريحٍ ... هادِماً بيتَها على السكَّانِ
ولَدُنْ وافتِ الكنيسةَ بالمو ... كبِ تبغي إِتمامَ عقدِ القرانِ
عيلَ صبراً , فثارَ ثورةَ ليثٍ ... وأَثارَ الغُبارَ ملَء العيانِ
وانبرى للشموعِ يُطفِئُها غي ... ظاً ولم يحترمْ جلالَ المكانِ
زادَ حِقداً , فرامَ تجفيفَ ما في ال ... كأس حتى تبقى بلا قربانِ
ومُديرُ الناقوسِ ممَّا اعتراهُ ... أسمعَ الناسَ دقَّةَ الأحزانِ
كلُّ هذا لم يُجدِ نفعاً , وتمَّ ال ... عرسُ رغماً عن ذلك الهَيجانِ
فمضى هائماً على وجههِ وال ... صدرُ يغلي بالحقدِ كالبُركانِ
ساحَ في الأرض , مثستغيثاً ملوك ال ... ريحِ من كلّ صادقٍ مِعوانِ
بين هيفٍ وزعزعٍ ودَروجٍ ... وسمومٍ وعاصِفٍ مِرنانِ
ثمَّ وافى من بعدِ عامَينِ في جي ... شٍ خضمٍّ يموجُ كالطَّوَفانِ
خارِباً في طريقِهِ كلَّ ما م ... رَّ عليهِ من عامرِ البلدانِ
وصلَ البيتَ , وهو يحسبُ أن يَذ ... ريَهُ في الهواءِ مثلَ الدُّخانِ
إِذ رأى في جوانب الدارِ مَهداً ... فيهِ طفلٌ يبكي بغيرِ بيانِ
ولدى الطفلِ أُمُّهُ , وهي من خو ... فٍ عليهِ شديدةُ الخفَقانِ
فتلاشَتْ قواهُ , وانتصر الح ... بُّ عليهِ والحبُّ ذو سلطانِ
فجثا قُربَ طفلها , آخذاً عن ... ها يهزُّ السريرَ كالغلمانِ
صدَّ عني
صدَّ عني ولا عَجَبْ ... كلُّ شيءٍ لهُ سَببْ
ذهبتْ ساعةُ الرّضي ... وأتتْ ساعةُ الغضبْ
مستبدٌّ بحُكمهِ ... فأنا مثلُ ما أَحبّْ
تارةً صاحبُ المُنَى ... تارةً صاحبُ الكُرَبْ
فَلِقاءٌ بهِ الهنا ... وَفِراقٌ بهِ التَّعبْ
كلُّ ذنبي لأنَّ لي ... فيهِ صدراً قد التهبْ
ولأني عشقتهُ ... باردَ القلبِ والشَّنَبْ
ليالي الصيف في مصر
أذاعَ في مصرَ رسولُ البِشْرِ ... أنَّ ذُكاَء غَرِقَتْ في البحرِ
فَطَلَعَ البدرُ ضَحُوكَ الثغرِ ... وأقبلَ النسيمُ لطفاً يسري
وصَفَّقَتْ فَوْزاً مياهُ النهرِ
وبلغَ الرياضَ ذاكَ الخَبَرُ ... فاهتزَّ إِعجاباً وماسَ الشَّجرُ
وابتهجَ النّورُ بها والثَّمرُ ... والزُّهرُ من فوقُ إليها تنظرُ
ترى خيالَ ذاتِها في الزَّهرِ
ومن عجيبٍ أن تَرَى الطبيةْ ... تُظهِرُ ذي الشماتةَ الفظيعةْ
بالشمسِ وهي أُمُّها البديهةْ ... وَرَبَّةُ الكَلِمةِ المسموعةْ
تُطيعها في نهيها والأَمرِ
لكن بمصرِ ليسَ بالعجيبِ ... وقوعُ هذا الخطأِ المعيبِ
فكم بها من حادثٍ غريبِ ... والشمسُ فيها أحدُ الخطوبِ
في الصيفِ فهي أصلُ ذاك الحّرِّ
أُنظرْ فَبَيْنا الدُّورُ والقصورُ ... ليسَ بها حسٌّ ولا شعورُ
صامتةٌ كأنها قبورُ ... قدِ انبرَت بأهلِها تَمُورُ
وانْفَرَجَتْ عِقْدَةُ ذاكَ الحَصْرِ
أطلَّتِ الغِيدُ من الخدورِ ... كأنها الأقمارُ في سفورِ
يخطونَ في الدِّمَقْسِ والحريرِ ... مِن كلّ ظبيٍ أغَيدٍ غريرِ
مُهتضمِ الكشحِ دقيقِ الخصرِ
وخرجَ الناسُ إلى الساحاتِ ... يغتنمونَ فُرَصَ اللذَّاتِ
وارتفعت طَقطقةُ الساحاتِ ... من جعةٍ تُحسي ومن جلاَتِ
مبرّداتٍ مُنعِساتِ الصَّدرِ
تَنَفَّسَ الحيُّ ومنذُ حينِ ... كان يُعاني غًصَصَ المَنونِ(/)
مُنطرِحاً في ذلك الأتونِ ... فلم يكن يا ليلُ من مُعينِ
سِواكَ للخلاص من ذا الأَسرِ
يا أيها العبدُ الجميلُ الأسودُ ... أنتَ لنا المولى ونحنُ الأَعبُدُ
بل أنتَ في مصرَ إِلهٌ يُعْبَدُ ... ففيكَ طابت مُهَجٌ وأكبُدُ
أوْدى بها لولاكَ صيْفُ مصرِ
لأجلِ هذا قد تغنَّى المنشِدُ ... باسمكَ كلَّ ساعةٍ يُرَدّدُ
يا ليلُ! ليتَ الصبحَ ليسَ يُولَدُ ... وليتَ كلَّ أبيضٍ يا أسودُ
فداءُ هاتيكَ الثنايا الغُرِّ
يا صاحِ , فاسْلُ هذهِ النَّوادي ... حافلةَ القاعاتِ بالقُصَّادِ
إن رُمْتَ تَشفي غِلَّة الفؤادِ ... فاقصدْ معي ضِفافَ ذاك الوادي
حيثُ أبو الخيراتِ ظلَّ يجري
يا حبَّذا النّيلُ على ضوءِ القَمَرْ ... وحبَّذا الغبوقُ فيهِ والسَّحَرْ
ركبتُهُ كأنني على سَفَرْ ... في ليلةٍ ما عابَها غيرُ القِصَرْ
كذلك الصفوُ قصيرُ العمرِ
مَعَ غزالٍ من بني الإِفرنجِ ... مُهفهفِ القدِّ كثيرِ الغُنْجِ
ينظرُ عن سودٍ صِحاحٍ دُعجِ ... وجدتُ فيها كلَّما أُرَجّي
من روضةٍ وخمرةٍ وشعِرِ
والريحُ تسري حولَنا بليلا ... تبلُّ من صدورِنا الغليلا
كأنها آسٍ أتى عليلا ... وقدِ أبحناها اللَّمى تقبيلا
فما اكتفت بل عَيَثَتْ بالشَّعْرِ
والنّيِلُ يجري تحتَنا غزيرا ... تهزُّنا موْجاتُهُ سرورا
كما تهزُّ غادةٌ سَريرا ... قد نامَ فيهِ طفلُها قريرا
في مأمنٍ من عادياتِ الدَّهرِ
والبدرُ تلقى وجههُ في الماءِ ... سبائكاً من فضَةٍ بيضاءِ
تلمعُ إِذ تموجُ بالهواءِ ... كأنها السيوفُ في الهيجاءِ
ما بين كرٍّ دائمٍ وفَرّ
والأُفقُ زاهٍ بالنجومِ الغُرِّ ... كأنها لآليءٌ في نحرِ
جاريةٍ من الجواري السُّمرِ ... أو ياسمينٌ لاحَ في مخضرِّ
رَوضٍ تَرَوَّى من جُموعِ الفجرِ
وللنَّخيلِ منظرٍ مهيبٌ ... تُراعُ في جَمالهِ القلوبُ
فوقَ الضفافِ ظلُّها رهيبُ ... صفّاً بصفٍّ زانَها الترتيبُ
مِن كلِّ جبارٍ عظيمِ القَدَرِ
تحسَبها مَرَدَةً طوالا ... تحتَ مظلاَّتٍ زَهَتْ جَمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا ... سَحَرَها النيلُ فلن تَزَالا
واقفةً هنا بفعلِ السِحرِ
والذهبيَّاتُ بهِ جوارِ ... بين صُعودٍ فيهِ وانحدارِ
تبدو لنا زاهيةَ الأنوارِ ... كأنها لوامعُ الدَّراري
سابحةً فوقَ عبابِ الغَمرِ
وللشواطئِ لنا تردُّدُ ... فتارةً ندنو وطوراً نبعدُ
وللمياهِ حولَنا تنهُّدُ ... وزَفَرَاتٌ نحوَنا تُصَعَّدُ
والرّيحُ في الشّراعِ ذاتُ نَقْرِ
فلا نملُّ الضمَّ والتقبيلا ... وقد رَجونا الليل
هذا ونحنُ نتبعُ الأُصولا ... في الحبّ لا نبغي بها بديلا
فحبَّذا لو دامَ طولَ الدهرِ
وكانتِ الأكوانُ في هُجوعِ ... من حوِلنا باديةَ الخشوعِ
والزُّهرُ في السماءِ كالشُّموعِ ... قد أُوقدت لعرسِنا البديعِ
والليلُ قسّيساً لعقدِ السرِّ
فبينما نحنُ كذا سُكارى ... وقد خلعنا في الهوى العِذَارا
إذِ الصباحُ قد نضى البتَّارا ... وضَرَب الليلَ بهِ فدارا
وانسكبت دماؤُهُ كالخمرِ
فراغنا مشهدُ ذا القتيلِ ... وامتنعَ الحبُّ عن التقبيلِ
تهيُّباً للحادثِ الجليلِ ... فعدتُ مَعهُ لا أرى سبيلي
غيظاً على الصباحِ ربِّ الغدرِ(/)
يا حبَّذا النّيلُ على ضوءِ القَمَرْ ... وحبَّذا الغبوقُ فيهِ والسَّحَرْ
ركبتُهُ كأنني على سَفَرْ ... في ليلةٍ ما عابَها غيرُ القِصَرْ
كذلك الصفوُ قصيرُ العمرِ
مَعَ غزالٍ من بني الإِفرنجِ ... مُهفهفِ القدِّ كثيرِ الغُنْجِ
ينظرُ عن سودٍ صِحاحٍ دُعجِ ... وجدتُ فيها كلَّما أُرَجّي
من روضةٍ وخمرةٍ وشعِرِ
والريحُ تسري حولَنا بليلا ... تبلُّ من صدورِنا الغليلا
كأنها آسٍ أتى عليلا ... وقدِ أبحناها اللَّمى تقبيلا
فما اكتفت بل عَيَثَتْ بالشَّعْرِ
والنّيِلُ يجري تحتَنا غزيرا ... تهزُّنا موْجاتُهُ سرورا
كما تهزُّ غادةٌ سَريرا ... قد نامَ فيهِ طفلُها قريرا
في مأمنٍ من عادياتِ الدَّهرِ
والبدرُ تلقى وجههُ في الماءِ ... سبائكاً من فضَةٍ بيضاءِ
تلمعُ إِذ تموجُ بالهواءِ ... كأنها السيوفُ في الهيجاءِ
ما بين كرٍّ دائمٍ وفَرّ
والأُفقُ زاهٍ بالنجومِ الغُرِّ ... كأنها لآليءٌ في نحرِ
جاريةٍ من الجواري السُّمرِ ... أو ياسمينٌ لاحَ في مخضرِّ
رَوضٍ تَرَوَّى من جُموعِ الفجرِ
وللنَّخيلِ منظرٍ مهيبٌ ... تُراعُ في جَمالهِ القلوبُ
فوقَ الضفافِ ظلُّها رهيبُ ... صفّاً بصفٍّ زانَها الترتيبُ
مِن كلِّ جبارٍ عظيمِ القَدَرِ
تحسَبها مَرَدَةً طوالا ... تحتَ مظلاَّتٍ زَهَتْ جَمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا ... سَحَرَها النيلُ فلن تَزَالا
واقفةً هنا بفعلِ السِحرِ
والذهبيَّاتُ بهِ جوارِ ... بين صُعودٍ فيهِ وانحدارِ
تبدو لنا زاهيةَ الأنوارِ ... كأنها لوامعُ الدَّراري
سابحةً فوقَ عبابِ الغَمرِ
وللشواطئِ لنا تردُّدُ ... فتارةً ندنو وطوراً نبعدُ
وللمياهِ حولَنا تنهُّدُ ... وزَفَرَاتٌ نحوَنا تُصَعَّدُ
والرّيحُ في الشّراعِ ذاتُ نَقْرِ
فلا نملُّ الضمَّ والتقبيلا ... وقد رَجونا الليل
هذا ونحنُ نتبعُ الأُصولا ... في الحبّ لا نبغي بها بديلا
فحبَّذا لو دامَ طولَ الدهرِ
وكانتِ الأكوانُ في هُجوعِ ... من حوِلنا باديةَ الخشوعِ
والزُّهرُ في السماءِ كالشُّموعِ ... قد أُوقدت لعرسِنا البديعِ
والليلُ قسّيساً لعقدِ السرِّ
فبينما نحنُ كذا سُكارى ... وقد خلعنا في الهوى العِذَارا
إذِ الصباحُ قد نضى البتَّارا ... وضَرَب الليلَ بهِ فدارا
وانسكبت دماؤُهُ كالخمرِ
فراغنا مشهدُ ذا القتيلِ ... وامتنعَ الحبُّ عن التقبيلِ
تهيُّباً للحادثِ الجليلِ ... فعدتُ مَعهُ لا أرى سبيلي
غيظاً على الصباحِ ربِّ الغدرِ
النجوم
قلتُ للنّيراتِ ذاتَ مساءِ ... أتُرَى أنتِ مثلَنا في شقاءِ؟
ساهراتِ الجفونِ , هل لفراقٍ؟ ... خافقاتِ الضلوعِ , هل للقاءِ؟
هائماتٍ مع المجرَّةِ تجري ... نَ إلى غيرِ غايةٍ أو رَجاءِ
مثلَ سربٍ من القطا ظامئاتٍ ... حولَ ماءٍ يُمعنَنَ وِرْدَ الماءِ
أو عذارى من حولِ نعشٍ حيارى ... في صلاةٍ ما تنقضي وَدُعاءِ
إِنَّ في لحظكِ الشجيّ حنيناً ... نافذاً سهمُهُ إلى أحشائي
وأرى نورَك الضئيلَ كدمعٍ ... سائلٍ من محاجرٍ بيضاءِ
أثغورٌ كئيبةٌ , أم جراحٌ ... أنتِ في اللاَّنهايةِ السوداءِ؟
أنتِ يا جدَّةَ الخلائقِ , أمَّ الده ... ر , يا ربَّةَ الهُدى والضياءِ(/)
أنتِ تبكينَ يا نجومُ؟ أجابت ... نحنُ في عزلةٍ بهذا الفضاءِ
بينَنا الهجرُ من قديمٍ فلا يغ ... رُرْكَ منّا تقارُبُ الأَضواءِ
كلُّ نجمٍ منَّا يعيشُ بعيداً ... عن أخيهِ تقارُبُ الأَضواءِ
مُحرِقاً نفسهُ بغيرِ انتفاعٍ ... ذاهباً نورُهُ سدىً في السماءِ
قد فهمتُ الذي تقولينَ يا شه ... بُ فأنتنَّ أنْفُسُ الشُّعَرَاءِ
هكذا نورُها يضيعُ بأفقٍ ... نَزَلتْ منهُ منزِلَ الغُرَباءِ
لا تَرَى الأنفُسُ الغريبةُ منها ... ما بها من تَوَقُّدٍ وذكاءِ
فتنيرُ الظَّلامَ حيناً وتمضي ... في ثيابِ الخلودِ نحوَ الفناءِ
