الحملة إلى الحبشة، عين عرابي مديراً للنقل في مصوّع. فنقص المال الذي بعهدته 400 جنيه فعد الضباط المصريون اتهامه وشاية من الجركس، فعزله إسماعيل باشا من الجيش. فانصرف إلى خدمة الجمعية السرية بين العساكر وفي الأزهر فخشي علي مبارك باشا العاقبة فأشار إلى إسماعيل باشا بأن يستميل عرابي ورفاقه باللين ففعل ورقى 70 ضابطاً إلى رتبة قائمقام ومنهم عرابي.
ولما تولى توفيق باشا أنعم عليه برتبة أميرلاي. وبعد قليل اختصم مع ناظر الجهادية عثمان باشا رفقي على قانون القرعة بحجة أنه يحول دون تقدم الوطنيين وأخذ مع علي فهمي وعبد العال حلمي بالسعي ضد الجركس والترك حتى استمالوا إليهم الجيش. ولما وثقوا من ذلك قدموا عريضتهم المشهورة إلى رياض باشا رئيس النظار فطردهم. ثم ارتأى
أن يحاكموا في قصير النيل فأبلغهم محمد سامي البارودي الخبر فاتفقوا مع الآلاي المعسكر بعابدي على أن يسرع لنجدتهم. أما دعوتهم إلى قصر النيل فكانت بحجة الاحتفال بعرس إحدى الأميرات وما كاد يصدر عليهم الحكم بالحبس حتى وصلا الآلاي وضرب أمام قصر النيل نفير الحريق فخرج عساكر قصير النيل لإطفاء الحريقة ودخل عساكر قشلان عابدين قصر النيل وخلصوا عرابي ورفيقيه وفر ناظر الجهادية.
وعاد عرابي إلى عابدين فائزاً وطلب من الخديوي عزل ناظر الجهادية والعفو عنه وعن زميليه وتعيين محمود سامي البارودي ناظراً للجهادية، فأجاب مطالبهم. وكان ذلك فاتحة كل الشرور لأن الحزب تهور كثيراً(2/320)
حتى أن عربة نقل داست عسكرياً في الإسكندرية فحملوا العسكرية إلى رأس التين وأخذوا يطالبون الخديوي بدمه فعزل الخديوي ناظر الجهادية وعين داود باشا لهذا المنصب، فأمر داود باشا بنقل آلاي القلعة وآلاي الإسكندرية، فزاد هياج العرابيين وأعدوا العرائض يطلبون فيها الإصلاح وقدموها للخديوي وهو مع القناصل في عابدين. فوعد بالنظر فيها. ثم زار ثكنات العساكر ولما وصل إلى ثكنة عرابي بالعباسية لم يجده فيها. وعاد إلى عابدين فإذا بعرابي قد صف الجيش في الساحة وهو مستل سيفه يهدد السراي، فأطل عليه الخديوي وطلب منه أن يتقدم فوصل إلى باب السراي على جواده وسيف مسلول والضباط محيطون به فأمره الخديوي بإغماد سيفه ففعل ونزل عن جواده فسأله الخديوي: لماذا تفعل ذلك؟ فأجابه: لأنال خمسة أمور، الأول إسقاط الوزارة والثاني تأليف مجلس نواب والثالث زيادة عدد الجيش والرابع إنفاذ قانون العسكرية الجديد والخامس عزل شيخ الأزهر. فطلب القناصل من الخديوي أن يعود إلى قصره وقال قنصل الإنكليز لعرابي إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديوي، وزيادة الجيش لا تسمح بها الميزانية، وعزل شيخ الأزهر لا يمكن أن يكون بلا سبب، وإنفاذ قانون العسكرية ينظر فيه مجلس النظار، وتأليف مجلس النواب من خصائص الأمة لا الجيش. فرد عرابي أنه يطلب ذلك كله بالنيابة عن الأمة وهذا الجيش أولادها وأنه لا يبرح مكانه حتى ينال مطالبه. فقال له القنصل ماذا تفعل إذا لم تجب مطالبك. فقال: عندي مليون شاب وليس لأحد أن(2/321)
يتداخل بشؤوننا الداخلية. فعاد القنصل وتقرر بعد ثلاث ساعات من التباحث إجابة المطالب تدريجاً إلا مجلس النواب فإنه يؤخذ رأي الباب العالي بشأنه،
فأصر عرابي على إسقاط الوزارة فسقطت وألف شريف باشا وزارة جديدة، ونقل آلاي عرابي إلى رأس الوادي وآلاي عبد العالي إلى دمياط. ولما رأت الحكومة أن عرابي يبث روحه في الشرقية نقلته وكيلاً للجهادية فاشتغل حتى عزل الشيخ العباسي من مشيخة الأزهر وعين الشيخ الإمبابي بدلاً منه. ونفذت كل المطالب وتألف مجلس النواب. ولكن المراقبين على الميزانية وهما الفرنساوي والإنكليزي أبيا على مجلس النواب النظر في الميزانية، وسقطت الوزارة لهذا السبب، فألف محمود سامي الوزارة الجديدة واختار عرابي ناظراً للجهادية. فنفذ قانون الضمائم والمعاشات وعزل 600 ضابط شركسي وتركي، وأرسل الآخرين إلى السودان وسجن 40 ضابطاً كبيراً وفي مقدمتهم عثمان باشا رفقي بتهمة المؤامرة فحكم عليهم بالتجريد من رتبهم وبإبعادهم إلى السودان فأبى الخديوي التصديق على هذا الحكم.
ثم تفاقم الأمر وعرضت رئاسة النظار على مصطفى فهمي باشا فأبى قبولها. وأرسلت إنكلترا وفرنسا مراكبهما الحربية. فطلب الأسطولان عزل الوزارة وإبعاد عرابي وعبد العال وعلي فهمي، فاحتجت الوزارة على ذلك، ثم سقطت في 26 مايو 1882 وقبل شريف باشا تأليف وزارة جديدة. وورد تلغراف من آلاي الإسكندرية بأنهم لا يقبلون ناظراً للجهادية غير عرابي فأبقي في وزارته ريثما يصل الوفد الذي أرسله السلطان.(2/322)
وأرسل إلى القناصل يتعهد بحفظ الأمن بشرط إبعاد الأسطولين من المياه المصرية. وأخذ عرابي يسعى لخلع توفيق باشا وتولية حليم باشا وتحصين المرابط المصرية. ووصل الوفد المرسل من الأستانة فشجع عرابي.
وفي 11 يونيو 1882 اختصم حمار ومالطي في الشارع الإبراهيمي بالإسكندرية فنجمت عن ذلك فتنة شديدة عقبتها مذبحة وتمارض قومندان الضابطة السيد قنديل وطلب المحافظ عمر باشا لطفي من أميرلاي الجند سليمان داود إرسال العساكر لإخماد الفتنة فأجاب أنه لا يفعل إلا إذا تلقى أمراً من عرابي. وبلغ عدد الجثث التي التقطت من شوارع الإسكندرية 600 جنيه وهاجر في ذلك الأسبوع نحو 200 ألف. وفي 13 يونيو سافر الخديوي إلى الإسكندرية، وأسقط وزارة شريف وألف وزارة راغب باشا، فظل عرابي فيها وطلبت هذه الوزارة العفو عن المجرمين، وأنعم السلطان على عرابي، فازدادت حماسة الحزب. وتخلل
ذلك مساعي الدول لعقد مؤتمر في الأستانة فسوّف الباب العالي وماطل. أما عرابي فإنه تولى قيادة 9 آلاف جندي في الإسكندرية وأخذ بإقامة الحصون فاتخذت إنكلترا ذلك حجة وضربت الثغر فجأة فبدأ ضربها في الساعة 7 صباحاً وظل حتى الواحدة والنصف بعد الظهر (11 يوليو 1882) وتولى الرعاع أمر المدينة فأحرقوها وأحاط 400 جندي بسراي الخديوي بالرمل ليحرقوها، ولكن عرابي منعهم، ومكث أحد البكباشية مع 250 عسكرياً على ولاء الخديوي وأرسل الأميرال سيمور ثلاث سفن لحماية السراي وارتد عرابي وعساكره إلى كفر الدوار وأعلن راغب(2/323)
باشا عصيانه وطلبه الخديوي إلى رأس التين فأجاب أنه لا يطيع إلا إذا سافر الأسطول الإنكليزي. وقرر أعيان القاهرة استمرار الحرب وصدر أمر الخديوي بعزل عرابي ولكن مجلس الأعيان في العاصمة قرر إبقاءه.
وكان جيش عرابي بكفر الدوار مؤلفاً من 4 آلايات مشاة وآلاي فرسان وآلاي طوبجية وبطارية مدافع، وأرسلت إليه المديريات 25 ألفاً والعربان أفواجاً عديدة.
وبعد ذلك أصدر الباب العالي منشوراً بعصيان عرابي. وفي 20 و21 و22 أغسطس هاجم الإنكليز كفر الدوار وأخذوا بإنزال عساكرهم بالسويس فذهب عرابي إلى الوادي وبدأ القتال في 23 أوغسطس وفي 12 سبتمبر هجم الإنكليز قبل الفجر على التل الكبير فانهزم العساكر وفر عرابي إلى مصر وتبعه الجيش الإنكليزي وفي 14 سبتمبر دخل الإنكليز القاهرة وفي 15 سلم لهم عرابي فسجنوه في العباسية ثم حوكم فحكم عليه بالإعدام واستبدل الحكم بالنفي فنفي إلى سيلان ثم صدر العفو عنه فعاد إلى مصر سنة 97 مع رفاقه وأجرت الحكومة عليه 60 جنيهاً في الشهر وسكن بجهة الناصرية حيث توفي.
أزهار وأشواك
فلسفة العيد
كان في الشهر الماضي ختام صوم رمضان وحلول عيد الفطر المبارك فأقيمت الأفراح والزينات وأقفلت المصارف والدوائر والمحلات التجارية(2/324)
فاشتركت الأمة بأسرها في هذا العيد لا فرق بين المسلم والنصراني ولا النزيل والوطني، فكان ذلك مما تسر له خواطر محبي السلام، لاسيما في هذه الأيام حيث كثرت مشاغبات دعاة التفريق والخصام. وكان منظر الأولاد، وقد اشتركوا في العيد، من أبهج المناظر لأن روح التحزبات والغايات لم تنفث سمها في صدورهم الطاهرة. فرددنا قول شوقي:
فهذا بعلبته يزدهي ... وهذا بحلته يفخر
وهذا كغصن الربى ينثني ... وهذا كريح الصبا يخطر
إذا اجتمع الكل في بقعةٍ ... حسبتهم باقة تزهر
أو افترقوا واحداً واحداً ... حسبتهم لؤلؤاً ينثر
فلاسفة كلهم في اتفاق ... كما اتفق الآل والمعشر
ولا لغة غير صوت شجي ... كروض بلابلة تصفر
ولا يزدري بالفقير الغني ... ولا ينكر الأبيض الأسمر
فيا ليت شعري أضل الصغار ... أم العقل ما عنهم يؤثر
سؤال أقدمه للكبار ... لعل الكبار به أخبر
لا والله لم يضل الصغار، فليقتد بهم الكبار.
الجوق العربي
مديره عبد الله عكاشة، وقد جمع وإخوته إلى رخامة الصوت حسن الاستعداد. وواضع رواياته إلياس فياض، الشاعر والكاتب المعروف بالرقة والطلاوة. ومسرح تمثله التياترو المصري، وقد أُلبس حلة جديدة من الرواء بإدارة صاحبه إسكندر فرح وأخيه توفيق وأعضاؤه أفراد(2/325)
جوق الشيخ سلامة، وهو أحسن جوق عرفناه. ومتعهد ملابسه كيريني، متعهد ملابس الأوربرا الخديوية. فكل أسباب النجاح متوفرة، كما ترى، لهذا الجوق العربي الذي بدأ بإحياء لياليه في منتصف الشهر الماضي. . . . نحن لا نقول إن الجوق قد بلغ
آخر مراحل الكمال، فهذا ما لا يراضه منا مديره الأديب. ولكننا نشهد أنه باذل همة تشكر في سبيل إرضاء الفن وحق القيام بشروطه ولا جدال في أنه قد خطا خطوة واسعة في ترقية التمثيل العربي. ولذلك نحن نصفق له كما صفق له الذين حضروا لياليه في مدن القطرين المصري والسوري. ضفرت باقة من أزهاري للقائمين بهذا المشروع. ولابد من تسديد بعض الأشواك إلى مرتادي مسارحنا العربية. يذهب الواحد منا إلى التياترو الإفرنجي، كالأوبرا او برنتانيسا مثلاً، فلا يجيز لنفسه الحضور بغير ملابسه الرسمية السوداء، فيجلس كما يشاء الأدب، ولا يدخن إلا في المجل المعد للتدخي. حتى ترى فيه الجنتلمن الكامل. وأما إذا رأيت هذا الشخص ذاته في تياترو الشيخ سلامة أو التيارو المصري، وهما لا يبعدان عن الأوبرا وبرنتانيا إلا بضع مئات من الخطوات، فإنك لا تكاد تعرفه، وقد جلس ومد رجليه على كرسي جاره، وأولع سيجارته، بالرغم من الحروف المرقومة على الجدران ممنوع التدخين أو اشتغل بقزقزة اللب بل تسمعه يقهقه ضحكاً في أشد المشاهد تأثيراً حتى يضايق الممثلين أيما مضايقة. . . فإلى متى نحن نحتقر أنفسنا؟ وما دمنا كذلك، فكيف نطلب من الأجانب أن يحترمونا. . .(2/326)
كتشنر والفأر
تهمني السياسة بقدر ما تهم أسعار البورصة فراشة الحقل، أو بقدر ما تهم أزهاري وأشواكي إمبراطور الصين. ولذلك لست بمحدّث(2/327)
قرائي عن المعتمد الإنكليزي الجديد إلا على سبيل الفكاهة. . . روي، والله أعلم، أن لورد كتشنر أوف خرطوم، لما كان قائداً للحملة السودانية، دخل إلى مضربه في أحد الأيام وقد اشتد عليه التعب والحر، وأوصى الجندي السوداني القائم على خفارته أن لا يدع أحداً يصل إليه لأنه في حاجة إلى قليل من الراحة. انطرح القائد بملابسه على مضجعه العسكري ونام، وبينما هو كذلك إذا بطلقين ناريين قد دويا في جانبه، فأفاق مذعوراً وهرول إلى خارج الخيمة وهو يظن أن العدو قد هاجم المعسكر على حين غفلة. فرأى الخفير والبندقية في يده، والابتسامة على شفتيه، فسأله عما هناك فأجاب: الرصاصة الثانية كانت القاضية عليه. . . . هو فأركان يحاول الدخول إلى الخيمة فخفت أن يزعج مولاي في رقاده.
مغزاه: سيرى العميد كثيرين من الزعماء يطلقون النار حوله - كالخفير - من أجل فأر،
بغية راحته.
حاصد
ثمرات المطابع
التشخيص الجراحي - لما تكلمنا عن رسالة الحمل خارج الرحم (زهور سنة أولى ص 549) التي وضعها حضرة العالم الدكتور محمد أفندي عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب، أثينا على همة المؤلف لنشره مثل هذه الأبحاث العلمية في اللغة العربية ورجونا من حضرته متابعة طبع(2/328)
مثل هذه الكتب المفيدة. ولم يمض على ذلك بضعة أشهر حتى تحف الدكتور عبد الحميد العالم الطبي بمؤلف نفيس هو الذي نحن الآن بصدده، وقد استخلصه من أربع مؤلفات إنكليزية تعد من خير ما كتب في هذا الموضوع فجاء كافياً وافياً، وتناول تشخيص الإصابات كافة وما يطرأ عليها من المضاعفات كإصابات الرأس والعمود الفقري والمسالك الهوائية والحنجرة والصدر والبطن والحوض والمفاصل وأعضاء التناسل إلخ مع أبحاث مستوفاة في كل أنواع الخلوع والكسور والأورام والقروح. ومن يتصفح هذا الكتاب الضخم يدرك ما بذله صاحبه من العناية والتدقيق وتكبده من النفقات ليقدم لقراء العربية هذا السفر الثمين الذي كانوا بحاجةٍ قصوى إليه. فإذا هم أقبلوا على اقتنائه فإنهم لاشك واجدون فيه من الفوائد والمنافع ما لا يعد ثمنه شيئاً بجانبه. فلا يسعنا إلا إسداء الشكر الحميم للدكتور عبد الحميد الذي عرف كيف يخدم أمته وبلاده الخدمة الحقيقية، وهذا ما سمعناه من الكثيرين.
وقاية الشبان من المرض الإفرنجي والسيلان - وجاءنا كتاب طبي آخر ورد علينا من الديار الأمريكية لمؤلفه حضرة النطاسي الدكتور سعيد أفندي أبي جمره صاحب جريدة الأفكار البرازيلية، وقد بحث فيه بحثاً دقيقاً عن الأمراض الزهرية - المشتق اسمها من الزهرة آلهة الحب والجمال - وأورد تاريخها في العالم عموماً وفي الشرق خصوصاً ودخولها إلى بلادنا مع حملة بونابرت إلى القطر المصري(2/329)
سنة 1789 وامتدادها إلى القطر السوري لكثرة المعاملات بين القطرين وتسميتها بالمرض أو الحب الإفرنجي لأن مصدرها الإفرنج. ثم وصف كل أنواع هذه الأمراض وصفاً طبياً مع طرق معالجتها والوقاية منها، وسهل فهم كل ذلك بالصور والرسوم فخدم بذلك الشبان خدمة كبيرة عساهم أن يجدوا فيه ما يكفيهم شر هذا المرض الفتاك.
يا حسرتي عليك يا زعيتر - اشتهر شكري أفندي الخوري الكاتب الظريف بلطف أسلوبه وخفة روحه في الكتابة. وجريدته أبو الهول التي تصدر في البرازيل تشهد له بذلك وقد
امتاز على زملائه بالتعويل على اللغة العامية لإفهام الشعب ما يريد من الحقائق الأدبية والعمرانية. وله في عالم التأليف كتب لطيفة من هذا القبيل أشهرها رحلة فنيانوس. وإذا كان كتابه الأخير الذي أهداه إلينا أخيراً ينقص عن أسلافه من حيث الطبعية في اللهجة والحديث فهو لا يقل عنها مطلقاً من حيث دقة الملاحظة وقوة الوصف وشدة الانتقاد. وقد ذكر لنا فيه حكاية زعيتر - وهو قروي لبناني يهاجر إلى أمريكا بلاد الذهب - وما يصادفه أثناء هذه الرحلة من الحوادث والأمور الغريبة. ولا يسعك إلا أن تقهقه ضحكاً عندما تطالع حكاية هذه النوادر وهي بسيطة بحد نفسها ولكن قلم شكري الخوري يلبسها حلة ترتاح إليها النفس. وهو يذكرنا من حيث دقة الملاحظة والنقد بقلم فارس الشدياق، وإن كان بين إنشاء الكاتبين بون عظيم. وهو يشبه(2/330)
تيودور بوترل وفردريك مسترال من حيث وصف عادات البلاد والتغني بجمالها، والحث على الاحتفاظ بتقاليدها.
غرازيالاّ - كتاب ثالث جاءنا من البرازيل في هذين الشهرين فلا يسعنا إلا الثناء على همة كتابنا الأدباء الذين هاجروا إلى أقصى الأمصار وباتوا ينشرون فيها لغتنا العربية. . . وغرازيالا هي الرواية الفلسفية الأخلاقية الغرامية التي ذاع صيتها في عالم الأدب الفرنسوي، ولا عجب فهي من أرق ما خطت يمين الشاعر الشعير لامارتين. وقد نقلها إلى العربية الأديب إسكندر أفندي كرباج. وكنا نود لو كان أكثر أمانة في الترجمة وأمتن سبكاً في التعبير لئلا يفقد شيء من جمال الأصل وطلاوته. على أن من مؤلفات لامارتين - كما في مؤلفات كل نوابغ الكتاب - صفحات قد يعجز عن تأديتها حقها من الترجمة أقدر المترجمين ولذلك نحن نقدر عمل مترجم غرازيالا حق قدره، فهو أجل وأشرف من ترجمة القصص التافهة.
رواية الشهر
أوله لهو وآخره قتل
كان في فلورنسا تاجر واسع الثروة تزوج بإحدى مثريات المدينة ورزق منها ولداً ذكراً دعاه ألفرد. ولم تكد تقر بالمولود عينه حتى دعاه خالقه إليه فترك وحيده يتيماً بعد أن أوصى به أرملته وذويه.(2/331)
ترعرع الولد وأخذ يخرج في البلدة ويلعب مع أقرانه وما عتم أن شعر بميل خصوص إلى صبية كانت تلعب معهم اسمها ماري، فكان يخرج الولدان من منزلهما في ساعة واحدة ليلتقيا في مكان متفق عليه من قبل. وهناك يصرفان الساعات الطوال منهمكين في ألعاب لا لذة فيها ولا سلوى إلا أنها تجمع الولدين المتحابين وهما شاعران بفرح لا يدركان له سبباً حتى إذا دنت الشمس من المغيب واضطرا إلى الافتراق أحس كل منهما بوحشة زائدة وبحزن ما كان يخففه غير أمل اللقاء في اليوم التالي.
وقد كرت الأيام والأعوام والولدان يعيشان عيشة واحدة لا يلذ لهما شيء إذا افترقا ولا يحزنهما شيء إذا اجتمعا. . . ولما شبا عن الطوق فبرز نهدا الفتاة وانفتل ساعد الغلام تبدل ذلك الشعور الرقيق الكامن بحب ووجد وغرام. فأوجس أهلهم خيفة لاسيما أم الفتى، هي تحسب أن حب ابنها لتلك الفتاة يحمله على التهور والتفريط حتى وصل بها الخوف إلى أنها فاوضت عم الغلام بالأمر وقالت له: إذا دامت حال ألفرد وحال ماري على ما هي عليه فلا أعجب إذا أفقت يوماً وأنا جدة وهناك الفضيحة فأنى لنا تلافي الخطب قبل استفحاله؟. . . فأطرق العم يفكر كأن مسألة الغلام معضلة ولا كالمعضلات ولما أعياه التفكير ولم يوفق إلى حل للمشكلة أشار عل الأم بأن تعقد مجلساً عائلياً تطرح عليه المسألة فيتدبرها ويبت فيها رأياً يكون فيه خير الفتى وراحة الأم. . .
عقد المجلس العائلي وشرحت له الأم أسباب قلقها وجزعها ولم يكن في المجلس غير شيوخ ماتت قلوبهم فباتوا يحسدون الشباب ويضيقون عليه الخناق كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وبعد البحث والتفكير والمداولة قر رأيهم على إبعاد الفتى آملين بذلك بلوغ المرام فيفعل البعاد ما لم تفعله النصائح فتتزوج الفتاة من جهة ويسلوها الفتى من جهة أخرى. . . . .(2/332)
ثم كلف المجلس عم ألفرد بإبلاغه ذلك القرار بالطرق التي يراها مناسبة طبقاً لحاسات
الفتى وأمياله. . . فجاء العمل صبيحة يوم إلى ابن أخيه فرآه غارقاً في بحر من الغرام كم تاهت فيه سفن وضلت مراكب فاقترب إليه وبادره بالسلام مبالغاً بالملاطفة والمؤانسة حتى هش له الفتى وما كان يبسم إلا لحبيبة قلبه. . . .
ولما شعر العم باستعداد الفتى لسماع كلامه قال له بمزيد من الحنان:
ها أنت قد أصبحت رجلاً بحمد الله وآن لك أن تسافر إلى بلاد أرقى ووسط أرفع فتتفقه بالأسفار ومخالطة الأقوام، ثم تعود إلينا وقد تحليت بالأدب والعلم والاطلاع فيكون لك بين قومك كلمة وشأن. . . ولن يطول زمن هجرتك أكثر من سنتين فقط، فما رأيك؟. . . .
فابتسم الفتى ابتسامة دلت على انزعاج واضطراب وقال: ما فكرت قط يا عماه بهذه السفرة وها أنا بعد سماعي ترغيبك إياي فيها وتشويقي إلى اقتحامها كما كنت من ذي قبل: لا أحب السفر. فأنا هنا مرتاح إلى الطبيعة وما أنجبت، غير طامع بالمزيد فلا تكرهوني على ما لا ترغب فيه نفسي. . . .
فعض العم على شفتيه وأخفى الكيد وأظهر الجلد وأخذ يسرد على ابن أخيه البراهين والحجج والأسباب التي تقضي عليه بالسفر حتى ضاقت بالفتى أنفاسه ورأى أنه لم يعد له بين ذويه مقام فطلب إلى عمه أن يمهله إلى الغد فيعطيه الجواب الأخير.
خرج العم ونظر الفتى إلى واقع الحال فراعه. . . فكر بافتراقه عن معبودة قلبه فهاله فكره وتذكر ساعات لقياها حيث حديث الغرام أرق من النسيم وأشجى من نوح الحمام فهاجت أشواقه الذكرى فبكى ولسان حاله ينشد:
لا مرحبا بغد ولا أهلاً به ... إن كان توديع الأحبة في غد
ثم سار إلى حيث يلتقي عادةً بحبيبة قلبه فوجدها بانتظاره فراعه اصفرارها - وقد خبرها ذووه بعزمهم على تسفير ألفرد ورجوا إليها مساعدتهم حباً بخير الفتى، فوافقتهم مكرهة - وما وصل إليها حتى عرته هزة يعرفها من وقف تلك(2/333)
المواقف فتقدم إليها واجلاً مضطرب الجوارح خفاق الفؤاد ومد إليها يداً مرتجفة باردة، فشدت عليها بيد مرتجفة باردة، وتناظر الحبيبان فتفاهما وعلما أن لابد من الفراق فتجسم بنظرهما كل ما في قلوب العاشقين من وجد وجزع وطوقا بعضهما بعضاً بدافع غير منظور وشهقا بالدمع، حتى إذا هدت حيلهما تلك الدقيقة بما فيها من هول الوداع ضم الفتى شفتيه إلى شفتي الفتاة وجمع كل ما في نفسه
من هوى وطبعه على تينك الشفتين بطابع من نار فانتفضت الفتاة انتفاض من جرى في عروقه تيار كهربائي وتراجعت إلى الوراء مذعورة وتراجع مذعوراً وقد شعرا بخطورة الموقف فافترقا وقد مزق الوداع نسيج قلبيهما.
أفاق ألفرد في اليوم التالي منهوك القوى شاحب اللون وأخذ يتأهب للسفر فدخلت عليه أمه وفهمت أن رأيه قد قر على مغادرة البلاد فسرت من جهة وحزنت على فراق وحيدها من جهة أخرى ثم جاء الأهل والإخوان فودعهم ألفرد وهو ينظر إليهم شارد اللحظات ويكلهم وعقله وقلبه حيث حلت حبيبته ماري، ثم سار ووجهته باريس عروس المدن. . .
وصل مدينة النور وفي قلبه ظلام القبور ووحدة الأجداث وبات ليلته الأولى فيها كما يبيت الملسوع متقلباً على فراش الآلام والأوجاع. وقد حاول بعدها عبثاُ أن يسلي فؤاده فما كان يزداد إلا شوقاً وحنيناً إلى الوطن إلى تلك البقعة الصغيرة، حيث محبوبته. فإذا هب نسيم حمله إليها السلام وإذا رف طائر ناشده المروءة والدمع هتون أن يحمله إلى أرض ميعاده ولسان حاله ينشد:
يا طير صوب بلادنا خدني معك ... جسمي أرق من النسيم شو بيمنعك
قلي بيمنعني نحيبك والبكا ... خايف تبلل جانحي من مدمعك
مضت السنتان - وهما مدة أسر الفتى - وقد كانت كل ساعة منهما دهر. فعاد ألفرد إلى فلورنسا وهو يتساءل: ترى ما حل بماري؟. . . حتى إذا وصلها وقلبه(2/334)
خافق ونفسه جازعة علم أن حبيبته قد زفت إلى سواه فاسودت الدنيا بعينه ويئس من الحياة وعزم على الانتحار - وهو خاتمة الغرام - إلا أنه خطر على باله أن يرى حبيبته قبل الموت للمرة الأخيرة. انتظر ألفرد حتى أسدل الليل على المدينة سدوله وانسل تحت جنحه إلى منزل حبيبته وتوصل إلى غرفة نومها فاختبأ تحت السرير حتى خلت إليه فنزعت ثيابها ونامت وهي لا تشعر أن في الغرفة روحاً جاءت تودعها قبيل احتجابها في الأثير. . .
نامت فحلمت كأنها بالقرب من حبيبها ألفرد فطاب لها الحلم فكشف در ثناياها ابتسام خفيف. . . وكان ألفرد قد انساب في تلك الأثناء إلى سريرها فشعرت بحر أنفاسه فأفاقت وهي تحسب نفسها حالمة فإذا بها تضاجع رجلاً ليس بزوجها فهمت بأن تصرخ فضغط الفتى على يدها متمتماً: لا لا تجزعي. . . أنا ألفرد. . .
دهشت ماري وغسلها العرق البارد وهي لا تدري إذا كانت لا تزال حالمة حلمها اللطيف أو هي في الحقيقة تلمس حبيبها القديم. . . وما عتمت أن عادت إلى هداها فتحققت أن رفيق الصبا في جنبها فخافت كثيراً وقالت له: بالله عليه قم واذهب فزوجي في الغرفة معي وأنت تكاد تفضحني. . . فقال لها: لا تخافي. . . ما أتيت أفعل منكراً. أنت زففت إلى غيري فلتكن حياتك سعيدة، أما أنا فلم يبق لي مطمع في الحياة. . . دعيني أنام بقربك كما ينام الملك قرب الملك أو الأخ قرب الأخت فأحيا دقيقة وبعدها أموت غير آسف على الدنيا. . .
فحنت عليه ورق له قلبها وقالت: لك ما طلبت. . . فنام الفتى بقربها وقد تجسمت له السعادة فغاب فيها. . . أما هي فقد استغربت من حبيبها هذا الهدوء وما عهدها بالحب يبقي على العقل فأخذت يده يدها فوجدتها مجلدة فحسبت أن الغرام جلدها. . فنادته همساً: ألفرد! ألفرد!. . . فخافت وخامرتها الشكوك. . . فحاولت إنهاض رأسه فوجدته بارداً فحركت جسمه فانقلب كالعود، ففهمت وبهتت(2/335)
وقد صعقتها الحقيقة: إن ألفرد قد مات. . . سكبت دمعة محرقة وشعرت أن عروق قلبها قد تقطعت ثم أفاقت ونظرت إلى ما حوليها فراعها ذلك الموقف وما فيه من أسباب القيل والقال فاستجمعت رشدها وصممت على رأي وقامت إلى زوجها فنادته فأفاق فقصت عليه كل ما حدث كأنها تروي حادثة وقعت لسواهم بعيدة عنهم ثم قالت: حينئذ ما كان يجب على أهل البيت أن يفعلوا وأمامهم تلك الجثة؟ فقال: كان يجب عليهم أن يقوموا إلى الجثة وينقلوها بكل هدوء إلى بيتها ويتركوها على الباب فيظن القوم في الصباح أن فقيدهم مات قضاء وقدراً. . .
فقالت: إذن قم وافعل ذلك بالجثة في سريري. . .
فذعر الرجل ثم ثاب إلى رشده وقد تحقق أن امرأته صادقة في كل ما روت فقام إلى جثة ألفرد ونقلها بمساعدة امرأته حتى أوصلها إلى باب منزله فتركاها هنالك وعادا من حيث أتيا والحزن ملء قلب ماري. . .
أصبح الصباح فوجد أهل ألفرد جثة الفتى على الباب فأعولوا وندبوا واستدعوا الطبيب فجاء وفحص الجثة فإذا الموت طبيعي فقرروا أنه كان قضاء وقدراً.
واحتفلوا بتشييع الجنازة فقال الرجل الذي مات ألفرد في بيته لامرأته: قومي بنا إلى
الكنيسة نرافق الجثة حتى لا يخالج الناس ريب. فقامت والحزن يقتلها وقد عاد إلى ذهنها ذكر أيامها الأولى فسارت خلف الجثة وعينها تسكب الدمع مدراراً حتى إذا وصلوا بها إلى الكنيسة وصولا عليها وهموا بحملها إلى مرقدها الأخير سمع القوم صرخة هي أشبه بتنهيد عميق تلاه هبوط جسم إلى صحن الكنيسة. . فتراكض الناس فإذا ماري جثة هامدة تحت تابوت ألفرد. . . .
راع ذلك المنظر القوم المحتشد فأحنوا الرؤوس خشوعاً وسكتت القلوب اضطراباً واحتراماً وجعلوا الجثتين في تابوت واحد وواروهما في لحدٍ واحد كأنهم شعروا بأن ليس لهم أن يفرقوا جسمين اتحدت روحاهما بالموت. . .
وهكذا اتحد هذان العاشقان في اللحد بعد أن افترقا على الأرض وقد فعل الموت ما لم يفعل الحب. . .
(عن الإفرنسية)
حسون(2/336)
العدد 18 - بتاريخ: 1 - 11 - 1911
الأعلام العربية
في اللغات الأجنبية
بالنظر إلى انشغال العالم السياسي بحوادث طرابلس الغرب ومراكش كثر في جرائدنا ورود أسماء العلم عن تلك الأصقاع العربية. ولما كانت الجرائد تستقي معظم أخبارها من الصحف الإفرنجية رأينا أكثر هذه الأسماء مشوهاً في الترجمة تشويهاً يكاد ينزلها منزلة الأعجمي من الألفاظ. فأحببنا أن ننبه إلى هذا الخطأ طالبين إلى كل من يهمهم هذا الأمر أن يعملوا على ملاقاته:
منذ أربع سنوات تقريباً أرسل الأستاذ نلينو إلى الجمعية الجغرافية الخديوية مقالاً بحث فيه عن أسماء العالم الإسلامي الجغرافية وما يطرأ عليها من الغلاط والتحوير في النقل من لغة إلى لغة. وليس الأستاذ نلينو بمجهول لدى المصريين، فإنه من علماء المشرقيات المعروفين، وبعد ما كان مدرس اللغة العربية في كلية بالرمة (جزيرة صقلية) اختارته الجامعة المصرية منذ سنتين ليدرس في القاهرة تاريخ العلوم عند قدماء(2/337)
العرب. ولقد جاءت رسالته في الموضوع الذي ذكرناه طافحة بالملاحظات الجديرة بالاعتبار.
* * *
مهما كابر المكابرون لا ينكر أن الغربي الآن قد نال الأسبقية على الشرقي في ميدان الحضارة والعلوم. وقد أصبحنا في حاجةٍ إلى الرجوع إلى أبحاث علماء الغرب حتى في الأمور التي تتعلق بنا أشد العلاقة. فبتنا ندرس تاريخ أمتنا وجغرافية بلادنا في كتبهم ومؤلفاتهم. فأحدث ذلك عندنا تبلبلاً واضطراباً في ضبط الأعلام العربية وإرجاعها إلى أصلها. وهذا هو الأمر الذي قام الأستاذ نلّينو يدعو إلى تلافيه أعني آفة التحوير بل التشويه الذي يدخل على الأعلام الشرقية. فإن كتاب الإفرنج وعلماءهم قلما يحسنون نقل هذه الكلمات بلفظها الصحيح إلى لغاتهم. ولذلك، على ما نرى، سببان: الأول أن آذانهم لم تتعود سماع بعض مقاطع ومخارج لغاتنا فيسيئون كتابة ما يسمعون من أسماء الأعلام. والثاني - وربما كان هذا هو السبب الأساسي - إن اللغات الأجنبية تخلو من بعض حروف اللغات الشرقية ولاسيما الحروف الحلقية كالحاء والخاء والعين والقاف، فيستعيضون عنها بحروف تماثلها على قدر الإمكان، وكثيراً ما يخلط هؤلاء الكتاب بين
التاء والطاء، والدال والضاد، والسين والصاد، والقاف والكاف إلخ وذلك للسبب نفسه، أي خلو لغاتهم من حروف فارقة بين هذه المخارج، فتجيء كتاباتهم أحياناً بعيدة عن أصلها، غريبة في وضعها، وكثيراً ما يلبسونها بالنقل حلة(2/338)
جديدة، فيتعذر على قارئها أو مترجمها إعادتها إلى أصلها. من ذلك أنهم يكتبون صلاح الدين سلادن، وفخر الدين فهردان، وابن رشد أفرويس، وابن سينا افيسن، ووهران أران، وعين ماضي أين مدها، إلى غيرها ما هنالك من هذا القبيل مما يطول بنا إيراده.
* * *
يأخذ الغربيون قطننا وحريرنا فيصبغونه وينسجونه ويعيدونه إلينا، فهل نستغرب إذا أخذوا كلماتنا فنحتوها وصقلوها وأعادوها إلينا مصبوغة بصبغة لهجاتهم؟
على أن هؤلاء الكتبة لا يلامون في كل الأحوال على هذا التحريف لما قدمنا من الأسباب. ولكن اللوم علينا، نحن معشر الشرقيين، فإننا عندما نقرأ مثل هذه الأسماء الشرقية أو نضطر إلى نقلها إلى العربية نأخذها عن الإفرنجية ونكتبها بحروف تماثل حروف صورتها الغربية كأنها غريبة عنا. فتبقى في حلتها الأجنبية كأنها من الكلمات الموضوعة في أكاديمية اللغة في باريس أو لندره أو برلين. ولا نذكر من هذا القبيل على سبيل الفكاهة إلا ذاك الذي ترجم سلادن (صلاح الدين) بلفظة سلادينوس (؟) ألا رحم الله السلطان الأيوبي وكفاه شر المعربين.
أما الآن - وقد أخذ علماء الغرب يقبلون أيما إقبال على درس العربية والفارسية والسريانية وسائر اللغات الشرقية من ميتة وحية - فإنهم تنبهوا للأمر، لأنه تعذر عليهم مراراً تطبيق أسماء الأعلام على أصلها عندما رأوها في ذلك الأصل بعدما ألفوا شكلها الأجنبي. فأخذوا(2/339)
ينقبون ويبحثون ويطالعون في كتب قدماء العرب ليعيدوا إلى هذه الأسماء صورتها الحقيقية.
هذا بعض ما خطر على البال عندما تصفحنا مقالة الأستاذ نلينو. وكان حضرته قد كتب قبل اليوم ما مفاده:
طبع في بولاق سنة 1893 كتاب اسمه تاريخ العرب وآدابهم لجامعيه فانديك وفيليبيدس، صدره الكاتبان بمقدمة جغرافية عن جزيرة العرب ترى فيها أكثر الأسماء مشوهاً أي
تشويه لنقلهما هذه الكلمات عن لغات أجنبية دون مراعاة أصلها فيجعلون مثلاً (ص 6) جزيرة خوريان كوريان، وبلد الكويت قويط، وجبل العارض الجبل العريض، والقصيم القسيم. . . . .
هذا وقد توفق الأستاذ نلينو إلى تنقيح أسماء مختلفة فأعادها غىل أصلها وأكثرها من أسماء الأمكنة في مراكش والجزائر، وهي مغلوطة الكتابة حتى على الرسوم الجغرافية المعول عليا، وها نحن نورد أهمها للفائدة:
تل أمرنا والصحيح تل العمارنة، قبيلة دوي منيه والصحيح ذوي منيع. وسهل تافراته والصحيح سهل تافراطا، وقد ورد ذكره في ابن خلدون وسائر مؤرخي بلاد المغرب.
وقد ذكر العرب في كتبهم قبائل إيت سغروشن وأيت شخمان. فصارت في كتاباتنا الحديثة إيت شروشن وإيت سغمان. وقبيلة غياثة صارت رياطة.
ونحن نعتقد أن سبب هذا التحوير الأخير أن بعض الإفرنسيين(2/340)
كما هو معروف يلفظ الراء كالغين، كذلك قل عن وادي تدغه فقد حوروها فصارت وادي طدرة.
أما وادي ذرا فصوابها وادي درعة ومدينة ششوان صوابها الشاون.
ولا مجال الآن إيراد كل الأسماء الجغرافية التي اعادها الأستاذ نلينو إلى أصلها كما وردت في كتب العرب فلا تبقى تحت رحمة المترجمين يشوهونها عندما ينقلونها عن الإفرنج بعد ما يكون هؤلاء قد حرّفوها في نقلها إلى لغتهم.
ولابد في هذا المقام من ذكر اسم عالم آخر هو من أبناء الشرق قد أدى مثل هذه الخدمة أعني به الأمير شكيب أرسلان اللبناني المعروف لدى قراء الزهور فإنه في رواية آخر بني سراج التي نقلها إلى العربية عن الكاتب الفرنسوي شاتوبريان بحث أدق بحث عن الأعلام الأندلسية الشائعة في إسبانيا حتى توفق إلى تطبيقها على أصلها.
ولما عني الأمير بتأليف تاريخ الجزائر وحياة الأمير عبد القادر وكان جل اعتماده على كتب إفرنجية استعان بالسيد محمد مرتضى الحسني لضبط أسماء الأعلام. وقد أشار الأستاذ نلينو في مقالته إلى آراء الأمير الأرسلاني واعترف بدقتها.
* * *
أما وقد رأينا الآن الداء فما يكون الدواء؟. . . إن الحاجة تدعو إلى وضع معجم لأسماء
الأعلام يكفينا شر آفة التشويه في النقل - ولكنا معرض لها - وأن يعول علماء المشرقيات على علامات خصوصية(2/341)
يصطلحون عليها لكتابة ما ينقصهم من الحروف الشرقية.
ونختم هذه الملاحظة الإجمالية بما أشار إليه الأستاذ نلينو عن ضبط تلك الأسماء قال:
لا يتم ذلك إلا في بلاد الشرق، وأنا اعتقد أن نقطة الشرق المعينة للقيام بذلك هي مصر. ففي مصر تلك الجمعية الجغرافية التي خدمت العلم الخدم الجلي. . . وفي مصر نقطة تجلب إليها المسلمين من كل صقع، أعني بها الجامع الأزهر، وفيه الطلاب الذين يؤمونه من كل صوب فيمكن الاستعانة بهم على أخذ التعليمات اللازمة. وأخيراً نعرف في مصر جماعة من نخبة علماء المسلمين هم على تمام الاستعداد لتحقيق هذا المشروع إذ أنه في وسعهم، فضلاً عن معلوماتهم الشخصية، أن يستفتوا إخوانهم في سائر الأمصار الشرقية، الأمر الذي يتعذر على علماء أوروبا. وفي هذا العمل فائدة كبرى للغربيين، لأنه يضع حداً لهذا التشويه الذي جعل الدروس الشرقية وعرة المسالك، وللشرقيين لأنه يحفظ لهم إرثاُ لغوياً ثميناً باتت تتهدده أيدي النساخ والمترجمين.
ولسنا نزيد شيئاً على هذه الأقوال المملوءة حكمة، بل نضم صوتنا إلى صوت هذا المستشرق طالبين من القادرين على ملاقاة هذا الخلل ألا يتأخروا عن ملاقاته.
ولا يسعنا في الختام إلا تهنئة رئيس وأعضاء جمعيتنا الجغرافية الخديوية بما نالوه من التفات علماء أوروبا، وشكرهم على ما يبذلونه من الاجتهاد في سبيل تعزيز العلم في أصقاعنا.(2/342)
في منازل الأموات
زيارة القبور وإكرام الموتى عادة شائعة عند أهل جميع المذاهب قديماً وحديثاً، ولا يخفى ما فيها من العبرة والذكرى والوفاء. وقد خصص المسيحيون اليوم الثاني من هذا الشهر للقيام بهذا الواجب (2 نوفمبر: تذكار الموتى).
هناك في مثل هذا اليوم بين تلك المنازل المقفرة أقضي ساعة من الزمن في كل عام، وأقوم بواجب تفرضه علي المحبة ويقضي به تذكار المودة. ساعة أقضيها في بكاء ورثاء فتولد راحة في القلب وتسكيناً في الفؤاد، كأن الأحزان تذوب مع الدموع المتساقطة، والأشجان تتطاير وتضمحل مع الزفرات المتصاعدة.
هناك في منازل الأموات بين القبور الساكنة وتحت أشجار السرو الباسقة وقفت وبكيت، واتعظت وتعزّيت. . .
فيا طلاب العواطف الرقيقة ومحبي المواقف الرهيبة، اقصدوا المقابر في مثل هذا اليوم فتشعروا بأرق العواطف وتتمتعوا بأجل المواقف. . . .!
ويا عشاق الفنون الجميلة، أيها الشعراء والمصورون أموا القبور فتلقوا غذاء لقريحتكم، اسقوا أقلامكم بالدموع التي تذرف هناك، فتسيل منها أرق القصائد وترسم أسمى المناظر وأبدع المشاهد.
ويا أيها الأحياء زوروا منازل الأموات فتدركوا ماهية الحياة وجوهر الممات. . .
* * *(2/343)
وصلت إلى المقبرة فوجدت بابها مفتوحاً والناس يتقاطرون إليها أفواجاً، وهم متشحون بالسواد حاملون الزهر والأكاليل المضفورة، وقد استولى عليهم الانقباض ورفرف على رؤوسهم روح الخشوع. فدخلت مع الداخلين حاسر الرأس كابت الفؤاد. وما وطئت قدمي هذه الأرض المقدسة حتى اعترتني هزة واستولت علي قشعريرة وهتف صارخ في صدري: سلام على أهل القبور الدوارس، سلام على سكان الديار الموحشة والمنازل المقفرة، رحمة وسلام عليكم أيها الراقدون بسلام. . . .!
وقفت منفرداً في إحدى زوايا المقبرة أدير الطرف حولي وأتأمل ما يكتنفني. . . . . هنا أم ثاكلة جاثية على ضريح وحيدها تذرف على بلاطه البارد عبراتها المحرقة وتسكب على الراقد طيه صيب صلاتها الحارة. وهناك يتيم جاث على قبر والدين اختفطهما ملاك الموت
قبل الأوان. وهنا أخ يبكي على رمس أخيه، وهناك حبيب يصلي على جدث حبيبه. وقد امتدت فوق هاتيك القبور أغصان السرو ذات الخضرة القاتمة الدائمة، ناشرة على مراقد الموتى ظلها الرهيب، وحفيف الأوراق فيها أشبه بالندب والعويل.
أخذت أطوف في أنحاء المقبرة، فرأيت قبوراً زينتها الأكاليل ونمت حولها زهور ورياحين زرعتها يد المحبة وسقتها دموع الوفاء فنبتت رمزاً عن الحب ودليلاً على الذكر وحفظ العهد. ورأيت غيرها عارية مهملة وعلى جوانبها قليل من العشب اليابس وليس من يضع عليها زهرة الذكر أو يذرف عليها دمعة الوداد، فقلت: أين الذين أحبوهم؟ تبرأ(2/344)
منهم القريب، وانصرف عنهم الحبيب. . . . تابعت السير فإذا بأخشاب بالية وعظام نخرة فوقفت عندها بكل خشوع وإخبات، وتساءلت: لمن هي يا ترى؟
لو بعثرت للخلق أطباق الثرى ... هل يعرف المولى من العبد
فسقياً لك يا موت، أنت تسوي بين الكبير والصغير، فهذه بقايا الرفيع والوضيع، ورفات الغني والفقير، فمن يقدر أن يجد بينها فرقاً.
إلى هنا مصيرك يا ابن آدم مهما علوت وارتفعت. فجهلاً تتباهى وحمقاً تتفاخر وتعتز. إن الراقدين هنا كانوا مثلنا يعبرون نهر هذه الحياة فتردد شواطئ النهر صدى أصواتهم وأغانيهم، وها أن الموت قد أغلق أفواههم وأخمد أنفاسهم. . . تراءت لهم الدنيا بمجدها وزخرفها، ومدت إليهم كأس ملذاتها، فمدوا يدهم لارتشاف هذه الكأس، فانكسرت على أقدامهم. وتجلت لهم الحياة بمظهر الغادة الحسناء فنظروا إليها نظرة العاشق الميتم، فإذا بها قد انقلبت شمطاء شنعاء ثم اضمحلت كالدخان.
وبينما أنا أسير بين القبور أستنطق مرمرها الناصع وأناجي الراقدين تحت حجارتها إذ خيل إلي أن هاتفاً يقول:
كما أنتم كذا كنا ... كما صرنا تصيرونا
وخلت أن شبحاً قد خرج من كل ضريح وهو يشير إلي بكفنه قائلاً:
قف واعتبر يا من ترى ... قبري وما بي قد جرى
بالأمس كنت نظيركم ... واليوم صرت كما ترى
قل: ربنا ألف بنا ... وارحم عظاماً في الثرى(2/345)
فوقفت واعتبرت وترحمت. ثم خرجت من تلك المنازل مودعاً الراقدين فيها متسائلاً: هل تطول غيبتي عنهم، أم تكون عودتي إليهم قريبة لأودع حبيباً أو نسيباً أو لأرقد بينهم رقادي الأخير. . . .؟
الشعر
قبل ان نعطي الكلام قياده، ونلقي على كاهل القلم زمانه، لا نرى بداً من أن نعرف ما هو المفهوم بالشعر عند أربابه وبماذا يختلف عن كل قول ليس بشعري.
يطلقون لفظ الشعر إجمالاً على كل صناعة تقوم بإظهار الحسن البالغ ومن ثم فقد يكون لحذاق المصورين والموسيقيين وغيرهم نصيب في ذلك كما لصانع الشعر بالقول.
أما على سبيل التخصيص، فالشعر حقيقة هو القول الذي يظهر الحسن البالغ بالأقاويل الشعرية وهي الأقاويل المخيلة فقط - أعني الغير موزونة - فالوزن واللحن.
والمراد بالوزن العروض، وهو رصف اللفظ وسكبه في قالب القريض. ويراد باللحن الأنغام التي تحدث من الوزن عند نظم الكلام وسكبه في مهيع التفاعيل، فاللحن إذن داخل تحت حكم القول الموزون. إنما في بعض الأشعار يتولد اللحن بنوع خصوصي بواسطة تطابق ألفاظ وتجانس حركات، فتنبعث نغمات أكثر مما في سواها مثلما في نوع(2/346)
الموشحات التي استنبطها أهل الأندلس وفي الأزجال (راجع تلخيص كتاب أرسطاطاليس في الشعر تأليف أبي الوليد بن رشد).
وقد ينفرد على حدة كل من الأقاويل المخيلة والوزن واللحن فنرى المحاكاة المخيلة في الأوصاف ونرى الوزن في الرقص واللحن في الزمر وآلات الطرب كافة.
والمفهوم عند الفريق العظيم من بني نحلتي إلم أقل السواد الأعظم، إن الشعر هو كل قوم منظوم ومقفى بدون اعتبار المعنى الشعري ركناً ضرورياً له. على أن في هذا الاعتقاد شططاً فاحشاً، ومن ذهب هذا المذهب قل عنه ولا حرج بأنه يقفه معنى الشعر ولو كان من الذين امتطوا متنه وتقلدوا أعنته. فقد يدعى شعراً - وهو ليس منه - بعض أقاويل منظومة إذ أنها لا تتضمن إلا الوزن فقط وقد قيل: الشعر ما اشتمل على المثل السائر والاستعارة الرائعة والتشبيه الواقع وما سوى ذلك فإن لقائله فضل الوزن.
ومثيل ذلك كثير في كل اللغات كأقوال سقراط وانبادقليس في الطبيعيات وكل من استخدم الشعر في الرياضيات وعلم الهيئة والآداب.
ولا مشاحة في أن الأقاويل المخيلة فقط كالأوصاف وغيرها أقرب إلى حقيقة الشعر وأحق بأن تدعى شعرية من منظومات هؤلاء الذين نظروا بها الآداب أو قواعد الإعراب ودونوا فوائد علمية أو فلسفية لأن كل هذا خارج عن حد الحسن البالغ اللهم إلا إذا التجئ إلى
صورة الشعر الحقيقية وطلاوة طرازه فلم يفتهم ضرب التخييل ولا روح الشعر(2/347)
كما فعل هوراس الروماني في الصناعة الشعرية وحذا حذوه بوالو الفرنساوي فإنه والحق يقال تلطف في تأدية القواعد وأودعها قالب القريض بصورة بديعة النزعة حتى جاء نظمه من باب الشعر.
الشعر إذن وضع ليمثل كل حسن سيان أدبي أو مادي، وكان من شأنه أن ينفذ إلى النفس فيحرك أوتارها مثل ذلك في وصف الخيال والجمال والصفاء والسناء والمكرمات وكل شيء تنبسط له النفس وتجد إليه كما في وصف مشاهد الكون الجميلة من رياض باسمة وبدور ساطعة وبقاع شاسعة وبحار واسعة.
وليس من خواص الشعر ولا من مواده سن الشرائع ونشر الحقائق وتدوين الوقائع والحوادث التاريخية.
ولربما التجئ في الشعر إلى استعارة ما لا يدخل في صناعته متى كان ذلك على سبيل التشبيه على شريطة أن يكون التشبيه واقعاً ومألوفاً كقول الطغرائي في لاميته:
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
فهذا القول وإن كان من قضايا علم الهيئة إلا أن فيه تشبيهاً يقرب المعنى ويكسبه طلاوة.
وبعد ما تقدم يمكنا النظر في الشعر من الوجهة المعنوية والودهة اللفظية وهذا ما نراه في مقال آت.
حلمي المصري(2/348)
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الثالثة
من كيلوباطرة إلى أنطونيوس
تحية وسلام يحملها رسول كليوباطرة حاكمة النيل المبارك، وسليلة البطالسة العظام، إلى أنطونيوس الشريف، النسر الجاثم على ضفاف التيبر.
مرت أربع سنوات على هجرك هذه البلاد التي دعاها آبائي في(2/349)
القديم الأرض المظللة بأجنحة المجد والملائكة. قد عبثت بهبة الزهرة وهجرت هيكلها الذي فتحت لك فيه قلبي وخضدت شوكة كبريائي لأنني أحببتك غير حبي لسلفك القيصر وأردت أن أرى عرشك بقربي على ضفاف هذا النهر المقدس. أحللتني في قلبك إلى أن سحرتك عذارى فستا في شخص أوكتافيا الفاتنة فسدلت على الماضي حجاباً من النسيان وأغواك عرش روملس ففضلته على عرش أمجد في قلب امرأة طالما تمنى القياصرة والأكاسرة أن يركعوا عند موطئ قدميها.
كلما قارب الإله را أن يحتجب وراء الأفق ويغطس خلف أمواج الأبدية حملته لك تحيات أزكى من الطيب الآتي من الجنوب، وأنقى من النسمات المنبعثة من الرياحين. ذلك لأن الشعلة المقدسة لا تزال متأججة في أحشائي ولا تطفئها إلا رفرفة الأجنحة - أجنحة ذلك النسر الذي ينتقل الآن بين عذارى فستا كما تنتقل الفراشة في الحقول. فلتنتشر تلك الفراشة أجنحتها الذهبية وتعبر أمواج الأبدية راجعة إلى حيث الأزهار والرياحين.
ولقد كنت أظنك أيها القائد الشريف تكتفي بما قد نلته من جاه ومنعة، وتمسك عنان مطامعك عند الحد الذي بلغته من الشهرة والعظمة. فإنني أتمثل شبحك الهائل والمحبوب معاً - وقد ثبت قدمك الواحدة على ضفاف التيبر، والأخرى على ضفاف الفرات، فلم يبق أمامك مزيد للشهرة إلا في مخيلة الآلهة. لذلك أحبتك العذارى وصارت كل منهن تتغنى لك بنشيد ذلك الحكيم العبراني القائل أنا سمراء وجميلة يا بنات(2/350)
الزهرة. لا تنظرن إلي لكوني سمراء لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي فجعلوني ناطروة الكروم.
كن معافى أيها الشريف أنطونيوس. ولتحرسك الآلهة من قي الأعداء. ولكن لا تنس وأنت
مستو على منصة سلفيا إن في الأقاليم البعيدة عن حقول أريكية مليكة تضحي بتاجها في سبيل مسرتك ولا ينعم لها بال إلا إذا أشرقت عليها أشعة ابتسامتك. فتعال نتمتع بهذه الحياة في حمى أفروديتي. تعال نقم له معبداً في حقول الآلهة فنأكل ونشرب لن غداً نموت. لا تغرنك بسطة الملك وسعة الجاه فإن الحياة مستمدة من أشعة الزهرة لا من سهام مارس وكرسي رعمسيس ليس أقل مجداً من عرش روملس. تعال. تعال. لأن الحياة أقصر من أيام البنفسج، والأحلام التي أتعلل بها أبهج من أن يتمتع بها بنو البشر.
قد أعددت لك فلكاً ينسيك قصور رومية وعطرته بأريج يزري برياحين مادي وفارس وجعلت لك فيه من العبيد والإماء ما سوف تحسدنا عليهم الآلهة. فهلم إلي يا ساحر رومية وصديق القصير. هلم واسمع أناشيد الحب التي تلهج بها شفتاي. إن كان التيبر قد سحرك فالنيل يفك عنك قيود ذلك السحر. أو كانت تلال البلاتين قد أغوتك فإن أهرام الفراعنة تكون موطناً لقديمك. والأرض المظللة بأجنحة المجد والملائكة ترحب بك أينما حللت وحيثما أتيت.
إن رسولي الذي يحمل رسالتي هذه إليك يحمل أيضاً معه قارورة(2/351)
طيب تقيك نبال الحاسدين وترشدم إلى حيث تقيم من هي مقيمة على عهود هواك. كن معافى. ولتحرسك الآلهة.
من كيلوباطرة، وارثة النيل
بقلم سليم عبد الأحد
الحاجة
(العفة ثوب تمزقه الحاجة)
يا مثيرة الآمال ومنبهة الأفكار، وجالبة الشقاء والنار التي تذيب العزائم وتحرق القلوب وتذل العزيز وتدفع المضطر بيد القسوة والغلظة إلى هاوية الجرائم والآثام. أنت الوباء الذي يفتك بالشرف والشعور، أنت المجتثة لجذور الضمير من الصدور. أنت القادرة وحدك على إنزال الشهب من أفلاكها والملوك من عروشها وإبراز الحقائق من مكمنها واستخراج اللآلئ من أصدافها.
كم ذات خدر طلعت عليها وهي في وحدتها تناجي ربها، وترجو منه إفراج كربتها، فانقضضت عليها انقضاض الباز على الورقاء، وأنشبت فيها مخالبك الحديدية حتى ضيقت عليها الأنفاس، وأريتها سبيل العيش أكثر سواداً من جناح الغراب وأضيق من سم الخياط.
كم حليم أخذت عليه مسالك التسامح، وكم كريم بلعت ما كانت تجود به كفه، وكم أبي راض بيومه باسم لغده غير باك على أمسه تخللت منه بين تيار العقل والقلب، وزينت له طريق الشر وهي منضدة بالنضار والتبر. فأثرت فيه شجوناً لذاعة لحشاه لم يقدر على إخمادها حتى قضيت(2/352)
فيه مأربك وبلغت منه مرامك.
بيدك الأثيمة - أيتها الحاجة - تبذل الأعراض، وتهتك الحرائر، وتنضب مياه الوجوه.
وبيدك الأثيمة تفتح أبواب الشرور، وتشاد هياكل الرذيلة، وتحفر القبور لوأد العفاف والشرف والضمير.
وأنفاسك المستعرة بنار الشهوة تمر على الجباه العالية والأنوف الشماء فتترك عليها أثراً من دخانها الأسود يجذبها للتمرغ في جحيم الرذائل.
ليتك تخلعين عن منكبيك دثار الخفاء، وتظهرين أمام عين الرائي كما تظهر أفعالك الخبيثة، إذن لجردت من عزيمتي ماضياً أغمده في صدرك. إذن لأرحت العالم من شرك وبدلت هذا الناموس الفاسد الذي يسيرون عليه، وأطلقتهم من عقال الهم والشقاء، وأريتهم كيف يكون الهناء في العيش وأين يجدون السعادة التي ينشدونها.
(مصر)
محمد شريف وصفي
حقائق
رفع ستار ليل يونيو، فظهرت ألسنة النور المندلعة من فم الشمس. وكأنما هي ثكلت أولادها، فباتت تندبهم فأصبحت متلهبة الأنفاس محروقة الكبد تذيب دماغ الضب.
استعاذ الناس بمن لو أراد لأثلج كبدها وقالوا: اللهم إنك خالق(2/353)
الإنسان وعالم بمقدار ما وهبته من القوة، وما ابتليته به من الضعف، وهو مسير بمشيئتك إن تشأ فرجت عنه بنسيم بليل ينعش قواه، وإن تشأ جعلت له في دنياه درساً وعظة ففتحت عليه ثغرة من ثغرات جهنم.
سمع الله نداءهم وحال بنيهم وبين ألسنة اللهيب ببساط من الغيوم بل قل ببساط من رحمته.
احتكت فأرعدت، وما هو في الحقيقة إلا صوت من قبل الله لمن يذكر أو يخشى يقول: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها ولا تكفرون. . ثم دمعت عيناها فبللت وجه الأرض وغسلت أوراق الشجر، فسكن الغبار وصحا الجو وظهرت الطبيعة بأجمل مظاهرها.
نظرت بعد ذلك الطير وقد اجتمعت فوق الأغصان فأقامت الصلاة لله خاشعة مؤتمة بكبير لها وسمعت القمري إلى جانبها يذكر الله، كأنه المقرئ يرتل سورة الكهف يوم جمعة في مسجد، أو الأرغن يلحن الترنيمات الإلهية في كنيسة يوم أحد.
نظرت الظباء وقد سرحت في مراعيها تحت ظل الأدغال بجانب الآساد والذائب كأنما هي بالبيت الحرام في شهر المحرم وسمعتها تهمس بذكر الله الذي بدلها عن الشر خيراً.
نظرت نهر النيل وقد مخض مياهه فتلاطمت أمواجه وتداخل بعضها في بعض فظهر سطحه كقباب من الفضة متجاورة صفت صفاً صفاً وكأنما قد ركبت على زنبق فهي دائمة الحركة، وسمعت من حركتها الحمد لله والثناء عليه.(2/354)
نظرت الأشجار فإذا بها تهتز يمنة ويسرة كأنها صفوف من أرباب الطرق والأشاير يذكرون الله قياماً وقعوداً
نظرت ثنيات الهضاب والجبال تتثنى تحت رشاش دموع السحب فتحسبها المولوية ترقص على نغمات الناي.
نظرت ما نظرت وسمعت ما سمعت، فقلت: تباركت يا ذا الجلال والإكرام فهذه الكائنات كلها تحمدل بآلائك وتثني على نعمائك.
وبينا أنا أمتع نظري بهذه المرئيات إذا أوحت إلي الأمارة بالسوء أن أنظر إلى أكمل وأبدع
هذه المخلوقات وهو الإنسان هل حمد الله وأثنى على نعمته التي انعم عليه بها؟
أجبت وقد تميزت من الغيظ: تباً لك من نفس سيئة الظن، أتحسبين إن الإنسان، وهو سلطان هذه الكائنات، لا يشكر فضلاً ولا يذكر جميلاً؟
قالت: ليس الخبر كالخبر وحبذا لو كذب حدسي وخاب ظني.
قمت وأنا حانق على نفسي، ومررت في طريقي بحانات الخمر ومحال اللهو والقصف، فوجدتها غاصة بالناس على اختلاف طبقاتهم ونحلهم وبين أيديهم كؤوس أم الكبائر، يدور بها فتيان وفتيات، سمعت من فاجر القول وفاحش اللهجة ما أبدل سروري حزناً، سمعتهم يقولون ما أحلى السكر وما أجمل الخمر في هذا اليوم الصحو الذي لا يصلح معه إلا اللهو، ولا تظهر محاسنه غير الخلاعة، ولا ينعش الفؤاد فيه إلا ما حرم الله!!!(2/355)
نظرت ذلك وسمعت وقارنته بما نظرت وسمعت من الطير والحيوان، بل من الأشجار والجبال، فوددت لو مسخ الله ابن آدم فصار حجراً ولو أنطق تلك الحيوانات ودبت الروح في تلك الجبال والأشجار، لكي يتبدل العالم الفاسد بآخر نقي الذيل نقي القلب لا فجور فيه ولا فحش، واستغفر الله وأتوب إليه وإليه المرجع والمآب.
عطبرة (السودان)
محمد فاضل
في جنائن الغرب
ضعة الإنسان
خواطر لبسكال
لا شيء يثبت للإنسان حقارة قدره كنظره في العلة الحقيقية لاضطرابه المستمر الذي يقضي به أمد الحياة. . .(2/356)
طرحت النفس في الجسد لتحل به زمناً قصيراً. . . تعلم أن العيس في الدنيا هو مسلك يؤدي إلى سفر أبدي وأنها لا تملك من الوقت للتأهب له غير زمن وجيز مدة عيشها في هذا الوجود. وحاجاتها الطبيعية تسلبها النصيب الأوفر من هذا الوقت، فلا يبقى لديها سوى النزر القليل تصرفه طوع إرادتها. ولكن هذه البقية اليسيرة تزعجها وتهمها حتى أنها لا تفكر إلا في إضاعتها. لأن إكراه النفس على مؤانسة نفسها وسوامها الفكر في ماهيتها كربة هي لا تطيق الصبر عليها. ولذا كان همها الأول ان تتغافل عنها فتدع هذا الوقت القصير الثمين يمر بلا ترو لاهية بما يشغلها عن الفكر فيها.
ضعة الإنسان رائد كل ملاهيه ذات الجلبة والضوضاء وكل ما يدعونه لهواً ولعباً فإنه في حقيقة أمره لا يريد به إلا أن يقطع الوقت دون أن يشعر به أو بالحري دون أن يشعر بنفسه فيقيها بإضاعته ذلك الشطر من حياتها الغم والكره لذاتها اللذين هما لا محالة عاقبة التأمل فيها. لا ترى النفس منها شيئاً يسرها، لا ترى إلا ما يحزنها كلما أمعنت النظر في ذاتها فهذا الذي يلجئها إلى المعاشرة ويكلفها بشغلها في الأمور الخارجية أن تبحث عما يفقدها ذكرى حالتها الحقيقية. فإن سرورها كله متوقف على(2/357)
هذا النسيان وليس لمن أرادها شقية بائسة سوى أن يلزمها مشاهدة نفسها وملازمتها.
* * *
للطبيعة كمالات لتظهر للعالم أنها صورة الله. ولها نقائص لتريهم أنها صورته فقط.
* * *
أهون على المرء تكبد الموت دون الفكر فيه من الفكر في الموت دون تكبده.
* * *
إنما الإنسان في الدنيا قصبة واهنة، اوهن قصبة في الخليقة، لكنه قصبة مفكرة. ليس
للكون أن يتحالف عليه ليسحقه فقليل من البخار، أو نقطة من الماء كافية لتقتله. على أنه وإن سحقه الكون بأسره فهو يظل أرفع مما يسحقه لأنه ليموت وهو عالم بموته والكون غير شاعر بغلبته عليه.
* * *
يعرف الرجل أنه شقي، فهو شقي لأنه يشعر بشقائه، لكنه كبير لأنه يعرف هذا الشقاء.
قليل يسلينا لأن قليلاً يشجينا.
* * *
ازدراء لفلسفة عين الفلسفة.
* * *
بلغ الزهو من الإنسان أن يتمنى الشهرة في أقاصي الأرض حتى يلهج بذكره كل قاطن فيها بعده، وبلغ العجب منه أن يضطرب فرحاً بما(2/358)
يلقاه من الإكرام والحظوة لدى خمسة أو ستة من أقرانه.
* * *
إننا لا نقنع بحياتنا الطبيعية التي وهبت لنا منذ نشأتنا، بل نطمع في أن نحيا في مخيلة الناس حياة وهمية، ولذا نكلف أنفسنا أن تمثل بينهم في مظهر غير مظهرها.
* * *
بلغ الجنون من الناس أن يروا العاقل بينهم مجنوناً.
* * *
شقاوة الإنسان برهان على جلاله، فهي شقاوة سيد كبير وملك مقدم.
* * *
إذا ترقب الإنسان فكره في جميع هواجسه، رآه أبداً دائم الشغل بماضيه ومستقبله. فيكاد الإنسان لا يفكر في حاضره إلا لينير به غلس مستقبله. فليس الحاضر غرضه وما ماضيه وحاضره سوى عدة مستقبله. . . المستقبل فقط مطمح أبصاره فهو في الحقيقة لا يعيش بل يؤمل أن يعيش.
* * *
من أراد أن يتحقق زهو الإنسان وبطله فعليه أن يتأمل أسباب حبه ونتائجه. أما أسبابه فغامضة مجهولة، وأما نتائجه فهائلة مروعة. هذا السبب المجهول، هذا ليسير الذي تتعذر معرفته يقلب الأرض بطناً لظهر، ويزعج الأمراء ويقلق الجيوش ويحرك الدنيا بأسرها. . . .
* * *(2/359)
لو كان أنف كليوباطرة أصغر حجماً لتغيرت حال البسيطة برمتها.
* * *
أوشك كرومول أن يخرب النصرانية، ويحط الأسرة المالكة إلى الحضيض، ويرفع عائلته إلى الأوج لولا حبة رمل صغيرة حلت من جسمه في مجرى البول. ولكن هذه الحبة الصغيرة التي لم يكن ليعتد بها أينما وجدت كفت وقد حلت في هذا المحل لتقتله وتحط عائلته وتعيد الملك إلى العرش.
* * *
وجهان متشابهان لا يضحك كل منهما على حدته يضحكان بتشابههما إذا شوهدا معاً.
* * *
نرى حادثاً يتكرر أمامنا على هيئة واحدة فنقضي من تواتره بوجوب حدوثه كما نعتقد أعقاب الصبح للدجى. على أنه كثيراً ما تكذبنا الطبيعة فإنه لا شيء يضبطها حتى ولا نواميسها.
تعريب - هزيز مرزا(2/360)
في حدائق العرب
الزوج والزوجة
قال رجل للحسن: إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها؟ - قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
* * *
وقيل أيضاً للحسن: فلان خطب إلينا فلانة، قال: أهو موسر من عقل ودين؟ - قال: نعم. - قال: فزوجوه.
* * *
قال الأصمعي: اخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من أصحابه، وكان مقلاً، فخطب إليه مكثر من مال مقل من عقل. فشاور فيه رجلاً يقال له أبو يزيد، فقال: لا تفعل ولا تزوج إلا عاقلاً ديناً، فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلاً آخر يقال له أبو العلاء، فقال له: زوجه فإن ماله لها، وحمقه على نفسه. فزوجه فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته، فأنشد:
ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذ أطعت أبا العلاء
وكانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلقة من غير ماء
* * *
خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم أياس. فقال: نعم أزوجكها على أن اسمي بنيها، وأزوج بناتها. فقال عمرو بن(2/361)
حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، وأما بناتنا فنزوجهن أكفاءهن من لملوك، ولكني أصدقها عقاراص في كندة وأمنحها حاجات قومها فلا ترد لأحد منهم حاجة.
فقبل ذلك منه أبوها وزوجه إياها، وخلت بها أمها فقالت:
أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي منه درجت، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً:
أما الأولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له بالطاعة.
وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم
منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع مَلَهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة، فالاحتراس بمال، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصين له أمراً، ولا فتشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً.
فولدت له الحرث بن عمرو جد امرئ القيس.
* * *(2/362)
قال ابن عبد ربه: الهناء كله مقصور على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة. والبلاء كله موكول بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس على عشرتها ولا تقر العين برؤيتها.
* * *
ذكروا أن هنداً ابنة عتبة بن ربيعة قالت لأبيها: يا أبنت إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي. فعرض لي معه ما عرض فلا تزوجني من أحد حتى تعرض علي أمره وتبين لي خصاله.
فخطبها سهيل بن عمروا وأبو سفيان بن حرب فدخل عليها أبوها وهو يقول:
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضاً لك يا هند الهنود ومقنع
وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضر وينفع
وما منهما إلا كريم مرزأ ... وما منهما إلا أغر سميذع
فدونك فاختاري فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع
قالت: يا أبت والله ما أصنع بهذا شيئاً، ولكن فسر لي أمرهما وبين لي خصالهما حتى أختار لنفي أشدهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو فقال: أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش، أن تابعته تابعك وإن ملت عنه حط إليك تحكمين في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب والنسب والرأي الأريب مدره أرومته وعز عشيرته
شديد الغيرة كبير الطهرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله.(2/363)
فقالت: يا أبنت الأو سيد مضياع للحرة فما عست أن تلين بعد آبائها وتضع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشرت، وخانها أهلها فأمنت فساء عند ذلك حالها وقبح دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتعيره ولا تصيره بذعر فتضيره. وإن لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه - فزوجها من أبي سفيان فولدت له معاوية وقبله يزيد. وقد قال سهيل في ذلك شعراً. فبلغ أبا سفيان فقال: والله لو أعلم شيئاً يرضي سهيلاً سوى طلاق هند لفعلته. وتزوج سهيل بن عمرو بعد ذلك امرأة فولدت له ولداً. فبينا هو سائر معه إذ نظر رجلاً يركب ناقة ويقود شاة. فقال لأبيه: يا أبت هذه ابنة هذه (يريد الشاة ابنة الناقة) فقال أبوه: يرحم الله هنداً - يعني ما كان من فراستها فيه.
الحقائق عندهم
أوهام عندنا
إن القلب الذي لا يشعر بتألم الغير، لقلب قُدَّ من جلمد الصخر، لا يرى السعادة قط، والإنسان الذي لا يتألم لتألم أخيه الإنسان، لهو في شعوره وأمياله أقرب إلى الجماد منه إلى الحيوان.
روح الإنسان جزء من روح الله فكل من لا يعني بترقية هذا الجزء يصبح مسؤولاً أمام الله والإنسانية. . .(2/364)
ليت شعري متى تقف أنانية الرجل وحيوانيته عند حد يسمح لهذا الجزء بالرقي إلى أسمى درجات الكمال الأدبي؟. . .
متى تفيق هذه النفس المتخدرة أعصابها بملاذ المحسوسات الخارجية، المعرضة عن الإصغاء إلى نغماتها الداخلية، اللاهية بزخرف المرئيات التي تجعلها آلة في يد ما يحدثه محيطها من المؤثرات الخادعة؟. . .
متى تحس هذه النفس الملتحفة بأسمال العار الثملة من سورات الرخاء؟ شعلة رفق وحنان تذكرها بأختها أليفة الهم والكرب، حليفة الجهاد والعمل، ربة الخلة والعيال، نزيلة الكوخ والغار فتأوي إلى مفاقرها، وتلوي إلى خفيف أثقال أبهظت كاهلها، وفتت في ساعدها، وخلفتها كالأرض البراح مضرعة مستضعفة في زوايا هذا الكيان.
ثمانون قرناً مرت على هذا المجتمع، وويلات البشرية المتألمة لم تخفف بعد.
آلامها التي كانت ترزح تحتها هي نفس الآلام التي لا تزال تئن منها، والقروح التي كانت بالأمس تأكل لحمها هي نفس القروح التي تنخر اليوم عظمها. جمود متسولٍ على الطبقة العليا من بني الإنسان، قاض على شعورها، حائل دون رقي روحها، ولولاها لما رأينا الشقوة تبلغ حدها من هذا الوجود المملوء أوزاراً وأتعاباً:
هذا الوجود، الذي يمثل الحاكم الظالم والشعب الخائن، بعيد عن العمران مائل إلى الانتقاض.(2/365)
لو علم الظالم أنه باستقلاله الرعية واستذلالها يزيد عذابه في محكمة الخلود، وأن لا مفر للخائن من عذاب الضمير وتعنيف الوجدان، إذا هو أفلت من يد القانون، لما ظلم الظالم
ولما خان الخائن.
ولو كنت ممن يعتقدون بمذهب البسيمسم القائل بتقلص الخير تقلصاً تدريجياً من هذا الكون الفاسد وسيادة الشر فيه لتمنيت مع هارتمان الألماني أن تثور شرارة كهربائية فتحرق البشر في أقل من لمح البصر.
ولكني أدين بدين ليس في شيء من هذا المعتقد الوهم المناقض لقاعدة بقاء الأنسب، والعامل على تقويض هذا المجتمع وتشنيعه بلا إثم ولا حرج.
أدين بدين الحب ... ركائبه فالحب ديني وإيماني
تأملات يتمخض بها فكر الكاتب في الصين فتلد فتصادف قلوباً واعية وآذاناً صاغية لربما أجزلت ثوابه وأعلت جنابه. وحقائق لو قذفها يراع في بلادنا غتت بلادنا في الضحك منها وسخرت واستغربت وصعرت خدها وصخبت وجازته بالجبنة والغلظة، وما ذاك إلا لأن الرقي في الصين - وهي في أول عهدها بالدستور يتخفر للانزلاق من حجر أمه ولابد له من يوم يعض نواجذخ ويبلغ أشده وهو عندنا موثوق بخناقه، مخنوق بوثاق من لا مبدأ لهم ولا اخلاق.
لو لم أدن بدين الحب ولو لم يتغلغل في فؤادي حبي لبلادي لحطمت هذه القصبة، مجلبة المتربة، وجلوت عن هذه البلاد مهد الخمول والشقاء، وصقر المصلحين الأدباء.(2/366)
ولو لم أعلم أن النفس لا تنتهج محجة الاهتداء، ولا تخف إلى معالجة دائها العياء إلا بالاستهداء إلى عيبها ونقائصها، وبالوقوف على ذاتها ومغامزها لصورت لبلادي الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وأتيتها من خلب القول ما أقعدها عن كبير الفعل، والسلام.
بيت جالا (فلسطين)
- إسكندر الخوري
في رياض الشعر
المحبة
1
لولا المحبة لم تكن من ألفةٍ ... في العالمين ولا عهود إخاء
ولكان بذل النفس في نفع السوى ... وهماً برأس الغول والعنقاء
فارع المحبة فالإله محبة ... في صنعه والذات والأسماء
2
أجهلت أن من الفضائل كلها ... غير المحبة لا يدوم ويخلد
لولا المحبة كان سكان الثرى ... حطباً لها في كل أرض موقد
إبراهيم الحوراني
وقفة
ولما استترنا بالظلام عن الورى ... ولم نستطع ستراً عن الدمع والعتب
تنكرني عزمي وغابت فصاحتي ... فأنطقها صمتي وشجعها رعبي
عبد الحليم المصري(2/367)
بنتي ودواتي
تطوف في البيت مثل ... العصفور تطلب حبا
حتى التقت بإناء ... فيه الأرز تخبا
تناولته وألقت ... به إلى الأرض غضبى
وراعها ما أتته ... فأسرعت تتخبا
حتى إذا صار امناً ... ذاك الذي كان رعبا
وأيقنت أن من ما قد ... جنته لم يك ذنبا
دبت إلى الحب دبا ... وأمعنت فيه نهبا
* * *
نزري الحبوب على الأر ... ض وهي تضحك عجبا
فليس تقبل زجراً ... وليس تفهم عتبا
وتملأ الأرض حباً ... وتملأ البيت حبا
فقلت يكفيك زرعاً ... لا ترتجي فيه خصبا
يا بنت قد ساء طفلٌ ... على العناء تربى
فاستضحكت ... فرحاً إذ=ظنت أقول المربى
* * *
وكان عندي دواة ... كم فرّجت لي كربا
وسوّدت لي حظاً ... وبيّضت لي قلبا
توهمتها إناء الحل_وى ... فجاءته وثبا
وهاجتمها تريد الحل ... وى غلاباً وغصبا
أردّها لا تبالي ... أصدها هي تأبى(2/368)
فكان موقفنا في ال ... خصام يشبه حربا
تغلبت وهي طفل ... والطفل يأنف غلبا
فكان حظ دواتي ... والحبر كسراً وصبا
* * *
وا رحمتا لدواتي ... وقد سباها الأحبا
كانت لدى الغزو تسبي ... فصارت اليوم تُسبى
طانيوس عبده
إلى إسماعيل باشا صبري
مما وجدناه في الأوراق الشعرية التي اهداها إلينا حضرة حنفي بك ناصف الأبيات التالية وقد نظمها منذ سنوات في تهنئة صديقه إسماعيل باشا صبري (وكيل الحقانية سابقاً) بوظيفة النائب العمومي:
لم ينلها سواك من اهل مصر ... والمعالي بالخاطب الكفء تدوي
طمحت أنفس إليها فصانت ... حسنها عنهمو صيانة بكر
رادوها عن نفس فاستخفت ... بنهاهم وقابلتهم بهجر
وابتغت كفأها فكنت رضاها ... فهي شمس جرت إلى مستقر
ومنها:
أمض فينا القانون لا فرق فيه ... بين زيد من الرعايا وعمرو
وانصر الحق ما استطعت وأصلح ... أمره إن نصره خير نصر
لا تكن ليناً فترمى بضعف ... لا ولا جافياً فترمى بكسر
بين هذا وذاك نهج حميدٌ ... آمن من يجوزه كل شر
حنفي ناصف(2/369)
وصف القلم
(بعثها الشاعر إلى صديق أهدى إليه قلماً محبراً)
أهديتني قلماً كي أنشئ الكلما ... فبات شكرك عندي واجباً لزما
لا غرو أن يهدي الأقلام ذو أدب ... من معشرٍ عشقوا القرطاس والقلما
* * *
أحسن به أهيفاً لدن القوام متى ... يسر على الطرس يجعل رأسه قدما
يفتر حين يرى بيض الصحائف عن ... ثغر لطيف إخال الحبر فيه لمى
كأن من سود أحداق الحسان له ... لوناً لذلك غير السحر ما رقما
كأن (ريشته) الصفراء قد طليت ... بذوب شمس فباتت تكشف الظلما
يكاد يغني عن التفكير صاحبه ... فيرقم الشعر جزل اللفظ منسجما
يكاد يبتكر المعنى البديع له ... إن شاء منتثراً أو شاء منتظما
وقت السلام يسيل الماء منه لمن ... يصدى ويرعف في وقت الخصام دما
وتارةً تجتلى الأنوار منه إذا ... جد الحوار وطوراً يقذف الحمما
وليس ينضب منه الحبر فهم كمن ... أهداه يأنف ألا يألف الكرما
يهوى الطروس فلم يبرح يدغدغها ... حباً فتلثم منه جبهة وفما
وحين يبكي تراها وهي ضاحكة ... مثل الرياض إذا دمع السحاب همى
* * *
نعم الهدية جاءتني مخبرة ... إن الهدايا (بمعناها) غلت قيما
فاقبل ثنائي منظوماً على عجل ... إن الأمين إذا حق الثنا نظما
أمين ناصر الدين(2/370)
الزهور السياسية
لعبت الزهنور في التاريخ دوراً خطيراً، وكان لها في الأحزاب السياسية شأن كبير وكثيراً ما كانت - وفي رمز الحب والوداد - رمزاً للبغضاء والعدوان.
كانت إنجلترا في القرن الخامس عشر مرسحاً للحروب الأهلية. وكانت فيها عائلتان تتنازعان الاستيلاء على العرش. هما عائلة يورك وعائلة لانكاستر. وقد جعلت الأولى شعارها وردة بيضاء والأخرى وردة حمراءن ورسمت كل منهما صورة الوردة على وساماتها وأسلحتها وأزرار ملابس جنودها. ودارت في ذاك الوقت حرب طاحنة عرفت بحرب الوردتين.
وكان الناس في القرن الثامن عشر يعتنون اعتناءً كبيراً بالقرنفل الأبيض ويفضلونه على جميع الأزهار خصوصاً بعد قتل الملك لويس السادس عشر.
ومعلوم لدى كل من له إلمام بالتاريخ أن الملكة ماري انطوانيت سجنت وكانت تنتظر المشنقة بين ساعة وأخرى، وفي خلال سجنها كان يحضر لها كل صباح شخص من الحزب الملكي لبث مجهولاً إلى اليوم زهرة القرنفل الأبيض فكانت الملكة تغرزها في منطقتها السوداء ومن ذلك الحين سمي القرنفل الأبيض زهرة الملكة وأخذت السيدات يغرزن الأزهار في مناطقهن بعد أن كن يحملنها على صدورهن.
وفي عهد الإصلاح كان أنصار العرش والكنيسة يتزينون بالقرنفل(2/371)
الأبيض، وكان الأحرار يتزينون بالورد الأحمر. فكانت هذه الزهور تدعو كل يوم إلى معارك دومية، فإن كل حامل قرنفلة بيضاء عندما كان يصادف شخصاً في عروة ردائه وردة حمراء كان يقابله بالشتم والإهانة، وقد قابل مرة في ليموج أحد أنصار العرش شقيقة الذي كان من الأحرار وفي عروة ردائه وردة حمراء ولم يكن الواحد منهما من قبل يعرف مبدأ الآخر فتبارزا وقتل أحد الشقيقين شقيقه بسبب حمله الوردة الحمراء.
وعلى عهد شارل الخامس كانت الأفضلية بين الزهور في فرنسا لزهر الزنبق وهو زهرة ملوك فرنسا. غير أن نابليون بونابرت قال قد انتهى عهد الزنبق واستبدله بزهر البنفسج الزكي الرائحة.
وأقرب زمن إلينا عهد الجنرال بولانجه فإن هذا القائد اتخذ شعاراً له زهر القرنفل الأحمر فكان يتزين به هو وجميع أنصاره.
ثم أن غليوم جد إمبراطور ألمانيا الحالي اتخذ الريحان شعاراً له وأمر بجعله الزهر الوطني للإمبراطورية الألمانية. ويقولون إنه كان يجمع بنفسه باقات الريحان في الحقول والسهول وهو زاحف على باريس في حرب السبعين التي قامت بين فرنسا وبروسيا.
ثم أن الريحان والورد يعتبران الآن في نظر العالم أنهما من اختصاص الأمة الفرنسية. ولما احتفلت هذه الأمة ببلوغ شاعرها المشهور فيكتور هوجو الثمانين من عمره أحاطت به الشبيبة الفرنسية وعلى صدر كل فتاة زهرة ريحان أو وردة وكذلك في عرى أردية الشبان.(2/372)
السنوسيون
طرابلس الغرب التي استعرت نار القتال بسببها بين الدولة العثمانية وإيطاليا بلاد قاحلة وصحارى مترامية الأطراف متسعة الأكناف تبلغ مساحتها مليوناً و51 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها لا يزيد على المليون بكثير. وقد عرف القراء من الصحف اليومية معظم ما تهم معرفته بشأنها ولكننا أحببنا أن نذكر لهم شيئاً عن قبائل السنوسيين الضاربة في شمالي أفريقيا والتي كثر ذكرها في معرض العكلام عن تلك الحربن فنقول:
إن قبائل السنوسيين من أشهر قبائل الغرب وأكثرها نزوعاً إلى القتال وأشدها شغفاً بخوض غمرات الحرب، وهي عزيزة الجانب نافذة الكلمة، تكاد بنظامها تحاكي إمارة من الإمارات، وبشجاعة أفرادها تفوق الرجال، وهي منتشرة في معظم تلك البقعة من أفريقيا، وقد لاقت منها فرنسا في الجزائر أهوالاً. ولا عجب إذا كانت قبائل السنوسيين ذات دربة في القتال وحنكة في الحرب فإن موقع البلاد الضاربة فيها على طريق الغزاة الفاتحين. فدعاها ذلك إلى المكافحة مدة عشرين قرناً ونيف. وإذا كانت قد هدأت وسكنت في النصف الثاني من القرن المنصرم فالسبب في ذلك راجع إلى شدة ما أصابها من جراء الحملة الفرنسوية الأولى سنة 1852 وخصوصاً الحملة الثانية سنة 1857.
وتشهد بأهمية ذلك الموقع من الوجهة العسكرية الحركات الحربية المتعددة التي جرت في تلك الأنحاء. ففي هذه الأصقاع كان ممر الرومانيين والفندال والعرب، وفيها كان معترك المراودة والمهاودة والمراونة بعد الفتح(2/373)
الإسلامي، كما أن سلاطين تلمسان وفاس قد تنازعوا السيادة هناك مدة ثلاثة قرون. وقام بعد ذلك مولاي إسماعيل معاصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا واقفاً في وجه الأتراك الفاتحين في ذلك الموضع نفسه.
وفي ذاك العهد كان السنوسيون منحازين إلى صاحب الجزائر. ولربما كان مولاي إسماعيل أول من تمكن من إخضاعهم بعد حملتين قويتين حملهما عليهم سنة 1679 و1680 فخرب دورهم واقتلع آثارهم وأنزل بهم الويلات حتى ساءت حالهم وتضعضعت أركانهم، ولم يسالمهم إلا بعد أن سلموا سلاحهم وخيولهم وبنى في جبالهم ثلاثة حصون منيعة.
وأول مقابلة في ساحة القتال بين الفرنسويين والسنوسيين كانت سنة 1844 وكان عددهم الأكبر وبأسهم الأشد في جيش سيدي محمد الذي انتصر عليه المارشال بوجو في معركة إسلي. وقد كان هذا الانتصار عظيماً، لكن المعاهدة التي تلته جرت على الفرنسويين كل ما
لاقوا بعد ذلك من الصعاب في تلك الأمصار، لنهم كانوا يجهلون تخطيط البلاد فقبلوا بتحديد التخوم الفاصلة كما عرضت عليهم فأصبح قسم من القبائل داخلاً في منطقة الحماية الفرنسوية وظل قسم كبير خارجاً عنها، فصعب على فرنسا توطيد سلطتها في مستعمراتها الأفريقية.
على أن الجيوش الفرنسوية لم تتقيد في حملة 1852 بنص المعاهدة ولم تحترم تلك الحدود. فقد جاء في تاريخ الجزائر تأليف بليسيه ده رينو أن الجنرال ده مونتوبان لم يخش أن يجتاز التخوم الفاصلة، بل تعداها متتبعاً آثار السنوسيين، وقد فعل الجنرال ماك ماهون فعله من جهة(2/374)
حدود تونس دون أن يقوم من يعترض. وذلك لأن أنظار الدول في ذاك العهد لم تكن متجهة إلى ذلك القسم من أفريقيا، ولم يحتج السلطان عبد الرحمن صاحب مراكش لأن فرنسا كانت قد هددته بالزحف على بلاده إذا صدر منه ما يقلقها.
أما السنوسيون فدفعتهم جرأتهم إلى شن الغارة على القبائل الراضخة للفرنسويين، فجندت فرنسا 4. 500 مقابل بين مشاة وفرسان. وزحفت الحملة إلى جهة تخوم مراكش وكانت القبائل قد حشدت هنا جيشاً لا يقل عن 6. 000 محارب. ولكنه لم يهاجم الفرنسويين بل اكتفى بمناوشات صغيرة مدة من الزمن، ولما غولو على الهجوم أصابهم الفشل وعادوا خاسرين. هذا أهم ما كان في حملة سنة 1852.
أما حملة 1859 فإنها كانت أكبر أهمية. وسببها أن رجلاً في بلاد الزاوية اسمه سيدي محمد بن عبد الله قام ونفخ في صدور السنوسيين روح الثورة والتمرد. فهجموا في شعر أغسطس من تلك السنة على سيدي ظاهر وكسروا الجنود الفرنسوية المرابطة هنالك وسلبوا القبائل الموالية لها. فلعبت برؤوسهم خمرة الانتصار وجمعوا جموعهم حتى بلغوا السبعة آلاف وهجموا على وادي التيولي فدحرتهم الجنود الفرنسوية فتقهقروا إلى ما وراء التخوم واشتدت الفوضى في البلاد فعزمت فرنسا على أن تضرب الضربة القاضية فأرسلت جيشاً يناهز العشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال ده مارتنبري فتحصنت القبائل في الجبال والمضايق. ولكن لما سدت في وجهها أبواب الفرج حضر الحاج ميمون أحد زعمائهم إلى(2/375)
مضرب الجنرال ده مارتنبري طالباً الأمان والسلم وقدم الرهائن ورضي بدفع ضريبة مئة فرنك عن كل بندقية.
هذا بعض ما جرى لفرنسا مع السنوسيين، وإيطاليا الآن في أول عهد مناوشاتها معهم، وهي لاشك لاقية من قوة بأسهم وشدة مراسهم ما يحملها الخسائر الباهظة بالمال والرجال.
ونختم هذه اللمحة التاريخية الوجيزة بما كتبه عن السنوسيين أحد الصحافيين الإفرنج الذين زاروا طرابلس الغرب منذ مدة قريبة قال ما ملخصه:
. . . . وبينما كنت سائراً في أحد الشوارع سمعت ضجة وأصواتاً تكاد تشق الفضاء وطبولاً تضرب ومزماراً يعزف ووقع حوافر جياد، فوقفت لأفتح طريقاً لجمهور كبير عن الأولاد والبرابرة والسودانيين، وما هي إلا برهة وجيزة حتى علمت أن هذه الحفلة أقيمت لشرذمة من فرسان السنوسيين قدموا إلى طرابلس. . . سار الفرسان أربعة أربعة بنظام مدهش وترتيب عجيب: وجوه سوداء ورؤوس تعلوها عمائم بيضاء وقد التحفوا باردية بيضاء أيضاً (برانس)، وبنادقهم مربوطة بسروج خيولهم والرماح على اكتافهم والسيوف متدلية إلى جانبهم. سار موكب هؤلاء الفرسان بترتيب عسكري جميل، وكانت ركاب الفارس ملتصقة بركاب الفارس المحاذي له، وخيلهم تسير بخطوات منسقة على نقرات الطبول ونغمات المزمار. وقد وقفت عند مرورهم جامداً لا أبدي حراكاً وقد دهشت لجمالهم الرائع وسوادهم اللامع وصحة أبدانهم وطول قاماتهم، وأيقنت أنه لو تم تنظيمهم على الطرق العسكرية الحديثة لحاربوا(2/376)
مملكة عظيمة وحدهم. وقد رأيت هؤلاء السنوسيين أيضاً في إحدى قهوات طرابلسن رأيتهم جلوساً وقد خيمت عليهم السكينة، فلا ضجة ولا هرج بل كانوا كأنهم خارجون للانتقام وعلامات الرزانة والرصانة بادية على وجوههم. وقد جلست إلى جانبهم أتأمل حالتهم، وما هي إلا هنيهة حتى رأيتهم وقفوا وبسرعة البرق امتطوا صهوات خيولهم ونظموا صفوفهم وساروا تكتنفهم الهيبة والوقار. . . .
هذا بعض الشيء عن السنوسيين الذين تعتمد عليهم الدولة الآن في رد غارات الطليان عن طرابلس الغرب.
الوصايا العشر
للنساء المتزوجات
وضع أحدهم الوصايا العشر الآتية وهو يعتقد أن فيها سعادة النساء المتزوجات. فلتجربها قارئاتنا الكريمات وليعرفنا مبلغ صحتها:
1 - تحاشي الخلاف الأول مع زوجك، ولكن إذا لم يكن بد من حدوثه فاعملي على الخروج منه منتصرة لأن انتصارك الأول يرفع قدرك في عين رجلك.
2 - لا تنسي أنك تزوجت رجلاً لا إلهاً، فتسامحي عن نقائصه.(2/377)
3 - لا تجعلي طلب الدراهم همك الوحيد مع زوجك، بل اعملي على الاقتصاد مما يعطيك.
4 - إذا كنت تعتقدين أن زوجك بلا قلب فلا تعتقدي أنه بلا معدة. وإذا اعتنيت بمعدته فإنك تتوصلين بالطعام الجيد إلى اكتساب قلبه.
5 - سلمي له بالحق من حين إلى حين في الجدال، فهذا مما يسره ولا يضركز
6 - اقرأي الجرائد والمجلات ليس فقط لمعرفة أخبار المودة والحوادث المختلفة بل أيضاً لمتابعة الحركة الفكرية والأدبية، فيبتهج زوجك عندما يراك قادرة أن تحديثه بالعلوم والسياسة.
7 - لا تكوني فظة غليظة في جدالك مع زوجك ولا تكوني البادئة في الخلاف، واعتبريه عادة أرقى منك.
8 - سلمي من حين إلى حين بأنه أكثر منك إدراكاً للأمور وأقدر على حل المشاكل، ولا تعتقدي أنك معصومة عن الغلط.
9 - إذا كان زوجك ذكياً عالماً فكوني صديقته، وإلا فكوني صديقته ومستشارته.
10 - كوني كثيرة الاحترام لأهل زوجك وخصوصاً لأمه، ولا تنسي أنها أحبته واعتنت به قبلك بكثير. . . .
نقدم هذه النصائح للقارئات علهن يجدن فيها السعادة والهناء. . . .(2/378)
ثمرات المطابع
طبيب مستشفى قليوب وصاحب كتاب التشخيص الجراحي, والحمل خارج الرحم, والعملية القيصرية, والعلاج بعد العمليات إلخ.(2/379)
العلاج بعد العمليات - تكلمنا في الجزء الأخير من الزهور ص 328 عن كتاب التشخيص الجراحي الذي وضعه حضرة الدكتور محمد أفندي عبد الحميد، وأثنينا على همة هذا الطبيب البارع الدائب على إتحاف العالم العربي بأنفس الكتب العلمية الطبية. ولم يخطئ ظننا بصديقنا الدكتور عبد الحميد، فإنه ما كاد يفرغ من كتابه المتقدم ذكره حتى زف إلى القراء كتاباً آخر متمماً له لا يقل عنه نفعاً وفائدة، وعنوانه يكفي للدلالة على أهمية موضوعه. فهو يتناول طرق العلاج الواجب اتباعها بعد كل عملية من العمليات الجراحية المختلفة إتماماً للشفاء وتفادياً من المضاعفات التي تطرأ عادةً على المريض. وقد اعتمد في كتابه هذا على مؤلف شهير للعلامة لوكهارت ممري فجاء البحث كافياً وافياً من حيث الموضوع، طلياً واضحاً من حيث العبارة. أما الخدمة التي يقدمها الدكتور عبد الحميد فهي تعد من الأعمال التي يكفي ذكرها لإظهار فضل القائم بها. وإذا نحن عرفنا القراء اليوم بصورته المادية بعد أن عرفوا صورته الأدبية فلكي نذيع فضله وأدبه ونلفت كل قراء الزهور إلى كتبه النفيسة حيث يجدون الفوائد الكثيرة.
تذكار المؤتمر القبطي - هو من الكتب التي جاءتنا في عظلمة الصيف فاضطررنا إلى إرجاء الكلام عنه لليوم وإن كان مضى على صدوره(2/380)
بضعة أشهر. وهو كناية عن مجموعة رسائل مصورة بحث فيها واضعها حضرة الكاتب المعروف توفيق أفندي حبيب المحرر في جريدة الأخبار بحثاً مسهباً في تاريخ المسألة البطية والمؤتمر وما تلي وجرى فيه من الخطب والمناقشات. ولحضرة المؤلف معرفة واهتمام بشؤون طائفته وله في هذه المواضيع كتابات إصلاحية نافعةن وإن كان بعضها لا يخلو من التطرف شأن كل الذين يحاولون بث روح جديدة في الأجسام القديمة. فعسى أن تتحقق أماني النهضة التي يرجوها الكاتب الأديب.
من أفواه الأسود - نالت رسائل الغرام التي ينشرها حضرة الناثر الشاعر سليم أفندي عبد الأحد في هذه المجلة تباعاً استحسان عموم القراء، وراق الجميع حسن أسلوبها الكتابي وطلاوة إنشائها. وقد أهدى إلينا اليوم رواية بالعنوان المتقدم ترجمها عن الإنجليزية وكان قد نشرها تباعاً في مجلة الشرق والغرب وهي كثيرة الوقائع متنوعة الحوادث رشيقة العبارة حسنة السبك مزينة برسوم جميلة وسيجد القراء فيها ما يلذهم.
تاريخ حرب فرنسا وألمانيا - توجهت الأنظار في المدة الأخيرة إلى فرنسا وألمانيا بسبب اشتداد الأزمة المراكشية فكان ظهور هذا الكتاب في أوانه وهو من قلم جرجي أفندي يني الطرابلسي منشئ مجلة(2/381)
المباحث وقد عني بإعادة طبعه بعد ما كان قد نشر فيم جلة الجنان يوسف أفندي توما البستاني وجبس 20 في المئة من ثمنه لإعانة الأسطول العثماني. أما الكتاب فهو يتناول حوادث تلك الحرب الشعواء التي اتقدت نيرانها في السنة السبعين بين دولتي فرنسا وبروسيا وكان من أمرها ما كان، وفيه رسوم أبطال تلك الوقائع الشهيرة. وكنا نتمنى زيادة اعتناء في ضبط أسماء الأعلام لاسيما وهي من الأسماء المشهورة، فكثيراً ما ترد في الصفحة الواحدة مكتوبة على شكلين أو مغلوطة في أكثر من حرف. وعلى كل فيسرنا زيادة انتشار الكتب المفيدة في لغتنا وهذا التاريخ منها.
لغة العرب - لم يبق من حاجة إلى تعريف القراء بمراسلنا البغدادي العلامة المدقق فإن أبحاثه عن بلاد العرب كان لها أجمل وقع عند العلماءو كنا قد أشرنا في الجزء الخامس من هذه السنة إلى قرب إصداره مجلة في بغداد. وها قد انفذ هذا المشروع وجاءتنا الأعداد الأولى من لغة العرب محققة ما كان ينتظر من أدبه الرائع وعلمه الواسع. وبدل الاشتراك في البلاد العربية 9 فرنكات. والكاتبة تكون بعنوان دير الآباء الكرمليين في بغداد أو بعنوان الزهور بمصرز
مجلة الآثار - مجلة أخرى أدبية علمية أصدرها كاتب مدقق معروف وهو عيسى أفندي إسكندر المعلوف صاحب الآثار الأدبية الكثيرة. وهي ستنال منزلة رفيعة في عالم الأدب بهمة منشئها وسعة إطلاعه ونشاطه في العمل. قيمة الاشتراك: ريال ونصف. وفي البلاد الأجنبية 10 فرنكات.(2/382)
أزهار وأشواك
مقاطعة الطليان
لا حديث للقوم واهتما لهم إلا بأخبار الحرب الدائرة رحاها بين الدولتين العثمانية والإيطالية، والصحف السياسية تواصل القراء صباح مساء بأنباء آخر ساعة. وأصحاب الغيرة الوطنية يدعون ذوي المروءة إلى بذل الدرهم والتطوع للذود عن حياض الوطن ومقاطعة الطليان في صناعاتهم ومحصولاتهم، ولست أدعو أحداً من قرائي إلى أمرٍ أحجم عنه، فإني لا أخشى أن أقول أخشى على فخارتي أن تحطما ولكن هناك مقاطعة لغوية لا تجارية أحب أن أكون رافع لوائها. لم أعرف قطراً عربياً تفشت لغة الطليان في لغة قومه تفشيها في لغة وادي النيل، وإن كانت الألفاظ العربية المشتقة من الطليانية وأمها اللاتينية ليست بالشيء القليل، على أن شيوعها في مصر بلغ التطرف. فإذا جلست في قهوة تسمع المصري الصعيدي الذي يبيع الخبز ينادي عيش فينو وبائع الحلوى يجيبه طازة فريسكا وبائع العصفور التيان يصرخ بكافيكا إلى غير ذلك كالفراولة واللامبا والبنا وإذا انتبهت إلى حديث الشبان الذين على آخر مودة لا تسمع إلا: كنت في التيرو (يعني صيد الحمام) وذاهب إلى التياترو وأمثال ذلك. وإذا كنت في بيتك ساعة الظهيرة تسمع فجأة صوتاً يشق الفضاء روبافكيا يعني ملابس عتيقة للبيع. أما التجارة فتكاد لا تجد فيها مسمى غير إيطالي(2/383)
الاسم كالمانيفستو والمايسترو والبلنشو والبروتستو وفرنكوبوردو إلخ. أنا لا أريد أن أكون لغوياً ثقيلاً متطرفاً ولكن كثرة الدخليل الإيطالي إلى لغتنا لمما يكاد يفسدها علينا. فهيا إلى المقاطعة!
السلام التركي
أريد هذه المرة أن يسر الوطنيون العثمانيون بأزهاري وأشواكي. فبعد أن دعوت إلى مقاطعة الطليان ها أنا داع إلى الاقتباس من الأتراك من حيث عادة السلام. . . . للتحية أنواع كضرب القدم بالقدم أو حس الأنف بالأنف أو غير ذلك من الاصطلاحات الغريبة ولكن الطريقة الأكثر شيوعاً هي المصافحة باليد، وهي وإن كانت تفضل سواها من أنواع التحيات التي أشرت إليها على أني أفضل عليها السلام التركي وهو وضع اليد على الصدر فالفم فالرأس، ولهذا التفضيل في نظري أسباب منها شعرية ومنها صحية ومنها
عملية. من ذلك أنك إذا حييت صديقاً على هذه الطريقة فكأنك تقول له: إن ذكرك في قلبي وعلى لساني وفي فكري. وإذا سلمت بالسلام التركي تأمن على نفسك من عدوى أمراض كثيرة تنتقل باللمس ناهيك بما يصيبك من مصافحة بعض الأيدي من الاشمئزاز وخصوصاً في أيام الصيف. والأطباء يوافقوني على ذلك. والعامة تقول عن الرجل الطماع إذا صافحته فعد أصابعك فسلم دائماً سلاماً تركياً تأمن على أصابعك العشر. وإذا دخلت إلى مجتمع عام وحاولت أن تسلم بالطريقة المعتادة أعني بالمصافحة(2/384)
فإنك تحدث تبلبلاً يزعجك ويزعج المجتمعين، وكثيراً ما لا تعرف بمن تبتدئ ولا بمن تنتهي. أما إذا سلمت كما أشير فإنك بإشارة لطيفة تحيي الجميع بكل سرعة وأدب دون أن تزعج أو تنزعج. وفي الختام أترك قلمي وأضع يدي على صدري ففمي فرأسي وأحييك أيها القراء العزيز تحية تركية استنابولية ولن أصافحك بعد اليوم. . . .
في منزل سليم سركيس
اجتمع في الأسبوع الماضي رهط من الأفاضل وفيهم الباشا والبك والشيخ والأديب والشاعر والطبيب والتاجر احتفاءً بالسيدة نجلا صباغ صديقة سليم سركيس وصاحبة الأيدي البيضاء على المشروعات الأدبية والاجتماعية في الديار الأمريكية. جمع سركيس نخبة من أصدقائه (من كل النمر) في هذه الحفلة الزاهرة ولكني لم أر بينهم محامياً واحداً فقلت في نفسي: يخاف صاحبنا أن يجتمع بمن قد يفوقه بحركة اللسان ولا يجمع السيفان في غمد معاً. . . أديرت كؤوس الشراب ومدت موائد الطعام وسرعان ما كانت تفرغ هذه وتلك وتذهب إلى حيث. . . وقد حفظت قائمة الأكل لقرائي ليشاركوني ولو بالفكر في هذه اللذة: شوربا، دندي، باميا. بوغاشة، حمام. كتفه. ورق عنب. كستلاتة، الجاويش، الأرز، عيش السرايا، فطير باللحمة. كشك الفقراء (كذب الاسم) الماظية وفواكه متنوعة. ولولا مهارة الطباخ. وابتهاج الآكلين وبشاشة صاحب الدعوة لصيب أكثر من واحد بتخمة. وكانت بعد ذلك بعض سويعات(2/385)
لطيفة انقضت بالهضم والمسامرة. وسركيس بملابسه البلدية كأم العروس ينتقل من حلقة إلى حلقة، ومدامته ترحب بالجميع بمنتهى الرقة والظرف، وولده أنور على ذراعي مرضعه ينظر مدهوشاً إلى أعمال أبيه. ومن محاسن هذه السهرة أن كل شاعر أو كاتب لم ير من المحتم الواجب أن ينغص عيش المتسامرين
بقصيدة أو خطاب شأننا في كل اجتماعاتنا بل اكتفى القوم بأن طلبوا من خليل مطران أن يطربهم بشيء من النظم، فأسكرهم بالشعر بعد الخمر، وتلا قصيدة وصف بها حالته وحالة ابنة عمه المحتفل بها أيام كانا ولدين يلعبان على شاطئ النهر. ولو وفى صديقي خليل بوعده لكنت ناشرها اليوم للقراء. . . ثم وقفت السيدة نجلا وألقت كلمات هي الدر أو أغلى بلفظ مليح ونطق فصيح. فذكرت المهاجرين وتعلقهم بأبيهم الوطن وأمهم اللغة. وهكذا مضى هزيع من الليل والبشر مخيم على منزل نمرة 15 بشارع الفجالة بمصر.
حاصد
قوة تركيا وإيطاليا
بمناسبة نشوب القتال بين الدولة العثمانية وإيطاليا ننشر لفائدة القراء الأرقام التالية وفيها مقابلة بين قوى الدولتين:
القوى البحرية تركياإيطاليا
مدرعات711
طرادات مدرعة0010
طرادات صغيرة26
نسافات 1023(2/386)
رعادات وحراقات 1574
غواصات007
وبين المدرعات العثمانية السبع مدرعتان فقط يصح الاعتماد عليهما، وهما اللتان ابتاعتهما الدولة من ألمانيا، وتقطع الواحدة منهما في الساعة 17 عقدة. أما الأسطول الإيطالي فيعد في المنزلة الرابعة بين أساطيل أوروبا.
القوى البرية تركيا إيطاليا
جنود في السلم380. 000384. 000
في وقت الحرب1. 000. 0003. 000. 000
مدافع 1. 600 1. 716
نفقات عسكرية4. 600. 000 جنيه 11. 000. 000 جنيه
اللورد أفبري
(هو كاتب وفيلسوف إنكليزي شهير وقد نقل حضرة الأديب وديع أفندي البستاني بعض مؤلفاته إلى اللغة العربية. ولما ذهب إلى لوندرا في هذا الصيف زاره في منزله وكتب عنه النبذة الآتية لتكون مقدمة لكتاب مسرات الحياة الذي سيظهر في هذا الشهر، وأرسلها إلينا فأحببنا أن ننشرها للقراء ليروا كيف يعمل ذوو الجد والنشاط على خدمة بلادهم وإخوانهم في الإنسانية):
ولد اللورد أفبري في 30 أبريل (نيسان) 1834، فهو اليوم شيخ جليل، على أعتاب الثمانين، وفرد من أفراد العالم المعدودين، معروف لدى بضعة ملايين ممن طالعوا كتاباته، ولدى عشرات الملايين ممن انتفعوا بإصلاحاته. ففضله كبير عميم، وقدره رفيع عظيم.
ولئن اعتبرنا صاحب المليون من الأصفر الرنان الذي يغلب أن يكون قد ابتز(2/387)
أمواله ابتزازاً، وأتى كل فرية، واقترف كل إثم في سبيل جمعها وتوفيرها، فما قولنا في فردٍ أفاد الملايين من الناس، حتى أصحاب الملايين كما سترى؟
فهو رجل يعد برجال، وسيرته سيرة أبطال. وأنى لي في هذه العجالة أن أذكر جميع ما أعرفه عنه. مع أني لا أعرف إلا البعض من أعماله العظيمة، وآثاره الخالدة، وقد رأيت أن أكتفي بما يلي تأييداً لما سبق.
ولعل قارئ هذه الأسطر من قراء معنى الحياة والسعادة والسلام اللذين نشرتهما الأول في أواسط 1909 (وقد نفذت طبعته الأولى والثانية صادرة عن قريب) والثاني في أواخر 1910 (وطبعته على وشك النفاد). وإنما أذكر ذلك دلالةً على أن مؤلفات اللورد أفبري قد انتشر انتشاراً سريعاً حتى بين قراء العربية، على قلة عددهم وحداثة عهدهم بالإقبال على هذا النوع من المؤلفات.
ولكن أين انتشارها بين ظهرانينا من انتشارها في إنكلترا وسائر الأقطار العربية! وإني لا اعلم أأخجل أم أفتخر إذ أقول إن غيرنا من الشرقيين أسبق منا إلى نقل مثل هذه الكتب إلى لغاتهم، وأكثر إقبالاً عليها واستفادة منها، فقد أعيد طبع معنى الحياة خمس مرات في اليابان ونقل إلى كثير من اللغات الشرقية التي لا تقاس بشيء من أهمية لغتنا الشريفة المحبوبة. . . ولا غرو فإنما اللغة بأبنائها. ولقد كانت أجيالنا الأخيرة أجيال ظلم وظلام، وجعل واستبداد، وتأخر وانحطاط. . . والله يعلم من الملوم ومن المسؤول.
أجل أين انتشار هذه الكتب بين أقوامنا من انتشارها بين سائر الأقوام! فقد بيع من مسرات الحياة هذا 250000 نسخة في إنكلترا وحدها، وطبع أكثر من 30 طبعة خارج البلاد الإنجليزية.
وقد بيع من معنى الحياة 20000 نسخة إنكليزية، ونقل إلى كل من اللغات الأوروبية المعروفة كالفرنساوية والألمانية والتليانية إلخ وإلى أغلب لغات الدنيا(2/388)
الحية والأقل شأناً كالبوهيمية واليونانية واليابانية والهندية (الهندوستاني) والروسية إلخ.
وقد بيع للآن 70000 نسخة إنكليزية من كتابه محاسن الطبيعة وترجم إلى عدد كبير من اللغات كسابقيه.
أما كتابه السعادة والسلام فقد ظهر في أواخر 1909 ولا أعلم عدد النسخ التي بيعت منه إلى الآن ولا عدد اللغات التي نقل إليها. ولاشك أن نصيبه من الرواج كنصيب أمثاله إن لم يكن أعظم، لأنه آخر تآليفه وأتمها في هذا الموضوع.
فإذا أحصينا عدد النسخ التي نفدت من الأربعة المذكورة من مؤلفاته، وذكرنا أن له غيرها في هذا الموضوع ما لا يقل عنها شاناً ورواجاً، وعلمنا أن مصنفاته عشرون ونيف، وأن ما نقل منها إلى الإفرنسية (تلك اللغة الغنية) أكثر من 12 وإن الرجل لا يزال ينفح العالم بنفثات يراعه - أجل إذا اعتبرنا كل ذلك سهل علينا أن نتصور كيف يكون لكاتب واحد ملايين من القراء. وهل المخاطب الكريم واحد من أولئك الملايين، وما أنا إلا واحد من مئات المترجمين لهذا المؤلف العظيم. فهل تراني كنت مبالغاً في القول إنه رجل برجال.
على أن اللورد أفبري ليس كتاباً فقط. فقد أفاد العالم أجمع وإنكلترا خصوصاً بخدماته الجلى العلمية والإدارية والسياسية والاجتماعية كما يتضح لك مما يلي نقلاً عن رسالة نشرتها شركة التراجم بلندرا سنة 1903: إن اللورد أفبري - من يعرفه جمهور العمال والمستخدمين في هذه البلاد ويذكرون جميله ويشكرون صنيعه، لأنه أول من منحهم العيد السنوي المعروف (ببنك هوليداي أي عيد المصارف البنوكة) وأول من سعى في أمر قفل محال العمل باكراً - هو رجل أتى في حياته من العمال العظيمة ما يكفي لإذاعة شهرة رجال. لأن نصيبه من خدمة العلم والآداب في القرن التاسع عشر كان نصيباً وافراً، ومصنفاته في التاريخ الطبيعي وسائر الفروع العلمية، فضلاً عن إصلاحاته المجلسية
والاجتماعية، تبرهن لنا أنه(2/389)
يمكن لرجل واحد أن يلعب في حياته عدة أدوار على مرسح هذا العالم، ويكون محرزاً الفخر الحقيقي لنفسه، وجالباً النفع العمومي على قومه وبني جنسه.
ومن إصلاحاته الإدارية في عالم التجارة والماليات إحداثه الطريقة المعروفة بالتصفية المحلية. وحينما كان سكرتيراً لنقابة صيارفة لندرا (وهو مركز شغله مدة 25 علماً) تم له أيضاً أن يصلح طريقة التصفية العمومية. وإذا أردت أن تتصور أهمية هذين الإصلاحين فحسبك أن تعلم قيمة الأوراق المالية التي تمر في الإدارة التي كان هو الداعي إلى تأسيسها قلما تقل عن 100. 000. 000 جنيه إنكليزي في اليوم الواحد.
ونذكر في هذا المقام أنه تخرج في كلية ايتون حيث أظهر ذكاء غريباً، وفاز بقصب السبق في جميع الفروع، ولكنه لم يدخل جامعة اوكسفورد أو كمبردج بل دخل مدرسة العالم الكبرى وابتدأ حياته العلمية في الرابعة عشرة من عمره. وكل ما أحرزه من العلم والمعرفة بعد ذلك إنما احرزه بفضل رغبته وصدق عزيمته. والحق يقال إنه لم يرث من أبيه الأموال الطائلة فقط، بل ورث معها الأميال العلمية التي اتبعها وكان خير خلف لخير سلف. فإن أباه كان راسخ القدم وطويل الباع في الفلكيات والرياضيات وله آثار تأليفية خالدة. ولعل نجله الصغير (وهو فتى دون العشرين من السن) يكون خير خلف له أيضاً، فإنني رأيت فيه على حداثته شاباً غزير المواهب واسع الإطلاع، وقد خرجت معه لفسحة في الأحراج والجنائن المغروسة حول القصر، فشهدت وسمعت منه ما أود لو سمح المجال بذكره مثالاً للتربية الإنكليزية.
ولنعد بعد هذا الاستطراد إلى حيث وصلنا من ذكر الإصلاحات التي أحدثها مؤلف هذا الكتاب في التجاريات والماليات، فنرى أن فضله يشمل حتى أصحاب الملايين، ولكنه غير مقصور على هؤلاء الأفراد القلائل، فإنه يعم الملايين، بلا(2/390)
مبالغة. واعتبر ذلك بما تم على يده من الإصلاحات التي جاءت عن طريق مجلس النواب وأصبحت شرائع آئلة إلى نفع كل فرد من ملايين الرعايا الإنكليز. فإن عدد اللوائح التي مرت تحت نظر المجلس النيابي وكان هو العضو الساعي والناجح في تنفيذها وجعلها نظامات وشرائع مقررة يبلغ 29 وهذا شأو لم يبلغه غيره من أعضاء المجالس النيابية. ومن تلك اللوائح التي أعدها وقدمها
اللائحة التي قصد فيها تعديل النظام المختص بالمكاتب الحرة، وهو عمل آل ويؤول إلى زيادة انتشار العمل، ونعم المآل. ومنها أيضاً لائحة التحاويل التي أصبحت نظاماً جامعاً لجميع المواد القضائية المتعلقة بالأعمال المالية. ومنها لائحة ساعات العمل ولائحة القفل الباكر ولوائح أخرى عادت على العمال والمستخدمين بالنفع العميم.
فمن وقف على مثل هذه من أعماله العظيمة فكيف يتردد في القول إنه:
خدم البلاد وليس أشرف عنده ... من أن يسمى خادماً لبلاده
وبلاده تحوي الملايين من النفوس، ولا غرو إذاً إن قلنا إن فضله عم عشرات الملايين.
أما الرتب والألقاب التي نالها بفضل علمه وعمله، فلا أظن أنه تسنى لأحد غيره أن يفوز بمثلها عدداً وأهمية. ولنقل كلمة في هذا الصدد تنويهاً بشهرته التي أحرزها عن جدارة واستحقاق.
حتى عام 1900 كان يعرف بالسير جون لبك، وحينئذ توج لورداً وصار يعرف باللورد أفبري. وعنده رتبة لجيون دونور من الحكومة الفرنساوية، ورتبة اوردر أوف مرت من الحكومة الألمانية، وهو اليوم عضو في اللجنة الملوكانية، ومن أكبر أفراد مجلس الأعيان الإنكليزي، وعضو شريف في أكبر جمعيات العالم العلمية والفنية. وقد تنقل في أدوار حياته الحافلة بالأعمال الخطيرة بين منصب كبير إلى أكبر ومركز سام إلى أسمى. فقد كان في 1888 نائب(2/391)
رئيس للجنة الحسابات العمومية، وعضواً عاملاً في الهيئات الملوكانية التي تألفت لترقية العلوم، وتحسين أحوال المدارس العمومية، وإصلاح العملة الدولية، وكان أيضاً رئيس اللجنة التي وضعت نظام العملة الإنكليزية المستعملة اليوم. ومن جملة الجمعيات التي رأسها أيضاً الجمعية البريطانية وجمعية علم الحشرات والجمعية الأفريقية وجمعية الإحصاء وكان أيضاً نائب رئيس للجمعية العلمية الملوكانية، وأول رئيس لمعهد علم الاجتماع الدولي، ورئيس جمعية الآثار وما قبل التاريخ الدولية ورئيس جمعية المكاتب الدولية إلخ إلخ.
ومع انه لم يدخل جامعة كما ذكر آنفاً، فإن الجامعات أقرت بقدره واعترفت بمقدرته العلمية الفائقة، فقد منحته جامعة لندن لقب نائب رئيس لها، وعنده درجة دكتور في الحقوق المدنية من أكسفورد، ودرجة دكتور في الحقوق من كامبردج، ودرجة دكتور في الطب من
ورسبرج إلخ إلخ.
أما أخلاقه فاقرأ كتبه وتفهم مبادئه تعرفها جميعاً، فإنه رجل يقول ما يعتقد، ويفعل ما يقول. وقد دعاني للغداء في قصره الصيفي (خارج لندرا) وجالسته وحادثته فلقيت منه شيخاً جليلاً وقوراً متواضعاً، وكان يلاطفني ويحدثني بطريقةٍ ذكرتني بقول نسيبي سليمان البستاني الذي يضارعه في كثير من الوجوه أن السنبلة الملأى هي التي تحني رأسها وهي رمز الرجل الكبير. . . أما السنبلة الفارغة فرأسها شامخ في الفضاء وهي رمز المتكبر المتكابر. . .
وحبذا جعل ذكر الرجلين معاً مسك الختام، والسلام.
وديع البستاني
لندرا في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1911(2/392)
العدد 19 - بتاريخ: 1 - 12 - 1911
المطر
لا نغالي إذا قلنا إن مصر لا تعرف من فصول السنة إلا اثنين الصيف والربيع، ويكاد فصل الشتاء وما يتخلله من الزوابع والأمطار يكون فيها اسماً لغير مسمى. على أن شوكة القيظ قد انكسرت الآن وبتنا على باب ما يعد في معظم الأمصار في فصل الأمطار. أضف إلى ذلك أن توسيع نطاق الري وزيادة المغروسات واختراق الأسلاك البرقية لجونا لمما أحدث بعض التغيير في تقلبات الطقس عندنا، فصارت السحب تجود علينا بمزنها أكثر من ذي قبل، فرأينا سماءنا في شهر واحد ممطرة أكثر من ثلاث مرات. فأحببنا أن نقول كلمة في المطر وماهيته ومصدره ومظاهره المختلفة:
الغيوم مصدر المدر - إن حرارة الشمس تعمل في البحار والبحيرات ومجاري المياه، فتحدث فيها ما نسميه بخاراً. تتبخر المياه فتتصاعد في الفضاء وتتركب منها تلك الغيوم التي نراها في كبد السماء.(2/393)
ومرجع الغيوم إلى ثلاثة أنواع: منها ما هو معروف باسم سيرس وهو كناية عن قطع مستطيلة بيضاء تظهر في سماء زرقاء في أواخر الطقس الحسن. ويتفاوت علوها بين تسعة أو عشرة كيلومترات، وكثيراً ما تكون درجة حرارتها تحت الصفر، فتكون مركبة من إبر جليد سابحة في الفضاء. ومنها نوع معروف باسم كومولس وهو عبارة عن غيوم مستديرة الشكل كبيرة الحجم بيضاء اللون، كثيراً ما تغشي السماء دون أن يعقبها مطر. والنوع الثالث معروف باسم نمبس وهي غيوم قاتمة تحجب أشعة الشمس، وهي أقل ارتفاعاً من النوعين الأولين بحيث أنها تكون أحياناً على مقربة من سطح الأرض.
أما الغيوم عموماً فهي مجموع نقيطات ميكروسكوبية يتلاعب بها مجرى الهواء فتتجمع معاً، ويزداد حجمها فتسقط على الأرض مطراً، ويكون سبب ذلك برودة تحدث بغتة في الهواء. وفي بعض الأحيان تتحول هذه النقط إلى إبر جمد يزيد ثقلها على الهواء فتقع وهي تذوب أثناء وقوعها. ويسهل على سكان الجبال أن يتحققوا هذا الحادث الطبيعي، لأنه عند سقوط المطر في الأودية يقع الثلج على قمم الأطواد.
فمما تقدم يمكننا أن نقول إن المطر هو مبادلة الماء بين الأرض والهواء بواسطة الحرارة أولاً، والبرودة ثانياً. ولمجرى الهواء تأثير في المطر، فالهواء الماء على البحار يحمل المطر في غالب الأحيان لأنه يقذف بالغيوم المملوءة بخاراً. وقد فقه العامة والزراع ذلك
فهم يقدرون وقوع المطر حسب هبوب الريح.(2/394)
ميزان المطر - قياس كمية المطر الواقع أمر سهل لمبتغيه. وميزانه كناية عن إناء عمودي، في قسمه الأعلى قمع يستقبل المطر النازل، وكل مدة يقاس علو الماء في الإناء فتعرف كمية المطر. وفي بعض الموازين إبرة تدون على الورق الأرقام زيادة في الدقة والضبط.
مياه المطر - وفي مياه المطر جراثيم ميكروبية خلا الأملاح المعدنية كالأمونياك والكلور والحامض النتريك، فليس هذا الماء إذن نقياً ظاهراً كما يعتقده الكثيرون. وأكثر الأمطار ميكروباً ما يقع في الأشهر الحارة.
مقدار المطر - وليس الشتاء كما يعرف الجميع متساوي النسبة على سطح الأرض، فإن بعض الأصقاع يصيبه أكثر مما يصيب غيره. وأكثر البلاد مطراً البلاد المجاورة خط الاستواء. ففي أمريكا بلاد غوبان وفي أفريقيا سييرا ليونه وخليج جينه وشواطئ نهر النيجر، وفي آسيا وأوقيانيا جزائر جاوى وصومترة وبورنيو وملقة يصبها مطر أغزر من سائر الأقطار. ففي أنحاء سييرا ليونه مثلاً يبلغ علو المطر أربعة أمتار ونصف متر، وفي فيدجه ستة أمتار ونيفاً، ويتوصل في خليج نغال إلى اثني عشر متراً وما فوق. ومعدل المطر في سورية 92 سنتيمتراً، وهو في مصر دون ذلك بكثير.
ويصيب الأنحاء الجبلية عموماً من المطر نصيب أوفر من سواها وللشجر والمزروعات تأثير عظيم في استجلاب ماء السماء كما تقدم.
ويقال إن مدينة باييتا في البيرو من أقحط البلاد فقد تمر سبع(2/395)
سنوات دون أن ينزل فيها نقطة ماء. أما مقدار ما يقع سنوياً من المطر على سطح الأرض فيبلغ 480. 000. 000 مليون متر مكعب.
المطر الاصطناعي - لاحظ أصحاب التدقيق أن المواقع العظيمة قد عقبها غالباً مطر غير منتظر مثل مواقع هوهنلندن وايلو وواترلو (في حروب الإمبراطورية الفرنسوية) وماجنتا (في حرب إيطاليا) إلخ. وجرى مثل ذلك أيضاً عقب أكثر التمرينات الحربية المدفعية. ففي 25 سبتمبر كانت جيوش المتحالفين تقوم بمثل هذه المناورات قرب بيانست وكانت الغيوم متلبدة في كبد السماء، فعند إطلاق المدافع انهمر المطر بغتة وانقشعت الغيوم.
فبعد هذه المشاهدات والملاحظات أخذ العلماء يتساءلون عما إذا لم يكن لاهتزاز الهواء - وإن بطريقة اصطناعية - تأثير في سقوط المطر. وكان الفلكي الأمريكي بويرس قد ذكر في كتابه الفلك والحرب إن المواقع التي جرت في حرب أمريكا قد عقب أكثرها نزول المطر فأخذت الهمة بالقائد ديرنفورث إلى اختبار ذلك بإطلاق المدافع على الغيوم. فالتأم مؤتمر علمي لهذه الغاية وجعل له مبلغاً قدره خمسون ألف فرنك. فأجرى القائد المذكور اختباراته في ولاية تكساس من أعمال الولايات المتحدة سنة 1891 فلم يتوصل إلى نتيجة مرضية.
وقام بعد ذلك العالم بودوان مستنداً إلى هذا المبدأ إن الماء ثابت في الفضاء بقوة الكهرباء، وإنه إذا توصل إلى تفريغ المجموع(2/396)
الكهربائي بواسطة طيارة مكهربة ينال المطلوب فنجحت اختباراته بعض النجاح ولكن طيارته المكهربة كانت تعود مراراً بصفقة خاسرة فلا تليها نقطة ماء.
وأصاب مثل هذا النجاح الجزئي المهندس ألن في الهند لكن بطريقةٍ أخرى، فإنه كان يرسل في الفضاء أسهماً مملوءة من الأثير، فكانت عند انفجارها تحدث برودة في الهواء من شأنها أن تحول الغيوم إلى مياه تنهمر على الأرض.
هذا معظم ما رأينا ذكره في هذا الصدد سائلين أن يكون مطر هذا العام مطر خير وإقبال على الفلاح العزيز عماد الثروة والفلاح فيتسنى لنا أن نقول عن بلادنا ما قاله الشاعر فرجيل عن بلاده بلاد غنية بالرجال والغلال.
محاكم الأحداث
لا يمضي يوم إلا ويأتينا غيره بأخبار وحوادث لم نسمعها من قبل. فمن يوم إلى يوم، ومن شهر إلى شهر، ومن سنة إلى سنة، تظهر اختراعات وإصلاحات لم نكن نحلم بها ولم تخطر لنا على بال. . . .
ومن الإصلاحات الحديثة العهد نهضة إصلاح شؤون الأحداث كما يسمونها فقد سمعنا ولا نزال نسمع كل يوم بالنظامات الجديدة والشرائع الحديثة التي تسنها الحكومات الراقية حباً بتخفيض ويلات الأحداث ومصائبهم ولاسيما العاملين منهم بأشغال مختلفة(2/397)
كالمعادن والمعامل وما شاكل. فقامت بإصلاحات نعجز عن تعدادها الآن لضيق المقام. ومما نظرت فيه الحكومات أخيراً هو محاكمة الأحداث غير البالغين. فقد كانوا فيما مضى يعاملون كالرجال تماماً، إذ كانوا يحاكمون بموجب قانون واحد يشمل الكل على السواء.
فكنت ترى الأحداث مسوقين إلى السجن ليقضوا فيه أياماً وأسابيع وشهوراً كأكبر المجرمين.
ولم يكن السجن نصيبهم فقط بل كانوا يساقون إلى النطع فيعدمون كالآخرين. والتاريخ بدلنا بأجلى بيان على الأيام التي كانت رؤوس المجرمين تطير فيها عن أجساهم لجرائم لا نعدها اليوم ذنوباً تستوجب عقوبة الإعدام. فكنت ترى في إنكلترا مثلاً في القرن الماضي رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً معلقين على أخشاب إرهاباً للجانين وتسكيناً للحوادث والجرائم.
ولا نحتاج للإسهاب في موضوع القصاص والعقاب فما غرضنا الآن شرح فلسفة العقاب والثواب، بل جل ما نقصده هو إظهار عدم موافقة الحكم على الصغير كالكبير بمقتضى شريعة واحدة أو قانون واحد. وإليك حادثة حقيقية حدثت في أوائل القرن الماضي في بلاد الإنكليز مأخوذة عن كتاب (حوادث المحاكم ومجرياتها في إنكلترا) فمن القوانين التي سنت عام 1830 قانون الإعدام لأي سرقة كانت خصوصاً سرقة المخازن، صغيراً كان السارق أو كبيراً. فالحادثة التي نحن بصددها تروي أن فتاة لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها قبض عليها في أحد مخازن الأقمشة الكتانية وهي تحاول السرقة وإذ كانت تخبئ القماش تحت ثوبها(2/398)
لمحت صاحب المخزن فتركت القماش وهربت. فاتبعها الرجل بالبوليس فساقها إلى السجن تواً دون أن يسمع شكواها، وأحضرت أخيراً أمام المحكمة الجنائية فكان ما دافعت به عن نفسها قولها أنها ابنة رجل متوسط الحال وأنها كانت تعيش برخاء، ولم
تعرف الشقاء ولا الجوع إلا بعد تغيب أبيها عنها لأنه كان قد مضى عليه مدة طويلة ولم يرجع إلى البيت. ولما لم يكن إلا والدها سنداً لها ولأخوتها الصغار عضهم الجوع وقرصهم البرد لطول غيبته عنهم. فأخذت هي تجول في أسواق المدينة علها تجد شيئاً تسد به رمق إخوتها ورمقها، فأعياها التعب والكلال ولم تر نفسها إلا داخل المخزن فدفعها ما كانت عليه من الجهد إلى أخذ بعض الأقمشة لتبيعها وتتقوت بثمنها. فحدث لها ما تقدم.
ولما كان غرض المحكمة بتجريمها ومعاقبتها إرهاباً وعبرة، رأى القضاة أن يشددوا في القصاص فعلقوها على خشبة في ساحة المدينة كأكبر المجرمين.
أهذا هو العدل وهل كان حكمهم عادلاً؟
إذا نظرنا إلى القانون المسنون في ذلك الحين نرى انه كان حقاً ولكن هل يعد القانون الذي يقضي قضاء كهذا قانوناً عادلاً؟ أو هل كان إعداد تلك الابنة إرهاباً للمجرمين والسارقين. كل العمر الحق بل قد جاء في الكتاب الذي أخذنا عنه هذه الحادثة أن تعدد السرقات لم ينقص بل ظل آخذاً بالازدياد. والعقاب لا نفع منه إلا إذا كان غرضه مساعدة الفرد الواحد وإصلاحه ففي إصلاح الفرد صلاح الأمة وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.(2/399)
كلنا يعلم أن بذور الشر والجريمة سهل زرعها في الصغير. ومتى شب عليها تمكنت منه فقادته إلى شر الهلاك وكانت عاقبة أمره الدمار. ومن النادر أن ترى مجرماً لم تتمكن فيه عاداته وأعماله منذ الصغر. فإذا لم ينقد الفتى في ما بين الرابعة عشرة والعشرين من عمره إلى الشرور والجرائم لا خوف عليه من التهور فيها بعد ذلك. فالعمر المذكور هو الذي تنمو فيه أخلاق الفتى والفتاة، وتتكون فيهما العواطف والانفعالات فيكونان شديدي التأثر من الانفعالات الداخلية والمؤثرات الخارجية على السواء. فإن كانت هذه الانفعالات والمؤثرات رديئة فاسدة تمكنت في الولد فيشب عليها ويصبح شريراً فاسداً، والعكس بالعكس.
وهذا معنى قولهم العلم في الصغر كالنقش في الحجر.
ثلاثة عوامل تؤثر في الولد في صغره فتقوده إما إلى النعيم وإما إلى الجحيم:
أولها أوهمها في غرس المبادئ وإنمائها هو البيت وأعني به كل ما هو داخل البيت وخارجه من العوامل والفواعل التي تؤثر في الولد في حداثته كتصرف الأب والأم والأخوة
والأخوات وطرق المعاملة بينهم إلى غير مما لا نحتاج لذكره الآن.
والعامل الثاني هو المدرسة فكل ما يجري بالمدرسة من تصرف المعلمين ومعاملتهم لتلاميذهم وسلوك التلاميذ مع بعضهم البعض وسياسة المدرسة نفسها كل هذه أو بعضها معاً تؤثر في الولد أشد التأثير فلهذا يختار في المدارس الراقية أفضل المعلمين صفات وآداباً وعلماً وتسن القوانين والنظامات التي تؤول إلى خير الولد علماً وأدباً.(2/400)
والعامل الثالث هو الدين ويراد به مجموع التعاليم والفوائد الدينية التي يأخذها الإنسان لنفسه دستوراً فيعيش سالكاً بموجبه.
فالدين من أشد المؤثرات على الأفعال وهو الضابط لكثير من الشرور والقبائح والمانع لضروب من المفسدات والجرائم.
فإن عجز البيت عن إتمام واجباته فقد أعظم العوامل في تربية الولد فتقع إذ ذاك المسؤولية على أولياء الأمور وقد يعجز هؤلاء في أغلب الأحيان عن القيام بأعباء ما يلقى إليهم من إتمام واجبات آباء أهملوا شأن أولادهم. وقد رأينا أن الحكومة في الماضي كانت تعامل أولاداً كهؤلاء معاملة البالغين تماماً متغاضية عن البون الشاسع بين الفريقين. ولكنها قد أفاقت من غفلتها وسرى إليها حب السعي والإقدام والقيام بالواجب فسعت في هذه الأيام لتخفيف ويلات الأحداث غير البالغين فأصدرت لذلك في أكثر الممالك المتمدنة القوانين والنظامات بمنع تشغيل الحدث كالرجل لاسيما في المعامل والمعادن. فقامت عليها قيامة أصحاب المعامل والمعادن فأصلتهم حرباً عواناً دارت عليهم بها الدائرة. ولما رأت أن هذا لا يعد إصلاحاً تاماً عاودت الكرة فكانت هذه أشد من الأولى لأنها عرفت أصل الفساد ومنبع الشرور فأعدت لذلك سبيلاً إذ أنشأت محاكم خصوصية للنظر في شؤون الأحداث وطرق إصلاحهم فكان ذلك من أجل ما فعلته لإصلاح الأحداث.
هذه هي المحاكم التي نحن بصددها الآن وسنأتي على تفصيلها وبيان أحوالها في العدد الثاني إن شاء الله.
توفيق جريديني(2/401)
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الرابعة
من مدام ركاميه إلى السير رالف انزورث
(في القرن الثامن عشر ولدت فرنسا للعالم نبوليون ابن المريخ ومدام ركاميه ابنة الزهرة. فأخضع الأول العالم بسيفه وأخضعته الثانية بجمالها. واشتد النضال بين الاثنين. فبينما كان العالم يركع عند قدمي باريس كانت باريس تركع عند قدمي مدام ركاميه. وأراد ذلك الجبار أن يتزوجها فرفضته لأن مفتاح قلبها كان بيد شاب من أشراف الإنكليز.
ولم يكن نبوليون الرجل الوحيد الذي رفضته. فقد ذكر التاريخ من الذين تزاحموا عليها عدداً غير قليل منهم البرنس أوغسطوس البروسياني والدوق ولنتون الإنكليزي وغرندوق آخر عظيم وجمهور من الحكام والأشراف والعظماء ورجال السيف والقلم. فكانت ترفض الجميع على حد سواء لأنها وهبت قلبها للشاب المذكور وقد كان سابقاً رئيس جمعية تألفت يومئذ من أشراف الإنكليز لإنقاذ الأشراف الفرنسويين من مخالب الثورة الفرنسوية.
ولكن موانع حالت دون اقترانها بحبيبها فاقترنت بغيره مكرهة. وكان زواجها هذا ارتباطاً اسمياً فقط. ثم مات حبيبها بعيداً عنها ومات بعده زوجها أيضاً. وقيل أن نبوليون سبب موت زوجها انتقاماً منها. على أن باريس كانت تفديها من غضب نبوليون ولهذا لم يستطع أن ينالها بأذى. وبعد سنين قليلة نشأت مودة عظيمة بينها وبين شاتوبريان الكاتب الإفرنسي الشهير فزعم الناس أنها ستقترن به ولكن قلبها كان لا يزال متعلقاً بذكرى حبيبها القديم. وقد بقيت أربعاً وثلاثين سنة وعالم الجمال خاضع لسلطتها. وفي أثناء مرضها كتبت الرسالة الآتية إلا السر انزورث ولكنها لم تستطع إكمالها فختمتها صديقتها مدام ستايل الكاتبة الإفرنسية(2/402)
الشهيرة وكانت من أعز صاحباتها. ولمدام ركاميه صورة شهيرة في أحد متاحف باريس الكبرى)
ملاكي الحارس:
جلست الآن إلى نافذتي أراقب الأفق وأنظر إلى الغيوم القطنية تنعكس عنها أشعة الشمس الحمراء. وقد هاج مرآها في نفسي عواطف وتذكارات رجعت بي إلى أيامنا السالفة فأخذت
القلم لأكتب إليك هذه السطور مع أن الطبيب قد نهاني عن الكتابة والمطالعة وأمرني بالتزام الراحة والسكون. ولكنني أشعر بشوق إلى مخاطبتك ولو عن بعد وأريد أن أبث إليك ما أبقته الأيام من آثار ذلك الحب القديم.
لست أعلم أين أنت يا رالف فقد طال عهد فراقتنا حتى صرت أرى أيامنا الماضية أشبه بغمامة صيف لاحت قليلاً ثم تلاشت في الفضاء. يقولون لي إنك الآن في الهند حيث تتمتع بهواء أجف من هوائنا فإن الفصل عندنا الخريف ومرأى الأغصان المجردة يثير في النفس لواعج محزنة. ولو كنت هنا لأحزنك مشهد الأشجار العارية والحقول المقفرة فإن زقزقة العصفورة قد انقطعت وهديل الحمام قد بطل ولم يبق إلا خرير الماء يملأ الوادي كأنه أنة عاشق منكسر القلب.
وقد أذكرتني هذه الشمس الزائلة وقفتنا الأخيرة عند الغروب يوم أتيت لتعيد إلي رسائلي وتأخذ رسائلك لأن أهلك وقفوا يومئذ بيننا وحالوا دون تحقيق أحلامنا السعيدة.
في ذمة الله تلك الأيام الماضية! في ذمة الله أحلام غرام لم يبق(2/403)
منها إلا ذكرى تتضاءل بمرور الأيام. أيعود الماضي فيبعث لنا من أكفانه أماني دفناها فيه؟ أيعود فيحيي لنا آمالاً كانت تظللنا بأجنحتها الذهبية؟ هوذا الآن قد انطوت تلك الأجنحة واستراح الرقباء الذين لم يكونوا يغمضون عنا أجفانهم حتى بلغوا من أمانيهم أن فرقوا بيننا فلا يعلم أحدنا بمقر الآخر.
بل إن مقرك في فؤادي يا رالف. وإنما فقدت فؤادي ففقدتك معه. وقد كنت أظللك بأجنحة الحب وأرسل عليك أشعة الحب وأسمعك أناشيد الحب فلم يبق اليوم من تلك الأجنحة إلا سحابة زائلة ومن تلك الأشعة إلا نور ضئيل ومن تلك الأناشيد إلا خفوق قلب منكسر.
قضيت أشهر الصيف متقلبة على سرير المرض. وأنا الآن في طور النقه. يقولون لي إنني كنت أردد اسمك في ساعات غيبوبتي وأذكر أيامنا الماضية. أما أنا فلا أتذكر من ذلك سوى أنني كنت كلما سمعت صوتاً بباب غرفتي ألتفت لأرى هل أنت الداخل أم غيرك.
كنت في أثناء مرضي أتعزى بفكر غريب. كنت أعلل نفسي بالموت وأتمنى أن أنتقل إلى عالم الأرواح لكي تحلق روحي في فضاء الأبدية فترفرف حولك وترقبك من علوها الشاهق. ولكن فكراً آخر كان يروعني فقد كنت أخشى أن يزيد موتي في حزنك فلا تعود
ترى لذة في الحياة. ولكن من يعلم؟ لعل حبي لك غير حبك لي يا رالف. أنا أعلم أنك تفضلني في كل شيء. فأنت أشرف مني أصلاً وأغنى ثروة وأجمل طلعة وأوسع جاهاً وأكثر ذكاء. أنت تفوقني في كل شيء. ولكن(2/404)
هنالك شيئاً واحداً أفوقك فيه وهو الحب. حبي لك مستمد من حب الملائكة فهو أنقى من ندى الصباح وأرق من خطرات النسيم وأرسخ من راسيات الجبال وأطول من مدى الخلود وأبعد من حدود الأبدية. حبي لك يريني للحياة معنى جديداً فيصورها ربيعاً مستمراً. ولكنه يخيفني من الخلود لأن الخلود قصير المدى في نظر العاشقين.
أجل يا رالف. كثيراً ما تمر بي دقائق تزيد في شقائي فاندم لأنني رضيت بالبعد عنك وأتمنى لو أبيت مفارقتك على رغم معارضة أهلك. ولكنني أعود فأتعزى بهذا الفكر وهو أنني فعلت ذلك لكي أكفيك مؤونة الخلاف مع أهلك لأنني أكره أن أكون السبب في ذلك.
أنا أميل اليوم إلى الوحدة وأجد فيها تسلية كبيرة لأنني أستطيع بها أن أتفرغ للتفكر فيك. هل تذكر كم كنت محبة للهو والمرح؟ وأما اليوم فإنني أحب العزلة لأنني أجد في هدوء الطبيعة عظة أبلغ من النطق، وأسمع من خلال سكوتها أناشيد هلاس ذات القيثارة الذهبية فأتصورني مترامية بين ذراعيك أحدق النظر فيك وأسر إليك نغمات الغرام.
لعلي أطلت هذه الرسالة عليك. ولكن قلبي مفعم بتذكارات تهيج في نفسي لواعج حزن وسرور وأنا أريد أن أبثك ما أستطيع من مكنونات الفؤاد إذ من يدري هل أعود فأجد فرصة كهذه لمناجاتك أيها الحبيب؟ ولكن الظلام قد أحدق فسأبقي هذه الرسالة إلى الغد.
إلى الغد. . .
. . . . . .(2/405)
(بعد أسبوع)
مولاي. . . طلبت إلي جان أن أكمل هذه الرسالة وأبعث بها إليك فقد علمت عنوانك ولاشك أنك تود الوقوف على خبر منها. مسكينة جان! إنها تحبك حتى الموت وتزدري العالم كله من أجلك. مضى عليها يومان وهي في غيبوبة لا تشعر معها بشيء وتراني جالسة إلى سريرها أذرف العبرات ولكنني أتجلد قدامها وأتعلل بالآمال. قلت لها أول البارحة إن الطبيب شديد الأمل بشفائك فابتسمت ابتسامة ازدراء وأدارت رأسها على
وسادتها كأنها تقول: أنا أخبر بنفسي من الطبيب حقاً لو تراها اليوم لأدهشك كم قد غيرها الزمان. ليتك تحضر وتشاهدها فلعل رؤيتك تعيد إليها شيئاً من الحياة. . .
(بقلم سليم عبد الأحد)
مدام ستايل
الحرب اليونانية العثمانية
موقعة دوموكوس
يوم 17 مايو (أيار) سنة 1897
عند الساعة الرابعة من صبيحة هذا النهار نبه البوق الجنود العثمانيين، فهبوا من رقادهم، وعكفوا على الصلاة، فكان لهم لغط في غدر ذلك الوادي(2/406)
الفسيح. ثم مالوا إلى القهوة فكانوا يشربونها، وهم يسرجون خيولهم ويتحدثون، فتبدل لغطهم حينئذ بضوضاء شديدة كان يخالطها ضجيج الفرح لشعورهم بأنهم كانوا يتأهبون في تلك الساعة للحرب والكفاح. أما أنا فسقت جوادي أريد اللحاق بفرقتي نشأت باشا وخيري باشا، لأني كنت قد عقدت النية على أن لا أصف إلا ما أراه بعيني، ولا أكتب إلا عن يقين.
وكانت إلى جانبنا الأيمن طريق دوموكوس التي كنت مزمعاً أن أسلكها مجتازاً في ختامها تلة غير مرتفعة لا يكترث لها. على أنه كان أمامنا في منحدر ذلك التل ممر وعر، ناشز الصخور،
كثير الثلوم كأن الفتى ... إذا زل يهوي على مبرد
وكان هذا الممر الضيق ينتهي من الجانب الآخر بفرسالا وهو أقرب الطرق إلى ذلك السهل، ولكنه ليس بالسبيل الوحيد إليه لأن(2/407)
هنالك طريقاً أخرى كان يمكننا أن نسلكها عن جانبنا الشمالي الأقصى وهي ممتدة من فاليستينون على مقربة من الشاطئ البحري إلى خالميروس من حيث تسهل مهاجمة دوموكوس ولكن من ورائها لا من أمامها مواجهة. وكانت خطة الجيش العثماني أن يسر نشأت باشا والحاج خيري باشا بكتيبتيهما الأولى والثانية في الطريق الأولى الوعرة فيهاجمان دوموكوس من الأمام، وأن يمشي ممدوح باشا وحقي باشا بفرقتيهما الثالثة والرابعة متتبعين الطريق الأخرى فيهاجمانها من الوراء بحيث يطوق العثمانيون دوموكوس ويلتفون حولها. أما أنا فاتبعت الفصيلتين الهاجمتين من الأمام!
وصعدنا إلى التل واجتزناه مسرعين حتى إذا دخلنا في الممر الضيق أبصرنا مسيل ماء ينحدر على الصخور الناتئة إلى وادٍ، بينا هو يتسع أمامنا إذا به يضيق كثيراً من الجنوب وقد اخضر زرعه وارتفعت فيه سنابل الشعير ارتفاعاً كثيراً عن الأرض كانت تظهر لنا في وسطه ومن خلاله قبالة أطرافه العالية، قرى كبيرة تحيط بها تلك السهول الخضراء
فتبين لنا كالجزر في البحر. ومشى جنود خيري ونشأت في وسط تلك الزروع فاستولوا على أقرب القرى بدون أن يتكبدوا خسارة ما. وكان رجال المدفعية يطلقون القنابل من خلال سنابل الشعير العالية فلم نكن نستطيع أن نعلم قوة تأثيرها في العدو إلا ساعة كانت تشب النار في مراميها ويصعد اللهيب إلى العلاء ويبين لنا دخان القرى المحترقة كعمود منتصب في الفضاء. أما اليونانيون فأخذوا يطلقون علينا مدافعهم ولكننا(2/408)
كنا نرى فرسانهم يحثون خيولهم هاربين مسرعين. ولم يكن يعبأ العثمانيون بنيران العدو بل كانوا يتقدمون إلى الأمام وهم لا يطلقون بنادقهم لأن قنابل مدافعهم كانت تكفل لهم وحدها هزيمة اليونان.
وكان هؤلاء قد تكاثر عددهم وتألبت جموعهم حينئذ، غير أن المدافع العثمانية أمطرتهم ناراً حامية فرأينا إحدى كتائبهم قد نكصت على أعقابها وارتدت إلى الوراء تريد الالتجاء إلى دوموكوس. فكان ذلك بدء انهزامهم لأننا ما لبثنا أن رأينا فرقهم تتشتت عن شمالنا، وتحرق القرى والدساكر في طريقها وهي فارة لا تلوي على شيء. وتصاعد لهيب النار حينئذ إلى عنان الجو، وتلبد الدخان في الفضاء فذعرت الطير في أوكارها، وروعت اللقالق في أعشاشها فكنا نراها هاربة خائفة تمر فوق رؤوسنا مرور السهام أطلقت عن القوس.
وكان العثمانيون يتقدمون بسرعة إلى مواقف العد حتى أصبحنا نرى الجيشين مرأى العين. وحينئذ انصلت الفرقتان العثمانيتان فمشت فرقة نشأت باشا بقدم ثابتة في وسط السهل إلى شبه تلة صخرية عالية، وسارت فرقة الحاج خيري باشا إلى الشمال. وكان اليونانيون قد تحصنوا خلف قمم من التراب أقاموها للاحتماء بها فأخذوا يطلقون نيرانهم من ورائها. ووقعت في تلك الساعة قنبلة على قيد خطوتين منا ولكنها لم تنفجر ولم تزحزح الكولونل بوي دلاتور رئيس البعثة السويسرية الحربية الذي كان واقفاً إلى جانبي فالتفت إلي وتبسم ابتساماً معنوياً، ثم تناول علبة طون من جرابه وأشار إلي فتقدمت منه واقتسمناها(2/409)
معاً. وهي منة له علي لن أنساها أبد الدهر. ثم صعدنا إلى التلة الصغيرة فأشرفنا منها على العسكريين وقد التقيا وجهاً لوجه. ولم تكن إلا دقائق قليلة حتى شبت بينهما نيران معركة طاحنة. وكنا نسمع في الوقت نفسه دوي البارود، ونرى تفجر القنابل من الجانب الآخر حيث كان قد سار خيري باشا برجاله.
ولما طال أمد المعركة وقد صمت آذاننا، وغشا الدخان عيوننا أبصرنا فريقاً من المشاة العثمانيين هاجماً على قلب العسكر اليوناني وقد أخذ اليونانيون يصوبون رصاصهم عليه وهو سائر غير مكترث. فما هي إلا هنيهة حتى تزحزح اليونان عن مراكزهم وارتدوا إلى الوراء. وكانت طلقات البنادق المتواصلة حينئذ أشبه بقرقعة الآلة الكاتبة تكتب عليها يد خفيفة رشيقة.
وحدقنا بأبصارنا إلى جهة اليونانيين فرأينا إحدى الفرق قد غادرت مركزها في القلب حيث هجم العثمانيون وولت الأدبار منهزمة إلى جهة دوموكوس. ولكن ضابطاً يونانياً خف إليها فردها إلى مواقفها.
أما فرقة الحاج خيري باشا فإننا لم نرها ولم نعرف أخبارها إلا حين صرنا نرى اليونانيين يفرون من قدامها إلى الجانب الأيسر المحاذي للتل الذي كنا واقفين عليه. فتحققنا حينئذ أن النصر تم أو كاد يتم للعثمانيين.
وفي تلك الساعة وصلت إلى ساحة القتال فرقتان لإنجاد العثمانيين أرسلهما أدهم باشا فانضمتا إلى خيري باشا وعززتا موقفه.
وأبصرت أدهم باشا حينئذ راكباً جواداً صغيراً هزيلاً وهو رجل(2/410)
ذكي الفؤاد رزين بارد الطبع، وقد تقدم منه أحد الضباط طالباً إليه أن يصدر أوامره بالهجوم على الأعداء ولكنه لم يجاوبه بل تبسم ثم التفت إلى ضابطين واقفين حذاءه فأسر إليهما كلمتين فهمنا بعدئذ معناهما إذ أبصرنا فرقتي ممدوح باشا وحقي باشا قد ظهرتا للعيان وأتمتا حركة الالتفاف حول دوموكوس.
وأصبح اليونانيون حينئذ تحت رحمة العثمانيين إذ طوقتهم هؤلاء من الجهات الأربع. فلما تبينا هذه الحقيقة تقدم الملحق العسكري الألماني من أدهم باشا وقال له: إنك تستطيع يا حضرة القائد أن توجد في هذا المكان معركة سيدان أخرى فإن اليونانيين كما ترى قد أخذوا في الشبكة ولن يستطيعوا الانفلات منها فسكت أدهم باشا ولم يكترث لما قيل له. فقلت في نفسي حينئذ أن هذه الحرب إنما تجمع بين السياسة والحرب معاً. فالعثمانيون كما يخيل إلي لا يريدون التمادي في القساوة والضغط على اليونانيين لكيلا يثور عليهم الرأي العام في أوروبا وإلا لكانوا قادرين أن يفعلوا أضعاف أضعاف ما فعلوه.
* * *
ولما أصبح الصباح التالي كان العثمانيون قد بلغوا منتهى آمالهم. وقد أشرفت طلائعهم على لاميا بلاد اليونان الحقيقية، ووطنهم الأصلي القديم. وكان الألبانيون أولئك الشجعان الصناديد لا يزالون يطلقون بنادقهم على العدو الذي كان قد ربط في رؤوس بنادقه المناديل البيضاء كأنما كان يريد أن يقول: رحماكم فإن الصلح قد تم.(2/411)
هكذا انقضت هذه المعركة، بل هكذا انقضت هذه الحرب التي لم تكن إلا أشبه شيء بمأساة تمثيلية مثلت سهول فرسالا آخر فصولها المحزنة.
بيار ميل
مكاتب جريدة الديبا الحربي
وبعد هذه التفاصيل المنقولة عن شاهد عياني نروي الأبيات الآتية لشوقي بك من قصيدته العصماء التي وصف فيها تلك الحرب أبلغ وصف، قال في الهزيمة:
ونادى منادٍ للهزيمة في الملا ... وإن منادي الترك يدنو ويقرب
فأعرض عن قواده الجند شارداً ... وعلمه قواده كيف يهرب
وطار الأهالي نافرين إلى الفلا ... مئين وآلافاً تهيم وتسرب
نجوا بالنفوس الذاهلات وما نجوا ... بغير يد صفر وأخرى تقلب
يسير على أشلاء والده الفتى ... وينسى هناك المرضع الأم والأدب
وتمضي السرايا واطئات بخيلها ... أرامل تبكي أو ثواكل تندب
فمن راجل تهوي السنون برجله ... ومن فارس تمشي النساء ويركب
يكادون من ذعر تفر ديارهم ... وتنجو الرواسي لو حواهن مشعب
يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرى ... ويقضهم بعض الأرض ويقضب
تكاد تمس الأرض مساً نعالهم ... ولو وجدوا سبلاً إلى الجو نكبوا
هزيمة من لا هازم يستحثه ... ولا طار يدعو لذاك ويوجب(2/412)
الأستاذ مرغليوث
الأستاذ مرغليوث إنكليزي ناطق بالضاد. . . فإنه مستشرق تضلع من العربية وملك عنانها. ولا بدع فإنه وقف عليها ذكاء خارقاً وعزيمة ماضية. فهو اليوم ملم بعلومها وآدابها إلماماً قلما تسنى لغيره من المستشرقين.
وهو يقيم في أكسفورد مدينة العلم وهي على نحو 60 ميلاً من لندرا، سكانها طلبة، ومخازنها مكاتب، وشوارعها حدائق. أهم مبانيها وأقدمها ثلاثة وعشرون هي صروح العلم منذ القرن الرابع عشر، إذ هي(2/413)
المباني المتفرقة هنا وهناك التي تتألف منها جامعة أكسفورد الشهيرة. وأستاذنا أستاذ العربية في هذه الجامعة.
زرته في بيته وخاطبته بالإنكليزية فرد علي بالعربية، وهو يتكلمها بكل طلاقة ويجيد الأسلوب العامي (الشامي والمصري) لأنه زار القطرين غير مرة ومكث فيهما مدة طويل. وهو معروف لدى جمهور من أدباء القطرين وعلمائهما وله منهم صفوة أخوان يجلهم ويجلونه.
وهو رجل على علو قدره وسمو مكانته في عالم الأدب متواضع لين الجانب، يمدحه عارفوه، وتعظمه أفعاله. وقد ذكره لي زميله أرنولد وقال: إنه فرد نادر الذكاء فقد كان يفوز بقصب السبق على أقرانه مدة تلمذته بطولها، وإنه لذو مقدرة غريبة في درس اللغات وإتقانها. فلتفتخر العربية بأن مثل ذكائه ومقدرته موقوفان عليها دون سائر اللغات الشرقية.
أما ما يجيئه الآن من خدمة هذه اللغة المظلومة فهو طبع كتاب معجم الأدباء لياقوت الرومي. فإن لديه النسخة الخطية الوحيدة من هذا الكتاب. وقد أراني الجزء الذي تم طبعه فرأيته حافلاً بالشروح والتفاسير التي تشهد له بسعة الإطلاع وطول الباع في علوم اللغة وآدابها.
وقد ظهر له مؤخراً كتاب جليل في الإسلام كنت قد طالعته قبل التشرف بمقابلته، فحدثتني نفسي بنقله إلى العربية لما وجدت في فصوله من الإحصاءات والحقائق التاريخية والأبحاث الفلسفية والسياسية مما يهم(2/414)
الإطلاع عليه كل متصدر للبحث والكتابة في الشؤون العربية والإسلامية على الإطلاق. وهو سفر مختصر بحث فيه عن ماضي الإسلام وحاضره من أوجه الدين والأمة والدولة جميعاً بحثاً دقيقاً متحاشياً فيه ذكر كل ما يحرج الإحساسات، ومقتصراً على إيراد الحقائق وإرداف النتائج بأسبابها.
وقد طلبت إليه أن يتحف الزهور برسمه الكري وبنفثة من يراعه العربي، فتفضل بقبول متمناي وبعث إلي إلى لندن بالرسم وقد وقع اسمع عليه بيده، وبالجملة التالية وقد كتبها بقلمه البليغ.
وديع البستاني
مذهب المستشرقين
ذكر صاحب الفخري في أخبار أمير المؤمنين عبد الملك أن مذهب المستعربين اخترع في عصره وهو يريد بهم رجالاً من الجانب اتخذوا اللغة العربية لغة وتزيوا بآداب العرب. قياساً على تلك الكلمة وضع في أيامنا اسم المستشرقين تسمية لمن ينتمي إلى علوم الشرق من أهل الغرب لا كالذين يشير إليهم المتنبي بقوله:
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
فإن فيهم أناساً لا يطعن في أهليتهم، وإنما تركوا جادة طريقة أصحابهم لأسباب نريد أن نبينها لمن ذهبت عنه أو خفيت عليه. فأول داعية دعت قوماً من علماء الإفرنج إلى اكتساب العلوم الشرقية هي الديانة. فإن التوراة أساس أسس عليه الدين المسيحي ولغتها الأصلية عبرانية تختص باليهود الذين مع حفظهم لكتابهم المقدس وتعبدهم بفروضه(2/415)
لم يهتدوا إلى تبويب وتدوين قواعدها وقوانينها إلا بعد توطئة نوابغ نحويي الإسلام للطريق. وبعد ما ألف سيبويه كتابه وجمع أبو عبيد غريبه ورتب الراغب مفرداته حملت بعض أساتذة اليهود الغيرة على الاقتداء بهم. وقد سهل ذلك عليهم ما بين اللغتين من التقارب والتشابه فلما استهل عند الإفرنج قمر المعارف صار لاهوتيوهم يأخذون من علماء اليهود تفسير التوراة. وبتقفية الآثار تدرجوا إلى الموارد العربية فأصبح كل من يرغب في الوقوف على حقائق معاني التوراة طالباً للعربية لا يستغني عن طرف منها. فالسبب الأصلي في تأسيس أستاذيات اللغة العربية عند الإفرنج هو ديني صرف أضيف إليه ما كان اشتهر من حذق أطباء العرب وحكمائهم ومنجميهم وأنه لم يزل عندهم متون أئمة اليونان القدماء وشروحها وكان طلبة الطب عندنا قبل 250 سنة يضطرون إلى حضور دروس مدرس العربية. ثم عندما بلغت حرية الأفكار ما بلغت وأنتجت علوم جديدة تنقر عن الإنسان من حيث هو إنسان وتبحث عن مصادر السياسات والأديان وتاريخ الممالك
والبلدان واختلاف الأنواع باختلاف الزمان والمكان لم يخف على المتبحرين في هذه العلوم اتساع الممالك الإسلامية وعظم ما تشتمل عليه من الموارد اللازمة لأشغالهم من آثار متواثرة وعوائد غير محل بها ومذاهب متشعبة وطرائق متفاوتة فازدادوا رغبة في الحصول على الآلات التي تمكنهم من الاكتشاف عن خفايا التاريخ وهؤلاء لابد لهم من الاستشراق.
- مرغليوث(2/416)
في حدائق العرب
الحرب
الحرب رحى ثفالها الصبر، وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، ونفاقها الأناة، وزمامها الحذر. ولكل شيء من هذه ثمرة: فثمرة الصبر التأييد، وثمرة المكر الظفر، وثمرة الاجتهاد التوفيق، وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال، ولكل زمان رجال، والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمر بن الخطاب لعمرو بن معدي كرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف، ثم أنشأ يقول:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل
وقال عنترة الفوارس: أول الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
وقال نصر بن سيار، صاحب خراسان، يصف مبتدأ الحرب:
أرى خلل الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها كلام
والعرب تقول: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني
ومن أقوالهم: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة.(2/417)
وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ - قال: ما سلمت من ذعر نبهني إلى حيلة، ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. - قال هشام: هذه والله البسالة.
وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقال المهلب لبيته: عليكم بالمكيدة في الحرب، فإنها أبلغ من النجدة.
وسئل أهل التمرين بالحرب: أي المكايد فيها أحزم؟ - قال: إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وأمانة الفرق، والاحتراس من المكايد الباطنة من
غير استقصار لمستنصح ولا استناد لمستفش، وإشغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذا غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصوا الشعر، والحظوا الناس شزراً وكلموهم رمزاً واطعنوهم وخزاً.
وكان أبو مسلم يقول لوقاده: أشعروا قلوبكم الجرأة، فإنها من أسباب الظفر. وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تعبث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وكانوا يتمادحون بالموت قطعاً، ويتهاجون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه. ولما بلغ عبد الله بن الزبير مقتل أخيه قال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً ولكن قطعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف، ومن ذلك قول السموأل: وما مات منا سيد حتف أنفه.(2/418)
في رياض الشعر
أمين بك ناصر الدين
رئيس تحرير جريدة الصفاء
صاحب هذا الرسم هو صاحب تلك القصائد الجميلة التي نشرتها الزهور في بعض أعدادها السابقة، والتي ما برحت تنشر منها إلى اليوم ما توقفت إليه. وهو الشاعر الذي قلنا عنه يوم نقلنا لقرائنا قصيدته شاعر يناجي صورة إنه معروف في سورية ولبنان ومجهول في مصر،(2/419)
ووعدنا حينئذ بتمثيل رسمه على إحدى صفحات الزهور لنجمع بين صورتيه المعنوية والشخصية. ولقد سرنا أن فريقاً كبيراً من الأدباء أعجب بشعر هذا الشاعر المجيد، وهو ما توقعناه من قبل، فكتب إلينا يسألنا عنه، ويلح علينا بنشر ترجمته إلى جانب رسمه، فخاطبناه في ذلك فبعث إلينا حضرته بالكلمة التالية فلم نر خيراً من نشرها كما هي. قال:
طلبت إلي كلمة تعرفني إلى القراء. فإن أردت تلك الكلمة عن منتماي فهو إلى الشيخ بدر الدين الذي كانت بينه وبين الأمراء المعنيين صلة قربة. وهذا الجد الأعلى رزقه الله عده أبناء منهم ناصر الدين الذي نسبت إليه أسرتنا. كان بدر الدين يقطن عين داره وتوفاه الله فيها وبها قبره إلى الآن. ثم طرأت بعد موته حوادث صدعت شمل أبنائه فانتحى كل منهم ناحية. وكان إن اتخذ ناصر الدين كفر متى وطناً له.
وإن أردتها عن مولدي فقد كان في شهر محرم الحرام من سنة 1297 هجرية. فعمري الآن اثنتان وثلاثون سنة. وأشهر حوادث حداثتي أني كنت أقول أبياتاً من الشعر قبل أن تعلمت القراءة والخط فكان والدي يكتبها لي، ويصحح لغتها دون وزنها. ومرة بعثت إلى المرحوم الخليل خليل اليازجي، وكان مصطافاً في عبيه، ببيتين من شعري الصبياني فسر بهما كثيراً وأجابني عليهما بهذه الأبيات:
أنت الصغير الكبير النفس منتسباً ... بها لأسلافك الشم العرانين(2/420)
هلال سعد نرجي منه بدر سناً ... يلوح في أفق باليمن مقرون
غالبت فن القريض المستطاب وقد ... غلبته بانتصار منك ميمون
منه لك الأمن والنصر المبين ولا ... بدع فأنت أمين ناصر الدين
ولم تزل الرقعة المكتوبة فيها هذه الأبيات محفوظة عندي وهي بخط الناظم رحمه الله.
وبعد أن تعلمت القراءة والخط درست مبادئ النحو والصرف والبيان والبديع والعروض على بعض الأساتذة ثم عكفت على المطالعة، واستظهرت من أقوال البلغاء، وخصوصاً الشعراء منهم ما يصح أن أقول إنه كثير.
وفي سنة 1899 ميلادية أعدت نشر جريدة الصفاء وذلك أول عهدي بالصحافة فحررت فيها نحو أربعة أعوام مع تدريس اللغة العربية في مدرسة عبيه الداودية. ثم أسس والدي مدرسة المعارف في عام 1905 فتسلمت إدارتها مع تدريس العربية فيها ولم أكن أنفك عن المطالعة.
وفي سنة 1908 أعدت نشر جريدة الصفاء ولا أزال أكتب فيها إلى الآن.
* * *
هذه كلمة الشاعر عن نفسه. أما كلمتنا عنه فقد أغنانا عن قولها ما نشرناه لحضرته من القصائد الرائقة في ما مر، ونحن على يقين أن قراء الزهور قد قدروها قدرها، وأنزلوها المنزلة التي تستحقها بين جيد الشعر وأطايبه. وإن في النفثة التي نحن ناشروها له اليوم ما يصح أن يكون دليلاً ساطعاً على فضله وأدبه:(2/421)
صدى اليأس
آثر الدهر أن أعيش كئيباً ... بين قومي وفي بلادي غريبا
تنتحي قلبي الهموم دراكاً ... وإلي الخطوب تزجي الخطوبا
حسب الدهر أنني من جماد ... فرماني بالنائبات ضروبا
غير أن الازدراء ما أفقدتني ... جلداً راسخاً وعوداً صليبا
* * *
ضاع رأيي في من رأى حين أمست ... ألسن الناس لا تطيع القلوبا
تارةً أحسب الحبيب بغيضاً ... وزماناً أرى البغيض حبيبا
كم رأيت ابتسامة فوق ثغرٍ ... ثم عادت من بعد ذاك قطوبا
ولكم بت راضياً عن أناس ... حين أصبحت غادروني غضوبا
ولكم قد وثقت بالبعض لكن ... قد أبى الخبر أن أكون مصيبا
ينتحيني الأنام من غير داع ... ومتى أدع لا ألاق مجيبا
يحسبون الجميل أسوأ صنعٍ ... والسجايا المكملات عيوبا
* * *
ود غيري دوام عصر شبابٍ ... بينما جئت استحث المشيبا
حبذا الشيب في دجى الشعر صبحاً ... منبئاً أن للحياة غروبا
لا تظنن أن في العيش طيباً ... ضل من ظن في الخبائث طيبا
وكفى بالشقاء طلق لسان ... عن خطوب الحياة قام خطيبا
* * *
أرقب النجم في الدياجي وما من=وله بت للنجوم رقيبا
غير أني أرى لهن خفوقاً ... كفؤاد يحيي الظلام طروبا
ويزيد النسيم قلبي حراً ... مثل نار بالريح زادت لهيبا(2/422)
وإذا ما رأيت إشراق شمسٍ ... قلت يا ليته يعود مغيبا
إن ستر الظلام يحجب عني ... كل شيء أريده محجوبا
* * *
يا هزار الأراك إنك أوفى ... في الملذات من سواك نصيبا
أنت تشدو على الغصون سروراً ... وأنا أجعل القريض نحيبا
أنت تبغي البقاء في ظل دوحٍ ... وأنا أبتغي الفناء القريبا
لك في الطير أوفياء وأني ... لم أجد في الأنام إلا مريبا
يا هزار الأراك لو كنت مثلي ... لاستحال الصداح منك نعيبا
ليس من طبعي الكآبة لكن ... آثر الدهر أن أعيش كئيبا
أمين ناصر الدين
حقائق
سألتك يا رب بالأنبياء ... وبالمصطفين وبالأتقياء
وبالمنزلات وبالمعجزات ... وبالأرض والبحر ثم السماء
تمن علي بصبر جميل ... إذا المرء ضاق عليه الفضاء
فكم قد صبرت على ما ألاقي ... فلم يجدني الصبر غير العناء
تمنيت لو لم تلدني الولود ... جزاها المهيمن خير الجزاء
تمنيت لو ثكلتني رضيعاً ... فلم أتغذ بهذا الهواء
أرى نفساً كان خيراً لها ال ... قتل تعلو علواً رفيع البناء
وأخرى لها شيم المرسلين ... تضام وقد نال منها العياء
أرى جاهلاً يتخطى الرقاب ... أرى عالماً نال منه الشقاء
أرى الصدق في النزع والصادقين ... تولى عذابهمو الأدعياء(2/423)
أرى الناس بعضاً لبعض عدواً ... نسوا أنهم خلقوا للفناء
تراه تظن الصديق الحميم ... وإن رحت فهو شديد العداء
وتلقاه يقسم بابن البتول ... ونسل الذبيح وحق الولاء
بأن عرى الود حبل متين ... غدائره من خيوط الإخاء
أدر شطر وجهك عنه قليلاً ... يقطع حبال الأخا والرجاء
تباركت يا رب هذي الذئاب ... أضر على الناس من وطأة الداء
عقارب تلدغ من يلتقيها ... أفاع تعض فكيف الشفاء
إذا كان يرضيك هذا فزدنا ... وإلا فعجل بمنح الدواء
فإني وحقك أقسم صدقاً ... بأن الفساد سرى في الدماء
وإنا نرى اللؤم رأي العيان ... ونلمس بالكف جسم الرياء
عطبره (السودان)
محمد فاضل
الشرق والغرب
أيه يا برق العدى كن خلباً ... أوشك المشرق يحكي المغربا
غلبته في قواه خدعة ... فاحذروا كيد قوي غلبا
يتسامى للعلا لا راهباً ... فإذا صادف موتاً ركبا
حولوا أن تحجب الشمس به ... ليتهم ما حاولوا أن تحجبا
كلما مدوا إليها طنبا ... قربوا للنار ذاك الطنبا
رب شعب أيقظته رقة ... فرأى الراحة كانت تعبا
در در الجهل والنوم معاً ... أعقبا بعدهما ما أعقبا
رب طير أسقطته ذروة ... فسما عنها فكانت سببا
يا نفوساً في ربى النيل رأت ... عزها في عز هاتيك الربى(2/424)
رائحات كل يوم برضى ... غاديات كل يوم بنبا
كلما طار صدى ما بينها ... أهب الناس إليه موكبا
يا أوليها ذلل الله لكم ... من أساليب المنى ما صعبا
كلأ الله رجالاً كلأوا ... أرضهم حتى قضوا ما وجبا
سطروا ما أضمروا في صفحة ... أعجبوا فيها فكانت أعجبا
حاول الجبار أن يقرأها ... فرأى في كل حرف عقربا
فبكى كالطفل عيناً وفماً ... وطواها فضحكنا عجبا
ويك يا غرب اتق الشرق فلم ... تحتمل غيظ حليم غضبا
قوة كالنار لو جاوزها ... نفس المطفئ زادت لهبا
أو كأمواه ترامت من عل ... كلما صودرن زادت صببا
لا وأيم الله ما كانت وهت ... رب ذي بأس تواهى رغبا
كم قلوب يتمارضن هوى ... لتى من قد سلا ممن صبا
ضيعة كانت فولت فانثنت ... كم ضياع رد لما سلبا
في يمين الشرق تجري زبدا ... ويمين الغرب تجري ذهبا
فاتحات الخير باسم الله ما ... شاء لا يسأل عما وهبا
أخلق الناس بنعمى ربه ... مخلص لله فيما طلبا
* * *
يا رجالاً لفتوا الدهر لهم ... فمتى أملوا عليه كتبا
رب قول في دم المرء جرى ... وحسام في يد المرء نبا
لا سقى الغيث ثرى مصر إذا ... هو لم ينبت رجالاً نجبا
أنفساً طابوا وقروا أعينا ... وعلا زادوا وطالوا حسبا
عبد الحليم المصري(2/425)
أين فؤاده
أهذا الذي جنب الحشا اسمه القلب ... أم القلب حيث الصب مهجته تصبو؟
وذاك الذي سماه أهل الهوى جوى ... أهذا الذي لا تستقر به جنب؟
وتلك السيوف الناقمات على الحشا ... أم المقبلة النجلاء أرهفها الهدب؟
إذا سئل الإنسان أين فؤاده ... فأي جواب للذي ما له قلب؟
رشيد نخلة
الفل
زانت الرأس بفل ... هو بالرأس تحلى
ما رأت قبلك عيني ... وردة تحمل فلا
خليل مطران
أصابح العاج
ليس أبيانو الذي باتت تكهربه ... يداك أطوع من قلبي وأفكاري
لمسته فتمشى السحر بي فكما ... تهتز أوتاره تهتز أوتاري
أصابع العاج هذي تلعبين بها ... أم تلعبين بأسماعٍ وأبصار
الدكتور نقولا فياض
دمعتان متشابهتان
رأيت كتابها فقرأت فيه ... شكايات ألذ من الثناء
فقلت فؤادها يحكي فؤادي ... لذاك بكاؤها يحي بكائي
ولي الدين يكن(2/426)
حلب الشهباء
موقعها - قدمها - أصل اسمها
ما نحن من يصف قدرها الخطير ومحلها الأثير أو يطنب في بسيطها المشهور وما تجده النفس فيه من الانبساط والسرور ولا من يتغزل بظلها الضافي ومائها الصافي وسعدها الوافي وانوارها المشرقة وأزهارها المونقة وأشجارها المثمرة المورقة. ولا من يقف على أطلالها فيندب كبار رجالها ويبكي منازلها وديارها وينعي سكانها وعمارها. ولا بالنتيجة من يجدها من (الشام) الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين. إلى ما أشبه هذه من ألفاظ مبتذلة وفواصل باردة وقفت عندها البدائه فلاكتها الألسن وتداولتها الأقلام دهراً طويلاً فما زادت هذه المدينة تعريفاً ولا أجدت في حقيقة حالها شيئاً مذكوراً.
وإنما نضرب عن ذلك كله لقلة فائدته إلى أن حلب مدينة عهيدة دالت بها الأحوال والدول بين العزة والذل والقوة والضعف والرفعة والانحطاط شأن سائر بدلا الله العديدة فكان لها في غالب الأحيان من الأسباب والوسائل ما تدرجت معه في مراقي العمران والحضارة وأصابت(2/427)
من زمن بعيد من الخطورة والأهمية ما جعلها من أمهات البلاد السورية على ما هو مقرر بالإجماع.
وجل ما نذكره في هذه النبذة موقعها وقدمها وشعوبها ومشاهيرها ومرافقها وما يتصل بها من أحوالها مستندين فيها إلى أوثق المصادر وأثبت الآثار فعسى أن تصادف قبولاً عند القراء الكرام.
إن حلب واقعة في جوف بعيد الأكناف والأطراف في جهة سورية الشمالية وتبعد عن البحر المتوسط 70 ميلاً أو 150 كيلومتراً وهي في درجة 25 َ 11 36 ْ من العرض و 9 َ 37 ْ من الطول الشرقي على ما قاله فانديك في مرآته الوضية.
تتوسد جوفها المطمئن إلى رياض وبساتين نضرة وسهول واسعة خصيبة يكتنفها ربى وتلال مجدبة قاحلة كما هو الغالب في جبال سورية ويجري إلى جانبها نهر قويق الذي دعاه كزينوفون (خالسن) ويعزى الآن إلى قويق آغا الذي أصلحه وكان يلقبه أهل الخلاعة (بأبي الحسن).
ولا تبدو حلب للمسافر إلا عن كثب فيراها متراصة مركومة بعضها فوق بعض. وأول ما يشاهده منها قلعتها المشهورة ومناور جوامعها ومآذن مساجدها وقباب كنائسها العظيمة
ومنازلها الكبيرة وبين شبهة أبنيتها وخضرة بساتينها وحمرة رباها مشاهد رائعة ومناظر فاتنة تدهش الأبصار وتأخذ بمجامع القلوب.
وكانت المدينة محاطة بالأسوار فلا يؤذن في البناء خارجاً عنها حتى ضاقت على أهلها في أواخر القرن الثالث عشر فشرعوا يشيدون من(2/428)
حولها حارات بانقوسا والأكراد والهزازة والجديدة والمشارقة والكلاسة وما أشبه. وفي أواخر العصر الماضي اخذوا يبنون أيضاً أحياء الجميلية والعزيزية والتلل والسليمانية والنيال والحميدية وما يتصل بها حتى كاد البنيان الحديث يعادل القديم.
وأما حاراتها القديمة فحسنة على الجملة وأسواقها مرصوفة وأزقتها ضيقة وبيوتها مبنية من الحجر الأبيض وتشابه دور دمشق وأما أحياؤها الحديثة فبالغة حد الإتقان وأبنيتها متقنة الهندسة وشوارعها مرصوفة الجوانب على طرز المدن المستحدثة وأطول طرقها وأوسعها طريق الخندق الذي مده رئيف باشا من دار الحكومة إلى محلة الجميلية.
وشرب أهلها من آبار نابعة ومن صهاريج تجتمع فيها مياه الأمطار ومن قناتها التي تجري إليها من جيلان على مسافة ثلاث ساعات شمالاً وتتفرع في القني إلى الدور والمساجد والخانات والحمامات والقساطل ويقال إن هيلانة أم قسطنطين الكبير هي التي جرتها إلى الكنيسة العظمى فعرفت بها ولا ريب في أن ماء حلب عذب فرات.
وشتاؤها معتدل تشتد نوافحه في شهري كانون الأول والثاني وتكثر فيهما الأمطار والثلوج وأما صيفها فليست وغرته بمفرطة ولو تصاعد فيها إلى ال 40 درجة من المقياس المئوي وذلك لنشف هوائها وهبوب الريح الغربية عليها في حمارة قيظها فتلطف أوارها وترطب هواءها في معظم ساعات النهار. ولهذا ترى حلب طيبة السكنى معتدلة الجو تصح به الأجسام.(2/429)
ولكن لابد لأهلها دائماً وللغرباء نادراً من ظهور بثرة أو خراجة تسمى حبة حلب أو حبة السنة لا تبرأ قبل سنة من ظهورها وليس لها علاج خصوصي يعول عليه في معالجتها. وقيل إن سببها من الماء وقيل بل إنه من المناخ أو الهوام لأنها لا تظهر إلا في المحال المكشوفة من البدن كالوجه واليدين والرجلين وهي توجد أيضاً في عين تاب وعلى شطوط الفرات إلى بغداد.
وهي المدينة السورية الوحيدة التي حافظت على مزاياها الشرقية البحتة من حيث البناء والعيش وعادات السكان وجودة الطباع إلى أشباهها مما فقد من غالب البلاد السورية فلا عجب إن راقت هذه المدينة في أعين السياح لأنها تذكرهم في القرن العشرين بمزايا المدن الكبرى التي عمرها العرب.
قال كتبة العرب: إن اسم حلب عربي لاشك فيه وهو لقب لتل القلة. فكان إبراهيم (عم) إذا أشمل من الأرض المقدسة ينتهي إلى هذا التل. . . فكان يأمر الرعاة بحلب ما معهم طرفي النهار. . . يتصدق به على الضعفاء والمساكين فينادي الضعفاء: (إبراهيم حلب إبراهيم حلب) فيبادرون إليه. وغلبت هذه اللفظة لطول الزمان على التل كما غلب غيرها من الأسماء على ما هو مسمى به فصار علماً بالغلبة.
وأول من تنبه لهذا الوهم ياقوت الحموي فقال: وهذا فيه نظر(2/430)
لأن إبراهيم (عم) وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عرباً. إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل (عم) وقحطان. . . فإن كان لهذه اللفظة أعني حلب أصل في العبرانية أو السريانية جاز ذلك لأن كثيراً من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: (كهنم في جهنم).
والصواب أنها (حلبون) بتر العرب علامة الأعراب من ىخرها فصارت (حلب) كما فعلوا بإنجيل من أونجيليون وبطريق من بطريقيوس وبطرك من بطريركا أو فطريركيس وما أشبه. قال السيد يوسف داود إنها سريانية معنى (الخصوبة أو الصفوة) وأثبت الأب انستاس الكرملي أنها سامية الأصل بمقتضى الاشتقاق اللغوي ومعناها (المدينة الخصبة الأرض المكتنزة التراب الدسمته العلكته) وصار الأديب يوسف إليان سركيس إلى أن أصل اسمها آرامي ومعناه (اللبن أو البياض) وعندي أنه لا ينجلي أصل اسمها ومعناه إلا بعد الكشف عن كتابات الحيثيين وآثارهم.
وحلب قديمة العهد رقاها مؤرخو العرب إلى زمن ارتحال إبراهيم من أرد وحران إلى أرض كنعان على ما يظهر من الرواية السابق ذكرها وذهب كثير من المؤرخين إلى انها حلبون التي ذكرها حزقيال وكالبون الذي ذكرها استرابون وبتولماي. وقال بعض أهل التحقيق والسياحة بل هذه حلبون إحدى قرى دمشق المشهورة بخمرها وزعم(2/431)
ابن العربي أن بانيها بتحوس ملك آشور ووهم قوم أن بانيها نمرود أول ملوك بابل وكل هذا يقتضي له
من إعمال النظر وما لا يسعه صدر هذه المقالة.
وما لا شبهة فيه إن حلب كانت مدينة عامرة في المئة الرابعة عشرة قبل الميلاد كما يظهر من كتابة مصرية ترتقي إلى عهد رعمسيس الثاني من الدولة التاسعة عشرة وصف فيها عامل مصري رحلته إلى شمالي سورية وذكر في أثنائها (خلبو) أي حلب مرات. وقد نظر هذه الرحلة شباس العالم معلقاً عليها بعض الشروح.
ولا يمتري أحد الآن فيما يرجحه الأكثرون من أن بناة حلب هم الحثيون الشماليون وقد كانوا شعباً قوياً نشيطاً نزلوا على سورية الشمالية فعمروها وتغلغلوا في أطرافها في هد فتوحات ملوك مصر الفراعنة التي توالت على سورية من القرن السابع عشر إلى الرابع عشر قبل المسيح وما تركه هؤلاء الحثيون من الكتابات والآثار والرسوم في نواحي حلب وحمص وحماه أسطع دليل على ذلك الترجيح.
ولما غشى رعمسيس الثاني سورية بجحافله الجرارة لقتال موتنار ملك الحثيين بسبب نقضه شروط المحالفة التي عقدها مع سلفه ساتي الأول كان ملك خلبو (حلب) إلى جانب موتنار وتحت قيادته ثمانية عشر ألف جندي فجرت واقعة هائلة على أسوار قادس دارت فيها الدوائر على الحثيين فتفرقت صفوفهم طرائق وهرب موتنار وغرق ملك حلب في جملة من غرقوا في نهر العاصي وفي صورة هذه الواقعة المنقوشة على هيكل الأقصر(2/432)
يرى ملك حلب مستخرجاً من النهر ومعلقاً برجليه يتدفق من فيه ما كان يظن أنه ابتلعه من الماء.
القس جرجس منش
المعلوم والمجهول
صدر منذ عامين الجزء الأول من هذا الكتاب لمؤلفه الكاتب والشاعر الشهير ولي الدين بك يكن، فكان له رواج كبير بين القراء. ثم فرغ حضرته الآن من وضع الجزء الثاني من هذا المؤلف وهو صادر بعد بضعة أيام من مطبعة المعارف. وتيسر لنا أن نطالعه فنقدم لقراء الزهور شيئاً منه قبل سواهم فاقتطفنا منه وداع المؤلف للأستانة وذكر سفره منها يوم نفي إلى سيواس:
يممت فروق مدعواً ونزحت عنها مجفواً. فلا الدعوة أبطرتني ولا الجفوة كفرتني. ومازلت من لدن وطئت مهادها وعللت أنهارها وشممت طيبها ورعيت كواكبها صادق الود. مخلصاً في السر والجهر. وما فروق إلا وطن ميلادي استهلت فيها حياتي ونما في أرضها عودي. بذلت لها روحي ولا أمن بها ومنحتها آمالي ولا أدل بها. وكانت شقوة فغلبت على أمري، ونزعت عنها نزوع الصب عن موطن صبابته. . .
على ظهر قصر سابح. في لجج البسفور. بي شطي أوروبا وآسيا. من الوطن المحبب إلى غاية مجهولة. فراق أهل وولد. من غير توديع ولا تسليم. كل ذلك تحت ليل كأنه ظل الشقاء وسماء كخاطر الواله. في حيث تتراءى تفاريق نور على البيوت كبسمات أرواح المظلومين من وراء حجب الوجود. لقد كنت شاعراً في ظلمك يا عبد الحميد. . .(2/433)
وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما. شطي آسيا وأوروبا. يتناغيان بالمصابيح. عاشقان عليهما الأقدار بالتلاقي. مرننا بهما أم مرّا بنا. لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقة. نشرت فانطوت. زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم. فرائيها متخيل وعارفها متوهم. ما شك ناظر إلى السماء وإليها أن تلك كواكب سقطت عليها. عهدي بها في حاليتها. بينا هي عرين إذا بها كناس. يخالط فيها كل زئير ليث عندليب. تتجاور بها مسارح آرام ومصارع كرام. تسقى من ماء معين ومن دم مهراق. تطالعها وجوه ضاحكة وأخرى مجهشة. تقسمتها مواسم الصبا فهي تارة مشتى وآونة مصيف وحيناً مربع. جنة يحرسها حارس جهنم. فتنتني يوم لقائها وتوشك أن تفضحني يوم فراقها. فروق يا ظلوم. خذي روحي فما هبطت علي إلا فيك واسترجعي من أنحاء الفضاء متفرقات أنفاسي. أنت أولى بحسراتي منه. استبقي لي خاطراً أحييك به وشعراً أنوح به عند فراقك يا نعيمي الماضي وشقائي الحاضر. ألا يضطرب ماء هذا
الخليج مجاراة لجوانحي. وددت لو أن ارتطم عبابه وترامت أمواجه وأغرقتنا قبل أن نجتاز ربوعك. كان بك مهدي. وأريد أن يكون بك لحدي. هنيئاً يومئذ لحوتك ونونك ما أبقت الأيام من لحم على وضم. ولتتصرف رياحك بأخريات أنفاسي ولترن في أرجائك نوحاتي. الوداع الوداع يا فروق. وسلام الله عليك وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد. مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منك ليلاً لأراك في ثوب حدادك.(2/434)
أمن أجلي كل هذا. كلا. بل حدادك على أختك الغزالة. أنا أضيع فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرة من ذراتك ضلت بين ثنيات الأثير. . .
ولي الدين يكن
أزهار وأشواك
إقرار ومتاب
هذا هو عنوان القصيدة التي أشرت إليها في العدد الماضي أثناء ما رويته عن الحفلة الجميلة التي أقيمت في منزل صديقي سليم سركيس إكراماً لصديقته السيدة نجلا صباغ. فزت بها لأتحف قرائي بعذوبة نظمها وأطربهم ببديع معانيها، وقد شاء خليل مطران منضد دررها أن يخصني بها وهي خير ما أقدمه لقراء الزهور في هذا الشهر. قال خليل متذكراً وما أجمل تذكاراته:
هل تذكرين ونحن طفلان ... عهداً بزحلة ذكره غنم
إذ يلتقي في الكرم ظلان ... يتضاحكان وتأنس الكرم؟
هل تذكرين بلاءنا الحسنا ... حين اقتطاف أطايب العنب
نعطي ابتساماتٍ بها ثمنا ... وبنا كنشوتها من الطرب؟
عنب زحلة يساوي كثيراً على أن الشاعر لم يدفع به ثمناً بخساً
هل تذكرين غداة نخطر عن ... ملكين حفّا بالمسرات
بين السماوات النواضر من ... عليا ودنيا والثريات؟(2/435)
والنهر. . . هل هو لا يزال كما ... كنا لذاك العهد نألفه
يسقي الغياض زلاله الشيما ... ويزيد بهجتها تعطفه
ينصب مصطخباً على الصخر ... ويسير معتدلاً ومنعرجا
يطغي حيال السد أو يجري ... متضايقاً آناً ومنفرجا
متخللاً خضر البساتين ... متهللاً لتحية الشجر
متضاحكاص ضحك المجانين ... لملاعب النسمات والزهر
واهاً لذاك النهر خلّف لي ... عطشاً مذيباً بعد مصدره
يا طالما أوردته أملي ... وسقيت وهمي من تصوره
بورك في هذا النهر الذي ينفخ هذه الروح في وارد مياهه العذبة ولا عجب فهو البردوني الشهير
تمتد أيام الفراق وبي ... ظمائي لذاك المنهل الشافي
وبمسمعي لهديره اللجب=وبناظري لجماله الصافي
تلك المعاهد بدلت خطلا ... بمعاهد مدنية الزين
كانت غواني فاغتدت بحلى ... القت عليها شبهة الزمن
الدهر أغلب وهو غيرها ... وكذاك كانت شيمة الدهر
لو أدرك الجنات صيرها ... من حسن فطرتها إلى نكر
ما أنس لا أنس العقيق وقد ... جزناه بعد السيل نفترج
كان الربيع وكان يوم أحد ... ومسيرنا متمعج زلج
ونبيهة الكبرى ترافقنا ... مجهودة ضجت من التعب
ولها صويحبة توافقنا ... حسناء كل الحسن في أدب(2/436)
ضحاكة كالنور في الزهر ... رقاصة كالغصن في الوادي
كرارة كنسيمة السحر ... ثرثارة كالطائرة الشادي
لا أعرف شدواً أحسن من شدو خليل حينما تضرب الذكرى على أوتار قلبه
صنعت بقلبي صنعها فإذا ... هو ينكر القربى ويجحدها
ترك الهوى الأهلي واتخذا ... تلك الغريبة عنه يعبدها
وكذاك قلب الطفل يلتفت ... إن يلف حباً غير ما ألفا
كالطائر البيتي ينفلت ... تبعاً لسانحة بها شغفا
حسن تملكني فأدبني ... ما شاء في قولي وفي فعلي
وبمثل لمح الطرف أكسبني ... خلقاً وعلمني على جهلي
أكرم بالجمال إذا كان يكسب مثل هذا الأدب
أوحى إلي دَداً أجربه ... في آية فطنة وَدَدِ
فجمعت صلصالاً أركبه ... وصنعت تمثالاً لها بيدي
قلم خليل في الوصف يفوق قلم أبرع المصورين فلا بدع إذا جاء هذا التمثال الرامز إلى الحب آية في الجمال.
صورت شبه الفرخ في وكر ... من غير سبق لي بتصوير
فأتى على ما شاءه فكري ... ورضيت عن خلقي وتقديري
ما كان ذاك الفرخ معجزة ... فتانة الإتقان والحسن
كلا ولم أجعله معجزة ... لكفاءة الحذاق في الفن
فلرب عين فيه لم تكن ... في الحق غير مظنة العين
ومظلة للزغب لم تبن ... حتى ولا ريش الجناحين(2/437)
ولعل ذاك العش لم تفر ... فيه شروط الوضع والنقش
لكن على حلم من النظر ... تستام فيه معالم العش
رسم على تلك العيوب بدا ... لحبيبتي من أعجب العجب
فتناولته برقةٍ وغدا ... بين الصواحب أنفس اللعب
أمحيري الأحلام بالهرم ... وبناة بابل فتنة الحقب
ومهندسي اليونان من قدم ... والفرس والرومان والعرب
ومشيدي بغداد والجسر ... وممصري الأمصار للبدو
ومزخرفي الحمراء والقصر ... حيث انتهى بهم مدى الغزو
أي رافئيل المبدع الصورا ... أي ميكلنج الناقش الباني
أي كل فانٍ تاركٍ أثراً ... من طابع التخليد في فان
لا تستعز بكم روائعكم ... ممدوحة في الشرق والغرب
أترون كم صغرت صنائعكم ... في جنب ما صنعت يدا حبي
بدليل أن حبيبتي فرحت ... بهديتي وقضت لها عجباً
ومضت تداعبها وما اقترحت ... شيئاً يتم لها بها إربا
يوم تقضّى والفراق تلا ... سرعان ما وافى وما انصرما
بهوى تولد فيه واكتهلا ... في ساعتيه وشاخ وانعدما
ولى وأبقى في دجى الماضي ... شفقاً بعيداً واضح الأثر
كم اجتليه وراء أنقاض ... وأقول يا أسفي على سحر
هذه حكاية حالة عبرت ... واستغرقت في لجة المحن
ما زلت أنقذ كل ما ذكرت ... قطعاً طفت منها على الزمن(2/438)
فإذا صفاء النفس عاودني ... وأقرني فوق التباريح
دال الهوى الأهلي من حزني ... وبقيتما ريحانتي روحي
لا مجال اليوم للأشواك مع هذه الزهرة الزهراء، فإلى العدد القادم.
حاصد
سمو الأمير ضياء الدين افندي أكبر أنجال جلالة السلطان وقد قدم إلى القطر المصري لتحية جلالة ملك وملكة الأنكليز في سفرهما إلى الهند(2/439)
رواية الشهر
القطار الضائع
في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890، وقف رجل في محطة سكة حديد لندن والنواحي الغربية الوسطى في ليفربول، وطلب أن يرى مستر جايمس بلاند ناظر تلك المحطة. وكان هذا الرجل كهلاً أسمر اللون، قصير القامة، محدودب الظهر، كأن في عموده الفقري تقوساً أصلياً. وكان يرافقه رجل مهيب تدل ملامحه على أنه إسباني الجنس، أو أمريكي من اهالي أمريكا الجنوبية. وهو متأبط محفظة صغيرة من الجلد الأسود مشدودة إلى يده اليسرى بسيرٍ قد انطبقت عليه قبضته بحرصٍ شديد.
ولما مثل الأقوس بحضرة مستر بلاند تسمى قائلاً: أنا لويس كاراتال. وقد وصلت الساعة آتياً من أحد ثغور أمريكا الوسطى، وقاصداً إلى باريس حيث تستدعيني أشغال عظيمة الأهمية جداً. ولقد ساءني كثيراً أنني لم أدرك قطا الإكسبريس الذي سافر منذ هنيهةٍ إلى لندن. وليس في طاقتي أن أتربص ريثما يسافر القطار الآخر لأن كل ساعة أقضيها بعيداً عن باريس تكون بمثابة قضاءٍ مبرم على أعمال وآمالي. لهذا أود السفر في قطارٍ خاص بي وحدي غير مكترث للمال الذي يجب علي بذله في هذا السبيل.
فأمر مستر بلاند بأن تعد قاطرة خصوصية، وبأن تربط بها عربة للفحم، وعربتان، إحداهما تحتوي على قس معد للجلوس فيه، وقسم يعرف بغرفة التدخين والأخرى لا معنى لها سوى تخفيف ارتجاج العربة الأولى. فدخل لويس كاراتال ورفيقه الذي لم يعرف أحد اسمه إلى الأولى وبقيت الثانية خالية خاوية.
ولم يكد يعود مستر بلاند إلى مكتبه حتى وقف بين يديه رجل يدعى مستر(2/440)
هوراس مور وطلب منه بإلحاح ما طلبه وفاز به من قبل مسيو لويس كاراتال ورفيقه. قال أن مرضاً فجائياً أصاب زوجته في لندن، وأنه يخشى عليها كثيراً. فسفره لازم لازب لأن أموراً عائلية متوقفة على أن يدرك زوجته قبل وفاتها فإن هي ماتت قبل أن يراها جرت معها إلى القبر مستقبل عائلةٍ بأسرها.
فقال مستر بلاند إن القانون يحظر عليه أن يسير قطاري خصوصين على خطٍّ واحد في زمان واحد. على أنه لا يرى مانعاً من السعي مع مسيو كاراتال فلعله يسمح بأن يشرك
آخر معه في قطاره الخاص. وفيل لمسيو كاراتال في ذلك فأبى كل الإباء. وحاول بعضهم أن يقنعه ولكنه أصر على الرفض متشبثاً بكونه قد دفع أجرة القطار وحده فهو والحالة هذه الآمر الناهي. فأسقط في يد مستر هوراس مور حين غلب جفاء الأمريكي الأقوس على لينه وإلحاحه، فاضطر إلى انتظار القطار العادي الذي كان مزمعاً أن يسافر في مساء ذلك النهار.
ومشى القطار الخاص المقل لويس كاراتال ورفيقه في الساعة الرابعة والنصف تماماً. وكان الخط الحديدي ببن ليفربول ومنشستر خالياً، فلم يكن من الواجب أن يقف في محطةٍ ما قبل بلوغه إلى منشستر إذ يصلها حوالي الساعة السادسة.
ثم كانت الساعة السادسة وربعاً ولم يبلغ القطار محطة منشستر. وأبرقت هذه المحطة في ذلك إلى أختها في ليفربول فقلقت هذه، وساورتها المخاوف، وأبرقت في دورها إلى محطة سنت هيلنس الواقعة على نحو ثلثي الخط الحديدي بين ليفربول ومنشستر وسألتها عن ذلك القطار فورد منها الجواب التالي:
مر القطار المخصوص في الساعة 4 والدقيقة 52
دوسر
سنت هيلنس
وكان ورود هذا النبأ على ليفربول في الساعة 6 والدقيقة 40. وفي الساعة 6 والدقيقة 50 وصل نبأ برقي آخر من منشستر يقول: لا عين ولا أثر للقطار المخصوص. ثم انقضت عشر دقائق أخرى فوردت البرقية التالية: تحققوا جيداً من الموعد الذي مشى فيه القطار المخصوص، فإن قطار سنت هيلنس المحلي الذي كان يجب أن يصل بعده قد دخل محطتنا بدون أن يرى له أثراً أو شبه أثر.
منشستر(2/441)
فقامت محطة ليفربول وقعدت لهذا النبأ، ولكنها اطمأنت قليلاً إذ عرفت أن قطار سنت هيلنس لم ير أثراً للقطار المخصوص. فانتفى بذلك كل خوف داخلها من حدوث أمر ذي بال للقاطرة، وترجح عندها أن إحدى المحطات حجزت القطار المخصوص ريثما يمر القطار العادي. على أنها رأت أن تتيقن الأمر فأبرقت في ذلك إلى جميع المحطات بين
ليفربول ومنشستر فوردت عليها الأجوبة التالية:
مر القطار المخصوص في الساعة 5 - محطة كولنس كرين
مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 6 - محطة إرلستون
مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيق 10 - محطة بنيوتون
مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 20 - محطة كنيون تجنكشون
لم يمر القطار المخصوص قط من هنا - محطة بارتون موس
فالتفت حينئذ مستر بلاند إلى مدير الخطوط الحديدية لفتة دهش وانذهال وقال: مر علي حتى اليوم زهاء ثلاثين سنة في خدمة مصلحة السكة الحديدية ولكنني لم أتذكر أبداً انه مر بي مثل هذا الحادث الغريب من قبل!
فقال المدير: حقاً إن هذا لمن الغرائب التي تحير العقول، وإني لأعتقد أن هناك مصاباً أصاب هذا القطار بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس.
- وفي رأيي إن القطار قد حاد عن الخط فشرد فتدهور في وادٍ ما.
- إذا ما كان ذلك كذلك فيكف مر قطار الساعة الرابعة والدقيقة الخمسين على الخط بدون أن يرى له أثراً أو يعثر على شبه أثر؟
- لست أدري شيئاً يا مستر هود، ولكن الواجب يقضي علينا بأن نأمر بفحص الخط بين كنيون تجنكشون وبارتون موس.
ثم ما لبث أن ورد على ليفربول النبأ التالي من محطة منشستر:
ما برحنا جاهلين كل شيء بشأن القطار المخصوص. أما الخط بين كنيون تجنكشون، وبارتون موس، فسليم كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما.
وعلى أثر هذا النبأ وردت البرقية التالية من ناظر محطة كنيون تجنكشون:(2/442)
كل الآثار تدل على مرور القطار المخصوص من هنا، ولكن من اليقين عندنا أنه لم يصل إلى بارتون موس. فحصت بنفسي الخط الحديدي فوجدته سليماً كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما.
ونزل هذا النبآن نزول الصاعقة على مستر بلاند فأخذ ينتف شعره، ويحرق أسنانه من القطر والتأثر الشديدين، وهو يقول: إن أكاد أجن يا مستر هود. أمن الممكن أن يتحول
قطار حديدي إلى بخار يتطاير ثم يتلاشى في الفضاء؟
وفيما كان مستر بلاند ورفيقه مستر هود تتنازعهما الريب والشكوك، وتساورهما الأوهام والمخاوف إذ ورد عليهما من محطة كنيون تجنكشون هذا النبأ:
وجدنا الساعة جثة المسكين جون سلندر المهندس الميكانيكي للقطار المخصوص مطروحة في منحدر مثلَّم على ميلين ونصف ميل من المحطة.
واتفق يومئذ أن صحف إنكلترا لم تهتم لهذا الحادث الغريب لأنها كانت مشغولة عنه بحادثة أخرى أعظم أهمية، وأشد تأثيراً في النفوس. ذلك أنها كانت مشاركة باريس في اضطرابها لفضيحة سياسية كبرى كانت تتهدد الحكومة الفرنساوية، وفريقاً من عظماء القوم في ذلك العهد. فلما ذكرت حادثة القطار المخصوص لم تنظر إليها إلا نظرها إلى الحوادث الجنائية التي لا يعلق عليها شأن ما.
أما مستر بلاند فاستصحب المفتش كولنس مدير بوليس السكة الحديدية، وقصد إلى كنيون تجنكشون للبحث والتدقيق في أمر القطار الضائع. وكانت على جانبي الخط الحديدي بين تلك المحطة ومحطة بارتون موس، مناجم فحم عظيمة، ومعامل حديدية كبرى، مربوطة بخطوط حديدية مفردة تصل بينها وبين الخط العام المزدوج. على أن بعض تلك المناجم كان قد أهمله أصحابه بعد أن استثمروه واستنفدوا فحمه، فتركوه أشبه شيء بهوّات عظيمة فاغرة أفواهها، ومظلمة كأن لا قرار لها. وخيل إلى مدير البوليس لأول وهلة أن القطار المخصوص شرد إلى أحد تلك الخطوط الصغيرة التي لم تحول إبرتها عند نقطة الاتصال بالخط العام. ولكنه عاد فتذكر أن القطار الذي تلا في سيره القطار المخصوص مر من هنالك ولم(2/443)
يشرد. فقال في نفسه إنه لا يبعد أن يكون هناك يد أثيمة جرت القطار المخصوص إلى كمين من اللصوص كان يتربص له في إحدى الغابات المجاورة.
وشد ما كان انذهال مستر بلاند ورفيقه حين رأيا أن معظم الخطوط الصغيرة كان غير متصل بالخط العام لن أصحاب المناجم المهملة كانوا قد اقتلعوا بضعة أمتار من الحديد عند نقطة الاتصال لعدم حاجتهم بها، ودفعاً لما قد ينجم عنها من المصاعب للقطر السائرة إذا أهملتها أيدي العملة. ومع ذلك فلم تفتر عزيمة هذين الرجلين عن التدقيق والتفتيش بل ماشياً جميع الخطوط إلى غاياتها، ولكنهما لم يقفا على أثرٍ للقطار الذي كانا يفتشان عنه،
ولا تبينا شبهة ما. وكان أشد ما لاقياه من الذهول حين وقفا في المكان الذي وجدت فيه جثة المهندس سلندر على قيد أمتار قليلة من الخط العام إلى جانب أحد الخطوط الصغيرة المقتلع حديدها قديماً عند نقطة اتصالها بالخط الكبير. وقد حيرهما أمرها فلم يفهما سبب وجودها هنالك على حين كان تهشمها دليل حدوث الوفاة فور السقوط من القطار أثناء سيره السريع.
وعادت الصحف إلى هذه الحادثة فذكرتها بعد أيام متهمة مستر كولنس بالعجز والتقصير. وحملت عليه حملةً اضطرته إلى اعتزال وظيفته حاقداً جازعاً.
وفي اليوم الخامس من شهر يوليو (تموز) سنة 1890 نشرت الصحف الرسالة التالية وقد كتبها مك فرسن الذي كان يقود القطار المخصوص وأرسلها إلى زوجته من نيويورك فدفعتها زوجته إلى الجرائد فنشرتها هذه وهي:
زوجتي المحبوبة
تذكرتك في غربتي وتذكرت شقيقتي العزيزة لويزا فهاجت الذكرى أشواقي إليكما. وتفكرت ملياً في حالنا الحاضرة فوجدت أن المروءة تقضي علي بألا أترككما وحيدتين في لندن لا تجدان نصيراً ولا تلقيان سلوى. فلهذا أنا باعث إليك أيتها الحبيبة بمبلغ عشرين جنيهاً تبذلينها نفقة لكما في سفركما إلى هذه البلاد. فتعالي إذن تواً إلى نيويورك واقصدي إلى بيت جونستون فيها حيث تجدين أني قد تركت لك الإشارات اللازمة لمعرفة المكان الذي سنتلاقى فيه. أما حالي فهي(2/444)
قلقة جداً في الأثناء الحاضرة ولكن قلها يجب أن لا يكون عقبة في سبيل اجتماعنا.
السلام عليك وعلى الحبيبة لويزا
من زوجك
جايمس مك فرسن
ثم سافرت هاتان المرأتان إلى نيويورك تحت مراقبة البوليس السري. وأقامتا برهةً في بيت جونستون ولكن على غير جدوى فعادتا إلى لندن خائبتين. ومرت الأيام على هذه الحوادث فنسيها الناس، وأهملتها الجرائد فكأنها لم تكن.
* * *
في سنة 1908 أي بعد انقضاء زهاء ثماني عشرة سنة على ضياع القطار المخصوص بين ليفربول ومنشستر، نشرت جرائد مرسيليا في صباح أحد الأيام الرواية التالية، وهي خلاصة ما اعترف به رجل يدعى هربرت دي لرناك الجاني المحكوم عليه بالإعدام عقباً لقتله تاجراً يسمى بونفالو. قال:
متى قرأ اعترافي هذا فريق من كبار القوم، وعظماء السياسة في باريس، فليعلموا أني انتظر في سجني على مثل جمر الغضا تدخلهم في أمري وتوسطهم في سبيل العفو عني. وإلا فإن حديثي الخالي من الأسماء اليوم، يتحول غداً إلى إفشاء أسرار هائلة قد طوتها الأيام منذ سنة 1890، فإن العالم ما برح يجهل حتى الساعة حقيقة حكاية القطار المخصوص الذي حمل لويس كاراتال ورفيقه من ليفربول في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890 ثم تبخر بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس فتلاشى في الهواء. فحديثي اليوم حديث بطل تلك الرواية الذي كان يعمل بأمرة أولئك الرجال العظام الذين وعدت بكتم أسمائهم طمعاً بان يستصدروا العفو عني ويخرجوني من هذا السجن الذي دفعت كرهاً إليه.
في سنة 1890 قامت باريس وقعدت لتلك الفضيحة السياسية المالية الهائلة التي كادت تميت موتاً أديباً لا حياة بعده عدداً كبيراً من ساسة فرنسا وعظماء رجالها. إن أولئك القوم كانوا أشبه بشيء بهذه القطع الخشبية المهندمة الواقفة عالية الرأس في اللعبة المعروفة بعلبة الكيل وكان المرحوم لويس كاراتال أشبه شيء أيضاً بتلك(2/445)
الكتلة الخشبية الثقيلة التي يدحرجها اللاعبون بقوة نحو تلك الأخشاب. . . لطمة إثر لطمة، وصدمة تلو صدمة! وإذا بتلك القطع الواقفة قد وقعت جميعها إلى الأرض، الواحدة تلو الأخرى في مثل طرفة عين. ذا عرفت هذا عرفت أي خطر كان يتهدد أولئك الرجال في قدوم كاراتال إلى باريس وهو المعتمد السياسي الخبير والمثري العظيم. وعليه فقد تألفت في باريس في ذلك العهد، لجنة عهد إليها القيام بكل عمل للفتك بهذا الرجل قبل وصوله إلى العاصمة الفرنساوية، وكان يعوز هذه اللجنة رجل داهية يكون يداً لها فاختارتني لذلك، وأمدتني بالمال والنفوذ.
وكان أول أعمالي أني بعثت إلى أمريكا رجلاً من أتباعي كنت أعتمد عليه كثيراً واثق بإخلاصه، وأمرته بان يتبع كاراتال كظله، ويوقفني على حركاته وسكناته. ولكن رسولي
بلغ إلى أمريكا فور سفر كاراتال منها، ولولا ذلك ما وصل عدونا إلى ليفربول ولا رست سفينته قط إلا في مقر الحيتان!
ولم يكن شخص كاراتال وحده جل قصدنا بل كان من أقصى أمانينا أيضاً إخفاء اوراقه وإتلافها والقضاء على رفيقه قضاءً مبرماً.
وأقمت في ليفربول أنتظر وصول السفينة وقد أعددت عدتي. ورسمت الخطة التي أزمعت أن أعمل بحسبها. واشتريت فئة من نبهاء الإنكليز لمساعدتي على إتمام قصدي. فما وقفت السفينة في الميناء حتى كنا على تمام الأهبة والاستعداد.
ولما نزل كاراتال إلى البر كان معه رجل أمريكي كبير الجثة، مهيب الطلعة، في عينه شرر يتقد دائماً اتقاد الكهرباء. وقد عرفناه بما سمعناه عنه من قبل. وكان اسمه غوميز وهو شجاع باسل يحب سيده ويتفانى في خدمته. ومما يجمل بي أن أتباهى به الآن أني عرفت أنه كان لابد لكاراتال أن يسافر تواً إلى لندن ليتمكن من الوصول إلى باريس في وقت سريع. فلم أشك قط أنه سيستأجر قطاراً مخصوصاً يحمله ورفيقه إلى العاصمة إذ يكون قطار الإكسبريس قد سافر قبل أن يدركه في محطة ليفربول. وكنت قد علمت أن السائق الذي سيعهد إليه بقيادة ذلك القطار يرجح أن يكون المسمى مك فرسن فاشتريت هذا الرجل في عداد الذين(2/446)
اشتريتهم. ثم كان ما توقعته. فإن كاراتال جاء مستر بلاند وطلب منه بإلحاح قطاراً مخصوصاً دفع أجرته فوراً واستقل به. حينئذ تقدم أحد أتباعي ووقف بحرة مستر بلاند متسمياً باسم هوراس مور، وطلب بدعوى اختلقها ما طلبه مسيو لويس كاراتال ونحن عالمون أن القانون يحظر تسيير قطارين مخصوصين في وقت واحد إلى وجهة واحدة. ولكننا طمعنا بأن كاراتال يسمح بأن يشاركه في قطاره سواه. غير أن هذا الرجل كان خائفاً وجلاً فأبى وأصر على إبائه رغم إلحاح هورسا مور الظاهري. أما أنا فكنت واقفاً على تلة مشرفة على منجم الذين كانوا معي، وحولنا الطريق إلى هذا الخط الصغير بحيث مر القطار المخصوص شارداً عن طريقه إلى طريق المنجم بل إلى طريق الهاوية اللاقرار لها. وكان رفيقنا سميث الوقاد في قطار كاراتال، قد اخذ على نفسه تنويم مستر سلندر المهندس لكيلا يشعر هذا بتحول القطار عن خطه في المكان المختار. ولكنه قام بمهمته بطريقة فظة كان من جرائها أن سلندر وقع من القطار ومات. على أن قتل المهندس على
تلك الصورة كان في عملنا المرسوم أشبه شيء ببقعة سوداء في رسم جميل!
ولما أشرف القطار على الهاوية من أعلى التل خفف مك فرسن سيره حتى تمكن سميث من القفز إلى الأرض ثم عاد فأدار اللولب فجأة وقفز هو أيضاً قبل أن يفوته الوقت. ومشى القطار وحده بسرعة فائقة.
وكنت أراقب من موقفي كل ذلك فرأيت كاراتال قد أوجس خيفة من تمهل القطار وسرعته الفجائية فأطال من النافذة وأبصر الخطر المحدق به، ثم رآنا واقفين ننظر إليه، فاستجار بنا، وأشار لنا مستغيثاً. واطل غوميز من النافذة نفسها وهو يصرخ ويستغيث أيضاً ولكن على غير جدوى.
كنت أرى ذلك المشهد المخيف وأنا طلق المحيا، باسم الثغر لأني كنت أشعر في نفسي بأني أتيت حينئذ عملاً متقناً كل الإتقان، وقمت بمهمتي أحسن قيام. ولقد خامرتني حينئذ فكرة التباهي والزهو ففتلت شاربي كبراً وإعجاباً وقلت لمن كان(2/447)
حولي: إن لجنة باريس عرفت من اختارت لهذا العمل العظيم. وشعرت كأن قلبي قدَّ من فولاذ لنني لم أتأثر قط، ولم أكترث لذينك الرجلين البريئين.
وكأنما قنط غوميز من النجاة فأشار لنا بيده، ورمى محفظة الجلد السوداء فالتقطتها وأنا لا أعلم قصده من وضعها بين أيدينا.
وسمعنا بعد هنيهة قرقعة عظيمة منها أن القطار المخصوص قد وقع في الهوة. وحدث على أثر سقوطه انفجار هائل سمع له دوي شديد وتكاثف الدخان في الجو، فقلنا إن ذلك إنما كان من انفجار مرجل القطار. . . ثم ساد على تلك النواحي سكون عميق!!!
حينئذ تحولنا إلى محو كل أثر يدل على ارتكاب هذه الجريمة. فاقتلعنا الخطوط الحديدية التي كنا قد وصلنا بها خط المنجم بالخط العام، وأعدناها بذلك إلى ما كانت عليه من قبل ثم تفرقنا فذهب كل منا في سبيله.
أما محفظة الجلد فقد احتفظت بها لنفسي لأن الحكمة تقضي بأن لا يجرد المرء نفسه من السلاح لاسيما متى كان كثير الصلات بمثل أولئك الرجال العظام الذين أريد منهم اليوم أن يستصدروا العفو عني. وإنهم فاعلون ذلك ولا ريب، لأنهم يعلمون أن أوراق المرحوم لويس كاراتال هي في محفظة الجلد السوداء.
حاشية: راجعت ما كتبته الساعة فوجدت أني نسيت أن أقول كلمة عن مك فرسن الذي كتب إلى زوجته يستقدمها إليه في نيويورك. لقد كان من شأن تلك الرسالة أن توقع ذلك الغبي في شبكة البوليس. فكان من المحتم علينا والحالة هذه، أن نفصل بين هذا الرجل وامرأته ففعلنا. واني أشير على هذه المرأة أن تتزوج إذا شاءت فقد أزلنا من طريق زواجها كل عقبة.
كاتبه هربت دي لرناك
المقيم في سجن مرسيليا(2/448)
العدد 20 - بتاريخ: 1 - 1 - 1912
حول السنة الجديدة
في أول الشهر الجاري ابتدأت السنة الثانية عشرة بعد التسعمئة والألف للميلاد، وقبل ذلك التاريخ بتسعة أيام كان مطلع السنة الثلاثين بعد الثلاثمئة والألف للهجرة: مرحلة جديدة من مراحل أيامنا تأهبنا لاجتيازها، وحلقة جديدة من حلقات العمر هممنا بإضافتها إلى سلسلة الحياة. فإذا كانت توافق السنة العشرين أو الأربعين أو الستين من عمرنا فهي توافق سنة 7111 للخليفة أو 5972 للحساب الإسرائيلي و3927 لإبراهيم الخليل و2665 لتأسيس رومة و1628 للحساب القبطي.
وللسنة حسابات مختلفة ذكرناها في مثل هذا العدد من العام الماضي (ص 466) على أنها في كل هذه الحسابات مقسومة إلى اثني عشر شهراً: وأسماء الأشهر تختلف باختلاف الحساب: فهي في الحسابين الغربي والشرقي: يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط)، ومارس (آذار)، وأبريل (نيسان)، ومايو (أيار)، ويونيو (حزيران)، ويوليو (تموز)،(2/449)
وأغسطس (آب)، وسبتمبر (أيلول)، وأكتوبر (تشرين الأول)، ونوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول).
وفي السنة الهجرية: محرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وفي السنة القبطية: توت، وبابه، وهاتور، وكيهك، وطوبه، وامشيرن وبرمهات، وبردوده، وبشنس، وبونه، وابيب، ومسري، والنسي.
وفي السنة الإسرائيلية: تشري، وحشوان، وكسليفن وطيبت، وشباط، وآذار، ونيسان، وأيار، وسبوان، وتموز، وآب وأيلول.
ومدات الأشهر تتراوح في كل الحسابات بين 29 و31 يوماً.
ولما كنا في مطلع العام الماضي قد ذكرنا كل ما تجدر معرفته عن السنة وحساباتها وتقسيماتها فلم نر حاجة إلى إعادة ذلك، بل اكتفينا في مناسبة العام الجديد بذكر شيء عن اليوم النجمي واليوم الشمس لأنه قاعدة الحساب السنوي وقد اعتمدنا فيما يأتي على تقويم البشير المعروف بدقته وضبطه:
للنجوم الثابتة في الرقيع حركة ظاهرة منتظمة لا تخفى على المراقب. فإذا رصدت نجماً من النجوم يمر في وقت معين على هاجرة مدينة ما وأعدت المراقبة في الليلة التالية وفي
الثالثة إلخ ترى أن النجم الذي راقبته يعود إلى الهاجرة في الوقت نفسه في مدات متساوية تماماً. فتلك المدات(2/450)
هي عبارة عن دوران الأرض على محورها دورات تامة. فمدة رجوع النجم إلى الهاجرة يسميها الفلكيون اليوم لتنجمي وهو غاية في الدقة والضبط حتى أنه لا يختلف يوم نجمي عن آخر ولا جزءً واحداً من مائة جزء من الثانية بعد مرور ألفي سنة.
ومع ذلك لم يتخذ الناس اليوم النجمي قاعدة لحسابهم لصعوبة مراقبة النجوم فيرجعون في أشغالهم إلى حساب اليوم الشمسي لسهولة مراقبته ومعرفته.
واليوم الشمسي هو أطول من اليوم النجمي. لأنك إذا رصدت الشمس تأكدت أنها لا تعود إلى الهاجرة في نفس المدة التي يعود النجم إليها بل تتأخر قليلاً. لأن الأرض في مدة دورانها على محورها تنتقل كل يوم قليلاً في فلكها حول الشمس فبعد أن تدور دورة واحدة على محورها كل يوم يبقى عليها أن تدور مقدار ما تقدمت في فلكها حتى تلحق الشمس الهاجرة ويقتضي ذلك أربع دقائق. فيكون اليوم الشمس أطول من النجمي بنحو أربع دقائق.
ثم أنه ليس لليوم الشمسي طول مقرر ثابت. فالأيام الشمسية غير متساوية فتكون أحياناً أقصر وأحياناً أطول، أي أن زمن دوران الأرض من ظهر إلى ظهر أو من غياب إلى غياب يتغير فيكون أحياناً أكثر من 24 ساعة وأحياناً أقل. وأطول ما يكون اليوم الشمسي نحو 23 كانون الأول (ديسمبر) وأقصر ما يكون نحو 16 أيلول (سبتمبر). وسبب هذا الاختلاف هو أن الأرض تسير حول الشمس بسرعة غير متساوية وفي(2/451)
فلك إهليلجي أي في دائرة البروج المائلة على دائرة الاعتدال. فهذان الأمران يسببان اختلافاً في طول اليوم الشمسي.
فلاستدراك الخلل الناتج عن اختلاف طول اليوم الشمسي افترض العلماء شمساً وهمية تسير بسرعة متساوية في خط الاعتدال بينما الشمس الحقيقي تسير (بحركتها الظاهرة) في دائرة البروج المائلة على خط الاعتدال وبسرعة غير متساوية. ويسمون يوماً شمسياً أوسط مدة دوران الشمس الوهمية من الهاجرة إلى أن ترجع إليها فعندما تمر الشمس الحقيقية على خط الهاجرة يكون الظهر الحقيقي. فليس اليوم الشمسي المتوسط إلا معدل الأيام الشمسية في مدار السنة. والفرق بين الظهر الحقيقي والظهر المتوسط يسمونه مساواة أو معادلة
الوقت لمعرفة الظهر الأوسط. وتكون المعادلة ناقصة إذا مرت الشمس الحقيقية على الهاجرة قبل الشمس الوهمية وتكون المعادلة زائدة إذا مرت بعدها. ويتفق الظهر الحقيقي والأوسط أربع مرات في السنة نحو 15 نيسان (أبريل) و15 حزيران (يونيو) وأول أيلول (سبتمبر) و25 كانون الأول (ديسمبر). والظهر الأوسط يسبق الظهر الحقيقي من 24 كانون الأول إلى 15 نيسان ومن 14 حزيران إلى أول أيلول. أما في سائر أوقات السنة فالظهر الوسط يتأخر عن الظهر الحقيقي. وقد يبلغ الفرق بين الظهر الأوسط والظهر الحقيقي نحو ربع ساعة لكنه لا يبلغ أبداً 17 دقيقة ويكون معظم الفرق نحو اليوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) والثاني عشر من شباط (فبراير).(2/452)
والساعات إنما تسير بموجب الوقت الأوسط وتدل عليه لا على الوقت الحقيقي. فإذا كانت ساعتك مضبوطة ودلت على الظهر فليس من الضرورة أن تكون الشمس في الهاجرة وأن يكون إذ ذاك الظهر الحقيقي بل قد يتقدم الظهر الأوسط على الحقيقي وقد يتأخر عنه، مثلاً في أول كانون الثاني إذ تكون الشمس الحقيقية في الهاجرة أي وقت الظهر الحقيقي تدل الساعات المضبوطة على الساعة 12 والدقيقة 3 والثانية 10 فيكون الظهر الأوسط قد مضى منذ 3 دقائق و10 ثانيات. وفي أول تشرين الثاني وقت الظهر الحقيقي تدل الساعات المضبوطة على الساعة 11 والدقيقة 43 والثانية 39 فيبقى للظهر الأوسط 16 دقيقة و21 ثانية.
ثم اعلم أن الزمن المتوسط يتغير بالانتقال من بلد إلى آخر فزمن القاهرة المتوسط مثلاً لا يطابق زمن باريس المتوسط أو غيرها من المدن.
البرد والصحة
ذكرنا في الجزء الماضي من الزهور نبذة عن المطر وماهيته ومصدره ومظاهره المختلفة، ونرى الآن أن نذكر شيئاً عن البرد وتأثيره في الصحة لأننا دخلنا في فصل الشتاء، فنقول:
إذا نظرنا إلى الإنسان من حيث تركيبه الطبيعي نجد أن الحر يؤثر فيه أكثر من البرد. فإنه يحتمل بصعوبة وبضنك شديد درجة الحرارة إذا بلغت الأربعين (في ميزان سنتغراد)، مع أنها درجة تقارب(2/453)
درجة حرارة الجسم في حالته الطبيعية وهي 37 ْ، فيكون الفرق ثلاث درجات فقط. على أن الإنسان يحتمل البرد بسهولة حتى الدرجة 10 ْ و15 ْ تحت الصفر مع أن الفرق بينها وبين حرارة جسمه تكون 47 ْ أو 52 ْ درجة. ومن ذلك البيان يظهر بأجلى برهان انه أقدر على احتمال البرد من احتماله الحر.
نعم قد تسلم الحياة في بعض الأنحاء حيث تبلغ الحرارة 50 أو 53 درجة كما في السنغال أو غيرها من الأصقاع الأفريقية. لكن الاستيطان في مثل هذه الأماكن يصعب جداً على أهالي البلاد المعتدلة، وإذا ولد لهم أولاد تراهم مهازيل الجسم نحفاء البنية.
وبعكس ذلك نرى الجسم يتعود شيئاً فشيئاً احتمال البرد ولو شديداً، وقد قران أن الذي قصدوا القطب الشمالي قد وصلوا إلى أصقاع لا يقل بردها عن 40 أو 45 تحت الصفر.
غير أن هذه الأرقام مما لا يسوغ تعميمه على كل الأحوال. فهناك مسألة العمر وطريقة المعيشة وغير ذلك من الأمور والبواعث يكون لها أكبر تأثير في احتمال البرد. فالرجل الهرم، وقد قل غذاؤه، يحتاج إلى الحرارة أكثر من سواه. أما الولد فهو أسرع تأثراً من البرد، على أن أنسجته تحتمل فقد الحرارة إلى درجة مدهشة فتقوى على احتمال ما لو أصاب الشاب لفتك به.
ويمكن القول بالإجمال أن فصل الشتاء هو أفضل فصول السنة لصحة السواد الأعظم من الناس لولا تسرب إلى أحوال معيشتنا من(2/454)
العادة المضرة كالمبالغة في تدفئة المنازل والإقبال على الأشربة الكحولية فإنه عندما كان الناس يصطلون على نار الحطب - وهي طريقة الفلاحين حتى الآن - لم تكن حرارة المسكن تزيد على الدرجة 15. أما اليوم فمع ما توفر لدينا من الاختراعات العصرية كاستعمال الكهربائية وغيرها لتوليد الحرارة واتقاء البرد، فقد تبلغ حرارة الغرفة 35 درجة أو أكثر. ولا يخفى ما يعقب ذلك من الضرر العظيم عند الانتقال إلى الهواء الطلق، فيكون تأثير البرد شديداً ومضراً بالصحة لأنه يجب
السير بالتدرج في ذلك كما غيره من الأمور. وقد بين ذلك أحد العلماء باختبار أجراه من هذا القبيل، فأخذ أسماكاً ووضعها في ماء درجة حرارته 28، ثم نقلها بغتة إلى ماء درجته 12، فماتت الأسماء للحال.
وإذا كان الإنسان يبالغ في اتخاذ الأردية وتوفير الملابس لوقاية جسمه من البرد، فإنه يجعل نفسه عرضة للسعال والنزلات الصدرية وغير ذلك من الأمراض عند أقل إهمال يبدر منه من هذا القبيل فتكون العاقبة غير محمودة.
وعليه فمن أفيد الأمور أن تدع نافذة غرفتك مفتوحة عندما لا تكون الحرارة دون الدرجة العاشرة. وهي طريقة ظهرت الآن فوائدها ومنافعها، وإذا اعتادها الإنسان كان له فيها أحسن واقٍ لما يتأتى عن ذلك من تجديد الهواء وتصلب الجسم. وفي كل الأحوال لا يجب أن تتجاوز حرارة غرفتك الدرجة 20 أو 25.
أما شاربو الكحول فإن البرد يؤثر فيهم أكثر مما في سواهم. لأن(2/455)
الأشربة الكحولية إذا كانت تولد بعض الحرارة في جسم متناولها، فهي لا تلبث أن تحدث رد فعل فتنخفض حرارة الجسم درجة أو درجتين عما كانت عليه قبل تناول المشروب. وقد لوحظ ذلك خصوصاً في بلاد روسيا حيث يكثر الفعلة أيام الشتاء من تناول المشروبات. فإن كثيرين منهم يموتون بدراً حين خروجهم من حانات الشرب.
هذه ملاحظات إجمالية يجدر التذكير بها في هذه الأيام.
وصف غرق
وهو فصل من رواية يترجمها بعضهم وينشئها السيد مصطفى لطفي أفندي المنفلوطي الكاتب المشهور.
من سوزان إلى ماجدولين
كنا على وشك أن نزورك يا ماجدولين أنا وأبوي فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك. فقد دعانا أحد الأصدقاء منذ أيام إلى زيارته في(2/456)
بلدته، وهي على بعد ثلاثة فراسخ منا ولا تبعد عنك إلا قليلاً، فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا فيم نزله برهة، حتى إذا زلقت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته ومزدرعاته. وأنت تعليم فيما تعلمين من أمري أنني فتاة لا أحب الغابات والمزدرعات، ولا الأدغال والأجمات، ولا أطرب لخرير الماء ودوي الريح وهزيم الرعد، ولا اغتبط بحرارة الشمس ووعث الطريق وخشونة الأرض واقتحام الصخور والتعثر بين أغوار الفلوات وأنجادها، ولا أستطيع أن أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وروائها، ومحاسن الأحراش وبهجتها. ولكنني لم أر بداً من الكون معهم والإصحاب لهم فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية وعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوءها وجمال الكائنات وجلالها. والله يعلم أن أحداً منهم لا يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول أو من يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد عليه الأشقياء. فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكاتبين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضناً بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء.
ومازلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هنالك جمعاً عظيماً من الناس يتدفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق! والنجدة النجدة!(2/457)
فالتفتنا حيث أشاروا فإذا رجل بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه. يبدو تارة فيمد يده للناس فلا يجد يداً تمتد إليه، ويختفي أخرى حتى تنبسط فوق صفحة النهر فنحسبه من الهالكين.
ومازال يطفو ويرسب، ويثب ويقع، حتى كلَّ ساعداه وابيضت عيناه واستحال أديمه، ولم يبق بين أعيننا منه إلا رأس تضطرب ويد تختلج فبكى الباكون، وأعول المعولون،
وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجل رحيم، أو شهم كريم.
وأنهم لكذلك وقد زاغت أبصارهم إلى رؤوسهم، وتمشت قلوبهم من صدروهم. وإذا رجل يدفع الجمع بمنكبيه ويمر بين الناس مر السهم إلى الرمية، حتى اندفع إلى النهر وسبح إلى المكان الذي هبط فيه الغريق وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان يمسك كل منهما بذراع صاحبه، فكبر الناس إعجاباً بهمة الرجل الكريم، وفرحاً بنجاة الغريق المسكين.
ولكنا ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظر آخر أجل منه وقعاً وأعظم هولاً، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شراً وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوي به إلى قعر الماء فيعيده سيرته الأولى. فضربه بجمع يده في صدره ضربة قاتلة ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفة خلنا أن عظامه(2/458)
تئن لها أنيناً فاستيأس الرجل وعلم أنه لابد هالك وأن مقص الفناء قد كاد يأتي على آخر خيط من خيوط أجله، فرفع يديه إلى السماء وهتف باسم أحسب أنه يشبه اسمك يا ماجدولين.
ثم ما لبث أن هوى الماء بهما وجرى مجراه فوقهما، فخفقت القلوب وجفت الصدور وخفتت الأصوات وتعلقت الأنفاس وشخصت الأبصار وامتدت العناق ومرت على ذلك ساعة لا تضطرب فيها موجة ولا تهب نسمة، فنظرت إلى أبي حائرة وقلت: أيتعذب الغرقى كثيراً في مصارعة الموت؟ قال: نعم يا بنية، ولقد يبلع الأمر بأحدهم أن يدور بيده في قاع البحر عله يجد الصخرة يضرب بها رأسه ضربة قاضية يستريح بها من الآلام والأوجاع. . . فركعت فوق الرمل ومددت إلى السماء يدي وقلت: اللهم إنك أعدل من أن تجازي الإحسان بالسوء أو الخير بالشر فلقد أبلى هذا الرجل في سبيلك بلاً حسناً وبذل في مرضاتك ما ضن به الناس جميعاً، وها قد ضاقت عليه المذاهب وتقطعت به السبل وأعوزه المعين والنصير فامدد إليه يدك البيضاء التي طالما أنرت بها ظلمات البائسين، وأنر له ظلمته التي يعالجها، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين.
ثم استغرقت في صلاتي فلم أعد أشعر بشيء مما حولي حتى سمعت ضجة على الشاطئ فاستفقت فإذ النهر يتثاءب عن الرجل وإذا الرجل صاعد وحده إلى سطح الماء فتنفس
طويلاً فصاح به الناس: انج بنفسك فقد أبليت. . . فهبط مرة أخرى وعاد بالغريق يجره وراءه ومازال(2/459)
يسبح به حتى أبلغه الشاطئ فسقطا جميعاً فتولى الناس أمرهما حتى أفاقا فمشى الغريق إلى صاحبه يتمسح به ويتوجع له كأنما يشكر له يده عنده ويعتذر له عن ذنبه إليه، ثم انفض الجميع وبقي الرجل وحده فلبس ثيابه ومشى يتحامل على نفسه إلى شجرات كن على الشاطئ، فأخذ يقتطف بعض زهورها ويضعها في منطقته كأنما يريد أن يجعلها لتلك الحادثة تذكاراً فتركناه على حاله وعدنا إلى المنزل صامتين وقد فاتنا ما كنا عزمنا عليه من زيارتك في قريتك.
لا أستطيع أن أكتب إليك اليوم يا ماجدولين شيئاً غير هذا فلقد أصبحت لا أذكر تلك الحادثة إلا واجد لذكراها من الأثر في نفسي ما يخيل لي أنها حاضرة بين يدي وربما كتبت إليك فيما بعد والسلام -
سوزان
مصطفى لطفي المنفلوطي
بينهما
قالت لقد أشمت بي عذلي ... إذ بحث بالسر لهم معلنا
أهكذا يحكم شرع الهوى ... أن تطلع الأعدا على سرنا؟
قلت أنا؟ قالت نعم أنت هو ... قلت أنا؟ قالت وإلا أنا؟
قلت نعم! أنت التي صيرت ... جفونها جسمي حليف الضنى
قالت فلم طرفك فهو الذي ... جنى على قلبك ما قد جنى
قلت لقد كان الذي كان من ... طرفي فكوني مثل من أحسنا
قالت وما الإحسان؟ قلت اللقا ... قالت لقانا؟ عز أن يمكنا
قلت فمنيني بتقبيلة ... قالت أمنيك بطول العنا
قلت أموت حسرةً أو جوى ... قالت فمت ذاك لقلبي منى
من يعشق الأعين محكولةً ... بالسحر لا يأمن أن يفتنا(2/460)
ذكرى بعلبك
معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار
خليل مطران
يقول الغد في نفسه: لو علم هذا
الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا
الباني إنه يبني للخراب، وهذا
الوالد إنه يلد للموت لما جمع الجامع
ولا بنى الباني ولا ولد الوالد
المنفلوطي
تحرك القطار صباحاً في محطة بيروت وهو يهدر ويشخر ويزمجر غضباً، وقد فاض بركان غيظه فأخذ يقذف دخاناً قاتماً أثقل الهواء حتى ترامت أطرافه على أطراف الأمواج فأزعجت زرقتها. وما برح صراخه الهائل كأنه زئير ألف أسد معاً يتردد في جوانب الفضاء البعيد، حتى(2/461)
خيل إلي أن صدى تموجات هذا الزئير المرعب لمن لمس رؤوس أعمدة بعلبك متمتماً: ها أني سبقت زائريك العتيدين لأقول لك أني لو تجاسرت لاحتقرتك أيتها الأعمدة، لكن سخطي عظيم عندي مرآي هؤلاء الناس الذين يستعملونني، أنا آية اختراعات السنين الحاضرة وأنفع آلة تجارية، للوصول إليك، أنت يا رمال الأيام ويتيمة الليالي الغوالي!
بيد أن القطار ما لبث أن أسرع في سيره متلوياً بين الشجيرات الخضراء، وهدأ سخطه تحت قبلات النسيم الآتي من أعالي الجبال، فتدرج صاعداً على أكتاف لبنان، وظل يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا الذي قال فيع لامرتين أنه أجمل أودية العالم القديم، فرأيت التلال فيه تتطوى، كأنها لأقمشة حريرية، لمداعبة أطراف الجبال المجاورة، فتنبسط هذه تحتها سطوح مستديرة الشكل تكسوها أشجار الصنوبر وتتخللها القرى البيضاء المساكن، والقرميد الأحمر يكلل كل بيت من بيوتها كأنه هالة قرمزية. وهناك على الشاطئ ترى آكاماً صغيرة رابضة كأسود تحرس الأمواج، والبحر الفسيح يبسط أمامها رزقه مرتفعاً في أطراف الأفق حيث يمتزج
أثيره بأثير الجو متلاثمين وراء آفاق بيروت القائمة في المياه العثمانية مليكة عليها، كأنها قيثارة الجمال تضرب الأمواج على أوتارها أعاني الأرواح، وأناشيد البحار، وتهاليل العناصر وتعاظيمها.
ثم أخذ القطار في النزول حتى بلغ سهول بعلبك الغائبة حدودها وراء آفاق بعيدة لا يدركها النظر. سهول هي أشبه بوادٍ متسع ينحصر(2/462)
بين سلسلتي لبنان وأنتي لبنان القائمتين على جانبيها، كأنها أسوار الدهر تحدق بمروج الحياة.
وبعد أن تواصل السير في السهول نحو ثلاث ساعات، تراءى لنا عن بعد، في عصر النهار، شبح (مدينة باعال) محاطاً بنطاق لطيف من الأشجار المغذية والحور الرجراج. وفوق المدينة وجنائنها ترى أعمدة هيكل الشمس ترتفع بقدها الأهيف العظيم. أجل! إن هيكل الشمس هذا الذي كان أعجب عجائب الدنيا ببنائه ولا يزال اليوم أعجبها بأخربته، لا يبقى منه سوى ستة أعمدة قائمة في المروج البعيدة، وكأني بطيفها ينادي المسافر قائلاً: تعال وانظر إلي، يا أيها المار، فهل من حزن أشد من حزني؟
أثر عظيم من عظمة باهرة تظهر حوله اكبر الأشجار أعشاباً، بل شبح الأعصر الغابرة يحاول تخليد ذكر الأصنام المعبودة. . . وثلوج لبنان تطل من أعالي فم الميزاب وظهر القضيب مستفهمة عن سر هدم الهياكل.
منذ ألوف من الأعوام ترسو هذه الثلوج في مكانها. فالشمس تشرق وتغيب، والصيف يأتي والشتاء يذهب، وينقضي الخريف ويحل الربيع وقلعة بعلبك تظل شاخصة في عظمتها المحطمة، وثلوج لبنان الطاهرة تحدق بها وتود أن تفهم أي خطب جرى، لكنها لا تفهم!. . .
* * *
تجسم حزني وجثا على أعتاب القلعة باكياً. ولست أدري أتراه(2/463)
بكى هناك لوعة على أعجوبة الدهور البالية، أو هو منظر الدرجات التي وضعتها يد الألماني هنالك حديثاً غشى بصره وأسال دموعه.
عند مدخل هذا الهيكل الذي لم يكتشف علماء الآثار له من مثيل، هذا الهيكل الذي ألقت أساساته المخيفة في طبقات الأرض شعوب شرقية تلاشت وتركت لنا في ذكرها شيئاً من
روحها الكبيرة ومطالبها السامية، أتى الأجنبي ووضع درجات أجنبية موصلة إلى معابد آلهة الشرق القديم. عند هذا المشهد شعرت بغصة أضاقت صدري كأن هذه الحجارة بجملتها ثقلت على فؤادي، لأنها دليل تداخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا وجبالها وآثارها. وكان الأولى بالألماني أن يتركنا نبكي بسلام تراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده الضخمة عاملة في ترميم مداخل المعابد، مدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور!
دخلت أمشي الهوينا بين كوم الأبنية وبقايا الخرب وحولي الأعمدة المطروحة على الحضيض، كأنها جبابرة وعمالقة، يلامس بعضها بعضاً، ورؤوس الأسود المهشمة تتعانق عناقاً أبدياً. وآثار شعب سابق تختلط بآثار شعب لاحق. وتراب يتراكم فوق الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم من العجائب الفنية وأنا لا أدري كيف قدر الإنسان على إيجاد هذه الجمالات، وأتعجب كيف سطا الزمان عليها فهدمها وجعلها أشبه شيء بغابة هاجمتها العواصف فكسرت منها الأشجار واقتلعت منها الأصول وغادرتها تاركة بعض أغصانها ملقاة على حضيض الهوان.(2/464)
أين من هذه العظمة قصور عصرنا! فإنها تخال ألغاباً صبيانية شيدت في أوقات فراغ ولهو، فيها الحصا تقوم مقام الحجارة، والأشبار فيها توازي الأميال.
لقد تألبت أعظم شعوب الأرض على هذا الحصن الحصين مهاجمة جدران مجده. فالعرب والرومان ثم العرب ثانية قد خربوا بعض هياكله الفسيحة، وشيد المسيحيون كنيسة على قوائم معابد الأصنام، ثم أصبحت الكنيسة والمعابد حصناً حتى أتت الزلازل مدهورة جدرانه، محطمة عظمته بعد أن هشمتها وأهانتها في وقوفها وارتفاعها يد الإنسان!
لكن آثار المجد لا تزال كامنة في أخربة بعلبك. والروح العصرية تقف مترددة بين السخرية والاحترام عندما ترى أن هذه الهياكل شيدت من أجل آلهة خيالية تضحكنا الآن أسماؤها. وتهبط على القلب تأثيرها متعددة متضادة من خوف وإعجاب وحزن وشفقة وغضب لكن هذه تتلاشى بكليتها وتقوم مقامها عاطفة واحدة تستغرق سائر العواطف، وتضم في قوتها قوى النفس جمعاء، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر الأكوان غير المتناهي.
وهناك على ارتفاع هيكل الشمس تقف ستة أعمدة حاملة إفريزاً كأنه تاج مكسر، ورؤوسها تنحني على وهدة الذل المطروح في أعماق عزها المفتت، وانحناء هذه الأعمدة هو بكاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد الذي يليق بقلعة بعلبك.
على أن ثلوج لبنان تنظر من أعاليها إلى حزن الجماد الدهري وتود(2/465)
أن تفهم، لكنها لا تفهم. . .
* * *
ألا كسروا باليأس الأقلام وأزيلوا المداد عن الطروس، والجموا الشفاه المتمتمة، وشدوا وثاق الأيدي المتحركة للدلالة والكتابة!
عند هذا الخراب الهائل والتهدم الموجع تفوح رائحة الأكفان، وتتطاير عطور القبور، ويعبق فضاء المخيلة من غيوم البخور المحرق على هذه التي دكتها الدهور!
كسروا الأقلام ومزوقوا الطروس! إن هذا الموقف لا يجوز فيه التأبين إلا بحزن الجماد ولوعة النفوس.
أتأبين الأرواح لازلت للأفئدة مفطراً، ما دامت عبر الزمان تطرح بالجبابرة على حضيض الهوان! أدموع القلوب لازلت محرقة كشعلات النيران مادامت تبتر سلسلة الحياة، وتعتل حركة القلوب!
أآثار الحياة لازلت غالية كزهور الآمال وسواد العيون، مادامت الآمال تذوي بالمتأمل، ومادام سواد الموت يبيض سواد العيون!.
أأعمدة بعلبك لازلت محطمة، صامتة، محزنة مادامت بقايا المنى راقدة في زوايا المهج، وخيالات الآلام والأوجاع هاجعة في طيات الصدور!
إذا كان الدهر يهزأ بهذه الجدران الدهرية، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا كانت خيالات أقدام الزمان تمر على هذه القوات المشيدة والعظائم المؤيدة فتسحقها سحق الصخر للتراب فماذا تعني بعد ذاك حركة قصبتكم المضحكة، ونقش أوراقكم البالية؟ أين من الأمكنة موضعها،(2/466)
وإلى أين في الفضاء مصيرها؟
ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس! دعوها تنطق يأساً باسم قلعة بعلبك، ثم حطموها وإن كانت غالية، ومزقوها وإن كانت شطراً من الأرواح!
الزمان يتابع سيره ويل التربة تدوسها قدمه! هناك تتراكم الزلازل وتفيض البحار، هناك يشعر الإنسان بأنه عبد لحظات الأقدار، وأن عينيه لا ترفان من الكون غير سواد الليل واسوداد النهار. . .
مي
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الخامسة
من دورثي أوسبرن إلى السر وليم تمبل
(السر وليم تمبل من أشهر رجال السياسة الإنجليز نبغ في أواخر القرن السابع عشر وتقلب في عدة مناصب سامية. وكان في صباه قد علق بحب فتاة تدعى دورثي أوسبرن وهي من أسرة شريفة. وبعد أن قاسى الحبيبان الشدائد من أهلها تزوجا واعتزل السر وليم إلى موضع يعرف بحدائق شين ومور بضواحي لندن حيث قضى بقية حياته مع زوجته. وقد طبعت رسائلهما منذ ثماني سنوات في إنكلترا فكان لها وقع عظيم. والرسالة الآتية مأخوذة منها).
في رسالتك الأخيرة عبارة أضحكتني وأدهشتني معاً. قلت إنك لم تكتب إلي في الأسبوع الفائت لأنه لم يكن لديك أخبار تستحق الاهتمام.(2/467)
فهل فاتك أن الخبر الوحيد الذي يهمني هو أن تقول لي أنك لا تزال تحبني؟ أليس مثل هذا القول أطرب الأقوال إليك وأوقعها في مسامعك؟ وما الذي يهمنا من سقوط العروش واندثار الممالك ما دمنا ثملين بخمرة الحب متمتعين بأحلام الغرام؟
تسألني هل أحب السكنى في الشرق. وقد قلت لك مراراً أن العالم كله أضيق من أن يسعني إذا لم يكن لي موضع في قلبك. فطالما أنا مقيمة فيه فلا يهمني أين أسند رأسي، سواءٌ في صحارى أفريقيا أو مجاهل سيبيريا أو أحراج الهند. وما دمنا معاً فالعالم كله فردوس زاهر وأيام الحياة كلها ربيع مستمر.
لعلك نسيت وقفتنا الأخيرة في مثل هذا اليوم من السنة الماضية وكنت قد علمت يومئذ بان أهلك يمانعون في قراننا فقلت لك أن حبنا إما أن يكون عقاباً على سيئة اقترفناها أو جزاءً لحسنة أتيناها. أما سيئاتي فكثيرة وأما الحسنات فلا أعرف لنفسي واحدة منها.
تلومني لأنني لا أنفك ملازمة لغرفتي. أو ليست سعادتي العظمى أن أعتزل عن الجميع وأخلو بنفسي لكي أتمتع بمناجاتك ولو عن بعد وأعلل نفسي بأحلام الغرام. وإذا كانت هذه سعادتي فلماذا تحاول أن تنزعها مني وتطلب إلي أن أفعل ما يشغلني عن مناجاتك أيها
الحبيب؟
إنني أتمنى أن أراك سعيداً يا وليم سواء قدر لي أن أكون زوجتك أو لم يقدر. لأن سعادتي مستمدة منك كما يستمد القمر نوره من نور الشمس. فإذا كنت أنت سعيداً كنت أنا أيضاً سعيدة. لذلك أنا(2/468)
أحبك أيها الملاك الحارس. أحبك أيها المعبود الكريم. بل إن حبي لك هو العبادة بعينها لأنني لا أشعر بفرح إلا وأنت ينبوعه ولا أعرف سعادة إلا وأنت مصدرها. وكلما تمثلت نفسي منحنية على صدرك أنتفض كأن مجرى كهربائياً يتخلل أحشائي فتسرع نبضات قلبي وأكاد أركع أمام خيالك كما يركع العابد أمام معبوده. ولا أخال السماء حسبها لي ذلة أن أركع أمام أحد ملائكتها. وما كان الله ليخلقك كاملاً لولا أنه غفور يتجاوز عن فتاة مثلي تنساه قليلاً لكي تعبدك.
لست أخشى العثرات التي في سبيلنا يا وليم مادام قلبك مخلصاً لي ولا أعلم قوة بشرية تستطيع التفريق بيننا إذا كنا مخلصين في الحب. أما أنا فإنني أشعر بعزم يثبت أمام الأنواء، ولا تؤثر فيه العواصف وكلما نظرت إلى صورتك أشعر بقوة كالقوة التي يستمدها البوذي من صمنه المقدس.
هو ذا الأيام طويلة مملة. وكلما غابت الشمس أتنفس الصعداء وأقول ها قد انطوت صفحة أخرى من سفر هذا الفراق فلننتظر ما يأتي به الغد. ولكن الغد ممل طويل كاليوم والحياة كلها فراغ لا يملأه إلا انت. وجمال الطبيعة إنما يزيد في ثورة عواطفي لأنني أشتاق أن أراك يا وليم. أشتاق أن أراك لنتمتع كلانا بربيع الحياة. أشتاق أن أراك لأرى ماذا فعل الزمان بفؤادي الذي ائتمنتك عليه. فإن كان الله قد قدر لنا العذاب في الحب فما أعذبه في النفس وما أحلاه في الفؤاد - الفؤاد الرازح تحت ثقل الهموم.(2/469)
يقولون إن الزمان هو الطبيب الشافي من داء الحب. ولقد مر على حبنا ثلاثة أعوام نما في خلالها وتأصل. وأهلك يزعمون أن طول الفراق ينسيك غرامك القديم. ولقد فاتهم أن من الحب ما يزيده الفراق قوة، وأن الزمان أن ألقى بيننا حجاباً فإلى أجل محدود لا يتجاوز القبر. وأما بعد القبر.
رحم الله أيامنا في رشموند كم دفنا فيها أماني غرام! إذا أفسح الله في أجلي فسأحج إلى تلك الصفصافة التي كنا نجلس تحتها عند الإمساء. ترى إلى أين تمتد بنا فسحة الفراق؟ أإلى
القبر؟ لا بأس - بشرط أن تفتح الأبدية أحضانها وتضمنا معاً. هناك حيث ينقطع كل صوت وتبطل كل حركة. هناك حيث لا تسمع إلا حفيف الأجنحة وهمس الملائكة هناك حيث لا سعادة إلا سعادة الحب ولا نشيد إلا نشيد الحب ولا خلود إلا لمن يعرف الحب.
هب أنهم منعوني عن أن أكون زوجة لك في هذه الحياة. فهل ينالنا أذاهم وراء القبر وهل تنتقل المظالم التي تجري تحت الشمس إلى ظلمة الأبدية فتزيد في كثافتها وتقضي على آمالنا؟ كلا يا وليم إن الآلهة أرحم من أن تقسى إلى هذا الحد. فإذا أخفقت آمالنا في هذه الحياة فأمامنا مجال الأبدية اللانهائية لها حيث نخلع أثوابنا الفانية ونحلق في فضائها الرحيب فنشاهد من علونا الشاهق ما يجري على هذه الأرض من الشرور الفظيعة. وأي شر أفظع من أن يقف الإنسان بين نفسين متحابين ليس لهما ذنب سوى أن الله أوجد في قلبيهما ميلاً متبادلاً وهو(2/470)
ما يسمونه الحب.
أود كثيراً أن أطيل رسائلي إليك. لو استطعت لجعلت اليوم خمساً وعشرين ساعة وأنفقته في مناجاتك عن بعد. كما أنا أغار من رسائلي لأنها تستطيع الوصول إليك وأما أنا فكالطير المقصوص الجناح.
حبيبتك حتى الموت
دورثي
بقلم سليم عبد الأحد
غرائب امريكا
أمدنية أم ماذا؟
لقينا في هذه الأيام أديباً من أدباء الشرق أقام سنوات طويلة في البلاد الأمريكية يخدم فيها الصحافة العربية، فرغبنا إليه في أن يحدث قراء الزهور عن مدنية العالم الجديد فكتب إلينا الفصل التالي ولعله يتابع هذا البحث في أعداد قادمة:
تشرف على بلد عظيم فلا تقع عيناك إلا على قصور شائقة وصروح فخمة ورؤوس أشجار في غابات ورياض فتخاله، وأنت بعيد عنه، الفردوس المفقود. فإذا نزلته وأمعنت في أنحائه مطوفاً في زواياه تجلت لك الحقيقة وعرفت أن ما يتراءى لك عن بعد لأشبه شيء بالملابس الجديدة تستر داميات القروح.
كذلك أمريكا، والولايات المتحدة أعظمها شأناً وأعرقها مدنية وفي ما أسطره الآن عن تلك الجنة الموهومة تقرير عن حالتيها المدنية(2/471)
والاجتماعية، أدفعه إلى قراء هذه المجلة بسيط العبارة خالياً من كل ما ينمق به الكتاب مقالاتهم من زخرفة في الكلام وإبداع في الأفكار ملتزماً فيه شروط التقرير فلا ينتظرن القارئ مني سوى ذلك في مثل هذا البيان.
قد يكون غيري سبقني إلى طرق هذا الباب إلا أنني على يقين أنه اقتصر في البحث على أحسن الوجهين لأحد أمرين: إما ليقال انه عاشر علية القوم ووقف على مدينتهم ورقيهم، فيلصق بذهن القارئ أن الكاتب أصبح أرقى منه قبلاً وربما كان أرقى من القارئ أيضاً وهذا أجل عنه الأديب؛ وأما ليك يوقف قومه على مبلغ الفرق بينهم وبين من هم أرسخ منهم قدماً في المدنية مؤملاً أن وراء ما يسطره لهم مدرجة إلى إصلاح الحال. وهذا ما ينزع إليه بعض الكتاب. أما كاتب هذه السطور فلم ير لسوء حظه ما يدعى مدنية حقيقية في تلك الأصقاع القصية وكل ما رآه طلاء خارجي ناصع ينطوي تحته ما ينطوي تحت طلاء القبور.
* * *
إذا كان المقصود من المدنية وفرة المتمثلات والملاهي وكثرة المراقص والملاعب وتسهيل أسباب المعيشة وتكثير موارد الارتزاق لمريدي العمل ونهضة في العقول والهمم وغزارة في العلم، كانت الولايات المتحدة أعظم الأمم شأناً وأعلاها منزلة في معارج المدنية. أما
وقد شاء واضعو مفردات اللغات أن يكون بين ما يضعونه كلمات مثل الخلاعة واللهو والقصف(2/472)
والزهو والمفسدة ثم التجارة والصناعة والزراعة والمعارف والفنون وما شاكلها، كان لكلمة المدنية أو التمدن معنى محصور لا يتجاوز مفهومه دائرة الأخلاق وآداب الاجتماع، وكانت الولايات المتحدة بهذا المعنى أحط من أكثر بلدان العالم ومساوية للبعض الآخر الأقل. وإذا شاء أحد أن يرد قائلاً إن المتمثلات وما يجانسها لمن مظاهر المدنية وأدلة الرقي قلنا نعم ولكن إذا روعيت فيها شروط وضعها لا حسب مصيرها. أما وهي في هذه الحالة فهي هاوية تسترها أزهار وتغشاها رياحين.
ما أنا معترض على المتمثلات بعينها وأخص منها الشرقية التي لا تزال الحشمة تلازمها فلا تضيع الفائدة المقصودة من التمثيل، وإنما أشجب تلك المتمثلات الأمريكية وما تدرجت إليه مما يستظهر به الضعف الإنساني على إرادة صاحبه. وكلكم يعلم أن إرادة المرء موكولة إلى ما يحيط بها من العوامل الخارجية فهي كقطعة من الحديد تدور بها قطع من المغناطيس فتنجذب إلى أقواها فعلاً عليهاً.
ومن الغريب المدهش أن كل ما يجري فيها متسامح به ولو بدت منه أقل حركة وأنزه إشارة في المجتمع لاستوجب فاعلها الرجم. وهذا أشبه شيء ببعض الحكومات التي تمنع الميسر في بلادها من وجه وتجيزه وتحلله من وجوه، كأن المقام والاسم إذا اختلفا تختلف بهما الحقيقة والجوهر.
من مذلات الفتاة الأمريكية بين بنات جنسها، ومن دواعي حزنها العميق أن لا تكون حبيبة إلى كل القلوب. تبيح لها الحقوق الشرعية(2/473)
والشرائع البيتية أن تستهوي كل من راق منظره في عينها وكثيراً ما تجتمع لديها عشرات القلوب فتتناوب الاجتماع مع أصحابها تؤنس منهم قوماً وتوحش آخرين وهي مادامت عزبة غير مسؤولة عما تفعله. وقلما تلقى فتاة لم تتجاوز المدى في الهوى وما ذلك عندهم بالأمر المكروه بل إن التي لا تتبع هذا الصراط السوي كانت من الضالات المغضوب عليهن اللواتي لا نصيب لهن من الحياة على أحدث الأزياء.
وتظل ملكة القلوب على هذا النمط إلى أن تتزوج بمن يحلو لها من عشاقها الكثيرين وللاستحلاء أمور جمة لا أظنها تخفى على قارئ.
وإذا تزوجت هذه الفتاة تابت إلى ربها، مبقية لنفسها حقوق الأمانة وعدمها وفقاً لمراعاة زوجها هذه الحقوق فإذا خان خانت. وتلك حقوقها كما هي حقوقه أيضاً. ويقيم أحدهما رقيباً على الآخر فإما أن يزل أحدهما وهذا لا يحصى. وقلما يمر نهار واحد في نيويورك مثلاً ولا يسمع فيه أهلوها بعشر حوادث طلاق على الأقل وتلك جرائدها تنبئك اليقين.
قد تشعر إحدى العائلتين بما يختلج في صدر ابنها أو ابنتها فتحاول الحؤول دون الزواج، ولكنه حؤول لا يثمر غير هرب الحبيبين فلا تمر عليهما ساعات إلا وقد نزلا بلداً آخر يجريان فيه عقد الزواج المدني والكنسي وما شرطه إلا رضى متبادل بينهما من غير ما نظر إلى رضى أهليهما.
ولا يخالن القارئ إن العائلات والأسر الوجيهة الشريفة والموسرة أرفع من أن يحدث فيها مثل هذه الأمور وإنما هي أقرب لتغذية هذه(2/474)
الجرثومة مما دونها بل ربما هربت الفتاة الغنية صاحبة الملايين مع الحوذي أو الطاهي أو من كان في منزلتهما، وذلك كثير الحدوث.
* * *
ومن غرائب تلك البلاد اختطاف الأحداث فإنه لا يمر أسبوع إلا وتفقد إحدى العائلات طفلها أسابيع وشهوراً، وربما عاماً أو عامين غير عارفة له مقراً ولا سامعة عنه خبراً إلا من مختطفيه المجهولي الإقامة والأسماء في رسائل الوعيد والتهديد بإعدام الطفل إذا لم يؤدوا الفدية ومقدارها كذا ألوف ترسل بالطريقة الفلانية إلى المحل الفلاني.
تأخذ الرعدة من قلوب الأهلين فيتذرعون بكل وسيلة ويلتجئون إلى الحكومة لمعرفة مقر الطفل متنازلين عن مطالبة المختطف، قانعين برد الطفل المفقود. ولكن أين يد الحكومة لتصل إلى ما يراد؟ وأين قوتها لتقتص من الأثيم وهو كل يوم في وادٍ؟ وأين سلطانها لتهتدي إلى مقر الطفل، والطفل كل يوم في أيدٍ جديدة يتنقل من بيت إلى آخر ومن بلاد إلى بلاد.
إلا أنه مما يشكر المختطفون لأجله هو كثرة اعتنائهم بهؤلاء الأحداث فيوفرون لهم أسباب الراحة والعيشة الرضية والانشراح فلا يبخلون عليهم بشيء. وبينهم عدد كبير من النساء المنخرطات في سلكهم لاصطياد الأطفال تارة وللاعتناء بهم طوراً.
وأخيراً يوم لا يتوفق الأهل إلى إيجاد طفلهم لا يرون وسيلة أصوب من التسليم بمطالب المختطفين فيدفعون الجزية صاغرين. ومن غرائب(2/475)
أمور هذه الفئة أن الفدية تدفع ودافعوها لا يعرفون مستلميها ولا مرقهم ولا يرون لهم وجهاً. وكثيراً ما ضجت الجرائد لاستئصال هذه الآفة إلا أنها كالنافخ في البوق بين الأموات. . .
هذا قليل من كثير مما يجري في بلاد تكاد البلاد الأخرى تتخذها منزل آلهة التمدن الحديث. وإذا قيل أين حكومتها وأين بوليسها وأين ما يقال عن عدلها وقسطها؟ قلت حكومتها موجودة، وبوليسها موجود، ولكنها الوحيدة بين الحكومات في العالم التي اتخذت مبدأها الوحيد توفير ثروة البلاد وجعل شعبها وأممها وبلاد أغنى شعوب أمم وبلاد العالم على الإطلاق، وإلى غير هذه الوجهة لا تنظر، منصرفة أكثر الانصراف عن بقية الوجوه الأخرى. وإذا كان جمع المال غاية المرء عميت عيناه وبصيرته عن سائر الغايات.
وعندهم أيضاً ما يعرف بتجارة الرقيق الأبيض وهي تجارة ذات شركات في كثير من البلاد الأمريكية تستجلب من البلاد الأوروبية كل رشيقة القد أسيلة الخد تبيعها من تجار الحسن وتبالغ في طلب الثمن المختلف لا باختلاف درجات الجمال فقط بل باختلاف الجنسية فلكل جنس عندهم ثمن معروف. والإفرنسية أغلى الفتيات ثمناً وأرفعهن مقاماً وأكثرهن رواجاً. وقد اهتمت الحكومة الأمريكية في العامين الماضيين اهتماماً مشكوراً لاصطلام هذه الآفة إلا أنها لم تؤت نجاحاً يذكر. ولا يزال مؤلفو هذه الشركات يتابعون هذه التجارة الرابحة والمدنية الحقيقة تنظر كل ذلك وتلطم خديها بيديها.
- العامري(2/476)
في رياض الشعر
دعاء الحبيب
ناظم هذه الأبيات عبد الحميد بك الرافعي الفاروقي شاعر من شعراء العصر المعدودين وقد توقفنا إلى الحصول على شيء من شعره سننشره للقراء تباعاً:
سلوها لماذا غير السقم حالها ... ترى شغفت حباً وإلا فما لها
تبدل ذاك الورد بالورس وانطفى ... سناها ورقت فهي تحكي خيالها
أظن هوى الغزلان قد هد حيلها ... فإني رأيت الريم يوماً حيالها
تناجيه سراً وهي في زي واله ... فخلت أخاها كان أو كان خالها
فيا حب غلغل في صميم فؤادها ... ويا رب لا تعطف عليها غزالها
ولكن أرحها بعض حين فإنني ... شمت بها والقلب يأبى زوالها
ومن حب لم يبغض ولو حب هاجراً ... فقد رق قلبي مذ رأيت هزالها
عسى أنها من بعد أن ذاقت الهوى ... تنوح على من كان يهوى جمالها
وتذكر إذ كانت وللحسن عزة ... ترى مهج العشاق صرعى قبالها
فتبكي زماناً فيه أبكت بصدها ... عيوناً تولاها الأسى فأسالها
ولعت بها حيناً من الدهر لم أفز ... بساعة لطف كنت أرجو نوالها
ولو عطفت يوماً علي بزورة ... لقبلت حتى بالعيون نعالها
وكم غربة قاسيت من أجل حبها ... أجوب الفيافي سهلها وجبالها
ولولا الهوى ما هام في الكون واحد ... ولا فارقت أسد العرين دحالها
وقلت لقلبي وهو يذكر عهدها ... رويدك هذي بغية لن تنالها
تركت هواها واشتغلت بغيرها ... ومن قطعت حبلي قطعت حبالها(2/477)
تعوضت عنها حب ظبي مهفهف ... له قامة تهوى الغصون اعتدالها
إذا أبصرت عين الغزالة حسنه ... نغطت بيمناها وعضت شمالها
أنست به حيناً إلى أن سلوتها ... فكان هدى نفسي وكانت ضلالها
الابتسام
عاشقان التقيا فابتسما ... وأذاعا للورى ما انكتما
فتلا الناس على وجهيهما ... ما احتوى القلبان من سرهما
ظهرت أسطره واضحة ... حين لم يسمك بنان قلما
وأتى الشاعر والشاعر لو ... راقه منظر شيء نظما
وابتسام الحب حلو فانثنى ... واصفاً إياه وصفاً محكما
* * *
هو في القلب سرور عكست ... فوقه العين شعاعاً فنما
وعليها وعلى الثغر بدا ... معرباً من شغف ما أعجما
بل هو المرآة تبدو للفتى ... في محيا من كسته السقما
فإذا ما وجهه قابلها ... عاد منها بضياء مفعما
هو نور ساطع لكنه ... بين قلبي عاشقين انقسما
فإذا ما العين بالعين التقت ... حاول الجزآن أن يلتئما
وإذا الوجهان ضاءا فرحاً ... تم للجزئين أن ينتظما
هو في قلب المعنى ماسة ... رخص الدر لديها قيما
ولها أسنى شعاع كلما ... جذبته نظرة زان الفما
ينجلي مزدهراً حتى إذا ... غضت الأبصار عنه أظلما
كشعاع البدر إن حدقت ال ... عين بالجفون التحما(2/478)
وإذا العين انقضى تحديقها ... أبصرت ذاك الشعاع انفصما
هو برق لامع إن ملأت ... كهرباء الحب قلباً يتما
زهرة تبدو على الثغر ولم ... تك ضمن القلب إلا برعما
هو قلب المغرم الصب على ... شفتيه بالهوى قد رسما
وضمير الغادة الحسناء في ... وجهها ساعة تلقى المغرما
بل هو الحب الذي قد ضمه ... كل قلب بالغرام اضطرما
فتراه العين في العين إذا ... عاشقان التقيا فابتسما
أمين ناصر الدين
راحة القبر
إن سئمت الحياة فارجع إلى الأر ... ض تنم آمناً من الأوصاب
تلك أم أحنى عليك من الأ ... م التي خلفتك للأتعاب
لا تخف فالممات ليس بماحٍ ... منك إلا ما تشتكي من عذاب
كل ميت باقٍ وإن خالف ال ... عنوان ما نص في غضون الكتاب
وحياة المرء اضطراب فإن ما ... ت فقد عاد سالماً للتراب
إسماعيل صبري
الساعة الدقاقة
ومحصيةٍ أعمارنا كلما انقضت ... لنا ساعة دقت لها جرس الحزن
فيا بنت هذا الدهر سرت مسيره ... فهل أنت دون الناس منه على أمنِ؟
إبراهيم يازجي
القلوب اليائسة
سلا قلبي وقد تسلو ... قلوب ملؤها ياس(2/479)
فلا خدٌّ ولا قدٌّ ... ولا وردٌ ولا آسُ
تظن هواك يخدعني ... وبعض الظن وسواس
وأبكي فيك آمالي ... فيبكي الطاس والكاس
ولي الدين يكن
رائعة المشيب
ورائعةٍ لما ألمت بمفرقي ... تلقيتها خوف الفضيحة بالقطف
فقالت على ضعفي قويت وإنني ... طليعة جيشٍ سوف يأتيك من خلفي
حافظ عبد المالك
البلبل المغرد
تذكار ليلة
صدّاح يا مؤنس هذا الأراك * مالي أراك * تشدو فسبحان الذي قد براك
* * *
تستقبل الفجر بصوتٍ رخيم ... يحيي الرميم
وتلثم الزهر بثغر بسيم ... لثم النسيم
وتنشد الغصن الرشيق القويم ... فيستهيم
أما ومن جوهر بالسحر فاك * حين اصطفاك * لم يسف هذا الروض لولا صفاك
* * *
صفق كما شئت بهذا الجناح ... فلا جناح
وشم خد الزهرات الصباح ... فهو مباح
وحيّ بالإنشاد ثغر الأقاح ... خدن الصباح
فالروض لم يختر مليكاً سواك * فانشر لواك * فكلنا مجاهد في هواك
* * *(2/480)
مر هذه الأطيار أن تنشدا ... فتنشدا
مر هذه الأقمار أن تسجدا ... فتسجدا
مر هذه الأعمار أن تخلدا ... فتخلدا
وبعد فافعل ما تشاء في فتاك * فشفتاك * حسبي فماذا تبتغي مقلتاك
* * *
ما أجمل الوردة بين الكمام ... ذات ابتسام
كأن على مبسمها العذب حام ... رمز الغرام
يا مبسماً يفتن لب الأنام ... بلا كلام
أنجمة لامعةٌ أم سناك * أرى هناك * طوبى لثغرٍ طاهرٍ قد جناك
* * *
روح فتى الشعر الأديب الأريب ... هذا النسيب
أودعته بعض مزايا الحبيب ... لكي بطيب
عساه من ذات العفاف العجيب ... له نصيب
صدّاح أن تقبله فانشد أخاك * نلت مناك * روحي فداها وحياتي فداك
بشارة الخوري
صاحب جريدة البرق
رصاص دم دم
هو هذا الرصاص العريض ذو الحدين يغرز في الجسم فيلتوي فيشبه ذنب العقرب المعكوف، أو يلتف التفاف علامة الاستفهام في لغات الإفرنج، التواء يشرط ما حوليه حتى لا ينفع معه مشرط الطبيب، والتفاف يمزق ما على جانبيه حتى لا تفيد فيه إبرة الجراح. يصيب فيجرح، ويجرح(2/481)
فيدمي، ويدمي فيقتل. فالموت لا محالة عقبى المصاب به ولكنه موت بأشد ألم، وأفظع عذاب
سمي دمُ دُم فكان الاسم دليلاً على مسماه. أو ليس في اشتباك هاتين اللفظتين معنى من الهول والرعب؟ دم دم اسم لبلد في الهند على بضعة أميال من كلكوتا. قاتل أهله الإنجليز في حروب هؤلاء مع الهنود فقاتلهم الإنكليز بهذا النوع من الرصاص. الإنكليز كانوا أول من استعمله وأهالي دم دم أول من اعترض عليه. حتى إذا بلغت شكوى الدم دميين إلى مسامع الأوروبيين، وعرف أبناء المدنية الحديثة ما يأتيه فريق من إخوانهم من ضروب القساوة في الحرب، عنيت ما كان يفعله الإنجليز في قتال الهنود، قام رسل الإنسانية بينهم فأيدوا شكوى أهالي الهند. وخافت الدول أن يعم استعمال هذا الرصاص في الحرب - وهي لا تأمن شرها في أوروبا - فاتفقت على منعه إشفاقاً على أبنائها. غير أن هذا المنع إنما تناول الحروب التي قد تنتشب بين أبناء المدنية، ولم يشمل الحروب التي قد يشبها هؤلاء على الأقوام الذين أخرجهم حكم تلك المدنية من عداد بني الإنسان. كأن الأوروبي ذو لحم ودم وروح وكأن زنجي أفريقيا أو هندي جزر أوقيانيا وحش ضار تستحل حياته كما يستحل قتل الأفاعي والنمرة والذئاب. ذلك هو بعض رفق الإنسان بالإنسان وعطف البشر على البشر. ولما كثر ترديد الألسنة للفظة دم دم في خلال المفاوضات التي دارت بشأن ذلك الرصاص، ولاكتها ألسنة القوم في ذلك العهد فكان يقال مثلاً: الرصاص الذي أطلقه الإنكليز في دم دم(2/482)
أو رصاص دُم دُم على سبيل التخفيف، عم هذا التكريب كما عم قولهم بنادق مارتين وبنادق موزر حتى أصبحت الإضافة علماً مركباً. ثم حذف المضاف لدلالة المضاف إليه عليه فقيل دم دم والمقصود به الرصاص الذي كان يطلقه الإنكليز في دم دم في الهند كما قيل مارتين وموزر في تعريف البنادق التي هي من طراز مارتين وموزر مخترعي هذين النوعين من السلاح.
هذا هو رصاص دم دم. وكذلك كان أصل التسمية فيه. فإذا كان الإيطاليون يستعملونه اليوم
في طرابلس الغرب كما يقول ويؤكد الطرابلسيون، أو كان الطرابلسيون يطلقون منه على الإيطاليين كما يزعم ويدعي هؤلاء، فالدول التي حظرت استعماله واجب عليها التداخل اليوم لتأييد ذلك الحظر، وإلا جاز لأية دولة أن تستعمله في حربها مع أية دولة أخرى ولم يجز لهذه الشكوى والاعتراض.
* * *
عجبت لهذا العالم المتمدن! يقول بالحرب ويجيزها. وبعد لها عدتها من رجال ومال وسلاح، ثم يعود فيرى رصاص دم دم مثلاً فيروعه خطره وتهوله فظاعته، فيمنعه بدعوى الشفقة على الإنسانية، والرفق بها. لماذا تراه لا يشفق عليها من الحروب على إطلاقها؟ أرصاص دم دم يقتل قتلا، ومدافع مكسيم تدغدغ دغدغة؟ أرصاص دم دم يصيب فيميت، ومقذوفات كروب، وسنت اتيان، وسميث، ومارتين، وموزر، وشاسبو، وغرا وهلم جراتخمش تخميشاً؟؟(2/483)
الحرب مناجزة عدو لعدو. فما بالك تدفعني إليها بطعمك وعنفوانك، ثم تحظر علي قتلك وإراقة دمك؟ إذا خفت الموت فلا تطلبه تحت ظلال الأسنة، وخفق البيارق، ودخان البارود. وإن لم تخفه فمت بالرصاص أو بالحديد أو بالنار. تعددت الأسباب والموت واحد!
تناجزني في ساحة الوغى ثم تدعي الشفقة علي فتقول لي: أنا لا أقتلك برصاص دم دم، ولكن بشظية من شظايا مدافع مكسيم. ويل أمها شفقة!
ولأغرب وأنكى أنك وأنت أنت هو نوبل صاحب معامل الديناميت والمقذوفات النارية الفتاكة، تضع جوائز للسلم تعرف باسمك ويكافأ بها كل عام أكثر الناس سعياً في سبيل نشر السلام العام. إما هذه وإما تلك. وهل من الممكن الجمع بين النار والماء؟
بالأمس تلاقى البوير والإنكليز في حرب سجال قتل فيها الابن الوحيد للورد روبرتس قائد الجيوش الإنكليزية يومئذ. فبعث القائدان البويريان بوثا ودويت برسالة إلى زميلهما البريطاني يعزيانه فيها عن مقتل وحيده. يا ويحها تعزية خففت حزن ذلك الأب الشفوق، وبردت في صدره جمرات الأسى!! مغالطات ومساخر حكمها حكم الجزار يذكر الله ويذبح!!!
بمثل هذا يهزأ العالم بعضه ببعض، ويسخر الناس فريق من فريق. إنهم يهزأون ويسخرون
ثم يسمون ذلك الهزؤ وتلك السخرية واجبات ومجاملات!!(2/484)
الشرع الذي خولك الحق بمحاربتي وقتلي، خولني الحق الصراح بقتالك وإراقة دمك. والقانون الذي أباح لك أن تجتاح بلادي، أباح لي أن أدافع عن نفسي ووطني بكل أنواع الدفاع. الشر بالشر والبادئ أظلم. اقتلني إذا استطعت ولا تهزأ بي، كما أقتلك إذا قدرت ولا أسخر منك. سواءٌ علي وسواء عليك رصاص دم دم أو مدافع كروب ومكسيم!!
ولكن حبذا قول ولي الدين يكن:
لا أحب الوغى ولا أنا منه ... كل ما يقتل النفوس حرام
محاكم الأحداث
محاكم الأحداث التي نحن بصددها غايتها العظمى إصلاح الأحداث بأية طريقة كانت. فلا يوجد لديها نظامات مسنونة تجري عليها في معاملة هؤلاء الأحداث فهي تعامل كل ولد بحسب مقتضى حاله وظروفه. تبحث لتمنع وقوع الذنب أو الجرم قبل ارتكابه وغرضها الإصلاح والمساعدة. مساعدة الذين يريدون أن يساعدوا أنفسهم دون أن يتسنى لهم ذلك.
فتسهل لهم السبل وتوردهم أقرب موارد الإصلاح وهم لو تركوا وشأنهم لأصبحوا أشقياء قتلة مجرمين فهي تشعر بعظم مسؤوليتها وتعلم أن الولد يشب على ما يربى عليه. فتبدأ من البدء وتزيل الموانع والعقبات القائمة في سبيل ترقيه. وترده عن الطريق التي قد تؤدي به إلى الهلاك والشقاء، فتغرس في نفسه حب الفضائل والصفات الشريفة في زمنٍ تتأثر عواطفه(2/485)
فيه أشد التأثر للمؤثرات الخارجية والانفعالات الداخلية. تهتم بالأحداث والصغار على اختلاف طبقاتهم ونحلهم ومشاربهم وأعمارهم. فتدرس الواحد منهم درساً مدققاً إذ تبحث عن أحواله وطرق معيشته وعائلته (إن كان له عائلة) ومحيطه وكل ما يتعلق به. ولا تقضي أمراً قبل تأكدها من صحة ما رأته وسمعته عن ذاك الحدث.
كل هذا قد يظهر للقارئ سهل المتناول. لكنه ليس كذلك حقيقة. فأسباب البلاء متعددة جداً لا تتوفر معرفتها حالاً في كل حين. وأهم جرائم الأحداث الكذب والغش والسرقة واللعن والحلف والكلام القبيح الفاسد وارتكاب المنكر وما أشبه. والأسباب الداعية لهذه المساوئ كثيرة متنوعة يصعب إحصاؤها وعدها. تنشأ من عدم وجود من فيهم الكفاءة لتربية الصغار تربية حسنة.
وما جر عليهم هذه الويلات إلا جهل والديهم أو عدم اكتراثهم لأولادهم. أو أن الأحوال قضت بتفريق الأب والأم كالطلاق والسكر والجهل والسياسة الخرقاء (كما سنرى). كل هذه قد تتحد معاً أو بعضها معاً فيترك الأولاد وشأنهم لا وازع أو مرشد يهديهم الصراط المستقيم فيضلون ويهيمون ويصبحون ضربة على الإنسانية وعيالاً على المحسنين.
ولنبحث الآن في الأسباب والعلل التي تؤدي بالأحداث إلى سوء العاقبة وشر المصير. وتوصلاً لهذه الغاية قد اعتمدت الإحصاءات المأخوذة عن مائة قضية من قضايا الأحداث ممن أحضروا أمام محكمة واحدة من محاكم الأحداث في ولاية شيكاغو من ولاية أمريكا المتحدة.(2/486)
فكانت كما يأتي:
48 منهم أحد والديهم غائب أو متوفي
31 منهم أمهاتهم يشتغلن ليعلن اولادهن
3 منهم عدد عائلاتهم فوق العشرة أشخاص
36 منهم بحالة الفقر المدقع
33 منهم أحوال بيوتهم سيئة ورديئة
36 منهم محيطهم غير صالح لسكناهم
1 منهم لا بيت ولا مأوى له
وهذه الأسباب المذكورة ينتج بعضها عن بعض. فيتسبب عن موت الأب فرضاً فقر مدقع تلتزم الأم معه أن تشتغل لتعول بنيها القاصرين فتهمل أمر أولادها وتربيهم فتسيء أحوالهم.
يتجلى للناظر حالاً أن أكثر هذه السباب عدداً هو غياب أحد الوالدين أو موته. فالوالدان هما ركنا العائلة التي تقوم بهما. فإن فقد أحدهما أصبحت العائلة واهية القوى. فيخسر الأولاد فنجد ما يأتي:
20 منهم أمهاتهم بدون عمل
34 منهم أمهاتهم يعملن أعمالاً طفيفة قليلة الأجرة
16 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار خارج البيت بالغسل والكنس والمسح إلخ
10 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار في البيت بأشغال متنوعة(2/487)
4 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار خارج البيت أعمالاً غير المذكورة آنفاً
6 منهم أمهاتهم ساكنات بعيداً عنهم
10 منهم بدون أمهات
كلنا يعلم أهمية مركز الأم في البيت من حيث تربية الصغار وتنشئتهم على الطرق المثلى فيشبون رجالاً يعتمد عليهم. ولكن متى تركت الأم أمر صغارها أو اضطرت إلى ذلك لا يقدر الأب أن يقوم بوظيفتها حق القيام. فيخسر الأولاد عناية الأم وحنوها وإرشادها. فيشبون وهم خلو من صفات الرجولية الحقة. هذا من جهة تأثير الأم على الأولاد أما تأثير الأب عليهم ففي الجدول الآتي أرقام تدل عليه:
37 منهم آباؤهم يعملون دول النهار بالمعان والمعامل وما شاكل
31 منهم آباؤهم يحترفون حرفة حقيرة
17 منهم آباؤهم لهم أشغال تشغلهم طول النهار
6 منهم آباؤهم يعملون أعمالاً شتى
19 منهم آباؤهم عجّز لا يستطيعون عملاً ما
10 منهم آباؤهم لا عمل لهم
فمن مقارنة أرقام هذه الجداول ترى نسبة عدد الأحداث المجرمين إلى الأحوال التي وجدوا فيها. وهناك أمور كثيرة تختص بهذه المحاكم سنعود إليها في العدد القادم.
توفيق جريديني(2/488)
أزهار وأشواك
كل عام وأنتم بخير
بهذه العبارة، أو بعبارة أخرى تشبهها معنى وإن خالفتها مبنى، يتقابل الأصدقاء والأقارب في هذه الشهر شهر المواسم والأعياد من رأس السنة الهجرية فعيد الميلاد فرأس السنة الغربية فالشرقية. وبكلمات التبريك وتمنيات الهناء والتوفيق تصافح كل من تجمعك به صلة رحم أو رابطة صداقة أو علاقة عمل. . . تبريكات وتمنيات كثيراً ما لا تشترك القلوب مع الشفاه في التلفظ بها؛ على انها من المصطلحات التي جرى عليها بنو الإنسان في معيشتهم الاجتماعية. ومهما يكن قد أفقدها الابتذال من رونقها الأصلي ومعناها الوضعي، فإنها لا تزال تدل على عاطفة جميلة، وهي تناسي الضغائن والأحقاد التي تولدها المنازعات اليومية بين الناس فيم عترك تنازع البقاء. وكلما زاد هذا التنازع شدة، زاد شعور بني البشر بالحاجة إلى أيام تتبدد فيها من جوهم غيوم المشاحنات وتشرق شمس البشر والسلام. . . أقف عند هذا الحد لأني لا أريد أن أعكر على قرائي صفاءهم بمطرة من الفلسفة الاجتماعية. ولكني أقول لهم من صميم الفؤاد لا من الشفاه فقط: كل عام وأنتم بخير شاكراً الذين أرسلوا تهانيهم إلى صديقهم حاصد على حسن التفاتهم، سائلاً للجميع خير ما يسأل في هذه الأعياد للأصدقاء المخلصين، وكلنا في حاجةٍ إلى أشياء(2/489)
كثيرة، لأن العام المنصرم قد حرمنا من كثير مما كنا نتمناه، حتى بات كل من تلقاه يشكو عامه. . . طوينا صفحة السنة الماضية وعرفنا رصيد حسناتها وسيئاتها. أما نعم ونقم السنة الجديدة فلا تزال في عالم الغيب.
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي
جلاد مصر
بانقضاء السنة انقضت حياة رجل ولا كالرجال، وانصرم حبل أيام من صرّم الكثير من الآجل، بشد الحبال. . . مات العشماوي الجلاد باشمحرك الآلة الشانقة أو محتكر صنف الإعدام رسمياً في وادي النيل. توفي فتنفس المجرمون الصعداء، وهبت أشباح الذين شيعهم إلى عالم الفناء ترحب بقدومه. . . حمل على الآلة الحدباء إلى القبر، بعد أن ظل السنين الطوال يحمل آلة الإعدام من بلد إلى بلد، حيث يدعوه حكم القضاء، فكان:
يمشي وعزرائيل من خلفه ... مشمر الأردان للقبض
وقد اختلف الرواة في وصف أخلاقه، فمنهم من يمثل العشماوي قاسياً فظاً غليظاً ينفذ مأموريته دون أن تمس قلبه عاطفة شفقة، ومنهم من يقول غير ذلك. أما أنا فلم أتشرف - والحمد لله - بمعرفته ولا حاولت أن أصير من زبائنه، حتى أكون راوية صدق. . . كانت الحكومة تنقد العشماوي راتباً شهرياً مقرراً، قدره أربعة جنيهات، وكان يتقاضى عن كل مشنوق يشرفه بوضع الكرافاته في عنقه خمسة جنيهات أخرى.(2/490)
فإذا عرفت أنه قضى 15 سنة في هذه المهنة وأنه شنق 576 مجرماً تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال حول الأعناق لا ينقص عن 3. 600 جنيه أي بمعدل 20 جنيهاً في الشهر. . . تجارة رابحة والله، ولكني أفضل على ذلك الذهب الوهاج المكتسب من شق المهج بضعة دراهم اكسبها من شق القصبة بعد جهاد النفس.
حاصد(2/491)
من كل حديقة زهرة
* يؤخذ من التقرير الذي وضعه مسيو ديشانيل عن المدارس الفرنسوية في الشرق أن عدد تلاميذ هذه المدارس في السنة المدرسية المنصرمة 1910 - 1911 قد بلغ 74. 000 في تركيا، و21. 500 في مصر، و2. 910 في اليونان، و325 في كريد، و667 في قبرص، و2. 000 في بلغاريا، و200 في رومانيا، و2. 800 في إيران فيكون المجموع فوق 1040400 تلميذ. وبلغ عدد الذين تلقوا العلوم العالية 752، والصناعة والتجارة 1. 695 والعلوم الثانوية 9. 943، والعلوم الأولية 81. 485.
* أراد أحد العلماء أن يعرف مقدار الميكروبات التي نتجرعها مع الهواء الذي نستنشقه، فأخذ في آلة خصوصية عشرة ليترات من الهواء في الشارع أثناء زوبعة فوجد فيها 20. 000 ميكروب من انواع مختلفة، وعليه ففي كل ليتر من الهواء الذي نستنشقه 20. 000 ميكروب.
* بدأ مسيو أوبلي مدير سكة حديد بغداد بالأعمال الفني للخط الحديدي في الموصل وحواليها. والمتنظر أن يتم الخط بين الموصل وبغداد وبين الموصل وحلب في مدة سنتين أو أقل. وسئل مسيو أوبلي عن درجة سرعة القطار على الخط المذكور فقال إنه سيقطع 30 كيلومتراً في الساعة. ولما كانت المسافة بين الموصل وبغداد 100 كيلومتر، فسوف لا يستغرق السفر أكثر من ثلاث ساعات، وكذلك المسافة تقريباً بين الموصل وحلب. وعليه فسيتوسع نطاق التجارة والزراعة في تلك(2/492)
الأصقاع وتستثمر المعادن المدفونة في أرضها ويعود إليها شيء من رخائها السالف.
* كل قذيفة تقذفها المدافع التي تبلغ فوهتها 14 بوصة تقتضي نفقة 300 فرنك وتقذف هذه المدافع قذيفتين أو ثلاثاً في الدقيقة وعليه إذا اشتبك أسطولان في معركة مدة خمس ساعات فإنهما ينفقان مبلغ 150 مليون فرنك ثمن قذائف.
* تشتغل معامل إنكلترا البحرية بصنع مدفع عظيم من طراز جديد قياسه 406 ميليمترات وهو يقذف القنابل إلى مسافة 26 كيلومتراً وزنة القنبلة 1080 كيلو تحتوي 63 كيلو من المواد القابلة الانفجار وفيها قوة كافية لخرق أضخم المدرعات المصفحة. على أن معامل بحرية الولايات المتحدة تشتغل الآن بصنع مدفع من هذا النوع يفوق الأول في ثقل مقذوفاته وقوتها.
* كتب مستر ابورت في مجلة الطبيعة الإنكليزية فصلاً عما يمكننا أن نسميه ميزانية الرجال والنساء في العالم، أي عدد الجنسين والنسبة بينهما.
وأول ما لاحظه هذا الكاتب يتعلق بالوفيات في الأولاد، فإنها في البنين أكثر منها في البنات قبل تجاوز السنة الخامسة. ثم تنعكس هذه النسبة منذ السنة الخامسة حتى الخامسة عشرة إذ تزيد الوفيات بين البنات. ولكنها تعود فتنقص بعد هذه السن فتصبح بين الذكور أكثر منها بني الإناث. ويتفاوت عدد مواليد البنين والبنات بالنسبة إلى عمر(2/493)
الأم بحسب ما يبينه الجدول التالي:
سن الأمهاتعدد البنينعدد البناتحتى 196591000كم 20 إلى 248951000من 25 إلى 2911051000من 30 إلى 3411111000بعد 3411651000والذي ينتج هن هذا البيان أنه كلما تقدمت الأم في السن زاد عدد مواليدها الذكور.
ثمرات المطابع
مسرات الحياة - أمعن النظر في الرسم الممثل أمامك. فهذا الرأس الأصلع الذي ابيض جانباه، وهذه الجبهة النافرة البارزة فوق ذينك الحاجبين الكثيفين الفضيين اللذين يكادان يغطيان تينك العينين البراقتين، وهذان الشاربان المختلطة أطرافهما بتلك اللحية البيضاء المستديرة حتى تختفي بينهما الابتسامة اللطيفة المرسومة على الشفتين، هذا الرسم الذي يمثل العمل والذكاء والوقار هو رسم لورد أفبري الشيخ الذي يتمشى اليوم في الثمانين من العمر، والعالم الفاضل المعروف بفيلسوف الحياة اليومية وصاحب سلسلة الكتب الذهبية التي نقلت إلى معظم لغات العالم، والتي كادت تخلو اللغة العربية من محاسنها لولا أن أقدم على تعريب بعضها حضرة الكاتب الأديب الفاضل وديع أفندي البستاني، فإنه ترجم(2/494)
منها كتابي معنى الحياة والسعادة والسلام ونشر اليوم الكتاب الثالث مسرات الحياة الذي يحتوي على مباحث خير ما يقال فيها إنها نتيجة درس واختبار لورد أفبري للحياة الاجتماعية. ولقد قرأناه
فرأيناه مساوياً لأخويه السابقين فائدة ونفعاً ولكنه يفضلهما بالعناية التي اختصه بها المترجم حتى جاء عربياً صحيحاً سليماً على الغالب من كل ما يشين الترجمة. فنحن نشكر لوديع أفندي اعتناءه ونحث على مطالعة هذه(2/495)
الكتب التي يعربها من حين إلى آخر فهي خير من أكثر ما يترجمه كتابنا في هذه الأيام.
وقد تولى طبع ونشر هذه الكتب حضرة نجيب أفندي متري صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها. وهي مأثرة له نضيفها إلى مآثره العديدة في خدمة العلم والأدب بما تنشره مطبعته من المؤلفات النفيسة.
كتاب البنين - وهو كتاب كان لظهوره في فرنسا منذ بضع سنين تأثير كبير، فإن واضعه رجل قد خبر الشؤون الاجتماعية وحركة الأفكار العصرية فكان له في أمته التي ترأس مجلس نوابها شأن يذكر بالثناء، وليس اسمه بالمجهول لدى أبناء الشرق، عنينا به مسيو بول دومر الخطيب البليغ والكاتب المفكر. أما كتابه هذا فقد تناول جميع المسائل التي يهم الفتيان الاطلاع عليها والبحث فيه ابعد خروجهم من المدرسة. فكتب وأجاد في الإرادة والواجب والإقدام والعدل والإخاء والحرية والتسامح والمحبة والزواج والديمقراطية والدستور والمساواة والوطنية والتعليم والتعاون والأمة والحرب إلى غير ذلك من الأبحاث
التي تشغل خاطر المفكرين. وأراد المؤلف أن يدرس هذه المسائل الخطيرة درساً خاصاً بالناشئة التي أدركت أول مراحل الرجولة، فجاء كتابه من خير ما كتب في هذا الموضوع الجليل ولما كانت أممنا الشرقية في مطلع نهضة فكرية من هذا القبيل كان مثل هذا الكتاب من أحسن ما يقدم لها ويهدى إليها هذا ما رآه حضرة الكاتب الأديب عبد الغني أفندي(2/496)
العريسي أحد صاحبي جريدة المفيد البيروتية. فحدت به الهمة إلى ترجمة كتاب البنين ليقدمه إلى إخوانه شبان الأمة العربية وهو معروف بغيرته عليها وسعيه الدائم إلى ترقية شؤونها. فكان في عمله هذا أحسن خدمة لأبناء جلدته نقابلها بالشكر والثناء. والكتاب متوج باسم رجل من أفاضل الأمة العربية وهو عزتلو السري رفيق بك العظم الذي صدّر الكتاب بمقدمة ضافية عن التربية الأخلاقية.(2/497)
تقويم البشر لسنة 1912 - هو أتقن تقويم سنوي يصدر في اللغة العربية يجمع في مئتي صفحة أهم ما يجب معرفته عن تاريخ السنين والأشهر والأيام والأعياد المختلفة وقاعدة القمر والشمس وأسماء الرؤساء والروحيين والمدنيين وجداول العملة وبدلا الدولة العثمانية مع تعليمات كثيرة جغرافية وتاريخية وفلكية وصحية مع ملحق يتضمن فوائد بيتية متعددة ونبذ أدبية وفكاهية متنوعة جمعت بين اللذة والفائدة وقد عني بجمعه وترتيبه هذه السنة أيضاً حضرة العالم الفاضل الأب لويس معلوف مدير جريدة البشير فاستحق كل شكر وثناء.
المعارف - سلسلة كتب عظيمة الفائدة جمة النفع يسعى في نشرها أديبان من أدباء بيروت وهما الأفنديان عبد الوهاب ومحمد التنير يقصدان بها نشر العلوم الطبيعية، وما تتناوله من الفروع، بين الناشئة العربية. وقد صدر الكتاب الأول منها وهو يبحث في علم الفلك بأسلوب واضح جلي يقرب هذا العلم من إدراك القارئ، ويساعد على تفهم قواعده ما فيه من الرسوم العديدة. وقد عول منشئا هذا الكتاب على أشهر مؤلفي الغرب في هذا الباب واعتمدا على الكتب العربية القديمة لوضع الاصطلاحات العلمية. ونحن نرى بمزيد السرور إقبال كتابنا على التأليف في هكذا مواضيع مفيدة.
جمعية العروة الوثقى - جاءنا التقرير السنوي لهذه الجمعية الخيرية التي اشتهرت مبراتها في وادي النيل وهو يتناول السنة الدراسية 1909 -(2/498)
1910 ويؤخذ منه أن عدد مدارس
الجمعية 17 فيهم 2267 تلميذاً و624 تلميذة منهم ما يزيد عن الخمسين من المئة يدرسون مجاناً، وإذا عرفت أن عدد المدارس في عهد الجمعية (سنة 1895) لم يكن سوى اثنتين فيهما 150 تلميذاً وتلميذة عرفت الشأو البعيد الذي أدركته بفضل أعضائها الكرام ومعاونة ذوي البر والإحسان. وفي التقرير بيان ضاف عن سائر أعمال الجمعية وحساباتها مما يدل على الخطة المثلى التي تسلكها. جزى الله القائمين بالأعمال الخيرية أحسن جزاء.
الاستقلال الفكري - هو نص خطبة فلسفية عمرانية ألقاها في جمعية الترقي القبطية في أسيوط حضرة وليم أفندي بقطر وقد بحث فيها عن الاستقلال الفكري وتدرجه حتى يومنا معززاً أقواله بالشواهد التاريخية والبراهين العقلية، مفنداً مزاعم من يتورطون في تفهم الحرية على غير معناها الحقيقي، محذراً من الحرية التي لا ينيرها التهذيب.
مفكرة المعارف - اشتهرت مطبعة المعارف بالاعتناء الكثير بكل ما يطبع فيها حتى أصبح الإتقان صفة خاصة بها. ولقد اعتاد حضرة صاحبها الفاضل نجيب أفندي متري أن يصدر في مطلع كل سنة يومية صغيرة ترف بمفكرة المعارف، وأصدرها في هذه المرة ممتازة بالاعتناء والإتقان فنلفت الأنظار إليها وإلى النتيجة (روزنامة) الجميلة التي تضاهيها محاسن وتدقيقاً وكلتاهما تطلب من المطبعة المشار إليها وثمن المفكرة 4 قروش صاغ والنتيجة 10 قروش صاغ.(2/499)
رواية الشهر
ليلة عيد الميلاد
كان ذلك في عشية ليلة عيد الميلاد من سنة 1811 وكان نابليون الأول يشتغل في غرفته الخصوصية بقصر التويلري.
وكانت القاعة الواسعة تكاد تكون مظلمة لولا أشعة أنوار ضئيلة متكسرة على الذهب الغالي تشع على الرسم الكبير المعلق على الحائط أو منعكسة على رأسي الأسدين الذهبيين الموضوعين على مسند المقعد أو متموجة على الجواهر المتهدلة على أستار النوافذ فكان ضوء الشمع ينعكس على الكتب العريض المكتظ بالرسوم الجغرافية والكتب الضخمة المجلدة بالجدل الأخضر الموسومة بحرف النون وتاج الإمبراطورية.
وكان الأطلس الجغرافي مفتوحاً عن خريطة آسيا الكبرى ويد الإمبراطور الناعمة اللطيفة تبحث بسبابتها هناك فيما وراء العجم عن طريق تؤدي إلى الهند.
نعم إلى الهند! بطريق البر؟ وماذا عليه إذا كانت بوارجه قد تدمرت وأساطيله تشتت فلم يبق لهذا المحارب العظيم إلا طريق البر الوعرة يسلكها تحت أشجار الغابات القديمة تصحبه نسوره القشاعم المتوهج ذهب أثوابها بين أمواج الحديد والفولاذ، ووهج السيوف ورهج الدروع، فيضرب الدولة الإنكليزية في خزائنها الغنية، وهي مستعمراتها الواسعة، فتدور عليها الدوائر وتطوح بها الطوائح.
أجل لقد نال نابليون عظمة قيصر ومجد شارلمان ولم يبق إلا ملك الإسكندر وليس نابليون ممن يجهلون المشرق فقد ترك في مصر آثاراً لا تفنى وقد رأته ضفاف نهر النيل العظيم قائداً صغيراً راكباً هجينه يقود شرذمة من الخيول الشواذب. وستراه ضفاف نهر الكنج إمبراطوراً كبيراً مدثراً بدثاره الرمادي. أفلا يلزم حينئذ لركوبه الفيل الضخم الذي ركبه بوروس لمحاربة الإسكندر ذي القرنين.
بلى إن نابليون يعرف كيف تغزى الأمم وتستعبد الشعوب فتمشي بين جنوده(2/500)
هناك جنود وجوهها كلون الحديد وعمائمها من نسج الحرير ويرى بين قواد جيشه أمراء الهند تسحب المطارف الفضفاضة المثقلة بالدر الثمين والجواهر الغالية، فيقف أمام الأصنام الهائلة العاقدة زنودها فوق رؤوسها ويسألها عما خبأه له الغيب، فتجيبه عما سأل في الزمن الغابر
أبا الهول أيام وقف أمامه في مصر مفكراً متكئاً على سيفه المحدب وأبو الهول لم يجبه ببنت شفة
إمبراطور المغرب! سلطان المشرق!
إنه لا يريد أن ينحت على رخام قبره غير هذين اللقبين
غير أن هناك عقبة كؤوداً وهي روسيا العظيمة ولكنه إذا لم يتوفق إلى مصادقة الإسكندر فإنه يقهره ويكسر شوكته.
ثم انبرت يد نابليون البيضاء تنبش الكتب الضخمة والتقاويم العديدة باحثة عن عدد الجيش اللجب الذي يلتف حول قيصر الروس بوجه التقريب.
نعم نعم إنه سيدحر ذلك الجبار الغاشم ويجره مع من يجر من أتباعه وحلفائه ووراءهم الفرسان المتوحشة تؤم المشرق لتغزوه.
إمبراطور المغرب! سلطان المشرق!
ما كان تحقيق هذا المشروع ليصعب على ذكائه ودهائه. وإذا توطدت قدمه في تلك البلاد واستتب الأمر طبق رغباته فلن ينقسم ملكه من بعده فيفرق على كبار القواد، كما انقسم ملك إسكندر المقدوني. لأنه قد ولد لنابليون منذ عشرين آذار ولد هو وارث مجده وسلطانه.
فتبسم ثغر الإمبراطور بسمة واضحة حين افتكر بالطفل النائم بجواره في ذلك القصر الهامد. ثم رفع رأسه بغتة بحرة فجائية وأنصت. . .
إن الغرفة مقفلة وأستار النوافذ الغليظة مرخية فمن أين جاء هذا الزنين الغريب العميق كأن النحل الذهبي المعلق على الديباج قد دبت فيه الحياة فطار وأخذ بالزمزمة. ثم ازداد الإمبراطور إصغاء فتبين له في ثنايا تلك الضجة انه يسمع قرع أجراس. آه. نعم. عيد الميلاد. . . . صلاة نصف الليل.(2/501)
وكانت أجراس كنائس باريس تقرع مبشرة بتذكار ولادة الطفل يسوع. تلك الأجراس التي أعلى مكانها بونابرت ورد لها بقايا جلالها وإكرامها أيام كان قنصلاً يحب السلام عامداً على مصالحة فرنسا مع إخوانها المبغضين.
كم مرة قرعت تلك الأجراس احتفالاً بنصراته وغزواته وليس العهد ببعيد وقد كانت جميعها تدق منذ أيام قلائل احتفاء بولادة ابنه ملك روما. في ذلك اليوم التاريخي الذي
أرسلت به السماء ولداً للإمبراطور كأنها تعترف بملكه الشرعي وتعده ببقاء ذلك الملك.
على أنها في هذا المساء تتهلل كما تهللت يوم أوسترليتز أو فاجرام وتقرع عند منتصف ذلك الليل البارد احتفالاً بتذكار ولادة الطفل الوضيع بابن النجار الذي ولد على مهد القش في مغارة ببيت لحم. وكأن تحت أستار ذلك الليل أصواتاً عجيبة تصرخ في لانهاية ذلك الفضاء الواسع المزدان بالنجوم الفضية: المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام.
فأصغى الإمبراطور إلى قرع الأجراس ثم استسلم إلى عالم الخيال فقادة فكره إلى زمن طفوليته وتذكر قداس نصف الليل في كنيسة خاله زعيم الكهنة في جزيرة اجاسيو ورجوعه مع عائلته العديدة إلى البيت القديم حيث الفقر المحتمل ببعض الكبرياء وتذكر أمه مترئسة وليمة العيد تفرق عليهم الأثمار المشوية.
أما ابنه وهو سليل إمبراطور فرنسا وأرشيدوقة النمسا فلم يعرف ولا يعرف ولن يعرف مثال ذلك الفقر المدقع بل سيكون مالكاً رقاب الأمم وسابحاً ذيل التيه والفخر على المعمورة جمعاء.
وكانت الأجراس تقرع دائماً في ذلك الليل المثلج لأجل عيد الميلاد. . .
إن الجندي المقطب الجبين العابس الوجه اللابس قبعة من القش على باب قصر التويلري يخال غضبان وهو ماشٍ يوسع الخطى لتدفئة مناكبه الباردة. إنه ليفتكر في مثل ذلك الوقت ببضع كلمات ابتهالية يتمتمها أو بأنشودة صغيرة حفظها قديماً في قريته وهو جالس على ركب أمه يرتلها وتتبسم شفتاه تحت شاربه الكثيف(2/502)
عند افتكاره بالطفل يسوع في مغارته.
أما الإمبراطور فلم يسمع نداء تلك الأجراس الطاهرة ولم يفتكر إلا بولي عهده وقد خامره وجد مبرح لمشاهدته فاستوى واقفاً وصفق بيديه فانفتح للحال باب منزوٍ وراء حاشية الستر وظهر رستم ذلك المملوك الأمين الذي استصحبه من أرض مصر فأشار إليه إشارة فطن لها رستم فحمل الشمعدان ومشى أمام سيده في دهاليز القصر المقفرة تواً إلى غرفة الملك الصغير حيث دخل الإمبراطور وصرف المرضع والنساء النائمات حول مخدع الطفل ووقف نابليون أمام سرير مولوده العظيم.
وكان ملك روما مستغرقاً في نومه الطاهر غارقاً في بياض فراشه الوثير مزنراً بزنار الليجيون دونور وقد أرخى يده الحريرية اللطيفة على حافة الفراش وأطبق جفنيه الناعسين
الغائرين في أم رأسه الصغير. فكان زنار الليجيون دونور الشديد الحمرة الذي يعترض وسط الفراش غامراً تلك الطهارة والرقة رقة وطهارة الطفل النائم كأنه رمز عن الدماء التي سيجريها أبوه أملاً بعقد تيجان الممالك كافة على هذا الرأس الضعيف ووضع صوالجة تلك الممالك في هذه اليد النحيفة اللطيفة.
فنظر نابليون إلى ابنه نظراً طويلاً وقد أفعم فؤاده كبرياء مما لم يحدث عن كبرياء عظيم قبله وهو يقول في نفسه إن كبار هذه المملكة وعظماءها وقواد جيوشها أولئك الأبطال الذين تفوق شجاعتهم شجاعة أبطال إلياذة هوميروس وكل الحكام والنظار المرصعة صدورهم بالأوسمة والنياشين الجوهرية. كلهم يطأطئون هاماتهم سرير هذا الطفل الصغير مرتجفين تهيباً وخشوعاً.
ثم استسلم لأفكاره فخيل إليه أنه يسمع في قرع أجراس العيد وقع سنابك خيله وأقدام رجله وقعقعة اللجم وصليل السيوف ودوي المدافع وإن هذه الضجة ضجة المعمعة تحت العجاج الثائر وشرار النار المتطاير. أو أنها جيوشه زاحفة على روسيا والهند. . . فثمل من خمرة افتكاره وعقد نيته عقداً باتاً على شن الغارة على روسيا والهند مقسماً انه سينصب لابنه عرشاً يشرف على أقاليم البسيطة من أقصاها إلى أدناها.(2/503)
كيف لا وقد أهدى إليه وهو طفل رضيع مدينة بطرس الرسول فهو لاشك حين يشب سيهدي إليه كثيراً من المدن المقدسة.
أمير مكة! أمير باريس! إنها لألقاب تليق بملك روما
آه. لماذا لم تلد نساء فرنسا أكثر مما هن والدات. بل لماذا لا يحتشد تحت أمره المليون والمليونان من الرجال الأبطال ليغزو بهم ممالك المعمورة قاطبة ويهبها لهذا الطفل النائم.
وقد صمت أذنه في استسلامه إلى عالم الخيال فلم يسمع قرع الأجراس الطاهرة ولم يفتكر ولو قليلاً بالمالك على السماوات الناظر إلى ممالك الأرض نظره إلى وكور النمل. . . بل لم ير بعين خياله عسكره المجر مشتتاً تشتيتاً على ضفاف نهر البرزينا مدحوراً مقهوراً والثلج له قبور ومدافن. . . بل لم ير ألويته الخفاقة تحطمها القذائف الإنكليزية في واقعة واترلو. . . بل لم ير ذلك الصخر القاحل وسط الأوقيانوس العظيم وهو له بالانتظار. . . بل لم ير في متنزه شنبرون تحت سماء الخريف ابنه شاباً شاحب الوجه هزيل الجسم
مرتدياً ثوب ضابط نمساوي يمشي الهوينا كئيباً حزيناً ينفث نفثة المصدور بين أوراق الأشجار الذابلة المتساقطة. . .
وبينما كان الإمبراطور مستسلماً لأفكاره الفظيعة ناظراً بعين مخيلته إلى ملك ابنه وذرية ابنه ممتداً من مشارق الأرض إلى مغاربها زاعماً أنه سيصبح هو نابليون من عظماء القرون الخالية أو من أبطال الحكايات الخرافية كأنه المريخ أو ملك من ملوك الشمس تحف به الأجرام الاثنا عشر وتتدفق من وجنته الأنوار والأضواء. . . كانت أجراس عيد الميلاد تدق دقات الفرح والنصر متهللة بتذكار ولادة الكفل الصغير في مغارة بيت لحم الذي ملك على العالم بأسره فعلاً ولكنه لم يملكه بشن الغارات وإهراق الدماء بل بكلمة السلام والمحبة وسيبقى ملكه على الأرواح إلى جيل الأجيال.
فرنسوا كوبه
تعريف خليل شيبوب(2/504)
العدد 21 - بتاريخ: 1 - 2 - 1912
حلم ويقظة
أمس واليوم
ريع العالم المالي في هذه الربوع من كثرة التفاليس في المدة الأخيرة، واشتد العسر على الأهالي، وأصبحت الصحف تروعنا كل يوم بسقوط محلات تجارية كنا نتوهمها قائمة على أمتن الأسس، فإذا هي غير قادرة على الثبوت أمام آخر عاصفة هبت من عواصف الأزمة المالية.
إذا صح أن يقال إن التاريخ يعيد نفسه فليس من بلادٍ تنطبق عليها هذه الحقيقة المبنية على الاستقراء أكثر من القطر المصري. فإنك إذا تصفحت تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة والبطالسة حتى يومنا هذا، تكاد تجده إعادة دائمة ومراجعة مستمرة.
الأسماء تتغير، والأشخاص تتبدل، لكنهم دائماً يمثلون الحوادث نفسها، فيلعب كل منهم دوراً واحداً في مظهر واحد. هناك بعض(2/505)
تفاصيل خارجية وأحوال عرضية تختلف، لكن الجوهر واحد يكاد لا يمسه تغيير ولا يطرأ عليه تبديل.
ترى مصر تارة خصبة غنية، وطوراً قاحطة فقيرة. تجدها آناً أهراء العالم يقصدها الأجنبي من كل صوب وحدب. وتلفيها آونة خالية خاوية تضيق بمن أظلته سماؤها ورواه ماؤها. فهي الماء القراح يتلون بلون الوعاء الذي يكون فيه، إن صافياً فصافٍ، وإن كدراً فكدر. وهو على تينك الحالتين هو، لم يفقد شيئاً من عذوبته ولذته ونفعه، يروي من قصده، ويبرد غليل من ورده. والسبب في تغيير ظاهره إنما ههو راجع إلى أمور عرضية لا تؤثر في الجوهر.
وهذه التقلبات الطارئة على مصر من رخاء وشدة، وغنى واحتياج، أكبر دليل وأصدق برهان على جودة هذه الربوع وكرمها، إذن حسن تدبير شؤونها، وصلحت إدارة أحوالها.
رقيت مصر في السنين الخالية إلى أوج الغنى: اتسعت ثروتها كل اتساع، وراجت أشغالها أي رواج، حتى جارت في هذا الميدان أغنى بلاد الله قاطبة. وقد استمرت الحالة على هذا المنوال حتى ولدت المضاربات ذلك الإعصار الهائل الذي صير العمار دماراً، والنضار رماداً.
* * *
جاء في الفصل الحادي والأربعين من سفر التكوين: قال فرعون ليوسف: رأيت كأني واقف على شاطئ نهر، وكأن قد صعد منه سبع بقرات سمان الأبدان حسان الصور فرتعت في المرج. وإذا سبع بقرات(2/506)
أخر قد صعدن وراءها عجافاً قباح الهيئات جداً دقاق الأبدان لن أر مثلها في أرض مصر في القبح. فأكلت البقرات العجاف القباح السبع البقرات الأول السمان. . ثم رأيت في حلمي كأن سبع سنابل قد نبتت في ساق واحدة ممتلئة حساناً، وكأن سبع سنابل جافة دقاقاً قد لفحتها الريح الشرقية نبتت وراءها فابتلعت السنابل الدقاق السنابل الحسان. فقال يوسف لفرعون: إن الله مكاشف فرعون بما هو صانعه. سيأتيكم سبع سنين فيها شبع عظيم في جميع أرض مصر، ويأتيكم بعدها سبع سني جوع فينسى جميع الشبع الذي كان في أرض مصر ويتلف الجوع الأرض، ولا يتبين أثر ذلك الشبع في الأرض من قبل الجوع الآتي عقبه لأنه شديد جداً. . . فليجمع كل طعام سني الخير الآتية وليخزن برها تحت يد فرعون طعاماً، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سني الجوع فلا ينقرض أهل الأرض بالمجاعة. . . .
ألا يخيل إلى القارئ عند تلاوة هذه الصفحة من تاريخ مصر القديم أنه يطالع تاريخها في هذه المدة. رأت مصر سني الشبع العظيم في جميع أرضها، ثم زحفت عليها سنو الجوع فأنستها رخاء وغناها. قام من أنذرها بمجيء العسر بعد اليسر، وإدبار الأيام بعد الإقبال، لكن صوت المرشد لم يقع في آذان مصغية، بل كان بعض القوم من اكبر العاملين على جر سني الجوع، بل هم الذين غلوا البقرات الحسان وكبلوها ووضعوها بين فكي البقرات القباح لتفتك بها. هم جعلوا مخدراً قوياً في الكأس التي رشفتها البلاد فزادوا في سكرتها، ولما أفاقت من سباتها العميق كانت(2/507)
يقظتها هائلة مروعة. وكان هذا البعض أول من ذهب ضحية هذا الحلم فعسى أن تكون هذه آخر صاعقة تنقض على البلاد فيعقبها شروق الشمس وتعود مصر إلى الرخاء والصفاء.
محادثة شبح
عن أصل الحروف الهجائية
كنت أكتب منذ زمانٍ طويل في سكون الليل وكان المنور (غطاء القنديل) يرسل على المنضدة ضوء القنديل ويبقي الظلام منتشراً على الكتب الموضوعة على طبقات تعلو الواحدة منها الأخرى في جهات الغرفة الأربع. وكانت النار الموشكة أن تنطفئ تبدو خلال الرماد كأنها شذرات من الياقوت. وكان دخان التبغ المهيج يمتزج بهواء الغرفة ويزيده تكثفاً وأمام لفافة من التبغ في قدح على كومة من الرماد يرتفع دخانها اللطيف الأزرق ارتفاعاً عمودياً. وكان شكل الظلمة في تلك الغرفة سرياً لأن الجالس فيها يشعر شعوراً مبهماً بروح تلك الكتب الملقاة في موضعها وقد سكن قلمي بين أناملي كأن النعاس قد عبث بأعطافه فجعلت أعمل الروية في أمور قديمة العهد وإذا بشخص غريب برز من دخان لفافتي كما يبرز من دخان العشب السحري. وكان شعره متجعداً، وعيناه(2/508)
نحلاوين براقتين وأنفه أقنى، وشفتاه غليظيين، ولحيته سوداء متجعدة على الزي الآشوري، ولونه نحاسياً فاتحاً، وقد طبعت على محياه علائم الدهاء والميل مع الهوى ميلاً عنيفاً، ودل شكل جسمه الربعة القامة ولباسه الفاخر على أنه من أولئك الآسيويين الذين كان الإغريقيون يطلقون عليهم اسم بربر. وكان لابساً على رأسه قبعة زرقاء مصنوعة على شكل سمكة ترصعها النجوم، ومرتدياً ثوباً أرجوانياً موشىً بصور الحيوانات وحاملاً بإحدى يديه مجذافاً وبالأخرى أدراجاً. فلم اضطرب عند رؤيته لاعتقادي أن ظهور الأشباح العديدة في المكاتب أمر طبيعي. ألا تظهر أشباح الموتى في العلامات التي تحفظ ذكرها؟ ودعوت الغريب إلى القعود فنبذ دعوتي وقال:
أرجو منك أن تدعني وشأني ولا تعتبرني حاضراً في هذا المكان فلقد أتيتك لأنظر ما تكتبه على هذا الورق العاطل لني أسر بذلك واعلم أن الأفكار التي تعبر عنها عليه لا تهمني البتة وإنما يهمني جداً منظر الحروف التي ترقمها عليه فأنا أعرفها وإن يكن قد درج على استعمالها ثمانية وعشرون قرناً وطرأ عليها تغيير ذو بال. وأنا اعرف هذه الباء التي كانت في أيامي تدعى بيت ومعناها بيت أو منزل وهذه اللام التي كنا نسميها لامد لمشابهة شكلها لشكل الجمة. وهذه الجيم مشتقة من الحرف الذي كان يقال له جمل في حروفنا الهجائية
ومعناه عنق البعير. وهذه الألف مشتقة من الفنا وهي على شكل رأس الثور. وأما الدال التي أشاهدها أمامي فإنها على مثال دالث المأخوذة عنها تمثل تماماً(2/509)
شكل مدخل مثلث الزوايا لخيمة مضروبة في رمال الصحراء إن أنت لم تجعل محيط تلك العلامة الدالة على عيشة البدو القديمة مستديراً برسمك خطاً منحنيا. ً لقد غيرتم الدالث وسائر حروفي الهجائية ولكنني لا أنحي عليكم باللائمة على ذلك لأنكم لم تفعلوه إلا حباً بالإيجاز والإسراع لاعتباركم قيمة الوقت فليس الوقت سوى التبر والعاج وريش النعام. إن الحياة قصيرة ولذلك يقضى على المرء أن يزاول التجارة ويركب مركب الأسفار دون أن يضيع دقيقة واحدة ليتسنى له أن يصيب الثروة ويصل إلى حد الشيخوخة وهو رائع في بحبوحة الهناء ونائل نصيبه من الاحترام.
فقال له: يا سيدي يبين لي عند رؤيتي إياك وسماعي كلامك أنك من أولئك الفينيقيين القدماء.
فاكتفى بأن يجاوبني قائلاً: أنا قدموس أوشبح قدموس.
فقلت له: بناءً عليه إنك لست موجوداً وجوداً حقيقياً فأنت اختلاقي ورمزي وإن تصديق كل ما قاله الإغريقيون عنك يعد من رابع المستحيلات فهم يروون أنك بطشت على عدوة ينبوع آريس بتنين كان يقذف النيران من شدقيه، وأنك قلعت أسنان ذلك الوحش وغرستها في الأرض فتحولت بشراً. إن هذه الرواية من باب الأساطير وأنت يا سيدي شخص مختلق.
من المحتمل أن أكون قد صرت كما تقول مع تعاقب الأجيال وأن يكون أولئك الأولاد الكبار الذين تسميهم إغريقيين قد قرنوا بذكري روايات ملفقة. إني أظن ذلك الأمر ولكنني لا أكترث له ولا اهتم بما(2/510)
اعتقد بي الناس بعد موتي. فمخاوفي وآمالي لم تكن لتمتد إلى ما وراء هذه الحياة التي يتنعم بها الناس على الأرض والتي افهمها الآن دون سواها، ولا أسمي حياة الطواف كشبح في غبار المكاتب، والظهور بشكلٍ مبهم للمسيو أرنست رينان أو للمسيو فيليب برجه فحالة الشبحية هذه تزيد كآبتي لأني قضيت في الدنيا حياة سداها النشاط ولحمتها تتميم الواجبات ولم أكن ألهو بغرس أسنان الأفاعي في الحقول البيوسيانية اللهم ما لم تكن تلك الأسنان عبارة عن البغض والحسد اللذين غرسهما غناي وقوتي في
نفس رعاة سيترون. وقد أنفقت أيامي في الأسفار ومخرت في جميع اللجج وانتجعت جميع الأمصار وأنا راكب متن سفينتي السوداء الموضوع على جؤجؤها مسخ أحمر هائل يحرس كنوزي ويرصد الكبيرات السبع المجولات في الفضاء بزورقهن اللامع ويهديني بتلك النجمة الثابتة التي كان الإغريقيون يسمونها الفينيقية إكراماً لي. وقد انطلقت للإتيان بالذهب من الكلشيد والفولاذ من الشاليب واللآلئ من أوفير والفضة من طارطس وأخذت من البيتيك الحديد والرصاص وسلفور الزئبق والعسل والشمع والزفت واجتزت حدود الدنيا وتوغلت في غمام المحيط حتى انتهيت إلى جزيرة البريطانيين القاتم وعدت منها شيخاً بيض الدهر لمته ومعي مقادير وفيرة من القصدير الذي ابتاعه مني المصريون واليونانيون والإيطاليون بمبالغ من النضار توازي زنته زنتها. وكان البحر المتوسط في ذلك الحين يعتبر بحيرة لي فشيدت على سواحله المهجورة مئات من المحلات التجارية. ولم تكن طيبة تلك المدينة المشهورة سوى(2/511)
منيع أخزن فيه ما كان لدي من الذهب وقد لقيت في بلاد اليونان قوماً متسكعين في دياجي الهمجية، مسلحين بقرون الوعل والحجارة المحددة فأعطيتهم النحاس وكان أنهم عرفوا بفضلي جميع الفنون.
وكان يظهر في عينيه وفي كلامه قسوة جارحة فأجبته بكلام خالٍ من الحب:
إنك كنت تاجراً موصوفاً بالنشاط والذكاء ولكنك لم تكن تحجم عن إتيان المنكر وكنت تتصرف عند سنوح الفرصة تصرف قرصان حقيقي. وحين كنت تنزل إلى البر في ساحل من سواحل اليونان أو في جزيرة من الجزائر كنت تعمد إلى بسط أدوات الزينة والمنسوجات الثمينة على اليابسة، وحين كانت فتيات تلك الأنحاء ينجذبن انجذاباً لا يقوين على دفعه ويأتين وحدهن بغير معرفة والديهن لرؤية تلك السلع كأن بحارتك يخطفون أولئك العذارى اللواتي كن على غير جدوى يطبقن الفضاء بأصوات الاستغاثة ويولون منتحبات ويلقونهن مكتوفات مذعورات في قعر سفائنك وآكلين حراستهن إلى ذلك المسخ الأحمر. ألم تسب أنت وذووك إيو الصبية ابنة إيناخوس الملك لتبيعوها في مصر؟
- من المحتمل أن يكون هذا الأمر قد جرى فإن إيناخوس الملك هذا كان زعيم قبيل صغيرة من البربر وكانت ابنته ببيضاء البشرة ذات لطف ورواء ولا يخفى أن العلاقات بين القوم الهائمين على وجوههم في مجال الهمجية، والقوم المستنيرين بمشكاة التمدن هي
هي عينها في كل زمان.(2/512)
- حسناً قلت ولكن الفينيقيين ذويك قد ارتكبوا في العالم سرقات لم يسمع بمثلها فإنهم لم يحجموا عن سرق الدياميس ونهب المدافن المصرية ليزينوا جبانات جبيل بما يعثرون عليه فيها.
- بعيشك يا سيد قل لي أمثلك يعنف إنساناً أكل الدهر عليه وشرب كان صوفوكل يسميه قدموس العتيق؟ لقد نسيت أني أكبر منك بثمانية وعشرين قرناً قبل أن يمضي علينا أكثر من خمس دقائق ونحن نتحث في غرفتك. فاعلم يا سيدي العزيز أني رجل كنعاني عتيق فلا ينبغي لك أن تشدد علي النكير من جراء بعض صناديق من الموميات وبعض فتيات همجيات مسبيات من مصر أو من بلاد اليونان وقد كان الأشبه بك أن تعجب بقوة ذكائي ومحاسن صناعتي. لقد حدثتك عن سفائني وأستطيع أن أريك قوافلي شاخصة إلى اليمن للإتيان بالبخور والمر وإلى حاران للمجيء بالحجارة الكريمة والبهارات وإلى الحبشة لجلب العاج والأبنوس، ولم تقف همتي عند هذا الحد من المتاجرة والمقايضة بل كنت صاحب معامل معروفاً بالحنكة في زمن كان في أثنائه العالم المحدث بي غارقاً في لجة الهمجية. وكنت بصفة كوني من علماء المعادن والصباغين والزجاجين والصاغة أستعين بما أوتيته من الدهاء على مزاولة فنون النار هذه الغريبة إلى حد يجعل المرء يخالها سحرية. انظر إلى الكؤوس التي نقشتها وتعجب مما للجوهري الكنعاني العتيق من الذوق السلم. ولم تكن خبرتي في المسائل الزراعية مما يستهان بي فإني صيرت تلك الأرض الضيقة المحصورة بين لبنان والبحر جنة خضراء ولا تزال آثار الأحواض(2/513)
التي بنيتها فيها قائمة حتى يومنا هذا. وقد قال أحد علمائكم: إن الكنعاني دون سواه يقدر أن يبني معاصر خالدة أعرف قدموس العتيق حق المعرفة وأعلم أني انتقلت بشعوب الحبر المتوسط من العصر الحجري إلى العصر النحاسي وقد علمت الإغريقيين مبادئ جميع الفنون واعطيتهم بدلاً من الحنطة والخمرة وجلود الحيوانات التي جاؤوني بها كؤوساً يتعانق عليها الحمام ودمى من الخزف ومنذ ذلك الحين نشطوا إلى نسخها وترتيبها على ذوقهم. وفي آخر الأمر أعطيتهم حروفاً هجائية لم يقدروا بدونها أن يحددوا ويحصروا أفكارهم التي تخلب لبك. هذا ما فعله قدموس العتيق وهو لم يفعله حباً بالجنس البشري أو رغبة في مجد
زائل بل حباً بالكسب والاستفادة الحقيقية الممكن لمسهما باليد. وقد فعله أملاً بحشد الثروة وطمعاً بشرب الخمر في شيخوخته في كؤوس من الذهب على مائدة من الفضة بين غانيات بيض الوجوه يرقصن رقصاً يثير الشهوات من مرابضها ويعزفن على القيثارة عزفاً يرنح المعاطف لأن قدموس العتيق لا يؤمن بالصلاح ولا بالفضيلة وهو يدري أن البشر أشرار وأن الآلهة وهم أقوى من البشر شر منهم. وهو يخافهم ويبذل المجهود لتسكين غضبهم بالقرابين الدموية ولا يحبهم أبداً لن الأنانية متسلطة عليه كل التسلط. وها أنذا أصف لك ذاتي على ما أنا عليه في واقع الحال وأعتقد أني لو لم أجر وراء ملاذ الحواس القوية ما كنت قد سعيت لجمع المال واخترعت الفنون التي لا تزالون تتنعمون بها في هذا العصر. وحيث لم يكن لك يا سيدي العزيز عقل كافٍ تستطيع به أن تصير تاجراً وحيث(2/514)
أنك قد اخترت مزاولة الكتابة سالكاً فيها مسلك الإغريقيين وجب عليك أن تحترمني احترامك للآلهة لأن لي الفضل عليك بالحروف الهجائية التي تستعين بها على الكتابة، فأنا مخترعها ولا يخفى عليك أني لم ابتدعها إلا لترويج تجارتي دون أن يبدر إلى وهمي ما سيكون لتلك الحروف من الشأن في العالم الأدبي. وكان يعوزني لوضع تلك العلامات أسلوب بسيط وقريب المتناول وودت من صميم الفؤاد لو كنت أستطيع اقتباسه من جيراني الذين تعودت أن آخذ عنهم كل ما لائمني لأن مسألة الأصول لم تكن عندي أمراً يعتد به. فإن لغتي هي لغة الساميين ونحتي تارة بابلي وتارة مصري ولو كان ثمة خط جميل لكنت اكتفيت مؤونة الاختراع في هذا الموضوع ولكن لم يكن يسد مسد حاجاتي الخط الهيروغليفي المستعمل عند الشعوب التي تسمونها الآن خطية ولا تعرفونها من التعقيد وكانت كتابتها بطيئة جداً وهما من الخطوط التي يفضل نقشها على جدران الهياكل والرموس على رقمها على أدراج التاجر. فالخط المصري وإن يكن مختصراً ومنحنياً قد بقي له من مثاله الأصلي شيء من الثقل والارتباك والتردد لأن الأسلوب بجملته كان فاسداً وبقيت الهيروغليفية المختزلة هيروغليفية أي مبهمة إبهاماً هائلاً. وأنت تدري كيف كان المصريون يخلطون في الهيروغليفية المطولة والهيروغليفية المختصرة وبين العلامات المعبرة عن الأفكار والعلامات المعبرة عن الأصوات وأنا بفضل دهائي اخترت اثنتين وعشرين علامة من تلك العلامات(2/515)
الكثيرة العدد وصنعت منها حروفي الهجائية الاثنين والعشرين وهي حروف أي
علامات يقابل كل منها صوتاً مفرداً وتنشأ عن مجموعها الداني المنال واسطة لرسم جميع الأصوات رسماً مدققاً. لم يكن عملي هذا معدوداً من باب البراعة والتفنن.
- أجل إن عملك كان ولا مراء معدوداً من باب البراعة والتفنن أكثر مما تتوهمه فيقضى علينا والحالة هذه أن نقدم لك هدية كبيرة القيمة لأنه بغير الحروف الهجائية لا يوجد علامات مضبوطة تعبر عن الكلام ول إنشاء ولا تعبير عن أفكار دقيقة ولا تجريد ولا فلسفة سامية المعاني. فالتصور بأن باسكال كتب سفره المعنون باسم بروفنسيال بحروف مسمارية لا يقل استهجاناً عن التصور بأن تمثال زوس الأولمبي نحتته فقمة. فالحروف الهجائية الفينيقية التي اخترعت لأجل مسك الدفاتر في التجارة أصبحت في المعمورة كلها أداة للفكرة تامة لا يستغنى عنها وإن تاريخ ما طرأ عليها من التغيير مرتبط ارتباطاً متيناً بتاريخ العقل البشري وتقدمه وإن اختراعك وإن لم يكن كاملاً يعتبر آية في الجمال وعظيم القيمة فأنت لم تخطر على بالك الحروف الصوتية التي اخترعها الإغريقيون البارعون المتفننون الذين قسم لهم هذا العالم أن يبلغوا بكل شيء إلى درجة الكمال.
- إني اقتبست عادة سيئة وهي أن أخلط الحروف الصوتية بالحروف الساكنة. ألم تلاحظ هذا المساء أن قدموس العتيق يتكلم قليلاً من حلقه؟
- إني أصفح له عن هذا الأمر وأغضي الطرف أيضاً عن سبيه إيو(2/516)
العذراء لأن إيناخوس والدها كان زعيماً للبربر حاملاً صولجاناً من قرن الوعل نحتته مدية من الصوان وأتغافل عن عليمه البيوسيانيين المساكين الفضلاء الرقص الخلاعي الذي كانت الباكانات يزاولنه وأتجاوز عن كل هفوة ارتكبها لأنه جاد على اليونان والعامل طراً بأثمن تعويذة أعني بها الحروف الهجائية الفينيقية الاثنين والعشرين وقد اشتقت من هذه الحروف الاثنين والعشرين جميع الحروف الهجائية في الدنيا ولا يجري في وهم الناس فكر على سطح البسيطة إلا وتحدده وتحفظه. فمن حروفك الهجائية يا قدموس الفاضل انبثق الخطان الإغريقي والإيطالي اللذان خرجت منهما جميع الخطوط الأوروباوية. ومن حروفك الهجائية أيضاً نشأت جميع الخطوط السامية من الأرمنية والعبرانية إلى السريانية والعربية وإن الحروف الهجائية الفينيقية نفسها أم للحروف الحميرية والحبشية وسائر الحروف الهجائية في آسيا الوسطى كالزند والبهلفي والحروف الهجائية الهندية المشتقة منها اللغة
الدفاناغارية وجميع الحروف الهجائية في آسيا الجنوبية. فسقياً له من غنى طائل ورعياً له من نجاح عام فلا يوجد الآن في جميع أصقاع المعمورة خط واحد غير مشتق من الخط القدموسي. وكل من يكتب كلمة واحدة في هذه الدنيا يعترف بفضل التجار الكنعانيين الأقدمين. وهذا الفكر يجعلني أسدي لك أوفر الشكر والاحترام يا حضرة السيد قدموس ولا أدري كيف أقدر هذه النعمة حق قدرها بقضائك ساعة من هذا الليل في غرفتي يا بعل قدموس يا مخترع الحروف الهجائية.(2/517)
- يا سيدي العزيز اعتدل في إظهار حماستك واعلم أني مبتهج كل الابتهاج باختراعي هذا الطفيف. فليس في زيارتي لك ما يجعلك تفتخر متباهياً لأني صرت أتبرم تبرماً يحبب إلي الموت منذ الحين الذي أصبحت فيه شبحاً وهمياً ولم أعد أبيع قصديراً ولا تبراً ولا عاجاً واضطررت على هذه الأرض التي يطأ فيها المسيو ستانلي عن بعد مواطئ قدمي إلى التحدث من حين إلى آخر مع بعض العلماء أو الفضوليين الذين يهمهم أمري. والآن يخيل إلي أني سامع صياح الديك فأودعك وأنصح لك بأن تسعى لحشد الثروة لأن الخير الوحيد في هذا العالم ملاكه الغنى والقوة.
قال هذا الكلام وتوارى عن نظري وكانت ناري قد خمدت وبدأت أشعر ببرودة الليل وصداع أليم.
إلياس الحويك
شيء عن الفن
لقد عرف الإنسان الفنون قبل أن عرف العلوم، لأن مخيلته اشتغلت قبل تنبه أفكاره. المخيلة ضيف تائه على الأرض وهي أقوى القوى الأدبية حركتها لا تبطل أبداً في الحياة، بل هي كالقلب تشتغل دائماً وعمله مستمر متواصل في النوم وفي اليقظة. فيها تحفظ تذكارات الماضي وآثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات وأنغام وروائح وتأثيرات، ومن مزيج هذه التذكارات والآثار تتكون أصول الفنون، فيأتي التصور والابتكار عاملاً في توسيعها، وزيادة فروعها وإتقان كمالاتها.(2/518)
إذا أنت عدت بأفكارك إلى تاريخ الأعصر الغابرة تجد للفن المكان الأول في عظمتها، ولا ترى للعلوم إلا زاوية حقيرة في أسفار المنشئين وتواريخ المفكرين. أما الكليات الغربية التي تأسست في القرن الحادي عشر فلم تكن تشغل الطلاب إلا بالشعر القديم والأحاديث الحربية وتواريخ الآداب المختصة بأشهر شعوب العالم. فقد كان التلاميذ يدرسون اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرانية، وربما العربية والآشورية أيضاً، أو غيرها من لغات الشرق القديم، بدلاً من الطبيعيات والكيمياء والهندسة. ولم يدرسوا من تآليف الأقدمين إلا أشعارهم وتواريخهم وفلسفتهم، ضاربين صفحاً عما كتبه بعضهم في الرياضيات.
على أن العلوم أخذت في الانتشار رويداً رويداً منذ القرن الخامس عشر. فتعددت الاكتشافات، وزادت الأرباح، وتكاثرت المداخيل الآلية فانصرف الفكر البشري إلى العلم التجاري، وأمسى الفن شهيداً تقام له هياكل العبادة في أرواح الأفراد المفكرين من البشر. فالقرن العشرون الذي ندعوه عصر المدنية والنور ليس إلا عصراً ميكانيكياً تجارياً!. . .
قال رسكن الناقد الفني الكبير: كل شعب يرتقي عنده الفن إلى ما يقارب درجة الكمال تسقط مملكته وتتلاشى عظمته.