الدكتور نقولا فياض
شاعر رقيق التشبيب حلو التغزّل , موسيقي التراكيب , تشف معانيه عن شعور دقيق , وينم أسلوبه عن سلامة في الذوق. وهو كشقيقه في مذهبه الشعري حتى أنه لو نظم أحدهما القصيدة ووقعها الآخر لصحت نسبتها إليه
زهرة بنفسج
أَهوى البَنَفَسجَ آيةَ الزَّهرِ ... في الشَّكلِ والتصويرِ والعطرِ
وأُحبُّهُ في الأرضِ مُختَبئاً ... وأُحبُّهُ في بارزِ الصّدرِ
ولكلِّ عذراءٍ أُقدِّمُهُ ... ما دامَ فيهِ حياؤُهُ العُذري
لكنْ شَجاني منهُ حادِثةٌ ... أَجرتْ دموعَ عرائسِ الشعر
هيَ زهرةٌ بجوارِ ساقيةٍ ... نبتَت وعاشت عيشةَ الطُّهرِ
لم تدرِ غيرَ العشبِ مُتَّكأً ... وسوى عناقِ الماءِ لم تدرِ
فاستيقظَتْ يوماً كأنَّ بها ... سكراً وقد شَرِبَتَ نَدى الفجرِ
تَبكي جوىً وتَقولُ: ما أمَلي ... لو عِشتُ خالدةً بذا القَفرِ
حسناءُ لكنْ لا عيونَ تَرى ... حُسني , ولا مِنْ عارفٍ قَدري
هلاَّ صَعدتُ إلى ذُرى جَبلٍ ... وبَدلتُ هذا الكوخِ بالقَصرِ
فأَرى الجديد من الوجودِ وما ... تحوي معاني الكونِ من سِحْر
وأُشارفَ الدُّنيا وأجعلَها ... تَطوي مناظرَها على نَشري
قالت , وقامَ بها الهوى فمَشتْ ... في القفرِ مثلَ ظِبائِهِ العُفرِ
والرّيحُ تحملُها وتُقعِدُها ... وتَموجُ بينَ الشَّعرِ والخّصرِ
حتَّى إذا صعَدت وما ابتعدتْ ... وقَفتْ تُجيلُ الطرفَ عن كِبْر
فاستبشرتْ بالفوزِ وانطلقتْ ... تعدو ولا تلوي على أمرِ
وحلا لها السفَرُ البعيدُ , وما ... حسبت حسابَ الحلوِ والمرِّ
الأرضُ مُوعِرةٌ ومُحرِقةٌ ... فكأَنَّها تمشي على جَمرِ
ورفيقها هُوجُ الرياحِ , وقد ... ثارتْ عليها ثورةَ الغدرِ
ترمي بها كلَّ الجهاتِ , فلا ... ترتاحُ من كرٍّ إلى فرِّ
حتى أصابت هضبةً , فإِذا ... فيها نعيمُ العينِ والفكرِ
من تحتِها الجناتُ مشرقةٌ ... بالزَّهر كالأفلاكِ بالزُّهرِ
والناسُ والأشياءُ مائجةٌ ... كالبحرِ في مَدٍّ وفي جزرِ
قالت بدأتُ أرى فواطَرَبي ... لو كنتُ أبلغُ موطئِ النَّسرِ
أعلو إلى قُممٍ تحجّبها ... تلك الغيومُ بحالكِ السترِ
فأرى بديعَ الكونِ تحت يدي ... وأفضَّ منهُ غامِضَ السرِّ
يا للبنفسجةِ الجميلةِ من ... أهوالِ ما قاستْهُ لو تدري
عزَّ السبيلُ إِلى مطامِحها ... في مصعدِ الأشواكِ والوعرِ
وأَصابَ أَرجلَها الضعيفةَ ما ... يمني الحديدَ الصلْبَ بالكسرِ
فتأوَّهتْ نَدَماً ولو قدرتْ ... رجعتْ على أعقابِها تجري
لكنَّها داختْ , وصيَّرها ... خوفُ السقوط كراكبِ البحرِ(/)
فتشبَّثتْ بالأرضِ مُفرِغةً ... جُهدَ القوى وبقيَّةَ الصبرِ
حتى تسنَّمتِ الذُرى , وغدتْ ... في الأَوج تتلو آيةَ الشكرِ
لكنَّها لم تلقَ , واأسفي , ... في الأوجِ غيرَ جلامدِ الصخرِ
لا عشبَ يَنبتُ في جوانبهِ ... أبداً , ولا أثَرٌ لمخضرِّ
والعاصفاتُ كأنَّها أُسُدٌ ... في الجوِّ تزأَرُ أيَّما زأرِ
والغيمُ ساوى في تلبُّدهِ ... ما بين نصفِ الليلِ والظهرِ
فجثتْ لأوَّل مرَّةٍ , وبكتْ ... كالطفلِ من تَعَبٍ ومن ذُعرِ
والبردُ أفسدَ لونَها كمداً ... من كلّ مزرَقٍّ ومحمَرِّ
فاصفرَّ ذياك الجبينُ , كما ... ذهبتْ نضارةُ ذلك الثغرِ
من قهرِها أنَّتْ , وقد سُمعتْ ... وسطَ الزوابعِ أنَّهُ القهرِ:
يا ليتني لم أصْبُ نحو عُلىً ... وبقيتُ بينَ عرائسٍ الزهرِ
ثمَّ ارتمتْ ضعفاً وأَخرَسها ... شبَحٌ بدا من جانب القبرِ
وتصلَّبتْ أعصابُها , ومضتْ ... بالموت هاويةً إلى القعرِ
مسكينةٌ قد غرَّها شَرَفٌ ... هو كالسَّرابِ لكلّ مُغترِّ
ظنَّتْ بأنَّ لها العلاَء غِنىً ... فإذا بهِ فَقرٌ على فقرِ
ما كان أهنأَها وأسعدَها ... لو لم تُفارقْ ضفَّةَ النهرِ
اذكريني
ترجمة قصيدة - لألفرد ده موسه
اذكريني , كلَّما الفجرُ بدا ... فاتحاً للشمسِ قصرَ الذهَبِ
واذكريني كلَّما الليلُ مضى ... راكضاً بين جنودِ الشُّهُبِ
وإذا ما صدرُكِ ارتجَّ على ... نَغَمِ اللذَّاتِ وقتَ الطرَبِ
أو دعاكِ الظلُّ يا ميُّ إلى ... لذَّةِ الأحلامِ عندَ المغربِ
فاسمعي من داخلِ الغابِ صدى ... صارخٍ فيهِ يُناديكِ: اذكري!
اذكريني إِن غدا صَرْف ُالقَدَرْ ... فاصلاً ما بيننا للأَبدِ
يومَ لا تُبقي الليالي والعِبَرْ ... من رجاءٍ لفؤادي الكَمِدِ
واذكري حُبّاً بهِ قلبي انفطرْ ... ووداعاً ذابَ منهُ كبدي
وإذا الحبُّ على القلبِ انتصر ... غلبَ البعدَ وطولَ الأَمَدِ
وأنا ما عِشتُ يكفيني خَبرْ ... منكِ والقلبُ يُناديكِ: اذكري
اذكريني , عندما ما ألقى المَنونا ... ويَضُمُّ ذا القلبَ الكسيرْ
عندما تفتحُ للفجرِ الجفونا ... زهرةُ القفرِ على قبري الحقيرْ
لن تَري من بِعدها ذاك الحزينا ... إِنَّما نحوَكِ روحي ستطيرْ
وبها أبقى على العهدِ أمينا ... جاعلاً حُبَّكِ لي خيرَ سميرْ
واسمعي من جانب القبرِ أنينا ... هاتفاً في ظلمة الليل: اذكري!
أصابع العاج
ليس البيانو الذي باتت تُكهرِبهُ ... يداكِ أطوعَ من قلبي وأفكاري
لَمَستِهِ فتمشَّى السحرُ بي , فكما ... تهتزُّ أوتارُهُ تهتزُّ أوتاري
أصابعُ العاجِ هذي تلعبينَ بها ... أمْ تلعبينَ بأسماعٍ وأبصارِ؟
تامر بك ملاط
شاعر بليغ فحل , جاهلي الديباجة , سما به شعره إلى طبقة أكابر الشعراء وكاد يكون في طليعتهم لولا أنه أصيب فجأة - وهو عصبي المزاج حاد الذكاء - بمرض في عقله على أثر حادث سياسي لا محلّ لذكره , فاستولى عليه ذهول بات يهيم منه على وجهه لا سلوى له إلا الشعر يقوله متى ثاب إليه رشده فيأتي فيه بالبديع المطرب. وفي القصيدة التالية وصفه لنفسه في حالة مرضه:
الشاعر المريض
دعاني أجْزَعِ الغَمَّا ... فَجفني بالأَسى نمَّا
وخَلاَّني أُصيحابي ... وسهمُ الغدرِ قد أصمى(/)
فلم أُبصر أَخاً يُرجَى ... ولا خالاً ولا عمَّا
وراحَ الحظُّ عن شكوا ... يَ في أُذنٍ لهُ صَمَّا
وجدَّ الدهرُ في قهري ... يحثُّ الهمةَ الشمَّا
رأيتُ الناسَ تخشاني ... كأَنّي وابئُ الحُمَّى
فلا أَدرِي أحيّاً ب ... تُّ أم ميتاً قضى ظلُما
أرى بيني وبين البُؤ ... سِ وُدّاً طافحاً يمَّا
أما من مُفسدٍ واشٍ ... سعى بالوشيِ مهتمَّا
فخلَّى ودَّنا شملاً ... شَتيتاً لَنْ يَرى لمَّا
يميناً! حارَ عقلي في ... حياةٍ تُشبِهُ الحُلما
أَرى فيها من الأضدا ... دِ ما يستوقِفُ الفَهما
أَعاجيبٌ قَضَتْ منّي ... شُؤُوناً بالأذى جَمَّا
فبي كالضربِ آلاماً ... وما من ضاربٍ همَّا
وكالتجريحِ أوجاعاً ... وما من جارحٍ أمَّا
وكالنيرانِ تَشِوي الرو ... حَ ثُمَّ اللحمَ والعظما
ولا نارٌ ولا جَمرٌ ... ولا ما يُشعِلُ الفحما
وكالأدواءِ أعراضاً ... تُذيبُ الصخرةَ الصمَّا
وما من علَّةٍ تُشكّى ... لطبٍّ يُبرِئُ السُقما
وكالأغلالِ في جسمي ... ولم أحملْ بهِ دُهما
وعَقلٌ ذاهلٌ ساهٍ ... سَجينٌ مُوثَقٌ رمَّا
كأني غيرُ موجودٍ ... وموجودٌ قدِ اهتمَّا
أراني قد أرى ريِناً ... بأنفِ الحقِّ قد شمَّا
أشكُّ اليومَ بي , حتَّى ... وجودي خِلتُهُ وَهما
فقبلي لم يكنْ سجنٌ ... يَعمُّ الروحَ والجسما
حبيسُ الروحِ عن حِسٍّ ... وفكرٍ سرَّ أو غمَّا
وعن حفظٍ وعن ذكرٍ ... وعن حُكمٍ , ولو مهما. . .
حبيسُ الفعلِ ثُمَّ النط ... قِ , لا حتى , ولا أَمَّا
ولا سَمعٌ ولا شوقٌ ... ولا لمسٌ ولا شمَّا
قُوىً محبوسةٌ جمعا ... ءُ ممَّا خصَّ أو عمَّا
فِعالٌ وانفعالاتٌ ... ولا حريةٌ ثمَّا
وحسَّاسٌ جَمادٌ في ... زمانٍ واحدٍ حكما
مَقُودٌ غيرُ مختارٍ ... كأني آلةٌ صمَّا
إِذا ما حشرةٌ أزَّتْ ... عرتني هزَّةٌ رُغما
وإِن صرَّ الذُّبابُ الغَثُّ ... صرَّتْ أضلُعي ممَّا. . .
ويأتيني البُكا عَفواً ... ويَعصيني البُكا لمَّا. . .
ولا أسطيعُ جَذْبَ النف ... سِ عن ضحك بيَ أئتمَّا
ولا أقوَى على ضحكٍ ... إذا أمَّتُهُ أمَّا
وحالٍ كالغنى شكلاً ... بفقرٍ مُدقعٍ نمَّا
رياشٌ جَمَّةٌ شتَّى ... ومالي مسُّها جَزما
طعامٌ شائقٌ حُلوٌ ... ولكن مرَّ لي طعما
ونومٌ دونَ تهويمٍ ... تراهُ أعيُني حَتما
شؤونٌ لو رواها الحُ ... رُّ نالتْ سمعَ مَن صمَّا
وقالوا: جِنَّةٌ عاثتْ ... بعقلي , فالتوَى رقما
وقالوا: إِنَّما القسي ... سُ فيهِ نافِعٌ حَسما
خرافاتٌ وأوْهامٌ ... تَعيبُ العقلَ والعِلما
وقالوا إِنهُ داءٌ ... لأعصابي قدِ انضما
ومنهم مَن رأى شيئاً ... ولا أكنى ولا سمَّى
فهذا النزرٌ ممَّا بي ... على ما أسطعتهُ نَظما
ولا أرتادُ للأيا ... مِ تَمداحاً ولا ذمَّا
فذا حظي من الدنيا ... فدعني , لا تزِدْ غمَّا
شبلي بك ملاط
هو من أمراء الشعر في الشام , ومن صاغة الكلام الذين يشار إليهم بالبنان , سريع
الخاطر سم القريحة , يجيش الشعر في نفسه فيجري فصيحاً على لسانه دون أن يكدّ طبعه. أما نظمه فجزل الألفاظ , مَحكم النسج , مطرد السياق , لا تعلق به ركاكة ولا ظل عليه للابتذال.(/)
مطوقة القطرين
أنشدت في حفلة سركيس لتكريم خليل أفندي مطران
لمشَت إلى الأَهرامِ أرضُ الشامِ ... لو تستطيعُ جوىً إلى الأَهرامِ
ذكَرَتْ جمالْ النّيلِ فانطلقت إِلى ... واديهِ بالأرواحِ والأحلامِ
وحلَتْ لها النَّجوى بهِ , فكأَنَّهُ ... سِينا الهُدَى ومحجَّةُ الإِلهامِ
خلعَتْ عليهِ الزاهراتُ جمالَها ... وحَنَتْ عليهِ مَراضعُ الإِعظامِ
مجدٌ بناصيةِ السَّحابِ مشدُّهُ ... قامت دعائمهُ على الإِسلامِ
يمشي على هامِ القرونِ , كأنَّما ... أقدامُهُ منها مكانُ الهامِ
مصرٌ لهُ أُمٌّ , وما مصرٌ سوى ... مهدِ الأسُودِ ومسرحِ الآرامِ
ما ضرَّها , وبنودُها معقودةٌ ... بالنيّرينِ , تقلُّبُ الأحكامِ
ولها من العبَّاس صمصامٌ على ... حدَّيهِ مجلَي الشكِّ والأوهامِ
ملِكٌ يطوفُ بهِ الجلالُ ومجدُهُ ... تُغْضِي العيونُ لديهِ وهيَ شوامِ
للشعرِ تهليلٌ إِذا علَّلتَهُ ... بِثَنا الأميرِ , وهِزَّةُ استغرامِ
سَعَدت قوافيهِ بهِ , وترنَّحت ... أيامهُ تيهاً على الأيامِ
حنَّتْ إليه رفاتُ أحمدَ , وانثنى ... طرِباً ببهجتهِ أبو تمَّامِ
وصبا إليهِ البحتريْ واشتاقَهُ ... مثوى عظامٍ في التراب عِظامِ!