لست أدري إذا رأيت في حياتك صورة رسكن، أيها القارئ اللبيب. أما أنا فقد رأيتها! وكثيراً ما أنظر إليها فأحاول نتف شعر لحيته عندما أذكر جملته هذه.(2/519)
إني أجهل أي عاطفة دفعته إلى كتابة هذه الخاطرة القاسية، ولست أدري كيف يفسرها لو كان حياً. ترى كيف يمكننا أن نقدر قدر المصريين لو لم تكن لدينا بقايا هياكلهم وتماثيلهم ونقوشهم، ونبوغ اليونان أن لم يكن بآدابهم وفنونهم، وعظمة الرومان إن لم يكن بفلسفتهم وشعرهم؟؟
وإذا قابلت الشعوب الآتية بين هذه البدائع الفنية القديمة وبين آثار أجيالنا الحاضرة، كبرج إيفل مثلاً. . . ألا تظن أنهم سيحكمون بأننا، نحن أبناء الحاضر، سليلة ابن نوح الملعون من أبيه خلقنا كي نكون عبيد أبناء عمينا المباركين، أبنار القرون المنصرمة؟
يقول بول بورجه أحد أعضاء الأكادميا الفرنساوية اثنان يفهمان الجمال الفني: العالم الراقي والفلاح الساذج. وبين هاتين الطبقتين، طبقة البشر العادية وهي كثيرة العدد، ضيقة الفكر، قاصرة المدارك، باردة الروح. ثم يأتي رسكن ذو اللحية المنتفة قائلاً: إن الفضيلتين اللازمتين لمحب الفن هما الحنان والصدق. وكلاهما محق، بل أن كلام الواحد منهما يفسر فكر الآخر.
يعني رسكن أن كل مصور، أو شاعر، أو موسيقي، أو نقاش يجب أن يكون سريع التأثر، رقيق العواطف، دقيق الملاحظة، صادق القلب أهلاً لأن يكون ترجمان الروح، وناقل بدائع الأحلام من عالم الأوهام إلى عالم الوجود والإفادة. وهو يشترط في الشاعر والمصور الحنان قبل الصدق لأن الحنان عاطفة طبيعية ثمينة، وأما الصدق فهو(2/520)
عادة جميلة يكتسبها الإنسان بالتربية الحسنة، والدرس، ومعاشرة الصالحين، ومناجاة الطبيعة. فلا تجد هاتين الفضيلتين بقوتهما العظيمة إلا في فؤاد العالم المفكر وفي فؤاد الفلاح الساذج، والاثنان أخوان!
أجل! لقد احتضنت روح الإنسان الفنون الجميلة منذ فجر المدينة، لكن ذاك الارتعاش الطاهر لم يعد مالكاً على قلوبنا. لقد تلاشت أفكار آبائنا العظيمة وتحولت قوتهم في الأبناء إلى اقتدار على اختراع الآلات المتنوعة، والجهازات الغريبة. وفي هذه وفي تلك من الاختلال بقدر ما في أجسام البشر من الاختلاط والتناقض. وأما الغرض من كل هذه الاختراعات المذهلة فهو ينقسم إلى قسمين: الأول خدمة احتياجات الإنسان الجسدية، والثاني، قتله بسرعة وسهولة. . .!
ولكن العلوم الراقية المجردة عن أطماع التجارة والأرباح، كالتي انعكف على إتقانها غليلوس ونيوتن وبسكال فنحن نضعها في صف المعارف الثانوية. . . لأن حب المضاربة والمكسب يصرعنا كما تصرعنا بهرجة الاكتشاف والاختراع.
ألا تظن أن ذلك المفكر العظيم نيوتن الذي استنتج من كيفية سقوط التفاحة قاعدة الناموس
الأبدي الذي يدير حركة العوالم الهائلة - ألا تظنه ناشئاً من نبت أفضل وأجمل من نبت تكوّن فيه فكر مخترعي الأجراس الكهربائية، والعجلات والفونوغرافات؟ ألا تظن أن هذه الاختراعات الدقيقة، الجميلة في ذاتها، تبرهن على دناءة الفكر العصري، وسقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة، حيث تتطلب(2/521)
معاملة الأسواق غشاً وخداعاً وسرقة وخبثاً وكذباً؟
لست أدري أمخطئة أنا أم محقة؟ لكن هذه الاكتشافات التي تهم الجمهور معرفتها، لا أظنها تؤثر في أرواح الأفراد كما تعمل فيها صور الفكر القديم وظواهره الفنية. إن هؤلاء الأفراد يؤثرون على بلادة الترفه الميكانيكي شرف العمل الروحي. فهم يظلون مدى حياتهم عبيداً لأحلام الجمال اللطيفة، وذوي الأمزجة السريعة التأثر حيث تختلط الحدة بالدعة، والضحك بالغضب، والسكوت بالسرور، والتأملات بالخيالات الجميلة.
مي
في جنائن الغرب
حلابة جميلة
هي فتاة الريف البعيدة عن عالم الجمال الاصطناعي، نظرة من عينيها البراقتين تغير وجه الناظر إليها، هي تعرف أن نظرة الجميل خطيب صامت ينطق بمدح الفضيلة إلا أنها لا تبالي به، فضائلها تؤثر السكينة على الضوضاء، كأنها تجهل ما هي عليه من الجمال، وما أودع فيها الرحمن من كمال.
بطانة ثوبها - أي جسمها - أجمل كثيراً من ظاهرها. لأنها وإن كانت لا تلبس البز والأرجوان فهي مزدانة بالطهر والعفاف - أنعم به من حلة جميلة حاكتها يد الصانع العظيم لا يد الإنسان اللئيم.(2/522)
هي لا تفسد جمالها ولا تبلي ثوب صحتها بالنوم الكثير. لأنها تلقنت عن أمها الطبيعة أن عدم الاعتدال في النوم هو صدأ النفس، والنفس إذا علق بها الصدأ أفناها كما يفني الحديد. فلذا هي تبكر في الصباح بكور الطائر ولا تأوي إلى سريرها إلا إذا حان وقت النوم.
اللبن الذي تحلبه بخفة ورشاقة يزداد بياضاً ليضاهي ثوب عفافها، ويزداد نقاوة ليضارع نقاوة قلبها مقر الإخلاص ومسكن الحب وقدس أقداس الجمال.
سنابل الحنطة الذهبية تخر ساجدة وتقبل قدميها عندما تقطفها كأنها تسلم نفسها طوعاً واختياراً لليد التي قلعتها من تربة الأرض التي كانت تغذيها. أنفاسها مسك وما أدراك ما المسك.
نضبت يداها من ماء الشباب لكثرة العمل المطلوب منها ولكن قلبها قد أذابته نيران الشفقة على الإنسانية المتخبطة في حمأة البؤس، وتقرحت أجفانها من كثرة بكائها على الموت الأدبي المتسلط على بني الإنسان الذين أفسدت عواطفهم المطامع الكاذبة والشهوات الشريرة.
قلب فتاة الريف كالزهرة النقية التي فتحت أكمامها وسقط ندى الربيع على أوراقها، فراحت تميل مع النسيم. تزاول أعمالها بهمة دونها الهمم، ومع ذلك تراها آمنة مطمئنة، كأن الطهارة والإخلاص والحب ثلاثة أقاليم جمعت في واحد. قلبها أنقى من الثلج في بياضه ويسمو إلى المجد عن السفاسف. وهنا مصدر تأثيرها. . . نظرة منها كافية لتذيب أفئدة
الأسود الضارية وتسكن الوحوش الكاسرة حين غضبها وتوقف(2/523)
الأجرام السماوية في حركتها ودورانها.
ومتى أقدم الشتاء بلياليه الطويلة وبرده القارص جلست تدير دولاب غزلها ونطق لسانها بكل لحن شجي يزيل عن النفس الحزينة ما ترزح تحته من شقاء وبؤس.
كل ما تمتد إليه يدها من العمل تعمله وهي قريرة العين، مسرورة الخاطر. هي لا تعمل لا خيراً لأنها جبلت على حب عمل الخير والمعروف. وهي تعرف أن العمل الشريف هو المهذب الحقيقي لبني الإنسان، وإن الكسل يتلف الإنسان نفساً وجسداً فتعلم يقيناً أن تسعة أعشار رذائل العالم ومصائبه ناجمة عن كل عمل يأتيه الإنسان ويتأفف منه الشرف.
في آخر السنة تفيض يداها بما ملكت من كدها واجتهادها على المحتاجين. وفي ملابسها لا تختار إلا ثياب الحشمة والأدب.
إذا اعتراها داء كان طبيبها هواء حديقتها البليل ودواءها من جني النحلة الحكيمة.
هي لا تخشى نازلة تداهمها إذا خرجت دون رفيق لأنها لا تقصد أذية أحد بل تريد أن ترد الشر خيراً الصاع صاعين. والحق هي ليس منفردة إنما تصحبها حاشية كبيرة من ترانيم مطربة وأناشيد منعشة.
هذه هي حياتها. ولا أمنية لها إلا أن تموت في زمن الربيع فتوضع الأزهار والرياحين فوق نعشها.
(عن السر توماس أوفبري)
ببادى غالى - الخرجوم(2/524)
رسائل غرام
بين نساء شهريات ورجال عظام
الرسالة السادسة
من الأميرة إميليا غوستاف إلى الأمير هنري أولدنزال
(كان الأمير رودلف غوستاف ملك إحدى المقاطعات الألمانية قد تزوج في أثناء إحدى سياحاته بفرنسا فتاة فرنسوية وضيعة الأصل وكتم زواجه عن الناس ثم هجر زوجته وعاد إلى ألمانيا. وبعد زمن بلغه أن امرأته قد رزقت منه ابنة هي طريدة شريدة في أزقة باريس. فعاد إلى فرنسا وأخذ يبحث عنها إلى أن وجدها بعد عناء كبير ورجع بها إلى ألمانيا. وكان كل من يرها يقف حائراً مبهوتاً لجمالها الساحر فلم يمر على قدومها بضعة أيام حتى كان جمالها الرائع حديث القوم وموضوع تغزل الشعراء. ولم تكن محاسن آدابها تقل عن محاسن جمالها فقد كانت على جانب عظيم من الشمم وعزة النفس. واتفق أنها رأت ابن عمها البرنس هنري أولدنزال فأحبته وأحبها حباً مبرحاً. ولكن تاريخها الماضي كان في نظرها لطخة سوداء فلم تشأ أن تصم بها حياة ابن عمها. ففضلت الترهب حباً به. وهكذا فعلت على رغم إلحاح أهلها وجميع أهل البلاط. وماتت في دير جيرولستين شبعانة من متاعب الحياة وآلام التذكارات. وقد كتبت الرسالة الآتية إلى حبيبها عند أوائل دخولها إلى ذلك الدير).
أيها الحبيب
أمامي رسالتك الأخيرة، كلما قرأتها شعرت بشوق إليك وحنين إلى مخاطبتك. أراك رازحاً تحت ثقل من اليأس فيزيد بي حزني وأتمنى لو أننا لم ير بعضنا بعضاً قط، إذ لولا الحب ما كنت حزيناً منكسر القلب.(2/525)
ولو لم تعرفني ما شغلت بي عن العالم أجمع. فإن كان ذنبي إليك أنني أذكيت في قلبك جذوة الحب فإني مستعدة أن أطفئ تلك الجذوة وأكفر عن ذلك الذنب بأن أضع حداً لنبضات قلبي المثقل بأعباء الهموم وإلا فلماذا أنت حزين يا هنري؟ ولماذا يجعلك حبي شقياً عوضاً عن أن يمتعك بالسعادة والحبور؟ هل يسوءك أنني دخلت الدير وأنت تعلم لأجل من دخلته؟ أليس ذلك أسطع برهان على أن حبي لك صحيح ثابت ليس له بداءة ولا نهاية؟ فإن كنت تحبني كما احبك فلا تكتب إلي بلهجة اليائس، بل كن
فرحاً مسروراً لأنني أحب أن أراك كذلك أيها الحبيب وينقبض صدري كلما تمثلتك حزيناً مثقلاً بالهموم.
دخلت الدير يا هنري لأنني أجد فيه راحة وسلاماً وأستطيع أن أخلو بنفسي فأناجيك ولو عن بعد، وأضيف إلى عهودي السابقة عهداً جديداً لا تفصم عراه حتى تنطوي صفحة الخلود. فإذا لم يقدر لي أن أراك في هذه الحياة، فإن موعدنا الضفة الأخرى من نهر الأبدية، حيث نحلق كلانا في ذلك الفضاء الرحيب متنقلين بين الكواكب، كما تنتقل الفراشة بين الحقول.
لماذا تلومني على دخولي الدير يا هنري؟ أليس الدير أول محطة على الطريق إلى السماء حيث نجتمع كلانا بعد أن نخلع هذا الثوب الهيولي؟ فلماذا يسوءك هذا الأمر وأنت عالم بما ينطوي عليه من راحة وعزاء؟
هي أيام تنقضي يا هنري. فإما أن يشفيك الزمان من غرام الشباب، أو أن يزيدنا الفراق ثباتاً في الحب. وسواء قدر لنا اللقاء في هذه الحياة،(2/526)
أو لم يقدر، فإنني مقيمة على عهودي لك لا أميل عنك قيد شعرة ولا أنساك طرفة عين.
. . اكفني عذاب الذاكرة يا هنري. إن السرور الذي تجده في تذكرك أيامنا السالفة ينقلب عندي إلى آلام مبرحة، فأخلو بنفسي وعيناني مغرورقتان بالدموع إذ تتمثل لي أيامنا السعيدة ونحن لاهيان عن كل شيء ما سوى الحب.
سقياً لمواقف العهد القديم! ليتني أستطيع أن أنساها، لأنني كلما تذكرتها تقوم في نفسي ثورة عواطف تضيع بين الشجن والسرور. فلقد كانت تلك الأيام أشبه بحلم هنيء أعقبته يقظة محزنة. لذلك أحاول أن أتناساها فلا أستطيع، لأن رسمك لا يبرح من فكري وصوتك الرخيم يرن دائماً في أذني. حقاً إنني مدينة لك بأيامي السعيدة يا هنري. ولو كنت الآن واقفاً أمامي، لألقيت نفسي بين ذراعيك وأسمعتك خفوق هذا الفؤاد الذي تنطق كل نبضة من نبضاته بما يكنه لك من الحب الخالد.
ربما تحزنك رسالتي هذه يا هنري. ولكن فؤادي مفعم بهموم تضيع معها الابتسامة التي كنت تعهدها في شفتي. كيفما التفت أرى مظاهر الطبيعة تذكرني بك، لأن حبي لك يمثلك حاضراً في كل مكان وزمان. وهذا دليل آخ على أن حبنا الطاهر يزيد كلما طال بنا
الفراق، ولا تؤثر فيه الأيام. ولقد كنت أستكثر على البشر روميو وجولييت، وأتصور حبهما من أساطير الأولين إلى أن أحببتك، فعلمت أن في العالم(2/527)
روميو آخر وجولييت أخرى، وإن الحب قد يبلغ من النفس إلى درجة يحملها على ارتكاب كل جريمة، وجرائم المحبين حسنات عند الملائكة!
إن الراهبات هنا يسمينني الزنبقة، لأن كل فتاة تعطى عند دخولها هذا الدير اسماً جديداً للدلالة على انقطاعها عن العالم وابتدائها بحياة جديدة. فهل يعجبك اسمي الجديد يا هنري؟ وهل أنت واثق أنه سواء تغير اسمي، أو بقي كما هو، فإن حبي لك ثابت لا يتغير.
في هذا الدير زنابق كثيرة مثلي داميات القلوب. لعلهن يجدن في الانقطاع عن العالم بلسماً يشفي جروحهن التي لا تقبل الاندمال. أما أنا فلم أجد بعد هذا البلسم. والصلاة والحيدة التي أركع كل يوم لأرفعها إلى الله هي أن تعيش سعيداً في هذه الحياة.
لو خيرت أن اجلس على العرش طول العمر أو أكون زوجتك يوماً واحداً ثم أموت لنبذت العرش ولم أحفل به، لن سعادة يوم واحد معك أفضل عندي من أبهة الملك. ولو كان في كرهك إياي سعادة لك لكنت أنا أيضاً أتمتع بذلك الكره لأن سروري لا يتم إلا بسرورك أيها الحبيب.
إلى الملتقى يا هنري. بودي لو ينفسح لي أن أطيل حديثي معك ولكن. . .
إميليا
بقلم سليم عبد الأحد(2/528)
الشعر
(2)
الوجه اللفظي والوجه المعنوي
إن حقيقة الشعر لا تتوقف على الوجه اللفظي الذي مراده الوزن، فإن للوجه المعنوي فعلاً كبيراً في ماهية الشعر لا بل هو الروح، وقد قال أرسو وهو أول من كتب في فلسفة الشعر: إن حقيقة الأشياء هي التي تميز القول العشري عن ماهية غيره وتجعل الشاعر شاعراً وليس هيئة الشعر.
وأنت إذا قرأت تليماك أو تصفحت الشهداء يخيل إليك تارة أنك تسرح في رياض زاهية زاهرة، وتمرح في مروج باهية باهرة، وطوراً تنظر قصوراً شاهقة، وتشعر كأنك على ظهر سفن تنساب بك في الدأماء، وأحياناً تحلق فوق ذيل الهواء، وتشاهد السحب الزهراء مبعثرة في بساط الزرقاء، وغير ذلك بحيث تثور في باطنك لواعج الأشجان في مآزق الكروب وأمام أوصاف الحزن. أو تجيش بك(2/529)
بواعث الإعجاب والاستحسان تجاه مناظر الكون، بيد أنك في كل ذلك تكون منيطاً طرقك بصفحات الكتاب.
وكأني بك تقول وإذا كان ذلك كذلك فما بقي وراء الشعور وماذا يفيد إذن الوجه المعنوي في الشعر؟ قلت إن أرباب هذه الصناعة أجمعوا على أن هذه المحاكاة المخيلة لا تعد شعراً بأي وجه من الوجه وليس في هذا القول اثنان. فللقريض في الأقاويل الشعرية مزية كبرى. فهو أحق بأن تفرغ فيه المعاني الشعرية السامية والعواطف الرقيقة. وإذا تتبعت ذلك استقراء تدركه من تلقاء نفسك، فإنك إذا أطلقت للقلم العنان في مجال وصف، وأرسلت فيه الكلام إرسالاً يأتي عليك وقت تتقد فيه العواطف اتقاداً وتمتلئ النفس حماساً، وتشعر بضيق نطاق العبارة المرسلة فتهجم عفواً على العبارة المتوازنة المسجعة وهي ضرب من الشعر.
ثم أن القريض من شانه أن يحرك أوتار النفس ويبث فيها ثورة وانفعالاً بمعنى أنه يولد فيها العواطف وينمي فيها روح الجمام والنشاط ويرغبها ويطربها ولقد صدق من قال: إن الشعر أشبه بزمام مجمل يمتلك من النفس ويديرها كيفما شاء.
ومما لا ريب فيه أن للقريض نصيباً وافراً في اللذة التي تخالج أفئدتنا والسهولة التي تخدر
أعصابنا عند تلاوة الشعر أو سماعه. فلولاه لتعذر على أي كان أن يأتي على آخر قصيدة مؤلفة من مئة أو من مئتي بيت فأكثر نظراً لذبول زهرة العواطف وإخماد انفعالات النفس الحماسية التي يستحيل أن تظل مضطرمة. كذلك إن المعاني إذا طالت متتابعة لابد(2/530)
أن تهي وتتخللها ركاكة ولكن القريض يوجد اللذة مستمرة رغماً عن طول القصيدة وما ينتج من الملل والسأم.
غير ذلك فالقريض كسمير للشاعر أو هو كعروس الشعر. يرزقه إلهاماً ويفتح عليه مغلق الكلام ويفجر له عيون المعاني. ولقد يقر بذلك كل من اعتاد ركوب بحر الشعر. وعلى ما يحكى أن المتنبي كان دأبه إذا عمد إلى الصناعة أن يتغنى ويصنع، حتى إذا ما توقف رجع إلى الإنشاد من أول القصيدة إلى حيثما توقف، وبذلك يأتي عليها بكرة. وعلى هذا المذهب حذاق الشعراء لما فيه من قرب المدرك.
هذا هو فعل الوزن في الأقاويل الشعرية.
ثم أن هناك فرقاً آخر يبعد القولين - الشعر والنثر - بعد الخافقين. فإن للشعر خواصاً وأساليب انفرد بها ولا تصلح أن تكون لغيره، وهي كثيرة يضيق نطاق هذا العجالة عن حصرها.
فمن ذلك أن الشاعر كثيراً ما يكتفي بالحذف والزيادة ويشير إلى معانٍ بطريق التلميح والإيجاز.
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
فهاتان الصورتان=طلوع الشمس وغروبها - تؤديان حسناً المعنى الذي أشارت إليه الخنساء. فطلوع الشمس كناية عن جمال أخيها ويحتمل أن الغروب يذكرها انزواءه. وقيل أن المشهد الأول كناية عن الغارة والغروب عن الضيفان.
وهذا وماثله يدخل في صناعة الشعر. ثم أن الشاعر يكثر من تقديم(2/531)
القيود على المقيدات والصفات على الموصوفات وإعادة الضمير إلى ما يريد تجاهله أو التعريض به. ويسهل على الشاعر أيضاً أن يفصهم عرى الروابط اللغوية والوصل والمتعلقات بقدر ما تسوغ له الجوازات الشعرية وليس في النثر شيء من ذلك فإنه إذا نحي فيه منحى الشعر ساق ذلك إلى الالتباس والاستغراق.
ومعلوم أن المعنى في الشعر أقرب إلى الفهم مما في النثر. خذ مثلاً مرثية المتنبي في أم سيف الدولة واقرأ الصدر من كل بيت فتدرك عفواً المعنى الذي تضمنه العجز.
ناهيك أن الشعر كلف بالتشابيه الرائعة والمجازات البديعة والكنايات المستملحة والمبالغات الظرية، فإذا نما فيها وأنمى أطرب الألباب وبلغ مبلغاً عظيماً من الألذاذ والإعجاب بخلاف النثر فإنه إذا تعددت فيه الصور المخيلة والتشبيهات والمجازات ظهرت به الكلفة واستولى على القارئ سأم أو مجه الذوق كارهاً. ولئلا يقال إننا نرسل الكلام اعتباطاً، دونك قطعة من مقالتي الغربة والغربية للإمام شهاب الدين الخفاجي:
لما هزتني أريحية الشباب، إلى اقتعاد سنام الأرض على غارب الاغتراب، وقد أجدبت الأرض من كل ماجد، يجتني جنى المجد ويجني له ثمار المحامد، وتعطلت من كريم تلتف عليه المحافل، وتسير في ظلال أعلامه الجحافل. . . اقسمت ببيت سالت ببطحائه أعناق المطايا، وثمل ركبانه بكأس السرى في الغدايا والعشايا. آه. .
في ذلك كفاية ليشعر ذو الذوق السليم ببدء سآمة، مع أن لهذا(2/532)
الكلام منزلة علياء من البلاغة، فالمعاني سامية، والإنشاء من النمط العالي، والتخييل في منتهى الكمال وإنما ليس هذا اللباس كساءه فكان أولى بأمثال هذه الأقوال أن تفرغ في مهيع القريض وتنسج على منواله.
حلمي المصري
في رياض الشعر
إلى سابا باش
كتب سعادة إسماعيل صبري باشا وكيل نظارة الحقانية السابق إلى سعادة السر يوسف سابا باشا ناظ المالية يعزيه على فقد نجله فريد وقد قصف الموت غصنه الرطب في خلال الشهر الفائت:
سابا اتق الله وخل الأسى ... لجاهلٍ يعذر في جهله
لا تكترث بالزرء وانهض به ... فالرأي كل الرأي في حمله
مثلك من يلجأ إن راعه ... يوم بمكروه إلى عقله
قضى فريد وهو غض الصبى ... وخلف الحسرة في أهله
وقابلته في الجنان العلى ... ملائك لله في شكله
واهاً له من غصن ما نما ... حتى ذوى واجتث من أصله
سابا أبك لكن كالحكيم الذي ... يخاف أن يطعن في نبله
واصبر فكم من جزع آكل ... من صحة المرء ومن فضله
فالليث لا تنسيه أحزانه ... مقامه أن ضيم في شبله
- إسماعيل صبري(2/533)
قطرة دم
لقي خليل أفندي مطران منذ أيام سيدة في إصبعها خاتم فصه من الياقوت فقال لصاحب كان معه:
حذار لقلبك من لحظها ... فما فيه من رحمة للمحب
ألم تر في يدها خاتماً ... به قطرة الدم في شكل قلب؟
خليل مطران
عطفاً على الفقراء
ابني القصور بني الأطالس والغنى ... عطفاً على فقراء هذي الدار
هم في الكهوف على الحضيض وأنتم ... بين الرياض وباذخ الأسوار
هم للأنين على الشقاء وأنتم ... لرنين حلي أو رنين سوار
هم يشربون من الدموع وأنتم ... بين الكؤوس ورنة الأوتار
هم ينزعون إلى الرغيف وأنتم ... تتناولون الخبز بالقنطار
هم بين أشواك الحياة وانتم ... فوق الصدور منابت الأزهار
أنتم بأثواب الحرير وهم كما ... ولدوا وإن سعدوا ففي أطمار
هم في الجحيم وأنتم في جنة ... أنتم على بردى وهم في النار
فتفقدوا يا قوم إخواناً لكم ... هؤلاء أيضاً من صنيع الباري
شبلي ملاط
أنا والبدر
أنا كالبدر عاشق وكلانا ... ساهر الجفن خاشع الطرف صابر
نقتل الليل صامتين لئلا ... يعلم الليل ما تجن الضمائر(2/534)
ونذيب الأنفاس في الصدر كيلا ... تكشف السر نار تلك المجامر
يا سميري في وحدتي لا تدعني ... في سكون الظلام وحدي حائر
وحشة الليل والفؤاد فهل لي ... يا شريك الأسى سواك مسامر
تتجلى يا بدر فيك معان ... من حبيبي إذ كان مثلك زاهر
قد تشابهتما جمالاً ولطفاً ... وكمالاً في الخلق للب ساحر
وتخالفتما مقاماً ووقعاً ... أنت في العين وهو في القلب حاضر
وليم غرزوزي
النحو في الشعر
سألتني عن التنازع يوماً ... غادة بالجمال تسبي وتصبي
قلت إن كان للتنازع معنى ... فهو ما بين ناظريك وقلبي
أمين ناصر الدين
خلقت جميلاً
خلقت جميلاً ولم تعطف ... وفيك الحنان ولم ترأف
وتقتلني سهام اللحاظ ... وتوهم أنك لم تعرف
فإن كان طبعك هذا الدلال ... فالله للمغرم المدنف
وإن كان ذنبي لديك الهوى ... فعذري في حسنك اليوسفي
قوامك يوصف بالاعتدال ... فما بال قلبك لم ينصف
ولي من عيوني عيون تسيل ... ولكن ناري لا تنطفي
فلا تحسب الدمع لي عادة ... فدمعي لغيرك لم يذرف
إبراهيم العرب(2/535)
عهد الطفولة
طوت عهود الصبى يد القصر ... وشوبت صفوهن بالكدر
طفولتي أين أنت من زمن ... وأين ليل الغرام من سمر
طفولتي ردك الزمان وكم ... أعطى ورد الزمان من أثر
طفولتي هل إذا ذكرتك بالدم ... ع تفيد الدموع في الذكر
يرحم الله منك ماضية ... من الليالي مضت مع السير
زمان كانت (فلانة) معنا ... درة تجتلى من الدرر
زمان كان الهوى لعهدك بي ... رضيع ثدي الآصال والبكر
نامياً مثلنا ومفتقداً ... منتظر الظل مرتجى الثمر
وارداً صادراً هناك ولم ... نعلم بذاك الورود والصدر
ونحن قلبان خافقان على الأر ... ض خفوق الحيا على الشجر
وحولنا صبية مجمعة ... كأنهم باقة من الزهر
* * *
أين نداء البنات (يا ولد) ... يمزجن جد المقال بالهذر
وهن مثل القطا إذا انتثرت ... يلقطن حب القلوب في السحر
تمشي التي لا اسمها بمنكشف ... عندي ولا حبها بمستتر
مشي غزال النقا إذا طرحت ... عليه إحدى حبائل النظر
خضباء من دمعها على زمن ... كنا به درتين في نر
تكاد في العين من ملاحتها ... تنزل في العين منزل الحور
وأنزل الله في امرئ عزلا ... أنزل فيها جوامع السور
فقل لمن ينكرون قدرته ... لتلك إحدى عجائب القدر(2/536)
وقل لمن يعبدونها سفهاً ... لهذه صورة من الصور
وقل لمن يدّعى الغرام بهم ... خذ بجميع الغرام أو فذر
وقل لمن يعذل المحب أفق ... لهذه عبرة لمعتبر
* * *
آه من الحب لا رماك به الل ... هـ فإن المحب في سقر
فاختبر أمره على حذر ... منه فليس العيان كالخبر
#يا ويلتاه عليك يا كبدي ... من حاكم جائر ومقتدر
لقد جهلنا الغرام في الصغر ... وهل عرفنا الغرام في الكبر
أخاطر في الرؤوس منبعث ... شعاعه في النفوس بالشرر
وهاجس جاعل مطاوعه ... بين الورى سخرة من السخر
وحاجة كل أمرها عجب ... منوطة بالبكاء والسهر
طلاسم تلك لست أعرف من ... يحلها غير فاطر البشر
عبد الحليم المصري
البنفسجة
لما أرادت ربة الأزهار أن ... تأتي الطبيعة بالأرق الألطف
خلقت بنفسجة الحقول وأصبحت ... منفتونة بجمالها المستطرف
حتى إذا غادرت على حسناتها ... وغدت تود بأنها لم تقطف
قالت لها ماذا أزيدك يا ابنتي ... حتى تصيري آية اللطف الخفي
قالت إذا شئت المزيد فغطني ... يا أم بالوراق حتى اختفي
طانيوس عبده(2/537)
سادوم وعامورة
ايه أهل سادوم وعامورة، اسروا وجوهكم عن مرأى ضياء الآلهة وضعوا أصابعكم في أذنيكم لئلا تسمعوا توبيخ الرب، بلغ سيل آثامكن الربى، فها وجه السماء يكفهر. فعن قريب ستمطركم ناراً وكبريتاً، وتحول قصوركم الشامخة التي تنبعث منها روائح الفساد والخطيئة إلى مستنقعات آسنة، وبحيرات مالحة.
قصة تاريخية قرأناها منذ نعومة أظفارها ثم تركناها في إحدى زوايا ذاكرتنا غير عالمين أن ما يسطره المؤرخون عن حوادث الأقدمين إنما هو عبرة للمتأخرين.
من هم أهل سادوم وعامورة؟
هم أبناء هذا الجيل، ومعاصرو القرن العشرين الذي نصفه بالمدنية تمويهاً وتفاخراً. فلا تغرنك الاختراعات والاكتشافات، وما أتينا من باهر الحكمة في سن النظامات، وضبط قواعد اللغات، وبقطر بطن الأرض وانتزاع أحشائها، واختراق كبد السماء بمراكبنا الهوائية غير ذلك من مستنبطات هذا العصر. فما هذه إلا زخارف نزين بها جدران تلك القبور المكلسة كي تلهي الناظر وتشغل الخاطر. . . فنحن نحن المتمدنين الذي امتلكوا ناصية الهواء والماء وكادت الطبيعة بأسرها تكون رهن أمرهم نحن أهل سادوم وعامورة. ولا يخدعنك من باريس لطافتها ورقتها، ولا من لندن فخامتها وعظمتها، ففيهما(2/538)
تتمثل اليوم فظائه تينك المدينتين بالأمس. . . يخون الصديق صديقه، ويتعمد الأخ قتل أخيه. ويشاحن الزوج زوجته. ويعق الأبناء آباهم، فلا حب ولا مقة، ولا عهد ولا ثقة. أسرت الشهوات القلوب، وغلت الأهواء الأفئدة بأصفاد فولاذية فاختفت الرحمة وأسلم الحنان الروح. بهر البواصر بهاء الفضة، وخلب القلوب لمعان الذهب. فخر الناس ساجدين وأوقدوا شموع عواطفهم على مذبح الجشع الأشعبي. فما بالكم يا أهل سادوم وعامورة مسترسلين في الغرور ومنغمسين في الشرور، كأن لا صجعة في القبور، ولا حشر ولا نشور، أنسيتم باريكم أم تناسيتموه فدستم وصاياه المقدسة، أني وجدانكم يناقشكم الحساب وينخسكم بمهماز تأنيبه؟ أراكم به لا تشعرون. ولكن صوت الضمير يرن في أعماق صدوركم فترتعد النفس جزعاً وتضطرب هلعاً، فهنالك الجحيم وهنالك جهنم منك وفيكم.
تعال معي أيها القارئ نمتط مناط التصور، ونمر على بني البشر لنشاهد بعض أعمالهم. . . أترى ذلك الإنسان الذي يشبه قول عنتر:
بنواظر زرق ووجه أسود ... وأظافر يشبهن حد المنجل
ماسكاً بعنق رجل آخر وهو يقوده إلى دار القضاء ليفي الفلس الأخير، انظر هناك شخصين في مقتبل العمر متشابهي الملامح وأظنهما شقيقين. ولكن تفرس ففي يد الأكبر مدية يتعمد بها طعن أخيه. هناك رجلان يتخاصمان على بعض دريهمات لم يتفقا عليها، وهنا كهل جالس مع بغي ينظر إليها نظرة الظفر بعد أن قتل مزاحمه المضرج أمامه بدمائه.(2/539)
هيا إلى تلك البقعة السوداء تر جماعة كالأبالسة شكلاً يتآمرون على السرقة والفتك. هناك في تلك البناية الباسقة المتلألئة بالأنوار جماعة من الشبان يتناولون بأقداح بلورية سائلاً يقتل الشعور، ويميت الفضيلة. هذا ربح مال رفيقه حراماً بالميسر، وهذا خسر ما تملكه يده فانتحر. وهناك وراء البحار دخان متصاعد في الفضاء ورعود قاصفة وبروع لامعة وأشلاء متطايرة هناك نار الحرب شبها الطمع فذهبت بالأرواح والأموال ولم تبق ولم تذر. . .
يا أهل سادوم وعامورة! إن السماء أزمعت أن تصب عليكم جام غضبها، فاقلعوا عن هذا الغرور فليس من إبراهيم يشفع بكم إلى الله. أو هل بينكم عشرة أبرار تتذرعون بهم لديه فتنجوا من عذاب اليم؟ أين نجد هؤلاء الصالحين؟ لا أدري، فتش معي أيها القارئ، فقد أعياني البحث والتنقيب، ولم أظفر بضالتي المنشودة.
حمص
بدري فركوح
محاكم الأحداث
يقف الإنسان لدى هذه المصاعب والأسباب مدهوشاً بائساً لا يدري طريقاً للعمل. لكن صاحب الإقدام والسعي لا يخيب له أمل. فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل وقوعه وذو العدة لا تعييه الحيلة التي يرجو بها المخرج من هذه المصاعب بالوسائط والذرائع التي يتوفق إلى إيجادها.(2/540)
ولبيان خطورة الأمر وحرج الموقف زر السجون على اختلاف طبقاتها تر ما لم تكن تتصوره من الشرور والآثام. تر الشرط متجسداً بأجساد بشرية تعمل على خراب الإنسانية ودمارها. ت رجالاً ونساء وأولاداً أنمة قتلة أشراراً لا ناموس لهم ولا ضمير يردعهم عن شرورهم ومعاصيهم يصرفون معظم أوقاتهم بالأحاديث القبيحة الفاسدة. تصوراتهم رديئة كأخلاقهم وأعمالهم وكلامهم لا تقدر الأذن على سماعه فماذا يحل بحدث صغير يزج بمكان كهذا؟ أنلومه بعد ذاك ونعاقبه العقاب تلو العقاب لأعمال كنا نحن السبب بغرسها في نفسه. ونقول بعد هذا كله ما غرضنا إلا إصلاحه وإرجاعه إلى سبيل الرشاد. أفهكذا يكون الإصلاح وهل يتم تقويم المعوج بطرق كهذه. إن هي إلا طرق يشتم منها آثار الهمجية والظلم. آثار الأعصر الماضية المظلمة. فقد أصبحنا وعصرنا اليوم يختلف تمام الاختلاف عما سبقه من العصور الخوالي فما بالنا نستعمل ما كانوا يستعملونه في تلك الأيام؟
هل قعد الدهر بالإنسان فتقدم في كل أمر وشان إلا في مسألة القضاء والأحكام إذ ما فتق له عقله استعمال الوسائط والأسباب لتخفيف مصائب الإنسانية الصغيرة المظلومة.
اجل. فقد كان الناس فيما مضى لا يهتمون للجاني وإصلاحه بل كان جل مقصدهم إصلاح ما أضر به وأفسده فيصرفون قواهم وأوقاتهم لإرجاع مسروق واسترداد مسلوب. أما الآن فصرنا ننظر إلى المذنب الجاني نظر الطبيب إلى المريض لنرد إليه ما فقده من الحرية الشخصية لإساءته(2/541)
استعمالها وقصدنا الوحيد إصلاحه وإرشاده. هذا إذ كان رجلاً مدركاً كبيراً فكيف إذا كان ولداً عاجزاً صغيراً.
ولشرح كيفية معاملة الحدث في محاكم الأحداث قد أخذت دليلنا محكمة واحدة من هذه المحاكم وهي محكمة أنفر من ولاية شيكاغو إحدى الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأنها كانت أول ما نشأ من نوعها في تلك الولايات ولأن كل ما قرأته وحصلت عليه من الكتابات في هذا الموضوع عائد بالفضل إلى مؤسساها الفاضل إذ تكرم علي ببعض نسخ
من مؤلفات له وضعها في هذا الموضوع نفسه.
ومحكمة انفر هذه مشهورة في تلك البلاد لشهرة مؤسسها فإنه كان منذ أول نشأته ميالاً إلى السياسة فصار متشرعاً ثم قاضياً إلى أن أحرز رئاسة محكمة ولاية شيكاغو وذلك سنة 1899 لأنه يمتاز بكفاءته وشدة ميله إلى الاستقلال الفكري والإداري. وأخيراً اهتم بأمر إصلاح شؤون الأحداث ومحاكمتهم إذ انتبه إلى حالتهم الرديئة ومعاملتهم السيئة، وبعد جهاد عنيف تمكن من إنشاء محكمة مختصة بهم للنظر في شؤونهم وأحوالهم فاستقال من منصبه العالي وأخذ على نفسه إدارتا وتنظيمها إلى أن تم له ذلك فنشأ لنجاحها عدد كبير مثلها في أغلب الولايات الأمريكية.
وإليك بيان مجرياتها باختصار:
يحضر المتهم إلى المحكمة فلا يرى هيئة المحكمة على كراسيها وراء المنابر بل عند دخوله يستقبله القاضي بوجه ضحوك ويجلس بجانبه ويأخذ بمحادثته كأنه ولد مثله إلى أن تتمكن بينهما عرى الألفة والمودة. فيثق(2/542)
الولد به ويعتمده. فيفهمه القاضي أن هذه المحكمة ليست كغيرها من نوعها تهويلاً وتعذيباً فجل مرادها مساعدته لإصلاح نفسه بنفسه، ومتى وثق الولد بالقاضي ائتمنه وأطلعه على كل ما يريد الاطلاع عليه فيشرع بتشجيعه وإنهاض غيرته فيستفز حميته بالكلام المؤثر اللطيف. يلقي عليه النصائح المتعددة ويخبره جلياً بالأضرار الناتجة عن قبح أعماله وسوء تصرفه وكم يعاني غيره من جراء أعمال يحسبها هو طفيفة لا تأثير لها ولا ضرر. فيشرح له واجباته نحو نفسه أولاً ثم واجباته نحو حكومته وبدلته ومحيطه وكيف أنه بسلوكه وتصرفه يقدر هو نفسه أن يؤثر في محيطه فبلدته فحكومته بكونه عضواً حياً عاملاً على نجاحها ورقيها. ثم يريد تدريجاً وجوب إطاعة الأوامر والنظامات ويبين له كيفية التصرف والسلوك الحسن وبالإجمال فإن القاضي بكلامه وأفعاله وأمثاله ينفث فيه روحاً جديدة كانت كامنة فيه فتهيج معها عواطفه فيرى قبح أعماله السابقة وأفعاله الماضية فيندم على ذلك أشد الندم ويشعر من جهة أخرى بواجباته ومسؤوليته ويعلم أن مقابل هذه المسؤولية والواجبات حقوقاً كان قد خسرها بإهماله تلك. فيعد القاضي وعداً صادقاً مخلصاً بتغيير سلوكه ومنهاج حياته. فيطلق القاضي سراحه بعد أن يثق بكلامه تمام الوثوق. فيخرج الولد شاعراً بروح شريفة تجددت فيه ونفس نشيطة
تحثه على إتمام واجبات طالما أهملها سابقاً.
هذا هو سر المحكمة وقوامها الوحيد فإنه لا شيء يؤثر في نفس الولد ككلام اللطف المنبعث من صدر شفوق ونفس حساسة تود خيره(2/543)
ونجاحه ومتى شعر الولد بذنبه وأقر به هانت طريقة إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله.
ولكن كثيرين لا يتمكنون من تغيير سلوكهم لأول مرة وما ذلك إلا لشدة تأثير المحيط عليهم أو لتمكن عاداتهم وأخلاقهم منهم فيصعب نزعها حالاً. فتنقلهم المحكمة إلى محيط يشجعون به على عمل الحسن والمعروف فينسون أعمالهم السابقة ولا يرجعون إليها.
وإن عاد احدهم إلى سابق أعماله يعيد عليه القاضي الكرة فيسمعه النصائح والمواعظ ويورده طريق السير والعمل ثانية فيتغير بمداومة النصح والإرشاد وقد يحدث له ما يميله عنها فلا تؤثر فيه. فترسله إذ ذاك المحكمة إلى إحدى مدارس الحكومة الصناعية التي لها علاقة بها فيدرب هناك على نظامات وتعاليم تؤديه طريق الصواب والصراط المستقيم.
هذا وقد يبقى الواحد مع كل هذه الوسائط ميالاً إلى الشر لا يحيد عنه فيعسر طريق إصلاحه وهذا نادر شاذ ولا يقاس على الشواذ.
توفيق جريديني
قالن ابن المقفع:
ليس من خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب: فإن كان شجاعاً، سمي أهوج؛ وإن كان جوّاداً، سمي مفسداً، وإن كان حليماً، سمي ضعيفاً؛ وإن كان وقوراً، سمي بليداً، وإن كان لسناً، سمي مهذاراً؛ وإن كان صموتاً، سمي عيياً.(2/544)
ثمرات المطابع
المعلوم والمجهول
أصدر ولي الدين بك يكن الجزء الثاني من كتابه المعلوم والمجهول في نحو 160 صفحة مطبوعة طبعاً جميلاً في مطبعة المعارف المشهورة ومزينة بصور بعض الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وبرسوم الأماكن التي عرفها المؤلف إبان وجوده في المنفى. ولو كان ولي الدين يكن من الأدباء الذين لا يكترث لهم، أو لو كان كتابه هذا من الكتب التي تهمل في زاويات المكاتب، لزدنا على ما قلناه الآن كلمة الثناء ثم وقفنا عند هذا الحد. ولكن الزهور لا تنظر إلى ما يهدى إليها من المبوعات نظرة التقريظ المبتذل فقط، ولا تكتفي بذكرها لمجرد الإعلان عنها ولاسيما متى كان الكتاب كتاب المعلوم والمجهول، والكتاب ولي الدين يكن.
طالعنا هذا الكتاب بما يستحقه من الإمعان والتدقيق فرأينا فيه أنموذجاً من السياسة العثمانية تجاه الأفراد العثمانيين في خلال ثلاثة وثلاثين عاماً من سلطنة السلطان عبد الحميد الثاني. بل هو تاريخ في شخص وليا لدين بك يكن لحياة الأحرار الذين اضطهدهم العهد العثماني الماضي. وفي رأينا لو أن كل واحد من أولئك الذين تمكن منهم عبد الحميد وحكومته، قرأ هذا الكتاب، لتوسم أنه يقرأ فيه تاريخ حياته الخاصة فما(2/545)
يختلف عليه سوى الأسماء والتواريخ. أما الوقائع والظروف فمتشابهة متماثلة، وأما الفظائع والمظالم فهي هي. فإذا كان ولي الدين قد كتب في المعلوم والمجهول تاريخ اضطهاد ونفيه فإنما وصف في شخصه شقاء(2/546)
إخوانه الذين ابتلوا بمثل بلواه، وقاسوا من الشدائد ما قاساه. ولولا أنه قد رأى هذا الرأي من قبل ما أقدم على كتابة المعلوم والمجهول فإن في أخلاقه من الدعة والتواضع ما يربأ به عن نشر هذا التاريخ لمجرد التباهي اليوم بما لقيه بالأمس، والافتخار بما نزل به من مظالم العهد الحميدي ولعله أشار إلى ذلك حيث قال:
لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء، وإنما أبالي أن يصدق فيّ أحدهما
الجزء الثاني من المعلوم والمجهول، كالجزء الأول منه وكلاهما كالصحائف السود صورة مجسمة لنفس ولي الدين. إنني لا أعرف كاتباً أو شاعراً عربياً في يومنا الحاضر أقدر من
صاحب المعلوم والمجهول على تصوير العواطف وتمثيل الشعور. اقرأ له أية قصيدة شئت وأي مقال أردت فإنك تحس أن نفسه تسيل مع ألفاظه وقلبه يتمشى بين كلماته وسطوره. هذه الجمل القصيرة المقطعة التي لا تربطها الواوات والفاآت، ولا تتخللها عنجهية بعض الكتاب وتقعره وتصنعه في الإنشاء، وتثاؤبه في كل جملة من جمله حتى ليتثاءب معها القارئ وتجيش لها النفس، هذه الجمل المنتقاة ألفاظها، والسليم تركيبها، تؤثر في النفوس تأثير السلافة في الرؤوس.
ولقد يقول قائل إن ولي الدين في شعره أسمى منه في نثره، فأرده حينئذ إلى المعلوم والمجهول فأريه ذلك الشاعر الرقيق الحساس، ناثراً ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والإيجاز السليم، وملء وصفه للأشياء وللحوادث سلامة الذوق، ونزاهة الفن حتى لكأنه يكتب(2/547)
بريشة رافائيل فيصور العواطف تصويراً، ورسم المعاني رسماُ، وما الكاتب القدير إلا من استرق إليه النفوس، وملك قيادها فتلاعب بها ما شاء وما شاء له التفنن والإبداع، فصير قارئه أسيره وطوع إرادته يضحك لضحكه، ويغضب لغضبه. كذلك رأيت ولي الدين. فهو يرضيك ساعة الرضى ويستبكيك حين يبكي حتى تكاد تلمس دموعه لمس اليد، وتحس بناره تتأجج من خلال ألفاظه وهي تأكلها أكلاً. ولقد وقفت أنظر إليه وأتأمله في وداعه للأستانة يوم اكره على مغادرتها في الليل أسيراً منفياً، تاركاً أهله وولده، غير عالم إلى أين مصيره، وسمعته يتحسر على فروق ويتأوه على البوسفور، فخلت أني أسمع أنينه بأذني، وأرى شقاءه بعيني، وألمس جراحه بيدي. ورأيته وهو يكتب نثراً كأنه ينظم شعراً، بل رأيت في تفجعه الشعر الحقيقي مجرداً عن الوزن، طليقاً من القافية، فقلت في نفسي إنما هذا أرمياء آخر يبكي على أورشليم جديدة.
فإلى الأدباء كتاب المعلوم والمجهول فهو من خير ما تحتويه المكاتب، ومن أنفس ما يخلد فيها من نفائس المطبوعات في هذه الأيام. وجزى الله كاتبه خير الجزاء وعفا عنه.
نعمان خوري قنصل فرنسا
هو اسم رجل عرفه وعرف مآثره الطيبة أبناء الشرق والغرب فقد ولد في بكاسين من أعمال لبنان ودرس اللغات العربية والتركية والفرنسوية والإنكليزية في بيروت فنبغ فيها ولم يلبث أن سافر إلى عاصمة الفرنسيس(2/549)
حيث ساعد في تحرير مجلة سياسية كان يديرها
السياسي الكبير مسيو ليون غامبتا فتمكن من إظهار صفاته الممتازة فعينه الحكومة الفرنسوية موظفاً في البلاد التونسية فكان ذلك بداية عهده في السلك السياسي. وظل صاعداً في معارج الترقي حتى عين سنة 1894 ترجماناً وقنشلياراً لقنصلية فرنسا في القاهرة ورقي بعد سنتين إلى درجة فيس قنصل وبعد أن عهدت إليه حكومته بمهمة خصوصية في بلاد الحبشة سمي قنصلاً في سيواس فعدن فجدة فحرر (في الحبشة) فالصويرة (مغادور). وفي سنة 1910 رأت الحكومة الفرنسوية أن ترقيه إلى رتبة قنصل من الدرجة الأولى. وكان في جميع هذه الوظائف التي تقلدها موضوع ثقة حكومته وإعجاب رؤسائها. وفي 15 أغسطس سنة 191 عاجلته المنية في ميدان عمله فراح شهيد الواجب. وقد رأى حضرة المسيو جان ريفول أن ينشر مآثار هذا الفقيد الكريم فطبع ترجمة حياته المملوءة بالأعمال المجيدة. وكأنه أبى أن يكيل له المدح جزافاً فشفع هذه الترجمة بخطابات التعيين التي كان يتلقاها الفقيد في وظائفه من أساطين السياسة - كفليكس فور وهانوتو ودلكاسه - وبمكاتيب وتلغرافات التعازي التي وردت بعد وفاته. يلي ذلك تآبين رجال السياسة له وخصوصاً تأبين مسيو بيشون وزير خارجية فرنسا الأسبق، وأقوال(2/550)
أمهات الجرائد الفرنسوية. وكلها تشهد للفقيد بحرية الفكر وأصالة الرأي وطيب السريرة والثبات في العمل. طالعنا كل ذلك في كتاب مسيو ريفول فرأينا كيف يقدر الرجالُ الرجال، وكيف يكون الناس بالأعمال. فنشكر الكاتب على كتابه ونكرر تعزية آل الفقيد ولاسيما حضرة شقيقه مسيو نجيب خوري الموظف بالحكومة التونسية وابن عمه سليم أفندي الخوري الموظف في نظارة الداخلية المصرية. وننشر رسماً للفقيد أخذناه عن مجلة الالوستراسيون وهو يمثله بملابس المكتب.
أزهار وأشواك
باب للرزق
أصبح غلاء المعيشة فاحشاً وصارت أبواب الرزق أضيق من سم الإبرة. والناس عاملون جادون لاستنباط حيلة أو لإيجاد وسيلة تفتح بوجههم باب الفرج وهم لا يجدون. مرة واحدة في حياتي أريد أن أكون اقتصادياً لعلي أصيب بعض النجاح فينجح معي من يقبل على مشترى أسهم مشروعي. ولا تزيدني التفاليس المالية الكثيرة في هذه الأيام إلا إقداماً. وإليك هذا المشروع الغريب الذي تنازل لي عن امتيازه أحد الأمريكان: نهتم بتربية القطط فنجمع منها مليوناً. وكل قطة تلد في السنة 12 وجلد القطعة البيضاء يساوي 5 بنسات وجلد السوداء 3 شلنات فيمكنا أن نقدر ثمناً متوسطاً لكل جلد شلناً و3 بنسات. وهكذا يتوفر(2/551)
لدينا في السنة 12 مليون جلد يبلغ معدل الدخل من بيعها ألفي جنيه إنجليزي في اليوم. هذا من حيث الإيراد أما من حيث النفقات فإن العامل الذي يتقاضى أجرة يومية 8 شلنات يقدر أن يسلخ 50 قطة في اليوم. وهذا المشروع يحتاج إلى ألف عامل فيكون صافي الإيراد اليومي بعد دفع أجرة العمال ألف جنيه. بقيت مسألة تغذية هذه الحيوانات. وسنحلها بتربية الجرذان قرب القطط. ومن المعروف أن الجرذان تتناسل أربع مرات أكثر من القطط، فيكون عندنا أربعة جرذان لكل قطة وفي ذلك كفاية. أما الجرذان فنغذيها من جثث القطط بعد سلخها. وهكذا تأكل الجرذان القطط وتأكل القطط الجرذان ونأكل نحن الجلود - أعني الأرباح الناتجة من بيعها - وقدرها ألف جنيه في اليوم. فما قول أصحاب الرأسمال في هذا المشروع؟ هم يضحكون مني ومن مشروعي وأنا أضحك معهم. ولكن قد مرت أيام على القطر المصري كان يكفي فيها أن تتصور المخيلة مثل هذه الألاعيب المالية لتتسرب الأموال الطائلة إلى جيوب مخترعيها. وما العهد ببعيد. وما تفاليس اليوم إلا معلولات تلك العلل. .
قلب من ذهب
أهدى صديقي حسون الذي يعرفه قراء الزهور قلباً من ذهب إلى إحدى السيدات، وأرفق القلب بأبيات جميلة أطلعني عليها. هديته الذهبية كانت للسيدة؛ أما هديته الشعرية فإنها لها وللقراء، وهي:(2/552)
يا ليت قلبي معدن مثل الذي ... أهديته لا يعرف الخفقانا
لصبرت فيك وأنت أظلم ظالم ... وحملت منك الهجر والسلوانا
لكن قلبي شبه أوتارٍ إذا ... ضربت شكت نغماتها الأشجانا
أو ما رأيت نحولها كنحولنا ... شبح يؤثره الأثير كلانا
أن تضربي وتر الفؤاد فحاذري ... بالضرب من أن تقطعي الشريانا
أو كان لا يرضيك إلا دامياً ... ليت الذي ما بيننا ما كانا
حاصد
جرائد جديدة
الجديد - جريدة أصدرها في سان باولو من أعمال البرازيل نجيب أفندي نسيم طراد الكاتب المشهور وفارس أفندي نجم. إن لها من اقتدار صاحبيها الفاضلين ما يكفل لها النجاح.
البرهان - جريدة ينشئها في طرابلس الشام حضرة الكاتب المعروف الشيخ عبد القادر المغربي فنتمنى لها الانتشار الذي تستحقه.
البيرق - جريدة أسبوعية أنشأها في الحدث (لبنان) حضرة نجيب أفندي شديد عقل وسعيد أفندي فاضل عقل من أفاضل الأدباء المعروفين في سورية فنرجو لها النجاح.
المراقب - دخلت جريدة المراقب الغراء التي ينشئها في بيروت حضرة الكاتب الفاضل جرجي أفندي عطية في سنتها الرابعة مطردة خطته الجميلة.
جبل عامل - جريدة أسبوعية يصدرها في صيدا (سورية) حضرة الكاتب لمعي أحمد أفندي عارف الزين صاحب مجلة العرفان الزاهرة فنؤمل لها مزيد الانتشار.(2/553)
ختام السنة الثانية
تختتم الزهور بهذا الجزء سنتها الثانية شاكرةً للقراء إقبالهم عليها ولأدباء اللغة العربية تعضيدهم لها بنفثات أقلامهم، حتى لقد جاءت مجموعتها الثانية، كمجموعتها الأولى، معرضاً لخير ما جادت به قرائح المشاهير من كتاب العصر، فقد بلغ عدد الذين راسلوها في هذه السنة وحدها سبعين كاتباً وشاعراً. على أننا نرغب إلى قرائنا في أن يوافونا بما يرونه من عوامل التحسين، فالزهور إنما هي لهم ومنهم.(2/554)
العدد 22 - بتاريخ: 1 - 3 - 1912
السنة الثالثة
تدخل الزهور مع هذا الجزء في سنتها الثالثة وهي عاملة على إتحاف قرائها بكل ما لذَّ وطاب من ثمرات القرائح الناضجة والعقول المفكرة. فالأجزاء التي ظهرت منها إلى اليوم تؤلف سلسلة مقالات شائقة وعقداً من القصائد الغراء لأشهر حمَلة الأقلام في مصر وسوريا والعراق. وإذا نحن فاخرنا بذلك فإنما نحن نفاخر بمآثر كتاب العربية وشعرائها في هذا الجيل. على انهُ ليسرنا أن يرى أبناء لغتنا أن الزهور كانت في خلال عامين ماضيين من جملة البواعث على تأييد النهضة الأدبية الحديثة التي تزداد اتساعاً يوماً فيوماً بفضل عوامل النشر الجديدة. ولقد عقدنا العزم على متابعة السير إلى الأمام ونحن على رجاء إن نتمكن من توفير أسباب التحسين في عملنا جهد المستطاع.(3/3)
ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رأس الوهابية
تقدم الكلام في هذه المجلة (2: 287) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رأس الوهابية بمنزلة كونه منهض دين الإسلام في النجديين عند انحطاطه فيهم , والآن نذكر ترجمته لكونه عالماً ناشراً الآداب في بلاده , نلخصها عن عدة كتب مخطوطة , منها: كتاب عنوان المجد. في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد , للسيد إبراهيم فصيح الحيدري , وكتاب روضة الأفكار والإفهام , لمرتاد حال الإمام , وتعداد غزوات ذوي الإسلام , للشيخ حسين بن غناَّم الإحسائيّ , فنقول:
1 - الشيخ محمد من بيت علم - كان أبوه الشيخ عبد الوهاب عالماً فقيهاً على مذهب الإمام احمد بن حنبل؛ وكان قاضياً في بلدة العُيينة , ثم في مدينة حريملة (تصغير حرملة) , وذلك في منبلج القرن الثاني عشر من التاريخ الهجري , وكان له معرفة تامة بالحديث والفقه والتفسير وغيرها , وله أسئلة وأجوبة في هذه الأبحاث. وكان والد الشيخ عبد الوهاب الشيخ سليمان عالماً فقيهاً أعلم علماء نجد في عصره , وله اليد الطولي في العلم , وانتهت إليه رئاسته في نجد. صنَّف ودرَّس وأفتى. إلا أن الشيخ عبد الوهاب , وجده الشيخ سليمان , بل كان شديد التعصب , كثير الاعتراض على العلماء , ويجوّز قتال من خالفهُ , بل يعتقد كفره , ويسمي قتال المسلمين المخالفين لآرائه(3/4)
جهاداً في سبيل الله ويجعل أموالهم كغنائم أهل دار الحرب , ويمنع من قصد زيارة صاحب الدعوة والاستغاثة والاستشفاع بهِ إلى الله تعالى , إلى غير دلك مما يطول شرحه.
2 - سعيه في ترقية العلم في بلاده - سعى الشيخ غاية السعي في تعليم الناس العلم وحثهم على الطاعة , وأمرهم بتعليم أصول الإسلام وشرائطه , وأحكام الصلاة وأركانها وواجباتها وسنتها وسائر أحكام الدين , وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشائين في معرفة الله تعالى , فلم يبقَ أحد من عوام أهل نجد جاهلاً بإحكام الدين , بل أتقنها جميعهم , بعد أن كان أغلبهم جاهلاً لها إلا الخواص منهم وقد أخذ عنه عدة مشايخ منهم: أبوه الشيخ عبد الوهاب , والشيخ محمد بن حياة السندي المدني , والشيخ عبد الله بن سيف وغيرهم وقد قدم الشيخ محمد إلى بغداد وأخذ العلم عن السيد
صبغة الله الحيدري وعن غيره.
3 - أولاده وأحفاده - ولد للشيخ محمد أربعة أولاد وكلهم تلقوا العلم عن والدهم , وأسماؤهم: الشيخ حسين , والشيخ عبد الله , والشيخ علي , والشيخ إبراهيم. فأما الشيخ حسين فهو خليفته من بعده والقاضي في بلد الدرعية. ولحسين المذكور عدة أولاد علماء وهم: علي وحمد وحسن وعبد الرحمن وعبد الملك.
وأما الشيخ علي ابن الشيخ محمد فكان عالماً في الأصول والفروع والحديث والفقه والتفسير , وكان قاضياً في حوطة بني تميم , ثم ولي(3/5)
القضاء في الرياض في أيام فيصل بن تركي
وأما الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد فكان عالماً جليلاً وله مصنفات عديدة. وهو الخليفة بعد أخيهِ الحسين. ولي قضاء الدرعية في زمن سعود وابنهِ عبد الله
وأما الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد فكان عالماً أيضاً , لكنه لم يولَّ القضاء
وحسن بن حسين كان فقيهاً , وولي القضاء في الرياض في عهد تركي وعبد الرحمن بن حسن كان من العارفين للفقه أتم المعرفة وكان قد أصاب سهماً حسناً من التفسير والنحو وغير ذلك. وُلّي القضاء في ناحية الخرج في أيام تركي وفيصل
وأما حمد وعبد الملك فكانا من طلبة العلم وأهل الذكاء والمعرفة وممن أخذ العلم عن الشيخ محمد عبدُ الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد (وهو ابن ابنهِ) , وقد وُلي القضاء في الدرعية في عهد سعود الأمير المشهور.
4 - كلمة عامة في صفاته - كان الشيخ محمد نع وفرة علمه من دهاه العرب أيضاً. والذي ميزه عمن سواه تشديده في بعض الأصول والإحكام ومخالفته للإمام احمد بن حنبل وما عليه جمهور الحنابلة في كثير من المسائل.
5 - وفاته ورثاؤه - توفي الشيخ المذكور وله من العمر اثنتان وتسعون سنة. ورثاه كثير من شعراء نجد وغيرها. وممن رثاه الشيخ حسين بن غنام بالقصيدة الآتية , وفيها ما يدلك على كيفية النظم وأسلوبه(3/6)
في تلك الديار في منبلج صبح القرن الثالث عشر للهجرة. وفي القصيدة بعض أغلاط لعلها من الناسخ ونحن نذكرها على علاتها:
إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع
لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فسالت دماء في الخدود وأدمع
إمام أصيب الناس طرأ بفقده ... وطاف بهم خطب من البين موجع
واظلم أرجاء البلاد لموته ... وحل بهم كرب من الحزن مفظع
شهاب هوى من أفقه وسمائه ... ونجم ثوى في الترب واراه بلقع
وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وبدر له في منزل اليمن مطلع
وصبح تبدى للأنام ضياؤه ... فداجي الدياجي بعده متقشع
لقد غاض بحر العلم والفهم والندى ... وقد كان فيه للبرية مرتع
فقوم جلا عنهم صدا الدين فاهتدوا ... فإسماعهم للحق تصغي وتسمع
وقوم ذوو فقر وجهد وفاقة ... حووا واقتنوا ما فيه للعيش مطمع
لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع
أيان له من لمعة الحق لمحة ... أزيل بها عند حجاب وبرقع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع
فأنوار صبح الحق بادٍ سناؤه ... ومصباحه عالٍ ورياه ضيًّع
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميذع
وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيى ما تعفى ويرقع
وينفى الأعادي عن حمى وسوحه ... ويدفع أرباب الضلال ويدفع
يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع
فأضحت به السمحاء (كذا) يفتر ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكا به الناس تربع
وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالا لمعي ترفع(3/7)
فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع
لقد وجد الإسلام يوم فراقه ... مصاباً خشينا بعده يتصدع
وطاشت أولو الأحلام والفضل والنهى ... وكادت له الأرواح تترى وتتبع
وطارت قلوب المسلمين بيومه ... وظنوا به أن القيامة تقرع
فضجوا جميعاً بالبكاء تأسفاً ... وكادت قلوب بعده تتفجع
وفاضت عيون واستهلت مدامع ... يخالطها مزج من الدم همع (كذا)
بكته ذوو الحاجات يوم فراقه ... وأهل الهدى والحق والدين أجمع
فمالي أرى الأبصار قلص دمعها ... وليست على فقداه تهمي وتدمع
ومالي أرى الألباب تبدي قساوه ... وليس على ذكراه يوماً توجع
لقد سخنت عين تضن بمائها ... عليه وكبد قد أبت لا تقطع
يحق لأرواح المحبين أن ترى ... مقوضة لما خُلت منه أربع
وتتلو سريراً فوقه قمر الهدى ... وشمس المعالي والعلوم تشيع
فما بالها قرت بأشباح أصلها ... ولم تك في يوم المعالي تودع
فيا لك من قبر حوى الزهد والتقى ... وحل به طود من العلم مترع
لئن كان في الدنيا له القبر موضع ... فيوم الجزا يرجى له الخلد موضع
سقى قبره من هاطل العفو ديمة ... وبأكره سحب من البر همع
وأسكنه بحبوحة العفو والرضي ... ولا زال بالرضوان فيها يمتع
6 - تآليفه - للشيخ محمد تآليف كثيرة فيها المطوَّل والمختصر , فيها الكتاب والرسالة. فمن تصانيفه: 1ً كتاب التوحيد وقد شرحهُ جماعة من العلماء بعده 2ً كتاب فسَّر فيهِ آيات من القرآن واستنبط منها أحكاماً كثيرة , حتى انهُ ذكر في قصة موسى والخضر أكثر من مئة مسئلة. 3ً كتاب كشف الشبهات في بيان التوحيد وما يخالفهُ والرد على المشركين. 4ً كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5ً رسالة(3/8)
في تفسير شهادة أن لا اله إلاَّ الله. 6ً كتاب في تفسير الفاتحة. 7ً رسالة في معرفة ربهُ ودينه ونبيهُ. 8ً رسالة في بيان التوجه في الصلاة. 9ً رسالة في معنى الكلمة الطيبة. 10ً رسالة في التقليد وانهُ جائز لا واجب. 11ً كتاب مفيد المستفيد. 12ً كتاب أصول الإيمان. 13ً كتاب الكبائر. 14ً كتاب آداب المشي إلى الصلاة وهو مختصر الإقناع. 15ً كتاب مختصر الشرح الكبير. 16ً كتاب مختصر الإنصاف. 17ً كتاب مختصر سيرة ابن هشام. 18ً مختصر الهدى النبوي , للإمام ابن القسيم. 19ً مختصر الفتاوى المصرية , لشيخ الإسلام ابن تيمية. 20ً نبذة في معرفة الدين الذي معرفتُه والعمل بهِ سبب لدخول الجنة وإضاعته والجهل بهِ سبب لدخول
النار. 21ً المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية. وهي تزيد على مائة مسئلة وقد طبعت في الهند وقد شرحها الشيخ العلاَّمة السيد محمود شكري أفندي الآلوسي. وهناك غير هذه المؤلفات والرسائل ما يطول شرحهُ وسرده. وكلها عن المواضيع الدينية. وإنشاؤه سلس لا كلفة فيهِ ولا تعقد. إلاَّ أن النساخ قد حرفوا وصحفوا ألفاظاً يعرفها من له الاطلاع في العربية. - هذا ما أردنا أن نبينهُ بوجه الاختصار لكي يقف القارئ بعد ذلك على ما يكتب في هذا الصدد والسلام
(بغداد)
سانسنا(3/9)
الخواتم
نشرنا في الزهور (2: 245) مقالة عن التعليم الإجباري في مصر لحضرة الكاتبة الفاضلة السيدة هند كريمة سعادة اسكندر عمون بك المحامي المشهور. ووعدنا حينئذ بإتحاف القراء بشيء جديد من تفئات قلمتها. وانه ليسرنا أن يكون من جملة محسنات الزهور في سنتها الحاضرة سلسلة مقالات ستكتبها حضرتها في موضوع لم تطرقه مجلاتنا من قبل على ما تعلم , وهو تاريخ الحلي النسائية وعادات التحلي بها عند جميع الشعوب ولا ريب عندنا في أن هذا البحث سيروق قراءنا كثيراً - وقارئاتنا على الأخص - لاسيما وان حضرة الكاتبة قد أحاطت بالموضوع من جميع أطرافه ووفته حقه من التحري والتنقيب. وقد اختارت أن تفتح هذا الباب بمقالة عم الخواتم وهي أكثر الحلي شيوعاً: الخاتَم والخاتِم نوع من أنواع الحليّ الشرقية الأصل , اشتق العرب اسمهُ من ختَمَ , لأنه كان يُستعمل للختم , وكان العرب في جاهليتهم يتختمون لمجرَّد التحلّي , ويصوغون خواتمهم من الذهب والفضة والشبه وغير ذلك من المعادن ويرصّعها امرارءهم بالحجارة الكريمة. وفي الحديث التختم بالياقوت ينفي الفقر أي انهُ إذا ذهب مال الرجل , باع خاتمه فوجد فيهِ الغنى. وقال ابن الأثير: انهُ قد ينفي الفقر لخاصة فيهِ. وقد نهى النبيّ عن التختم بالذهب. وفي الحديث انهُ نهى عن ليس الخاتم مطلقاً إلاَّ لذي سلطان يحتاجه ليختم بهِ الكتب , وكره له أن يلبسهُ للزّينة المحصنة أو لغير حاجة. وفي الحديث أيضاً انهُ جاءَه رجل عليهِ خاتم شبَهَ فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ - لأنها كانت تتخذ من الشَبه. وقال في خاتم الحديد: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ - لأنهُ كان من زي الكافرين(3/10)
أصحاب النار. وروي عن عمر بن عبد العزيز انهُ أتاه أن ابنهُ اشترى فَص خاتم بألف دينار , فكتب إليه: عزمت عليك إلاَّ ما بعت خاتمك بألف دينار وجعلتها في بطن جائع , واستعمل خاتماً من ورق وانقش عليهِ رحم الله امرءاً عرف نفسه ومما قاله ابن خلدون أنَّ الخاتم من الخطوط السلطانية والوظائف الملكية والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده. وقد ثبت في الصحيحين أن النبيَّ أراد أن يكتب إلى كسرى فقيل له أن العجم لا يقبلون كتاباً إلاَّ أن يكون مختوماً. فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيهِ محمد رسول الله. قال البخاري: جعل الثلاث كلمات في ثلاثة اسطر , وختم بهِ وقال لا ينقش أحد مثله. قال وتختم بهِ أبو بكر وعُمر وعثمان. ثمَّ سقط من يد عثمان في بئر أريس , فاغتم عثمان وتطيرَّ منهُ وصنع
آخر مثله. واقتدى الخلفاء في صدر الإسلام بالنبي فنقشوا على خواتمهم الحكم والآيات بعد إن كانوا لا ينقشون عليها سوى الأسماء فنقش أبو بكر على خاتمهِ نعم القادر الله وعمر كفى بالموت واعظاً يا عمر وعثمان الملك لله وفي الجدول التالي ما نقشهُ بعض الخلفاء على خواتمهم:
الخلفاء: ما نقش على خواتمهم
الوليد بن عبد الملك: يا وليد انك ميت ومحاسَب
سليمان بن عبد الملك: آمنت بالله مخلصاً
عمر بن عبد العزيز: الوفاء عزيز
يزيد بن عبد الملك: فنيَ الشباب يا يزيد
الوليد بن اليزيد: يا وليد احذر الموت
يزيد بن الوليد: يا يزيد قم بالحق(3/11)
إبراهيم بن الوليد: توكلت على الحيّ القيّوم
مروان بن محمد: اذكر الموت يا غافل
أبو العباس السفّاح: الله ثقة عبد الله
المنصور عبد الله: وبهِ يؤمن
المهدي: العزة لله
الهادي: بالله أثق
هارون الرشيد: كن من الله على حذر
الأمين: حسبي الله
المأمون عبد الله: يؤمن بالله مخلصاً
المعتصم بن هارون الرشيد: الحمد لله الذي ليس كمثله شيء
الواثق بالله: الله ثقة الواثق
المتوكل على الله: على الله توكلت
المنتصر بالله: على الله توكلت
المستعين بالله: استعنت بالله
المعتز بالله: استعنت بالله
المهتدي بالله: هداني الله
المعتمد على الله: اعتمادي على الله وهو حسبي
المعتضد على الله: أحمد يؤمن بالله الواحد
المكتفي بالله: المكتفي بالله
المقتدر بالله: العظمة لله
القاهر بالله: القاهر بالله
الراضي بالله: الراضي بالله(3/12)
المتقي لله إبراهيم بن المقتدر: بالله يثق
المستكفي بالله: المستكفي بالله أمير المؤمنين
المطيع لله: المطيع لله
الطائع لله: الطائع لله
القادر بالله: القادر بالله
القائم بأمر الله: العزة لله وحد
المقتدي بأمر الله: من توكل عليهِ كفاء
المستظهر بالله: ثقتي بالله وحده
المسترشد بالله: من توكل عليهِ كفاه
الراشد بالله: من آمن بالانتقال عمل للمآل
المقتدي بأمر الله: كن مِن الله على حذر تسلم
المستنجد بالله: من أحبَّ نفسه عمل لها
المستضيء بنور الله: من فكر في المآل عمل للانتقال
الناصر لدين الله: رجائي من الله عفوه
الظاهر بأمر الله: راقب العواقب
المستنصر بالله: العفو بك أولى
وكان الخلفاء من الصحابة يتختمون في اليد اليمنى , فجعل ذلك معاوية بن أبي سفيان في
اليسرى؛ واخذ الأموية في ذلك , إلى أن نقله السفاح العباسي إلى اليمنى , فبقي إلى أيام الرشيد فأعاده إلى اليسرى , واخذ الناس في ذلك وفي كيفية نقش الخاتم والختم بهِ وجوه كثيرة: فمنهُ خاتم السلطان أو الخليفة أي علامتهُ. قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل بهِ من الفضل أخيهِ: إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى يساري فكنى له بالخاتم(3/13)
عن الوزارة لمّا كانت على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ثمَّ صاروا في دول المغرب يعدونهُ من علامات الملك وشاراتهِ فيستجيدون صوغهُ من الذهب , ويرصعونهُ بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد , ويلبسهُ السلطان شارة في عرفهم , كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية , والمظلة في الدولة العُبيدية
ويرون أن الخواتم أربعة: الياقوت لإرواء العطش , والفيروزج للمال , والعقيق للسنَّة , والحديد الصيني للحرز , وقيل للخوف. ومن كلام المتأخرين: من تختم بالعقيق وقرأ لعمر بن العلاء ,، وتفقه للشافعي , وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل ظرفه. أما أقدم خاتم عربي فقد وجده الباحثون في ضواحي دمشق , وعلى فصّه كتابة حميرّية , ولا يبعد أن يكون من عهد الغساسنة الأول
الخواتم عند المصريين - الخواتم في مصر قديمة العهد جداً , وأجملها ما عثر عليهِ في قبور الدولة الثامنة عشرة , والدولة التاسعة عشرة , والدولة العشرين.
وكانت خواتم الملوك والأمراء من الذهب الخالص , وعليها في غالب الأحيان اسم صاحبها وألقابها محفورة بحروف هيروغليفية على فص مستطيل الشكل. وكانت خواتم العامة مصنوعة من مواد أقل قيمة من الذهب , كالفضة والشَبَه والزجاج والخزف المطلي بطبقة من الزجاج الملون بأكسيدات النحاس ألواناً زاهية من الأصفر والأزرق. وكان على هذه الخواتم الخزفية كتابات هيروغليفية مطبوعة عليها قبل طبخها بالنار. وقد وجد في تلك القبور أيضاً خواتم مصنوعة من العاج والكهرباء والحجارة الصلدة , كالجزع والعقيق. وكان بعض الخواتم في زمن السلالة الثامنة عشرة مرصعاً بفصوص من الجُعَل الجعران مركبة في حلقات من الذهب تدخل في ثقوبها فيتسنى لحاملها أن يديرها كيف يشاء وقد اتخذ المصريون الخاتم عندهم رمزاً للسلطان من قديم الزمان , كما يظهر ذلك(3/14)
من قصة
يوسف الصديق. فان فرعون ألبسهُ خاتمهُ لما قلدهُ خطة الوزارة. وكان تزوير الختم عندهم جريمة من الجرائم الكبيرة التي تتنصل النفس منها يوم المعاد. ومن الغريب أن اسم الخاتم بالمصرية مثل اسمهُ بالعربية
وفي المتحف المصري خواتم كثيرة منها خاتم من ذهب على فصهِ صورة طائر من الطيور التي كان يقدّسها المصريون. وقد وجد هذا الخاتم في ناووس من الرصاص وعليهِ من النقوش ما يدل على انهُ صنع في زمن البطالة يوم امتزجت العقائد المصرية بالعقائد اليونانية وقد آثر الرأي أيضاً العلامة سايس. والغريب من أمر هذه الخواتم إن فتحاتها إهليليجية لا توافق استدارة الإصبع
الخواتم عند البابليين - لم يكن الخاتم معروفاً على ما يظهر عند قدماء البابليين؛ فكانوا يتختمون باسطوانات من البلّور , أو غيره من الحجارة الصلدة في كلٍّ منها ثقب نافذ من الطرف الواحد إلى الطرف الآخر كانوا يدخلون فيه سلكاً ويلبسون الاسطوانة في المعصم كالسوار. وقد أشار الكتاب المقدس في سفر نشيد الأناشيد إلى ذلك بما نصَّهُ: اجعلني كخاتم على قلبك , كخاتم على ذراعك
الخواتم عند الفينيقيين والأشوريّين - كان الفينيقيون والأشوريّون كالمصريين ينقشون على خواتمهم صور أشخاص وحيوانات ورموز أخرى. ومهروا في ذلك حتى لم بفقهم المتأخرون وكثيراً ما كان الخاتم عند الفينيقيين مرصعاً بجعل على أحد جانبيهِ اسم صاحبه وقد ركّب الجعل على محورٍ بهِ من جانبٍ إلى آخر
الخواتم عند العبرانيين - كان خاتم عند العبرانيين ضرباً من كماليات الملبس وقد جاء في أخبارهم أن طوبال قايين كان أول من صاغها فاستعملها العبرانيون(3/15)
رمزاً إلى المقام والسلطان. وفي التوراة أن أحشو يرش ملك فارس أعطى خاتمهُ هامان الاجاجي لما فوّض إليه قتل اليهود , ثمَّ استرده منهُ وأعطاه مردخاي اليهودي. أما الإسرائيليات فكنَّ يلبسنَ خواتم كبيرة الفصوص للتحلي فقط. وقد رمز البعض من اليهود بالفتخة إلى دوام رباط الزيجة , ولعلهم اقتبسوا ذلك من قدماء المصريين لأن الدائرة عند هؤلاء رمز الدوام
الخواتم عند اليونانيين والرومانيين - لم يكن الخاتم معروفاً عند قدماء اليونانيين - لم يكن الخاتم معروفاً عند قدماء اليونانيين قبل زمن هوميروس. وكان أول عهدهم بهِ في القرن
السادس فبل المسيح. ثم شاع استعماله عند نسائهم ورجالهم , فكان يتحلى بهِ عظماؤهم كأرشوطاليس وذيموسطنيس. وكانت أنواعهُ كثيرة أثمنها ما صنع من الذهب ورصّع بالحجارة الكريمة كالجزع والعقيق واليشب والجمشت ولا يزال كثيراً منها محفوظاً في دور العديات إلى يومنا
أما الرومانيون فلم يتختموا لمجرد الزينة كاليونانيين , بل كان الخاتم عندهم رمزاً إلى طبقة معلومة من الشعب , أو إلى منصب من المناصب. فكان خاتم الحديد رمز العبودية؛ وخاتم الذهب رمز الشرف وعلو المرتبة. وكانت لهم في ذلك شرائع وقوانين لا يتعدونها فلا يتختم العبد بخاتم السيد , ولا الأمير بخاتم العبد
وقد كان أول استعمال الرومانيين للخواتم أن الحكومة كانت تمنحها للشيوخ الذين ترسلهم سفراء إلى الحكومات الأجنبية. ولما منحت هؤلاء حقّ التختم بتلك الخواتم في الاجتماعات الرسمية بعد استقالتهم من مناصبهم , أخذ غيرهم من الأشراف في أوائل القرن الخامس يقتدي بهم. وما كان الأشراف عندئذ إلاّ نفراً قليلاً(3/16)
من بيت تولى أحد أبنائهِ كرسيّ القضاء العاجية. وفي أوائل المئة السادسة أجازت الحكومة حمله لأعضاء مجلس الشيوخ , سواء كانوا من الأشراف أو من عامة الناس. ولم يمضِ على ذلك زمن بعيد حتى أنعمت بهِ على بعض الفرسان من أنسبائهم , وأكثرهم من الكتائب الست الأولى. ثم أذنت فيهِ شيئاً فشيئاً لفرسان الكتائب الأخرى. ثم لغيرهم من الفرسان
على أن التختم لم يكن عندئذٍ إجبارياً. والأدلة على ذلك كثيرة منها امتناع ماريوس عن استبدال خاتمه الحديدي بخاتم من ذهب , إلى أن عُيّن للمرة الثانية والياً على رومه. وفي أواخر العهد الجمهوري خوَّلت الحكومة قوَّادها وولاتها حق الأنعام بالخاتم على من يشاؤون , فكانوا في أول الأمر يكافئون بهِ الأبطال والعظماء الذين يظهرون بسالة عظيمة , أو يأتون خدمة جليلة , ولكنهم مالبثوا أن تطوَّحوا , ولكنهم ما لبثوا أن تطوَّحوا في السلطة المعطاة لهم , ورأت الجمهورية أن تضع حداً لهذا الإفراط فسنت لذلك قوانين جديدة لم تأت بفائدة تذكر. ثم قامت الإمبراطورية فأعارت الأمر اهتماماً كبيراً؛ ولجأت إلى كل الوسائط لإصلاحه , لكنها لم تفلح. ومازال التختم ينتشر في البلاد إلى أن أمسى حقاً شرعياً لكل الفرسان الذين يمتلكون أربعمائة ألف سترس. وكان ذلك بأمر أغسطُس قيصر. ثم بعد
سنوات قليلة أراد الأغنياء المحرَّرون , وأصلهم من سفلة الشعب , أن يضيفوا الرتب والألقاب. إلى الثروة والسعة , وأخزوا يسعون للحصول على بعضها كالتختم. فهاج الأشراف لهذه المطامع وخشي الإمبراطور طيباريوس أن تحتدم نار العداء بين طبقات الشعب , فعجل(3/17)
لتلافي الأمر , واقتدى بهِ ودوميتانوس وتريانوس. ولكنهم كانوا أول من خرق حرمة القوانين التي وضعوها لهذه الغاية فأنعموا بالخواتم على غير مستحقيها حباً منهم بالحصول على فوائد شخصية , أو رغبة في تنفيذ أغراض سياسية. وفي أوائل المائة الثانية بعد المسيح ألغى الإمبراطور ادريانوس كل القوانين التي وضعها سلفاؤه للتختم , وأجازه قانونياً للعبد المحرَّر , ثم جعله من شروط التحرير. وفي زمن سبتيموس سيفيروس واورليانوس , أصبح حمل الخاتم حقاً لكل عسكري , فقيراً كان أو غنياً , فصار الخاتم الذهبي بطبيعة الحال رمز الحرية فقط , كما صار الخاتم الحديدي رمز العبودية وما كان تاريخ الواحد سوى عكس تاريخ الآخر. ويقال أن الرومانيين اقتبسوا لبس الخواتم من الصابييّن الذين كانوا يقيمون في الشمال الشرقي من رومة. وكانوا يحملون لمجرد التحلي خواتم مصنوعة من الفضة والعاج والكهرباء. ويتضح من تواريخ هوراس كونتليانس ويوفنال أن استعمال هذه الحلي لم يكن جائزاً إلا لمن جازلهم حمل الخواتم الذهبية. وقد غالى الرومان في أثمانها حتى بلغ ثمن الواحد من بعضها ستين ألف دينار وأسرفوا في حملها حتى كان بعضهم يلبس خاتماً أو أكثر في كل إصبع
وكانوا في أول الأمر لا يتختمون إلا في البنصر ثم أجازوا التختم في السبَّابة ففي الخنصر ففي الإصبعين الباقيتين. ومن الخواتم عندهم ما كان يحمل في الأعراس رمزاً إلى عقد الزيجة ويلبسونهُ في السبابة
الخواتم الدينية - كان الأساقفة في صدر النصرانية يحملون الخواتم كسائر الناس , وينقشون عليها الرموز والآيات كالصليب والسمكة والمرساة والحمامة والسفينة وغير ذلك. وكان بعضهم يحفر فيها اسم المسيح وصوَر الرُّسل وعبارات دينية مثل عش بالله وما شاكل. أما الخاتم الأسقفي فهو الذي كان يعطى المطرانَ عند سيامنهِ إشارة إلى اتحاده بالكنيسة. في اليد اليسرى لكيلا يتبادر للأذهان أن الأساقفة إنما كانوا يفعلون ذلك تصديقاً لزعم الوثنيين أنَّ شرياناً يمتد من بنصر اليد(3/18)
اليسر توَّا إلى القلب. وأوجب حمله في اليمنى
لأنها اليد التي تمنح البركة. وكان الخاتم الأسقفي من الذهب الخالص وله فص من الجمشت أو الياقوت الأزرق أو الأحمر أو الزمرّد غير محلّى بالنقوش. ثمَّ أجيز استعماله لرؤساء الديور على الإطلاق. أما الخاتم الكردينالي فكان فصّه من الياقوت الأزرق ومحفوراً عليه اسم البابا وشعاره. وكان البابا يحمل خاتماً عليهِ صورة القديس بطرس وهو جالسٌ في قلوب وطاوح شبكته في البحر. وحول هذا النقش اسم البابا والى جانبه رقم روماني يشير إلى منزلتهِ العددَّية بعد سلفائهِ الذين سبقوا فتسموا بنفس الاسم. فكان خلفاء بطرس الرسول يستعملونه لختم منشوراتهم بالشمع الأحمر. ثم اتخذوه بعد ذلك لدمغ لفافة الرقّ أو لختم عَصبتِه. ولما كانت هذه الطوابع تتكسر عند فتح(3/19)
المنشور صعبً وجود أثر سليم منها
الخواتم السحريّة - ما من امة في الأرض إلاَّ وقد اعتقدت في جاهليتها بخواتم الجنّ والسَحَرة. ومن أشهر هذه الخواتم , خاتم سليمان الحكيم , وخاتم علاء الدين المشهور في إحدى روايات ألف ليلة وليلة وخاتم الراعي جيجس
خاتم سليمان - كان سليمان إذا تمعن في فص خاتمهِ رأى كل ما شاء رؤيته , وإذا لمسهُ ازداد حكمةً فوق حكمة وقوة فوق قوة. زعموا انهُ دخل يستحمَُ مرةَ وقد ترك خاتمهُ في حجرة محاذية , ثمَّ تفقده فلم يجده. وكان أحد خدمه قد سرقهُ وطرحهُ في البحر. فاغتَّم سليمان لذلك كثيراً , وبلغ اليأس منهُ أشدَّه , حتى لقد كره الملك. على انهُ ما لبث أن وجد ذلك الخاتم في جوف سمكة قدَّمت له مع طعامِه , فعادت إليهِ حكمته التي طبقّت شهرتها الخافقين. ولقد شاعت هذه الرواية شيوعاً عظيماً في العصور الوسطى , واعتقد صحتها أهل الشرق والغرب الذين كانوا يميلون إلى المستغربات , ويؤمنون بالسحر والجنَ , وينسبون إلى نوابغ الرجال , كهوميروس وفرجيل وسليمان , قوة السحر ومعرفة الغيب. ومن المرجّح أن حكاية خاتم سليمان حديثة العهد فلا ترى لها ذكراً عند قدماء السلف ممن ذكروا سليمان في تأليفهم أو تناقلوا أحاديث الجن وعجائبه
خاتم علاء الدين - أعطاه إياه الساحر الإفريقي الذي ادخله مغارة المصباح العجيب. والغريب من أمر هذا الخاتم انهُ كان إذا لُمس خرج مارد وانتصب وقال: لبّيك عبدك بين يديك
وكان هذا المارد يأتي بالآيات والمعجزات كسائر الجن فلا يسأله صاحب الختم أمراً إلاّ استطاعهُ
خاتم جيجس - نقل شيشرون عن أفلاطون أن السموات تصببت يوماً(3/20)
أنهراً وبحاراً , وأن الأرض زلزلت زلزالها , فانشقت بمن عليها , وزلّت بجيجيس القدم فسقط في الهاوية , فوجد جواداً من النحاس الأصفر فيه جثة أحد الجبابرة متختماً بخاتم كبير الفص مستديرة فأخذه ولما تختم بهِ اختفى عن العيان وهنالك أيضاً خواتم أخرى من شأنها أن تقطع بحاملها مسافات كبيرة في وقت قصير أو تحوله إلى حيوان أعجم. وتقسم الخواتم السحرية إلى قسمين عامين: الخواتم التي تمنح صاحبها قوّى غير مألوفة , والخواتم التي تقيده بقيود العبودية؛ وفي ذلك وجه للشبه بين معنى الخواتم السحرية والخواتم التاريخية. ألم يقلد فرعون خاتمه يوسف لما استوزره؟ ألم يلبس يوبيتير أسيره برومتيه خاتماً ليذكره بهِ كيف قيده وخذله على جبال القوقاس؟ وفي الخواتم السحرية أقوال وخرافات أخرى لا موضع الإيجاز
الخواتم المجوَّفة - الخواتم المسمومة ذات الفصوص المجوَّفة قديمة العهد جدًّا. فمنها الخاتم الذي مصَّ هنيبال السمَّ منهُ بعد فشله في يوم زاما وخاتم ذيموستينس وحكايته معروفة. وقد ذكر يلينيوس الروماني أنهُ لما سرق قراسوس الكنز الذي كان تحت عرش يوبيتير في الكابيتول , خاف الحارس شرَّ العاقبة , فمصَّ سماً كان في خاتمهِ ومات لساعتهِ. وكان القتل بالخواتم المسمومة شائعاً في الأعصر الوسطى , فكان للخاتم منها فصٌّ فيه إبرة مجوفة تتحرك بزنبلك وهي متصلة بنقرة وراء الفصّ مملوءة سُماً. فإذا أراد حامله قتل عدوّ له خدش يده بالإبرة عند التسليم فتسرَّب إليها السمَُ. وفي رواية انهُ لما تعذَّر علّى الزّباء النجاة من عمرو بن عدي مصَّت السمَّ من خاتمها وهي تقول: بيدي لا بيد عمرو
خواتم الزواج - لا يُعرف أول من اتخذ الخواتم رمزاً إلى عقد الزيجة. ولكن من المؤكد أن العبرانيين استعملوها لذلك قبل النصرانية بزمن طويل. وكان الجرمانيون والفرنساويون في العصور الوسطى يتغالون في ثمن خاتم الزواج. ثم تغيرت الحال فاقتصروا على فتخة من الذهب. ولكن بقي في ثمن خاتم الزواج. ثم تغيرت الحال فاقتصروا على فتخة من الذهب. ولكن بقي التأنق عندهم وعند غيرهم من الأمم في خاتم الخطبة إلى يومنا هذا.
وفي المتحف البريطاني خواتم قديمة من خواتم(3/21)
الزواج بعضها ذهب وبعضها فضة أو حديد أو شبهَ أو رصاص أو نحاس أو صُفر أو عاج أو عظم. وعلى واحد من هذه الخواتم المصنوعة من عظم صورةُ قلب إنسان , وهو من آثار سكان في سويسرا , وعلى آخر رسم يدين متصافحتين وهو مصري الأصل , وعلى آخر من الحديد رسم يد قابضة على قلب وأصله روماني وفي القرن الرابع عشر للميلاد أشار أحد الايطاليين باختبار فصوص خواتم الزيجة على حسب الشهر الذي ولدت فيه العروس. فلشهر كانون الثاني الحجر البجادي فيزيد تعلق أصدقائها بها , ولشباط الجمشت فيقوي فيها الإخلاص ويقيها من السموم ومن النميمة , ولآذار الياقوت فيعطيها الحكمة والطاقة على احتمال أتعاب بيتها , ولنيسان اللازورد فيطهر قلبها , ولأيار الزمرد فيسعدها , ولحزيران اليشم فيحفظ صحتها ويقيها الجن والغيلان , ولتموز الألماس فيقيها غيرة زوجها , ولآب العقيق فيسعد أولادها , ولأيلول اللؤلؤ فيمنع الخصام من بيتها , ولتشرين الأول الزمرد المائي فيقوّي الحب , ولتشرين الثاني الياقوت الأصفر فيجعلها مطيعة لزوجها , ولكانون الأول الفيروز فإنه حرز العفة. وشاعت هذه الخرافة في أوروبا وعمل الناس بهاز فكان الزوج في فرنسا يهدي إلى عروسه اثني عشر خاتماً لكي تنختم بخاتم منها كل شهر. ولا يزال الجرمانيوم يرصعون خاتم الخطبة بالفيروز وعندهم(3/22)
إن المحبة تثبت مادام لونه ثابتاً. ومن عادات الانكليز أن يتبادلوا إهداء الخواتم في الأعراس. فادوردِ كلي أهدي إلى إحدى خادماته يوم زواجها خواتم قيمتها أربعة آلاف ليرة انكليزية. والأوربيون جميعهم يعتبرون خواتم الزيجة شديد الاعتبار. ومنهم من لا يحسبها ثابتة ما لم يكن فيها خاتم ذهب , كالارلنديين مثلاً , فالفقراء منهم يستأجرون خاتماً من أحد الصاغة لهذه الغاية. وعند بعضهم أن انكسار خاتم يدل على قرب أحد الزوجين
واختلف الناس في الإصبع التي يلبس فيها خاتم الزيجة والشائع اليوم حمله في بنصر اليد اليمنى قبل الزواج , وفي بنصر اليسرى بعده. ويقال أن سبب ذلك وجود وريد في هذه الإصبع يحمل الدم إلى القلب رأساً. وورد في كتاب الطقوس الدينية الرومانية أن الكاهن الإلهي. ثمَّ يرجعه إلى الزوج مشيراً بذلك إلى أنَّ الله قد ختم بهذا الحب على قلبهِ فلا ينفتح لحبٍ آخر , فيصبح بين يدي الزوج رمز المحبة المتبادلة , وضمانةً لارتباط قلبه بقلب
عروسهِ , ثمَّ يخرجه الزوج من إصبعهِ ويضعهُ في البنصر اليسرى من يد زوجتهِ. ثمَّ توسع بعضهم في معنى خاتم الزواج فرمز بهِ إلى دوام الصداقة , أو إلى دوام السلطان , أو إلى دوام العهود , وما شاكل ذلك. فكان ولا يزال بعض الانكليز يتبادلون الخواتم عندما يحلفون يمين الصداقة. وكان دوج البندقية في بحر الادرياتيك يوم خميس الصعود خاتماً ويقول: أيتها البحار إننا نتخذك زوجةً لنا إشارةً إلى تسلطنا عليك
فالخاتم الذي اختلفت أشكاله , وتنوعت رموزه , وتعددت معانيه بحسب اختلاف الشعوب والأزمنة , وتنوّع العادات وتعدّد الأغراضٍ , لا يزال إلى يومنا أوفر الحلي حظاً , وأكثرها نفعاً؛ يتختم بهِ الغنيُّ والفقير معاً وإنما الفرق أن الأول يتخذه من الذهب محلَّىً بالجواهر , والثاني يكتفي بأن يلبسه من نحاس أصفر
هند اسكندر عمون(3/23)
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
كان القراء في السنة الماضية ولع كبير بهذه الرسائل اللطيفة التي ينشرها في الزهور حضرة الكاتب المجيد سليم أفندي عبد الأحد. وقد نقل بعض الصحف والمجلات شيئاً منها مع إطراء صاحبها على ديباجتها. وسيوالي حضرته في هذه السنة أيضاً إتحاف قرائنا بما يختاره من هذه الرسائل اللطيفة
من الشاعر سونبرن إلى سيبيل اشتن
(علق الشاعر سونبرن بحب فتاة قروية تسمى سيبيل اشتن , قيل إنها كانت ذات جمال يندر مثله بين النساء. وكانت في أول الأمر تبغض سونبرن بغضة(3/24)
شديدة ولا تطيق مرآه. ولكن مرور الأيام حول بغضتها إلى حب مبرح أسقمها وكاد يودي بحياتها. وكان أهل سونبرن يمانعون في قرانه بها , لأنها كانت من أصل وضيع , فسمعوا جهدهم وأبعدوها عنه. ولكن الحبيبين طلا يتراسلان نحواً من أربعة أعوام , ويتعللان باللقاء. ثم انقطعا عن التراسل لسبب غير معروف. ولعل الزمان شفاهما من داء الحب، أو لعلهما يئسا من اللقاء. ولا يعلم ماذا وقع لسيبيل فيما بعد. قيل إنها ماتت في أثناء سياحة قامت بها أملاً بأن تنسى الماضي. وقيل إنها تزوجت أحد قواد الجيش , فلم تقم معه طويلاً حتى أتت , والله أعلم)
. . . لا تعلمين كم أترقب ورود بفروغ صبر. كلما قرب ميعاده , يخفق فؤاد خشية أن لا يكون حاملاً إليَّ كلمة منك تعزيني في هذه الأيام المظلمة. لماذا أنت بعيدة يا سيبيل؟ ولماذا تفصل بيننا فراسخ هذا عددها؟ إن كان الله يحاول أن يفرق بيننا , فقد أساء إلينا بأن جمع بيننا قبلاً. وإن كانت الأقدار تداعبنا , فالقلوب أرقُّ من أن تحتمل مداعبات الزمِان
سيبيل يا معبودتي. أراكِ من خلال رسالتك الأخيرة حزينة كئيبة النفس. لعلي أسأت إليكِ بكلمة فرطت مني؟ فهل لكِ أن تضميها إلى سيأتي العديدة التي قد سامحني عنها قلبك الطاهر؟ كلما قابلتُ نفسي بك , أراني مجموعة سيآت , لا تشفع بها إلاَّ حسنة واحدة , وهي أنني أحبك حباً يجعلني انظر إليك كما ينظر العابد إلى معبودة , بل أن حبي لكِ أسمى من العبادة يا سيبيل , لأن العبادة تخرج من الشفتين , وأما الحب فهو صادر عن القلب
غداً تنطوي صفحة أخرى من صفحات العمر؛ غداً يتم لي خمسة(3/25)
وعشرون ربيعا من حياة لولاك لكانت خمسة وعشرين شتاء مظلما. ولكنني منذ أحببتك, صرت أرى للحياة معنى جديدا. ولئن كان أهلي يعدون على هذا الحب هفوة من هفوات الشباب, فسلام الله على هفوات كلها حسنات, وحبذا غرور أنت مبعثه أيتها الساحرة المعبودة!
خمسة وعشرون ربيعا يا " سيبيل "؛ بل ثلاثة وعشرون شتاء وربيعان. فلقد مر على حبنا عامان, كنا في خلالهما عائشين في أحلام هنيئة. ولسوف يأتي يوم يرى فيه العلم أن حبنا الذي يزعمونه هفوة من هفوات الشباب, إنما هو السبيل الوحيد إلى السعادة الخالدة. وما أطمع المحبين بتلك السعادة فإنهم يرون الخلود قصير المدى لا يكفيهم للتمتع بأحلام الغرام.
هل تذكرين أيامنا في " وندرمير " بقرب تلك البحيرة الهادئة؟ سلام الله على تلك الأيام يا سيبيل. إن من التذكارات ما ينبض لها الفؤاد طربا, ويطفر لها الدمع سرورا. لقد كانت إقامتنا بقرب تلك البحيرة أشبه بحلم في إشراق النهار, ما لبثنا أن استيقظنا منه, فصاح بنا داعي الفراق. إذا افسح الله في أيامنا , فسنحج إلى " وندرمير " ونجلس على شواطئها الهادئة, لأنه إذا كان للبوذي نهره, وللمسلم مكتَّهُ ولليهودي أورشليمه, فلماذا لا تكون تلك البحيرة كعبتنا المقدسة نزورها من آن ألى آن, وننم عندها فروض الغرام؟
دعيت البارحة للذهاب إلى ... فأبيت محتجا بأعذار باطلة. ولكن أختي علمت السبب, وأدركت أن رؤية ذلك الغدير وحدها كافية أن(3/26)
تعيد إليَّ التذكارات الماضية, وتثير في نفسي عواطف كان أولى بها أن تظل دفينة في الفؤاد. مسكينة أختي! ... هي تظن أن الغدير وحده يذكرني بك في هذه الحياة, وفاتها أن خيالك ماليء كل فكري, وأنني أتمثلك حاضرة في كل مكان؛ فلا تشرق الشمس إلا واتذكر محياك الجميل, ولا تزقق الطيور, إلا وأخالني منصتا إلى صوتك الرخيم, ولا أشاهد الأزهار, إلا واتصورني أنشق عبيرك الفياح. نعم انك تتمثلين لي بسائر مشاهد الطبيعة, لأن رسمك ماليء فكري, وشبحك ماليء الفضاء.
عفوا يا سيبيل, إن كان حبي ينشيء لك آلاما, فإنني أسعى منذ الأن لإطفاء جذوته المحرقة, وإن كنت ترين السعادة لا تتفق مع حبك لي, فلماذا لا تنزعينه من قلبك وتستريحين من آلامه, وأمامك مجال الشباب الواسع كلما قطعت منه مرحلة نسيت مواقف العهد القديم.
لا تظني أنني أشقى إذا رأيتك سعيدة مع غيري يا سيبيل. أليست سعادتي مستمدة منك؟ فكيف أشقى متى رأيتك تبتسمين إبتسامة السرور؟ وكيف أحزن إذا رأيتك متمتعة بأحلام لا يجوز لغيرك أن يتمتع بها في هذا العالم؟ وإن كان يعوزك موتي لإكمال سعادتك, فهذه روحي بين يديك. ضعي لها حدا, فأموت شبعانا سعادة عند موطئ قدميك ولكن ... حسن أن يحب الإنسان, وأحسن من ذلك أن يكون محبوبا
ما أقصر الأيام التي نعمنا بها يا سيبيل! وما أطول فسحة هذا(3/27)
الفراق. . .! تلك أيام مرَّت بنا مرّ السحاب , وهذه أيام تمشي متثاقلة بنا إلى القبر , غير عابئة بما تطيل من آلام وعذابات؛ فلا تنطوي منها دقيقة , إلاَّ وتنطوي معها أنفاس. وإلا بدية محبة لذاتها تضم إلى سفرها من أعمارنا أيام السعادة , وتبقي لنا أيام الشقاء. ولولا شعاع أملِ ضئيل يحترق حجب الظلام , لكانت الحياة أعظم نقمة ينتقم بها الله من خليقة يديه
لا يا سيبيل. بل الحياة كلها سعادة وهناء , لأنك أنتِ فيها. ولولاكِ لكان العالم في نظري فراغاً , وكل ما فيه ألغازاً وأوهاماً. وكثير ما أتساءَل: ترى لماذا لا يكون العالم كله سعيداً لوجودك فيه.؟ ثم أثوب إلى نفسي وأقول: بل يجب أن تكوني لي وحدي لا للعالم أجمع. لأننا إذا كنا كلانا سعيدين , فما الذي يهمنا سعد العالم أو شقيَ؛ عُمّر الكون أو خرب , ثبتت الكائنات أو زلزلت
لماذا تطلبين إليّ يا سيبيل أن أحرق رسائلك؟ إنجيل الغرام المنزل تجُعل آياته أكلا للنار؟ استغفر الله أيتها القاسية. إن رسائلك تبقى إلى الأبد في مأمن من عيون الرقباء؛ فليهدأ روعكِ وليطمئن بالك. واسلمي لمن لا ينساك مدى العمر
بقلم سليم عبد الأحد سونبرق(3/28)
في رياض الشعر
في عزّ مُلك الصّبي
نشرنا في الجزء الأخير من سنة الزهور الثانية أبياتاً لسعادة إسماعيل باشا صبري يعزّي بها سعادة السير يوسف سابا باشا ناظر المالية المصرية عن فقده ولده فريداً وهو في ربيع الحياة. وننشر اليوم أبياتاً في المعنى لحضرة خليل أفندي مطران الشاعر الشهير:
ما في الأسى من تفتّت الكبدِ ... مثلُ أسى والد على ولدِ
كم بطلٍ وهو ذو صيَدٍ ... فردَّه الثكل غير ذي صيدِ
أهونُ من رزئه عليهِ أذّى ... كفاح جيش أو ملتقي أسدِ
سابا لك الله وهو ألطف من ... يأسو جريحاً وأنت ذو رشدِ
إن قلوباً محيطة بك من ... كرامة ساهمتك في الكمدِ
لهفي على ذلك الحبيب ذوي ... منهصرَ الغصن لم ينل بيدِ
ماد نسيم به فمات وفي ... معطفهِ رقة من الميَدِ
مات كنُضر الفروع يلزمها ... بعد الردى حسنها إلى أمدِ
في جاه أوراقه وبين حلي ... أزهاره من مبشر وندي
في عزّ ملك الصبي وحاشية ... من غر آماله بِلا عددِ
في منتهى مجده وصولتهِ ... إذ يقتل السعد لاهياً ويدي
ويصدم المكر غير ملتفتٍ ... ويقحم الدهر غير مرتعدِ
ويتركِ اللوم حائراً وجلاً ... منعقداً في لسان منتقدِ
يا راحلاً في الغداة عن نعم ... تترى وعن بسطة وعن رغد(3/29)
وتلوكاً رسمَه لفاقده ... مصوراً بالجراح في الخلدِ
لا أنكرت روحك التي أمنت ... ما فارقت من مخاوف الجسدِ
وبينما كان الشاعر ينظم هذه الأبيات الرقيقة إذا استوقفت قلمهُ ألحان محزنة تصدح بها موسيقى كانت سائرة في الطريق , فإذا هو بجنازة تسير خلف طبل من عمره. فأثر هذا الموكب الكثيب السائر على نغمات الموسيقى المفجعة في نفس الشاعر وهو لا يعرف ذلك الفتى المتوفى فقال: وهذا يأخذ حصتهُ في الطريق , وكتب فيهِ الأبيات التالية:
مشهدٌ سُيّر في طبل وبوقِ ... عظةٌ جُنَّت فغنَّت في الطريقِ
عِظة الموت وما عهدي بها ... أن تزفَّ النعش في تدليل سوقِ
لا ولا عهدي بها خاطبةً ... عن ثغور من نحاسٍ وحلوقِ
ويح تلك القطع الصفراء في ... صوتها حسُّ جراحٍ وحروقِ
من ترى علمها ما مزجت ... من وجيفٍ وعويل ونعيقِ
ألقت الفجعة فاستولت على ... كل سمعٍ وأجفّت كل ريقِ
تلك شكوَى عن فؤاد ثاكل ... صاخب الآلام رنّان الخفوقِ
يا أباً يبكي ابنهُ ملتمساً ... ذلك التنبه للحس الصعيقِ
واضحٌ عذرك مهما تفتنن ... للعدوّ الصلب والخدن الرفيقِ
آه من نار الجوى فهي التي ... تفجر البركان من قلب رقيقِ
آه من صدع النوى فهو الذي ... يرسل الأحزان كالسيل الدفوقِ
أن تذيبوا هكذا أكبادنا ... يا بنينا فالردى أقسى العقوقِ
خليل مطران(3/30)
لؤلؤ الدمع
لا تذكريني فإنَّ الذكر يُرجع لي ... عاداتِ وجديّ في أياميَ الأولِ
وعالجيني بيأسٍ منكِ ينفعني ... البرءُ باليأس يُنسي السُقمَ بالأملِ
طاب التجافي فلا تأساكِ قسمتهُ ... إذا مللتِ فما يُشكيكِ من مللي
لسائم الود أمَّا يَنصرم بدلٌ ... منهُ وليسَ لراعي الودّ من بدلِ
دعي لياليَّ. أوطاني تطالبني ... بها فلا تشغلي نفسي بلا شغلِ
وكفكفي الدمعَ. هذا الدمع يفتنني ... أشجى الشكايات عندي أدمعُ المقلِ
هي اللآلئ تطفو في المحاجر لا ... تختار للسبحِ إلا موضعَ الكحلِ
لو لم أكن شاعراً أصبحت حاسدها ... فلؤلؤ الدمع منهُ لؤلؤ الغزلِ
ولي الدين يكن
الخال
قلتُ لخالِ بين حاجبيها ... أنت الذي تلعبُ بالسيفينِ
فقال لا لكنني عنبرةٌ ... تمدُّ من دخانها قوسينِ
أصونُ بالبخورِ حسن وجهها ... خوفاً عليهِ من سهام العينِ
عبد الحميد الرافعي
نفس الكريم
مهلاً أبا الفضلِ لا تجزع فقد وُجدت ... مكدراتُ الليالي للأساطين(3/31)
ولا تقل عقَّني دهري فما خُلقت ... نفسُ الكريمِ لغير الصبرِ واللين
فإن تجد في وداد الناس شائبة ... أو في حديثهم سمَّ الثعابين
فقل سلاماً ولا تبذل لهم عَشَاً ... نصحاً فما النصحُ من عُوفِ المجانين
أتبره (السودان)
محمد فاضل
ذات البرقع الأحمر
مّرت بنا في طريق نسألها ... جاءت من الأرض أم جاءت من الأفقِ
كأنها وقناع الوجه يحجبها ... شمسٌ تدلُّ عليها حمرةُ الشفقِ
أمين البستاني
كيف كنا
ولقد كنا وما كنا سوى ... مثلما يستجمع العينين خَد
أو جناحي طائر روَّعه ... شرك الصياد يوماً فشرد
البرق
بشارة عبد الله الخوري
كان معي
كان معي ثم دعاه الهوى ... فمرَّ بالحيّ ولم يرجعِ
فهل إذا ناديته باسمه ... يُفيق من سكرتهِ أو يعي
فأنت يا عصفورة المنحني ... بالله غني طرباً واسجعي
وأنتِ يا نسمة وادي الغضى ... مّري بريّاك على مضجعي
وأنتِ يا عين إذا لم تفي ... بذمة الدمع فلا تهجعي
محمد سامي البارودي(3/32)
تربية الطفل
عرف قرّاء الزهور حضرة النطاسي الفاضل الدكتور محمد أفندي عبد الحميد مما نشرناه مراراً عن مؤلفاتهِ المفيدة في الطب. وقد تفضل حضرته فوعد هذه المجلة بكتابة فصول طبية تهذيبية سننشرها على التمادي. وقد قصر مباحثه في هذه السنة على موضوع العناية بالأطفال وهو موضوع لا تخفى فائدته على أحد
صحة الأم أثناء الحمل
على الأم أن تعتني اعتناء شديداً بصحتها أثناء الحمل. عليها أن تلاحظ أن الأمعاء تنطلق يومياً وأن تعمل حماماً دافئاً مرة كل يوم , أو ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. ويجب أن يكون غذاؤها كافياً ومغذياً دون أن تتخم معدتها بالأكل فوق الشبع. وعليها أن تمتنع عن المشروبات الروحية. ويجمل بها أن، تستريح ساعةً على الأقل في كل مساء ولابد لها من أن تتأنى في كل أعمالها , فلا تُسرع فيها , ولا تجهد نفسها. ويحسن أن لا تذهب إلى الأماكن التي يكثر فيها الازدحام كالتياترات والمجتمعات العمومية. أمّا من الوجهة الأدبية فيجب أن تكون هادئة الخاطر مطمئنة الضمير , فتتحاشى كل ما يثير العواطف ويؤثر في الفؤاد.، بالإجمال يجب أن تكون معيشتها صحية ساكنة
التحضير للطفل
يمكن الحامل أن تشغل نفسها في أواخر أيام الحمل أي , قبل الوضع(3/33)
بشهرين أو أكثر , بتحضير ملابس الطفل ومهده. ويستحسن تحضير هذه المعدات في الشهر السابع لاحتمال حصول الولادة قبل ميعادها المعروف. وعلى كل حال يلزم أن تكون هذه الأشياء جاهزة تماماً قبل ميعاد الولادة المنتظر بأسبوعين
وإليك قائمة بالملابس اللازمة عادةً للطفل:
4 لفافات قياس الواحدة 5 25 قيراطاً - 6 صدريات من الصوف الصوف الرفيع مفتوحة من الأمام وذات أكمام طويلة - 4 دست (دزينات) فوَط أو مناشف - 6 مربعات فلانلا لتغطية الفوط - للرأس - 1 شال رفيع - 1 عباءَة وطاقية للرأس - جاكتتان صغيرتان من الصوف
مهد الطفل
لا يستحسن استعمال الأراجيح لنوم الأطفال. وخير المهود ما كان متيناً ومصنوعاً من المعدن كالحديد أو النحاس , ومرتفعاً عن الأرض بقدر قدمين ونصف وبفضل أن يكون المهد خالياً من الزركشة لسهولة تنظيفهِ ولحاجة الطفل إلى الهواء. وكل ما يلزم له كلّة (ناموسية من الشاش) ويجب أن يحتوي المهد على الأشياء الآتية:
حصيرة للمهد - قطعة من الماكنتوش (المشمع) لوضعها في وسط المهد - ملاءَة سفلى - غطاء للوسادة - بطانيتان(3/34)
رقيقتان. ويجب استبدال الملاءَة السفلى بغيرها إذا ترطبت من البول أو البراز
وصول الجنين
يربط الحبل السري ثم يقطع بعد نزول الجنين. فإذا حدث التنفس بعد الولادة مباشرة , فيكون الطفل قد ابتدأ حياته الخارجية. وعلى المرضع أن تلفه بفلانلا دافئة , وتصنعه في مكان دافئ حيث يبقى إلى أن تستعد لعمل حمام له ويجب تفقد الحبل السري والفم والعينين من وقت إلى آخر
المولود الجديد
يصرخ الطفل عند ولادته مباشرة. ويلزم أن نعتبر صراخه هذا علامة صحية عادية. ويزن الطفل السليم الاعتيادي نحو سبعة أرطال مصرية ويبلغ طوله نحو العشرين قيراطاً وتكاد توازي حافات الأظافر أطراف الأصابع. ويوجد عادة بعض الشعر على الرأس ويكون جلده بلون أحمر مغطى بمادة شحميه يحسن إزاحتها بقدر الإمكان بلطف بقطعة قديمة من القماش قبل الاستحمام
وليس الطفل في هذا الوقت بكامل العقل ليتدّبر حياتهُ فهي تتعلق بأمه أو مرضعه. فيجب عليها أن تفحصه حتى تتأكد من عدم وجود أي تشوه خلقي كالشفة الأرنبية (الفلح) والشق الحنكي , وعقدة اللسان , وضخامة الرأس أو أي شيء آخر في الجسم أو الأطراف. وعليها أن تلاحظ(3/35)
إذا كان من الجفون إفراز بعد فتحها وإن تتعهد التبرز والتبويل في وقتها
غسيل الطفل
من البديهي أنه يجب عند تحميم الطفل إقفال باب الغرفة والنوافذ والتحقق من عدم وجود
أي تيار هوائي. ثمًّ يملأ الحوض (أو الطشت) المعدّ لغسيل الطفل بالماء لارتفاع 6 قراريط. ويجب أن تكون حرارة الماء معتدلة لا تتجاوز درجة 100 (بمقياس فار نهيت) وإذا لم يكن هناك ترمومتر - مقياس الحرارة_فيكفي أن توضع اليد في الماء حتى إذا تحملت الحرارة بسهولة أمكن استعمال الماء. وعلى المرضع أن تلبس فوطة من الماكنتوش ثم تلبس بعدها فوطة أخرى من القماش. ولتنتبه إلى وضع كل ما ستحتاج إليه أثناء الغسيل في قربها لئلا تضطر إلى ترك الطفل في الماء لإحضار ما يلزم. وبعد ذلك تجلس على كرسي منخفض وتضع فوطة ناعمة على حجرها تجعل عليها الطفل موجهة وجهه إلى أعل وتضع فوطة دافئة أخرى على جسم الطفل ورجليه وتتقدم إلى غسل الطفل. ولهذا الغرض تغسل وجه الطفل أولاً وتنشفه بسرعة ثم تغسل بعد ذلك جسمه ورجليه بقطعة من القماش بالصابون وبعد إتمام هذا العمل تغمس الطفل في الماء الذي في الحوض حتى عنقه ويسند بوضع اليد اليسرى تحت العنق وذراع الطفل اليسرى وباليد اليمنى تغسل المرضع الرأس بالماء والصابون. ولا يلزم عادة غسيل الرأس لمدة أيام بعد المرة الأولى ولا يحسن(3/36)
أن تستعمل أي زيت لاذابة المادة الشحمية التي على جسم الطفل لأنها إذا لم تذب في الغسيل في المرة الأولى فهي لا شك ذائبة في المرة الثانية ولابد من الاعتناء في غسيل الثنايا الجلدية لاسيما التي حول العنق. ويبقى الطفل دقيقتين أو ثلاثاً في الماء قبل إخراجه ولذلك تسند المرضع الطفل بوضع يدها اليسرى تحت العنق وتمسك باليد اليسرى رجليه وبعد إخراجه من الماء تضعه على الفوطة التي على ركبتها جاعلة وجهه إلى أسفل وتنشف بفوطة أخرى دافئة بكل سرعة وبكل لطف ورفق العنق والظهر ذلك على ظهره بكل اعتناء وترفع الفوطة المبلولة التي على ركبتها وتنشفه من الأمام ويلزم تجفيف الجلد في كل أجزائه لاسيما حول العنق والأذن والإبط والأربية ويذر على هذه الجهة أيضاً قليل من المسحوق ماعدا الوجه ثم توضع عليه الملابس
الدكتور محمد عبد الحميد
طبيب مستشفى قليوب
شيء عن الفن
نشرنا في الجزء الفائت من الزهور (518: 2) مقالة عن الفن بقلم حضرة الكاتبة الأديبة الفاضلة الآنسة مي فلما اطلعت عليها حضرة الفاضلة السيدة لبيبة هاشم تفضلت بالردّ الآتي:
رأى القارئ الكريم من مقالة الآنسة مي (شيء عن الفن) حسن نصورّ هذه الكاتبة وسمو نفسها إلى أوج الجمال الفني. فهي تنظر من(3/37)
سماء تخيلاتها الذهبية إلى عالم الاختراعات العصرية والاكتشافات العلمية نظرة ازدراء واحتقار لأنها لا تجد فيها ما يؤثر في روحها الشريفة ولا ترى في نتائجها المادية ما ينطبق على تصوراتها الشعرية البديعة. ولاغرو فالآنسة مي من الفتيات اللواتي قلما يسمح الدهر بأمثالهنَّ أدباً وذكاء مع سعة اطلاع وحرية فكر. ولما كانت هذه منزلة صفاتها من الاحترام وكان أمر البحث في الفنون من المواضيع الجديرة بالاهتمام رأيت أن أعلق عليهِ كلمة أستأذن حضرتها بإيرادها تمحيصاً للحقيقة التي هي غرض كل عاقل أديب
ذكرت الكاتبة مالا جدل فيهِ من امتياز أهل العصور القديمة بالفنون الجميلة والآثار البديعة التي لا يرجى وجود نظير لها في العصر الحاضر ولا المستقبل. على أن ذلك لا يؤخذ حجة على دناءة الفكر العصري وتقصيره عن سلفه وإنما هو دليل على أن ارتقاء الأقدمين كان محصوراً في بعض نوابغ انصرفت قرائحهم إلى بعض الصنائع كالرسم والنقش والنظم وما شاكل ذلك من الفنون الجميلة. وهذا بالحقيقة لا يعد ارتقاءً لبعده عن الفوائد العمومية المطلوبة في ترقية الاجتماع. وما دام الإنسان منصرفاً إلى هذه الوجهة الفنية مكتفياً بها عن سائر العلوم فمن المقرر أنهُ يظل مقصراً في معارفهِ وشرائعهِ وآدابهِ وسائر نظاماتهِ. وعلى ذلك بني رُسكن فلسفته ورأى المتأخرون رأيهُ فشرعوا بتعرف أسرار الطبيعة وروابطها وأحكامه واستخدموا ما فيها من القوى الكامنة لفائدتهم فقاموا البحار بقوة البخار واستخدموا الكهرباء في دفع الأمراض وتقصير(3/38)
الشاسع من المسافات. وعلى الجملة فقد أتوا بأعمال عظيمة واختراعات مدهشة تدل على أن النبت الذي تكونت فيهِ أفكارهم ليس أقل فضلاً وجمالاً من نبت الذي تكونت فيه فكر الفيلسوف الرياضي اسحق نيوتن. فإن هذا استنتج قاعدة الناموس الطبيعي اتفاقاً من وقوع تفاحة إلى الأرض ثم وقف عند هذا الحد. أما علماء الطبيعة فبنوا على هذا الناموس سائر العلوم الطبيعية التي بين أيدينا الآن
واتصلوا بواسطتها إلى اختراع الآلات المتنوعة والجهازات الغربية التي تزعم حضرة الكاتبة أنها دليل سقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة ط
ولعمري كيف نفضل بناء الأهرام ونحت المسلات على تلغراف ماركوني وأشعة رنتجن في حين أن ذاك على عدم فائدتهِ ينطق بما كانت عليهِ الشعوب الغابرة من الذل والضغط واستعباد الكبير للصغير. أما التلغراف اللاسلكي فإن أهميتهُ وفائدته توازيان قوة الذكاء التي بذلت في سبيل إتمامهِ وهي لا يمكن أن تقل قيمة عن قوة ذكاء أصحاب الفنون الغابرين. ولا يعقل أن مجرد حب الكسب هو الذي دفع ماركوني لعمل اختراعهِ وإنما هي دواع كثيرة تجاذبتهُ بين النفع العام والرغبة في الشهرة والتلذذ بإتمام عمل عظيم وهي نفس الأسباب التي دفعت برافائيل المصور إلى قمة الكمال الفني
وإني أرى رأي الآنسة مي من حيث جمال الفنون وإجلال قدر أصحابها ولكني لا أرى فضلاً للمشتغلين فيها يميزهم عن غيرهم من المخترعين والعلماء العصريين إذ أن فضل المرء يكون على قدر عظمة أعماله وإتقانها(3/39)
لا فرق بين أن يكون ذلك العمل تمثالاً متقن الحفر أو قصيدة بديعة النظم أو حذاء محكم الصنع مادام كل من هذه الأعمال يقتضي لإتمامه قوة عقل وإذا قسنا أعمال المتأخرين بآثار الأقدمين لا يسعنا إلا المساواة بينها فيما تحتاج إليهِ من المقدرة العقلية لإتمامها وذلك يدل على أن مدارك النوابغ متساوية قوة في جميع العصور وإنما هي تتحول أحياناً إلى ما يوافق روح العصر ويقوم باحتياجات الاجتماع. وإذا كان فضل الأعمال على قدر الفائدة الناجمة عنها كان في علوم العصريين وأعمالهم ما يزيد منزلتهم العقلية رفعة عن منزلة أسلافهم المتفننين بلا ريب
إن العقل البشري كحجر الرحى يدور دائماً على نفسه طالباً ما يعمله فإذا لم يكن له من العلوم ما يصقله ويوسع نطاقه ويديره على محور الأعمال المفيدة والاكتشافات المهمة التي تشترك منفعتها بينهُ وبين أبناء جنسهِ ظل بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً في حين أنهُ متى تحول فكره إلى العلم اندفع بكليته إلى خدمته والاستفادة منه صارفاً همهُ إلى كل ما يجديهِ فائدة محسوسة من بحثهِ وجهاده. وفي هذه الحال فهو يأبى طبعاً أن يسير على خطة أجداده من تعشق الفنون وضياع العمر في
سبيل إتقانها
ويكفي لإثبات فضل المحدثين ما بلغ إليهِ عصرهم من الارتقاء المدهش في الزمن الأخير. فإنهُ ما أشرق فجر العلوم حتى استنار جو العقول والإفهام فتحولت الأبصار عن شفق الفنون السابح في ظلمات الخيال إلى(3/40)
شمس الحقائق المتلألة في أفق العمل والنشاط فشمروا عن ساعد الجد وقطعوا مسافات شاسعة في النصف الثاني من القرن الأخير لم يكن يصدقها العقل لولا ما نراه من النتائج العظمى المترتبة على جهادهم الغريب
أما وهم قد بلغوا هذا الشأو من الكمال بجدهم ونشاطهم فهل يجوز بشرع ربة اللطف أن تصوّب فيهم نظر الاتهام والاحتقار بينما هم ينتظرون من يدها الجميلة أكاليل الغار؟
لبيبة هاشم
في جنائن الغرب
نشرنا في أجزاء الزهور الماضية تحت هذا العنوان شيئاً كثيراً من خير ما ي} خذ من آداب الغربيين , لأن نقل أفكارهم وأساليبهم في التأليف لما يعود على لغتنا بالفائدة الكبرى. وسنظل فاتحي هذا الباب لنشر ما نختاره أو يختاره قراؤنا الكرام من غرر كتابات حملة الأقلام عند الأفرنج.
لبيه هاشم
الفرَس
عنوان قصيدة فرنسوية مشهورة لناظمها أوغست بربيه (1805 - 1882). وكلها تورية عن قبض نابوليون على زمام الأحكام واضطراره فرنسا إلى شن الغارة على أوربا جمعاء مدة سنين طويلة , كما سيرى القارئ. وبمناسبة مرور مئة عام على الحملة التي سار بها هذا الرجل الكبير على بلاد قياصرة الروس فإننا سننشر في العدد القادم رأي الفيلسوف تولستوى في نابليون مترجماً بقلم أحد أدباء كتابنا. وإليك الآن ترجمة القصيدة الفرنسوية المذكورة:
أيها القرسي! ما كان أجمل فرنسا تحت أشعة شمس مسيدور(3/41)
العظيمة! كانت كالفرَس الجموع الشامس الذي لم يروّضه حديد اللجام , ولم يكبح جماحه عسجد الزمام
كان متين الكفل , آبداً , مضرّج الحجول بدماء الملوك , كان أبياً عتياً , يقرع بساقيه المجدولتين أرضاً قديمة عرفت الحرية لأول مرة
لم تكن مرّت عليه قط يدّ بشرٍ لتسومه الضيم والإهانة , ولم تكن خواصره الضامرة قد اطمأنت يوماً إلى سرج الأجنبي
كان لماَّع الوبر , برَّاق العين , مرتجّ الأرداف ينتصب على رجليه فيرتجف العالم رهبة من دوي صهيله
وحينئذ برزت إلى العالم. ولما رأيتَ هيأته وخواصره اللينة أيها الفارس الكمي قبضت على ناصيته وامتطيت صهوته
ولما كان هذا الفرَس ولوعاً بخوض الحروب , شغوباً برائحة البارود وقرع الطبول , جعلتَ له الأرض مضماراً , والمعامع تسليةً
وحينئذ لم يبقَ له من الراحة حظ , ولا من النوم نصيب , بل هناك جريٌ مستديم , وعَدْوٌ مستمر , فيطأ دائماً أبداً أشلاء الرجال كما يطأ الثرى , وهو مضرجٌ بالدماء حتى لبانهِ
خمسة عشر عاماً ظلت سنابكه القاسية في جريه السريع تطحن الأمم , وهو مطلوق العنان مصعّد الأنفاس يرو ويغدو على صدور الشعوب(3/42)
ثمَّ أعياه العدو دون بلوغ الغايةِ , وأنهكه الكرُّ دون طيّ الشقة , وملّ من عرك العالم بأسره وإثارة أبناء البشر كما تثير الريح الغبار
فوقف , وقد خارت قواه وكاد يكبو لكل خطوة , وقف يسترحم فارسه القرسي. . ولكنك أيها الظالم لم تعره إلاّ أُذُناً صماّء
بل زدتَ ضغط ساقيك على خاصرتيه. وقلّبتَ شكيمته في زَبَدِ فكيهِ لتُخمد شكواه , فحطمت نواجذه قهراً
نهض الفرس من عثرته ولكنه خارت قواه في إحدى المعامع وعجز عن قرض لجامه فسقط صريعاً على فراش من الرصاص وقد قصف أضلاعك في تلك الكبوة
عزيز مرزا
ثمرات المطابع
رباعيات عمر الخيام - عمر الخيام شاعر يمثل روح عصره ككل الشعراء وقد بات ما نظمه ألغازا ً لأبناء القرون الحاضرة لأنهم حاولوا فهمها على غير الغرض الذي وضعت له
والعارفون به في الشرق نادرون وهم في الغرب كثار يكادون لا يعدون نقلت رباعياته إلى معظم اللغات الأوربية ودوّن الناقدون عنها فصولاً وألفوا كتباً وقام له اختصاصيون وقفوا أعمارهم على البحث في رباعياته وأغراضها وأصبح لأصحابها كل رأي فيه عصبية معروفة. فمعظم كتاب(3/43)
الألمان يعتقدونه شاعراً صوفياً وكتاب الفرنسيس يرون فيه رجلاً يهوى الخمر والنساء كما يبدو من ظاهر أشعاره. أما الانجليز والأميركان فلا رأي خاص لهم فيه بل كل أقوالهم عنه تقليدية مأخوذة عن غيرهم من الأمم وإذا كان فتس جيرولد وقد نقل رباعيات الخيام إلى لغة الانجليز شعراً بشعر وأذاع صيته في تلك البلاد وحبب لبني السكسون شاعر الفرس العظيم فليس معناه أن الانجليز هم الذين عرّفوه إلى العالم
على أن أبناء اللغة العربية لا يعرفون من عمر الخيام إلا ما نقله إليهم الغرب من تأليفه ورباعياته. ولولا ما بذله الفرنج من المجهود في سبيل أحياء هذا الشاعر ما وصل إلينا خبر من أخباره حتى أن أديبات الفرس التي نحن أحق الناس بمعرفتها وتقديرها قدرها لقرب اللغة الفارسية من اللغة العربية غابت عنا محاسنها ولا نجد منا من اطلع عليها بحيث يستطيع نقلها إلى العربية ولاشك أن نقل آداب لغة إلى لغة أخرى يستلزم مواهب وصفات شتى منها الاقتدار الطبيعي في الناقل وتضلع حقيقي في اللغتين يمكنه من فهم أسرار اللغات وإدراك روحها إدراكاً تاماًّ. ومنها صفات أخرى كسبية أوجدتها فيه ظروف الزمان والمكان بحيث تسهل عليه ترجمة العواطف والإحساسات على اختلافها وتباينها ترجمة صحيحة
فإذا لاحظنا كل هذه الاعتبارات ولاحظنا أيضاً أن رباعيات بن الخيام هي من أسمى ما جادت به قرائح البشر على عالم الأدب اعتقدنا أن ناقل هذه الرباعيات إلى العربية وهو وديع أفندي البستاني قد قام بعمل جليل وقدَّم للعربية وأبنائها خدمة لا تنسى. وسنبقي الكلام على مكان(3/44)
الترجمة في الأدب العربي إلى ما بعد الكلام على شعر الخيام نفسه
إن شعر الخيام من قبيل الشعر الليريقي أو الشعر الغنائي الذي يصور عواطف النفس
ويرسم أميال الفؤاد. ورباعياته من هذا النوع أيضاً غير أن عددها لا يحويه الحصر إذ أن كثيراً من الرباعيات منسوب إليهِ فلا يمكننا والحالة هذه أن نقيدها بقيد ونضعها تحت قاعدة معينة. على أن الرباعيات التي استخرجها فتس جيرولد مما نسب إلى عمر الخيام , إن صدقاً وإن كذباً , وأضاف إلى روحها الفارسية تلك الروح القلبية لا يمكننا أن نجزم بأنها رباعيات الخيام نفسها لأن فتس جيرولد كان خياماً غربياً أي أنه لما كانت أمياله كلها مشابهة لأميال عمر الخيام الفارسي , وكانت حياته شبيهة بحياة ذلك الشاعر , وكان من جهة أخرى واسع الإطلاع على أدبيات الفرس , أثرت على قلمه كل هذه المؤثرات فأخرج رباعياته خليطاً من روح الخيام ومن روح حافظ الشيرازي ومواهب السعدي
بيد أننا إذا رجعنا إلى رباعيات الخيام التي ترجمها فتس جيرولد وغضضنا النظر عن بقية ما ترجمه المترجمون الآخرون من ألمان وفرنسيس يمكننا - وإن كان في ذلك شيء من الصعوبة - أن نقسمها إلى أقسام شتى كالحنين إلى الماضي واليأس من المستقبل والحث على انتهاز الفرص وتتطلب الملاذ لساعتها أني وجدت , والسخرية من الحياة , والحيرة في الوجود , والزهد الناشئ عن العجز , وامتداح الخمر , والهزؤ بالأديان , وذكرى الحبيب. وبالجملة فشعر الرباعيات كما قدمنا من نوع الشعر الليريقي الذي يعبر عما يجول في النفس لساعته بدون تقييد(3/45)
هذا ما تيسر من القول عن الخيام بمنتهى الإيجاز. أما رأينا في تعريب وديع أفندي البستاني فيحتوي بعض ملاحظات قليلة نرجو الصفح عنها من صديقنا المحبب الذي لا نشك في أن له من اسمه نصيباً وافراً إذ أن نقد الشيء فرع من تقديره وإبداء الملاحظات على أمر من الأمور معنى من احترامه. فأول ما نقوله عن هذه الترجمة أن المعرب خرج بالرباعيات عن شكلها الطبيعي فجعلها سباعيات والسباعيات ضرب الشعر العربي كما أن الرباعيات ضرب من ضروب الشعر العربي كما أن الرباعيات ضرب من ضروب الشعر الفارسي وقد أدى هذا بصديقنا الوديع البستاني إلى أن يقول في سبعة أسطر ما قاله الخيام في أربعة. ثم أنه قسم الرباعيات إلى نشيدين مقلداً في ذلك الطريقة اليونانية وبين الطريقتين الفرسية والإغريقي من التنافر ما بينهما لأن اليونان كانوا يقسمون قصائدهم الكبرى إلى أناشيد وكل نشيد يبين حالة من أحوال النفس أو فصلاً من فصول القصة
المروية كما هي الحال في الياذة هوميروس. ولكن شعر الخيام أن هو إلا صرخات نفس متألمة حائرة لا نشيداً تمجد فيه الحروب ولا الحياة ولا القوة. هذا من جهة الشكل أما من جهة الصياغة فإن فيها مآخذ شتى اضطر إليها وديع بعامل التعريب الحرفي كقوله: واضطراراً قد جئت هذي الديارا - وسأضطر للرحيل اضطرارا - واختياري أن استطعت اختيارا
على أن له حسنات كثيرة وله أعذار أكثر فإنه شاب لم يتألم وناقل عن لغة لم تكتب الرباعيات بها وكفاه فخراً أنهُ قام نحو الشعر الفارسي بما لم يقم بهِ فحول كتاب العربية من قبله وحبذا قوله في أول النشيد الثاني(3/46)
أقبل الفجر بهجة يتلالى - فأدِرها تزري الصباح جمالا - واعتزل حلبة الفخار اعتزالا - والأمانيَّ خلّ والآمالا - وتأمل فروع هند الطوالا - واسمع العود واطّرح عنك هما - واصف واهنأ بالكأس عيشاً وبالا
محمد لطفي جمعه
المحامي
كتاب في التربية - لا تزال إدارة الجامعة المصرية دائبةً على توفير أسباب التعليم والتهذيب للناشئة الوطنية. وقد عهدت إلى نخبة من أفاضل العلماء وأعلام الأدباء من وطنيين وأجانب بإلقاء محاضراتٍ في مواضيع مختلفة من آدابٍ وعلوم وفنون واقتصاد إلى غير ذلك من فروع المعارف الحديثة. وقد سرّنا أنها وجهت عناية خاصة إلى تهذيب الفتاة فأناطت ببعض السيدات إلقاء محاضرات في مواضيع نسائية لا غنى للمرأة الشرقية عنها حتى تجاري أختها الغربية في مضمار الترقي. وقد تولت إلقاء هذه المحاضرات في العام الماضي سيدةُ من فضليات سيداتنا وكاتبة من أشهر كاتباتنا , عنينا السيدة لبيبة هاشم صاحبة ومحررة مجلة فتاة الشرق المعروفة. وقد جعلت موضوع محاضراتها التربية وهو الأمر الذي نحن في حاجة ماسة إليه. فتناولته من جميع أطرافه فتكلمت عن التربية الوالدية من حيث اعتناء الوالدين بالأولاد , وعن التربية البدنية من حيث غذاء الأطفال ونظافتهم وملبوسهم وترويضهم؛ وعن التربية(3/47)
الأدبية من حيث تقويم الأخلاق وإرهاف القوى العقلية الخ وخصت بكلامها الفتاة من حيث تعليمها تدبير المنزل وأدب المعاشرة وإعدادها لتكون أماًّ صالحة - وقد كنا إبان إلقاء هذه المحاضرات نتمنى أن يكثر عدد السيدات اللواتي
يقبلن على سماع هذه المواضيع. ولكن السيدة لبيبة قد عممت فائدة هذه المحاضرات بجمعها وطبعها حدة فبات بوسع الجميع اقتناؤها ومطالعتها. فنشكر لصاحبة فتاة الشرق هذه الخدمة الجديدة التي أضافتها لإلى مآثرها الجليلة في سبيل الأدب
الإنسانيَّة والتمدّن - قال اُبن المقفَّع: من حاول الأمور احتاج(3/48)
فيها إلى ستّ: العلم، والتوفيق , والفرصة , والأعوان ,، الأدب , والاجتهاد. وهنَّ أزواج: فالرأي والأدب زوج. لا يكمل الرأي بغير الأدب , ولا يكمل الأدب إلاّ بالرأي؛ والأعوان والفرصة زوج. لا ينفع الأعوان إلاّ عند الفرصة , ولا تتم الفرصة إلاّ بحضور الأعوان؛ والتوفيق والاجتهاد زوج. فالاجتهاد سبب التوفيق , وبالتوفيق ينجح الاجتهاد هذه الستُّ قد اجتمعت لحضرة الوجيه الفاضل عزتلو جرجس بك انطون أحد أفاضل موظفي الحكومة المصرية فاخرج للناس كتاب الإنسانية والتمدن وفيه الأدلة الناصعة على العلم والأدب والاجتهاد عنينا الصفات التي كانت أعواناً لحضرته فلزمتهُ في المباحث التي تحدَّاها في هذا المؤلف المفيد. أما الفرصة فلعلهُ كان يسترقها من أوقات فراغهِ وساعات استراحتهِ من عناء الأعمال والواجبات الرسمية. وفي ذلك أبلغ برهان على الفضل. وكأنَّ جرجس بك لم يكتفِ بالفائدة التي أرادها للناس من كتابة الإنسانية والتمدن فزاد عليها فائدةَ لا تقل قيمةً عن تلك , فوقف ثمن الكتاب على الأعمال الخيرية وإعانة البائسين. فكان في هذا العمل المجيد تطبيق محكم لاسم الكتاب ومباحثهِ على المغزى الذي رمى إليه واستفادة القراء منه. وأنَّ خير الأقوال ما اقترن بالأفعال. جزى الله حضرة المؤلف الأديب بما يجزي به العاقل الفاضل
تاريخ آداب العرب - قام في مصر في السنوات العشر الأخيرة شاعر بليغ أجاد في أكثر المواضيع التي طرقها وكان لهُ المقام الرفيع بين شعراء العصر , فأخذ ينشر عاماً بعد عام ما يجتمع لديه من منظومة , وكان(3/49)
الناس يقبلون على تلك المجموعات ويثنون على صاحبها الثناء الطيب. ثمَّ سككت ذلك الشاعر منذ أكثر من سنتين فلم نسمع له صوتاً , ولا قرأنا له شعراً إلاّ في ما ندر. وطال هذا السكوت حتى كان الشهر الماضي فإذا نحن وبين أيدينا الجزء الأوَّل من كتاب ٍ جليل الفائدة , عظيم النفع فقلنا لقد صدقت الحكمة القائلة: إذا كان الكلام من فضَّة فالسكوت من ذهب ذلك الشاعر هو أبو السامي مصطفى صادق
الرافعي , وهذا الكتاب هو تاريخ آداب العرب
قال المؤلف في الكلام على نمط الكتاب وأبوابه: وقد جعلنا أبوابه اثني عشر باباً تنطوي على جملة المأثور , ويدور عليها التاريخ كما تدور السنة على عدة الشهور وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تاريخ الأدب، وأصل العرب:
الباب الأوَّل: في تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك
الباب الثاني: في تاريخ الرواية ومشاهير الرواة
الباب الثالث: في منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه , وفي البلاغة النبويَّة ونسق الإعجاز فيها
الباب الرابع: في تاريخ الخطابة والأمثال جاهليةً وإسلاماً
الباب الخامس: في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منهُ
الباب السادس: في حقائق القصائد المعلقات ودرس شعرائها
الباب السابع: في أطوار الأدب العربي وتقلّب العصور بهِ وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها ومصرع العربية فيها(3/50)
الباب الثامن: في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب
الباب التاسع: في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهليةً وإسلاماً
الباب العاشر: في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية
الباب الحادي عشر: في الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون
الباب الثاني عشر: في الطبقات وشيء من الموازنات
فأنت ترى أن الرافعي قد ألمَّ بتاريخ الأدب من جميع أطرافه وتناول البحث فيهِ من كل جهاته. فكتابهُ , وهو الكتاب الثاني المطوَّل الذي ظهر إلى اليوم في هذا الموضوع , مشبع الأدباء ووافٍ بالغرض المقصود منه ولقد كتب إلينا أحد أفاضل الأدباء يسألنا نفسح لهُ في الزهور مجالا لنقد هذا الجزء الأوَّل على أن يكون انتقاده مظهراً لحسنات الكتاب وسيئاته معاً , إذا كان هنالك سيئات. فرغبنا إليهِ في ذلك ولعله يمكننا من نشر مقالهِ في الجزء التالي من هذه المجلة. لذلك نحن نكتفي الآن بكلمة الثناء نوجهها إلى أبي السامي الفاضل ونتمنى أن ينشط كبار الكتاب والشعراء إلى مثل عمله المجيد حتى يكون فضلهم للناس
أظهر , وشكرهم علينا أحقّ
الأدب الصغير - لعبد الله بن المقفع فضل عظيم لا ينكرهُ أديب من أدباء العربية فهو أستاذ الكتاب والمنشئين في سلامة تعابيره , وجمال(3/51)
أسلوبه حتى لقد أطلق علماء الأدب على إنشائهِ صفة السهل الممتنع , وما برح كتابه كليلة ودمنة إلى يومنا هذا رفيق المتأدبين. وأخرج اليوم سعادة الأستاذ العالم أحمد زكي باشا كاتب مجلس النظار كتاباً آخر لذلك المنشئ النابغة هو الأدب الصغير فعرفت فضله نظارة المعارف العمومية فقررتهُ لمدارسها الابتدائية ونعم ما فعلت. أما الكتاب فيكفي في تقريظه أن يكون كاتبه عبد الله بن المقفع , وناشره والواقف على طبعه أحمد زكي
أزهار وأشواك
عمر النساء
عمر النساء الحسابية العسرة الحل , فقد تبوح المرأة بكل شيء إلا بعمرها الحقيقي. وقد جرت لي حكاية من هذا القبيل لا أتمالك عن سردها ولو جرَّت علي سخط بعض القارئات: كنتُ منذ أيام في أحد مجالس السمر , وكان فيمن حضر أربع سيدات يتفاوتن في السن تفاوتاً كبيراً , فأولادهن في الثمانين من العمر , والثانية في الستين , والثالثة في الأربعين؛ وكان مع هذه ابنةُ أخت لها في ربيعها الحادي والعشرين. جلستُ إلى الفتاة أجاذبها أطراف الحديث , وإذا بها تقول لي: ما قولك بخالتي؟ فهي تحاول , وقد جاوزت حدّ الأربعين , أن تجلس على عرش الجمال. فقلت: عبثاً تحاول , فقد تربعتِ على هذا العرش دون سواك ثمَّ دنوت من الخالة أحدثها , فابتدرتني بالسؤال: إلاّ بربك قلْ(3/52)
لي ما رأيك في هذه السيدة التي أربى عمرها على الستين وهي لا تزال تقضي كلّ يوم ساعةً من الزمن أمام مرآتها؟ فقلت: تضيع الوقت سدًى , فأنَّي للمرآة توليها ما أولئك الطبيعة من الرونق؟ وبعد برهةٍ كنتُ إلى جانب ابنة الستين فسرعان ما قالت لي: انظر إلى هذه العجوز الدردبيس فهي تحاول بطلاء وجهها أ، تمحو آثار الثمانين عاماً التي تثقل كاهلها فأجبت هذا خَرَف الشيوخة قلتُ هذا وبقيتُ مدةً أُفكّر. ثمَّ عزمت على إعادة طوافي مبتدئاً هذه المرة من الكبرى إلى الصغرى: فجلستُ بقرب الثمانين سنة وقلت لها: إن هيأتك يا سيدتي أشبه شيء بهيأة السيدة التي كنتُ أحدثها الآن , فكأنكما أُختان ولدتا في سنة واحدة فتبسمت وقالت: أنت مصيب فقد ولدنا في عام واحد تركتها وعدتُ إلى الستين سنة فقلت: تراهنت واحد أصحابي على أنكِ وهذه السيدة (وأشرت إلى ابنة الأربعين) قد ولدتما في شهر واحد في سنة واحدة فأمالت رأسها إمالة الإثبات الشديد وقالت وأظن في أسبوع واحد انتقلتُ بعدئذٍ إلى جنب ابنة شقيقتكِ , فإن الناظر إليكما يظنكما تؤأمين فأجابت لا هي بالحقيقة ابنة أختي , لكنَّ أمها أختي كانت تكبرني بخمسة وعشرين عاماً , وقد أخبرتني أني ولدتُ وابنتها هذه في عام واحد. . . تقول ابنة الثمانين أنها ولدت في سنة ولادة ابنة الستين , وهذه ولدت في السنة التي ولدت فيها ابنة الأربعين. وهذه ولدت وابنة العشرين في عام واحد. فتكون العجوز(3/53)
الثمانينية - على هذا الزعم - من سنّ الفتاة ابنة العشرين. . .؟ آه
من عمر النساء. . .!
تمثال مويّار
لا يزال الإنسان يغالب عناصر الطبيعة , فيتغلب عليها؛ ويسترق أسرارها ونواميسها , فيستخدم قواها لزيادة قوته , أو لتوفير أسباب رفاهيته. فتوحاتٌ وانتصاراتٌ أحرزها وهي أبهى وأشرف من انتصاراته في ميادين القتال. وآخر فتح ثمَّ له من هذا القبيل , تذليله الهواء , واتخاذه إياه مطية سهلة المقاد. فصار يسافر هواءَ كما كان يسافر برًّا أو بحراً , فدانت له الطبيعة بأسرها. على أن هذا الفتح لم يتم له دون تضحية العدد الكبير من الأبطال. نخص منهم اليوم بالذكر المهندس الفرنسوي مويار الذي رفعت له شركة مصر الجديدة تمثالاً في أرضها , وجمعت الوجهاء والأدباء حوله في الشهر الغابر ليحتفلوا بذكره. هكذا يكرم الغربيون نوابغهم. . وقد أراد علاَّمتنا زكي باشا أن يكون لنوابغ الشرق نصيبهم من هذا الإكرام , فأبان في خطبةٍ ملؤُها التنقيب والبحث أن اثنين من العرب - وهما الجوهري وعباس بن فرناس - قد حاولا الطيران قبل سواهما. وقد اعترفت بذلك لجنة الاحتفال , فنقشت الأبيات الآتية على قاعدة التمثال وهي لحافظ إبراهيم:
إن يركبِ الغربُ متن الريح مبتدعاً ... ما قصّرتْ عن مداه حيلةُ الناسِ
فأن للشرق فضلَ السبق نعرفه ... للجوهريِّ وعباس بن فرناس
قد مهدّا سُبُلاً للناس تسلكها ... إلى السماء بفضل العلم وإلباسِ(3/54)
خصت مصر مويار دون سواه من أبطال الطيران لترفع له تمثالاً تحت سمائها , لأن مويّار الأفرنسي المولد , عاش ومات في مصر. وفي مصر كان يشتغل لتحقيق مسألة الطيران , فوضع قواعد هذا الفن كما هي معروفة اليوم؛ ولكنّ ضيق ذات يده حال دون إبراز فكرته إلى حيز العمل , فعاش فقيراً ومات فقيراً. وقام علماء آخرون فعملوا بالمبادئ الميكانيكية التي وضعها , فتمكنوا من امتلاك ناصية الهواء ومجاراة الطير في مضمار السماء. مات مويار فقيراً كما عاش ولكنه أغنى أبناء جنسه باختراعه العجيب؛ فكان شأنه شأن معظم كبار المخترعين والمكتشفين كغاليله وكولمبس , فهم لا يحيون ولا يمجَّدون إلاَّ بعد موتهم. . . خمسة عشر عاماً مرّت على وفاة هذا المخترع. فأدرك العالم سموَّ مداركه؛ وقام اليوم يجود بتماثيل البرونز والرخام , على من حُرم في حياته ما يسدُّ به الرمق. فما
أعجب مغالطات بني البشر. ويا ما أحدّ سهام اللوم التي صوّبها إليهم حكيمنا شبلي شميل إذ قال:
مُيّار أنك قد قضيت ككل منٍ ... نفع البرية وهو قد نال الضررْ
قد عشتَ بين الناس أوحد بائساً ... والعقل مقتدر وفي الأيدي قِصرْ
هم ضيَّقوا الدنيا عليكِ وأنت في ... فتح السماء لهم تحلّق في الفكرْ
ضنّوا عليك وأنت حيٌّ بينهم ... وتسابقوا للميت في نثر الدررْ
جهلوك حتى أوقعوا بك ريبةً ... وتفاخروا بك بعد موتك عن أشرْ
لو أنهم نفعوك يوم خدمتهم ... لوفوك حقاً غير حق منتظرْ
أو أنهم فهموك يوم هديتهم ... عزَّاك علمك أنهم حقاً بشرْ
يستمسك الإنسان بالبالي فإن ... عنه تزحزحه تجده قد نفرْ(3/55)
ما فضلك المعني وهو به الغنى ... بل جهلهم يعنون في هذا الأثرْ
سهم نافذ. . . .! ولكن الخلف الذي يعوّض عن السلف بإعلان فضل من غمط فضله يستحقُّ قسطه من الثناء
حاصد
لمن هذا الشعر
وقعنا على الأبيات التالية وهي لشاعر كبير من شعراء اليوم الذين عرفهم قراء الزهور فإذا بها تنم كثيراً عن شاعرها. فرأينا أن ننشرها غفلاً من التوقيع تاركين لفراسة القراء أن يعرفوا اسم الشاعر. ومن عرفه وكتب إلينا اسمه في خلال شهر بعد صدور هذا الجزء جعلنا لهُ جائزة كتاباً أدبياً من أفضل الكتب التي ظهرتِ حديثاً وعليه توقيع الشاعر بخط يده
نظرت إليها نظرة فتأثرت ... وبأن على الخدين من نظرتي أثَرْ
ولما تراءى الوجد بيني وبينها ... مددت له ستراً من الرأي فاستترْ
وقد كدت أنسى كبرتي فاد كرتها ... وراجعت نفسي أن يراجعها الصغرِْ
تضن بها النعمى وتبذلها المنى ... وتنأى بها السلوى وتدنو بها الفكرْ
فيجذبني وجدي وتدفعني النهى ... وينهضني شوقي ويقعدني الكبر
أرى في ديارات الأحبة أوجهاً ... فأطلب إغضاَء فيسبقني النظر
يلمُّ بها يشتار منها محاسناً ... كذا النحل يشتار العسول من الزهر
وكم ليَ في الألحاظ سرًّا مكتماً ... ينمُّ عليه اثنان شعريَ والحوَر
مضى زمن اللهو الذي لست ساخطاً ... على ما مضى منهُ وذا زمن العبر
فأسكتني ما أسكت الورق في الدجا ... وأنطقني ما أنطق الورق في السحر
كلانا له أن ردد النوحَ سامعُ ... فتسمعني كتبي ويسمعها الشجر
تمنت قلوب أن أكون دخلتها ... ولاغرو لكن آفة الِرد في الصدَرْ(3/56)
العدد 23 - بتاريخ: 1 - 4 - 1912
الكهانة
إذا كان سعادة اسكندر عمون بك من مشاهير رجال القانون فهو أيضاً من كبار الكتاب العارفين آداب اللغة كل المعرفة. وإذا كان اشتغالهُ بالقضاء فالمحاماة قد صرفهُ عن معالجة المواضيع الكتابية , فإن له في عهده الأول آثاراً أدبية تدل على تمكنهِ من صناعتي النظم والنثر. ولقد ظفرنا ببعض تلك الآثار وسننشرها بادئين بالفصل التالي وقد كتبهُ حضرته منذ نحوٍ من خمس وعشرين سنة وهو مقتبس من مواد كثيرة كان سعادته قد اعتنى بجمعها وإعدادها لوضع كتابٍ مطوَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام:
الكَهانة في اللغة القضاءُ بالغيب. والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان , ويدّعي معرفة الأسرار. وقد اختلف العلماءُ في وجه سبب الكهانة؛ فمنهم من قال أن نفس الإنسان إذا صفت وتغلَّبت على الجسم , اطلعت على أسرار الطبيعة. ولذلك كان أكثر الكهّان معتلّي الأجسام , بتغلب النفس فيهم على المادة , كما اتصل بنا عن شقٍّ وسطيحٍ وعمرانَ وغيرهم من الكهان المشهورين.(3/57)
ومنهم من قال: أنَّ وجه سبب الكهانة من الوحي الفلكيّ؛ ولعلّ ذلك خاص بالمنجمين دون غيرهم من الكهان. ومنهم من قال: إن للكاهنِ تابعاً من الجنّ , ورئياًّ يلقي إليهِ الأخبار. وهو القول المشهور عندهم , المعتمد في الإسلام. وقد جاءَ في صحيح البخاري عن النبي: أن الملائكة تتحدث في العِنان (أي الغمام) بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرّها في أُذن الكاهن , كما تقرّ القارورة , فيزيدون معها مائة كذبة. وقال الله في كتابه: {يوحي بعضه إلى بعض زخرف القول غروراً}. وقال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم}. وقال الأزهري: كانت الكهانة في العرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما بُعث نبياًّ وحرست السماء بالشهب , ومنُعت الجن والشياطين من استراق السمع وإلقائه إلى الكهان , بطل علم الكهانة. وقال الله في كتابه: {وأنّا لمسنا السماءَ فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً
وكان للكهانة في الجاهلية شأن عظيم لشدة اعتقاد القوم بها. فكان الواحد منهم إذا ضلَّت له ضالة , أو سرق له شيءً , أو همَّ بأمرٍ ذي بال أو أُصيب أحد من أهله بمرض , يذهب إلى الكاهن فيستطلع منهُ ما يحبُّ الوقوف عليهِ من مكان الضالة , أو محل السرقة , أو مال الأمر , أو داء المريض. وكانوا يقصدون الكهان بنوع أخصّ لأجل تفسير الأحلام المؤثرة , لأنهم كانوا يعتقدون أنها نبأ روحاني عما سيقع لهم من الأمور الخطيرة في
مستقبل الزمان. وكانوا يحترمون أقوال الكهان فيما يسألونهم عنه , فلا يخالفون لهم رأياً. وكان الكهان يتوخون السجع(3/58)
في كلامهم , لأنهُ أوقع في النفوس , فيستصغون إلى أقوالهم الإسماع , ويستميلون بها القلوب. . . أقول: وربما كان الغرض الأول من التزام السجع ترك الكلام مبهماً غامضاً , لأنَّ المتكلم إذا التزم في كلامه قافيةً , سواء كان الكلام نظماً أو نثراً , يباح له من الإبهام في أقواله مالا يباح لغيره. وكل متكهن محتاج إلى ذلك الإبهام
وقد اشتهر في الجاهلية عدد من الكهان , أكثرهم في بلاد اليمن. فكان العرب يقصدونهم من أطراف البلاد لاستطلاع الغيب منهم في الأمور العظام , غير معتمدين في ذلك على الكهان الذين بين ظهرانيهم. ثمَّ إذا صدَّقت الحوادث شيئاً من ظنونهم , وصحَّ شيءٌ من أقوالهم , تناقلتِ الألسنةُ الخبر , وزادت عليهِ الرواة من الحكايات المختلفة أضعاف أضعاف الحقيقة , فتزداد بذلك شهرتهم. وربما نسبوا إليهم أموراً في أزمنة لم يكونوا موجودين فيها , كما نسبوا إلى سطيح الكاهن أنهُ أنذر باستيلاء الحبشة على اليمن قبل الاستيلاء بسبعين سنة. ثم أوَّل رؤيا الموبذان بعد مولد النبي. ولذلك اقتضى الأمر أن يجعلوا عمره نحواً من ثلاثمائة سنة. وقد عنَّ لقوم أن يجعلوا مولدهُ قبل ظريفة الخبر كاهنة عمرو مزيقياء , لكي تنفل هذه الكاهنة في فيهِ , فينتقل إليهِ علمها ولذلك اضطروا أن يمدوا عمره إلى ستة قرون أو أكثر وسطيح هذا أشهر كهان الجاهلية. ثم يليه شقّ وكانا متعاصرين. وممن اشتهر قبلهما ظريفة الخبر كاهنة عمرو مزيقياء ملك اليمن الذي تفرقت الازد في عهده بسبب سيل العرم؛ وعمران الكاهن أخو(3/59)
عمرو المذكور؛ وعمران هو أوَّل من رأى في كهانته أن قومه سوف يمزَّقون كل ممزّق , ويباعد بين أسفارهم. ثم رأت ظريفة في كهانتها نبأ السيل , فأنذرت عمرواً. ومن الكهان الذين اشتهروا في آخر زمن الجاهلية سملقة وزوبعة وحارثة بنت جهينة وكاهنة باهلة وسديف بن هرماس , وغيرهم ممن يضيق بنا المقام عن ذكر أخبارهم
ولنذكر هنا شيئاً من أخبار سطيح الكاهن على سبيل الأنموذج والمثال , لاسيما وأنهُ كان عند القوم بمنزلةٍ صيرّتْهُ أمام الكهانة , فأصبحت أخباره جزءًا من تاريخ الكهانة نفسها
قالوا: هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان , وسمي سطيحاً لعجزه عن القعود والقيام , فكان أبداً منبسطاً منسطحأ على الأرض؛ ولما
كان ذلك الرجل عجيباً عندهم في كهانتهِ , اقتضى الأمر أن يكون كل شيءٍ متعلق به عجيباً أيضاً. فكما أنهم زعموا أن شقاً كان نصف إنسان , له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة؛ كذلك زعموا انهُ لم يكن في جسم سطيح عظم سوى الجمجمة؛ ولذلك كان يدرج سائر جسده كما يدرج الثوب. وقالوا أن الجمجمة نفسها كان يلين عظمها إذا لمست باليد وأنهُ كان إذا غضب اشتدت أوصاله فينتصب قاعداً ويبقى كذلك إلى أن تسكن سورة غضبه. وذد ذكرنا أقوالهم في طول عمره. وقد زعموا انهُ خرج مع من خرج من اليمن في أيام سيل العرم ومات في أيام كسرى أن شروان
وأول ما تكهن بهِ سطيح انهُ كان نائماً مع أهلهِ في ليلة سها كية(3/60)
مظلمة , فإذا هو قد زعق من بينهم ورنَّ وتأوَّه وقال: والضياء والشفق , والظلام والغسق , ليطرقنَّكم ما طرق. قالوا: ما طرق يا سطيح. قال: ما طرق إلاَّ الأجلح , حين سرى الليل إليهم الأفلح , وولاهم فيهِ دح. قالوا: وما علامة ذلك يا سطيح. قال: أمر بسد النقرة ذوجية في الوجرة وحرَّة في ليلة قرَّة. فلم يكترثوا لقوله , وتعاصفت مدود من أودية هنالك , فجاءَتهم في ليلة قرَّة كما ذكر , فساقت الأنعام والمواشي وكادت تذهب بعامتهم
ومن أشهر ما يروى عن سطيح تأويله رؤيا ربيعة بن نصر ملك اليمن إذ أنذر باستيلاء الحبشة على بلاده. وذلك أن ربيعة رأى رؤيا هالته , فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائقاً ولا منجماً من أهل ملكه إلاّ استدعاه إليه , فلما اجتمعوا في داره قال لهم أني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها , فأخبروني بها وبتأويلها. فقالوا قصَّها علينا نخبرك بتأويلها. قال إني إن أخبرتكم بها لم اطمئنَّ إلى خبركم عن تأويلها أنه لا يعرف تأويلها إلاّ من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق إذ ليس أحد أعلم منهما , فهما يخبرانه بما سأل عنه. فبعث الملك إليهما. فقدم عليه سطيح قبل شق فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. قال: أفعلُ. حُمَمَه , خرجت من ظلمه , فوقعت بأرض تَهِمهَ فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح , فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنَش ,(3/61)
لينزلنَّ أرضكم الحبش , وليمكنَّ ما بين أبين إلى جرش. فقال له الملك وأبيك يا سطيح , إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال: لا
بل بعده بحين , أكثر من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين , ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه أرِم ذي يزن , يخرج عليهم من عدن , فلا يترك منهم أحداً باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع , قال: بل ينقطع , قال ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي , من قبل العلي. قال: وممن يكون هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن مالك بن فهر بن النضر , يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال وهل للدهر من آخر؟ قال نعم يوم يجمع فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال أحق ما تخبرني؟ قال نعم والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق. ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتم ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت حممه فخرجت من ظلمه فوقعت بين روضة وأكمه فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقنا وإن قولهما واحد إلاَّ أن سطيحاً قال بين روضة وأكمه فأكلت منها كل ذات نسمة. فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئاً فما عندك في تأويلها؟ قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلنَّ أرضكم السودان , وليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن(3/62)
ما بين أبين إلى نجران. فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال لا بل بعده بزمان ثم يستنفذكم منهم عظيم ذو شأن ويذيقهم أشدّ الهوان قال ومن هذا العظيم الشأن قال غلام ليس بدني ولا مدَن يخرج من بيت ذي يزن قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق بين أهل الدين والفضل , يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال وما يوم الفصل؟ قال يوم تجزى فيه الولات تدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس ليوم الميقات؛ يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال أحق ما تقول؟ قال أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض أن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض
وروى الأزهري بإسناده عن مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيهِ قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليهِ وسلم ارتجس ديوان كسرى وسقطت منهُ أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك مائة عام , وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فلما أصبح
كسرى أفزعهُ ما رأى فلبس تاجه وأخبر مرازبته بما رأى , فورد عليهِ كتاب بخمود النار. فقال الموبذان وأنا رأيت في هذه الليلة وقصَّ عليهِ رؤياه في الإبل. فقال له وأي شيء يكون هذا؟ قال حادث من ناحية العرب فبعث كسرى إلى النعمان بن المنذر أن ابعث إليَّ برجل عالم ليخبرني عما أسأله. فوجه إليهِ بعبد المسيح بن عمرو بن نُفيلة الغساني , فأخبرهُ بما(3/63)
رأى فقال: علمُ هذا عند خالي سطيح قال: فأتهِ وسلهُ وأتني بجوابهِ. فقدم على سطيح وقد أشفى على الموت فأنشأ يقول:
أصمَّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فادَ فازلمَّ بهِ شأو العنن؟
يا فاصل الخطّة أعيت مَن ومَنْ ... أتاك شيخ الحيّ من آل سنَنْ
رسول قَيل العُجم يسري للوسَن ... وأُمه من آل ذئب بن حجَنْ
أبيض فضفاضُ الرداء والبَدَن ... تجوب بي الأرضَ علنداةٌ شزَن
ترفعني وجناً وتهوي بي وجَنْ ... حتى أتى عاري الجآ جي والقطَنْ
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... تلفُّهُ في الريح بوغاءُ الدمَنْ
كأنما حُثجثَ من حضني ثكَنْ
قال: فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه فقال: عبد المسيح على جمل مُسيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الأيوان , وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبٌعث صاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوة , وملكات على عدد الشرفات , وكل ما هو آتٍ آت. ثم قبض سطيح مكانه. فكان ذلك آخر ما تكهَّن بهِ ونهض عبد المسيح إلى راحلتهِ وهو يقول:
شمِّر فإنك ما عُمّرت شمّيرُ ... لا يفزعنّك تفريقٌ وتغييرُ
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارٌ دهاريرُ
فربما ربما أضحوا بمنزلةٍ ... تخاف صولهم أسدٌ مهاصيرُ
منهم أخو الصرح بهرام وأخواتهم ... وهرمزانٌ وسابورٌ وسابورُ(3/64)
والناس أولاد علاّتٍ فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمهجورٌ ومحقورُ
وهم بنو الأم لما أن رأوا نشباً ... فذاك بالغيب محفوظٌ ومنصورُ
والخير والشرّ مقرونان في قرَنِ ... فالخير متّبعٌ بالغيب والشرّ محذورُ
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً تكون أمور. فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى زمن عثمان. وكان من أمر انقلاب دولتهم ما كان
اسكندر عمون
نابوليون الأول وحرب روسيا
وضع الكونت لأون تولستوي , الكاتب الروسي المشهور , كتاباً تحت عنوان نابوليون وحرب روسيا وصف فيهِ فظائع تللك الحرب الهائلة بأسلوبٍ انتقادي خطَّأَ فيهِ مزاعم معظم المؤرخين الفرنسيس والروس الذين أسهبوا في الكلام على تلك الحرب , وسفَّه آراءَهم من مثل إيجاد مؤرخي الفرنسيس أعذاراً لعاهلهم تنصّلهُ من تبعة تلك الحملة التي هلكت فيها مئات الألوف من البشر , وانتفقت في سبيلها القناطير المقنطرة من المال , ومثل ادعاء مؤرخي الروس أن قيصرهم وقادة جيوشهِ تمكنوا بدهائهم من إلقاء الفرنسيس في تلك الورطة التي فغرت فاها وابتلعتهم. ولما كان تولستوي ينظر إلى نابليون بغير المقلة التي ينظر بها إليهِ السواد الأعظم من بني الطينة , أحببنا أن ننقل لقراء الزهور الكرام الفصل الأخير من الكتاب المذكور وننشره لهم على علاتهِ , فاسحين على صفحات هذه المجلة مجالاً لأقلامهم(3/65)
لعلهم يتحفوننا بما يعنُّ لهم من الملاحظات في الموضوع الذي نحن في صدد الكلام عنهُ قال تولستوي:
نابوليون واسكندر الأول
إذا جارينا المؤرخين في أن الرجال العظام يسيرون بالإنسانية إلى غايات معلومة , وأن الموازنة الأوروباوية , وانتشار الأفكار الثورية , وعمران البلدان وغير ذلك من الأغراض تتعلق بعظة الدولتين الروسية والفرنساوية , تعذَّر علينا والحالة هذه أن نفسِّر معاني الحوادث التاريخية دون أن نجعل للصدفة والدهاء شأناً فيها
ولو كانت الغاية من الحروب الأوروباوية التي شبت نيرانها في مفتتح هذا القرن (التاسع عشر) إعلاء شأن الدولة الروسية لكان من الممكن إدراك تلك الغاية بغير الحروب التي سبقتها وبغير تلك الغزوة
ولو كانت عظمة فرنسا هي الضالة المنشودة لكان من المستطاع أصابتها بغير الثورة والإمبراطورية
ولو كان الغرض الذي يرمون إليهِ نشر الأفكار الثورية لكانت الكتب أسهل منالا له من الجنود
ولو كان رفع منار العمران هو الحاجة التي يطلبونها , لسهل عليهم قضاؤها بذرائع أنجع
من إهلاك عباد الله ونهب أشيائهم
ولماذا جرت الحوادث في هذا المجرى , ولم تجرِ في غيره؟
إن التاريخ يجيب أن الصدفة أوجدت الحالة , فاستفاد منها الدهاء ولكن ما هي الصدفة وما هو معنى لفظة دهادء؟(3/66)
إن كلمت صدفة ودهاء لا تعبّران عن شيء موجودٍ في الحقيقة. وهذا هو السبب الذي يجعل تحديدهما متعذّراً فهما لا تدلاَّ على طريقة واحدة يستعان بها على إدراك حقائق الأمور. إني أجهل مثلاً سبب هذا الحادث , ويجري في وهمي أني أعجز عن فهمهِ , ومن جراء ذلك لا أعالج الوقوف على كنههِ , فأقول أن الصدفة هي التي أوجدتهُ إني أرى قوةً تنتج عملاً لا ينطبق على صفات البشر المألوفة , وحين تصعب عليَّ معرفة سبب تلك القوة , أقول إن هذا ضرب من ضروب الدهاء إن الخروف الذي يضعهُ الراعي كل مساءٍ في حظيرة خصوصية , ويقدم له طعاماً زائداً , يفوق من جراء ذلك رفاقهُ في السمن , ويبين لأولئك الرفاق أنَّ في أمرهِ شيئاً من الدهاء , على أن الحقيقة هي أن ذلك الخروف , بدلاً له فيها العلف. وحين يسمن ذلك الخروف , ينحر ويباع للجزار , فيؤثر ذلك الأمر في باقي الغنم , ويبين لها أنهُ نتيجة من نتائج الدهاء المقرون بسلسلة من سلاسل الصدف الغريبة ولو لم تعد الغنم تعتقد أن كل ما يجري يرمي بهِ إلى غايات تتعلق بها دون سواها , ولو زعمت الحوادث الطارئة تجري إلى غايات تجهل حقيقتها , لتجلت لها للحال وحدهٌ في العمل , وتعاقب منطقي في كل ما يطرأ على الخروف الذي يُسمّن إن الغنم وإن لم تكن تدرك الغاية من تسمينهِ , تدرك أنهُ لم يحدث(3/67)
شيء من الذي حدث للخروف من باب البداهة, ولا تحتاج إلى تفسير معناه إلى الالتجاء إلى الصدفة أو إلى الدهاء. أنّا لا نكتشف في حياة الأشخاص المذكورين في التاريخ تعاقبا منطيقيا للحوادث التي تقتضيها الضرورة إلا حين نعرض عن معرفة غاية الأشياء الأخيرة باعترافنا إن فهمنا يقصر عن الوصول إليها. فحينئذ يتجلى لنا سبب التفاوت بين أعمالهم ومقدرة الأشخاص العاديين ولا نعود محتاجين البتة إلى الأعتقاد بكلمتي صدفة ودهاء. وبناء عليه نقول انه يكفينا أن نعتقد أنا نجهل الغرض من حركات الشعب الأوروباوي وأنا لا نعلم إلا الحوادث الناشئة عن المجاوز التي جرت في فرنسا وبروسيا والنمسا وروسيا وأن الداعي لتلك الحوادث هو زحف الشعوب الغربية على الشعوب الشرقية وبالعكس أي زحف الشعوب الشرقية على الشعوب الغربية. وحسبنا الأعتقاد بهذه الأمور حتى لا نعود ند شيئا من الدهاء والشذوذ في صفات نابليون وإسكندر الأول ولا نعود نعتبر ذينك العاهلين إلاّ رجلين مثل سائر الجال ولا نعود فقط محتاجين إلى أن نفسر بالصدفة معنى الحوادث الصغيرة التي صيرت ذينك الرجلين في الحالة التي كانا عليها بل يتضح لنا بجلاء أن تلك الحوادث الصغيرة لم يكن بد منها.
وحين نهمل أمر المسير إلى الغاية النهائية ندري أنه كما يتعذر وجود أزهار وبذور لنبات من النباتات غير الأزهار والبذور التي له, يتعذر وجود شخصين من الأشخاص الذين ينوه عنهم التاريخ يستطيعان على مثال الأسكندر الأول ونابليون من مفتتح حياتهما إلى مختتمها أن ينهضا كل(3/68)
النهوض بأعباء المهمة الملقاة إليهما إن السبب الأصلي للحوادث الأوروباوية في فاتحة هذا العصر منشأة الحركات الحربية التي أجرتها في بدء الأمر الشعوب المحتشدة للزحف من الغرب على الشرق وفيما بعد من الشرق على الغرب كان بدء هذه الحركة في الغرب وكانت الأمور الآتية تدعو الشعوب الغربية إلى الإغارة على الديار الروسية والتوغل فيها حتى موسكو:
1ً - إن تلك الشعوب كانت متكاتفةً تكاتفاً حربياًّ يمكنها من تلقّي صدمة مجموع الشعوب الحربية الشرقية
2ً - إنها نبذت كل تقاليدها وعاداتها
3ً - إنها كانت تأتمر لإجراء تلك الحركة الحربية بأمر رجلٍ تمكن من تزكية نفسهِ ساحتها باستعاذتهِ بالكذب والنهب والقتل لإدراك غايتهِ. إن الثورة الأصلية الصغيرة المنتمية إلى الثورة الفرنساوية الكبرى تبددت من جراء صغرها. وتغيرت التقاليد والعادات فتألفت شيئاً فشيئاً جماعة جديدة ونشأت معها تقاليد وعادات جديدة وفي ذلك الوسط نهض للاضطلاع بمهمتهِ الرجل ساقتهُ الأقدار يوماً من الأيام إلى ترأُس الحركة وحمل أعباء مسئولية الحوادث التي توالت. إن ذلك الرجل الذي لم تكن لهُ مبادئ ولا عادات ولا تقاليد ولا اسم والذي لم يكن فرنساوياً هادنتهُ الأحداث مهادنةً غريبة وعرَضية فنال ما وصلت إليهِ يدهُ في أول الأمر وتدخل مع جميع الأحزاب التي كانت تلقي الشقاق في فرنسا دون أن يعتصم بحبل واحدٍ منها وكان من أمرهِ أنهم رفعوهُ إلى أعلى درجة(3/69)
إن جهل المحيطين بهِ وضعف خصومهِ وعدم الاعتداد بهم وإخلاصه في الكذب وضيق دائرة عقلهِ الذي تكتنفهُ الدعوى دفعت ذلك الرجل إلى تولي زعامة الجيش إن حسن لانتظام في جيش الحملة الإيطالية وما أبداهُ العدو من الرغبة عن القتال وثقة ذلك الرجل بنفسه وجرأته الوهمية كانت مرقاة إلى مجدهِ العسكري. وقد رافقتهُ في كل شيء صدف سعيدة على زعم البعض وكان أولياء الأمور في فرنسا ينظرون إليهِ شزراً إلاَّ أن تلك المعاملة كانت مساعدةً لهُ على نيل رغائبه إن المساعي التي بذلها لتغير الخطة التي توخي إنتاجها أحبط الواحد منها بعد الآخر , فالدولة الروسية أبت أن تدخلهُ في خدمتها والدولة العثمانية نبذت ما كان يعرضه عليها من الخدمة وفي حرب إيطاليا كان غير مرةٍ الخطر أدنى إليهِ من قاب قوسين بيد أن أحوالاً غير منتظرة كانت تخرجه من تلك الورطة الوبيلة إن الجنود الروسية التي كانت قادرة على تقويض أركان مجدهِ بجميع أنواع التدابير السياسية لم تطأ أوربا بأقدامها مدة بقائه فيها ولدن رجوعه من إيطاليا وجد الحكومة الفرنساوية في حالة من الانحلال تقضي على الأشخاص المتآلفة منهم بأن يتواروا أو يهلكوا. فكأنَّ الخروج من تلك الحالة المصحوبة بالخطر على نابليون قد عرض من غير سعيٍ ولا تمهيد وكان ذلك الأمر عبارة عن حملتهِ إلى أفريقيا وهي حملة لا محل لها من الإعراب تدلُّ على الحماقة(3/70)
وعادت الصدفة إلى خدمته بنوع عجيب فإن مالطة المعتبرة منيعةً جدًّا استسلمت إليهِ بغير حربٍ وإن عزائم نابليون التي تخلو من التغرير بالنفس كللها النجاح وترك أسطول العدو أي أسطول
الانكليز جيشاً برمتهِ يمرُّ في عرض البحر على أنهُ بعد قليل من الحين لم يعد يأذن لمركب وإن زورقاً أن يمرّ على متن اللجة وفي أفريقيا ساق كثيراً من الفظائع إلى قوم عزَّل على التقريب وكان الرجال الذين أتوا تلك المنكرات وخصوصاً زعيمهم يزعمون أن ما أجروهُ عظيم وجميل وأنهم يجنون من أدواحهِ ثمار المجد وأن مآثرهم الخطيرة تحكي مآثر قيصر والاسكندر المقدوني وأن تصورته الوهمية بالمجد والسؤدد التي لم يكن من شأنها فقط الأحجام عن اقتراف الجرائم بل الافتخار بها والنسبة إليها معنى يفوق الطبيعة والتي ستكون هادياً لهذا الرجل ولجميع مريديهِ وأشياعهِ أطلقت حريتها للاستعداد في أفريقيا وأفضى كل ما عالجه إلى الفوز فأن الطاعون تجاوزهُ ولم يُعتبر قتلهُ الأسرى جناية تلصق به وإن انطلاقه ُالمعجل الوهمي الخالي من السبب والدالّ على النذالة لتركهِ وراءَهُ رفاقهُ في حال الضيق عدَّهُ لهُ بعضهم فضيلةً وقد مكَّنهُ الأسطول الانكليزي مرة ثانية من النجاة فحينئذ انبهر من تلك الجرائم التي فتحت في وجهه باب السعادة(3/71)
وانتهى إلى باريس دون أن يكون له غاية مقررة. فالحكومة الجمهورية التي كانت منذ سنة من الزمان تقدر أن تهلكهُ كانت في حالة من الانحلال أوصلتها إلى شفير الدمار وكان حضور ذلك الرجل الذي لم يكن ينتمي لحزب من الأحزاب مدرجة لارتقائهِ إلى مكانة عالية. ولم يكن قد رسم له أدنى خطة بل كان يخاف كل شيء إلاَّ أن الأحزاب اعتقدت أن فيهِ نجاتها ولذلك التمست مساعدتهُ فهو وحده بما كان يجول في خاطره من أوهام المجد والعظمة وما كان يساورهُ من تلك الأحلام في ايطاليا وفي مصر وما كان فيهِ من الإعجاب بنفسهِ والجرأة على ارتكاب الجرائم والإخلاص في الكذب يستطيع أن يحقق تلك الحوادث الموشكة أن تتمّ وكان هو الشخص اللازم للحلول في المركز الذي كان يتوقعهُ وقد اشترك بغير إرادتهِ ومع فقدان الخطة الواجب الجري عليها ومع ما كان هو عليهِ من التردد ومع كان يأتيه من الهفوات في تدبير مكيدة يراد بها القبض على أزمة السلطة فكان الفوز موالياً لهُ فدفعوهُ إلى وسط جلسة كان الدير كتوار قد عقدها فذُعر وصمم على الهرب لتوهمهِ أنهُ قد هوى إلى وهدة العطب فأدَّعى انحراف الصحة وفاه بكلمات خالية من المعنى كادت تكون القاضية عليهِ ولكن الأشخاص الذين كانت حينئذ حكومة فرنسا مؤلفة منهم وكانوا قبل ذلك الحين كبار النفوس وأرجحي الحصاة شعروا في تلك الساعة بأن دورهم قد انقضى وكانوا أشد
اضطراباُ من نابليون نفسهِ ففاهوا(3/72)
بخلاف ما كان يجب عليهم التفوه به للمحافظة على السلطة وخذل المختلس إن الصدفة أو بالحري ملايين من الصدف ساقت إليهِ السلطة وأن جميع الناس قد اتفقوا على تثبيت تلك السلطة كأنهم قد تداولوا في ذلك الأمر. إن الصدفة أوجدت ضعف أخلاق أعضاء الدير كتوار الذي حملهم على الخضوع لنابليون إن الصدفة منحت بولس الأول تلك الأخلاق وجعلتهُ يعترف بسلطة نابوليون إن الصدفة كادت لهُ تلك المكيدة التي ثبتت صرح سلطتهِ بدلاً من أن تنقض دعائمها إن الصدفة أسلمته البرنس دنفين ومكنتهُ من الفتك بهِ بنوع لم يكن منتظراً وقد برهن هذا العمل أكثر من سواهُ للملإِ طرَّا أن لنابوليون الحق بإجرائهِ لأن القوة بجانبهِ إن الصدفة جعلتهُ يستنفد الميسور لتأليف حملة على انكلترا وهو مشروع يؤول إلى هلكتهِ ويتعذر وضعهُ موضع الإجراء بيد أنهُ وقع على غير انتظار على ماك والجيش النمساوي الذي استسلم من غير ما حرب ولا قتال إن الصدفة والدهاء جعلاهُ ينتصر في أوسترليتز وقد اعترفت بالصدفة جميع الأمم وأوربا بأسرها ما عدا انكلترا التي لم تشترك في الحوادث الموشكة أن تجري مع ما كانت جرائم نابوليون تثيرهُ في أفئدتها من النفور والفظاعة بسلطتهِ واللقب الذي انتحلهُ لنفسهِ وأوهام المجد والعظمة(3/73)
التي كان جميع الناس يجدونها جميلة ومعقولة وكانت قوات الغرب التي كان يبين أنها تتهيأ لإجراء حركة في المستقبل تعظم وتتثبت أركانها بعد أن كانت قد رمت بأنظارها غير مرة إلى الشرق في السنوات 1805 و1806 و1807 و1809 وسنة 1811 اتحدت العصابة التي تألفت في فرنسا مع شعوب الوسط وأنشأت مجموعاً هائلاً وكان مع تعظم ذلك المجموع يتعاظم تبرئة ذلك المترأس عليهِ من تبعة المسئولية وكان أن ذلك الرجل في خلال السنوات الست التي جرى فيها الاستعداد للحركة العظيمة تولى العلاقات مع جميع عهال أوربا وملوكها وأمرائها. وإن الاقيال الذين فقدوا تيجانهم لم تكن أوهامهم المعقولة مما تقاوم بهِ الأوهام غير المعقولة التي ابتدعها نابوليون لنيل العظمة والمجد. وقد بادر الواحد منهم بعد الآخر ليبينوا لهُ أنهم ممن لا يُعتدُّ بهم وأرسل ملك بروسيا زوجتهُ الملكة إلى ذلك الرجل العظيم طمعاً بنيل الحظوة لديهِ واعتبر عاهل النمسا إن ذلك الرجل يوليه نعمةً كبرى باقترانهِ بابنتهِ وجعل البابا حارس القداسة في البشر الدين قاعدةً لتمثال مجد ذلك الرجل العظيم
الياس طنوس الحوّيك(3/74)
في رياض الشعر
لو يُفيد اللهف
لما نكبت الأستانة في العام الماضي بحريقها تألفت في مصر لجنة لجمع الإعانات للمنكوبين , وأنفذت ولي الدين بك يكن إلى حضرة السريّ الأمثل الخواجة حبيب لطف الله. فوفد بينهما معرفة من قبل. حدثنا ولي الدين قال: تلقَّائي ذلك الشيخ الجليل على الرحب والسعة وأدناني منهُ. ثم أعلمتهُ بحاجتي فانبسط لها نفسه وجاد بخمسين جنيهاً مرتاحاً إلى تلك الغاية النبيلة فأبقت هذه المقابلة أثراً طيباً في نفس الشاعر حتى إذا فجع الخواجة لطف الله بزوجتهِ في الشهر الماضي , رثاها بالأبيات الآتية وإنما يذكر الإنسان بحسناته:
بكتكِ عيونُ العلى ... وناح عليكِ الشرَفْ
لحى الله هذا الرَّدى ... فأيَّ الشموس كسفْ
أيعلم ماذا جنى ... أيعرفُ ماذا اقترفْ؟
ألا تلفتْ مهجةٌ ... حمتْ مُهجاً من تَلفْ
ألا جلَّ فيها الأسى ... ألا عمَّ فيها الأسفْ
بكى الناس جوداً مضى ... وكان يحاكي السَّرَفْ
تُكتّمهُ جُهدّها ... ويعرفهُ من عَرَفْ
بهِ كَلفتْ دهرَها ... فزادَ ونعم الكلفْ
تواضعُ في عزِّها ... وأرابُها في صَلفْ
وما حلَّ لطف الإل ... هـ ذا القلب إلاَّ لَطَفْ
فكمْ لبكيٍّ رثى ... وكم لأسيٍّ عطفْ
لقد شِرُفِتْ بالسَّلَفْ ... وقد شرُفَتْ بالخلَفْ(3/75)
وما ترفتْ نعمةً ... وإن نشأتْ في الرَفْ
أُفيضَ عليها الثنا ... ففاض إلى أن وكَفْ
ولو أنها كفكفتْ ... ثناء الورى ما استكفْ
تخالَفَ في غيرها ... ولكنَّ فيها ائتلفْ
فصار لها كالحلي ... وباتَ لها كالتُّحَفْ
وما الوصفُ مدحاً إذا ... جرى الصدقُ فيما وَصَفْ
أيا دُرَّة المجد قد ... رجعتِ لجوف الصدَفْ
فلهفاً لفقدك لو ... يُفيدُ عليكِ اللهفْ
ولي الدين يكن
إلى شاعر الأمير
هذه هي القصيدة التي وعدنا بنشرها وبها يقرظ شاعرها المجيد قصيدة شوقي بك التي يقول في مطلعها:
العام أقبل قم نحيِّ هلالا ... كالتج في هام الوجود جلالا
ويرى القراءَ في ختامها أن شاعر الفيحاء قد شاء مساجلة شاعر النيل فإذا رأى أميرُ الشعراء أن يفعل فمن حسن حظ الأدب وقراء الزهور:
حلًّق فكري في سماءِ الخيالْ ... وساحَ في سُوح المعاني وجالْ
وغاصَ والوجدُ له سائقٌ ... في أبحرِ الشعرِ لمجني اللآلْ
فلم يجدْ أبدعَ من دُرَّة ... قد صاغها شوقي بنعتِ الهلالْ
غارت لها الشمسُ وخافتْ بأن ... تُعلي على الأيام فضل الليالْ
يا شمس فاستجدي الهلال الضيا ... فإِنما حالُكِ للعكس حالْ
ألبسهُ أحمد في وصفهِ ... نوراً على نورٍ ففاق المثالْ(3/76)
لا تَنكروا من أحمدٍ مُعجزاً ... إِن قيل سحرٌ فهو سحرٌ حلالْ
سطورُ حسنٍ مشرقاتِ السنا ... كأنها بعضُ ليالي الوصالْ
وتارة تحكي عيونَ المها ... سواحرَ الدلِّ مواضي النصالْ
آياتها بيّنةٌ للنهى ... وقدرُها أرفع من أن يطالْ
هيهاتِ ما الإتيانُ من مثلها ... بسورةٍ إلاّ ورا الاحتمالْ
تظهرُ من أحرُفِها هيبةٌ ... تشخّصُ الضرغامَ وسطَ الِحال
فلو تحدَّي في البرايا بها ... داست على هام النهى بالنعالْ
هذا هو الشعرُ الذي تعتلي ... بمثل شأواهُ معالي المقالْ
في كل شطرٍ منهُ ثغرٌ غدا ... يفترُّ عن نظمِ اللآلئ الغوالْ
وكلُّ بيت حلَّه يعربٌ ... مطنَباً فوق الدراري العوالْ
فصاحةُ البدو على لفظهِ ... تسيل كالماءِ النمير الزلالْ
أما مغازيهِ فكم سلسلتْ ... بلاغةً فيها يهيمُ الخيالْ
سهلٌ على الأفهام لكنهُ ... ممتنع أن يُنتحى بالنضالْ
فيهِ مع الرَّقةِ روحٌ وما ال ... أرواح بالتقليدِ مما ينالْ
يُعجزُ من جاراه مهما ارتقى ... فضلاً كمن حاولَ نيلَ المحالْ
وجاذب الحسنِ لعمري لهُ ... معنىً يراهُ الذوقُ فوق الجمالْ
فيا أمير الشعر مهلاً فقد ... سلبتَ والله شعورَ الرجالْ
كم لك من عذراءِ فكرٍ زهتْ ... كالروض وافي الزهر ضافي الظلالْ
فتنتَ أهل الشام في حسنها ... وفخرُ وادي النيل فيها استطالْ
رقَّت فكانت كنسيم الصبا ... إذا تلوناها على الغصن مالْ
إيجازُها رحبُ المعاني على ... زهوٍ كغمز اللحظِ من ذي الدلالْ(3/77)
وجوهرُ الأطناب منها جلا ... عقود أجياد بها النور قالْ
إذا العقول العشر أبصرتها ... أصبحنَ من دهش بها في عقالْ
والملك الضلّيل لو رامها ... مُعارضاً لم يجنِ إلاّ الضلالْ
خفَّت على السمعِ وكم ضَّمنت ... معنىً بهِ استزرت رسوخ الجبالْ
لهُ على الألباب مع لطفهِ ... كالراح سلطانٌ عظيمُ الجلالْ
يخالهُ الطبعُ على أنسهِ ... ليثاً تبدَّي من كناسِ الغزالْ
لذا تراني مضمراً رهبةً ... ورغبتي تدفعني للسؤالْ
أودُّ أن تجريَ ما بيننا ... رسائلُ الشعر بملء السجالْ
وإن يكن ثمَّة فرقٌ فقد ... تُشبَّهُ البيض ببيض الرآلْ
وقصديَ الفخرُ فما أدَّعي ... أنيَ من فرسان هذا المجالْ
بل اجتلي نهجَ ابتداعٍ بهِ ... ملائكُ الشعر عليكم عيالْ
انير فكري باحتكاك الضيا ... ما يُظهرُ الافرندَ غيرُ الصقالْ
فإِن أجبتم فهو لطفٌ وما ... للُّطفِ عن أهليهِ قطُّ انفصالْ
وما عليكم حطةٌ إنما ... تواضعُ العالين عين الكمالْ
عبد الحميد الرافعي
رُسُل الثغور
وما شُربنا الدخان عيبٌ وإنما ... قصدنا بهِ مَعنى قفوا وتأملوا
أدرّناهُ فيما بيننا فَلعلَّنا ... إلى ثعرِ مَن نهوى بهِ نتوصلُ
نجيب زلزل(3/78)
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الثامنة
من توماس هود إلى روح مس كليمانسي
(توماس هود شاعر من أبلغ شعراء الانكليز عاش في النصف الأول من المئة التاسعة عشرة. توفيت أنه وتركته طفلاً لعناية رابّته فنشأ رقيق الإحساس شديد التأثر حتى بلغت به رقة الشعر حد الجنون. وكان يهوى فتاة جميلة تدعى مس كليمانسي عاهدها على الاقتران ولكن فرط الديون التي كان يُطالب بها ألجأته إلى الفرار من انكلترا فلم يرجع إليها إلاَّ بسبب موت حبيبته. وقد كتب إليها الرسالة الآتية على أثر موتها ونظم فيها قصيدة هي أرق ما تصوره شاعر في هذا الموضوع)
أيتها الروح الطاهرة:
لستُ أعلمُ أين أنتِ الآن , وأين مقرُّكِ من عالم الأبدية. لعلك ترفرفين بأجنحتكِ الذهبية في هذا الفضاء اللانهاية له , وتتنقلين بين كواكبه السابحة , كما تتنقلُ الفراشة في الحقول. وسواء كنتِ مستقرةً في رحبتهِ أو محلّقةً في فراغهِ , فلا شك أنك ترين عالمنا هذا أقلّ مما يرى النسرُ النملة من علوهِ الشاهق؛ وتتذكرين أيامكِ القليلة على هذه الأرض السابحة معكِ في فراغ غير مدركِ الحدود فإن كنتِ , وأنتِ خالعة ثوب الهولى , قد نسيتِ أيام كنا نجلس معاً على شاطئ تلك البحيرة الهادئة , فأنا لا أنسى تلك الأيام السعيدة ,(3/79)
بل أذكر كيف كنا نحبسُ شفاهنا عن النطق لتتكلم القلوب , ونحدق بأبصارنا في الأفق لنتفرّغ أكثر للتأمل في الحب. ولقد أذكرتني بكِ اليوم مفكراتي التي ولعت بتدوينها منذ حداثتي , وقد كان بودي لو بقيت ذكرى الماضي دفينةً في الفؤاد لأن في عودتها إلى البال فتحاً لجروحٍ لا تقبل الاندمال أيتها الروح الطاهرة. سلام الله عليكِ , كلما خفق جناحاكِ وخفق معهما فؤادي لذا كراكِ! سلام الله عليكِ , كلما برزت الشمس من وراء الأفق تنثر التبر من أشعتها الذهبية! إنْ كنتِ قد سلوتني , فإن بين جنبيّ قلباً لا ينبض إلا لذكراكِ , ولا يخفق إلاّ لخفوق جناحيكِ. وإن كان عالم الأرواح قد أنساكِ عالم الهيولى , فلا كانت الأبدية ولا عالمها! لأنَّ ساعةً واحدة بقربك أشهى من الخلود في فردوس لا تكوني في ذلك العالم الخالد
, كما كنتِ في هذا العالم الفاني؟
بل انعمي بالاً , ولتقرَّ عيناكِ بما أنتِ فيهِ من نعيم وهناءٍ! فحسبي سعادة أن تتمتعي بما تشتهين. وثقي أن قلبي الذي يودُّ لو ترفرفين فيهِ بجناحيكِ لهو فارغ إلا من رسمك؛ وقد دُفن الحبُّ في كل زاويةٍ من زواياه فهو مثقلٌ بيأس تنوءُ بثقلهِ راسيات الجبال
ايهِ أيتها الروح الطاهرة! ما الذي ترينه في ذلك العالم الواسع من أسرار الحياة؟ وما الذي شغلك عن ذكرى حبنا القديم , وذد كنتِ , وأنتِ على هذه الأرض , تصفينه بالخلود , وتقولين أنهُ مستمدٌّ من عالم(3/80)
الأرواح , إذ لا بد لهُ ولا نهاية. فإذا صدق قولهم أنَّ الأرواح تحلق في الفضاء , فلماذا لا ترفرفين حولي بجناحيكِ , وتسمعني ذلك الصوت الرخيم الذي عوّدتني سماعهُ وأنتِ بعد على هذه الأرض؟ سقياً لمواقف ذلك الغرام , أيتها الروح الطاهرة. قد كنتِ في الحياة خافقةَ الفؤاد , وأنتِ الآن خافقة الجناحين. وأما أنا , قلا أزال كما كنت ثابتاً على الولاء , مقيماً على العهود , وإن كان لي بعد أُمنية في هذه الحياة فهي أن أُمتَّع بنظرة منكِ في عالم الأبدية , وأظللكِ بجناحيَّ في فردوس البقاء كثيراً ما أقصدُ إلى مثواكِ وأتفرَّس في تلك الحفرة التي يرقد فيها هيكلك الجثماني رقدته الدائمة. فتضيق الدنيا في عينيَّ وتتمثل لي رحبة الفضاء الذي تحلّقين فيهِ أضيق من سُمّ الخياط. ولكم وقفتُ برمسكِ خاشعَ الطرف , حاسرَ الرأس , وعواطفي ثائرة في داخلي , فأرى الحياة حلماً , والعالم كله مجموعة شقاء. وأنَّي للحلم أن يستمرَّ نعيمهُ , إذا انتقلت النفسُ إلى يقظة رائعة؟
القبر!
هناك , حيث ينقطع كلُّ صوت , وتبطل كلُّ حركة؛ هناك , حيث تنحلّ الهيولى وتنتهي الحياة , هناك , حيث يضيع كلُّ عزاء , وتقلُّ كل مواساة
ما أتفه الحياة بدونكِ يا كليمانسي كل يوم منها أبديةٌ مملَّة؛ والنفسُ لا عزاءَ لها سوى الغد؛ ولكنَّ الغد غامضٌ كأسرارِ الأبدية , فإذا لاح فجره بكيتُ على أمسهِ(3/81)
نعم , هي أيامٌ تنقضي يا كليمانسي وما بقي منها أقلُّ مما عبر. ولا بدَّ أن يأتي ذلك الغد الذي تنطوي فيهِ آخر صفحةٍ من العمر , فيتثاءَب القبرُ وأصغي إلى حفيف أجنحتكِ , والنفس تائقةٌ إلى النجاة من أغلال المادة لتحلِّق معكِ في فراغٍ لانهاية له. فمتى يبزغ ذلك
الفجر المجيد؟ إنَّ أحلامنا لم تتحققْ في هذه الحياة , فهل تتحقق في العالم الآخر؟ أم تكون الأبدية أقسى من عالم الفناء , فيمتدُّ بنا الفراق , وينقطع كل أملٍ من اللقاء هو ذا أنا أنتظر ذلك الغد فسلام الله إلى حين اللقاء. . .
بقلم سليم عبد الأحد
توماس هود
شيء عن الفن
كتبتُ في مجلة الزهور مقالً تحت هذا العنوان , فتفضلت السيدة لبيبة هاشم بالردّ عليَّ مبديةً رأياً غير رأيي. فلم يذهلني ذلك لعلمي أن قيمة الفنون الجميلة في نظر السيدة لبيبة توازي قيمة خرافات العجائز وقصص الغول وعنقاء بنت الريم في نظر الفيلسوف الباحث , فضلاً عن أن حضرتها تسيء الظن في الجماعة الفّنيين وربما تحسبهم أعضاء عليلة في جسم المجموع الإنساني. فلذا أظنها مستحسنة في سرّها أن يمرَّ الطبيب آلته الكهربائية على جسم كل واحدٍ من أفراد هذه الزمرة الخبيثة: زمرة الموسيقيين والمصوّرين والنقاشين والشعراء , لعلهم يعودون(3/82)
من مسارح أحلامهم البليدة إلى عالم المحسوس!!! لكنَّ شيئاً آخر أذهلني في مقالها , وهو اتّهامي باحتقار العلوم. سامحها الله؛ نعم قد اتهمتني! لقد نسبت إليَّ أقوالاً لم أرِذ قولها , وصوَّرتني صور جميلة قبيحة (لكنها قبيحة أكثر منها جميلة) في وقت واحد , إذ جعلتني فتاة تنظر من سماء أحلامها الذهبية إلى عالم الاختراعات العصرية والاكتشافات العلمية نظرة الاحتقار والازدراء. فتاة غريبة الأطوار , كدت لا أعرف نفسي في هذه الصورة , ولكني لم ألبث أن فكّرتُ في أن الصديقة الفاضلة تقصد مداعبتي. ولعمري أني أُحبُّ مداعبة يدها اللطيفة وإن ظلمت وجارت
يتنازع السيادة في عالم الأفكار عنصران: العنصر الروحي والعنصر المادّيّ. فالمادّيون يقولون إن الغنى هو السعادة وأن أهمَّ واجبات الإنسان هو السعي وراء الثروة للتوصل إلى السعادة عن طريق التجارة. والروحيون يعتقدون أنَّ الإنسان خلق لغاية أسمى من الغنى , وأن سعادته الحقيقية لا توجد في التجارة ولا تتأتَّي من الأرباح الناتجة عنها , فيذهبون بتأملاتهم على ما وراءِ المحسوس معسعسين آثار هذه السعادة التي تذوب لإلى لقياها الأرواح , باحثين عن الجمال المطلق المقرون بالكمال المطلق , وهذا هو المحور الذي تتيهُ حولهُ الأنفس الملتهبة بنيران حبّ الجمال وحبّ الحقيقة. فهذه الفئة (وهي من أعلى طبقات البشر أدبياًّ) لا تجد حظوى(3/83)
في عيني صاحبة فتاة الشرق الفاضلة. وهي تقول في كل فردٍ من أفرادها أنه يظلُّ مقصراً في معارفهِ وشرائعهِ وآدابهِ وسائر نظاماتهِ (وا أسفاه عليه!!!) , وأنه يظلُّ بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً (يا للخسارة!!!)
يعلم الله أني لا أريد الدفاع عن الفنّ ومحبيه لأنه من المستحيل أن يُقنع أحد الطرفين خصمه , ولو كان محقاً , ولعلمي أن الحرّية الأدبية مزيةٌ غالية , وأنَّ لكل إنسان حريته في اعتقاداته وآرائه. لكني أودُّ أن أستفهم حضرة الكاتبة لماذا يا ترى يظلُّ محبُّ الفن مقصراً في معارفه وشرائعه وآدابه , كما تزعم حضرتها؟ ألأِنهُ لا يدرس المكانيك , وهل كل الناس يدرسون هذا الفرع من العلوم؟ إن لكل مخلوق خطة يسير فيها فهو لا يتقن من العلوم إلاّ الفرع الذي يستخدمه لقضاءِ حاجته والسير في خطته ومع ذلك فإننا نرى معارف محبي الفن تزيد على معارف غيرهم لأنهم يميلون طبعاً إلى البحث في كلّ مهمّ مفيد , وإلى استكشاف كل جديد ولماذا يظلُّ الغنيُّ مقصراً في آدابه؟ إن من أحبَّ شيئاً برهن على أن في روحه جوهراً يشابه جوهر الشيء المحبوب , ومن أحب الفنّ فقد أحب الجمال والكمال , لأن الفنّ صورتهما. ففي روح الشاعر إذاً شغفٌ بالجمال وميلٌ إلى الكمال , فهو والحالة هذه أقرب الناس إلى(3/84)
ما هو حسن , والأدب أحسن حسنات الاجتماع. يقول صديقنا روسكن: إن روح الشرير لا تقدر أن تفهم الجمال والكمال , بل إن الأرواح الجميلة الطاهرة الشريفة تقدرهما حق القدر لأنها من أمثالها. وأودّ أن أضيفَ إلى هذا خلاصة ما قرّره علماء الفلسفة الاجتماعية وهو أن العلم شيءٌ والأخلاق شيٌ آخر. فإن لم تصدقني السيدة لبيبة فعليها بكُتب هربرت سبنر وكتب غيره من المفكّرين أمثاله الذين يقولون أنَّ مفعول العلم والدرس يتجسم في القوى العقلية , وقد يؤثر أحياناً في الأخلاق لكنه لا يؤثر دائماً أما قول صاحبة فتاة الشرق إن الشاعر يظلُّ بليداً , فهذه مسألة فيها نظر بل نظران وأكثر. فعليها ببدائع شوقي وبتأملات الخليل فإن هذه وتلك تظهر شيئاً من العظمة والجمال وغيرها من الصفات الباهرة التي تميز روح الشاعر. أما وحدة الفنيّ وميله إلى العزلة فإن الفيلسوف العصري ماترلنك ينبئها عني أن الأرواح الاعتيادية ل تفهم أسرار العزلة وفوائد مناجاة النفس , مع أن الانفراد أحياناً رياضة ضرورية للقلب والعقل. وإن الروح التي لا تشعر بالاحتياج إلى الانفراد هي روح فاسدة ثم يهتف هذا الفيلسوف نفسه قائلاً مع كارلايل الكاتب الانكليزي: يا محبي العزلة والصمت , أنتم ملح العالم , فإن لم تكونوا فيه , فسد! ثم فلتذكر حضرتها أنَّ حبَّ الذات هو محرّكُ أعمال كل واحدٍ من البشر , سواء كان شاعراً يقرض الشعر أو فلاّحاً يحرث الأرض , لكن هذه العاطفة الغريزية تظهر في كل
إنسان مظهراً مختلفاً متغيراً بتفاوت الأطباع(3/85)
والأميال والمدارك. وقصارى الكلام أني أؤكد للسيدة لبيبة أنَّ حبَّ الفن منحة الهية تخلق مع الإنسان وتنو فيه على التمادي كلما تقدم في السن؛ هي صفة جميلة غريزية لا اكتسابية كالعلوم واللغات والصنائع. هي نفخة من روح الله الأبدية السرمدية. وليس القصد من الفنون البهرجة , كما تظنُّ حضرتها , وإنما القصد منها تلطيف الشعائر , وإعلاء الفكر وتجريده عن الدنايا , ولمس الروح بيد الجمال ودفعها إلى ما هو عظيم شريف. القصد منها تهذيب الأميال وإفهام الإنسان أنَّ القوى الإلهية الراقدة في طيات نفسه تفرض عليه واجباتٍ؛ حبها شرف , والعمل بها مجدٌ. لا يضاهي. القصد منها تنوير الإفهام وتنبيه العواطف الكريمة في قلبه , كالشجاعة والمروءة والصدق والحزم والرحمة. ولئن عجبت من قول رسكن كل شعب يرتقي عنده الفنُّ وتمجيدهِ وتعظيمهِ , وإظهار الخطة التي يجب على كل فنيّ انباعها. ليس لرُسكن فلسفة , إن لم تكن فلسفة الانتقاد الفني , وأراهُ أعظم ناقدٍ فنّي في انكلترا بل أوربا بأسرها إذا وضعنا معهُ فاين الفرنساوي الكبير. وقد ظهر رُسكن في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وتوفي منذ سنوات قليلة تقول حضرة الكاتبة أيضاً أن لا فرق عندها بين حذاءٍ حسن الصنعة وقصيدة بديعة النظم ما دام يجب لإتقان كل عمل قوة عقل. وا لوعتاه على درر الأفكار تنزَّل فتلامس الأحذية! فحضرتها والحالة هذه لا ترى فرقاً بينها وبين الخياطة التي تزين الثوب بالزركشة(3/86)
والدنتلا معاذ الله أن أقول أنا بهذا القول! الجسد عزيز بلا شك والاهتمام بهِ واجبٌ على كلّ عاقل؛ على أنَّ أهمية الروح تفوق أهميته بمراحل , فضلاً عن الدماغ ينفق من قواه في عمل عقلي في ساعة واحدة أكثر مما ينفق للعمل الجسدي في ساعات طويلة نعم إن العمل جميل , وهو شريف في ذاته مهما كان حقيراً في أعين الناس , غير أنَّ هذا لا ينفي أن لكل شيء درجات: يوجد الحسن والأحسن منهُ , والعظيم والأعظم منهُ , والغني والأكثر غنى , والفاضل والأفضل منهُ , وهلمَّ جرًّا
لقد انتقدت حضرة الكاتبة الفاضلة تفضيلي آثار الفن القديمة , وتساءَلت كيف أؤثرُ بناءَ الأهرام ونحت المسلات على أشعة ونتجن والتلغراف اللاسلكي في حين أن تلك الآثار تنطق بما كانت عليه الشعوب الغابرة من الذلّ واستعباد القوي للضعيف. هذا موضوع يطلب البحث لنعلم هل كان الذل أشد وطأةً في الماضي على العباد منهُ اليوم. أما أنا فلا
أرى الإنسانية قد تمتعت بالحرية التامة بل أراها قد استبدلت قيودها القديمة بقيود جديدة. على أن هذا بحث طويل يضيق عنهُ نطاق هذه العجالة. وأجيب السيدة على سؤالها , بأني لا أرى نسبة بين المقابلتين لأني لم أتناول المقابلة إلاّ من الجهة الفنية , فلا تجوز النسبة إلا بين كل سبيه ومشابه له , فإن وُجدتْ نسبة بين هياكل أثينا وبرج إيفل , فإن هذه النسبة تتلاشى عندما نقابل تلك الهياكل بالتلغراف اللاسلكي.(3/87)
ولو انتبهت حضرتها إلى هذه النقطة لا نصفتني في هذا المعنى. أما الاكتشافات العلمية فمن منا لا يقدرها حق قدرها؟ إن علماءَ الاكتشاف هم أبطال عصورنا الذين يجب أن تكتب أسماؤهم بدماء القلوب وأن تجثو الأفكار لدى ذكرهم المجيد. إني أعبد هؤلاء الأبطال وأميل بكليتي إلى العلوم التي تسير بالإنسانية إلى التقدم والارتقاء , ولم أعنِ في مقالتي السابقة إلا العلوم التجارية المحصنة التي يتمسك بها البشر طعماً بالأرباح الناتجة عنها. حسن أن يجتهد الإنسان في جميع الثرورة لأن أهمية الدرهم تزداد يوماً فيوماً , ولكنني لا أظنُّ أنَّ الارتقاء الصحيح قائم بالثروة وحدها , وأعتقد مع رسكن أن هناك تربية هي ارتقاء في نفسها وإن لم يكن صاحبها مثرياً هذا اعتقادي يا سيدتي. فاعذري تطوحي واصفحي عن هفوات قلمي. إن لكل امرئٍ أخلاقاً وأميالاً , فأنصح لكل واحدٍ أن يعمل بها , بعد استشارة ضميره. أقول للرياضي: اشتغل بأرقامك , وللطبيب اشف مرضاك , وللتاجر اضحك من زبائنك لئلا يضحكوا منك وللشاعر احلم أحلامك وأنشد أناشيدك فليعمل كل إنسان على اكتساب سعادته كما يفهمها هو , لا كما يفهمها الآخرون , ما دامت السعادة غاية الخلائق القصوى وكعبة آمال الكون
مي(3/88)
نوابغ مصر الأحياء
اقتراح الزهور على قرَّائها
قام في مصر في نهضتها الأخيرة رجال برهنوا على أن الشرقيّ إذا أعدَّتهُ التربية , وتوفر له العلم , لا يقلُّ نبوغاً عن الغربي. وإذا كانت مصر فقدت في السنوات الأخيرة عدداً من هؤلاء النوابغ لم يفسح لهم في الأجل فكان موتهم خسارة جلَّي , على حين أن الحجة إليهم وإلى أمثالهم شديدة , فإن فيها اليوم عدداً أيضاً ممن تصحُّ تسميتهم بالنوابغ إذا حُفظت النسبة بين النبوغ وبين النهضة الحاضرة التي تعدُّ طفلة بالنسبة إلى نهضة الغربيين في هذا العصر
فالزهور
تقترح على كل واحدٍ من قراَّئها أن يختار عشرة رجال في مصر يراهم أنهم أشهر النوابغ اليوم. وأن يبعث إليها بأسمائهم مجرَّدة عن الأسباب التي بني عليها اختياره إذ يكفي أن يسرد تلك الأسماء سرداً ولا يُعنت نفسه بالشروح والتعليقات وذكر المِهَن أو الفنون التي كان النبوغ فيها. وإنما تجب مراعاة أساسي هو: أن يكون العشرة المختارون من الأحياء
والزهور
تجمع هذه الأسماء ثم تنشرها في الجزء القادم وإلى جانب كل اسم منها عدد الذين أجمعوا على اعتباره نابغة. وتنشر بعدئذ صور أولئك العشرة النوابغ المختارين فاسحةً لكل نابغة منهم صفحةً من صفحاتها يكتب فيها للقراء ما يحلوله. إن عشر صفحاتٍ يكتبها عشرة نوابغ. تحتوي ولا ريب عشرات كثيرة من الدور الغالية.(3/89)
حادث في الصحافة
بعد ثلاث وعشرين سنة المؤيد
صدر الأمر العالي الخديوي في أوائل الشهر الماضي بإسناد منصب نقابة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية إلى فضيلة السيد عبد الحميد أفندي البكري , وبتولية سعادة الشيخ علي يوسف مدير سياسة جريدة المؤيد مشيخة السادة الوفائية لمصاهرتهِ بيت السادات المشهور وفي 16 منهُ جرى الاحتفال بالسيّدين في سراي عابدين العامرة , في قاعة الاستقبال الكبرى للتشريفات الرسمية , فجلس الجناب الخديوي وإلى يمينه فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ففضيلة السيد عبد الحميد البكري فسعادة شيخ السادات الوفائية. وجلس على الجانبين بقية كبار العلماء من أعضاء مجلس إدارة الأزهر ومشايخ الأروقة ومشايخ المذاهب ورجال القضاء الشرعي وعقب أن استقرَّ المجلس بالجمع , قُدِّمت القهوة لحضرة المتشرفين بالحضرة السنية؛ ثم قال الجناب العالي: إنني مسرورٌ اليوم كثيراً إذ أرى هذا الاحتفال يجمع كبار العلماءِ حولي؛ وأحوال المعاهد الدينية على ما نرجو لها من انتظام السير وتمام الهدوّ والسير في طريق التقدم والارتقاء. ولذلك يسرّني أن أعرب لجميع رؤساء المعاهد الدينية عن الشكر والامتنان. ومما يزيد سروري(3/90)
أنني احتفل اليوم بهذين الرئيسين الدينيين اللذين عُهِدت إليهما المحافظة على مجد بيتين من أعظم بيوت المجد والشرف وقد سبق لي أن استقبلتُ عقبَ وجودي في هذا المركز حضرة السيد توفيق أفندي البكري , وأنا اليوم أستقبل حضرة السيد عبد الحميد البكري خلفاً له , وأستقبل معهُ حضرة السيد علي يوسف شيخاً للسادة الوفائية؛ وأراهما خيرَ أهل لما عهدتُ إليهما. وبمعونتكم إن شاء الله يقومان بوظيفتهما خير قيام(3/91)
ثم أمر سر تشريفاتي خديوي فألبسهما خلعتين سنيتين مصنوعتين من الجوخ الأخضر ومبطنتين بالفرو النفيس , وكانت عمامتا السادة البكرية والسادة الوفائية قد احضرتا في الجلسة , فأمر الجناب العالي سعادة السر تشريفاتي خديوي بإلباسهما إياهما وبعد انتهاء الحفلة الرسمية في سراي عابدين قصد فضيلة السيد عبد الحميد البكري سراي السادة البكرية في الخرنفش؛ وقصد سعادة السيد علي يوسف في جمع من رجال الطريقة الوفائية وقد لبسوا الأخضر وتعمموا بالعمائم الكبيرة زاوية الرباط في جهة الخرنفش أيضاً وهي الزاوية القديمة التي كان يتعبَّد فيها
سيدي علي وفا الأستاذ الأكبر الأشهر للطريقة الوفائية مدة حياتهِ , وكان يعيش في أواخر القرن الثامن للهجرة وهناك دخل شيخ السادات الوفائية الجديد كعادة كل شيخ يتولى مشيخة هذه الطريقة , فتوضأ وصلَّى ركعتين في القبلة. ثم قرأ جماعة الطريقة حزب السادة الوفائية وكَّروا شعارها وهي كلمة يا مولاي , يا واحد! يا مولاي , يا دائم! يا علي يا حكيم! وفي الساعة الأولى بعد الظهر عاد هذا الجمع إلى بيت السادة الوفائية في درب الجماميز؛ حيث جلس شيخ السادة برهة من الزمن على سجادة السادة الوفائية؛ وهي أقدم سجادة توجد في مصر إذ كان يصلي عليها سيدي محمد وفا الأكبر , والد سيدي علي وفا , الذي ولد في أوائل القرن الثامن للهجرة لوالده السيد علي وفا الذي ولد في أوائل القرن الثامن للهجرة لوالده السيد النجم الأنور الذي كان أستاذ سيدي ابن عطاء الله السكندري(3/92)
هذا ولما كان خروج السيد علي يوسف من الصحافة , بعد أن خدمها في المؤيد زهاءَ ثلاثة وعشرين عاماً , حادثاً ذا شأنٍ في عالم الأدب رأت الزهور أن تجمع لقرَّائها زبدة أقوال بعض الكتاب والصحافيين في زميلهم السابق؛ من حيث هو كاتب صحافيٌ فقط , وهذا ما تيسر لنا جمعهُ الشيخ علي يوسف سهلُ التأليف , شديد المضاء. هو في بيانهِ أقربُ إلى العامة منهُ إلى الخاصة. إذا غالبَ غالبَ بصوتهِ دون روحهِ؛ صحافيٌّ محنّك وليست الكتابة من عملهِ
كأنما يراعُهُ سوطُهُ ... يضربُ أن جدَّ ولا يكتبُ
لا تَدَعُ العجمةُ أسلوبهُ ... فليس في أسلوبهِ مُعرَبُ
ولي الدين يكن
لو كان غيرَ سياسيٍّ بطبيعتهِ , لما كان من الكتاب
أبو السامي الرافعي
أنظر إليهِ بعين الصحافي , فأراهُ عظيمَ البراعة , في تقليب اليراعة , وشديد الحصافة , في ميدان الصحافة؛ ولو وجد قلمهُ من عواطفهِ دعامة , لرفعهُ بيننا إلى مقام الزعامة؛ ولقد زاد فضلهُ أنه من الطبقة العصامية , وجهّال اللغات الأجنبية
يوسف البستاني
سيف لا يزال في غمده صدِئاً حتى يجلوَه القراع
مصطفى لطفي المنفلوطي
كان للإنشاء في مصر ديوان أنت رئيسه , والكتاب جميعاً عمَّاله
مصطفى لطفي المنفلوطي أيضاً(3/93)
له أسلوب جمع بين المتانة والطلاوة ولاسيما في الإيلام والهجاء , وقلم يطلوعهُ في الشيء ونقيضهِ على السواء. ولكنَّ علمهُ قليل فما هو من الكتَّاب الذين يبقى أثر مقالاتهم إلى حين
اسكندر شاهين
يكتب بقلم ذي أنبوبتين: أفرغ في هذه أرياً ودرياقاً , وأفعم هذه سُماً زعافاً وكلما دافَ من هذه على تلك وصلَ إلى أبعد غاية من قوة التأثير وسلامة التعبير. كتابتهُ صورة من دهائهِ وما سَلِمَ من عاب وإن كان من أقدر الكتاب
إبراهيم الدباغ
صاحبة مجلة الإنسانية
تربية الطفل
لباس الطفل
يغيّر على الحبل السري الذي ينفصل بين اليوم الخامس والعاشر , بإحدى القطع المربعة الأربع السالفة الذكر. تقطع القطعة المربعة من أحد الجانبين ومن منصفها إلى مركزها , ثم توضع القطعة بحيث يكون هذا الشرم إلى أعلى , والحبل السري في أسفل الشرم المذكور؛ ثم يثني الجزءُ الأيمن على الحبل السري وأخيراً الجزء الأيسر , ثم تقلب القطعة بما فيها من الحبل السري إلى أعلى. ومن اللازم أن يكون الحبل جافاًّ وأن يبقى كذلك , وذلك بذرّ قليل من المسحوق عليه. وعلينا أن نلاحظ الحبل السري لحدوث نزف منهُ أحياناً. وبعد انفصال الحبل السري يوضع على السرة قطعة من القطن , وتحفظ في مكانها باللفافة ويجب أن(3/94)
تكون اللفافة بحيث تكون السرة في منتصفها , وتلفّ جيداً من أسفل , ونلفّ لفاًّ بسيطاً من أعلى حتى لا يحدث أي ضغط على المعدة والرئتين. ثم توضع بعد ذلك الصدرية التي من الصوف وتربط من الإمام , ثم تثني لفافة لتكون بشكل مثلث فوق الصدرية , وتحكم على الطفل فوق الصدرية بالطريقة الآتية: توضع اللفّة التي بشكل المثلث بحيث تكون أطرافها العليا تحت إبط الطفل بقليل حتى لا تمتنع حركة الذراعين؛ ثم يدخل الطرف الأسفل من اللفة بين ساقيّ الطفل ويضمُّ الطرفان الآخران على جسمه الواحد فوق الآخر. ويلفُّ الطفلُ بعد ذلك بلفّةٍ مربعة أخرى , ويوضع على قدميه الحذاء المصنوع من الصوف , ثم يوضع الشال فوق رأسهِ ويشترط في ملابس الطفل أن تقيَهُ البرد , لأنهُ يتأثر بسرعةٍ لصغر سنّة؛ وإن تترك للطفل الحرّية التامة حتى يستطيع أن يحرّك أعضاءَهُ بكل سهولة , لأن ذلك يساعد على نمو الجسم نموًّا كاملاً؛ وإن تكون جافة نظيفة وتستبدل بغيرها متى ترطبت من البول أو البراز. وعلينا أن نلاحظ أثناء إلباسها للطفل أن تكون خالية من التجعدات لأنها تؤلمه
الاعتناء بالأذن والأنف والعيون والفم
وبعد إلباس الطفل يجب على المرضع أن تنظف الأذن والأنف والعيون بقطع من القماش مبللة بالماء الدافئ وتنشفها بقطعة من الفلانلا الجافة أو بفوطة ناعمة. ويلزم التأكد من عدم وجود إفراز في العينين ,(3/95)
لأنهُ إذا وجد يحسن غسلها بمحلول البوريك , ومعالجتها بأي
علاج حسب أمر الطبيب. وينظف الفم بإدخال السبابة ملفوفة عليها قطعة من القماش بعد أن تُغمس في الماء الدافئ ويحسن مسح اللثة واللسان وسقف الفم بقطع من القماش المبللة بجلسرين البورق
متى يحسن عمل حمَّام للطفل
يرى البعض تحميم الطفل مرتين في اليوم , ويقتصر البعض على حمام واحد في الصباح مع تغيير الملابس وملاحظة السرَّة وإحكام رباطها. ومن المهم عند تنظيف شعر الطفل (بالفرشة) أن يكون ذلك بلطف لوجود مساحة صغيرة في الرأس لم يلتئم فيها العظم تسمى باليافوخ ولا يتم التئام العظم إلا بعد 18 - 24 شهراً والضغط على اليافوخ قد يحدث أعراضاً خطرة لوجود المخّ تحته مباشرة
الطفل في المهد
من المستحسن أن لا ينام الطفل مع أُمه في فراشها مطلقاً لما يحدث أحياناً من الخطر بنوم الأم عليه. وأفضل مكان لنوم الطفل هو المهد ويؤخذ الطفل من المهد آناً بعد آخر لإرضاعهِ. ويحسن إرضاعهِ على أثر إخراجه من الحمام ثم يصبح ميالاً إلى النوم فيجب أن يكون المهد مُعدًّا لاستقبالهِ وإذا كان الجوُّ بارداً يمكن تدفئة المهد بوضع زجاج مملوء بالماء الساخن. ولا يحسن هزُّ الطفل في مهدهِ خشية أن يتعود ذلك. وكل ما يحتاج إليهِ هو السكون والهواء المطلق دون وجود مجرى هوائي
الدكتور محمد عبد الحميد(3/96)
لمن هذا الشعر
نشرنا في الجزء الفائت أبياتاً أخفينا اسم ناظمها , تاركين لفراسة القراء أن يعرفوه؛ فوردت علينا أجوبة كثيرة من أنحاء مختلفة. فإذا بمعظم الكاتبين قد نسب تلك الأبيات إلى سعادة إسماعيل صبري باشا , وقد بلغ عدد هؤلاء 53 , وعزاها بعضهم - وعددهم27 - إلى خليل أفندي مطران. وزعم 16 أنها لسعادة شوقي بك. وتوزع بعض الأجوبة على حافظ أفندي إبراهيم وأبي السامي الرافعي وأمين بك ناصر الدين محرّر الصفا وعبد الحليم أفندي المصري. وقال مكاتب من السودان أنها للدكتور شدودي. واعتقد بديع أفندي الحوراني أنها لوالده الأستاذ إبراهيم الحوراني أما الأبيات فهي من نظم ولي الدين بك يكن وأما الذين أصابوا في نسبتها إليهِ فهم حضرة: عبد المعطي بك حسين عمدة الصوالح - والسيدة لبيبة عقيلة أيوب أفندي نقاش - وأندراوس أفندي حنا - واسكندر أفندي سعيد البستاني - والخواجات حنا ويوسف شيخاني - وعبد الله أفندي نادر - وأمين أفندي حمدي. وقد أرسلت إدارة مجلة الزهور جائزة لهم كتاب المعلوم والمجهول لوليّ الدين بك يكن وعليهِ توقيعه بخط يده هذا وإننا نقتطف من بعض الأجوبة التي وردت علينا الشذرات الآتية: كتب أبو اسحق الصّبي في مساجلة أستاذه الشريف الرضي قصيدته النونية الساكنة فأجابهُ الشريف بقصيدة أخرى من نفس البحر غير أنهُ أطلق الرويّ زاعماً أن هذا الرويّ الساكن مما ينافي العذوبة ويكدُّ اللسان ويضطرب في اسلتهِ. وهو رأي العرب الذين تظهر فطرتهم اللغوية في ألسنتهم لأنهم إنما يريدون الوجوه اللفظية التي نشأت بها اللغة حسناء رائعة ونمت بها هيفاء بارعة فما كان من ذلك في الشعراء فهو أثر وراثي يجري هذا المجرى(3/97)
ولما قرأتُ الأبيات التي نشرتها الزهور عجبت من أول بيت لهذا التقييد الذي أراه في الرويّ. ثم مررت في هزّها حتى أتيت عليها. فإذا صقال مطبوع , وإذا فكر دقيق وبصيرة نفاذة وفطنة شفافة. فراجعت رأيي متَّهماً ثم رجّعت النظر كرتين فصحَّ عندي أن تقييد الروي انطلاقٌ في حرية الشاعر وأنهُ من أفراد شعراء المعاني الذين ينبع الشعر في قلوبهم قبل أن يفيض على ألسنتهم ولا أعرف ذلك لأحد كما أعرفهُ للرجل الكبير الذي يكاد يكون قلباً كلّه وهو إسماعيل باشا صبري
أبو السامي الرافعي
الأبيات لولي الدين بك يكن. فإن أخطأ ظني فما ذلك إلاَّ لأن الشعر الحقيقي روح واحدة تتجلّى بمظاهر متعددة حسب ما توجيه قرائح الشعراء وكثيراً ما تتشابه هذه المظاهر فتعسر معرفة اسم الناظم مهما كان لأسلوبه في النظم من المميزات
اسكندر سعيد البستاني
هذه الأبيات تشابه في روحها الأبيات المنشورة تحت عنوان لؤلؤ الدمع في الجزء نفسه ولاسيما في قول الشاعر وقد كدت أنسى كبرتي فاد كرتها فإنهُ ينطبق على ما ورد في مطلع لؤلؤ الدمع لولي الدين بك يكن
لا تذكريني فإنَّ الذكر يرجع لي ... عادات وجدي في أياميَ الأول
حنا ويوسف شيخاني
هذه الأبيات ليست لشوقي لأنَّ شعره يعلو ويخفض كموج البحر؛ وليست لحافظ لأنهُ يعتني بالديباجة أكثر من اعتنائهِ بالمعاني؛ وليست لخليل لأنَّ ألفاظهُ أقلّ من معانيه؛ وليست لوليّ الدين لأنهُ على فصاحته يعوزه بعض الجزالة , وليست لإلياس فيّاض لانصرافه عن الشعر إلى سواه في الأيام الحاضرة. على أنهُ لو كان البارودي لا يزال حيَّا لنسبتها إليه لما فيها من رصانة القول وجزالة المعنى وحسن السبك. فهي في رأيي والحالة هذه لسعادة إسماعيل باشا صبري
يوسف الخوري كرم(3/98)
أرى في هذه الأبيات أفكار ومعاني إسماعيل باشا صبري , وفي أسلوبها وديباجتها لهجة وليّ الدين بك يكن
لمع لمع
هذه الأبيات هي للشاعر الذي نشرت له الزهور في مجلدها الأول شكوى المنفي صفحة 140 يا ليل الصب صفحة 327 , ونفس مكرمة صفحة428. وفي مجلدها الثاني ما كان صفحة190 والقلوب البائسة صفحة974. وفي مجلدها الثالث لؤلؤ الدمع صفحة 31 فهي لوليّ الدين بك يكن
لبيبة نقاش
هي للشاعر الذي سٌمعت أنّاتهُ على ضفاف البسفور , ودوت صيحاتهُ في أرجاء يلديز. الشاعر الكاتب المجرّج عن كل تعصب إن دينيًّا أو جنسيًّا. هي لوليد الأستانة ومنفي سيواس ونزيل مصر اليوم صاحب المعلوم والمجهول عرفتهُ وأنا أطمع بأن أرى توقيعهُ على الجائزة فاحتفظ بخط الرجل الحرّ الذي علَّم الأحرار كيف يكون على الحرية. هي لولي الدين بك يكن؟
عبد الله نادر
قرأت كثيراً لولي الدين بك يكن وتشبعت من روحهِ فلم أشكَّ في أن الأبيات لهُ
أمين حمدي
وقد ورد علينا جواب مطوَّل من حضرة الكاتب المجيد الشيخ إبراهيم الدباغ صاحب مجلة الإنسانية فيهِ نقدٌ لهذه الأبيات وددنا أن ننشره لما فيهِ من الفائدة لولا أن منعنا ضيق المقام. على أن حضرتهُ أخطأ في نسبتها
هذا وأننا نشكر المكاتبين الأدباء الذين تفضلوا بالرد على اقتراحنا , ونُلفت نظر القراء جميعهم إلى اقتراح الزهور المنشور في هذا الجزء صفحة 89 بعنوان نوابغ مصر الأحياء(3/99)
ثمرات المطابع
كتاب خالد - قرأت كتاب خالد من الفاتحة إلى الخاتمة. وكنت قد رأيتُ مؤلفه مرة في بيروت منذ ثلاث سنين في صيدلية صديقي الفاضل مراد أفندي بارودي. فلما قرأت في الكتاب وصف خالد نفسه أنهُ (حليق الشاربين , مسترسل شعر الرأس تمثلت أمام مخيلتي صورة المؤلف جليةً واضحة. والكتاب كغيره من نتائج الأفكار يجمع بين الحَسن وغير الحسن وذلك شأن كل مؤلَّفٍ على الإطلاق وقد أدهشني في هذا الكتاب ما يلوح للقارئ لأول وهلة من سعة اطلاع مؤلفه وتعمقهِ في معرفة اللغة الانكليزية وسهولة إنشائهِ وغزارة مادته. إلاَّ أنهُ قد تكلف استعمال الألفاظ الانكليزية النادرة فكأنهُ أراد أن يظهر مقدرته اللغوية ونبوغه في إدراك أسرار تلك اللغة الأجنبية والكتاب مقصود بهِ سرد سيرة خالد وما لقي في مسقط رأسه وفي بلاد الغربة من تقلبات الأيام فهو مكتوب للعامة وكان يستحب أن تكون ألفاظه سلسة كمعانيهِ لا أن يكون معجم كلمات غريبة. وقد حمل المؤلف في كتابهِ حملة شديدة على الجزويت والأتراك ولا يعنّ لنا هنا أن نخطّيءَ أو نصوّب عمله بالنسبة إلى هذين العنصرين ولكننا نقول إذا كان التقريع لا يجلب فائدة فما هو إلاَّ نفثة مصدور أو ثورة غيظ لا تروي غليلا ولا تشفي عليلاً. وأجدر بأرباب الأقلام أن يكونوا أوسع صدراً وأكثر حلماً فلا يدفعهم الغضب إلى شطة الأقلام أن يكونوا أوسع صدراً وأكثر حلماً فلا يدفعهم الغضب إلى شطة قلم تنكأ(3/100)
جرحاً قديماً لا يرجى شفاؤه ولكنها تزيده ألماً ومن أحسن ما ورد في الكتاب وصف الأماكن التي زارها المؤلف ووصف معيشة القرويين في سذاجتها الطبيعية حتى إنكَ إذا قرأتَ وصف الجبال والأودية وبزوغ الشمس ومغيبها , وظلال الصخور وأغصان الأشجار وخضرة الوادي وخرير الماء وهبوب النسيم وتغريد الأطيار وشذا الأزهار , تظن أنك انتقلتَ بالفكر إلى المكان الذي يصفهُ وكأنك تشاهده بعينك. وهي لا شك مقدرة للكاتب يحمد عليها وفي الكتاب مباحث فلسفية دقيقة تدلّ على ذكاء خارق وذهن متوقد , وسعة اطلاع , وإلمام بأكثر الفنون القديمة والعصرية , حتى لترى المعاني تسطع متقطعةً كوميض البروق فتبهر البصر بشدة لمعانها ثم تضمحلّ بسرعة فيعقبها ظلام دامس. بل هي شرر النار المتطاير من حديد محمي إلى البياض تحت مطرقة الحدَّاد. تراه ينبعث في كل مكان ثمَّ يختفي بمثل السرعة التي ظهر بها. ذلك أنهُ لا يرمي إلى غاية واحدة بل ينتشر في كل جهة ثم يندثر فلا تدري ما العلاقة التي كانت بين
مصدره ومرجعه ولا مشاحة في أن المؤلف شاعر أكثر مما هو كاتب. وقد بلغ بهِ الخيال إلى الحلم فيرى أنا المستقبل سينشئ دولة عربيةً في سوريا تجعلها بهجة الدنيا. وهو حلمٌ لذيذ نتمنى أن يصير حقيقةً ولكن بينهُ وبينها مراحل حتى الآن لا يبلغها إلاَّ الوهم. ومن المؤكد أن المؤلف قد استفاد كثيراً من الغربيين أدباً وعلماً وفلسفةً ولكن الفطرة الشرقية لم تزل شديدة فيهِ وهي التي تجعل الأمل يقوم عندنا موضع العمل. وهذا ما جعل(3/101)
الشرقيّ غارقاً في سبات منامهِ لاهياً وأحلامهِ هذه خلاصة ما تأثر به ذهني من مطالعة كتاب خالد بسطتهُ كما أرسلتهُ وما خشيت أن يسوء موقع بعض الحقائق التي فيهِ من ذلك الفكر المتقد وذلك العلم الجامع
نجيب
مختارات المنفلوطي - رأى السيد مصطفى لطفي المنفلوطي , صاحب النظرات حاجة طلاَّب الأدب إلى كتابٍ يجمع لهم من جيّد منظوم العرب ومنثورها , في حاضرها وماضيها , وفي كل فنّ وغرض من فنونها وأغراضها , ما يستعينون باستظهاره أو ترديد النظر فيهِ , على تهذيب بيانهم وتقويم لسانهم. . . فهزَّ دوحة الأدب العربي هزَّةً , تناثرت فيها هذه الثمرات الناضجة التي سمَّاها مختارات المنفلوطي. بين يدينا الآن الجزء الأول من هذه المختارات وهو يشتمل على بابي الفصاحة والبيان , والأدب والحكمة , مأخوذة فصولها عن مئة شاعرٍ وكاتبٍ تقريباً بين القديم وحديث؛ وستليهِ أجزاء أخرى تتضمن سائر أبواب الكتابة وقد برهن السيد المنفلوطي في انتقاءِ هذه المختارات عن دوقٍ سليم وإطلاع واسع , الأمر الذي لم نعجب له , لأن صاحب النظرات من كتَّابنا المعدودين ومن ذوي الخبرة التامة بالأدب والأدباء. وقد أحسن بوجهٍ عام في وصف كل كاتب من الكتاب الواردة أسماؤهم في كتابهِ , غير أننا كنا نودّ أن نرى زيادة تفصيل في هذهِ التراجم كأن يذكر لنا دائماً سنة ولادة المترجَم كما ذكر غالباً سنة وفاته ,(3/102)
أو على الأقل القرن الذي عاش فيهِ , ملحقاً ذلك بأسماء أشهر مؤلفاتهِ , لكي يطلبها من يرغب في زيادة الإطلاع , أو على الأقل ليكتفي بمعرفة أسمائها. وكان يُستحبُّ أيضاً مراعاة تاريخ الكتَّاب في إيراد كتاباتهم , فلا نقرأ شيئاً للمتنبي المتوفي سنة 358هـ وبعهدَه أبياتاً لبشار بن برد الذي توفي قبله بنحو من مئتي سنة , ثم ننتقل دفعةً واحدة إلى أحد شعرائنا المعاصرين. فهذه
الأمور لا تخفي أهميتها في تنسيق المختارات وترتيبها , وقد راعاها الإفرنج قبلنا في مختاراتهم , فكانت نتيجتها تفوّق ناشئتهم في حفظ تاريخ آدابهم الأمر الذي يكاد يجهله حتى المتأدبون منا. على أن مختارات المنفلوطي تُعَدُّ من خير ما لدينا من هذا القبيل
الدولة والجماعة - عنوان لكتيّب يقع في 65 صفحة وضعهُ بالتركية أحمد شعيب بك , ونقله إلى العربية محبُّ الدين أفندي الخطيب أحد محرري جريدة المؤيد , وصدَّره رفيق بك العظم بمقدمةٍ عن علم الجماعة في الشرق. الواضع من مشاهير الكتاب الأتراك , والمترجم من حملة القلم البارعين. أما رفيق بك فمنزلتهُ الأدبية معروفة لدى الجميع. إن كتاباً هذا شأنه لخليق بكل أديب أن يطالعهُ بإمعان ولاسيما أنهُ يحتوي بحثاً مفيداً قلّما عالجتهُ الأقلام العربية إلاَّ في العهد الأخير. فلمحبّ الدين الخطيب الثناءُ الوافر(3/103)
مصر وسوريا
لما نُكِبت بيروت نكبتها الأخيرة في 24 فبراير - شباط , هزَّت الأريحية والمروءة دولة الأمير النبيل محمد علي باشا , شقيق الجناب العالي الخديوي , ونخبةً من سراة مهر وكرمائها , فتألفت لجنة رئيسها دولة الأمير , وقوامها أصحاب السعادة والوجاهة: محمد شواربي باشا , ومحمود رياض باشا , وعزيز عزت باشا , وإسماعيل باشا صبري , وخليل باشا مدكور , وإسماعيل باشا أباظة , وحسين باشا واصف , وعبد الرحمن باشا صبري , وخليل باشا خياط , ونجيب باشا شكور , وسليم بك أيوب ثابت , ورفيق بك العظم , وحبيب أفندي لطف الله , فاحتفلوا بإحياء ليلة خيرية في تياتر والأوّبرا الخديوية مساء الثلاثاء في 19مارس الماضي , لإعانة المنكوبين في تلك الحادثة الأليمة , فضمت الليلة أوجهَ وجهاءِ المصريين والسوريين يتقدمهم صاحبا الدولة الأميران محمد علي باشا , وحسين باشا كامل (عم سمو الجناب العالي) وصاحب العطوفة محمد سعيد باشا رئيس مجلس النظار وأصحاب السعادة النظار الكرام. فرأى الحاضرون في تلك الحفلة الأنيقة أحسن ما يُرى , وسمعوا خير ما يٌسمع ولما كانت الزهور منذ نشأتها إلى يومها الحاضر , عاملةً أبداً على إحكام الروابط الأدبية بين القطرين الشقيقين - مصر وسوريا - وقد طالما كتبت واستكتبت في هذا الموضوع المقالات والقصائد التي كانت صحف هذين البلدين تردّد صداها , وتعزّز مبدأها , رأت من الواجب عليها أن يكون لها يدٌ في تلك الحفلة التي أقامها أبناء أحد القطرين لإعانة أبناء القطر الآخر في بلواه. فتقدمت إلى اللجنة بلسان سعادة السري الأمثل سليم بك أيوب ثابت , فأُذن لها وحدها في نشر ما أعدّ لتلك الليلة فجمعتهُ في كرّاس خاص , صدّرتهُ برسم دولة الأمير الرئيس , وقدمت منهُ عدداُ كبيراً إلى اللجنة , ليلة الاحتفال , ليُضاف ثمنهُ إلى مبرات المتبرعين. وقد ارتأت الزهور ألاَّ تحرم قراءَها من تلك النفئات الشائقة , فأودعتها في هذا الجزء ليبقى لديهم أثراً لروح التآخي والتضامن , ذلك المبدأ الشريف الذي بسطهُ حضرة سليم بك ثابت الخطيب المشهور في ختام تلك الحفلة في خطبة بليغة ألقيت ارتجالاً فلم نتمكن من إثباتها.(3/104)
جريح بيروت
وهي أبيات تمثل حالة جريح من جرحى حادثة بيروت الأخير وضعها لهذه الليلة سعادة إسماعيل باشا صبري وحافظ أفندي إبراهيم الممثلون: الجريح البيروتي: جورج أفندي أبيض
ليلى زوجته: الست إبريز ستاني
العربي: فؤاد أفندي سليم
الطبيب المصري: عبد الرحمن أفندي رشدي
الجريح:
ليلاي ما أنا حيٌّ ... يُرجى ولا أنا ميتُ
لم أقضِ حق بلادي ... وها أنا قد قضيتُ
شفيتُ نفسي لو أني ... لما رُميتُ رَميتُ
بيروت لو أن خصماً ... مشى إليَّ مشيتُ
أو داس أرضكِ باغِ ... لدسته وبغيتُ
أو حلَّ فيكِ عدوٌّ ... منازلٌ ما اتقيت
لكن رماكِ جبانٌ ... لو بان لي لا شتفيتُ
ليلايَ لا تحسبيني ... على الحياة بكيتُ
ولا تظني شكاتي ... من مصرعي إن شكوتُ
ولا يخيفنكِ ذكرى ... بيروت إني سلوتُ
بيروت مهد غرامي ... فيها وفيكِ صبوتُ
جررت ذيل شبابي ... لهواً وفيها جريتُ
فيها عرفتكِ طفلاً ... ومن هواكِ انتشيتُ(3/106)
ومن عيون رباها ... وعذب فيكِ ارتويتُ
فيها لليلى كناسٌ ... ولي من العزّ بيتُ
فيها بني لي مجداً ... أوائلي وبنيتُ
ليلى سراج حياتي ... خبا فما فيهِ زيتُ
قد أطفأتهُ كراتٌ ... ما من لظاهنَّ فوتُ
رمى بهنَّ بغاةٌ ... أصبنني فثويتُ
ليلى:
لو تٌفتدي بحياتي ... من الردى لفديتُ
ولو وقاك وفيٌّ ... بمهجتي لوقيتُ
إن عشتَ أو متَّ أني ... كما نويتَ نويتُ
الجريح:
ليلاي عيشي وقرّي ... إذا الحمامُ دعاني
ليلايَ ساعات عمري ... معدودة بالثواني
فكفكفي من دموع ... تفري حشاشة فإن
ومهّدي ليَ قبراً ... على ذرى لبنان
ثم اكتبي فوق لوح ... لكل قاصٍ ودان
هنا الذي مات غدرا ... هنا فتى الفتيان
رمَتهُ أيدي جناةٍ ... من جيرة النيران
قرصان بحر تولوا ... من حومة الميدان
لم يخرجوا قيد شبر ... عن مسبح الحيتان
ولم يطيقوا ثباتاً ... في أوجه الفرسان
فشمَّروا لانتقام ... من غافل في أمان
وسوَّدوا وجه روما ... بالكيد للجيرانِ(3/107)
تبًّا لهم من بغاثٍ ... فرَّوا من العقبانِ
لو أنهم نازلونا ... في الشام يوم طعانِ
رأوا طرابلس تبدو ... لهم بكلِّ مكانِ
يا ليتني لم أُعاجَلْ ... بالموتِ قبل الأوانِ
حتى أرَى الشرق يسمو ... رغم اعتداء الزمانِ
ويستردُّ جلالاً ... لهُ ورفعة شانِ
وليعلم الغرب أنَّا ... كأمّة اليابانِ
لا نرتضي العيش يجري ... في ذلة أو هوانِ
أراهم أنزلونا ... منازل الحيوان
وأخرجونا جميعاً ... عن رتبة الإنسان
وسوف تقضي عليهم ... طبائع العمرانِ
فيصبح الشرق غرباً ... ويستوي الخافقان
لا هُمَّ جدّدْ قوانا ... لخدمة الأوطانِ
فنحن في كل صقعٍ ... نشكو بكل لسانِ
يا قوم إنجيل عيسى ... وأمة القرآنِ
لا تقتلوا الدهر حقداً ... فالملك للديَّانِ
ليلى:
إني أرى من بعيد ... جماعةً مقبلينا
لعلَّ فيهم نصيراً ... لعلَّ فيهم معينا
هوّن عليك تملسكْ
(يدخل الطبيب المصري ورجاله مع رجل عربي)
الطبيب:
= إني سمعت أنينا
أظن هذا جريحاً ... يشكو الأسى أو طعينا
بالله ماذا دهاهُ ... يا هذهِ خبّرينا(3/108)
ليلى:
لقد دهتهُ المنايا ... من غارة الخائنينا
صبُّوا عليهِ الرزايا ... لم يتقوا الله فينا
فخفّفوا من أذاه ... أن كنتم فاعلينا
الطبيب:
لا تيأسي - وتجلّدْ ... أراك شهماً ركينا
أبشر فإنك ناجٍ ... واصبر مع الصابرينا
(ثم يفحصه ويلتفت إلى أخوانه ويقول)
أوَّاه أني أراهُ ... للموت أمسى رهينا
جراحه بالغات ... تعيي الطبيب الفطينا
وعن قريبٍ سيقضي ... غضَّ الشباب حزينا
العربي:
أفٍّ لقوم جياعٍ ... قد أزعجوا العالمينا
قِراهمُ أينَ حلُّوا ... ضربٌ يقدُّ المتونا
عقّوا المرؤة هدّوا ... مفاخر الأولينا
عاثوا فساداً وفرّوا ... يستعجلون السفينا
وألبسوا الغرب خزياً ... في قرنهِ العشرينا
وألجموا كلَّ داعٍ ... وأحرجوا المصلحينا
فيا أوربّة مهلاً ... أين الذي تدَّعينا
ماذا تريدين منا ... والداء أمسى دفينا
أين الحضارة؟ إنّا ... بعيشنا قد رضينا
لم نؤذِ في الدهر جاراً ... ولم نخاتل خدينا
مسرّة الشام إنّا ... إخوانكم ما حيينا
ثقوا فإنا وثقنا ... بكم وجئنا قطينا
إنا نرى فيك عيسى ... يدعو إلى الخير فينا(3/109)
قرَّبت بين قلوب ... قد أوشكت أن تبينا
فأنت فخر النصارى ... وصاحب المسلمينا
الجريح:
رأيت يأس طبيبي ... وهمسهُ في فوآدي
لا تندبيني فإني ... أقضي وتحيا بلادي
العربي:
أستودع الله شهماً ... ندباً طويل النجادِ
أستودع الله روحاً ... كانت رجاءِ البلادِ
فيا شهيداً رمتهُ ... غدراً كرات الأعادي
نم هانئاً مطمئناً ... فلم تنم أحقادي
فسوف يرضيك ثأرٌ ... يذيب قلب الجمادِ
قصيدة شاعر الأمير
يا ربِّ أمرُك في الممالك نافذٌ ... والحكم حكمك في الدَّمِ المسفوكِ
إن شئت أهرقهُ وإن شئتَ احمِهِ ... هو لم يكن لسواك بالمملوكِ
وأحكم بعدلك إن عدلك لم يكن ... بالممترَي فيهِ ولا المشكوكِ
ألأجلِ آجالٍ دنت وتهيأت ... قدَّرتَ ضرب الشاطئِ المتروكِ
ما كان يَحميه ولا يُحمى بهِ ... فُلكانِ أنعم من بواخر كوكِ
هذي بجانبها السيرِ غريقة ... تهوي وتلك بركنها المدكوكِ
بيروت مُات الأسدُ حتف أنوفهم ... لم يشهروا سيفاً ولم يحموكِ
سبعون ليثاً أحرقوا أو أغرقوا ... يا ليتهم قُتلوا على طبروكِ
كل يصيدُ الليث وهو مقيّدٌ ... ويعزُّ صيد الضيغم المفكوكِ
يا مَضرِب الخِيم المنيفة لِلقرى ... ما أنصف العُجْم الأولى ضربوكِ
ما كنت يوماً للقنابل موضعاً ... ولو أنها من عسجدٍ مسبوكِ(3/110)
بيروت يا راحَ النزيل وأنسهُ ... يمضي الزمانُ عليَّ لا أسلوكِ
الحسن لفظٌ في المدائن كلّها ... ووجدته لفظاً ومعنىً فيكِ
نادمت يوماً في ظلالِك فتيةً ... وسموا الملائكَ في جلالِ ملوكِ
يُنسون (حَسَّاناً) عِصابة (جلّق) ... حتى يكادَ بجلّقٍ يفديكِ
تاللهِ ما أحدثتِ شرًّا أو أذى ... حتى تُراعى أو يُراعَ بنوكِ
أنت التي يحمي ويمنع عرضها ... سيف الشريفِ وخنجرُ الصعلوك
إن يجهلوكِ فإن أمّكِ (سوريا) ... والأبلقَ الفردَ الأشمَّ أبوكِ
والسابقينَ إلى المفاخر والعُلي ... بَلهَ المكارمَ والندَّى أهلوكِ
سالت دماءٌ فيكِ حولَ مساجدٍ ... وكسائس ومدارسٍ وبُنوكِ
كنا نؤملُ أن يُمدَّ بقاؤها ... حتى تبلَّ صدى القنا المشبوكِ
لكِ في رُبى النيل المبارك جيرةٌ ... لو يقدرون بدمعهم غسلوُكِ
يكفيكِ بُرَءا للجراح ومرهماً ... أنَّ الأمير محمداً يأسوكِ
لو يستطيع كرامُ مصرَ كرامةً ... لمحمدٍ بقلوبهم ضمدوكِ
هو في أبتناء المجد صورة جدّهِ ... أذكرتِ إبراهيم في ناديكِ؟
شوقي
خطبة سعادة الأستاذ أحمد زكي باشا
إن الله يأمر بالعدل والإحسان
يا سيدي الأمير النبيل , يا زهرة الربيع في روضة النبيل , يا حفيد محمد علي الكبير , وشريكة في اسمه الجليل وفعله الجميل! حيَّاك الله وبيَّاك! فأنت القدوةُ الصالحة للأكابر في حبّ قومك , وأنت(3/111)
أنت المتفاني في خدمة العرب بما يفيض من قلبك على قلمك! نراك تتطوّف الشرق في أقصاه , وتزور الغرب حتى منتهاه , ووطنك لا يزال نُصب عينيك لا تنساه. تجوب الآفاق كما تتنقَّل الشمس في البروج , وشعاعك الروحاني متصل على الدوام بهذه الربوع , بل بما بين الجنوب من القلوب. تلك آثار يراعك ونفثات صدرك , نراها متمثلة في مثاني السطور , وفي تضاعيف الطروس التي أملاها وجدانك على بنانك. فجاءت أسفار أسفارك خير آية شاهدة بأنك إذا ابتعدتَ عن مصر , فلا تزال نفسك تناجيك بمصر , ولا تزال روحك تحنّ إلى ساكني مصر. تلك عواطف سامية يمنحها الله من يشاء! ويمنعها عمن يشاء. عواطف شريفة تتجّلى بأظهر معانيها حين حلولك في روضة المقياس , بعاصمة أخيك العباس , وهل يخفي القمر عن أبصار الناس؟ فلا غرو يا مولاي أن جاءَت هذه الغرّاء غُرَّةً في جبين الليالي , فأنت بدرها الذي تسجد له الأهرام والبرابي. لأنك أحييتَ فيها آية من آي الفرقان , آية عائدة بالخير الحقيقي على المستحقين من بني الإنسان: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
أيها السادة الكرام!
شكر الله صنيعكم , ووفّقكم لخير أمنكم! فبمثلكم ترفع مصر رأسها بين الأمم , وفي اجتماعكم هذا معنى شريفٌ لمن ينشدُ الوطنية الصادقة , ولمن يريد أن يتعرّف ما هو التضامن الإنساني على وجهه الصحيح. هذه مصر , وهذه الشام! صنوان , بل توأمان متلازمان , جمعتهما أواصر السُّلالة والقرابة والجِوار , ومزجت بينهما لُحمة اللغة والأدب , وربطتها ببعضهما الآمال والآلام. ارجعوا إلى التاريخ , في القديم وفي الحديث , ولا يُنبّئكم مثل خبير. فطالما(3/112)
كان القطران تحت صولجان واحد , وطالما كانت الأمتان كجسم علا رأسه في العلا إلى السماء , ووضع إحدى قدميه على قارَّة أفريقية , وأقرّ الأخرى على قارة آسية! تعاونت الشقيقتان , في الشدة والرخاء , ورفعتا معاً منار العرفان ,
فاستضاءت بهِ جميع الأرجاء. نعم إن كرسيّ الملك كان في أغلب الأحيان في طيبة ومنف على عهد الفراعنة في الجاهلية الأولى , ولكنهُ كان أيضاً في دمشق الفيحاء حينما بدا فجر الإسلام , ثم انتقل إلى فسطاط ابن العاص فقطائع ابن طولون فقاهرة المعز لدين الله فهل من عجيب أن يلتحم القطران ببعضهما التحاماً تاماً في الحسّ والمعنى؟ هكذا بقيت الحال في أيام الفتح العثماني الذي شمل الأختين معاً إلى اليوم وإلى الأبد الآباد , حتى ظهر أبو الرجال , وسيد الأقيال , وأمير الأبطال , أعني بهِ محمد علي الكبير والجد الأعلى لمولانا العباس وهنا أقف موقف الإجلال والإكرام , وأنحني باحترام أمام ذكرى ذلك الهمام المقدام , وأستمطر شآبيب الرحمة والرضوان , على ضريح ذلك الذي استنقذ مصر من مخالب الفوضى وعوامل الخراب , ثم أحياها ووضع لها قواعد العمران. وسعى حتى جمع بين الشقيقتين تحت الراية العثمانية مستعيناً بإبراهيم نجله الكبير , ذلك البطل المغوار , المستوي فوق صهوة الجواد , أمام رّدّهة هذه الدار. وهاهو لا يزال بإصبعه على الدوام. . . . إلى نحو الشام! دلالةَ على تمام الارتباط والاتحاد في ظلال الهلال. جاءت قناة السويس على عهد سعيد وتلاقى فيها البحران , في يوم ولا كمثله يومٌ من أيام إسماعيل. فكان اتصال الأحمر بالأبيض انفصالاً بين بَرَدَى وبين النيل , وانفصمت تلك العروة الصغرى , فيما بين الغوطة والدلتا. غير أن ذلك التفريق كان التحقيق أكبر عامل في جمع القلوب وفي ازدياد الحنين. فمصر لا تزال ترمق الشام بعيون وامقة , وقلوب خافقة؛ وأبناءُ الشام ينظرون(3/113)
إلى مصر. . . وكأنها لهم أرض الميعاد. فهم إليها يحُجُّون وبها يعتمرون , وفيها يعمّرون ويعمرُون. وها هي جاليتُهم قد استوطنت وادي النيل , لما تلقاه من الحفاوة التي امتاز بها المصري الكريم , منذ الزمان القديم. وكيف لا نقابلهم بهذا الارتياح , وقد جمعتنا بهم تلك العلائق , ونحن مجبولون على إكرام كل وافد من الخلائق , ولو كان بعيد الديار , وربما كان ممن يٌنكر المعروف ويغمط الفضل ويقابل الإحسان بالكفران؟ لا جَرَمَ أن في فيضان القلوب , وفي فيضان الجيوب. لذلك اشتهر بنو مصر الخصيبة بالإسراع في مدّ يد المعونة إلى كل منكوب , ولو كان ممن لا رابطة له بهم. فإنهم مشغوفون بالإحسان - لمجرد الإحسان - إلى الإنسان , مهما كان. فهذا لسان الحال لا ينطق عن الهوى , وهو شاهدُ عدلٍ على أن مصر تتألّم لكلّ من يصيبه الأذى أو يحلُّ به الردى. فإذا ما فوجئَ
الإنسان - كائناً ما كان - بقارعة من قوارع الدهر , سارع أهل مصر إلى بذل المعونة بقلوب رحيبة رحيمة , وأيْدٍ مبسوطة كريمة. وكلما دعا الداعي لعملٍ من أعمال البِرّ , كان لصوته في هذا الوادي أقوى صدى , وتسابقت عشائرنا لتلبية النداء بالندَى ولا أذهبُ بكم بعيداً في إثبات هذه القضية البديهية. غير أنني لا أجد مندوحةً عن ذكر مثالين , قريبٌ عهدها , وقد جئنا في هذه الليلة لنعزّزهما بثالث , ومعاذ الله أن يكون هو الأخير! أن أعتقد اعتقاداً جازماً أن الكثيرين من السادة السامعين وأكثر منهم ممن ليسوا في زمرة الحاضرين , قد تسابقوا منذ عامين لإغاثة المنكوبين في باريس , عندما طغَى نهر السَّيْن فجعل ذلك الفردوس الأرضي كبحيرة تتلاطم فيها الأمواج. وما ذلك إلاَّ لأن المصريين قد علَّمهم طغيان النيل في بعض الأحايين بما يتبعهُ من الكوارث والنكبات.(3/114)
كذلك هم أعرف الناس بغوائل النارِ. ولذا تنافسوا في تلبية الداعي الذي دعاهم لنجدة المنكوبين من أهل صقلية وقَلَوْرِية (كلابريا) من أعمال إيطاليا , وذلك على إثر ما دهاهم من نوازل وثوران البركان , منذ ثلاثة أعوام من الزمان. وقد بلغت قيمة ما جاد بهِ الخيّرون من أهل مصر عشراتٍ من ألوف الجنيهات , كان لها الأثر الطيّب في تخفيف المصائب عن بني الإنسان في تلكم الديار. ولقد اعترفت حكومة إيطاليا بهذه الأريحية , فشكرت مصر وأهدتها نَوْطاً من الذهب , هو الآن محفوظ بدار الكتب الخديوية. هذان مثالان بأن أهل مصر هم ممن يُدرك معنى التضامن الإنساني , وإن كان بعض الذين لا خَلاق لهم يُنكرون عليهم هذه الخليقة الكريمة. لا يفقَهُ المصريون معنى التضامن الإنساني , وهو متأصل في أخلاقهم منذ ثلاثة عشر قرناً؟ نعم , فهذه النظرية الجليلة يظنها قصار النظر من آيات العصر الحاضر , ومن بدائع الحضارة الغربية. وليت شعري! ماذا يقول المفتون بأوْرُوبَّة وتعاليمها إذا ما هداه الله إلى ما بين وتحت عينيهِ من آداب الإسلام ومبادئه في العمران؟ لا جَرَمَ أنهُ يرى في نظامهِ الاجتماعيّ البديع كثيراً من الحكم الباهرة ومن قواعد الأخلاق الجميلة. ولكنهُ قد حيل بينهُ وبين مآثر الأسلاف بحجابٍ , يا له من حجاب! ففي هذه الليلة الباهية , يجدر بأبناء العرب الكرام , أنْ يتدبّروا قول النبي عليه الصلاة والسلام , في الحثّ على بثّ التضامن بين المؤمنين بوجه عام. ودونكم أيها السادة نصّ حديثه المشهور: (مَثَلُ المؤمنين في توّادهم وتراحُمهم كمثَلِ الجسد , إذ اشتكى عُضو منهُ تداعى له سائره بالحمى والسهر)
أو كما قال: (هذا هو التضامن!) وقد عرفه الشرقيون منذ أجيال طوال.(3/115)
هذا هو التضامن الذي جرينا عليهِ مهتدين بسنَّة السلف الصالح! هذا هو التضامن الذي جمعنا من كل فج عميق , في هذا الاحتفال الجميل البهيج!!
أيها السادة الكرام
يحلو لي ولكم في هذا الحفل المقام ترديد قوله تعالى: {مَثَلُ الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كَمَثَل حَبَّة أنبتتْ سبعَ سنابِلَ في كلّ سُنبلةٍ مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء. والله واسعٌ عليم} لهذه الحكمة البالغة قد تواصَيْنا بالحقّ وتواصَيْنا بالصبر , وعقدْنا الخناصر لمساعدة المنكوبين من إخواننا في الشام. ولسنا في حاجةٍ لتزكية عملنا وتبري سعينا بالأسباب التي قد يتشبَّثُ بها الإنسان في إغاثة الإنسان. وذلك لأنَّ اتحادنا مع المنكوبين في الأصلِ والسُلالة وارتباطنا وإياهم بتلك العلائق الكثيرة الثمينة , يجعلان من أقدس واجباتنا أن نبدأ بالإِسعاف لفروع دَوْحتنا وأفراد أُسرَتنا. والأقربون أولى بالمعروف نعم , فقد تعوّدنا من دهرنا على الإحسان بوجه الإطلاق , وإن كانتْ مَناحينا قد اختلفت فيهِ على ضروبٍ شتى. فمنا من يجنحُ إليه في المعاملات , وفريقٌ يستهدف إليه في المجلات , وآخرون يبتغون وجه الله. ولكلّ وِجهْةٌ هو مولّيها! فكيف لا نتسابق إلى سبيل الخير , عندما يكون أخونا في حاجة ماسّة إلى نفخة من نفخات البرّ؟ ليس المنكوب في بيروت بغريب عنا , فإنَّ الدَّمَ الذي يجري في عروقه هو الذي نستمدّ نحن منه الحياة. وكلانا من طينة واحدة , ومن مشرب واحد , وأجسامنا تنتعش بروح واحدة! هذا إلى ما أوصانا الله تعالى به من الإحسان إلى ذي القرُبى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنْب وتلك الصفات الثلاثة قد توفّرت كلها في أبناءِ الشام , بالنسبة إلى إخوانهم المصريين فلا عَجَب إذا كنا نشاطرهم الأتراح , كما نحن نشاركهم في الأفراح. سُنةٌ قضى(3/116)
بها التضامن الإنساني , بل هي فريضة أوجبتها قوانين الاجتماع ونواميس العمران. والجار أولى بالشفعة , والأخ أحقُّ بالشفعة! أئذا كنا نشترك من صميم الفؤاد في تخفيف الكوارث التي حلّت بالأقوام البعيدين , في الأقطار النائية , أفيكون من شيِمَنِا أن لا نبالي بما ألمَّ بإخواننا في الشام , أولئك الذين كانوا آمنين مطمئنين , في مدينة هادئة ساكنة , وكانت قرائن الأحوال جميعها تدلّ على أنهُ {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؟ لغيرنا أن يحدّث نفسه بالرحمة في السرّ والنجوى. وأما نحن فقد
صفحت قلوبنا بالتألم والشكوى. فلا مندوحة لنا عن المجاهرة بما تكنُّهُ جوانحنا لإخواننا من حسن الانعطاف , الذي يميله التضامن عل كل من أوتيَ مثقال ذرّةٍ من الإنصاف. فإن القلوب إذا تواثبت في الصدور , بعثت النفوس إلى الجود بالموجود , وحركت الأيدي إلى إخراج المكنوز في الجيوب والبيوت , لتخفيف المصاب الذي دَهِمَ المساكين من أهل بيروت. {إن الله يحب العدل والإحسان}
سادتي!
لعلي أكون لسانكم الناطق , وترجمانكم الصادق , إذا قلت إنكم تتحدّثون الآن بشكر الأمير الجليل الذي دفعتهُ عواطفه البارّة بالإنسانية لجعل هذه الليلة الشريفة تحت رعايته العالية. أفليس هو الذي أوجد لجمعنا المحتشد الآن فرصةً جميلة للإعراب عنا في نفوسنا من معاني المرؤة العربية , ومن العطف على قوم هم لدينا من أعزّ الناس؟
فشكراً لك يا أخا العباس:
مولاي!
إن الذين تبارَوْا في إجابة دعوتك , واجتمعوا في هذه الساعة حول طلعتك , يتقدمون إلى ساحتك , وقلوبهم على أكفّهم , وأيديهم في الجيوب , ليبرهنوا على(3/117)
عظيم إخلاصهم وجليل احترامهم لشخصك المحبوب. ولا تسلْ عما سيكون في بيوت بيروت؟ هنالك آياتُ الحمد والمدح يرتّلها المغاثون في الغداة والآصال , تعرّج بها طائفةٌ من الملائكة المقرّبين , وترفعها إلى أعلى علّيّين , فيتقبلَّها ذو الجلال والإكرام , الذي وفقك لأعمال الخير وير الأعمال , بتصدُّرك في هذا الاحتفال. احتفالٌ فيه {لِلذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولَدَارُ الآخرة خيرٌ ولَنِعْمَ دار المتقين}. {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً}. {إن الله مع الذين اتقَوْا والذين محسنون}
أحمد زكي
تحية الشام لمصر
إلى مصرٍ أزفُّ عن الشامِ ... تحيات لكرام إلى الكرامِ
تحيات يفضّ الحمد منها ... فمَ النسمات عن عبق الخزامِ
نُدبت لها وجرَّ أني اعتدادي ... بأقدار الدعاة على القيامِ
إذا ما كان معروف وشكر ... مبادلة التصافي والوئامِ
فحباً أيها الوطنان إني ... وسيط العقد في هذا النظامِ
وسيط العقد. . . لا عن زهو نفس ... أقلّ الرأي يُلزمني مقامي
ولكن عن ولاءِ بي أكيدٍ ... وعن رعيٍ وثيق للذمام
أعرني ثغرَ بيروت ابتساماً ... أصغ فرض الجميل من ابتسام
ويا بحراً هناك أعرْ ثنائي ... نفيس الدرّ ينظم في الكلام
ويا غابات لبنان المفدّى ... من الدوح المجدّد والقُدام
أراكِ على الكنانة عاطفات ... وقد ذكرت أميلكِ من غرام؟
أمدّيني بأرواحٍ زواكٍ ... لأقرئها الزكيّ من السلام(3/118)
بلادي لا يزال هواكِ مني ... كما كان الهوى قبل الفطام
أقبّل منك حيث رمى الأعادي ... رغاماً طاهراً دون الرغام
وأفدي كل جلمود فتيتٍ ... وهي بقنابل القوم اللثام
فكيف الشبلُ مختبطاً صريعاً ... على الغبراء مهشوم العظام
وكيف الطفل لم يُقتل لذنب ... وذات الخدر لم تُهتك لذام
لعمر المنصفين أبعد هذا ... يلام المستشيط على الملام
لحى الله المطامع حيث حلّت ... فتلك أشد آفات السلام
تشوب الماء وهو أغرُّ صافٍ ... وتمشي في المشارب بالسقام
أيُقتل آمن ويقال رفّهْ ... عليك فما حِمامك بالحمام
ستسعد بالذي يشقيك حالاً ... وتنعم بعد خسف بالحمام
فأما أن تعيش وأنت حرٌّ ... فذاك من التغالي في المرام
وأما أن تساهم في المعالي ... فطائشة بمرماك المرامي
مضى عهد يجار الجار فيه ... ويؤخذ للحلال من الحرام
وهذا العهد ميدان التباري ... بلا حدّ إلى كسب الحطام
مباح ما تشاء فخذه إمّا ... بحق الرأي أو حقّ الحسام
ولا تكرثْك نوحات الثكالى ... ولا شكوى ضميرك في الظلام
أساتذةَ المطامع ما ذكرتم ... هو الناموس يقدم وهو نام
فلا يضعفْ ضعيفٌ ... لناب الليث يصلح في الطعام
فهمنا مأخذ الجاني علينا ... وأعذار السواسية العظام
وأن بديل عصر كان فيه ... عجاف القوم ملكاً للضخام
زمان ساد شعب فيه شعباً ... وأنزله بمنزلة السوام(3/119)
فقوم من ملوك كيف كانت ... مراتبهم وقوم من طغام
وبين العنصرين خلافُ نوع ... على كون الجميع من الأنام
أقول وقد أفاق الشرق ذعراً ... من الحال الشبيهة بالمنام
على صخب الرواعد في حماه ... ورقص الموت بين طليً وهام
أقول بصوتهِ لحماة دارٍ ... رماها من بغاةِ الغربِ رام
أباةَ الضيم من عرب وتركٍ ... نسورَ الشم آسادَ الموامي
قرومَ العصرِ فرساناً ورجْلاً ... نجومَ الكرِّ من خلف اللثام
بنا مرضُ النعيم فنسّمونا ... وغَى يشفي من الصفوِ العُقام
بنا بردُ المكوث فأدفئونا ... بحمّى الوثبِ حيث الخطب حام
لقد جئتم ببرهانٍ عظيم ... على أنّا نعودُ إلى التمام
وأنا إن جهلنا أو غلطنا ... أنفنا أن نعاتب باحتكام
وأنا حيث فاتحنا كذوبٌ ... بميعاد فطنّا للختام
فإن زينت لنا الأقوال عفنا ... تعاطيَها كما كرة المدام
على هذا الرجاء ونحنُ فيهِ ... نسير موفّقين إلى الأمام
مثولي رافعاً إجلالَ قومي ... إلى عباس الملك الهمام
إلى ملك التضامن والتآخي ... عميد الشرقِ من بعد الإمام
وجهري جُهد ما تسعُ المعاني ... بمدح شققهِ السمِ المقام
متمّ إمارة الأصلِ المعلّي ... بفضلٍ باذخٍ كالأصلِ سام
وأدعو أن يُعزَّ اللهُ مصراً ... ويوليَها السعودَ على الدوام
خليل مطران(3/120)
العدد 24 - بتاريخ: 1 - 5 - 1912
كسوف الشمس
كسفت الشمس في السابع عشر من الشهر الفائت حوالي الساعة الثانية وربع بعد الظهر , فرأينا أن نذكر للقرَاء شيئاً عن هذا الحادث الطبيعي: يعرف كلُّ من له إلمام بالنظام الفلكي أن القمر يدورُ حولَ الأرض , وهو والأرض يدوران حول الشمس. وعليهِ فلا بدَّ من أن يكون القمر تارةً بين الشمس والأرض , فلا نرى منهُ إلاَّ القسم المظلم إذ أن القسم المنير يكون محاذياً للشمس , وهذا هو المحاق؛ وتارةً تكون الأرض بينهُ وبين الشمس فيمكننا أن نرى حينئذٍ القسم المنير , وذلك بعد خمسة عشر يوماً , وهذا هو البدر؛ وطوراً يكون والأرض متحاذيين على مسافةٍ واحدة من الشمس , وذلك هو التربيع. وبين المحاق والتربيع يكون التثليث وبين التربيع والبدر يكون التسديس. ولما كان القمر كالأرض غير مضيء بنفسه بل يستمدُّ كلاهما النور من الشمس , كان لا بدَّ من أن يكون وراءَ القمر ووراء الأرض في الفضاء ظلٌّ , وكل من يكون في هذا الظلّ لا يرى الشمس , فتظهر الشمس(3/121)
مكسوفة , عندما تدخل الأرض في مخروط ظلّ القمر , ويظهر القمر مخسوفاً عندما يكون في ظلّ الأرض لأنها تحول دون وصول نور الشمس إليهِ ويسهل عليك أن تتمثل ذلك إذا افترضت القنديل بمثابة الشمس , وجعلت يدك بمثابة القمر ورأسك الأرض فعندما تمرُّ يدك أمام المصباح يحتجب ضؤُه قليلاً عن ناظريك حتى يختفي تماماً , ثمَّ يعود فيظهر ثانية هكذا يكون كسوف الشمس
ميعاد الكسوف وأنواعه - عرفه الأقدمون باسم ساروس وهو كناية عن 18 سنة و11 يوماً , يحدث فيها 41 كسوفاً و29 خسوفاً تتعاقب في المدة نفسها كما دلّلت مراقبتهم للسماء. أما اليوم فإن لدى العلماء جداول فلكية وضعوها بعد الاختبار الطويل والكسوف إما جزئي , وإما كليّ أو تام , وإما دائري على شكل حلقة وذلك عندما تصير الشمس شبه دائرة قاتمة اللون حولها هالة منيرة. وفي الكسوف التام يكون المنظر ذا عظمةٍ مروّعة تلقي الرعب في النفوس , فتسودّ الشمس , ويخيم الظلام وتظهر النجوم في السماء ويستولي على الحيوانت نفسها رعب ذكره جميع الفلكيين الذين وصفوا هذا المشهد , فرأوا المواشي واجفةً تنقطع عن المرعى , والطيور تلجأ إلى وكناتها والكلاب مرتعشة تشُغل عن متابعة أصحابها. ولو أردنا ذكر كلّ ما كتبه علماء الفلك في هذا الباب لأستغرق الموضوع صفحات عديدة.
درس الشمس أثناء كسوفها - تروي هذه المغالطة عن فونتينل لا شيء أكثر ظلاماً في طبيعته من الشمس , فلا يتسنى لنا درسها إلاّ(3/122)
أثناء كسوفها وواقع الحال يؤيد هذا القول , فإن الكسوف قد أفادنا عن الشمس أكثر من جميع المظاهر الجوّية. وإذا كان وجيزاً , يكفي لأخذ الرسوم ودرس أطوار الشمس وبقَعِها. فإن التقارير عن هذه الحوادث قد أفادت العلم فائدة عظمى ومهّدت السبيل لاستخراج النتائج المهمة من هذا القبيل
اعتقادات الشعوب - قال فونتنيل نرى لدى كسوف الشمس من الخزعبلات والخرافات ما يقضي بسنّ قانونٍ يمنع العلماء من الإشارة إلى هذا الحادث قبل أوانهِ. . . وكان القدماءُ ينسبون الكسوف إلى غضب الآلهة , أو إلى حنق الشمس التي تحجب طلعتها النيرة دون فظائع البشر. وقد عزا ذلك قومٌ إلى يدٍ قوية تسدلُ ستاراً على منبع الأنوار , وآخرون إلى ضلال الأرض عن مركزها , وتوهم البعض أن الحادث الطبيعي ليس إلاَّ مفعول أعمال السحرة التي تطفئ النور. وهذا هو سبب ما كان يقدم عليهِ - حتى في أيامنا - من صراخٍ وهتاف وضرب على صفائح نحاسية زعماً منهم أنهم يبطلون بهذه الطريقة مفعول السحر أو يخيفون التنّين الذي يبتلع الكواكب. ونجد أن هذا الاعتقاد كان سائداً بين معظم الشعوب , كالهنود والصينيين واليونان والرومان والعرب وسكان أميركا. وقد رأينا مما تقدم أن هذا التنين المخيف ليس إلاَّ القمر الذي يقف بيننا وبين أختهِ الشمس فيحجب عنا نورها
زعمُ هيرودوتوس 484 - 425 ق م - إنَّ كتابات هذا المؤرخ(3/123)
الشهير تدلُّ على أن أوهام الشعب كانت ساطية على أفكره من هذا القبيل. فهو يذكر حدوث الكسوف أربع مراتٍ في كتابهِ , والألفاظ والعبارات التي يستعملها لوصف هذا الحادث تدلُّ على جهله حتى كلمة بمعنى كسوف فهو تارة يقول أظلمت السماء بغتة وتارة صار النهارُ ليلاً والنور ظلاماً ومرةً واحدة يفصلّ ذلك إذ يقول تركت الشمس مكانها في السماء واختفت عن الأبصار ولم يكن إذ ذاك لا غيم ولا سحاب , وكان الجوُّ صافياً
زَعْمُ اليونان - وكان من عادات بلاد مكيدونيا على عهد سقراط (486 - 400 ق م) أن تّوصد أبواب المنازل وتُحلَق شعور الأولاد حزناً وحداداً. ويروى عن الاسكندر الكبير أنه عندما كُسفت الشمس قبيل موقعة أربيل قرّب القرابيين وذبح الذبائح استرضاءً للشمس والقمر ودفعاً لغضب الآلهة وتمويهاً على الشعب
زعم الرومان - في سنة 178 ق م أثناء الحرب التي دارت رحاها بين برسه وبولس اميليوس حدث كسوفٌ ألقى الهلع في قلوب المتحاربين ولكنهُ لحسن طالع الرومان كان بين قوّادهم فلكي مشهور اسمه سلبيسيوس جالُّوس وكان قد أنبأهم عن هذا المظهر الجويّ قبل أوانه فأصاب أعداءَهم الفشل وأصابوا الظفر. ويروي المؤرخ ديون كاسيوس أن الإمبراطْور أقلوديوس لما علم أن يوم تذكار تبوّئهِ السدة الإمبراطورية يوافق يوم كسوفٍ خاف أن يتشاءم الشعب ويتطير منهُ فأمر بنشر الخبر في كل المملكة مع شرح أسبابه الطبيعية وذلك تلافياً لوقعهِ السيء
زَعمْ الهنود والصينيين - حدث سنة 1877 كسوف في مدينة(3/124)
لاوس من أعمال الهند الصينية , فأحدث قلقاً عظيماً بين السكان. فكنت تراهم سائرين في الشوارع والأزقّة ينشدون الأهازيج الحربية , ويطلقون العيارات النارية نحو السماء لتهويل التنين. وفي الصين تجري احتفالات ولما كان الصينيون يعتقدون أن ملكهم ابن السماء ومملكتهم المملكة السماوية أصبحوا يتوهمون أن كلَّ خللٍ يطرأ على نظام السماء ناجمٌ عن خللٍ في نظام بلادهم , وعليهِ فهم يقيمون الاحتفالات ويقربون القرابين عند حدوث مثل هذه الأمور
الكسوف في التاريخ - إن النظر في بعض الحوادث التاريخية التي كان للكسوف دورٌ عظيم فيها يبيّن لنا ما وراء العلم من الفوائد , وإلى أي حدٍّ تبلغ الخرافات بالشعب متى سطا عليهِ الجهل أقدم كسوفٍ يرويه لنا المؤرخون مدوَّنٌ في تاريخ الصينيين على عهد الملك شو ويرتئي العلماء أنهُ حدث في الثالث عشر من أكتوبر (ت1) سنة 2128 قبل الميلاد وأشهرُ كسوفٍ ذكره التاريخ القديم هو كسوف سنة 585 ق م وهو جديرٌ بالذكر لسببين: الأول لأن العالمِ تالس كان قد تنبأ عنهُ , وهو أول فلكيٍّ عند الأقدمين قد شرح هذا الحادث وأدرك أسبابه؛ والثاني لأنهُ بواسطة هذا الكسوف قد توصل العلماءُ إلى تقرير بعض حوادث مهمة. وقد رواه المؤرخ هيرودوتس في معرض كلامهِ عن الحرب المنتشبة بين الفرس وأهل ليديا حيث قال ما ترجمتهُ:(3/125)
كانت رحى الحرب دائرة بين الأمتين منذ سنوات , ففي إحدى المواقع صار النهار ليلاً والنور ظلاماً , فدُعر المتحاربون لهذا المشهد , وكفوا عن القتال وعقدوا الصلح وكان المؤرخون مختلفين على السنة التي جرت فيها هذه الحرب , فمنهم من جعلها في سنة610 , ومنهم في سنة 593. غير أن الأبحاث الفلكية
دلت أخيراً على هذا الكسوف كان حدوثهُ تماماً في 28 مايو (أيار) سنة 585 , وهكذا ساعد علم الفلك علم التاريخ على حبلّ هذا المشكل وغيره وقد حّث كسنوفون عن كسوفٍ آخر في كتابه آناباس لما روى وصول اليونان إلى ضفاف دجلة , قال ما ملخصه: وكان هناك مدينة قديمة مهجورة تحدق بها أسوار منيعة يبلغ علوّها مئة قدم , وهي مبنية بالأجرّ الأحمر , وكان الفُرسَ قد حاصروها دون جدوى لمناعتها , حتى ساعدتهم الأقدار على فتحها؛ وذلك أنه في أحد الأيام احتجبت الشمس عن العيان فهلع السكان وخلّوا المدينة بين أيدي العدو وقد حقق العلماء أن هذا الكسوف حدث في 19 كايو 557 وفي 3 أغسطس سنة 431 حدث كسوف تام رواه بلو ترخوس في كتابه حياة بريكلس , قال وكان الأسطول (اسطول اليونان) على أهبة السفر للحرب (محاربة أهل سبارطه) وكان بريكلس على ظهر السفينة إذ كسفت الشمس كسوفاً تاماً. فأثر ذلك في البحارة وتشاءموا(3/126)
من هذا الظلام غير المنتظر , وكادت همتهم تخونهم , لو لم يعمد بريكلس إلى حيلة لطيفة , وهي أخذ رداءه ووضعه على وجه أحد القواد قائلاً: ألستَ الآن , فقال بريكلس: وأي فرقٍ بين هذا الظلام وذاك سوى أن الأول ناتج عن شيء أضخم من ردائي. .؟ وجاء في توسيديد وفي ذلك الصيف عند ولادة القمر , بعد الظهر بقليل أصاب الشمس كسوف , حتى أصبحت كالهلال , وظهر في السماء بعض نجوم , لم تلبث أن عادت إلى منظرها الأول ثم كثر بعد ذلك ورود ذكر الكسوف وشرح مظاهره في التاريخ مما لا مجال لذكره الآن. على أننا نكتفي بإيراد خبر نجاة كريستوف كولمبس: كان ذلك في غرة مارس سنة 1504 وكان الزاد فرغ من السفينة فألقت مرساتها تجاه الجزيرة المعروفة اليوم باسم جامايكا فطلب كولمبس من سكانها المتوحشين مؤونة وزاداً , فرفضوا. وكان عالماً بأن الشمس ستكسف في اليوم الثاني فاتخذ ذلك وسيلة للتهويل عليهم , فأنذرهم بمنع نور الشمس عنهم , إذا هم لم يجيبوا طلبه , ولا تسل عن رعبهم في ثاني يوم عندما رأوا كسوف الشمس , ولم يفهموا فيه إلاَّ تنفيذ ما هُدّدوا به. فتراموا على أقدام كولمبس يستعطفونه , وقدموا له كلّ ما طلب وأصبحوا ينظرون إليه نظرهم إلى إلهٍ(3/127)
الكهانة
قلنا فيما تقدَّم إن الكهَّان يعرفون الغيب بوحيٍ من الشيطان , فتلك هي الكهانة الأصلية عندهم , وأصحابها أوسع الكهان عاماً وأعظهم خطراً , وأسماهم مقاماً؛ ولكنَّ هنالك طرقاً أخرى لمعرفةِ الغيب تختلف عن الكهانة الأصلية في أسبابها وشروطها وكيفيتها؛ كالعرافة والعيافة والطرق بالحصى والَحزو والتنجيم وكلها ضروبٌ من الكهانة إلاَّ أن أهلها أقلُّ من الكهان علماً , وأدنى منهم رتبة , وهم نفسهم مراتب ودرجات. والعربُ يطلقون اسم الكاهن على العرَّاف , والعائفِ , والطارق بالحصى , والحازي , والمنجّم , وعلى كل متكهّن يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان. وربما استعمل بعضهم العرَّاف بمعنى الكاهن , فيطلقه على كل متكهن أما العرِّاف فهو الذي يعرف الأمورَ بمقدمات أسباب يستدلُّ بها على مواقعها من كلام مَن يسأله أو فعلهِ أو حاله. فعلمهُ قاصرٌ على معرفة الشيء المسروق وسارقهِ ومكان الضالة , ودواء المريض , ومواقع السحاب , ونحو ذلك وقد اشتهر من العرَّافين في الجاهلية رُباح بن كحلة عرَّاف اليمامة , والأبلق الأسدَي عرَّاف نجد , وكان كلاهما في العصر الأخير من زمن الجاهلية. وأولهما هو المقصود بقول عروة بن حزام:
فقلتُ لعرَّاف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لطبيبُ
وإليهما معاً أشار الآخر في قوله:
جعلتُ لعرَّاف اليمامة حكمهُ ... وعرَّاف نجدٍ أن هميا شفياني
فقالا شفاكَ الله والله ما لنا ... بما حملتْ منك الضلوع يدان
وممن اشتهر أيضاً بالعرافة هند صاحب المستنير الذي يقول عنهُ المسعودي أنهُ(3/128)
كان في غاية التقدم فيها , وكذلك الأجلح الزهَري وعروة بن زيد الأسدي وأما العائف فهو الذي يتكهن بواسطة العيافة , وهي زجرُ الطير أو الوحش , والتفاؤل بأسمائهم وأصواتها وممرّها. قال الأعشى:
ما تعفيفُ اليوم في الطير الرَّوَح ... من غراب البين أو تيسٍ بَرح
وقال الفرزدق:
وليس ابنُ حمراءِ العجان بمفلتي ... ولم يزدجر طير النحوس الأشائمِ
وقال الأخطل يخاطب امرأة وسيمة تزوَّجها رجل دميم:
فهلا زجرت الطير ليلة جئته ... بضيقةَ بين النجم والدَّبرانِ
وهو كثير في شعرهم. وهذا النوع من الكهانة أشهر أنواعها عندهم: ومنشأوه اعتقادهم باليمن والشؤم. فاليمن عندهم خير , والشمال شرّ. ولذلك اشتقت لفظة التيامن واليمن والتيمن من اليمين , كما اشتقت لفظة التشاؤم والشؤم من معنى كلمة الشمال , لأن المشأمة في اللغة بمعنى الميسرة , واليد الشؤمي والجانب الأشأم , بمعنى اليد اليسرى والجانب الأيسر. فلذلك الاعتقاد كان الرجل منهم إذا أراد حاجة أتى الطير في وكره فنفّره , فإن أخذ يميناً مضى لحاجته , وإن أخذ شمالاً , رجع. وهذا هو الأصل في زجر الطير. ومن ثم استعملوا كلمة الطيَرة بمعنى التشاؤم , ثم أطلقوا الزجر على الوحش أيضاً , وتوسعوا في كيفية الزجر وأحواله , فقالوا: الزجرُ للطير وغيرها , التيمنُ بسنوحها , والتشاؤم ببروحها , والاعتبار بأسمائهم وأصواتها وممرّها. فلما صار كذلك اختلط أمره على العامة فأصبح ضرباً من الكهانة بعد أن كان اعتقاداً بسيطاً باليمن والشوم , فصار العائف , إذا عاف طيراً أو وحشاً , يتكهن فيخبر بأمور من الغيب , كما يفعل العرّاف. وربما عاف بالحدْس , وهو لم يرَ شيئاً , لاطيراً ولا وحشاً. وبقي التفاؤل والتشاؤم على بساطته الأصلية للعامة فقط ومن القبائل التي اشتهرت بالعيافة في الجاهلية بنو أسد. قيل أن قوماً من الجن تذكروا عيافتهم , فأتوهم , فقالوا. ضلَّت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف , فقالوا(3/129)
لغُلّيمٍ منهم انطلق معهم. فاستردفه أحدُهم , ثم ساروا فليتهم عقاب كاسرةً أحد جناحيها. فاقشعرَّ الغلام وبكى. فقالوا مالك؟ فقال كسرت جناحياً , ورفعت جناحا , وحلفت بالله صراحاً , ما أنت بانسيٍّ ولا تبغي لقاحا وممن اشتهر بالعيافة من الأشخاص عبيدُ الراعي حدَّث المنقريُّ عن العتبيّ قال: وقف عبيد ذات يوم مع ركب من ثقيف على نفر وكانوا يريدون استقصاء رجل من تميم , إذ سنحت ظباء سود منكَّرة ثم اعترضت الركب مقصرة في حضرها , واقفة على شأنها , فأنكر ذلك عبيد الراعي ولم ينتبه إليهِ أصحابه فقال:
ألم تدرِ ما قال الظباء السوانحُ ... أطفنَ أمام الركب والركب رائحُ
فكبَّر من لم يعرف الزجر منهم ... وأيقن قلبي أنهنَّ نوائحُ
ثم شارفوا مقصدهم , فألفوا الرئيس قد نهشتهُ أفعى فأتت عليه. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وهذا من غريب الزجر. وذلك أن السانح مرجوٌّ عند العرب , والبارح هو المخوّف
, وأظن عبيداً إنما رجر الظباء في حالة رجوعها , ووصف الحال الأول في شعره كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي الأسباب , فيوضح عنه فهذا هو وجه رجر عبيد الراعي في شعره أما السانح والبارح فقد اختلف أئمة اللغة في تعريفها. قيل السانح ما أتاك عن يمينك ظبي أو طائر أو غير ذلك , والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك وولاك جانبه الأيسر وهو انسيّه. والبارح ما جاء عن يسارك إلى يمنيك وولاك جانبه الأيمن وهو وحشيُّه وقيل. بل السانح ما مرَّ بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك , والبارح ما مرّ من يمنك إلى يسارك. ولا يخفى ما في كل ذلك من المناقصة. وكذلك قال بعضهم: السنُح الظباء الميامين. وقال البعض الآخر: السمُح الظباء المياشيم وأكثر العرب يتيمنون بالسانح , ويتشاءمون بالبارح. ومن ذلك المثل من(3/130)
لي بالسانح بعد البارح وأصله أن رجلاً مرّت بهِ ظباء بارحة فتطيَّر من ذلك فقيل له: عسى أن تمرَّ بك أخرى سائحة , فقال المثل: وهو يضرب في توقع المحبوب بعد الكروه. وقال أبو دؤيب:
أربت لإربتهِ فانطلقتُ ... أرجّي لحبّ اللقاء سنيحا
وأنشد أبو زيد:
أقول والطير لنا سانحٌ ... يجري لنا أيمنهُ بالسعودِ
وأنشد الليث:
جرت لك فيها السانحات بأسعدِ
وقال الشاعر:
أبا السنُح الأيامن أم بنحسٍ ... تمرُّ بهِ البوارحُ حين تجري
وقال ذو الرمّة:
خليليَّ لا لاقيتما ما حييتما=من الطيرِ إلا السانحات وأسعدا
وقال النابغة:
زعم البوارحُ أنَّ رحلتنا غداً ... وبذاك تنغابُ الغرابِ الأسود
ومن العربَ من يتيامن بالبارح , ويتشاءَم بالسانح , قال الأعشى:
أجارَهما بشرٌ من الموت بعدما ... جرَى لهما طيرُ السنيح بأشأمِ
وبشر هذا هو بشر بن عمرو بن مرثد , وكان مع المنذر بن ماء السماء يتصيد في يوم
بؤسه الذي يقتل فيهِ أول من يلقاه. وكان قد أتى في ذلك اليوم رجلان من بني عمّ بشر فأراد المنذر قتلهما , فسأله بشر فيهما فوهبهما له وقال زهير متشائماً أيضاً بالسانح:
جرت سَنحاً ققلتُ لها أجيزي ... نوّى مشمولة فمتى اللقاءُ
وقال كثيّر:
أقولُ إذا ما الطيرُ مرَّت مخيفةً=سوانحها تجري ولا أستثيرُها
وقال عمرو بن قميئة:(3/131)
فبيني على طيرٍ سنيح نحوسهُ ... وأشأم طير الزاجرين سنيحها
قال ابن بري: أهل نجد يتمّنون بالسانح , ويتشاءمون بالبارح , والعكس من ذلك عند أهل الحجاز. فهذا هو الأصل ثم قد يستعمل النديّ لغة الحجازي , والحجازي لغة النجدي , أقول: والظاهر من كل ذكرناه في معنى السانح والبارح لغةً. فقد رأيتَ أن السانح عند قوم الظباء الميامين , وعند غيرهم الظباء المياشيم؛ فلذلك يتايمن هؤلاء بما تشاءم بهِ الآخرون فكانوا بذلك مواقفين لهم في الحقيقة , لأن الخلاف إنما هو في الاِسم في المسمَّى قلنا إن أصل العيافة هو اعتقادهم باليمن والشؤم وإن اليمين عندهم خير , والشمال شرّ. أما تفضيلهم اليمين على الشمال , فقد جاروا فيهِ الطبيعة التي جعلت الأعضاء اليمنى من جسم الإنسان أقدر من اليسرى وأقوى. وجاراهم في ذلك التفضيل جميع الشعوب. فكان المحل الأيمن أفضل المحلين؛ وبذلك قضى الله نفسهُ إذ جعل اليمينَ لأهل الجنَّة , والشمال لأل النار , وجعل لكل رجلٍ ملكاً عن يمينهِ , وشيطاناً عن شماله. وقد جاء في صحيح البخاري أن النبيّ كان يحب التيمن ما استطاع في شأنهِ كله في طهوره وترجله وتنعلهِ وأما الطارق فهو الذي يتكهن بواسطة الطرْق بالحصى , وذلك أن يخطَّ في الأرض أو الرمل خطوطاً بإصبعين , ثم بإصبع , ويقول: ابني عيَان أسرعا البيان ثم ينبئ عما سئل عنهُ. وربما يكون النداء لابني عيان في العيافة أيضاً وفي غيرها من ضروب الكهانة. وأكثر كهان الطرق من النساء. قال لبيد:
لعمركَ ما تدري الطوارقُ بالحصى ... ولا زاجرتُ الطير ما الله صانعُ
وقيل الطرقُ إن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. والظاهر أن الطرقَ في الأصل كان بالحصى , ثم توسع فيهِ بعضهم إلى القطن والصوف , بقي الاِسم على أصله. ومن أمثال
العرب التي تُضرب للذي في كلامهِ , ويتفنن فيهِ ,(3/132)
قولهم: أطرقي وميشي. قال رؤية:
عاذل قد أُولعتِ بالترقيشِ ... إليَّ سرًّا فأطرقي وميشي
وفي لسان العرب: الطرق في الأصل هو ضرب الصوف بالعصا , والميش خلط الشعر بالصوف وأما الحازي فهو الذي يتكهن بواسطة الحرو؛ وهو أن ينظرَ في الأعضاء والغضون وخيلان الوجه فيتكهن. قال الشاعر:
وحازيةِ ملبونةٍ ومنجّسٍ ... وطارقة في طرقها لم تسدّد
قال ابن شميل: الحازي أقلُّ علماً من الطارق , والطارق يكاد كاهناً , والحازي يقول بظنٍّ وخوف والعرب يستعملون لفظة الحزو بمعنى الزجر أيضاً فيقولون: حزَونا الطير تحزوها حزواً , أي زجرناها زجراً. قال أبو زيد وهو عندهم أن يَنغق مستدبره فيقول هذا شرّ فلا يخرج وإن سنح له شيء عن يمينهِ تيمن بهِ , أو سنح عن يساره تشاءَم بهِ , فهو الحزو والزجر وأما المنجّم فهو الذي يتكهن بواسطة التنجيم. وذلك أن يرعى النجوم بحسب مواقيتها وسيرها ليعلم منها أحوال العالم. وفي كتب اللغة علم النجوم عندهم علم يبحث فيهِ عن أحوال الشمس والقمر وغيرها من الكواكب. وموضوعه النجوم من حيث يمكن أن تعرف بها أحوا ل العالم. ومسائله هي كقولهم: كلما كانت الشمس مثلاً على هذا الوضع المخصوص فهي تدلَّ على حدوث أمر كذا في العالم والأصل في هذا الضرب من الكهانة أنهم كانوا يعتقدون أن كل ما يحدث في هذا العالم من الحوادث إنما سببه النجوم من حيث سيرها ومنازلها وأنوائها واقترانها إلى غير ذلك من أحوالها ومظاهرها. فنسبوا إليها البرد والحر والصحو والمطر والخير والشر والصحة والمرض والحرب والسعد والسلم والنحس , وهو الاعتقاد الذي جعلهم يعبدونها في القِدَم. فلما وُجد عندهم ذلك الاعتقاد أخذوا يلاحظون النجوم(3/133)
ويراقبونها ويلاحظون سيرها ومواقيتها حتى إذا حدث في الأرض حادث ما في زمن ما , ثم عاد الفلك إلى هيأتهِ التي كان عليها حين وقع ذلك الحادث , أنبأوا بعوده أيضاً بناءَ على أن الأسباب الواحدة , في حالة واحدة , تُنتج دائماً نتائج واحدة. فهذا هو الأصل في علم النجوم. ثم اتخذه بعضهم طريقةً لكسب المال فجعلوه ضرباً من ضروب الكهانة , وصاروا يخبرون بما يخبر بهِ الكَّهان من أحوال الغيب المختصة بإفراد الناس , كتفسير الأحلام , وأدواء الأمراض , ونجاح المسعى , وما أشبه ذلك. واعتقدت عامة
الشعب إن كل شيء سرُّه في النجوم , وأن الإنسان قد يعلم الغيب بالوحي الفلكي. فمن ثم قالوا في كلامهم: نظر فلان في النجوم , بمعنى أنه فكَّر في أمر ينظر كيف يدبّره. فصار ذلك في اللغة كما تقول: بفلان جُنَّة , بمعنى أنه مختلّ العقل. وهذا من شواهد تأثير اعتقاد الشعوب في لغاتهم وهو كثير في اللغة العربية تلك هي أشهر ضروب الكهانة في الجاهلية. فإذا كان عندهم ضروب أخرى فلا عبرة بها لعدم شهرتها بينهم , فضلاً عن أنها لابد أن تكون مأخوذة من الضروب الأصلية التي أتينا على ذكرها كما أُخذ الطرقُ بالقطن والصوف من الطرق بالحصى ولم يكن للكّهان صفة دينية أصلاً , بخلاف الكهنة عند اليهود. ولعل السبب في ذلك كون وحيهم من الشيطان , ووحي كهنة اليهود من الله. وكان أهل الرتبة العليا منهم ينقطعون إلى الكهانة فا يشتغلون بعمل آخر , ولا يشتركون مع القبيلة اشتراكاً مادياً في شؤونها العمومية بل كانوا يعيشون عادة محتجبين عن إبصار العامة , إلا يخالطهم أهلهم وذووهم , ولا يقابلهم من الناس إلا مَن قصدهم ليستطلع(3/134)
منهم الغيب. وكان معاشهم من الهدايا التي يقدمها لهم أولو الحاجات. وكان العرب يحترمونهم لعلهم وسعة اطلاعهم , وربما احترموهم بسبب علاقتهم ذاتها بالجنّ والشياطين. وبناء على ذلك الاحترام كانوا يسمون كل صاحب علم دقيق كاهناً كالطبيب والقُناقِن وهو البصير بالماء تحت الأرض وكذلك كل حكيم بصير بالأمور. وقد جاء في الحديث أن شريحاً كان زاجراً شاعراً. وفي حديث ابن سيرين: أن شريحاً كان عائفاً. أراد أنه كان صادق الحَدْس والظن , لا أنه كان يفعل فعل الجاهلية في العيافة. ومن المحتمل أيضاً أن تكون تسميتهم للطبيب والقناقن كاهناً من قبيل الحقيقة في لغتهم لا المجاز , لأن الجهل كان مخيماً على عقول عامتهم ولا فرق عند الجاهل بين ينذر بموت رجل , حيث لا ترى العامة شيئاً من الخطر , أو ينذر بخوف قبل حصوله , وبين من يخبر بمكان الضالة , أو تفسير الأحلام , فكلا الأمرين عند الجاهل من قبيل الغيب. وبناء على ذلك لا يبعد أن يكون قد دخل عندهم في عداد الكهان كثيرون من الأشخاص الذين كان لهم إلمام حقيقي بالطب والفلك أو غير ذلك من العلوم ولم تزل الكهانة في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأبطلها. وقد أوردنا كلام الأزهري في هذا الخصوص. وجاء في الحديث أنهُ نهى عن حلوان الكاهن , وعن الطيرة. وفي الحديث أيضاً من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد. قالوا أي
من صدَّقهم وجاء في صحيح البخاري أنهُ كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه. فجاء يوماًَ بشيء فأكل منهُ أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة , إلاَّ أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيء في بطنه على إننا بالرغم عما جاء به الدين , لا نزال نرى حتى الآن سوق الكهانة رائجة في كل بلاد نطق أهلها بالضاد , كأنَّ الجهل يأبى إلاّ أن يكون محفوفاً أبداً بأنواع(3/135)
الخرافات , أو كأن خرافات الجاهلية ملازمة للغتهم , لا تنفصل عنها , فورثناها معها. وكأني بنا قد خجلنا من وقوفنا عند الحد الذي وصلت إليه أجدادنا , فبعد أن كانت الكهانة على نحو ما ذكرناه في هذا الباب , جعلناها نحن علماً بل علوماً بأصولٍ ذات قواعد وروابط وشروط. وألَّفنا فيها الكتب العديدة , وأضعنا فيها الوقت الثمين , وزدنا عليها ضروباً وأنواعاً لم تكن معروفة في الجاهلية أصلاً فأفسدنا عقول الشعب بالأوهام والأكاذيب. وقد كان عدد الكهان في الجاهلية قليلاً بحيث لا يصيب العشر القبائل كاهن واحد , وأما الآن فلا شارع من شوارع مدننا إلاّ وفيه الرمَّال والحاسب والحازني , وباصر البخت , وضارب المندل , وكلُّ دّجال خدَّاع , يسلبون فقراء الناس أموالهم عاجلاً , ويعدونهم بالسعادة آجلاً. نعم إن الكهانة ممنوعة بأمر الحكومة في بلادنا , ومعاقب عليها في قوانيننا , ولكن أخلاق الشعب ورجال الضبط والربط بالجملة لم تزل على حالتها الأصلية؛ وربما تعجبوا من وجود مثل ذلك النصّ في قوانين الحكومة وأنكروا عليها معارضتها لأناس يعلمون الغيب ويخدمون الناس بإطلاعهم على أسرار المستقبل. ولذلك تراهم يغضون الطرف عنهم فلا يتعرضون لمنعهم. وقد رأيتُ مرَّةً أحد رجال البوليس انحراف عن قارعة الطريق قاصداً أحد الرَّمالين , فظننتُ أنهُ ذاهب لمنعه من نشر بضاعته في الشارع العمومي وإثبات مخالفته للقانون , ولم أكن أظنّ في أمثاله ذلك الترقي الأدبيّ. فأخذني العجب وأتبعتهُ بنظري؛ فإذا هو وقد جلسَ بين يدي الرمَّال , وأخذ يستطلع منهُ الغيب , ويسمع شقشقتهُ بغاية ما يكون من الجد والاحترام
اسكندر عمون(3/136)
رسائل غرام
بين شهيرات ورجال عظام
الرسالة التاسعة
من جوزيفين إلى نابوليون بونابرت
(لا نخال أحداً من القراء يجهل اسمَي جوزيفين وبونابرت وما وقع بينهما من النفور الذي أفضى إلى الطلاق. وكان ذلك في أواخر سنة 1809. إلاَّ أن جوزيفين ظلت تراسل نابوليون حتى أيامها الأخيرة. ولو سمحت لها الدول المتحالفة لرافقتهُ إلى منفاه. وكان موتها في سنة 1814 أي بعيد سقوط نابوليون. وقد وصفها جميع المؤرخين بالصفات الطبية وأجمعوا على أن نابوليون كان مديناً لها بأمور كثيرة لا يسعنا الإسهاب فيها الآن. قيل أنها كانت تتشاءَم من ارتقائهِ إلى العرش وتخشى أن يحمله ذلك على طلاقها الاقتران بأميرة من أميرات الأسر المالكة. وقد تم ذلك أما الرسالة الآتية فقد بعثت بها إليهِ على أثر ولادة وليّ عهده من ماري لويز): صحوت اليوم وقرْع النواقيس يملأ الجوّ وهزيم المدافع يرنّ في الفضاء. فسألت عن السبب فقيل لي أن جلالة الإمبراطورة قد وضعت مولوداً سيرث عرش فرنسا ويضيف صفحة مجدٍ جديدة إلى تاريخ آبائهِ. وقد كنت أودّ لو بلغتني هذه البشارة منك قبل أن أسمعها من أفواه الناس فكنت أفرح لفرحك وتقرّ عيناي بأن ترى لك من يخلّد لك ذكرك ويورثه للأجيال المقبلة , فإن ساءك أنني تمنيت سماع هذه البشارة من فمك فإن ما كان بيننا من العهد السابق شجَّعني على تعليل نفسي بهذه(3/137)
الأمنيَّة. لعل ذكرى أيامنا الماضية تشفع بي لديكَ وتبدد عن محياك غمامة الكدر والاستياء لست أقصد يا صاحب الجلالة أن أراضيك بهذه الرسالة أو أكفّر عن سيأتي الماضية إليك. فإن تلك السيآت أعظم من أن يشفع بها ما أعانيه من مضض هذا الفراق واحتمله من أراجيف الوشاة. لاسيما وأنني لا أعرف لنفسي حسنة سوى أنني أحببتك حباً يقرب من العبادة فكان جزاء حبي لك أنك فصمت عرى مواثيقنا المقدسة بحجة أنني لم ألدْ لك من يرث عرشك من بعدك. وبلغتْ منك القسوة أن اتهمتني بأمور ما أنزل الله بها من سلطان ولست بلائمتك على تصرّفك هذا يا صاحب الصولجان. ولكن راعني ما رأيت نفسي فيه من اليأس. فرأيت أن أبسط إليك كتابي هذا واهني شعبك يولي عهدك ووارث عرشك. مع أنني
أحسبك في غنى عمن يخلد لك ذكرك لأن الذكر الذي قد خلفته ستتوارثه الأجيال المقبلة خلفاً عن سلف. ولسوف يأتي يوم يرى فيهِ العالم أن الآلهة أساءَت إليَّ أكثر مما أسأتُ أنا إليك إذ لم تقدّر لي أن أهبك من يخلد لك ذكرك من بعدك. لذلك حاولت أن تنتزع حبي من قلبك. فلجأت إلى غيري لتبلغ بها ما كانت نفسك تطمح إليه. فهنيئاً لها من إمبراطورة سعيدة وهنيئاً لفرنسا بوارثها المقبل ولقد رضيت بنصيبي هذا بعد أن احتملت منهُ في أول الأمر ما تنوء من ثقله راسيات الجبال. وكنت أقول يومئذ أن الزمان هو الطبيب(3/138)
الأكبر فلن يمرّ العام حتى أنسى ما بيننا من وعودٍ وعهود. وهو ذا الآن قد مرّ ذلك العام وأنا لا أزال أعاني ما كنت أعانيه يومئذٍ من غصص وحسرات والذي يحزنني أكثر من كل شيء هو أنني محرومة رؤيتك إذ تمرّ بي أيام طويلة مملّة ولا أرى لك حتى شبه خيال إلاَّ في الحلم. ولو تعلم شدة هذا العقاب لكان لي من دموعي شافع لديك. ولكنك قد أغمضت عينيك فلست ترى ما أعانيه من غصص مبرّحة. وإذا كان في العالم قوة تمنعني عن إخماد أنفاسي بيدي فذلك لأنني واقفة على عتبة الأبدية وقد غطستْ فيها ركبتاي. فلماذا أضيف إلى آثامي العديدة إنما آخر بوضع حدٍ لأنفاسي بيدي؟ وفضلاً عن ذلك فإن موتي يورثك من تأنيب الضمير مالا أطيق أن أراك معذباً به. ولأشهى على قلبي أن أراك سعيداً ولو على بعد منك , من أن تعيش معذباً وأنا قريبة إليك كان ينبغي أن أفرح لفرحك اليوم. ولكنَّ ذكرى عهودنا السالفة لم تُبقِ في قلبي مجالاً للسرور إذ كيفما ألتفتُّ أرى ما يروعني من الفرق بين الأمس واليوم. ويزيد روعي كلما تأملت في ما عسى أن يجيء به الغد وقد يتمثل لي شبح الغد بصورة تنين هائل. فيزيد بي انقباضي ولا أرى من خلال ظلمته الحالكة إلا شعاع أملٍ ضعيف هو أن أنام اليوم ولا استيقظ في الغد. ترى هل يحزنك غداً موت امرأة كنت تعبدها بالأمس؟ أم يصدق فيك المثل القائل أن البعيد عن العين بعيد أيضاً عن القلب(3/139)
لا يسوءُك عتابي هذا فإن اليأس الذي أنا فيهِ هو الدافع لي على النطق بكلامٍ ربما لا ترضاه. وأنني ليدهشني فرط الشجاعة التي بدت مني في خلال العام الغابر إذ لم أكن أصدّق قبلاً أن امرأةً مثلي تستطيع أن تحتمل ما احتملته من عذاب وشقاء. والذي شجعني على احتماله هو أملي أن يكون لي من ورائه كفَّارة عن هفواتي تشفع بي لديك وتنسيك كل شيء ما عدا حسنتي الوحيدة وهي أنني أحببتك حبًّا مخلصاً على رغم ما كان يبلغك عني
من الأراجيف. وليست غايتي الآن أن أدافع عن نفسي بين يديك , فإِن ما كان بيننا قد انطوت صفحته , وقضاءَك لا مرد له. وإنما أردت أن أنبهك إلى أمرٍ قد يسهو عنهُ الملوك والعظماء. وهو أن واضع الشرائع يجب أن يكون نموذجاً للعدل. وأما أنت فقد وضعت نفسك موضع الخصم والحكم , وسددت أذنيك عن سماع صوت الرحمة والرأفة لما كنت أسمع بانتصاراتك الباهرة كنت أفرح وأشعر كأنني حاملة راية النصر. لا أزال حتى الآن أتوق إلى سماع أخبار انتصاراتك وأتمنى أن تزيد منها كل يوم صفحةً جديدة إلى تاريخك المجيد وفي الختام أقبل تهنئاتي لك بوارث عرشك وأطال الله بقاءَك حتى ترى أولاد أولاده. . .
بقلم سليم عبد الأحد)
جوزفين(3/140)
نابوليون الأول وحرب روسيا
إن كل ما كان يحفُّ بنابوليون أوحى إليه المنهاج الذي جرى عليهِ في تمثيل دوره , وجعله يلقي على عاتقهِ عبء مسئولية الحوادث الحاضرة والمستقبلة بدلاً من أن يتهيأ لتمثيل الدور المقضي عليه تمثيله أنهُ لم يكن يأتي عملاً من الأعمال أو يقترف جريمة من الجرائم أو يباشر سرًّا من الأسرار البسيطة , إلاَّ ويبادر الناس إلى التنويه ببسالته إن الألمان لم يجدوا شيئاً بروقهُ أفضل من الاحتفال بتذكار معركتي إيانا وإرساد ولم يكن هو وحده عظيماً , بل كان أجداده وأخوته وأولاد أخوتهِ وأصهاره جميعهم عظماء. وكان كلُّ شيء يأول بسهولة إلى أن يزيل منهُ آخر أثرٍ من آثار العقل ويعدُّه لتمثيل دوره الهائل. ولما تمَّ له الأمر كانت جميع القوى مستعدَّة لمناصرتهِ وباشر غزو المشرق فانتهى إلى الغاية الأخيرة وهي موسكو , فاستولى على تلك العاصمة وساق إلى الجيوش الروسية متآلف لم يكُ قد ساق مثلها إلى الجيوش المعادية له من عهد موقعة أوسترليتز إلى اليوم الذي جرت فيهِ موقعة واغرام وعوضاً عن الصدفة والدهاءِ اللذين جعلاه يتنقل من انتصار إلى انتصار جارياً إلى الغاية المنصوبة لهُ , نلقي فجأة مجموع صدفٍ معاكسة له من الزكام الذي أصابهُ في بورودينو إلى الشرارة التي أضرمت النار في موسكو والبرد القارس في روسيا. وبدلاً من الدهاء نجد فيهِ ضعفاً وصغارة لم يذكر التاريخ شيئاً يماثلهما وكانت الغزوة تتقدم تتقدَّم ولكن بشكلٍ معاكس , وصارت جميع الصدف معادية له بعد أن كانت من أحلافهِ. وحينئذٍ شهدنا حركة مخالفةً موجهةً من الشرق إلى الغرب تشابه كل المشابهة الحركة التي سبقتها(3/141)
وقد أُعلنت حركة جديدة بمساعي عديدة جرت في السنوات 1805و1707و1809 , فتألفت عصابة كالعصابة الماضية وجعلت تكبر حتى صارت جماهير غفيرة وتألبت شعوب أوروبا الوسطى عند تلك الحركة التي كانت معتبرة تكراراً للحركة السابقة , لأنهُ لم يكن ينقصها شيء لتماثلها مماثلة تامة من مثل التردُّد في أثناء الطريق وازدياد السرعة عند الاقتراب من الغاية. وأُدركت باريس , وهي الغاية الأخيرة لتلك الحركة , وكان من وراء ذلك انكسار نابوليون وجيوشه وأن نابليون ذاتهُ لم يُعدّ شيئاً مذكوراً وصارت أعماله الأخيرة تستثير الشفقة عليهِ والنفور منهُ. ومع ذلك بدت صدفة جديدة تعجز الإفهام عن إدراكها , فإن المتحالفين كانوا يبغضون نابليون ويعتبرونهُ سبباً لجميع نكباتهم وكان يُقضي عليهم في ذلك الحين , عند زوال مهابتهِ وتقلص ظلّ قوَّتهِ واتهام الناس له باقتراف
الجرائم والغدر , إن ينظروا إليهِ بنفس المقلة التي كانوا ينظرون إليهِ بها قبل ذلك العهد بعشر سنوات وبعده بسنة واحدة , أي أن يروا فيهِ لصاً نبذتهُ الشريعة إلاَّ أن صدفة غريبة لم تجعل الناس يعتبرونهُ ذلك الاعتبار. ولكنهُ لم يكن بعد قد أكمل تمثيل دوره. فإن ذلك الرجل الذي كانوا يعتبرونهُ لصاً نبذتهُ الشريعة أُرسل إلى جزيرة تبعد يومين عن فرنسا وأعطيْ تلك الشعوب تسكن , وهدأت الأمواج الزائرة وعقبها في ذلك البحر الساكن تموجات لطيفة ركب متنها سياسيون كانوا يتوهمون كانوا يتوهمون أن الفضل من ذلك السكون مرجعهُ إليهم وعاد البحر إلى الهيجان , فاعتقد أولئك السياسيون أن الخلاف الذي نشأ بينهم كان أصلاً لذلك الهيجان , وباتوا يتوقعون انتشاب حرب بين وإليهم وبانت لهم تلك الأحوال مأزقاً لا مخرج التي كانوا ينتظرونها , بل كانت هي نفس الأمواج الأنفة الذكر آتيةً من باريس(3/142)
وإن ذلك الرجل الذي ألقى فرنسا في وهدة الخراب عاد إليها وحده دون أن تصحبهُ الجنود , ودون أن يكون لديهِ خطة معروفة يسير عليها؛ وكانت حياتهُ تحت رحمة كل خفير يلقاه في طريقهِ. ولكنهُ بصدفةٍ غريبة لم يُمس بأدنى أذى. وهرع القوم لملاقاته باحتفاءِ خلافاً لما كان منتظراً منهم؛ وطبقت أصواتهم الفضاءَ بالتهليل لذلك الذي كانوا بالأمس يقذفونهُ باللعنات , والذي سيعودون بعد شهر من الزمان إلى لعنهِ. ولم يجرِ ذلك إلاَّ لأنهم كانوا لا يزالون محتاجين إلى ذلك الرجل لإتمام الفصل الأخير. انتهى الفصل وتمَّ الدور الأخير , وأُمر الممثل أن يخلع لباسهُ وينزع عنهُ خضابهُ لاستغنائهم عنهُ وهو نفسهُ أظهر للملا طرَّا بكل وضوح حقيقة ذلك الشيء الحقير الذي كان البشر يعتبرونهُ قوَّة حين كانت يد الحوادث غير المنظورة تقوده وإن مدّبر الكائنات الحقيقي عند انتهائهِ من تلك الرواية أمر أهم الممثلين فيها أن ينزع عنهُ ما كان متنكراً بهِ وأرانا إياه , قائلاً: انظروا ذلك الذي آمنتم بهِ. واعلموا الآن أني أنا الذي جعلنكم تسيرون على الطريق التي سلكتموها وليس هو! إلاَّ أن البشر الذين تعمي بصائرهم قوَّة الانجذاب لبثوا مدَّة طويلة وهم لا يدركون الحقيقة وأنا نجد أموراً كثيرة مقدَّرة في حياة الاسكندر الأول وهو ذلك الشخص الذي ترأس الحركة المعاكسة , أي تلك التي جرت من الشرق إلى الغرب. فما هي الصفات التي كان مزداناً بها ذلك الرجل لتمكنهِ من تصيير ما سواه نسياً منسياً وترؤس تلك الحركة؟ أنهُ كان ولا مراءَ قد ازدانَ بعاطفة العدالة وعُني عناية حقيقية بشؤون أوروبا
ولم يتعلق بأذيال أمور لا طائل تحتها. وكان متحلياً بصفات أدبية تفوق صفات الملوك المعاصرين له وذا أخلاق لطيفة تستميل إليهِ القلوب وقد شعر باهانة شخصية قالتهُ من نابليون(3/143)
أن جميع هذه الأشياء المميزة كانت متجمعة عند الاسكندر الأول , وقد حشدتها الصدف الكثيرة أو الصدف المزعومة التي حدثت في حياتهِ الماضية , وساعدها كل شيء كتر بيتهِ وإصلاحاته المبنية على أساس الحرية؛ والمستشارين الذين كانوا يؤازرونهُ بصرف النظر عن أوسترليتز وتلسيت وأرفورت وكان هذا الرجل في أثناء الحرب الوطنية لائذاً بعقوة الخمول , لأنه كان مستغنى عنهُ. ولكنهُ لما أصبحت الحرب الأوروباوية مما لا يستغنى عنها , برز في المواقف الخطيرة إلى الموقف المعدَّ له , ليضمَّ متفرَّق الشعوب الأوروباوية ويسر بها إلى الغاية المعروفة أدرِكت تلك الغاية. وبعد الحرب الأخيرة التي اتقدت نيرانها سنة 1815 كان لدى الاسكندر أعظم قوة يستطيع الإنسان أن يصيبها
وماذا فعل بتلك القوة الهائلة؟
إن الاسكندر الأول معيد السلم إلى أوروبا , الذي هبت في صدره منذ حداثتهِ نسمات الموسومة بسمة الحرية إلى بلادهِ , ذلك العاهل الذي كان قابضاً بيديهِ على عنان سلطة مطلقة كان يقدر بالحقيقة أن يعمل لخير رعيته ونجاحها. وماذا يبدو لنا الآن؟ بينما كان نابوليون في منفاه يرسم خططاً كاذبة ووهمية ليظهر السبيل الذي يمكنه أن ينتجهُ لسعادة الإنسانية لو كانت له السلطة على ذلك , كان الاسكندر الذي كانت له تلك السلطة هي من جملة الأباطيل؛ ولذلك أعرَض عنها وتركوا في أيدي أشخاص محتقرين , ولم يكن يني عن ترديد هذه الكلمات: ليس لنا المجد ولكن لك وحدَك أنا إنسان نظيركم , فاتركوني أعيش عيشة رجل بسيط لأتمكن من التفكير بنفسي وبالله كما أن الشمس أو كل ذرة من ذرات الأثير تنشئ كرة مستقلة بذاتها , مع(3/144)
أنها لا تؤلف إلاَّ ذرة من ذلك الكائن العظيم الذي يعجز الإنسان عن الوصول إليهِ , فإن لكل إنسان غاية خاصة وفي الوقت عينه يخدم الغاية المشتركة التي يقصر العقل البشري عن الوصول إليها إن النحلة التي تطير عن الزهرة تقع على ولد وتلسعهُ , فيصير الولد يخاف النحل ويتوهم إن غاية النحل في هذا العالم لسع الناس إن الشاعر يعجب بالنحلة التي تمتصُّ من كأس الزهرة , ويصير يتوهم
إن غاية النحل امتصاص شذا الأزهار إن المشتغل بتربية النحل يلاحظ النحلة وهي تجمع اللقاح وعصير النباتات لتغذية اليعسوب وصغار النحل ويصير يتوهم أن غاية النحل بقاء الجنس إن النباتي يلاحظ أن النحلة تنقل اللقاح من أحد النباتات إلى عضو التأنيث في زهرة أخرى لتلقيحها , فيصير يتوهم أن غاية النحل التلقيح إن نباتياً آخر يلاحظ أن النحلة تساعد على نقل النباتات من مكان إلى مكان آخر , فيصير يتوهم أن غاية النحلة نقل تلك النباتات ولكن الغاية الأخيرة للنحلة ليست في الغايات الأولى والثانية والثالثة التي مرَّ بيانها , والتي يستطيع عقل الإنسان أن يكتشفها وكلما أكثر المرءُ من البحث عن حقيقة تلك الغاية الأخيرة تجلى له أن عقله يرتدُّ كليلاً عن الوصول إليها ولا يمكنهُ إلاَّ أن يلاحظ العلاقة المشتركة بين حياة النحلة والحوادث الطبيعية الأخرى. فهو يبقى محصوراً في نفس الدائرة الضيقة للبحث عن غايات الحوادث والأشخاص الذين يذكرهم التاريخ فيظلُّ عاجزاً عن البلوغ إلى الغاية الأخيرة
عن تولستوي
إلياس الحويّك(3/145)
في رياض الشعر
ما برحنا انجازاً لوعودنا السابقة باذلين الجهد في زيادة عدد الكتاب والشعراء الذين يحلّون الزهور بنفثات أقلامهم حتى أصبح قرَّاؤنا يفاخرون بمن يكتب لهم مجلتهم الشهرية. وإلى جمهور كتَّاب الزهور المعروفين نضيف اليوم أدبياً كبيراً رفعهُ شعره على قلتهِ إلى منزلة سامية بين حملة الأقلام ونعني بهِ حضرة المحامي المشهور داود بك عمون فقد ظفرنا منهُ بأوراقٍ مطوّية سنوالي نشرها:
يوم فلادمير
أو دعوى الحق الإلهي
لا تلوموا تلك السيوفَ الدوامي ... جَلَتِ الشكَّ عن عقول الآنامِ
علَّمتهم أن لا حياة لشعب ... رازحٍ تحت مطلقِ الأحكامِ
أيُّ نصفٍ ترجون من حاكم يحس ... بُ هذي الرقابَ كالأنعامِ
ورث الملكَ بالرجال وبالما ... ل كأن الرجال بعضُ الحطام
فإذا اهتمَّ منةً بالرعايا ... فاهتمام الجزَّار بالأغنامِ
قيصرُ الرّوس قام بين البرايا ... ناشراً دعوةَ الهدى والسلامِ
ذاكراً أننا بنو رجلٍ فر ... دٍ خلقنا للحبِّ لا للخصامِ
موعزاً بانعقاد مؤتمر التحكيم ... يقضي في المعضلات الجسامِ
ضحكَ الضاحكون منها وعدَّوه ... اأمانيَّ نيلها بالمنامِ
رُبَّ أمرٍ صعب المنال بعيدٍ ... صيَّرتهُ العقول سهل المرامِ(3/146)
هبهُ حلماً فالسعي فيهِ جميل ... وجمالُ الحياة بالأحلامِ
هذه الأرض ترتجيكَ فحققْ ... ظنَّها فيكَ يا سليل الكرامِ
لكَ في منحها السلامَ أيادٍ ... خالداتٌ غرٌّ مدى الأيامِ
ولبثنا عيوننا شاخصاتٌ ... ناظرين انجلاء ذاك الغمامِ
فإذا بالسلام حربٌ عوان ... كلَّ يومٍ نيرانها في اضطرامِ
قيصرَ الروسِ لا تضيّق على الصف ... ر مداهم فالصفر أهل انتقامِ
لكَ مُلكٌ رحب الفضاء فسيحٌ ... فتعهد أجزاَءه بالنظامِ
أفمنها أوجستَ من شعبك الموتو ... رِ خوفاً دفعتهُ للصدامِ؟
لا رعاكِ الإله يا أرض منشو ... را ولا لمَّلمت ثراكِ الهوامي
ما لعقبانكِ اتخمنَ وغدرا ... نكِ أصبحنَ بالدماء طوامي
كم خميسٍ وافاكِ يمرحُ زهواً ... ثمَّ لم يبقَ منهُ غير العظامِ
شهر الحرب شاهروها وباتوا ... في أمانٍ والقتل في الأقوامِ
سئمَ الروسُ فتكها بئست العي ... شة من ذلةٍ لموتٍ زؤامِ
قال مقدامهم هلمّوا إلى الوا ... لد نشكو مظالم الحكامِ
ومشوا للمليكِ عُزلاً ومد ... لين إليهِ بحرمةٍ وذمامِ
فتلقتهمُ جنود أبيهم ... برشاش الردى وحدِّ الحسام
ملأت منهم الشوارع اشلا ... ءُ كراديس فهي كالآكامِ(3/147)
قيصرَ الروس إن شعبك أولا ... دكَ فاربأ واشفق على الأرحامِ
قيصرَ الروس خفْ دعاء الثكالي ... وبكاء الأطفال والأيتامِ
أفهذا الحق الإلهيُّ أن يقت ... ل شعبٌ أتاكَ لاسترحامِ
زالَ ما كنتَ تدعيهِ من الح ... قّ بما سال من دماءِ حرامِ
داود عمون
سجن الهوى
أصلُ سُقمي من العيون السقيمةْ ... وانحنائي من القدودِ القويمةْ
تلك غرَّت بالانكسار فؤادي ... ورمتهُ فما استطاعَ الهزيمةْ
وهوى لِينِ هذه قد عزَّة دعاني ... لدواعي الغرامِ لَيْنَ الشكيمة
صرتُ من بعد عزَّة وإباء ... أجدُ الذلَّ في الهوى خيرَ شيمةْ
ما غزَت أعينُ الحسان قلوباً ... قطُّ إلاَّ ومهجتي في الغنيمةْ
لا ولا شمتُ من ثغورِ الغواني ... لمعَ برقٍ إلاَّ ودمعيَ ديمهْ
علَّمتني نظمَ الفرائد لكن ... تيَّمتني منها اللآلي اليتيمةْ
أنا أبكي ومهجتي في سعير ... وهي في عذبها البراد بسيمةْ
وبروحي رشاً رخيم المعاني ... حبُّهُ حلَّ من فؤادي صميمةْ
أهَيفَ القدّ باهرَ الحسنِ يزهو ... بجبين أضحى الهلالِ خديمهْ
إن تبدَّي أو ماس تيهاً وعجباً ... لم يدعْ للهلالِ والغصن قيمهْ
وعلى خدّه من المسكِ خالٌ ... أشتهي لثمهُ وأهوى شميمهْ
غير أني أخاف نبل جفونٍ ... منهُ تولي الضنا وتوهي العزيمةْ
سامحَ الله حبّهُ كم دهاني ... دونَ صحبي بالمعتقداتِ المقيمةْ
كبَّل القلب بالقيود وألقا ... هُ بسجن الهوى لغير جريمةْ(3/148)
ليتهُ إذ دعا الفؤادَ أسيراً ... لم يكن صيَّر الغرام غريمةْ
تبذلُ العينُ دمعها في هواه ... ولهذا قد سُمّيَتْ بالكريمةْ
عبد الحميد الرافعي
هل الهموم قلوب
ألقى الجمال عليكَ آيةَ سحرهِ ... فغدوتَ ما شاء الجمالُ حبيبا
حتى الهموم سَمتْ إليك بودّها ... من كان يحسبُ للهموم قلوبا
خليل مطران
إلى بحمدون
عبرات البين
من دونكِ البينُ يا ليلى ومن دوني ... وبعض ما كان قبل البين يكفيني
خطأ إليَّ خُطى الآجال ساريةً ... في القلب والقلبُ لا يدري إلى حينِ
خطى كنسف الجبال الراسيات على ... نفسي وكالدمع دمع الحزن في اللين
تمشي على الأمل الزاهي فتحطمهُ ... وقد يرفُّ رفيفاً كالرياحينِ
وتغمر الحبَّ ظلاًّ بعدما صبغتْ ... مني الشباب حواشيهِ بتلوينِ
يا بينُ ما ضربات الدهر غير خطىً ... تمشي بها في المحبّين المساكينِ
شيئان مالهما في الناس تعزيةٌ ... ولا تعزّيهما يوماً بمظنونِ
قلب بأضلاع مشتاقٍ تجاذبهُ ... يدُ الفراق وعقل عند مجنونِ
يا بينُ ويحك ما أبصرت قطّ سوى ... شخصَي حبيبينِ من هذي الملايينِ(3/149)
رفقاً بلؤلؤةٍ في جانبَي صَدفٍ ... ضُمَّا عليها كضمّ القلبِ للدّينِ
فلو ترى الهائم المسكين مرتعداً ... من النوى كذبيحٍ تحت سكّينِ
روح ضئيل وشخص جامد وهوى ... بَرْحٌ وهمُّ سليبِ العقل مفتونِ
ملقىً لدى الناس لو أبصرت حالتهُ ... في الناسِ أبصرتَ ميتاً غير مدفونِ
ليتَ الفراق نجابي من عواذلها ... ولو إلى مطرحٍ في القبر يطويني
كأسٌ ظمئت لها حتى إذا عرضت ... شرقتُ منها بما قد كان يُرديني
مصطفى صادق الرافعي
الفتاة العمياء
سادتي إنَّ في الوجود نفوساً ... ظلمتها الأقدار ظلماً شديدا
هيَ تشقى من غير ذنب جنتهُ ... ولكم مذنبٍ يعيش سعيدا
رحم الله أعيناً لم تشاهدْ ... منذُ كانت إلاَّ لياليَ سودا
تتمنى لو فُتّحت فتملَّتْ ... من جمالِ الوجود هذا الشهودا
تتناجى حمائم الروض صبحاً ... لا نراها ونسمعُ التغريدا
ويكون الربيع منا قريباً ... فنظنُّ الربيع منا بعيدا
حين ترنو إلى الوُرود عيونٌ ... ليت شعري كم تستطيب الورودا
أبويَّ اللذين أوجدتماني ... أتريدانِ شقوتي؟ لن تريدا
عشتما في ظلالِ شملٍ جميعٍ ... أنا وحدي وجدتُ شملي بديدا
وإذا كنتُ قد ولدتُ فقيداً ... ليتني كنتُ قد فقدتُ وليدا(3/150)
سادتي إننا صبرنا امتثالاً ... ما ضجرنا ولا شكونا الجدودا
فانظروا نظرةَ الكرام إلينا ... وارحموا أدمعاً تخذُّ الخدودا
ولي الدين يكن
أوهى قرنه الوَعٍلُ
هذي طراباُسٌ صحراؤها جدَتٌ ... للطامعينَ ومسرى ريحها عِللُ
يذودُ عن حوضها أسٌ مقذفةٌ ... لا ينزلُ النصرُ إلاَّ حيثما نَزلوا
أشاوسٌ من بني الإعراب ما لثموا ... إلاَّ ثغورَ مواضيهم ولا نَهلوا
ما قامَ يطمعُ في أملاكهم شرهٌ ... إلاَّ تحكَّم من أعضادِه الشللُ
وضاقت الأرض عنه وهي واسعةٌ ... وأظلمتْ بمرامي عينهِ السبُلُ
كناطحٍ صخرةَ يوماً ليوهنها ... فلم يَضرْها وأوهى قرنهُ الوعلُ
شبلى ملاَّط
روعة نبأ
روى البرق منعاهُ فأصعق بالنبا ... يدكُّ من الصبر الجميل ويخربُ
بليلٍ من الأشجان ضلوٍ هلالهُ ... وعقد الثريَّا دمعُهُ المتصبّبُ
كأنَّ السماك الرامح اعتقل القنا ... لثار أخٍ والنسر في الجوّ موكب
كأن بني نعشٍ على نعش من ثوى نوائح ترثي المكرمات وتندب
كأن بشير الصبح اجفل رهبةً ... من الأرض يدنو تارةً وينكّبُ
كأن عبوس الأفق يلطم خدَّهُ ... فلاح عليهِ أحمر اللون أصهبُ
كأن الضحى قد شقَّ جلبابهُ أسى ... فلم يدرِ أنَّي بعدهُ يتجلببُ
نسيب ارسلان(3/151)
رواية عطيل
ترجم حضرة الكاتب الشاعر الشهير خليل أفندي مطران رواية عطيل لشكسبير؛ ومثَّلها في تياترو الأوّبرا الخديوية جوق جورج أفندي أبيض نابغة التمثيل العربي. ثمّ تمنى جمهور الأدباء على المترجم الفاضل أن ينشر هذه الرواية بالطبع , فصدَّرها بمقدمة بليغة درس فيها الشاعر الانكليزي وروايته هذه درساً جميلاً جدًّا فنقلاه عنهُ. والرواية لا تلبث أن تتداولها أيدي القراء. قال خليل: ندبَني لتعريب هذه الرواية جورج أفندي أبيض صاحب الفرقة (الجوق) المعروفة الآن باسمه , فترددتُ زمناً , ثم أتيح لي أن رأيتهُ يمثّل تجربة من أديب فأعجبني إتقانه وإتقان بعض أعوانه واستخرتُ الله في نقل عُطَيل إلى لغتنا الشريفة فلأذكرْ أولاً ما دعاني إلى اختيار اسم عطيل ردًّا على بعض المعترضين كان عُطيل في زعم القصَّاص الذي نقل عنهُ شكسبير أصل هذه الحكاية , بدويًّا مغربيًّا جلا إلى البندقية وخدم في جيشها حتى أصبح قائده الأكبر , وعقيدة في الملمَّات. والمغاربة يومئذ خليط من العرب والبربر المستعربة. فأمَّا أن يكون قد دعي منذ مولده باسم إفرنجي فغير مجتمل , وأمَّا أن يكون قد دعي باسم عربي حرَّفته العجمة , فهو الأصح عقلاً. فإذا أرددنا أو تلّلو إلى لسانهِ الأصلي , فالذي يستخرج من حروفهِ أحد اثنين: عطاء الله أو عُطيل. فأما عطاء الله فلم أتوصل إلى تحقيق أن مغربيًّا واحداً سمّي بهِ ولهذا ضربتُ عنه صفحاً , وأما عُطيل فقد اعتقدت أنهُ الأخلق بالاختيار لسببين: أحدهما أنهُ أشبه بما جرت عادة العرب على تسمية الزنوج بهِ من ألفاظ التحبيب أمثال مسعود ومسرور وزيتون ومرجان للذكور , وخيزران وضياء للجواري. ومعلوم أن عطيلا تصغير تحبّب لصفة عُطْل بمعنى عاطل أي خلوٌ من الحلية فتسمية أحد الزنوج به إنما هي محاكاة صحيحة لإصلاح العرب. وثانيهما لأن عُطيلُ بضم أوله ورفع أخره مع تخفيف التنوين أقرب إلى أوتللّو من اسم سواه(3/152)
بقي في هذا الصدد أن أقول مروراً للذين تمنّوا لو أبقيت اسم أوتللو كما أورده المؤلف , إنني لم أوافقهم على هذا لأنني كرهت أن أُثبت في العربية اسماً من أسمائهم على الرطانة التي حرَّفتهُ إليها العجمة لغير ما سبب سوى الشهرة التي اكتسبها على تلك الصورة , في حين أنهُ لا يتعذَّر علينا إكسابهُ مثلها وهو مردود إلى أصله التقديري أو التحقيقي من غير أن نسوم مسامعنا جراحة تحريفهِ. ذلك ما أوحى إليَّ اليقين أنهُ
خير وأولى بعد هذا التفسير الذي تقاضتني إياه بعض الصحف , ونفر من الأصدقاء ,
ارجع إلى رواية ولي فيها مبحثان موجزان , من جهة الأصل , ومن جهة التعريب
أما من جهة الأصل فأقول أن أضع هذه الرواية إنما هو نابغة الادهار في فنهِ وأعني بهِ شكسبير. وضعها لإظهار الغيرة وتأثيره في الرجل بأقوى وأصدق ما دلَّ عليهِ الاختبار من أمرها , ولذلك اختار عاشقاً أفريقياً بدوي الفطرة - ليكون وثَّاب الشعور عنيفهُ - عسكريَّ المهنة - ليكون سريع التصديق والانخداع - مكتهلاً أي في أوَّل الانحدار من سنّ الأربعين - ليكون أشدّ في التعشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليهم الحب بعد انقضاء الشباب وليكون أيضاً في الحالة التي يتهم فيها الإنسان نفسه بفقدان أكثر الصفات التي يقتضيها الغرام ولا سيما حيثما يكون المستهام أسود البشرة من إحلاس الحروب , والمستهام بها بيضاء منعمة من قوم فسدة الأخلاق مترفين ذلك هو الغرض الأساسي العام الذي رمى إليه شكسبير فأصاب بهِ دقائق الحقائق إصابة كانت في جملة ما حمل أكابر المفكرين وأعاظم المكتبة على الشهادة له بأنهُ أخبر خبير بخفايا القلوب , وأمهر كشاف لخباياها ثم إنهُ أدار حول هذا المحور غرضين ثانيين: أحدهما إثبات أن العفة لا تنتفي من مدينة مهما فسقت بل قد تزداد تمكناً من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها وفي عشيرتها , والثاني تبيين الاحتيال ونهاية ما يبلغهُ من نفس رجل(3/153)
ذكي مطاع خسيس أصمّ الضمير , مستبيح كل محرم , مستهين كل منكر في سبيل غايتهِ كيف صرف شكسبير قريحته العجيبة في ألوف الجزئيات التي تؤدّي إلى تصوير الغرض الكلي والغرضين الملحقين به؟ ذلك ما يقف عليهِ القارئ من مجرَّد مطالعته للرواية فإنهُ يشعر قليلاً قليلاً إن الأسماء تمحي وتستبدل بأشخاص مقوَّمين في أصلح تقويم لكل منهم ويدخل متدرّجاً من الوهم في الحقيقة فيرى وهو يسمع ويسمع وهو شاهد مَشاهد مما ألفهُ في الحياة لا يردّه إلى كونهِ قارئاً سوى انتهائهِ إلى دفة الكتاب ومن جهة هذا التصوير الأخَّاذ الذي يصوّر بهِ شكسبير الحقيقة رأى بعض جهابذة النقاد أن ذلك الأستاذ العظيم يبالغ فيهِ مبالغة قد يجاوز معها الحدود التي يرسمها الفن. صدقوا ولكن هل كانت عبقرية هذا الرجل لتحد بحدود , وهل مثل العقل الذي روقهُ كان مما يقيد بقيود؟ الشاعر الذي افتتن فكتور هوجو بغرابة شعره , ووجد عند فراسته وطلاقته وقوَّة تمثيله للمعنويات بالحسيات , مبدأ المذهب الحرّ الذي ذهب إليهِ فيما بعد هو وأضرابه وأصبح سنَّة الكتاب في العالمين الكاتب المنقّب
المتعمق في مظاهر الخلائق ومضمراتها مع قدرة على المحاكاة ومهارة في الاختيار وبراعة في التأليف وسلطة على اللفظ يستدني بهِ أبعد المعاني ويقيد أوابد الوجدانات , الذي أعجب بهِ المؤرخ الفيلسوف تاين وناهيك بألوف المعجبين غيره من قبله ومن بعده الأديب الذي تترجم مكتوباته على وفرتها إلى كل لغات الدنيا , وفي بعض اللغات كالفرنسوية تكثر تلك الترجمات وتتنوع ويجيز إحسانها المجمع الأدبي الأكبر كما أجيزت ترجمة مونتيجو وليتورنور وغيرهما فتطلع الأمم المختلفة الألسنة والأجناس والأذواق والملل والنحل على مكتوباتهِ سواء في أصلها أو في غير أصلها , وتقرّها في أعلى منزلة عندها لجمعها المُذهب والمطرب إلى المفكه والمفيد والمبكي والمضحك إلى الزاجر والمؤنس(3/154)
أهذا الذي يطلب منهُ أن يكون أسير اصطلاح وعبد لفظة ورقيق أوضاع سبق الاتفاق عليها خرج شكسبير عن ذلك الطوق ونعمًّا فعل. ولو أبقاه في عنقهِ لما اشرأبَّ صعداً إلى مناجاة أجرام السماء , ولا أطاق الإِكباب إلى أبعد أغوار الأسرار في الطبائع البشرية من ذلك المنجم العظيم نجمت عطيل وهي إحدى آيات مستخرجاته ولما كنت أعهده فيها من نادر المزايا وجدتُ من كلفي بها معواناً على معاناة تعريبها
فأما من جهة التعريب فأقول أن في نفس شكسبير شيئاً عربياً بلا منازعة وهو أبين فيها مما بان في نفس فكتور هوجو. أقرأ لغتنا أم نقلت إليهِ عنها بعض المترجمات الصحيحة؟ لا أعلم. ولكن بينه وبيننا من وجوه متعددة مشاكلة محيرة , فإن عنده مثلما عندنا جرأة على الاستعارة وذهاباً بضروبها في كل مذهب , وله مثل ما لنا كلفٌ بالتنقل الوثبي من غير تمهيد ولا استئذان يدفعك من القصد إلى القصد وشيكاً وعليك أن تتمهل في فكرك وتجد الرابطة , وبهِ مثل ما بنا من الهيام في المبالغة التي لا يقبلها من الكاتبين ولا يعقلها من القارئين إلاَّ الذين في تصوُّرهم حدَّة وجماح كما يكون عادة عند الشرقيين وخصوصاً عند العرب. وعلى الجملة ففي كل ما يكتبهُ شكسبير شيء من روح البداوة قوامه الرجوع الدائم إلى الفطرة الحرة تناولتُ الرواية لأعرّبها وكأنني أنوي ردّها إلى أصلها كما رددتُ اسم عطيل وقبل أن أشرع فيها تفكرت في الأسلوب الذي اختاره لها أهو ذلك الأسلوب المخرّق الذي تشف الفصاحة فيه عن رقع العامية؟ لا وأفأً لا فتا لله لو ملكتُ تلك العامية لقتلها بلا أسف ولم أكن بقتلي إياها إلاَّ منتقماً لمجد فوق كل مجد ,. نزلتْ من هيكله الذهبي الخالص
الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين فهو فوقهما متداعٍ وبهما مشوَّه , منتقماً لأمة كسرت العامية وحدتها وكانت عليها أكبر معوان للتصاريف التي مزَّقتها في الشرق والغرب كل ممزق ,(3/155)
منتقماً للفصاحة نفسها وأية فصاحة في خَشَارة لا تصيب فيها الأصل إلا وقد تلوَّثت بذريرات لا تحصى من أوضار الرطانات بأنواعها بُعداً لهذه الأسلوب إذن! ولنختر غيره. . . أنؤثر الأسلوب الجزل المتين القديم؟ لا ولا! لأن الروايات إنما تكتب ليفهمها القوم ويستفيدوا منها مغزى بجانب التفكهة. أفنعكس عليهم تلك السنَّة الشريفة التي سنها النبي القرشي بقوله (أمرتُ أن أخاطب الناس على قدر عقولهم) بعد هذا وذاك لم يبقَ إلاَّ الأسلوب الوسط وهو الذي تكون بمقتضاه الألفاظ كلها فصيحة لكن سهلة , وتفكك الجمل تفكيكاً يقرّب مراداتها من الإفهام بمحاكاته لفنون المحادثات المستجدة من غير أن يفوتنا الالتفات في ذلك التفكيك إلى أشتات ما صنع أدباء العرب من مثله لمناسبات مخصوصة وإن لم يألفهُ جمهور الكتَّاب الاحتفاليين هذا هو الأسلوب الذي آثرتهُ وأرجو أن أكون قد وفقت فيهِ بعض التوفيق فتجمع معه لهذه الرواية مزيتان: أحداهما أنها تكون عربية فصيحة لولا الإعلام ولولا تشقيق الكلِم على ترتيب المخاطبة بين الفرنجة قديماً وحديثاً , والثانية أنها تمثل أقوال شكسبير حرفاً بحرف ولفظة بلفظة مع مراعاة انطباق كل منها على الاصطلاح الديني لو الاجتماعي الذي لها عند القوم الممثَّلين فيصحُّ أن تكون هذه التجربة مثالاً للتعريب يتحداه طلبة المدارس
خليل مطران
نوابغ مصر الأحياء
لا تزال رسائل القراء ترد علينا بكثرة رداً على اقتراحنا الذي نشرناه في الجزء السابق فرأينا والحالة هذه أن نرجئ نشر النتيجة إلى الجزء الآتي(3/156)
تربية الطفل
الغوط - والتبرُّز
على المرضع أن تتعهدْ الطفل من وقت إلى آخر وهو في مهده , فإذا كان مستيقظاً فقد يحتاج إلى إضجاعهِ على الجانب الآخر حتى يكون مستريحاً. فإذا لم يفد ذلك واستمزَّ مستيقظاً مع صراخ يجوز أنتكون إحدى اللفافات مبلولة من الغائط أو البول ويحتاج الحال إلى تغيرها , ومن الغريب أن الطفل وهو في مبدأ حياته يكره رطوبة الملابس ولا بدَ من أن تكون الملابس نظيفة جدًّا وجافة قبل استعمالها. ولا يحسن استعمال الصودا في غسيل الملابس لأنها تحدث طفحاً في جلد الطفل لأنه يكون رقيقاً في هذا الوقت. وأما إذا كانت الصودا ضرورية لتنظيف الملابس أثناء الغسيل , فلا بدَّ من إزالة كل آثارها بتكرار غسلها بالماء الخالص. ولا حاجة إلى القول أنه يجب غسلها أو تجفيفها في مكان آخر يبوّل الطفل عادة بعد ساعات قليلة من الولادة ويتبرز في هذا الوقت أيضاً ولون البراز أسود في الأيام الخمسة الأولى وهو اللون الطبيعي. وعلى كل من يعتني بأمر الأطفال أن يلاحظ النقط الآتية: نوب التبرز في الأربع والعشرين ساعة الأولى هي اثنتان أو ثلاث , والمواد تكون بدون رائحة كريهة ولنها أصفر (فاقع) بعد الخمسة الأولى , والمواد(3/157)
تكون رخوة ولا تتشكل إلاّ بعد زمن طويل. وليس فيها كتل بيضاء (لأن الكتل البيضاء تدل على اللبن غير المهضوم): وأما البراز الأخضر المحتوي على كتل بيضاء فيجب استشارة الطبيب في شأنه , وكذا المواد البرازية ذات اللون الردغ سواء كانت محتوية على دم أم لا , لأن الوقاية من أمراض المعدة والأمعاء أسهل من معالجتها. وأما المواد البرازية الجامدة فتحتاج إلى علاج أيضاً خشية أن يتعوَّد الطفل الإمساك ويجب تغيير الفوطة المبولة بأخرى خشية تهييج الجلد. وعلينا أن نجفف الجلد جيداً ونذرّ عليهِ قليلا من المسحوق قبل وضع الفوطة النظيفة. وتنظف الآليتان جيداً بعد كل تبرُّز مع تجفيفهما وذرّ قليل من المسحوق عليهما. ويستحسن البعض وضع قليل من المرهم على الآليتين بدلاً من المسحوق. ولا بأس من ذلك إذا عمل المرهم من أجزاء متساوية من مرهم زنك وزيت الزيتون. وأما إذا أحمرَّ الآليتين فاستعمال المرهم المذكور واجب
لبن الأم
يختلف لبن الأمهات كمية وصفة , وعند بعض الأمهات اللبن الكافي بعد مضي 12 ساعة من الولادة. والبعض الآخر لا يوجد عندهنَّ اللبن الكافي إلاَّ بعد ثلاثة أيام. فإذا ظهر اللبن في ثدي الأم في الإثنتي عشرة ساعة الأولى بعد الولادة يحسن إرضاع الطفل في هذا الوقت , لأن الطبيعة قد هيأت في لبن الأم كل ما يحتاج إليهِ الطفل من التغذية(3/158)
وفضلاً عن ذلك فاللبن الذي يخرج من الثدي بعد الولادة مباشرة يكون له تأثير خاص في أمعاء الطفل. ويعرف هذا اللبن باللبآ , ويختلف عن اللبن الذي يظهر في الثدي بعد ذلك بكثرة المواد الذهبية فيهِ. وإرضاع الطفل من الثدي يحدث تنبيهاً ويحرض على إفراز اللبن. وأما إذا لم يظهر اللبن في اليومين الأولين فيمكن إعطاء المولود كل ثلاث ساعات أو أربع ملعقة شاي من اللبن والماء. ويحضَّر اللبن بإضافة جزء من اللبن الحديث إلى ثلاثة أجزاء من الماء النقي المغليّ جيداً في إناءٍ نظيف ويمكن استعماله بعد ذلك متى هبطت حرارته إلى درجة 110 (فارنهت)
كيف يرضع الطفل
تحتاج الأم إلى قليل من المهارة حتى تستطيع أن ترفع طفلها من ثديها؛ ولإرضاعهِ من الثدي اليسرى عليها أن تضع الطفل على ركبتيها وذراعها اليسرى حتى يكون رأسه أعلى من رجليهِ وحتى يمكنها أن تجذبهُ إليها متى أراذت. وهي مع ذلك تسند جسمه ورأسه. ويحسن أن تضع الأم تحت مرفقها وسادة صغيرة , وتوضع الحلمة في فم الطفل , وتمنع الأم بسبابتها والأصبع الوسطى من اليمنى فيسند الطفل باليد اليمنى ويمنع الثدي من الضغط على أنف الطفل بأصابع اليد اليسرى. ويختلف زمن الرضاعة من 10إلى15 دقيقة وعلى المرضع أن تلاحظ أيبلغ الطفل اللبن أم لا وإذا داخلها شك في ذلك فعليها أن تزنه قبل الرضاعة وبعدها مباشرة.(3/159)
ومن الأطفال من يفهم عند أخذه إلى صدر أمهِ الغرض المقصود فيلتقم الثدي بسهولة , ومنهم من يحتاج إلى عناية وإغراء للإرضاع. وقد يجب أحياناً أن توضع نقطة من جلسرين البورق على الحلمة لاستغواء الطفل لالتقامها , أو ربما كان عدم بروز الحلمة هو السبب في عدم استطاعة الطفل للرضاعة , وكل ما يلزم وقتئدٍ هو أن تضغط ضغطاً خفيفاً حتى تبرز وبعد انتهاء الرضاعة يبقى الطفل ساكناً قليلاً من الوقت ثم يوضع في مهده حيث ينام نوماً هادئاً غالباً حتى يأتي ميعاد الرضاعة الثانية
وتغسل الحلمة , بعد كل رضاعة , بقليل من الماء الدافئ وتنشف جيداً , ويحسن استعمال ثدي واحدة لكل رضعة لأنه لا يحسن أن يرضع الطفل من الثديين في كل مرَّة بل يلزم أن يرضع مرَّة من الجهة اليمنى والمرة الأخرى من الجهة اليسرى وهكذا بالتناوب
الدكتور محمد عبد الحميد
إلى قراء الزهور
لدى الزهور مقالات كثيرة اضطَّرنا ضيق المكان في هذا الجزء إلى تأجيلها , فليعذرنا كتَّابها الأفاضل. وإننا نغتنم هذه الفرصة لإِعلان الذين يرسلون إلينا دائماً القصائد والمنظومات الشعرَّية على اختلافها , إنَّ الزهور لا تنشر في رياض الشعر إلاَّ ما كان من الطبقة الجيّدة منه وعبثاً يلحُّ علينا الناظمون الأدباء(3/160)
السيدات والقلم
مضت الأيام الطيبة على دول الشرق , دول تجاوب على أفنانها الشعراء والشاعرات , والكاتبون والكاتبات. حيث أصاخت عروشُ الملوك والملكات لكل مُسمعٍ ومُسمعة من سادة الكلام. ومضت الأيام الطيبة على دول الغرب , دول أطلعت من آفاقها وجوه المطربين والمطربات , أصحاب الفن وصاحباته. حيث تألقت التيجان على محاسن الوجوه ومحاسن النفوس. ولكن أدرك الشرق الكبرُ حتى أورثه ألَلكَن وسرَت على الغرب نسمة الحياة فجدَّ وتقدَّم ملكاتنا وولائدنا بتنَ عواقر , وملكاته وولائده أنجبنَ وأكثرنَ. فما خلَّفتْ عنان التي زعموا , ولا ولاّدة التي وصفوا , قينةً ولا أميرةً. ولقد أتت بعد مرغريت ده فالوى ومدام ده سفينيه كثيرات مثل مدام ستايل وجورج ساند. بلى أتت عقائل متوَّجات مثل ملكة الانكليز المرحومة فيكتوريا , ومعاصرتها كرمن سلفا. فباتت سماءُ الغرب حالية , وسماؤُنا عاطلة على أننا أصبحنا اليوم نرى في الشرق سيدات يبارينَ الرجال , ويجاوزنَ كلَّ سابق منهم. وكنا ظننا حقبة من الدهر أن لن أسمع ذلك الترجيع يخالطه ذياك الأنين , ولكن العصر ربيع الشباب , والميدان روض الحياة فأهلاً بالساجعات المطربات أعجبتُ إعجاباً شديداً بما نسجته أنامل الكاتبة الفاضلة السيدة هند عمون في تاريخ الخواتم. فذلك فصل أقل محاسنه أنه بلا نظير وقد تنظر عيني في هذه (الزهور) الطبيعية فترى كل زهرة كأنها ثغر الأمل فأقول لمن الزهرة , فيُقال لفلانة الفاضلة. أهلاً بالزهرات في حديقة الزهور. .!(3/161)
كنت قاربت الكبر. وأدركني الأعياء. وها أنا اليوم اسمع بلابل الله في ملكه فأجاوبه. ما هذا بنات هديل , وإنما هي بنات حواء. آن لأقلامنا أن تختار أحسن ما عندها من الدرر تلك الأجياد جديرة بهذه العقود. . .