يا هيكلَ الشِّعرِ الذي انبلجَ الهُدى ... من جانَبيهِ وحكمةُ الأعوامِ
غنَّتكَ من برناس أبكارُ الهوى ... وبناتُ عذرةَ أقدسَ الأنغامِ
ونشقنَ من أطيابِ تربكَ عنبراً ... ولَثَمْنَ منكَ مواقعَ الأَقدامِ
تتلامسُ الأرواحُ فيكَ , وتشتكي ... عند التفرُّق ثقلةَ الأجسامِ
خلَّدتَ تروادا وأبطالاً لها ... وردوا الحروبَ خوافقَ الأعلامِ
وحفظتَ للعرَبِ الكرامِ مآثراً ... وضَّاءةَ الأحسابِ والأحلامِ
هَبْ لي من الوحي الكثيرَ فانثني ... والسحرُ نظمي , والبيانُ كلامي
في محفلٍ فخمٍ بكلّ مبلَّجٍ ... طلقِ الجبينِ وأصيدٍ بسَّامِ
فَلَكٌ تحفُّ سَراتُهُ بمحمَّدٍ ... مثلَ النجومِ تحفُّ بدرَ تمامِ
شخصتْ لهث صِيدُ الحجازِ وساجلتْ ... بعليّهِ صُيَّابةً الأعجامِ
وتصافحتْ مصرٌ وسوريا بهِ ... تتعانقانِ على رضيً وَوِئامِ
شَمْلٌ تعهَّدهُ , فضمَّ شتيتَهُ ... مُحيي القريضِ ودولةِ الأقلامِ
تجري العناصرُ باسمهِ: خالاً إلى ... خالٍ , وأعماماً إلى أعمامِ
والناسُ إِنسانيَّةً جَمَعَتْهُمُ ... لو فكَّروا صِلَةٌ من الأرحامِ
أعزز على عصرِ التمدُّن أن يَرى ... جوَّ السلامِ مُلبَّداً بقَتامِ
ومن الجبالِ على البحارِ صواعقٌ , ... ومن القذائفِ للصدورِ مرامي
ومن الصوافنِ للعجاجِ صواهلٌ , ... ومن الصوارمِ للنجيعِ ظوامي
أرقى الممالكِ في العيونِ تمدُّناً ... أوفى ممدَّاتٍ ليومِ صدامِ
ومن البليَّةِ أن نرى همجيَّةٌ ... طُليتْ دهانَ تمدُّنٍ نمَّامِ
بينا ننادي بالإِخاء , إِذا بنا ... نمشي على جُئَثٍ تُدَقُّ وهامِ
والحربُ كالحةُ الجبين ودونَها ... جيشٌ لُهامٌ فاتكٌ بلُهامِ
من لم يمتْ بقذيفةٍ أودى بهِ ... عندَ التلاحُمِ ضربةٌ بحُسامِ
تلك النفوسُ ودائعٌ عبثتْ بها ... لو تستفيقُ , مطامعُ الحكَّامِ
الله! لطفَكَ يا كريمُ بأُمَّةٍ ... شَقِيَتْ ليومِ تقسُّمِ وخُصامِ
حنَّت إلى البُسفورِ باكيةً كما ... حنَّ الحمامُ مطوَّقاً لحمامِ(/)
واللهِ ما تبكي الحظوظَ وإِنَّما ... تبكي انقسامَ رجالِها الأعلامِ
قذفوا بها من حالقٍ واستسلموا ... ليدِ الضغائن أيَّما استسلامِ
فأضاعتِ الجيشَ السياسةُ , وهو لم ... يُخلَق لغير مُهنَّدٍ صمامِ
أخطا الألى نسبوا لبعضِ عناصرٍ ... منها شعورَ شماتةٍ وتحامِ
فَلَنَحْنُ نَعلمُ أن عرشِ محمَّدٍ ... خيرٌ لنا من دولةِ الأروامِ
بل نحنُ نفهمُ أَنَّهُ بَرٌّ بنا ... من كلّ محتكمٍ من الآنامِ
ولئنْ تسكَّعَ جاهلٌ فردٌ , فهل ... يسري على المجموعِ شبهُ مَلامِ؟؟
أمعاشرَ النيل الأُلى قد ضمَّدوا ... بالحودِ جرحَ المجهَديِنَ الدامي
خفَّفتمُ عبَء الشقا , وبَعثتمُ ... تحتَ الهلالِ مَراهِمَ الآلامِ
ومطَرتم دارَ السعادةِ مثنعشاً ... وسهرتمُ للخطبِ غيرَ نيامِ
خطَّ الثناَء لكم دمُ الجرحى بها ... ودعَتْ لمصرَ مدامعُ الأيتامِ
وإلى سليلِ الضاربينَ من التقى ... بيتاً تُقدِّسُهُ عشائرُ سامِ
أنضى العفاةُ مطيَّهم , واستقبلوا ... من راحتَيهِ أخا السَّحابِ الهامي
فاسمعْ حفيفَ دعاءِ عثمانٍ وقد ... ذكروا الجميلَ بركعةٍ وصيامِ
بالفرقدَين بعابدينَ جلالةً ... طافوا بمحرابٍ لهم وإِمامِ
سَلْ عن أميرِ النيلِ سوريَّا وما ... فيها لهُ من موثقٍ وذمامِ
من ورقِ جابيها إلى كولمبُسٍ ... حجَّتْ هواهُ أكارمُ الأقوامِ
يتلمَّسُ السوريُّ من وجدٍ بهِ ... أُنسَ الضُّحَى في وحشةِ الإظلامِ
ويشوقُهُ سفحُ المقطَّمِ ذاكراً ... أوطانَ أحبابٍ إليهِ كرامُ
ما وجدُ غَيلانٍ بميٍّ مثلهُ ... وجداً ولا عفراَء بابنِ حزامِ
أَمعاهدَ الأحباب حسبُكِ شاعر ... من شعرهِ زَهرُ الربيع النامي
رقَّتْ حواشيهِ وذابَ , فخلتنُي ... منهُ استعرتُ مدامِعي وغَرامي
في النيلِ مهبطُ وحيهِ ورنينُهُ ... في الخافِقَينِ لهُ صدىً مُترامِ
فإذا ذكرتَ لهُ الخليلَ تمايدت ... أعطافُهُ طَرَباً بغيرِ مُدامِ
من بعلبكَّ , وآلهُ القومُ الأُلى ... بلغوا من العلياءِ كلَّ مُرامِ
أَفتى الشواردِ , كم سهرتَ وكم جَرتْ ... منكَ الجفونُ على الطروسِ دوامي
حتَّى بلغتَ مكانةً تَعِبَت لها ... نفسُ أمريءِ صعبِ القيادِ عصامي
عِلْمُ الفتى حليٌ ولكنْ قدرُهُ ... يعلو إِذا رصَّعتَهُ بوسامِ
بعضُ الفضائل لا يتمُّ جمالُها ... إِلاَّ إِذا عزَّزتَها بتمامِ
مثلاً أضِف للعلم بعضَ دعائمٍ ... من سدرةِ المجدِ الأغرِّ السامي
تتصيَّدِ الجوزاَء دون حبائلٍ ... وتَقُدْ جماحَ الدهرِ دونَ زمامِ
لحظتْكَ لاحظةَ الأمير فأغدقت ... سُحُبَ الرجاءِ على الفؤادِ الظامي
خصَّتكَ من إِنعامها وكأنَّها ... عمَّت بلادَ الشامِ بالإِنعامِ
وَطَرٌ , فأَوَّلُ جولةٍ فَرَحاً بهِ ... لدمي , وأوَّلُ خَفقةٍ لعظامي
ما بيننا نسبُ الخيالِ , وحبَّذا ... نَسَبُ الشعور ودقَّةُ الإفهامِ
فاهنأْ بما أدركْتَهُ ولعلَّهُ ... قد جاَء تَوطئةً لغيرِ مقامِ
واحرصْ على إِخوانك الغرِّ الأُلى ... قاموا بعهدِ ولاكَ أيَّ قيامِ
واذكر لسركيس كياستَهُ وما ... أُوتيهِ من حزمٍ ومن إِقدامِ
أمَّا أنا فبلطف روحِكَ شاعرٌ ... والشَّوق شوقي والهيامُ هيامي
فإِذا سمعتَ النوحَ فهو صبابتي ... وإذا استطبتَ الريحَ فهي سلامي(/)
طانيوس عبده
هو شاعر ناثر متفنن في كلتا الصناعتين , جيد الملكة , لطيف التخيل , عصريّ المعنى , مستعذب اللفظ , نظم كثيراً , وكتب أكثر , وأكسبته رواياته شهرة بعيدة بين قراء العربي , وأنزله شعره منزلة كريمة بين أمائل الشعراء
حديث قديم
أتيتُ فألفَيْتُها ساهِرَة ... وقد حَمَلَتْ رأسَها باليَدينْ
وفي صدرِها زهرةٌ ناضِرَة ... رأيتُ بأطرافِها دَمعتَينْ
وقد وقفتْ دمعةٌ حائِرَة ... على خدّها مثلَ ذَوبِ اللُّجيَنْ
فقلتُ على مَ لبكا والحَزَن؟ ... وكيفَ تبدَّلَ ذا الاِِبتسامْ؟
فقالت: هوَ الدهرُ لا يُؤتَمَنْ ... وفي قوسهِ منزعٌ للسّهامْ
رضيتُ الذكاءِ رضيتُ الحسَبْ ... رضيتُ اليراعَ يخطُّ العَجَبْ
فلا نسَب اليومَ غيرُ النَّشَبْ ... وإِنَّ بُكائي لهذا السَّببْ
فقلتُ: على مَ عزمتِ إِذَن؟ ... فقالت: ومدَّتْ يداً للوئامْ
إذا أنا ما صُنتُ عهدي فَمَنْ؟ ... فقلتُ: ومثليَ يرعى الذّمامْ
وكان الفِراقُ وكانَ التَّدانْ ... تَدَاني الفؤادِ وهجرُ الجسَدْ
يمرُّ بنا الشوقُ في كلِّ آنْ ... فيخطفُ من صبرِنا ما وَجَدْ
إلى أن تحجَّرَ صدرُ الزمانْ ... وخلْنا الفِراقَ فراقَ الأبدْ
فلمَّا شفعنا إليهِ فَحنّ ... وأسهرَ أجفانَنا ثمَّ نامْ
رأت ورأيت ُمِثالَ الشَّجَنْ ... تجسَّمَ في هيكلٍ من عِظامْ
وكان نَدَى الطّلِّ فوق الشَّجَرْ ... يسيلُ فيُبكي عيونَ الورَقْ
وقد عِلَقت نُقَطٌ بالثَّمَرْ ... كما وَقَفَ الدمعُ تحت الحَدَق
فقلتُ انظري الطير كيف استَترْ ... ونَوَّحَ يندبُ عهداً سَبقْ
فقالت تنقَّلَ فوقَ الفَننْ ... وليس جواهُ جَوى مُستهامْ
أليسَ التنقُّلُ في شرعِ مَنْ ... يُحبُّ حرامٌ؟ فقلتُ حَرامْ
أُحبّكِ لا لجمالٍ وُصِفْ ... فكانَ الرسولَ إلى كلّ قلبِ
ولا لكمالٍ بهِ تَتَّصِفْ ... صِفاتُكِ في كلّ صوبٍ وحَدبِ
ولا لذكاءٍ عجيبٍ عُرِفْ ... فكانَ السبيلَ إلى كلِّ عُجبِ
ولكنَّ هذا الفؤادَ افتَتن ... بأنتِ وأنتِ المثنى والمرامْ
وكلُّ الذي فيكِ حلوٌ حَسَنْ ... وكلُّ الذي بفؤادي هُيامْ
سلامٌ على روحِكِ الطاهِرَة! ... سلامٌ على سِرِّ ذاك الكمال
سلامٌ على ذاتكِ الحاضِرَة ... بقلبٍ يَراها بعينِ الخيالِ
سلام على مُهجةً طائِرَة ... حنيناً إلى ذلكَ الاتّصالِ
تُفَرِّقُنا عادياتُ الزَّمَنْ ... وتجمَعُنا حادثاتُ الغَرامْ
فنحيا جُسوماً بهذي الفِتَنْ ... ونحيا نفوساً بذاك السلامْ
بنتي ودوائي
تطوفُ في البيتِ مثلَ ال ... عصفورِ تطلبُ حَبَّا
حتى التقتْ بإناءٍ ... فيهِ الأرزُّ تخبَّا
تناولتهُ وألقتْ ... بهِ إلى الأرضِ غَضبى
وراعَها ما أتتْهُ ... فأسرعتْ تتخبَّا
حتى إذا صارَ أمناً ... ذاك الذي كان رُعبا
وأيقنتْ أنَّ ما قد ... جَنَتْهُ لم يكُ ذنبا
دَبَّتْ إلى الحَبِّ دَبّاً ... وأمعنتْ فيهِ نَهبا
تَذْري الحبوبَ على الأر ... ضِ , وهيَ تضحكُ عُجبا
فليسَ تقبَلُ زجراً ... وليسَ تفهمُ عَتبا
وتملأُ الأرض حَبَّا ... وتملأُ البيتَ حُبَّا
فقلتُ: يكفيكِ زَرعاً ... لا ترتجي فيهِ خَصْبا
يا بنتُ , قد ساَء طفلٌ ... على العنادِ تربَّى
فاستضحكتْ فرَحاً إِذ ... ظنَّتْ أقول المربَّي(/)
وكان عندي دواةٌ ... كم فرَّجت ليَ كَرْبا
وسوَّدت ليَ حظّاً ... وبيَّضت ليَ قلبا
تَوَهَّتَهْا إِناَء الحُل ... وى فجاَءتهُ وَثْبا
وهاجَمَتْها تُريد الحُل ... وى غلاباً وغَصْبا
أردُّها , لا تبالي , ... أصدُّها , وهي تأبى
فكانَ مَوْقِفُنا في ال ... خصامِ يُشبهُ حَرْبا
تغلَّبتْ , وهيَ طفلٌ ... والطفلُ يأنَفُ غُلبا
فكان حظُّ دواتي ... والحبرِ كسراً وصبَّا
وارحمتا لدواتي! ... وقد سباها الأحِبَّا
كانت لدى الغزوِتَسبي ... فصارتِ اليومَ تُسبَى
بشارة الخوري
عِشتُ شَقيّاً ولم أُبالِ ... ولم يمرَّ الهنا ببالي
أُعِّلُ النفسَ في نَهاري ... والزمُ الدرسَ في الليالي
رقَّ شُعوري فَرَقَّ جِسمي ... ورَقَّ دينيو ورَقَّ مالي
أديب ذكي الفؤاد , حساس النفس , إذا كتب راضيا سالت كلماته رضى وصفاء , وإذا كتب غاضباً قطر قلمه سماً زعافاً. أنشأ في بيروت جريدة البرق فملأها أدباً , فمهدت له الشهرة الواسعة التي يتمتع بها اليوم. أما شهره فعواطف مرصفة تؤديها ألفاظ جزلة سلسة مصوغة في قالب مَلئة الرونق والبيان.
البلبل والبوم
يا هندُ قد ألِفَ الخميلةَ بلبلٌ ... يشدو فتَصطَفِقُ الغُصونُ وتطربُ
هو شاعرُ الأطيارِ لا مُتكبِّرٌ ... صَلِفٌ , ولا هو بالإِمارةِ مُعجَبُ
تتعشَقُ الأزهارُ عذْبَ غِنائهِ ... فإذا شَدا فبكلِّ ثغرٍ كوكبُ
والغصنُ , والأَوراقُ آذانٌ لهُ , ... ماذا تثرى فيها النسيمُ يُتَبِتبُ؟
وإذا الضُحى لمعَت بوارِق ثغرهِ ... نادى بأجنادِ الطيورِ تأهَّبوا
فسمعتَ للأَطيارِ موسيقي على ... نغماتِها يأتي النهارُ ويذهبُ
والصوتُ موهبةُ السماءِ فطائِرٌ ... يشدو على غُصُنٍ وآخرُ يَنعبُ
هي الهَزارِ مكانةٌ م أجلِها ... دبَّت بأَفئدةِ الحواسدِ عقرَبُ
فتألَّبوا من حولِ أشمطَ أشيبٍ ... يحدو بهِ للشرِّ أشمَطُ أشيَبُ
فإذا همُ حولَ الغُرابِ عصابةٌ ... بأحطَّ من أخلاقِها تتعصَّبُ
فشكوا لبعضهمِ الهزَارَ وجذوةً ... بفؤادِ كلٍّ منهمُ تَتلهَّبُ
وتشاوروا فإذا الوشايةُ خيرُ ما ... شَرَكٍ بهِ يَقعُ الهَزارُ فيُعطبُ
فسعوا بهِ فإذا الهزَارُ مقفَّصٌ ... والبومُ منطلِقُ الجوانحِ يَلعبُ
يا هندُ إِنّي كالهَزارِ فإن يكنْ ... هو مُذنباً فأنا كذلك مُذنِبُ
إلى لبنان
إِيهِ لبنانُ! والجداولُ تَجري ... فيك برداً فتُنعشُ الظمآنا
إِيهِ لبنانُ! والنَّسيمُ عليلاً ... يتهادى فيعطفُ الأغصانا
حبَّذا السفحُ معبداً لصغار ال ... طَّيرِ تشدو لربِّها الأَلحانا
خافقاتِ الجناحِ للشمس آناً ... خافقاتِ الفؤاد للحبِّ آنا
آمناتٍ في السفحِ كاسرة الج ... وّ فلا تأتلي بهِ طَيَرانا
فتَرفُّ الأَديمَ تختلس الحَ ... بَّ وتَظمى فتقصدُ الغُدرانا
وإذا الشمسُ ودَّعَت , ودَّعت تل ... كَ السواقي والزَّهرَ والأَفنانا
واستقرَّت في وكرِها آمناتٍ ... كلُّ قلبَينِ يخفقانِ حَنانا
مطبقاتِ الجفونِ يحفظُها الأم ... نُ كما الجفنُ يحفظُ الإِنسانا
أيّها ذي الطيورُ مَن قَسَمَ الح ... ظَّ؟ ومَن قال للشقا كُم فكانا؟
أيّها ذي الطيورُ حسبُكِ في السف ... حِ انطلاقاً جوانحاً ولِسانا(/)
أَتُجيدينَهُ البيانَ على الأفنا ... ان والنَّاسُ لا تُجيدُ البيانا؟
وتعيشين , والرجالُ بلُبنا ... نَ يموتونَ شقوةً وهَوانا؟
إن كفّاً تفصِّلُ الثوبَ للعر ... سِ لَكَفٌّ تفصِّلُ الأَكفانا
دواء الهموم
تَبسَّم وشعشِعْ لي السُلافةَ في الكأسِ ... فثغرُكِ في ليل الحوادثِ نبراسي
ولا تلمَسِ الكأسَ التي قد رشفتُها ... أخافُ على كفيَّكَ من حَرِّ أَنفاسي
يقولُ ليَ الآسي: فؤادُكَ موجَعٌ ... فمَن أَنبأَ الآسي بفعلِكَ يا قاسي؟
ويَنصحُني الأخوانُ بالخمرِ إنَّها ... على زعمِهم تَشفي من الألمِ الراسي
فها أنا أستَشفي بها كلَّ ليلةٍ ... ألم ترني أستتبعُ الكأسَ بالكأسِ؟
وأعجبُ من نفسي , ودائي بمهجتي ... أعالجهُ بالخمرِ تَرقى إلى راسي
اللؤم
فتىً يتعثَّرُ في لُؤمه ... كما يَتعثَّرُ في جَهلِهِ
نواظِرُهُ تحتَ أقدامهِ ... كباحثةٍ ثَمَّ عن أصلِهِ
لَتُسقِطُ أُمُّ الجنينِ ابنَها ... إذا حَلِمت بفتىً مثلِهِ
ولو أَبصرَت عينُهُ وَجهَهُ ... لقُلتُ العفاءُ على نسلِهِ
محمد توفيق علي
شاعر أديب أنيق الديباجة , واضح الأسلوب , شريف الغاية , سامي المرمى. وهو أحد شعراء مصر الذين تغنوا بالشعر تحت ظلال السيوف وخفق البنود. كان ضابطاً في الجيش فإذا خلا لنفسه من مهام الجندية , استيقظ الشاعر الرقيق في صدره , وحل القلم في يمينه محل الشيف. ففي السودان آثار جنديته وفي مصر وطنه الذي أحبه ملء جوارحه آثار شاعريته. وقد استعفي من الجيش وانقطع إلى مزرعة له مؤثراً صحبة المحراث على صحبة الشيف والقلم.
السيف والقلم والمحراث
لا السيفُ في مصرَ يُرضيني ولا القلَمُ ... كلاهما في يمينِ الحُرِّ مُنثَلِمُ
جرَّدتُ سيفي وأقلامي , وبي أملٌ ... واليومَ أُغمدُها يأساً , وبي ألَمُ
يُريد بي الدهرُ , لا تمَّتْ إِرادتهُ , ... ذُلاًّ وفقراً , ويأبى العزُّ والكَرَمُ
سأصرفُ العمرَ حُرّاً لا يُقيّدُوني ... إِلاَّ التُقى والنُهى والمجدُ والشَّمَمُ
وأطلبُ المالَ , لا زهواً ولا سرَفاً , ... فإِنما المالُ في أهلِ النُهى ذِمَمُ
وخيرُ ما يَقتني المصريُّ مزرعةٌ ... يشقى بها الفاسُ والمحراثُ والنَّعَمُ
باللهِ يا سيفُ! هل ضُمَّت عليك يدٌ ... في الرّوعِ مثلُ يدي , والهولُ يحتدمُ؟
وهل سواي فتىً زانتكَ صحبتُهُ ... يغشىَ بك الموتَ مُختالاً ويقتحِمُ
ألستَ كنتَ ترى حقَّ الرئاسةِ لي ... إِن راحَ يخفُقُ فوقَ الفيلقِ العَلَمُ
لكنَّ للدهرِ جيشاً من حوادثهِ ... إِذا رآني ولّى , وهو منهزمُ
ويا يراعيَ , إِنَّ الصمتَ من ذَهبٍ , ... لا يَسمعونَ وفي آذانِهم صَمَمُ
قد يُسجَنُ البلبلُ الغِرّيدُ في قفَصٍ ... وينعبُ البومُ في الآفاقِ والرَخَمُ
للهِ بهجةُ حقلي! ما يُماثلُها ... في حُسنها السيفُ مصقولاً عليهِ دَمُ
ويا سطوراً بمحراثي أُدبِّحُها ... لا يستقلَّ بها القرطاسُ والقلمُ
تفتَّحَ الزهرُ منها عن مباسمهِ ... وراحَ يرتَعُ فيها مُقلةٌ وفَمُ
هذا هو الخيرُ معسولاً مواردُهُ ... هذا هو العيشُ , إِلاَّ أَنَّهُ حُلُمُ(/)
النيل السعيد
صَفَتْ مرآتهُ , وجلاهُ جالِ ... فلاحَ كأنَّهُ ذوبُ أللآلي
وغازَلتِ الحدائقُ شاطئَيهِ ... وألقتْ فوقهُ خُضرَ الظلالِ
فكم غُصُنٍ قدِ ارتسمتْ حُلاَهُ ... عليهِ تهزُّهُ ريحُ الشمالِ
كما ارتسمتْ على المرآةِ خودٌ ... يُرَنّحُ عطفَها خَمْرُ الدَّلالِ
وناحيةٍ بِرُمَّانٍ أُظِلَّتْ ... وناحيةٍ بأعراشِ الدَّوالي
ونخلٍ باسقاتٍ كالعذارى ... تَثَنَّى في غدائرِها الطِّوالِ
خَلعنَ الحسنَ منعكساً عليهِ ... فآنسنَ الحقيقةَ بالخيالِ
وحلَّى ألسُنَ الأطيارِ منهُ ... وقال لها اذكري باري جَمالي
فجنَّ الطيرُ باسمِ اللهِ حتى ... تَدَاني اللهُ والسبعُ العوالي
فآمنَ بالبديع الصنعِ قلبي ... وفاضَ الطرفُ بالدرَرِ الغوالي
وسارَ النيلُ يطلبُ وصلَ مصرٍ ... وهل يُرضي المحبَّ سوى الوصالِ
تُضاحكهُ الغزالةُ في عُلاها ... وبدرُ التمّ في أوجِ الكمالِ
عذارى الغرب , قد سحتُنَّ شرقاً ... وغرباً للجنوبِ وللشمالِ
أَمِثْلَ النيل شاهدتنَّ نهراً ... تفرَّدَ بالمحاسنِ والجلالِ
لئن كانَ الأُلى عبدوهُ ضلَّوا ... فَرُبَّ هدايةٍ تحتَ الضَّلالِ
أُحِبُّ النيلَ حُبَّ أبي وأُمّي ... وأهوى مصرَ فوقَ دمي ومالي
وبي عن كلِّ مشروبٍ حرامٍ ... غنىً بِرضا بهِ العذبِ الحلالِ
رضعتُ هواهُ في مهدي صغيراً ... وحينَ أشابتَ الدنيا قَذالي
بِلاَدي لا أَرومُ بها بديلاً ... ولو أًسكنْتُ في روضِ المالِ
وما فكَّرتُ في الأهرامِ إِلاَّ ... بكيتُ مفاخرَ الحُججِ الخوالي
فلولا يُمْسِكُ التوحيدُ رُكني ... سجدتُ لتلكمُ الرُّمَمِ البوالي
بوِدّي لو قرعتُ صفاةَ هَمّي ... بأمثالِ الجبالِ من الرّجالِ
فبي وخزٌ من الأيام جافٍ ... على جُرحٍ قريبِ الإِندمالِ
أيمضي الدهرُ , لا ميتٌ فأُنسى ... ولا أشفى من الداءِ العُضالِ
وما لي لا أرى إِلاَّ ظلاماً ... يكادُ يغضُّ من نورِ الهِلاَلِ
وما بالي أهمُّ بما أُرجّي ... فتقعدَ بي على نضْوٍ رِحالي
بمن يا نيلُ أرمي مَنْ رمانا ... وقد خَلتِ الكنانةُ من نبالِ؟
عبد الحميد بك الرافعي
هو من أدباء طرابلس الشام المعدودين , وسليل أسرة عريقة مشهور عن إفرادها العلم والفضل. أنا شعره فشعر البداوة مع مسحة حضرية , فصيح الألفاظ , جيد التراكيب. وله ديوان حافل بغرر المنظومات.
المشيب
يا شَيبُ , عَجَّلْتَ على لِمَّتي ... ظُلماً فيا ابنَ النُّورِ ما أظلَمَكْ
بدَّلتَ بالكافورِ مِسكي وما ... أضواهُ في عيني وما أعتَمَكْ
مَنْ يقبلُ الفاضحَ في ساترٍ؟ ... فهاتِ ليلايَ وخُذْ مريَمَكْ
غرَّكَ أنَّ الشيب عند الورى ... يكرمُ , هل في الغيد مَنْ أكرَمَكْ؟
نَفَّرْتَ عني غانياتِ الطلي ... ويحكَ! قد أسقيتَني عَلْقَمَكْ
دَعَونني الشيخَ وكنتُ الفتى ... أخَّرني الدَّهرُ الذي قَدَّمَكْ
ونالَ من حَولي ومن قوَّتي ... جَوْرُ زمانٍ فيَّ قد حكَّمَكْ
سِرعانَ ما أذْبلتَ من صَبَوتي ... بنارِكَ البيضا فما أضرَمك
وشدَّ ما لاقت عيوني فلو ... ينطقُ لي جَفْنٌ إِذَنْ كلَّمك
وَرُبَّ لمياَء منيعِ اللَّمى ... تقولُ ما أسقيهِ إلاَّ فَمك
تخاطبُ البدرَ على تمِّهِ ... جَلَّ الذي من غرَّتي جَسَّمك
كنتُ مع العفَّةِ أحيا بها ... وهل بلا ماءٍ يعيشُ السَّمَك(/)
فرَّت كمثلِ الخشفِ مذعورة ... لمَّا رأت في مفرقي مِخْذَمك
وصارتِ النظرةُ لي حسرةً ... تقولُ للطرفِ: أفِضْ عَنْدَمك
وما كفى يا شيبُ حتى لقد ... فضحتَ أسرارَ مَنِ استكْتَمك
أيُّ خضابٍ لم يكن ناصلاً ... عنكَ ولو بالليلِ قد عَمَّمك
فليتَ أيَّامَ شبابي التي ... أرقتَها غَدْراً أراقت دَمك
وأنتَ يا ظبيَ النقا ما الذي ... أغراكَ بالهجرِ , ومَنْ عَلَّمك؟
ما لبياضِ الرأسِ حكمٌ هنا ... لكن سوادُ الحظِّ قد ألزَمك
لو لم يُغِرْ هذا على لونِ ذا ... لم تجْفُ ذا الشيخَ وما اسْتَخْصَمك
ما خلتُ أن ترضى بنقصِ الوفا ... واللهُ بالحُسن لقد تَمَّمك
يا ربِّ , ما طالَ زمانُ الصِّبي ... كأنُه طَيفٌ سرى وانْهَمك
وهكذا الأيَّامُ تُطوى بنا ... سُبحانكَ اللهمَّ ما أعظَمك!
رضيتُ يا ربّي بما ترتضي ... فلا تخيّبْ مُذْنباً يَمَّمك
وأنتَ يا شيبيَ خُذْ بي إلى التق ... وى عسى الرحمنُ أن يَرحَمك
مناجاة شاعر
سَلُوها لماذا غَيَّرَ السُّقْمُ حالَها؟ ... تُرَى شُغِفَتْ حُبّاً وإلاّ فما لها
تبدَّلَ ذاكَ الوَردُ بالوَرسِ , وانطفئ ... سناها , وَرَقَّتْ فَهْيَ تحكي خِيالها
أظِنُّ هوى الغزلانِ قد هَدَّ حَيْلَها ... فإِني رأيتُ الرّيمَ يوماً حِيالها
تُناجيهِ سِرّاً وَهْيَ في زِيّ والهٍ ... فخلتُ أخاها كان أوكان خالها
فيا حُبُّ غَلْغِلْ في صميمِ فؤادِها ... ويا ربِّ لا تُعْطِفْ عليها غَزَالها
ولكن أرِحْها بعضَ حينٍ فإِنني ... شمتُّ بها والقلبُ يأبى زوالها
ومَنْ حَبَّ لم يُبْغِضُ ولو حَبَّ هاجراً ... فقد رَقَّ قلبي مذ رأيتُ هِزَالها
عسى أنَّها مِن بعد أن ذاقتِ الهوى ... تنوحُ على مَنْ كان يهوى جَمالها
وتذكرُ إِذ كانت وللحُسن عزَّةٌ ... نَرَى مُهَجَ العُشَّاقِ صَرْعَى قِبالها
فتبكي زماناً فيهِ أبكت بصدِّها ... عُيوناً تَوَلاَّها الأسى فأسالها
وَلعْتُ بها حيناً من الدهرِ لم أفُز ... بساعةِ لطفٍ كنتُ أرجو نَوَالها
ولو عَطَفَتْ يوماً عليَّ بزورةٍ ... لَقَبَّلْتُ حتى بالعيونِ نِعالها
وكم غربةٍ قاسيتُ من أجلِ حُبّها ... أجوبُ الفيافي سهلَها وجِبِالها
ولولا الهوى ما هام في الكونِ واحدٌ ... ولا فارقَتْ أُسْدُ العرينِ دِحالها
وقلتْ لقلبي وهو يذكرُ عهدَها: ... رُوَيْدكَ هذي بُغيةٌ لن تنالها
تركتْ هواها واشتغلتُ بغيرِها ... ومَنْ قَطَعَتْ حَبلي قَطَعْتُ حِبالها
محمد رضا الشبيبي
هو أحد أعلام الشعراء في العراق العربي. وأديب من أشهر أدباء النجف مشى في نظمه مشية من تقدمه من أكابر الشعراء في تلك البلاد ونهج مناهجهم فجاء بالشعر مطيب النفس , مرصف اللفظ , متين التركيب , يذكر بشعر العصر العباسي الزاهر
في سبيل الشرق
لم يَبقَ لي إلاَّ الشَّبابُ , وإِنَّهُ ... دِيباجةٌ ضَمنَ الأَسى إِخلاقَها
نزلت بثهلانَ الهمومُ فلم يُطِقْ ... حتَّى نزلنَ بكاهلِي فأَطاقَها
وكرهتُها , ومِنَ الغرائبِ أَنَّني ... لشديدِ إِلفتِها كرهتُ فِراقَها
أشتاقُ أطّرحُ الهمومَ ويقتضي ... ظَمأِي إلى الآلامِ أن أَشتاقَها
يشكو الصَّبابةَ كلَّ يوم مُدَّعٍ ... وأحقُّنا دعوىً بها مَنْ ذاقَها(/)
لو أنصفت تلكَ الحمامةُ لوعتي ... نَضَتِ الخضابَ ومَزَّقتْ أطواقَها
يا هذهِ , حتَّى الغُصونُ لما بها ... نثرَتْ على وجهِ الثَرى أَوراقَها
مثلَ التي لَزِمَ الخفوقُ جناحَها ... أصبحتُ مرتكِضَ الحشَا خفَّاقَها
داءٌ تحاماهُ الطبيبُ , وعِلَّةٌ ... طَلبَ العليلُ فلم يَجِد أِفراقَها
مرَّتْ بنا الأُممُ الطليقةُ , وانثنتْ ... أُخرى تُعالجُ أسرَها ووِثاقَها
هذي الجيادُ , فمنْ تعاطى شأوَا ... يا شرقُ ومَنْ أراد سبِاقَها
يا مَشرِقَ الشمسِ المنيرةِ , إِنَّها ... وأبيكَ , شمسُكَ فارقت إِشراقَها
أمَّا لياليكَ التي قد أقمرَتْ ... فلقد طوَت لكَ محوَها ومَحاقُها
فاقت وبزَّتْ أُمَّةٌ غربيَّةٌ ... مَنْ بزَّها في المشرقَين وفاقَها
وإِذا أرادَ اللهُ رقدةَ أُمَّةٍ ... حتَّى تَضيعَ , أضاعَها أخلاقَها
مَلَكَ الضَّلالُ زمامُها , فإذا حَبت ... أو أمسكَت سببَ المعالي عاقَها
رأتِ العدالةَ لا تروقُ لعينِها ... فتلمَّستْ في الليلِ ظُلماً راقَها
عَجلت على البلوى فساقت نفسَها ... للموتِ , أو عَجل البلاءُ فساقَها
ما عُذرُ طائفةٍ أضاعت مصرَها ... أنْ لا تُضيعَ شامها وعِراقَها
بَرزتْ وقابَلَها الزمانُ بسيفهِ ... فأطنَّ ساعِدَها وعَرقبَ ساقَها
أين الذين إذا اكفهرَّتْ أوجهٌ ... هبُّوا لنا طُلْقَ الوجوهِ عِتاقَها
للهِ أَطماعٌ أصابت خُلْفَها ... فيهم , وآمالٌ رأتْ إِخفاقَها
نَظرَتْ إلى الحُلمِ الجميل فهاجَها ... ورَنت إلى الطيفِ الملمِّ فشاقَها
أوَ ما تشوقُكَ يا خيالُ بقيَّةٌ ... في أنفُسٍ لكَ كابدت أشواقَها؟
إيليا أبو ماضي
أديب أوحي إليه الشعر وحياً فقاله عفو الخاطر , وأرسله سهلا رائقاً , سائغ البيان , صافي الديباجة. لم يتلق آداب اللغة في مدرسة , ولا أخذ النظم عن أستاذ أو عن كتاب , فهو أديب بالفطرة وشاعر بالسيقة.
القوة والضعف
ليسَ يدري الهمَّ غيرُ المبتلي ... طالَ جنحُ اللَّيلِ أو لم يَطُلِ
ما لهذا النَّجمِ مثلي في الثرى ... طائرَ النَّومِ شديدَ الوجلِ!