ولي الدين يكن
جريدة الأخبار
بلغت الصحافة المصرية منزلة سامية من الترقي واشتغل بها في العهد الأخير جمهور من كبار الكتاب ورجال السياسة , فأصبح لها تأثير بليغ في الرأي العام , فرأينا أن نخصّ من حين إلى آخر كل جريدة بفصل يصوّرها لقراء الزهور من حيث خطتها وأسلوبها وكيفية تحريرها. ونبتدئ في هذا الجزء بجريدة الأخبار لمناسبة عودتها إلى الظهور في هذه الأثناء على أثر توقيفها شهرين بمقتضى القرار الذي أصدره مجلس النظار
الأخبار - أنشأها صاحبها سنة 1896 بالاشتراك مع داود أفندي بركات رئيس تحرير الأهرام اليوم. وتوقفت سنة 1900 ثمّ عادت إلى الصدور سنة 1906 فكانت أول جريدة عربية مصرية تصدر في الصباح. وهي أصغر الصحف المصرية حجماً ولكنها من أغزرها مادَّةً بالنظر إلى الأسلوب الذي توختهُ في إيراد الحوادث. وقد كادت تقصر أبحاثها على الشؤون المحلية أو ما كان لهُ علاقة بها من الشؤون الخارجية. وأنك لتقرأ الخبر في صحف المساء ثمَّ تصبح فتقرأه في الأخبار فلا تستنكف من معاودة قراءَتهِ لأنك على يقين من أنك ستجد في طريقة إيراده شيئاً جديداً. وللأخبار على سائر الصحف ميزتان: الأولى أنها تنشر ما لها وما عليها تاركة لمن يكتب فيها الحرية التامة في إبداء فكرة ولو جاء هذا الفكر مخالفاً لمذهبها , والثانية أنها ذات اعتناءٍ خاص بعنوانات أخبارها ومقالاتها(3/162)
حتى لقد يجيء العنوان فيها وحدَه أبلغ من مقالة طويلة. ولقد جرى بعض هذه العنوانات مجرى المثل بين القرَّاء أما الشيخ يوسف الخازن صاحب الأخبار فهو معروفٌ بشدَّة الذكاء وتوقد الذهن. وهو من أكثر كتَّابنا حفظاً للتاريخ ونوادره وأقدرهم على الاستشهاد بها عند اللزوم , فتراه دائماً أبداً حاضر القريحة لإيراد حادثة أو نكتة يطبّقها على حوادث اليوم , يظهر لك ذلك في حديثه كما يظهر في كتابته , وقد حلَّى كثيراً بالدرس والمطالعة السليقة الانتقادية التي عرفت بها الأسرة الخازنية. وله من هذا القبيل نكت وأجوبة تروى بين الناس. والشيخ لطيف المعاشرة لا يملهُ جليسهُ.(3/163)
وخصومه السياسيون أنفسهم يشهدون له بخفة الروح. وفد لا تفارق الابتسامة ثغره - كما ترى في رسمهِ الذي أمامك - وهي غالباً ابتسامة استهزاء من كل شيء. . عثرنا في بعض أعداد الأخبار على مقالة نعتقد أن الشيخ قد كتب مقدَّمتها وهو أمام المرآة يصوّر نفسه إذ قال لي صديقٌ شاذُّ الأخلاق , غريب الأطوار قلما يتفق رأيهِ , مخالفاً للجمهور في حكمهِ. وليس السبب في ذلك اعتاد معظم
الناس أن ينظر إليها منهُ , فيكشف أموراً جديدة قد تخفى على الآخرين , وهو يعبّر عنها تعبيراً فكهاً لا يخلو من نكتةٍ تسرُّك فتجعلك تضرب صفحاً عن شذوذه وغرابة أطواره لاسيما وأنهُ بعيدٌ عن المكابرة فلا يحاول أن يقنعك بصواب رأيهِ بل يقول هذا رأيي والسلام وصاحبنا مزيجٌ من التعصب والتسامح بل هو بوجه عام شديد التعصب لمذهبهِ فلا يخط حرفاً إلا تأييداً لهذا المذهب أو انتقاداً للمذهب المخالف , وإن كان ذلك لا يظهر لأوَّل وهلةٍ في جريدتهِ التي أباح أعمدتها لكل المذاهب. ومن رأي السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار أن خطة الأخبار تظهر في ما تختاره من أقوال الصحف أكثر مما تظهر في مقالاتها الخاصة. وقد أثَّت أخلاق الرجل في أسلوب الكاتب أي تأثير حتى صحَّ فيهِ قول بوفون الكتابة هي الرجل فجريدته هي صورته المعنوية وهو شديد الولع بها فقد ضحى لأجلها في مراكز عديدة عُرضت عليه وأنفق في سبيلها حتى اليوم ستة آلاف جنيه من ثروتهِ. وهو كثير التأني في كتابتهِ شديد الحكم على إنشائهِ , يكتبُ ويشطب ويشذّب ويمزّق كثيراً قبل أن يدفع إلى الطبع مقالة لا تتجاوز العمود فهو من هذا القبيل أقلّ الصحافيين مقدرة على سدّ الفراغ , على أن مقالته تخرج بعد ذلك موسومةً بسمتهِ الخاصة فتُعرف بهِ ويشاركه الآن في تحرير الأخبار توفيق أفندي حبيب , ومقالاتهُ لا تخرج عن دائرة التعليق على الحوادث اليومية بأسلوب فكاهي لذيذ لا يخلو غالباً من(3/164)
ملاحظات دقيقة وقرصات انتقادية , وهي غالباً موقعة بإمضاء محدّث وله أبحاث حسنة في شؤون طائفتهِ القبطية؛ وقد لا تعجبك المقالة منهُ على أنك قلما تضجر أو تسأم منها. وهو كثير المطالعة , يقرأ كلَّ ما تصل إليهِ يدُهُ مما يطبع باللغة العربية , وله ذاكرة قوَّية تجعله بمثابة قاموس للحوادث المصرية على عهدهِ , ويصعب على الشيخ يوسف أن يجد مساعداً للتحرير أطوع من توفيق حبيب وأقرب منهُ لفهم أفكاره , كما أنهُ يصعب على توفيق حبيب أن يجد صاحب جريدة يترك له الحرية في الكتابة كصاحب الأخبار , ولذلك قد مرَّت عليهما بضع سنوات وهما جليسان إلى طاولة تحرير هذه الجريدة , وكلاهما راضٍ عن صاحبه
معرض الزهور السابع عشر
في الإسكندرية
في الإسكندرية جمعية زراعية أوربية النشأة , وطنية العمل , تقيم في كل سنة معرضين تشهر بهما عملها , أحدهما في أواخر شهر ابريل وتسمية معرض الزهور , والآخر في أواخر شهر نوفمبر وتسمية معرض الأقحوان والأول يطلق عليه اسمه بالغلبة لأنه يكون معرضاً للزهور وطوائف متنوعة من النباتات , وأصناف شتى من البقول والفواكه والخضروات. والثاني يطابق اسمه مسماه لأنهُ لا يعرض فيهِ غير(3/165)
طوائف الأقحوان. وما أكثر أشكالها وألوانها. وكلا المعرضين يفتح في وقتهِ يومين متواليين - السبت والأحد - وبديهي أن الجمعية إنما تختار هذين اليومين لأنهما يوما الراحة والتنزه في الإسكندرية , ويكثر إقبال الجمهور فيهما على مشاهدة معروضاتها الجميلة فشهر ابريل نيسان الحالي هو شهر معرض الزهور. وقد فتح هذا المعرض في يومي السبت والأحد الواقعين في 20و21 منهُ وأقبل الألوف من الناس يتمتعون برؤية زهوره وبقوله منسقةً أبدع تنسيق وقد جرت العادة السنوية أن يحتفل بافتتاح معرض الزهور بحضر أمير البلاد أو نائب ينوب عن سموه من أمراء العائلة الخديوية , ولكن في هذه السنة كانت حفلة افتتاحه بسيطة على خلاف العادة فقد جرت بحضور أعضاء الجمعية وجماعة من أصحاب المعروضات وجمهور من الزائرين. ولم يرأسها أحد من الأمراء ولا النظار غير أن ذلك لم يؤثر في رونق المعرض ولا أنقص من جماله في نظر الجمهور
قبل أن نصف معرض الزهور يجمل بنا أن نورد لقراء الزهور نبذة موجزة عن نشأة الجمعية صاحبة هذا المعرض لأنهُ من ثمار أعمالها: كثير من الناس من يظنُّ أنَّ الجمعية الزراعية في الإسكندرية هي نفس الجمعية الزراعية في القاهرة , أو هي فرعٌ منها. والحقيقة أنها مستقلة عنها تمام الاستقلال , وعملُ هذه يختلف عن عمل تلك. ووجه الشبه بينهما , من حيث الاشتغال بالزراعة , أن الأولى هي بمثابة البستاني الفلاّح. وكلتاهما تقوم بعملها تحت رعاية الجناب العالي الخديوي رئاسة دولة الأمير حسين باشا كامل. ومصر في حاجة إليهما معاً قبل أن تنشأ هذه الجمعية في الإسكندرية منذ سبع عشرة سنة خطر لبعض وجهاء الانكليز من موظفي الحكومة المصرية والنازلين في هذه المدينة أن
يقيموا معرضاً للزهور هنا على نمط المعارض الزهرية التي تقام في انكلترا. فاستعدوا لذلك(3/166)
وانشأوا معرضاً صغيراً من هذا النوع في النادي العمومي الانكليزي المعروف بنادي جنود والبحر. فكان كأنهُ معرض للنزالة البريطانية في الثغر إذ لم يهتمّ بهِ غيرها من سكان الإسكندرية إلاَّ قليلاً. وبعد سنةٍ من الزمن أقاموا معرضاً آخر في نفس المكان فكان هذا أفضل من المعرض الأول سنة 1896 رأى أولئك الغواة أن يوسّعوا دائرة عملهم ويؤلّفوا جمعيةً زراعية للمثابرة على ترقية توليد النبات والزهور في هذا القطر , وإقامة المعرض في كل سنة. وكان كذلك. فأنهم ألّفوا الجمعية برئاسة الأميرال بلامفليد الذي كان مديراً لمصلحة المواني والمنائر في الإسكندرية , وأرسلوا إلى الجناب الخديوي يلتمس منهُ أن يشمل جمعيتهم برعاية السامية , فُسرَّ سموه من المشروع وجعل الجمعية تحت رعايتهِ؛ وانتخب دولة الأمير حسين كامل باشا رئيس شرف للجمعية , والأمير عمر باشا طوسون وكيلاً لها واتفقت الجمعية مع شركة فنادق ننكوقتش على إقامة أول معرض رسميّ في تلك السنة في فندق سان ستيفانو في يومي السبت والأحد الواقعين في 223 ابريل نيسان و24 منهُ , وطلبت إلى سمو الأمير أن يفتتح هذا المعرض , ولكنَّ سموَّهُ اعتذر وقتئذٍ عن الحضور وأناب عنهُ دولة البرنس حسين باشا كامل فرأس حفلة الافتتاح كان المعرض الأول صغيراً فأقيم في قاعة البهو من بناية كازينوسان ستيفانو. ولكنَّ الجمهور هرع لمشاهدة الزهور التي تعرض في منتزه عام؛ فضربت الجمعية على الدخول رسماً قدرُهُ خمسة غروش صاغ عن كل شخص , وجمعت من تلك الضريبة مبلغاً كبيراً , لأنَّ عدد الذين زاروا المعرض بلغ نحواً من خمسة آلاف. ولا يزال هذا الرسم بعينه مورداً من موارد الجمعية. وفي سنة 1897 تبنَّت جمعية الزراعة البريطانية في لندن جمعية الإسكندرية , وأباحت لها استعمال مداليتيتن من مدالياتها فلورا وبنكسيان - من سنة 1897 إلى سنة 1903. ثم استقلَّت جمعية لندن بمدالياتها , وضربت مداليات مخصوصة للجمعيات التي تستمدّ رعايتها ,(3/167)
ومنها جمعية الإسكندرية. ولما رأت الجمعية الزراعية الخديوية في القاهرة ترّقي جمعية الثغر في السنة التالية , أرسلت إليها أربع جوائز لتقدّمها للفائزين من العارضين. ومن ذلك الوقت صارت تمدُّها بالمساعدة المستمرّة. وكانت الجمعية تدعو لمعارضها الأولى أفواجاً من تلاميذ المدارس من ذكور وإناث , وتوزّع
عليهم باقات الزهور عند انصرافهم إلة منازلهم , ولكنها أبطلت تلك العادة عند نجاح معارضها
أما معرض الأقحوان فقد أُنشئ في سنة 1902؛ وكان إيراده لأول مرّة أكثر من نفقاته. وكان افتتاحه في يومي السبت والأحد - 29و30 أكتوبر - ولا يزال يجيء في وقته تالياً معرض الزهور وقد اضطَّرت الجمعية قديماً إلى إقامة معارضها في فندق أبات القديم وبورصة البرنس طوسون دار الجمعية اليونانية في الإسكندرية , ومنذ عدة سنوات لم تعد تقيم معرضاً في غير سان ستيفانو. وإدارة الفندق المذكور لا تتناول من الجمعية أجراً على إشغالها ساحة بنايتها بخمائل الأزهار , بل تكتفي بما تستورده بسبب المعرض من أثمان المشروبات والمأكولات , وهو شيء كثير. أما إيراد الدخول فتأخذه الجمعية كما تقدّم.
كانت الجمعية عند نشأتها فقيرة تجمع من أعضائها من المال ما تستعين بهِ على القيام بعملها في الزراعة , ولكنها كانت حكيمة مقتصدة لا تشتغل إلاَّ بقيمة ما تستوردهُ. ولم تخطو خطواتٍ سريعة في ميدان العمل إلاَّ منذ سنة 1907 , فإن الحكومة منحتها في تلك السنة إعانة سنوية قدرها 600جنيه , فوسعت دائرة زراعتها , وعيَّنت لها سكرتيراً خاصاً هو المستر فش الذي لا يزال يشغل مركزه فيها بكل كفاءة. ثم أعطتها بلدية الإسكندرية بقعة أرضٍ في حديقة النزهة لنجري التجارب الزراعية فيها , وجعل السكرتير مكتبه في تلك الحديقة الواسعة للإشراف على العمل , ومنذ تلك السنة صارت تستغلّ زراعتها(3/168)
وفي سنة 1909 استأجرت من مصلحة الأوقاف الخديوية عشرين فدانً من أرض عزبة خورشيد القريبة من الإسكندرية لمدة ثلاث سنوات , الفدان بأجرة 13جنيهاً في السنة. وفي سنة 1911 زادت الحكومة إعانتها فجعلتها 800جنيه وعنيت هذه الجمعية منذ نشأتها بتهذيب مغروسات البساتين وغروس ما لا يعرفهُ المصريون من أشجار الفاكهة الأجنبية , والنباتات المتنوّعة في أرض مصر. وقد توصَّلت بقوَّة تجاربها الكيماوية والفنيّة العديدة إلى إدخال بضعة أصناف جديدة على ما نراه عندنا من البقول والفاكهة والأزهار. ونذكر على سبيل الاستشهاد فيما يأتي بعض ما رأيناه من الجديد في المعرض الأخير: الليمون الحامض النباتي , وهو أشبه بالليمون البلدي والرشيدي إلاَّ أنهُ أكبر حجماً ولا نوى فيهِ , والبطاطس الانكليزي وهو نوع من أجود أنواع هذا الصنف والباميا البيضاء , واللفت
الذي يستعمل لاستخراج السكر , وأنواع كثيرة من البقول والخضروات. وكثير من أنواع الزهور والرياحين وأخصها الجيرانيوم وزهر الايرس الإسباني. وهي تشتغل الآن بتلقيح البرتقال البلدي بالبرتقال اليافاوي المعروف بالشموطي وتحسين الصنف المعروف باليوسف أفندي المصري وقد أهدت إليها إدارة الزراعة في الولايات المتحدة عدَّة أنواع من أشجار البرتقال والخوخ والدرَّاقن. استحضرت من اليابان أنواعاً من الأشجار والبقول وهي تستعمل في زراعتها السباخ الكيماوي وأخصُّ تراكيبه ما كان ممزوجاً بفوسفات حمض الكلس والبوتاس ونترات السودا. وتستخدم أحدث الأدوات الزراعية وتبيعها للطالبين. وكانت منذ بضع سنوات توزع البذور على الزراعيين مجاناً تشجيعاً لهم على إتباع خطواتها في العمل. أما الآن فتبيع البذور وغيرها برأس المال ولولا ذلك لكانت أرباحها وافرة معرض الزهور الذي أقيم في هذا الشهر هو مجموعة نموذجات متنوّعة مما تغرسهُ الجمعية في أرضها - ما ذكر وما لم يذكر - ومما يزرعهُ غواة الزراعة ورجال الحقول من شتى الأزهار والنباتات والبقول على اختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها(3/170)
ساحة المعرض هي ساحة كازينوسان ستيفانو الداخلية المشرفة على البحر من الجهة الشمالية. وقد نسفت فيها أنواع المعروضات تنسيقاً هو كل جمالها الفني ولا يخفى أن الزهرة لا يعوزها شيٌ لتكون جميل: فهي جميلة في منبتها في الحق , وجميلة في يد القاطف , وجميلة في قاعة الاستقبال؛ ولكن مجموعة الزهور والنباتات(3/171)
يعوزها الترتيب في وضعها لتكون جميلة , ما دام الجمال في تناسب الأشياء؛ وهذا ما كان متوفراً في معرض الزهور الأخير ساحة المعرض تقسم إلى نصفين بينهما كشك للموسيقى. إذا وقفتَ في أوَّلها متجهاً إلى الشرق تجد أمامك في النصف الأوَّل خمائل الزهور , وفصائل النباتات ذات الورق الأخضر تدبّج البقعة بأشكالها الهندسية الجميلة في ثلاثة صفوف: صفّ إلى اليسار للجهة البحرية , وصفّ إلى اليمين والثالث في الوسط أما النصف الآخر فأهمُّ ما فيهِ معرض المجلس البلدي وهو بمثابة بساط من الزهر مرسوم على مربع كبير من الأرض رسماً قد لا تكوّن اليد في التصوير أجمل منهُ للعين. ولا تسل عما فيهِ من أنواع الزهور والنبات , فإن عدَّ أصنافها , إذا لم نقل لا يتيسر لغير علماء النبات - وهو العذر الحقيقي - نقول أنهُ يستغرق وقتاً ويستوجب شرحاً طويلاً وهناك ثلاثة أقسام أخرى للمعروضات: قسم
مخصوص للسيدات وهو يشتمل على أنواع الورد من أبيض وأصفر وأحمر , والأقحوان , والمنشور وغير ذلك , موضوعة كلها على موائد كبيرة في ظروف زجاجية مستطيلة بترتيب جميل. وقسم يشتمل على صنفين أحدهما للورد المقطوف والثاني لزهر الايرِس. والقسم الثالث هو محلّ البقول والخضروات والفواكه وقد خصصت له في المعرض خيمة واسعة لا تقلّ مساحتها عن 200ذراع مربع وقد قسمت المعروضات من الوجهة الفنية إلى أربعة أقسام رئيسية 1 - معروضات الشوالي للغواة 2 - الأزهار المقطوفة وهي تشمل الورد والايرس 3 - أزهار الموائد 4 - البقول والأثمار وغيرها. وقدّمت للعارضين المتسابقين مداليات وجوائز عديدة على ما امتاز من معروضاتهم المتنوّعة. والأربعة الذين نالوا الجوائز الأولى في الأقسام المذكورة هم بحسب ترتيب الأقسام: مدام شارلوت دبانه , والمستر هنري سفر , ومدموازل جشر ابنة رئيس المحكمة المختلطة , وسرهوبكنسون قرينة حكمدار بوليس الإسكندرية(3/172)
وللمعرض نظام معروف بمعاملته مع المزارعين والعارضين وشروط الاشتراك في المعرض وقبول المعروضات ونحو ذلك. وله لجنة عاملة دائمة تخدم الجمعية. ولجنة مؤقتة خاصة تؤلف من المحكمين عند إقامة المعارض للحكم في استحقاق الجوائز. والأولى تؤلف من14 عضواً تحت رئاسة المستر سندرز القاضي في محكمة الاستئناف المختلطة , والثانية تؤلف من 10 أعضاء بينهم سيدتان انكليزيتان على أن جمال المعرض الحقيقي مستمدٌّ من زائريه , والمُشاهِدُ يستجلي هذه الحقيقة لأوّل وهلة عند دخوله إلأى ساحة المعرض. وأكثر ما يزيد المنظر جمالاً وجود الأوانس والسيدات فيهِ متفرقات بين الأزهار والرياحين , بقبعات تستلفت الأنظار بأشكالها , وأثواب تنافس الأزهار بألوانها , ولا تنسَ جمال الصور , ومحاسن الدعج والحور , وفخامة المظهر , ولطف المعشر
(الإسكندرية)
عباس المصفى
ثمرات المطابع
تاريخ آداب اللغة العربية - لما قرَّظنا في الزُّهور (276: 2) الجزء الأوَّل من كتاب آداب اللغة العربية لمؤلفه جرجي أفندي زيدان العالم المؤرخ الشهير , قلنا في الختام:. . . وأننا ننتظر توفيقه إلى إظهار الجزء الثاني من كتابهِ وهو سيكون ولا ريب , أوفى بحثاً , وأتمّ بياناً , لأنهُ يتناول عصراً كثرت آثاره , وتوفرت المعلومات عنهُ وقد صدق ظنّنا اليوم , وثبَّت صاحب الهلال اعتقادنا فيهِ , فإنهُ لم يحُلِ الحول على إصداره الجزء الأوَّل , حتى وضع بين أيدي أبناء العربية الجزء الثاني الذي نحن بصدده الآن وهو أوفى بحثاً , وأتم بياناً , كما أمَّلنا أن يكون إذا طالعتَ هذا الكتاب , وأمعنت النظر في تنسيقهِ ومباحثهِ , عرفتَ كم عانى الأستاذ زيدان من التعب وكم اجتاز من المصاعب حتى توفرت لديهِ موادّهُ ,(3/173)
ودانت له أشتاتها , فألَّف منها ذلك الكتاب النفيس. ولكنَّ صاحب الهلال مأثور عنهُ النشاط والانكباب على الدَّرس , والرغبة في إفادة الناشئة العربية في هذا العصر , وليس كتابه هذا بأوَّل عملٍ مجيد يشكره عليهِ أبناء اللسان ويحتوي هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي من قيام الدولة العباسية إلى دخول السلاجقة بغداد , ويدخل فيهِ تكوّن العلوم الإسلامية ونقل العلوم الدخيلة إلى نضج العلم في أواسط القرن الخامس للهجرة , وفيهِ تراجم العلماء والأدباء والشعراءِ وسائر أرباب القرائح , ووصف مؤلفاتهم وأماكن وجودها أو طبعها من أقدم أزمنة التاريخ إلى الآن. فأنتَ ترى أن هذا الكتاب تاريخ لم يوضع قبله في العربية كتاب مثله , وقاموس يرجع إليهِ من طلب معرفة أدباء اللغة العربية في جميع الأمصار. ولقد كان المتأدبون منا يُقضي عليهم بالتعب والدَّرس السنين الطويلة لكي يلمُّوا إلماماً علماً بتاريخ الآداب العربية - وقد يملُّ كثيرون العمل , ويقنطهم السعي والبحث - فأصبحوا اليوم , بفضل الأستاذ زيدان , يتناولون ذلك التاريخ على أهون سبيل , وأصبح في وسعهم أن يشغلوا أيامهم بدرس علوم شتى كان ذلك السعي والبحث يحولان دونها. فكتاب تاريخ آداب اللغة العربية , وكتاب تاريخ المدُّن الإسلامي وحدهما , يحلاَّن صاحب الهلال المحلّ الأسمى من الكرامة والاحترام في نفوس أبناء اللغة العربية , وهما إلى جانب ما لحضرته من التأليف والأعمال يصِفانِ حياته بأنها حياة العمل والنفع الحقيقيَّين
تعليل النوع - إذا سمينا لقراء الزهور الدكتور محمد عبد الحميد فلا نسمّي لهم من يجهلون
, فهو الذي يتحفهم بتلك المقلات الشهرية عن تربية الطفل وهو الذي طالما أشرنا إلى كتبهِ الطبية النفسية التي لم يسبقه عالم إلى وضعها باللغة العربية. وأمامنا اليوم كتابٌ جديد له في تعليل النوع وهو يشرح نظرية النوع الجديدة المبنية على المشاهدات الإكلينيكية مع ذكر الطريقة المؤدية إلى معرفة نوع الطفل في بطن أُمه وقبل ولادتهِ وبيان طريقة الحصول على النوع المرغوب فيه من(3/174)
ذكر أو أنثى - وهذه المسألة من المسائل التي لا تزال مغمضة , وقد تضاربت فيها آراء الأطباء واختلفت أقوالهم. ولا مجال هنا لتأييد مذهبٍ وتفنيد آخر فضلاً عن إن ذلك من شأن العلماء الاختصاصيين على أنهُ لا يسعنا إلاَّ تجديد الثناء على همة صديقنا الدكتور عبد الحميد التي لا تعرف الملل في خدمة قومهِ وبلاده بما ينشره لهم من المباحث العلمية الجديدة. وفّقه الله إلى متابعة أعماله المشكورة التي أخذت الأمة تقدّرها حق قدرها
اللُّغة العربيَّة - وهو خطاب ألقاه في بيروت حضرة العالم الفاضل الأستاذ جبر ضومط م. ع أستاذ اللغة العربية في المدرسة الكليَّة السوريَّة. وقد بحث فيهِ بحثاً تاريخياً فلسفياً عن موطن العربية المُضَريَّة , ونسبتها إلى أخواتها من للغات السامية. ودقق النظر في تقسيم السامية إلى فرعيها القحطاني , وهو الذي كان يتكلم بالقحطانية السريانية والحميرية التي خَلفتها؛ والعادي , وهو الذي كان يتكلم بالعربية تسميةً بأشهر قبائله عَاد. ثمَّ توغل في هذه المباحث حتى إذا وفاها حقها من البرهان التاريخي والعقلي والأثري , نظر نظرةً صادقة في سبب غنى اللغة العربية واتساع دائرة ألفاظها وعباراتها واقتدارها على التعبيرات الفلسفية والاجتماعية. وما هو معروف عن الأستاذ ضومط من العلم وسعة الإطلاع يجعل لخطابه هذا منزلةً كبرى في نفوس الباحثين والمدققين من علمائنا الذين يعنون بهذا الموضوع التاريخي الفلسفي , فله الشكر الوافر
الحب الطاهر - خطرات أوحى بها الخيال إلى حضرة الكاتب الشاعر الأديب أمين أفندي حمدي وتقطرت من قلمهِ كما يتقطر الندى , فجمعها في كتيّبٍ حرصاً عليها , ولا يُحرص إلاَّ على الثمين. فحبذا لو أقبل عليها محبوّ الأدب ليروا كيف توحي الطبيعة التصورات الجميلة ديوان المصري - نشر عبد الحليم أفندي المصري الجزء الثاني من ديوانه(3/175)
المعروف باسمه , وفيهِ القصائد والمقاطيع الشائقة التي نظمها في خلال الثلاث السنوات
الأخيرة , وكانت الزهور قد نشرت بعضاً منها كما يذكر القراء. والذي يقارن بين هذا الجزء من الديوان , وبين الجزء الذي سبقه , يرى كيف ترّقي الشاعر في خياله , وفصاحته , وأسلوبهْ , وطلاوته , ولكنه لا يختلف عليهِ النفس الشعري لأنَّ عبد الحليم شاعر مطبوع تكاد تلمس شاعريته في كلّ قصيدةٍ لمس اليد. فنحن نثني عليه كلَّ الثناء , ونتمنى أن يقبل الأدباء على ديوانهِ فإنَّ له في ذلك أعظم تنشيط
إبراهيم أدهم باشا
في إدارة الزهور
تفضَّل صاحب العطوفة القائد الهمام الباسل إبراهيم أدهم باشا بطل الحرب الطرابلسية , وصاحب السعادة السريّ الأمثل سليم بك أيوب ثابت , فزارا إدارة هذه المجلة ,، أُصحابها لما يبذلونهُ في سبيل نشر المعارف والآداب. وقد ذكر القائد الكريم أنهُ اتصل بهِ ما للزهور من المكانة في نفوس القوم فأحبَّ أن يزور إدارتها ليعرب لنا عن إعجابهِ , وليثبّتنا في الخطة التي اتخذناها , غذ توسلنا بالزهور لإِحكام الصلات الأدبية بين الأقطار العربية. ونحن نقابل هذا الصنيع بالشكر للزائرين الكريمين , ونعدُّ ثناء القائد الهمام أكبر منّشطٍ لنا في عملنا
أزهار وأشواك
استغرقت الحفلة التي أقيمت لمساعدة منكوبي بيروت قسماً كبيراً من الجزء الفائت , فاضطرَّت إدارة هذه المجلة إلى زيارة ملزمة كاملة عليهِ. وكثرت المواد أيضاً في هذا الجزء , ولم يكن بدٌّ من نشر مقالة عن معرض الزهور الإسكندري فحرمتُ من المحادثة الشهرية مع قرائي , مع أني كنتُ أعددتُ لهم أزهاراً وأشواكاً كثيرة. . . فإلى الملتقي في الجزء القادم
حاصد(3/176)
العدد 25 - بتاريخ: 1 - 6 - 1912
النذل
في قاموس اللغة وفي قاموس العالم
النذل في القاموس الخسيس الساقط. فهل تعلم معنى هاتين اللفظتين؟ هما في القاموس أيضاً تجمعان في طيّهما معاني الحقارة , والسفالة والرذيلة والنقص والجبن , وما سوى هذا من المترادفات. ولكنني لا أخالك قد فهمتَ المعنى الحقيقي. إنَّ قواميس اللغة تنتقل بك من لفظةٍ إلى لفظة , وتفسّر لك كلمةً بكلمة. دعها إلى جانب , وهلمَّ بنا إلى هذا القاموس العظيم , قاموس العالم , وإليك منهُ الرواية التالية فقد حدثت وقائعها في مصر , في مثل هذه الأيام من السنة الماضية , كلفَ فتىً بفتاة. جارانِ تجاور بيتاهما , كما تحابَّ قلباهما. والحبُّ
نظرة فابتسامةٌ فسلامٌ ... فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
وتشاكيا ما بهما. الوجد في نفسها , والنار في كبده. والقلوبُ(3/177)
أرقُّ ما تكون , في صدورٍ لم تنفتح للحب , ولم تدر معنى الغرام. فهي حينئذ كذلك الغشاء الرقيق من الجلاتين تُلصق على الزجاج في الآلة المُصوّرة؛ فإذا تناوله النور لمحةً أثر فيهِ , فانطبعت عليهِ صُوَر ما يمرُّ حياله في خلال تلك اللمحة وعفَّت فتأدب. ووقف لهما غرورُ الشباب وقفةَ العدوّ الغادر. يهزُّ الفتاة ويدفعها فتردّهُ بعفَّة البكر , ويهيجُ الفتى ويغالبهُ فيتّقيهِ بأدب الحبّ وأعانت الأيام على الجوى والهيام. فتلاقيا على ضفاف النيل , وتفيئاً ظلال الأهرام , وتسامرا من نافذَتي بيتيهما تحت بريق النجوم في سكون الظلام , فما زادتها الليالي إلاَّ جوًى ووجداً , وما زادته إلاَّ صبابة وهياماً ولما فاض القلبان بالحبّ , ولم يبق في قوس الصبر منزع , حدَّث الفتى أهلهُ بأمره , وقصَّت الفتاة حكايتها على ذويها. قال بأبي هذه التي أحبُّ , وقالت يا أمِّ هذا الذي أريد. أنا الأمُّ فرضيت , وأما الأب فأبى. ولكنَّ الإِباء أجَّج نار الغضا بين ضلوع الفتى , فالتظى قلبهُ بالشوق والتهب لوعةً وجوى؛ وشجَّع الفتاة من أُمها الرضي , فتمادت في الوجد وتطوَّحت في الهوى. ولم يكن للعاشقين سبيل إلى السلوى , فانقطع هو إلى القنوط , وتعلَّلت هي بالمنى. حتى إذا غلب اليأس على الرجا , وفتَّ في ساعد الفتى وقد سامهُ الشوق صبراً , اندفع مع غرور الصبي , وحببَّ اليأس إلى نفسه الردى , فهوى بهِ الغرور إلى ذلة الانتحار فهوى وما ارعوى(3/178)
قال: أما الحياة فقد
مرَّرها أبي ونغَّصها عليَّ فلأجعلنَّ حياته مرَّةً منغَّصة , ولأنتقمنَّ لنفسي منهُ شرَّ انتقام. إني أموت فأشقُّ قلبه حزناً عليَّ , وأفتّت كبده تفجعاً وغماًّ , فلا يعيش بعدي , ولئن عاش فلِيستنفدَ دموع عينيهِ , ولتعذّبهُ الشيخوخة حتى يجرَّه العذاب إلى القبر. . . ولكن هبني قدمتُّ , وانتقمت بموتي من أبي , فكيف أطيق أن تحيا الحبيبة بعدي؟ أأرضي لها الحياة لكي يتلاشي الحبّ في نفسها فتنساني وقد لا تلبث أن تعلق بغيري فتلقم قبري حجراً؟ إنما قلوب النساء كالعصافير تتنقَّل من غصنٍ إلى غصن , فإذا استقرَّت فريثما يقف اهتزاز الفنن الذي استقرَّت عليهِ!. . وإذا لم يكن من الموت بدٌّ , فمن الظلمِ أن يموتَ الحبيب وحده , وتعيش الحبيبة بعده!!. . ثم كاشف فاتنتهُ بهذا الرأي , وبسط أمامها أفكاره وأمانيّه , فزجرتهُ فما ارعوى وإنما أثار تأنيبها في نفسهِ نزقَ الشباب فتصلَّب وأبى إلاَّ أن يموتا معاً. وخافت الفتاة أن تتَّهم في حبّها ووفائها فقالت له: أنت لست بأشدَّ حباًّ لك , ولست بأشجع قلباً , وأشدّ بأساً. الحبُّ ساواني بك وما آثرك عليَّ في شيء. إن كنت رجلاً فأنا امرأة. إنما المرأة أرقّ شعوراً من الرجل , وأكثر تمادياً في الحبّ , واندفاعاً مع الشهوات. ولقد شئتَ لي أن أموت معك فلتكن مشيئتك فيَّ يا ربّ فمدَّ الفتى يده وشدَّ على يد الفتاة فتعاهدا على الردى. ثم افترقا على هذا العزم بغيةَ أن يضمّهما القبر , ولم يضمّهما القصر , وإرادةَ أن يجمعهما الموت ولم تجمعهما الحياة(3/179)
الانتحار جبن والمنتحر جبان قد ييأس امرئٌ فيرى الفرج في الموت , وقد يدفع صاحبه إلى مهواة الرَّدى تخلصاً من متاعب الحياة , وفراراً من نائبات الدهر. ولكنَّ الانتحار , مهما تنوَّعت أسبابه , واختلفت دواعيه , ليس إلاَّ دليل الخوَر والجبن , والذلَّة والصغار , فالمنتحر جباز وإن استبسل في طلب الموت. لولا الجبن لم يكن الانتحار!
شلَّت يده! صبَّ لنفسه. فالسُمُّ في كأسها , والسمُّ في كأسهِ ودنا الموت من شفتيها ,
ودنا الموت من شفتيهِ. يا ويح لحظّهما! كلاهما غضُّ الصبي , رطب الأهاب , وكلاهما والهٌ تيَّمهُ الحب , وبرَّح به الجوى!
حمل الكأس إلى شفتيهِ , فاهتزَّت بها يمناه , وارتجف لها قلبه. وأُدنت الكأس من شفتيها فما اهتزَّت يمينها , ولا خفق فؤادها
وتلاقى الناظران من النافذتين , ففي مقلتها دمعة , وفي عينهِ جمرة!!
هي فتاة وهو فتى! هي امرأة وهو رجل! هي شربت , وهو. . لم يشرب!
الفتاة شربت كأسها حتى الثمالة , والتي صبَّ كأسه على الأرض!
هل عرفت الآن معنى النذالة , ومعنى قولهم: فلان نذل؟!!(3/180)
القدَر والمقدّر
الاعتقاد بالمقدّر من أهمّ الاعتقادات التي أثرت في حياة البشر في الأعصر الغابرة. وهو لا يزال متملكاً على أفكار أبناء اليوم وأن اختلفت كيفية اعتقادهم باختلاف مذاهبهم وآرائهم في عواقب الإنسان. وتقسم هذه المذاهب إلى ثلاثة أقسام: المادّيون والقائلون بمذهب جمع الكائنات (الوهية العالم)
والروحيون فالماديون يعتقدون أن الإنسان ليس إلاَّ مجموع أجزاء كيماوية تنحلُّ بالموت ثم تتفرَّق دقائقها , وتنضم إلى أجرام أخرى فتصير لها ومنها. وعندهم أن لكل واحدٍ من البشر أن ينتقي لحياته غاية ترمي إليها أغراضه , وتطمح للوصول إليها أفكاره , وتوقف عليها أتعابه وآماله. أما قيمة الحياة فمتعلّقة بفضل صاحبها , وهي تقاس بما تجلبه على العالم من الخير - أو الشر؛ ولا يعبّر عنها عند الماديين إلاَّ باللذة والألم. العلم الوضعي يحسب كل ما يراه ظواهر طبيعية ونتائج حركات آليَّة تتشابه كلها في نظره , فلا تفرق ماهيّتها إلاَّ بواسطة الحسّ , فيسمي المادّيون ما يسرُّهم خيراً , ويدعون ما يؤلمهم شراًّ؛ وهم مع ذلك يؤثرون - نظرياً - خير المجموع على خير الفرد أما القائلون بالوهية العالم فيعتقدون أن كل جرمٍ من أجرام الخليقة هو شكل بارز عن الجوهر الإلهي المنتشر في طبقات الكون , وأن الروح بعد انفصالها عن الجسد تعود إلى ذلك الجوهر العظيم كما يعود(3/181)
الجسد إلى المادة الكلية التي تكوّن منها. وكان فيثاغورس وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة الماضي يعتقدون بالتقمص ولا يزال الهنود والدروز إلى أيامنا الحاضرة يعتقدون هذا الاعتقاد. وسواء غرقت الروح في بحر الحياة الكلية أم سكنت جسداً آخر , فإن الشخصية الحقيقية تنتهي عند عتبة القبر. فلهم , والحالة هذه , أن يعملوا ذوي الأخلاق الكريمة منهم يسعون في نفع الجمهور ما استطاعوا والروحبّون يؤمنون بأن الروح أبدية لا تفنى , وأنها تحفظ بعد الموت ذاكرتها وسائر مميزات شخصيتها الجوهرية. هي لا تموت لأنها شعلة من روح مبدعها العظيمة , فهي تعمل الحسنات وتسير في طريق الصلاح , وتفيد وتستفيد , وتضحي من لذتها وراحتها شيئاً كثيراً بقصد الوصول إلى المصدر الإلهي السامي والتمتع بغبطة لا نهاية لها مهما تعدّدت المذاهب والمشارب فقد أجمع البشر على أن هناك قوة تدير حركة العالم , ولكنهم اختلفوا في تسميتها. يسميها بعضهم عناية أو إرادة إلهية , وينعتها آخرون بالـ وقد اصطلح الجميع على التعبير عنها بكلمة قضاء أو قدَر
وضع الأقدمون القدَر) فوق جميع الإلهة. وهو في علم أديانهم ابن العدم والظلمة وهما الإلهان الوحيدان اللذان لم يكن لهما ابتداء , ولكنهما انتهيا إذ أن العدم اضمحلّ في(3/182)
الخليقة كما أن الظلمة تلاشت في النور. المقدّر يقبض بيده على حظوظ البشر , ويحكم فيهم كيفما شاءَ. وفي الخرافات القديمة أن أوامره منقوشة على صفحات من نحاس , ولا قوة أرضيّة تستطيع أن تمحوَها أو تغيّر منها شيئاً. كانوا يصوّرونه شيخاً طاعناً في السن كفيف البصر , وتحت قدميه الكرة الأرضية وعلى رأسه إكليل من نجوم , دلالة على خضوع السماء له. يسراه تمسك القارورة المحتوية على حظوظ البشر , ويمناه تقبض على عصا من حديد إشارةً إلى سطوته وقدرته المطلقة , وقساوته وصلابته في أحكامه وقد جاء في الياذة هوميروس أن جوبيتير كان قد أراد إنقاذ هكتور من شر أخيل , على أنهُ لما وزن حظّيهما ورأى أن هكتور سيموت لا محالة تركه وشأنه. وكذا فعل ايولّون الذي كان يرافقه في غدواته وروحاته ويمده بالمساعدة , فإنهُ ابتعد عنه لعلمه أن القدَر لا يُعاند توالت القرون وسبحت الأفكار في فضاء واسع من الحرية العلمية فتناول الفلاسفة هذا الموضوع ودرسوه درساً مدققاً فنفوا وجود إلهة عمياء تلقي على البشر صواعق غضبها ونقمتها بحسب أهوائها , ونسبوا القدَر إلى نواميس ثابتة. وعلاَّت رياضية تأتي بالنتائج التي ندعوها قضاءً وقدراً. وقال أرسطو أن الأقدار ناجمة عن قوتين: قوة خارجية , وقوة داخلية أي آتية من نفس الإنسان. وكان جميع المفكرين الذين سبقوا ديكارت يقولون بوجود سلسلة علات آلية هي أساس النظام الكلّي. ثم جاء ذلك الفيلسوف الفرنساوي وثبَّت هذه القاعدة ,(3/183)
وأخرجها من دائرة المعقولات وأدخلها في دائرة الفلسفة الرياضية إذ شرحها شرحاً رياضياً , وأسندها إلى قواعد علمية رأسها القاعدة التي تستند إليها جميع العلوم الطبيعية , وهي أن لا شيء يموت بكل معنى الكلمة , ولا شيء يحيا , بل أن الموت كالحياة ليس إلا تقلب المادة من حال إلى حال بحكم النواميس الأبدية التي تديرها , وأنهُ لا بداية للكون ولا نهاية له , بل أن حركة نراها أن هي إلاَّ نتيجة حركة أخرى سبقت وهي تابعة لحركة أو لحركات تقدمتها. وفي العلوم الوضعية أن كلَّ ما في الكون حركات متتابعة متوالية , وأن كل حركة فسيولوجية تعقبها فينا نتيجة بسيكولوجية أو فسيولوجية. فالهضم مثلاً نتيجة الأكل , والغذاء نتيجة الدورة الدموية , والفكر نتيجة انتظام الدماغ. فلو لم تنتظم الدورة
الدموية في أجسام روجربايكن والبرت كريسي وشورتز ما عرفت أوروبا البارود ولا قُتل بهِ الوف الجنود وملايين المحاربين. ولو لم تنتظم حركة القلب عند مخترع التلغراف اللاسلكي لما خلصت الباخرة كرباثيا النفوس التي انتشلتها من الباخرة تيتانيك كما أنه لو أصاب مخترعي السفن مرض ما , لما سارت السفن في البحار ولا غرقت الملايين فيها. وقس على ذلك. لاشيء يستطيع الخروج من دائرة النظام العلمي وهذا النظام هو قدر الأقدمين الفلسفي بعينه
أجل إن النواميس تظل ثابتة لاتتغير. الأجرام الكبيرة تسقط(3/184)
إلى الأرض بقوة الجاذبية , ولا تقدر أن تسبح في الجو ما لم يكن هناك من المواد الكيماوية ما يساعدها على معادلة ميزانيتها الطبيعية. شجرة التفّاح لا تستطيع أن تحمل عناقيد العنب , كما أن الدوالي لا تثمر موزاً , وكل ما في الكون مرتب محدود. يقول فولتر: قُدّر على الإنسان أن يكون له عددٌ محدود من الأسنان والشعر والأفكار؛ وقُدّر عليه أن يأتي يوم بهِ تسقط أسنانه , ويقع شعره , وتتلاشى أفكاره. ثم يتابع كلامه قائلاً: بعض البلهاء يقول: إن طبيبي البارع قد شفي عمتي من مرضها الخطر , وزاد في حياته عشر سنوات تقول , أيها الأبلة , أن طبيبك شفى عمتك من مرضها , ولكنهُ بفعله هذا , لم يغلب إرادة الطبيعية ولم يعاكسها بل اتّبعها. وقُدّر على عمتك أن تولد في هذه البلدة , وأن تمرض في يوم كذا بمرض كذا , وقُدِّر على عمتك أن تولد في هذه البلدة , وأن تدعوَه عمتك إليها , وأن يلّبي طلبها , وأن يعطيها العلاج الذي شفاها. هكذا شاءت الظروف الجارية بأحكام الناموس الأبدي الفلاّح الجاهل يظن أن الجوَّ أمطر حقله اتفاقاً ولكن الفيلسوف يعلم أن الصدفة اسم بلا مسمّى. وأنَّ التراكيب الجوّية أوجبت وقوع المطر على تلك البقعة في ذلك اليوم من الناس من تخفيهم هذه الحقائق فيقولون أن بعض ما في الكون ضروري , والبعض الآخر ليس إلاَّ حوادث وعوارض. وأنا أجيبهم أنهُ لمن المضحك أن يكون نصف الكون مرتّباً وتابعاً لنواميس(3/185)
ونظامات , وأن يكون النصف الآخر مهملاً. عند ما يتأمل المفكر ويبحث في دقايق هذا الموضوع يرى أن كل مبدأِ يخالف الإِقرار بالمقدَّر لهو مبدأ مستهجن لكن حُكم على بعض الناس أن يفهموا قليلاً , وعلى آخرين أن لا يفهموا مطلقاً , وعلى غيرهم أن ينتقدوا الذين يفهمون وأن يضطهدوهم
مي
خواطر
خلق الله العالم كله واستراح , وخلق الله الرجل واستراح أيضاً؛ ثم خلق المرأة ومذ ذاك لا استراح هو , ولا استراح الرجل
رأي أميركاني
لا طريقة لإيقاف تأثير الجرائد إلا في تكثير عددها؛ وأني لمتعجب كيف أن حقيقة راهنة كهذه لا تزال مجهولة
توكفيل
خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل
الإمام علي
أُحبُّ حرية الصحافة باعتبار ما تمنعهُ من المضارّ , أكثر مما أحبها باعتبار ما تجلبه من المنافع
سنت بري
إنما ينشئ الجريدة مشتركوها لا محرروها
جيراردين(3/186)
رسائل غرام
بين نساءٍ شهيرات ورجال عظام
الرسالة العاشرة
من فكتور هوغو إلى خطيبته أديل فوشه
فكتور هوغو أشهر من أن يعرَّف لأنه المجّلي في حلبة الشعر والإنشاء كما تشهد له بذلك مؤلفاته ورواياته التي بها مساوئ المجتمع العمراني بطريقة لم يسبقه إليها أحد. ومن أحسن ما نُشر له من آثاره الأدبية بعد موته مجموعة رسائله الغرامية التي كان يبعث بها إلى خطيبته أديل فوشه. وقد أخذنا منها الرسالة الآتية كتبها في ساعة يأس بلغه أن خطيبته ستقترن بغيره إطاعة لرغبة والديها في مثل هذه الأيام من السنة الماضية كنا نعدّ الأيام الباقية لنا من أمد الفراق. واليوم نعدّ الأيام الباقية لنا من حرية التراسل قبل أن تعتزلي إلى بيتكِ الجديد وتتكلفي المعيشة مع الرجل الذي قد اختاره لكِ والداكِ , وأني عالم أنهُ لا يحق لي أن أكاتبك فيما بعد , وإنما تشفع بي ذكرى غرامٍ لا تزال في النفس بقية باقية منهُ. فإن كنتُ أدعوكِ الآن رفيقة صباي فلأني لا أزال أُطرب لذكرى أيامنا الماضية وأحن إلى ربوع صبانا كما يحنّ الفطيم إلى أحصان أمه تلقّيت رسالتكِ الأخيرة مع بريد هذا الصباح فأحببت أن أُجيبكِ عنها قبل أن تنطوي آخر صفحةٍ من استقلالكِ فلا يعود يسوغ لكِ أن تبتسمي لغير زوجكِ أو تهتمي بغير مرضاته. وربما كانت هذه آخر(3/187)
رسالة مني إليكِ. فائذني لي ان أُخاطبكِ باللهجة التي اعتدتُ مخاطبتكِ بها قبل الآن. لأنك تقولين أن الحب الذي يضمّ قلبينا سيظل ثابتاً إلى الأبد , وإن إكراه أهلك إياكِ على الاقتران بغيري لا يمكن أن ينسيك حبنا القديم وعهد غرامنا المنصرم أراك من خلال رسالتكِ تكتمين عني هموماً ثقيلة الأعباء. فلماذا أنتِ حزينة يا أديل ولماذا تفسحين للهموم مجالاً في فؤادك المثقل بأعباء الغرام؟ إن كان الغد يروعك فإن لكِ من بعده موقفاً تنسين بهِ مواقف الأمس إذ تجدين من حب زوجكِ ما يلهيكِ عن ذكرى غرام فاض بهِ قلبك ردحاً من الدهر ثم انطوت صفحته وانطفأت شعلته , وحلَّ محلَّهُ حبٌ آخر ربما فَتحت لكِ السعادة من ورائهِ أحضاناً رحيبة لعلك تتهمينني بفتور في الحب. ولكن متى عرفتِ أن رسمكِ لا يبرح من مخيّلتي دقيقة واحدة وأن قلبي لا يزال يخفق كلما عَرَض لي ما يذكّرني بكِ , علمتِ أن اليمين التي
أقسمتها لكِ تحت تلك الصفصافة سأظلّ اردّدها حتى آخر نفس من الحياة. فافرحي ولا تحزني يا أديل. إن قلباً وقفته على حبّك لن ينفسح لغير رسمك الجميل. ومواقف حبنا هذه أرسخ من أن تعبث بها أيدي الزمان. سحابة وتنقشع يا أديل. فمتى انقشعت لا تعودين تذكرين من أيامنا هذه أكثر مما يذكر الشيخ من أيام طفولته. لأن واجبات الغد ستنسيك أحلام اليوم , ودآء الحب المستحكم فيكِ سيشفيهِ مرور الزمان. وما الذي يهمك غداً ولكِ من ثغور بنيكِ ما ينسيكِ ابتسامة حبيبٍ(3/188)
قديم، ومن محبة زوجكِ ما يفتح لكِ أبواب فردوسٍ كنت قد أغمضتِ عينيكِ عنهُ قبلاً لتتمتعي بأحلامٍ زائلة؟ فافرحي ولا تحزني لأنني أنا أيضاً أفرح متى رأيتكِ في سعادة وهناء. أرى الحياة مملّة يا أديل. لم أعد أطرب لشيءٍ فيها كما كنت أطرب لها من قبل. لأن الآمال التي كنت أتعلل بها في الأمس قد زالت فصرتُ أرى الحياة أشبه بدور هزلي يلعبه الإنسان في العالم ثم يفسح المجال لشقيّ آخر يجيء بعده. فما الذي يحبّبها إلينا ولا شيء يخلد فيها سوى الآمال؟ نعم إن الآمال كثيرة متشعبة , وأنعشها للنفس ما كان مبعثهُ القلب ومنشأه الحب. ولكن أية لذةٍ للحياة إذا انطوت صفحة تلك الآمال وحلّ محلّها اليأس وانتقلت النفس من حلمٍ هنيءٍ إلى يقظة رائعة. تقولين أنكِ عازمةٌ على الانقطاع عن العالم , والالتجاء إلى دير تقضين فيهِ البقية الباقية لكِ من الحياة. أفما يكفيكِ أن لكِ من قلبي ديراً ليس فيهِ سواك يا أديل؟ ألا يكفيكِ أنكِ تتحوّلين هنالك من عابدة إلى معبودة فتسمعين من مزامير الغرام وأناشيده ما يفتح لروحكِ الطاهرة فردوساً تتنعمين فيهِ؟ فإن خطرَت لكِ فيهِ العبادة فهنالك تجدينها على أسماها وإنما هي موجهة إليكِ عند مذبح الغرام. كنت البارحة في ملهى. . . وكانت عيناي شاخصتين كلَّ الوقت إلى المقصورة التي كنا فيها معاً لآخر مرّة. وكان فيها رجل ضخم الجثة وبرفقتهِ فتاة حسناء في مقتبل العمر وهما يقهقهان لنكات الممثلين ويصفقان لها طرباً. فقلت في نفسي هل هما سعيدان كما كنا في تلك(3/189)
المقصورة منذ أشهر خلت؟ وهل يمكن أن يبلغا من السعادة ما بلغناه منها في عهد غرامنا القصير؟ ما أطيب قلبك يا أديل! تطلبين مني أن أسامحك وأنتِ تعلمين التي لا أعرف لك سيئة غير ما أسأت بهِ إلى نفسك إذ أحببتني حباً مخلصاً كنت في غنى عنهُ. فحرامٌ عليكِ أن تستذبني نفسك الطاهرة وتنسبي إليها ما هي بريئة منهُ. وإن كانت سيئات البشر كلها من قبيل ما تستذنبين بهِ نفسك فما أقدسها ذنوباً
تفتح لمرتكبيها أحضان الآلهة , وتبلغ بهم إلى نعيم تجري من تحتهِ الأنهار. أأنتِ تذنبين يا أديل؟ إذاً من بعدك لا يخطئ في العالم؟ ولمن تبقى أبواب السماء مفتوحة إن هي أُوصدت في وجوه الملائكة؟ لي حاجةٌ إليكِ يا أديل وهي أن تسمحي لي بحفظ صورتك التي أهديتها إليَّ في عيد ميلادكِ الفائت فإنها التعزية الوحيدة الباقية لي بعد مأساتنا هذه. فإِن أنكرتها عليَّ فليس لي إلاَّ أن أُعيدها إليكِ. ولكن ثقي أنك سواء استرجعتها مني أو لم تسترجعيها فإنَّ رسمكِ منقوش في قلبي ولن يمحوه مرور الأيام أو كرور الأعوام. سلام إلى حين اللقاء وراء مرسحنا الفاني. سلام يحمله إليكِ النسيم في اليقظة , والملائكة في الحلم
بقلم سليم عبد الأحد
فكتور(3/190)
لقمان الدويبات
قال أرسطو طاليس يُرى على نهر هيبانيس دويبات لا تعيش إلاَّ يوماً واحداً , فالتي تقضي نحبها في الساعة الثامنة من الصباح تُحتضر , والتي تطوي أيامها في الساعة الخامسة من المساء تموت هرماً. وقف أحد كتَّاب الإفرنج على هذا القول الذي نقله شيشرون , فكتب فصلاً يتدفق زلاله حكمةً رائعة , فجاريناه فيهِ فوضعنا هذه الأسطر التالية: لنفرض أنَّ ذكراً من ذكور هذه الدويبات الهيبانية عمَّر نهاراً واحداً لمتانة بنيهِ , واندماج خلقهِ , وتوثيق آرابه , أي أنهُ وُلد مع انبثاق الفجر؛ ثم قضى عمره عاملاً بنشاطً وهمة وكدٍّ وجدٍّ مدة الثواني العديدة(3/191)
التي تنشأ منها الساعات العشر أو الإثنتا عشرة وهي مدة عمره الطويل. ما عاش هذه الساعات الطوال إلاَّ وقد حنكته التجارب , وعجم عود الزمان , وغمز قناته , فقام بين أخوته وأخواته خطيباً مصقعاً , ذرب اللسان , بليل الريق , جزل الخطاب , قوي العارضة , تخلب أقواله كل سامع. كيف لا يكون كذلك وقد ركِبَ من الأمور أكتافها , واقتعد ظهور المكاره , وحلب الدهر أشطره فأصبح طويل الفكرة , دائم التدُّبر , ولذا لا تعجب إذا قلتُ لك أنهُ غدا لقمان أوانهِ , وسبحان زمانهِ , وسليمان عصره , وقسَّ دهره أجل أنهُ لكذلك لاسيما وقد رأى أنداده ولدَاتهِ , قد اخترمتهم المنية عند الظهر , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت نجاة سعيدة من مساوئ الشيخوخة , التي كانت تحلُّ بهم لو كانوا بلغوا مداها. ولهذا يحقّ لهذا الشيخ الجليل , لقمان هذه الدويبات أن يقصّ على أحفاده الأخبار المتواترة التي تروي أموراً كلها عجائب وغرائب لم تدر في خلد أصحاب التواريخ المدوَّنة. وعليهِ , جمعهم ذات يوم , وهم كلهم أقوام من جنسهِ , في مقتبل الشباب , وغض الأهاب , عمرهم ساعة. ثم قال لهم: هلمَّ أيها الشبان اسمعوا وعُوا. . . وما قال هذه الكليمات إلاَّ ورأيتهم جميعهم آذاناً صاغية , وقلوباً واعية. ثم أخذ يتكلم وهو يتحدَّر السيل , ويتدفق تدفق اليعبوب , كأنَّ الله فجَّر ينابيع الحكمة على لسانهِ , وأراه الغيب من وراء ستر رقيق شفاف. أما الجلاَّس فكانوا يطربون بغُرَر تلك الأقوال ,(3/192)
ويثملون بارتشاف سلاَف الحِكم التي تزري بالدرر الغوال. وكل ما كان يرويهِ عليهم كانوا يقضون منهُ
العجب العجَاب , ويطيبون لهُ نفساً , ويودّون أن يسمعوه مدى الأحقاب على أن سماعهم إياه إلى المساء ليس بقليل؛ فهو عندهم بمنزلة أعوامٍ , بل قرون. إذ الغروب عندهم من قَبيل عصر من أعظم عصور الخلق إذا بلغوه. ولنفرض الآن , إن هذه الدويبة الذكر - لقمان ذاك الأوان على نهر هيبانيس - أزمع على الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الدنية , لأنهُ أحسّ بدنو أجله لميل شمس النهار إلى المغيب. فجمع جميع أولاده وأحفاده من صلبهِ ولفيف أصدقائهِ ومعارفهِ ليودّعهم وداع الفراق , ويوصيهم وصايا الأخيرة. فاحتشد جميعهم تحت ظل فُطرَةٍ ظليل. فأخذ الشيخ الجليل المحتضر يقول: يا أصدقائي ووطنييَّ , إني أشعر بأن لا بدَّ من نهاية هذه الحياة , لأنهُ كان لها بداءَة. ولقد حان أجلي , وقربت ساعة وفاتي , ولست متأسّفاً على زوال أيامي , وتصرُّم حبل حياتي. فلقد أصبح طول عمري عبئاً ثقيلاً على كاهلي , ولم يبقَ لي في هذه الدنيا ما يُطيّب لي فيها مرارة سُؤر رمقي. هذه الفتن والمحن وضروب النكبات أتلفت دياري , وكثرة البلايا والرزايا أمالت قناتي , وتتالي الأمراض والأدواء التي تحلّ بقومنا استفرغت قواي , وتعاقب المصائب والنوائب التي ألمَّت بأهل بيتي استنفد الدماء الباقي من حياتي. كل هذا , إذا ضُمَّ إلى ما رأيتهُ واختبرتهُ بنفسي(3/193)
في حياتي هذه الطويلة , تتحققون أن الزمان علمني هذه الحقيقة الثابتة الأركان وهي: ليس قارَّة دائمة على هذه الأرض ولا بإرادتنا , ولاسيما إذا كانت تلك السعادة منوطة بأمور ليست بأيدينا ولا بإرادتنا , بل بمشيئة عنايةٍ غامضة. فلقد رأيتُ طائفة من أقوامنا ماتوا عند هبوب ريح صرصر؛ وشاهدت جماعةً من شبيبتنا المتهوّرة قد غرقت في طحمة سيل جارف؛ وكنت يوماً ممن حضر فرأى مطراً مدراراً أحث طوفاناً عرمرماً اكتسح زرافات زرافت من أبناء وطننا العزيز؛ ولقد تحطمت ديارنا ذات يومٍ كل محطَّم بعد أن سقط بَرَد هائل القدر أمات ربواتٍ وربواتٍ من أخوتنا المظلومين. وزيدوا على ذلك أن قوماً منَّا إذا رأوا سحابةً سوداء قالوا في أنفسهم: إن هذه إلاَّ سحابة قوم عاد إني لقد عشَت في عصور الخلق الأولى , في زمان الفطحل؛ وحادثتُ جماعةً عظيمة من الدويبات كنَّ أطول مني قامة؛ بل كنتُ بجانبهنَّ كأحد بني ياجوج وماجوج , بجنب واحدٍ من بني عُوْج كنَّ ذوات بنيةٍ أقوى من بنيتي , وذوات حكمةٍ تزري بحكمة سليمان. ولهذا اعلموا , يا سادتي , إن كل ما أنطق وأتفوَّه بهِ , لا يشوبهُ ريب , ولا يخامره شك. وليس
في نيتي أن أخدع واحداً منكم يا قومي , صدّقوا كل ما أقوله لكم , وتأكَّدوا أن الشمس التي ترونها الآن متسترة وراء المياه , ويخيَّل إلينا أنها غير بعيدة عن الأرض , رأيتها سابقاً قد تكبّدت السماء , قاذفةً سهام أشعتها مصوّبةً إياها علينا؛ وكانت الأرض في ذلك العهد العهيد سابحةً في سبحات وجه الله , أكثر(3/194)
مما هي عليهِ في هذه العصور المتأخرة؛ وكان الهواء أجف من هذا السكاك , وأحرَّ منهُ؛ وكان أجدادنا الفضلاء أصحاب جدٍّ وكدٍّ وجلَد وقناعة سامية يا قومي , إن حواسّي وإن كان قد فلَّ غربها , وكلَّت شباة ذاكرتي , إلاَّ أني أؤكد لكم أن هذا النجم المتلألئ المجيد , يتحرَّك ويسير. ولقد رأيتُ بزوغهُ الأول من ورآه قمة هذا الطود الباذخ , ونشأتُ في الوقت الذي أخذ يرتفع رويداً رويداً على الأفق , ويخطو بعد ذلك في السماء خطوات جبَّارٍ عنيد من أعظم الجبابرة قوةً وحولاً وطولاً وهولاً. ولقد تقدَّم في السماء تقدُّماً حثيثاً مدة إعصار متطاولة متتالية , وهو يقذف حرارةً غريبة , وأنواراً عجيبة , لا يمكنكم أبداً أن تتصورها , إن لم تروها بعيونكم؛ بل ما كان يمكنكم أن تحتملوا أمريهِ الأمرين أما الآن , وقد قارب الأُفول , وإن يوارى في قبور المياه , أرى أن أفراد هذه الأمة كلها سائرة , بل صائرة إلى الزوال والاضمحلال الوشيك , وتسجَّى هذه الدنيا الغرور بأكفان الظلمات , في أقلّ من مائة من الدقائق واحرَباه! يا أصدقائي , واحرباه! ما أعظم ما كان غروري في سابق العهد , في عنفوان شبابي , وغضاضة إهابي! كنتُ إخالني من الخالدين المقيمين في هذه الأرض! وإن ليس من شيءٍ في هذه الدنيا يستطيع أن يتغلّب عليَّ , ويُفنى جواهر بدني , وعناصره المتركب منها! وكنت إذا نظرت إلى مساكني التي كنت قد نحتّها في الصلصال(3/195)
العَلك , كنت أقول: وهل يموت من يقيم في مثل هذه المباني المحكمة البنيان , التي لم يشيّد مثلها سليمان , ولا الإنس ولا الجان! فما أشدَّ ما كانت ثقتي بنفسي , وطمعي بهذه الحياة , وبقوة أعضائي , وبتراكيب مفاصلي ومواصلي , وقوة أجنحتي!!! كل ذلك أصبح كأن لم يكن , لقد عشت للطبيعة وللمجد , لقد عشت لنفسي ولمنفعتي. لقد عشت ولم استفد فائدةً تذكر لآخرتي , لقد عشت في دار الفرار ولم اتخذ عملاً فيهِ الثواب لدار القرار. ولقد أحسن من قال:
يا صاحبي أن الزما ... نَ كما علمت وما علمتُهْ
يفني الذي جمَّعتُه ... بيدي ويحصد ما زرعتهُْ
ويخون مَن صافيتُهُ ... عمداً ويعشق مَن مقتُّهْ
وجهلتُهُ فحمدتهُ ... وذممتهُ لمَّا عرفتُهْ
ولطالما عاتبتهُ ... حتى على رغمٍ تركتًهْ
ساتسنا
المودَّة
المودة بين الأخيار سريع اتصالها , بطيءٌ انقطاعها. ومثَلُ ذلك كمثَل كوب الذهب , هو بطيء الانكسار , هيّن الإصلاح. والمودَّة بين الأشرار سريع انقطاعها , بطيء اتصالها , كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث , ثم لا وصل له أبداً. والكريم يمنح مودَّته عن لقيةٍ واحدة , أو معرفة يوم؛ واللئيم لا يصلُ أحداً إلا عن رغبة أو رهبة
(ابن المقفع)(3/196)
في رياض الشعر
حنين إلى لبنان
برح عزتلو داود بك عمُّون القطر المصري إلى باريس للسعي في خدمة جبل لبنان. وقد عثرنا بين أوراقه على الأبيات الآتية فأحببنا أن ننشرها بمناسبة ذلك السعي , وهي تنمُّ على ما في نفس الشاعر من الحب لوطنه والحنين إليه , ولبنان - وهو سويسرا الشرق كما يسمّونه - ما فتئَ منذ القِدَم حتى اليوم موحى الشعر وملهَم البيان. قال:
هاج أشواقي إلى الدّمَنِ ... طائرٌ غنَّى على فننِ
ايهِ يا قمريُّ أنَّ بنا ... فوق ما يبكيكَ من شجَنِ
ولو أن الدمع منطلقٌ ... لهمي كالعارض الهتنِ
إنما بالرُّغم أحبسهُ ... خشية التلوام واللسنِ
حبذا المصطاف في جبلٍ ... ينطحُ الجوزاَء بالقننِ
موئل الأحرار من قدمٍ ... وأباةِ الضيم من زمنِ
ليس لبنانٌ لمكتسحٍ ... بضعيف العزم ممتهنِ
سل ملوك الروم كيف غدا ... عرشهم مستوهن الركنِ
علَّم الأهلون جيشهمُ ... فنّ نظم النحر باللدِنِ
فبنو لبنان أسد وغًى ... أُطلقت فيهم يدُ المحنِ
واختلاف الدين أورثهم ... عِلل الأحقاد والإحَنِ
لبتَ ذا عزمٍ يضمهمُ ... ضمة الأعضاء في البدنِ(3/197)
فيعيدوا السابقات من المج ... دِ والعلياء للوطنِ
يا بني أمّي إذا حضرت ... ساعتي والطبُّ أسلمني
اجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخدّوا من ثلجه كفني
داود عمون
جرى في دمعهِ دمهُ
به سحرٌ يتيّمهُ ... كلا جفنيك يعلمهُ
هما كادا لمهجته ... ومنك الكيد معظمهُ
تعذّبهُ بسحرهما ... وتوجدُهُ وتُعدمهُ
فلا هاروتَ رقَّ لهُ ... ولا ماروت يرحمهُ
وتظلمهُ فلا يشكو ... إلى من ليس يظلمهُ
أسرَّ فمات كتماناً ... وباح فخانهُ فمهُ
فويح المدنف المعمو ... د حتى البثُ يُحرَمهُ
طويل الليل ترحمهُ ... هواتفهُ وأنجمهُ
إذا جدَّ الغرام بهِ ... جرى في دمعهِ دمُهُ
يكاد لعهده أبداً ... بعادي السقم يسقمهُ
ثني الأعناقَ عوَّدُهُ ... وألقى العذرَ لومهُ
قضى عشقاً سوى رمق ... إليك غداً يُقدّمهُ
عسى أن قيل مات هوى ... تقول اللهُ يرحمهُ
فتحيا في مراقدها ... بلفظٍ منك أعظمهُ
شوقي(3/198)
وداع وشكوى
جاءتنا القصيدة التالية من الولايات المتحدة وقد قالها شاعرها مودعاً بلاد الشرق شاكياً متألماً , ومستقبلاً العالم الجديد باسماً مؤملاً. والشاعر قد عرَّفتهُ الزهور إلى قرَّائها (س2: ج4: ص214) قال بعد مقدمةٍ وجيزة:
ولقد ركبتُ البحرَ يزأر هائجاً ... كالليث فارق شبله بل أحنقا
والنفسُ جازعةٌ ولستُ ألومُها ... فالبحر أعظم ما يُخاف ويُتقي
فلقد شهدتُ بهِ حكيماً عاقلاً ... ولقد رأيتُ بهِ جهولاً أخرقا
مستوفزٌ ما شاَء أن يلهو بنا ... مترفقٌ ما شاء أن يترفقا
متحفزٌ وكأنهُ متوقعٌ ... تحتَ الظلام سفينةَ أو زورقا
تتنازع الأمواج فيهِ بعضها ... بعضاً على جهلٍ تنازُعَنا البقا
بينا يراها الطرفُ سُوراُ قائماً ... فإذا بها حالت فصارت خندقا
(نويُوركَ) ياذات البخار بنا أقصدي ... فلعلنا بالغرب ننسى المشرِقا
وطنٌ أردناه على حبِّ العلى ... فأبى سوى أن يستكين إلى الشقا
كالعبد يخشى - بعدما أفنى الصبى ... يلهو بهِ ساداته - إن يُعتقا
أو كلما جاد الزمان بمصلحٍ ... في أهله قالوا طغى وتزندقا
فكأنما لم يكفهِ ما قد جَنوا ... وكأنما لم يكفهم أن بنيها مَوثقا
ما إن رأيتُ بهِ أديباً موسراً ... فيما رأيتُ ولا جهولا مملقا
مشتِ الجهالة فيهِ نسحب ذيلَها ... تيهاً وراح العلمُ يمشي مطرِقا
أمسى وأمسى أهله في حالةٍ ... لو أنها تعرو الجماد لأشفقنا(3/199)
شعبٌ كما شاء التخاذل والهوى ... متفرقٌ ويكاد أن يتمزقا
مستضعفٌ إن لم يُصب متملقاً ... يوماً تملَّق إن يُرى متملقا
لا يرتضي دين الاله موفّقاً ... بين القلوب ويرتضيهِ مفرِّقا
لم يعتقد بالعلم وهو حقائق ... لكنهُ اعتقد العزائم والرقى
ولربما كرهَ الجمود وإنما ... صعبٌ على الإنسان أن يتخلقا
وعصابةٍ ما إن تُزحزح أحمقاً ... عن رأسها حتى توّلي أحمقا
راحت تناصبنا العداَء كأنما ... جئنا فرياً أو ركبنا موبقا
بينا الأجانب يعبثون بها كما ... عبثَ الصبا سحراً بأغصان النقا
بغداد في خطر ومصر رهينة ... وغداً تنال يد المطامع جلَّقا
قيل اعشقوها قلتُ لم تسلم لنا ... معَها قلوبٌ كي نُحبَّ ونَعشقا
إن لم تكن ذاتُ البنينِ شفيقة ... هيهات تلقى من بينها مشفقا
أصبحتُ حيثُ لا تخشى أذًى ... أبداً وحيثُ الفكرُ يغدو مُطلقا
نفسي اخلدي ودعي الحنين فإنما ... جهلٌ بُعيدَ اليوم أن نتشوقا
هذي هي الدنيا الجديدة فانظري ... فيها ضياَء العلم كيف تألقا
إني ضمنتُ لكِ الحياة شهيةً ... في أهلها والعيش أزهر مونقا
(سنسناتي أوهايو)
إيليا ظاهر أبو ماضي
دموع الحبيب
دموعكَ صنها أو فغال بمثلها ... من الدُرِّ إلاَّ عن صوانٍ من الحبِّ
فإن تغلب الأشجان قلبك مرِّةً ... على أمرهِ فاذرفْ دموعكَ في قلبي
خليل مطران(3/200)
كرامة المرأة
يا ربَّنا أجِرِ العذارى ... من كيدِ مَن خلَع العِذارا
أجرِ الحسان الساذجا ... تِ ونجِّ الأحداثَ الصغارا
من كلّ فظٍّ في السما ... جة والوقاحةِ لا يباري
سكران سكَر جهالةٍ ... ولربما شرب العقارا
ألِفَ القبيح فما يُبا ... لي أن يجرَّ عليهِ عارا
يمشي ويثني عطفَهُ ... وكأنَّ في عينيهِ نارا
أو يغتدي متقلداً ... خُلُقاً ووجهاً مستعارا
وإذا رأى منهنَّ وا ... حدة تبسَّم أو أشارا
أو راح يتبعُها ويأ ... ملُ أن يزور وأن تزارا
حتى يطوفَ ببيتها ... ليلاً ويرصده نهارا
ما أوفرَ العثراتِ لل ... غاداتِ وُقّيت العثارا
من كل سافرة تودُّ ... لو أنها اتخذتْ ستارا
كي لا ترى سافرة ثقلاء ين ... عنهمُ الطرفُ احتقارا
وخريدة لولا الخما ... رُ حياؤها كان الخمارا
تمضي لحاجتها ولا ... ترنو يميناً أو يساراً
لا سمعَ تلقيهِ إلى ... ما قيل سرًّا أو جهارا
هي واللواتي مثلها ... يفعلنَ ذاك ولا فَخارا
يحسَبْنَ تطرئه الوجو ... هـ على محاسنها شنارا
أولاءِ ربَّات الفضا ... ئل قد رفعنَ لها منارا(3/201)
لكن من الغادات مَن ... لا اسما يَصُنَّ ولا إزارا
أولعنَ بالأساق فه ... ي لهنَّ ما برحتْ مزارا
يمشينَ فيها لا حيا ... َء ولا احتشامَ ولا وقارا
متأوداتٍ كالقنا ... مترنّحاتٍ كالسكارى
يُبرزنَ أجياداً كأج ... ياد الظباء ولا نفارا
وترائباً لصقَ المش ... دُّ بجانبيها واستدارا
أو يرتدنَ ملابساً ... شفَّافة عما توارى
ويُجلنَ في من حوله ... نَّ لو احظاً ترنو حيارى
خلاَّبةَ في قلب عا ... شقهنَّ يُضرمنَ الأوارا
ولقد يكنَّ عقائلا ... يُولين ذا الجهلَ اغترارا
أشكالهن المصيبا ... تُ تثير في النفس المثارا
تُغري بهنَّ المستها ... مَ فؤادُهُ والمستطارا
يامن تليقُ بها الكرا ... مة حاذري ذاك الصَّغارا
صوني جمالاً طالما ... أولاكِ تيهاً وافتخارا
لا كان حسنٌ فيكِ لم ... يكن العفاف له شعارا
نقولا رزق الله
أنين القوس
عجباً تلومُ على الجوى دَنِفاً ... أضناهُ بُعدُ حبيبهِ غمَّا
فالقوسُ لا قلبٌ ولا كبدٌ ... وتئنُّ عند فراقها السَّهما
وليم غرزوزي(3/202)
نقيب الأشراف
وشيخ مشايخ الطرق
نشرنا في الزهور (س3: ج2: ص90) صورة سعادة السيد علي يوسف بمناسبة إسناد منصب مشيخة السادة الوفائية إليهِ. وذكرنا أن سمو الجناب العالي قد ولَّى سماحة السيد عبد الحميد أفندي البكري منصب نقابة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية؛ ولكننا لم نتمكن من نشر صورة فضيلتهِ لأننا لم نظفر بها يومئذ(3/203)
السيّد عبد الحميد هو نجل نقيب الأشراف المغفور له السيد عبد الباقي البكري يتتوَّجُ بالشرف النبويّ من جهة سيدنا الحسن رضي الله عنه ويقبض بيمناه النسب الأسمى الصدّيقي , ويسراه على النسب العُمَري الفاروقي؛ فالشرف محيطٌ بهِ من سائر الأطراف , متدلٍّ عليهِ من جميع الأكناف وُلد سماحتهُ سنة 1293هـ وتلقّى عن جماعةٍ من الفضلاء , فأخذ اللغة عن العلاّمة الشيخ محمد محمود الشنقيطي حتى برع فيها؛ وتلقّى النحو والفقه وسائر العلوم على الشيخ حسن السقَّا خطيب الأزهر؛ وتعلَّم اللغة الفرنسوية فقرأ بها الكتب الرئيسة في علم التاريخ وفلسفته وعلوم العمران حتى أصبح له في كلّ منها ملكةٌ عالية وقد رأينا أن نذكر شيئاً عن هذين المنصبين الساميين اللذين أُسندا إلى سماحتهِ لما في ذلك من الفائدة
مشيخة المشايخ الصوفية
مشيخة الطرق الصوفية من المناصب الدينية التي حدثت بع حدوث الصوفية. ولصاحبها التكلم على جميع الطرق. والشأن في هذه الطرق أن لكل طريقة شيخاً ولكل شيخ خلفاء في القرى والأمصار ولكل خليفة مريدين. فالشيخ يدير أمر الخلفاء والخلفاء , أمر المريدين من حيث إرشادهم ومراقبتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتربيتهم(3/204)
ونحو ذلك. ولشيخ المشايخ الولاية العامة على الجميع. ولم يكن للصوفية مشيخة عامة ترجع إليها أعمالهم وتتوحّد بها مقاصدهم بل كانت كل طريقة أو زاوية مستقلة بنفسها فكانت الفتن تكثر بسبب ذلك. فلما أنشأ السلطان صلاح الدين الأيوبي خانقاه سعيد السعداء وسماها دويرة الصوفية جعل لشيخها شبه تقدّم على غيره من المشايخ وكان لا يولّي عليها إلاَّ أعاظم رجال الدولة من الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ بن حموية مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش: ووليها ذو الرئاستين الوزير الصاحب تقي الدين عبد
الرحمن بن بنت الأعز وغيره. وما زالت الحال كذلك إلى أن توجّدت رئاسة الصوفية بمصر في القرن التاسع للهجرة فجعلت الولاية فيها للسيد محمد شمس الدين البكري وكان من أعظم رجال عصره علماً وديناً. قال الشعراني عنهُ (ولو قلت أنهُ أعلم أهل زمانه لم أبعد عن الصواب) ثم تولّى بعده ابنه الإمام شيخ الإسلام العلاَّمة الشهير أبو السرور والبكري وانتقلت بعده إلى ذريته ولا تزال إلى الآن في البيت البكري الصديقي بمصر
نقابة الأشراف
الشرف هو بمعنى الرفعة. وكان يطلق في الجاهلية على عظماء العرب. فلما جاء الإسلام خصَّه بيوتات قريش. وجعلهم أكفاء في النسب وما عداهم ليس بكفؤ لهم. ومن هذه البيوتات بيت هاشم وجاء الإسلام(3/205)
ورئيسه العباس بن عبد المطلب. وبيت تيم بن مرة وجاء الإسلام ورئيسه أبو بكر وبيت عدي وجاء الإسلام ورئيسه عمر هكذا. قال الفرزدق في هذا المعنى:
ما حملت ناقة من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفتني على الكورِ
حاشا قريشاً فإن الله فضَّلهم ... على البرية بالإحسان والخير
ولهذا نجد في كتب التاريخ والدروج القديمة فلاناً الشريف العباسي وفلاناً الشريف العلويّ ونحو ذلك. وأما حصر الشرف في ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما فهو بدعة حصلت في زمن الخلفاء الفاطمين. قال الإمام ابن الحاج وتخصيص الشرف بذرية السبطين ليس بشرعي اهـ وقد حرص القوم منذ الصدر الأول على حفظ أنساب تلك البيوتات فأحدثوا وظيفة نقابة الأشراف. وهي وظيفة عامة تشمل التكلم والنظر في أنساب جميع الأشراف من أهل تلك البيوتات. وربما كان تحت إدارتها عند تكاثر ذرية بعض الروع نقابات أخرى فرعية كنقابة الطالبيين ونقابة العباسيين ونحوهم أما مركز هذه الوظيفة فكان من الرفعة والجلالة في المكان المكين. وهذا الشريف الرضي نقيب بغداد يخاطب الخليفة بقوله:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرُّقُ
ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً كلانا في المعالي مُعرقُ
إلاَّ الخلافة ميَّزتكَ فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوَّقُ
ولا يزال نقيب الأشراف في الدولة العلية يقدَّم في التشريفات(3/206)
الرسمية على جميع رجال الدولة حتى الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. ولم تزل هذه الوظيفة في البيت البكري من القرن الثاني عشر إلى الآن لم تخرج منه إلا بريهات يسيرة وأول من تولاها من رجاله السيد محمد أفندي البكري
تربية الطفل
أوقات الرضاعة
يرضع الطفل في أوقات منتظمة بعد اليوم الثاني أو الثالث , وإذا كان نائماً يوقظ بلطف متى جاءَ وقت الرضاعة. ولا يمضي إلا القليل من الوقت حتى يتعود الطفل أن يستيقظ من تلقاء نفسه وقت الرضاعة , وينام بعدها. فإذا رضع الطفل في أوقات منتظمة نما النموَّ الاعتيادي , وحسنت صحته. وأما إرضاع الطفل بغير انتظام , وكلما بكى , فتلك طريقة رديئة تلبّكُ معدته فتفسد صحته. فإذا بكى الطفل , أو لم ينم وهو في مهده , وجب على الأم أن تلاطفه قليلا وأن تتحقق من بكاءه ليس بناشئ عن ألم أو قلق أو غير ذلك , فيهدأ ويرقد مطمئناً. يرضع الطفل , بعد اليوم الثالث , مرة كل ساعتين أثناء النهار , ومرتين أثناء الليل في المواعيد التالية: الساعة 5 و7 و9 و11صباحاً؛ و1 و3 و5 و7 و10 مساء والساعة 1. 30 صباحاً. وتراعى هذه المواعيد حتى يبلغ الطفل الأسبوع السادس. ووقتئذ يمكن تطويل الفترات بين(3/207)
الرضعتين حتى تصير الفترة ساعتين ونصفاًُ , وبذلك غذاءَ أكثر مما يحتاج إليهِ , فلا ترتيبك المعدة ولا يعسر الهضم. ولما كان لبن الأم يكثر في الثدي إلى الشهر السابع أو العاشر وجب الاحتراس من إتخام الطفل بكثرة الرضاعة. وبعض الأطفال ينام من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً ومثل هؤلاء الأطفال لا يلزم إزعاجهم إذا حسنت صحتهم وكان وزنهم مناسباً لعمرهم. ويحتاج الطفل عند بلوغه الشهر الثالث إلى 8 رضعات في كل 24 ساعة , ويكفي البعض 7 رضعات , ومتى بلغ الشهر السادس يُرضع سبع مرات. ولحالة الطفل الصحيحة وكمية لبن الأم ونوعه شأن كبير في تنظيم أوقات الرضاعة. غير أننا نقول بوجه عام أنهُ يجب في الأشهر الأولى تكثير عدد الرضعات وتقليل كمية الرضاعة , وكلما تقدم الطفل في العمر يُقلل عدد الرضعات وتزداد كمية الرضاعة أعظم راحة للوالدة وأكبر فائدة للمولد. فإنهُ إذا تعوَّد أخذ غذائهِ في أوقات مقررة لا يعود يشغل والدته في كل ساعة من النهار ويؤرّقها في كل فترة من الليل فيحرمها الراحة ويصرفها عن كل عمل , بل يصير يكتفي بالمواعيد المخصصة له ويسهل على معدته القيام بوظيفتها. فلتراعِ الأمهات هذه القواعد يجدنَ راحة لهنَّ وفائدة لأولدهنَّ.(3/208)
الأُم وطفلها
كما أن الطفل قد استمدَّ حياته قبل ولادته من أُمه , فهو كذل يستمدُّها منها بعد ولادته إلى أن تنبت أسنانه؛ ولذلك يحسن أن تُرضع الأم طفلها بنفسها إذا استطاعت؛ ولا تتوهم الوالدات أن الرضاعة تضعفهنَّ بل هي بالعكس تزيدهنَّ صحةً ونشاطاً , ما لم يجهدنَ أنفسهنَّ في أعمال أخرى.
تأثير الغذاء والشرب والدراء في لبن الأم
يظن البعض أن الأم يمكنها أن تتناول أي صنف من أصناف الغذاء , وأن تأكل منهُ ما شاءَت دون ضرر على الطفل. ذلك رأي فاسد لأن اللبن من الدم , والدم من الغذاء والشرب , فهو يتنوّع باختلاف الغذاء. ولا يخفي كيف يكون لبن البقر حلو الطعم لذيذاً إذا اقتصر غذاؤها على البرسيم والتبن؛ وبالعكس فاللبن يكون رديئاً إذا أكلت من البصل والحشائش المختلفة. وكم تقاسي الأطفال من الأمراض الجلدية وخلافها إذا لم تحتط الأمهات اللائي يرضعنَ أولادهنَّ في غذائهنَّ. ولذا يلزم أن يكون غذاء الأم كافياً وجيداً خالياً من الخضروات والبقول التي تنفرز مع اللبن , فتغيّر طعمه وينفر منه الطفل كالجزر والبصل والجرجير والثوم والخرشوف. كما يلزم أن يكون خالياً من الفواكه غير الناضجة والتوت البدي والإفرنجي (الفريز) لأن هذه الأشياء قد تحدث مغصاً عند الطفل
الدكتور محمد عبد الحميد(3/209)
مصر وسوريا
إنهُ ليلَذُّ لنا كلما سنحت الفرصة أن نجمع بين هذين الاسمين العزيزين , ونذكرهما متدّحين في كل مكرمة ومأثرة. وقد عرف القراء مساعي الزهور المتواصلة في هذا السبيل , واطَّلعوا على كتابتها الكثيرة في هذا الموضوع. وإنهُ ليروقنا وإيم الحق أن نرى في هذه الأيام الفرَص سانحة للشدو بما نشاهدها من إحكام روابط الإِخاء الأدبي بين القطرين الشقيقين , والتغنّي بما نراه من التضامن بينهما. إن مثل هذا التضامن يظهر عادة بأبهى مظاهره إبّان النوائب والمحن. وقد كان لنا برهانٌ حسبيٌّ على ذلك في هذه السنة , حيث توالت النكبات على سوريا , فهبَّتْ شقيقتها مصر هبّةً واحدة تعطف عليها , وتسكب بلسم التعزية والحنان على جراحاتها. أدمت قنابل الطليان قلب بيروت , فحرّكت المروءة والإنسانية قلب الأمير النبيل محمد علي باشا , شقيق الجناب العالي , فألّف تحت رئاستهِ لجنةً من سراة مصر وأعيانها , فأقاموا في الأوبّرا تلك الحفلة الشائقة التي تُعدّ أجمل صفحةٍ في تاريخ علائق القطرين , فتجلى فيها الكرم المصري بأشرف مجاليه , وإنهال الذهب مدراراً لمؤساة المصابين. وقد خلّدت الزهور ذكر تلك الليلة البيضاء في الكُتيّب الذي أصدرته خصيصاً لهذا الموضوع فقلنا حينئذٍ: ليس لمستزيدٍ من مزيد!. وكان بعد ذلك أن نُكِبَت دمشق بحريقها الهائل , وأصابها من الخسائر ما جعل الناس يحجمون في بداية الأمر عن استنداء الأكفّ للتعويض , إذ ما عسى أن تعوّض المئات والألوف عن الملايين. ثم كتب كاتب مجهول على صفحات الجرائد يقول: كنا نودّ أن نعرف مصراً ثانية تعطف على دمشق عطف مصر على بيروت. . . فكبر مثل هذا القول على مصر , وأبتْ أن يكون هتاك مصر ثانية تُباريها في المكرمات , أو أن يكون يَدٌ تسبقُ يدها في تضميد جراح شقيقتها فهبّت لمساعدة دمشق , هبَّتها لمساعدة بيروت , وقام مقام الأمير محمد علي الموجود الآن في أميركا , أميرُ آخر من الأسرة العلويّة , فالتفّت حولهُ لجنةٌ جديدة(3/210)
من أكابر المصريين لإحياء أربع ليالٍ ينفق ريعها على المصابين من الدمشقيين فلم نتمالك لدى هذا المشهد من ترديد قول القائل:
نجومُ سماءِ كلما غاب كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبُهْ
وما الأمير الجديد إلاّ دولة البرنس عمر باشا طومسون الذي عدّ نفسه سعيداً في انتهاز هذه الفرصة لخدمة الإنسانية كما قال في التلغراف الذي أرسله من الإسكندرية لسغادتلو سليم
بك أيوب ثابت. فهكذا يكون التلطّف بعمل البرّ. وقد طلب إلينا كثيرون من قرَّائنا السوريين أن نزيدهم معرفة بهؤلاء السراة الأماثل بنشر صوَرهم. وهذا واجب فطنّا له يوم زينّا الزهور بصورة دولة رئيس اللجنة. ولكن حال دون رغبتنا تمنّع الكريم عن التباهي بعمله ولو عظيماً.(3/211)
على أننا ما زلنا بذلك حتى فزنا ببعض المرام. فمن أعضاء هذه اللجنة الكريمة صاحب السعادة عزيز باشا عزَّت , زكيل نظارة الخارجية سابقاً؛ وهو من أهل البيوتات , وله المجد المؤثّل والجاه العريض , وصلة قربى بالأسرة المالكة في وادي النيل. وقد زان ذلك المجد التالد بأخلاق غُرٍّ ومناقب عالية تسْتميل إليه كلِّ من جلسه؛ فهو ممن يصدق ما يُعبّر عنهُ لانكليز بلفظة جنتامن أما سعادة محمود باشا رياض فهو سليل أسرة رفيعة الدعائم وفرع دوحة ليس في أرض النيل من لا يعرفها ويعرف ما لها على مصر من الآثار الطيبات؛ ونعني بها أسرة الوزير الخطير ساكن الجنان رياض باشا صاحب المواقف المشهورة في تاريخ(3/212)
السياسة المصرية. وقد تقلَّب صاحب هذا الرسم في عدَّة مناصب سامية لم يترك أحدها إلاَّ وقد ترك آثاراً تبعث على الحاجة إليه في ما هو أسمى منها فكان مديراً لأسيوط فمديراً للمنيا فوكيلاً لنظارة الداخلية. وهو اليوم معتزل ميدان السياسة بعد أن خلد له فيها آثاراً غراء ستعيش إلى زمن طويل. أما سعادة حسين باشا واصف فإنهُ من الرجال الذين يشهد لهم تاريخهم بالفضل والتفوُّق فإنك إذا تتبعت سيرتهُ منذ عودته من فرنسا حاملاً لشهادة الحقوق العليا , إلى تولّيه منصب القضاء في المحاكم المختلطة ثم تدرجّه فيها إلى أن أصبح وكيلاً لنظارة الحقانية , تجد له في جميع تلك المناصب آثاراً غرآء , ومآثر عديدة في ترقية شأن القضاء الأهلي. ثم دخل في سلك الإدارة فتولّى مديرّيتي المنيا وقا فمحافظة(3/213)
السويس. ثم اعتزل المناصب بناء على رغبته ليتفرّغ للمشروعات الأدبية المفيدة. ومن آثاره الطيبة المدرسة الواصفية التي يتخرَّج فيها نفرٌ عديد من رجال المستقبل. وأما سعادة خليل باشا خياط فإنهُ من السراة المعدودين في هذه البلاد جاءها منذ عهد بعيد وله من الهمة ما ينزع بهِ إلى أسمى الذرى فجعل يعطف على كل المشروعات الكبيرة حتى عُرف ببعد الهمَّة والغيرة الوطنية وأصبح في كل مشروع يدٌ وفي كل مأثرةٍ باع. ولا نخال أحداً من القراء يجهل ما لهذا الشهم الهمام من الغرر المحمودة في سائر الوقائع التي ظهر فيها سكان هذه البلاد بما يسجل الفخر للشرقي
في بطون الأوراق. ومن ألقى نظرة عمومية على العهد الأخير من تاريخ المشروعات الخيرية النافعة في مصر تجسّمت لمخيّلته همة الخياط السامية وماله من المحسنات.(3/214)
ومن أعضاء هذه اللجنة سعادة الشهم الأبيّ عبد الرحيم باشا صبري المعروف بنزاهة المبدأ , والجامع بين الوقار والاتضاع والخلق الكريم مما حلّته به التربية الصحيحة , وأكسبه إياه اختلاطه بالعظماء والكبراء إبَّان وجوده في وظيفة تشريفاتي خديوي. وهي من الوظائف التي يقلّدها سموّ العزيز مَن كان كصبري باشا متحلياً بحيرة الصفات وغرر المواهب. وقد كان أمين صندوق اللجنة شابٌّ في مقتبل العمر عُرف بالجدّ والنشاط والمثابرة على العمل هو حبيب أفندي لطف الله نجل حضرة الوجيه الفاضل حبيب بك لطف الله المثري المشهور. ويرى القارئ رسمهُ بالثوب العسكري يوم كان في الجيش المصري في السودان. أو ليس في تجنّدِ هذا الشاب الذي والد وربي في(3/215)
النعمة والترف على بُعد همته , وفهمه معنى الحياة الحقيقي؟ ولقد أبدى من الغيرة على إنجاح مشروع اللجنة ما يخلّد له في بيروت أجل ذكر هذا ونحن نأسف لأننا لم ننوفَّق إلى صوَر سائر من بقي من أعضاء اللجنة كأصحاب السعادة محمد الشواربي باشا منشئ مستشفى قليوب الشهير من ماله الخاص , وإسماعيل باشا صبري الشاعر النابغة , وحسن باشا مدكور سرّ تجار العاصمة , وإسماعيل باشا أباظة الوطني الجريء , ونجيب باشا شكور المهندس والإداري المشهور , ورفيق بك العظم الكاتب القدير ولابدَّ لنا في هذا المقام من المجاهرة بما كان لسعادة سليم بك أيوب ثابت من المساعي المأثورة في سبيل هذا العمل المبرور , ومن الهمة في ضمّ أواصر القطرين الشقيقين , فقد كان بفضل ما أُوتيهِ من الذكاء الوقَّاد , والسياسة الحسنة , وما عُرف به من المحبة الصادقة لوطنه , روحَ هذه الحركة المؤدية إلى تلك الغاية النبيلة , وسيذكر له منكوبو حادثة بيروت مأثرته هذه بالشكر الجزيل.(3/216)
نوابغ مصر
كانت الزهور قد اقترحت على قرَّائها س3: ج2: ص89 أن يذكروا أسماءَ العشرة الذين تصحُّ تسميتهم بنوابغ مصر في الأيام الحاضرة فلاقى هذا الاقتراح ارتياحاً عظيماً بدليل كثرة الأجوبة التي وردت من مصر وسوريا وأميريكا من المشتركين وغيرهم من القرَّاء , ويظهر أن هؤلاء ليسوا بالنزر واليسير , وقد استكبر البعض لفظة النابغة فرأى أننا طلبنا كثيراً بطلب عشرة نوابغ. وفهم البعض الآخر أننا إنما نعني في الحقيقة بهذه الكلمة كلَّ رجلٍ كبير فاضل يحقُّ لمصر أن تفاخر بهِ فرأى أننا ضيَّقنا النطاق بطلب عشرة فقط. ولاحظ علينا فريقٌ أنهُ كان الأجدر بنا أن نحصر الجواب على هذا السؤال ببعض الأفاضل الذين يعتدُّ بآرائهم فتجيء النتيجة معبّرة عن رأي الخاصة المفكّرين لا عن رأي العامة وجه الإطلاق. غير أننا في اقتراحنا لم نرمِ إلى كل هذه الأمور , بل أحببنا أن نجسّ نبض الرأي العام فنعرف من هم العشرة الذين يمثّلون في نظر الأمة بوجه عام الفئة الممتازة التي تُعدُّ في طليعة البلاد عقلاً وفضلاً , ولا نوافق من أنكر علينا وجود النوابغ في بلادنا. فمن جهةٍ كلُّ شيء في هذا العالم يُقاس بالنسبة ويكون الحكم عليه نسبياً. فالرابية الصغيرة تعدُّ في عين الطفل طوداً شامخاً , والأستاذ في عين تلميذه عالماً تحريراً وقس على ذلك. ومن جهة ثانية فإن في البلاد فئة تفرَّدت بصفاتها العقلية والأدبية ولو أُتيحت لها أحوال أكثر موافقةً لأعربت عن نبوغها ببراهين حسيّة(3/217)
ذكرنا ذلك ردًّا على ما علّق بهِ بعض المجاوبين على أجوبتهم. ولا نجزم بأن حكمهم سيكون يوماً حكم التاريخ؛ فكم من شهير عظيم في حياته , تضمحلّ شهرته , ويصبح نسياً منسياً بعد مماتهِ. هذا ما لاحظهُ البعض علينا. ومما لاحظناه نحن أنهُ كان للصحف تأثيرٌ كبير في حكم فريقٍ من المجاوبين. فإن الجرائد أكسبت قوماً منا شهرةً جعلت لهم مقاماً رفيعاً في أعين العامة. ومما يجدر بالذكر خصوصاً أن رجال القلم هم أرفع من سواهم في النفوس بدليل أن معظم نوابغنا أن لم نقل كلّهم من الكتَّاب والشعراء كما سترى. ولا يُستغرب ذلك لأن حملة الأقلام هم قادة الأفكار ويسهل عليهم أكثر من سواهم عرض مواهبهم العقلية على أبناء جلدتهم. على أن هذا الحكم في بلادنا أعمّ مما في سواها لعدم وجود نوابغ عندنا في العلوم والفنون والصنائع والتجارة. وها نحن ذاكرون نتيجة الأجوبة التي وردت على اقتراحنا , وليس في من ستقرأ أسماءَهم إلاَّ كلُّ فاضل نجيب:
أحمد بك شوقي 370 صوتاً
السيد علي يوسف 307 أصوات
حافظ بك إبراهيم 305 أصوات
جرجي أفندي زيدان 289 صوتاً
الدكتور يعقوب صرُّوف 271 صوتاً
سعد باشا زغلول 269 صوتاً
ولي الدين بك يكن 267 صوتاً
الدكتور فارس نمر 264 صوتاً
أحمد زكي باشا 259 صوتاً
خليل أفندي مطران 254 صوتاً
هؤلاء هم العشرة الذين أحرزوا أصواتاً أكثر من سواهم. ويليهم إسماعيل باشا صبري والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي وفتحي باشا زغلول وأحمد بك لطفي السيد وعبد الخالق باشا ثروت وعلي باشا أبو الفتوح(3/218)
ويوسف باشا سابا والشيخ محمد بخيت. وتوزَّعت أصواتٌ على كثيرين غيرهم وممن ذُكروا بين النوابغ جورج أفندي أبيض في فن التمثيل؛ وسمعان بك صيدناوي في التجارة؛ ونجيب بك هواويني في الخط؛ والشيخ سلامه حجازي وعبد الحي أفندي حلمي وإبراهيم أفندي القباني في الغناء والتلحين. وحسبو بك محمد في الصناعة. ولم ينسَ القراء سيداتنا الأديبات. فنالت السيدة لبيبة هاشم والسيدة ملَك ناصف باحثة في البادية والآنسة مي أصواتاً غير قليلة. وقد ذكر بعض الظرفاء على سبيل الفكاهة مَن يعدُّون نوابغ في نوعهم , كحافظ نجيب المحتال الشهير , والحاتي في شيّ اللحم الخ. . ومن هذه النتيجة يرى القراءُ مرآة للرأي العام في رجال مصر في هذا العصر. فنرجو أن يزداد عدد نوابغنا الأعلام في كل فنٍ وعلم وحرفة حتى يعيدوا للشرق مجده القديم وفخره الغابر.
أزهار وأشواك
كان سبب انقطاعي عن محادثة القرَّاء على غير إرادة مني. وها أنا اليوم عائد إليهم ببعض ما جنيت لهم. كانت الأزهار والأشواك كثيرة في هذه المدة , ولا عجب فإننا كنا في فصل الربيع. على أن بقاءها شهرين متواليين في جعبتي قد أفقد الأزهار بهجتها , وكسر من الأشواك حدّتها. فطرحتُ بكثير منها على الطريق.
غرق تيتانيك
هي الباخرة الكبرى التي أقلُّ ما يُقال في وصفها أنها كانت مدينة عائمة على(3/219)
وجه المياه. تفاصيل غرقها - وقد عرفها القرّاء - مما تقشعرّ له الأبدان؛ وتصوُّر الفاجعة التي حدثت في وسط الأوقيانس , بين الماء والسماء , مما تنخلع له القلوب. لا أحاول إعادة ما رددتهُ الصحف عن عظمة تيتانيك وهول نكبتها؛ بل أنا ذاكرٌ للقراء بعض خواطر دوّنتها لهم: تيتانيك نسبة إلى التيتان , وهم , في خرافات الأقدمين , طائفة من الجبابرة تمرّدوا على جوبيتر فصعقهم صعقاً. وكأن الإنسان الذي توصل بقوة ذكائه إلى تذليل القوى الطبيعية , فسخّر لخدمته الماء والهواء وسائر العناصر , قد غالى بفوزه , فأحبَّت الطبيعية أن تنتقم لنفسها: جبل من الجليد انفصل عن البحّار المتجلدة وصدم تلك الباخرة فذهب بها وبمن عليها , فيا لله من انتقام الطبيعية! وقد كان بين ضحايا هذه الفاجعة رجل من أبناء سوريا هو المرحوم إبراهيم المشعلاني. أخصُّهُ بالذكر لأنه كان يتولى إدارة الجريدة التي كانت تصدر في الباخرة يومياً , وتتلقى أخبار العالم بالتلغراف اللاسلكي. غريبٌ في السوريّ هذا الميل إلى الصحافة أينما حل وحيثما وُجد. ولا أُغالي في قولي أنهُ إذا كان في العالم الثاني جرائد ومجلات سيكون كتابها في الجنة وفي الجحيم من أبناء سوريا
حافظ بك إبراهيم
هطلت في الأسبوع الماضي على موظفي الحكومة مزنُ الألقاب والرتب السنوية , فأصابت الرتبة الثانية الشاعر الكبير حافظ إبراهيم , وكيل الكتبخانة الخديوية. فأصبح حافظ عزتلو بك. ولا تسل عن فرح الشعراءِ وزمرة الأدباء , فإنهم استبشروا بهذا الإنعام , وباتوا يؤملون من ورائه خيراً وأيقنوا أن أدبهم سيرفعهم يوماً إلى أعلى المناصب والرتب , بعدما كان عليهم مجلبةَ شقاءٍ ونصَب. لا اعتراض لي على هذا الأنعام الذي صادف محله
كما تقول الصحف عادةً. بل أني اثني مع المثنين على حكومتنا الخديوية التي أخذت تقدر الأدباء قدرهم. وسألبي الدعوة التي جاءتني من سليم سركيس وداود بركات إلى الاحتفال الذي سيقيمه في الكونتيننتال جمهورٌ من أدباء وادي النيل برئاسة شوقي بك إكراماً للشاعر إليك. غير أنني(3/220)
لا أرى رأي الذين يرون أن أقدر حافظ قد زاد بتبييكه فلهو , في حكمي وحكم التاريخ , مجرَّداً عن كل لقب اسمي وأشهر منه محلَّي بأعظم الألقاب , فإذا أنت قلت الشاعر حافظ إبراهيم عرفه كل الناطقين بالضاد , وإذا قلت عزتلو الوجيه الفاضل حافظ بك إبراهيم قد لا يعرفه إلاَّ بوّاب منزله وفرّاش الكتبخانة. وقد قال لي أحد الظرفاء عن الأنعام بالرتبة الثانية على شاعرنا إن شعره رفعه إلى الرتبة الأولى , ولمَّا توظف , سكت , فأنزله سكوته إلى رتبة الثانية
الرتب والألقاب
مهما أطنب الإنسان بمدح المساواة , لا يزال في فطرته ميالاً إلى علاماتٍ تميّزه عن سائر أبناء جنسهِ , مشغوفاً بألقابٍ ترفعهُ عن عامة الناس. لأن العامة تُكرم صاحب الرتبة , وتنظر إلى حامل اللقب بغير العين التي تنظر بها إلى مَن كان خلواً منه , حتى رأينا الأميركان أنفسهم , وقد حظّرت عليهم قوانين بلادهم حمل ألقاب الشرف , يسعون في تزويج بناتهم صاحبات الألوف والملايين بحملة الألقاب علّ العدوى تسير إليهم. . . على أن هذه الفئة من الناس قد تكاثر عديدها , حتى أصبح الامتياز بعدم الحصول على لقب امتياز. يذكّرنا ذلك بكلمة تُروى عن ريشليو الكردينال الوزير على عهد لويس الثالث عشر , فإنهُ لما كان يسعى إلى كسر شوكة الأشراف , أخذ ينعم بألقاب الشرف على عامة الناس حتى يساويهم بغيرهم , وقد قال مشيراً إلى ذلك: سأجود بالألقاب على معظم الرعية , حتى يصبح من العار أن يحمل الإنسان لقباً , كما يصبح من العار عليهِ أن يكون بلا لقب. وقد اتفق في الأيام الأخيرة أن كاتب إدارة الزهور أردف في عنوانٍ كتبهُ اسم أحد أعيان البلاد بلقب بك فورد على الإدارة كتابٌ من الوجيه المذكور يطلب فيهِ استبدال البكوية بالأفندية رجوعاً إلى الحقيقة. ولعمري أنها لمأثرة تُذكر في هذه الأيام حيث أصبح منتحلو البكوية والبشوية لا يحصرهم عدٌّ.(3/221)
قليلٌ من السياسة
يعلم الله أني لا أحب السياسة ولا أنا منها , وقرّائي أيضاً يعرفون ذلك. وإذا كان قلمي يخط عنها اليوم كلمةً فلعلاقة بينها وبين مشتركي الزهور: في بلاد السلطنة العثمانية حزبان سياسيان - الاتحاديون والائتلافيون - ولكليهما خطةٌ ورجال. وإذا كنتُ أنا - لجهلي بالسياسة - لا أرى بينهما إلاّ الفرق الذي يراه اللغويون بين اتّحد وائتلف فالظاهر أنه يوجد هناك في الواقع فرقٌ عظيم جداً , بدليل تلك الحرب الطاحنة التي شبت نيرانها إبّان الانتخابات , فدارت فيها الدائرة على حزب الائتلاف , وكانت النتيجة إقفال صحفٍ كثيرة ومحاكمة أو نفي صحافيين عديدين. أما علاقة هذه الحوادث بهذه المجلة , فهي أن للزهور في بلاد السلطنة مشتركين , وهم لا يخرجون عن أن يكونوا من رجال أحد الحزبين , لأنهم والحمد لله من قادة الأفكار وزعماء القوم. فرأيناهم , بعد انجلاء المعمعة , فريقاً منهم في مجلس النواب متربعين , وفريقاً آخر في طي السجون معتقلين.
قضية قديمة
بين الإله الخلاَّق , وجماعة العشاق , قضية قديمة: خلق الله لهم من جهة كل حسن مليح , وخلق لهم من جهة ثانية أعيناً تنظر وقلوباً تخفق. فحدث بين الفريقين نزاع - ويا له من نزاع , على ما يقول فرسان هذا الميدان - كانت نتيجته دائماً أبداً شؤماً ووبالاً على الفريق الثاني غالباً كان أو مغلوباً. فأصبح لسان حاله ينشد:
ما بين معترك الأحداق والمهجِ ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرجِ
وقد تطوَّع الشعراء منذ القديم للدفاع في هذه القضية؛ كيف لا وهم من عبَّاد الجمال , وحارقي البخور على مذابح الحُسْن. أنا لا أحاول التحيّز إلى أحد الخصمين. بل أحافظ على موقف الحياد. فقد عرفتهُ أربح لي وأنفع. ولكني سمعتُ في هذه القضية مرافعات لطيفة دونتها لقرَّائي لأنهم يحبون الشعر الجميل , وناقِلُ الكفرِ ليس بكافر. . . من جبل لبنان جاءَنا هذان البيتان لأمين ناصر الدين:(3/222)
جعلتَ يا ربِّ هذا الحسن واسطةً ... نلقى بها الهمّ أشكالاً وألواناً
إن شئتَ فاخلق وجوه الغيد أجمعها ... شنعاء أو فاخلقِ الشبَّان عميانا
وفي وادي النيل أنشدنا طانيوس عبده:
لا تظلمي دَنِفاً ذابت حشاشتهُ ... فقد عطفتِ عليهِ قبلُ أحيانا
أو كان شأنكِ شأن الله متّعنا ... بكلّ ما قد نهى عنهُ وجازانا
بليغٌ والله دفاع الشاعرين! وهو جديرٌ بأن يُضمُّ إلى دفاع من تقدمهما فقال:
إلهي ليسَ للعشَّاق ذنبُ ... لأنك أنتَ تبلوا لعاشقينا
فتخلق كلَّ ذي وجه مليح ... بهِ تسبي عقول الناظرينا
وتأمرنا بغضِّ الطرف عنهُ ... كأنكَ ما خلقتَ لنا عيونا
وما دام المجال منفسحاً أمامي في هذا الجزء , لا بأس عليَّ من إيراد أبيات وردت على إدارة الزهور من ناظمها محمود أفندي الناظر , وهي لا تخرج كثيراً عن هذا الموضوع. قال موجّهاً السؤال إلى خليل مطران:
أتنجلي في النهار ... محجوبة الأقمار
أم تلك سرب ظباءِ ... كرهن سكنى القفارِ
جاءت تصولُ علينا ... بأين كالشفارِ
بالقدّ كالغصنِ لدناً ... والخدًّ كالجلّنارِ
قد كنتُ من قبل جلداً ... واليومُ عزَّ اصطباري
إن دام واللهِ هذا ... فسوف ألقى تباري
فيا خليل أجبني ... كيما يقرّ قراري
وزار خليل إدارة الزهور فعرضت عليهِ الأبيات , فكتب للحال تحتها:
محمود صبراً على ما ... لقيتَ في الأقمار
وفي الظباءِ الجوافي ... وهنَّ أنسُ الديار
لا يكمل الحبُّ ما لم ... يَجُزْ مدى الاصطبارِ
فصبراً إذن أيها المحبُّون حتى يبلغ حُبكم حدَّ الكمال
حاصد(3/223)
ثمرات المطابع
ليالي الروح الحائر - قرأتُ هذا الكتاب من البسملة إلى تمَّ طبعه وأنا بين أرقام أعالجها في ديوان , وصفحات أسوّدها في عزلة , فكنت أصل أناءَ نهاري بأطراف لياله , وأحار مع الروح الحائر حيرة مصطفى كامل في أمر مصر , والشاعر الحرّ في أخلاق العصر. قرأته وملء نفسي السرور والإعجاب بأسلوبه العصري الجديد الموفَّق فيه بين سموّ الخيال ودقة الشعور وشدَّة اللهجة من حيث المعاني , وبين حسن الرصف وسلاسة التركيب وانتقاء الألفاظ إلاَّ نادراً من حيث المباني. وما لاح لي فجر الليلة الخامسة عشرة من لياليه وهي الأخيرة إلاَّ وقد لاح لي أنه كتاب سياسي فاجتماعيّ فأخلاقيّ بأغراضه ومراميه ومغازيه , وديوان شعريٌّ أشبه بليالي ألفرد دي موسيه على خلوّه من بيتٍ واحد يأوي إليهِ الروح الحائر. فأسلوبه أسلوب النثر الشعري , أو الشعر المنثور , وهي طريقة جديدة تجري عليها أقلام نفر قليل من كتَّابنا العصريين , وأظن أوَّلَ من جبها إلينا الشاعر الفيلسوف اللبناني أمين الريحاني , وما (0الأجنحة المتكسرة لجبران جبران إلاَّ شوط في هذا المضمار بعيد , أودُّ لو جاراه فيه غير واحد من المتبارين في حلبة الأدب. يقع الكتاب 192 صفحة وليلة شعر الأرواح واقعة في الصفحة(3/224)
المئة والخامسة أي نحو منتصفه , وتتلوها ليلة أناشيد العلا فليلة الوداع وهي مسك الختام. ومَن قرأ بسمة الربيع ص 107 وأغنية الروح الحزين ص 112 فأغنية النار فعرش الجبابرة لم يشكّ في أنه يقرأ شعراً هو كل الشعر لولا أنه غير مقفَّى وغير موزون - استغفر الله - بل هو كل الشعر لأنهُ طليق من هذه القيود. ولئن كان للشاعر الناظم بحور يجتازها بما عنده من أصول سلك البحار , فإن للشاعر الناثر أجنحة يرفرف بها فوق بحار المعاني حرًّا مطلقاً , وأخلق بهِ أن يكون أقرب إلى ربَّة الشعر وأحب إليها. ولنرجع بعد هذا الاستطراد إلى أناشيد العلا فأقول أنها ستة فصول مندمجة في ليلة واحدة وأسلوبها يكاد يكون نثراً مرسلاً , لأن العبارات في الغالب طويلة وغير متقطعة كما في أناشيد الليلة السابقة , ولكنهُ يسميها أناشيد وقد أصاب في ذلك. فيظهر مما تقدَّم أن نصف الكتاب شعر نثري يجسّ فيهِ الكاتب أوتار النفس فيثير عواطفها بما يُشعرها بجمال الطبيعة فيطربها , أو بحقيقة البشر فيؤلمها. ولنرجع إلى صفحة 105 وما إزاءَها ووراءَ فننتهي حيث كان يجب أن نبتدئ لولا أن ما يتراءَى حول سطور الليلة الأولى ولو أحقها من أشواك السياسة وقتاد الانتقاد قد يخنق قلماً رطباً لم يجرِ
(ولن يجري إلى حين) إلاَّ في مثل صفحات الزهور. فإذا رجعنا إلى تلك الصفحة وهي إلى اليسار ونظرنا ذات اليمين وقعت العين على سؤال يلقيهِ صاحب الليالي على الروح الحائر وهو: وهل أحببتَ هذه؟ سؤال يتوارى(3/225)
الروح بدون ما جواب عليهِ , وبتواريهِ تختم الليلة الثانية عشرة وعنوانها الفاكهة المحرَّمة وموضوعها الحب. والحب موضوع الليلة السابقة أيضاً وعنوانها الأخوات الثلاث أما علاقة هذه الليلة بطريدتها فهي على ما يلوح لي حبية شعرية لأنها تبتدئ بذكر الحب بمعنى الصداقة هذه المرة والشعر عليهما مدار الليلة العاشرة وإن كان عنوانها إشراف النفس على المستقبل. أما الليلة التاسعة حيُّ الأموات بلوزان فليلة على هولها كم أودّ أن أحياها وأموت فيها أو أُحييها وتميتني , فهي ليلة في مثلها تتنبّه نفس الشاعر ويُجهد عقل الفيلسوف. وما الليلة الثامنة إلاَّ نذيرها الصادق. وأخلق بمن سيحزن أن يحزن قبل وقوع البليّة كما جاء حديث الحزن الإنساني مقدَّماً على حديث المقابر في هذه الليالي. وما قصتا الصديق علي ونرجس العمياء اللتان يقصهما الروح الحائر في ليلتين متتاليتين إلاَّ بسط آراء أخلاقية بالأكثر في أسلوب روائي لطيف. وقد خيّل إليَّ لمح فكرة سياسية خلال أسطر نرجس العمياء. أما الليلة الخامسة فعنوانها حديث الروح المجنون وهي ليلة سوادها من سواد قلب الهيئة الاجتماعية ووجها. وهي ليلة على قصرها من أجمل أخواتها. ولهجة الكاتب فيها شديدة مرّة وعباراتها تشف عن تألم وامتعاض في النفس. وكذلك الليلة الرابعة وموضوعها غرور الناس بالناس ولم يبق لنا إلاَّ ثلاث فنبيت حيث كان أن نغدو. أما الثالثة فقد أحياها الكاتب في وصف علَّة الشرق وهي كما يوحي إليهِ الروح(3/226)
الحائر بُغض العظماء. وقد ذكرني قوله نحو آخرها وأقيمي يا أمم الشرق لكل كبير تمثالاً مقالات الأخبار وغيره عن تمثال مصطفى باشا كامل. أما الليلة الثانية فهي حديث بعض الأمم - أمة الهوَز - وما أدراك ما أمة الهوز , إن لم تكن أمة خيالية لو تمخضت بها الليالي لوضعتها على ضفاف النيل؟ وأما الليلة الأولى وقد كان البدءُ بها الأولى فهي رثاء مؤثر لصديق اسمه مصطفى وهو اسم كامل وإن نقصه اللقب. . . ومما أعجبني من بنات أفكار صاحب الليالي والليالي من المعاني حبالي قوله في الهرم: وأرفع ببصري مرة إلى قمة الهرم فيغلي دمي في عروقي غيظاً من رافع بنيا له وواضع جدرانه لأن صخوره دموع متحجرة أذرفها شعبٌ شقيّ انجازاً لشهوة ملك ظالم , فإنني لا أنظر إلى
الأهرام إلاّ متألماً لا مُعجباً. . . ولكنني أعجب له احتلالاً قديماً كان داخليًّا فتحوَّل خارجيًّا. وقد روي لي أن عسكريًّا انجليزيًّا تسلق شرّ منقلب ولطَّخ تلك الصخور بدمه - وهل تلك الصخور إلاّ دماء - لا دموع - متحجرة استنزفها ملك ظالم من شعب شقي؟ فالكتاب بالأجمال مجموعة آراء الكاتب وخواطره وعواطفه الوطنية والاجتماعية والشخصية جميعاً أو جزء أول من هذه المجموعة لأنهُ مختوم بليلة الوداع الأول لا الأخير. فعسى أن يطول الهجر بين الروح(3/227)
الحائر وصاحب الليالي ليتحفنا بكتاب آخر على منواله
وديع البستاني
روميو وجوليت - عُطيل - لويس الحادي عشر - في مصر اليوم نهضة فعلية لا يسع هذا الفن الجليل إلاَّ الارتياح إليها والاستبشار بها. فقد توفَّق جورج أفندي أبيض - بعد أن درس هذا الفن في باريس على ايمتهِ - إلى تأليف جوقٍ عربي متقن لم ترَ مسارحنا العربية له مثيلا. وشهدت القاهرة والإسكندرية وغيرهما من مدن القطر الكبرى تلك الليالي الشائقة التي أحياها جوق أبيض فكان الإقبال عظيماً والرضي تامًّا. ولسمو أمير البلاد يدٌ على هذه النهضة تُذكر بالشكر الحميم لسموّه. وكانت نتيجة هذه النهضة في فنّ التمثيل بروز فئة من كتابنا إلى الميدان وإخراجهم لنا سلسة روايات تشخيصية أدبية تعوّض علينا بعض ما تفقدنا إياه روايات اللص الشريف وأمثالها من الحكايات التي نكتب للمتاجرة. . . يعد الروائي الانكليزي شكسبير إِماماً في فنّ الروايات التمثيلية , قلا عجب إذا تبارى كتابنا المجيدون في نقل رواياته إلى لغتنا. ومن أشهر تلك الروايات رواية روميو وجوليت التي مرّت عليها العصور , ولم تُبل جدَّتها , وبرزت على أكثر مسارح العالم ولم تفقد بهجتها. ولدينا(3/228)
الآن نسخة عربية منها بقلم الشاعر المجيد والكاتب القدير نقولا أفندي رزق الله؛ طالعناها فوجدناها محكمة التركيب , منسجمة الألفاظ , محلاَّة بأبيات شعرية جميلة من نظم مترجمها المعروف بحسن سبكهِ وسلاسة. معانيه , وإننا لننتهز هذه الفرصة لإِطراء رزق الله أفندي والثناء على همتهِ التي لا تعرف الكلل فهو من أكثر كتَّابنا نشاطاً وعملاً ومثابرة على مداعبة القلم. ومن روايات شكسبير المشهورة أيضاً رواية أو عُطيل وهي التي مثَّلها جوق أبيض , فنالت استحساناً جزيلاً. وقد ترجمها إلى اللغة العربية شاعرنا المشهور خليل أفندي مطران المذكور في غير هذا المكان من هذا الجزء بين نوابغ العصر في مصر.
ولسنا في حاجة إلى تعريف القرَّاء بسحر قلم الخليل بل نكتفي بأن نذكر هنا ما رواه لنا أحد المتضلعين في لغة الانكليز , قال: أخذتُ رواية عطيل وقابلتها بأصلها الانكليزي فوجدتُ ترجمة مطران تنطبق على الأصل انطباقاً تاماً فهي كالحسناء وظلها في المرآة وقد نشرنا مقدمتها في الجزء الماضي من الزهور. ومن الروايات التي مثَّلها جوق أبيض أيضاً رواية لويس الحادي عشر للشاعر الفرنسي كازيمير ده لافين ترجمها له بالعربية قلم كاتبٍ متفنن وشاعر رقيق عرفه أدباءُ القطرين , عنينا به إلياس أفندي فياض الذي طالما اتحف مسارحنا العربية بكل رواية جميلة شائقة. وروايته هذه كأخواتها تمتاز بسهولة العبارة مع بلاغتها , وطلاوة التركيب مع متانته شأن السهل(3/229)
الممتنع. وفياض يشتغل الآن بترجمة رواياتٍ شهيرة لحوق أبيض ننتظرها بفروغ صبر. هذا ما يسمح لنا المجال بذكره عن هذه الروايات الثلاث. وإننا لنعدّها خير ما جاءَنا بهِ موسم الأدب في فصل الربيع. جواهي الأدب من خزائن العرب - لمكتبة صادر في بيروت فضلٌ لا ينكر على الأدب العربي , فهي منذ نصف قرنٍ دائبة على خدمة لغتنا بجدّ واستقامة قد كلَّلهما النجاح. وهي لا تزال تبحث عن كل نقص في كتبنا المدرسية والأدبية فتسدُّه , حتى أصبحت الكتب الصادرة من هذه المكتبة الشهيرة ومطبعتها تعدُّ بالمئات. وقد جاءنا منها أخيراً كتاب جواهر الأدب وهو يشتمل على خير ما يؤخذ من خزائن العرب من مقتطفات أدبية ومقطوعات شعرية. وقد ظهر من هذا الكتاب حتى الآن ثلاثة أجزاء وهو مضبوط بالشكل الكامل. فنثني على همة سليم أفندي ويوسف صادر ونغبطها على توفيهما في خدمة الأدب والعلم.
معنى الحياة - لدينا الطبعة الثانية من هذا الكتاب النفيس لمؤلفه اللورد افبري. وقد سبق لنا الكلام مطولاً عن مؤلفاته هذا الفيلسوف الجليلة التي ترجمها إلى العربية الأديب البارع وديع أفندي البستاني فأجاد وأفاد. وإن في إقبال القراء على كتبهِ خير تقريظ له.(3/230)
ديوان منصور شاهين الغريب - في الشعر العامي روحٌ شعرية قد لا تجدها في دواوين الشعراء. يعرف ذلك من له بعض الإِلمام فيما يسمّونهُ زجلاً في مصر ومعنّى في لبنان. فأن الزجَّالين وقوَّالي المعنى شعراء في فطرتهم لا ينظمون إلاَّ عن شعور ولا يقيّدون طائر مخيّلتهم بسلاسل القواعد الثقيلة؛ فتجيء أقوالهم في أكثر الأحيان آخذة بمجامع اللب. ومن الذين اشتهروا بهذا الفن في لبنان منصور شاهين الغريّب. طبع ديوانه حضرة نجله أمين
أفندي الغريب صاحب جريدة الحارس البيروتية. وقد طالعنا في هذا الديوان مطالع وقصائد ومحاورات تدلّ على قوة سليقتهِ الشعرية.
الحياة اليومية - هذا الكتاب الصغير الحجم الكبير الفائدة كناية عن عشر مقالات كتبها في الجريدة حضرة الأديب أمين أفندي حمدي في مواضيع اجتماعية يخلق بالناشئة الإمعان فيها. وقد ختمت بكلمة طيبة من قلم الأستاذ حفني بك ناصف.
الحياة القومية - هذا الكتاب الصغير الحجم الكبير الفائدة كناية عن عشر مقالات كتبها في الجريدة حضرة الأديب أمين أفندي حمدي في مواضيع اجتماعية يخلق بالناشئة الإمعان فيها. وقد ختمت بكلمة طيبة من قلم الأستاذ حفني بك ناصف.
وعش خالياً - كثر إقبال قرّاء العربية في هذه الأيام على القصص الخيالية. وهذه رواية من الروايات التي تستحق إلتفاتهم. ترجمها إلى العربية الأديب إلياس أفندي منسّي الذي سبق ونقل إلى العربية أشياء كثيرة عن آداب الإفرنج.
الإِقدام - جريدة يومية أدبية سياسية بدل اشتراكها 150 غرشاً في السنة تصدرها في الإسكندرية حضرة السيدة الغيورة على الأدب(3/231)
البرنسيسه الكسندره أفرينوه ويتولى رئاسة تحريرها صديق الزهور الكاتب الشهير ولي الدين بك يكن ويودعها من نفثاته الشائقة ما هو مأثور عنه في فني المنظوم والمنثور , فلا عجب إذا اكتسبت الأقدام على حداثة عهدها مقاماً يذكر بين الصحف الممتازة.
المجلة المصرية - مجلة جديدة تصدر باللغة الفرنسوية في القاهرة لمديرها الموسيوبول تريبيه ورئيس تحريرها الموسيو جاك دوبفر جاءَنا منها العددان الأول والثاني فألفينا هما حافلين باللطائف الأدبية والمباحث العلمية مما يتعلق بمصر وشؤونها المختلفة. ولا شك في هذه المجلة ستصادف انتشاراً واسعاً لما عُرف بهِ صاحباها من التفنن في الكتابة والغيرة على الشرق والشغف بالبحث في أحواله. وهي تصدر مرتين في الشهر وبدل اشتراكها 60 غرشأً صاغاً.
صدى البرق - جريدة اجتماعية أدبية انتقادية تصدر في بيروت. صاحب امتيازها الشيخ اسكندر العازار , ومديرها المسؤول عزت أفندي الجرّاح , ورئيس تحريرها بشارة أفندي الخوري , صاحب جريدة البرق المعروفة في عالم الأدب والتي احتجبت عن قرّائها
المولعين بها بأمرٍ من المجلس العرفي. فنحن على ثقة من أن الإِقبال الذي لاقه البرق سيلاقيه صداه بفضل محرره صاحب الجولات الصادفة في ميدان الكتابة.(3/232)
العدد 26 - بتاريخ: 1 - 7 - 1912
الجنايات والاجتماع
إن للاجتماع أمراضاً كما للجسم الحيّ. وهي كأمراض الجسم الحيّ إما مستوطنة وتسمى جنايات وجرائم؛ وأما وافدة وتسمى قلاقل وثورات. وأسبابها كأسبابها أما متمة واصلة وهي في أحوال الأفراد الخاصة. وأما مُعدّة مهيئة وهي في نظامات الاجتماع نفسه كما هو الحال في الجسم الحي. فالجنايات كالأمراض نفسها لا تقع إلا إذا توفر لها هذان العاملان: أحوال خاصة في الأفراد , واستعدوا في جسم الاجتماع. وسياسة الاجتماع كطبابة الجسم الحي: رداعة توجَّه إلى الجاني كما يداوي الطب المريض؛ ومانعة أو واقية تمنع أسباب الجناية لوقاية المجتمع منها قبل وقوعها , كما يمنع الطبّ المرض بمقاومة أسبابه بعلم حفظ الصحة المعروف بعلم الهيجين. فسافة الاجتماع يقاومون الجنايات بالشرائع المسنونة , وهي كالطب الشافي للأمراض. ويحاولون بالنظامات الموضوعة وهي كالطب المنعي الواقي من الأمراض. وكما أن طبابة الأجسام الشافية والواقية(3/233)
تتوقف على تعرُّف طبائع الحي الأمراض التي تفتك بهِ ودرس الوسائل النافعة , كذلك سياسة الاجتماع
الرادعة والواقية تتوقف على تعرّف طبائع الجناة ودرس الشرائع والنظامات الموافقة أيضاً. زكما أن الطب البشري لم يقُل كلمته الأخيرة في كل ذلك , كذلك الطب الاجتماعي لم يقل كلمته الأخيرة أيضاً. غير أنا إذا قابلنا بين الطبين نجد أن الطب البشري تقدم أكثر جداً مما تقدم الطب الاجتماعي. فشفاء الأمراض صار أسهل مما كان في الماضي وصارت طبائعها معروفة أكثر كذلك. وإذا كانت صناعة الطب لم تتقدم كل التقدم المطلوب في شفاءِ الأمراض حتى الساعة , لكنها تقدمت كثيراً في علم الوقاية منها. فإن علم حفظ الصحة يكاد يكون قد ألمَّ بكليات نواميس الأمراض وكيفية تولدها ووسائل منعها. وقد تمكن من حصر كثير منها. وفي بعض البلدان تمكن من منعها أصالة لأن الطب البشري سار مع العلم سيراً حثيثاً وجنباً لجنب. وإذا كان لم يتمكن من منعها بتاتاً فليس من نقص في علمهِ , بل من صعوبات أخرى تعترضهُ متأتية من نظامات الاجتماع نفسها. فالأمراض الوافدة التي كانت تنقضّ في الماضي على أوروبا وتفتك بمئات الألوف من سكانها في زمن قصير كوافدات الطاعون والجدري الأسود والهواء الأصفر والحمَّى التيفوئيدية نفسها حتى خانوق الأطفال المعروف بالدفثيريا قد قلَّت اليوم جداً وزالت منها في بعض الأماكن طبيعتها الوافدة. فإذا كانت أكثر المدن الكبرى في هذه الجهات بلغت الغاية في النظافة بعد أن كانت(3/234)
مجمعاً للقاذورات وصار السكان فيها أكثر اعتناءً من قبل بنظافة وآكلهم ومشاربهم ومساكنهم وملابسهم وأجسادهم , فالفضل في ذلك للطب الذي عرف كيف يستفيد حالاً من العلم. وسوف تخفّ الأمراض جداً وتقلّ ويلاتها كلما اصطلحت نظامات الاجتماع ومكَّنت الطب من العمل بقواعد علم الصحة كما هي معروفة له اليوم. بخلاف الطب الاجتماعي فإنهُ لم يتقدَّم على نسبة تقدُّم العلم اليوم فهو لم يتعرَّف طبائع الاجتماع وطبائع الجناة جيداً. وشرائعه الشافية ونظاماتهُ الواقية لا تزال قاصرةً جدًّا عن المقصود وما ذلك إلاَّ لأن نظرهُ في طبيعة الاجتماع لم يتغير كثيراً عم كان في الماضي , ولم يتيسر لهُ حتى اليوم تطبيق نظاماتهِ وشرائعهِ على النواميس الطبيعية التي اكتشفها لهُ العلم. والحق يقال أن هذا التطبيق محفوف بالمصاعب لأسباب كثيرة ناشئة عن غلبة تعاليمهِ الدينية والأدبية في شرائعهِ ونظاماتهِ وتأثيرها في طبائع أفراد المجتمع أنفسهم. فإذا كان الطب قد استفاد كل الفائدة من العلم الطبيعي فلأن موضوعها واحد فلم يكن يمكن فصل أحدهما عن الآخر
بخلاف سياسة الاجتماع فهي حتى الآن لا تزال للأسباب المتقدمة باقية في واد والعلم الطبيعي يسير في واد آخر. ولا يستفاد من ذلك أن الاجتماع لم يستفيد من حركة العلم اليوم في سياساته فإن إنكار ذلك مجازفة فأمراضه الوافدة قلت جدًّا فقلت حروبه وانكسرت حدَّة ثوراتهِ وخفت وطأة قلاقله. ولا شك أن الجرائم والجنايات قد قلت كذلك عما كانت في الماضي البعيد. كل ذلك لسهولة(3/235)
مراسهِ اليوم أكثر من قبل لاصطلاحه نوعاً بفضل ما انتشر عليهِ من ظل العلم الحديث. غير أن القلاقل إذا كانت قد خفت وطأتها فهي لم تقلّ اليوم بل زادت واستوطنت كذلك كقلاقل العمّال. وإذا كانت الجنايات قد قلت عما كانت في القديم فهي لم تقلّ قلة مطلقة بل ربما كذلك بالنسبة إلى ما كانت عليهِ في الماضي القريب لزيادة انتشار العلم وزيادة الشعور بالحاجة معهُ مع بقاء أسبابها. لأن الطب الاجتماعي لم ينظر كثيراً في هذه الأسباب وإذا نظر فلم يهتدِ كثيراً إلى الوسائل الواقية منها أو أنهُ لم يحسن تطبيقها عليها. وأسبابها إنما هي في نظامات الاجتماع نفسها التي لا تزال حتى الآن بعيدة جدًّا عن توفير التضامن له بتوفير العمل وتوفير المنفعة المتبادلة. فالشارع لم ينظر في الجنايات إلاَّ إلى العقاب فكأن الصعوبات التي تعترضهُ في نظامات الاجتماع صرفتهُ عن ترّف طبائع العمران للبحث في الوسائل الواقية إلى تعرّف طبائع الجناة أنفسهم لتحديد العقوبة. وقد هداهُ العلم اليوم في ذلك كثيراً وخدعه أكثر لأن الاعتماد في العلم على جهة واحدة مضرٌّ جدًّا. فنظر في الأمر نظرة علمية هي في مصلحة الجاني أكثر منها مصلحة المجنيّ عليهِ. إذ نظر إلى الجاني كنظرهِ إلى المريض المستحقّ غالباً للشفقة والحنان بقطع النظر عن تأثير جنايتهِ في الاجتماع. وهو نظرٌ يوافق عليهِ العلم إذا كان الغرض منهُ توفير عضوٍ من أعضاء المجتمع لنفع منهُ لهذا المجتمع. وإلاّ فالشفقة في الطب كما في الشرائع يجب(3/236)
أن تشمل الأهم وهو الجسم الاجتماعي نفسهُ. ولو كانت هذه الشفقة في الشرائع اليوم ترمي إلى إصلاح الجاني لا يعتني بها كثيراً في الشرائع حتى اليوم. وكل ما تفعله هذه الشرائع لمصلحة الاجتماع هي أن تحبس الجاني وتكفَّ شره عن المجتمع إلى حين. وكثيراً ما يضيف الجاني إلى عيوبه وهو في السجن عيوباً أخرى يكتسبها من مخالطته لسائر الجناة المحبوسين معه في سجن واحد. فلا يخرج من السجن حتى يعود إلى جنايته بجسارة وتفنن لم يكونا له من قبل. فتخفيف العقوبة على الجاني لم تفد الاجتماع بل
ذكر بعضهم أن القتل كان يزيد كلما قلَّ القصاص بالقتل. وليس في الأمر غرابة والدواء على ما تقدم. حتى ولا القتل نفسه يستطيع بالإرهاب أن يقلّل القتل عسى أن يستطيع الجاني أن يستغفل نظام الاجتماع وينجو من عقاب مؤجل. ولذلك رأى بعضهم أن يشغَّل الجاني في سجنه حتى يدفع ثمن جنايته فيكتسب عملاً نافعاً ويعوّض على المجنيّ عليه ويُرهَب لطول الإقامة حينئذٍ في السجن. وهو أقرب الآراء إلى العدل مهما قام عليه من الاعتراضات. ويلزم حينئذٍ أن لا يقبل عن شغله عوضاً ولو كان ذا مال ويشمل التعويض حوادث القتل التي كثيراً ما يذهب فيها التعويض المدني هدراً فيفقد الإنسان عزيزاً له ويفقد معيِّلاً كذلك. على أن الجاني نفسه مظلوم , وظالمه نظام الاجتماع نفسهُ سواء عن جهل لقلة انتشار العلم أو عن حاجة لقلة توفر العمل أو عن مرض لتطرّق(3/237)
ذلك إليهِ بالوراثة المكسوبة هي نفسها من الاجتماع. والشرائع التي تعاقبهُ كأنها تعاقب بهِ جهلها في تطبيق نظاماتها على حاجة العمران والتي كثيراً ما يكون الجاني العزوم فيها أنبل جداً من الذين يحرجونه ويسترون جناياتهم بالخبث؛ فما دامت تعاليم الاجتماع لا تتمشى على قواعد العلم الحديث قتضع العمران في مقامهِ الطبيعي وتعتبرهُ جسماً حيّاً كسائِر الأحياء وتطلق عليهِ نواميسها الطبيعية فمن المستحيل أن تهتدي إلى إحكام الروابط بينهُ. وما دامت نظامته لا توفّر له النفع المتبادل فيصعب جداً ضبطهُ ولقد صدق القائل: إن توفر أسباب الثروة في بلاد لمن أفضل أسباب تقليل الجنايات فيها. فالناس في كل أمورهم دنيا وآخرة إنما هم يقتتلون على رغيف.
الدكتور شبلي شمبل
الحزم
الرجال ثلاثة: حازمٌ , وأحزم منهُ , وعاجز. فالحازم من إذا نزل بهِ الأمر , لم يدهش له , ولم يذهب قلبه شعاعاً , ولم تعي بهِ حيلتهُ ومكيدته التي يرجو بها المخرج منهُ. وأجزم من هذا , لمقدامُ ذو العدَّة , الذي يعرفُ الابتلاء قبل وقوعهِ فيعظمهُ إعظاماً , ويحتال لع حيلةً , حتى كأنهُ قد لزمهُ؛ فيحسم الداء قبل أن يُبتلى بهِ ويدفع الأمر قبل وقوعهِ. وأما العاجز فهو تردُّدٍ وتمنٍّ وتوانٍ حتى يهلك.
ابن المقفَّع(3/238)
رجل الدم والحديد
نابوليون بونابرت
ذلك الجبار الطاغية! رأيته مضطجعاً ضجعتهُ الأخيرة وقد أخرس الموتُ لسانه وأبطل القبر صوته. جرَّد سيفه فأقلق الكون , وتمادى في جبرؤته فأزعج السموات. وضع قدمه اليمنى على إهرام مصر , واليسرى على كرملين القيصر , ثم صاح بأوربّا صيحة مرعبة , فكان لزئيره دويٌّ ضجَّت له الأرض , وهلعت له الكائنات.
رجل الدم والحديد!
كان يرى العالم كما يرى النسرُ النملة من علوّهِ الشاهق. هدم الباستيل؛ ليطلق منه الأسرى؛ ثم بنى على أنقاضه باستيلاً آخر , سجن في العالم أجمع. وكان السعد يخدمه , فنصره في أوسترلتز , وعقد له الظفر في مارنجو , وحالفه في الأهرام. فلما رأى الله طغيانه , قال: ليس حسناً أن يبني هذا النسر عشَّهُ في الجوّ لئلا يقلق السماء؛ هلمَّ ننزل ونضربه فلا يُزعج الكائنات! وكان ظلّ ذلك الجبار يُلقي رعباً على المسكونة؛ وكلما رفع يده , تتلَّمس أوربا رأسها , لترى هل هو بعد على عنقها! لو ولدت فرنسا بونابرتاً آخر لاضطرّ الله أن يتجسَّد مرة أخرى لإنقاذ العالم من شرّه وطغيانه. ألم يحفر جهنما أخرى في الأرض , ليدفن فيها(3/239)
أوربّا؟ ألم يستو على عرش مصنوع من عظام القتلى , ومصبوغ بدمائهم. وكان الفضاء مملوءاً بدويّ مزعج: أنين الأرامل وبكاء الثواكل , وعويل النادبات؛ من ساحة أوسترلتز إلى براري موسكو. ثم حدث بعد ذلك سكوتٌ طويل , لأنَّ الكائنات حبست أنفاسها لتنظر إلى مشبح ذلك الطاغية. ونادي المرّيخ ابنه فقال تقلدّ سيفك , أيها الجبار , ولا يغرّك نجم سعدك؛ فإن بعد أوسترلتز , موسكو؛ وبعد مارنجو , واترلو! وكانت ألبا تتثاءب , والقديسة هيلانة تفتح ذراعيها؛ وقد بدأ الشهاب المذنّب بالسقوط من علوّه الشاهق , فترك وراءه خيطاً ضئيلاً كان يضعف كلما اقترب من الأفق. ولاحت في ذلك الأفق غمامة سوداء بقدر كف اليد؛ ثم أخذت تكبر وتعلو , إلى صارت تتهدد ذلك النجم اللامع. ولمح نابوليون تلك الغمامة , فأراد أن يموت كما تموت الجبابرة. فصاح بالكائنات صيحة مرعبة من على قمة الأهرام وقال أيها الجنود , أن أربعين قرناً ننظر إليكم من قمم هذه الأهرام ثم مرّت الأيامُ , وذلك النسر يبسط جناحيه على المسكونة؛ وكان خفوقهما يقلق
العمالقة في قبورها , ويلقي هلعاً في قلوب البشر. إلاّ إنّ لكل جليات داوداً في ذلك اليوم سخر نابوليون من ولنتون. فأجابه ولنتن: غداً نلتقي في واترلو!.(3/240)
وكان نبتون إله البحر , يٌعدّ سفينة لنقل جليات إلى جزيرة القديسة هيلانة. وتنفّست أرامل أوربا , لأن الله نهض لينتقم لدماء أزواجهنّ , ويلجم ذلك التنّين! , أما نابوليون فظلَّ يحلم. رأى كل شيء , ما عدا ألبا وواترلو وضاع عليه في الخارطة موقع القديسة هيلانة. لو درى بها يومئذٍ , لأخسفها في قعر البحر , وجعل من عليها أكلاً للتنانين العظام. ولكن لويائان كان يحرسها ويدفع عنها صدمات الجبار. ولما سقط ذلك النسر , أقلته السفينة إلى الباستيل المعدّ له واعتقله بين أزرقين - ماءٍ وسماء. وتنفست أوربّا , لأن حملاً ثقيلاً أُزيح عن صدرها؛ وأصبحت صروح اللوفر والويلري تصفر فيها الريح.
هوذا اليوم يرقد زقدته الأبدية - عظيماً في موته كما في حياته - والنفس تتهيّب الأسد ولو كان جثة هامدة. ألا نمْ يا صاحب الجبروت! لقد أحسنت بموتك إلى العالم , فهل كفّرت عن ذنوبك إلى الله؟ أنت تطلب المجد حتى في القبر؛ لذلك تنام في حفرةٍ عميقة حتى يكون كل من ينظر إليك حاني الرأس:
أنت في حفرةٍ ترى القوم حولي ... ها خشوعاً فكيف لو كنت حيَّا
ليت شعري وقد نزلت برمسٍ ... من لُملك الدنيا تركتَ وصيَّا
فسلم عليك يوم طواك ال ... قبر ميتاً ويوم تُبْعَث حيَّا
سليم عبد الأحد(3/241)
دمعة الروح
على المغرد الصامت
كان لي كنار صغير أحببته بكل ما في فؤادي من الحب. دنوت من قفصه في صباح ذات يوم فوجدته ميتاً فبكيته وندبته
مي
ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود , وما أتعس القلوب الشديدة التأثر! يمرّ النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتمزق بوطئه اللطيف أثوابها وتنتثر وريقاتها. هكذا يكفي لاستمطار العبرات أن يلامس الألم بأطراف بنانه أثير الروح الموحدة. وما الدموع الهاطلة من الأجفان إلاّض حصرات قديمة كامنة في طيات الفؤاد , أوقدت شعلتها يد سوداء - يد الكذب ولافتراء , زاد الانفراد والتأمل في اشتعالها. من الرجال من يكتفون بالوهاجة والمجد والفخر , ومن النساء من لا يفهمنَ الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر. أما أنا فلا هذه العطايا تغرّني , ولا تلك المواهب تستهويني شي واحد في نظري وهو ما يشترك في نظري وهو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب. شيء واحد يبنه إعجابي , وهو ما كان مترفعاً عن الصغائر والدنايا - هو زهرة نادرة المثال غرستها يد الوفاء في حدائق الإخلاص الصافي , شمس الذكاء والمعرفة تحييها , ومياه العواطف السامية العذبة تسقيها. ما أتعس القلب الحساس وما ألينه لاستحكام الجروح في ثنياته!!(3/242)
طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه , وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه. ثم سطت عليه يد الإنسان فضيّقت دائرة فضائه وسجنته في قفص كان بيته في حياته ونعشه في مماته. طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً. غرّد لكآبتي فأطربها. ناجى وحشتي فآنسها. جاور روحي فآخاها. غنّى لقلبي فأرقصه , ونادم وحدتي فملأها ألحاناً. امتزج ذكره في دقائق حياتي فأصبح عندي بمنزلة صديق لا تصلني به اللغة ولا يقربني منه التفاهم الروحي؛ بل يعززه إليَّ حضوره الدائم وإن لم يبالِ هو بحضوري , وصوته الرخيم وإن لم يغرد إلاّ لأن التغريد من طبعه , وسوره الذي لا يعرف الكآبة , واصطباره على ضيق الفضاء وإقناعه بما قدّر له من النور والهواء. عندما كانت تبكيني الآلام كنت أريه منديلي مبللاً بالدموع فيعرض عني. إن الدموع تعقب ظلمة الأحزان كما يعقب الندى
ظلام الليل , وروح الطيور نور مغرّد فكيف يفهم النور الظلام؟ كنت أنظر إليهِ مشيرة بأصبعي إلى الأثير البعيد لعلي أرى منهُ زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه غير أنهُ كان يقمز على قضبان عشه الصغير غير مبالٍ بي كأنهُ يقول: النور لا ينظر إلى الشمس والقلب لا يحدق بالروح لأن كليهما واحد. أنا لا أنظر إلى الأثير لأني نقطة منهُ. إني أسكنهُ وإن بعدت عنهُ , كالشاعر الذي يظل جوهر نفسه سابحاً في سماء الجمال وإن خاله الناس جالساً بينهم مصغياً إلى أحاديثهم(3/243)
وإذ كنت آتيةِ بالأزهار نازعة عنها وريقاتها فارشة بها أرض القفص لعلي أرضيه كان يدوسها بإهمال متابعاً تغريده , كأنهُ فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن كانت جميلة المظاهر , ولا يعمل في حياته إلا بما يشغل أفكاره وينبه قوى البحث وتسكره في آن واحد. كنت أجلس للدرس والتحبير فتشمئزّ نفسي أحياناً من عبوسة الكتب , ويقل قلمي في يدي كأنهُ صولجان تنازل عن ملكه , فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد وتأتي جماعة طير من الخارج وتضم تغريدها إلى تغريده كما تمتزج الألحان في طيات الأمواج. فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري , ويترنح اليراع بين أناملي , ويمايل تمايل الصفصاف بقرب الغدير , وتنجلي الغيوم عن فؤادي وتطرب روحي. وفي المساء كان يصمت الكنار إجلالاً لقداسة الظلام فيخفي رأسه بين جناحيه ويحمد جمود المفكّر. إذ ذاك تأتي بنات خيالي محلولة الشعر وورد الابتسام مزهر على شفتيها , ومصباح الشعر متقد في يمينها. فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي , وتغني أناشيد على ألحان سرية كأعماق اللجج , أاشيد غريبة لم يسمعها الأخيال روحي المتموج بين تلك العذارى الراقصات , ولم أفهمها إلا بحاسةٍ سادسة تولد في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة. بينا ملوك الجوازاء تطل من أعالي علاها ناظرة إليَّ من نافذتيّ , والكنار يرقبني بعينيه المخفقيتين تحت جناحيه الذهبيين(3/244)
والآن انظر إلى القفص!
لقد صمت الطائر المغرد , والشماع المحيي تجمد , فلا ترى في القفص إلاّ قليلاً من الشمس المائتة!
مات الصغير المغرد , مات صغير حشاشتي! مات قبل غروب الشمس وقبل انقضاء الربيع , ولا يبقى في نفسي إلاّ أثر من ذلك اللحن البديع!
شعاع ذهبي أطل حيناً واختفى في كبد الآفاق
ابتسامة نور أشرقت نور وما لبثت أن تبددت
نور فكر ضاء ثم اضمحل في لجج العدم
وردة أُثير تنفست فعطرت وأسكرت ثم ذبلت
نغمة حب تموجت ساعة ثم تلاشت في هاوية السكينة
صديق صغير غرد فأطربني وسكن بجوار روحي فأنسني ولما آلم قلبي العالم بدناءته وكذبه غنى طائري فأنساني قباحة البشر وغشّهم وجعلني أفكر في كل حسن بهي
هذه قيثارتي فقدت أحد أوتارها فناحت بلابل أنغامها
فما أتعس القلوب الشديدة التأثر! وما أكثر مرارة الجرح الصغير الذي يفتح جراحات كبيرة!!
مي(3/245)
مشاهير علماء نجد
في النهضة الأخيرة
بيتنا في المقالات السابقة أن الذي أنهض العلم والأدب في ديار نجد هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابن سلمان بن علي بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن بعضاد بن ريس بن زاجر بن محمد بن علوي بن وخيّب التميمي النجدي الذي تضاف إليه الوهابية. والنسبة هي إلى الشيخ محمد لأنهُ هو الذي شيَّد أركان هذا المذهب دون أبيهِ لا بل خالف أباه فنسبت إلى عبد الوهاب لاشتهار الابن باسم والده , ولأن المسمَّين بمحمد كثيرون , ولأنهُ لو كان سموا بالمحمديين لوقع الالتباس بين المحمديين المسلمين وبين المحمديين الوهابيين فاختار الناس ما يزيل الالتباس. ولما اشتهر الشيخ محمد بعلمهِ وفضله وأدبهِ جاءه عدة رجالٍ ليقرأوا العلوم عليه فأتقنوها وامتاز بها وألّفوا فيها ثم أصبح هم مدرسين لغيرهم من الطلبة فانتشر نور العرفان في ربوع نجد كلها. فمنهم: 1ً الشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن مُعمّر , قاضي الدرعية في عهد سعود وقد أخذ العلم عن الشيخ محمد.