أتُراهُ يَتَّقي طارئةً ... أم به أَنّي غريبُ المنزلِ
كلمَّا طالعتُ خَطباً جَلَلاً ... جاَءني الدهرُ بخطبٍ جَللِ
أشتكي الليلَ ولو ودَّعتُهُ ... بتُّ من همّمي بليلٍ أليَلِ
يا بناتِ الأفقِ ما للصبّ من ... مُسعدٍ في الناسِ هل فيكنَّ لي؟
لا عَرفتنَّ الرزايا إِنَّها ... شَيَّبت رأسي ولم اكتَهِلِ
سهدَت سُهدي الدراري إِنَّما ... شُدَّ مابين المعنَّى والخلي
ليت شعري! ما الذي أعجبَها؟ ... فَهْيَ لا تنفكُّ ترنو من عَلِ
أنا لا أغبطُها خالدةً ... ولقد أحسدُها لم تعقلِ
كلمَّا راجعتُ أحلامَ الصِّبي ... قلتُ: يا ليتَ الصِّبي لم يَزلِ
أيُّها القلبُ الذي في أضلِعي ... إِنَّما اللَّذةُ جَهلاً فاجهَلِ
تجمل الرقَّةُ في العضبِ فإِن ... كنتَ تهواها فكن كالمِنصَلِ
هيَ في الغيدِ الغاني قوَّةٌ ... وَهْيَ ضعفٌ في فؤادِ الرَّجلِ
لا يغرُّ الحسنُ ذا الحسنِ فقد ... يَصرَعُ البُلبلَ صوتُ البُلبلِ
تُقتلُ الشاةُ ولا ذنبَ لها ... هيَ لولا ضعفُها لم تُقتَلِ
إِن تكنْ في الوحشِ كُنْ ليثَ الشَّرى ... أو تكنْ في الطيرِ كنْ كالأجدلِ(/)
أو تكنْ في الناسِ كُنْ أقواهمُ ... ليستِ العلياءُ حظَّ الوَكيلِ
حنين إلى مصر
أشقى البريَّةِ نفساً صاحبُ الهِمَمِ ... وأتْعَسُ الخَلْقِ حَظّاً صاحبُ القلمِ
عافَ الزمانُ بين الدنيا وقيّدَهُ ... والطيرُ يُحبَسُ منها جيّدُ النَّغمِ
وحكَّمت يدُهُ الأقلامَ في دَمهِ ... فلم تَصُنْهُ ولم يعدِلْ إلى حُكُمِ
لكلّ ذي هِمَّةٍ في دهرهِ أملٌ ... وكلُّ ذي أملٍ في الدَّهرِ ذو ألمِ
ويلُ الليالي! لقد قلَّدنني ذّرباً ... أدني إلى مُهجتي من مُهجةِ الخَصِمِ
ما حدَّثتنيَ نفسي أن أُحَطِّمَهُ ... إلاَّ خشيتُ على نفسي من النَّدَمِ
فكلمَّا قلتُ: زُهدي طاردٌ كَلَفي ... رجعتُ , والوجدُ فيهِ طارِدٌ سأَمي
يأبى الشقاءُ الذي يدعونهُ أدباً ... أن يضحكَ الطرسُ إلاّ أن سفكتُ دمي
لقد صَحبتُ شبابي واليراعَ معاً ... أودي شبابي! فهل أُبقي على قَلَمي؟
كأنما الشَّعَراتُ البيضُ طالعةً ... في مفرقي أنجمٌ أشرقنَ في الظلَمِ
تضاحَكَ الشَّيْبُ في رأسي فعرّض بي؛ ... ذو الشيب عند لغواني موضعُ التُّهمِ
وليلةٍ بتُّ أجني من كواكبها ... عَقداً كأني أنالُ الشُّهبَ من أمَمِ
لا ذاق طرفي لكرى حتى تنالَ يدي ... ما لا يفوزُ بهِ غيري من الحُلُمِ
ليسَ الوقوفُ على الأطلال من خُلُقي ... ولا البُكاءُ على ما فاتَ من شِيِمي
لكنَّ مصراً وما نفسي بناسيةٍ ... مليكةَ الشرقَ ذاتَ النيلِ والهرَمِ
صرفتُ شطرَ الصِّبي فيها فما خَشِيَت ... رِجلي العثارَ , ولا نفسي من الوَصمِ
في فتيةٍ كالنُّجومِ الزُّهرِ أوجهُهُم ... ما فيهمِ غيرُ مطبوعٍ على الكرَمِ
لا يقبضونَ مع اللأواءِ أيديَهم ... وقلمَّا جادَ ذو وَفرٍ مع الأزَمِ
في ذمَّةِ الغربِ مشتاقٌ يُنازعهُ ... شوقٌ إلى مهبطِ الآياتِ والحِكَمِ
ما تَغْرُبُ الشمسُ إلا أدمعي شَفَقٌ ... تَنسى العيونُ لديهِ حُمرةَ العَنَمِ
وما سَرَت نسماتٌ نحوَها , سَحَراً ... إلاَّ وددتُ لو أني كنتُ في النَّسمِ
ما حالُ تلك المغاني بعد عاشِقها؟ ... فإِنني بعدَها للسُهدِ والسَّقَمِ
بين الجوانحِ همٌّ ما يُخامرُني ... إلاَّ وأشرقَني بالباردِ الشبِمِ
جادَ الكنانةَ عنّي وابلٌ غدِقٌ ... وإن يكُ النيلُ يُغنيها عن الدِّيَمِ
الشرٌ تاجٌ , ومصرٌ منهُ دُرَّتهُ ... والشرقُ جيشٌ , ومصرٌ حاملُ العَلَم
هيهاتِ على الحرّ من أمٍّ على ولدٍ ... فالحرُّ في مصرَ كالورقاءِ في الحَرمِ
ما زلتُ والدهرُ تنبو عن يدي يَدُهُ ... حتى نَبتْ ضِلَّةً عن أرضها قَدَمي
محمود سامي باشا البارودي
. . . أما شعره فهو بجملته صناعة لا تنافس بقديم أو حديث مع ابتكار قليل وإحساس فياض. اختار له أحسن أساليب العرب وأفصح ألفاظهم وتغنى بها على وحي نفسه - ونفسه جارية النغمة وعاشقة الإيقاع - فافتنَّ حتى أنسى الفنّ , وجوَّد حتى أذهل عن(/)
المعنى. ذلك كان مذهبه في الشعر وتلك غايته منه. ولا ننس له فضلا جديراً بالذكر الخاص وهو أنه أول شعراء البعثة الحديثة بمعنى أنه أول من رد الديباجة إلى بهائها وصفائها القديمين , وما أبرزّ قريضه لقريض جيله , فإنك لتجد الواحدة من قصائده ذاهبة صعداً إلى عهد أرقى أزمنة العرب فهي كالجبال الشامخة وحولها القصائد الأخر كالأركان المقامة من حجارة إطلال بلا اختيار ولا نسق ولا هندام. الخلاصة أن المرحوم البارودي كان في الطبقة الأولى بين شعراء العرب وكان قلبه كلفاً بالنغمة وذهنه منصرفاً إلى الصناعة كما يدل على ذلك منظومة وكما يشير إليه اختياره من أقوال المتفوقين فإنه لم ينتق منها إلا كل ما حسن لفظاً ومعنى أو حسن لفظاً. وأهمل ما حسن بمعناه دون مبغاه فشعره إنما هو شعر الصناعة والإيقاع.
خليل مطران
الأمير شكيب أرسلان
حضري المعنى , بدوي اللفظ , يحب الجزالة حتى يستهل الوعورة. فإذا عرضت له رقة ولان لها لفظه فتلك زهرات ندية شديدة الريّا ساطعة البهاء كزهرات الجبل. نبغ منذ طفولته في الشعر ولكن أبكر الفتيان في نشر ديوان له , وجاء ديوانه في وقته آية غير أنه لم يلبث أن ترك الشعر وانصرف إلى الترسل فيه ما أوتيه من العبقرية فهو الآن في مذهبي أمام المترسلين. على أنه قد يدعوه من النفس أو من الطوارئ فينظم. ينظم كما نثر فياض الفكر غير تعب , لكن نظمه يحمل في عهده الآخر أثراً من نثره.
خليل مطران
المراسلات السامية
تكاتب بها هذان الأديبان الكبيران أيام كان المرحوم البارودي منفياً في جزيرة سيلان مع زعماء الثورة العرابية الشهيرة. وكان سبب هذه المكاتبة أن الأمير شكيباً استشهد في بعض كتاباته أولاً وثانياً بأبيات للبارودي على غير معرفة شخصية سابقة , فكتب محمود سامي باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية , قال:
أَشدتَ بذكري بادئاً ومُعقّباً ... وأَمسكتُ لم أَهمسْ ولم أَتكلمِ
وما ذاك ضِنّاً بالودادِ على امرئٍ ... حباني بهِ , لكن تَهيَّبتُ مَقدَمي
فأمَّا وقد حقَّ الجزاءُ فلم أكنْ ... لأَنطِقَ إلاَّ بالثناءِ المُنمنَمِ
فكيف أذودُ الفضلَ عن مستقَرّهِ ... وأُنكرُ ضوَء الشمسِ بعدَ توسّمِ
وأنت الذي نوّعت باسمي ورشتَني ... بقولٍ سرى عنّي قناعَ التوهمِ
لكَ السبقُ دوني في الفضيلةِ فاشتَمِلْ ... بحُليَتِها , فالفضلُ للمقدِّمِ
ودونكها يا ابنَ الكرامِ حبيرةً ... من النظمِ سدَّاها بمدحِ العلا فمي
فأجابهُ الأمير:
لكَ اللهُ من عانٍ بشكرٍ منمنَمِ ... لتقدير حقٍّ من علاكَ محتَّمِ
وشهمٍ أبيّ النفسٍ أضُحى يَرى يداً ... تَذَكُّرَ فضلٍ أو جميلٍ لمنِعمِ
رأى كرَماً منّي تذكُّرَ قولهِ ... فدّلَّ على أعلى خِلالاً وأكرَمِ
ولو كانَ يدري فاضلُ قدرَ نفسهِ ... رأى ذكرَهُ فرضاً على كل مُسلمِ
أيعجبُ من تنويهِ مثلي بمثلِهِ؟ ... لعمري الذي قد شقَّ في شعرهِ فمي
ومهما يكنْ مِن أعجمٍ فبفضلِهِ ... يُرى ثقَفيّاً في الورى كلُّ أعجمِ
إذا مَطرَ الغيثُ الرياضَ بوابلٍ ... فأيُّ يدٍ للطائرِ المترنّمِ؟
إذا ما تَصبَّت بالعميدِ صباحةٌ ... بوجهٍ , فما فضلُ العميدِ المتيَّمِ؟(/)
وهل يُنكرُ الإحسانُ إلاَّ لئامةً ... وينكرُ حسناً غيرُ مَن طرفُهُ عَمي؟
وهل شهودِ الشمسِ أدنى مزيَّةٍ ... وقد جاَء ضوءُ الشمسِ لم يتكتَّمِ؟
رُويدَكَ لا تُكثرْ لدهرِك تهمةً ... ولا تيأسنْ من أهلهِ بالتوهُّمِ
فما زالَ من يدري الجميلَ ولم يكن ... لتأخذَهُ في الحقّ لومةُ لوَّمِ
وأنت الذي لو أنصفَ الدهرُ لم يكن ... لغيرِكَ في العلياءِ صدرُ التَقدُّمِ
جَمعتَ العُلى مِن تلْدِها وطريفها ... فجاَءت كعقدٍ في ثناكَ مُنظَّمِ
غدَت خطَّتي إِمَّا يراعٌ ومِخذّمٌ ... وأنَّك قُطبٌ في يراعٍ ومخذَمِ
ولم أرَ كفّاً مثل كفِّكَ أحسنت ... إلى المجد إرعافَ المدادِ مع الدَّمِ
جَمعَتها جمعَ القديرِ بكفّهِ ... إلى محتدٍ سامٍ إلى المجدِ ينتمي
ولو كان يَرقى المرءُ ما يستحقُّهُ ... إذاً لبلغتَ النّيراتِ بسلَّمِ
وأنتَ الذي يا ابن الكرامِ أعدتَها ... لأفصَحَ من عهدِ النواسي ومسلمِ
وأنشرتَ مَيت الشعرِ بعد مصيرهِ ... لأعظمَ نثراً من رُفاتٍ وأعظمِ
وأَشهدُ ما في الناسِ مِن متأخِّرٍ ... يدانيكَ فيهِ , لا! ولا متقدّمِ
ولو شعراءُ الدَّهرِ تُعرَضُ جُملةً ... لمنجدِهم من كلِّ حيٍّ ومُتهمِ
لأبصرتُ شخصَ البحتري منك بحتراً ... وخُلْقَ أبي تمَّامَ غيرَ متمَّمِ
لك الآبادتُ الآنساتُ التي نأَتْ ... وأنست عكاظَ الشعرِ بل كلَّ موسِمِ
لكم أَسهرَتْ جفنَ الرُّواةِ وخالَفت ... حظوظَكَ منها شُرَّدٌ غيرُ نوَّمِ
شُغفتُ بها طِفلاً فأروي بديعَها ... ولم أروِ من وجدي بها نارَ مضرمِ
ولا عَجبٌ أنّي أجنُّ صبابةً ... فيسري الهوى بالقولِ للمتكّمِ
أفي كلِّ يومٍ فيكَ وجدٌ كأَنَّهُ طوى جانحاً منّي على نارِ مِيسمِ
أُحمِّلُ ريحَ الهندَ كلَّ تحيَّةٍ ... فكم من صباً منها عليكَ مسلِّمِ
وقد طالما حدّثتُ نفسي , وعاقَني ... تردُّدُها ما بين أقدمْ وأحجمِ
حلفتُ بما بين الحطيمِ وزمزمٍ ... وبالرَّوضةِ الزَّهرا أليَّةَ مُقسِمِ
لألفيتُ عندي دوسَ مشتَجرِ القنا ... وخوضيَ في حوضٍ من الطعنِ مفعَمِ