2ً الشيخ العالم الورع الزاهد عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناصري قاضي ناحية الوشم في أيام عبد العزيز وابنهِ عبد الله 3ً الشيخ العالم الزاهد سعيد بن حجي قاضي حوطة بني تميم في زمن عبد العزيز وابنه سعود 4ً الشيخ الفاضل محمد بن سويلم قاضي بلد الدَلَم وناحية الخرج في عهد الأمير عبد العزيز 5ً الشيخ الحبر البحر الزاخر عبد الرحمن بن خُميّس قاضي الدرعنية(3/246)
في أيام الأمير الخطير عبد العزيز وابنه سعود 6ً الشيخ الدرَّاكة عبد الرحمن بن نامي قاضي بلد العُيَيْنة , ثم قاضي الأَحساء في زمن الأمير سعيد وابنه عبد الله 7ً الشيخ الوقور محمد بن سلطان العوسجي قاضي المحمل , ثم قاضي الأحساء في أيام أمارة سعود 8ً الشيخ الجليل عبد الرحمن بن عبد المحسن قاضي بلدة حريملة وبلدة الزلفي في عهد سعود وابنه عبد الله 9ً الشيخ الغذّ حسن بن عبد الله بن عيدان قاضي حريملة في زمان عبد العزيز الأمير العزيز 10ً الشيخ الفرد عبد العزيز بن سويلم قاضي ناحية القصيم في أيام عبد العزيز وابنهِ سعود وحفيدهِ عبد الله. والشيخ العالم حمد بن راشد العريني قاضي ناحية سدير. فهؤلاء كلهم نبغوا في أيامهم لأنهم أخذوا العلم
عن الشيخ محمد رأس الوهابيين قد طووا بساط أيامهم في عهد الأمير الذي ذكرنا اسمهُ أو ثاني الأمير بن اللذين ذكرنا اسميهما. وقد قرأ عليهِ العلم غير هؤلاء من الأفاضل والأدباءِ ممن لم يوّلوا القضاء لأنهم أخذوا على أنفسهم تدريس العلم والأدب في ديارهم وسائر ديار العرب بدون أن يتقلدوا وظيفة تتعلق بالحكومة أو الإمارة. ومن علماء نجد الذين كانوا في ذلك العهد الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب قاضي العُييْنَة. له من التصانيف: 1ً زاد المستقنع 2ً شرح المختصر 3ً شرع الأقناع 4ً شرح المنتهى 5ً حاشية الإقناع 6ً حاشية المنتهى 7ً كتاب العمدة وكل هذه التأليف عن الشيخ منصور البهوتيّ شارح الإقناع والمنتهى , وعن الشيخ أحمد بن محمد بن بَسّام. ومن طبقات أولئك العلماء الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل النجديّ المشهور في بلدة أشَقْرِ. أخذ الفقه عن الشيخ أحمد بن مشرف النجديّ , وأخذ عنهُ(3/247)
كثيرون منهم الشيخ أحمد بن محمد بن بَسّام والشيخ عبد الله بن ذهلان. وكان الشيخ محمد بن أحمد بن اسمعيل المذكور معاصراً للشيخ سليمان محمد بن الشيخ عبد الوهاب المذكور. ومن عداد أولئك الفُحول في ذلك الأوان العالم الفقيه القاضي الشيخ سليمان ابن علي بن مشرف جدّ الشيخ محمد بن الشيخ عبد الوهاب المشهور. وكان سليمان المذكور فقيه عصره على مذهب الإمام بن حنبل إليهِ انتهت رئاسة العلم في نجد كما سبقت الإشارة إليهِ. وجميع العلماء المعاصرين لهُ يرجعون إليهِ في حلّ المعضلات من المسائل الفقهية والتفسيرية والفرائضية وغيرها. ولهُ من التصانيف 1ً و2ً كتابان في المفاسد , 3ً شرح الإقناع. إلاَّ أنهُ لما وقف على شرح الإقناع للبهوتيّ أتلف شرحهُ على ما قالهُ بن بشر النجديّ. وقد أخذ العلم عن الشيخ أحمد بن محمد بن مشرف النجديّ وغيرهِ. وأخذ عنهُ جماعة من أكابر العلماء منهم: أبناهُ الشيخ عبد الوهاب والشيخ إبراهيم , والشيخ أحمد بن محمد القصير النجديّ المتوفي سنة 1079هـ=1668م ومن علماء نجد الذين يشار إليهم بالبنان الشيخ حسن بن سلطان القصير المشهور في بلدة أُشَيْقر. أخذ العلم عن الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن اسمعيل. والشيخ الفاضل سليمان بن علي بن مشرف. وأخذ عنهُ عدة من العلماء كالعالم الفاضل الشيخ عبد الله بن أحمد بن محمد بن عضيب الناصريّ النجديّ. هؤلاء هم أشهر علماء ذلك العصر. ثم حدث ما ثبَّط عزائمهم فتقهقر أمر العلم وأصحابهِ وكان ذلك في سنة 1133هـ=1720م إذ ظهر فيها سعدون بن محمد
بن عزيز الإحسائي على نجد وحاصر آل كُثيّر في العارض وأظهر المدافع من(3/248)
الإحساء ونزل في عُقْرُبا المعروفة وحاصر بلدة العمارية حتى هزلت مواشيهم وأصابتهم أضرار كثيرة. ثمَّ سار الدرعية ونهب بيوتها فقتل أهل الدرعية كثيراً من قومهِ وفرَّ العلماء إلى بلادٍ يجدون فيها راحتهم. ولما مات سعدون المذكور سنة 1138هـ=1725م عُمّرت منازل بني هلال ومنازل بني سعيد وآل بني سليمان في بلدة الروضة المعروفة في ناحية سدير. فتنفس العلماء الصعداء وعاد أغلبهم من مَفَرّهم إلى مقرّهم. وبعد ذلك بمدَّة ظهر آل سعود في الدرعية واستولوا على بلاد نجد والإحساء والقطيف وعمان والعسير وجبل شمَّر (جبل طيء) وانقادت لهم القبائل والبلاد وحصل من أمرهم ما هو مشهور. ورجع العلم إلى دياره وانبعث من قبره كما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
شاتسنا
أيها القمر
الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعْيَتْ من طول ما انبعثت في النهار برشاش من النور النديّ ينحدر كأنهُ قطرات من الأمواج المتلاطمة في بحر النسيان الذي تجري فيهِ السفُنُ الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برَّحت بهم الآلام , والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام , تلك تحمل إلى الغيب تعَباً وتَرَحاً , وهذه لعباً وفرحاً , والغيب كسجلّ أسماء الموتى تختلف فيهِ الألقاب , وتتباين الأحساب والأنساب , وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب , وهو يعجب من الذين يسمّونهُ بغير اسمهِ ولا يعلمون أنهُ كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب. والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تُنفّس بعض أكدارها , أو تُمْلي في الكتاب الأسود أخبار نهارها , وبدأ قلبي يتنفس معها كأنهُ ليس منها قطعة صغرى , بل طبيعة أخرى , والله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها , ومن(3/249)
حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أُخراها , إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربهِ تناولنهُ وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنهُ تاريخ قلب آخر بل هو جزء من الموسوعات الكبرى التي يدوّن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلّم الناس منهُ أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنهُ من أقصى الحلق. . بل لأنهُ من أقصى القلب , بل لأنهُ من أقصى التاريخ , بل لأنهُ أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب. والآن وقد رقَّت صفحة السماء رقة المنديل , أبلَتهُ قُبَل العاشق في بعاد طويل , أو هجر غير جميل , وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء الخيلة كأنهُ قطرة من الندى تلمع بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يُشرق من أحد جوانبهِ كالقلب الحزين حين ينبع فيهِ الأمل ومرَّت النسمات بَليلة كأنها قِطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأنها أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسهِ والعاشق في قلبهِ ونام قومٌ قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. وليس الكون تاجه العظيم فأشرق عليهِ القمر. والآن وقد طلعتَ أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفكُّ يتلمَّس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلمَّ أبثك نجواي أيها الروح المعذب واطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبيَّن منبع الدمعة التي
فيهِ فأنزفها , إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجمُش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيهِ تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدّس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً. أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجزي كأنهُ دموع السحر من أجفان(3/250)
هاروت وماروت ويطَّرد بجملته كأنهُ قطعة من السماء هاربة في الأرض. وهل ترى في شاطئهِ تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافّ كأنهُ مصنوع من جلود الكتب. وما دمعتي إلاَّ النهر الذي نبتُّ في شاطئهِ وهي شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء. ليس كل مَن عصر عينيهِ فقد بكى. إن البكاء لأشرف من ذلك. وكما يكون الضحك أحياناً حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع. وما إن لقيت باكياً إلأَّ رأيت وجهه مقبلاً عليَّ كأنهُ يسألني: تُرى من أين يُذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها. ولكن الباكي بها لا يجد من الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق لضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين. أريد أن أبكي أيها القمر لأنهُ يخيَّل إليَّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي وأني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلاَّ حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً باهتزاز عقلي في تصفح الأسفار , واضطراب نفسي في متاحف الآثار , واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار , فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها , كأنها روح عاشق(3/251)
يطاردها الموت يدي حبيبها , فإن في هذه الدمعة ثواب آلامي , ويقظة الحقائق من أحلامي. وما زلت حائراً في أمر مشتبه لا أُصيب الوجه
فيهِ فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تنقضُّ من بناء الحياة لينهدّ , أو هي تضاف إليهِ ليشتدَّ , فإني أرى أقواماً يحبون بالدموع وآخرين يموتون بها. ولعل عين الإنسان ملئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادق مستفيضة حول الروح فلا يقتحمها الفكر ولا يرى أبداً إلاَّ ظاهرها ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله. أو لسنا نرى الذين يبكون كثيراً يؤملون أن يدركوا من أسرار الروح كثيراً إذ يرون تلك الخنادق قد أخذت تمجُّ ما فيها فكأنهم بالماء قد غِيض وكأنهم بالأمر قد قُضِي. ولكن الإنسان ليس إله نفسه فمتى انكشفت أرض الخنادق الروحية ظهرت فيها حفرة القبر وكانت آخر دمعة تجف منها هي دمعة الموت. بَيد أن الحقائق التي تهيئ للبائسين ذلك الأمل بكثرة ما تفيض أعينهم من الدمع هي في رأي الناس علم وفلسفة لأن الجهل في الإنسان لا حد له فكل ما ظفر بهِ عده حداً علمياً. أولا ترى أن أجمل ما في الديانات والشرائع قد تحول إلى حجارة البيَع والصوامع والمساجد والأضرحة والمحاكم والسجون وكثير من مثلها حتى صارت هذه الأبنية تفهم الناس من ضروب المعاني أكثر مما تفهمهم الكتب السماوية في الأرض والأرضية في السماء. ما لي ولك أيها القمر لا أحب أن أُفيض عليك دمعتي فقد ترى فيها أشعة كثيرة من ألوان الأسرار المحتلفة. بل أنا أراها في قلبي وقد اشتمل بها الخيال الحزين. خيال هذا الأمل الذي يسميه الناس الحب وتسمية الطبيعة الحياة المعذبة لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا الحقيقة إلا بأوصافها ولا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل. أما باطن الحقيقة الذي يحتوي السرَّ المحزن فهذا يعرفهُ من يفهم لغة الطبيعة وما لغتها إلاَّ أفعالها. وأنت فإذا أردت(3/252)
أن تدرس علم البلاغة من هذه اللغة فادرس المصائب والآلام والأحزان أنها هي أقانيم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع وأنك إن درستها وتدبَّرت شواهدها الصحيحة التي لم يصنعها رُواتها أصبحتَ أفصح من ينطق عنها في هؤلاء البكم الذين يقرأ أحدهم صفحة الزهر بعينين في أنفهِ. . . ولا يستحي الغبيّ أن يقول لك أن في الزهرة معنى جميلاً. فمن أحبَّ ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال مَلك يتمثَّل له في حلم من أحلام الجنة. ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية وفي خدّيها توقد الفكر الإِلهي العظيم وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائماً أن شمس روحه تكاد تُمسي. ورآها في جملتها تمثال الفنّ الإِلهي الخالد
الذي يُدْرَس بالفكر والتأمل لا بالحسّ فأطاعها كأنها إرادته واستند إليها كأنها قوَّته وعاش بها كأنها روحه. فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب وهو الذي يقول لك صادقاً مصدوقاً: إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صَلْصَلة الملَك الذي يفجأُ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة. ليس كل ما يعجبك يرضيك ولكن كل ما يرضيك يعجبك فالجمال الوصفي الذي يقاس بالنظر ويخرج منهُ الفكر بنسبة هندسية جمال صحيح وحريٌّ أن يكون معجباً ولكنهُ على كل حال بناءٌ جسمي كالفصر المشيد الذي يعجب الفقير المعْدَم فيتمناه فإن هو صار لهُ خالياً لم يرضه لأنهُ لا يلتحف سقوفه المموَّهة ولا يفترش أرضه الموطأة ولا يلبس جدرانه الموشاة ولا يقتات من هوائهِ الطلق. أما الجمال الذي يرضي فهو الذي يشفُّ عن صورة روحك بغير ما يخيلها لك ماء الحياة العكر هذا الذي لا يشفُّ عن شيء ولا يزال يضطرب فيجعل شبحك في اختلاطه كأشباح البهائم إذا ضربت في الماء بأرجلها. فترى من ذلك الجمال كأن ملكاً هبط عليك من السماء وفي يده مرآة فنظرتَ فإذا صورتك بعينها ولكنها في يد ملك. وقليل أن يجد الناس مثالاً من ذلك الجمال فكثير منهم يجحدونه ويرونه ضرباً من الوصف الشعري الذي يظهر في خلقهِ ولإبرازه مقدار ما في الشعراء من روح(3/253)
الله. وإنما يجحد مثال الجمال الكامل من لا يستطيع أن يكون مثال الحب الكامل وإذا كانت قد علاها الصدأ فكيف يعلوها الوجه الجميل. وكيف تخلص إلى روحك من طين هذه الكأس الزجاجية المرآة الصدئة نشوة الجمال ولو سكبت فيها حور الجنة كل ما في خدودها. ولقد قيل أن قوماً من العرب ترحَّلوا عن بعض منازلهم فكان من أنْسائِهم قطعة مرآة صقيلة كأنها وجه المليحة التي نسيتها فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبح طلعة وجهامة منظر حتى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتدت بها. فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسنائها وما كادت تنظر فيها حتى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل لأن الله رحيم ومن رحمته أن لا تعرف الوحوش أنها وحوش وأن لا تجد أسباب هذه المعرفة. فانقبضت الضبع وزَوَت وجهها وقالت: من شرٍّ ما اطَّرحك أهلك أيها المرآة. . .! فجمال هذه الضبع الذي جحدته المرآة كما يجحد الكافر رحمة الله وحسنها الذي أحالته قبحاً كما يُحيل الطبع اللئيم كل حسنة تتصل به هما أشبه شيء بالعقل والقلب في المحب الأخرق الذي يحب بحواسه فتجوع روحه وتشبع وتعتلّ بالتخمة أيضاً. . . وكم في الناس
من مثل هذه الضبع وكم في الحسان من مثل تلك المرآة. ما أحسب الإحساس إلاَّ نكتة صافية في القلب تقابل نكتة العين التي يكون بها البصر فكل ما انطبع في هذا انطبع في تلك لكي تكون الروح بين مرآتين فيسهل عليها أن تدرس الحقيقة بالمقابلة فإذا نزل الشاعر الحسَّاس بروضة غناء أحسَّ بقلبه كأنما يخضرُّ بعد يُبس. وإذا أطلَّ في الغدير الصافي أحسَّ بمعنى الماء ينصبُّ في عروقه. وإذا نظر إلى وجه الجميلة الحسناء فلماذا لا يحس أن قلبه امتلأ جمالاً حتى كأنهُ لا يعشق إلا شيئاً في نفسه. بلى وأكثر من ذلك فإن الشاعر ليكتب عمن يحبها فيرى كأنه ينفخ في كل(3/254)
كلمة معنى من الحياة لأنهُ لا يكتب كلاماً بل يخط صورة قلبهِ. والعواطف الحية تبقى حية ولو كانت مرسومة لأنها لا تجتمع في شكلها الذي تنتهي إليهِ إلاَّ بعد أن تمر في أدوار الحياة فتألفها الأرواح وتصير كاللفظ ما هو إلاَّ أن يذكر حتى ترى معناه للذهن ماثلاً. بلى ولقد يخبَّل إليَّ أيها القمر الجميل حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظي تطلع من المداد فإذا قلت وجهها فهل تظن هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمراً في الكلام. وإذا فلت ابتسامها فهل ترى الحروف إلاّ الفجر الندي وإذا قلت هي فهل ترى إلاّ ضمير الطبيعة التي تأخذ عنها الإنسانية دينها؟ أة لو تعلم أيها القمر من هي!
مصطفى صادق الرافعي
في رياض الشعر
رأي مختبر عاقلِ
عذيريَ من خُلُقٍ باسلِ ... أحدَّ وأمضى من الذابلِ
صليبٍ على القسر لا يلتوي ... إذا غمزتهُ يد الناقلِ
إذا شاقني الأمر صعب النوال ... مضيت ولو أنهُ قاتلي
وإن حال من دونهِ حائلٌ ... مشت أخمصاي على الحائلِ
حديد قوي النفس ذو همة ... تضايق في جسدٍ ناحلِ
وأورثنيها فًتى أمثلٌ ... وأُورثها لفًتى ماثلِ
بلوتُ الزمانَ وأهل الزمانِ ... فخذ رأي مختبرٍ عاقلِ(3/255)
رأيتُ الملوك إذا أُطلقوا ... أضرَّ من الجارف الغائلِ
نفوس الرعايا وأعراضها ... وأرزاقها أكلة الآكلِ(3/256)
وُعودهمُ برقها خلَّبٌ ... وأقسامهم ضحكةُ الهازلِ
ولو عقلوا قيَّدوا نفسهم ... ومن لك بالمطلق العاقلِ
فتلك القيودُ ضمان العروشِ ... توطّدها في المدى القابلِ
حقوق الملوك بتقديسها ... دعاوى على الحقِ للباطل
همُ ميَّز الله أشخاصهم ... بشيءٍ ولكن رضي الخاملِ
بني الشرق هبُّوا فقد طالما ... زحفتمُ في الدَّرّك السافلِ
إلى مَ تنامون عن حقكم ... وتعبث فيكم يدُ العاملِ
ويظلمكم رجلٌ واحدٌ ... وأنتم عداد الدُّبى النازلِ
فدونكم العلم فهو المحرّ ... ر والرّق لازمة الجاهلِ
وخلّوا الديانات طيَّ القلوب ... وكونوا عن الخلف في شاغلِ
ألم تنظروها غدتْ آلةً ... لتفريقِ جمعكُم الحافلِ
ولا ترهبوا الموت فالموت لا ... يؤخرُهُ وَجَلْ الواجلِ
داود عمون
إن في هذه الأبيات لصورةً معنوية لشاعرها الكبير. ولئن كنا قد اخترناها لهذا الجزء فلأنها
أشبه شيءٍ بمرآةٍ تتجلى فيها نفس داود بك عمون. ففي الجزء الأوَّل منها وصفٌ ينطبق على الشاعر انطباقاً تاماً , وفي سائرها أفكار ومبادئ عرفها الناس في هذا الرجل المتقد ذكاءً وعزماً. فهي لمن عرفوا داود عمون ولمن لم يعرفوه صورة عنهُ وعن أفكاره طبق الأصل وإنما نشرناها مع صورتهِ لتكون متممة لها.(3/257)
زهرة بنفسج
الدكتور نقولا فياض أشهر من أن يُعرَّف , فهو الشاعر الذي يسحر القلوب , والخطيب الذي يسترقّ الألباب. وستتحف الزهور قرَّاءَها تباعاً بما ستجود بهِ قريحة هذا الأديب الكبير. وهذه القصيدة الرقيقة باكورة ما تقدمهُ إليهم:
أهوى البنفسج آية الزَّهرِ ... في الشكل والتصوير والعطرِ
وأحبّهُ في الأرض مختبئاً ... وأحبُّهُ في بارز الصدرِ
ولكل عذراءِ أقدّمهُ ... ما دام فيهِ حياؤه العذري
لكن شجاني منهُ حادثة ... أجرتْ دموع عرائس الشعرِ
هي زهرة بجوار ساقيةٍ ... نبتت وعاشت عيشة الطهرِ
لم تدرِ غيرَ العشب مُتَّكأً ... وسوى عناق الماءِ لم تدرِ
فا فاستيقظت يوماً كأن بها ... سكراً وقد شربت ندى الفجرِ
تبكي جوًى وتقول ما أملي ... لو عشتُ خالدةً بذا القفرٍ
حسناء لكن لا عيون ترى ... حسني ولا من عارفٍ قدري
هلاَّ صعدتُ إلى ذُرى جبلٍ ... وبدلتُ هذا الكوخ بالقصرِ
فأرى الجديد من الوجود وما ... تحوي معاني الكون من سحرِ
وأشارف الدنيا وأجعلها ... تطوي مناظرها على نشري
قالت وقام بها الهوى فمشتْ ... في القفر مثل ظبائهِ العُفرِ
والريح تحملها وتقعدها ... وتموج بين الشعر والخصر
حتى إذا صعدتْ وما ابتعدت ... وقفتْ تجيل الطرفَ عن كبْرِ
فرأت بساط العشب منتشراً ... تلوي عليهِ معاطف النهرِ
جاراتها في الحيّ نائمة ... حمراً على أعلامها الخضرِ(3/258)
فاستبشرت بالفوز وانطلقت ... تعدو ولا تلوي على أمرِ
وحلا لها السفَرُ البعيد وما ... حسبت حساب الحلو والمرِّ
الأرضُ مرعرةٌ ومحرقةٌ ... فكأنها تمشي على جمرِ
ورفيقها هُوج الرياح وقد ... ثارت عليها ثورة الغدرِ
ترمي بها كل الجهات فلا ... ترتاح من كرٍّ إلى فرٍّ
حتى أصابت هضبةً فإذا ... فيها نعيم العين والفكرِ
من تحتها الجنات مشرقةٌ ... بالزَّهر كالأفلاك بالزُّهرِ
والناس والأشياء مائجةٌ ... كالبحر في مدٍّ وفي جزرِ
قالت بدأت أرى فواطربي ... لو كنت أبلغ موطئ النَسرِ
أعلو إلى قمم تحّجبها ... تلك الغيوم بحالك السترِ
فأرى بديع الكون تحت يدي ... وأفضُّ منهُ غامض السرِّ
يا للبنفسجة الجميلة من ... أهوال ما قاستهُ لو تدري
عزَّ السبيل إلى مطامحها ... في مصعد الأشواك والوعرِ
وأصاب أرجلها الضعيفة ما ... يُمني الحديدَ الصلبَ بالكسرِ
فتأوَّهتْ ندماً ولو قدرتْ ... رجعتْ على أعقابها تجري
لكنها داخت وصيَّرها ... خوفُ السقوط كراكب البحرِ
فتشبثتْ بالأرض مفرغةً ... جهد القوى وبقيَّة الصبر
حتى تسنَّمتِ الذُرى وغدتْ ... في الأوج تتلو آية الشكرِ
لكنها لم تلقَ وا أسفي ... في الأوج غير جلامد الصخر
لا عشب ينبت في جوانبهِ ... أبداً ولا أثرٌ لمخضرِّ(3/259)
والعاصفات كأنها أسُدٌ ... في الجوّ تزأر أيما زأرِ
والغيم ساوى في تلبُّدهِ ... ما بين نصف الليل والظهرِ
فجثت لأوَّل مرَّة وبكتْ ... كالطفل من تعب ومن ذُعرِ
والبرْدُ أفسد لونها كمداً ... من كلّ مزرَقٍّ ومحمَرٍّ
فاصفرَّ ذياك الحبين كما ... ذهبتْ نضارة ذلك الثغرِ
من قهرها أنَّتْ وقد سُمعتْ ... وسط الزوابع أنَّهُ القهرِ
يا ليتني لم أصبُ نحو عُلًى ... وبقيت بين عرائس الزهرِ
قم ارتمت ضعفاً وأخرسها ... شبَحٌ بدا من جانب القبرِ
وتصلَّبت أعصابُها ومضتْ ... بالموت هاويةً إلى القعر
مسكينةٌ قد غرَّها شرفٌ ... هو كالسراب لكل مُغترَ
ظنت بأن لها العلاء غنى ... فإذا بهِ فقرٌ على فقرِ
ما كان أهناها وأسعدها ... لو لم تفارق ضفة النهرِ
الدكتور نقولا فياض
بين فؤادي والجوى
نشرنا للسيد عبد الحميد بك الرافعي شاعر الفيحاء مقاطيع شعرَّية دلَّت على مقدرته في هذا الفن. ونحن ننشر اليوم قياماً بوعدنا صورته ومقدمة قصيدة شائقة له نظمها في مديح آل الرفاعي. وقد أعادت علينا هذه الأبيات الطيبة ذكرى شعراء البداوة المجيدين:
أيُّ قلب يا غريبَ المنحنى ... ضلَّ منّي ويحكم يومَ النوى
هل له يا هل ترى من ناشدٍ ... هل له من ناشدٍ يا هل تُرى(3/260)
أحرقَ البينُ بقاياه فمن ... لي بهِ وهو رمادٌ بالغضا
كلّما هبَّت رياح الملتقى ... خلتُ في إدراجها منهُ هبا
لا أبيتُ الليلَ إلاَّ شاكياً ... كرَّة السهد على جيش الكرى
وإذا مرَّ خيال طارقُ ... منكِ يا ميُّ بوهمي وانثنى
قامت الحرب لكِ الله على ... سوقها فؤادي والجوى
والأسى ويلاه من نيرانه ... قوَّم الأضلاع مني وبرى
ولقد كانت لعَمري قفصاً ... لفؤادٍ طار في جوّ الهوى(3/261)
ما درى أن الهوى إشراكه ... تقنص الأسدَ ومَن لي لو درى
يا مهاة العُرب يحمي خدرها ... في صدور البيد أطراف القنا
أنا مَن تدرين لم يخطر على ... قلبهِ السلوان أو حبّ السوى
غير أني يا ابنة القوم فتى ... يبذل النفس بتطلاب العلى
حملته هذه الدنيا على ... غارب الغربة يجتاب الفلا
في ضواحي الأرض أياماً وفي ... حاجرٍ يوماً ويوماً بالنقا
صيَّر الانجاد أغواراً بما ... قد برى منها بتكرار السُرى
تتشاكى النوق من أسفاره ... وتملّ الأرض من ضرب البرا
ولحكم الدَّور أضحى مثلا ... ما انتهى بالسير إلاَّ وابتدى
فكأني خاطرٌ ما وسعت ... دركه يا سعد أفكارُ الدُّنا
فغدت تجهد في ترديده ... فمتى يا دهر ينزاح الغطا
كم ليالٍ يفرق الليل بها ... حار في أطباقها بدر الدجى
خضتها كالنجم في غلوائه ... اذرع البيد بأخفاف المطا
تتهادى بيَ تيهاً ناقة ... تسبق السهم عن القوس انبرى
قد عراها بعض ما بي فغدت ... تملأ الدنيا دويًّا بالرغا
كلما أزعجها طول الونى ... نهَّضتها عزماتي بالحدا
عبد الحميد الرافعي
الحجاب
احجبي وجنتيكِ عن أعين النا ... س فسرُّ خلف الحجاب
وانظري مثلما يلوح المنارا ... ن إذ الشمس غُيّبتْ في الحجاب
خليل مطران(3/262)
في بلاد الأندلس
الرحلة الثانية
قصدت عاصمة الأسبان هذه المرة عن طريق غير الطريق التي انّبعتها السنة الماضية. فبعد أن زرنا نابولي قامت بنا الباخرة إلى جنوى , فوجدناها أكثر جمالاً ونظافة من نابولي , وهي تمتاز عنها بمحاسن شواطئها , وكثرة متنزهاتها , وجمال حدائقها الغناء , وأهمها حديقة المركيز دي بلافتشيني وفيها كل أصناف الزهور والأشجار الموجودة في العالم , وكثير من التماثيل البديعة والرموز التاريخية. وقد شاهدنا فيها أشجاراً كبيرة من أرز لبنان الجميل. وهذه هي المرة الثانية التي أشاهد فيها أرز لبنان العزيز بعد أن شاهدته للمرة الأولى في حديقة القصر الملكي في بلدة الجرانخا في إسبانيا كما سيجيء الكلام عن ذلك. وأنهُ ليعزّ عليَّ أنه لم يتيسر لي حتى الآن مشاهدة أشجارنا التاريخية نفسها في أعلى تلك القمم الجميلة التي يفتخر لبنان بمحاسنها. وبالقرب من هذه الحديقة التي يقولون عنها أنها أكبر وأجمل حديقة في أوربا يوجد قصر جميل وروضة غناء للشاعر الكبير ادمون روستان ولكنهما أقل جمالاً وعظمة من قصره الشهير وغياضهِ ورياضهِ الفسيحة الكائنة في مسقط رأسهِ كامبو التي أتينا على ذكرها في الصيف الماضي.(3/263)
ومما تفاخر بهِ جنوى أيضاً جميع مدن أوربا مقبرتها الشهيرة التي تستحق الزيارة لكونها آية في الترتيب والعظمة والجلال وفيها تماثيل وصور بغاية الإتقان والجمال. وهذه المقبرة هي لأهل البلد من جميع الطوائف والملل. ولكل فئة ترتيب خاص بغاية الإتقان والكمال. ومما يجعل لجنوى أهمية كبرى حسن موقعها الجغرافي وجمال شواطئها البحرية التي خصتها بهِ الطبيعة. وهي بلدة عامرة آهلة بالسكان كثيرة المصانع والمعامل أخص منها بالذكر معمل أنسلدو الشهير بصنع السفن الحربية. والطريق بين نابولي وجنوى من أجمل الطرق التي يقطعها الإنسان في البحار لأن الجزر الآهلة بالسكان , والجبال الكثيرة الأحراج والغياض تتخللها عن قرب على طول المسافة تقريباً. وبعد أن قضينا نحو 36 ساعة في جنوى زرنا في أثنائها بالأوتوموبيل شواطئها الجميلة التي يقصدها السائحون والسائحات من كل جهات العالم للتمتع بجمال مواقعها الطبيعية وطيب هوائها وصفاء سمائها , قامت بنا الباخرة إلى مدينة الجزائر حيث شاهدنا بمزيد الإعجاب والسرور آثار العمران الحديث وآيات المديبنة
الفرنسية التي جعلت هذه المدينة الإفريقية من أجمل المدن منازلها ومبانيها على علوّ متتابع. ولكن أنَّى لبيروت تلك الشوارع الجميلة التي تسير فيها العربات والسيّارات دون أن يشعر الإنسان بأقل ارتجاج أو انزعاج. ولكل منزل في هذه المدينة تقريباً حديقة لطيفة بهِ وتحتوي على أجمل الإزهار وأحسن(3/264)
الأشجار. أما الفنادق الفاخرة التي فيها , فهي , وإن تكن أقل عظمةً وغنىً من لو كندات شبرد وسافواي وهليوبوليس في مصر , أكثر جمالاً ورونقاً لحسن مواقعها العالية التي تطل على أحسن المناظر برًّا وبحراً ولاتساع الحدائق النضرة التي تحيط بها وتساعد كثيراً على انشراح الزائرين الذين يقضون بين أشجارها الكثيفة وأزاهرها الفائحة العبير أطيب الأوقات وألذّ الساعات. وبعد أن تمتعنا بمحاسن ما في هذه المدينة من ىثار المدينة والعمران التي قامت بفضل واجتهاد الأمة الفرنساوية قصدت بنا الباخرة رأساً إلى جبل طارق , ذلك المضيق المنيع الذي لا يعرف أهميته ومناعة تحصينه إلاَّ مَن يُسعدُهُ الحظ بزيارته. وقد اتفق أننا وصلنا إلى جبل طارق في آن واحد تقريباً مع الباخرة كرباثيا وهي التي أنقذت بعض ركاب الباخرة تيتانيك في تلك الفاجعة المؤلمة المعروفة. وعند تقابلنا حيّتها باخرتنا بأنغام الموسيقى. وفي سفح ذلك الجبل يوجد بلدة آهلة بالسكان يقطنها أكثر من 25 ألف نفس. ولولا ممانعة الحكومة الإِنكليزية وعدم تصريحها لكل أجنبي بالإقامة أكثر من أسبوع واحد فقط تلك البلدة , لكان عدد سكانها ازداد كثيراً. أما البلدة فهي بغاية النظافة والترتيب. والعادات الإنكليزية متأصلة فيها تماماً بحيث أن الإنسان يحسب نفسه في انكلترا. ومعظم الدكاكين والمخازن يقفل يوم الأحد , وبعضها يقفل يومي الجمعة والسبت أيضاً. والعربات لا تقدران تسير إلاَّ خطوة خطوة أمام الكنائس , خصوصاً(3/265)
عند إقامة الصلاة. والرقص ممنوع في الملاهي والقهوات , بحيث أنهُ لا يوجد في البلدة إلاَّ محلات للسينماتوغراف فقط. أما القلاع والطوابي والاستحكامات التي تحيط بذلك الجبل , وخصوصاً المدافع العديدة المحكمة الوضع من داخل تلك الصخور الهائلة , فحدث عنها ولا حرج. ولا يدلُّ على وجود تلك المدافع في داخل الجبل إلاّ الثقوب العديدة المحفورة في تلك الصخور وأغلب تلك الثقوب مغطى ببعض الأشجار والأزهار , ولكن عندما تعكس الشمس أشعتها عليها في بعض ساعات النهار يتلألأ فولاذ تلك المدافع من فوهات تلك الخروق ومن تحت ظلال الأشجار
والأزهار. وهناك مرقاة حربية تصل بين البلد وأعلى قمة ذلك الجبل وتلك الحصون المنيعة لسهولة التواصل وسرعة مناولة الأشياء عند لزومها. وبعد أن زرنا ما أمكننا زيارته من جبل طارق , وتمتعنا بمحاسن حديقتها الغناء التي تعزف فيها الموسيقى العسكرية كل يوم مساءً , ركبنا باخرة صغيرة أوصلتنا إلى الجزيرة البيضاء الشهيرة بمؤتمرها الدولي المغربي الأخير؛ وهي أول الحدود الإسبانية , بعد أن تنازلت اسبانيا لانكلترا عن حقوقها في جبل طارق سنة 1882. ولهذا الحادث التاريخي تذكارٌ في منتصف بلدة جبل طارق , وهو عبارة عن بابين كبيرين بشكل قنطرتين , يمثل أحدهما الحكم الإسباني القديم , وعليهِ الرموز الملكية الإسبانية , ويمثل الثاني الحكم الإنكليزي مع رموزه وشعاره المعروف فليخسأ من يسيء الظن ولم تطل مدة إقامتنا في الجزيرة لأنها بلدة صغيرة ليس فيها من(3/266)
الملاهي والآثار المهمة ما يستوقف المسافر , لا سيما إننا كنا في شوق عظيم إلى مشاهدة الأندلس الجميلة التي يتحدث بجمالها الركبان , ويتوق للتمتع بمحاسن آثارها العربية كل شرقي. والأندلس أجمل وأخصب جهات إسبانيا , وأكثرها آثاراً وأجلّها تذكاراً , وهي بلاد كثيرة السهول والروابي , قليلة الصخور والجبال. والسير في أرجائها الفسيحة يشرح الخاطر ويسرّ النواظر , لكثرة ما يشاهد الإنسان من المروج الخضراء , وجنائن الفاكهة المتنوّعة الأصناف , وسهول الزيتون المترامية الأطراف , وهي تشبه كثيراً بتنسيق مزروعاتها وألوان خضرتها سهول البقاع في سوريا. ولآهل الأندلس عادات خاصة بهم , ومزايا وأخلاق قومية يمتازون بها عن سواهم. فرجالهم من أشد الرجال , وأكثرهم نشاطاً وإقداماً؛ ولذلك يكثر بينهم عدد مصارعي الثيران الذين يمتازون على أقرانهم في ساحة المصارعة. أما نساؤهم فمن أجمل نساء إسبانيا , وللجمال الأندلسي شهرة عظيمة في العالم. فهنّ على الغالب طوال القامة , يقرب لونهنّ إلى السمرة أكثر منهُ إلى البياض. ومع ذلك فقد شاهدت منهمّ من يُخجل بياض وجوههنّ نورَ الصباح. وللنساء ولعٌ شديد في حب التزين بالزهور ورصفها على الصدور والرؤوس. وللفلّ الأندلسي الجميل الحظّ الأكبر في ذلك مما جعلني أتذكر عفواً حين مشاهدة بعضهنّ قول خليلنا العزيز شاعر بعلبك:
زانت الرأس بفلٍّ ... هو بالرأس تحلّى(3/267)
ما رأت قبلكِ عيني ... وردة تحمل فُلاّ
أما تلك العيون التي أن رَمت قتلت , فبسوادهنّ تفاخر الأندلسيات كلّ حسان العالم , وقد خطر على بالي بعض أبيات للمرحوم الشيخ خليل اليازجي بعد أن كنت قد هجرت ونسيت الشعر وأهله. أما الأبيات فهي:
بيض الصوارم تفدي الأعين السودا ... فتلك لا تبتغي للضرب تجريدا
وأسمرُ الرمح يفدي العطف منثياً ... فذاك لا يبتغي للطعن تسديدا
وأما ذلك الفمُ الصغير الجميل الذي يفترُّ عن دور , ويبسمُ عن أقحوان , فقد نطقت جوارحي عند رؤيته , قبل أن ينطق فمي بقول بعضهم:
وفم كصدري ضيّق لكنَّ ذا ... يحوي اللهيب وذاك يحوي الكوثرا
وأما تلك الأيدي والزنود الجميلة فلا أجد في وصفها قولاً أوفق وأتم مما قال الشاعر:
وزندين لو لم يمسكا بدمالج ... لسالا من الأكمام سيل الجداول
والأندلسيون أهل كرم وأنس. وقد اقتبسوا من العرب الأنفة والمرؤة وإكرام الغرباء. ولم تزل إلى الآن ملآكلهم تشبه كثيراً المآكل العربية , ودورهم حافظة أيضاً شكلها الشرقي الجميل القديم فكل دار لا تخلو من فسحتين عند مدخل الباب الكبير , تفصل بينهما قنطرة شرقية الشكل , وفي وسط الساحة الثانية بركة مياه , والأزهار مرصوفة من حولها , مما يجعل للبيت رونقاً جميلاً ويزيد أهله استعداداً حسناً للانشراح وتعاطي كؤوس الراح. والنساء مثل رجالهنّ أهل طرب وأنس. ويمتزن عن باقي النساء(3/268)
بسلامة القلب وشدّة التأثير. ولكن إذا علق قلبهنّ بأحد فمن الصعب أن يخلص من أيديهنّ لشدة مفعول الغرام والانتقام في قلوبهنّ السليمة. ومن العادات الخاصة بأهل الأندلس , والمنقوطة طبعاً عن العرب , إن الشاب لا يقدر أن يقابل خطيبته ولا يكلمها مباشرة إلا بعد مرور بضعة أشهر على عقد الخطبة ويجب أن يتردّد في تلك الأثناء إلى منزل والدها دون أن يصعد إلى الدور الأعلى حيث تكون خطيبته فيضعون له كرسيّاً في أول المدخل وعروستهُ تكلمهُ قليلاً من نافذة البيت. وفي أيام الآحاد والأعياد - وما أكثر الأعياد في هذه البلاد - عند ذهاب الخطيبة إلى الكنيسة يجب على الخاطب أن يتتبع خطواتها , وعليها أن تحاول الإِعراض عنهُ وتتظاهر بعدم الرغبة فيهِ. وفي أثناء الخطبة يجب على الفتاة أن تظهر أكثر من ألف
مرة عدم رغبتها في الاقتران , ومع ذلك عند مجيء خطيبها في الساعة المحددة إلى البيت يجب عليها أن تطل من الشباك وتكلمه. وسنجيء في مقالٍ آتٍ على ذكر ما نشاهده من أحوال الأندلس
مدريد
نجيب زلزل
من إدارة الزهور
هذا الجزء الأخير الذي يصدر من الزهور قبل عطلة الصيف السنوية. وموعدنا والقرّاء الأدباء أول أكتوبر تشرين الأول القادم.(3/269)
تربية الطفل
قد يستعمل فريق من الأمهات بعض المشروبات كالجعة لزيادة اللبن ولكن اللبن الذي تزداد كميته هذه الوسيلة يصبح رديئاً ويعرّض الطفل لجملة أمراض؛ ولا يغتر الإنسان بالنمو الذي قد يظهر على الطفل عند ابتداء استعمال هذه المشروبات لأنهُ يكون وقتياً. وكل المشروبات الروحية تفرز أيضاً مع اللبن وتحدث تأثيراً رديئاً كالصراخ والبكاء بدون سبب والقلق في النوم والتشنجات العصبية والضعف العمومي. وعلى كل مرضع أن تتحاشى الدواء بقدر الإمكان فلطالما انطلقت أمعاءُ الطفل بالمسهل الذي تأخذه الأم , دون أن تتأثر هي به , وطالما كان للمسكنات والمخدرات تأثير أقوى في الأطفال منهُ في الأمهات , وكم من دواءٍ قوي تناولهُ الأم فأتلف صحة الطفل , فيجب على كل مرضع أن تسأل طبيبها الذي يصف لها الدواء إذا كان مؤثراً في الطفل أم لا.
الرضاعة والطمث - ينقطع الحيض غالباً أثناء الرضاعة. ولوحظ أن الحيض يظهر عند المرضع في الشهر الثاني إلى الرابع في 15 في المائة ومن الشهر الرابع إلى الثامن في 30 في المائة ومن الشهر الثامن إلى الثاني عشر في 30 في المائة أيضاً , وفي السنة الثانية في 25 في المائة. وعند ظهوره يلاحظ تغيّر في صفة اللبن وكميتهُ يضعف معُ الطفل ويحتاج الحال إلى استعمال الرضاعة المختلطة حتى يفطم الطفل. وقد لا يكون لظهور الحيض تأثير في اللبن في بعض النساء , وذلك نادرٌ.(3/270)
الرضاعة والحمل - لا تحمل النساء إلاَّ بعد انقطاع الرضاعة وظهور الحيض؛ ولكن بعضهنَّ يحملنَ أثناء الرضاعة. ذكر رمفري أن النساء اللواتي يحملن أثناء الرضاعة بدون ظهور الحيض لا يتجاوزنَ 6 في المائة بيد أن النساء اللواتي يحملنَ أثناء الرضاعة وبعد ظهور الحيض يبلغنَ 60 في المائة. ولا بأس من إرضاع الحامل طفلها إذا لم يبلغ السنَّ المناسبة للفطام واستطاعت هي ذلك دون أن يطرأ عليها أو على ولدها ضعف.
المراضع - أكمل غذاءٍ للطفل هو لبن أمهِ , وإن لمن واجب كل أُمٍّ قوية البنية جيدة الصحة إرضاع طفلها. وأما إذا لم يكفِ لبن الأم أو كان لبنها رديئاً , أو كانت صحتها غير جيدة لإِصابتها بالسّ أو بمرض قلبي أو بحمى شديدة أو بخرَّاج في الثدري , فيجب أن يمنع الطفل عن لبن الأم ويستبدل الغذاء الذي هيأتهُ له الطبيعة. لأنه من الخطأِ أن نسمح للأم المصابة بتدرُّنٍ رئوي مثلاً أن ترضع طفلها فتنتقل العدوى إليهِ بطريق اللبن ,
وأفضل طريقة حينئذٍ هي إحضار مرضع سليمة البنية لأنها خيرٌ من الرضاعة الصناعية. ويجب عرض المرضع وطفلها على الطبيب كما أنه ينبغي عمر طفلها مساوياً بالتقريب لعمر الطفل المراد إرضاعهُ؛ ولا بدَّ من الاعتناء بهِ أيضاً خشية أن تتكدر حزناً عليهِ فيتكدر لبنها. ويجب الاهتمام بالمرضع من وجهة الغذاء والشرب والنظافة والرياضة البدنية والمعيشة الأدبية لأن لكل ذلك تأثيراً في الطفل كما تقدَّم.
وزن الطفل - يحسن وزن الطفل مرة أو مرتين في كل أسبوع ,(3/271)
لأن ذلك يعّفنا درجة نموّه وبالتاي حالة غذائه. وهناك أنواع مختلفة من الموازين لهذا الغرض. ومن البديهي أن في زيادة وزن الطفل دلالة على صحته. ويكون وزن الطفل عند الولادة نحو سبعة أرطال انجليزية , ولا ينتظر أن يزيد في الأسبوع الأول بل ربما نقص في الأيام الثلاثة الأولى عما كان عند الولادة. ويسترجع هذا النقص في اليوم العاشر تقريباً , ولابد أن يزداد بعد ذلك بالتدريج ونتراوح الزيادة بين 4 أواق إلى 8 في الأسبوع. ومتوسط الزيادة هو 6 أواق تقريباً. فالطفل الذي يزن سبعة أرطال انجليزية وقت الولادة يزداد وزنه إلى تسعة تقريباً في نهاية الأسبوع السادس , ويكون 11 رطلاً في نهاية الشهر الثالث , 16 رطلاً في نهاية الشهر السادس , و20 رطلاً في نهاية الشهر التاسع , و22 رطلاً في نهاية السنة الأولى. ويمكن أن يقال على وجه العموم أن الوزن يبلغ الضعفين في آخر الشهر الخامس وثلاثة أضعاف في آخر السنة الأولى. ومتى نقص وزن الطفل عما ذكر يجب الالتفات إلى أوقات الرضاعة وتنظيمها , أو إلى زيادة كمية اللبن إذا كانت لا تكفي الطفل , أو إلى صفة اللبن فإنهُ فد يكون رديئاً ولا يكفي للتغذية كما يحسن عرض الطفل على الطبيب حتى تتحقق الأم من سلامتهِ من الأمراض.
نزهة الطفل - يصحّ إخراج الطفل للنزهة , إذا كان سليماً , بعد انتهاء الأسبوع الأول في زمن الصيف , وبعد انتهاء الأسبوع الثاني في الربيع والخريف , وبعد انتهاء الشهر الأول في الشتاء. والنزهة في الهواء الطلق تزيد الشهية وتحسّن الصحة وتساعد الصحة على النموّ. ويجمل أن لا تتجاوز(3/272)
النزهة ربع ساعة أو عشرين دقيقة وتكون في أنسب وقت من النهار , فيلزم أن تتقي الأمّ ساعة البرد في زمن الشتاء , وساعة الحرّ في وقت الصيف. كما يلزم أن تحذر التيارات الهوائية ولتكن الخادمة نفسها على استعداد قبل أن تهيئ الطفل
للخروج بالباسه طاقية على رأسه وتغطية وجهه بقطعة من الشاش , ولفه برداء من الصوف فوق الملابس الاعتيادية ويحمل الطفل على الذراعين في الشهر الأول , وأما بعد ذلك فيمكن إخراجه في مركبة صغيرة. وإذا لم يشعر الطفل براحة وجب إرجاعه سريعاً. وعند رجوعه لا بد من خلع الملابس الزائدة التي استعملت في النزهة. ويكفي الطفل أن يتنزه مرة في اليوم في الشهر الأول ويمكن إخراجه بعد ذلك مرة في الصباح وأخرى في المساء , دون أن تتجاوز المرة الواحدة ثلاثين دقيقة.
مركبة الطفل - أفضل مركبة للطفل ما كانت متينة التركيب بعجل فيهِ منطقة من المطاط حتى يكون اهتزازها ليناً , وبغطاء أي كبوت بقي الطفل حرارة الشمس وتأثير المطر. ولا بد من وضع الطفل بحيث يكون وجهه أمام الخادمة أو المرضع فيسهل عليها ملاحظته. وعلى الخادمة أن تسير بتأنٍّ في طريق سهلة غير وعرة , وأن لا تقف في الطريق للكلام مع فرد من الأفراد لئلا يشغلها هذا الكلام عن ملاحظة الطفل وهو واجبها المهم وعليها أن تحترس فلا تعبر الطريق حتى تتأكد من خلوّها من السيارات وعربات الترام وخلافها.
الدكتور محمد عبد الحميد(3/273)
شؤون لبنانية
اتجهت الأنظار في الآونة الحاضرة إلى جبل لبنان انتهاء مدة حاكمهِ العام واجتماع السفراء بالباب العالي في الاستانة لتقرير التعديل المرغوب في إدخاله على النظام الأساسي. ولما كانت مثل هذه الشؤون السياسية لا تدخل في دائرة أبحاث الزهور لم نشأ أن نتعرض لها من هذه الوجهة بل اكتفينا بإيراد كلمة من الوجهة الاجتماعية التاريخية سنردفها ببحثٍ واف في وقت قريب. كان الأمراء في لبنان أصحاب السلطة المطلقة شأن معظم حكام ذلك الزمان. فكانت البلاد تسعد أو تشقى لمجرد استعداد أميرها ورغبته في إسعادها أو ظلمها. وقد تولى الحكم في لبنان أمراء كثيرون أشهرهم الأمير فخر الدين المعني والأمير بشير الشهابي والأمير حيدر اللمعي. ثم كان أن أخذت الرعية تفهم حقوقها وتدرك أن الحاكم إنما هو منها وبها , فشرعت تعمل على تقييد سلطته. وأخذ أفرادها يجدّون ويجتهدون , فأثروا علماً ومالاً واكتسبوا نفوذاً بعيداً , فحدثت في البلاد حركات سياسية واجتماعية أفضت منذ نصف قرن إلى تغيير الهيأة الحاكمة ونزع السلطة من الأمراء والزعماء وتأليف الحكومة اللبنانية على شكلها الحاضر. وكانت قاعدتها الأساسية المساواة بين أفراد الرعية بإلغاء امتيازات الأسَر وأصحاب المقاطعات. فكان لهذا الانقلاب أكبر تأثير في ذوي المقامات وهم لم يتعوّدوا إلا توّلي الأحكام فتضعضعت أحوالهم وساء مصيرهم , وهذه(3/274)
سنّة الاجتماع في سيره. على أن فريقاً منهم لم يستسلموا إلى هذا الانقلاب بل شمروا عن ساعد الجدّ لينالوا بالاجتهاد ما لم يكن بقي في الإمكان نيله بفضل الآباء والأجداد. ولنعم ما فعلوا. ومن هؤلاء العظاميين العصاميين الأمير يوسف أبي اللمع. وقد جاءنا بمناسبة وفاته في الشهر الماضي مقالة ضافية من أحد كبراء كتّاب لبنان ضمّنها كاتبها نظرة في تاريخ لبنان الاجتماعي منذ عهد إبراهيم باشا المصري ونبذة من ترجمة حياة الأمير المتوفي ضاق نطاق هذا الجزء عن استيعاب هذه وتلك , فاكتفينا بما تقدم مرجئين الإفاضة في البحث التاريخي إلى فرصة أخرى. أما الأمير المتوفي فهو ابن الأمير إسماعيل(3/275)
ابن الأمير حسن سليل أمراء قيدبيه. وأمه السيدة أسماءُ وحيدة الأمير حيدر اللمعيّ الشهير , وللأسرة اللمعية شأن كبير في تاريخ لبنان. ولد رحمهُ الله في بيت شباب سنة 1848. وبعد أن أحرز نصيباً وافراً من العلوم واللغات دخل في سلك الحكومة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره , فعيّن وكيلاً لقأعقامية المتن على عهد الأمير بشير عساف وأخذ بعد ذلك يتقلب في
وظائف الإدارة مدة ثلاثين سنة فأسندت إليهِ قأعقاميات مختلفة ترك فيها آثاراً طيبة تشهد له برغبة حقيقة في نفع بلاده وتحسين شؤونها الاقتصادية. وهذه ميزة حياته الكبرى , فإن له فضلاً يذكر في تمهيد سبل المواصلات , وأنشأ المجالس البلدية , وإحياء التجارة والصناعة والزراعة ولاسيما زراعة التبغ التي اعتنى بها مدة خمس عشرة سنة حتى أحيا مواتها وأعاد إلى البلاد ما كانت تجني قديماً من المنافع من هذا الصنف. فأصبح اليوم الألوف من اللبنانيين يستدرّون الأرباح الطائلة من زراعة التبغ والمتاجرة بهِ. وقد عرفت الحكومة له فضله فكافأته بالأوسمة والرتب العالية. وكان رضي الأخلاق سليم الطوية ناهض الهمة , أحب وطنه حبّّا جمّاً وخدمهُ خدمة صادقة. وبالإجمال فإنه عرف أن يحفظ بسعيه مقام أسرته الكريمة فجمع بين طارف المجد وتالده , فعاش حميداً ومات فقيداً. ووقف شبلي بك ملاَّط شاعر لبنان على قبره باكياً:
على الركنِ الذي كانت لديهِ ... تهونُ المثقلاتُ من الأمورِ
على الرجلِ الذي رمتِ المنايا ... بهِ القطبين من حسَبٍ ونورِ(3/276)
مس كايل
على الجانب الأيمن من الخط الحديدي الواصل بين مصر ومصر الجديدة , في المكان المعروف بكبري غمرة , بناءٌ فخم متسع الأرجاء , ممتد الأطراف , في منبسط مخضرّ الأديم , طلق الهواء , يحيط بهِ شبه سهل يتمشى فيهِ شارع عباس حتى أقصاه , وهو مطلٌّ عليه يستأنس بحركةٍ غير منقطعة فيهِ من دون أن يبلغ إليهِ ضجيجها فيزعجهُ في راحته وسكونه. . . ذلك البناء الجميل هو دار علم وفضيلة؛ هو نتيجة الاجتهاد والثبات؛ هو منشأ أمهات المستقبل في مصر؛ هو الكلّية الأميركية للبنات في هذا القطر؛ هو الأثر الطيب الخالد للمرحومة مِسْ كايْل التي اغتالها الموت في أوائل الشهر الماضي. وددنا أن نكتب تاريخ هذه المرأة الفاضلة فإذا بنا أمام تاريخ النهضة الأدبية النسائية في مصر في الثلاثين السنة الأخيرة؛ ولا غرو فإن مس كايْل رافقت تلك النهضة منذ استهلالها حتى عهدها الحاضر فكانت تنشيء المدارس للبنات وتديرها بحكمة واجتهاد يوم لم تكن دُورُ العلم آهلةً بغير النزر القليل من الطلبة فضلاً عن الطالبات؛ ومشت معها آخذة بيدها , ومتدرجة بها في مرقاة النجاح حتى لقد ارتبط تاريخ حياتها بتاريخ نشوء وارتقاء هذه النهضة , وما عمل ثلاثين سنة مملؤة بالنشاط والثبات والإخلاص بالعمل اليسير الذي لا يكترث له. قدمت مِسْ كايْل القطر المصري فبدأت عملها في اسيوط حيث أقامت زهاء ثماني سنوات رئيسية لمدرسة البنات التي أنشأتها الرسالة الأميركية في تلك المدينة. ثم رأست مدرسة الأميركان الكبرى بالأزبكية في القاهرة تسع عشرة سنة متوالية بذلت لها في خلال كل مواهبها الفطرية , وخبرتها المكتسبة , فما برحت تلك المدرسة تنمو وتزهو حتى رأيناها في هذا العهد من خيرة معاهد التربية والعلم. ولما رأت ثمرات أعمالها يانعة في هذا القطر وعلَّمتها خبرتها وكثرة احتكاكها بالمصريات أن الفتاة المصرية لا يعوزها غير الوسائل لإدراك الترقي الحقيقي ,(3/277)
رأت أن تنشيء في مصر كلّيةً كبرى للبنات تجعل تنشئتهنَّ فيها أمكن في العلم , وأعمّ في الفائدة. ولم يكن في وسعها , وهي امرأة لا ثروة لها غير اجتهادها وإخلاصها , أن تنفق على تشييد هذا المعهد , وتهيئة لغرضها المقصود. ولكن ذلك لم يحل بين همتها وبين تحقيق هذه الأمنية فقصدت إلى الولايات المتحدة الأميركية تستدرّ المال بالخطَب عن الشرق وحاجته إلى العلم , وتستجدي قومها باسم الإنسانية فجمعت نحواً من اثني عشر ألف جنيه وحملتها إلى مصر راضية نفسها بقيامه(3/278)
بالواجب ,
وعن سعيها لتكلله بالنجاح. وجاد لها المحسنون في مصر أيضاً بمبلغ غير يسير فأنشأت ذلك البناء الفخم الذي أشرنا إليهِ في فاتحة هذا المقال , وجعلته كلّية للبنات يتعلمنَ فيهِ العلوم على أنواعها , ويترَّبينَ فيهِ التربية الفضلى. ومن المأثور عن هذه المرأة أنها كانت فاضلة بكل قوة هذه الكلمة. فقد حدثتنا عنها حضرة الآنسة اميليل بدر - والآنسة بدر رفيقة مس كايل ويدها اليمنى في عملها المجيد خلال خمسة عشر عاماً - أنها كانت متصفة بكل الأخلاق الطيبة التي أنت تحببها إلى تلميذاتها اللواتي كنَّ يحترمنَ فيها الرئيسة المرشدة , والأم الحنون العاقلة معاً. وبلغ من حب تلميذاتها لها أنهنَّ كنَّ يتسابقنَ إلى خدمتها وفاءً لسابق جميلها عليهنَّ فكانت إذا انتدبت إحداهنَّ لعمل ما لا تجد منها إلا اندفاعاً لإتمام ذلك العمل.
وقد طالما أحوجتها مساعدة في التعليم لسبب من الأسباب فكانت السيدة هند عمون , والآنسة سلمى خشف - وكلتاهما من متخرجات مدرستها - تلبياتها إلى ما تريد حباً وكرامة. ولو أن مس كايل اضطرت إلى معونة كل تلميذاتها لرأتهنَّ جميعهنَّ هند عمون وسلمى خشف. ذلك هو بلا ريب عنوان التربية المثلى والأدب الصحيح. أما هي فكانت تعامل الطالبات معاملة الأم لبناتها فلم تكن تميز نفسها عنهنَّ بشيء ولا تفرق بينهنَّ لأمر من الأمور. ولما أنشأت الكلية كان في الفرقة الأولى خمس أوانس انقطعت أربع منهنَّ عن المدرسة لأسباب عائلية فجعلت مس كايل من الخامسة وحدها - وهي الآنسة نجلا داغر - فرقة لذاتها تعطى حقها من العلم اعتباراً للأسبقية التي كانت لها على سائر التلميذات وفي ذلك ما فيهِ من الأنصاف والعدل. وخلاصة ما يقال أن النهضة الأدبية النسائية في مصر قد فقدت , بفقد مس كايل , يداً نشيطة كانت تدفعها إلى الأمام , وعاملاً قوياً كان يساعدها على الترقي والانتشار. وما أجمل الفكرة التي رآها بعض ذوي الفضل إذا اقترحوا نصب تمثال هذه السيدة في باحة كلتها بغمرة تخليداً لفضلها واعترافاً بحميلها , وإن تكن تلك الكلية نفسها أثرا خالدا بحسناتها وأياديها الفراء.(3/279)
صور الشعر
إن للنفس لنزعات تختلف باختلاف عواملها , وكأنها أمام تلك العوامل لوحة الصوَر المتحركة تنطبع عليها صوَر بما تتلوها وهكذا. فهي مسرح تتعاقب عليهِ روايتنا السرور والابتهاج والوحشة واليأس , فبينا ترى المرء يهتز اليوم طرباً إذ تراه في الغد ينقبض غماً , وما الحياة التي حارت في تكييفها الإفهام إلا مجموعة لمختلف تلك المظاهر. أما تذكارات أويقات البشر والإيناس فإنها تبدد عن النفس المحزونة غياهب الكرب وتقشع سحب الاكدار , إذ هي فجر السرور يطرد ليل الهموم فيجعل للإنسان من ضيقه فرجاً ومن وحشته أنساً. وأحسن تلك التذكارات لغة للفؤاد في أويقات الفرح يرنّ صداها في الوجدان فتلقي على مشاعر النفس معنى السعادة. السعادة خيال ما تحقق لإنسان , وسراب قصده الناس فتقطعت بهم الأسباب فرضوا من الغنيمة بالإياب , وعندي أنها في وادي الحقيقة اسم لغير مسمى. وما السعادة الحقة إلا في جولان خاطر الشاعر في مسارح الخيال حيت يكون بطلاً لروايات مختلفة , فطوراً يرى نفسه كأنهُ المحب وافاه حبيبه في غفلة العيون , وطوراً بهيم بالطبيعة فتتجلى له في أبهى حللها , وطوراً يترقب طلعة البدر فيظهر له قوسه من وراء خط الأفق المرئي تعلوه طبقة من ذهب ابريز فيستعطفهُ ليملي عليهِ كثيراً من معاني الخيال , وطوراً يرى من ظلام الليل شريكاً له في وجده , وفي هاطل المطر تقديراً لكمية مسكوب دمعه , وفي وميض البرق شبهاً لخلب أمانيه , وفي طرف النجم ذكرى ليل الأماني , وفي أشعة الصباح صورة الأمل الوفر , وفي مجرى الغدير جلال الخيال؛ وطوراً يحب الجمال حقيقة؛ وطوراً يحبهُ خيالاً. لا شيء أروح للنفس المحزونة من أن ينشر أمامها مطويّ صفحات رقصت عليها ريشة الخيال فجاءت صوَراً ما وُجد أبدع منها في معرض الحياة. تلك صوَر الشعر
أمين حمدي(3/280)
كلّلي
وهو موشح للغناء نشرناه إجابة لطلب الكثيرين من القراء
كلّلي يا سحب تيجان بالحلي
واجعلي سوارها منعطف الجدولِ
يا سما فيكِ وفي الأرض نجوم وما
كلَّما غيَّبتِ نجماً أطلعت أنجما
وهي ما تهطل إلا بالطلا والدما
فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
وانقلي للدنّ طعم الشهد والفوفلِ
تتقدْ كالكوكب الدريّ للمرتصد
يعتقد فيها المجوسيُّ بما يعتقد
فاتئد يا ساقيَ الراح بها واعتمد
وأمل لي حتى تراني عنك في معزلِ
قلّلِ فالراح كالعشق فزد يقتلِ
من ظلمْ في دولة الحسن إذا ما حكم
فالسدمْ يجول في باطنه والندم
والقلمْ يكتب ما سطر فوق القمم
من ولي في دولة الحسن ولم يعدلِ
يعذلِ إلاَّ لحاظ الرشأ الأكحلِ
لا أريمْ عن شرب صهباء وعن عشق ريمْ
فالنعيم عيش جديد ومدام قديم
لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم
وانهلِ من أكؤسٍ صُوِرنَ من صندلِ
أفضل من نكهة العنبر والمندلِ
هل يعودْ عيش قطعناه بوادي زوردْ
والجنودْ في حضرتي تضرب جنكا وعودْ
والحسودْ في معزل عنا غدا لا يسودْ
عذَّلي لا تعذلوني فالهوى لذَّ لي
ما الخلي في الحب مثل العاشق المبتلي
أسفرتْ ليلتنا بالأنس مذ أقمرت
بشرتْ بملتقى المحبوب واستبشرت
شمَّرتْ فقلت للظلماء مذ قصَّرت
طوّلي يا ليلةَ الوصل ولا تنجلي
وأسبلي سترك فالحبيب في منزلي(3/281)
ثمرات المطابع
شرح الهاشميات - الهاشميات من أهمّ ما قيل في مدح بني هاشم وآل البيت النبوي. وناظمها الكُمَيت بن زيد الأسدي. نشرها بالطبع وضبطها بالشكل التام وشرحها شرحاً وافياً حضرة الكاتب البليغ السيد محمد محمود الرافعي. وقد صدَّرها بنبذة شائقة عن الشيعة وتاريخ التشيع وأخباره وأسبابه ونتائجه , وبترجمة حياة الكميت وهو من أشعر شعراء الإسلاميين وأسماهم بياناً وأعلاهم كعباً , وُلد أيام مقتل الحسين سنة 60 ومات سنة 126 هـ. في خلافة مروان بن محمد. وكان معروفاً بالتشيع لبني هاشم. قال سئل أبو معاذ الهرّاء: مَن أعرُ الناس؟ - قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين. قال: قال الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. فقيل له: ما رأيناك ذكرت الكميت في مَن ذكرت. قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين. فكان حرياً بمن هذا مقامه في دولة الشعر والأدب أن يُنشر ديوانه وتُدوَّن أشعاره. وقد تنبه لهذا الواجب السيد محمود الرافعي , فخدم الأدب والأدباء خدمةً جلَّي بنشره هذا السفر النفيس. وقد أردف الهاشميات بمجموعة اختارها من بليغ شعر الكميت في شؤون مختلفة , ومن أجود كلام الفحول من شعراء الصدر الأول الذين أدركوا اللغة أيام مجدها وشبابها. فعسى أن يقدّر الأدباء هذا العمل الجليل قدره فيقبلوا على اقتناء ذلك الكتاب.
كلمات نابوليون - إياك - كتابان جليلا الفائدة نقلهما إلى العربية حضرة الكاتب إبراهيم أفندي رمزي , فأحسن نقلاً وعملاً. موضوع(3/282)
الكتاب الأول يدل عليه عنوانه. وهو مختارات من الأقوال المأثورة عن الرجل النابغة الكبير نابوليون بونابرت في شؤون مختلفة كالعائلة والتربية والحب والنساء والحياة والصفات القومية والسياسية والدين والحرب والشجاعة الخ. وإذا صح أن كلام الملوك ملوك الكلام فإن هذا ينطبق أتم الانطباق على أقوال ذلك الرجل العظيم صاحب الفكر الثاقب والرأي السديد. وأن هذه الكلمات المأخوذة من كتاباته وخطبه ورسائله أو التي آثرها عنهُ معاصروه تشفُّ عن حقيقة نفس الرجل وأخلاقه. فهي خير درس لمن يريد أن يفقه تاريخ نابوليون وسرّ نجاحه العجيب , فضلاً عن أن فيها ما يبعث على المرؤة والإقدام والجد. وقد أحسن رمزي أفندي بتصدير هذه (0الكلمات بحياة قائلها الواقعة في ثلاثين صفحة فإن ذلك يساعد على تفهمها. والكتاب مزين بأشهر صوَر نابوليون. أما الكتاب الثاني فهو مجموعة نصائح مفيدة بما يجب اجتنابه
أو عمله على المائدة وفي اللباس والعادات وغرفة الاستقبال والمكاتبة والزيارة وغير هذا من مظاهر حياتنا اليومية فيجدر بفتياننا وفتياتنا أن يتدبروا ما فيهِ لأنهُ مقوّم للعادات مهذّب للأخلاق يرشد إلى ما يجب أن يتجلى بهِ المتأدبون.
النخبة الراغبية في الأفعال العربية - إذا جمع الرجل بين الثروة الأدبية والثروة المادَّية , وعرف كيف يستخدم هذه في سبيل تلك كان منهُ لبلاده النفع الأتم والخير الوافر. وهاتان المزيتان قد اجتمعتا للرجل الفاضل صاحب العطوفة إدريس راغب بك. فقد عرفهُ الخاص والعام بنصرته للأدب وتفانيهِ في خدمتهِ بما له من المآثر الطيّبة في هذا السبيل. وكأنهُ لم يكتفِ بما يبذله لتنشيط الأدباء والعلماء فأراد أن تكون له يدٌ على اللغة العربية فعني بتأليف كتابٍ سمَّاه النخبة الراغبية في الأفعال العربية شهد فيهِ حضرة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر شهادة طبية جاء فيها قوله: وجدتهُ لطيف العبارة , سهل المأخذ , كبير الفائدة؛ قد جمع من مقدمات التصريف ومقاصده ما فيهِ كفاية الراغبين ورغبة المستكفين وقد رتبهُ المؤلف حفظهُ الله ترتيباً جميلاً فصل فيه أقسام(3/283)
العلم وأجزاءه وأنواعه تفصيلاً حتى لا يتشوش مشتفيده ولا يضلّ طالبه. والكتاب مخطوط بخط جميل متقن ومنقول بالزنكوغراف نقلاً بديعاً جاء معهُ تحفة في فن الطباعة.
مصر وسوريا - عنوان بحث سياسي انتقادي في تاريخ علائق القطرين المصري والسوري قديماً وحديثاً. وضعهُ حضرة الكاتب البارع الشيخ بولس مسعد صاحب لبنان والدستور ودليل سوريا وأهداه إلى اللجنة المؤلفة لمساعدة المنكوبين في حريق دمشق , فاستحق الثناء الجمّ على عمله. ومن عرف ميل الكاتب إلى المباحث التاريخية ولاسيما ما كان يتعلق منها بمصر وسوريا عرف قيمة هذا الكتاب الكثير الفوائد على صغر حجمه.
الخيل وفرسانها - للدكتور نجيب بك الخوري الطبيب الأول لحكومة جبل لبنان ولع شديد بالخيل وتربية الأفراس الجياد. وقد دفعهُ هذا الولع إلى وضع كتاب قال عنهُ أنهُ ثمرة أتعاب ثلاثين سنة قضاها بين الخيل وفرسانها والبحث عن الجواد العربي والفروسية عند القبائل البدوية ولم يكتفِ حضرته بخبرته في هذا البحث بل زار من أجل التوسع والتدقيق فيهِ مدارس أوروبا العليا ونقَّب في تعاليم الإفرنج في هذا الفن ثم أودع كل تلك الفوائد في كتاب سماه الخيل وفرسانها فتصفحناه فوجدنا وافياً بالغرض الموضوع له وجديراً بعناية
المولعين بالخيل والمتاجرة بها ولاسيما أندية السباق في مصر وفي سوريا. فنثني على المؤلف أطيب الثناء لعنايته بهذا الموضوع الذي طالما عني بهِ فرسان العرب وأفاضل الكتاب.
الرقيّ والاعتدال - هو هذا الكتاب الذي سبقنا إلى درسه بعض الكتاب المجيدين في بعض الصحف والمجلات الأدبية. أهداه إلينا مؤلفه الفاضل اسكندر أفندي قزمان فألفيناه سلسلة مباحث في ما يجب تناوله بالاعتدال من المسائل الاجتماعية ووسائل الترقي. وهذا الكتاب هو الحلقة الأولى من تلك السلسلة(3/284)
ومداره على الفتاة وعلاقتها بالتمدن والحرية وما يتفرع عن هذا الموضوع , مع آراء طائفة من مشاهير الكتاب فيه. وقد ختمه بارجوزة في ثلاثمائة وثلاثين بيتاً ونيف موضوعها الفتاة العصرية. والكتاب في مجمله مفيد لمحبي هذه المواضيع التي يسرنا أن يكثر عدد الباحثين فيها والمولعين بقراءتها لأنها أنفع من معظم الأقاصيص الرائجة تجارتها في هذه البلاد. فحبذا العمل الذي قام به اسكندر أفندي وعسى أن يجد من الإقبال على كتابه ما يشجعهُ على إتمام هذه السلسلة.
شهيدة شهر العسل - رواية تقع في 30 صفحة وضعها الأديب فيليب أفندي داود فرحات. ومدارها على غرق الباخرة تيتانيك وهي اجتماعية تاريخية غرامية تمثلت وقائعها في تلك الحادثة الهائلة.
طرق البناء في مصر - خطاب فني تاريخي يبحث في أساليب البناء القديم والحديث في هذا القطر ألقاه جناب المسترد ريتشموند المدير العام السابق للمدن والمباني الأميرية وترجمهُ حضرة الكاتب الفاضل وديع أفندي البستاني.
آراء الدكتور شبلي شميّل - آخر ثمرة من ثمرات المطابع في هذا الشهر رسالة كتبها الدكتور شميّل وقد جاء في أولها: نشرت جريدة الأخبار منذ مدة للكاتب أ. ش. انتقاداً على كتاب خالد للريحاني جاء فيهِ تعريض بآرائي وأنها آراء غريبة. ولما كان هذا القول يشبه أن يكون صدى رأي الجمهور أكثر من أن يكون رأي الناقد الخاص , ولئلا يرسخ في الأذهان أن الغرابة هي دائماً في مخالفة الشائع المشهور , رأيت أن أنشر هذه الكلمة في رسالة على حدة جلاءً للحقيقة عملاً بقولي: الحقيقة أن تقال لا أن تعلم فقط.(3/285)
أزهار وأشواك
من بحمدون إلى الرافعي
نشر السيد مصطفى صادق الرافعي في الجزء الثالث من هذه المجلة قصيدة لطيفة عنوانها إلى بحمدون - وبحمدون قرية جميلة في جبل لبنان - تأوَّه فيها من النوى وسكب عبرات البين على فراق ليلى. فوصل صدى زفراتهِ إلى تلك الربوع , وجاءَه جواب ليلى منظوماً بقلم حبيب أفندي ثابت. نسمةٌ لطيفة هبَّت من قمم لبنان فأحببتُ أن تسري إلى القرَّاء من نافذتي , لاسيما وقد حُرِم الكثيرون في هذا الصيف من نسيم لبنان البليل؛ وإليك بعض ما في الجواب:
ليلى تحيَّيك من أعلى بحمدونِ ... والبينُ فاعلمْ كما يُشجيك يشجيني
إن كنتُ قدمتُّ بعد البين من شجني ... فبعض ما كان قبل البين يُحييني
أو كان للمرء دينٌ يستعزُّ بهِ ... فمنتهى عزَّتي أنّ الهوى ديني
والصادق الحبّ يبقى في مودَّتهِ ... أن حالَ من دونهِ بينٌ ومن دوني
لهُ بمصر مقامٌ طابَ مرتعُهُ ... تصوُّر الفكر يدنيهِ ويدنيني. . .
وينبض القلب في طيّ الضلوع كما ... يرفُّ نحلٌ على خضرِ الرياحينِ
وأن عينيَ من وجدي تُمثّل لي ... أهرامَ مصر تناغي طودَ صنّينِ
إني لأذكر مصراً لا لبهجتها ... لكنْ لمن هو من مصرٍ يحيّيني
وأذكرُ الحَرُّ الشديد بها ... كنارِ قلبي لا تعنو لتسكينِ
إلاَّ إذا صادق وافى وأدركني ... محمومةً فهو من يأسو فيشفيني
ثم شاركت ليلى الرافعي في شكواه وتمنت لقياه في الجبل
حيثُ النسيمُ عليلٌ في خمائلهِ ... إذا سرى لم ينبه طرف نسرينِ(3/286)
والماء يجري على الحصباء في غُدُر ... مثل اللجين على درٍّ يحلّيني
والكرم يبدو لنا كالدرّ ناضجة ... لوناً فيعنيك معناه ويعنيني
إليَّ يا صادقاً في الحبِّ مرتهناً ... قلبي فما أنا من يحيا إلى حينِ. . .
وإن ضنتَ ففي الحالين ما برحتْ ... ليلى تحيّيك من أعلى بحمدون
بقي سؤالٌ لي أوجهّهُ إلى الرافعي وهو: هل يلاكَ يا أبا السامي أخيلية أم خيالية. .؟
سوق عُكاظ
عُقدت هذه السوق في مصر في فندق الكونتننتال منذ شهر من الزمن على طرزٍ حديث وأسلوب شائق جميل ترأسها أمير الشعر في مصر , أحمد شوقي بك , وتصدّرها ناظر المعارف العمومية , أحمد حشمت باشا , وحضرها كل ذي مقامٍ في دولة الأدب , وتبارى في ميدانها نثراً ونظماً , أشهر من نثر وأبلغ من نظم. لم يكن موضوعها المفاخرة بين قبيلتين ولا التحكيم بين شاعرين , بل كرام حافظ إبراهيم الشاعر وتهنئته بيكويته. في الجزء الفائت قلتُ كلمتي في الرتب والألقاب , وفي لقب حافظ على الأخص. وكلمتي اليوم قاصرة على هذه الحفلة أو بالأحرى على الإشارة إليها فقط. لأني كنت قد جمعت لقرّائي أهم ما قيل فيها من طيب الشعر وجيد الخطب. ثم نظرت إلى الأتعاب والمشقات التي كابدها سليم سركيس فقدّرتها قدرها , وأبيت أن أحرمهُ الانتفاع بتعبه كما فعل بتوجيه أنظار القراء إلى العدد الأخير من مجلته وقد دوّن فيه جميع القصائد والخطب التي قيلت في حافظ. فأهنئه وأهنئ شريكه في العمل داود بركات فإنهما أقاما هذه الحفلة فأكرما الأدب ورفعا شأن الأدباء وحملاً فريقاً من كتَّابنا على شحذ قريحتهم بعد أن كادت تصدأ فسمعنا نغمات مطربة كانت قد خمدت حيناً من الزمن.(3/287)
شارع الفحالة
لاحظ القرّاء منذ مدة تغييراً في عنوان مجلة الزهور فبعد أن كانت الإدارة في أول شارع الفجالة أصبحت في نمرة 72 منهُ. مع ذلك فهي لم تبرح مكانها ولم تنقل منهُ قيد شبر. والسرُّ في هذا الأمر أن محافظتنا - حفظها الله - رأت من الحكمة أن تغيّر أسماء بعض الشوارع. وتقلب نمر البعض الآخر رأساً على عقب , فأصبح الأولون آخرين والآخرون أولين: وهذا بعض ما أصاب شارع الفجالة فصار أوله الآخر وآخره الأول باعتبار النمر. وفي هذه المناسبة أقترح على اللجنة التي غيّرت أسماء بعض الشوارع أن تبدل اسم شارع الفجالة بشارع الأدب وذلك لأنهُ لم يبقَ في هذا الشارع من أثر للفجل والفجالين. وهو من جهةٍ ثانية شارع الجرائد والمجلات والمطابع والمكاتب. ففي أوله - أو في أخره حسب الترتيب الجديد - مكتبة ومطبعة المعارف , ومجلة الزهور , ومكتبة الهلال , ومطبعة ومجلة الروايات الجديدة , ومجلة سركيس , ومجلة فتاة الشرق ومجلة الجنس اللطيف ,
وجريدة الوطن , ومطبعة وجريدة الأخبار وجريدة مصر وجريدة الرقيب وجلة المحيط ومجلة رعمسيس ومجلة فرعون وجريدة العمران ومطبعة العرب , وإدارة الهلال ومطبعتها حيث تطبع أيضاً مجلة طبيب العائلة , ومطبعة السلام , ومكتبة الأخبار , ومكتبة الطلبة , ومطبعة الجوهر الساطع وجريدتها. فترى مما تقدَّم أي عددٍ من المطبوعات والنشرات يصدر من هذه البقعة الصغيرة في أرض العاصمة , ويُنثر جميع هذه الصحف والمجلات والمطابع بشارع الأدب؟
حاصد(3/288)
العدد 27 - بتاريخ: 1 - 10 - 1912
القنصل الروماني والوالي العثماني
أتيليوس ريجلوس وصبحي بك
لما احتلَّ الإيطاليون جزيرة رودس منذ بضعة أشهر أسروا وإليها صبحي بك , وظل عندهم معتقلاً مدة من الزمن , حتى واقتنا الصحف في الشهر الغابر بخبر الإفراج عنه. وذلك أن الإيطاليين أطلقوا سراحه ليعود إلى الاستنانة فيفاوض حكومته العثمانية بأمر تبادل الأسرى الذين وقعوا في أدي كلتا الدولتين المتحاربتين. وأعطت حكومة رومة صبحي بك مهلة شهر ليقوم بهذه المهمة , فإذا لم تفضِ المفاوضة إلى نتيجة ترضي الفريقين عاد إلى الأسر. قرأنا هذا الخبر في جرائدنا اليومية فذكّرنا حادثة من هذا القبيل جرت منذ اثنين وعشرين قرناً تقريباً في حرب التحمت مواقعها , كحرب اليوم , على سواحل أفريقيا , وكان بطلها , القائد الروماني ماركوس انيليوس ريجلوس وهو أحد أبناء رومة(3/289)
القديمة الذين لا يزال التاريخ يردد أعمالهم العظيمة وأقوالهم المأثورة. وقد بلغ حب الوطن عندهم مبلغاً لم يبلغ إليهِ سواهم حتى أنهم جعلوا هذه الفضيلة في مقدمة الفضائل التي يتحلى بها المرء وبها يفاخر. وما هذه الحادثة التي نرويها اليوم إلا واحدة من تلك الحوادث المدهشة التي يتألف منها تاريخ رومة الجمهورية ورومة القياصرة.
كان ريجلوس هذا قنصلاً لرومة سنة 253 ق م. وكان زمام الجمهورية الرومانية في ذلك العهد في يد قنصلين يديران شؤونها. وكانت رومة على أيام قنصلية ريجلوس في حربها الأولى مع قرطجنة. فتولَّى ريجلوس قيادة الجيوش. وبعد أن انتصر على الأعداء في موقعة إكنوم البحرية تمكن من النزول بجنوده إلى ساحل أفريقيا حيث ظلَّ النصر محالفه حتى افتتح مدن الشاطئ ووصل إلى مدينة تونس فشدَّد عليها الحصار. ولما أنس من الأعداء ميلاً إلى عقد الصلح وضع لهم من الشروط القياسية ما لم يسمعهم معهُ قبول السلم. وكان أن أتتهم من بلاد اليونان نجدة بقيادة القائد كسانتيبوس. فخرجوا على الرومانيين واشتبك القتال بين الفريقين فوقع ريجلوس أسيراً بين أيديهم. وظل في الأسر سنتين كاملتين. ثمَّ إن القرطجنيين أفرجوا عنهُ , وأرسلوه إلى رومة ليفاوض حكومتها بشروط الصلح وبأمر تبادل الأسرى , بعد أن أخذوا عليهِ الأيمان المحرّجة أنهُ يعود إلى أسره إذا هو لم ينجح في ما هو مطلق لأجله.(3/290)
وهذا ما فعله الإيطاليون اليوم مع صبحي بك فوصل
ريجلوس إلى رومة , وبلّغ مجلس الشيوخ السناتو المهمة الموكولة إليهِ. فتضاربت الآراء واختلف القوم في الأمر. فُسئل حينئذٍ ريجلوس عن رأيهِ. فتكلم بجنان ثابت عن وجوب رفض الصلح , لأن في استمرار الحرب دمار قرطجنة , وارتفاع شأن رومة على مناوئيها. أما بشأن تبادل الأسرى فأشار أيضاً بعدم القبول. لأن أُطلق سراحهم لا يجني الوطن منهم فائدة في القتال. أما القرطجنيون المأسورون في رومة فمعظمهم في مقتبل العمر فإذا أفرج عنهم عادوا إلى بلادهم وكانوا عوناً كبيراً لها رومة. أعرب ريجلوس عن هذا الرأي وهو عارف أنهُ بهذا الكلام يقضي بنفسه على حريتهِ. لكن منفعة الوطن كانت فوق كل منفعةٍ سواها. فوافق المجلس على رأيهِ ورفضت رومة مطالب قرطجنة. وللحال أخذ ريجولوس أهبتهُ للسفر ليقفل راجعاً إلى محل أسره فأحاط بهِ الشعب الروماني - وقد أعجب ببسالته وتفانيه - وطلب إليهِ بإلحاح أن لا يعود إلى الأسر والعذاب المنتظر له , فأبى. وأقبلت أمهُ وزوجتهُ تذوقان الدموع السخينة وتستحلفانهِ بالبقاء في وطنه لأن الموت الأكيد ينتظره عند الأعداء , فأبى وقال: حلفتُ أن أعود إلى قرطجنة إذا لم تقبل رومة بمطالبها , فلن أحنث بيمني مهما أصابني ثم ودَّع ذويه وسافر لا يلوي على شيء.
فلما وصل إلى القرطجنيين - وكان قد اتصل بهم حضُّه لمواطنيه(3/291)
على مواصلة القتال - حنقوا عليهِ حنقاً شديداً وأذاقوه العذاب ألواناً. فكانوا يضعونهُ في برميل محشوٍّ بالمسامير ويدحرجونهُ من أعلى الجبل حتى يتخدَّش جسمه , ثم يطلونهُ بالعسل ويعرضونهُ في أشعة الشمس فتحوم حوله الزنانير والحشرات فتذيقهُ من لسعاتها أشد الآلام. وظلوا بهِ على هذه الحالة حتى مات. هذه حكاية مثال الوفاء والبرِّ باليمين عند قدماء الرومانيين. وقد تغنى بها الشعراء في قصائدهم وسبكها الكتَّاب في روايات تمثيلية , وخلَّد المصوّرون والنحاتون ذكرها في صوَرٍ وتماثيل بديعة. وهي تذكرنا السموأل المعروفة , وحكاية الطائي وقراد مع النعمان.
رأى القارئ شدة المشابهة بين إرسال القرطجنيين القائد ريجولوس إلى رومه وإرسال الإيطاليين الوالي صبحي بك إلى الأستانة. فعسى أن يكتب الوالي العثماني في تاريخ قومه صفحةً مجيدة كما فعل القائد الروماني , وإن كان لا ينتظر صبحي ما انتظر ريجولوس من العذاب في الأسر.(3/292)
مقالات باكون
باكون أشهر مشاهير فلاسفة الانكليز , كان له تأثير كبير في عصره , وهو يُعدُّ مؤسس الفلسفة الحديثة المبنية على الاختبار والاستقراء. وقد شاءَ صديقنا محمد لطفي جمعه الكاتب الألمعي والأصولي الضليع أن يتحف قرَّاء الزهور بمختارات من مقالات الفيلسوف. وإليك النبذة الأولى منها:
1 - أصحاب السلطة وأهل المكانة العالية:
وإنا أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أوِ القبرُ
إن من ولي أمراً كبيراً يكون عبداً ذليلاً لثلاث: أمته وصنعته وسمعته. فيطيع وليَّ أمره طاعةً عمياء , ويردعه صيتهُ عما تميل إليهِ نفسهُ , وتستغرق أعماله كل أوقاتهِ. وأيُّ رجل يشتري بحريته قوةً , ويسعى لنيل الحول على غيره فيفقد سلطانه على نفسه؟ وإن أحد الناس يجهد نفسهُ لينال سمعةً. وما السمعة إلاَّ أم المتاعب؛ فقد يدفع حبُّها الرجل إلى اقتراف الذنوب , فيصل إلى المكانة السامية بعد أن ينال شرفه الأذى. والسبيل إلى العلى غير ميسر , والدرب إلى الصيت زلِق لا تؤمن عاقبة السير عليهِ. وإن تزلُّ قدمهُ فقد هوى , أو عاد ذليلاً محسوراً. وأذكر قول شيشرون إذا أفل نجمُ سعدك , ووضعك سواد حظك وأمسيت وضيعاً بعد أن كنت رفيعاً , فخليقٌ بك أن لا تعيش. وإذا شاءَ من حصل على السلطة والسطوة أن يتخلى عنهما لا يستطيع(3/293)
إلى ذلك سبيلا. فإذا استطاع ذلك قلَّت رغبته في التخلي ولو أشابه كرّ الغداة ومرّ العشيّ. ومثله كمثل العجوز من النساء , فإنها تفتأ تتبرّج وتتزين كأنها بالدهر منها هازئ. وإذا تاقت نفوس ذوي الصيت والسمعة إلى السعادة يوماً , فيكفيهم أن يسمعوا بها ممن يتطلب مكانتهم ويسعى في الحصول على ما لهم من السطوة والسلطان. لأنهُ لا يحبّب الصيت للإنسان سوى أن مئين من الناس يتمنون ولو بجدع الأنف أن ينالوا مناله. ولو علم الناس بما يلاقيه أصحاب المكانة السامية من المتاعب , لا كتفوا بما لديهم. ولكن:
لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده ... ولا الصبابة إلاَّ من يعانيها
وأحدنا أول من يشعر بهمومه ومتاعبه وآخر من يحس بعيوبه ومثالبه وقد لا يستطيع من يقوم بشأن الناس أن يقوم بشأن نفسه , فيكون أجهل الناس بحاله ويكون الناس أرف بهِ منهُ. وأن المكانة السامية تمكن صاحبها من صنع الخير وعمل الشر. وخير ما ينحني من
عمل الشر هو النية الصالحة وعدم القدرة على اتيانهِ. وأما صنع الخير فهو أسمى المقاصد وخير ما تطمح له النفس الفاضلة ومن كانت نيته صالحة فإن له عند الله ثواباً وأجراً. أما الناس فلا يؤمنون إلاَّ بما يرونهُ أمامهم من الأعمال الصالحة. وليس في طاقة أحد الناس أن يصنع ما ينويهِ من خير , إلاَّ إذا كان قادراً ذا سطوة ونفوذ. ولم يكن لله في خلق الإنسان من غرض سوى أن يكون الإنسان مخلوقاً خيراً ,(3/294)
يعمل الخير ويقابل الخير بالخير. وليس يهدأ قلب الرجل في صدره , إلاَّ إذا صنع الخير أو نواه. وكن إذا وليت منصباً مقتدياً بمن سبقك إليهِ ممن كانوا مفلحين. ولا تنسَ أمر من أفسد قبلك لأن لك في أمره عبرة. وإذا رأيت خللاً في ما بين يديك من العمل فأجهد نفسك في إصلاحه , ولا تعجب بنفسك ولا ترمِ من سبقك بالعجز والتقصير. ولا تعمل عملاً إلاَّ إذا كان النظام رائدك؛ ولا تكن متشبثاً في أمورك. ولا تخف أمراً لا يخشى على عملك من إفشائهِ. ولا تمكّن أحداً من سلب حقوقك. ولا تدع غيرك ينال مما لك من النفوذ منالاً. وكن عليماً بشؤون من وليت أمورهم , وكن منهم بمثابة العقل المدبر من الجسم المطيع. ولا تحجب نفسك عمن له شكوى يبثها. واسمع ما يبلغك من النصح والإرشاد واعلم أن كل كلمة تطرق إذنك لها نفع في الحال أو في المال. وقد يجيز صاحب المنصب الرفيع على ذنوبك يأتيها رغم أنفه. منها المهلة في إنجاز الأعمال , والتدني إلى الرشوة , والشدة واللين. ولئلا يتمكن منك حب المهلة في أداءِ ما يجب , لا تحجب عنك من له شكوى بينها , ولا تخلف ميعاداً , ولا تبدأ بعمل قبل أن تفرغ مما قبله , ولا تمزج أمرين لا علاقة للواحد بالآخر إن استطعت ذلك سبيلاً. ولأجل أن تكون ذاعفة أربط يديك وأيدي غيرك ممن يأتمرون(3/295)
بأمرك برباط القناعة. ومر نفسك ومرهم بأن لا يقللوا من مقدار نفوسهم ليكثروا من قدر ثروتهم. وكن غليظاً شديداً على من يهبك هبة لتعمل له عملاً. وإذا كنت كاملاً عفوفاً فقد أمنت نفسك ومن يلوذ بك. ولا يرتدع من يحاول أن يرشوك إلاَّ إذا أظهرت له الكمال والعفة , وأبيت عليهِ التمليق والإكرام. ولا تجعل لأحد سبيلاً يمكنهُ من إساءة الظن بك. فإن الشك أول مراتب اليقين. ومن شك في أمانتك لا يلبث أن يؤمن بخيانتك. واعلم أن من تناءَى عن مشربه قد يحرّك نفوس أهل الشر والعدوان فيرتابون من أمره. فإذا شئت أن تتحول عن مبدأ منت بهِ شيئاً. ولا تخفِ عليهم من أمرك شيئاً. ولا تقرّب إليك من هو أقل في
المقدار فقد يظن أهل الشر أنه واسطة في الشر وأن المال يأتيك على يديه. واعلم أن الحدة والخشونة تولدان الكراهية والبغضاء. أما الصرامة والجفاء فتولدان الخوف والتبجيل. وكن إذا شئت أن تلوم من يستحق اللوم مهاباً وقوراً ولا تكن قادحاً مهيناً. ولا تكن ليناً فتعصر فإن اللين يورث الذل والهوان. ومن يسرف في تبجيل الناس فقد أودع نفسه في أيديهم أسيراً. وللشهرة تأثيرٌ في خلق الرجل. وكان أحد الحكماء يقول: إن أكابر الرجال صناديق مقفلة مفاتيحها الارتقاء إلى ذروة المجد. فإذا بلغ أحدهم غايته , فتح وبان ما فيهِ أن خيراً وأن شرًّا فشرٌّ.(3/296)
وبلوغ ذروة المجد يصلح النفوس الخيّرة ويفسد نفوس أهل الشرّ. وأنتَ ترى شبيه الشيء منجذباً إليهِ. فإن كانت نفس الرجل كريمة جذبها الخير , وإن كانت شريرة جذبت إليها الشرّ. وليس للفضيلة الكامنة في النفوس مكان سوى المجد والشرف. ولذا ترى النفوس الكريمة وهي قبل أن تصل إلى ما تعلل بهِ نفسها متقدة مشتعلة , فإذا بلغتهُ اطمأنت وسكنت إليهِ كما يسكن الطفل إلى صدر أمهِ. واعلم أن سبيل المجد وعرٌ. فارتكن فيهِ إلى يعضدك حتى تصل إلى غايتك , فتستطيع أن تقف آمناً شرَّ السقوط. وإذا جاء ذكر من سبقك فاذكره بالخير فإن في ذك خيراً لك ولهُ. وإذا كان لك رفاق في عملك , فكن معهم رقيق الجانب , ليّن الخلق حسن العشرة. ولا تأنف من أن تشاورهم في الأمور , ولا تكن في كل حال مستقلاً برأيك. وإذا كنتَ مع قوم في حديث لا دخل له بعملك فاطرح العظمة جانباً وأبدُ لهم كما يبدو الرجل الكريم.
2 - جمال الوجوه
جمال الوجهِ مع قبحِ النفوسِ ... كقنديلٍ على قبرِ المجوسِ
إنَّ النفوس الجميلة كالجواهر الكريمة , لا يبدو بهاؤها إلاَّ إذا رُصِّعت في قالب خلوٍ من التزيين والتحسين. وإن طلعةً ترى فيها الهيبة والجلال خيرٌ من محيا ترى فيهِ البهاء والجمال.(3/297)
ولقد يندر أن ترى رجلاً ذا جمال فائق قد نال المكرمات وحاز الفضائل. وكأن الطبيعة شاءَت أن يكون ذو الجمال خلواً من العيوب الظاهرة , ولكنها لم تشأ أن يكون جميلاً كاملاً. ولذا أنتَ لا ترى بين أهل الجمال رجلاً ذا نفس كبيرة أو عقل عظيم. وأنهم يفضلون التأدّب والاحتشام على السموّ والعظمة. ويتمنى أحدهم أن يكون مكان الإجلال والإكرام. ولا يرجو أن يكون قابضاً على صولجان دولة الأقلام. ولقد حفظ لنا التاريخ ذكر
كثيرين ممن جمعوا بين جمال الوجوه وكرم النفوس. فقد كان القيصر أوغسطس قيصر الرومان أجمل أهل زمانه. وكان اليونان يفاخرون الأمم بجمال السيباديس. وكانت أمة الفرس تضرب بجمال سلطانها إسماعيل الأمثال. وليس لون الوجه وحسن تقاطيعه ورقة الإنسان ورشاقته تكفي لأن يكون جميلا؛ لأن الجمال معنى لا يستطاع التعبير عنهُ , وليس في قدرة المصوّر البارع أن يظهره في صورته. وقد لا يبدو ذلك المعنى إلاَّ بطول المشاهدة. وليس الأحكام في الخلق جمالا. وإنك لا نجد الجمال النادر المثال إلاَّ في شيء لم يبلغ فيهِ الإتقان حدَّه. ولقد زعم أبُلس المصوّر أنهُ يصوّر أبدعَ الوجوه إذا ما أضاف إلى عيون المهى أنفاً كالسيف أو أدقّ وثغراً كادرّ والمرجان. وخطر ببال ألبرت دورو أن يخلق إنساناً كامل الجمال إذا اعتمد في خلقهِ على التناسب في قياس الأعضاء.(3/298)
على أن مثل تلك الصورة لا تنال رضى غير مبدعها. وليس من المحال أن يصوّر مصوّرٌ وجهاً فيهِ من الجمال ما لم نرَه من قبل على أن مثل ذلك الوجه لا تكون للفن أو للصنعة فيهِ يد , إنما يكون خالقه قد أُلهم إلهاماً إلا هيّاً كما يوحى إلى الشاعر بالمعاني وإلى المغني بالأنغام وإنك ترى وجوهاً ليس للإِحكام فيها أثرٌ وإذا نظرتَ إليها وجدتَ بها من الجمال ما لا تجده في سواها. وليس للشباب يد في الجمال. وإن صدق قول القائلين بأن رشاقة الحركات أصل كل جمال لكانت المرأة البالغة من العمر عتيّاً أجمل من الفتاة اليافعة لأنها نالت من الرقة والرشاقة حظاً أوفر. وقد جاء في المثل السائر أن الشباب جمال وقد يحق ذلك القول على الشباب إذا عُدَّ جمالاً , لأنهُ ستار للعيوب والجمال كثمر الغيظ لا يلبث أن ينضج حتى يبلغهُ الفساد. وقد يكون الجمال والشباب مفسدة للمرء أي مفسدة. ولو كان الجميل فاضلاً بانت فضائله كالشمس التي تكامل ضوؤها. ولو كان ناقصاً بدا نقصه كالغيم في السماء الصفية.
نقله عن الانجليزية
محمد لطفي جمعة المحامي(3/299)
في رياض الشعر
الشامية
نشرنا في سنة الزهور الثانية ص90 رسم الأخوين الشاعرين تامر بك وشبلي بك ملاَّط. وأشرنا إلى مرض الأكبر منهما الذي أصيب بذهولٍ في عقله. وهو لا يزال في دائهِ يُنشد الشعر المطرب من حين إلى حين عندما يفيق من ذهوله. وقد جاءتنا هذه القصيدة البديعة قالها شاعرها العبقري في مرضهِ:
روحي فِدى ظبيات الشامِ والشامِ ... ولو كلفنَ ولوعاتٍ بإِعدامي
بين البريد وجابيها على كثَبٍ ... أضعتُ قلباً معنّىَ نضوَ أسقامِ
ما أنسَ لا أنسَ إذ بالجزع من برَدَى ... صوبُ اللجين يباري مدمعي إلهامي
تمرُّ ريحُ الصبا بالروضِ حاملةً ... للكوثر العذب ريّا عرفهِ النامي
وزاجل الماءِ يروي للنسيم ضحىً ... بردَ الحنانِ بتلحين وأنغامِ
واشٍ ينمُّ ونمَّام يشي أبداً ... أحبِبْ بذينك من واشٍ ونمَّام
يا ظبيةً زوَّدتني نظرةً تركت ... روحي تسيلُ على أطرافِ أقدامي
ما ضرَّ بالشام لو ثنّيتها فمضت ... بمهجتي وانقضى تبريحُ آلامي
أنتِ المكِسّرة الأسيافَ صائلةً ... بمرهف النصل ماضي الحدّ صمامِ
وما تخذتِ شعار السيف في لَقَب ... إلاّ بجامع فتك الصارم الظامي
مكسور جفنكِ لو جرَّدتِ باترَهُ ... يبري صحاحَ المواضي بري أقلامِ
لو تعرضين لذي مسحٍ بصومعةٍ ... في القدسِ منقطعٍ بالنسك قَوَّامِ(3/300)
أعطاكِ أجمع ما صلّى مناجرةً ... بنظرةٍ من صبيحٍ منكِ بسَّامِ
وراح يسمح عثنوناً وعنفقةً ... تيه المقامر لاقى نجحَ أزلامِ
ولو سموت لذات الرملِ سافرة ... بسفح دُمَّرَ أو في هامة الهامي
ظنّتكِ جؤذرَها الوسنانَ فابتدرتْ ... تدعوهُ بين يعافيرٍ وآرامِ
ما الروض باكره طلٌّ فرتّله ... كاللؤلؤ الغضّ من زهر وأكمامِ
أبهى وأطرب نشراً منكِ ناضيةً ... بكلةِ الخدر ذا وشيٍ وأعلامِ
لو في الملاحةٍ عن شمس النهار غنى ... كفيتِ رمضاَءها مستوطن الشامِ
يا ظبية الشام ردّي قلبَ مكتئبٍ ... أو شاركيه بوجدٍ جارحٍ دامِ
ولستُ أطمع في قربٍ بخلتِ بهِ ... خوف احتراقكِ في مستوقد حامِ
أصبحتث جذوة نارٍ تلتظي لهباً ... ستبصرينَ رمادي بعد أيامِ
تامر ملاط
الأسد الباكي
نظم الشاعر هذه القصيدة منذ سنتين , وهو معتزلٌ في عين شمس للاستشفاء من داءٍ ألمَّ بهِ , وسألناه يومئذٍ نشرها في الزهور فاعتذر بأنها من الخصوصيات التي نظمها لنفسه. وكان بعد ذلك أن امتدَّت إليها إحدى الأيدي على غير علمٍ من الشاعر وتلاعب بها النسَّاخ , فنشرت في بعض صحف سوريا وأميريكا متبورة مغلوطة , ونُسب فيها إلى ناظمها أغراضٌ لم تخطر له ببال. فلم يسع الشاعر والحالي هذه إلاّ إرسالها إلينا لنشرها على حقيقتها:
دعوتُك استشفي إليكَ فوافِني ... على غير علمٍ منك أنكَ لي آسي(3/301)
فإن تركي والحزنُ ملءُ جوانحي ... إداريه فلغرركَ بشري وإيناسي
وكم في فؤادي من جراحٍ ثخينةٍ ... يحجّبها برادي عن أعين الناسِ
تخذتُ لهمّي عين شمس مباَءةً ... فثمَّتَ إِضحائي فريداً وإغلاسي
يخالون أني في متاعٍ حيالها ... وبئس متاع الحيّ جيرة ديماس
أرى روضةً لكنها روضةُ الرَّدى ... وأصغي وما في مسمعي غير وسواسِ
وأنظرُ من حولي مشاةً وركّباً ... على مُزجّياتٍ من دخانٍ وأفراسِ
كأني في رؤيا يزفُّ الأسى بها ... طوائفَ جنّ في مواكبِ أعراسِ
وما عين شمس غير ما ارتجل النهى ... بقفرٍ جديبٍ من مبانٍ وأغراسِ
بنوها فأعلوها ما هو غير أن ... جرتْ أحرفٌ مرسومة فوق قرطاسِ
بدت إرَمٌ ذات العماد كأنها ... من القاعِ شدَّتها النجومُ بأمراسِ
كفتها ليالٍ نزرةٌ فتجدَّدت ... ثوابت أركانٍ رواسخ آساسِ
وغالط فيها البعثَ ما خالط الحلى ... بها من ضروبٍ محدثاتٍ وأجناسِ
هناك أُبيحُ الشجوَ نفساً منيعةَ ... على لضيم مهما يفللِ الضيم من بأسي
يمرُّ بيَ الأخوانُ في خطراتهم ... أولئك عوَّادي وليسوا بجلاّسي
أهشُّ إليهم ما أهشُّ تلطفاً ... وفي النفس ما فيها من الحزن والياسِ
ذرونيَ وانجوا من شظايا تصيبكم ... إذا لم أطقْ صبراً فأطلقتُ أنفاسي
فإني على ما نالني من مساءةٍ ... لأرحمُ صحبي إن يلمَّ بهم بأسي
ذروني لا يملكْ وجيفي قلوبكم ... إذا مرَّ ذاك الطيف وادَّكر الناسي
فتا لله لولا ذلك الطيفُ والهوى ... لهُ مُسعدٌ لم يملك الدهرُ إتعاسي
ذروني أحسُ الخمر غير منفّرِ ... عن الوردِ منها نفر الطائر الحاسي(3/302)
فرَّبتً كأس عن شفاهي رددتُها ... وقد قتلَ الدمع السُلافة في الكأسِ
ذروني أنكسْ هامتي غير متقٍ ... ملامة رُوَّادٍ وشبهة حُوَّاس
فبي حرَّةٌ بكرٌ ضلوعي سياجها ... أراشَ عليها سهمهُ معتدٍ قاسِ
أُعيدُ إليها كلَّ حينٍ نواظري ... وأخفضُ من عطفٍ على جرحها راسي
يكادُ يبثُّ المجدَ ما لا أبثُّهُ ... من السَقَمِ العَوَّادِ والسأمِ الراسي
أنا الألم الساجي لبُعد مزافري ... أنا الأملُ الداجي ولم يخبُ نبراسي
أنا الأسدُ الباكي أنا جبلُ الأسى ... أنا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ
فيا منتهى حبّي إلى منتهى المنى ... ونَعمةَ فكري فوق شقوة إحساسي
دعوتُك أستشفي إليكَ فوافني ... على غيرِ علمِ منك أنك لي آسي
خليل مطران
النيل السعيد
صفت مرآتهُ وجلاهُ جالِ ... فلاح كأنهُ ذوبُ اللآلي
وغازلتِ الحدائق شاطئيهِ ... وألقت فوقهُ خضرَ الظلالِ
فكم غصنٍ قد ارتسمت حلاهُ ... عليهِ تهزُّه ريحُ الشمالِ
كما ارتسمت على المرآة خود ... يرنّح عطفها خمرُ الدلالِ
وناحية برمان أُظلّت ... وناحية بأعراش الدوالي
ونخلٍ باسقاتٍ كالعذارى ... تثّنى في غدائرها الطوالِ
خلعنَ الحسنَ منعكساً عليهِ ... فآنسنَ الحقيقة بالخيالِ
وحلّى ألسن الأطيار منهُ ... وقال لها إذكري باري جمالي
فجنَّ الطيرُ باسم الله حتى ... تدانى الله والسبع العوالي(3/303)
فآمن بالبديع الصنعِ قلبي ... وفاض الطرف بالدررِ الغوالي
وسار النيل يطلبُ وصل مصرٍ ... وهل يُرضي المحبَّ سوى الوصالِ
تُضاحكه الغزالة في علاها ... وبدرُ النمِّ في أوج الكمالِ
عذارى الغرب قد سحتنَّ شرقاً ... وغرباً للجنوب وللشمالِ
أمثل النيلِ شاهدتنَّ نهراً ... تفرَّد بالمحاسن والجلالِ
لئن كان الأُلى عبدوهُ ضلّوا ... فربَّ هداية تحت الضلال
أحبُّ النيلَ حبَّ أبي وأمي ... وأهوى مصرَ فوق دمي ومالي
وبي عن كلَ مشروب حرامٍ ... غنى برضابهِ العذب الحلالِ
رضعتُ هواه في مهدي صغيراً ... وحينَ أشابت الدنيا قذالي
بلادي لا أروم بها بديلاً ... ولو أُسكنت في روض المآلِ
وما فكّرت في الأهرام إلاَّ ... بكيتُ مفاخرَ الحجج الخوالي
فلولا يمسك التوحيدُ ركني ... سجدتُ لتلكم الرمم البوالي
بودّي لو قرعتُ صفاة همي ... بأمثال الجبالِ من الرجالِ
فبي وخزٌ من الأيام جافٍ ... على جرحٍ قريب الاندمالِ
أيمضي الدهر لا ميت فأنسى ... ولا أشفي من الداء العضالِ
وما لي لا أرى إلاَّ ظلاماً ... يكاد يغضُّ من نور الهلالِ
وما بالي أهمُّ بما أُرجّي ... فتقعدَ بي على نِضو رحالي
بمن يا نيل أرمي مَن رمانا ... وقد خلتِ الكنانةُ من نبالِ
حلفا
محمد توفيق علي
يوزباشي بالجيش المصري(3/304)
نجيب وأمين الحداد
قد كان لي جسمٌ رسمتُ خيالهُ ... حرصاً عليهِ قبل يوم زوالهِ
واليوم أوشك أن يزولَ من الضنى ... فأنا لكم أهدي خيالَ خيالهِ
في التاسع من شهر فبراير شباط سنة 1899 , أصيب الأدب العربي بركن من أركانه , وبكى الشعر العصريّ أميراً من أكبر أمراءِ ديوانه , بوفاة الشيخ نجيب الحدَّاد من لا يزال الأدباء حتى اليوم يلقبونهُ بفقيد النظم والنثر , لأنهُ أحيا موات كلتا الصناعتين وترك لنا من آثار منظومة ومنثورة ما يخلّد له أكبر ذكر. لم تتجاوز سنو حياة النجيب الاثنتي والثلاثين , لكنهُ وضع فيها من(3/305)
الروايات والمقالات والقصائد ما لا نعرف ما يوازيه قدراً ومقداراً من مؤلفات كتّاب العصر. لم يمض على وفاتهِ إلاَّ ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر , حتى راشت المنية سهماً جديداً ورشفته إلى تلك الأسرة فأصابت كبد شقيقه الشيخ أمين , وقد اغتالت في هذه الفترة , بين موت الشقيقين , خالهما أديب العصر الأكبر , الشيخ إبراهيم اليازجي , آخر أنجال الشيخ ناصيف , فكانت خسارة الأدب بالثلاثة فادحة , وكانت صفقة الموت بهم رابحة. شعر الشيخ أمين في السنة الغابرة باشتداد التعب عليهِ , فسافر في أوائل هذا الصيف إلى جبل لبنان للراحة والاستشفاء , فما ردَّ وطنه عنه مقدوراً , ولا أَكسبهُ راحة , ولا جاد عليهِ بالشفاء من الداء , فمات في عين قني من قضاء الشوف , بعد أن ارتوت نفسه من مرأى وطنه , وشبعت عيناه عن مناظر جباله ووهاده. الشيء الذي مات أخوه نجيب متشوفاً إليهِ , متحسراً عليهِ , فقال وهو محتضَر:
مات النجيب فأرخوا قبراً له ... قد مات مشتاقاً إلى لبنان
ولد الشيخ أمين في بيروت سنة 1870 بعد ميلاد شقيقه الشيخ نجيب بثلاثة أعوام , ومات وهو في الثانية والأربعين من عمره , فكان نصيبه من هذه الحياة عشر سنوات أكثر من نصيب أخيهِ. وقد تلقى دروسه الأولية في مدارس سوريا , وأخذ العربية كشقيقهِ عن خاليهِ المشهورين إبراهيم وخليل اليازجي:(3/306)
تمتّعتُ من دهري بما هو حاصلٌ ... لواءٌ لديَّ الغرمُ فيهِ أو الغنمُ
وما كنتُ من أهل اليسار وإنما ... لقد كان همي أنني ليس لي همُّ
أتيت ولا تدري وها أنتَ سائرٌ ... إلى حيث لا تدري فحسبك تهتمُّ
وخذْ فرَص اللذاتِ قبل فواتها ... ألم ترَ أن الجسم يخلفهُ رسمُ
نظم طانيوس عبده
وكان أول عهده بالصحافة في جريدة الأهرام التي ظلّ أخوه يحرّر فيها عشر سنوات على أيام المغفور لهما سليم بك وبشارة باشا تقلا. ثم انفصل الأخوان عن الجريدة المذكورة , واشتركا في إنشاء جريدة(3/307)
لسان العرب الشهيرة سنة 1894. فأصبحت حياتهما الأدبية مشتركة. وهما في ذلك العهد , يذكر أننا بمعيشة الأخوين الشاعرين بطرس وتوما كورنيل , إذ كانا ينظمان وهما في منزل واحد , فينادي الواحد الثاني عندما تعصاه القافية. يا أخي أعرني قافية. وقد كتب الشيخ أمين فصولاً شائقة على صفحات الجامعة العثمانية وجريدة السلام ومجلة أنيس الجليس. ثمَّ دخل في جريدة البصير لصاحبها رشيد بك شميّل؛ وظلَّ ثلاثة عشر عاماً يدبّج فيها من المقالات الرنانة , والملح الأدبية المستظرفة , ما حمل البعيد والقريب على الشهادة له بسرعة الخاطر , والرشاقة في التعبير , والسهولة في التفنن بأساليب الإنشاء والشاعرية الحقيقية , ومضاء القريحة. وقد اتفق كلّ من عرف الأمين على وصفهِ بكرم الأخلاق , ولطف العشرة , وخفة الروح , ورعاية الذمام , والقناعة والتواضع والبعد عن كل تظاهر. وقد سألنا حضرة الشاعر طانيوس أفندي عبده - وقد كان رفيق الأخوين الشاعرين وثالث هذين القمرين - عن رأيه في الشيخ أمين , فأجابنا بالأبيات الأربعة التي تراها تحت صورة الفقيد , وقال: هذا هو الشيخ أمين وهذه حياته وليس لي من الأبيات إلا نظمها. ولئن بكى فيهِ الأدب كاتباً بليغاً وشاعراً رقيقاً , فإن أصدقاءَه يبكون فيهِ فوق ذلك , خلاًّ وفيّاً وصديقاً صدوقاً.(3/308)
مطلع العام الجديد , فكتب المرحوم الشيخ أمين الحداد نبذةً في هذا الموضوع أحببنا نشرها للقراء لأنها تنمُّ , من وراء ستار الهزل , عن مللٍ من الحياة وتعبٍ من العمل , كأن صاحبها كان يشعر بدنو أجله , وقد تحققت أمنيته لسوء الحظ ,، وقد رقد رقاده الأخير مستريحاً راحة أبدية , قال رحمات الله عليهِ: أنت تعلم أنني منذ عشرين سنة وأنا خادم في دولتين عظيمتين خدمة لم تنقطع يوماً واحداً , وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً واحداً , وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً أو بعض يوم , كان ذلك مخصصاً لخدمة الدولة الأخرى. ولقد ترى حصان المركبة يُحلُّ لجامه , ويُطلق إلى المراتع ليستأنف حياته ونشاطه , بل لقد ترى أمواس الحلاَّق , وهي جماد , تُراح من
العمل لتستعيد حدتها ورهفها. أما خادم هاتين الدولتين فلا يُسمح له بشيءٍ من ذلك , بل لقد أكون أنا المخصوص دون سائر الزملاء بهذه المهنة التي تَبِعَتها عليَّ وليس منفعتها. فلطيور السماء أوكار , ولثعالب الأرض أوجار , وأما هذا الخادم فليس له مكان يضع فيهِ رأسه ليستريح إلا أن يكون ذلك الموضع الأخير , وربما يكون في إحدى زوايا البصير لذلك تراني لا أتمنى في سنة 1911 إلا أن أُحال على المعاش في إحدى هاتين الدولتين , ولكنني أتمنى معاش الصحافة , فقد خدمت دولتها أكثر جداً من دولة الكأس التي لا يزال لها عليَّ ديون وحقوق. فهل للاكسبريس أن يسرع في تحقيق هذه الأمنية لهذا المتأخر الذي طال انحباسه , وضاقت أنفاسه , وملّت من الانتظار كأسه.
أمين الحداد(3/309)
حياة الأخوين
1 - سعيد الشرتوني
ويراعة فُجعت بفقد وحيدها ... كالأُم قد فُجعت بفقد وحيدِ
كلُّ المصائب هيّناتٌ عندها ... إلاَّ المصيبةُ بالإِمام سعيدِ
في التاسع عشر من شهر آب الفائت فجعت اللغة العربية بعلَمٍ من أعلامها العالية , الإمام الكبير المغفور له الشيخ سعيد الخوري الشرتوني , رافع لواء الفصاحة والبيان في الربوع السورية , ومعزّز فن التأليف بما أنشأه من الكتب الجمة الغزيرة الفوائد على المدارس العلمية.(3/310)
وهو أحد الأفراد الذين تجود بهم فلتات الزمان حيناً بعد حين , فيحدثون انقلاباً في ما تركه الأولون للآخرين.
حياته - وُلد صاحب الترجمة في بلدة شرتون نحو سنة 1847؛ وأبوه عبد الله بن ميخائيل بن إلياس ابن الخوري شاهين الرامي. كان وهو صبي كثير الزيغان فسافهُ زيغانهُ إلى قتل إحدى قريباتي. وحديث الأمر أنهُ كان لنا بين بيتنا وبيت عبد الله بلوطة جاءتها مرَّة الصغيرة ياسمين ابنة عمّ أبي , وصعدت إليها تقطف البلوط؛ فبصر بها سعيد فانتهرها , فأبت النزول بحجة أن البلوطة مُلك عمها , فكان أنهُ أسرع إلى البيت وأتى بالبندقية المحشوَّة وأطلقها على الابنة فسقطت من علُ لا حراك بها. . . تراوحتُ متردّداً في إيراد هذه الحكاية , فرأيت أنَّ من الوفاء بالتاريخ إيرادها على حين أنها ليست غباراً على حياة الفقيد لصغر سنّة حينذاك. فأرسله أبوه إلى مدرسة عبَيه , حيث تلقَن مبادئ العربية فقط , ثم شرع بالمطالعة لنفسهِ بما فيهِ من الميل إلى العلم. ودرّس برهة في مدرسة عين تراز للروم الكاثوليك , ثم عقد وأبي العزيمة على غشيان بغداد للتدريس فيها , فجاءَت الأنباء بانتشار الوباء فيها فانثنيا , وارتحل سعيد إلى الشام حيث درّس زماناً , ثم هبط بيروت واشتغل عند اليسوعيين في العلوم العربية , ونبغ وأجاد. فألَّف عندهم ونقّح وصحّح طائفة من الكتب المفيدة. ولبث عندهم زماناً طويلاً ثم بعد ذلك درّس بعض السنين الصف الأول العربي في مدرسة الحكمة المارونية فأتاح لي. الحظ أن أكون من بعض تلاميذه. ثم استسلم إلى الراحة متنكباً منابر(3/311)
التدريس دون التأليف , فأنشأ وهو منزوٍ في بيتهِ عدة تأليف ناضجة سيأتي الكلام عليها. وقد اشترى منذ عام بيتاً في فرن الشباك تحوطه قطعة من الرزق كان يدير زراعتها بيده. وما هي إلاَّ أيام حتى ألعّتب هِ حمى في المعدة انجلت تاركة
وراءَها ألماً شديداً في رقبيتهِ من جهة الكتفين , فأضعف الألم المستديم جسمه وهدّ سلامة بنيانه.
من صفاتهِ وأحاديثهِ - من صفاتهِ الرزانة والتروّي واعتزال ضوضاء العالمين والتواضع والأنس ولطف الحديث , ومن صفاتهِ الاقتصاد ولهُ أحاديث مأثورةٌ يضيق المجال عن سردها ولا بأس بحديث منها. حدثني مرة قال: زارني المغفور له الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وكان الانكليز قد احتلوا مصر جديداً , فسألتهُ عن الخطة التي ينوي انتهاجها مع المحتلين؛ فأجاب بالرغبة في معاكستهم فأشرتُ عليهِ بموالاتهم لما هم عليهِ من بسطة البأس والسلطان فتستفيد مصر من الموالاة ولا تستفيد من المعاكسة: قال فأجابني الشيخ: أصبت وأني فاعل كذلك.
علومه - يمتاز صاحب الترجمة بعلوم الصرف والنحو وعلوم المعاني والبيان والبديع وبعلم اللغة وأساليب الإنشاء , وهو في كل ذلك صاحب الإِمامة يؤخذ بقوله ويُركن إليهِ وله في ذلك التأليف الجملة الجليلة التي طافت المدارس وتصدَّرت في مكاتب الأدباء , ولم يكن يعرف من اللغات أولاً سوى العربية وقد لجَّ بهِ الشوق إلى تفهُّم الافرنسية وهو أبيض الناصية , فأكبَّ عليها ودرساً يصل بهِ إلى الترجمة منها , فوصل , وترجم قوانين يوستينيانوس ونشرها في مجلة المقتطف. وقد نظم(3/312)
الشعر رغماً عن عدم انطباعه عليهِ فأجاد في بعضهِ من ذلك أبيات كتبها تحت صورته مع عائلتهِ امرأته وبناته الثلاث قال:
رسمٌ يمثّلنا والشملُ مجتمعٌ ... والعيش صافٍ وظلُّ الخير ممدودُ
وهذه الحالُ أقصى ما يؤمّلهُ ... حيٌّ من الخلق بالآفات مقصودُ
لكنَّ فرقتنا لا بدَّ واقعةٌ ... يوماً فيُفصلُ عن أثمارهِ العودُ
فنسأل الله جمعاً بعد تفرقةٍ ... في جنّةٍ وجميلُ العَود محمودُ
وقد ازدادت هذه الأبيات اليوم مسحة من الجمال لانفراط الشمل بموت اثنتين من بناتهِ الصبيَّات وبلحاقه بهما: ومن نظمهِ قوله من قصيدة وداعِ:
وداع لذيذاتِ الحياة وداعكم ... فليسَ على شاكي التفرّق من عتْب
يجرّعنا هذا البعاد مرارة ... على قدر ما ذقنا الحلاوة في القربِ
مؤلفاته والحكم عليها - إن الدهر الآتي حكمٌ عدل في كتابات المنشئين , يطرح الغث
ويبقي فيهِ أو لمال كثير عنده , لا لبلاغةٍ في كلامه؛ حتى إذا مات ومات جيله , أنصف الدهر في كتاباته العارية من سياج الجاه والمال , فتناولها ومحاها. وقد يموت كاتب فقير فتبقى كتاباته على هام الدهر لبلاغتها وعلوّ طبقتها. أما سعيدٌ رحمهُ الله فأرى أن كتاباته من الخالدات. ومؤلفاته عديدة منها كتاب الشهاب الثاقب في صناعة الكاتب وهو عبارة عن رسائل في جميع أبواب المراسلة , أنشأها والنفوس إلى مثلها ظمأى , ولم يتحدَّ فيها طريقة التصنّع(3/313)
والتكلّف والسجع والكلام الكثير في المعنى القليل , بل تحدّى الإنشاء المرسل من السهل الممتنع. وله رسالة انتقد بها كتاب النحو الذي وضعهُ يومذاك المرحوم أحمد فارس الشدياق. وهو المصحح ديوان المطران جرمانوس فرحات وشارحه. ولم أرَ الشيخ مجيداً في تصحيح هذا الديوان لما فيهِ من المغالط الشعرية المتعددة والجوازات القبيحة. ومن مؤلفاتهِ كتاب المعين للتلميذ وللمعلم وقد أحسن في وضع هذا الكتاب لما فيهِ من الطرق الرحيبة الموصلة إلى مواطن الإنشاء؛ وقد أردف المعين بكتاب نجدة اليراع وهو كتاب جمع فيهِ الجمل المترادفة في وصف أمر أو شيء. وله كتاب حدائق المنثور والمنظوم وهو مجموعة من أطايب الشعر والنثر على نحو ما هو عليهِ مجاني الأدب وهو جزءان. ومن قلمهِ تصحيح أغلاط كتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني , وتصحيح ديوان ابن معتوق , وترجمة قوانين يوستينيانوس , ومقالات جمة من أحاسن الكتابات في المقتطف خصوصاً وسواه من المجلاَّت والجرائد. وفي آخر المدة وضع كتاب مطالع الأضواء في مناهج الكتَّاب والشعراء وهو كتاب مدرسيّ في علوم المعاني والبيان والبديع , وقد تبّسط في هذه العلوم تبسُّطاً يكاد يكون مملاًّ. غير أنهُ فاق على سواه من المؤلفين في هذا الفن بأنهُ أردف هذه العلوم الثلاثة بقوانين الإنشاء من مثل الذوق وانتقاء اللفظ والمعنى والمطالعة والتمرين إلى غير ذلك من الأبواب الجميلة التي لم يطرقها مؤلف عربي سواه فجاء(3/314)
كتاباً جليلاً للتعليم في المدارس , وأردفه بكتاب في علم الخطاب ولم أقرأ بع هذا الكتاب. يتضح مما تقدّم أن جميع الكتب التي ألَّفها صاحب الترجمة وصححها مدرسية يستغني عنها المترسّلون في العلوم العربية إلاَّ معجمه المشهور واسمه أقرب الموارد وهو حتى الآن أكمل معجمٍ يصل بناشد الألفاظ إلى ضالتهِ عن أقرب سبيل وفي أسرع آن , على حين أننا في عصر أصبحت السعادة عبد الله باشا فكري وزير المعارف في مصر سابقاً والمغفور له العلامة
الشيخ محمد عبده. هذه حياة الشرتوني. فهي حافلة بالآثار العلمية الطيبة دالَّة على أن الرجل استعمل الزمن الذي جازه بالعمل المتواصل , ولم يكن لسعيدٍ من نظير في ذلك إلاَّ المثلث الرحمات المطران يوسف الدبس الذي كان يعمل كل يوم سبع ساعات رغماً عن شيخوختهِ ومرَض بصره. وإن حياة كتلك الحياة القمينة بأن تكون مثالاً وضَّاحاً لشبيبة هذا العصر , فتعلم أن العم لا يعطينا بعضه حتى نعطيه كلنا. والآن ألقي عليك أيها الراحل الكريم كلمات الوداع الممزوجة بعواطف الاحترام؛ وثق أن لك من سلامة بيانك , ونصاعة برهانك , ونقاء فصاحتك , ومضاء بلاغتك حارساً أميناً على كتاباتك من نقد النافدين , وكفيلاً ضميناً على بقائها زاهية إلى انقضاء العالمين.(3/315)
2 - رشيد الشرنوني
أن رشيداً أخو سعيدٍ لأبيه؛ وُلد في بلدنا شرتون سنة 1864 , وأفضى إلى ربهِ سنة 1907 أي في روعة العمر ومعمان النشاط إذ لم يكن له من العمر سوى ثلاث وأربعين سنة. تلقَّن مبادئ العربية والافرنسية في مدرسة مار عبده هرهريَّا , ودرَّس حيناً في مدرسة عين تراز ومدرسة عينطوره , ثم انقطع لخدمة العلم عند اليسوعيين في بيروت , فكان يدرّس صف الخطابة في كليتهم , ويحرّر جريدة البشير وكان في خلال ذلك يؤلف ويترجم ويصحح الكتب المفيدة , حتى كانت أواخر سنة 1905 , فهبط مصر لخدمة العلم(3/316)
فقضى فيها سنة جاء بعدها للاصطياف في لبنان , فأدركه المرض في منتصف الليل , وفي صباح اليوم أجري له الدكتور هاش عملية جراحية فلم تنجح , وقضى بين قلوب تتفطَّر ودموع تتقطَّر. وكان جميل الصورة غضّ الإِهاب كثير اللطف جميل العشرة وفير المحبة لمسقط رأسهِ وأوطانهِ , وكان كأخيه نشيطاً , يصرف أوقاته بالعمل. فإنهً مع انصرافهِ إلى التدريس والصحافة طول حياته , تمكَّن من تأليف بعض الكتب , ولو أمدَّ الله بحياته , لكان من أكبر خدمة العربية ومن أقطاب العلم والأدب , وله فضل كبير على فئة كبرى من الناشئة التي أخذت عنهُ ونهجت منهجه في طلاوة العبارة وتحدّي الذوق فيها. وكان ضليعاً في اللغة , علاَّماً في علوم الصرف والنحو والمعاني والبديع والبيان والخطابة. وكان شديد النفرة من الكتب القديمة لهذه العلوم لما فيها من التفاصيل الفارغة التي تذهب بوقت التلميذ فتنحت من جلَدِهِ وعزمه , فشنَّ على ذلك غارةً شعواء وشمَّر عن
ساعد الكدّ لتأليف سلسلة كتبٍ في العلوم المذكورة على السياق الافرنسي. فوضع للصرف وللنحو سلاسل هي اليوم عمدة التدريس في المدارس الكبرى والصغرى في سوريا , ولعلها في مصر أيضاً , ولو استطالت حياته لأتى بالكتب المنوية لعلوم البيان على الطراز المُعلَم , وهذه السلاسل المذكورة خير ما ألف ويؤلف النحَّاة للتدريس. ومن تأليفه كتاب المراسلات نحا فيهِ نحو أخيهِ سعيد في إنشاء الرسائل المتنوّعة , ولكنهُ دون كتاب أخيهِ حجماً وجمالاً. أما الكتب(3/317)
التي ترجمها عن الافرنسية فكثيرة جداً منها تاريخ لبنان القديم , ورواية بحيرة قدس. وهو الذي صحح ونشر الكتب التاريخية التي وضعها مؤرخ عصره المغفور له البطريرك اسطفان الدويهي؛ وله كتاب تمرين الطلاَّب وهو مجموع تمارين لأبناء التحصيل في الصرف والنحو وقد شاع استعمال هذا الكتاب لكثرة فوائده , وله كتاب في المنطق لم ينشره. وقد أفاضت صحف البلاد في الكلام عنهُ بعد وفاهِ , وقد رثاه الصديق الأديب الشاعر أحمد أفندي تقي الدين بقصيدة منها:
أبنات الهديل لا تَذري ... ببكاء الرشيد منسكبا
واندبي حظَّه فتى ... عشق الكتب واصطفى الأربا
شاحذاً للرقيّ عزمته ... في بلادٍ لا تُكرِمُ الأدبا
ورثاه هذا العاجز بأبيات منها:
صُحفُ البلاد وكان مهيع هديها ... صدعت بطاحن خطبهِ تبيينا
نبأٌ تطاير في البلاد فهزَّها ... حسبتهُ ملبوساً وكان يقينا
أخذتهُ أعلامُ الجبال بصيحةٍ ... سمعت لها في الهابطات رنينا. . .
لم تزدحم من حولِ نعشك ألسنٌ ... ألفت بغير مماتك التأبينا
وتراجع الأدباء عنك لأنهم ... رهبوك يا أسد العرين طعينا
خافوا سماعك ضعف قولهم وقد ... كان الكلام إذا نطقت سمينا
مسكين القلم الذي ايتمتهُ ... مَن سوف يرحم ذلك المسكينا
أفاض الله عليهِ سجال رحمتهِ وأحصاه بين أصحاب اليمين
لبنان محبوب الخوري الشرنوني(3/318)
أزهار وأشواك
خليل بعد حافظ
النعَم على أدبائنا تتوالى تترى من حكومة أفندينا العباس. في العامين السابقين عيّن فريق منهم في نظارات الداخلية والمالية والمعارف والحقانية والأوقاف وسائر دواوين الحكومة؛ وقد قلتُ كلمتي بهذا الشأن في حينها. وجاء في هذا العام دور الرتب والنياشين فكانت فاتحتهُ رتبة حافظ , وقد تلاها الآن نيشان خليل مطران. والآني للآتي إن شاء الله. . . مثل هذه الرتب والأوسمة لا تحلّي مثل تلك الصدور وفيها من درر المعاني , وجواهر الأفكار ما يزري بقلائد النحور. بل هي تكتسب من الرونق والبهاء , ما لا يكون لها وهي على صدر الفضلاء والأدباء. فإن أوسمة الشرف على صدر من لا يستحقّها كالطغراء السلطانية على النقود الزائفة , أو كالتمثال البديع على قبر يضمُّ عظاماً نخرة. أما الوسام المجيدي وقد عُلّق على صدر الخليل فكأنهُ رُصع بأغلى الجواهر وأثمن الأحجار. فليهنأ النيشان باستوائهِ على صدر المطران.
تذكار الأدباء
إذا كنتُ قد ضفرت من أزهاري باقاتِ وأكاليل قدَّمتها إلى من بسم لهم ثغر التوفيق من أدبائنا. فقد حفظت من تلك الأزهار أبهجها وأنضرها لأنثرَها مُرطَّبة بدموع الذكرى على ضريح من اغتالهم غائلُ المنية ممن سالت أرواحهم الزكية من شق تلك القصبة. . . تُقام الحفلات تباعاً , شائقةً رائقة , لا كرام كبار أدبائنا وتهنئتهم بظهور فضلهم , ولنعم العمل عمل القائمين بهذه الأعياد الأدبية. على أن لأدبائنا الأموات كذلك حقّاً علينا يجب أن لا نتغاضى عنهُ. وهل إلى التغاضي من سبيل وقد كان لنا بمن فقدنا في هذا الصيف تذكير شديد: مات الشيخ أمين الحداد فذكّرنا فاجعة الأدب بأخيه النجيب فوجب على أدباء وادي النيل أن يخلّدوا ذكرى الأخوين الشاعرين. وحملت إلينا أنباء لبنان نعي الشيخ سعيد(3/319)
الشرتوني , فأعادت لاعج الأسف على شقيقهِ الرشيد فتحتم على أدباء الشام أن يحيوا اسم الشقيقين العالمين اللغويين. وهذا عثمان بك جلال , كاد يكون نسيَّا لولا أن همة جوق أبيض أبرزت لنا على مسرح عباس طائفة من رواياتهِ التمثيلية هي كالخرائد جمالاً وجديرةٌ بأن تحيي على لغة الإعراب , سيحتفَل قريباً بنقل رفاتهِ من مصر إلى لبنان ,
لترقد بقاياه أبيه وأخواتهِ في لحد واحد. . . فالفرصة إذن موافقة لتهنئة الذين تفترَّ لهم ثغر الدهر. ولئن سرَّني تأليف اللجان في بيروت ولبنان برئاسة الآنسة الذكية سلمى أبي راشد مديرة جريدة النصير للقيام باستقبال رفات اليازجي بما يليق , فقد ساءني أن أرى الشرتوني الكبير والصغير يذهبان , ولا أرى كلمةً فيهما لأساتذتنا الأعلام كعبد الله البستاني أو جبر من ضومط , كما أنهُ عزَّ عليَّ أن نفقد الأمين بعد النجيب , ولا يقوم من بين أصدقائهما - ولا أسمّي - من يتحفنا ببحث تاريخي أدبي انتقادي عن آثارهما الكتابية.
التمثيل العربي
من الكرسي الخاص بمجلة الزهور في تياترو عباس حضرت كل الروايات التي مثّلها جوق أبيض فشاهدتُ: الأحدب لفيفال , ومضحك الملك ` لفيكتور هوغو وقد ترجمها إلياس فياض , والساحرة لفيكنوريان ساردو , وترجمتها لفرح أنطون؛ والشيخ متلوف , والنساء ومدرسة الأزواج ومدرسة النساء ` ` من وضع موليير الشهير وترجمة المرحوم عثمان بك جلال. . ليلات ستّ رأيتُ وسمعت فيها أبهج ما ترى عين للأديب , وأطرب ما تسمع أذنه: مناظر بهية ,(3/320)
ومجتمع راقٍ , حِكم بليغة , وملاحظات دقيقة مسبوكة فب ألطف قالب وأبلغ أسلوب فاجتمعت لذة البصر والسمع والعقل. كلّ روايةٍ من تلك الروايات ترمي إلى تمجيد إحدى الفضائل , أو شجب بعض الرذائل بطرق متنوعة تتراوح بين الهزل والجد: فهذا يهذّب نفسك والابتسامة على ثغرك , وذاك يرقي عواطفك والدمعة في عينيك فلكلّ مؤلّفٍ أسلوب , ولكلّ أسلوب طريق إلى القلوب. هذا ما شعرنا بهِ في ليالي أبيض , وهذا ما رأيناه بأم العين بعد ما سمعنا بهِ من تأثير الروايات في رقيّ الشعوب. ومقابل ما وجدنا من اللذة , وجنينا من الفائدة في تلك الليالي الغرّ , أزفُّ كلمة تهنئةِ وكلمة شكر إلى جورج أبيض على الخطوة الكبيرة التي خطاها في هذا الفن , وأشرك معهُ من التفَّ حولهُ من الممثلين والممثلات , ولا مجال لديَّ اليوم لأذكرَ كلّ من يستحقُّ الذكر. كلمة التهنئة والثناء واجبة أيضاً لمن ألبس تلك الروايات الإفرنجية حلةً عربية قشيبة. فقد عرفنا قلم الفيَّياض كاسمه فيَّاضاً يتدفق بالمعاني كسلسبيل الماء , ويتفجر منهُ الكلام وكله عذوبة وسهولة وصفاء. ورأينا من بيان منشئ الجامعة في الساحرة سحراً يفتن الألباب. أما المرحوم عثمان دلّنا إلى ما يمكن استخراجه لمسارحنا من
تلك اللغة العامية المملوءة جزالة وعذوبة وإلى ما فيها من النكات والتلاعب بالألفاظ مع سهولة فهمها وطَبَعية التخاطب بها. وأن في نجاح الممثلين الباهر في تلك الروايات وتصفيق الحاضرين المتواصل لأكبر دليل على ما أقول. ويا حبذا لو جاد الزمان بزجَّال من طبقة عثمان جلال , فإنهُ ولا شك قادر على إدخال نوع الكوميدي الذي كنا نقنط من وجوده في لغتنا. ولا تنسيني كلمات التهنئة التي أصوغها للمثلين والمترجمين كلمة شكر خصوصية أوجهها إلى رجل يدير كل هذه الحركة كالزنبلك ويكاد لا تراه عين عنيت عبد الرزاق بك.(3/321)
وقصارى الكلام أن من بات يقول اليوم أن الفنَّ التمثيلي لم يترقَّ لا يكون حضر ليالي تياترو عباس , وإذا قال ذلك وكان قد حضرها فإنه يكون من المتعنتين الذين يرمون إدراك الكمال بين عشية وضحاها , ولا أريد أن أكون من أولئك. نعم إن كل ما شاهدناه في ليالي أبيض كان جميلاً , ولكن كل ذلك يكلّف كالاً جزيلاً. ومهما كان إقبال الشعب عظيماً فإنهُ لا يفي بما هناك من النفقة. وهنا يبتدئ واجب الحكومة. . .
حاصد
من كل حديقة زهرة
اقترح أحد الكتاب على سبيل الفكاهة تأليف وزارة عامة من دول العالم على الشكل الآتي: هولاندا لرئاسة الوزارة. انكلترا لوزارة البحرية. الولايات المتحدة لوزارة الحربية. فرنسا لوزارة المالية. ألمانيا لوزارة الداخلية. تركيا لوزارة الخارجية. النمسا لوزارة المعارف. إيطاليا لوزارة الأشغال والصناعة. روسيا لوزارة الزراعة. بلجيكا لوزارة البريد. اليابان لوزارة المعادن والغابات. وإسبانيا لرئاسة مجلس الداخلية وقد ذكر الكاتب على هذه الطريقة ما امتازت بهِ كل دولة من الدول في الشؤون الاجتماعية. لنا في كل يوم برهان جديد على توقد الذكاء الشرقي , وتفوّقهِ في الفنون والصنائع , متى أنفسح له المجال , وساعدتهُ الأحوال. وقد قرأنا في صحف أميريكا أن حكومة الولايات المتحدة أقرَّت على وضع نشيد وطني رسمي. فتبارى رجال الموسيقي في هذا الباب وأخذوا يضعون الأناشيد , وفي حملتهم الموسيقي الشهير اسكندر أفندي معلوف أحد المهاجرين السوريين. فوضع نشيداً دعاه لأجلكِ يا اميريكا ثم عرضهُ على دوائر المعارف في نيويرك وبوسطن , فلاقى استحسان الجميع. وسئات دوائر المعارف في جميع المدن الأميريكية الكبرى استعمال هذا(3/322)
النشيد البديع في تمرينات التلاميذ اليومية , ولم يبقَ لاتخاذه نشيداً رسمياً للبلاد إلاَّ موافقة مجلس النواب عليهِ. وروت الصحف أيضاً أن المسترتفت رئيس الولايات المتحدة سمع تلحين هذا النشيد فأعجب بهِ كل الإعجاب. مثّل سعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف الحكومة المصرية في مؤتمر التربية الدولي الذي عُقد في هذا الصيف في مدينة لاهاي. وقد ألقى خطبة تناول فيها مجمل تاريخ التربية الدينية والفلسفية في مصر معلناً أن التربية في وادي النيل الآن أوسع مما كانت عليهِ لامتزاجها بكثيرٍ من مبادئ التربية المدنية الحرَّة في أوروبا وأن التسامح الديني بلغ مبلغاً يضمن التأليف بين العناصر المختلفة في البلاد. زاد دخل شركة قناة السويس في الستة الأشهر الأولى من هذه السنة 85. 840 جنيهاً عن دخلها في مثل هذه المدة من السنة الماضية. ويُنتظر أن تبلغ الزيادة في السنة 120 ألف جنيه أو ثلاثة ملايين فرنك. وذلك رغم الاعتصابات العديدة والعراقيل الجمة التي عطلت الملاحة في هذا العام ورغم تخفيض الشركة للرسوم التي تتقاضاها. من أخبار الصين أن يوانشيكاي رئيس الجمهورية الصينية أصدر أمره بتعطيل جريدة كنغ ياو التي كانت تنشر من نحو ألف وخمسمائة سنة أي من قبل وجود المطابع في أوروبا. وكانت الأحرف مركبة
من الرصاص والفضة , والورق من الحرير الأصفر. وقد برهن مدير وهذه الجريدة في كل آن عن استقلال في الرأي والنزوع إلى التمدُّن الحديث؛ وحدث أن أحدهم تجرَّأ في القرن الثاني عشر واقترح على الحكومة إرسال بعثة إلى أوروبا لدرس عاداتها واتخاذ ما يوافق الصين منها فكان جزاؤه الإعدام. ومنذ سنة 1800 أخذت الجريدة المذكورة تصدر يومياً وفي سنة 1907 أمرت الإمبراطورة بتعطيلها لأنها أذاعت المساعي التي كانت تُبذل أوانئذٍ في القصر لاختيار وليّ للعهد. فاستأنفت الجريدة الظهور بعدئذٍ باسم آخر , وربما فعلت هكذا هذه المرة أيضاً واستأنفت الظهور رغماً عن الأمر الصادر بتعطيلها.(3/323)
ثمرات المطابع
كتاب آداب العرب - عرف قراء العربية شاعراً تعوّد توقيع منظوماتهِ في الصحف والمجلاَّت بإمضاءِ العرب. وكان هذا التوقيع يلتبس أحياناً على بعض صحفنا في أميركا وسوريا فتتوهم تلك المنظومات من المنقولات عن العرب. أما هنا فقد عرفناها لحضرة الألمعي إبراهيم بك العرب , وعرفنا شاعرها أديباً غيوراً على لغتنا , صديقاً صدوقاً لمعظم أدبائنا. بين يدينا الآن كتابٌ من قلم حضرتهِ جمع فيه ما امتاز بنظمهِ من الحكَم والأمثال على ألسنة الحيوانت , فجاء فيهِ ما ينيف على المئة عظة قال ناظمها:
عن الطيرِ في جوّ السماء أخذتها ... وفي القفرِ عن طبيٍ وذئبٍ ورئبالِ
وقد ضمنها حكماً ومواعظ ... لتهذيب أخلاقٍ وإصلاح أحوالِ
وقد قدرتها نظارة المعارف قدرها فقررت طبع كتاب العرب على نفقتها , كما قرّرت تدريسه في المدارس الإبتدائية وفي مدارس المعلمات السنية ومدارس معلمي الكتاتيب؛ وهذا أجمل تقريظ لكتاب صديقنا إبراهيم بك. أما طريقة الإرشاد وتلقين الفضائل بواسطة الأمثال فهي قديمة العهد , فقد ورد شيءٌ من ذلك في التوارة والإنجيل. واشتهر بالأمثال عند القدماء ايزوب الرومي , وعند الإفرنج
لافونتين وهو أبلغ من كتب في هذا الباب. ونالت الأمثال المنسوبة إلى لقمان الحكيم شهرةً بعيدة(3/324)
عند العرب. ومن الأئمة في هذا الفن ابن المقفّع , وكتابه كليلة ودمنة أشهر من أن يُعرّف. ومن كُتُب الأمثال كتاب فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عربشاه الدمشقي. وقد ورد شيءٌ من هذا النوع في كتاب سلوان المطاع لحجة الدين بن ظفر , وفي كتاب عنوان البيان للشبراوي , وكتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي , وفي مصنَّفات السيوطي. وأشهر من كتب في هذا الفن من المحدثين رزق الله حسُّون وقد طبع كتابه النفثات في لندرا , ومحمد عثمان جلال , وطبع كتابه الأمثال والمواعظ في مصر. ونحن اليوم نسجل اسم العرب إلى جانب أسماء هؤلاء الأئمة.
العائلة المصرية - جميلة ومعزّية النهضة الأدبية التي نشاهد أثارها بين نسائنا وفتياتنا. فقد قام فريق منهنَّ يعاون رجالنا في ترقية مجتمعنا الشرقي , آخذات على عاتقهنَّ تنببه أخواتهنَّ إلى واجب المرأة , والدفاع عن حقوقها. وقد انضم إلى هذه الفئة العاملة كاتبة جديدة , عرّفتنا بها الجرائد في هذه المدة , وقد زدنا بها معرفةً من كتاب جليل الفائدة أهدته
إلينا في الشهر الماضي , فرأينا فيها نفساً تتلهب غيرةً على مجد قومها , وعقلا يقدح زناد الفكر في معرفة دائنا ودوائنا. فبحثت في موضوع العائلة وهي أساس العمران وركن الاجتماع , وتتبعث بنوع خاص العائلة المصرية في جميع أدوارها ومظاهرها وطبقاتها , وانتقدت(3/325)
بعض عاداتنا في التربية والمعيشة الزوجية , وهي كتبت ما كتبت بعد أن تأملت فتألمت , وفكّرت فتحسرت على مجدِ آفل وعزٍ غابر وقد قرنت هذا الشعور الرقيق بخيالٍ واسع يساعدها على تصوير الحقائق والمناظر بصورٍ تمثلها لك أبلغ تمثيل. والشعور والخيل من أهمّ صفات الكاتب , فلا يبع أن تنال هذه الكاتبة الجديدة مقاماً رفيعاً بين أديباتنا , وقد مهد لها كتابها العائلة المصرية الطريق لذلك.
وصايا الوطن العشر - واضع هذا الكتاب , أميل فاكه أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسوية , من الكتَّاب المفكَّرين والمنشئين البعيدي الصيت. وقد بحث في كتابه هذا بحثاً وافياً في ماهية الوطن وأقسامهِ , والوطنية ورسوخها في قلب الإنسان والبواعث العاملة على تقويتها في النفوس كاللغة والدين , وتاريخ البلاد وفنونها وآدابها وعلومها , إلى غير ذلك من الأبحاث النفسية المبنية على التحليل البسيكولوجي ولأدلة التاريخية. وقد استنتج الكاتب من بحثهِ - وهذا ما يجدر بالشرقيين , حكَّامهم ومحكوميهم , تفهُّمهُ - أ، هـ يجب على الحكومات التي توجد فيها اليوم مذاهب سياسية وأديان متعددة أن تعتقد: أن المذاهب ليست عاملاً من عوامل الوطنية , وأن في مقاومة هذه المذاهب والأديان وطنية هي إطلاق حريتها كلها ومساواتها كلها في المعاملة. أما ناقل هذا(3/326)
السفر النفيس إلى العربية فهو الكاتب المشهور إبراهيم أفندي سليم نجار مراسل المقطم من العاصمة العثمانية , وهي خدمة جديدة له تضاف إلى خدماتهِ السابقة في سبيل أبناء جلدته. فنسأل له التوفيق ولكتابه الرواج.
أمثال الشرق والغرب - عنوان كتابٍ ضمَّ بين دفتيهِ زبدة ما دار على ألسنة الفلاسفة والحكماء من الأقوال المأثورة والأمثال المشهورة , جمعها ورتبها حسب مواضيعها حضرة الأديب الفاضل يوسف أفندي توما البستاني؛ فأجاد وأفاد. لأن مثل هذه الأقوال هي نتاج الأدمعة المفكّرة , وخلاصة الحكمة في كل مكان وزمان؛ فإن كثيراً ما تكون الجملة الواحدة نتيجة اختيارٍ طويل وملاحظات عديدة , فتجيء بالمعنى الكبير. وسننشر في عدد قادم
طائفة من هذه الأقوال لما فيها من جزيل الفائدة.
الصديق - عنوان مجلة جديدة أصدرها في الإسكندرية الفاضل عبد الحميد أفندي سالم , وهي أدبية تاريخية روائية. جاءنا العدد الأول منها وهو يتضمن بعد المقدمة مقالة عن الشاعر البرتغالي كاموينس , وبحثاً مستفيضاً في الروايات ومطالعتها وكتابتها والأسلوب الروائي. وقيمة الاشتراك 30 غرشاً صحيحاً في مصر و10 فرنكات في الخارج. فنتمنى أن يكون للصديق أصدقاء كثيرون.(3/327)
بوليوس قيصر
رواية تمثيلية من أشهر الروايات , وأحكمها وضعاً , وأعظمها وقعاً في النفوس لمؤلفها نابغة هذا الفن شكسبير الروائي الانكليزي الشهير. نقلها إلى العربية بعبارة مطابقة تماماً للأصل الانكليزي حضرة الكاتب المجيد سامي الجربدني المحامي وسننشرها تباعاً ابتداء من هذا الجزء بمناسبة النهضة التمثيلية الحديثة.
أشخاص الرواية:
يوليوس: منجّم
أوكتافيوس: قيصر حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , سنّا الشاعر - وشاعر آخر
ماركوس انطونيوس: حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , لوسيليوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس
اميليوس لبيدوس: حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , تيتينوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس
بوبيليوس: من أعضاء مجلس الشيوخ , مسلاّ , أصدقاء بروتوس وكاسيوس
ببليوس: من أعضاء مجلس الشيوخ , كاتو الصغير , أصدقاء بروتوس وكاسيوس
شيشرون: من أعضاء مجلس الشيوخ , فولومنيوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس
بروتوس.: كاسوس: المتآمرون على قيصر , فارو كليتوس , خُدَّام بروتوس
كاسكا ليجاريوس: المتآمرون على قيصر , كلوديوس ستراتو , خُدَّام بروتوس
تريبونيوس سمبر: المتآمرون على قيصر , لوسيوس دارداتيوس , خُدَّام بروتوس
ديسيوس سنّا: المتآمرون على قيصر , بنداروس , خادم كاسيوس
فلافيوس: كالبورنيا , امرأة قيصر
ماروليوس: بورسيا , امرأة بروتوس
ارتيمدوروس: أعضاء مجلس الشيوخ أهالي حرس وخدَم(3/328)
الفصل الأول
المشهد الأول
شارع في رومه
يدخل فلافيوس وماروليوس وبعض عامة الناس
فلافيوس - إلى بيوتكم! اذهبوا إلى بيوتكم أيتها المخلوقات الكسلى. أتظنون اليومَ يومَ عيد؟ أو لا تعلمون أنهُ لا يجوز لكم وأنت من الصنّاع أن تسيروا في الأسواق في غير أيام البطالة بدون أن تحملوا شارات صناعاتكم؟ أنت يا هذا تكلم. ما حرفتك؟
العامي الأول - نجَّار يا سيدي
ماروليوس - أين وِزرتك وأين مَسطرتك؟ وما تصنع جائلاً مرتدياً أحسن ملابسك؟ وأنتَ يا هذا من أيّ الحرف أنت؟
العامي الثاني - إذا عُدَّ الصناع الحاذقون فما أنا يا سيدي إلاّ عامل مرقّع
ماروليوس - ولكن ما صنعتك؟ قلْ بلا مواربة
العامي الثاني - إني أحترف حرفة أرجو أن أواظب عليها بالأمانة والإخلاص ألا وهي ترقيع القديم.
ماروليوس - غاضباً ما صنعتك يا دنيء؟ أيها الدنيء المنافي ما صنعتك؟
العامي الثاني - لا تغضب يا سيدي. لا تغضب عليَّ. ف ني قد أُصلحك
ماروليوس - ما تعني بهذا أيها الوقِح؟(3/329)
العامي الثاني - أي إني أرقّعُك يا سيدي
فلافيوس - آه. أنتَ سكاف. أليس كذلك؟
العامي الثاني - حقاً يا سيدي أن المخرز آلة معيشتي. فقد اصطفيتهُ لي خليلاً دون جميع الرجال والنساء. نعم أنا جرّاح الأحذية القديمة آسوها عند إشرافها على الهلاك. إن خيرَ مَن مشى على الأرض مرَّت رجلاه بين يديّ
فلافيوس - ولماذا تركت حانوتك اليوم وخرجت تقود هؤلاء الناس في الأسواق؟
العامي الثاني - حتى يقطّعوا أحذيتهم مشياً فيزداد كسبي. على أني لا أكتمك يا سيدي أننا تركنا أشغالنا لنرى قيصر ونفرح لانتصاراته
ماروليوس - ولمَ تفرحون؟ أين النصرُ المبين الذي جاءنا بهِ؟ وأين الأسارى الذين أتى بهم إلى رومة يحفون بمركباته؟ أي بني رومة قساة القلوب غلاظ الرقاب. كونوا خُشُباً مسندةً! إن الجماد لخيرٌ منكم. أنسيتم بومباي؟ يوم كنتم تتسلقون الأسوار والمباني وتصعدون إلى
النوافذ والأبراج - بل إلى المداخن - حاملين أطفالكم , واقفين صابرين منتظرين اليوم كله لتختلسوا نظرةً من بومباي وهو مارٌ في شوارع رومة. حتى إذا لاحت لكم مركبته هتفتم له هتافاً اهتزت له أعماق التيبير كأنه ينطالُّ ليسمع صدى أصواتكم المالئة شاطئيهِ!. . والآن؟ ماذا تفعلون الآن؟ أترتدون أحسن ملابسكم وتخلفون لأنفسكم عيداً وتنثرون الأزهار في طريق رجل جاءَكم بنصرٍ مخضّب بدم بومباي؟ إليكم عني! تفرَّقوا. اركضوا إلى قعر بيوتكم وخرُّوا سجّداً وادعوا الآلهة علّها تحول عنكم(3/330)
طاعوناً واقعاً لا محالة عليكم يا ناكري الجميل
فلافيوس - يا أبناء وطني الصالحين. اذهبوا. واجمعوا جموعكم الذين على شاكلتكم إلى ضفاف التيبير؛ واذرفوا الدمع حتى يفيض منهُ النهر ويملأ عبرَيه عسى أن تُغفر لكم أوزاركم يخرج جميع الأهالي أنظرْ. أنَّ أدنى عواطفهم قد تحرّكت. ألا ترى كيف خرسوا في ذنوبهم وذابوا؟ أقصد أنت إلى الكابيتول من هذه الناحية , وأنا من هنا , وإذا رأيت صوراً مزدانة بزينة قيصر فانزع زينتها
ماروليوس - أيليق أن نفعل ذلك واليوم عيد لوباركال؟
فلافيوس - لا بأس. يجب أن لا ندع الصور مزدانة بزينات قيصر. أنا ذاهب لأطرد العامة من الشوارع فافعل أنت فعلي وفرّقهم حيث تراهم متكاثفين. فإِنّا إذا نزعنا الآن هذه الريشات المتنامية من جناح قيصر ما استطاع أن يطير فوق الطيران العادي. أما إذا لم نفعل فإنهُ يحلّق إلى حيث لا تراه العين , ونبقى نحن خاضعين خائفين يخرجان
المشهد الثاني
محلٌّ عام هتاف
يدخل قيصر وأنطونيوس وكالبورنيا امرأة قيصر , وبورسيا إمرأة بروتوس ,(3/331)
وديسيوس وشيشرون وبوتوس وكاسيوس وكلسكا. وجمع كثير يتبع , وبينهم منجّمو لمشاهدة السباق
قيصر - كالبورنيا!
كاسكا - ياهو! اسكتوا! أن قيصر يتكلم
قيصر - كالبورنيا!
كالبورنيا - هانذا سيدي
قيصر - قفي واعترضي أنطونيوس في طريقهِ حين يمرَّ بك جارياً!
أنطونيوس!
أنطونيوس - سيدي قيصر
قيصر - لا تنسَ وأنت تجري في السباق أن تلمسَ كالبورنيا. فأن شيوخنا يقولون أنهُ إذا لمس أحد المتسابقين عاقراً في مثل هذا اليوم زالت عنها لعنة عَقرَتِها
أنطونيوس - سأذكر ذلك ولا أنساه. أن قيصر إذا قال لشيء كن فيكون
قيصر - ابدأوا. والعبوا لعبكم هتاف واختلاط
المنجم - أي قيصر!
قيصر - ها. من ينادي؟
كاسكا - قولوا للناس تسكت! اسكتوا!
قيصر - من يناديني في مثل هذا الزحام؟ فإني أسمع صوتاً أرفع من صوت الموسيقى ينادي قيصر. تكلم أن قيصر مصغٍ يسمع(3/332)
المنجم - إحذر خامس عشر مارس!
قيصر - مَن الرجل؟
بروتوس - أن منجماً يحدزك خامس عشر مارس
قيصر - إيتوني بهِ. دعني أرَ وجهه
كاسيوس - يخاطب المنجم تقدَّم من بين الجمع وانظرْ إلى قيصر
قيصر - ماذا قلتَ لي؟ قلْ مرةً أخرى
المنجم - احذر خامس عشر مارس!
قيصر - أنهُ لحالِمٌ. لندعه وشأنه. هيّوا بنا
يخرح الجميع ويبقى بروتوس وكاسيوس
كاسيوس - أتأتي معي لمشاهدة السباق؟
بروتوس - ما أنا بالذاهب
كاسيوس - رجوتك. افعلْ
بروتوس - ما أنا باللعَّاب. أنهُ لينقصني بعض ما عند أنطونيوس من الميل إلى اللهو. ولكن لا يقفنَّ امتناعي في سبيل ذهابك أنت. ها أنا منصرف.
كاسيوس - إني ألحظُ إليك منذ زمن يسير فلا أرى في عينيك تلك المودة التي عوَّدتنيها. ولا تُظهر لي من الحبِّ ما كنتُ أنتظره منك. ولا تمدّ يدك السمحآء مدًّا يرقبهُ صديقك الصدوق.
بروتوس - لا تخدعنَّك الظواهر يا كاسيوس. فما حوَّلتُ وجهي عنك بل عن نفسي. . . عواطف متباينة تتقاذفني. إنْ هي إلاّ أفكار خاصة بي قد تصطبغ بها أعمالي. فلا يحزن أصدقائي لأمري - وأنتَ يا كاسيوس في عدادهم - وليعلموا أن بروتوس قد اشتغل بمحاربة نفسه عن إظهار المدّة لهم.
كاسيوس - إذن عفوَك عن أخطائي حسن مقصدك. بل عفواً عن خطأِ(3/333)
جعلني أخفي عنك في طيّ قلبي أفكاراً وتأملات ذات شأن وقيمة قلْ يا بروتوس! هل تستطيع أن ترى وجهك؟
بوتوس - كلاّ. فإن العين لا ترى نفسها إلاّ إذا انعكست صورتها إليها بشيء آخر
كاسيوس - هذا أكيد. أسفي أن لا يكون لديك مرآةٌ تعكس لك فضائلك المخباة فتريك ظلك. إني سمعت كثيرين من أعلى الناس مقاماً في رومة - عدا قيصر - يئنون تحت نير هذا الزمان. يذكرون بروتوس ويتمنون لو ينظر إلى نفسهِ بأعينهم
بروتوس - إلى أيّ الأخطار تدفعني يا كاسيوس فتجعلني أفتش في نفسي عما ليس فيَّ
كاسيوس - إذن تهيأ للسمع. وما دمتَ تعلم أنك لا تستطيع النظر إلى نفسك فأنا أقفُ لك مرآة صغيرة تعكس ما خفي عليك منك. لا تسيء الظنّ بي. لو كنتُ ضَحِكة بين الناس أو من الذين يطرحون صداقتهم طرحاً على أول قادم. أو كنتُ ممن ينقلب على الصديق عدوّاً أغتابهُ بعد أن أكون قد مدحتهُ. أو كنتُ أحفلُ باسترضاء عامة الناس لحقَّ لك الحذرُ مني هتاف في الخارج
بوتوس - ما هذا الهتاف؟ إني أخشى أن يكون الشعب قد اختار قيصر ملكاً
كلسيوس - آه. أتخشى الأمر؟ إذن أنت لا ترغبُ فيهِ؟
بروتوس - أي كاسيوس. إني لا أريد ذلك ولكني أُحب قيصر. . .
ولمَ تمسكني عن الذهاب؟ ما الذي تودُّ أن تبوح لي بهِ؟ إن كان هناك ما يعود بالنفع على
بلادي فدونك عينيَّ! ضعْ الموتَ أمام إحداهما والشرف أمام الأخرى فتراني أنظرُ إلى الأمرين نظراً واحداً وأسيرُ في طريقي إما إلى الموت وإما إلى الشرف. لنجعّل الآلهة بالقضاء عليّ إن كنت لا أحبُّ الشرف أكثر مما أخاف الموت(3/334)
كاسيوس - أعرف بك هذه الفضيلة كما أعرفك. خفّف عنك. إني أسوقُ إليك حديثاً موضوعه الشرف. ما الحياة؟ إني أجهل رأيك ورأي الناس في قيمة هذه الحياة الدنيا. أما أنا فسيَّان عندي الموت والحياة إذا كان لابدَّ لي من العيش خائفاً من نفسي. . . لقد ولدت حرّاً مثل قيصر. أو لستَ أنت حرّاً أيضاً؟ تغذَّينا كلانا من غذائهِ. وكلانا يتحمل برد الشتاء كاحتماله. فإني كنت مرة مع قيصر على شاطئ نهر التيبير في يوم مطير ذي ريح عاصفة. وأمواج النهر تودُّ لو استطاعت التملص من شاطئيه فتلطمها حَنِقةً غضبى. فقال لي قيصر أتجسر يا كاسيوس أن تقفز معي إلى هذا النهر الشرس فنسبح إلى الضفة الأخرى. فامتثلتُ الأمر حالاً ووثبتُ إلى الماء وقلتُ له اتبعني. فتبعني. وتدفق السيلُ وعلا خريره فأخذنا نكافحه بأعصاب كَلِبَةٍ ندفع الأمواج غير هيابين فتندفع. وما كدنا نصل إلى هَدَفِنا حتى سمعتُ قيصر ينادي إليَّ يا كاسيوس أو أغرق فانتشلتهُ من ماء التيبير مضنوكاً كما انتشل جدُّنا الأعلى اينياس العجوزَ أنشيزيس من نيران ترواده الملتهبة. وها قد صار هذا الرجل إلهاً وبقي كاسيوس رجلاً تعساً , عليهِ أ، ينحني خاشعاً إذا تكرَّم قيصر ورمقهُ شزراً. إنهُ أصيب بالحمى في إسبانيا فكان يرتجف ورأيت شفتيه وقد جَبُنتا ففرَّتا هاربتين من لونهما الطبيعي. وتلك العين التي يرتعب العالم من نظرتها رأيتها وقد زال عنها لمعانها. لقد سمعتهُ يئن. إن لسانه الذي أمر الرومانيين أن يكرموه ويدوّنوا خطَبَهُ في كتبهم كان يصرخ طالباً كأساً من الماء كما تصرخ امرأة على سرير المرض. إيهٍ أيتها الآلهة! إني أعجب كيف يتسنى لرجلٍ بهِ من ضعف الخُلق ما بهِ أن يجوز قصب السبق وحده على هذا العالم العظيم هتاف في الخارج
بروتوس - أنهم يهتفون أيضاً. ومما أظنُّ هذا الهتاف إلاَّ تكريماً يضاف إلى حساب قيصر(3/335)
كاسيوس - ويلك يا رجل. أنهُ مثل ضم رودس يضمُّ بين ساقيه هذا العالم الضيق ولا يُبقي لنا نحن صغار الخَلق إلاَّ أن نمشي بين رجليه الضخمتين ثمَّ نتطال لنجدَ لأنفسنا قبوراً ندفن بها عارنا. الناس يملكون في بعض الأحيان آجالهم إننا نعيبُ زماننا والعيب فينا.
بروتوس - قيصر - ما الفرق بين الاسمين وبمَ يفضل قيصر بروتوس؟ ولمَ ينادي باسمهِ أكثر مما ينادي باسمك؟ اكتب الاسمين معاً. ليس اسمه بأجمل من اسمك. لحن في قراءتهما. إن اسمك عذب اللفظ كاسمهِ. ضعهما في كفتي ميزان فلا يرجح اسمهُ اسمك. عزّم بهما فسرعان ما تخرج الأرواح من بروتوس خروجها من قيصر. وأيم الآلهة جميعها! على أي طعامٍ يقنات قيصر هذا حتى ينمو يا رومه. وأنهُ ما مرَّ منذ الطوفان زمن احتكر شهرته رجل واحد فقط. وما استطاع رجل أن يقول قبل الآن جدران رومه الواسعة ضاقت عن أن تسع أكثر من واحد. ها نحن , ورومه رومه , ولا مكان لأكثر من رجل فرد فيها. إني سمعتُ آباءنا تقول إن كان فيما مضى رجل يُدعى بروتوس ودَّ لو خضع لحكم الشيطان الأبدي ولا يرى ملكاً على رومه
بروتوس - لا أشكُّ في حبّك لي. واظنني قد حذرت بعض ما تدفعني إليهِ. سأنبئك بما يستقرُّ عليهِ رأيي في هذه الأمور. أما الآن فأرجوك أن لا تزيد في تحريك شجوني. إني سأمعن النظر فيما قلت وسأصغي إلى كل ما ستقول ثمَّ لي جواب على هذه المهام. واعلم أني أؤثر أن أكون قروياً حقيراً على أن أكون ابناً لرومه ينوءُ تحت أحمال قد يحمّلنا إياها هذا الزمان. فأمضغ هذا الكلام جيداً حتى نلتقي مرةً أخرى.
كاسيوس - أنا فرِحٌ لأن كلماتي الضعيفة قد أذكت مثل هذه النار في صدرك
بروتوس - قد انتهت الألعاب وعاد قيصر(3/336)
كاسيوس - عند ما يمرّ القوم اجذب كاسكا من كُمّ ثوبه إليك فيروي لنا بأسلوبه الساخر ما يستأهل الرواية من حوادث اليوم يدخل قيصر وأتباعه
بروتوس - سأفعل. إنما تعالَ وانظر. ها علامة الغضب تلمع على جبهة قيصر. وأتباعه يمشون كاسفين. إن الاصفرار يعلو خدي كلبورنيا. وشيشرون ينظر بأعين من نار تذكرنا مواقفه في الكابتول حين يعارضه في الكلام أحد أعضاء المجلس
كاسيوس - سيقص كاسكا علينا
قيصر - انطونيوس!
انطونيوس - قيصر؟
قيصر - أبغِني رجالاً يحيطون بي. رجالاً سمانا ذوي رؤوس ناعمة ينامون الليل كله. إن
لكاسيوس الواقف هناك نظرات جائعة مهزولة. إنهُ كثير التفكير ومثل جانبه لا يؤمن
انطونيوس - لا تخفهُ , ليس منهُ خطر. إنهُ روماني نبيل يميل إليك
قيصر - لما تجنبتُ رجلاً تجنبي كاسيوس الناحل. أنهُ يقرأ كثيراً , وهو شديد الملاحظة , يحدق بنظره فيخترق أعمال الناس. لا يلهو ولا يلعب نظيرك يا انطونيوس , ولا يسمع الغناء , يتبسم قليلاً , وإذا تبسم فكأنهُ يهزأ من نفسه أو يحتقر قلباً يجد ما يستأهل التبسم. إن أمثاله قلقون أبداً , لا يهدأ لهم بال إذا رأوا من هو أعظم منهم. فهو خَطِر. على أني أنبئك عما يجب أن تخاف وليس عما أخافهُ أنا. لأن قيصر لا يزال قيصر. تعالَ إلى يميني , فإن هذه الأذن ثقيلة السمع وأبدِ لي رأيك فيهِ بالحق. يخرج قيصر وأتباعه ما عدا كاسكا
كاسكا - أنك جذبت كمَّ ثوبي. هل تبغي محادثتي؟(3/337)
بروتوس - نعمو أنبئنا ما الذي أساء قيصر اليوم
كاسكا - أنك كنت معهُ. . ألم تكن معهُ؟
بروتوس - لو كنت معهُ ما سألتك شيئاً
كاسكا - لقد قدّموَا له تاجا , وبعد أن قدّموه ردّه بيده هكذا. فهتف له الشعب.
بروتوس - وما كان سبب الهتاف الثاني؟
كاسكا - الأمر نفسه
كاسيوس - هل أهدوا التاج إليهِ ثلاث مرات؟
كاسكا - نعم. ثلاث مرات , وقد ردّه ثلاثاً أيضاً. لكنه تمهّل في الثانية أكثر مما في الأولى , وفي الثالثة أكثر مما في الثانية. وكان الذين حواليَّ يهتفون له المرة بعد الأخرى
كاسيوس - من قدّم له التاج؟
كاسكا - انطونيوس
بروتوس - كيف كان ذلك
كاسكا - أما كيف كان ذلك فصعب عليَّ وصفه. ما اكترثتُ. ظننت الأمر ألعوبة. رأيت ماركوس انطونيوس يقدّم له شيئاً ليس بالتاج حقيقة بل إكليلاً صغيراً. وقد قلت لك أنهُ رفضهُ. على أني أظنهُ كان يود لو أبقاه. فقدّم إلا كليل ثانية , فردّه قيصر أيضاً. على أنني أظنهُ اسثقل أن يعيد يده خاليةً منه. فعاد انطونيوس وقدم الإكليل مرة ثالثة , فردّه بين
هتاف الجمهور وتصفيقهم. وأخذوا يرمون قبعاتهم القذِرة في الهواء فتختلط رائحتها برائحة أنفاسهم المنتنة حتى كاد يُقضى على قيصر. فقد اعتراه الأغماء وسقط إلى الأرض. أما(3/338)
أنا فلم أجسر أن أضحك مخافة أن أفتح فمي فيمتلئ ريحاً خبيثة
كاسيوس - مهلاً. مهلاً. هل أغمي على قيصر؟
كاسكا - أنهُ سقط على قارعة الطريق , وأزبد فمه ولم يتكلم
بروتوس - والأمر معقول. فإن قيصر مصاب بداء الصرع
كاسيوس - ليس قيصر المصاب بالصرع! بل أنت , وأنا , وهذا الأمين كاسكا. نحن المصابون بالصرع!
كاسكا - لا أفهم ما تقول. ولكني أعلم أن قيصر وقع إلى الأرض وكان قد لحظ قبل أن يقع سرور الشعب لرفضه التاج فجذبني إليهِ لأنزع الرداء عن عنقه , والتفت إلى جمهور الواقفين وقال تعالوا اضربوا عنقي. أما أنا فلو كنت أحد هؤلاء الصنّاع لصدقته حالاً. وعندما رجع إلى نفسه , اعتذر عما بدر منهُ ونسب السبب إلى مرضه , فصاحت ثلاث أو أرع نساء كنَّ بجانبي يا له من ملك كريم وغفرنَ له من قلوبهنَّ. إنما لا عبرة بأعمالهنَّ فلو طعنَ قيصر أمهاتهنَّ ما فعلنَ خلاف ذلك
بروتوس - وبعد ذلك خرج كئيباً؟
كاسكا - نعم
كاسيوس - هل تكلم شيشرون؟
كاسكا - نعم. تكلم باليونانية
كاسيوس - ماذا قال؟
كاسكا - لو كنت أعلم ما قال لما نظرت إلى وجهك بعد الآن. أما الذين فهموه فكان ينظر بعضهم إلى بعض ويتبسمون ويهزّون الرؤوس. أما أنا فلم أفهم شيئاً. كان الكلام يونانياً - دونك خبراً آخر: إنهم قبضوا على ماروليوس وفلافيوس لأنهما نزعا الزينات من صور قيصر. وهناك مساخر أخرى قد نسيتها. مودّعاً طيبا نفساً
كاسيوس - تعالَ نتعشى في بيتي هذا المساء(3/339)
كاسكا - لا. فإن لي موعداً آخر
كاسيوس - فليكن الأمر غداً
كاسكا - لا بأس إن عشتُ , وكان غذاؤك طيباً , وإن أنت لم تنس
كاسيوس - سأكون بانتظارك يخرج كاسكا
بروتوس - غريب أمر هذا! وكيف صار بطيء الفهم. فقد كان رفيقي في المدرسة وعرفته على جانب عظيم من الذكاء وسرعة الخاطر
كاسيوس - أنهُ لا يزال سريعاً في التنفيذ سبّاقاً إلى غايات الشرف والشجاعة رغم ظاهره البطيء. وليست هذه الخشونة البادية عليهِ إلاَّ مرقاً في صحن ذكائهِ يذيقهُ الناس فيحسنون هضم كلامه بشهية
بروتوس - وهو كذلك. سأتركك الآن. فإذا أحببتَ أن تراني غداً أجيئك. أو تعالَ أنت إلى منزلي. إني أكون بانتظارك
كاسيوس - سأفعل. استودعكَ التفكير في شؤون هذا الزمان يخرج بروتوس. إنك شريف يا بروتوس. على أني أرى معدنك الشريف قد يُصكُّ ويجوَّل إلى غير وجهتهِ. ولذلك وجب أن لا يخالط الشريف إلاَّ الشريف , فالعصمة ليست لأحد , وأي الرجال لا يُستغوى. أن قيصر حاقدٌ عليَّ ولكننهُ يحب بروتوس. فلو كنتُ أنا بروتوس وكان بروتوس كاسيوس لما استطاع أن يثير مكامن عواطفي. فلأذهبنَّ الليلة وأكتبُ رسائل أرميها إليهِ من نوافذ بيته رسائل مختلفة الخطوط تشيرُ إلى ما له من عظيم المكانة في قلوب أهل رومه وتلمذح إلى أطماع قيصر ومآربه وبعد ذلك ليطمئن قيصر في مقعده إن استطاع للاطمئنان سبيلا. فإنّا سنهززه تهزيزاً أو نخضع للنحس طويلاً يخرج
المشهد الثالث
رعد وبرق يدخل كاسكا من جهة شاهراً سيف , وشيشرون من جهة أخرى
شيشرون - السلام يا كاسكا. أكنتَ في ركاب قيصر حتى منزله؟ مالك(3/340)
تكاد تختنق؟ إلى أيّ شيء تحدّق
كاسكا - وأنتَ مالك ساكناً لا تتحرَّك والأرض تكاد تميد بما فيها كورقة يهزُّها الريح. أي شيشرون! إني رأيت أعاصير اقتلعت الأشجار ذات العقد؛ وشاهدتُ البحر ينتفخُ ويرغي ويُزبِد طامعاً بأن يرتفع إلى السحب الغضبى ولكنني لم أرَ قبل اليوم عاصفة تمطرُ ناراً.
فقد يكون أهل السماء قام بعضهم على بعضٍ عدوّاً. أو أن الأرض تطاولت على الآلهة فاستفزتها إلى إرسال صواعق الهلاك
شيشرون - ماذا رأيتَ من الغرائب؟
كاسكا - رأيت عبداً رافعاً يده اليسرى تلتهب ناراً كأنها تضمُّ عشرين مشعالاً ولكنها سليمة لا تحترق. والتقيتُ بأسدٍ سللتُ له سيفي فكان يحملق فيَّ ثم سار بسلام. وثَمَّ يسيرون في الشوارع. والبارحه جثمت البوممة طائرُ الليل تنعبُ في رابعة النهار. . أفإِذا اتفقت هذه الخوارق على الوقوع يعللها الناس بأنها طبيعية ويخلقون لها أسباباً؟ أما أنا فأراها نُذُرَ سوءِ للبلد التي تحلُّ عليها!
شيشرون - لا ريب أنهُ زمنٌ غريب الطوار. إنما الناس يؤوّلون على هواهم أموراً ليست مقاصدهم. أيجيء قيصر إلى الكابيتول غداً؟
كاسكا - يجيء فقد أمرَ أنطونيوس بأن ينقل إليك نبأ عزمه على الذهاب
شيشرون - مُسيّتَ بالخير ليس هذا الطقس بلائق للسُرى
كاسكا - بحفظ الله يا شيشرون يخرج شيشرون
يدخل كاسيوس من ناحية أخرى
كاسيوس مَن هنا
كاسكا - روماني
كاسيوس - أنتَ كاسكا. عرفتك بصوتك(3/341)
كاسكا - ُذنك سمَّاعة! أي كاسيوس ما هذا الليل؟
كاسيوس - إنها لليلة تسرُّ المخلصين الأمناء
كاسكا - مَن رأى السماء تزمجر هكذا
كاسيوس - الذين رأوا الأرض مملوءة ذنوباً. أنظر يا كاسكا! إني كما تراني قد خرجتُ أجول في الأسواق معرّضاً نفسي لأخطار هذا الليل , مفكوك الإزار معرّياً صدري للصواعق حتى إذا ما أرعدت وشقّت صدر السماء كنت أتعرّض لها مستقبلاً انقضاضها هكذا؟
كاسكا - ولم تستفزُّ السماء هذا الاستفزاز؟ أن علينا نحن البشر أن نخاف ونرتجف عندما
ترسل الآلهة البطّاشة مثل هذه النذر الهائلة لترهبنا
كاسيوس - إنك بليد يا كاسكا! فإما إنه يعوزك شررُ الحياة اللازم لكلّ روماني وأما أن يكون مخبوءا فيك لا تقدح بهِ. تلبس لباس الخوف والدهشة , ويعلو وجهك الاصفرار , وتحدّق لترى علة ملل السماء. ولو استقصيتَ السبب الحقَّ لوجدتَ أن هذه النيران وهذه الأشباح الزاحفة وهذا الطير والحيوان وهذه الأشياء جميعها لم تخرج عن مألوفِ سليقتها وأصل كيانها ولم يستعصِ سرُّ انقلابها على الرجال عاقلهم ومجنونهم وطفلهم , فضاع منهم سبب تحوّلها هذا التحوُّل الرهيب إلاّ لأمرٍ جللٍ خارق؛ وأن السماء قد نفخت فيهم هذه الأرواح لتجعلهم آلةَ رعبٍ وإنذار! أي كاسكا! هل أُسمي لك رجلاً هو أشبه الأشياء بهذا الليل - رجلاً يرعد ويبرق ويبنش القبورَ ويزأر كالأسد في الكابيتول - رجلاً لا يفضلك ولا يفضلني في الأعمال ولكنهُ نما فصار مخيفاً هائلاً كهول ما نشاهد من الخوارق.
كاسكا - قيصر عنيت. ألم تعنهِ يا كاسيوس؟
كاسيوس - ليكن من يكون. تعساً لهذا الزمان! فإن للرومانيين الآن أعصاب أجدادهم وعضلاتهم. أما عقول آبائنا فقد ماتت وبقيت لنا عقول الأمهات(3/342)
أن نيرنا وصبرَنا عليهِ لمظهرٌ من مظاهر تخنّثنا
كاسكا - يقال أن الأعيان ينوون المناداة بقيصر ملكاً يحمل التاج في البرّ والبحر وفي مكان خلا إيطاليا
كاسيوس - إذن فإنا أعرف أين أغمد هذا الخنجر وأحرر نفسي من هذا الرق! إيهٍ أيتها الآلهة! إنكم في هذا تجعلون الضعيف قوياً وتقهرون المستبدين!. . . لا تستطيع الحصون الحجرية ولا الأسوار المصفحة بالنحاس , ولا السجون المخنقة , ولا سلاسل الحديد أن تقف حاجزاً في سبيل عزم نفس أكيد. إنما كنتُ أعلم ذلك - وهو ما يعلمه الناس كلهم - فإني أستطيع أن أنزع عني متى شئت هذا الاستبداد الذي أحمله
كاسكا - هكذا أنا. وهكذا كل عبد يحمل في يده قوة تزيل عنهُ عبوديته
كاسيوس - إذن لماذا يكون قيصر السيد المستبد؟ مسكين هو - الذنب ليس ذنبه. إنهُ لا يودّ أن يكون ذئباً لو لم يرَ الرومانيين حملاناً؛ ولا أن يصير أسداً لو لم يكن الرومانيين ظباء. إن أعظم النار التهاباً تبدأ بشرر في العشب الصغير البائد. يالرومة. ما آزراها وما
أشبهها بالحثالة والنفاية حيث هي أداة هوان تُحرق مشكاةً لشيءٍ سافلٍ اسمهُ قيصر! رويدكِ نفسي لقد أضلتني شجوني , فقد أكون مخاطباً رجلاً راضياً بالرق. على أني أتحمل مسؤولية كلامي , فلا أخشى الخطر بعد أن سلحت لملاقاته عزيمتي
كاسكا - إنك تخاطب كاسكا. وليس كاسكا بالثرثارة المهذار. ضع يدك في يدي! كن في عصبة تقوم في وجه هذه المساوئ , فأصبح واحداً منكم لا يسبقهُ إلى العمل سابق
كاسيوس - هذا عهد بيننا. يتصافحان فليكن في معلومك الآن أني قد أثرت بعضاً من أشرف رؤوس رومه ليكونوا عوناً لي على أمر جلَل نبيل؛ وهم(3/343)
بانتظاري الآن في رواق بومباي في هذا الهزيع من الليل حيث لا سار في الأسواق. . . ما أشبه وجه الطبيعية بعمل دموي مخيف سوف نقدم عليهُ يدخل سنّا
كاسكا - اختبئ هنيهةً! إنسان قادم على عجل
كاسيوس - هو سنّا. اعرفه بمشيته. أنهُ صديق. ما لك تسرع يا سنّا؟
سنّا - أهلاً بك وفرحاً! يا لهول هذا الليل! إن بعضاً من قومنا رأى مناظر غريبة
كاسيوس - أينتظرني القوم؟ قل!
سنّا - نعم هم بانتظارك. ايه كاسيوس لو تستطيع أن تجعل بروتوس منا
كاسيوس - اطمأن بالاً. خذ هذه الورقة للمجلس , وضعها في كرسي بروتوس الخاص بهِ بحيث لا يراها سواه , وارمِ بهذه إلى نافذة بيتهِ , علّق هذه على تمثال جدّه بروتوس؛ ثم تعالَ والحق بنا في رواق بومباي. أهناك داسيوس وتريبونيوس؟
سنّا - الكل عدا سمبر الذي خرج وراءك إلى بيتك. ها أنا أُسرع لأوزع هذه الأوراق حسب قولك
كاسيوس - ثم ارجع بعد ذلك لى رواق بومباي. يخرج سنّا مخاطباً كاسكا كاسكا. هلمَّ بنا إلى منزل بروتوس قبل أن يفاجئنا النهار. ثلاثة أرباعه لنا الآن , وسنأخذه كله بعد هذا الاجتماع
كاسكا - أن منزلته رفيعة المقام في قلوب الشعب وما يرونهُ تهجماً إذا صدر منا ينقلب بسحر هيبتهِ فضيلةً وإحساناً
كاسيوس - لقد قدرته وفضله وحاجتنا إليهِ حق القدر. هيا بنا فقد آذن الليل بالانصراف ,
وسوف نكون واثقين منهُ قبل أن يلوح الفجر يذهبان
تم الفصل الأول(3/344)
العدد 28 - بتاريخ: 1 - 11 - 1912
الرتب والنياشين
الإنسان بطبيعته ميال إلى الزهو , توّاق بفطرته إلى التفوّق على أبناء جلدتهِ , شغفٌ بكل ما يميزه على الغير. تلك غريزة ملاصقة للنفس البشرية كيفما تكيفت وحيثما وُجدت. ولذلك ترى منح الرتب والنياشين من العادات القديمة المنتشرة بين جميع الأمم والشعوب , أيّاً كان شكل حكومتها ولطالما استخدمها الرؤساء والحكام لاستمالة أصحاب النفوذ من المرؤوسين والمحكومين , لأنهُ إذا كان للرعية ألف وسيلة تتزلف بها إلى عاهلها , فللعاهل فيما تجود به يده من نعم الألقاب والأوسمة أحسن ذريعة للتزلف بدوره إلى تلك الرعية. ولإِن روى لنا التاريخ حادثة ذلك الكونت الذي مننه ملكه بقوله من جعلك كونتاً؟ فأجابهُ , ويده على قائم سيفه أنت. ولكنني صيّرتك ملكاً فلكم روى لنا عن استكانة أصحاب الألقاب إلى الذل والخنوع لما نحيهم ذلك اللقب الذي يخوّلهم حق التشامخ على من كان عطلا منه. ولإِن كان قانون الولايات(3/345)
المتحدة يمنع الأميركيين من حمل الألقاب وعلامات الشرف , فلكم رأينا من أغنيائهم يسعون زحفاً لنزويج بناتهم صاحبات الملايين من ذوي لقب وإن كان نعدماً لا يملك شروى نقير.
البحث في الرتب والنياشين من الأبحاث التي كثير خوض الكتاب فيها. فمن أن تقابل وتقارن بينها دون أن تتوصل إلى إقناع صاحب يقول عنها: علامة شرف , وشهادة نبل , ودليل مرؤة ورفعة:
تقول هذا مجاج النحل تمدحهُ ... وإن ذممتَ تقُل قيء الزنابيرِ
يسعى الآن فريق لإلغاءِ الرتب وإبطال النياشين وسائر علامات الامتياز. وحجتهم في ذلك نشر المساواة بين الوطنيين. ولاسيما أن هذه الامتيازات لا تزيد في قدر الرجل وليست دائماً في الواقع علامة امتياز حقيقي , بل كثيراً ما تكون موضوع تجارة سافلة من مانحيها , وذريعة للإعجاب والغطرسة من نائليها. ولطالما كانت موضوع الدسائس والمساعي الدنيئة في جميع أنواع الحكومات من إمبراطوريات وملكيات وإمارات وجمهوريات. وقد تبادر فكر إلغاء النياشين والرتب إلى ذهن رجال الثورة الفرنسوية الكبيرة فألغوا كل ما خلّفه عهد الملوك من الرتب والألقاب والنياشين , ولكنهم لم يلبثوا أن اضطروا إلى إنشاء غيرها ليجعلوها علالة لكبرياء الناس. فأوجدوا أولاً ما سمّوه أسلحة الشرف وذلك مكافأة للأبطال الذين امتازوا في حملة إيطاليا. ثم لما قبض نابوليون(3/346)
بونابرت على أزمة الأحكام
أخذ يمطر ألقاب الامتياز على قواده , مضيفاً إلى أسمائهم الأصلية أسماء الانتصارات التي أحرزوها ف المواقع الحربية. وكان قد أنشأ وسام فرقة الشرف لجيون دونور وجعل عدد حاملي هذا الوسام 6000 فقط. فجاءَت الإمبراطورية الثانية وزادت على هذا الرقم أصفاراً فجعلته 60. 000 ولا يزال التاريخ يذكر ذلك الاحتفال الباهر الذي أقيم يوم وزّع بونابرت هذا النيشان على مستحقيه. ولا ينكر أن من الخدمات الجلّي ما لا يمكن إثابة من يقوم بها بالدراهم. وهذا ما يدّعيه مريدو الرتب والنياشين. فيرونها والحالة هذه أسمى ثواب وخير جزاء , فضلاً عن أنهم ينظرون فيها باعثاً للنشاط , معزّزاً للجدّ في سبيل الخير العام , مثيراً للعواطف النبيلة في النفوس وإذا كانت أحياناً تُنال عن طريق الثروة , فكثيراً ما تكون أيضاً جزاء عمل جليل يؤول إلى ترقية البلاد ماديّاً أو أدبيّاً أو علميّاً أو فنيّاً , فأصبحنا نراها على صدر الجندي والشاعر والعالم والمخترع وصاحب الفن , وصار عدد حاملي النياشين من هذه الطبقات يزداد يوماً فيوماً. وقد قال الشاعر الفرنسوي روستان عن لسان ابن نابوليون: كان بودّ أبي أن يجعل الشاعر كورنيل أميراً فسأجعلنَّ فكتور هوغو دوقاً. . وعلى كل فيجب التحفظ والاعتدال في توزيعها حتى تبقى علامة امتياز حقيقي لا تبتذَا فتفقد قيمتها في أعين الناس. ولا بأس في هذا المقام من إيراد نكتة للملك فكتور عما نوئيل الإيطالي فإنهُ كان يقول شيئان لا يمكني أن أرفضها لأي رجل فرنسوي يطلبهما مني بتأدب: عود كبريت ليولع(3/347)
سيجارته , ونيشان القديسين موريس ولا زار ليزين صدره. . ولقد اشتهر أمر كثيرين من مشاهير العلماء وكبار الرجال الذين رفضوا بتاتا الرتب والنياشين , وكان رفضهم عن إخلاص في الاعتقاد ورسوخ في المبدأ. غير أن رفض البعض كان ينمّ عن كبرياءٍ حقيقة وعجرفة فعلية. وما الرتب والنياشين في الحقيقة إلاّ كمصباح يحمله الإنسان , فيبدي عيوبه إذا كان ناقصا , ويُظهر محاسنهُ إذا كان كاملاً. قال أحد كتَّاب الغربيين: يجب أن نعجب لا أن نضحك من هذا الاختراع الكبير - اختراع الأوسمة والنياشين - فهو اختراع قوة أدبية لنيل قطعة من المعدن يرون فيها أمجد مجد وأشرف شر وأعظم جزاء هذا جنون ولكنهُ جنون جميل. كأن الناس خافوا على هذه الامتيازات من الطامعين فيها يدّعونها كذباً وزوراً فجعلوا في القانون مادة تعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين من يحمل نيشاناً لم يُنعم عليهِ بهِ , كما أنهم يغرّمون من ينتحل
لنفسهِ لقباً من ألقاب الشرف جزاءً نقدياً من 500إلى 20000 فرنك. وأحسن ما يختم بهِ هذا المقال كلمة جامعة شاملة على إيجازها , لأحمد فارس الشدياق عن الألقاب قال: هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أُطلق على المسمى. . بل هي كالبطاقة شُدَّت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلاَّ أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينهُ وبينها علاقة. . .(3/348)
بعد أن تكلمنا عن الرتب والنياشين من الوجهة الأدبية الاجتماعية , يجدر بنا أن نقول عنها كلمة من الوجهة التاريخية. تقدم أن منح النياشين وعلاقات الشرف والامتياز عادة قديمة. وكان أبطال الرومانيين عدا ما يصيبهم من الغنيمة على العدو يُثابون بأسلحة شرف يوزعها عليهم بنياشين وعلامات يتزينون بها في الحفلات العمومية , كما هي العادة اليوم , وأشهرها الأكاليل. فكان إكليل المعسكر يُمنح لأول جندي يدخل معسكر الإهداء , وإكليل الحصن لأول جندي يهاجم قلعتهم. وكان يُنعم بإكليل البحر على القائد البحري الذي يكسر أسطولاً أو على النوتي الذي يسبق رفاقه بالصعود إلى مركب العدو. أما إكليل الزيتون فكان للعساكر والضباط الذين ينقذ حياة أحد الرومانيين. وكان الجيش يقدّم إكليل الكلإ للقائد الذي ينجيه من أيدي العدو. أما إكليل الآس وإكليل الغار فكانا للقائد الذي يخرج شعب رومة لملاقانهِ بعد العودة من فتح كبير أو انتصار باهر. وعلى عهد الإمبراطورية الرومانية , وُضع حدٌّ فاصل بين هذه الإنعامات. فكانوا يسمعون الأكاليل الإنعامات الكبرى أما الإنعامات الصغرى فمنها الِوار في الذراع والقلادة في(3/349)
العنق والدائرة على الصدر والقرون على الخوذة. وكانت هذه الشارات من الذهب أو الفضة. وكان منح الإنعامات الكبرى من حق مجلس الشيوخ السناتو أو الجيش , ومنح الإنعامات الصغرى من حق قواد العساكر. وكان يحوز للروماني أن يُحرز كل هذه الامتيازات معاً وعدداً كبيراً منها. فإن سكسيوس دنطاطوس نال 22 رمخ شرف و25 اسطوانة و83 قلادة و160 سواراً و26 إكليلاً. أما قدماء اليونان فلم يكن عندهم كل هذه الأنواع الكثيرة من علامات الشرف. وأشهرها عندهم الإكليل ولخطيبهم الأكبر ذيموستينوس خطبة معروفة في هذا الموضوع. وكانت علامات الامتياز في ما مضى عسكرية على الغالب للتميز بين القواد وطبقات الضباط والعساكر. على أن الملوك أخذوا يوجدون الأوسمة الخاصة ينعمون بها على كل من خدم بلاده. فأنشأ شارلمان وسام التاج الملكي والملك لويس التاسع وسام كوز اللزّان
والملك جان وسام النجمة والملك هنري الثالث وسام الروح القدي وأشأ لويس الراع عشر وساماً باسم جده الأكبر القديس لويس واتخذ لويس الرابع عشر من هذا الوسام طبقة ثانية سماها وسام الاستحقاق العسكري للإنعام به على غير الكاثوليك من رعاياه. ولما جاءَت الثورة الفرنسوية ألغت جميع الألقاب والنياشين. على أن نابليون أعادها فأنشأ نيشان اللجيون دونور كما تقدم(3/350)
مقالات باكون
3 - الانتقام
وما مات منا سيّدٌ حتفَ أنفهِ ... ولا طُلَّ منا حيث كان قتيلُ
الانتقام عدالة الوحشين. وإذا امتزج حبهُ بالنفوس يكون كالسُّم خالط الشراب؛ لأن من يقترف ذنباً يضرُّ بنظام الشرائع؛ وأما من حقد على عدوّ له , وأخذ بثأر قتيلٍ , أو شرفٍ ناله أذى , فإنهُ ينتزع سلطة الشرائع ويعبث بها. على أن من قابل السيئة بالحسنة , وعفا عمن أذنب , فقد أمسى كريماً , لأن العفو من شيم الكرام. وأما من استكبر , وقابل الإساءَة بأختها , فقد حطَّ من مقدار نفسهِ , ووضعها ونفسَ المسيء على بساط المساواة. وقد كان سليمان الحكيم يقول: إن الجنة مأوى الغفور. وما الانتقام إلا تمرّد في النفس قد أنبته ذنب انقضى عهده. فما لنا وذلك الماضي الذي فات , وخير لنا أن نعني بيومنا وغدنا من أن ننظر في شأن أمور كانت بالأمس. وليس الظلم من شيم النفوس , إنما حب النفس يدفع الناس إلى الظلم والشر. فكل يظلم لمغنم يستجلبه , أو لحاجة في نفسه يقضيها , أو لنيل شرفٍ يسعى ليدركه. فماذا علينا من رجل يحب الخير لنفسهِ , ويكرههُ لغيره. أما من يظلم الناس ليشفي غليلاً في الفؤاد , لأن الشرّ(3/351)
كامن في نفسهِ كمون الكهرباء في الأجساد , فهو خليق بالرحمة والغفران , لأنهُ كالأفعى ليس لديها الأسمها. ولقد يُزكى الانتقام , إذا كان لذنب لا ينال المذنب عليهِ عقاب سوى الأخذ بالثأر. على أن الانتقام في مثل هذه الحال جدير بأن لا يكون ذنباً يقع آتية تحت طائلة العقاب وإلا يكون المنتقم قد ألقى بنفسه في التهلكة وأصابه الشر مرتين. وأشرف أنواع الانتقام ما كان على مرأى من الناس ومسمع. فليس الغرض من الانتقام أن ترد الإساءَة إلى من أساء إليك , إنما الغرض أن يتوب المسيء عن الإساءة , ويعلم أن هذه بتلك والبادئ أظلم. وقد ينتقم الجبان لنفسه تحت طي الخفاء , فيكون كالسهم أرسلته القوس تحت جنح الظلام. وقد يعفو الناس عن المسيء إن كان عدواً لدوداً , ولكنهم لا يلتمسون للصديق عذراً , إذا نقض عهداً , أو خان وداً. ومن الناس من يفتأ يذكر الثأر والانتقام , فيبقى جرح نفسه غير ملتئم أمدً فيقضي عمره بين الهم والكدر. ولو أنه نسي ما فات لالتأمت جراحه. وقد يقوم المنتقم للانتقام وهو آمن شر العاقبة , لأن الله يعضده والناس , وذلك المأخوذ بثأره كبيراً بين قومه , قد غدره أعداؤه وأوقعوا بهِ ظلماً. فقد هبّ أغسطس قيصر للانتقام ممن أراقوا دم يوليوس قيصر , فعضده
أهل رومه وأخذوا بيده وحكموه فيهم.(3/352)
4 - الدرس والمطالعة
إن للدرس والمطالعة نفعاً كبيراً: فإن الخلوة بالكتّاب تشرح الصدر وتحسن الحديث وتزيد القارئ علماً وعرفاناً. وأيُّ شيءٍ أحبُّ إلى من هجر الدنيا ومن عليها من كتاب يجلس إليهِ؟ وأيُّ شيءٍ أنفع إلى رجلٍ يحبّ إذا ما فاه أن يفوه بالقول البليغ من كتاب يحسّن لفظه؟ وأيُّ شيء يعلم رجل الدنيا كيف يسير في الدنيا غير كتاب مفيد؟ وإنك لا تجدر رجلاً يدبر أُمور غيره وينظر بشؤون أمته ويأخذ على عاتقه عبئاً ثقيلاً , إلاَّ وهو على بيّنة من العلم , ونصيبه من المعرفة وافر. على أن لكل نافع ضرّاً. وليس ضرُّ العلم بناشئ منه. إنما يعاب صاحبه إذا لم يسلم من ثلاث: الإفراط فيهِ والإعجاب ومزج العلم بالعمل. فإن الإكثار من الدرس والمطالعة والعلم يورث الخمول. وأنك إن حاولت إظهار معرفتك في حديثك فقد عرَّضت نفسك للنقد واللوم. وأنك إن شئت أن تسير في عملك وفقاً لغرض علمك فأنك لا تستطيع. وليس الغرض من العلم أن يكون كل بضاعتك؛ إنما هو كالصقل لليماني , فإنه يشحذ القرائح ويخرج القوى الكامنة في النفس فتبدو كالأحجار الكريمة إذا أخرجها العامل من جوف الأرض أو قاع البحر وصقلها فبدت محاسنها وخفيت عيوبها. على أن العلم في حاجة إلى التدريب وليس يكفيك أن تكون ذا علم واسع أن لم تكن قد هذبتك الأيام وأمسيت لمعول الحوادث صفاً صلداً. لأن العلم كالأسد الهصور لا تستطيع أسره إلاّ إذا كبلته بقيود من اختبار.(3/353)
وقد يكون أحدنا ماكراً ختلاً مخادعاً , فيسخر بالعلم ويسكن إلى خداعه ومكره لأنهما يمكنانه مما يريد. وقد يندهش الجاهل منه. إنما لا يستطيع أن ينتفع به إلاَّ العاقل الحكيم. فإنه يعلم علم اليقين أنَّ العلم ليس إلاّ مشكاة يستضي بها في ديجور هذه الحياة الدنيا فعليها النور وعليهِ المسير. وليس الغرض من المطالعة أن تنتقد قول المؤلف أو تنقض آراءَه , أو لتأخذ كلامه قضية مسلمة لا نزاع فيها , أو لتتمشدق بما قرأته على رؤوس الإشهاد , لتظهر للملأ أنك تقرأُ الكتب؛ إنما الغرض أن تزن أبحاث الكاتب وتمعن النظر في مقدماته ونتائجه. على أن الكتب كالطعام: بعضه تذوقه ولا تأكله , وبعضه تلتهمه التهاماً , وبعضه تلوكه وتهضمه هضماً. فبعضها تقرأ زبده , وبعضها تطالعه بلا إمعان كثير , وبعضها تطالعه وتدرسه درساً دقيقاً وتمحصه تمحيصاً. وفي
مطالعة الكتب منافع غير التي ذكرت ثلاث. فالدرس يدّخر منهُ العقل حكمة. فالدرس يمدّ العقل بالحكمة فيدّخرها , والجدل يشحذ الذهن ويوقد القريحة , والاقتباس يورث الدقة والإتقان. فإذا كنت ممن لا يطالعون كثيراً , فأنت في حاجة إلى ذكاءٍ تخفي به جهلك؛ وإن كنت ممن يفضلون راحة البال على الجدل والمناقشة , فأنت أحوج الناس إلى ذهن حادّ يدلك على كلام تلقي به حجة خصمك؛ وإن كنت قليل الاقتباس فأنت في حاجة إلى حافظة شديدة تتقي بها شرَّ النسيان. وكل فرع من شجرة الحكمة يوسع دائرة من دوائر العقل. فالتاريخ(3/354)
يعلّم الناس فنَّ السياسة , والشعر يولّد الآراء السامية , وفنّ الرياضيات يعلّم الدقة , والعلوم الطبيعية تكون واسطة للتبحر في العلم , والفلسفة الأدبية تورث الحزم والثبات , والمنطق والبلاغة يقرّبان المرء من المقدرة على الخطابة والمناظرة. وليس في العقول نقص لا يكلمه العلم , أو عاهة لا تشفيها الحكمة. وكما أن لكل داءٍ من أدواءِ الجسم جدواءً يشفيهِ فالمشي ذهاباً وجيئة ينفع الأمعاء , وركوب الخيل يشفي المخ , والرماية تصلح الرئتين. فمن كان قليل الانتباه فدعه يدرس الرياضيات فإنهُ إن سها أو نسي أو أخطأ فيها مرةً , تكبد مشقة العمل ثانياً , وإن آنس من نفسه عجزاً في الاستنتاج فدعه يصرف قليل وقت في مطالعة المناظرات الدينية. وإن أحس من نفسه بضعف في ضرب الأمثال فدعه يقرأ كتب الشرائع والقوانين
محمد لطفي جمعه المحامي
المودة الكاذبة
إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين , ويتواصلون عليهما؛ وهما ذات النفس , وذات اليد. فالمتبادلون ذات النفس هم الأصفياء. وأما المتبادلون ذات اليد فهم المتعاونون ذات يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف ببعض منافع الدنيا , فإنما مثلهُ فيما يبذل ويُعطي كمثل الصياد وإلقائهِ الحبّ للطير , لا يريد بذلك نفعَ الطير وإنما يريد نفع نفسه.
ابن المقفع(3/355)
النساء الرجال
اطلعنا على الفصل التالي في إحدى المجلاَّت الفرنساوية فرأينا أن نترجمه لما فيه من بيان فضل المرأة الغربية , وفوزها على الرجل في كثير من الأعمال الجلّي التي قلما يقدم عليها غير الشجاع الباسل. وهو مكتوب بقلم السيدة ريموند دلاروش الطيَّارة الفرنساوية التي أدهشت بطيرانها المتفرجين في حفلة عين شمس بمصر في شتاء سنة 1910. وقد أرادت بنشره أن تردَّ على جمهور من الكتَّاب قام ينتقدها على أثر سقوطها من الجوّ في حفلة الطيران في مدينة ريمس ويُعنّف من أجلها سائر النساء بدعوى أن المرأة لا تستطيع ما يستطيعه الرجل.
قالت الكاتبة:
تعجب بعضهم من إقدامي على الطيران , وأدهشتهم جرأتي ومخاطرتي أحياناً كثيرة بدعوى أن الطيران خاص بالرجال لا يتعداهم إلى النساء. ثم انقلب تعجّبهم ودهشتهم إلى انتقاد وتأنيب يوم وقعت بي طيارتي في مدينة ريمس فأصبتُ ببعض الجراح والرضوض؛ ولو أسعدني الحظ فلم أقع لحوَّل أولئك الناس تعجبهم ودهشتهم إلى إعجاب بفضلي , وإقرار بعلمي , وكان مديحهم لي وثناؤهم على جراءَتي وخبرتي بدلاً من الانتقاد والتأنيب اللذين وجهوهما إليَّ! أو لم يقولوا علناً على أثر إصابتي تلك إنني حصدت ما زرعت , ولقيت ما سعيت إليه؟؟ قلت مراراً عديدة من قبل , وأنا أكرّر اليوم ما قلتهُ بالأمس أن الطيران ليس بأعظم خطراً من سواه بين أنواع الرياضيات البدنية والاختراعات المعدة لها. وإذا جازلي أن أتباهي بكوني أول امرأة لامست(3/356)
الغيوم , وصعدت إلى عالم النجوم فأشرقت من أعالي الفضاء على هذه الأرض , وقسم لها شؤم حظها أن تقع مرة من شاهق فتصاب بالجراح والرضوض , فإني لست المرأة الأولى التي قارعت الرجال في كثير من أنواع الرياضة , وركبت من الأخطار كل مركب صعب , فدلَّت على جلد ثابت , وشجاعة فائقة. إن نساء كثيرات وأخص الانكليزيات والأسوجيات والدانماركيات بلغنَ حداً قاصياً في إتقان بعض الرياضيات كالجمنستيك , وكرة القدم بجميع أنواعها , والسباحة , ولعب السيف , وركوب السيارات والدرّاجات وهلمَّ جرّاً من أمثال هذه الفنون المروّضة التي اختصَّ بها الرجال دون النساء!
ولقد وددت لو تمكنت من ذكر جميع الشهيرات في العالم في مثل هذه الأعمال غير أني
سأقصر كلامي على بعضهنَّ مخافة أن يطول المجال. وسيرى القارئ من خلال حديثي هذا أن في وسع المرأة أن تسير إلى جانب الرجل وترفع رأسها تباهياً وكبراً.
جرَّب كثيرون أن يقطعوا خليج المانش سباحة فلم يُفلح منهم سوى القبطان وب في سنة 1875 على أنهُ كان بين أولئك المجرّبين امرأتان اشتهرتا بإِقدامهما , حداهما البارونة فالبوكادساسكو والثانية الآنسة كلارمن. أما الأولى وهي نمسوية اشتهرت بالسباحة في نهر الدانوب الطونة(3/357)
ومصادمة التيار فيهِ , فإنها نزلت البحر في كاله في الساعة السابعة من صباح اليوم الخامس من سبتمبر أيلول سنة 1900 فعاكسها التيار وتقاذفتا الأمواج واللجج نحواً من ست ساعات متوالية حتى خارت قواها فأقرَّت بفشلها بادئ ذي بدسِ حتى إذا أراد المركب الذي كان يرافقها أن ينقلها إليهِ أبت عليها كبرياؤها الإقرار بالعجز فعادت تعارك الأمواج وتغالب اللجج حتى كانت الساعة الخامسة مساءً فتلاشت قواها تماماً ولم يعد في وسعها الثبات فأعلنت عجزها بعد مكافحة عشر ساعات. وكانت المسافة التي قطعتها ثلاثين كيلومتراً. وأما الثانية فنزلت إلى البحر من دوفر في صباح اليوم السادس والعشرين من أغسطس سنة 1905 فسبحت ست ساعات متوالية وكاد يسعدها الحظ ببلوغ أمنيتها لولا أن عاكستها الريح بعد ذلك وغالبها التيار فلم تتمكن من قطع ما كان قد بقي أمامها من المسافة إلى البرّ الفرنساوي. ومما يؤثر عن هذه المرأة قطعت سباحة مسافة 37 كيلومتراً في ثلاث ساعات وإحدى عشرة دقيقة. وبين النساء السبَّاحات كثيرات اشتهرنَ بجلدهنَّ وقوتهنَّ ولإقدامهنَّ على منازعة الرجال الجوائز في السباقات المتنوعة , وأشهرهنَّ الأختان الشقيقتان مارث وسيسل روبرت السويسريتان , والآنسة مارفنت الفرنساوية , والآنسة فردندوفر النمساوية , والآنسة جونسون الانكليزية. وقد طالما وضعت أندية الألعاب المروّضة في الدانمارك جوائز كبيرة(3/358)
للسابقين في السباحة فنال كثيرات من النساء عدداً منها بعد أن زاحمنَ أشهر السباحين في سبيلها فتغلبنَ عليهم , وعرف الجميع مقدرتهنَّ وسبقهنَّ في هذه الرياضة الخطرة المتعبة فأقرّوا لهنَّ بالفضل. ومن الأعمال التي اختص بها الجنس القويّ دون الجنس الضعيف التصعيد في الجبال العالية المغطاة قممها بالثلوج , والمحفوفة سبُلها بالأخطار والمكاره كجبال الألب في أواسط أوروبا. كل من زار سويسرا في الصيف عرف أن كثيرين من الأجانب عنها إنما يؤمونها بغية التصعيد في جبالها
فيسير الواحد منهم متوكئاً على عصا طويلة صلبة يغرزها قدامه في الثلج ويتنقل وراءها بحذر وانتباه شديدين مرتقياً قمة فقمة , وهو لا يأمن أن تزلّ بهِ القدم فيهوي من شاهق إلى أسفل حيث لا ينجو من الهلاك إلا بأعجوبة بالغة. وكثيراً ما تتدحرج عليهِ القطع العظيمة من الثلوج فيموت شرّ ميتة. فلهذا كله كان التصعيد في تلك الجبال عملاً طلباً للشهرة. على أن كثيرات من النساء قد صعّدنَ في جبال الألب وفزنَ بالغاية القصوى منها. فإن مسز سايرس الانكليزية فازت مرتين أيضاً وكان زوجها رفيقها فيهما. وفازت مدام رهاتش مرة برفقة زوجها أيضاً , ومدام فون شزايو مرتين أيضاً وكان رفيقها فيهما مسيو أولر. فكان فوز أولئك النساء مدعاة لإعجاب الناس وإكبارهم هذه الأعمال الشاقة تأتيها المرأة المنسوب(3/359)
جنسها إلى الضعف والوهن. واشتهر عن الرجل دون المرأة أيضاً إطلاق المسدسات , وإتقان الإصابة بها. غير أن بعض النساء اللواتي جرّبنَ هذا العمل برعنَ فيه براعة أقرّ بفضلها الرجال أنفسهم. فإن سارة برنار الممثلة المشهورة معروفة بأنها قلما صوَّبت فأخطأت. ومثل سارة برنار الآنسة لويزابايما فإن شهرتها في ذلك لا تقلّ عن شهرة زميلتها الممثلة الطائرة الصيت. ومما يؤثر عن براعة النساء في الإصابة بالرصاص أن الماركيزة دي نسل غارت من الكونتس بولينياك وكلتاهما كانت تحب الدوق ريشيليو , فتبارزتا واختارتا الرصاص دون السيف وقد كانتا مشهورتين بإتقان الرمي ولا تخطئان المرمى إلا نادراً. فلما تقابلتا في ساحة البراز أطلقت المركيزة رصاصها أولاً فأخطأت مرماها عمداً غير أن الكونتس اكتفت يومئذ بأن تقطع برصاصها إذن ضرّتها عقاباً لها. وممن اشتهر بهذا الفن البرنسيس تشيكا الرومانية فإنها كسرت 15 لعبة بخمس عشرة رصاصة بعد التصويب بل تبعاً لإشارة المشاهدين. أما المبارزة بالسيف فقد اشتهرت بها نساء كثيرات أيضاً لأن في هذه المبارزة مجالاً للمرأة لأن تستخدم نظراتها الحدة الصائبة , ورشاقة قدها , ولين أعضائها , وخباثتها الفطرية. وإن في تاريخ انكلترا شاهداً بليغاً يصحُّ أن يتخذ دليلا على براعة النساء بالمبارزة. فقد حدث في اليوم التاسع من ابريل سنة 1787 إن الشفاليه سان جورج وهو أعظم(3/360)
من اشتهر بضرب السيف وإتقان المبارزة بهِ بارز السيدة ديون الانكليزية في منزل لورد بروكهام بحضرة ولي عهد انكلترا يومئذٍ وعدد غفير من لوردة الانكليز , وكبار رجالهم. فأسفرت المبارزة عن إصابة السيدة ديون للشفاليه
سان جورج سبع مرات متوالية بدون أن تمكنهُ من إصابتها مرة واحدة. أما اليوم فإن انكلترا وفرنسا تتباهيان بوجود نساء عارفات بهذا الفن كمسز سندرسون ومدام فيني في لندن , ومدام اميل مارينياك , والآنسة كاميل ليففر في باريس. وانتقلت مدام دلاروش من هذا الحديث في مقالها إلى ذكر الشهيرات في ركوب الدرَّاجات والسيَّارات , فسمَّت النساء الشهيرات فيهما وذكرت عدداً من اللواتي ربحنَ الجوائز وفزنَ بها على الرجال وذلك في حديث يطول , حتى انتهى بها البحث إلى الطيران فقالت أنها أول امرأة طارت. ولكنها ليست بالطيَّارة الوحيدة الموجودة اليوم بين جماعة الطيَّارين. ثم قالت أنها ذكرت يسيراً من كثير عن شجاعة المرأة وإقدامها وتفوّقها في هذه الأعمال بالرجال دون النساء. ونقول - ونحن قد اختصرنا أقوالها كثيراً أيضاً وصرفنا النظر عن أعمال وألعاب جلَّي فلم نذكرها - هل يصح بعد ذلك أن يقال الجنس القوي والجنس الضعيف على تعميم وإطلاق هاتين الصفتين؟؟(3/361)
في رياض الشعر
الثلاثون عاماً
طلُّ الثلاثين عنكَ اليوم منتقلُ ... هل أنتَ من بعدها بالعيش محتفلُ
بعد السنين التي كانت محبّبة ... ثم انقضتْ فتقضّي الأنسُ والجذَلُ
تلك الليالي التي قضيتها حلُماً ... ما كان أقصر حلماً كلهُ غزلُ
ماذا لقيتُ من الدنيا وما عَلقت ... منها يداي وما إن عشتُ أقتبلُ
لاحتْ كواكب ليل الشعرِ تُنذرني ... بأنني عن مغاني اللهوِ مرتحلُ
إن أنكرتني العيونُ السودُ رانيةً ... فطالما عرفتني تلكم المقلُ
أيامَ أخطرُ في روض الصبا مرِحاً ... تميلُ بي نشوةُ الدنيا وتعتدلُ
والغيد تبسم لي من ل ناعمةٍ ... في خدِّها ويديها تصدقُ القُبَلٌ
ما لي تروّعني الذكرى وتفتنني ال ... دنيا وما لي في معروفها أملُ
ألا يخفّ عني أنني رجلٌ ... قد أنقضتْ ظهرَهُ أيامهُ الأولُ
لعلَّ شيبي الذي راعت بوادرُهُ ... نورٌ تضيءُ بهِ للتائه السبّلُ
أسرفتُ في حبّ دنيا لا بقاء لها ... وعشق ملك وشيكاً عنهُ أنتقلُ
فالناس قد خلقوا لا للبقاء بها ... بل للترحّل لولا أنهم غفلوا
أين الألى نحن نمشي في منازلهم ... أين المواكب والأقيال والدولُ
العقلُ يستهجنُ الدنيا ويمقتها ... والقلبُ مستغرَق فيها ومختبلُ
فليس من راغبٍ عنها وإن رغبت ... عنهُ وكلٌّ لهُ في جذبها حيلُ(3/362)
لا راهبٌ ساكنٌ في الدير منصرفاً ... عنها ولا عابدٌ في الغار معتزلُ
فاكدح إلى الله كدحاً غير ملتفتٍ ... لزينة الأرض والحق بالأُلى وصلوا
وابرأ إلى الله ليس العصر مرتقياً ... ما دام يزري بما جاءت بهِ الرّسلُ
أين التمدُّن والأهواءُ غالبةٌ ... والناس مثل وحوش الغاب تقتتلُ
حلفا
محمد توفيق علي
يوزباشي بالجيش المصري
التمدُّن العصري
ننشر الأبيات الآتية من قصيدة عصماء جاءتنا من شاعر من أكبر شعراء العراق:
يقولون أحيى المغربان حضارةً ... وهل حَييت إلاّ لمصلحة الذاتِ
يعيش سعيدٌ مفردٌ بين معشرٍ ... شقيٍّ وحيٌّ واحدٌ بين أمواتِ
وكم جائعٍ يرنو إلى مُتفكهٍ ... وعادم قوتٍ حول واجد أقواتِ
وكم جسدٍ فوق الأخادع شاخصٍ ... إلى جثةٍ تحت الأخامص مُلقاةِ
وما الزمن الماضي بأعظمَ محنةً ... من الحاضر الموصول بالزمن الآتي
ولم أر كالإنسان ربّ شرائعٍ ... حديثات وضعٍ أو شرائع موحاةِ
ولكنهُ لم يطوِ ليلَ ضلالهِ ... هدى شارع في الأرض أو في السموات
يظنون هذا العصر عصر هدايةٍ ... وأجدر أن ندعوه عصر ضلالاتِ
فإن خرافاتٍ مضت قد تبدَّلتْ ... حقائق إلاّ أنها كالخرافاتِ
وأكذبُ عصرٍ ما تشدَّق أهلهُ ... على ظلمهم بالعدل أو بالمساواة
ذئابٌ وشاءٌ لا الذئاب رواجعٌ ... عن الغيّ أو تعدو على زُمر الشاةِ(3/363)
ألا هل يعود الدين وهو مُشَتّتٌ ... جماعاتِ هذا العصر جامع أشتاتِ
ولكن أبوا إلاّ التنازُعَ فالتقتْ ... أدلةُ نفيٍ في أدلة إثباتِ
محمد رضا الشبيبي
الكريم
قامت تُعنّفني على تبديدي ... مالي لفعلِ المكرمات وجودي
وتقول ماذا قد حفظتَ لصببةٍ ... يبكون بعدك ربَّهم وعميدي
هل ذكرُك المحمود يُشبع جوعهم ... أو فخرُك الموهومُ يستر جيدي
أكرمتَ حتى حاسديك فهل ترى ... أن الحسود يسرّ بالمحسودِ
هم يحمدونك في الرخاء فإن بدتْ ... لك شدةٌ عمدوا إلى التنديد. .
فأجبتها كفّي ملامكِ إنني ... لابنُ المكارم عن أبي وجدودي
أُعطي إذا منعوا وأمدح أن هجوا ... شتان بين طريفهم وتليدي
وأنا ابنُ بجدتها إذا قلمٌ جرى ... فوق الطروس أكرُّ كرَّ الصيدِ
فأزّين القرطاس لا فحشاً ولا ... فُجراً وكلُّ القارئين شهودي
أتبره السودان
محمد فاضل
بالجيش المصري
السلطان الغازي
أقول لظبي راعني زهرُ حسنهِ ... حنانيك قلبي فيك يرجو الأمانيا
غزوت قلوبَ الناس حتى ملكتها ... تباركت سلطاناً وحيّيتَ غازيا
محمد علي حامد حشيشو(3/364)
الفكاهة في الشعر
أسبوع فلورة أو تكريم الكلاب
لا أعني تكريم كلاب المجاز؛ فليس تكريمُ هذه الكلاب بالأمر الطارئ أو البدع الغريب؛ وما خلا زمانٌ ولا مكان من كلبٍ من كلاب الأنس علا بهِ الجدُّ إلى حيث باتت تتزلف إليهِ الأسود , وتمشي بين السباع. وإن المرءَ ليجد كيف سار إنساناً له خسةُ الكلب ونذالته , وليست له نظرته وأمانته. والناس تظلم الكلاب بحشره في زمرتها , ويرون نهاية الزراية وصفهُ بصفتها. وأن الكلبية لنبرأ براءة الإنسانية منهُ. . . ولكني عنيتُ الكلاب ذات الأذناب وقد وصفها العرب ورثوها ومدحوا خفتها وسرعتها , ولكنهم لم يسبقونا إلى الاختفاء بها , والاحتفال بولادتها وتسميتها , وأن حقّاً على الناس أن يمجدوا الأمانة حيث كانت وأين ظهرت , فهل نُلام إذا نحن مجدناها في مخلوق من مخلوقات الله؟؟
اجتمعنا في رهط من الأدباء ليلة من الليالي , وجعلنا مناسبة اجتماعنا مضيَّ أسبوع على ولادة كلبة لبعض أصدقائنا. فقلتُ أبارك للنفساء وأحيي المولود:
أعلني يا فلورة الأفراحا ... واملأي الأرض والسماَء نباحا
ما حبا الدهر بنتَ كلبٍ بأعلى ... من ذراريكِ عنصراً ولقاحا
ابشري دولةَ الكلاب بجروٍ ... سوف ينفي عن قومهِ الأتراحا
ما تقضّي الأسبوعُ إلاّ وأمسى ... يذرع الدار جيئة ورواحا
خلع الليلُ والنهار عليهِ ... فتوارى عن العيونِ ولاحا
حرَّك الدهرُ ذيلهُ حين وافى ... وعوى الكون بهجةً وانشراحا
سوف يغدو على الكلاب أميراً ... يُفزِع الأسدَ وثبةً وصياحا
بل سيمحو عن الفصيلة ضيماً ... بات عاراً لنسلها فضَّاحا
بل أراه يُقيم ما أعوجَّ منها ... من ذيولٍ فتستقيم صحاحا(3/365)
بل أراه يعيد سيرة قطمير ... وقاراً وفطنةَ وصلاحا
لا أصابت عصا لئيم قفاه ... أو ثوى في الطريقِ ليل صباحا
لا ولا عضَّةُ من الجوع نابٌ ... يُثخنُ الناس والسباع جراحا
أو ترامي على الموائد يوماً ... يرقبُ العظمَ سائلاً ملحاحا
أو براه داءُ الكلاب وأخفى ... بين جفنيهِ عسجداً لمَّاحا
كان إيواؤها حراماً فلما ... جاء أضحى لنا حلالاً مباحا
قد فرحنا في عيده وطربنا ... وشربنا في نخبهِ الأقداحا
يا كليباً أزرى بذكر كليب ... لا تظننَّ ما نقول مزاحا
ما مدحتُ الأنام يوماً وإني ... لست آلوك يا كليب امتداحا
أعجم الناس في المودَّة بكماً ... وتلا عهدها الكلاب امتداحا
إنَّ عيَّ اللسان خيرٌ من النط ... ق إذا ان للأذاة سلاحا
وسعار الكلاب أهون شرّاً ... من سعار يمزّق الأرواحا
عباس محمود العقاد
بالأوقاف بمصر
حافظ بك المنشاوي
إن صحّ في رجل أن ينعت بالسريّ النبيل , فإن حافظاً من أجدر كبراء القطر المصري بهذا النعت. وقد فزنا برسالة وقصيدة أهديتا إليه في هذا الشهر بمناسبة إنعام الحضرة الفخيمة الخديوية عليه بالوسام العثماني الرابع بصفته أحد أعضاء الجمعية العمومية. فآثرنا نشرهما لبلاغتها وللدلالة على ما لسليل أسرة المنشاوي من المكانة في نفوس الأدباء أما الرسالة فهي من قلم الذكي النجيب محمد بك البابلي , وهذا نصّحها البليغ بعد الديباجة:
تالله , لو صاغوا لك من الثريا وساماً , وجعلوا فوق السماكين لك مقاماً , ما حلّوا صدرك بأحلى وأشرف مما انطوى عليهِ من كرم , ولا زادوا مكانك رفعةً(3/366)
عما أوصله إليك علوُّ الهمم , وحسبك صدرٌ ضلّت الفضيلة حتى اهتدت إليهِ , فاستقرَّت عليهِ؛ ومقام بناه خيرة الآباء الأمجاد , وأعلاه صفوة الأبناء الأجواد. . .
البابلي
أما القصيدة فهي لشاعرنا الكبير خليل مطران , وهذا نصُّها:
هل لشعري وأنتَ منهُ مرادي ... وصف حاليك من على وانفرادِ
كلُّ مدحٍ أراهُ فيكَ قليلاً ... وكثيرٌ ما يقتضيني فؤادي
خطةٌ غيرُ بالغٍ كلُّ جهدي ... بعضَ شيءٍ من شوطها المتمادي
فليكنْ من تمام جودك عذري ... فقبولُ الأعذارِ شأنُ الجوادِ
أيها الحافظُ الأمينُ بحقٍّ ... للمعالي من طارفٍ وتلادِ
قد وفدنا حجيج أكرم بيتٍ ... واعتمدنا نؤمُّ أشرفَ نادِ
لا بقصدِ البناءِ فخماً ولا ال ... زينةِ أبهى ما جوَّدتها الأيادي
لا ولا المجدِ باقياً عن كبارٍ ... من كرام الآباء والأجدادِ
إنما شاقنا لقاءُ المعالي ... والمرؤاتِ والندى والأيادي
في فتى حازمٍ جريء همام ... ثابت العهد صادق الميعاد
ثقفٍ أن يهزّه الخطبُ يوماً ... هزَّ لدناً من القنا المَّياد
راسخِ العزم في كفاح الليالي ... باسم الوجه في قطوب العوادي
موئلِ المستجير كهفِ اليتامى ... والأيامي منارة الروَّادِ
حيثما تدْعُهُ الذمار يُجبْها ... صوتُ حقٍّ منهُ وسيف جلادِ
ويجبها رأيٌ مذلٌّ عداها ... ربَّ رأيٍ أغزى من الأجنادِ
أي كفيل الحمى إذا قيل من في ال ... قوم يومَ الندى ويم التنادي
بعضُ تلك الخلالِ في نفَر مه ... ما يقلُّوا كفايةٌ للبلادِ
تلك حسبُ الفتى مقاماً وبيتاً ... وحديثاً يبقى على الآبادِ(3/367)
وبها يُدرك المقام المعلّى ... من بك أئتمَّ عن هدى ورشادِ
عِشْ طويلاً في غبطة وصفاءٍ ... سالماً ناعماً رفيعَ العمادِ
وليزنْ صدرَك الرحيبَ وسامٌ ... بات فيهِ وقدرُهُ في ازدياد
نعَمُ المالكين لا فرقَ فيها ... غير أن الفروقَ في الأندادِ
خليل مطران
السعادة
قالوا السعادة في الغرا ... م وفي الملاهي والشبابْ
فأنا فتىً ذقتُ الغرا ... م فلم أجد غيرَ العذابْ
حليم إبراهيم دموسى
حول النياشين
في إحدى معارك الحرب المشهورة بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870 و1871 أسر الألمان جنديّاً فرنساويّاً اسمه فوكه وقادوه إلى مكان الأسرى ولكنهُ لم يلبث أن آنس غفلة من حراسه فهرب وعاد إلى المعسكر الفرنساوي فقاتل في اليوم التالي قتالاً شديداً وأظهر شجاعة وإقداماً فائقين فوعد ضابط فرقته بالمداليا الحربية وقدم اسمه بين أسماء أخوانه المستحقين تلك المكافأة. . . ثم مرّت الأيام وتوالت السنون ولم تلمع على صدر فوكه المداليا الفضية حتى تقدمت لناظر الحربية في هذه السنة قائمة بأسماء المعدة صدورهم للمداليات والنياشين لهذا العام وبينها اسم فوكه وتاريخ استحقاقه للمداليا فبحثت الحكومة عنهُ حتى وجدته لا يزال حيّاً يرزق فقلدته النيشان. . . بعد أربعين سنة.(3/368)
جريمة الرجل
وجريمة المرأة
فتاةٌ في ربيع حياتها , تلوح على وجهها إمارات الطهر والعفاف , أطلّت ذات ليلة من نافذة منزلها , وكانت الطبيعة هادئة , والناس نياماً والسكون باسطاً جناحيه تكاد لا تسمع سوى حفيف الأشجار وتغريد الطيور وخرير المياه. . . نظرت إلى ما فوقها فرأت النجوم تنير القبة الزرقاء , والقمر يتهادى كالعروس مبدّداً جيوش الظلام باسطاً ضوءَه على العالم فيزيد الطبيعة بهاءً وجمالاً , ثم حانت منها التفاتة إلى ما تحتها فرأت منظراً رائعاً مهيباً رأت منحدراً تغطيه أشجار الصنوبر والأعشاب الجبلية ينتهي إلى وادٍ جميل تكسوه المروج الخضراء. . . راقتها تلك المناظر البديعة التي طالما سمت بالشعراء إلى عالم الخيال وانتعش فؤادها من نسيم الليل العليل , فغادرت منزلها في سكون الليل وسحر القمر , وجعلت تسير بين الكروم بخفة الغزال , وهي تمتع نظرها بمحاسن الطبيعة وجمالها حتى وصلت إلى مكان تظلله شجرة فتقدمت إليها وجلست على غصن من أغصانها لتستسلم إلى سرورها وهنائها. . . ما كادت الفتاة تجلس حتى مال بها الغصن فوق هوة عميقة تنتهي إلى ذلك الواد , فتماسكت به وصاحت بأعلى صوتها: أدركوني! ولكن ما من مجيب.(3/369)
رأت الهوة الفاغرة فاها تحاول أن تبتلعها , وفوقها سماء وتحتها فضاء فأيقنت بالهلاك. . ظلت معلقة في الفضاء حتى ضعفت قواها , وكلت يداها , فهوت إلى الحضيض , فتهشمت أعضاؤها , وذهبت ضحية غواية الجمال. . كانت سعيدة بحياتها هنيئة بما حولها فماتت أشنع ميتة , وذهبت طعاماً للوحوش. فوا أسفي على شبابها الزائل! أما الغصن الذي كان سبباً في هلاكها فعاد إلى ما كان عليه قبلاً , وقد يورد غيرها مورد الهلاك. . . تلك هي حال المرأة الساقطة. تولد الفتاة طاهرة عفيفة , وتشبّ ساذجة وديعة , ترى الحياة لذيذة وتبني لنفسها قصوراً من الآمال , حتى يعترض هناءها رجل تحسبه نجم حياتها وقبلة رجائها , فتركن إليه وهو يخادعها حتى إذا ما نال بغية منها تخلي عنها , فترى هول سقطتها , فتضيق بها الدنيا على رحبها فتتمسك به مستغيثة بالعدل وما من سميع , وبناصر الضعفاء وما من مجيب , إلى أن يستولي عليها اليأس فتسقط في وادي الشقاء مستنجدة بالإنسانية فلا تجد إلاَّ وحوشاً يأنون إليها منتهزين فرصة ضعفها القضاء
الأخير على كل وسيلة لها إلى العيش إلى أن تصير عالة على الإنسانية. . أما الرجل الذي كان سبباً في وقوع هذا البلاء فيتجاوزون عن هفوته ولا يناله شيء من الضرّ كأنه لم يأتِ أمراً فرياً , ويظل رائعاً في بحبوحة الصفو والهناء , وقد يوقع غيرها في شرك خداعه. ولا يتحمل عاقبة تلك الجنايات سوى الفتيات الضعيفات. إني إذا بكيت حزناً على شباب الأولى فإني هنا أصيح نادباً تلك(3/370)
الأنفس التي تفسد بعد يوم وأقول , إن العالم يفسد شيئاً فشيئاً وسيأتي يوم لا نرى فيه للشرف والعفاف أثراً. وما ذلك إلا لأن الرجل لا يجد رادعاً إذ لا عقوبة تحلُّ بهِ من جرَّاء عمله فتراه مندفعاً في سبيل خداع المرأة. إلا أن ذلك ظلم وعدوان وتلك حال لا تدعو إلى الطمأنينة والأمن. . . أنا احترم القانون ولكني أقول إن جاء به من محللات تلك الجريمة جريمة إفساد الفتيات كالرضا مثلاً الذي يعتبر مسوغاً لما يقدم عليه الشبان والفتيات. أقول إن هذا الرضا لا يصح الأخذ به فإنه محاط بوعود طويلة عريضة من جهة الشاب واعتقاد راسخ من جهة الفتاة بصحة ما يقوله مغويها. ولست أظن هذا الرضا يخرج عن حدود الضعف المسبب عن الحيلة للوصول إلى غرض مقصود فهي شبيهة من كل الوجوه بجريمة النصب والاحتيال من أجل المال التي جعل لها القانون بين بنوده عقاباً للمحتال على العرض أثمن قيمة من المال , فلم لا يفرض القانون عقاباً للمحتال على العرض كما فرضه للمحتال على المال , فلم لا يفرض القانون إن هذا الأمر جريمة تستحق العقاب , والرأي العام يطلب ذلك والقانون الذي لا يسير مع الرأي العام في مستوي واحد , من جهة ما يعتبر جريمة وما لا يعتبر جريمة , قانونٌ ناقصٌ أو متجاوز , وأعيذ قانوناً أن يلحق به النقص أو التجاوز. ولقد يرى البعض أني أبالغ في وصف جريمة الرجل دون الفتاة؛ على أن قليلاً من الإمعان يكفي المتأمل في الحوادث التي تمرّ أمامه من هذا(3/371)
القبيل أن يرى أن مصيبة الفتاة بسقوطها هائلة تودي بنفسها إلى الهلاك فتصير طريدة شريدة تتحمل أنواع البؤس والشقاء , فضلاً عن أنها تصير سمّاً زعافاً يسري في عروق الهيئة الاجتماعية. أما الرجل فإنه كما ذكرنا لا يناله شيء من الضر مع أنهُ جانٍ على المرأة والمجتمع الإنساني في وقت معاً. ليست الحالة تتوقف على خداع شاب لفتاة بل هنالك قطيع من سفلة الأغنياء يساعدهم على تحقيق أمانيهم قومٌ هم وتجار الرقيق سواء. . . أن الفضيلة تتعذَّب لضياع العفاف , والإنسانية تتألم لأن الكمال يفر مدبراً أمام جيوش
الفساد التي تزداد انتشاراً. فيا ليت السماء تمطر صواعقها على هؤلاء الناس الذين يقوّضون دعائم الفضيلة ويهدمون أركان العمران والرقي الأدبي. ولكن مضى زمن الصواعق والمعجزات. فيا أصحاب الشرائع ويا أيها الحكماء تعالوا واندبوا هذا العصر الذي يدعونهُ بعصر الماديات فإن حالتنا تستدعي الندب والبكاء. ولعلّ تلك الدموع تغسل شرورنا وتطهّر آثامنا. . . لقد تعب فلاسفة الأخلاق فكتبوا المقالات , وألَّفوا الكتب وألفوا الخُطَبَ ضمنوها نصحاً خالصاً وحضّاً على الكمال , ولكني أرى أنها لا تؤثر إلاَّ في من كانت نفسه في استعداد لقبولها. فإن من فسدت أخلاقه ومات ضميره تعذَّر علينا إرجاعه إلى السبيل المستقيم بكلمات عذبة رقيقة. ولله در سليمان الحكيم حيث قال إن من يوبخ مستهزئاً يكسب لنفسه هواناً؛ ومن ينذر شريراً يكسب عيباً. ومثل هؤلاء قد اجتمعت فيهمم الصفتان وانبعثت فيهم روح الاستهزاء , وامتزجت في(3/372)
نفوسهم روح الشرّ , فلا يرجى إصلاحهم بالنصح والإرشاد. وقد خطرت على بالنا كلمة لشكسبير نابغة الانكليز وشاعرهم قال دع المتشرّد يقترف الجنايات كل يوم , ويتوغل في شروره صباح مساء , دعهُ ولا تنصحهُ إلى يوم قريب يسقط فيهِ إلى الهاوية على عنقهِ , فالقانون له بالمرصاد ولا تفوته الفرص , وهو يستطيع أن يريبه ويقوّم أخلاقه فإن مادة أو مادتين في القانون تقوم مقام عشرين من ألفاظك العذبة الرقيقة نعم يجب أن يكون القانون واقفاً بالمرصاد للمجرمين الأشرار. وهو أعظم رادع يقف في سبيل هؤلاء الفاسقين. ولو جاءَ فيهِ بندٌ يقضي بعقوبة من يخدع الفتاة ويجرّها إلى الهلاك سواء كانت بالغة سنّ الرشد أو لا لخفت وطأة هذه المصيبة شيئاً عن الهيئة الاجتماعية. وإذا عُدَّ حكم قدماء المصريين بقتل الزاني وقطع أنف الزانية في منتهى القساوة فإن التجاوز عن تلك الجريمة يُعَدُّ منتهى التساهل الذي يكون سبباً لانتشار الفساد في الأخلاق وعلةً لخراب العمران
فيليب. م. ليليا
أمثال وأقوال
القلم شجرة , ثمرها المعاني؛ والفكر بحرٌ , لؤلؤة الحكمة عبد الحميد بن يحيى
الرجل القليل العلم ينمو نموّ الثور: يزداد لحمه لا عقله(3/373)
لو صوّر العقل لأضاء منه الليل , ولو صوّر الجهل لأظلم منه النهار
سئل أحد القدماء: ماذا تعلمت من الفلسفة؟ قال: تعلمت أن أعيش بالسلام مع جميع الناس
مرّن نفسك حتى على الأشياء التي تيأس من عملها , وخذ مثالاً على ذلك اليد اليسرى فإنها أقدر على ضبط العنان من اليمنى بسبب التمرين
لا يصلح للصدر إلاَّ واسع الصدر ابن سهل
لو وضعت مصائب الناس كلها في كومة واحدة , وأبيح لكل واحد أن يختار منها ما شاء , لأختار كلّ مصيبته واستردّها سقراط
الجاهل يُسأم , أما مدّعي العلم إدّعاءً فلا يُطاق نابوليون
كن المشتوم لا الشاتم , وكن من الذين يُجار عليهم لا من الجائزين. بولانو
المرأة الجميلة تبهج العيون , والمرأة الصالحة تبهج القلب , الأولى حلية والثانية كنز نابوليون
يجب علينا أن ننتحل أعذاراً للجميع: للأولاد لأنهم صغار , وللنساء لأنهنَّ ضعيفات , وللحكام لأن مهامهم عظيمة فلا بدّ لهم من الخطأِ وللصالحين لأنهم لا يقصدون الإساءة , وللاشرار لأنهم يستحقون الشفقة لأن الشقاء مستقبلهم سنيكا
عمل الخير اخياري ولكن رده إلزامي شيشرون
الشحّ أَرُّ على الإنسان من الفقر , لأن الفقير إذا وجد اتسع والشحيح لا يتسع وإن وجد الإمام علي)(3/374)
من يأكل وهو شبعٌ يحفر قبره بأسنانه مثل تركي
ما من إنسان تكشَفُ أفكاره وأفعاله ألا يستحق الشنق عشر مرّات مونتاين
ابكِ على العاقل يوم يموت , وابكِ على الأحمق حتى يموت. أفلاطون
إني لأرى الرجل فيعجبني , فأقول هل له حرفة؟ فإن قالو لا , سقط من عيني عمر بن الخطاب
إذا لم تكن سعيداً , فذلك لأنك تطلب ما ليس لك , وتنسى ما عندك شكسبير
تحتاج لثلاثة لتكون سعيداً: عافية الجسد , وصحة العقل , وسلامة القلب من أقوال العرب
العبد له سيد فرد , والرجل الطماع عبد لكل فرد يساعده على سد مطامعه لابرويير
ومن أمثال الانكليز:
من كان ضميره مطمئاً نام والرعود تقصف
ارقب عدوَّك كأنه أسد ولو كان فأرة
يجب أن نهتمّ للمستقبل اهتماماً لا يحرمنا لذة الحاضر لأنه ليس من الحكمة أن نشقي اليوم مخافة أن نشقي غداً
درهم الفقير إذا غُصب كان جمرة في كيس الغنيّ(3/375)
أزهار وأشواك
حول الرتب والنياشين
عيّن بوالو الشاعر الفرنسوي الشهير في القرن السابع عشر مؤرخاً للملك الكبير لويس الرابع عشر يدوّتن أهم أخبار البلاط وحوادث المملكة على عهده. ولما عاد الملك إلى باريس من إحدى حروبه , وقد أحرز النصر تلو النصر , رفع إليه الشاعر قصيدة اشتهرت بمطلعها حيث قال ما معناه: أيها الملك العظيم كفَّ عن الانتصار أو أكفَّ أنا عن الكتابة يعني بذلك أن الملك ينتصر في كل حرب بأسرع مما يقدر المؤرخ على تدوين خبر الانتصار. . . وأنا , وليس لي مقدرة بوالو في الكتابة , أكاد أقول لسموّ أفندينا العباس: يا أميري كفَّ عن الإنعام على الأدباء , أو أكفّ أنا عاجزاً عن تهنئتهم وشكر آلائك إذ أنني ما كدت أفرغ من تهنئة حافظ برتبه , وتهنئة خليل بنيشانه , حتى وافتني الجريدة الرسمية زاهيةً بخير الإنعام على جرجي زيدان بالرتبة المتمايزة. ومع ذلك فقد قابلتُ هذا الخبر كما قابله جميع قرّاء العربية بالارتياح التام , لأن جميع قرّاء العربية يعرفون ما لصاحب الهلال من الفضل الجمّ والأدب الغزير فكانت هذه الرتبة مكافأة عن ربع قرن قضاه في التأليف والتصنيف: وإذا سعى البعض إلى الرتب والنياشين بمأثرةٍ باهرة أو بثروة طائلة , فإن الرتبة سعت إلى زيدان بك اعترافاً بأنهُ لم يعش إلا ليتب ولم يكتب إلا ليفيد. وليس مثل هؤلاء الأدباء بالعدد العديد.(3/376)
أقتطف من الرسائل الواردة باسمي إلى إدارة مجلة الزهور شيئاً عن الرتب والنياشين , لأن هذا الموضوع حديث الناس في هذه الأيام. كتب لي أحد القراء من مصر يقول ما كان أصدقك يا حاصد في تعليقك على رتبة حافظ حيث كتبت: فإذا نحن قلنا الشاعر حافظ إبراهيم عرفهُ كل ناطق بالضاد. ولكننا إذا قلنا عزتلو الوجيه بك إبراهيم لا يعرفهُ إلاَّ بواب منزله وفرَّاش الكتبخانة. وقولك هذا يصح في كل أديب كبير , فقد حدث منذ أيام في نظارة المعارف ما أُبت ذلك: كان صاحب الهلال , بعد الإنعام عليهِ بالرتبة , في النظارة , وكان هناك أحد كبار علماء الهند. فعرَّف الناظر الواحد إلى الثاني , قائلاً زيدان بك فلم يُعره العالم الهندي كبير التفات لظنهِ أنهُ أحد البكوات - والبكوات في مصر أكثر من الهمّ على القلب - فأدرك الناظر الأمر , وأراد أن يستدرك ما فات فما لبث أن ذكر جرجي زيدان منشئ الهلال فقام الهندي إليهِ وصحافهُ مصافحة
الاعتبار والإجلال مثنياً على تآليفهِ وأعماله الأدبية. . . فما أجمل مغزى هذه الحادثة وما أبلغ. . . وكتب إليَّ قارئ من الأرياف يقول: كثرت المؤامرات في هذا الصيف وإنني لأكاد أرى في رتب أدبائنا واحدة منها , وما المتآمرون إلاَّ عصبة من الباشاوات والبكوات. فإن حافظاً وخليلاً وزيدان كانوا بصفتهم الأدبية يُعدّون في طليعة أهل البلاد قبل هؤلاء الباشاوات والبكوات. فدبَّر لهم المتآمرون هذه المكيدة , وقد انطلقت عليهم الحيلة فأصبح حافظ برتبتهِ الثانية , وخليل بنيشانهِ الثالث , وزيدان برتبتهِ(3/377)
المتمايزة بعد فلان باشا , ودون هذا يحمل العثماني أو المجيدي الأول , وذاك الذي يرفل في كسوة الميرميران أو الأولى صنف أول. وبهذه المناسبة اقترح على الحكومة - وهي مهتمة الآن لإعداد ميزانية مصالحها وإيجاد المال اللازم لإنفاذ المشروعات النافعة للبلاد - أن تضع رسماً على حاملي الرتب والنياشين. ومهما كان هذا الرسم زهيداً فإنه يعود على الحكومة بإيراد وافر يسد شيئاً كثيراً من حاجاتها بسبب كثرة الذين ستتناولهم هذه الضريبة. ولكان هذا الإيراد يزيد أضعاف الأضعاف , لو ضوعف الرسم على البهوات التقليد. ف نك لو مررت حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً في ميدان باب الحديد أو في ميدان الأوبرا , لتمزقت أذناك من ترديد حمار يا بك؟ أجي يا بك؟ ولو كان بينك وبين البكوية مراحل. . . وفي الختام أورد لقرأئي الآتية وقد روتها الجرائد الفرنسوية في الشهر الفائت قالت: لقي بوليس باريس قرب الشانزليزه شاباً متقلداً شارة اللجيون دونور , فرابه أمره لاعتقاده أن مثل هذا الوسام لا يحمله إلا الشيوخ الذين أتوا في حياتهم أعمالاً جليلة. فأخذه إلى أقرب مخفرٍ هناك. فسئل الشاب عن اسمه ولقبه وسبب تقلده شارة هذا النيشان العظيم الشأن , فأجاب بكل بساطة أنا عما نوئيل ملك البرتغاال السابق فانحنى سائله أمامه باحترام , واعتذر له بما حضره من الكلام.
حاصد(3/378)
صوَر هذا الجزء
كنا قد أعددنا لهذا الجزء من الزهور صوَر أسرة اليازجي , لنشرها بمناسبة الاحتفال بنقل رفات المرحوم إبراهيم من مصر إلى لبنان. فكان تأجيل الاحتفال سبباً في تأخير نشر الصوَر.
موت الكنار
في الجزء الخامس من الزهور ص242 نشرنا مقالة للكاتبة مي ترثي فيها كناراً لها. وقد نقلت جريدة الزمان هذه المقالة وأردفتها بالأبيات الآتية:
بكتِ الكنارَ فهيَّجت بي لوعةً ... نفسي بها امتلأت لموت كناري
أن تُشجِ ميَّ وفاة عصفورٍ لها ... فتقول فيهِ النثرَ كالأشعارِ
فيما تراني في الرثاء أجودُ من ... بعد الحبيبِ ونكبةِ الأقدار؟
ذيَّاكَ عصفورٌ بكتهُ بلهفةٍ ... فإذا بكيتُ بمدمعٍ مِدرارِ
ومثيرُ أشجاني ملاكٌ , هل أكو ... نُ موفياً حقَّ الغرامَ شغاري؟
شتَّانَ بين مصيبةٍ ومصيبةٍ ... يا ميُّ. منُ ينهي إليكِ سراري؟
مَن همت فيهِ لا كلام يفيهِ حقَّ ... الوصفِ. والهفي من التذكارِ!
قد كان أجمل زهرةٍ في روضةِ ... الآمال لي ومحجّة الأوطارِ
حاولتُ ما استطعتُ المطار بهِ فلم ... أُفلح فماتَ ولم نفز بمطارِ
فتحسُرٌ أضنى الكنارَ أصابنا ... وكمثلنا قد بتِّ بتُّ بنارِ
اسطفاق علبوني صاحب جريدة الميزان البرازيلية(3/379)
جرائدهم وجرائدنا
نشر مسيو ارثور ماير مدير جريدة الغولوى الفرنسوية كتاباً بعنوان الذي رأيتهُ بعيني فلما بلغ إلى وصف الجرائد قال عن جريدة الماتن: يصحّ القول في جريدة الماتان أنها الجريدة العصرية الراقية. فهي إذا قالت أقول كلّ شيء جاز لها هذا الإدعاء , فإن لها أسلاكاً تلغرافية خصوصية تربطها , وهي في باريس , بلندن ونيويرك وبرلين؛ ولها مراسلون في كل مكان. وهي متحدة بجريدة التيمس الانكليزية المشهورة فتنقل أخبارها الخاصة في كل صباح. أما صبغتها السياسية فجمهورية بحتة ولكنها لا ترفض نشر أفكار وآراء رجال السياسية على تباين أغراضهم وسياساتهم. فهي والحالة هذه أنموذج الجرائد الحرة ذات المقام السامي في عالم الأعمال والأشغال من كل نوع , وهي أشبه بمنبر عال مباح لكل خطيب من كل مبدأ ومن كل غاية ولست أظن أنهُ توجد بين الصحف صحيفة أكثر منها إقداماً وشجاعة. وتشغل إدارتها بنايات كل واحدة منها كبيرة على حدة. وتبلغ المساحة التي أقيمت فيها هذه الإدارة ثلاثة آلاف وأربعمائة متر مربع. أما عمالها المأجورون فيعدون تسعمائة عامل , عدا المراسلين. وفيها ست ماكنات أميركية كبرى تطبع في الساعة الواحدة مئة ألف عدد ولها مستودع كهربائي خصوصي يغنيها من المستودع العمومي ولاسيما أبان الاعتصابات. وفيها معمل لحفر الصوَر فهي تكتب وتطبع وتنشر لنفسها بنفسها ةلا تشتري من المعامل إلاَّ الورق والحبر. أما إيرادها اليومي فيبلغ ثمانين ألف فرنك ولكنها تنفق على الورق يومياً عشرة آلاف فرنك. وقد كان مجموع ما أنفقتهُ على أخبارها التلغرافية الخارجية في سنة 1909 نصف مليون فرنك وأما دائرة تحريرها فمؤلفة من مئة كاتب ينقسمون تحت إدارة رئيس التحرير إلى ثلاث فئات فئة المخبرين المحليين وفئة المخبرين الأجانب.(3/380)
ثمرات المطابع
عجائب غرائب
لما سألنا قراءنا هذه السنة عن النوابغ في مصر , أجابنا كثيرون منهم ذاكرين حافظ نجيب النابغة في الاحتيال. والحق يُقال أنهُ لنابغةٌ فذٌّ في بابهِ , يُعَدُّ أرسين لوبين واللص الشريف وسائر أبطال روايات البوليس السري عيالاً عليهِ. كانت المحاكم قد حكمت عليهِ ثلاثة أحكام غيابية لاتهامهِ بالنصب والاحتيال في حوادث غريبة الوقائع , وحكمت عليهِ مرة حكماً حضوريّاً , ولكنهُ تمكن من الفرار من سجنهِ في 27 دسمبر سنة 1907 , وظلَّ خمس سنوات يتنقل في القطر المصري والبوليس ينقّب عنُ وهو يواصل أعماله الغريبة. ذهب إثر هربه من السجن إلى الوجه البحري؛ ودخل في دير أشواري , وادَّعى أنهُ راهب واسمهُ غبريال جرجس وبقي هناك بضعة شهور اكتسب في خلالها ثقة الجميع , حتى أصبح صاحب الكلمة المسموعة وحينئذٍ احتال على رئيس الدير وأخذ مبلغ ستمئة جنيه واختفى. ثمَّ قصد دير المحرّق متخذاً اسم الراهب غالي جرجس , وراسل من هناك بعض صحف العاصمة , وكان له كتابات تُذكر في موضوع الخلاف الذي كان قائماً في ذلك العهد بين الجرائد الإسلامية والجرائد القبطية. ولما افتضح أمره , غادر الدير واختفى أثرهُ , إلى أن كان اليوم العاشر من شهر أكتوبر الماضي. فقد بلغ البوليس أن حافظاً موجود في دائرة قسم مصر القديمة وهو متنكرٌ يحترف حرفة درويش يعطي عهوداً فهاجمتهُ قوة من رجال البوليس فوجدوه محاطاً بعدد كبير من الدراويش في حلقة ذكر , ولما رآهم مقبلين إليهِ , أخذ يكبر بصوتٍ عالٍ الله! الله! ولما قبضوا عليهِ , ادَّعى أنهُ الشيخ عبد الله إبراهيم من المنوفية وأنَّ الله يخلقُ من الشبه أربعين. على أنا إدعاءَه هذا لم يجده نفعاً , وسيق إلى السجن. وكان مدة إقامته في مصر العتيقة قد اقترن بإحدى جاراتهِ - وهي تجهل(3/381)
حقيقة أمره - ورزق منها ابنة سماها عزيزة وهي الآن في حولها الثاني. هذا شيءٌ قليل من نوادر هذا الرجل الغريبة. وما كنا لنشغل بها قرَّاء ثمرات المطابع لولا أن الرجل كاتب بليغ وله مصنّفات نفيسة وإليك تحرير الخبر: قصدتْ مطبعة منذ مدة سيدة وطنية اسمها وسيله محمد وعرضت على نجيب أفندي متري صاحب المطبعة نشر كتاب عنوانه روح الاعتدال لواضعه شارل وانير. فارتاح متري أفندي إلى موضوع الكتاب الجليل ورآه
جديراً بالنشر باللغة العربية لما فيهِ من الفائدة للبلاد فطبعه؛ وتناولت الصحف الكتاب بكلمات الإطراء , وأقبل عليهِ القراء أيّما إقبال , وقرَّرت مدارس كثيرة تدريسه. وبعد مدة وجيزة عادت وسيلة محمد إلى مطبعة المعارف وبيدها نسخة من كتاب آخر , عنوانه غاية الإنسان فلم يتردَّد نجيب أفندي متري في قبوله إذ رآه لا يقلُّ فائدة عن الكتاب المتقدم ذكره. فطبعهُ ونشره في الشهر الماضي وكان له نصيب كبير من إقبال القراء. وفي أوائل أكتوبر عادت وسيلة محمد إلى المطبعة ومعها القسم الأول من ترجمة كتاب الناشئة وفي 10 أكتوبر قبض البوليس على حافظ نجيب , فحال دون إنجاز الكتاب الثالث من هذه الكتب التي كان ينشرها حافظ باسم زوجتهِ - وهي لا تدري من سرّ زوجها شيئاً. . . أهدت وسيلة محمد كتابها الأول إلى ابنتها العزيزة فقالت , - أو قال حافظ نجيب أنت اليوم طفلة في المهد , ترّك ابتسامتي , ويكفيكِ حنوي. وطفلة اليوم أم الغد. . . والزمان قلَّب , والغد مجهول , فقد لا أكون إلى جانبيكِ إذ ذاك , فترجعين إلى هذا الكتاب. . فتؤثرين العمل بما فيهِ من الآراء السديدة على ما يجدو إليهِ نزق الشباب , أو جنون الصبا , وطيش الرعونة. . . وإذا ما أعوزتكِ النصيحة فإن في آراء الكتاب الاجتماعيين ما قد ينوب عن نصيحة أمِ ثوَت , أو والدٍ قُبر , هذه هديتي. فإن تعلمت علماً صحيحاً وكنتِ رقيقة العواطف , عرفتٍ منها كم كنت أحبكِ وأرغب في نفعكِ والكتاب الثاني أيضاً مهدي إلى الابنة العزيزة وقد جاء في كلمة الإهداء:(3/382)
الدهر عبر , والحياة سير , والنفس بينهما لا تستقرّ , فمن تتقي الأيام تأمن عِبَرها ومن تعرف الحياة تتحمل سيرها. والحوادث جائية ذاهبة , والأعمار فانية ناضبة , فالحال لا تدوم أسعدتْ أم أشقتْ , والذكرى لا تفنى قبحت أم حسنت. فاتقي بنيتي العاقبة الأخرى , فإنما الحياة هي الذكرى نكتفي بهذه النتف للدلالة على مقدرة حافظ نجيب الكتابية , لأن المجال غير متسع لزيادة البحث في كتبهِ وآرائهِ. على أنهُ لا يسعنا قبل الختام إلاّ إبداء الأسف لضياع مثل هذا الذكاء النادر. ولو عرفت الحكومة الآن أن تقوده في الطريق المستقيم لنفعت وأفادت كثيراً.
الهدية الفهمية - أتحفنا بهذه الهدية حضرة الفاضل محمد أفندي فهمي المغربي أحد موظفي نظارة الحربية. وهو عنوان لكتاب وضعه لتذليل صعوبات اللغة الانكليزية فإذا بهِ ثمرة مطالعات كثيرة , وخبرة كبيرة. والكتاب مقسوم إلى قسمين: يتضمن القسم الأول
الاصطلاحات اللغوية والأفعال المختلفة المعاني باختلاف الحروف التي تليها مع جمل تدل على كيفية استعمالها؛ والقسم الثاني يتضمن الاصطلاحات الإدارية والعلمية والفنية , وتجاه كل عبارة ترجمتها العربية. فجاء هذا الكتاب المفيد أشبه شيء بقاموس مرتب حسب المعاني. فنوجه إليهِ أنظار طلاّب اللغة الانجليزية فيجدون فيهِ فائدة عظيمة.
الإسلام والإصلاح - هو عنوان تقرير رسمي رفعُ جناب السر ريشارد وود قنصل دولة انكلترا الجنرال ووكيلها السياسي في تونس إلى جناب ناظر خارجيتها وقد نشرتهُ الحكومة الانكليزية في الكتاب الأزرق الذي أصدرتهُ سنة 1878 عقب وقوع الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا. وأعاد طبعه بالعربية حضرة الأديب محب الدين أفندي الخطيب أحد محرري جريدة المؤيد. وأردفهُ(3/383)
بلمحة في تاريخ الجندية العثمانية ترجمها عن الكاتب التركي رفيق بك مانياسي وزير العدليه العثماني المتوفي. وهو من الكتب التي يحسن الإطلاع عليها في الآونة الحاضرة.
سوريا ومصر - كثرت هذه المدة الأبحاث في موضوع القطرين الشقيقين لشدة صلة الروابط الأدبية بينهما. وآخر ما جاءنا بهذا المعنى كتيّب بالعنوان المتقدم أرسله إلينا حضرة الأديب نسيم أفندي ملول , وقد جمع فيهِ سلسلة مقالات كان قد نشرها في جريدة النصير البيروتية , ثم جمعها خدمة للدولة والوطن العثماني.
الشعب - جريدة جامعة أنشئت لخدمة الشعب الشوفي , يُصدرها في عين زحلتا حضرة الكاتب الشاعر رشيد بك نخله الأديب المعروف لدى قراء الزهور ويودعها ما اشتهر عن قلمهِ من النفثات الشائقة. فنرجو لها النجاح في الخدمة القومية التي تتوخاها.
الصحة - كلَّ يوم يأتينا دليل جديد على نهضة اللغة العربية في العالم الجديد على يد المهاجرين النشيطين. وقد حمل إلينا البريد الأخير العدد الأول من مجلة صحية طبية اسمها الصحة يصدرها في نيويرك الصيدلي الكيماوي يوسف أفندي يبرودي , فإذا بها حافلة بالموضوعات العلمية والفوائد الطبية والأبحاث الصحية المفيدة.
مكتبة المنار - أهدت إلينا هذه المكتبة الزاهرة لأصحابها رضا وخطيب وقتلان قائمة كتبها عن السنة لجارية , وهي طافحة بالكتب الأدبية المفيدة. والمكتبة ترسلها مجاناً إلى كل من يطلبها منها.(3/384)
يوليوس قيصر
رواية تمثيلية من أشهر الروايات وأحكمها وضعاً وأعظمخا وقعاً في النفوس لمؤلفها شكسبير
الفصل الثاني
المشهد الأول
رومه - منزل بروتوس
بروتوس - منادياً الخادم لوسيوس! يا لوسيوس! لنفسه لا أقدر أن أحرز من النظر إلى النجوم مقدار قرب النهار منا. منادياً الخادم لوسيوس! أنت ياهذا! لنفسه ليت لي ذنيه واستغرق في مثل نومه. منادياً الخادم
لوسيوس - هل نادى مولاي؟
بروتوس - خذ شمعةً إلى غرفة قراءَتي. أضئها وتعال ادعني إليها
لوسيوس - سأفعل يا مولاي. تخرج
بروتوس - لنفسه فلتنجونَّ رومه بموته! إني لا أجاهده ابتغاءَ مصلحة نفسي بل لمصلحة الأمة. يودُّ يُتوَّج. تُرى كيف يكون تأثير التاج فيهِ؟ تلكم المسألة. لا يخرج الصل من وكره إلاّ على نور النهار عند ذلك يجب المشي باحتراس. إذا نحن ألبسناه التاج لبسنا الخطر , فنكون قد أخرجنا الصلّ من وكره فلا نأمن. بل نكون قد حدّدنا نابه يعطينا به حين يشاء. شرُّ ما تكون العظمة عليه عندما تفرّق بين القوة والرحمة. إن قيصر - والحق يقال - لم يدع عواطفه تتغلب على عقله قط. إنما من يضمن المستقبل؟ إن الطمع يتخذ في بدء أمره التواضع سلماً له. فتراه محولاً إليهِ وجهه عندما يكون واقفاً في أسفله. فإذا ما اعتلا قمته ولاّه ظهره ناظراً إلى السحب فوقه ناسياً تلك الدرجات الواطئة التي تسلّقها. هذا مثل سائر(3/385)
وبرهان معروف. . . قد يفعل قيصر هذا الفعل. فلنمنعنه قبل أن يأتيه لا حجة لنا عليه الآن. فلنغيّر شكل دعوانا ولنقدّر أنهُ إذا نما عما هو عليهِ أضرَّ وكان ضرره عظيماً. لنحسبنّه بيضة الحية نقتلها في قشرتها مخافة أن تفرّخ فتسعى لضرّ الناس. يرجع الخادم لوسيوس.
لوسيوس - مولاي. أضات الشموع في غرفتك. وقد رأيت هذه الورقة مطوية طيتها في
النافذة , ولم تكن هناك عندما رقدت. يعطيه الورقة.
بروتوس - اذهب ونم. لم يطلع النهار بعد. في أي الأيام نحن يا غلام؟
لوسيوس - لا أعلم يا مولاي.
بروتوس - أنظر في التقويم وهات الخبر.
لوسيوس - أمرك. تخرج
بروتوس - يمكنني أن أقرأ على نور هذه النيازك المتساقطة في الهواء يفتح الورقة ويقرأ بروتوس أنت نائم؛ تنبّه وانظر إلى نفسك! إن رومه الخ الخ. . . تكلم. أضرب. أفدِ! بروتوس أنت نائم! استيقظ! لنفسه قد عثرت على كثير من هذه الكتب المحرَّضة. يقرأ رومه الخ الخ لنفسه تُرى ما معنى هذا؟ هكذا يجب أن تكون: أتستعبد رومه خوفاً من إنسان فرد؟ أرومه؟ أن آبائي طردوا تاركون من أزقة رومه عندما طمع بالملك. يقرأ تكلم اضرب لنفسه أكلاماً وضرباً يرجون مني؟ ايه رومه! لكِ عليَّ العهد أن تنالي مبتغاكِ على يدي إن كان العدل ينجم عن ذلك. يرجع الخادم لوسيوس.
لوسيوس - مولاي قد انسلخ أربعة عشر يوماً من شهر مارس.
بروتوس - حسناً. اذهب وانظر من بالباب فإني اسمع قرعاً. يخرج لوسيوس(3/386)
لنفسه طالت لياليَّ ولم أنم من يوم ما حرَّضني كاسيوس على قيصر. إن المسافة بين تنفيذ عملٍ فظيع وبين أول دافع يدفع إليه لخيال أو حلم مخيف. العقل والجسد يتشاوران , وتصبح حالة الإنسان كمملكة صغيرة تتناوبها الثورات يرجع لوسيوس.
لوسيوس - أن أخاك كاسيوس في الباب يودّ أن يراك.
بروتوس - هل هو وحده؟
لوسيوس - كلاّ مولاي! بل معهُ أكثر من واحد.
بروتوس - أتعرفهم؟
لوسيوس - لا. فإن قُبعاتهم مشدودةٌ إلى آذانهم وأرديتهم تغطي نصف وجوههم , فلم أتمكن من معرفة واحدٍ منهم.
برتوس - دعهم يدخلون يخرج لوسيوس. لنفسه هم العُصبة. ايهٍ أيتها الفتن! أتخجلين من إظهار وجهكِ المخيف في سوادِ الليل وهو مباءَة الشرور؟ إذنْ أنَّي لكِ أن تجدي كهفاً في
رابعة النهار يسدُل سِترَ ظلامهِ على فظاعة وجهك؟ لا تطلبي محالاً. خبإِي وجهكِ تحت ستار التبسّم والمخادعة فإنك لو خرجتِ إلى الناس بلا ستار لعجزت ظلمةُ جهنم الخامسة عن إخفاءِ فضيحتكِ! يدخل المتآمرون كاسيوس وكاسكا وداسيوس وسنِّا وسمبر وتريبونيوس.
كاسيوس - طاب صباحك يا بروتوس. لقد تجاسرنا على إقلاعك. أليس كذلك؟
بروتوس - لم أنمْ ليلى. هل أعرفُ هؤلاء القادمين معك؟
كاسيوس - نعم , كلاًّ منهم. وليس منهم إلاّ من يُكرمك ويَودُّ لو كان لك في نفسك مثلما للرومانيين فيها من حسن الثقة. هذا تريبونيوس.
بروتوس - أهلاً بهِ.(3/387)
كاسيوس - وهذا داسيوس
بروتوس - مرحباً بهِ
كاسيوس - وهذا كاسكا. وهذا سنّا , وهذا سِمبر
بروتوس - أهلاً بهم جميعاً وسهلاً. أيُّ الهموم حالت بين عيونكم وبين الليل فمنعتها من النوم؟
كاسيوس - أتأذن لي في كلمة؟ بروتوس وكاسيوس يتهامسان
داسيوس - هنا الشرق. أو ليس هذا مطلعُ الشمس؟ يشير إلى جهة الشرق
كاسكا - كلاّ
سنّا - عفوك. بلى. وليست هذه الحبائل البيضاء التي تقاطعُ السحب إلاّ رسل النهار
كاسكا - إنكما على ضلال. وستعرفان بهِ. إن الشمس تشرقُ من هنا حيث يتجه سيفي وهي جهة قريبة للجنوب. والسنة تكون في أولها في مثل هذه الأيام. ثم تتجه بعد شهرين تقريباً إلى الشمال وترمينا بحرارتها. أما الشرق فهذه وجهته. هنا حيث الكابيتول.
بروتوس - هذه يدي. هاتوا أيديكم
كاسيوس - ولنحلفنّ متفقين
بروتوس - لا. لا حلف ويمين. إن لم تكن إماراتُ وجوهنا وآلام نفوسنا وجور الزمان علينا بالأسباب الكافية لنا , فلتتفرَّق الآن وليذهب كلٌّ إلى فراشهِ ولندع نسرَ الاستبداد في
تحليقهِ يتخطفنا الواحد إثر الآخر. أما إذا كانت هذه الأسباب نفسها ناراً تنفخُ في الجبان شجاعة وتجعلُ نفوس الأطفال والنساء(3/388)
مفلوذةً , فماذا تزيدنا اليمين في إقدامنا؟ وأيُّ الروابط تفضلُ رابطة كلمة خرجت من أفواه رومانيين يكتمون السرَّ ولا يمارون؟ وما اليمين لقوم كرام تعاهدوا على تنفيذ أمرِهم أو تركه ملطخاً بدمائهم؟ دعوا الأقسام للكهنة , للجبناء , للمنافقين , للجثث الزائلة ولنفوسٍ تقبلُ الضيمَ وتصبرُ على الأذى. أن الذين يُشكُّ في أقوالهم يُقسمون , ليحملوا الناس على تصديق أغراضهم الباطلة. أما أنتم فأعيذكم من أن تدنّسوا عِرضَ غرضنا أو تكبحوا جماح نفوسنا بقَسَم تظنونهُ لازماً. إن دماءَكم التي تجري في عروقكم - على شرف محتدها - لتصبح أسفل من دم اللقطاء إن حنث أحدكم بحرف من كلمة خرجت من أفواهكم.
كاسيوس - ما قولك بشيشرون. أنعجمُ عودَه؟ أظنهُ يؤيدنا بقوَّة.
كاسكا - لا نتركه
سنّا - لا نتركه أبداً
متلّوس - لنشركنّهُ معنا. إن شعره الفض لأكبرُ مبرّرٍ لعملنا في أعين الناس ولأعظم داعٍ لثقتهم بنا , فيقولون أن حكمهُ الصائبَ قد سدَّد أيدينا. ولا يظهرُ علينا شيءٌ من مظاهر نَزَق الشباب بل تُدفن كلها في عظيم رصانتهِ ورزانتهِ.
بروتوس - لا تذكروا اسمهُ. إننا لن نطارحهُ الأمر. فهو لا يتبع أحداً ابتدأ عملاً قبلهُ.
كاسيوس - فلندعهُ وشأنهُ
كاسكا - حقاً إنهُ لا يصلح لشيء
ديسيوس - ألا يُمسُّ أحد بسوءٍ خلاف قيصر؟
كاسيوس - أصبتَ المحزَّ يا ديسيوس. فلا يليق بأنطونيوس محبوب قيصر أن يعيش بعده. إن تركناه نلقَ منهُ محرّكاً للفتنة يَقِظاً. وقد تمتدُّ يده إلى الإساءة إلينا إن هو أحسنَ إدارة ما لديهِ من الواسطة السيئة. فلنمنعنهُ من ذلك , وليسقط مع قيصر!(3/389)
بروتوس - إذا نحن قطعنا الرأس وألحقنا بهِ الأعضاء ظهرت أعمالنا بمظهر دمويّ لا يليق. ويكون مثَلُنا مثل المتشفّي يشوّه فريسته بعد قتلها. فإن أنطونيوس ليس إلاّ عضواً من أعضاء قيصر. . أي كاسيوس! لنكن فدائيين لا جزارين. إننا نناهض روح قيصر , ولا
دم للأرواح. ليتنا نستطيع أن نبطش بروح قيصر ولا نمس جسده. يا للأسف! لا بدَّ لدم قيصر إن يسيل. إذن فلنقتلنه شجعان لا حاقدين ولا منتقمين. لنجعلنه ذبيحةً تليق بالآلهة , لا جثةً تقطع وتُرمى للكلاب. ليكن عملنا السادة الدهاة يدفعون عبيدهم إلى الغضب ثم يعنفونهم على ذاك الاندفاع. بمثل هذا تظهر فعلتنا للجمهور لازمة لازبة , لا حاقدة غائرة , فندعي مطهرّين لا سفاحين. دع انطونيوس من فكرك. أنهُ لا يستطيع أن يعمل أكثر مما تعمله يد قيصر بعد أن يقع رأسه عنه.
كاسيوس - ولكنني أخافهُ. فإن محبته لقيصر. . . .
بروتوس - مقاطعاً دعه من فكرك أيها الطيب كاسيوس. إن كان يحب قيصر فماله إلاّ أن يموت حزناً عليه. وليس الأمر بالهين ف نهُ مغرم بالتنزه والطيش والمغازلة.
تريبونيوس - لا خوف منه. لا تقتلوه فإنهُ سيعيش ويضحك من هذا الأمر تدق الساعة.
بروتوس - اسكتوا عدوا دقات الساعة
كاسيوس - دقت الساعة ثلاثاً
ترينونيوس - حان وقت الذهاب
كاسيوس - على أننا لا نزال في شك من خروج قيصر من بيته اليوم. فلقد أصبح متطيراً متشائماً , إذا سمعته لا تظنهُ ذلك الرجل الذي لم يكن ليعبأ بالأوهام والأحلام والتقاليد الدينية. فقد لا يأتي اليوم إلى الكابيتول لسبب مظاهر هذا الليل غير العادية ولأقول المنجمين الذين يحيطون بهِ.(3/390)
ديسيوس - لا تخشَ هذا الأمر. فأنا أثينه عن عزمه إذا صمَّم على البقاء في منزله. إنه يبتهجُ إذ يسمعني أقول له: إن الشجر يُسلّمُ وحيد القرن إلى الهلاك كذلك الدببة فإنهم يصطادونها بالزجاج , والفيلة بحفر الأحافير , والشباك تنصبُ لاقتناص الأسود , أمّا ابن فيؤخذ بالتملّق فإذا قلتُ له أنك تكره المملقين , يجيبني نعم أكرههم. وهو بهذا القول يكون قد خضع للتملق كل الخضوع. دعوني أتمم عملي فإني أعرف كيف استميله وآتي بهِ إلى الكابيتول.
كاسيوس - لا إننا نذهب كلنا ونأتي به
بروتوس - ولتكن الساعة الثامنة غاية موعدنا
سنّا - نعم ولا تتأخروا
سمبر - أن ليجاريوس يكرهُ قيصرَ , فقد وبّخه هذا مرة إذ سمعه يطري بومباي. أعجبُ كيف لم تفتكروا به.
بروتوس - اذهبْ إليه الآن. إني قد أحسنتُ إليه فهو يحبني. أرسله إليّ فأكيفه
كاسيوس - لقد هجم علينا الصباح. بروتوس , ها نحن تاركوك. تفرقوا أيها الأخوان. اذكروا ما قلتموه , وكونوا أبناء رومه الصادقين.
بروتوس - أيها السادة الأخيار. إبسموا واطربوا. ولتخفي وجوهكم نيّاتكم. ولنظهر بمظهر الممثلين الرومانيين مالكين قياد أنفسنا وواثقين منها. طاب ليلكم جميعاً. يخرج الجميع عدا بروتوس. ينادي الخادم أي لوسيوس. يا غلام! لنفسه نومه عميق. لا بأس. تمتع بندي النوم اللذيذ. إنك لا تحلم ولا ترى أشباحاً وخيالات تملأ رؤوس الرجال بعيدي الهمّ , لذلك تنام نوماً عميقاً تدخل إمرأته بورسيا(3/391)
بورسيا - بروتوس! مولاي!
بروتوس - بورسيا! ما هذا؟ ولِمَ تبكرين في القيام. ليس لمزاجك الضعيف أن يتعرّض لبرد الصباح ورطوبته.
بورسيا - ولا لمزاجك أنت أيضاً , إنكَ قد انسللتَ من فراشي انسلالاً. والبارحة على العشاء نهضت فجأة وأخذت تتمشي ويداك ورآء ظهرك تتنهدُ وتشكو. عندما سألتك السببَ نظرتَ إليّ مغضباً , فأعدتُ السؤال عليك فحككت رأسك وضربت الأرض برجلك , فألححتُ ولم تنثن عزيمتي , فأشرت بيدك إليَّ أن انصرفي , فانصرفت طائعة مخافة أن أزيد في قلقك المتقد راجيةً أن يكون الأمر انزعاجاً خفيفاً قد يطرأ على جميع الناس , ولكنه قد حرمك الأكل والكلام والنوم وتمكن منك حتى لو كان أثره في جسمك مثلما هو في عقلك لغابتْ عني معرفتك أي مولاي دعني أعرف سبب حزنك.
بروتوس - إني منحرف المزاج قليلاً. هذا كل ما في الأمر.
بورسيا - إن بروتوس لعاقل حكيم. لو كان يشكو الدآء في صحته لتوَّقي أسبابه.
بروتوس - هذا ما أفعله. اذهبي إلى فراشكِ أيتها العزيزة.
بورسيا - أمريض بروتوس؟ أمن دواعي الاستشفاء أن تنهضَ مفكوك الإزار تمتصُّ
رطوبة الصباح؟ أمريضٌ بروتوس إذ يهربُ خلسة من فراشه الطيب لملاقاة عدوى الليل ولاستفزاز برد الهواء وفساده إلى زيادة مرضه؟ لا يا بروتوس! إن علتك هنا في الرأس , لي بحقّ الزوجية أن أعرفَ ماهيتها. . إني أجثو لديك واستنجدُ ماضي جمالي علّهُ يستهويك. بل أستعين عليك بعهود حبّك وبميثاق عظيمٍ جعلنا جسداً واحداً إلاّ كشفت لي ضميرك وقلت لي - لمن هي مقام النصف منك - في مقام نفسك - ما سبب وجومك؟ ومن الذي لجأ إليك هذه الليلة. فإني رأيت رهطاً يخفون وجوههم حتى عن الظلام.(3/392)
بروتوس - لا تركعي يا بورسيا اللطيفة!
بورسيا - ما كنت لأركع لو كنتَ بروتوس اللطيف. أي بروتوس. أمحظور عليَّ في عرف عهود الزوجية أن اطّلع على سرّك؟ أأكون وإياك واحداً في بعض الأمور ولا! كونه في الأخرى؟ أقُسمَ لي الاكتفاء بمنادمتك على الطعام وتسليتك عند المنام والتحدّث معك في بعض الأحايين؟ أأسكن في ضواحي كيفك أم في وسط قلبهِ؟ إن كانت تلك قسمتي منك فما أنا بحليلتك بل خليلتك.
بروتوس - أنتِ زوجتي الشريفة الصادقة , أعزُّ إليَّ من تلك النقط الحمراء التي تطرق قلبي الحزين.
بورسيا - إن كان حقاً ما تقول فقد حقَّ لي أن أعرف سرّك. نعم أنا امرأة ولكني امرأة اختارها بروتوس زوجةً له. نعم أنا امرأة ولكني أرضيك عند الحسب فأنا ابنة كاتو أوَ لا تظنني أقوى بنات جنسي وقد انتسبت لمثل ذاك الأب واقترنت بمثل هذا الزوج؟ أطلعني على أفكارك. إني لا أبوح بها. أما علمت مقدار ثباتي إذ طعنت نفسي مرةً بخنجر في فخذي؟ أأحتمل بصبر تلك الطعنة ولا احتمل أسرار بعلي؟
بروتوس - ايه أيتها الآلهة. اجعلني كفوءًا لهذه المرأة النبيلة يُقرع الباب اسمعي اسمعي. الباب يُقرع. اذهبي الآن وستعلمين عما قليل ما انطوى عليهِ قلبي. سأقرأ لكِ كتاب حزن وجهي فتطّلعين على كل دخائلي وأسراري. عجلي بالخروج تخرج بورسيا لوسيوس! من الطارق؟ يدخل لوسيوس ومعه ليجاريوس.
لوسيوس - هنا رجلٌ مريض يودُّ أن يشافهك
بروتوس - لنفسه هذا ليجاريوس الذي أشار إليهِ سمبر. للخادم قف(3/393)
ناحية يا غلام. كيفَ
أنتَ يا ليجاريوس؟
ليجاريوس - تقبَّل تحيةً طيبة من لسان ضعيف
بروتوس - تعساً لميعاد ضربتهُ للاعتصاب بهذه العمة. ليتك لم تكن مريضاً
ليجاريوس - لستُ بالمريض إذا دعاني بروتوس إلى مواقف النُبل
بروتوس - لو كنتَ صحيح الأذن التي تثني لها ركبُ الرومانيين! ها قد اقتلعتُ مرضي مني ينزع عصبته عن رأسهِ أيْ حياة رومه. أيها الأسد الخارج من صُلب الشرف إنك كالساحر عزَّمتَ فأخرجتَ شيطان مرضي مني. إني الآن أسابق المستحيل فأسبقهُ إن أنتَ أمرتني. ما العمل؟
بروتوس - عملٌ يجعل المرضى أصحاء
ليجاريوس - أو لا نجعل بعض الأصحاء مرضى؟
بروتوس - نعم. سنفعل ذلك. سأكشف لك الأمر في الطريق وأنبئك عمن أشير إليه
ليجاريوس - أُخطُ أمامي فأثب وراءك بقلبٍ من نار أجري إلى ما لستُ أعلمهُ راضياً بأنك قائدي. أنا سهمٌ من سهامك , ارمِ بي حيث تشاء
بروتوس - إذن اتبعني يخرجان
المشهد الثاني
بيت قيصر. برقٌ ورعد يدخل قيصر بثبات النوم
قيصر - ما سكنت السماء ولا استراحت الأرض في هذا الليل. لقد صاحت كالبورنيا في نومها ثلاثاً إليَّ. هوَّاه. إنهم يقتلون قيصر مَن بالباب؟ يدخل الخادم(3/394)
الخادم - مولاي!
قيصر - اذهب إلى الكهنة , وابلغهم أمري , يذبحون في الحال قرابينهم ويتكهنون.
الخادم - سأفعل يا مولاي تدخل كالبورنيا
كالبورنيا - ما قصدك قيصر؟ أتفكر في الخروج من منزلك؟ ما أنت بخارج منهُ اليوم.
قيصر - أما قيصر فسيخرج. لا تقدر الأشياء التي تتهددني أن تنظر إليَّ وجهاً لوجه بل تدور من ورائي. فإذا ما لفتُّ إليها وجهي اضمحلَّت
كالبورنيا - قيصر! إني لم أهتمّ بالخرافات والأوهام قط. أما الآن فإنها تخيفني. . في الدار
رجل روى لنا عن أحد حرَّاس البلد ما تقشعر منهُ الأبدان هذا فضلاً عما سمعناه ورأيناه نحن: لبوةٌ تزأر في الأسواق. قبورٌ انشقت وقذفت بموتها خارجاً. جنودٌ نارية مرعبة تصفُّ صفوفها صفَّ القتال تتحارب بين السحب ودماؤها تتساقط على الكابيتول تمرُّ في الأزقة تولولُ وتعوّلُ تعويلاً. إيهٍ قيصر. ليست هذه الأمور بالعادية. إنها لتخيفني
قيصر - لا مردَّ لما قدَّرته الآلهة تقديراً. إن قيصر لذاهب اليوم. فما هذه النذُر بمرسلةٍ له بل قد تكون مرسلةً كله
كالبورنيا - لا نيازك تُرى عند موت السوقة. أما الأمراء فالسموات تسطع موتهم تسطيعاً.
قيصر - الجبان يموت مراراً قبل موته أما الشجاع فميتة واحدة. أغرب ما سمعت من الغرائب خوف الإنسان من أجله وهو ضربة لازب تجيء عندما تجيء.(3/395)
يرجع الخادم فيخاطبه قيصر قائلاً: ما قال الكهنة المنجمون؟
الخادم - إنهم يتمنون لك ألاَّ تبرح منزلك اليوم. فقد شقوا أحشاء الذبيحة فلم يجدوا فيها قلباً.
قيصر - إن الآلهة تفعل هذا حياءٌ من الجبن. لو أقام قيصر اليوم في صحن بيته خوفاً لكان بالحق وحشاً لا قلب له. لا. قيصر لا يقيم. الأخطار تعلم حق العلم أن قيصر أشدُّ منها خطراً. نحن أسدان وُلدنا في يوم واحد. أنا أكبرهما وأشدهما رعباً. إن قيصر لذاهب.
كالبورنيا - وأسفاه يا مولاي. إن حسن ظنك يبتلع حكمتك وتعقلك. لا تخرج اليوم. قل إن مخاوفي جعلتك تلبث في بيتك لا خوفك. لنبعث بانطونيوس رسولاً إلى مجلس الشيوخ يحمل نبأ انحراف مزاجك. دعني - وأنا على ركبتيَّ - أفز بهذه الأمنية.
قيصر - سأمكث إكراماً لكِ. وسيقول لهم انطونيوس إني مريض. يدخل ديسيوس ها ديسيوس. دعه يحمل إليهم الخبر
ديسيوس - السلام قيصر. سَعُدَ صباحك. إني أتيت أدعوك إلى مجلس الشيوخ.
قيصر - طاب قدومك. أحمل سلامي إلى الأعيان وقل لهم إني لا أريد أن أذهب اليوم. . . لو قلتُ لا أستطيع لكان قولي كذباً أو قلت لا أجسر لكان القول أكذب. . . إني لا أريد أن أذهب. هكذا تقول لهم.
كالبورنيا - قلْ إنه مريض.
قيصر - أو يكذبُ قيصر؟ أأمدُّ يدي فأتناول النصر والفتح من بعيد وأخشى الحق أقوله لذقون بيضاؤ. ديسيوس! اذهب وقل لهم أن قيصر لا يريد أن يجيء
ديسيوس - أي قيصر عظيم الاقتدار! دعني أعرف لذلك سبباً مخافة أن(3/396)
يضحكوا مني إذا أنا جئتهم بمثل هذا الكلام
قيصر - السبب راجع إلى إرادتي. إني لا أريد أن أذهب , وكفى بهذا سبباً للأعيان. . . على أني لا أخفي عليك أنت حقيقة الأمر لأنك تحبني. ن امرأتي كالبورنيا تمسكني عن الخروج من البيت. لقد رأت في حلمها تمثالي يتفجر الدم من جوانبه كينبوع ذي مائة عين وأهلَ رومه قادمين باسمين يغسلون أيديهم بدمي. وهي تدّعي أن في هذا نذيراً بشرّ قادم مستطير. فجثت أمامي راجيةً أن أمكث في بيتي اليوم.
ديسيوس - لقد ساء تأويلُ الرؤيا. إنه لحلمٌ جميلٌ مبخوت. فما تمثالك يفجّر الرومانيون الدم من جوانبه تفجيراً ويغسلون فيه أيديهم إلاَّ رمز إلى أن رومه سترضعُ منك شبابها , وإن أعاظم الرجال يتزاحمون لينالوا منك أثراً خالداً أو تذكاراً جميلاً. ذلكم تأويل حلم كالبورنيا.
قيصر - لقد أحسنتَ تأويله
ديسيوس - وستزداد اعتقاداً بحسن التأويل عندما أنقلُ إليك نبأً آخر: إن المجلس قد أجمع أمرهم على أن يقدموا لك التاج اليوم! فإذا لم تذهب الآن قد يتغير إقرارهم في الغد. ومن يضمن لنا الخلاص من سخرية ساخر يقول فضّوا المجلس إلى تتناوب امرأة قيصر أحلامٌ أخرى. أولاً يهمس الهامسون بأن قيصر قد خاف. عفوك قيصر! إني أنطق بلسان حبي الشديد لك. فهو ينطقني بالحكمة
قيصر - لكالبورنيا ما أضلَّ مخاوفكِ يا كالبورنيا. إني أخجل من نفسي عندما أرى كيف أنقذتُ إليكِ. إيتيني بردائي. أنا ذاهب. يدخل بوبليوس وبروتوس وليجاريوس ومتلوس وكاسكا وتريبوتيوس وسنا. ها بوبليوس آتٍ ليأخذني.
بوبليوس - طاب يومك قيصر!(3/397)
قيصر - أهلاً بك يا بوبليوس! بروتوس , مرحباً بك أمبكرٌ أنت أيضاً بالقيام؟ طاب يومك كاسكا. وأنتَ ليجاربوس. أنت مريض؟ إن مرضك الذي أهزلك لأشد عداوة لك مني! كم الساعة؟
برزتوس - أشكر لكم أيها السادة تلطفكم واجهادكم أنفسكم بالمجيء يدخل أنطونيوس وها أنطونيوس الذي يقضي لياليه سامراً قد جاءنا مبكراً. سعدتْ أوقاتك يا أنطونيوس
أنطونيوس - ولقيصر الشريف أسعدُ الأوقات
قيصر - دعهم يهيئوا لي ثيابي! إني لحقيق باللوم إذ أجعل هؤلاء السادة ينتظرون. مرحباً كاسكا. مرحباً متلوس وأنتَ تريونيوس لي حديث ساعة معك اليوم. كن قريباً فلا أنسى.
تريبونيوس - سأكون بقربك. لنفسه نعم سأقرب قرباً يودُّ أصدقاؤك لو كان بُعداً
قيصر - ادخلوا أيها الأصدقاء , نذوق معاً شيئاً من الخمر ثم نذهب معاً كإخوان الصفاء يخرجون جميعهم
المشهد الثالث
شارع قرب الكابيتول يدخل ارتمييدوروس يقرأ ورقة
ارتمييدوروس - قارئاً قيصر احذر بروتوس. توقَّ كاسيوس. لا تقرب كاسكا. ضع عينك على سنَّا. لا تثق بتريبونيوس. الحظ سمبر. برتوس لا يحبك. إنك قد أغضبت ليجاريوس. كلُّ هؤلاء مجمعون رأيهم على اردائك. إذا كنت إنساناً غير خالد لنفسك. الاستسلام مدعاة الفتنة. لتحرسك الآلهة القديرة
محبك ارتمييدوروس(3/398)
سأقف هنا حتى يمرّ قيصر فأعطيه هذه الورقة على شكل عرض تظلّم. نفسي حزينة على فضيلة لا تستطيع البقاء في وجه منافسة حاسدة تحرق الأرمّ. أي قيصر إن أنت قرأت هذه الورقة سلمت. وإلاّ فتكون الأقدار قد اتخذت من الخونة ساعداً وعضداً يخرج
المشهد الرابع
قسم آخر من نفس الشارع أمام بيت برتوس تدخل بورسي والخادم لوسيوس
بورسيا - يا غلام. ألم تذهبْ بعد؟ ركضاً إلى مجلس الأعيان! اذهب ما لك واقفاً
لوسيوس - لأعلم بما تأمرينني أيتها السيدة
بورسيا - ليتك تستطيع الذهاب والرجوع بأسرع مما أمرك بذلك. لنفسها تشدّدي عزيمتي! وأقيمي لي جبلاً حاجزاً بين ضميري ولساني. إن لي قلب رجل وقوّة امرأة أن تكتم سرّها. للخادم ألا تزال واقفاً أمامي؟
لوسيوس - ما مهمتي يا مولاتي؟ أأركض إلى الكابيتول وأرجع إليك؟ أليس عليَّ واجبٌ آخر؟
بورسيا - بلى اذهب وانظر أمعافى مولاك فإنه خرج متألماً. خذ بالك مما يفعله قيصر ومن الناس الذين يقتربون منه. اسمع اسمع يا غلام! ما هذا الصوت؟
لوسيوس - إني لا أسمع شيئاً أيتها السيدة
بورسيا - أصغ أصغ جيداً. إني سمعتُ ضجيجاً كضجيج عراك تحمله الريح من ناحية الكابيتول(3/399)
لوسيوس - بالحقّ يا مولاتي لم أسمع شيئاً يدخل المنجم
بورسيا - للمنجم تعال يا إنسان. من أين أنت قادنٌ؟
المنجم - من بيتي أيتها السيدة الصالحة
بورسيا - كم الساعة؟
المنجم - التاسعة تقريباً أيتها السيدة
بورسيا - هل وصل قيصر إلى الكابيتول أم لم يصل بعد؟
المنجم - لم يصل بعد. وأنا ذاهب لأقف فأراه مارّاً في سبيله إلى الكابيتول
بورسيا - إن لديك أمراً تعرضه على قيصر. أليس كذلك؟ قل
المنجم - نعم أيتها السيدة لي ما أعرضه عليه. فإذا أحسن إلى نفسه وأعارني أذنه أوصيته بأن يطاط لأمره
بورسيا - ولماذا؟ هل تعلم بخطر يتهدده؟
المنجم - إني لا أجزم بوقوع الخطر ولكني أخشى حدوثه. سعدت أوقاتكِ. هنا الشارع ضيق والجمع الذي يلحق بقيصر مؤلف من أعيان وقضاة وذوي مطالب شتى يتكاثفون فيزحمون رجلاً ضعيفاً مثلي. وقد يقتلونهُ. سأذهب إلى مكان أفسح من هذا أعارض قيصر في السبيل وأكمله يخرج
بورسيا - يجب أن أدخل إلى غرفتي. ويلٌ لي , ما أضعف قلب المرأة. لتُنجحِ السموات مقاصدك يا بروتوس! آه لقد سعني الخادم تقول ما يأتي لتحوّل ذهن الخادم عن الجملة الأولى فيما لو كان قد سمعها أن لبروتوس طلباً لا يستحيبه إليهِ قيصر. يكاد يُغمى عليَّ.
اذهب يا غلام إلى مولاك واقرأ سلامي. قل له إني مشروحة الصدر لا أشكو ألماً ثم ارجع إليَّ وأنبئني بما يجيبك بهِ تخرج ثم يتبعها الخادم
تم الفصل الثاني(3/400)
العدد 29 - بتاريخ: 1 - 12 - 1912
البلقان والحرب
ليس في الآونة الحاضرة من لا يهتم للحرب المنتشبة بين العثمانيين والبلقانيين فالناس في كل مكان على اختلاف طبقاتهم ولغاتهم وأجناسهم يتهافتون على الأنباء الواردة من ميادين القتال تهافتاً عظيماً جداً. لذلك أنشأنا الفصل التالي وهو مجمل ما طالعناه في المجلات والمؤلفات الإفرنجية وخلاصة جامعة عن هذه الحرب ومقدماتها وسياسة البلقانيين فيها وتكهن الساسة الأوروبيين عن عقباها لعلّ في ذلك كله فائدة لقراء الزهور.
الولايات العثمانية الأوروبية وسكانها - للحكومة العثمانية في أوروبا ست ولايات خلا الآستانة وضواحيها. وهي: سالونيك , وموناستر , وأدِرْنَه , واشقودره , وقوصه , ويانيا. ويُطلق الجغرافيون عليها جميعها اسم مكدونيا وإن لم تشمل هذه التسمية في الحقيقة البلاد الألبانية. أما عدد سكان هذه الولايات فلم يحصَ إحصاءً دقيقاً لكثرة التباين في الأغراض والنزعات الجنسية والسياسية والدينية. ولكنَّ المأثور أنه لا يتجاوز خمسة ملايين ونصف مليون يضاف إليهم عدد سكان الآستانة وملحقاتها فيبلغ المجموع على التقريب ستة ملايين ونيّف. وهم أخلاط من السلافيين والترك واليونانيين والألبانيين. وأما عددهم بالنسبة إلى الجنس(3/401)
أو الدين فالمشهور أن الألبانيين يعدون 1. 500. 000 , واليونانيين يدّعون أنهم يبلغون 2. 000. 000 في حين أنهم لا يتجاوزون مليوناً ونصف مليون في نظر سواهم. ويقول المسيحيون أن عدد المسلمين 1. 500. 000 فقط. وتقول غايت دي فرنكفورت الألمانية أن الإسرائيليين يبلغون 190. 000 , والفلاخيين الرومانيين 100. 000 والبلغاريين 700. 000 والسربيين 700. 000 أيضاً. ولكن الحقيقة غير ذلك فالجريدة المذكورة أنقصت في عدد البلغاريين والسربيين عملاً بإشارة البارون مرشال بيبرشتين المتوفي منذ عهد قريب والذي كان سفيراً لألمانيا في الآستانة ثم سفيراً لها في لندن إذ كان عدوّاً لدوداً للعنصر السلافي. ولعل حقيقة عدد البلغاريين في مكدونيا يزيد عن المليون. وكذلك السربيون فلا ريب في إنهم يعدّون أكثر من مليون أيضاً. وقد اختلف الباحثون في نسبة البلغاريين والسربيين إلأى العنصر السلافي فلم يتبينوا الحقيقة حتى كانت معاهدة برلين في سنة 1878 إذ انضمَّ على أثرها كلُّ جنس إلى جنسه وكل قطيع إلى حظيرتهِ.
معاهدة برلين والبلقان - قضى البند الثالث والعشرون من معاهدة برلين المشهورة بأن يكون لمكدونيا نوع من الاستقلال الإرداي يضمن حقوق المسيحيين من أهاليها تحت
سيطرة الحكومة العثمانية ومشارفتها. غير أن الباب العالي سوَّف المكدونيين كثيراً تنفيذ ما تضمنهُ هذا البند , ولم يكترث قط لالحاح دول البلقان عليهِ في ذلك. فأخذت هذه الدول حينئذ بإثارة رأي الأهالي على الآستانة مستعينة بنفوذها في(3/402)
مكدونيا ورغبة المسيحيين في الاستقلال؛ فبلغاريا , كانت تحرّض البلغاريين , واليويانيين , والسرب السربيين , حتى أصبحت البلاد ميداناً للدسائس , وأمست جبالها معتصماً للثوار وغاباتها ملجأً للصوص , وقُراها عرضة للنهب والحريق , وبات أهلها أعداءً بعضهم لبعض فانتشرت الفوضى , وعمَّ الخوف , وتعاظمت الويلات والشرور. وإنما أتت دول البلقات كل هذا إقلاقاً للحكومة العثمانية , وعرقلةً لسياستها في مكدونيا لأنها كانت ترمي من وراء تلك الفتن إلى ثلاث رغائب شديدة الأهمية في نظرها وهي: حمل الباب العالي على تنفيذ مضمون(3/403)
البند الثالث والعشرين من معاهدة برلين , ولفت أنظار أوروبا إلى حالة المسيحيين في مكدونيا , واستمالة الشعوب المسيحية في تلك البلاد كل شعبٍ إلى الدولة التي تضمُّ إخوانهُ تحت رايتها. على أن الغاية القصوى الحقيقية لم تكن إلاَّ التربص لتركيا وتحيُّن ضعفها للاستيلاء على مكدونيا واقتسامها فتكون لكل دولةٍ حصة تُعطاها بمقدار عملها وأهميتها:
فالبلغاريون العثمانيون ينضمون تحت جناحي بلغاريا , والربيون تحت لواء السرب , واليونانيون إلى اليونان. أما رومانيا التي يميل إلأيها أبناؤها الفلاخيون الرومانيون المتشتتون في مكدونيا في كل ناحية وصوب , والذين يصعب جدّاً اجتماعهم معاً في جزء واحد منها , فتعتاض من حصتها هنالك جزءاً غير يسير في ما يحاذي أملاكها من أملاك ومكافأة لها من أجل وقوفها على الحياد. وكانت بلغاريا أشد دول البلقان سعياً إلى الفوز بأمانّيها فلم تدع وسيلةً من الوسائل إلاَّ تذرَّعت بها , وساعدها إهمال الحكومة العثمانية نفسها وأغضاؤها عن مساعيها فمكَّنت محبتها من نفوس البلغاريين العثمانيين بما كانت تبديه لهم المدارس وعمَّمتها في قراهم حتى لقد بلغ مجموع المعلمين الذين يبثون روحها بين الأهالي نحواً من أربعة آلاف معلم لخمسين ألف تلميذ بلغاري عثماني. ولم تكتفِ بذلك كلهِ فأوعزت إلى شباب بلغاري نبيه يدعى يوسف تعلَّم في باريس ونال شهادة دكتور في الحقوق بأن ينصرف عن المحاماة وينتظم في(3/404)
سلك الاكليروس. وما زالت ترقّيه بسرعة حتى عيّن اكسرخوساً للبلغاريين فكان موضع ثقة دولته بما أظهره من الكفاءَة والحذق
والدهاء فبثَّ الروح البلغارية في نفوس رعيته ونشّأ الشعب على التعصب لقوميته وعلَّمه أن بلغاريا إنما هي أمه الحقيقية وأما تركيا فعدوَّتهُ اللدودة. ولما تمادت العصابات المكدونية في غيّها وشرورها وقابلها العثمانيون بالمثل , وأصبحت مكدونيا من أقصاها إلى أقصاها مسرحاً تمثّل عليه الفظائع , وتلعب فيه كرات الديناميت , ويتطاير فوقه رصاص البنادق تململت أوروبا في نومها وفتحت عينيها على تلك البلاد , وأصاخت بمسمعها إلى استغاثة البلقان بها فأقدمت حينئذٍ على العمل وسعت حتى أنشأت في سنة 1903 رقابةً أجنبية على إدارة تلك البلاد.(3/405)
الرقابة الأجنبية - تألفت هذه الرقابة في البدء من مفتش عثماني ومندوَبين أحدهما روسي والآخر نمساوي , ومن ضابطين أوروبيين قُصرت مهمتهما على مشارفة الأمن العام إذ رضيَ الباب العالي بانتظامها في الجندرمة المكدونية من أجل هذه الغاية. وكان حسين حلمي باشا الذي وليَ الصدارة في عهد الدستور المندوبَ العثماني في الجنة السالف ذكرها. فلما كانت سنة 1905 رأى المندبون شدة الحاجة إلى توسيع اختصاص الرقابة فتألفت حينئذٍ لجنة خاصة لتنظيم الشؤون المالية. ثم رمَت روسيا والنمسا في أواخر سنة 1907 إلى إنشاء نظام خاص بالقضاء فلم تفلحا. وحدث بعد شهور أن ملك انكلترا وإمبراطور روسيا تلاقيا ملاقاتهما المشهورةة في ريفال واتفقنا على المسئلة المكدونية. فهاج اتفاقهما رأي أحرار الضباط العثمانيين فأرغموا السلطان عبد الحميد على نشر الحكم الدستوري ففعل , وهدأ بال أوروبا والبلقان حيناً من الدهر. وكان إعلان الدستور في تركيا بعد تلاقي الملكين في ريفال بخمسة وأربعين يوماً فقط مؤبداً لقول نيازي بك في خواطره عن الثورة العثمانية: لولا اجتماع ريفال لم يُعلن الدستور العثماني في سنة 1908.
عهد الدستور - وكان في مكدونيا على أثر الثورة العثمانية وفوز الأحرار العثمانيين ما كان في جميع السلطنة فإن الشعب تناسي لأول وهلة أغراضه ومنازعاته حبّاً بالدستور؛ فتصافح المسلم والمسيحي , وتراضي الأرمني والكردي , وتفاهم التركي والعربي. غير أن تلك العواطف الشريفة كانت أشبه بشغلة القش لم تتقد حتى عاجلها الخمود فانطفأت(3/406)
وتحولت إلى رماد ثم تبددت ذراتها في الهواء. وأصاب أوروبا من الدستور ما أصاب العثمانيين أنفسهم منهُ فرضيت بإلغاء الرقابة الأجنبية من مكدونيا مقتنعة بأن العهد الجديد
في تركيا يعوّضها منها خيراً لأن الدستور من شأنه أن يساوي بين الرعية ويهبها الحرّية والعدل. غير أن السياسة العثمانية التي ساسها الاتحاديون لم تُرضِ دوَل البلقان وأسخطت عليها المسيحيين في مكدونيا وهم الأكثرية العظمى هنالك فعادت الحالة إلى شبه ما كانت عليهِ من قبل ورجعت العصابات الثورية إلى أعمالها وشرورها كما كانت أبَّان سلطنة عبد الحميد. وما برحت مكدونيا قلقةً مضطربةً حتى أواخر ستة 1910 فاختلَّ الأمن كثيراً , وعاد البلغاريون إلى أوروبا يستنجدونها ويستحثونها على العمل(3/407)
الصحيح. أما الحكومة العثمانية الاتحادية فلم تكن تعبأ بمساعي هذه الدوَل الصغيرة لأنها كانت تعتقد باستحالة اتفاقهنَّ على العمل معاً. وما كان أشد دهشتها حين رأت بلغاريا تصافح اليونان , واليونان , واليونان السرب , والسرب الجبل الأسود , بعد أن كان اليونانيون أعدى أعداء البلغاريين , والسربيين أنداد الجبليين. فكان انفرادها أمام دوَل أربع متحدة تناوئها وتتطلَّبنَ خذلها وفشلها دافعاً لها إلى الاتفاق مع رومانيا ولكنها لم تنجح لأن بلغاريا أفهمت جارتها أن تقف على الحياد فتنال ما تطمع بنيله بدون أن تسفك نقطة دم أو تبذل قبضةً واحدة من المال. ولما تمَ لهذه الدوَل هذا الأمر اتفقنَ فيما بينهنَّ الاتفاق الذي ولَد الحرب الحاضرة.
الحرب - نكتب هذه السطور والبلغاريون على بضعة عشر كيلومتراً من الآستانة , وأدرنه مطوقة بالجنود ومضيَّق عليها الخناق , ومشدودون في حصارها , والطريق قد خلت لليونانيين فتمشوا إلى سالونيك واحتلوها على أهون سبيل , والعثمانيون واقفون في شطلجه معتصمين بحصونها ومحتمين بقنابل الأسطول على شواطئ البحرين بحر مرمره والبحر الأسود , والوباء يفتك فتكاً ذريعاً بالعسكرين العثماني والبلغاري , والقتلى يُعدُّون كالجرحى بعشرات الألوف , وليس في بلغاريا والسرب(3/408)
والجبل الأسود واليونان غير الشيوخ العجَّز , والنساء الضعيفات والأطفال الرُضَّع , وقد اكتظت قصور الآستانة وجوامعها ومستشفياتها بالمصابين من العساكر , والمنكوبين من الأهالي يشكون الجوع والعري , ويتلمَّسون القوت , ويرُّون من البرد , ويئنون من الأوجاع , وعلى طرُق بلاد الأناضول عشرات الألوف من المساكين نبذتهم بلدانهم , فتشتتوا في القفار لا منازل تؤاويهم , ولا قوت يشبعهم ولا غياث لهم من غير السماء؛ وجرائد العالم تحمل إلينا أنباء هذه الفظائع , وتقص علينا أخبارها المؤلمة حتى لنكاد نسمع بآذاننا دويّ البارود , وأزيز
الرصاص , وصليل السيوف , وأنين الجرحى , وحشرجة النفوس , ونبصر بعيوننا مجاري الدماء , وتراكم الجثث , ونلمس بأيدينا فقر الفقراء , وبؤس البؤساء , فما(3/409)
نجيء على هذا أو بعضه حتى يعرض لنا خبر ينسينا فظائع ما قرأنا من قبل كأن يقف بنا الكاتب أمام عانةٍ من الذئاب تفترس أشلاء القتلى بل قد تصيب جريحاً منسياً فتنشب أنيابها فيهِ وهو لا يجد بعض القوة ليدفعها عنهُ , أو قبالة مئات من الغربان والعقبان والثعالب وبنات آوى يتألبن على الجثث , وينقرنَ الصدور , ويبقرنَ البطون , بل قد يقعنَ أيضاً على الأحياء في النزع الأخير فيمثّلن بهم تمثيلهنَّ بالموتى , ثم ينقل إلينا البرق مختصر الآراء , وملخص السياسة , وموجز الأنباء عن التحام الجيوش وتفانيها في القتال فنكاد لا نعي من الصباح إلى المساء غير أخبار الحرب , وأحاديث الطعن والضرب. تلك هي الحرب اليوم فواهاً لها من صورة للمدنية في القرن العشرين!! وتلك هي عاقبة السياسة التي يسمونها سياسة تنازع البقاء!. قوتل الإنسان ما أكفره!!
عقبى الحرب - قد تنتهي هذه المجازر البشرية عن قريب فإذا ختمت بفشل العثمانيين أضاعت الدولة التركية أملاكها في أوروبا وفقدت بفقدها نحواً من ستة ملايين نفس من رعاياها , وإذا تمَّ لها الفوز أو بعضه قبل أن تضع الحرب أوزارها كانت الخسارة أقلّ والأضرار اللاحقة بها أخف غير أن انتصار الدول البلقانية المتحدة سيؤدي على الأرجح إلى مشكلةٍ كبرى بينهنَّ تكون عقدتها في كيفية اقتسام البلدان المكتسبة لهنَّ. وقد ظهرت بوادر هذه الأشكال من خلال احتلال اليونانيين لسلانيك ومصادرتهم دخول البلغاريين إليها , ومن سياسة السرب مع الألبانيين(3/410)
وإصرارها على امتلاك ميناء على بحر الأدرياتيك ومقاومة النمسا لها , ومن إلحاح رومانيا بتوسيع منطقتها في أملاك بلغاريا حتى ثغر فارنه على البحر الأسود أيضاً جزاء وقوفها على الحياد ورغبة هذه في التنازل لها عن بعض أجزائها من الجهة الأخرى فقط وهلمَّ جرّاً , أما الأيام فستكشف ما انطوى وإن غداً لناظره قريب.
جمال الدين الأفغاني
في نظر الدكتور شبلي شميّل
يشتغل الدكتور شميل في هذه الأثناء بوضع كتاب كبير عنوانه حوادث وخواطر أو هو مجموعة مذكراته كما بدل عليه الاسم. وقد اقتطعنا منه الفصل التالي جمال الدين الأفغاني الشهير. قال عفا الله عنه:
. . . أما جمال الدين فكان من نوابغ عصره عالماً واسع الإطلاع في علوم الأقدمين وفلسفتهم ذا ذكاءٍ مفرط وأدب رائع مع شجاعة في القول لا تصدر إلاَّ عن نفوس مستقلَّة كريمة وكان ذا حديث طلي شهي لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية في التزام القواعد واختيار الألفاظ ولكنها ممزوجة ببعض لكنةٍ أعجمية تنمُّ عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوباً. ونظره كان جذاباً وله عينان إلى السواد غائرتان قليلاً تتقدان ذكاءٍ. وهو لم يكن يعرف لغةً من لغات الإفرنج الحافلة بالأفكار الجديدة والعلوم الحديثة ولكنهُ كان مقدرة عجيبة في التحصيل(3/411)
حتى أنهُ ليستفيد منك الشيء الجديد ويصبهُ في قالب المعلوم المختمر فيه ويوهمك أنهُ معروفٌ له منذ زمان طويل. وجمال الدين لم يكتب في ما أعلم شيئاً وإنما كان يلقي على آخرين مقالات ضافية تنشر في جريدة مصر تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده يده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم إذ كانت كل تعاليمه حديثاً يلقيه بحسب مقتضى الحال. فهو فيلسوف من الفلاسفة المشائين أو بالجري الرواقيين ورواقه كان رواق القهوة التي بجنب قهوة البورصة القديمة المتقدم ذكرها. ولعلَّ تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام إن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان. وقبل جريدة مصر كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه وأما جريدة مصر فكانت سبباً كبيراً لإذاعة صيته ونشره في الآفاق. ولما عرَّفت أديب بجمال الدين كانت معرفتي بهذا الأخير حديثة العهد. فقد كنتُ أسمع بهِ وأنا في الإسكندرية فلما أتيتُ إلى مصر وددتُ أن أتعرَّف بهِ. وكان يتردد كثيراً على بيت حنا عيد قنصل دولة البلجيك. فلما أبديت رغبتي هذه لعيد المذكور ضرب لي موعداً للاجتماع به عنده في إحدى السهرات. ولما تعارفنا أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث إلى أن ابتدرتهُ بالسؤال الآتي ولم يكن سبق لي كتابة أو تصريح في
هذا الموضوع بعد. قلت: ما قول سيدي الشيخ لفظة الأستاذ(3/412)
لم تكن قد جرت بعد على الألسنة كما هي اليوم في المعبود الأول الذي اتخذه الإنسان من بين أشياء هذا الوجود؟. وكأني لحظتُ أنه أُخذ بهذا السؤال عى غرَّة كأنه لم يخطر له ببال من قبل. فتقلقل قليلاً كأنه يريد أن يتمكن في مجلسه ولم يطل به ذلك حتى دخل في مقدمة مستفيضة أغنتهُ ومتله الصمت طويلاً وأعانتهُ على تصوير الحكم بما فسحت له من الوقت ومتله لم يكن يلزم له أكثر من ذلك لما له من سرعة الخاطر وحدَّة الذهن. ولا أذكر شيئاً من هذه المقدمة وإنما أذكر أنه(3/413)
انتهى بها القول إن المعبود الأول للإنسان الأول كان يقتضي أن يكون في ثنايا الغيوم المتلبدة أو هي نفسها أما أنا فلم أكن من رأيه وكأني نظرت إلى الإنسان نظراً أعرق في الحيوانية. فاعتبرتُ الإنسان الأول لاصقاً بأرضه يتخبط في ما أمامهُ متخوفاً من كل شيء إذ كان يجهل كل شيء فاتخذ معبودة الأول من أشيائها ولم يرتفع بصره إلى ما فوق إلاَّ بعد ذلك بكثير. واعتبرت حينئذ العبادة الفتيشية أول عبادات الإنسان وجعلتها في الغابات الكثيفة ذات الشأن في الميثولوجية القديمة وفي الأشجار الكبيرة المنفردة القائمة في العراء يُستظلُّ بها من الرمضاء كما تدل عليهِ بقايا ذلك فيهِ حتى اليوم. وهذا الحكم لم يقم بي اعتباطاً من دون تفكير سابق بل قام في نفسي على أثر زيارتي لمدينة بعلبك في سنة 1870 حين رجوعي من أنطاكية وكنت قد أرسلتُ إليها في بعثة من قبل المدرسة الكلية حين كنتُ أدرس الطب لإغاثة منكوبيها في الزلزال الذي نكبت بهِ تلك المدينة في تلك السنة. وكان رفيقي في هذا السفر ذهاباً وإياباً أدورد فاندَيْك المعروف عند المصريين ابن الشهير كرنيليوس فاندَيْك صاحب الفضل الأكبر على سورية وسائر الأقطار العربية في نهضتها العلمية الحديثة. فلما وصلنا بعلبك بعد سفر أربعة عشر يوماً في مروج خصيبة يتعالى فيها الحشيش الطبيعي إلى إقامة الإنسان ولكن يد حكامها الطغاة أقحلتها وتركتها قفراء من السكان لم نشأ أن تقيم في المدينة وفضَّلنا أن نبيت ليلتنا في قلعة بعلبك نفسها وكان القمر بدراً والسماء صافية فبين الآثار الكثيرة(3/414)
المتهدمة توجد أعمدة من الغرانيت ذات علوٍّ شاهق لا تزال قائمة صقّاً واحداً في ساحة منبسطة. فلما وقفتُ أمامها في ضوء القمر الصافي وفي وسط ذلك السكون الرهيب والشباب غضٌّ والعواطف شديدة التأثر شعرتُ في نفسي بتهيب من منظرها الفخم لا يزال أثره بي حتى اليوم كدت أجثو منهُ على ركبتيَّ من
شدة الخشوع. فكأن هذا الشعور بي كان لي موضوعاً للتفكير بعد ذلك في أمر العبادات وإن منشأها في الإنسان إما تهيب عن إعجاب أو خوف عن ضعف. وأحرِ بالإنسان الأول اللاصق بأرضه أن يكون معبوده الأول منها على نحو ما تقدَّم. قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقيين أي أنهُ كان ينشر(3/415)
تعاليمه في طي المحادثات الاعتيادية ولكنها كانت محادثات خلاَّبة في لذَّة المعنى وحسن الانسجام ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلاَّ مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوَّه أيضاً وكان ذلك بمسعى أديب إسحاق وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنىً وجرأةً وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليهِ أدنى تعب أو يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء. وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا!. ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالةً باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دُهشت لعلمي بأن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئة النظرية وفلسفته المجرَّدة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فلم يكن يستطيع إلاَّ أن يكون من الشكوكيين أمثال المعرّي وأمثال فولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادثٌ أو قديم فيكونون تارةً من الإلهيين وطوراً من اللاأرديين لعدم تمكنهم من ضابط علميّ محسوس يضبط أحكامهم ويقوّي حجتهم في تردُّدهم اللهم إلاَّ أن يكونوا من الحصافيين النفعيين الذين يكونون في(3/416)
اعتقادهم على هوى جليسهم تارةً أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حين قال: إن الآراء ثلاثة أقسام: رأي يشاركه فيهِ الجمهور فيما هم عليه. ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد. ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع إلاَّ من هو شريكه في اعتقادهم اهـ ويصعب عليَّ جداً بعد اختياري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد دلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من المؤمنين.
الدكتور شميل(3/417)
نشيد نهر الصفا
عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها أكثر الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان؛ وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيطها وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفّق عند قدم الجبل , وعلى بعد أمتار قليلة منهُ يركض نهر القاعة. كلٌّ من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظلُّ النهران في اندفاع وشكوى , وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تائم مياههما مياه البحر العظيم في الصيف المنصرم زرت عين زحلتا لأول مرة.
هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير؛
هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير؛ هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية , وتحولت الورود إلى أشعة سحرية؛
هنا اغتسل قوس القزح , فترك في الماء من ألوانه ألحاناً فضية؛
ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية؛
هنا بعث الأفق بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية؛
هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه , فامتزج النور بالظلام وتلاشت اليقظة بالمنام؛
هنا ناحت حمائم الشعر , وغنَّت أطيار الأنغام؛(3/418)
هنا لثمات النسيم شوقٌ وهيام؛
ومداعبة الموجة تبادلُ نظرةٍ وابتسام؛ وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام؛
هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مُقل الكواكب وسلام؛
وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإِلهام؛
هنا ليلةُ أنوارٍ وفجرُ ظلام. وألغاز ملامسٍ وألوان وأنغام؛
حينما يمرُّ الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية , يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من جماهير الآمال النضرة كالأزهار , والأميال المتنقلة كالأطيار. ثم يأتي الغروب ساكباً في أعماقها كلَّ ما في أحزانه من المرارة مع ما يرافقها من النظرات المتحوّلة والابتسامات المتغيبة والجباه الكئيبة والشفاه المتحركة بالصلوات , الساكنة بالتأملات.
هنا عيدان الأشجان تبكي - تبكي بقلبٍ جريح. وفي كلّ لحظةٍ يخيل أنها تُسَلِّم نَفَسَها الأخير بشهيقٍ فيهِ من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيهِ من المجد والعظمة , من البسالة وعزة النفس الأبية. لكنّ المياه لا تموت ولا تحيا , بل تردد ذكرى الماضي , وتهمس خفية نبؤتها في المستقبل , وتُرادف أصوات الأفراح وتُعدد آهات الانراح.
هنا لغزٌ من ألغاز الحياة وليلة من ليالي الزمان. وأنا لغز أمام هذا اللغز , وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدةً على الشاطئ الحزين , أنظر ولا أرى , أسمعُ ولا أفهم , أفكّر ولا أجد , أستعلم ولا أعلم. . .(3/419)
فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي , ونفسي قيثارة الأحلام والألحان. لكني لغزٌ حيٌّ تائه في ظلّ الغصون , ينظر مستفسراً إلى لغز آخر , فلا يجد فيهِ إلاَّ صورته , فيودّ تمزيقها وسحقها وإن أحبها!
عند احتضار النهار ذهبتُ إلى رأس النبع وجلست على صخرةٍ قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تستنشق الأريج العطري المعانق لشعور بنات المياه. وآلهة الأهوية الأربعة يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام , وحول أشباحهم تلتفّ أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين , وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم , بينا أبكار الشعر تسرّ لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر , وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد باخوس خمراً تسكر بهِ ألباب الآلهة , ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء. على هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملةً بما شرَبتهُ مشاعري من رحيق الخيال العلوي , كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون من بعده ومن قبلي جلسوا هنا وفؤاد كلٍّ منهم منقبض تهيباً وخشوعاً أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود. ما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم لأن الأفكار تتشابه في المصدر وفي النتيجة على رغم تعدّد شُعبها وفروعها , والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي في كل آن ومكان. جميعنا طرح على النهر السؤال الذي انثر تموجاته الآن على الأمواج(3/420)
المتراكضة: هو سرّ الأسرار الغاضة الذي يردّده صدى الهياكل العميقة التي تشيدها المدارك في أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟؟
من أين تأتين أيتها المياه وإلى أين تذهبين؟
من أين أتينا وإلى أين نذهب؟. . .
المياه تتدفق في أثر المياه مهللةً مكبرة؛ وقد أفاضت أصواتها في الغناء والنحيب , ودمدمت العناصر فيها أسرار الوارد الإلهي , ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود. . .
من أين وإلى أين. . .؟
ثقل دماغي بأفكار لا أدركها , وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها فنزعت عن ساعدي ساعة وُضعت في أسورة ذهبية ونظرت إليها قائلة: - أيتها الساعة! أنتِ رمز الوقت الجاري في نهر الزمان فيسير قاصداً بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه. . . عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثراً لرموز معنوية. ثم جمعت بعض الحصى الجميلة الكثيرة الألوان الراكدة في أعماق النهر , قائلة: أيتها الجواهر! سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا. . . أنتِ ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهر ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صوَر الهيئات السماوية.
فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من أين وإلى أين؟(3/421)
أنهرَ الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معاً.
قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوت في جوانب مخيلتي أصوات المدافع , وتمثلت لناظري صوَر الحرب المريعة. ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه. وضجرت نفسي من معانيها السطحية - إن لم تكن خبيثة. عجبت من بلاهة الإنسان ومن ركاكة أمياله وفتور همته. إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته لأن فيهِ جمالاً وعذوبةً وسلاماً. لقد أحرقت قدميَّ الرمال الحارة , ومزَّقت يدي أشواك الحياة , فجئت إليك لاستخلص من أعشابك بلسمّاً لجروحي. تعلَّقَ بأهدابي غبارُ المادة محاولاً إخفاء الجمال المعنوي عن عينيَّ , فأتيت لأغسل أهدابي بمياهك المقدسة.
جئت لأرطب يديَّ وعينيَّ برضا بك العذب
ثقل فؤادي عليَّ , فأسرعتُ لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك إليهِ من عمق أعماق زرقتهِ البعيدة
أنت ابن الغيوم , وألعوبة الحرارة الهوائية , وضحكة المادة الدائمة , وقهقهة الجوّ بين
الهضاب والأدوية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة
أنت جميل كأسرار الجنان. عذب كنظرات الولهان
وفي اسمك ألوان وألحان(3/422)
أنت تهلمم بي , أيها النهر , فخذني معك بعيداً عن الحياة وضوضائها خذني معك. . . لكن , ما هي نسبتي إليك؟
أنت مجموع سوائل لا وجدان لها , ولا قلب يخفق بين أجزائها.
وأنا. . . أنا شئءٌ آخر. أنت لغز بين البحار والآفاق , وأنا لغز بين الحياة واللانهاية. أنا أعرف إني لا أفهمك , وأشعر بجهل الإنسان وشقائهِ , أما أنت. . . مالنا ولك؟
سيري , أيتها المياه , سيري واتركيني. أسقي النباتات والأعشاب , ضعي لآلئ في أفمام الورود , رطّبي صدر الأرض الملتهب , ترنمي في وحدة الوادي , اسردي حكايتك التي لا تنتهي , اندبي , هللي , اصرخي , اهمسي , انشدي , أنحبي , اطربي , احزني. كل هذا ننسبه إليكِ نحن أبناء الطرب والكآبة
سيري , أيتها المياه , ودعيني ابكي. لقد تلبَّد جوّ فكري بالغيوم القاتمة. وقلبي - ما لكِ ولهُ! - منفرد حزين. . . .
مي
الشكوكيُّون
ليس شيء من أمور الدنيا إلاّ وهو معرَّض للشك حتى قال بعض الفلاسفة: إن كل شيء يقبل الشك حتى قولي هذا: إن كل شيء يقبل الشك ومن بين الفلاسفة طائفة يعرفون بأهل الشكوك يشكون في كل شيء حتى في وجود ذواتهم
محمد المويلمي(3/423)
الرتب والنياشين
ذكرنا في الجزء الماضي شيئاً عن الرتب والنياشين وتاريخها عند القدماء ورأينا تكلمةً للبحث إيراد نبذة مستقلة عن الرتب والنياشين في الدولة العثمانية لأنها تهم القراء أكثر من سواها. وقد كتب هذه النبذة خصيصاً للزهور حضرة الكاتب الفاضل حقي بك العظم. قال:
تقسم الرتب في الدولة العثمانية إلى ثلاثة أقسام: عسكرية وملكية وعلمية.
الرتب العسكرية - وضعت الرتب العسكرية الحالية في أواخر زمن السلطان سليم الثالث المشهور بميله إلى الإصلاح والتمدن الغربي الحديث , وقد كان بدأ قبل كل شيء بالإصلاح العسكري , ولكن الظروف لم تساعده , وحال دون إتمام مقاصده جهل الأهالي وسوء نية زعماء الجيش الانكشاري , فذهب شهيد التعصب. وقد أتم خلفهُ السلطان محمود مشروعهُ العسكري ونظم الجيش العثماني على الطراز الأوربي وأشأ معظم الرتب العسكرية الحالية وإليك بيانها بالترتيب:
الرتبة يقابلها عند الإفرنج لقب صاحبها راتبه الشهري
مشير دولتلو أفندي حضرتلري إذا كان قائداً 150ليرة في الاستيداع 75 ليرة
فريق سعادتلو أفندم راتبه الشهري 60 ليرة
ميرلوا عزتلو أفندم راتبه الشهري 30 ليرة
ميرالاي عزتلو أفندم راتبه الشهري 20 ليرة
قائمقام عزتلو بك راتبه الشهري 10 ليرة(3/424)
بكباشي ومعناها رأس الألف رفعتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 12 ليرة
يوزباشي ومعناها رأس المائة فتوّ تلو بك أو أفندي راتبه الشهري 8 ليرة
ملازم أول حمّيتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 5 ليرة
ملازم ثاني حمّيتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 4 ليرة
ولكل من أصحاب هذه الرتب العسكرية ما يكفيه ويكفي عائلته من المؤن والذخائر مثل الخبز والسمن واللحم والفحم والسكر والشعير والتبن وما أشبه يأخذها كل شهر وذلك حسب رتبته فللملازم الثاني مثلاً أربعة أرغفة خبز في اليوم ومقدار من اللحم في الشهر وثلاث أقات سمن ويزيد ذلك كلما ترتقي الرتبة. وهناك غير هذه الرتب العسكرية الحربية رتبةٌ أخرى في الجيش خارجة عن الصفوف الحربية مثل رتبة أمين الاى تقابل البكباشي ورتبة
كاتب الطابور تقابل اليوزباشي ومعاون كاتب الطابور يقابل الملازم الأول. وينقطع أصحابها للأعمال الكتابية والحسابية فقط. ومفتي الاى يقابل البكباشي , وإمام طابور يقابل اليوزباشي , وكلاهما يقوم بالطقوس والشعائر الدينية في الأورط والالايات.
الرتب الملكية: وضعت هذه الرتب في أواخر حكم السلطان محمود بعد إبادة الانكشارية. وقد كانت وقتذاك عزيزة لصعوبة نيلها حتى كان يشار بالبنان إلى من ينال الرتبة الخامسة , وهي أصغر رتبة ملكية كما هو معلوم واستمر الحال على هذا المنوال إلى زمن السلطان الخليع. وتقسم(3/425)
هذه الرتب إلى قسمين. قلمية وسيفية. فالقلمية خصت بمكافأة عمال الدولة والسيفية خصت بمكافأة الولايات وإشرافها. وهذا بيان الرتب الملكية وألقاب أصحابها مع ما يقابلها من الرتب العسكرية:
العلمية منها السيفية منها ألقاب أصحابها في الكتابة ما يقابلها من الرتب العسكرية
وزير. . . دولتلو أفندم حضر تلري مشير وصاحب الوزارة مقدم عليه
بالا. . . عطوفتلو أفندم حضر تلري فريق أول
أولى صنف أول روم ابلى بكلر بكى سعادتلو أفندم حضر تلري فريق
أولى صنف ثان ميرميران سعادتلو أفندم حضر تلري مير لواء
متمايز متمايز عزتلو أفندم ميرالاي
ثانية ثانية عزتلو بك أو أفندم قائمقام
ثالثة ثالثة رفعتلو بك أو أفندي أة آغا بيكباشي
رابعة رابعة فتوّتلو بك أو أفندي أو آغا يوزباشي
خامسة خامسة حميّتلو بك اة أفندي أو آغا ملازم أول
ويوجد رتب أخرى من نوع الرتب السيفية هي: رتبة أمير الأمراء ورتبة مدير الاصطبل العامر , يقابلهما من الرتب القلمية الرتبة الثانية ويلقب صاحب الأولى منهما بلقب باشا ويكتب إليه عزتلو باشا ورتبة قبوجي باشى الركاب السلطاني , تقابلها الرتبة الثالثة. وهذه الرتب خاصة برؤساء القبائل والأميين من أشراف البلاد لاسيما القاضية منها. وقد كانت الدولة تراعي هذا الترتيب , فلا تنعم مثلاً بالا على أحد أشراف الولايات مهما كان مقامه عظيماً بل تخصهُ برتبة روم ايلي بكلربكي(3/426)
أو ميرميران أو أمير الأمراء إذا شاءت أن
تكافئه. واستمرَّت هذه القاعدة معمولاً بها إلى أوائل حكم السلطان الخليع حيث أخذ رجاله يبيعون الرتب بيع السلع دون الالتفات إلى التقاليد المتبعة في منحها. والرتب الملكية , قلمية كانت أو سيفية , لا تعطي أصحابها لقب بك ماعدا رتب روم ايلي بكلركي وميرميران وأمير الأمراء فإن أصحابها يلقبون بلقب باشا كما مرّ ذكره لذلك تجد كثيراً من أصحاب رتبة بالا - وهي أعلى رتبة بعد رتبة الوزارة - يلقبون بلقب أفندي أما لقب بك فإنه خاص أولاً بأولاد الأسَر والعائلات الكبيرة في الولايات من أصحاب الزعامات والمقاطعات الممنوحة لهم من قبل الدولة في الأزمنة السابقة , ثانياً بأولاد الباشوات فقط. وقد وقعت هذه التقاليد في فوضى عظيمة في عهد السلطان عبد الحميد حتى أصبح الإنسان يرى ابن الفراش والخادم والفقير في الآستانة يلقب بك.
الرتب العلمية - لا تمنح هذه الرتب إلا للعلماءِ الدينيين من المسلمين ورجال باب المشيخة في الآستانة والقضاة الشرعيين في الولايات. ولبعض هذه الرتب , خصوصاً الكبيرة منها , رواتب قليلة تسمى آريه لق أي ثمن شعير لخيل تاريخه إلى مئات من السنين , وهذا بيانها وبيان ألقابها مع ما يقابلها من الرتب الملكية:
الرتب العلمية ألقاب أصحابها في الكتابة ما يقابلها من الملكية
قاضي عسكر روم ايلي سماحتلو أفندم حضرتلري وزير(3/427)
قاضي عسكر أناضول سماحتلو أفندم حضرتلري وهي بين الوزارة وبالا
قاضي استانبول فضيلتلو افندم حضرتلري أولى من الصنف الأول
مولوية الحرمين الشريفين فضيلتلو افندم حضرتلري أولى من الصنف الثاني
مولوية البلاد الخمسة فضيلتلو بك أو افندي متمايز
مولوية المخرج فضيلتلو بك أو افندي ثانية
رتبة كبار مدرسين مكرمتلو بك أو أفندي ثالثة
رتبة موصلة سليمانية مكرمتلو بك أو أفندي وهي بين الثالثة والرابعة
ثم هناك رتبة تسمى رؤوس استانبول ليس لصاحبها لقب تقابلها الرتبة الرابعة. وأمات القضاة الشرعيون غير الحائزين على رتبة فيكتب إليهم مودَّتلو بك أو أفندي ويكتب للصدر الأعظم فخامتلو دولتو أفندم حضرتلري ولمعزول الصدارة دولتلوا بهتلو أفندم حضرتلرى
ولشيخ الإسلام دولتلو سماحتلو أفندم حضرتلرى ولمعزومه دولتلو فضيلتلو أفندم حضرتلرى وللأصهار السلطانية عطوفتلو أفندم حضرتلري وللسردار دولتلو عنايتلو أفندم حضرتلري ولآغا القصر السلطاني دولتلو عنايتلو أفندم حضرتلرى وللبطاركة رتبتلو أفندم حضرتلرى وللملوك الأجانب حشمتلو وللسفراءِ الأجانب اصالتلو أفندم حضرتلرى
النياشين - أقدم نشان في الدولة العثمانية نشان الافتخار , وليس له إلاَّ درجة مرصعة بالحجارة الكريمة وقد أنشأه السلطان محمود(3/428)
الثاني , ثم أهمل أمره إلى أواخر زمن السلطان عبد الحميد الخليع الذي أحياه وصار ينعم به على العظماء من الأجانب فقط. وهذه بقية النياشين العثمانية قِدَمها مع أسماء السلاطين الذين أنشأوها
النشان اسم السلطان عدد درجاته ملاحظات
الافتخار السلطان محمود الثاني 1 مرصع فقط
المجيدي السلطان عبد المجيد 5 وله درجة مرصعة بالأحجار الكريمة
العثماني السلطان عبد العزيز 4 وله درجة مرصعة بالأحجار الكريمة
الشفقة خاص بالسيدات السلطان عبد الحميد الثاني 2 وكلاهما مرصع بالأحجار الكريمة
امتياز السلطان عبد الحميد الثاني 1 مرصع وله نمطان الواحد ذهبي والآخر فضي
خاندان آل عثمان السلطان عبد الحميد الثاني 1 مرصع بالأحجار الكريمة
الأسرة المالكة أرطغرل السلطان عبد الحميد الثاني مرصع بالأحجار الكريمة
ثم هناك مداليات أنواط مثل مدالية التخليص تمنح لكل من ينجي حياة شخص من الغرق في البحر أو من حريق وما أشبه ومداليات الزراعة والافتخار أنشأها جميعها السلطان عبد الحميد الثاني. هذا غير أنواط حربية وقتية قديمة أسست عقب الحروب الماضية كحرب الروس واليونان وكريد واليمن وغيرها منحت لكل من حضرها من الجند والضباط والقواد.
حقي العظم(3/429)
في رياض الشعر
ردّوا على الأوطان عزَّا خلا
يحيي بك علمي شاب خبرة الفتية العثمانية المصرية جامع إلى شرف المحتد علوّ الهمة , وإلى الذكاء النادر براعة وافتناناً في ضروب الأدب والموسيقى. رزق في هذه الأيام غلاماً سماه مصطفى. وقد فرح أصدقاء هذا الفاضل بما أتمه الله عليه من نعمة الخلف ورأى صديقه خليل أفندي مطران أن يتحفه لهذا المناسبة بقصيدة فيها التهنئة وفيها العظة. فيها وصف بعض الحالات التي يكون عليها الأطفال وفيها ما هو جار من الأمور العتيدة التي أفضت بالشرق إلى هذا الانحطاط وإشارة إلى المستقبل وما يرجى منه على أيدي رجال الغد. ولقد وفق الشاعر إلى كل ما قصد وأخرج للناس ضرباً جديداً من الشعر فيه تفكهه ودرس مفيد قال:
يا سبط يحيي وسليلَ العلي ... حيّي الرضي طالعك المجتَلي
وسلّم الله الوليدَ الذي ... هلَّ فما أبهى وما أجملا
كأنَّ ذوب العاجِ صلصاله ... وأنَّ معنى الحبّ ما مثّلا
ناهيك بالعينين من قوّتيْ ... ذهن ومن نورَيْ حجيً أرسلا
كحسنهِ الحسن إذا ما غفا ... وذيدت الأعينُ إن تغفلا
محركاً في نومهِ ثغرَهُ ... كأن في الرؤيا رضاعاً حلا
لا الحلل الغراء من همهِ ... ولا يبالي باهراتِ الحلي
جذلانُ من نشوة أحلامهِ ... وأين منها نشواتُ الطلي
تراه قرباً وكأنَّ الكرى ... يحمله فوق السُهى محملا
كطائر يظهر تحليقهُ ... بمظهرِ الترجيح مما علا
فإن صحا فالدهر عبدٌ لهُ ... يرضيهِ مطواعاً وإلاّ فلا
وكل حميّ فمنوطٌ بأن ... يفهم ما يهوى وإن يفعلا
سيان في اللطف وفي الظرف ما ... أساء من أمرٍ وما أجملا(3/430)
له ولا للناس علمُ الذي ... يرى ويستحسن أن يُعملا
وحولهُ الحولُ فإن يفتننْ ... فسحره السحر ولن يُبطلا
أنلهُ ما شئت فكيف اشتهى ... تحويلهُ من فورهِ حُوّلا
فليكن المفتاح ثدياً جرى ... بالكوثر العذب كما أمّلا
ولتكن الساعة جنّيّةً ... تدير في داخلها مقولا
ولتكن الأكتافُ أفراسهُ ... لكنَّ شرط الأنس أن تصهلا
وليكن الكرسيُّ أن حثّهُ ... قطارة ينساق مستعجلا
وكل ما شكّله فليكن ... مهما عصى الطبعَ كما شكّلا
يا ولداهُ أسعدْ وعش واغتنم ... من السرورِ المغنمَ الأجزلا
لكنَّ دهراً جئتَ فيهِ أبى ... عليكَ أن تركب مستسهلا
أدبرَ بالشرق ولا يبتغي ... إلاّ بأمثالك أن يُقبلا
اليوم لا تعقلُ لكن غداً ... تكون ممن سلفوا أَعقلا
ما اليوم ما القابل؟ هذا مضى ... بنا ولم نشعر وهذا تلا
اسمع شكاتي فهي إن لم تفد ... حالاً ففيها النفع مستقبلا
كان لنا مجدٌ نزلنا بهِ ... من السماوات العُلى منزلا
وكان لا ينكر منا إذا ... قلنا غداة الفخر نحن الأولى
وكان منّا كلُّ ذي مرّةٍ ... إن صال كسر الجحفلا
وكان منا كل ذي فطنةٍ ... يكاشف الوحيَ ويهدي الملا
وكان منا كلُّ حامي حمىً ... لا تطرقُ العصمُ لهُ معقلا
وكان مُلك الأرض ملكاً لنا ... وحكمنا في الأمم الفيَصلا
لكنّهُ عزٌّ مضى وانقضى ... بذنب مَن خانَ ومن أهملا(3/431)
تراكمت أغلاطُنا آخذاً ... بعضٌ ببعضِ فانتهينا إلى. . .
ولا اسمّي منتهانا فقد ... يُؤثر بعضُ الشيء أن يُغفلا
واحربا بتنا وما شأننا ... إلاّ اعتذارٌ يُشمت العُذّلا
وما تبقّي غيرُ أبنائنا ... تعزيةً للنفس أو مأملا
عساهم أن يُصلحوا بعدنا ... ما أفسد الظلاّمُ منا. . . ألا. . .
أي نجلَ يحيي عهدكم ... ردّوا على الأوطان عزّاً خلا
إنا نرجيّ جيلكم كلّهُ ... إن يَترَ المجدَ ولا يخملا
فمن دعا يومئذ واجدٌ ... فينا عديد الخير مستكملا
الراجلَ الجلدَ الذي لا يهي ... عزم له والفارسَ الأبسلا
والعالمَ المثمرُ تعليمهُ ... أجملَ ما علّم أو فصّلا
والوالدَ البرّ بأبنائهِ ... يرخص في تأديبهم ما غلا
والحرّة الهيفاَء لا تنثني ... عن عوج الأغراس أو تعدِلا
والصانعَ البارعَ في صنعهِ ... يتقن مفتنّاً ومسترسلا
والزارعَ الحاذقَ في شأنهِ ... يعافُ أن يجمدَ أو يكسلا
بمثل هذا الجمع من ولْدِهِ ... تشفي جراح الوطن المبتلي
أي نجل يحيي كنْ إذا حقّقوا ... آمالَنا ندَبُهم المفِضَلا
بالعلم والحزم اعتضدْ واعتددْ ... لتغدوَ الأرشدَ والأمثلا
إنا معدُّوكَ ليومٍ بهِ ... تكونُ ذاك السيّدَ الموئِلا
في ذلك العهد وقد صرت في ... أترابك الأمكنَ والأرجلا
تذكّر الطفلَ الذي كنتهُ ... وحاشِ ذاك الخُلق أن يُبدلا(3/432)
إذ كنتَ في مهدكَ لا تتقي ... لو أنَّ طوداً راسخاً زُلزلا
ولا تراعي طاغياً قادراً ... ولا تحابي بَطلاً مُبطلا
ولا تني بالسؤل حتى ترى ... محققاً ما عزَّ إن يسألا
وتجهل الإثمَ بأنواعه ... كما ترى العفةُ إن تجهلا
عظائم الدنيا تحبّ الفتى ... في أكثر الأخلاق مستطفلا
تلك مُنايا يا بنينا فإن ... تمَّت محوتم ذنبَنا المخجلا
هيّا أعيدوا المجد فينا إلى ... ما كان من سيرتهِ أوَّلا
خليل مطران
غانية فقيرة
شكتْ فقرها فبكتْ لؤلؤءًا ... تساقط من جفنها فانتثر
فقلتُ مشيراً إلى دمعِها ... أفقرٌ وعندكِ هذي الدُرَرْ
بشارة الخوري
قساوة التشفّي
رأيتهُ يستخرجُ الشَّوك من ... كفّين كالبلُّورِ والآسِ
فقلتُ في نفسي له شامتاً ... ذُقْ بعض ما تفعلُ بالناسِ
نجيب شاهين
حظي كشَعري
بُليتُ بحظٍ مثلَ شَعريَ لو حوَى ... دُجاه الدُّجى لمَ يبدُ في أفْقهِ فجرُ
وأعجبُ مِن صبري عليهِ سلامتي ... فقُبّحَ حظّي والسلامةُ والصبرُ
أمين(3/433)
أزهار وأشواك
توارد الخواطر
توارد الخواطر أمرٌ معروفٌ بين الناس عامةً , وكلٌّ يروي من هذا القبيل الشيء الكثير مما حدث له شخصياً أو اتصل بهِ عن الغير. على أن توارد الخواطر بين الأدباء كثيراً ما جاء بصورة مدهشة غريبة , فتقرأ الشطرة الواحدة من الشعر , أو الفقرة الواحدة من النثر , لشاعرين أو لكاتبين مختلفين , حتى لتكاد تتصوَّر الواحد قد اقتبس قول الآخر مع أنه لم يتفق له الإطلاع على شيء منهُ؛ وتاريخ آداب العرب حافل بمثل هذه النوادر. وإلى القراء حادثة من هذا القبيل جرت في مصر , واتصل خبرها بحاصد الزهور وهو ينقلها تفكهة للقراء: وضع أحد الأدباء كتاباً عنوانه العرب وأطوارها وأحبَّ أ، يهديه إلى العالم العربي أحمد زكي باشا , فسأل الأديب محمود أفندي عماد أن يصوغ له كلمة الإهداء في بيتين من الشعر , وطلب مثل هذا الطلب أيضاً من شاعر الأمير شوقي بك. فجاءه من الأول هذا البيتان:
إيهٍ ذكيَّ النفس تحيا نسبةٌ ... تنمي إليك ويستحيلُ سرارها
وكذا أرددتُ لما عرضتُ فهذهِ ... عربُ النجادِ وهذه أطوارها
ونظم له الثاني البيتين الآتيين:
أذكيُّ يا ربَّ الفضائل والنهى ... وأجلَّ من يُعزَى إليهِ فخارُها
إن شئتَ تعجبُ بالرجال فهذه ... عربُ النجادِ وهذه أطوارها(3/434)
فيرى القارئ كيف أنفق الشاعران في الشطر الأخير حتى في اللفظ فجاء واحداً عند كليهما.
ولقد ذكرتكِ
نهر الصفا وصفته مي في هذا الجزء بشعر منثور , ووصفه من قبلها في أحد أجزاء السنة الأولى من الزهور الأمير نسيب أرسلان بشعر منظوم قال في مطلعه:
يا صاحبيَّ قفا على نهر الصفا ... نهر لدينا بات أشهر من قفا
وقد وقف عليه في الصيف الماضي أديب مصري لا أعرف من هو , وأديب لبناني هو رشيد بك نخله الشاعر الذي يعرفه قرَّاء الزهور أنقل محضر تلك الوقفة عن جريدة الشعب
اللبنانية فقد جاء للرشيد فيها قوله:. . . فتناشدَنا الأديب المصري وتناشدناهُ من قديم الشعر وحديثه إلى أن أنشد:
ولقد ذكرتك والرماحُ نواهلٌ ... مني وبيض الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها ... لمعتْ كبارقِ ثغركِ المبتسم
فقلنا رحم الله فارس بني عبس إن صحَّت النسبة أوَ تذكر ما يقول الرشيقُ على خد ذلك:
ولقد ذكرتكِ في السفينة والردى ... متوقَّعٌ بتلاطمِ الأمواج
وعلتْ لأصحاب السفينةِ ضجةٌ ... وأنا وذكركِ في ألذِّ تناجي
فقال واذكر للظفراوي قوله:
إني لأذكركم وقد بلغ الظما ... مني فأشرق بالزلال الباردِ(3/435)
وأقولُ ليتَ أحبتي عانيتهم ... قبل الممات ولو بيومٍ واحدِ
ولا أنسى ما يقول أبو الحسن الوزير:
ذكرتُ سُليمى وحرُّ الوغى=بقلبيَ ساعةَ فارقتها
وشاكل سمرُّ القنا قدَّها ... وقد ملنَ نجوي فعاقتها
قلتُ حسن ولكنك تبدَّلت الوزن وغيَّرت المطلع. فقال إذاً اسمع للحلّي:
ولقد ذكرنكِ والعجاجُ كأنهُ ... مطلُ الغنيّ وسوءُ عيش المعسرِ
فظننتُ أني في صباحٍ مسفرِ ... من ضوء وجهك أو سناءِ مقمرِ
قلتُ جيّد وأطرقتُ بقدر ما تقرأ وقلت:
ولقد ذكرتكٍ عند آخر نظرة ... مني لقومي والحِمامُ مهدّدي
فبكى الجميعُ وكنتُ أبسم بينهم ... أملاً بأنكِ حولَ نعشي في الغدِ
فارتجف المصري وتدارك دمعتين جالتا في حدقتيهِ وقال: بربك البيتين فأعدتهما له فاستظهرهما قائلاً: سأردّدهما مدى العمر. قلت: ولو انفق لي حضور ذلك المجلس لختمت مذاكرة الأديبين ببيتٍ فردِ ينسيهما ما تناشداه , وهو لشاعر ظريف ذكر محبوبته في موقف لم يقفه عنترة بن عبس ولا أقرانه الشعراء , فقد دهمه القطار الحديدي الإكسبرس وهو على صهوة برذون حرون فأيقن بالهلاك فهاجته الذكرى , فأنشأ يقول من فؤاد متبول:
ولقد ذكرتكِ والحمارُ معاندي ... فوق الشريطِ وقد أتى الوابورُ. . .!(3/436)
سؤالٌ من الهند
آل إبراهيم في الهند قومٌ كرام جمعوا إلى شرف المحتد وعريض الجاه أدباً جمّاً وظرفاً وافراص , ولهم على الأدب والأدباء في الشرق مآثر غير دوائر. قدَّرت الأيام لوديع أفندي البستاني - وهو الفتى النشيط الأديب المعروف لدى قراء العربية بكتبهِ المفيدة النافعة - أن يكون بين هؤلاء القوم الأمجاد , فكاد ينسى بينهم في الهند أرقى مجتمعات وادي النيل لما يدور بينهم من المذاكرات الشعرية والأبحاث الأدبية. . . وكدتُ أنا أيضاً أنسى الموضوع الذي من أجله اكتب الآن , وأستطرد إلى ذكر ما يرويه لي صديقي عن الهند وعن مكارم من حلَّ بينهم على الرحب والسعة , فأهمل السؤال الذي كلفني أن أنشره على صفحات المجلة. قال البستاني الصغير: هذان بيتان من الشعر رواهما الشيخ أحمد آل إبراهيم قال:
لقي نبلنا العوارضِ فانثنوا ... لأوجههم منها لحىً وشواربُ
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقعُ السهام حواجبُ
فلمن هذا الشعر؟ وأنا أقول: من عرف الشاعر وكتب إليَّ عنهُ ضمنت له جائزة تجيئه عن طريق الهند. . .