أقلُّ بقلبي في المواقفِ هيبةً ... وأهونُ م ذاكَ المقامِ المعظَّمِ
وَهبْ أنّني بازٌ , قدِ انقضَّ , أشهبٌ ... فهل يطمع البازي بُليقانِ ضيغمِ؟
ولكنَّ لي من عفِ مولايَ ساتراً ... فهأَنذا منهُ بهِ بتُّ احتمي
أمحمودَ سامي , إِن يكُ الدّهرُ خائناً ... وطالَ عليكَ الزجرُ طائرَ أشأَمِ
فما زالتِ الأيامُ بُؤْساً وأنعما ... وحظّ الشقا بالمكثِ حظّ التنعُّمِ
ولولا الصدى ما طابَ وِردٌ ولا حلا ... لك الشّهدُ إلاَّ مِن مرارةِ عَلقمِ
عسى تعتبُ الأقدارُ والهمُّ ينجلي ... وينصاحُ صبحُ السعدِ في ذيل مُظلِمِ
وأُهديك في ذاك المقامِ تهانئاً ... حبيرةَ مُسدٍ في ثناكَ ومُلحمِ
ثم كتب محمود سامي باشا إلى الأمير شكيب بهذه القصيدة:
أدّي الرسالةَ يا عُصفورةَ الوادي ... وباكري الحيَّ مِن قَولي بإِنشادِ
ترقَّبي سِنَةَ الحُرَّاسِ وانطلقي ... بين الخمائلِ في لبنانَ وارتادِي
لعلّ نغمةَ ودٍّ منكِ شائقةً ... تهزُّ عطفَ شكيبٍ كوكبٍ النادي
هوَ الهُمامُ الذي أحيا بمنطقِهِ ... لسانَ قومٍ أجادُوا النُّطقَ بالضادِ(/)
تلقي بهِ أحنفَ الأخلاقِ مُنتدياً ... وفي الكريهةِ عَمْراً وابنَ شدَّادِ
أخي وداداً وحسبي أَنهُ نَسَبٌ ... خالي الصحيفةِ من غِلٍّ وأحقادِ
أفادني أدباً من منطقٍ شهِدَتْ ... بفضلِهِ الناسُ من قارٍ ومن بادٍ
عذبُ الشريعةِ لو أن السَّحابَ همي ... بمثلهِ لم يَدّعْ في الأرضِ من صادِ
سرت بقلبيَ منهُ نَشوةٌ مَلكتْ ... بحُسنِها مِسمَعي عن نغمةِ الشادي
يا ابنَ الكرامِ , عدتْني منكَ عاديةٌ ... كادتْ تسدُّ على عيني بأَسدادِ
فاعذرْ أخاك , فلولا ما بهِ لجرى ... في حلبة الشكر جريَ السابق العادي
وهاكَها تحفةً مني , وإِن صغرتْ , ... فالدرُّ وهو صغيرٌ حليُ أجيادِ
فأجابه الأمير شكيب:
هل تعلمُ العيسُ إِذ يحدو بها الحادي ... أنَّ السُّرى فوقَ أضلاعٍ وأكيادِ
وهل ظعائنُ ذاك الرَّكبِ عالمةٌ ... أنَّ النوى بينَ أرواحٍ وأجسادِ
تحمَّلوا , ففؤادي منذُ بينِهمِ ... في إِثرِهم نِضوُ تأويبٍ وأِسادِ
يرتادُ منزلَهم في كلِّ قاصيةٍ ... وحَجْبُهُ , لو دَرى , أحرى بمُرتادِ
بين الجوانحِ ما لو أنتَ جائبُهُ ... أغناكَ عن لفِّ أغوارٍ بإنجادِ
وفي الفؤادِ , كشطرِ الكفِّ , باديةٌ ... في جنبِها تيهُ موسى ليس بالبادي
كم بتُّ أُنشدُ أحبابي وأَنشدُهم ... في الهندِ , يا شدَّما أبعدتُ أِنشادري
ولو أُناجي ضميري كنتُ مُستمِعَهم ... قَولي كأَنَّهمُ في الغيبِ أشهادي
مَنْ كانَ دونَ مرامي العيس منزعُهُ ... فلب هوىً دون أمواجٍ وأزبادِ
دون الخضارمِ إن ضلَّ الحبيبُ سُرىً ... فإِنَّ وجديَ نعمَ القائفُ الهادي
هوَى بأروَعَ , لو أنَّ الزمانَ درى ... لما أحلَّ سواهُ الصدرَ بالنادي
سامي الأرومة في أعراقهِ نَسَبٌ ... في المجدِ لا يشتكي من ضعفِ إِسنادِ
أرقُّ من شمأَلِ الوادي شمائلُهُ ... وعندَ شدِّ الليالي صخرةُ الوادي
من مَعشرٍ لو يَقيسُ الناسُ شأوَهمُ ... إلى العُلى افتقروا فيهِ لأرصادِ
يا مَنْ لنا ردُّهُ من فائتٍ عِوَضٌ ... يُمحَى بهَ وِزرُ أحقابٍ وآمادِ
إِن يحجبوكَ فما ضرَّ النجومَ دجىً ... ولا زري الشيفَ يوماً طيُّ أغمادِ
لا بأسَ إِن طالَ نجزُ السعدِ موعدَهُ ... فأعذبُ الماءِ شُرباً في فمِ الصادي
عسى لياليكَ قد سُلَّتْ ضغينتُها ... وقد صَفتْ كأسُها من سؤرِ أحقادِ
واستأنفَ الدهرُ سِلماً لا يكدِّرُها ... فالدهرُ قد يرتدي حالاتِ أَضدادِ
لو كان يُسعِدُ قومٌ قدرَ فضلِهمِ ... ما لاقَ مثلكَ أن يحظى بإسعادِ
وكتب محمود سامي إلى الأمير من جزيرة سيلان:
ردِّي التحيَّة يا مَهاةَ الأجرَعِ ... وصِلي بحَبلكِ حَبلَ مَنْ لم يَقطعِ
وترفَّقي بمتيّمٍ عَلٍقَتْ بهِ ... نارُ الصبابة فهوَ ذاكي الأَضلُعِ
طَرِبِ الفؤادِ يكادُ يحملُهُ الهوى ... شوقاً إليكِ مع البُروقِ اللمَّعِ
لا يستنيمُ إلى العزاءِ , ولا يَرى ... حَقّاً لصَبوتهِ إذا لم يَجزَعِ
ضَمنَت جوانحُهُ إِليكِ رسالةً ... عنوانُها في الخدِّ حمرُ الأَدمُعِ
فمتى يَبوحُ بما أجنَّ ضميرُهُ ... إن كنتِ عنهُ بنجوةٍ لم تَسمعي
أصبحتُ بعدكِ في دياجرِ غُربةٍ ... ما للصبَّاحِ بليلِها من مَطلعِ
لا يهتدي فيها لرحليَ طارِقٌ ... إِلاَّ بأنَّةِ قلبيَ المتوجِّعِ(/)
أَرعى الكواكبَ في السماءِ كأَنَّ لي ... عندَ النُّجومِ رهينةً لم تُدفَعِ
زُهْرٌ تأَلَّقُ في السماءِ كأَنَّها ... حَبَبٌ تَردَّدَ في غديرٍ مُترَعِ
وكأَنَّها حولَ المجرِّ حمائِمٌ ... بيضٌ عكفنَ على جوانبِ مَشرَعِ
وترى الثُريَّا في السماءِ كأَنَّها ... حَلَقاتُ قرطٍ بالجمانِ مُرصَّعِ
بيضاَء ناصعةً كَبيضِ نِعامةٍ ... في جَوفِ أدحِيٍّ بأرضٍ بَلَقعِ
وكأَنَّها أكَرٌ توقَّدَ نورُها ... بالكَهرباَءةِ في سَماوةِ مصنعِ
واللَّيلُ مرهوبُ الحميّةِ قائِمٌ ... في مِسْحهِ كالرَّاهبِ الممُتلفِّعِ
متوشّحٌ بالنيّراتِ كباسلٍ ... من نسلِ باللُّجَينِ مدرَّعِ
حَسبَ النُّجومَ تخلفَّتْ عن أمرِهِ ... فوَحي لهُنَّ من الهلال بإصَبعِ
ما زلتُ أرقبُ فجرَة حتى انجلى ... عن مثلِ شادِخةِ الكُمَيتِ الأَتلعِ
وترنَّحت فوقَ الأراكِ حمامةٌ ... تصِفُ الهوى بلسان صَبٍّ مولَعِ
تدعو الهديل وما رأتهُ , وتلكَ مِنْ ... شِيَمِ الحمائمِ بِذعةٌ لم تُسمَعِ
رَيَّا المسالِكِ حيثُ أمَّت صادَفت ... ما تَشتهي من مجثمٍ أو مَرتعِ
فإذا علَت سكَنت مظلَّةَ ايكةٍ ... وإذا هَوت ورَدت قرارةَ منبَعِ
أَمْلَت عليَّ قَصيدةً فجعلتُها ... لشكيبَ تحفةَ صادِقٍ لم يَدَّعِ
هيَ مِن أهازيج الحمامِ وإِنَّما ... ضمّنتُها مَدْحَ الهُمامِ الأَرواعِ
هوَ ذلك الشَّهمُ الذي بَلَغتْ بهِ ... مشكاتُهُ حدَّ السماكِ الأرفعِ
نبراسُ داجيةٍ , وعقلةُ شاردٍ , ... وخطيبُ أندِيةٍ , وفارسُ مجمعِ
صَدْقُ البيانِ أَعضَّ جرول باسمهِ ... وثنىَ جريراً بالجرير الأطَوعِ
لم يَتَّخذْ بدرَ المقنّعِ آيةً ... بل جاَء خاطرُهُ بآيةِ يُوشعِ
أَحيا رميمَ الشعر بعدَ هِموِدِهِ ... وأعادَ للأيامِ عَصرَ الأَصمَعي
كَلِمٌ لها في السَّمعِ أطربُ نَغمةٍ ... وبحجرةِ الأَسرارِ أحسنُ موقعِ
كالزَّهرِ خامَرَهُ الندى فتأَرَّجت ... أنفاسُهُ بالعنبرِ المتضوّعِ
يعنو لها الخصمُ الأَلدُّ , ويغتدي ... بلُبانِها ذِهنُ الخطيبِ المصقعِ
هيَ نجعةُ الأدبِ التي مَنْ أمَّها ... ألقى مراسيَهُ بوادٍ مُمرعِ
مَلكتْ هوى نفسي , وأحَيتْ خاطري , ... وروَت صدى قلبي , ولَذَّت مِسمَعي
فاسَلمْ شكيبُ ولا بَرِحتَ بنعمةٍ ... تحنو إليكَ بأيكنِها المتفرّعِ
فلأنتَ أجدَرُ بالثناء لمنَّةٍ ... أوليتَها والبرُّ أفضلُ ما رُعي
أرهفتَ حدّي فهوَ غيرُ مفلّلٍ ... ورعيتَ عهدي فهوَ غيرُ مُضيّعِ
وبثقتَ لي من فَيضِ بحرِك جَدولاً ... غَمرَ البحارَ بسيلِهِ المتدفّعِ
عذِبَتْ مواردهُ فلو ألقت بهِ ... هِيَمُ السَّحابِ دلاَءها لم تَقلعِ
وزَهت فرائِدُهُ فصارت غرّة ... لجبينِ كلِّ متوّجٍ ومقنّعِ
هو ذلكَ النظمُ الذي شَهِدَت لهُ ... أهلُ البراعةِ بالمقالِ المُبدعِ
أبصرتُ منهُ أخا أيادٍ خاطباً ... وسمعتُ عنترةَ الفوارِس يدّعي
وحلمتُ أَنّي في خمائِلِ جَنَّةٍ ... ومِنَ العجائِبِ حالمٌ لم يهجَعِ
فضلٌ رفعتَ بهِ منارَ كرامةٍ ... صرفَ العيونَ عن المنارِ لتبَّعِ
فمتى أقومُ بشكرِ ما أوليتَني ... والنجمُ أقربُ غايةً من مَنزِعي
فاعذرْ إذا قصرَ الثناءُ , فإنني ... رزتُ المقالَ فلم أجِدْ من مقنِعِ(/)
لا زلتَ ترفُلُ في وشاءِ سعادةٍ ... وحبيرِ عافيةٍ , وعيشٍ أمرعِ
فأجابه الأمير:
أتُرى يَحلُّ هواكِ بين الأضلُعِ ... ويحلُّ لي بسواكِ ذَرْفُ الأَدمُعِ
وأبيتُ أُشركُ فيكِ في دين الهوى ... وأكونُ للتوحيدِ أَوَّلَ مدَّعِ
وتظلُّ تشردُ بي لغيرِكِ صبوةٌ ... هي من سجوِفكِ في المحلِّ الأمنَعِ
وأسيمُ في روضِ الحسانِ موزّعاً ... قلباً وَهَى بالحملِ غَيرَ موزَّعِ
قلبٌ عليكِ تختَّمت أبوابُهُ ... ما نحوَهُ لسواكِ طرقةُ مَطمعِ
إنّي طويتُ عن النَّسيمِ شغافهُ ... إِنْ جاَءني من غيرِ تلكَ الأَربُعِ
وحجبتُ عن كلِّ العواطِفِ حُجْبَهُ ... إلاَّ الحنينَ لبدر ذاك المطلِعِ
وأبحتُ إِلاَّ في الغَرامِ هوادةً ... ومنعتُ إِلاَّ أَنَّةَ المتوجّع
أَضَحتْ تُغايرُ في هواكِ جوارِحي ... حتَّى ليَغضبَ ناظري من مِسمَعي
وأغارُ مِن طرفي لغيركِ ناظراً ... لمحاً ولو شيمَ البروقِ اللمَّعِ
ولوِ استطعتُ الشمسَ ذدتُ لعابَها ... عن وجنتَيكِ ولو سَعَتْ في بُرقُعِ
ولقد أَغارُ لهاجسٍ من خاطرٍ ... من سرّ مهجةِ راهبٍ متورّعِ
يمشي إليكِ ولو بأعمقِ قلبهِ ... ويشيرُ بالأفكارِ لا بالإصبَعِ
دَرَّعتُ حسنكِ بالكمالِ , وفتيةٍ ... من حولِ خدرِك حاسرينَ ودُرَّعِ
في كلّةٍ تَذرُ الضراغمَ عندَها ... من ذِلَّةٍ أمثالَ عُفرِ الأَجرَعِ
ما للمطامِعِ في الوصالِ ودونَهْ ... خفرُ الشريعةِ والرّماحِ الشرَّعِ
نَفسي الفدا لمقنّعٍ هَجَرت لهُ ... أجفانُهنَّ شفارَ كل مقنَّعِ
تتهافتُ الأوهامُ عن حُجُراتهِ ... مني بمتنعِ الوجيبِ مشيَّعِ
ذاكَ الحمى إِلاَّ على من سِرَّ ضميرِهِ ... وحللتُ بالإقدامِ قلبَ المصنَع
هِيَ زَورةٌ تحتَ الظلامِ وَرَدتُها ... فرداً بلا عَضُدٍ. . . بلى قلبي معي!
فنظرتُ من ذاك الهِلالِ لنيّرٍ ... وعلقتُ من ذاكَ الغزال بأتلعِ
وأسفتُ في نَهل الشفاهِ وعَلِها ... ما ليسَ يعذبُ بعدَهُ من مكرع
بتنا كأنَّا خَطرةٌ في خاطرٍ ... أو وَهلةٌ حلَّت فؤادَ مروَّعِ
نبَّهتُ بالأَغزالِ هاجِعَ حُبِّها ... وحُماتَها من غافلينَ وهُجَّعِ
وسقيتُها كأسَ الهوى دهَقاً ولم ... يحلُ الهوى إِلاَّ بكأسٍ مترعِ
متلّمييَنِ مِنَ العناقِ كأنَّنا ... قوسٌ خلا لزيادةٍ من منزَعِ
أروي غريبَ حديثِ أحوالِ الجوى ... والراحُ ليسَ يطيبُ غيرَ مشعشعِ
وصلٌ أَعادَ الشملَ أيَّ موصَّلِ ... لكن أعادَ القلبَ أيَّ مقطَّعِ
عاطيتُها صرفَ الهوى , وعفافُنا ... طولَ التلازم لم يُشَبْ منْ موضعِ
كانت مضاجعُنا تَنثُّ كما لَنا ... لو كانَ يوجدُ منطقٌ للمضجعِ
واللّيلُ يكتمُ ما ينمُّ بسرِّهِ ... أرَجُ النسيمِ سرَى بمسكٍ أضوَعِ
وترى المجرَّةَ في السماءِ كأنَّها ... درٌّ تَناثَرَ من سماءٍ مُضرعِ
حتى إذا شقَّ الدجنَّةَ شوقُها ... للقا ذكاَء وشابَ فُودُ الأَسفعِ
ورأيتُ أسرابَ النُّجومِ تتابعتْ ... بفرارِها مَصعَ النعامِ الأمزَع
ما كان أحوجَنا بذاك لآيةٍ ... تأتي لنا في عكسِ آيةِ يوشعِ
زحزحتُ عنها ساعدي وتركتُها ... دونَ الكرى من تحتِ عبءٍ مضلعِ
وطلعتُ أعثرُ بالسيوفِ ولو درى ... أهلُ السيوف مقامتي لم أفزَعِ(/)
أيغولُ مهجتيَ الكُماةُ وما لهم ... فخرٌ سواي إذا اغتدوا في مجمَعِ
وتُرى تخونُ الخيلُ فارسَها , وهل ... يُردى الحسينُ على يدَ المتشيّعِ؟
أو مَنْ لهم مثلي إذا عَبَسَ الوغى ... وتضاحكت أَنيابُ ثغرِ المصرَعِ
وتشاجرت سُمرُ القنا , وتجاذبت ... بذوائبٍ , والسيفُ شبهُ الأصلَعِ
ولقد بذذتُ السابقينَ فمَنْ لهم ... بوقوفِ سَيرٍ بالمكارمِ مُوضعِ
وبلغتُ من سامي الفخارِ وجاَءني ال ... تقريظُ من محمودِ سامي الأرفعِ
خنذيذَ هذا الدَّهرِ واحدِ أهلهِ ... مقدامِ حلبتهِ الأغرِّ الأبتَعِ
القائلِ الفُصحَ التي عن مثلِها ... يُثنى المقفَّعُ في بنانِ مقفَّعِ
لو جاَء في العصر القديمِ لما روى ... إلاَّ قصائِدَهُ لسانُ الأصمَعي
قد قادَ مملكة الكلامِ , وحازها ... أخذَ الأعزّةِ للذليلِ الأضرَعِ
أن يَعصِهِ قولٌ فلم يكُ لفتةٌ ... حتى يُذَلِّلَ مستقيمَ الأخدَعِ
سهلُ البيانِ عصيُّهُ للمحتذي ... فلأنتَ منهُ بين عاصٍ طيّعِ
خُلِقت له عليا اللغاتِ , فلو هفا ... نحو الركاكة جاَء كالمتصنّعِ
تغدو المعاني حُوَّماً حتى إذا ... سامَينَ فكرَتهُ هبطنَ بموقعِ
ما زال يُبدعُ قائِلاً حتى يَرى ... بِدَعاً على الأيامِ إِن لم يُبدعِ
إن أَجدبت أرضُ الخلائِقِ بالثنا ... فخِلالهُ للحمدِ أمجدُ مرتعِ
أو حارَ قومٌ في الشِّعابِ فإنهُ ... ربُّ المضيِّ على المضيءِ المهيَعِ
أضحى يطارِ حثني القريضَ , وهل تَرى ... مَن أصبَعٍ يوماً يقاسُ بأذرُعِ
أملي إليَّ قصيدةً فأذابَني ... خجَلاً وهيبةَ خاشعٍ متصدِّعِ
يا ابنَ الغطارفةِ الأُلى لم ينتموا ... إلاَّ بأزهرَ في النديِّ سُمَيذَعِ
لا غروَ أن يُرتجْ عليَّ بحضرةٍ ... إن قَابَلت شمسَ الضُّحى لم تَسطعِ
فلوَ أنَّ سحبانَ الفصاحةِ قائمٌ ... في بابِها ما قالَ غيرُ متعتعِ
فهناك ما بَهرَ الخواطرَ هيبةً ... وزري بعارضةِ الخطيبِ المصقعِ
كلُّ العقائلِ في حماكَ وصائِفٌ ... والمنشآتِ من الجواري الخضَّعِ
فاسلمْ رعاكَ اللهُ سابغَ نعمةٍ ... وأَعادَ عيشك للزمانِ الأمرَعِ
واعذرْ إذا قصّرتُ عن حقٍّ فلو ... أمليتُ أسودَ مقلتي لم أقنَعِ
بعلبك
زار المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي قلعة بعلبك فخفر على باب هيكل
باخوس بيتين من الشعر هما:
يا بَعْلَبكُّ فريدةَ ألأَزمانِ ... بالصنُّعِ والإِتقانِ والبُنيانِ
لم تُبقِكِ الأَيامُ في حَدَثانِها ... إِلاَّ لتُظهرَ قُدرةَ الرحمانِ
ثم زارها الشيخ اسكندر العازار فكتب على سبيل المعارضة:
يا مَعِقلاً فيهِ العقولُ تحيَّرت ... يا معبداً لمفرِّقِ الأَديانِ
لم تُبقِكَ الأيامُ في حَدَثانها ... إِلاَّ لتُظهرَ قدرةَ الإِنسانِ
ثم زارها الشيخ يوسف أبو صعب فكتب:
يا بَعلبكُّ عروسةَ الأَزمان ... ونديمةَ المرِّيخِ والميزانِ
لولا الذي في النفسِ منهُ بقيةٌ ... لأعدتُ فيكِ عبادةَ الأَوثانِ
بين حافظ وعمون
كتب حافظ بك إبراهيم في سنة 1902 على صديقه داود بك عمون المصطاف يومئذ في جبل لبنان بالقصيدة التالية , قال:
شَجتنا مطالعُ أقمارِها ... فسالت نُفوسٌ لتذكارِها
وبتنا نحنُّ لتلك القُصورِ ... وأَهلِ القصورِ وزُوَّارِها(/)
قُصورٌ كأنَّ بُروجَ السماءِ ... خدورُ الغواني بأَدوارِها
ذكرنا حِماها , وبين الضُّلوعِ ... قلوبٌ تَلَظَّى على نارِها
فمرَّت بأرواحِنا هِزَّةٌ ... هيَ الكهرباءُ بتيَّارِها
وأرضٍ كَسَتها كِرامُ الشُّهورِ ... حَرائرَ من نَسْج آذارِها
إذا نقَّطتها أَكفُّ الغَمامِ ... أَرتكَ الدراري بأزهارِها
وإِنْ طالَعتها ذُكاءُ الصَّباحِ ... أَرتكَ اللُّجين بأنهارِها
وإِنْ دَبَّ فيها نَسيمُ الأصيلِ ... أتاكَ النَّسيمُ بأخبارها
وَخِلٍّ أقامَ بأرضِ الشامِ ... فباتت تُدلُّ على جارِها
وأضحت تَتيهُ بربِّ القريضِ ... كتِيهِ البوادي بأشعارِها
ولَلِنِّيلُ أولى بذاكَ الدَّلالِ ... ومصرُ أَحقُّ ببشَّارِها
فشَمِّرْ وعَجِّلْ إليها المآبَ ... وخَلِّ الشامَ لأقدارِها
فكيفَ لَعَمري أطقتَ المقامَ ... بأرضٍ تَضيقُ بأحرارِها
وأنتَ المشمِّرُ إِثرَ المظا ... لمِ تَسعى إلى مَحوِ آثارِها
ثأَرتَ الليالي وأَقعدْتَها ... بمصقولِ عَزمِك عن ثارِها
إذا ثُرتَ ماجت هضابُ الشامِ ... وباتتْ تَرامي بثُوَّارِها
ألستَ فَتاها ومُختارَها ... وشِبلَ فتاها ومختارِها؟
إذا قُلتَ أصغتْ مُلوكُ الكلامِ ... ومالت إِليكَ بأبصارِها
أداودُ , حَسبُكَ أَنَّ المعاليَ ... تحسَبُ دارَكَ في دارِها
وأَنَّ ضمائرَ هذا الوجودِ ... تَبوحُ إليكَ بأسرارِها
وأَنَّك إِمَّا حَلَتَ الشامِ ... رأيناكَ جذوَةَ أفكارِها
وإِن كنتَ في مصرَ نعمَ النصيرُ ... إذا ما أهابت بأنصارِها
فأجابهَ داود بك عمُّون:
أمِنْ ذكرِ سَلمى وتذكارِها ... نَثرتَ الدُّموعَ على دارِها
وعفتَ القصورَ لأجلِ الطلولِ ... تطالعُ طامِسَ آثارِها
وقفتُ بها ليلتي ناشِداً ... عساها تَبوحُ بأسرارِها
ولَلدارُ أنطقُ آياتِها ... منَ الراوياتِ وأخبارِها
تُعيدُ عليكَ ليالي الحِمى ... بأَنجمِها وبأَقمارِها
سلامٌ عليكَ زمانَ الشبَّابِ ... ربيعَ الحياةِ بآذارِها
لأنتَ مُخفِّفُ أحزانِها ... وأنتَ مُسوّغُ أَكدارِها
ولولا الشَّبابُ وذِكرى الشَّبابِ ... لعاشَ الفتى عُمرَهُ كارِها
قطفنا الحياةَ بهِ حلوةً ... وقد جاَء إِبَّانُ إِمرارِها
أُطوِّفْ في الشرقِ عَلّي أَرى ... بِلاداً تَطيبُ لأَحرارِها
فلم أرَ إِلاَّ أُموراً تَسوءُ ... وتَصدَعُ أكبادَ نُظَّارِها
فظلمٌ بتلكَ , وذُلٌّ بهذي , ... وجَهلٌ مُغَشٍّ لأبصارِها
تعقُّ مَراحِمَ رُعيانها ... وتَرعى اولاَء لجزَّارِها
إذا شاَء قاسمُ رفعَ الحجابِ ... تُسمّيهِ هاتِكَ أستارِها
فلا قَولَ إِلاَّ لجُهَّالِها ... ولا رأيَ إِلاَّ لأَغرارِها
يَدبُّ التراخي على تربْها ... ويجري الخُمولُ بأنهارِها
منالُ الترقّي بإِرغامها ... ومَرجى الفَلاحِ بإِجبارِها
أهذا الذي أورثتْ أهلَها ... بلادُ العلومِ وأنوارِها؟
عَدِمتُ حياتي إذا لم أَقِفْ ... حياتي على نَفعِ أٌقطارِها
أحافظُ هذا مجالُ العُلى ... فَشمّْرْ لسبقٍ بمضمارِها
أِشوقي , أحافظُ طالَ السكوتُ ... وتَرْكُ الأمورِ لأقدارِها
فَصُوغا القوافيَ مصقولةً ... وشِقّا الجلودَ ببتَّارِها
عساها تُحرِّكُ أوطانَنا ... وتَنشرُ مَيِّتَ أفكارِها(/)
أقولُ , وأَعلمُ أني سأُرمى ... بأنّي مُحرِّكُ ثُوَّارِها
وأَنّي الدخيلُ , وأَنّي الغريبُ , ... وأنّي النصيرُ لقُهَّارِها
أُحبُّ بلادي على رُغمِها ... وإِنْ لم ينْلي سوى عارِها
ولستُ بأوَّلِ ذي همَّةٍ ... تَصدَّى الزمانُ لإنكارِها
النهود
جاء في اليتيمة قوله:
في صدرِها حُقَّانِ خِلتُهما ... كافورتَينِ عَلاهما نَدُّ
وقال الشيخ اسكندر العازار:
حِقاقٌ من العاجِ قد رُكّبت ... على صَحنِ صَدرٍ مِن المرمرِ
خشينَ السقوطَ فأثبتْنَها ... بشبهِ مساميرَ مِنْ عَنبرِ
وقال خليل مطران من قصيدة له عن فتاة متراجلة حاربت في صفوف الجنود:
فأَقصى الفتى عنهُ حُرَّاسهُ ... وشقَّ عن الصدرِ ما يرتدي
وأبرزَ نهدَي فتاةٍ كعابٍ ... بطرفٍ حييٍّ ووجهٍ ندي
كحقَّي لُجينٍ بقفْلي عقيقٍ ... وكنزَينِ في رَصَدٍ مُرصَدِ
فكبَّرَ ممَّا رآهُ الأميرُ ... وهلَّل كلٌّ من الشُهَّدِ
وراعهمُ ذانِكَ التوأمانِ ... وطوقاهُما مِن دَمِ الأكبُادِ
وَوثْبهُما عندما أطلِقا ... إلى ظاهر الدِّرِعِ والمحسَدِ
كوثبِ صغارِ المَها الظامِئاتِ ... نفرنَ خِفاقاً إلى مورِدِ
عيد الفداء
لما عفا سموّ الأمير يوم عيد جلوسه الميمون في سنة 1908 عن مسجوني حادثة دنشواي الشهيرة نشر إسماعيل صبري باشا قصيدة يهنئ بها سموه بالعيد , ويذكر له بالشكر نعمة
ذلك العفو. فاستفزت هذا القصيدة شاعرية شوقي بك فنظم قصيدة في المعنى نفسه , وتلاهما بثالثة حافظ بك إبراهيم. وهذه هي القصائد الثلاث:
قصيدة صبري باشا
لو أَنَّ أَطلالَ المنازِل تَنطِقُ ... ما ارتدَّ حَرَّانَ الجوانحِ شَيِّقُ
هل عندَ ذاك السربِ أَنَّا بَعدَهُ ... في الحيِّ مِنْ آماقِنا نَتدفَّقُ
أو أنَّ أَضلُعَنا على ما استودِعَتْ ... يومَ الفراقِ مِنَ الجوى تَتحرَّقُ
أَمنازِلَ الأقمارِ , اهلُكِ أسرفُوا ... في النأيِ إِسرافَ الغنيِّ وأَغرقوا
لو أَنَّهم قد أنصفوكِ مَنازلاً ... ما حازَهم في الكونِ بَعدَكِ مَشرِقُ
عِيدَ الفداءِ , ألا سَعدتَ بسُدَّةٍ ... أَمسى يُحيطُ بها الجلالُ ويُحدِقُ
هلاَّ رأَيتَ بعابدينَ معَ الملا ... مَلِكاً خلائقُهُ تضوعُ وتَعبقُ
وجمعتَ من تلكَ الشمائل طاقةً ... تزدانُ أَيَّاماً بها وَتَخلّقُ
ورجعتَ من نور الأمير مزوَّداً ... حتَّى تعودَ وأنتَ زاهٍ مُشرِقُ
أَحرزتَ يا عبَّاسُ , كلَّ فَضيلةٍ ... وبلغتَ شأواً في العلا لا يُلحقُ
من ذا يجاري أخمَصَيكَ إلى مَدىً ... وهواكَ سبَّاقٌ , وعَزمُك أَسبَقُ
إن يُرتجلْ عرْفٌ فأنتَ إلى الذي ... لم يَرتجلْهُ المالكونَ موفَّقُ
سدّدْ سهامَ الرأي بالشُورى يَحطْ ... بكَ منهُ في ظُلَمِ الحوادِث فَيلقُ
واسبقْ بهِ , واضربْ بهِ , وافتحْ بهِ , ... ما شئتَ من بابٍ أمامَك يُغلقُ
عَوذّتُ مجدَكَ أن تَنامَ وفي الحمى ... أمَلٌ عقيمٌ , أو رَجاءٌ مُخفِقُ
ولربَّ محلٍ في النُهى متحكِّمٍ ... قد كادَ يخترمُ النفوسَ ويُوبِقُ
أرسلتَ فيهِ نظرةً ضَمنَ الحِجى ... والعلمُ نصرتَها , وقلبٌ مُشفِقُ
وأخذتَ رأيَ أُلي النهى مستوثِقاً ... مستوزراً , وكذا الحكيمُ يُدقِّقُ(/)
حتى اهتديتَ إلى الصواب ولم يَزلْ ... بينَ الصوابِ وبينَ رأيِك موثِقُ
وأهبتَ فابتكرَ النضارُ سحائباً ... تَهمي وتفتقدُ المحيلَ وتُغدِقُ
إن أمرَعت تلكَ المواتُ وأَورقت ... فيها الرياضُ فإنَّما لك تُورِقُ
وأقلتَ عثرةَ قريةٍ حكَم الهوَى ... في أهلِها وقَضى قَضاءٌ أَخرَقُ
إِن أنَّ فيها بائِسٌ مما بهِ ... وأرنَّ , جاوبَهُ هناكَ مُطَّوقُ
وارحمتا لجناتِهم! ماذا جَنَوا؟ ... وقضاتِهم ما عاقَهم إن يتَّقوا؟
ما زال يقذي كلَّ عينٍ ما رأَوا ... فيها ويؤْذي كلَّ سمعٍ ما لقوا
حتَّى حكمتَ فجاَء حكمُكَ آيةً ... للناسِ طيَّ صحيفةٍ تتأَلقُ
نزلت تُرفرِفُ حول كاتبِ نَصِّها ... زُمَراً ملائِكةُ الرِّضي وتُحلِّقُ
شَكرتك مصرُ على سلامةِ بعضِها ... شُكراً يُغرِّبُ في الورى ويُشرِّقُ
ذَكَرَت لك الصفحَ الجميلَ ولم تزلْ ... تَرمي إلى أمرٍ أجلَّ وترمقُ
قانونُ دنشاوايَ ذاك صحيفةٌ ... تُتلى فترتاعُ القلوبُ وتَخفقُ
هل يُرتجى صَفوٌ , ويهدأُ خاطرٌ ... والموتُ بين نصوصِها يترقرقُ؟
ومضاجعُ القومِ النيامِ أواهلٌ ... بمعذّبٍ يُردَى وآخرَ يُرهقُ؟
لن تبلغَ الجرحى شفاءً كامِلاً ... ما دامَ جارحُها المهنَّد يبرقُ
فاحكمْ بغيرِ العنفِ , واكسرْ سيفَهُ؛ ... فالحلمُ أجملُ , والمكارمُ أليقُ
لك مصرُ ماشيها وحاضرُها معاً ... ولك الغَدُ المتحتِّمُ المتحقّقُ
والله عونُك إِن ركبتَ إلى العلا ... طُرقاً تضلُّ بها الهُداةُ وتَفْرَقُ
والأَمرُ أمرُكَ لا يُشابُ بربيةٍ ... والحكمُ حكمُك والإلهُ مصدِّقُ
قصيدة شوقي بك
أمَّا العتابُ فبالأَحبَّةِ أخلَقُ ... والحبُّ يَصلحُ بالعتابِ ويَصدُقُ
يا مَنْ أُحبُّ ومن أُجلُّ , وحسبُهُ ... في الغيدِ منزلةً يُجَلُّ ويُعشَقُ
البعدُ أدناني إليكَ فهل ترى ... تَقسو وتنفرُ؟ أمْ تَلينُ وترفقُ؟
في جاهِ حُسنِكَ ذِلَّتي وضَراعَتي ... فاعطفْ فذاكَ بجاهِ حُسنِكَ أَليَقُ
خَلُقَ الشَّبابُ ولا أزالُ أصونُهُ ... وأنا الوفيُّ مودَّتي لا تَخَلقُ
صاحبتُهُ عشرينَ غيرَ ذميمةٍ؛ ... حالي بهِ حالٍ , وعَيشيَ مُونِقُ
قلبي , ادّكرتَ اليومَ غيرَ موفَّقٍ ... أَيَّامَ أنتَ مع الشَّبابِ مُوفَّقُ
فخفقتَ من ذكرى الشباب وعهدِهِ ... لهفي عليكَ! لكلِّ ذكرى تَخفقُ
كم ذبتَ من حُرقِ الجوى واليومَ من ... أسَفٍ عليهِ وحسرةٍ تتحرَّقُ
كنتَ الشِباكَ وكان صيداً للصِّبي ... ما تَسترقُّ من الظباءِ وتَعتقُ
خَدَعتْ حبائلُكَ الملاحَ هُنيهةً ... واليومَ كلُّ حبالةٍ لا تَعلقُ
هل دونَ أيَّامِ الشَّبيبةِ للفتى ... صَفوٌ يُحيطُ بهِ وأُنسٌ يحدقُ؟
عبَّاسُ حكمُكَ في الرّقابِ مقيّدٌ ... سمحٌ , فأمَّا في القلوبِ فمطلقُ
أنَّي اتجهتَ توجَّهتْ مشغوفةً ... هذا الجلالُ زمامُها والرَّونقُ
ألعيدُ من رُسُلِ العنايةِ فاغتبطْ ... بصنوفِ ما حَملَ الرسولُ الشيِّقُ
الناسُ تنحرُ , والصَّلاةُ مُقامةٌ , ... وعداكَ يُنحَرُ جمعُهم ويُمزَّقُ
بكرَ الأَذانُ مُحيّياً ومهنِِّئاً ... ودَعا لك الناقوسُ فيما يَنِطقُ
أثنى الخطيبُ عليك قبلَ صَلاتِهِ ... وأَجلَّ ذكرَكَ في الصَّلاةِ البَطرقُ(/)
تُزجي الفيالقَ , والقلوبُ خوافقٌ ... فوق الجنودِ , فكلُّ قلبٍ فَيلقُ
في موكبٍ لفتَ الزمانَ جلالُهُ ... يزهو بلألاءِ العزيزِ ويُشرقُ
الأرضُ حاليةُ الوجوهِ بنورهِ ... والشمسُ غَيري تجتليهِ وتَرمقُ
والرُّوحُ يكلأُ , والملائكُ حُرَّسٌ ... وعِنايةُ اللهِ الحفيظِ تُحلِّقُ
حتى حَللتَ بعابدينَ فحلَّها ... سَعدُ الدّيارِ وبدرُها المتألِّقُ
في كلِّ إِيوانٍ وكلِّ خَميلةٍ ... ساحٌ ميمَّمةٌ , وبابٌ يُطرَقُ
خَلْقٌ على قَدْمٍ المهابةِ مائلٌ ... في سدّةِ العزِّ المنيعةِ مُطرِقُ
حتى إذا رُفعَ الحجابُ تدفَّقوا ... يتشرَّفونَ براحةٍ تتدفَّقُ
وتعارضتْ فيكَ القرائحُ وانبرى ... لأبي نواسَ البحتريُّ المفلقُ
عَلَمانِ في يدِك الكريمةِ منهما ... وَيَدي أبيك أبي المكارمِ المطلَقُ
لمَّا عفوتَ , وكان ذلك شيمةً , ... طَرِبا وهَزَّهما السَّجين ُالمطلّقُ
في ذمةِ اللهِ الكريمِ وحفظِهِ ... أمَلٌ بعرشِكَ للبلادِ مُعلَّقُ
قصيدة حافظ بك إبراهيم
سَكَنَ الظَّلامُ وباتَ قلبُكَ يَخفقُ ... وسطا على جنبيكَ هَمٌّ مُقلِقُ
حارَ الفِراشُ وحرتَ فيهِ , فأَنتما ... تحتَ الظلامِ معذَّبٌ ومؤرَّقُ
دَرجَ الزمانُ وأنتَ مفتونُ المُنى ... ومَضَى الشَّبابُ وأنتَ ساهٍ مُطرِقُ
عجباً يَلذُّ لكَ السكوتُ مع الهوى ... وسواكَ يبعثُهُ الغَرامُ فَينطِقُ
خُلِقَ الغَرامُ لأصغَريك , وطالما ... ظَنُّوا الظنونَ بأصغرَيكَ وأَغرقوا
ورَموك بالسلوى ولو شَهِدُوا الذي ... تَطويهِ في تلكَ الضلوعِ لأَشفقوا
أخفيتَ أسرارَ الفؤادِ وإِنَّما ... سرُّ الفؤاد من النواظرِ يُسرَقُ
نَفِّسْ بربّكَ عن فؤادِك كربَهُ ... وارحمْ حشاكَ فإِنَّها تتمزَّقُ
واذكرْ لنا عهدَ الذين بنأيهم ... جمعوا عليكَ همومَهم وتفرَّقوا
ما للقوافي أنكرتكَ , ولم تكنْ ... لكسادِها في غيرِ سوقِك تنفقُ
ما للبيانِ بغيرِ بابك واقفاً ... يَبكي ويعجلهُ البُكاءُ فيشرِقُ
إني كهمِّكَ في الصبَّابةِ لم أَزلْ ... أَلهو وأرتجلُ القريضَ وأَعشَقُ
نفسي برُغمِ الحادثاتِ فتيَّةٌ ... عُودي على رُغمِ الكوارث مُورِقُ
إِنَّ الذي أغرى السهادَ بمقلتي ... مُتعنِّتٌ قلبي بهِ متعلِّقُ
واثقتُهُ ألاَّ أبوحَ وإِنَّما ... يومَ الحسابِ يُحَلُّ ذاك الموثِقُ
وشقيتُ منهُ بقربِهِ وبعادِهِ ... وأخو الشقاءِ إلى الشقاءِ مُوفَّقُ
صاحبتُ أسبابَ الرِّضي لركوبهِ ... متنَ الخلافِ لما بهِ أَتخلَّقُ
وصبرتُ منهُ على الذي يعيَى بهِ ... حلمُ الحليمِ ويتَّقيهِ الأحمَقُ
أصبحتُ كالدهريِّ أعبدُ شَعَرهُ ... وجبينَهُ وأنا الشريفُ المعرقُ
وغدوتُ أنظمُ من ثنايا ثغرِهِ ... دُرَراً أقلِّدُها المهَى وأُطوِّقُ
صبري استثرت دفائِني وهززتَني ... وأَريتَني الإِبداعَ كيفَ يُنسَّقُ
فأبحتَ لي شكوى الهوى وسبقتَني ... في مدح عبَّاسٍ ومثلُك يَسبقُ
قال الرئيسُ فما لقولٍ بعدَهُ ... باعٌ تطولُ ولا لمدحٍ روَنقُ
شَوقي نسبتَ فما ملكتُ مدامعي ... من أن يسيلَ بها النسيبُ الشيِّقُ
أعجزتَ أطواقَ الأَنامِ بمدحةٍ ... سجدَ البيانُ لربِّها والمَنطِقُ(/)
لم تتركا لي في المدائحِ فَضلةً ... يجري بها قَلمي الضَّعيفُ ويَلحقُ
نفسي على شوقٍ لمدحِ أميرِها ... ويَراعتي بينَ الأنامل أشوَقُ
ماذا أقولُ وأنتما في مدحهِ ... بحرانِ باتَ كِلاهما يَتدفَّقُ
العجزُ أقعَدني وإِنَّ عزائمي ... لولا كما فوقَ السماكِ تُحلِّقُ
فليُهنئَ العبَّاسَ أنَّ بكفِّهِ ... عَلَمين هزَّهما الولاءُ المُطلَقُ
وليبقَ ذُخراً للبلادِ وأهِلها ... يعفو ويرحمُ من يَشاءُ ويَعتِقُ
عبَّاسُ والعيدُ الكبيرُ كلاهما ... متأَلقٌ بإزائهِ متأَلِقُ
هذا له تجري الدِماءُ وذا لهُ ... تجري القرائِحُ بالمديحِ وتعنقُ
صدَقَ الذي قد قال فيهِ , وحسبُهُ ... أنَّ الزمانَ لما يقولُ مُصدِّقُ:
لكَ مصرُ ماضيها وحاضِرُها معاً ... ولكَ الغدُ المتحتِّمُ المتحقِّقُ
يا ليل الصب
ضمّ مجلس طرب سعادة شاعر الأمير أحمد شوقي بك وطائفةً من الأدباء فغناهم مغنيهم
القصيدة الشهيرة التي مطلعها يا ليل الصبّ فطرب لها الحاضرون وسألوا شوقي بك أن يعارضها ففعل ونشرت مجلة الزهور معارضته مقترحة على الشعراء أن يحذوا حذوه فنظم في ذلك إسماعيل صبري باشا ثم وليّ الدين بك يكن ثمّ الأمير نسيب أرسلان.
أما الأبيات الأصلية فهي لأبي الحسن الحصري الضرير المولود في القيروان والمتوفي في الأندلس سنة 488 هـ. وهي هذه:
يا ليلُ الصبِّ متى غَدُهُ ... أقيامُ الساعةِ موعِدُهُ
رَقَدَ السُمَّارُ وأرَّقَهُ ... أسَفٌ للبَين يُردِّدُهُ
فبكاهُ النجمُ ورقَّ لهُ ... ممَّا يَرعَاهُ ويرصدُهُ
نَصبَتْ عيناي لهُ شَرَكاً ... في النَومِ فعزَّ تصيُّدُهُ
صاحٍ والخمرُ جني فَمِه ... سكرانُ اللحظ مُعربدُهُ
يا مَنْ سفكتْ عيناهُ دَمي ... وعلى خَدَّيهِ تورُّدُهُ
خدَّاكَ قدِ اعترفا بدَمي ... فعلامَ جفونُكَ تجحدُهُ
باللهِ هَبِ المشتاقَ كرىً ... فلعلَّ خيالَك يُسعدُهُ
لم يُبقِ هواكَ بهِ رَمَقاً ... فلْيَبكِ عليهِ عُوَّدُهُ
وغداً يقضي أو بعدَ غدٍ ... هَلْ من نظرٍ يَتزوَّدُهُ
أبيات شوقي بك
مضناكَ جَفاهُ مرقدُهُ ... وَبكاهُ ورَحَّمَ عُوَّدُهُ
حَيرانُ القلبِ معذَّبُهُ ... مقروحُ الجفنِ مُسهَّدُهُ
أودى حَرَقاً إِلاَّ رَمَقاً ... يُبقيهِ عليكَ وتُنفِدُهُ
يستهوي الوُرْقَ تأوُّهُهُ ... ويُذيبُ الصخرَ تَنهُّدُهُ
ويُناجي النجمَ ويَتبعُهُ ... ويُقيمُ اللّيلَ ويُقعدُهُ
ويُعلِّمُ كلَّ مُطوَّقةٍ ... شَجَناً في الدَّوحِ تُردّدُهُ
كم مدَّ لطيفِكَ من شَركٍ ... وتأَدَّبَ لا يتصيَّدُهُ
فعساك بغمضٍ مُسعفُهُ ... ولعلَّ خيالك مُسعدُهُ
الحسنُ حلفتْ بيوسُفِهِ ... والسورةِ أنَّكَ مفردُهُ
قد ودَّ جمالَكَ أو قبَساً ... حوراءُ الخلدِ وأمرَدُهُ
وتمنَّت كلُّ مقطّعةٍ ... يدَها لو تُبعَث تشهدُهُ
جَحدَتْ عَيناكَ زكيَّ دَمي ... أَكذّلِكَ خَدُّكَ يَجحدُهُ
قد عزَّ شُهوديَ إذ رَمَتا ... فأَشرتُ لخدِّكَ أُشهدُهُ
وهمَمَتُ بجِيدِكَ أُشرِكهُ ... فأَبى واستكبَرَ أصيدُهُ
وهَززتُ قَوامَكَ أعطِفُهُ ... فنَبا وتَمنَّع أملدُهُ
سَبَبٌ لرضاكَ أُعطِفُهُ ... ما بالُ الخَصرِ يُعقِّدُهُ
بَيني في الحبِّ وبينَكَ ما ... لا يَقدرُ واشٍ يُفسدُهُ(/)
ما بالُ العاذلِ يَفتحُ لي ... بابَ السُلوانِ وأُوصدُهُ
ويقولُ تكادُ تجنُّ بهِ ... فأقولُ وأُوشِكُ أعبدُهُ. . .
مولايَ , ورُوحي في يَدِهِ ... قد ضَيَّعها سَلِمَتْ يَدُهُ
ناقوسُ القلبِ يَدقُّ لهُ ... وحَنايا الأضلعِ مَعبدُهُ
حُسَّادي فيهِ أعذرُهم ... وأحَقُّ بعذريَ حُسَّدُهُ
قَسماً بثنايا لؤلؤها ... قَسمَ الياقوتَ مُنضِّدُهُ
ورضابٍ يُوعَدُ كوثرَهُ ... مقتولُ العشقِ ومشهدُهُ
وبخالٍ كادَ يُحَجُّ لهُ ... لو كانَ يثقبَّلُ أسودُهُ
وقَوامٍ يروي الغصن ُلهُ ... نَسباً والرمحُ يُفنِّدُهُ
وبخصرٍ أوهنَ من جَلَدِي ... وعَوادي الهجرِ تبدّدُهُ
ما خنتُ هواكَ ولا خَطَرت ... سلوىً بالقلبِ تُبرِّدُهُ
أبيات صبري باشا
أقريبٌ مِن دَنِفٍ غدُهُ ... فاللّيلُ تَمرَّدَ أسودُهُ
والتفّتْ تحتَ عجاجَتِهِ ... بيضٌ في الحيِّ تُؤَيَدُهُ
حَرْبٌ عندي لمُسعِّرِها ... شَوقٌ ما زلتُ أُردِّدُهُ
هل من راقٍ لصريعِ هوىً؟ ... هل من آسٍ يَتعهَّدُهُ؟
حتى مَ يُساوِرُهُ كَمدٌ ... يُبلي الأَحشاَء تجدُّدُهُ
وإلى مَ يُصارِعهُ ألمٌ ... إِن همَّ يَقومُ ويُقعدُهُ
في القصرِ غَزالٌ تُكبرهُ ... غِزلانُ الرَّملِ وتَحسدُهُ
صِفَرِت كفّي منهُ ومَضى ... وقَدِ امتلأَت منّي يَدُهُ
كم صُغت التبرَ لهُ شَرَكاً ... وقَضيتُ اللَّيلَ أُنضِّدُهُ
وأُشاوِرُ شوقي بل أدبي ... هل أقصرُ أم أتصيّدُهُ؟
مولايَ , أُعيذُكَ من ضَرَمٍ ... لا يَرحمُ قلباً مُوقِدُهُ
أدركْ بحياتِكَ مِن رَمَقي ... ما باتَ هواكَ يُهدّدُهُ
قد بان الحُبُّ لذي عَيَنَ ... ينِ وهذا الشَّوقُ يؤكِّدُهُ
شوقي جَوِّدْ في الشعرِ وقُلْ ... آمنتُ بأنَّكَ أوحدُهُ
أبيات ولي الدين بك يكن
الحسنُ مكانُكِ معبدُهُ ... واللَّحظُ فؤاديَ مَغمدُهُ
يا سيَّدتي , هذا حُرٌّ ... لم يُعرَفْ قبلَكِ سيّدُهُ
اللّيلُ , وطيفُكِ يعرفهُ ... إِن كانَ فؤَادُكِ يجحدُهُ
كم يوحي طرفُكِ لي غَزلاً ... وأنا في شِعريَ أُنشدُهُ
وتُساجلُني الأطيارُ هوىً ... في الدَّوحِ أبيتُ أُردِّدُهُ
للّصبح سناؤُكِ أبيضُهُ ... للَّيل غَراميَ أسودُهُ
أحببتُ قلاكِ فمطلقُهُ ... عندي عَذبٌ ومُقيّدُهُ
إِن ضلَّ حنانكِ عن قلبي ... فأن بولوعيَ أرشدُهُ
قد بات دلالكِ يَخذلهُ ... وجمالَكِ كانَ يؤيّدُهُ
زِيدي تيهاً أزدَدْ كَلَفاً ... كَلفي إِن رَثَّ أجدّدُهُ
شوقي إن بنتِ يضاعِفهُ ... صبري إن جرتِ يؤكدُهُ
خِلاَّنِ هُما شمسا فَلَكٍ ... طَرفي مع طرفِكِ يرصدهُ
فَصِلي باللهِ ولو حُلُماً ... مضناكِ جَفاهُ مرقدُهُ
وعِديهِ اليومَ ولو كَذِباً ... الصبُّ يماطِلُه غَدُهُ
أبيات الأمير نسيب أرسلان
مَضناكَ عصاهُ تجلُّدُهُ ... هل أنتَ بعطفِك مُنجدُهُ؟
منهوك الجسمِ بهِ كعَدٌ ... أحناءُ الأَضلعِ موقدهُ
ترجيعُ الوُرقِ يُهيّجهُ ... ووميضُ البرقِ يسهّدُهُ
ولهُ نفَسٌ , لو ما خفَفت ... أحشاهُ , لعزَّ تردُّدُهُ
إِن تَهجرْهُ فعزاَءك في ... دنِفٍ يتهامَسُ عُوَّدُهُ
لا يسري طيفُكَ في غَلَسٍ ... قد زوّرَ نورَك فرقدُهُ
ما حالُ فؤاديَ في شغَفي ... يستبكي الصخرَ تَوجُّدُهُ(/)
أفدي مولايَ فكلُّ فتىً ... يُشقيهِ الحبُ ويُسعدُهُ
كم فزتُ بمرآي طلعتِهِ ... فوزاً يتقطَّع حُسَّدُهُ
وسكرتُ براحِ شمائِلهِ ... سكراً ما فاهَ مُعَربدُهُ
غْصُنٌ أغرتني رقتَّهُ ... أتُرى شكوايَ تؤوِّدُهُ
والشعرُ صداحٌ في وَلهٍ ... يهوى الأغصانَ مغرّدُهُ(/)