كرمه ابن هاني
سبق لي حديث قديم مع القرَّاء عن كرمة ابن هاني - أو منزل شوقي بك - وقد كانت هذه الكرمة في الشهر الفائت مسرحاً أقيمت فيهِ معالم الأفراح والحفلات الأدبية. وكل حفلة تقام في ذلك الصرح(3/437)
يقتصر عنها الوصف مهما كان بليغاً. فأمير الشعر متفرّدٌ في حفلاتهِ كما هو متفرد في أشعاره. . . لا يعنيني من هذه الاحتفالات إلاّ ذاك الذي أقامهُ أكبر شاعر عربي إكراماً لأكبر ممثل في الغرب ولصنوه في الشرق عنيتُ بالأول مسيو سلفان وبالثاني تلميذه جورج أبيض , وإلى جانب كلٍّ منهما جوقته , وفي صدر الحفلة حشمت باشا ناظر المعارف الغيور , فتصافح تحت رعايتهِ الأدبان العربي والغربي. وشكر الوزير لنابغة التمثيل في فرنسا اعتناءَه بتلميذه أبيض حتى أخرجهُ نابغة الممثلين في الشرق , كما شكر سلفان للوزير تنشيطه لهذا الفن وأمَّل أن يبلغ التمثيل العربي من النجاح ما بلغهُ التمثيل الفرنسوي منه. وكان بين المدعوين إلياس أفندي فياض الكاتب الشاعر العربي
المعروف ومترجم أشهر الروايات التي يمثلها جوق أبيض , فهمس في أذن جاره داعياً الآمال. . .
حاصد
ثمرات المطابع
حديث القمر - نشرنا في الجزء الخامس من هذه السنة ص 249 مقالةً خيالية عنوانها أيها القمر من قلم الشاعر المشهور السيد أبي السامي مصطفى صادق الرافعي. ثمَّ أخذ حضرته هذه المقالة وتوسع فيها بما أوحى إليهِ أمير الليل من خطرات أفكار شعرية وغزَلية وأدبية واجتماعية فجاءت سلسلة فصولٍ شائقة تتناول مباحث شتى في الحب والجمال والزواج والإلحاد والطبيعة بأسلوب خيالي وقالب(3/438)
شعري تعمدهُ حضرة الكاتب البليغ وهو يرمي من ورائهِ إلى تربية ملكة التخيّل في الناشئة , لأنَّ الخيال هو أساس الإنشاء وركنه الركين , فلا يمتلك الذين يحاولون الكتابة أعنّه هذه الصناعة إلاَّ إذا حبتهم الطبيعة نصيباً من الخيال , وعملوا هم على تربية هذه القوة بالمطالعة والملاحظة والاقتداء. وقد قال حضرة المؤلف في مقدمة هذا الكتاب: البلاغة التي حار العلماء في تعريفها , على كثرة ما خلّطوا , لا تعدو كلمتين: قوة التصوُّر والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوى الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة , وبهما صار أفراد الشعراء والكتَّاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً , وربّ كلمةٍ من أحدهم تلدُ تاريخ جيل إلى أن يقول في ختام المقدمة المذكورة: فالبلغاء هم أرواحُ الأديان والشرائع والعادات , وهم ألسنةُ السماءِ والأرض. وإذا شهد عصرٌ من العصور أمةَ ليس فيها فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم
ونحن نحمد الله كثيراً على أن مصر لا تخلو من أمثال أبي السامي الفاضل , فعصرها الحالي ليس بعصر الضعف وخمول الطبائع.
مفكرة المعارف أصدرت مطبعة المعارف الشهيرة مفكرتها أسنة 1913 وهي حاوية التواريخ العربية والإفرنجية والقبطية وفيها ذكر الأعياد الدينية والمدنية وتواريخ أشهر الحوادث السياسية وختامها(3/439)
جدول لتحويل العملة وجدولان آخران للمقاييس والموازين وقد اعتنى بها حضرة نجيب أفندي متري منشئها الفاضل اعتناءً خاصّاً في هذه السنة فانتقى لها أجود أصناف الورق وأجمل شكل للغلاف فجاءَت غاية في الإتقان كسائر ما تخرجه مطبعة المعارف فنوجه إليها الأنظار.
- عهد الرشيد والمأمون من أجمل صفحات تاريخ العرب , ونكبة البرامكة على يد الفضل بن الربيع من أشهر حوادث ذلك العهد , وأعظمها وقعاً في النفوس. وقد سبك هذا
الموضوع جورجي بك زيدان منشئ الهلال في قالب رواية تداولتها أيدي قراء العربية فنالت شهرة بعيدة. وشاء حضرة الأديب ميشال أفندي بيطار , المدرّس في جامعة اللغات الشرقية في باريس , أن يعرّف الأفرنج بشيء من آداب لغتنا , فنقل هذه الرواية إلى اللغة الفر نسوية بمساعدة مسيو شارك موليه , فبرزت الغادة العربية الشرقية بحلةٍ غربية جميلة , وصادفت بين القوم إقبالاً وإعجاباً. فنهنئ زيدان بك باشتراك الغربيين مع الشرقيين في تقدير كتاباتهِ , ونشكر لصديقنا بيطار أفندي هذه الخدمة للغتهِ , وندعو له بالتوفيق في هذا السبيل.
المنطاد - جردية أسبوعية حرَّة لصاحبها ومحررها الأديب زوين أفندي يوسف زوين تصدر في ريودي جانيرو , فيها مباحث حسنة ولها نزعة وطنية محمودة.(3/440)
بوليوس قيصر
رواية تمثيلية من أشهر الروايات , وأحكمها وضعاً , وأعظمها وقعاً في النفوس لمؤلفها نابغة هذا الفن شكسبير الروائي الانكليزي الشهير. نقلها إلى العربية بعبارة مطابقة تماماً للأصل الانكليزي حضرة الكاتب المجيد سامي الجربدني المحامي وسننشرها تباعاً ابتداء من هذا الجزء بمناسبة النهضة التمثيلية الحديثة.
الفصل الثالث
المشهد الأول
رومه. أمام الكابيتول. مجلس الشيوخ مجتمع فوق في الكابيتول. جم
جمع غير قليل بينهم أرتيميدوروس والمنج. هتاف
يدخل قيصر وبروتوس وكاسيوس وكاسكا وديسيوس ومتلوس وتريبونيوس وسنَّا وأنطونيوس ولبيدوس وبوبوليوس وبوبليوس
قيصر - مخاطباً المنجم ها قد جاء اليوم الخامس عشر من شهر مارس
المنجم - نعم قيصر. ولكنهُ لم يذهب بعد
أرتيميدوروس - السلام قيصر. اقرأ هذه الورقة
ديسيوس - مقدماً له ورقة أخرى أن تريبونيوس يرجوك أن تعيد قراءة هذا العرض إذا رأيتَ من وقتك متسعاً
أرتيميدوروس - أي قيصر. اقرأ ورقتي قبل؛ فإنها تمسُّ نفسه. اقرأها يا قيصر العظيم.
قيصر - يجب تأخير ما يمسنّا عن سواه
أرتيميدوروس - إياك والتأخير! اقرأها حالاً
قيصر - ما هذا؟ أجُنَّ الرجل؟
بوبليوس - تنحَّ يا هذا جانباً
كاسيوس - أفي الأسواق تتهافتون على عرض مطالبكم؟ تعالوا إلى الكابيتول يصعد قيصر إلى المجلس يتبعهُ الآخرون(3/441)
بوبوليوس - مخاطباً كاسيوس أتمنى لغرضكم أن ينجح اليوم
كاسيوس - أيّ غرضٍ عنيت؟
بوبوليوس - طب نفساً يقربمن قيصر
بروتوس - مخاطباً كاسيوس ما قال لك بوبوليوس؟
كاسيوس - تمنى لنا نجاح غرضنا. إني أخشى افتضاح أمرنا
بروتوس - أنهُ يقرب من قيصر. انظر. ارقبهُ
كاسيوس - مخاطباً كاسكا كاسكا. كن سريعاً في العمل , فإننا نخشى الكشاف الأمر. ما العمل يا بروتوس؟ إن افتضح أمرنا قتلتُ نفسي. فواحدٌ منا ليس براجع إلى أهله اليوم: إما أنا , وإما قيصر!
بروتوس - تشدد! انظر إلى بوبوليس. أنهُ لا يتكلم عنا فهو يبتسم وملامح وجه قيصر لم يعلُها تغيُّرٌ أو انقلاب.
كاسيوس - قام تريبونيوس بمهمتهِ خيرَ قيام. لقد اصطحب انطونيوس وخرج بهِ خارجاً. يخرج انطونيوس وتريبونيوس
ديسيوس - أين سمبر؟ ليذهب في الحال يقدّم شكواه إلى قيصر
سنّا - كاسكا! أنت أوَّلُ من يرفع يده
قيصر - أمستعدون جميعاً؟ من عرف منكم اعوجاجاً فلينئ بهِ , فإ، قيصر ومجلسه يقوّمانه تقويماً.
سمبر - أي قيصر الرفيع العظيم كليَّ الاقتدار! إن سمبر يطرح أمامك قلبه الوضيع. . . يركع
قيصر - منعتك هذا. قد يفعل التملّق وتعفير الجباه فعله في صغار الناس فيثيرُ عاطفة نفوسهم , فينسخون شرائع وأوامر أصدروها , يغيّرون فيها ويبدلون شأن الأطفال. لا تعرّتك نفسك فتحسب أنّ بين جنبي قيصر دماً كدم البهل يذيبه(3/442)
الكلام اللين والانحناء الواطئ والتملّق السافل المعوّج , فيثنيهِ عن عزمهِ. لقد صدر الأمر ونفي أخوك. فإذا أنت ركعت وداهنت وتضرعت لأجله , انتهزتك وطردتك كالكلب من أمامي. أن قيصر لا يقاصُّ بلا سبب , وكذلك لا يعفو بلا سبب
سمبر - أما من صوت أكرم من صوتي يستعذبهُ قيصر فيصغي إليهِ ويعفو عن أخي المنفي؟
بروتوس - أي قيصر. أُقبّل يدك غير مداهن , وأرجوك أن تهب أخا سمبر حريته
قيصر - متعجباً ماذا؟ بروتوس؟
كاسيوس - عفوك قيصر عفوك! أني أترامى على قدميك وأتسوَّلُ منك عفواً عن سمبر
قيصر - لو كنتُ نظيركم لتأثرتُ؛ أو لو كنتُ ممن يرجو الغيرَ لتحوَّلتُ عن عزمي مرضاة رجائهم. ولكني ثابتٌ في عزمي ثبوتَ نجم الشمال الذي لا يضاهيهِ في الفلك نجمٌ ثبوتاً. السماءُ ملأى بكواكب لا تعدُّ ولا تحصى. كلها تحترق ضياءً وليس بينها سوى واحدٍ لا يحول ولا يتزعزع. كذا الدنيا مملوءةٌ رجالاً. رجالها من لحم ودم ذوو عقول ذكية , ولا أعرف فيهم غيرَ واحدٍ راسخاً لا ينازع ولا يتحرَّك. فلأرينكم أني ذلك الرجل. إني نفيتُ سمبرَ حازماً , وسأبقيهِ في منفاه حازماً
سنّا - أواه قيصر. . .!
قيصر - عني! أتحاوِلُ أن ترفع جبال الأولمب؟
ديسيوس - يا قيصر العظيم!
قيصر - ألا ترى بروتوس يركع على غير جدوى؟
كاسكا - أيتها الأيدي تكلمي عني! يطعنهُ كاسكا أولاً وبعده بقية(3/443)
المتآمرون ثم يطعنهُ بروتوس في الآخر
قيصر - وأتتَ أيضاً يا بروتوس؟ فليسقط قيصر! يلتفّ بردائه ويسقط ميتاً
سنّا - يا للحرية! يا للخلاص! لقد مات الاستبداد! اركضوا ونادوا بالأمر في الأسواق.
كاسكا - ليذهب بعضكم إلى المنابر ويهتف يا للعتق! يا للحرية! يا للنجاة!
بروتوس - مخاطباً الأعيان والشعب المختلط بنابلهم خوفاً لا تخافوا أيها الأعيان وأنتم أيها الشعب اطمأنوا بالا. قفوا لا تهربواز لقد وفى الطمع دَينه
كاسكا - اصعد إلى المنبر يا بروتوس
ديسيوس - وكاسيوس أيضاً
بروتوس - أين بوبليوس؟
سنّا - هنا وقد أضاع رشدهُ
سمبر - خذوا حذركم. فقد يفاجئنا أحد أصدقاء قيصر. اعتصموا بالاتحاد
بروتوس - دعوا الحذّر والاعتصام جانباً. وأنتَ بوبليوس تشجَّع. أننا لا نريد بك شرّاً , ولا نريد بأحدٍ من الرومانيين شرّاً
كاسكا - ابتعد عنا يا بوبليوس لئلاّ يهجم علينا ويلحقون بشيبتك أذًى
بروتوس - نعم اذهب. فلا يحملُ عبء هذا الأمر إلاّ فاعلوه. يرجع تريبونيوس
كاسيوس - أين أنطونيوس؟
تريبونيوس - فرَّ إلى بيتهِ رُعباً الرجال والنساء والأولاد يصيحون ويصخبون كأنهُ يوم النشر
بروتوس - إيهٍ أيتها الأقدار ها نحن مترقبون أمركِ فينا. كلنا يعلم أن مصيره إلى الموت ولكنهُ يجهل ميعاد قدوم الساعة(3/444)
كاسيوس - من يقتطعُ عشرين سنة من ثوب حياتهِ , فإنهُ يقتطعها من خوف الموت لا من الحياة نفسها
بروتوس - إذن. الموت دواءٌ وما نحن إلاّ أصدقاء قيصر إذ اختصرنا له خوفه من الموت. فلننحنِ أيها الرومانيون ولنغسل أيدينا في جراح قيصر نخضبّها حتى الأكواع. غمسوا فيها سيوفكم , وهبّوا بنا إلى الساحة نرفع سلاحنا الأحمر فوق روسنا وننادي يا للسلام ويا للعتق ويا للحرية!
كاسيوس - انحنوا واغتسلوا. ستعيد الأجيال المقبلة تمثيل دورنا هذا بألسنٍ مجهولةٍ وفي بلدان لم تخلق بعد
بروتوس - نعم وسُيدمي مراراً قيصرُ خذن الترابِ المطروح الآن عند تمثال بومباي
كاسيوس - وعلى عدد تلك المرار سيلقّبنا المستقبلُ بالقوم الذين أنالوا وطنهم الحرية
ديسيوس - أتذهبون؟
كاسيوس - نعم. بروتوس يقودنا , وأحسنُ قلوب رومه وأشجعها تسير على عقبهِ يدخل خادم
بروتوس - سكوتاً: مَن القادم؟ صديق لأنطونيوس
الخادم - راكعاً أي بروتوس. بذا أمرني أنطونيوس: أخرُّ ساجداً وأعفّر وجهي وأقول إن بروتوس نبيلٌ حكيم شجاعٌ وأمين وكذلك كان قيصر قديراً جسوراً محبّاً وعظيماً. إني أحبُّ
بروتوس وأكرمهُ وقد خفتُ قيصر فأحببتهُ وأكرمتهُ. فليسمحْ بروتوس وليؤمنْ لي سبيل قدومي إليهِ أستفسرهُ سبب قتل قيصر , وله عليَّ العهد إني لا أحبُّ قيصر ميتاً بأكثر ما أحبُّ بروتوس حيّاً؛ بل أتبع بروتوس في سبيله غير المطروق بقلب مؤمن صادق بذا نطق سيدي انطونيوس(3/445)
بروتوس - لنعَم الرومانيُّ الحكيم الشجاع سيدك. ما ظننتهُ بأقلَّ مما هو عليهِ قط. أبلغهُ يحضر إلينا إذا شاء , فنقنعهُ ثمَّ بنقلبُ إلى أهله آمناً.
الخادم - سآتي بهِ في الحال يخرج الخادم
بروتوس - سيكون منّا. أنا واثق من ذلك
كاسيوس - حبذا لو تمَّ ذلك. فإني أوجس في نفسي خيفةً منهُ , وما خانتني فراستي وتشاؤمي قط.
بروتوس - ها قد جاء انطونيوس. يدخل انطونيوس أهلاً بماركوس انطونيوس
انطونيوس - ينظر جثة قيصر ملقاة , يركع إلى جانبها أي قيصر ذا السلطان! أيطرحونك أرضاً؟ أتتكمش فتوحاتك وانتصاراتك وغزواتك إلى مثل هذا القدر الصغير؟ وداعاً ينهض إني أجهل مآربكم أيها السادة فلا أعلم من تستسمنون بعد قيصر فتدمون. إن كنتم إياي تقصدون , فلستُ بواجدٍ زمناً للموت أليق من زمنٍ مات فيهِ قيصر. ولا آلةً على نصف شرفِ آلةٍ أغناها أنبلُ دمٍ في هذه الدنيا. إن كنتم تضمرون لي العداء فأتوسل إليكم أن تظهروه الآن وسواعدكم الحمرُ تتبخر وتدخّن. لو عشتُ ألفاً ما لقيتُ نفسي بأجدر بالموت مني الآن مطروحاً إلى جانب قيصر ترديني الأسياد نخبة رجال هذا العصر
بروتوس - لا ترجُ موتك على أيدينا يا أنطونيوس. إنك تنظر إلى هذه الأيدي وما جنتهُ فتخالنا قساة سفّاحين , ولكنك لا تعلم ما انطوت عليهِ قلوبنا. إنك لو استطعت النظر إليها لرأيتها ملآى بالحنان والرأفة. نعم فإننا ما فتكنا بقيصر إلاَّ شفقةً على اضطهاد رومه. فالشفقة على هذه طردت من قلوبنا الشفقه عليهِ وابتلعتها كما تبتلع النارُ ناراً أقلّ منها التهاباً. أما أنت يا أنطونيوس فإنّا نرحب بك(3/446)
ونقبلك بيننا على الرحب والسعة. نفتح لك قلوبنا ونحميك بسواعدنا , فترجع سيوفنا مفلولةً عنك
كاسيوس - وسيكون لك الرأي الأعلى في تدبير مهام المُلك الجديد
بروتوس - صبرَك حتى نسكّن روع الجمهور الذي يكاد يجنُّ خوفاً ثم أخبرك لما أقدمتُ على قتل وأنا صديقه الصادق
أنطونيوس - لا أشكُّ في حكمتكم. هاتوا كلٌّ منكم يده الحمراء. هاتها أنت أولاً يا بروتوس ثم أنت يا كاسيوس. وأنت ديسيوس وأنت متلوس وأنت سنّا. يدك أيها الشجاع كاسكا. وأنت يا تريبونيوس هاتها الآخر في دورك ولكنك لست بالآخر في درجة حبي لك. ماذا أقول أيها السادة؟ إن قدميَّ تكادان تزلاّن بي عن موطئ الشرف فما أنا في أعينكم إلاّ واحداً من اثنين - أما جبان أو منافق. مخاطباً قيصر حقاً لقد أحببتك يا قيصر. فما الذي تقوله لو أطلّت علينا روحك الهامدة؟ أليس الأمر أشدَّ وقعاً عليك من قتلهم إياك؟ ليت لي عدد جراحك عيوناً تذرف الدمع كالدم المتدفق من جسدك. لذلك موقفٌ أليق بي من تبادل عبارات الوفاق مع أعدائك. عفوك يوليوس. هنا اصطادوك أيها الوعل الجسور. هنا سقطت , وهنا يقف صيادوك مخضبين بدمائك. ايه أيها العالم إنك كنت غاباً لهذا الوعل وكان الوعل أعزَّ أبنائك. يا لك من غزالٍ تكاثرت عليهِ أمراء الصيد فأردوه!
كاسيوس - أنطونيوس
أنطونيوس - عفوك كاسيوس. إن أعداء قيصر لا يقولون فيهِ أقلَّ مما قلتُ فما بالك بأصدقائهِ. إن قولهم لتواضع بالغ حدّه
كاسيوس - لا ألومك على مدحك قيصر , ولكني أودُّ أن أعلم أصديق أنت(3/447)
فترجي , أم عدوّ فيذهب كلٌّ سبيله!
أنطونيوس - لو لم أكن صديقاً ما وضعتُ يدي بأيديكم. إنما لقد أضلّتني شجوني حينما نظرتُ قيصر ملقى. إني صديق كلٍّ منكم , وكصديق أرجوكم أن تقنعوني بأن قيصر كان خطِراً
بروتوس - إن لم نقنعك بذلك كان عملنا وحشيّاً لا مسوّغ له. أي أنطونيوس أنَّ الذي دعانا إلى قتل قيصر لكافٍ لإقناعك ولو كنتَ ابناً له
أنطونيوس - هذا كلما أطلب. وأتوسل إليكم أن تسمحوا لي أنا صديقه أن أذهب بجثتهِ إلى الساحة العمومية , وأقول كلمتي في جنازتهِ
بروتوس - ليكن لك ما تريد
كاسيوس - لي كلمة أقولها لك يا بروتوس يكلمه على جانب إنك لا تعلم ما تصنع. لا تسمح له بذلك. إنك لا تعلم أي التأثير يكون لكلامه في الشعب
بروتوس - لا. لا إني سأقف فيهم خطيباً أولاً وأُبيّن لهم أسباب قتل قيصر , وأذكر أن أنطونيوس سيقيم له الاحتفال اللائق بدفنهِ بإذن منا. ذلك أشفع لعملنا وأضمن
كاسيوس - لا أعلم ما سيكون. ليس الأمر من رأيي
بروتوس - لأنطونيوس هاك جثة قيصر. خذها! إنك ستتكلم بعد أن أكون قد انتهيت , فإذا تكلمت قل إنك تفعل ذلك بأمرنا. امدح قيصر ما شئت ولكن لا تذمنا , وإلاّ فلا يكون لك شأن في الجنازة
أنطونيوس - إني لا أطلب أكثر من هذا
بروتوس - هيئ الجثة واتبعنا يخرج الجميع عدا أنطونيوس
أنطونيوس - مخاطباً جثة قيصر غفرانك أيها التراب الدامي! غفرانك أن نظرتني أتبادل الودَّ والأدب مع هؤلاء الجزارين! إنك لبقية أشرف رجل عاش(3/448)
في الدنيا. ويلٌ لليد التي سفكت هذا الدم الثمين! إنّ جروحك يفتح شفاهها العقيقة كالأفواه الخرساء تستنطقني نبوةً هي لعنةٌ تكرسف الناس. ستمتلئ جوانب ايطاليا حروباً. وسيقوم الأخ على اخيهِ والابن على أبيهِ والمملكة شعبها بعضهم بعض عدوّاً. سيأمن الناس الدم والدمار والخوف فتبسم الأم أن رأت أولادها تتخطفهم أيدي الحروب. ستزول الشفقة من قلوب الناس لتعودها رؤية الفظائع. وثمَّ روح قيصر تزأر ثائرة يصحبها إله الشرّ الجهنمي منادياً بالويل والثبور على هذه البلاد فتنطلق كلاب الحرب تعدو وراء فرائسها تنهش بلا رحمة حتى تملأ جوانب الأرض جيفاً ليس من يدفنها. يدخل خادم أخادم أوكتافيوس قيصر أنت؟
الخادم - نعم يامولاي
أنطونيوس - أن قيصر أرسل يستقدمه لرومه
الخادم - نعم. وهو قادم. وقد أمرني أن أقول لك. . يرى جثة قيصر ويلي! قيصر!
أنطونيوس - لقد تأثر قلبك. در جانباً وابكِ. أن الحزن مجلبةً للحزن وها عيناي أدمعتا إذ رأتا الحزن يجول في عينيك. . . أقادمٌ مولاك؟
الخادم - سيبيت الليلة على بعد سبعة فراسخ من رومه
أنطونيوس - عُد إليهِ مسرعاً وأرو له الرواية. ليست رومه بالبلد الأمين لاكتافيوس بعد , أنها نابحة ملآنة خطراً. عُدْ. عُدْ. قلْ له يلبث مكانه ولا يأتي. لا. قف قليلاً. لا تذهب قبل أن أحمل الجثة إلى الساحة العمومية. سأرى هناك أثر خطابي في الناس , وعلى أيّ محملٍ يحملون فعلةَ هؤلاء الرجال السفاحين , ثم نذهب ونروي الأمر لاوكتافيوس. هات يدك ساعدني. يخرجان بجثة قيصر(3/449)
المشهد الثاني
يدخل بوتوس وكاسيوس ولفيف من الأهالي
الأهالي - صارخين هاتوا برهانكم. اقنعونا اقنعونا
برتوس - اتبعوني ودعوني أقف فيكم خطيباً أيها الأصدقاء. كاسيوس!
اذهب إلى الشارع الآخر وفرّق الجماعات. ليبقَ الذين يودُّون سماعي هنا. أما الذين يبغون اللحاق بكاسيوس فليتبعوه. إنّا سننبئكم عن سبب قتل قيصر جهاراً
العامي الأول - أنا سألبث مكاني واسمع بروتوس
العامي الثاني - وأنا سأسمع كاسيوس ثو نقابل برهان هذا ببرهان ذاك يخرج كاسيوس يتبعه بعض الأهالي ويصعد بروتوس إلى المنبر
العامي الثالث - اصبروا حتى النهاية. اسمعوا أيها الرومانيون مواطنيَّ وأصدقائي. اسمعوا لي دعواي. وأنصتوا حتى تتمكنوا من السماع. إذا قلت فصدّقوني , لأن لي من شرفي ما يحملكم على الثقة بي فإن وثقتم بشرفي آمنتم بكلامي. زنوني بميزان حكمتكم واشحذوا عقولكم حتى تقيموا الميزان مستقيماً. . . هل في هذا الجمهور صديق لقيصر؟ إن كان بينكم صديق حميم , فإني أرفع صوتي وأُناديه قائلاً: إن محبتي لقيصر لم تكن بأقل من محبتكم. . . سيقول هذا الصديق: إذن لمَ قتلت قيصر؟ ها كم جوابي: ما قتلت قيصر كرهاً لقيصر , بل قتلته حباً برومه! أوددتم لو متم أرقاء وبقي قيصر حياً؛ أم إن يموت هو لتعيشوا جميعكم أحرارً. . .؟ إنَّ قيصر أحبني , فأنا أبكيه , إنهُ كان حظاً مبخوتاً. فأنا أفرح له؛ إنهُ كان شجاعاً , فأنا أكرمهً؛ م \ نعم , ولكنهُ كان مطماعاً فقتلته. ها دموعي جزاء محبته إياي , ها فرحي وسروري لطالعه المسعود , ها إكرامي وإجلالي لشجاعته , وها كم الموت جزاءً(3/450)
عدلا لطمعه؟ هل بينكم من انحط فصار يودُّ لو كان عبداً رقيقاً؟ إن
وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. هل بينكم من لا يودّ أن يكون رومانيّاً؟ إن وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. هل بينكم من سَفُل فصار لا يحب وطنه؟ إن وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. . . هانذا واقف انتظر الجواب. . .
الجميع - إنه غير موجود. إنه غير موجود يا بروتوس!
بروتوس - إذن فليس لي فيكم خصم. إني لم أفعل بقيصر غيرَ ما كنتم تفعلونه أنت به. لقد دُوّنِ خبر موته في سجل الكابيتول وذّكِرت معه مفاخره وانتصاراته غير مبتورة ولا مقتضبة! وكذلك ذكرت معايبه التي استحقّ الموت من أجلها غير مُبالغ فيا ولا مُغالي. يدخل أنطونيوس وآخرون يحملون جثة قيصر ها جثة قيصر قدمت يبكيها أنطونيوس الذي سينال بعد موت صديقه محلاً رفيعاً في الحكومة وإن لم تكن له يد في قتله. إليكم ختام القول. إني كما قلت أعزَّ أصدقائي إيثاراً لأمر رومه , كذلك قد خبأت الخنجر نفسه أغمده في صدري إذا دعاني إليه داعي حبّ وطني.
الجميع - ليحيي بروتوس! ليحيي! ليحيي!
العامي الأول - احملوه على الأكتاف إلى بيته!
العامي الثاني - أقيموا له تمثالاً مع أجداده!
العامي الثالث - أحلّوه محل قيصر!
العامي الرابع - أنهُ قد جمع محاسن قيصر , فلنتوّجه!
العامي الأول - سنسيرُ وراءه إلى بيتهِ هاتفين منادين
بروتوس - يا بني وطني!
العامي الثاني - سكوتاً. أن بروتوس يتكلم
العامي الاول - سكوتاً يا قوم(3/451)
بروتوس - دعوني أذهب وحدي أيها المواطنون الصالحون. امكثوا أنتم واسمعوا ما يقوله لكم أنطونيوس عندما يمدح قيصر. لقد سمحنا له أن يقوم مؤبناً فالبثوا مواضعكم ولا تلحقوا بي. دعوني أذهب وحدي يخرج
العامي الأول - امكثوا يا قوم ودعونا نسمع أنطونيوس يخرج
العامي الثاني - ليصعد إلى المنبر فنسمعهُ. اصعد يا أنطونيوس النبيل
أنطونيوس - إني مدين لكم من فضل بروتوس. . . يصعد إلى المنبر
العامي الرابع - ماذا يقول عن بروتوس؟
العامي الثالث - إنهُ يحسب نفسه مديناً لنا وذلك من فضل بروتوس
العامي الرابع - لقد أحسن صنعاً. فخير له أن لا يشير بكلمة سوء إلى بروتوس
العامي الأول - تالله لقد كان قيصر عاتياً!
العامي الثالث - أكيد. مباركٌ لنا خلاص رومه منهُ
العامي الثاني - اسكتوا. دعونا نسمع ما يقول أنطونيوس
أنطونيوس - أيها الرومانيون الكرماء!
الجميع - اسكتوا. دعونا نسمعهُ
أنطونيوس - أيها الرومانيون مواطنيَّ وأصدقائي. أعيروني سمعكم. لقد جئتُ لأدفنَ قيصر لا لأؤبّنهُ. إن الشرّ يعيش بعد فاعله أما الخير فيدفن إلى جانب رفاتهِ. فليكن حال قيصر كذلك. . . .! خطب فيكم بروتوس النبيلُ فأراكم أن قيصر كان يطمح ببصره إلى الملك. إنْ صحَّت التهمة فأنها لبيرة على قيصر , وقد نال عليها جزاءهُ كبيراً. ها أنا واقف لديكم الآن أقول كلمتي في قيصر. لقد سمح لي بذلك بروتوس النبيل ورفاقه النبلاء. إن قيصر كان صديقي - صديقا عادلاً أميناً - ولكن بروتوس يظنه كان مطماعاً , وليس بروتوس بالرجل المشكوك(3/452)
في كلامهِ. لقد جاءَ قيصر من فتوحاتهِ بأسارى لا يحصى عددهم , فإذا ما فداهم القادون ملأ بالأموال خزائن رومه فهل كان ذلك من قيصر طمعاً؟ كان قيصر يذرف الدمع أن رأى فقيراً باكياً. واللهِ أن للطمع غير هذه الأخلاق! أما رأيتم يوم لوباركال وقد قدَّمتُ له التاج ثلاثاً فردَّني خائباً ثلاثاً؟ أهذا ما يسمونهُ طمعاً؟ ولكن بروتوس يقول أن قيصر كان مطماعاً , وليس بروتوس بالرجل المشكوك في كلامهِ. ما أنا مفنّداً بروتوس ولكنني أسرد الرواية كما أعلنها. إنكم قد أحببتموه كلكم فيما مضى وحاشا لحبكم أن يكون بلا سبب. فماذا الذي يقبضكم عنهُ الآن فلا تندبونهُ. ايهِ أيها الإدراك. أين أنتَ. أتركتَ رؤوس بني آدم وفررتَ إلى الوحوش الضارية؟ عونك. عونك إن قلبي فارقني ولحقَ بقيصر في هذا التابوت. حنانيك قلبي عُدْ إليَّ
العامي الأول - نأرى معظمَ كلامه معقولاً
العامي الثاني - لو تدبرت الأمر لوجدتَ أقيصر قد ظُلِم
العامي الثالث - إذن فسيظلم غيره بعده
العامي الرابع - هل تنبهتَ إلى ما قال عن التاج؟ أنهُ لم يقبل التاج. إذن لم يكن طامحاً إلى الملك
العامي الأول - إن صحَّ القول فسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون
العامي الثاني - مسكين أنطونيوس! لقد احمرَّت عيناه كالنار من البكاء
العامي الثالث - أنهُ لأنبل رجلٍ قام في رومه
العامي الرابع - اسمعوا. لقد عاد يتكلم
أنطونيوس - بالأمس كنّا وكلمةُ قيصرَ تقفُ في وجه العالم كله لا تردّ واليوم نحن وها هو ملقى إلى الحضيض أوضعَ من أن يُرمق بنظرةِ إكرام. . . أيها السادة!(3/453)
لو أردتُ أن أحرّك عاطفة قلوبكم وأفكاركم. أو أن أثيرَ غضبكم لخطّأتُ بروتوس ولخطأتُ كاسيوس ولخطأتُ غيرهما كثيرين. ولكنني لا أفعل ذلك أبداً أنهم نبلاء أشراف. كيف أجسر أن أخطّئهم. إني أوثر أن أخطّئ الميت وإن أخطّئ نفسي وإن أخطئكم جميعاً على أن اسبَ الخطأ لرجالٍ كرام مثل هؤلاء. أرأيتم هذه الوثيقة بيدي. إنها مختومة بخاتم قيصر. وجدتها في خزانتهِ. هي وصيتهُ لو سمع أهلُ رومه مضمونها. عفوكم فلستُ بقارئها لكم. لو سمع أهلُ رومه مضمونها لجأوا إلى قيصر يلثمون جراحهُ , ولخضّبوا مناديلهم بدمهِ الكريم , لا بل لتسوَّلوا شعرة من شعرهِ يحفظونها أثراً خالداً أبناؤهم من بعدهم
العامي الرابع - اقرأ الوصية. اسمعنا الوصية يا أنطونيوس
الجميع معاً - الوصية! الوصية! اسمعنا وصية قيصر!
أنطونيوس - صبراً أيها الأصدقاء الكرام. فلستُ بقارئها. لا يلبق أن تعلموا كم كان قيصر يحبكم. ما أنتم من خشب. ما أنتم من حجارة. إن أنتم إلاّ رجال - خير لكم أن لا تعرفوا مضمونه. خير لكم أن لا تعلموا أنه أوصى لكم بما ملكتْ يداه! أهٍ ما أوخم العاقبة لو علمتم!
العامي الرابع - اقرأ الوصية. لا بد من سماعها يا أنطونيوس. محتمٌ عليك أن تقرأ وصية قيصر
أنطونيوس - أتصبرون على ذلك؟ أتستطيعون إن تمكثوا بعد؟ لقد جاوزت الحدَّ غذ ذكرتها لكم. إني أخشى إغضاب هؤلاء النبلاء الذين أغمدوا خناجرهم في صدر قيصر. إني أخشى
ذلك كثيراً
العامي الرابع - قل خونة. لا تقل نبلاء!
الجميع - الوصية! الوصية!(3/454)
العامي الثاني - تباً لهم من قتلة. سفكة! الوصية! اقرأ الوصية!
أنطونيوس - لقد أحرجتموني فجبرتموني على قراءتها. دونكم جثة قيصر. التفّوا حواليها ودعوني أنزل إليكم فأريكم الرجل الذي كتب الوصية. هل تسمحون لي بالنزول؟
الجميع - انزل. انزل
العامي الثاني - انزل
العامي الثالث - سنفسح لك مجالاً بيننا
العامي الرابع - التفوا على شكل حلقة
العامي الأول - ابعدوا عن الجثة
العامي الثاني - افسحوا مجالاً لهذا النبيل أنطونيوس
أنطونيوس - لا تقربوا مني كثيراً. افسحوا لي قليلاً
كثيرون - لا تضيّقوا عليهِ. افسحوا المجال. ارجعوا
أنطونيوس - إن كان في مآقيكم دمع فاذرفوه الآن يشير إلى رداء قيصر كلكم يذكر هذا الرداء. هو رداء قيصر ارتداه ليلة صيفٍ وجلس في قباب مضروب على أثر عودته من نصرٍ مبين على أعدائكم. انظروا. هنا مرَّ خنجر كاسيوس. تبينّوا طعنة كاسكا الحاقد. إنها مزَّقت الرداء تمزيقاً. وهنا طعن بروتوس المحبوب طعنتهُ. بروتوس حبيب قيصر وملاكه الحارس. حدّقوا في طعنتهِ انظروا كيف نزع النصل المشومَ ففتح باباً خرج منهُ الدم يجري ليتحقق القارع القاسي. ايهٍ أيتها الآلهة! قولي كم كان قيصر يحب هذا الطاعن! إنها لأشدُّ طعنة أصابت قيصر. فإنهُ عندما رأى بروتوس يطعنهُ , التفَّ بردائه وخبأ وجهه وسقط إلى جانب تمثال بومباي قتيلَ الغدر ونكران الجميل أكثر منهُ قتيلَ السيوف والخناجر. بالسقوط(3/455)
قيصر من سقراط! أي مواطنيَّ الأعزاء أنّا سقطنا كلنا بسقوطه , أنا وأنتم وكل الرومانيون. أما الغدر والخيانة فانتصرنا وعلثتا على ظهورنا. أراكم تذرفون الدمع كقطر الندى. لقد مسّت الرحمة قلوبكم. كلُّهذا وقد شاهدتم الرداء ممزَّقاً فما تصنعون لو نظرتم إلى
الجسد مهشماً يرفع الرداء عن جسد قيصر ها كم قيصر. ها جسده شوَّهتهُ أيدي القوم الخائنين
العامب الأول - يا لهول المنظر!
العامي الثاني - يا لقيصر النبيل!
العامي الثالث - يا لشؤم هذا اليوم!
العامي الرابع - أه أيها الخونة السافلون
العامي الأول - إنهُ لمنظر دمويٌّ فظيع
العامي الثاني - سننتقم له
الجميع - الانتقام! الانتقام. هلموا ننتقم. اركضوا. احرقوا. اقتلوا. اذبحوا. لا تدعوا خائناً يفلت
أنطونيوس - قفوا , قفوا أيها المواطنون
العامي الأول - سكوتاً. اسمعوا لأنطونيوس النبيل
العامي الثاني - تسمعهُ. نتبعهُ \. نموت معهُ.
أنطونيوس - حلمكم أيها الأصدقاء الصالحون. حلمكم أخواني الأعزاء. ما قصدتُ أن أحرّك طوفان ثورتكم. إنَّ الذين أقدموا على هذه الفعلة لأقوامٌ نبلاء حكماء قد يكون لهم من أنفسهم عذر لا أعلمهُ يبرّرهم في أعينكم. لم أتِ لأحوّل قلوبكم عنهم فلست بالخطيب المفوّه مثل بروتوس. ما أنا إلاّ ذاك الرجل الساذج الذي يحب صديقه. والذين سمحوا لي بالكلام ذلك حقَّ العلم. ليس لي فهم ولم أتعلم الحكمة ولم أُعط موهبة الخطابة لأثيرَ فيكم دمكم. إني أهرفُ بما أعرف(3/456)
العدد 30 - بتاريخ: 1 - 1 - 1913
العام الجديد
صدَّ عني ولا عجَبْ ... كلُّ شيءٍ لهُ سببْ
ذهبتْ ساعةُ الرضي ... وأتتْ ساعةٌ الغضبْ
مستبدٌّ بحكمهِ ... فأنا مثيل ما أَحبْ
تارةً صاحبُ المنى ... تارةً صاحبُ الكُرَبْ
فلقاءٌ بهِ الهنا ... وفراقٌ بهِ التعبْ
كلُّ ذنبي لأنَّ لي ... فيهِ صدراً قد التهبْ
ولأني عشقتهُ ... باردِ القلبِ والشَّنبْ
أيها العامُ مرحباً ... بالمنى فيكَ والأربْ
قلْ فما أنتَ حاملٌ ... بين بُردّيك من عجبْ؟
رايةَ السلم أم تُرى ... رايةَ الحرْبِ والحرَبْ
فائتلافاً بهِ المنى ... أم خلافاً بهِ العطَبْ(3/457)
أترى الترك أم عُدا ... تهمُ تكسبُ الغلّبْ
وهل الشرقُ بعد ذا ... ك بأمنِ من النوَب
أم هي النار في رُبى ال ... غرب يعلو لها لهَبْ
وقوى العالمين في ... معرك الخُلفِ والصَّخَبْ
فالسما مكفهرَّةٌ ... والفضا اهتزَّ واضطرَبْ
كلُّ هذا لأجل شب ... رٍ من الأرض يكتسبْ
يا عقول الآنام ما ... زلتِ في أوضعِ الرتب
ايهِ سوقَ الوغى لقد ... هزَّني نحوكِ الطرَبْ
لا فما حدَّث الروا ... ةُ ولا كاتبٌ كتبْ
مثلما عنكِ قد رُوي ... فهو أعجوبةُ الكتبْ
رحِمَ اللهُ أنفساً ... غالها عندكِ العطبْ
وجيوشا تدافعتْ ... صُعداً فيك أو صَببْ
بل أسوداً تقحَّمتْ ... غمرةَ الموتِ لم تهبْ
ساقها الحكم للهلا ... كِ فماتت كما وَجبْ
يا رفات الأسود فَاْ ... تنثني عندكِ الركبْ
أيا العام هل أرى ... راحةً فيك أم نَصَبْ
أصديقاً فترتجي ... أم عدوّاً فتجتنبْ
كن كما تشتهي فلا ... رغبةٌ فيك أم رهَبْ
الياس فياض(3/458)
المرأة المترجلة
الرجل المتأنث كالمرأة المترجّلة: كلاهما متصنع لا يطاق! وددت احتقار زيد فقلت زيد امرأة , وشئت تكريم هند فقلت هندٌ رجل. أنا أحتقر الرجل إذا تأنث وإكراهه جهدي , وأعتبر قليلاً المرأة إذا ترجَّلت ولكنني أكرهها كثيراً. للرجولية أخلاق , وللأنوثة أخلاق وكل خلُق حسن في صاحبه. القوة تستَحب في الرجل , والضعف يستملح في المرأة. فإن تعدّت القوة إلى النساء فسدت , وإن تخطَّى الضعف إلى الرجال كان ذلاً! المرأة إذا ترجلت خير من الرجل إذا تأنث. هي تطمع بأن يكون لها شرف الرجولية. وأما هو فليكون له ماذا؟ ولكنه لأيسر في نظري أن يتأنث الرجل من أن تترجل المرأة. الويل كل الويل من الضعيف إذا قدر , والمظلوم إذا احتكم. ليس الشرَ في أن يتحول الذئب إلى حمل , ولكن الشرّ كل الشرّ في أن تصير النعجة ذئباً. وليس الرجل ذئباً من طبعهِ ولكن المرأة إذا ترجلت تحوَّل ضعفها إلى شراسة فكانت شرّ الذئاب! هي مخلوقة ضعيفة لا تفهم معنى القوة فإذا وجدَت القوة اتخذَتها سلاحاً ذا حدَّين! قبيح في الرجل الضعف , وأقبحُ منه القوة في المرأة. التصنّع في(3/459)
الأخلاق كالترقيع في الأثواب. تالله أن التصنّع والتكلّف لا يحتملان ولو كانا من المشخصين أنفسهم وهم على المسرح! كرهتُ الرجل يدّعي لنفسهِ ما لغيره لأنني لا أحب الرياء. ولكنني إذا أدهشني الرياء في الرجل لأنهُ حادثٌ فيهِ , فليس يدهشني الرياء في المرأة لأنهُ خلُقٌ فيها. ذلك أن الصدق من طبائع القوة والكذب مع القوة , ويجيء الصدق مع الضعف فيكون مجال للدهشة حينئذٍ. وإن شرّ ما ولَّده الضعف الفطري في المرأة الكبرياء والدعوى! ألا ترى أن الضعيف تسهتويه القوة فيريدها لنفسه فلا يستطيعها , فيتطلبها بالوهم لباطل؟ أوَ ليست الكبرياء والدعوى مجرد توهم في الإنسان للقوة والفضل؟ الكبرياء في المرأة الرذائل فيها , والإدعاء أقبح خلالها. والكبرياء في الرجل رذيلة ولكنه ليس شرّ الرذائل فيه , والإدعاء ضعف وخلل فيهِ ولكنهُ ليس بالضعف والخلل الأعظمين. قد يتكبر الرجل ويكثر من الإدعاء ولكن قوته تجيز له هاتين الخليتين وتستر عليهِ قبحهما بعض الستر. أما المرأة فلست أرى فيها ما يجيز لها الكبرياء ويسامحها على الدعوى إلاَّ إذا استجزنا ضعفها واستسمحناه وحينئذٍ تظهر فيها بشاعة هاتين الرذيلتين بكل مظاهرها المستقبحة!(3/460)
خيرٌ لك أن تعادي امرأة تحب منك التملق وتتطلبه لنفسها من أن تتملَّقها. شرّ خطأ يرتكبه الإنسان أن يتملق المرأة؛ لأن المرأة على ضعفها ورغبتها في
القوة تتناسى التملق وتحسبه حقيقةً واقعية وثناءً صحيحاً فتكون حينئذٍ كالمهرة الجموح لا تردّها شكيمة , ولا يُمسك بها رسن! أحسنتِ يا سيدتي! ولكنه لأهون عليك لو قطعت لسانك وكسرت قلمك فلم تقل لها هاتين الكلمتين. إن البرهان في التجربة لو شئت! هذّب المرأة على معرفة نفسها فذلك خير مؤدب لها , أولاً فكن أصمّ فلا تسمع , وأحمق فلا تفهم. المرأة كالقلعة أعدى أعدائها في داخلها. إذا هي قويت على المؤثرات الخارجية فلن تقوى على عواطفها الداخلية. وأنهُ لأيسر على قلعة يحاصرها العدو أن تتجيَّش عليها الجيوش حواليها , من أن يخونها جنديٌّ واحد في داخلها. المرأة لا تستطيع أن تكون قاضياً لأن عواطفها تتغلب دائماً على عقلها. لا تسألها العدل فإنها لا تستطيعه. قلبها الذي يحكم , وعقلها الذي يطيع! عبثاَ تحاول منها أن تكون غير ذلك!(3/461)
تاريخ الجندية العثمانية
كانت نظارة المعارف العمومية في الآستانة قد أدخلت في برنامج المدرسة الملكية العليا - قبل تسعة عشر عاماً - درس قانون التجنيد واختارت لتفسيره وتدريسه المرحوم رفيق بك مانياسي زاده الذي صار في زمن الدستور وزيراً للعدلية والمذاهب ثم توفاه الله إليه. وهذا الفصل مقدمة لتلك الدروس وهو يتناول تاريخ الجندية العثمانية نقله إلى العربية صديقنا الكاتب الفاضل محب الدين أفندي الخطيب:
لم تكن أمور الجندية في أوائل سلطنة آل عثمان مؤسسة على أساس متين , وإنما كان أفراد الأمة القادرون على معاناة الحرب والنضال يتقلدون أسلحتهم يوم الزحف ويتقدمون للدفاع عن الدين والوطن. وكانت الجنود في عهد السلطان عثمان مؤسس السلطنة وفي عهد أرطغرل والده تسمى فرساناً لأنهم كانوا يؤدون وظيفة الجندية يومئذٍ ركباناً. وكان السلطان عثمان ينشر المنادين في المدن والقرى عندما تصحُّ عزيمته على الحرب , فينادي هؤلاء بالناس إلى دارة الإِمارة. ومع ذلك فقد كان ثمة - غير هؤلاء المتطوعين - عساكر خاصة وأتباع ورؤساء يوجدون دائماً حيث يوجد مركز الحكومة. وبعد سنة من استيلاء مجاهدي الإسلام على مدينة بروسه أصبحت هذه المدينة عاصمةً , وصار للحكومة العثمانية مكانة خاصة بين ملوك الطوائف. وهذا ما حمل العمانيين على العناية بوضع للإدارة وسن القوانين التي لا بد منها للسير في مضمار الحضارة والارتقاء. وكان في جملة ذلك أن نالت الجندية ونظاماتها حظّاً من هذه العناية , فتولى الوزير المدبر علاء الدين باشا أخو السلطان أورخان اختيار الأقوياء من أبناء الترك وخصهم بمقدار كاف من العلف وعهد إلى قره خليل الشندرلي وهو قاضي بلاجك إن يزيد في عدد الجند وتنظيمه. أما مولانا القاضي خليل فقد بذل همةً فائقة في هذا السبيل , حتى كثر عدد هؤلاء الأبطال , فرتب لكل واحد منهم مرتباً يومياً بقيمة أقجة ربع درهم شرعي تعطى لهم إبان الحرب حتى إذا انقضت قطع العلف اليومي عنهم وإذن لهم(3/462)
بالعودة إلى أشغالهم الخاصة. ومن هذا يستدلّ على أن الجنود كانوا مكلفين بوظيفة الجندية لمدة غير محددة. أخذ يزداد عدد هؤلاء الجنود وهم فريق المشاة ثم كثرت وظائفهم فدفعهم الطمع المركوز في فطرة البشر إلى ما أفسد نظامهم , فخطر للسلطان حينئذٍ أن يؤسس جنده على طراز آخر , لا سيما وقد تبين أن خروج هؤلاء الجنود المشاة عن طاعة السلطان نتيجة طبيعة لنظامهم القاضي بأن لا
يكونوا جنوداً موظفين تماماً , بل هم نوع من الجند المأجور للخدمة في زمن الحرب ليس إلاّ. ولما تداول رجال الدولة في هذا الأمر وضع قرة خليل الشندرلي لائحةً قال فيها أن استقلال العثمانيين يظلُّ مهدداً بالخطر ما دام الجيش مؤلفاً من التركمن الرومانيين ومن هؤلاء المشاة. وهو يرى أن خير دواء لهذا الداء أن يؤخذ من الفتيان المسيحيين الذين دخلوا في الرعاية العثمانية مقدار ألف شاب في بضع سنوات وتصرف لهم علف وتعينات كافية باسم وظائف الحضر والسفر. فوقع اقتراح قرة خليل من رجال الدولة أسن وقع. وعلى هذا سنوا نظام دويشرمهْ للوصول إلى هذه الغاية. قضى نظام الدويشرمهْ بأن تأخذ الدولة في كل سنة ما استطاعت من الأطفال المسيحيين وأن تعني بتربيتهم وتهذيبهم إلى أن يبلغوا سنّ التجنيد , وعندئذٍ يرسلون إلى الثكنة العسكرية في العاصمة , ويُصرف لكل واحد منهم في كل يوم أقجة واحدة ربع درهم شرعي. وقد اقترح الحاج بكتاش ولي أجد رجال الصوفية على السلطان أورخان أن يطلق على هؤلاء اسم يني شري بمعنى الجندي الجديد فأجاب السلطان مقترحة. ذلك هو أصل الجنود الانكشارية وهذا سبب تسميتهم بهذا الاسم. ولم تكن أوروبا يومئذ قد ابتدأت بتأسيس الجندية النظامية , إذ أن فرنسا نظمت جيش لمشاة في زمن شارل السابع سنة 1447م وأطلقت عليهم اسم فرنك أرتير في حين أن العثمانيين نظموا جيش الانكشارية سنة 1326م. وعلى هذا(3/463)
فالعثمانيون سبقوا أوروبا إلى تأسيس الجيش النظامي بأكثر من مائة سنة. ونحن نرى مؤرخي أوروبا يعزون شرف تأسيس الجنود النظامية الدائمة إلى شارل السابع مع أن العثمانيين أجدر بأن يعزى إليهم هذا الشرف , ولا ندري كيف نوفق بين ذلك وبين أنصاف هؤلاء المؤلفين. كان عدد الجنود الجديدة قليلاً فاضطرَّ رجال الدولة إلى تجنيد الأسراء ومع ذلك فقد ظلَّ الجيش ناقصاً فأكل عددُه بالتبعة المسلمين. أما الأسراء والأطفال المسيحيون فكانوا يسمون الغلمان الجهلة. وقد اعترض هذا المشروع في بدايته بعض عوارض وذلك أن القسس جعلوا يبثون في النفوس ما أحدث الضغينة بين المسيحيين المتجندين ولكن هذا لم يلبث أن زال أثره بارتقائهم في درجات الوظائف العالية وبالإنصاف الذي كانوا يعاملون بهِ حتى دعي ذلك إلى إقبال الجميع على التجند وأصبحت الحكومة في غنى عن متابعة سيرها في مشروع الدويشرمه وأحدثت في جنديتها صفاً جديداً سمتهُ صف المتطوعين.
سار الانكشاريون بنظام من مبتدأِ أمرهم إلى يوم جلوس السلطان محمد الفاتح للمرة الأولى. ولما عاد السلطان من وقعة وارنه الكبرى وارتقى عرش السلطنة للمرة الثانية أخذ الرعب من خليل باشا مأخذه لأنهُ كان سبب استقالة السلطان من الملك. فأخذ خليل باشا يدس الدسائس في صفوف الانكشاريين , ويحثهم على التمرد والعصيان , فكان ذلك مدعاةً لشرور ومفاسد كثيرة. وأول شيء توسلوا به للمجاهرة بالتمرد والعصيان مطالبتهم السلطان محمد الفاتح بالإحسان بقشيش على أثر وفاة السلطان مراد الثاني وجلوس لسلطان الفاتح وذلك بعد حرب القرمان. حاول السلطان الفاتح والسلطان سليم والسلطان وغيرهم من المصلحين الذين قلما تظفر الأمم في كل زمان بأمثالهم أن يعيدوا روح النظام إلى هذا الجيش الذي ما حارب إلاّ ظفر , ولكن ذهبت عبثاً كل مساعيهم وظلَّ الشر والفساد ممزوجاً بتلك الشجاعة والهمم. وكذا ظلّ الانكشاريون يجنون ثمار النصر في(3/464)
الحروب فيزيدون في شرف دولتهم ومجدها. ويحدثون القلائل والفتن الداخلية في زمن السلم فيضعون بنين البلاد. ولما كان عهد السلطان محمود الثاني بلغت الروح التراق وجاوز الحزام الطيبين فأدرك السلطان إن لم يبقَ لوجود هذا الجيش فائدة تذكر وكان قد أحس منذ كان وليَّ العهد بمسيس الحاجة إلى جيش معلّم فشرع سنة 1241 بتأليف جيش دعه اشكنجي وأبلى في هذا السبيل بلاءً حسناً ثم نجح في محو اسم الانكشارية من الجود , أولئك هم الانكشاريون الذين رفعوا مجد الدولة إلى هام العلى وأسمى الذرى ثم دخل بينهم خليط من السفلة والأدنياء فأفسدوا تربيتهم وبدلوهم من النظام اضطراباً ومن الطاعة والامتثال تمرداً وعصياناً فتجاوزوا حدودهم وطوحوا بالبلاد إلى مهاوي الهلكة ومدارج الانحلال حتى أدركهم السلطان محمود لثاني فدمرهم وأنقذ البلاد من شرورهم. وسنّ قانوناً جديداً كان مقتضاه إن جمعت جنود جديدة باسم العساكر المحمدية المنصورة وكان السلطان جديراً إن يدعى باسم مجدد القوانين العثمانية.
ولما جلس السلطان عبد المجيد على سرير الملك أيد مشروع أبيه بنصّ الخط. السلطاني الذي قريء في الكلخانة وكان فيما جاء عن الجندية في الخط السلطاني 00غن طريقة الجندية حتى الآن لم يكن يلاحظ فيها عدد نفوس كل بلدة بل يطلب للجندية من بعض البلاد ما يزيد عن درجة احتماله ومن البعض الآخر أقلّ مما يجب , وهذا أمر ينافي العدل من
جهة ويضرَّ في شؤون الزراعة والتجارة من جهة ثانية , وفوق ذلك فإن استخدام فريق من الناس في الجندية طول العمر يبعث في نفوسهم الملل واليأس وينتج قلة النسل - من أجل ذلك تفضلنا بإبطال هذه الطريقة العميقة والجري بعد الآن على طريقة خير منها يكون من شأنها أن يطلب للجندية من كل بلدة مقدار معين لزمن معين. ولهذا تفضلن في هذا الخط السلطاني بوضع طريقة القرعة العسكرية وسننا لذلك نظامات خاصة(3/465)
ولما كان الدفاع عن الدين والذبّ عن حياض الدولة فريضة على كل مسلم صحيح الجسم فقد أصبح من المحتم على كل من أصابتهُ لقرعة من المسلمين المقيمين في البلاد العثمانية أن يطيع أمر لنظام ويدخل في سلك الجندية , إلاّ من كانت لهم موانع شرعية أو امتيازات خاصة. يتبين من هذا أن فريضة الدفاع عن الدين والوطن خاصة بالأفراد المسلمين وأما المسيحيون المتوطنون في بلاد السلطنة والمتجنسون بجنسيتها فقد أسقطت عنهم فريضة الجندية في مقابل ضريبة خاصة معينة يدفعونها باسم البدل العسكري وأكثر الدول المتمدنة اتخذت طريقة القرعة في جنديتها بعد تاريخ قراءة ذلك الحين في مدارج الإصلاح والتعديل وأهم هذه الإصلاحات النظام الذي أعلن يوم 27 صفر سنة 1304 فإن بذلك بلغت جنديتنا ارتقاءها الحاضر.
خطرات
لكار من سيلفا - ملكة رومانيا الحالية
المرأة الساقطة تنتظر إلى المرأة الشريفة كما تنظر إلى المرأة التي تربطها شناعة خَلقها فهي لو حطّمتها.
كثرة الكلام تذهب بجوهر الأفكار وما تبرح تحوّل ذهبها إلى دراهم زائفة حتى يظهر صاحبها فقيراً ويقرب من مغزاه في العربية المثلث السائر: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)
العقل كالملِك يسكن كوخاً , فإن مجرَّد وجوده يحوّل ذلك الكوخ إلى قصر
الديانات أوحت الفن ولكنه قلما كان أصحاب الفنون قديسين!(3/466)
في رياض الشعر
الملك المظلوم
هدية إلى الفاضلة البرنسيس الكسندر أفيرينوه فيزنيومكا
مكانك الأفقُ فما أنزَلكْ ... بُدلِتَ عنهُ الأرض أمْ بَدَّلتْ
يا مَلَكَ اللهِ أيرضي الملَكْ ... مثلك الثرى من بعد مُلك الفلكْ؟
كلاّ. فلنْ تألفَ هذا الأنامْ ... خُلقتَ من نورٍ وهُمْ من ظلامْ
أين جناحاكَ؟ متى فارقاكْ ... قد سقط في الأرض أمْ في السِّماكْ؟
إنك أوْلى بمجد ذاكَ المقامْ ... مِثلكَ لا يهنأُ فوقَ الرَّغامْ
مَنْ عندنا يفهمُ هذا الجمالْ؟ ... أيُّ أمريءِ يهوي صفاتِ الكمالْ؟
أنتَ خيالُ الحبِّ نِعمَ الخيالْ ... حَذارٍ , اتدخلْ قلوبَ الرجالْ
تِلكَ قلوبٌ دَهْرها في اضطرامْ ... كأنها موقدَةٌ بالآثامْ
إن تُؤتَ خيرا بينهم يحسدوكْ ... وإن تجُدْ بالفضلِ لا يحمدُوكْ
دانَيْتَهمْ لكنهم أبعدُوكْ ... لو صرتَ ربَّ القوْم لم يَعبدوكْ
أُفّ لخَلقٍ ليسَ فيهِ كرامْ ... هَلْ كرَمٌ يسكنُ هذي العظامْ
تَبقى لياليكَ وتفنى المنى ... بين الهمومِ الكثْرِ بينَ الضنى
ويَلي فكم تحملُ هذا العنا ... كمْ تشتكي أنتَ وأبكي أنا!!(3/467)
قدْ نفدَ الدَّمعُ فهلْ للغمامْ ... كدمعي إن زاد فيهِ الهيامْ
تفتنُ لكنْ لستَ تدْري الفِتنْ ... كذاك يؤذي كلُّ شيءٍ حسنْ
بهذهِ الروح وهذا البدَنْ ... تلقي مِنَ الناسِ سهامَ الضِغَنْ
لله ما أظلمَ تِلك السهمْ! ... ألم تُصب غيرَ فؤاد الغرامْ؟
تغفرُ جُرْمَ الناس إن أجرَموا ... منهم ولوْ تعلمُ ما أعلمُ
قد غنموا منكَ ولا تغنَمُ ... منهم ولوْ تعلمُ ما أعلمُ
خاصمتَهم عدلاً وإنَ الخصامْ ... أعدلُ ما يحبو الكرامُ اللئامْ
أبكيكَ أمْ أرثيكَ هلْ نافعُ ... دَمعٌ ونَوْحٌ والقضا واقعُ؟
هذا شقاءٌ ما لهُ دافعُ ... اسمعْ فإنَّ الله لي سامعُ
قلْ أيها الأرضُ عليكِ السلامْ ... تحية بالدَّمع لا بالكلامْ
ولي الدين يكن
صدى نشيد نهر الصفا
نشرنا في الجزء الماضي من الزهور شعراً منثوراً للكاتبة الفاضلة مي عنوانه نشيد نهر الصفا وفي الأبيات التالية صدى لذلك النشيد لشاعر ليس أنين الصفا بأحن من أنينه:
هلْ دَرَتْ ميُّ واللآليءُ تجري ... بحفيفِ النسيمِ بين الغصونِ
وهي في عالمِ الخيالاتِ سكري ... بمعاني فينوس أو أَبُّلونِ
أنَّ ورقاء ذلك النهرِ سرّاً ... سرقت كُنهَ سرِّها المدفونِ
ودَرَتْ ما وراءهُ من دموعِ ... ودرَتْ ما وراءهُ من شؤونِ
واستقلّت تُذيعُهُ من بلاد ... لبلادٍ حتى انتهت في الصين(3/468)
هاجها شجوُ أُخته وهي تُصغي ... لأنينِ الأرواحِ ريّاً الجفونِ
فهمتْها وقد تلاشت وتاهت ... روحُها بينَ نشوةٍ وحنينِ
ورأَتها تخطُّ أنيَ لغزٌ ... في ضمير الوجودِ غير مبينِ
فأَرفَّت بالجانحينِ وحنّت ... وأسرَّت إلى فتاةِ الشجونِ
لستِ لغزاً بعد الوجودِ ولكن ... كنتِ لغزاً من قبلما أن تكوني
غَيلان
هدية رأس سنة
جذبتني يومَ الخميسِ وقالتْ ... بعد يومين. . . قلتُ إنيَ أدري
بعد يومين يقبلُ العيدُ قالت ... والهدايا بين الأحبةِ تجري
قلتُ ذي عادةٌ فقالت وهل ... تفكرُ فينا؟ أجبتُ أنتِ بفكري
سوف أُهدي إليكِ من خالص الجو ... هرِ عقداً مرصعاً بالدرِّ
سوف أهدي إليكِ قرطاً ثميناً ... وبُروشاً مذهّباً للصدرِ
سوف آتيكِ بالخواتم عشراً ... تزدهي منكِ في أصابعَ عشرِ
سوف. . . قفْ قالت الفتاةُ وقد ... مالتْ بغضنٍ يزهو بطلعةِ بدرِ
مازحٌ أنتَ أو تقول إذن مِن ... أيّ أرضِ غنمتَ أو أي بحرِ؟
فتبسمتُ ثمَّ ملتُ قليلاً ... نحوها والهوى يشدُّ بأزري
وبلا إذنٍ قد نثرتُ بأذني ... ها كلاماً كأنهُ نثر زهرِ
إنما هذهِ الآلي ولا أن ... كرُ يا هندُ من خزائنِ شِعري
عند ذا افترَّ ثغرها ثمَّ قالت ... إن هذا اللسانَ آلةُ سحرِ
بشارة الخوري(3/469)
السيف والقلم والمحراث
كان محمد توفيق أفندي علي ضابطاً في الجيش المصري وهو شاعر من أكابر الشعراء فكان إذا خلا لنفسه من مهام الجندية استيقظ الشاعر الرقيق في صدر الجندي الباسل , وحلّ القلم في يمينه محل السيف فنظم تلك الدرر التي كان يهديها إلى الزهور ففي السودان آثر جنديته وفي الزهور آثار شاعريته. ولقد جاءنا منه أنه استعفي من الجيش وانقطع إلى مزرعة له مؤثراً صحبة المحراث على صحبة السيف والقلم فكتبنا إليه نستطلع أمره فكان جوابه أبيات الآتية:
لا السيفُ في مصر يرضيني ولا القلمُ ... كلاهما في يمين الحرِّ منثلمُ
جرَّدتُ سيفي وأقلامي وبي أملٌ ... واليومَ أغمدُها يأساً وبي ألمُ
نُريد بي الدهر لا تمَّتْ إرادتهُ ... ذلاًّ وفقراً ويأبى العزُّ والكرمُ
سأصرفُ العمرَ حُرّاً لا يقيّدُوني ... إلاّ التقى والنهى والمجدُ والشممُ
وأطلبُ المالَ لا زهواً ولا سرَقاً ... فإنما المالُ في أهل النهى ذممُ
وخيرُ ما يَقتني المصريُّ مزرعةٌ ... يشقى بها الفأسُ والمحراث والنَّعمُ
باللهِ يا سيفُ هل ضُمَّت عليك يدٌ ... في الرّوع مثلُ يدي والهولُ يحتدمُ
وهل سواي فتىً زانتك صحبتهُ ... يغشى بك الموتَ مختالاً ويقتحمُ
ألستَ كنت ترى جقَّ الرئاسة لي ... إن راحَ يخفقُ فوق الفيلقِ العلمُ
لكنَّ للدهرِ جيشاً من حوادثهِ ... إذا رآنيَ ولّي وهو منهزمُ
ويا يراعيَ أنَّ الصمتَ من ذهبٍ ... لا يسمعون وفي آذانهم صممُ
قد يسجنُ البلبلُ الغرّيد في قفصٍ ... وينعب لبومُ في الآفاقِِ والرّخمُ
للهِ بهجةُ حقلي ما يماثلها ... في حسنها السيفُ مصقولاً عليهِ دمُ
ويا سطوراً بمحراثي أدبجها ... لا يستقلَّ بها القرطاسُ والقلمُ
تفتّح الزهرُ منها عن مباسمهِ ... وراح يرتع فيها مقلةٌ وفمُ
هذا هو الخير معسولاً مواردُهُ ... هذا هو العيشُ إلاّ أنهُ حُلمُ
محمد توفيق علي(3/470)
أُولاه وأُخراه
ويَلي لحالة صبٍّ شطّ مغناهُ ... عن الأحبة لا بل ألف ويلاهُ
مضني الحشا والهٌ زاد الغرامُ بهِ ... ودمعهُ من دم الأحشاء مجراهُ
كم ليلةٍ باتَ يرعى النجمَ ناظرهُ ... طوراً وطوراً نجوم لأفق ترعاهُ
ذا مقلة للقا الأحبابِ ساهرةٍ ... يا حبذا لو ترى الإِغماضَ عيناهُ
لعلَّ طيفَ خيالٍ من أحبّته ... يزوره سَحَراً إن عزَّ مسراهُ
الله في مغرمٍ ذابت حشاشتهُ ... والسهدُ برَّحهُ والوجدُ أضناهُ
يهيمُ في كل وادٍ بادّ كاركمُ ... منهُ فؤادٌ لقد طارتْ شظاياهُ
رفقاً بمهجةِ صبٍّ ما له ولكم ... هجرتموه فزادت بعدُ بلواهُ
شكاكمُ بثّهُ مما ألمَّ بهِ ... من الغرامِ ولم تُصغوا لشكواهُ
ما أقبح الموت إلاّ في هوى رشإِ ... يهواكَ في الحبّ إخاصاً وتهواهُ
مُنايَ يا دمتَ في عزّ وفي سعةٍ ... وفي جنابٍ مربع طابَ مثواهُ
لو كنتَ تعلمُ في حالي وشقوتها ... وما أقاسيهِ من قومي وألقاهُ
أُدعي غريباً وإني بين أظهرِهم ... ولي بذي الحال في بغدادَ أشباه
فكلما قمتُ أدعوهم لنهج هدًى ... قاموا ينادونَ إياكم ودعواهُ
هذا هو الكافر المرتدُّ مذهبهُ ... أتى بدينٍ جديدٍ ما عرفناهُ
محرَّم ما وجدنا السالفين على ... منهاجه وعن الآبا أخذناهُ
إذاً عذرتَ فتىً وافى بمعذرةٍ ... والحبّ أولاهُ معروفٌ وأخراهُ
بغداد
كاظم الدجيلي(3/471)
في جنائن الغرب
الحرب
عن الفيلسوف جوزيف دي مستر
نرى في ميدان الطبيعة قوةً غريبة كأنها غضبٌ محتوم يُسلط جميع المخلوقات على بعضها بعض , حتى حكم الموت مكتوباً على حدود الحياة كلها. فإذا أغفلنا الجماد رأيناه يبتدئ بالنبات , ويتناول أصغر عشبة تنبت إلى أكبر شجرةً تنمو. كم غصن ذوى وكم زهرة ذبلت. . . . غير أنه يتجلى هذا الحكم في الحيوان في أفظع حقائقه كأنَّ هناك دافعاً خفيّاً ظهرت نتيجته مشيرة إلى أصل الحياة بوسائط قاسية. فهي كل طائفة من طوائف الحيوان عددٌ يفترس قويّها ضعيفها. ففي بين حشرات تقتنص , وزخَّافات تبتلع , وطيور جارحة , وذوات أربع كاسرة , بحيث لا تمرّ برهةٌ إلاَّ قتَل حيوانٌ حيواناً.(3/472)
فالحيوان أرقى من النبات , والإنسان أرقى الحيوان. وهو لا يغفل واحدة منها. لأنه يقتل ليأكل , ويقتل ليلبس , ويقتل ليتزّين , ويقتل مهاجماً , ويقتل مدافعاً , ويقتل متعلماً , ويقتل لاعباً , ويقتل قاتلاً. . . . ملكٌ عظيم غاشم لا شيء يسدّ عوزه , ولا شيء يقف أمامه. تراه قد أحصى مقدار الزيت الذي يستخرج من رأس الحوت , ثم تراه قد شكّ بإبرته هذه الفراشة الجميلة الذي اقتنصها بإصبعه وهي طائرة , يحنّط التمساح ويسجن الطير , ويحزن الحية ذات الأجراس في ماءٍ يحفظها لأعين المفرّجين , وإذا ركب جواده ليصيد النمر كان سرج جواده من جلد ذلك النمر؛ يأخذ أمعاءَ الخرفان ليشدّها أوتاراً على قيثارة طربه؛ وينتزع أضالع الحوت فيصنع منها مشداً لخصر الفتاة العذراء. ويستعمل عظام الذئب آلاتٍ تتقاضاها صناعاته , ويجعل نيوب الفيل ألعوبةً لولده الصغير. أن مكاتبه لحافلة بأشلاء قتلاه. غير أن الفيلسوف الذي يتتبع هذه الحوادث لابد له من التطلع إلى حيث تنتهي في هذا الكون العظيم. إذ لم يبقَ فوق الحيوان إلاَّ الإنسان وليس غير الإنسان من ينفّذ هذا الناموس عليهِ. نعم إن الإنسان موكَّل بقتل الإنسان , ولكن كيف يتم ذلك وهو مخلوق ملؤه الحب والشفقة , يبكي مصائب قريبه كما يبكي مصائبه , ويخترع خرافاتٍ لنفسهِ لكي يبكي. . . كيف يتم ذلك وقد قيل له أنهُ يُسأل عن آخر قطرة من الدم المهزوق ظلماً الحرب كافلة هذا الحكم الرهيب. ألا تسمعون الأرض تهدر ظامئةً طالبةً شرب الدماء؟. .
لا تشفي أوارها دماء الحيوان ولا دماء(3/473)
المجرمين الذين ماتوا بسيف الأحكام. ولو أن عدل البشر قضى على الكل لما بقي مجالٌ للحرب ولكنها لا تطول إلاَّ عدداً نزراً لعلّها تهمله في أكثر الأحايين وهي لا تدري أن إنسانيتها الفظيعة تدعو إلى لزومية الحرب. الأرض لا تصرخ عبثاً. هذه الحرب قد أنقذت نارها وتطاير شرارها فإذا بالإنسان قد تناوله غضبٌ إلهي بعيدٌ عن الحقد والغضب البشري فمشى إلى ساحة القتال لا يدري ماذا يفعل ولا ماذا يريد. وهنا اللغزُ المعقَّد. إذ أن الذي يفعله الآن مباين لطبيعته ولكنهُ يفعله مستلذاً مطيعاً. ألا ترون أن الإنسان في ساحة الوغى لا يعصى لكبيره أمراً. هل حدَّثنا التاريخ أن جنوداً شقوا على قائدهم عصا الطاعة ولو كان ذلك القائد من أكبر شرَّاب الدماء والقوم الظالمين. لا شيء يقف في سبيل تلك القوة التي تدفع الإنسان إلى الحرب فيصبح قائلاً وهو بريء لأنهُ آلة تسيّرُها يدٌ رهيبة فيقع في المهواة التي احتفرها لنفسه قائلاً مقتولا وهو لا يشكّ أنه هو الذي صنع الموت. . . وهكذا تنفذ تلك الشريعة الهائلة في الحشرات وفي الإنسان وتبقى الأرض هيكلاً عظيماً لا تفتر إراقة الدماء على مذبحهِ بلا رحمة ولا شفقة منذ البدء إلى انقضاء العالم وموت الموت. . .
خليل شيبوب
المغفرة دليلُ عدم الاهتمام والاكتراث. إذا وُجد الحب الحقيقي يجب أن لا توجد المغفرة.
كارمن سيلفا(3/474)
عيد الميلاد
للكاتب الأميركي الشهير وشنطون أرفنغ
لست أشعر بيقظة العواطف الشجية في فؤادي , وثورة الذكرى بين جوانحي عندما نحتفلُ بالأعياد مثلما أشعر بها حينما تبدو طوالع عيد الميلاد. إخال أن في هذا العيد جاذباً علويّاً يجتذب الايئدة إلى هياكل الشعور والتأمل , ويطير بالنفوس إلى فراديس المسرّات حيث تحلّق في أجواء الملذات الروحية وتتمتع باستكانتها إلى العقائد الدينية. أي شيء أعظم تأثيراً ووقعاً في النفوس , وأسرع نفوذاً إلى أوتار القلوب , واستيلاءَ على الأفكار من ترنيم تلك الأنشودة الملكية المنبعثة من أرجاء الهيكل يتوهم الكثيرون مجرد تمتيع الجثمان بلذيذ الأطعمة وجديد الثياب ونفيس الحلي. إن للعيد غاية أسمى من هذه. للعيد معنى نبيل رمى به واضعوه إلى تجديد المودة وربط قلوب الشعوب بأسباب المحبة وتوثيق عرى الفرابة بين الأسر , والصداقة بين الأصحاب التي فصمتها يد المصائب وعبثت بها عواصف الحياة , فيجتمع البنون حول موقد والديهم , ويلتئم شمل الأصحاب حول موائد بعضهم بعض ويصطبغ الجميع بصبغة العيد. ومما جعل لعيد الميلاد مزيةً وميزةً خصوصيةً على غيره هو أن(3/475)
الفصل الذي يقع فيهِ فصل شتاء , فنحن في ما سوى ذلك من الفصول الثلاثة نستعد أغلب مسراتنا من محاسن الطبيعة - من نضارة الربيع وجمال الصيف وجلال الخريف حيث كلٌّ من اخضرار المروج وتغريد الطيور وسكينة الطبيعة تستفزُّ منا كوامن السرور , وتفتح في قلوبنا ينابيع منهُ , أما فصل الشتاء حيث الطبية ملتحفة بأكفانها البيضاء , مستسلمة إلى سبات الموت إلى يوم تبعث في الربيع , حيث قد تقلصت الأيام وتمددت الليالي , وأكمدَّت أنوار الغزالة ونضبت عيون السرور منا نشعر بحاجتنا إلى الاجتماعات ونميل إلى المعاشرة لنولّد من نفوسنا سروراً لنفوسنا , فتصبوا القلوب إلى القلوب وتشترك العواطف مع العواطف لمباثَّة الإحساسات الرقيقة وتمتزج الأرواح بالأرواح ويتعهدها سيّال الحب فتتمّ الألفة وتتركب عناصر السعادة المشتركة , كما تتألف العناصر الطبيعية وتساعد حرارة نار الشتاء مع تمديد الصدور المنقبضة وإضاءة الثغور ببرق الابتسام وصقل غضون الجباه بمكواة الانشراح , ثم يستهوي الكرم الجميع فيفتح كلٌّ منزله للضيوف , وصدره للأحباب. بين هتاف الجذلين , وضوضاء
المغتبطين , وحفيف أرواح الحب , أيُّ فؤادٍ لا يجب جموداً , وأي صدرِ لا تنفتح أريحيته؟ أجل ليس فصل الشتاء الوقت الملائم لإيقاظ العواطف السامية وإضرام نار القرى في البيوت فقط , بل لإِشغال جذوة الإحسان في القلوب أيضاً. أنا وإن كنت نائياً عن موطن آبائي , غريباً في هذه الأصقاع , لا يضمني منزل والد آوي فيهِ إلى ناره. ولا تصافحني كفُّ قريب , أو(3/476)
يرحّب بي صديق فحسبي بهجة العيد التي تنفذ إلى أعماق نفسي وطلعات الذين حولي السعيدة التي تُدخل فيَّ مجرى السعادة وتجعلني أشعر كأني بين أهلي وخلاَّني , لأنه حقيقةً كما يقال أن السعادة عاطفة قابلة الانعكاس كأشعة السماء , فكل محيا يطفح ابتساماً وكل طلعةٍ تفيض حباً وابتهاجاً هي كمرآةٍ تعكس إلى وجوه الآخرين أشعة السعادة وأضواء الهناء , ومن يحوّل وجهه عن الاشتراك بفرح المعيدين وينزوِ كالحاً في عزلته تستولِ عليهِ السوداء فيضطّر أن يطيب نفساً ويفرح مع المحتفلين ليتمَّ مهرجان العيد. كان أسلافنا في خالي الأحقاب يحتفلون بالعيد احتفالاً شائقاً , ويرصدون من معدات الطرب وصنوف الملاهي ما يضاعف دواعي السرور أما اليوم أعظم أبهة وفخامة , ولكنها أقلُّ مجلبة للسرور وأنقص مورداً للطرب لأن قانون الاجتماع يذهب برونقها وأصفاد العادات تغلُّ القلوب فلا تستطيع وثوباً من الفرح , ومع ذلك فعيد الميلاد في كل زمان ومكان لا يخلو من جاذبيةٍ وبهجة وحبور.
بدرى فركوح
في حسناء اسمها وردة
وردة الروضِ قد تعيشُ قليلاً ... ثمَّ تُبلى أوراقُها بالذُّبولِ
سنّةُ الله في الطبيعيةِ لكن ... وردةٌ أنتِ في جميع الفصولِ
شبلي ملاط(3/477)
طربوشي بنتوفلي
لاحظت منذ أيام أن صبيَّ مزيّني يُطيل النظر في طربوشي أثناء تنظيفه. فتأكدتُ أن هذا الطربوش أصبح غير لائق لأن تتوَّج بهِ هامتي فأبدلتهُ بآخر فصار لديَّ طربوشان. فلبستُ الجديد ووضعتُ القديم ناحية للانتفاع بهِ في يوم ماطر , أو سفر شاق , أو مظاهرة حادة. ولكن لم تمض أيام ثلاثة حتى تقلَّص ظلُّ أملي في الطربوش القديم إذ قدّم لي من قماشهِ الصفيق العتيق بنتوفلي من أفخر ما صنع عمال الأحذية.
إذاً أصبح طربوشي حذائي!!
فوقفتُ أمامه نحو نصف ساعة وكلما مددت قدماً للبسه أحسست بانكماش في أصابعي. لأنني مع اشتراكيتي التامة لم أرض لأول وها إن تتساوى قدماي برأسي. ولبثتُ طول النهار ولا شاغل لي غير الطربوش وتحوّله الفجائي إلى بنتوفلي وحدَّثت نفسي في أمره غيرَ مرّة فرأيت أنه لا بأس في أن أنتعله لأنه ربما كانت قدماي أنفع وأشرف من رأسي , بل أن رأسي يملّي عليَّ ما يؤذيني ويضرّ غيري. أما قدماي فبالعكس لا ضرر منهما ولا نفع لأحد. وإذا كنت أظن أن قدميَّ لا تستحقان العناية فإنني وأهم لأن الناس على اختلاف طبقاتهم ينفقون على جزمهم سواء في أثمانهم أو في تنظيفها(3/478)
أضعاف أضعاف ما يصرفونه على طرابيشهم. بل منهم من يضع في جيبه قطعةً من الصوف وأحياناً علبة ورنيش ينظف بها من حين إلى ولو بين آخر - إخوانه وأصدقائه - حذاءه الضيّق اللماع. ثم إن الرأس ولقدم في درجة من الأهمية واحدة سواء في ما ورد عنهما في الكتب المنزلة أو أقوال أساطين الحكمة والشعر والفلسفة. وكما يبدي المرء استحسانه أو استقباحه لشيء ما برأسه فإنهِ يبديهما أيضاً بقدميه. وربما كانت حركات القدمين أفعل في النفوس والعيون. وقد ذكَّرتني المسألة بأمر ذي شأن خطير. فقد كنت قبلاً تمتلئ عيناي بهجة وحبوراً بمشاهدة الحسان وقد كللنَ رؤوسهنَّ بأفخر صنوف البرانيط. أما الآن فإنني أفضل النظر إلى أقدامهنَّ وحركاتها وسكناتها على التطلع إلى رؤوسهنَّ سواء كانت عارية أو مغطاة لتأكدي أن شعور أغلبهنَّ عيرة. فتلك الجدائل والضفائر والحلقات المصقولة والمنحنيات المجعدة بل كل ما تراه من الشبكات والعقصات مشترًى من السوق وتختفي تحته قطع من اللبَّاد يغمض الكثيرون عيونهم عند ما يلمحونها على طاولة التوالَيتْ. ومهما اجتهد امرؤ في تزيين قدميه والعناية بحذائه فإن عمله لا يؤثر في غيره تأثير قلنسوات الشعور وشعور
قضاة الانكليز في بلادهم بعقول السذّج وعامة الشعب. وأضفت إلى هذا كله أنهُ لولا الأقدام ومساعيها الخيرية لما كانت الرؤوس وفائدتها الأدبية. فالعناية بالإقدام طيبّاً وذوقيّاً وأبيا أسٌّ لحماية(3/479)
الرؤوس. حتى أن الأميريكيّ مهما كان فقيراً معدماً يلبس برنيطة على قدر الحال ويصرف آخر سنت في جيبه على تنظيف جزمتهِ بالورنيش والبويه والبنزين والشمع. وهكذا أخذت أتدَّبر كل هذه النظريات وأقارنها بعضها ببعض وأخيراً قررت ما يأتي:
أولاً - الأسف على انحطاط الطربوش القديم
ثانياً - أن ألبس البنثونلي الجديد في الرأس العام الجديد
ثالثاً - أن لا أفضل رأسي على قدميَّ في حال من الأحوال لأن لكل منهما عملاً لا يقوم به الآخر
وغاية الأمل أن يأتي يوم نتخلص فيهِ من شرّ الجزم والشراريب والطرابيش والبرانيط معاً.
وكل عام وأنتم. . . .
توفيق حبيب
الحقد
مقل الحقد في القلب إذا لم يجد محركاً مثل الجمر المكنون إذا لم يجد حطباً. فليس ينفكُّ الحقد متطلعاً إلى العلل كما تبتغي النار الحطب. فإذا وجد علة استعرَ فلا يطفئه حسنُ كلامٍ ولا لينٌ ولا رفقٌ ولا خضوع ولا تصرعٌ ولا مصانعة ولا شيء دون تلف الأنفس وذهاب الأرواح.
ابن المقفع(3/480)
مستقبلنا
إذا كان قد ذهب عصر الأنبياء الذين كانوا يعرفون المستقبل بقوة الوحي , فإن في عصرنا رجالاً ينظرون إلى مصير الإنسانية بعين بصيرتهم النيرة , فيقولون ما نحن صائرون إليهِ على قاعدة سنن العمران. وقد جمعنا لقراء الزهور في مطلع العام الجديد شيئاً من أقوال هؤلاء المفكرين يتم عن رأيهم في مستقبل المجتمع الإنساني: إذا نظرنا إلى أطوار التاريخ يظهر لنا جليّاً أن تأثير الجهل والرذيلة يضعف على التمادي كلما تقدمنا في تاريخ الإنسانية. فالهيئات الاجتماعية تزداد نظاماً بل فضيلة , ومجموع الخير يكثر ومجموع الشرّ ينقص كلما ازددنا معرفة بالحقائق.
العالم برتلو
عندما يقال أن الترقي سنَّة من سنن التاريخ لا يقصد من ذلك أن هناك قوة لازمة تولّد الإصلاح من مرور الأزمان. إن الإنسان في كل زمانٍ ومكان قد أراد إصلاح أرمه فترَّقى من الإصلاح الذاتي إلى فكرة الإصلاح العام. فالترقي متوقف على الإِرادة وحدها. على أنه إذا رسخ في الأذهان يوماً ما مبدأ فلسفي قائل بتلاشي قوة الإرادة فالمدنية حينئذ تتباطأ في سيرها وتتثافل ثم تقفز
الكاتب جورج بيكوت
قصيرة هي حياة بلادٍ لا يُشيَّد بناؤها على أساس التقدّم المادي الذي هو ثمرة الاقتصاد , ونتيجة النشاط والإِقدام في الأشغال , والاجتهاد المتواصل في ميدان الحركة الصناعية. على أنهُ لم تبلغ أمةٌ من الأمم إلى اليوم العظمةَ الحقيقية باعتمادها فقط على تقدّمها المادّي؛ ولذلك فإنه يجب الاعتراف بفضل الذين كوّنوا ترقي الأمة سواءً كانوا من الذين اشتغلوا بعقولهم أو بأيديهم في هذا السبيل
روزفلت(3/481)
هو ذا قد وُلدت في هذا الجيل دولة جديدة تضطرُّ أوروبا آجلاً أو عاجلاً أن تحسب لها حسابها حتى في الشؤون أوروبية نفسها. مَن تراه يقول لنا أنه لا يأتي يوم نكون فيه مجتمعين للمداولة في مسئلة من نوع المسئلة الكريتية مثلاً فيفاجئنا من أقصى البحر أميرال ياباني محتماً علينا إشراكه معنا في المداولة؟؟
غليوم الثاني
ما العالَم إلاَ صورة من أفكار طائفة قليلة من أصحاب العقول المتفوّقة. هؤلاء أوجدوها وكبَّروها وزخرفوها في الماضي , ومثل هؤلاء لا يفتأون يكبرونها ويزخرفونها إلى أبد الآبدين
جبرائيل دانو نزيو
لا يتعلم الإنسان الحرية إلاَّ من الحرية نفسها فالإنسانية تكتسب قوة جديدة في كلّ مرة يُفكُّ قيد من قيودها. فليكن واجب الحكومة إذن نزع القيود , وضمانة العدل بين الجميع
جورج كليما نصو
عيب الهيئة الاجتماعية في حالتها الحاضرة مغالاتها في مبدأ المركزية. ومهمَّة اليوم مهمة استعداد لا مهمة قتال. أن نظام الديمقراطية الحقيقية لا يتأتي عن تسلط رجلٍ أو ملك أو مجلس نيابي أو زعيم أو حزب , ولكنهُ يتأتى عن تقدم طبيعي في طوائف الاجتماع بعد أن تتمتع بكامل استقلالها. فالمركزية اليوم تضغط على هذا الاستقلال وتقيد هذا الترقي فيجب نسخها بتاتاً
بول بونكور
إذا كان الإنسان يقضي شيخوخته في التحسُّر على الماضي بعد أن أفنى شبابه في الأمل بالمستقبل , فلا شك في أن خير أيامه ليس ذلك(3/482)
اليوم الغابر الذي لا يُرَدّ , ولا ذلك اليوم الآتي الذي لا يُعرف , بل هو هذا اليوم الحاضر سواء كان جوّه صافياً أو متلبداً بالغيوم
جول كلارتي
ما سوف يكون القرن العشرون؟ سيكون كغيره من القرون: العلوم الطبيعية والمادية ستواصل سيرها فتزيد في رفاهية المعيشة , وعلماءُ السياسة والاجتماع سيظلون ينسبون الفضل في ذلك إلى أنفسهم سواء ساعدوا هذا الترقي على غير علم منهم أو عرقلوا سيره , ومخيلة البشر ستظل تخلق لهم أسباباً للشقاء والتعاسة , وأهواؤهم ستجلب دائماً البلايا والرزايا وعواطفهم الشريفة تحاول مداواة تلك المصائب. والعدل سيظلُّ في عمل واحد وهو تغير مراكز المدعون إلى تلك المائدة حيث يأكل الكبارُ الصغار , وأصحاب القلوب
الطيبة سيظلون يعتقدون أن تلك الحالة يجب أن تكون على غير ما هي
ملكيو ردي فوكيه
فؤادي والذكرى
أيها القلب الشجي! يا لها طرفة من الأغاني قد أثارت كامن وجدك فما هو إلاّ سجع البلابل ونوح الحمائم هاجا ذكرى لوعتك. أيها القلب الشجي! ما هو إلاّ مغرب الشمس ومطلع البدر , بل ما هي إلاّ الزهرة الساطعة تذكرك ماضياً زاهراً , بل كوكباً تألق في صفحة حياتك , ثم توارى بحُجُب المغرب تحدوه نظراتُ الأسى القاتل. أيها القلب الشجي! ما هي إلاَّ زهرة جافة في كتابٍ حرَّكتْ(3/483)
ساكن ذكراك , وجعلتك تتنزي تنزي الأطيار وقد رابها شبحا الصياد. أيها القلب الشجي! ما هي إلاَّ دمعة الألم تعقبها ابتسامة الأمل , وما هي إلاَّ ذكرى الماضي يشوبها رجاءٌ ضعيف في المستقبل , بل ما هو إلاَّ الحال وكأنه فردوس من حلو الأماني وسط سياج من مرّ الواقع , بل ما هو إلاَّ اليأس المميت قد كاد يرديك. فأخفق أيها القلب واضرب ضربات الحياة , ولكن حياة الإِباء حياة الأمل , أو فاسكن سكون الموت سكون العدم سكون الفناء , بل اسكن الرمس وعليك في الحالتين سلام. أيتها الذكرى! أنتِ يا بنت الم , وشقيقة الأمل. تسكنين مسارح الخيال , وتعشقين حفيف الأشجار , وتغريد الأطيار؛ تتخللين النغمات وتلازمين النفحات؛ يحتويك خرير الماء ويحملك نسيم الخلاء , فكأنكِ الشعر في صوره وجمال الطبيعة في أبهى مظاهرهِ. أمرجعةٌ أنتِ عهداً سجلتهُ أيدي الوفاء , ومحتهُ أكفُّ الجفاء؟ عهداً تذكره الأطيار في أوكارها والكواكب في بروجها؟ تتحدث بهِ الظباء في مسارحها والآساد في آجامها؟ عهداً أشهد عليهِ الغدير والماء السلسبيل , والأطيار والأقمار , والمغرب والمشرق , والشمال والجنوب , والزهور والرياحين , ونهر المجرة وتباشير الصباح؟ كلا أيتها الذكرى فما أنتِ بمرجعة الماضي , ولا مكررة صورَ الحياة:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة=ولا بمرجعة بعضَ الذي كانا
شبين الكوم
أمين حمدي(3/484)
رواية
يوليوس قيصر
لشكسبير
تعريب سامي أفندي الجريديني
أضفنا إلى هذا الجزء من الزهور 16 صفحة زيادة عن الصفحات المقررة لكل جزء , حتى نتمكن من الاتيان على تتمة رواية يوليوس قيصر؛ وذلك إجابة إلى رغبة جمهور كبيرٍ من قرَّائنا - ولا سيما طلبة البكالوريا منهم - لأن الترجمة التي نشرها الزهور جاءت أكبر معوانٍ لهم على تفهُّم الأصل الانكليزي المقرَّر لامتحان هذا العام , فلم نشأ أن نؤخرها عنهم , وقصدنا الأول خدمة ناشئنا الراقية المتعلمة. وقد لاقت هذه الرواية رضى القرَّاء التام؛ ولا عجب فهي من تأليف نابغة واضعي الروايات التمثيلية. أما ترجمتها العربي فهي من خير ما أخرجتهُ الأقلام من حيث الانطباق التام على الأصل مع متانة في التركيب , وانسجام في الأسلوب؛ وبلاغة في التعبير. ولقد جاء الثناء العام على هذه الترجمة وتقدير الأدباء لها خير تقريظ لحضرة الكاتب المجيد سامي أفندي الجريديني المحامي. وبهذه المناسبة نعلن أننا قد جمعنا هذه الرواية على حدة وهي تطلب من إدارة (0الزهور أو من مترجمها الفاضل في مصر وثمن النسخة خمسة غروش صاغ.(3/485)
ثمرات المطابع
كتاب الأمير - إذا ذُكر اسم نيقولا ماكيافيلي في حلقةٍ من الأدباء تبادر على الأذهان معهُ ذكر كتاب الأمير لقد ترادف هذان الاسمان حتى بات كلٌّ منهما عَلَماً لصاحبه , وحتى ما تسأل أديباً(3/486)
عن أحدهما إلاَّ ذكرَ الاثنين معاً كما عَلقا بذهنه لأول مرةٍ سمعهما وهو لا يزال فتىً على مقعد التلمذة. وليس أدلّ على شهرة المؤلف من اشتقاق الكتَّاب من اسمهِ لفظه ماكيافيلزم أو السياسة الميخائيلية كما اصطلح عليها كتَّاب العربية ولا أدلَّ على قيمة مؤلَّفهِ من قولنا أن هذا المؤلَّف نفسهُ هو سبب ذلك الاشتقاق. فقول الفرنج ماكيافيلزم أو قولنا السياسة الميخائيلية لا يُقصد بهِ سوى التعبير(3/487)
عن سياسة الأثرة والغدر أو سياسة الغاية تبرّر الواسطة ما زالت اللغة العربية خلواً من كتاب الأمير حتى اكتشفت خبره صديقنا الكاتب الفاضل محمد لطفي أفندي جمعه المحامي , وأتاحت له محاسن الاتفاق أن يهتدي إلى الآنسة مريم البرتيني فأخذ عنها قواعد اللغة الايطالية وأصولها , وعني حينئذٍ بنقل ذلك الكتاب إلى العربية نقلاً جمع بين الأمانة للأصل , والسهولة في التعبير.
كتاب الأمير مستهلٌّ - بعد البسملة - بترجمة حياة مؤلفه نيقولا ماكيافيلي , ويليها بحث أدبيٌّ في تآليفهِ ثمَّ يتلو ذلك حديث طويل ولكنهُ مفيد جداً عن تاريخ المعرّب منذ أوَّل عهده بهذا الكتاب حتى صباح الثلاثاء في 27 يونيو سنة 1911 تاريخ الفراغ من تعريبه , ويعقب ذلك فصلٌ عنوانهُ الليلة الأخيرة وفيهِ قصة خيالية عن حياة ماكيافيلي وموتهِ , ثم يجيءحينئذٍ كتاب الأمير الحقيقي. وقد استغرقت المقدَّمات المذكورة خمسين صفحة كاملة , ووقع سائر الكتاب في مئة وخمسين أخرى. أما المباحث التي احتواها فنصائح أهداها ماكيافيلي إلى أميرة فيزنزه وجعلها قواعد لابدَّ منها للحكم , وأصولاً زعم أنها مرقاة إلى نيل الحالكم أرفع مقام وأسمى مكانة. غير أنَّ علماء الاجتماع , وكبار الفلاسفة والكتَّاب لم يعتبروها كذلك قط ففنَّدها بعضهم , وانتقدها آخرون انتقاداً مرّاً , وحملوا على صاحبها حملات شديدة. وكيف كان الأمر فكتاب الأمير خلَّد اسم ماكيافيلي وأبقاه قدوةً لمن اقتدى ,(3/488)
أو عبرةً وذكرى لمن اعتبر وذكر. ولقد طبعت مطبعة المعارف الشهيرة هذا الكتاب على نفقتها طبعاً جميلاً متقناً والتزمت نشره وتعميمهُ عملاً بخطتها في نشر الكتب العلمية والأدبية فاستحقَّ صاحبها الفاضل جميل الثناء. فنلفت الأنظار إلى كتاب الأمير متمنين له الرواج الذي يستحقهُ.
العلاج الجراحي -. . . وهذا أيضاً للدكتور محمد عبد الحميد. .
التشريح الجراحي -. . . وهذا أيضاً للدكتور محمد عبد الحميد. . .
وكم لهذا الطبيب العلاَّمة قبل هذين المؤلفين من الأسفار النفسية , التي تؤلف وحدها مكتبة عربية في العلوم الطبية. ولقد سبق لهذه المجلة تقريظ هذه الآثار الجليلة كل أثرٍ في حين صدوره , كما سبق لهه أيضاً نشر صورة صاحبها المفضال تكريماً له واعترافاً بجميله على العلم واللغة. أما الكتابان اللذان بين أيدينا الآن فإن اسميها يصفانهما خير وصف وهما مترجمان عن أشهر أساتذة الانكليز في علم الجراحة الحديث. وقد ميّزهما الدكتور عبد الحميد عن كتبه الأولى بما بذله لهما من العناية المعنوية والمادية ولاسيما هذه حيث زانهما بالصوَر الكثيرة الملوَّنة. وصدَّر أحدهما - التشريح الجراحي - ببيتين من الشعر هم:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغهنَّ حالي
فنفسي لا تطاوعني ببخلٍ ... ومالي لا يبلّغني فعالي
ومن عرف قلة إقبال قراء العربية لسوء الحظ على الكتب العلمية(3/489)
يفهم ما في تضاعيف هذين السطرين من المعاني. على أن همة عالمنا النطاسي لم تعرف الكلل والفتور فهو لا يزال عاملاً مجدّاً ودائباً - برغم ما في التأليف في هذا الباب من المصاعب والعقبات - على تعميم علم الطب في اللغة العربية. فهو يقوم وحده , وعلى نفقته الخاصة , بعمل يحتج إلى جمعية علمية تقوم بنفقاتها خزانة حكومة عامرة. فإذا وجّهنا نظر نظارة المعارف المصرية إلى أعمال الدكتور عبد الحميد فإنما نوجّه نظرها إلى عمل جدير بعنايتها , وإذا هي فعلت - وهي فاعلة إن شاء الله - فإنما تكون قد أضافت حلقة جديدة إلى سلسلة آثارها المجيدة في سبيل التعليم باللغة العربية.
تقويم البشير - جاءنا هذا التقويم لسنة 1913 وهي السنة السادسة والثلاثون لظهوره. وهو أتم تقويم معروف باللغة العربية يتضمن حساب السنة الغربية والشرقية والهجرية والقبطية والإسرائيلية والمالية مع مقابلة الواحدة بالثانية , والحسابين الشمسي والقمري , والأعياد الدينية والمدنية وكل ما يتعلق بالطوائف الشرقية ورؤسائها , وأسماء قناصل الدول في الشرق , وأسماء موظفي حكومة لبنان وولايات سوريا , ونص القانون الأساسي في تركيا والنظام الأساسي لجبل لبنان , والتقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية مع كل ما يتعلق
بالولايات ومدنها وسكانها. هناك جداول عن النقود والموازين والمكاييل في جميع البلاد وفوائد شتى في التاريخ والجغرافية وسائر العلوم. فنشكر لحضرة العالم الفاضل الأب لويس معلوف عنايته بهذا التقويم الذي أصبح بفضل ما يدخله عليه من التحسن(3/490)
المتواصل أشبه شيء بدائره معارف خفيفة الحمل حافلة بالفوائد والمُلَح.
الأمازون - جريد جامعة حرَّة أنشأها حضرة الكاتب الفاضل فارس أفندي دبغي من أدباء الجالية السورية في سان باولو من أعمال البرازيل في أمريكا. وقد أهدي إلينا الأجزاء التي صدرت منها إلى اليوم فطالعنا فيها المقالات الأدبية والسياسية التي تنمُّ عن مقدرة منشئها وعلمه.
جراب الحاوي - تصدر هذه الجريدة في تونس ايرس , مديرها يوسف أفندي ملحم شعيا ومحرّرها سمعان أفندي بقالبٍ هزلي لتقربها من إفهام العامة. فنمتني لهاتين الجريدتين كل نجاح وتقدُّم , كما أننا نثني على صحافتنا العربية في أميريكا قاطبةً لما تبذله من العناية في حفظ رابطة اللغة والوطنية.
جمعية الاتحاد والإحسان السورية في طنطا - أهدت إلينا هذه الجمعية الراقية كتيّباً جمعت فيه خلاصة أعمالها لسنتها الخامسة فتبينَّا فيه آثاراً شريفة , ومآثر غراء لا يكبرها أحد على مؤسسيها الأفاضل , وأعضائها الكرام. فنتمنى لها ما تمناه لها من قبلنا حضرة العالم المحترم الدكتور شميل إذ قال فيها عفي الله عنه: عسى أن تكون هذه الجمعيى قدوة لإنشاء جمعيات كثيرة من أمثالها.(3/491)
أزهار وأشواك
سنة 1913
معايدتي السنوية أقدّمها لقراء الزهور سائلاً أن يكون عامهم الجديد حافلاً بالخير , تزينه أزهار اليمن خالية من الأشواك.
قيل - ولا أدري من قال ولا لماذا قال ولا أي عهد قال - أن رقم 13 أسوأ الأرقام وأشأمها. وللناس في هذا المعنى تخرُّصٌ وأحاديث ملفقة وخرافات منمقة. تحضرني منها الساعة الحكاية الآتية: زعموا أن منجّماً وقف بحضرة فردريك ملك بروسيا , ففاجأه الملك بقوله: تنبأ لي عن الزمن الذي أُنوَّج فيه إمبراطوراً. . . فقال المنجم: نحن مجموعة إلى السنة التي نحن فيها وجدنا ذلك التاريخ 9 + 4 + 8 + 1=22 + 1849=1871 وسنة 1871 هي في الواقع سنة تتويج فردريك إمبراطوراً على ألمانيا. قال الملك: ومتى أموت؟ فقال المنجم: أعد العملية نفسها بأرقام سنة تتويجك 1 + 7 + 8 + 1=17 + 1871=1888 وهي سنة وفاة الإمبراطور الألماني الكبير. ثم سأله ثالثةً: ومتى تنحلُّ تلك الإمبراطورية؟ فقال المنجم: دونك والعملية أيضاً بأرقام سنة وفاتك: 8 + 8 + 8 + 1=25 + 1888=1913 هذه حكاية المنجم والإمبراطور. لذلك ترى الشعب الألماني(3/492)
يقابل سنة 1913 ببعض القلق والتشاؤم.
جوابٌ على سؤال
نشرتُ في الجزء الماضي بيتين , وسألتُ القرَّاء اسم ناظمها , وأنا اليوم ناشرٌ أحسن جوابٍ جاءني من صاحب التوقيع , وها هو بحرفه: قرأتُ سؤال البستاني الذي أورده عليك أيها الحاصد في نسبة ما رواه الكريم الشيخ أحمد آل إبراهيم. وذلك قول القائل:
لقي نبلنا العوارض فانثنوا ... لأوجههم منها لحىً وشواربُ
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السهام حواجبُ
أما الجواب , فالبيتان لعبد العزيز بن نباتة السعدي المتوفي سنة 405 للهجرة وهو من شعراء سيف الدولة , وعليهِ تخرَّج الشريف الرضي شاعر قريش المشهور. وقد وقع في البيتين تقديم وتأخير لأنهما من قصيدة يأتي فيها سياق البيت الأول بعد الثاني بأبيات غير قابة , وفوق ذلك فإن روية البستاني على غير وجهها: قال ابن نُباتة في مطلع القصيدة
وهي من قلائده:
رضينا وما ترضي السيوفُ القواضبُ ... نجاذبها عن هامكم وتجاذبُ
فإِياكمُ أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إن مغناطيسهنَّ الذوائبُ
إلى أن يقول بعد أبيات:
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجبُ
أؤمل مأمولاً بغير صدورها ... فوا خجلتا إني إلى المجد تائبُ
أبَوا أن يطيعوا السمهريَّة عزَّةً ... فصُبَّت عليهم كاللجين القواضبُ
وعادت إلينا عسجداً من دمائهم ... ألا هكذا فليكسب المجدَ كاسبُ
ثم يقول منها:
بيوم العُظالى والسيوفُ صواعقٌ ... ألا هكذا عليهم والقسيُّ حواصب(3/493)
لقوا نَبلها مُردَ العوارض وانثنوا ... لا وجههم منها لحىً وشواربُ
وبعد يا حاصد الزهور فأما وقد ضمنت جائزة آل إبراهيم عن طريق الهند فاعلم إن الضامن غارم والسلام.
مصطفى صادق الرافعي
أما كون هذا الجواب الشافي قد ورد من الرافعي فلا عجب وهو الأديب المشهور صاحب الكتاب النفيس في تاريخ آداب للحصول عليها.
عتاب
نشرت الزهور ص76 من هذه السنة أبياتاً جميلة لشاعر الفيحاء السيد عبد الحميد بك الرافعي , عنوانها إلى شاعر الأمير وقد وجه فيها الكلام إلى شاعر الأمير أحمد شوقي بك , وسأله مطارحة الشعر على صفحات هذه المجلة ملتقى أقلام أدباء القطرين. فمرَّت بضعة أشهر دون أن تمكّن الفرصة شاعرَ النيل من الجواب , فعتب الشاعر الطرابلسي - ويحقُّ له أن يعتب - ورأيتُ بعض آثار عتبة على ورقةٍ في إدارة الزهور فقرأتُ فيها:
يقولون أغضى عن جوابك أحمدٌ ... ومرَّ زمانٌ للعتاب مجيزُ
فقلتُ عجلتم بالملامةِ ويحكم ... ألم تعلموا أن النفيسَ عزيزُ
ولم يبقَ في الدنيا محالٌ محقّقٌ ... إذا قلتمُ بخلُ الجوادِ يجوزُ
فأحببتُ نشرَ هذه الأبيات لأن في نفسي - ونفس القراء أيضاً - عطشاً إلى عذوبة شيء من الشوقيات
حاصد(3/494)
مواليد شهر يناير ك2
يزعم الكثيرون أن لليوم والشهر الذين يولد فيهما الإنسان تأثيراً في إخلافه وحياته. وها نحن ناشرون على سبيل الفكاهة شيئاً من ذلك مبتدئين بالشهر الأول من السنة. فالذين يولدون في:
1 منه أصحاب نشاط وجدّ ينالون الرتب العالية
2 منه أغنياء وذوو نشاط
3 منه أقوياء الإرادة متصلّبو الرأي
4 منه ذوو مزاج عصبي سريعو الغضب
5 منه متطفّلون يدعون معرفة كل شيء
6 منه سريعو الخاطر متوقدو يصلحون لكل عمل
7 منه طليقو اللسان فصيحو اللهجة ذوو عذوبة في الحديث
8 منه ضعفاء القلوب
9 منه سريعو الانقياد يصدقون كلما يسمعون
10 منه ميَّالون إلى العلوم محبون للآداب
11 منه يثرون ولكن بالعناء الجم وشقّ النفس
12 منه تعساء في شهواتهم وأمانيّهم وأهوائهم
13 منه ميالون إلى التجارة يحبون الإثراء
14 منه ثابتو المبدأ دقيقو المعاملة
15 منه ذوو حظوظ وتوفيق مستمرّ
16 منه سعداء بالحب
17 منه يميلون إلى الاشتغال بالزراعة
18 منه يحبون الحركة. أسفارهم خطرة
19 منه يحبون الخلوة والانفراد(3/495)
20 منه قليلو الثقة بالنجاح
21 منه ضعيفو الإرادة , عديمو الثبات
22 منه ذوو عقول نقّادة يدققون في كل شيء
23 منه كبراء النفوس
24 منه يرتقون مناصب الحكومة العالية
25 منه ظريفو الحديث , كثيرو الكلام
26 منه ميالون إلى الاشغال اليدوية
27 منه يحبون الحروب ويقتحمون أخطارها
28 منه متعجرفون يحبون الحرية
29 منه ذوو سموّ في الأفكار وأصالة في الرأي
30 منه أقوياء القلوب
31 منه شديدو الحرص يضيعون الفرص لشدة حرصهم
ا. غ
فكاهة
إلى مدارس البنات
الشاب - إني أحب أن أتزوج بابنتك ولكن هل يمكنكِ أن تخبريني عن معارفها؟
الوالدة - قد حازت شهادات الامتيازات في الفوسيولوجيا والبكتريولوجيا والبداغوجيا وال. . .
الشاب - كفى كفى يا سيدتي. إنها لا توافقني. لأني أريد فتاة تعرف الطبخولوجيا والكنسولوجيا وكافة أشغال البيوتولوجيا(3/496)
وبما تعرفونه أنت جميعاً. إني أريكم جراح قيصر وهي تقوم مقامي فتخطب فيكم. أما لو كنت بروتوس. وكان بروتوس أنطونيوس , إذن لرأيتم أمامكم رجلاً يُغلي الدم في عروقكم ويضع لساناً في كل جرح من جراح قيصر وينفخ في حجارة رومه روحاً تحرّضها على الثورة.
الجميع - نثور. سنثور عليهم
العامي الأول - سنحرق بيت بروتوس
العامي الثالث - تعالوا. تعالوا نفتش عن القتلة
أنطونيوس - سمعكم. سمعكم. دعوني أقل كلمة بعد أيها الأخوان
الجميع - اسكتوا. اصغوا لأنطونيوس. أنطونيوس الشريف الشريف
أنطونيوس - أيها الأصدقاء , إنكم تفعلون ما لا تعلمون. أتعرفون لِِمَ تحبون قيصر هذا لحبّ. قد نسيتم. ها أنا مذكركم: نسيتم الوصية التي ذكرتها لكم.
الجميع - صحيح. حق. الوصية. امكثوا نسمع الوصية
أنطونيوس - ها كم الوصية مختومة بخاتم قيصر. إنهُ أوصى لكل روماني: لكل واحد منكم بخمسة وسبعين درهماً
العامي الثاني - يا لقيصر كليّ الشرف. سنثأر لقتله
العامي الثالث - يا لقيصر ذي الملك
أنطونيوس - صبراً صبراً
الجميع - اسكتوا يا قوم
أنطونيوس - وقد أوصى لكم بجميع حدائقه وجنائنه القائمة على هذا الجانب من نهر التيبير. كلها لكم. متعة لكم ولأولادكم من بعدكم تتنزهون وترتاضون بها ما شئتم. . . ذلكم قيصر. فمتى تجدون له نظيراً؟
الجميع - لا نظير لهز لا نظير له. هلموا بنا. هلموا نحرق جثته في بيت الآلهة(3/497)
ونشعل منها مشاعل نضرم بيوت القتلة من نارها. احملوا الجثة.
العامي الثاني - هاتوا ناراً
العامي الثالث - حطّموا المقاعد
العامي الرابع - كسّروا النوافذ. كسروا الأخشاب. كسروا كل شيء يخرج الشعب حاملين جثة قيصر
أنطونيوس - فلتعمل الفتنة الآن عملها. وأنت أيها الشرُّ هانذا قد أوقفتك على قدميك فاختر لنفسك سبيلاً يدخل خادم ماذا جرى يا غلام؟
الخادم - حضر أوكتافيوس لرومه يا مولاي
أنطونيوس - أين هو؟
الخادم - في بيت قيصر ومعه لبيدوس
أنطونيوس - سأوافيه إلى هناك في الحال. لقد جاء في الميعاد المرغوب. إن الحظ لباسم فلنغنم الساعة ونتمنى عليه المنى
الخادم - سمعتُ اوكتافيوس يقول أن بروتوس وكاسيوس قرَّا من رومه مذعورين كم أصيب بمسِّ من الجنون
أنطونيوس - ربما لحظا ما فعلتهُ بالشعب وكيف هيجتهُ عليهما. سرْ بي إلى أوكتافيوس يخرجان
المشهد الثالث
شارع يدخل سنّا الشاعر
سنا - لنفسه لا يحلو لي الخروج جائلاً في الأسواق. ولكنَّ دافعاً يدفعني إليه. تخيلاتُ لشؤم تجول في خاطري فقد حلمتُ الليلةَ إني تعشيتُ مع قيصر يدخل الشعب(3/498)
العامي الأول - ما اسمُك؟
العامي الثاني - إلى أين تقصد؟
العامي الثالث - وأين تسكن؟
العامي الرابع - أمتزوّجٌ أنتَ أم عزَب؟
العامي الثاني - أجب كلاًّ منا بصراحة
العامي الأول - وبالاختصار
العامي الرابع - وبحكمة
العامي الثالث - نعم وبالصدق. ذلك خيٌر لك وأبقى
سنا - ما اسمي؟ إلى أين أقصد؟ أين أسكن؟ أعزبٌ أنا أم ذو أهل؟. . . وعليًّ أن أجيبكم بصراحة وباختصار وبحكمة وبصدق. فلنبدأ بالحكمة. إني بحكمةٍ غير متزوّج
العامي الثاني - مغضباً أتعني أن المتزوجين حمقى؟ ستنالُ جزاءَك مني على هذه انتهِ قل بصراحة
سنا - بصراحة؟ إني ذاهب في جنازة قيصر
العامي الأول - أعدوٌّ أنتَ أم صديق؟
سنا - صديق
العامي الثاني - لقد أجبتَ بصراحة
العامي الرابع - منزلك؟ بالاختصار
سنا - بالاختصار؟ قرب الكابيتول
العامي الثالث - اسمك؟ بالصدق
سنا - بالصدق؟ اسمي سنا(3/499)
العامي الأول - مزّقوه إرباً إرباً. إنهُ أحد المتآمرين
سنا - أنا سنا الشاعر. أنا سنا الشاعر
العامي الرابع - مزّقوه إرباً لرداءة شِعره. مزّقوه لرداءَةٍ شعرهٍ
سنا - لستُ سنا المتآمر
العامي الرابع - سيَّان. أن اسمه. انزعوا اسمه من قلبهِ ودعوه يذهب
العامي الثالث - مزّقوه. مزّقوه. تعالوا. هاتوا المشاعل. هلموا إلى بيت بروتوس. إلى بيت كاسيوس. احرقوا
الجميع - بعضكم إلى بيت ديسيوس وبعضكم إلى بيت كاسكا والبعض إلى بيت ليجاريوس. تعالوا. هلموا بنا. تعالوا. . . . يخرج الجميع
الفصل الرابع
المشهد الأول
بيت في رومه أنطونيوس وأوكتافيوس ولبيدوس جلوس إلى مائدة
أنطونيوس - إذن كلُّ هؤلاء سيموتون. إن أسماءَهم لمحصاة
اوكتافيوس - وأخوك أيضاً سيموت. أتوافق على ذلك يا لبيدوس
لبيدوس - أوافق
اوكتافيوس - فاحصهِ معهم يا أنطونيوس
لبيدوس - مخاطباً أنطونيوس بشرط أن لا تُبقي على ابن أختك بوبليوس
أنطونيوس - إنهُ لن يعيش. وها قد علمت اسمه. فاذهب الآن يا لبيدوس إلى بيت قيصر وائتنا بوصية لنقرّ على ما سنبدّل فيها ونغيّر
لبيدوس - أتلبثون هنا ريثما أعود؟(3/500)
اوكتافيوس - هنا أو في الكابيتول يخرج لبيدوس
أنطونيوس - ما أجدر هذا الرجل بأن يقوم لدينا مقام ساعٍ يروح ويجيء لأغراضنا. إنهُ تانه لا كفاءة له ولا استحقاق. أيخلق بنا أن نقاسم هذا العالم مثالثة فينال حصةً كحصة كلّ منا؟
اوكتافيوس - هذا ما ارتأيته أنت. وقد استشرته في إصدار أحكامنا السوداء بالموت
أنطونيوس - إني بلوت الدهر أكثر منك يا اوكتافيوس. فإن نحن أغدقنا التكريم على هذا الرجل فما ذاك إلاّ لنخفف أعباء الحمل عنا ونتخذه حماراً لنا يحمل النضار إلى حيث ندفعه أو نقوده فإذا ما حطَّ الرحال نزعنا عنه حمله الثمين وتركنا له حصته تعباً وكدّاً تحت النير ثم إطلاقاً إلى مراع زريئة يأكل مرقصاً أذنبه من الطرب
اوكتافيوس - قد يتمُّ لك ما تريد. ولكنهُ جنديٌّ مجرّب باسل
أنطونيوس - نعم وهكذا حصاني. ولذا تراني أكيلُ له العلف كيلاً وأعلمه الكرَّ والفرَّ والهجوم والوقوف فأُخضع قوته البدنية لإرادتي. وكذا شأن لبيدوس معنا. إنهُ فارغ العقل يقتات على الحثالة والنفاية والتقليد فيبدأ حيث انتهى الآخرون شيئه ونحفظ شيئنا. اسمع الآن لمهامٍ عظمى أنقلها إليك: إن برتوس
وكاسيوس يجمعان جموعها الآن فعلينا أن نسرع ونشدّد محالفتنا وننتقى أصدقاءَنا ونجهد قواتنا ونتشاور في خير السبل لملاقاة أخطار وكشف مخبآت الأقدار
اوكتافيوس - لنفعل ما تقول. فإن الأعداء تحيط بنا وتكاد تردينا وكثيرون يبذلون لنا الابتسام وقلوبهم ملآى بضغائن لا تحصى. يخرجان(3/501)
المشهد الثاني
معسكر قرب سارديس. أمام خيمة بروتوس
يدخل بروتوس ولوسيليوس وجنود. يقابلهم تيتينيوس وبنداروس
بروتوس - يا هو! قف!
لوسيليوس - كلمة المرور! قف!
بروتوس - أي لوسيليوس. هل صار كاسيوس قريباً منا
لوسيليوس - قريب وها بنداروس قدم يبلغك تحيات مولاه
بروتوس - طابت تحياته. إن انقلاب حال مولاك يا بنداروس وسوء مشورة أتباعه جعلاني أندم على فعل ما قد فعلنا. أما وقد صار بالقرب منا فسأري غليلي الإكرام
لوسيلوس - جلملني وأكرمني ولكنهُ احتاط لنفسه في الحديث وتكتم على خاف عادتهِ
بروتوس - لقد وصفتَ صديقاً أخذت حرازةُ مودّته بالبرود. فإذا مرض الودُّ وسرى في عروقهِ الفساد لبس لباس الكلفة والمجاملة المفتعلة أما الحب الصحيح الفطريّ فخلوٌ من هذه الحيل. مَثل الفارغ من الرجال مَثلُ جود يجمح قبل إطلاق العنان فتتخيلُ القوة وراء طغيانهِ وزهوهِ فإذا ما أدميتَ جنينهِ ضرباً بالركاب ذَبل عرفُهُ وتبين لك عند التجربة برذوناً خدَّاعاً. أقادمٌ جيشهُ معه؟
لوسيليوس - الفرسان قادمون معهُ وهم معظم الجيش أما البقية فيبيتون الليلة في سارديس صوت مشي جيش عن بعد(3/502)
بروتوس - اسمعوا. إنهُ لقادم. هلموا لملاقاته يدخل كاسيوس بقوَّاته
كاسيوس - يا هو. قفوا
بروتوس - قفوا. يا هو. كلمة السرّ
الجندي الأول - قفوا
الجندي الثاني - قفوا
الجندي الثالث - قفوا
كاسيوس - لقد أسأتَ إليَّ الأخ النبيل
بروتوس - احكمي أيتها الآلهة بيننا. أيسيءُ إلى أصدقائهِ رجلٌ لا يقدر أن يسيءَ إلى أعدائهِ
كاسيوس - إن تحت ظاهرك الوقور كثيراً من الخطايا. فإذا ما اقترفها. . .
بروتوس - مقاطعاً رويدك كاسيوس رويدك وابدِ شكواك سرّاً لا جهراً فإني أعرفك حق المعرفة. لا يليق بنا أن نظهر أمام جيشينا بمظهر المتنافرين المتخاصمين لنمنعنّهم رؤية غير الألفة فيما بيننا. مُرْهم يتفرقوا ثمَّ تعال إلى خيمتي وأطل في وصف شكلويك فإني لكَ من السامعين
كاسيوس - بنداروس! مر القواد يرحلوا بجيوشهم قليلاً عن هذا المكان
بروتوس - افعل فعله يالوسيليوس. واحم خيمتنا عن كل قادم إلى أن نتمَّ حديثنا. دعْ لوسيوس وتيتينيوس يحرسا الباب يخرجون
المشهد الثالث
خيمة بروتوس. يدخل بروتوس وكاسيوس
كاسيوس - هاك ما أسأتَ إليَّ بهِ: إنك حقرتَ لوسيوس بيلاّ وعاقبتهُ على رشوةٍ أخذها من أهل سارديس فكتبتُ أشفع فيهِ إليك لأني أعرفهُ قازدريتَ الكتبَ وطرحتها جانباً(3/503)
بروتوس - أنتَ المسيء إلى نفسك إذ دافعتَ عن مثل هذه القضية
كاسيوس - لا يجمل بنا في مثل هذه الأحوال الحرجة إن تعاقب على مثل هذه الجرائم التافهة
بروتوس - بل أنتَ خليق بالعقاب يا كاسيوس لأجل يدك ذات الحكة ولأجل بيعك المناصب لغير الأكفاء
كاسيوس - أمثلي توصف يده بذات الحكة؟ وايمِ الآلهة لو لم يكن القائلَ بروتوس لكان هذا القول آخر كلامهِ
بروتوس - إن اسم كاسيوس يُلبس الرشوةَ لباساً من النبل فيغطّي القصاصُ رأسهُ ويتوارى
كاسيوس - القصاص!
بروتوس - اذكرْ شهر مارس. اذكرْ اليوم الخامس عشر منه. أما سال دم يوليوس الكبير انتقاماً للعدل؟ مَن مِن طاعنيه سَفُل فضرب إكراماً لغير الحق؟ ايهِ لكَ. أواحدٌ منا نحن الذين أردوا أعظم رجال العالم لتأييده الصوص يدنس يده برشوةٍ سافلة ويبيع شرفه الواسع الضخم بشيء زريٍّ يمسك بين الأصابع هكذا؟ إذن لتمنيتُ إن أكون كلباً يطاول القمر نباحاً ولا أكون ذلك الروماني
كاسيوس - لا تهيجني يا بروتوس فلن احتمل هذا منك. إنك تنسى نفسك فتحملني فوق طاقتي. أنا جنديّ أكثر منك اختباراً وأعظم كفاءةً وأحرى منك باشتراط الشروط
بروتوس - اذهب فما أنت بكاسيوس
كاسيوس - بل أنا هو
بروتوس - قلت لك لا
كاسيوس - لا تستفزَّ غضبي أو أنسى نفسي. احترس لنفسك ولا تبالغ في تحريضي(3/504)
بروتوس - عني أيها الرجل الخفيف
كاسيوس - لم يعد بالإمكان. . .
بروتوس - أصغِ لكلامي. فما أنا بحاسب حساباً لغضبك الطائش. أو أخاف تحديق رجلٍ مجنون؟
كاسيوس - ايهٍ أيتها الآلهة. أأطيق بعد كل هذا صبراً
بروتوس - نعم وأكثر من هذا. أرغ وأزبد حتى تشقَّ قلبك المتعجرف. اذهب إلى عبيدك أرِهم غضبك ودع أرقّاءك يرجفون خوفاً. أتظنني أكترث لك فأتهيبك أو أقف أمامك ذليلاً في حالة غضبك؟ وايم الآلهة إنك ستبتلع سُمَّ كيدك ولو أرداك. أما أنا فسأسخر بك بعد الآن وأجعلك أضحوكتي كلما اشتدّ غضبك
كاسيوس - أإلى هذا الحد انتهينا؟
بروتوس - أرِني إنك ذلك الجندي الذي يفوقني. أيّد دعواك بالحجة فاسرّ لك وأفرح. نعم إني أحب أن أتعلم من رجال النبل
كاسيوس - إنك تسيء إليَّ من كل الوجوه. ما ادَّعيتُ بأني جندي أفضل منك بل قلت إني
أكبر منك. هل قلت أفضل منك؟
بروتوس - وما يهمني لو قلت
كاسيوس - ما كان قيصر في حياته ليجسر على إغرائهِ
كاسيوس - لا أجسر؟
بروتوس - لا
كاسيوس - لا أجسر على إغرائه؟
بروتوس - لا. لم تجسر خوفاً على حياتك
كاسيوس - لا تحمّل صداقتي فوق وسعها فقد أفعل ما أندم عليهِ(3/505)
بروتوس - إنك قد فعلت ما يستوجب الندم. أي كاسيوس , تهديدك لا يخفيني فإني لا بس من أمانتي درعاً قويّة تردّه عني فيمرُّ بي الريح لا اعبأ بهِ. لقد أرسلت أطلب منك ذهباً فمنعته وأنا أعجز من جمع المال بطرقٍ سافلة. فو السماء! لأوثر أن أصكَّ فؤادي نقوداً وأسبك من دمي دراهم على أن أنزع من أيدي الفلاحين الخشنة أموالهم الزرية بغي حق. أرسلت أطلب منك مالاً أوزعه على جنودي فمنعت ذلك عني. أيليق هذا بكاسيوس: هل كنت أجيبه بهذا الجواب أنا؟ ايهٍ أيتها الآلهة. أرسلي زوابعك ومزّقيني إرباً إرباً إن كنت طمّاعاً أجلس عن أصدقائي مالاً حقيراً
كاسيوس - ما رددت طلبك
بروتوس - بل رددته
كاسيوس - لم أفعل. إن الذي نقل إليك الخبر لمجنون. قد مزَّقتَ فؤادي على الصديق ستر مساؤى صديقه أما بروتوس فيبالغ في ذكرها ويعظّم
بروتوس - لا. لا. بل أردها ردّاً إذ أراك توجهها إليَّ
كاسيوس - لم تعد تحبني
بروتوس - بل ذنوبك لا أحبّ
كاسيوس - عين الرضا كليلة عن كل عيب
بروتوس - بل عين للمداهن كليلة لا ترى الذنوب ولو علت علوّ الأولمب
كاسيوس - ايهٍ أنطونيوس. ايه أوكتافيوس. هلما انتقما من كاسيوس وحده الآن فقد ملَّ
الدنيا وعافتها نفسه. ها صديقهُ يكرههُ وأخوه لا يعبأ بهِ بل يسترقّهُ كالأسير يعدُّ هفواتهِ يسجلها عليهِ ويعيد ذكرها ويكررها فترسخ في ذهنهِ فيرمي بها وجه صديقه. ليتني أستطيع أن أذرف حياتي دمعاً. هاك خنجري. هاك صدري(3/506)
العاري صدراً يضمُّ قلباً أعزَّ من مناجم بلوتوس وأثمن من الذهب فانزعهُ مني إن كنتَ رومانياً فإن الذي أبى عليك الذهب يجود لكَ بقلبهِ. اطعّني كما طعنتَ قيصر فلقد كان في أشدّ ساعاتِ كرهك إياه أحبّ مني
بروتوس - ردَّ خنجرك إلى غمده. اغضب متى شئت فسأفح لك المجال. افعل ما تريد فإني أعدُّ مساوئك سليقةً فيك. ويحك كاسيوس. إن مثل نفسك الساذجة مثل حجر القدح يطير شراره إذا حُكَّ ثم يهمد ويبرد
كاسيوس - رجلاً سخرةً لصاحبه صرت. فالحزن وسرعة الغضب هيّجاني
بروتوس - أي كاسيوس. وأنا أيضاً كنت سريع الغضب عندما خاطبتك بتلك اللهجة
كاسيوس - أتعترف بذلك. هات يدك
بروتوس - وقلبي معها
كاسيوس - آه يا بروتوس
بروتوس - مالك؟
كاسيوس - أليس لي عندك ذرةُ حبّ تشفع بي عندما يشط بي خلقي الموروث عن أمي فأنسى نفسي
بروتوس - نعم. فإذا ما أسأتَ إليَّ بعد اليوم حسبتُ السببَ توبيخ أمك لك فأتركك حتى تهمد
الشاعر - ينادي من الخارج دعني أدخل لأرى القائدين. يلوح لي أن شقاقاً وقع بينهما فلا يجدر أن نبقيهما معاً
لوسيليوس - من الخارج لستَ بداخل عليهما(3/507)
الشاعر - من الخارج لا يمنعني إلاّ الموت. يدخل الشاعر يتبعهُ لوسيليوس وتيتينيوس ولوسيوس
كاسيوس - ما بالكم؟ ما الأمر؟
الشاعر - يا للعار أيها القائدان! ما تقصدان؟ كونا صديقين وليحب أحدكما الآخر فذلك أليق
بأمثالكم وأجدر. صدقاني. فإني عشتُ ورأيت سنين كثيرة
كاسيوس - هازئاً بهِ ما أرطن تلحينك يا مخالف سنن الناس!
بروتوس - اخرج يا غلام. اذهب أيها الوقح!
كاسيوس - رفقاً بهِ يا بروتوس فإنها لعادة بهِ
بروتوس - قد أرفق بهِ في غير هذا المكان فلكل مقم مقال وما شأن هؤلاء المجانين المتشاعر في الحرب؟ اخرج يا هذا
كاسيوس - اخرج. اخرج. اذهب يخرج الشاعر
بروتوس - مخاطباً لوسيليوس وتيتينيوس قولا لقواد الفرق يهيئون مراقد لجيوشهم الليلة
كاسيوس - ارجعا إلينا حالاً واحضروا مسلا معكما يخرج لوسيليوس وتيتينيوس
بروتوس - لوسيوس! إليَّ بكأسٍ من الخمر. يخرج لوسيوس
كاسيوس - ما ظننت الغضب يبلغ منك ما بلغهُ لآن
بروتوس - أي كاسيوس أسقمني كثرة أحزاني
كاسيوس - إن جعلت ليأس يتغلب عليك فقد أضعت حكمتك
بروتوس - ما حمل رجلٌ حزنه حملي. . . ماتت بورسيا
كاسيوس - بورسيا؟ آخ
بروتوس - ماتت
كاسيوس - وكيف نجوت أنا من القتل عندما أغضبتك. يا لفقد جارح غير محمول! كيف ماتت؟(3/508)
بروتوس - ماتت قلقاً لطول غيابي وحزناً على انتصارات أوكتافيوس وأنطونيوس. عندما علمت بالنصر أحرزاه أضاعت رشدها قم اغتنمت فرصة غياب خادماتها فذهبت إلى نار موقدة وابتلعتها
كاسيوس - أهكذا ماتت؟
بروتوس - هكذا
كاسيوس - رحماكِ أيتها الآلهة الخالدة يدخل لوسيوس بالخمر وبالمشعال
بروتوس - لا تعد لي ذكرها. أعطني كأساً من الخمر أدفن بها كلَّ غمّ وهمّ نخبك يا كاسيوس يشرب
كاسيوس - ما اظمأ قلبي لشرب نخبك النبيل. املأ يا لوسيوس حتى يفيض الخمر من الكأس فإني لا أرتوي مهما شربت حبّاً ببروتس يشرب
بروتوس - ادل يا تيتينيوس. يخرج لوسيوس ويدخل تيتينيوس ومسلّا أهلاً بمسلاّ تعالوا نجلس حول هذا المشعال نبحث في شؤوننا
كاسيوس - أكذا تذهبين يا بورسيا؟
بروتوس - رجوتك لا تزد. أي مسلاّ لقد تلقّيت كتباً تنبئ بزحف أنطونيوس وأكتافيوس علينا بجيشٍ عظيم ووجهتهم فيلبي
مسلاّ - جاءَني مثل هذه الكتب
بروتوس - ألم تزد لك شيئاً عن كتبي؟
مسلاّ - إن أوكتافيوس وأنطونيوس ولبدوس قتلوا مايةً من أعضاء مجلس الشيوخ واحد منهم
بروتوس - هنا اختلفت الرسائل. فعندي إنهم حكموا على سبعين بالقتل وشيشرون واحد منهم
كاسيوس - أشيشرون منهم؟(3/509)
مسلاّ - نعم قثتل شيشرون بأمرهم. هل أرسلتْ لك امرأتك كتاباً يا مولاي؟
بروتوس - لا يا مسلاّ
مسلاّ - ألم يرد ذكرها في الكتب التي جاءتك
بروتوس - لا. لم يرد شيء
مسلاّ - هذا غريب
بروتوس - ولما تسأل؟ هل جاءك نبأ عنها؟
مسلاّ - كلا يا مولاي
بروتوس - أستحلفك برومانيتك أن تصدقني الخبر
مسلاّ - فاسمعْ وتلقَّ الخبر الحقَّ كروماني. إنها ماتت وكان موتها غريباً
بروتوس - وداعاً يا بورسيا وداعاً. كلنا مسوقون للموت يا مسلا ولا يعزيني عن فقدها إلاّ اعتقادي بأنهُ لم يكن لها عن الموت مندوحة
مسلاّ - وكذا يتحمل عظماء الرجال المصائب العظام
كاسيوس - ليس في استطاعتي احتمال مثل مصابك رغم تسليم عقلي وعلمي بصحة أقوالك
بروتوس - دعنا من هذا. وهيوا بنا إلى العمل! ما تقولان في زحفنا على فيلبي في الال
كاسيوس - لا أظنهُ صواباً
بروتوس - والسبب؟
كاسيوس - هاكهُ: خيرٌ لنا أن يتولى العدوُّ خطة الهجوم فتهك قوى جنده(3/510)
وتُبدَّد ذخيرتهُ ويصيبهُ الضرّ. أما نحن فنتربص مكاننا متوفرة لنا أسباب الراحة والدفاع وسهولة الحركة
بروتوس - أفضل من هذا الرأي الصائب رأيٌ أفضل منهُ. إن الأهالي القاطنين بين فيلبي وبيننا لا يضمرون لنا الودّ الصحيح بل حاقدون علينا للضرائب التي ابتززناها منهم فإذا ما سار العدوُّ فيهم قادماً إلينا انضموا إليهِ فيزداد بهم عدداً وقوةً وإقداماً. أما إذا سبقنا العدوَّ إلى فيليبي فإننا نمنع عنهُ هذه الميّزة ونحول بينه وبينهم
كاسيوس - سمعك يا أخي
بروتوس - اذكرْ إننا قد جمعنا كلَّ ما يمكننا جمعهُ من جيشَ وعدَّة وبلغ استعدادنا مداه فلم يبقَ لنا بعد هذا الصعود إلاّ النزول. أما العدوُّ فيزداد يوماً بعد يوم. إن أعمال الناس مدّاً إذا ركبوه في أُبانهِ سار بهم إلى الفلاح أما إذا تباطئوا وأهملوه فإنهم يبقون كلَّ رحلتهم في رقراقٍ من التعاسة. نحن الآن عائمون في أعلا مدّ البحر فلنسر مع التيار في سبيله وإلاّ أضعنا فرصتنا
كاسيوس - فليكن ما تريد ولنذهب لملاقاة الأعداء في فيليبي
بروتوس - زحفَ علينا سواد الليل ونحن غارقون في الكلام. لابدَّ للطبيعة إن تأخذ مجراها فلنرضها بقليل من النوم. هل لكم من كلامه تقولونهُ؟
كاسيوس - لا. طاب ليلك. سنبكّر غداً في القيام ثم نرحل
بروتوس - (منادياً الخادم لوسيوس! يدخل الخادم أعطيني جلبابيّ. يخرج الخادم وداعاً مسلاّ. طاب ليلك يا تيتينيوس. وأنتَ أيها النبيل كاسيوس أتمنى لك نوماً هنيئاً
كاسيوس - لقد بدأنا ليلتنا بالخصام أيها العزيز بروتوس فإياك أن تدع مثل ذاك الشقاق
يحول بيني وبينك بعد الآن(3/511)
بروتوس - عادت الأمور إلى مجاريها
كاسيوس - مُسيت بالخير
بروتوس - وأنت أيها الأخ العزيز
تيتينوس ولوسيليوس - طاب ليلك أيها المولى بروتوس
بروتوس - وداعاً جميعاً يخرج لجميع عدا بروتوس يدخل لوسيوس بالجلباب
بروتوس - هاتِ الجلباب. أين آلةُ الطرب؟
لوسيوس - هنا في الخيمة
بروتوس - ما بالك تتكلم ناعساً. مسكين لا لوم عليك فقد أضناك الوقوف للحراسة. ادعُ كلوديوس وادع معهُ غيره يناموا هنا على فُرشٍ في خيمتي
لوسيوس - فارو! كلوديوس! يدخلان
فارو - هل نادي مولاي؟
بروتوس - اضطجعنا في الخيمة فقد أنهضكما عما قليل وأرسلكما إلى أخي كاسيوس
- عفوك. بل نبقى واقفين نتلقى أوامرك
بروتوس - لا. لا أريد ذلك بل اضطجعنا وإلاّ غيّرتُ فيكما ظني مخاطباً لوسيوس ها الكتابُ الذي طلبتهُ منك يا لوسيوس فإني في جيب جلباني. يضطجع كلوديس وفارو
لوسيوس - أكدتُ لمولاي أنهُ لم يعطينه قط
بروتوس - لا تؤاخذني يا غلام فإني كثير النسيان. هلاّ فتحتَ عينيك المتثاقلين قليلاً وعزفتَ على الآلة أو دقتين
لوسيوس - أمرك مطاع يا مولاي
بروتوس - إني أتعبك فوق طاقتك ولكنك مطواع(3/512)
لوسيوس - ذلك واجب عليّ
بروتوس - يجب ألاّ أسألك فوق ما تستطيع فإن دم السباب يتطلب الراحة
لوسيوس - لقد نمت منذ هنيهةٍ يا مولاي
بروتوس - حسناً فعلت وستنام عما قليل أيضاً فلست بممسكك طويلاً. وسأحسن إليك إن
عشتُ عزف على الآلة لحنٌ منوّم ينام الخادم يا لك من نعاسٍ قتّال. هل لمست غلامي بعصاك الثقيلة فأنمتهُ على أوتاره. هنيئاً لك النوم يا غلام فلست بمزعجك وموقظك. إن كبوتَ لوجهك كسرت آلتك. سآخذها منك. طاب ليلك يا غلام يعود للقراءة في كتابه الم أطوِ الورقة عندما انقطعت عن القراءة. دعني أرَ. ها هي يدخل خيال قيصر ما أردأ نور هذه الشمعة. ها! من القادم؟ إن ضعف عينيَّ يصوّر لي هذا الخيال المزعج لقد جاء عليّ. من أنت؟ آله؟ أم مثلك؟ أم شيطان؟ فقد برّدت الدم في عروقي وأوقفت شعر رأسي. يتكلم من أنت؟
الخيال - ولمَ أتيت؟
الخيال - لأخبرك أنك ستراني في فيليبي
بروتوس - أأراك مرةً أخرى؟
الخيال - نعم في فيليبي
بروتوس - إذن سأراك في فيليبي يخرج الخيال لقد هدأ روعي إذ اضمحليت سيكون لي معك شأن أيها الخيال المشوم
لوسيوس! يا غلام! فارو! كلوديس! انهضوا جميعاً
لوسيوس - الأوتار رديئة يا مولاي
بروتوس - يظن أنهُ لا يزال يضرب على الأوتار. أفق يا لوسيوس(3/513)
لوسيوس - مولاي
بروتوس - هل كنت تحلم عندما صرخت في نوك؟
لوسيوس - ما علمت إني صرخت يا مولاي
بروتوس - نعم صرختَ. هل رأيت شيئاً؟
لوسيوس - لا يا مولاي
بروتوس - عد إلى نومك يا لوسيوس. كلوديس! وأنت يا غلام انهض!
فارو - مولاي
كلوديس - مولاي
بروتوس - لماذا صحتما في نومكما؟
الاثنان معاً - هل فعلنا ذلك يا مولاي
بروتوس - نعم. هل رأيتما شيئاً
فارو - لم أرَ شيئاً يا مولاي
كلوديس - ولا أنا يا مولاي
بروتوس - اذهبا لكاسيوس بلّغاه سلامي وقولا له يُعدّ جيوشه ويتقدمنا فسنلحق بهِ
الاثنان - سنفعل يا مولاي(3/514)
الفصل الخامس
المشهد الأول
سهول مدينة فيليبي. يدخل أوكتافيوس وأنطونيوس بعساكرهما
اوكتافيوس - ها قد تحققتْ اوكتافيوس وأنطونيوس. قلتَ إن الأعداء لا ينزلون لملاقاتنا بل يلازمون المرتفعاتِ والتلال فخاب ظنك. ها كتائبهم تقترب وغرضهم مفاجئتنا القتال قبل أن ندعوهم إليهِ
أنطونيوس - اسكت. أنا في ضمائرهم وأعلم لأي غرض يرمون. يودّون لو أتيح لهم الذهاب إلى غير هذه الأماكن ولكنهم ظنوا أنهم يخيفوننا بهذه المظاهرات الهائلة فنتوهمهم على شجاعةٍ وقوةٍ عظيمتين. ساءَ ما يخمّنون يدخل ساعٍ
الساعي - تهيأا أيها القائدان فالعدوُّ قادم بمظهر فخمٍ رافعاً راية حربه الحمراء فبداراً إلى العمل
أنطونيوس - اوكتافيوس! تقدَّم بجيشك على مهلٍ وكن على يسار الميدان
اوكتافيوس - بل سألزم الميمنة وألزم أنتَ الميسرة
أنطونيوس - أتقاومني والموقف حَرج
اوكتافيوس - لا أقاومك ولكني سأفعل ما قلتُ سير جنود في الخارج
صوت طبلز يدخل بروتوس وكاسيوس بعساكرهما ولوسيليوس وتيتينيوس ومسلاّ وآخرون
بروتوس - ها هم واقفون وأظنهم يرغبون في المداولة
كاسيوس - ألبث مكانك يا تيتينيوس فسنخرج إليهم ونكلمهم
اوكتافيوس - هل نبدأ القتال يا أنطونيوس؟
أنطونيوس - لا بل نلزم خطة الدفاع. تقدّم فإن قوادهم يرغبون في المداولة(3/515)
اوكتافيوس - لا تتحركوا وانتظروا إشارة القتال
بروتوس - الكلام قبل امتشاق الحسام. أليس كذلك بني وطني؟
اوكتافيوس - ليس لأننا مثلكم نفضل الكلام على الحسام
بروتوس - الكلام الطيب خير من الضرب الخائب يا اوكتافيوس
أنطونيوس - إنك تلحق ضرباتك الخائبة بكلامٍ طيب يا بروتوس فبينا أنت تنادي ليحي قيصر إذا بك تطعنه الطعنة النجلاء قلبه
كاسيوس - أما شرباتك يا أنطونيوس فلم نعلم وجهتها بعد ولكننا نعلم عن كلامك أنهُ يسرق من النحل شهدها
أنطونيوس - لكنه يُبقي على إبَرها
بروتوس - نعم ويحرمها طنينها فأنك سرقتهُ منها وانتحلتهُ لنفسك فصرت تتهدد قبل أن تلسع
أنطونيوس - أنا أنتم أيها الأنذال فلم تتهدوا قيصر قبل أن تكسّرت نصالكم بعضها على بعض في جسده. بل كشرتم عن أسنانكم كالقردة وتذللتم كالكلاب وانحنيتم تقبلون أقدامه كالعبيد بينا كاسكا اللعين كالكلب من الوراء يضربه في عنقه. يا لكم من مداهنين!
كاسيوس - مداهنون؟ أحمد نفسك يا بروتوس الآن فلم يكن هذا اللسان ليسيء بمثل سللت سيفي على المتآمرين فمتى تظنونه يرجع إلى غمده؟ ليس براجع قبل أن يثأر جراح قيصر الثلاثة والثلاثين أو يسقط قيصر آخر بسيوف الخائنين
بروتوس - أي قيصر إنك لن تموت بيد الخائنين إلاّ إذا كنت قد أتيت بهم في صحبتك(3/516)
اوكتافيوس - صحيح فإني لم أخلق لأموت بسيف بروتوس
بروتوس - لو كنتَ خيرَ من قام في عشيرتك أيها الشاب لما لقيتَ موتاً أشرفَ من موتٍ يجيئك على يدي
كاسيوس - ولدٌ غرٌّ طائش لا يستأهل الشرف يصحبهُ مراء منغمسٌ في الملذات
أنطونيوس - لا تزال كما كنتَ كاسيوس الأحمق السفيه
اوكتافيوس - هلمَّ بنا يا أنطونيوس. وأنتم أيها الخونة إن أعجبكم القتال اليومَ فانزلوا إلى
ساحتهِ أو تربصوا تى تميلَ إليهِ نفوسكم يخرج اكتافيوس وأنطونيوس وعساكرها
كاسيوس - اعصفي أيتها الرياح الآن وأزبدي أيتها الأمواج ولتشقَّ السفينةُ عبابكِ. ها قد اشتدت الأنواء وصار القول الفصل للأقدار
بروتوس - لوسيليوس! تعال. لي كلمة أسرّها إليك
لوسيليوس - مولاي يتهامسان
كاسيوس - مسلاّ
مسلاّ - أمرك أيها القائد
كاسيوس - اسمع يا مسلاَّ هذا يوم ميلادي. في مثل هذا اليوم وُلد كاسيوس هات يدك واشهد أني مثل بومباي قد أُرغمتُ على خوض غمار معركةٍ فاصلةٍ يتوقفُ عليها كياننا
إنك تعرفيني تلميذاً لا بيقورس ولمذهبه. أما الآن فقد تغيّرتُ وصرت اعتقد بنبؤات الأشياء فأنّا عندما رحلنا عن سارديس في طريقنا إلى هنا تبعنا نَسرانِ قويّان وسقطا على قوائم راياتنا الأمامية وظلاّ يرافقاننا ويتناولان طعامهما من أيدي(3/517)
عساكرنا حتى بلغنا فيليبي فطارا واختفيا عن الأبصار وجاءتنا بدلاً منهما العقبان والغربان والأصقر تحوم على رؤوسنا كأنها ترقب فينا فريسة هالكة وتمدُّ لنا من ظلال أجنحتها كنفاً مخيفاً يبيت جيشنا تحته متأهباً للموت
مسلاّ - لا تصدق هذه الأمور
كاسيوس - لا أصدّقها إلاّ بعض التصديق فإني عقدت النية على ملاقاة الأخطار بصدر رحيب
بروتوس - وهو كذلك يا لوسيليوس
كاسيوس - أي بروتوس كليّ النبل ليت الآلهة تقف في صفوفنا وننتصر فنعيش ما بقينا بسلام متحابين. ولكنَّ أعمالنا في سرّ الغيب فقد يقع لنا شؤم الانكسار وهذا آخر كلام بيننا فما الذي عزمتَ عليه أن انكسرنا
بروتوس - أتمسك بالمبدأ الحكيم الذي لمتُ كاتو على مخالفته إذا انتحر , وأتدرّع بالصبر مترقباً أحكام القوى العليا في شؤوننا الدنيا لأني أرى من الجبن والدناءة تعجيل امرئ في القضاء على نفسه فراراً من وقوع ما يخشاه
كاسيوس - فإذا دارت علينا الدائرة رضيت لنفسك أن يقودك المنتصرون في شوارع رومه؟
بروتوس - لا يا كاسيوس. لا يا ابن رومه. إن بروتوس لن يساق إلى رومه أسيراً. إنهُ أأبى من ذلك نفساً. اليوم خاتمة أعمال بدأنا بها في خامس عشر مارس ولست أدري إن كان يُتاح لنا لاجتماع بعد. لذلك أودعك الوداع الأخير. الوداع , الوداع يا كاسيوس. إن قُدّر واجتمعنا فسيكون اجتماعنا محظوظاً وإلاّ فأكون قد ودعتك وداعاً جميلاً(3/518)
كاسيوس - الوداع. الوداع يا بروتوس إن قدّر واجتمعنا فسيكون اجتماعنا محظوظاً وإلاّ فأكون قد ودعتك وداعاً جميلاً
بروتوس - هلمَّ بنا. آه لو استطعنا علم ما يكنّه لنا هذا اليوم قبل مجيئه. إنما حسبنا أنهُ سينقضي وحينذاك تعلم النتيجة. هيا بنا يخرجان
المشهد الثاني
ساحة القتال. صوت بوق. يدخل بروتوس ومسلاّ
بروتوس - أسرع يا مسلاّ. امتطٍ جوادك واذهب بأوامري إلى الجنود المرابضة على الجانب الآخر. ليهجموا في الحال فإني ألحظ الضعف بادياً على جناح اوكتافيوس فإذا فاجأناه بصدمة قوّية تضعضع وتشتت شمله. اركب وأسرع يا مسلاّ دع الجميع يهجموا يخرجان
المشهد الثالث
ناحية أخرى من ساحة القتال. صوت بوق. يدخل كاسيوس وتيتينيوس
كاسيوس - ويل لهم يا تيتينيوس. ويل لهؤلاء اللئام كيف ولّوا الأدبار , هاك حامل رايتي رأيتهُ يتأهب للفرار فانقلبت عدوّاً له فقتلتهُ وخلصتُ الراية
تيتينيوس - لقد تسرَّع بروتوس بالهجوم وعندما رجحت كفّتهُ كفّة اوكتافيوس توغل جيشه في السلب وتخلّفوا عن نجدتنا تاركين أنطونيوس يحيق بنا. يدخل بنداروس(3/519)
بنداروس - فراراً مولاي. ابتعد عن هذا المكانز أنطونيوس في خيامك أسرع أيها النبيل كاسيوس وابتعد
كاسيوس - إننا بُعد كافٍ. انظر تيتينيوس. أخيامي هذه التي أرى النار مشبوبةً فيها
تيتينيوس - خيامك يا مولاي
كاسيوس - إن كنت تحبني يا تيتينيوس فاركب جوادي واغمد مهمازيك في جنبيهِ إلى أن يبلغ بك تلك الكتائب المقبلة. تبيَّنها وعد إليَّ واخبرني أمِن الأصدقاء أو من الأعداء هي
تيتنيوس - سأعود إليك بأسرع من مرّ الفكر يخرج
كاسيوس - وأنتَ يا بنداروس أرقَ قمة هذه الرابية وارقب تيتينيوس في سيره وانقل إليَّ ما تراهُ في ساحة القتال فإني لم أكن حادَّ البصر قط. يصعد بنداروس إلى الرابية ويبقى كاسيوس وحده في مثل هذا اليوم ولدتُ. دار بي دولاب الزمان دورته فحقَّ لي أن أنتهي حيثُ ابتدأتز لقد أكمل جواد حياتي شوطه. ما الخبر يا غلام؟
بنداروس - من عل الرابية آه يا مولاي!
كاسيوس - ما الخبر؟
بنداروس - أرى فرساناً تسرع لتحيط تيتنيوس ولكنهُ لا يزال جادّاً نحوهم كادوا يأخذونهُ. لقد ترجل بعض منهم. ترجل هو أيضاً. لقد أسروه. اسمع. إنهم يهتفون فرحاً هتاف في الخارج
كاسيوس - انزل وكفَّ عن النظر. ما أجبنَ قلبي. أأعيش لأرى أعزَّ أصدقائي يؤخذ أمامي؟ ينزل بنداروس اقترب يا غلام. إني أخذتك أسيراً في بارثيا ولكي أبقي على حياتك جعلتك تغلط لي الإيمان أن لا تخالف لي أمراً. تعال(3/520)
واوفِ بقسمك الآن وكنّ حرّاً. اطعن صدري بهذا السيف الذي مزَّقتُ بهِ أحشاء قيصر. لا تتردَّد. خذْ مقبضهُ في يدك فإذا ما غطّيتُ وجهي سدّدْ ساعدك واطعن. (يطعنه العبد ها قد تُئرتَ يا قيصر الآن بنفس السيف الذي أرداك يموت
بنداروس - لقد أصبحتُ حرّاً. فو اللهِ لآثرتُ العبودية لو استطعتُ عصيان أمرهِ. واكاسيوه! سيرحل بنداروس عن هذه البلاد إلى حيث لا تراه عينُ رومانيّ يخرج
يدخل تيتينيوس مع مسلاّ
مسلاّ - الحرب سجال يا تيتينيوس فقد قهر بروتوس اوكتافيوس وفازت جنود أنطونيوس على كاسيوس
تيتينيوس - ستسرّ هذه الأنباء قلب كاسيوس
مسلاّ - أين تركته
تيتينيوس - في يأس شديد مع عبده بنداروس على هذه الرابية
مسلاّ - أليس هو ذاك المضطجع على الأرض؟
تيتينيوس - ما هكذا تضطجع الأحياء. واهٍ يا قلبي
مسلاّ - أهذا هو؟
تيتينيوس - بل ما كان هو. لم يعد كاسيوس بموجود. ايهٍ أيتها الشمس الغاربة لقد غاب كاسيوس في دمه القاني كما تغيبين أنتِ وسط أشعتك الحمراء. غربت شمس رومه وتبدّل نهارنا بغيوم وأمطار وأخطار. قضي الأمر. إن تيقّنه اندحاري دفعه إلى هذا العمل
مسلاّ - بل شكُّهُ في الانتصار قد دفعه إلى هذا العمل! ويحك أيها الخطأ المبغوض يا ابن اليأس؟ لِما تضع تصورات مكذوبة في عقول الناس السليمة؟(3/521)
ويحك ما أسهل مجيئك! إنك لا تغشى السرير مبشراً بميلاد مبخوت حتى تنذر بموت الوالدة!
تيتينيوس - بنداروس! أين أنت؟
مسلاّ - ابحث عنه ريثما اذهب لملاقاة بروتوس أخرق أذنيه بهذا النبأ الأليم. نعم أخرق أذنيه. فوقع السيوف القاطعة والسهام المسمومة أسهل على بروتوس من خبر هذا المنظر
تيتينيوس - أسرع يا مسلاّ أما أنا فسأبحث عن بنداروس يخرج مسلاّ واكاسيوس الشجاع! لما بعثتني رسواً؟ إني لقيت أصدقاءك فضفروا لي إكليل النصر أحمله إليك! أما سمعت هتاف فرحهم؟ ويحي إنك أسأت تأويل كل شيء! هاك الإكليل. ضعه على جبينك. أخوك بروتوس أمرني أن أعطيكه وها أنا منفذ أمره. تعال يا بروتوس وانظر كيف توجّتُ كاسيوس. غفرانكِ أيتها الآلهة الآن! إن واجباً رومانياً قد دعاني. تعال يا سيف كاسيوس فتش عن قلب تيتينيوس ينتحر
صوت بوق. يدخل مسلاّ ومعهُ بروتوس وكاتو الشاب وستراتو وفولمنيوس ولوسيليوس
بروتوس - أين أين جثتهُ يا مسلاّ؟
مسلاّ - هناك يندبها تيتينيوس
بروتوس - أرى تيتينيوس مستلقياً على ظهره!
كاتو - ميت!
بروتوس - أي يوليوس قيصر! ألا تزال قديراً. أيطوف بنا خيالك فيحدّد سيوفنا لنمزّق بها أحشاءنا؟ صوت بوق ضعيف
كاتو - لله درُّك يا تيتينيوس الشجاع! انظر كيف كلّل رأس كاسيوس(3/522)
بروتوس - أبلقٍ في الرومان اثنان كهذين؟ وداعاً يا آخر أبناء رومه! إن رومه لضنينة بمثلك! أي أخواني. إني مدين لهذا الراقد بأكثر مما تروني أذرف من الدمع. سأفيك حقك يا كاسيوس سأفيكه. هلموا الآن وأرسلوا جثته تدفن في ثاسوس فإني أخشى انحلال عزيمتنا إن نحن أقمنا مأتمه بيننا. تعال يا لوسيليوس وأنت يا كاتو هلمَّ إلى ساحة القتال. أعدَّا كتائب الجيش يا لابيو وفلافيوس فإنما الساعة الثالثة الآن ولا بد من خوض غمار معركة ثانية قبل حلول الظلام يخرج الجميع
المشهد الرابع
ناحية أخرى من ميدان القتال. صوت بوق. يدخل جنود من الفريقين يتحاربون ثم يدخل بروتوس وكاتو ولوسيليوس وآخرون
بروتوس - اثبتوا قليلاً بعد يا أبناء وطني. ارفعوا رؤوسكم وانشطوا
كاتو - لقيطٌ لئيمٌ من يتخلَّف! مَنْ يتبعني؟ سأكرُّ منادياً باسمي في ساحة الطعان وأنتسب! أنا ابن ماركوس كاتو! عدوُّ الظالمين وصديقُ وطني! أنا ابن ماركوس كاتو! أنا هو! يهجم على الأعداء
بروتوس - وأنا بروتوس! ماركوس برتوس أنا! بروتوس صديق رومه الحميم! اعلموا أني بروتوس! يهاجم قسماًَ من جنود الأعداء فيفرّون ويتبعهم. ويتكاثر الجمع على كاتو. يطعنهُ أحدهم فيقع ميتاً
لوسيليوس - أسقطتَ يا كاتو الشابّ النبيل؟ ما أشبهَ موتك بموت تيتينيوس الشجاع! إننا سنكرمك يا ابن كاتو
جندي - يهجم على لوسيليوس سلّم وإلاَّ متَّ!(3/523)
لوسيليوس - إني أسلّم كي أموت. يعطينه نقوداً هذا كلهُ لك إن أنتَ عجَّلت في قتلي! اقتل بروتوس فتنال شرفَ قتله!
الجندي - لا نقتله , بل نأخذه أسيراً
جندي أخر - افسحوا مجالاً. بلّغوا أنطونيوس أسر بروتوس
الجندي الأول - سأنقل الخبرَ. ها قد جاء القائد يدخل أنطونيوس لقد أسرنا بروتوس يا مولاي. لقد أسرنا بروتوس!
أنطونيوس - أين هو؟
لوسيليوس - في حرزٍ أمين يا أنطونيوس. إن بروتوس لأمنعُ من أن يقعَ لكم. ما من عدوٍّ يستطيع أخذه حيّاً. لتحرسهُ الآلهة من مثل هذا العار العظيم فإذا ما لقيتموهُ إن حيّاً أو ميتاً تلقونهُ هو وأشبهَ الناس بنفسهِ!
أنطونيوس - لجندي ليس هذا بروتوس يا صاح ولكنهُ لا يقلُّ عنهُ قيمةً. احتفظوا بهِ وقولوا له قولاً ليناً. ليت مثل هؤلاء الرجال أعواني لا أعدائي. اذهبوا ابحثوا عن بروتوس. أحيٌّ هو أم ميت. ثم تعالوا قصّوا علينا الخبر في خيمة اوكتافيوس يخرج الجميع
المشهد الخامس
ناحية أخرى من ميدان القتال
يدخل بروتوس ودارنيوس وكليتوس وستراتو وفولمنيوس
بروتوس - تعالوا يا بقيةَ إخواني نجلس إلى هذه الصخرة
كليتوس - لاح لنا ستاتيليوس بمشاله ولكنهُ لم يرجع بعد فقد يكون أُسر أو مات
بروتوس - لقد راج الموتِ اليوم وأصبح لفظهُ مألوفاً. اقعد يا كليتوس(3/524)
وأصغ لي قليلاً يكلمهُ همساً
كليتوس - ماذا؟ أنا يا مولاي؟ لا ولو أعطيتُ ملك العالم!
بروتوس إذن فاسكت. اسكت لا تتكلم
كليتوس - بل أوثر قتل نفسي
بروتوس - اسمع يا داردانيوس يكلمهُ همساً
داردانيوس - أأنا أقدم على هذا العمل؟
كليتوس - داردانيوس!
داردانيوس - كليتوس!
كليتوس - أيّ شرٍّ طلب منك بروتوس عمله؟
داردانيوس - أن أقتله. انظر إنهُ شارد الفكر
كليتوس - لقد طفح هذا الإناء الشريفُ حزناً ففاض من عينيهِ
بروتوس - تعال أيها الطيب فولمنيوس. لي كلمةٌ أقولها لك
فولمنيوس - ماذا يريد مولاي؟
بروتوس - هاك ما أريد. لقد زارني طيفُ قيصر مرتين في الليل مرةً في سارديس وأخرى الليلة هنا في فيليبي. لقد جاءت ساعتي
فولمنيوس - لا. لا يا مولاي
بروتوس - بل أنا واثق من قربها. قد انقلب الزمانُ علينا ودحَرَنا الأعداء حتى حافةِ الهوَّة فصار الأليقُ بنا أن نثبَ نحن إليها من أن نتربص حتى نُقذفَ قذفاً. أنتَ رفيقي يا فولمنيوس وقد كنا معاً في المدرسة. فبحقِّ الوداد القديم هلاّ أمسكتَ سيفي فأرتمي عليهِ
فولمنيوس - ما تلك بمهمة صديق يا مولاي صوت بوق
كليتوس - الفرار الفرار يا مولاي! لا مقام هنا بعد(3/525)
بروتوس - الوداع يا كليتوس. الودع يا داردانيوس. الوداع يا فولمنيوس. ستراتو! أكنت مستغرقاً في النوم كل هذه المدة؟ وداعاً لك. أي أبناء وطني! إن قلبي ليطرب عندما أراجع كل تاريخ حياتي فلا أرى رجلاً لم يكن يخلص لي ولذلك حقَّ لي الفخر هذا اليوم مع الانكسار أكثر من اوكتافيوس وأنطونيوس بالانتصار. الوداع الوداع فقد نطق لساني بكل ماضي حياتي. إن الظلام يغشى عينيَّ وعظامي تتنطلب الراحة التي كانت تسعى لنيلها
صوت بوق وأصوات اهربوا اهربوا
كليتوس - أهرب يا مولاي أنجُ
بروتوس - اخرجوا أنتم سألحق بكم يخرج كليتوس وداردانيوس وفولمنيوس
ابقَ أنت يا ستراتو بقرب مولاك. إنك لعبدٌ بارّ اصطبغت حياتك بصبغة الشرف. أدر وجهك عني وأمسك لي سيفي أقع عله \ يهِ. افعل يا ستراتو
ستراتو - هات يدك أولاً. الوداع يا مولاي
بروتوس - الوداع أيها الطيب ستراتو يقع على سيفه نم مستريحاً يا قيصر الآن فإني لم
أقدم على قتلك بنصف العزم الذي أقدمتُ بهِ على قتل نفسي يموت
صوت بوق. يدخل اوكتافيوس وأنطونيوس ومسلاّ ولوسيليوس والجند
اوكتافيوس - من الرجل
مسلاّ - هو عبد مولاي. أين مولاك يا ستراتو؟
ستراتو - حرٌّ من مثل العبودية التي أنت فيها مسلاّ. فلن يستطيع المنتصرون إلاّ إحراقهُ الآن فقد انتصر على نفسه ولم يدع لغيره شرف القضاء عليه
لوسيليوس - وكذا كان رجاؤنا فيهِ. شكراً لك يا بروتوس فقد حققت قولي فيك
اوكتافيوس - سأُلحق بي كلَّ من كان في خدمة بروتوس. أتبذلُ سعيك لي يا غلام؟(3/526)
ستراتو - أقبل إذا شفع مسلاّ بي لديك
اوكتافيوس - اشفع بهِ يا مسلاّ
مسلاّ - كيف مات مولاي يا ستراتو؟
ستراتو - مسكتُ له السيف فوقع عليهِ
مسلاّ - خذه إليك يا اوكتافيوس خذ إليك من قام بآخر خدمة لمولاي علته بقيصر العظيم لحسدٍ وغيرة. أما هو فانضمَّ إليهم ابتغاء مصلحة الأمة وإرضاءَ لمعتقده الشريف. ما أكرم حياته وما أشرف عنصره. إن الطبيعة نفسها تنادي بأعلى صوتها وتقول ذلكم رجل كامل
أنطونيوس - فليكن إكرامنا له على قدر فضيلته وندفنهُ باحترام عظيم. أما الليلة فستبيتُ جثتهُ في خيمتي موضوع الإكرام العسكريَ نادوا بالجيوش تسترحْ وهلموا بنا نتقاسم مفاخر هذا اليوم السعيد يخرجون(3/527)
العدد 31 - بتاريخ: 1 - 2 - 1913
الجمهورية الفرنساوية
رئاسة ريمون بوانكاره
رجلٌ من الشعب صار ملكاً. لم يصر إليهِ الملك بالإِرث عن والديه , بل صار هو إلى الملك بجدّه واستحاقه. هنيئاً للشعب الذي يفسح المجال لكلّ كفوءٍ أن يكون ملكاً. ولدت فرنسا ملوكاً عظاماً. بل لعلَّها ولدت أعظم ملوك التاريخ الحديث. ما كانت قط عاقراً , ولا دبَّ إليها العُقم في الزمن الأخير. غير أن تمدّنها كان يمشي حثيثاً إلى الكمال مشيةَ أخلاقها إلى السموّ , وعلمها إلى الارتقاء. وإن يكن قد قام فيها قَتلهُ لويس السادس عشر وماري أنطوانت , فقد قام فيها بعدهم محرّر والأمم من الرق , ومطلقو الممالك من قيود الملوك , ومعلّمو الشعوب حقوق الشعوب. هذه الحكومة التي استهلّت الأمة رئاستها برجل كتياريس لم يولد ملكاً , ولا ورث الملك وراثةً؛ ثم تنقلت بها من رئيس إلى رئيس ,(3/529)
حتى وضعتها بين يدي بوانكاره إنما هي النموذج الأول لما سيصير إليه حكم الأمم في المستقبل البعيد. إن شعبناً استطاع أن يكون في يومهِ , مثال جميع الشعوب في غدها , لهو الشعب الذي يجب على العالم أن ينحني أمامه باحترام.
في السابع عشر من شهر يناير ك2 الماضي انعقد المجلس الوطني الفرنساوي في قصر فرسايل على مقربةٍ من باريس , وانتخب مسيو رَيمون بوانكاره رئيس مجلس النظار وناظر الخارجية , رئيساً للجمهورية بدلاً من مسيو ارمان فاليير الرئيس الحالي الذي تنقضي رئاسته في السابع عشر من هذا الشهر.
دستور سنة 1848 - كان الدستور الفرنساوي الذي سُنَّ في سنة 1848 يقضي بانتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً شعبياًّ محضاً؛ أي أنه كان لكل فرنساوي لم يفقد صفته السياسية , حق الاشتراك في ذلك الانتخاب. غير أن هذا الشكل الدستوري كان خطراً محيقاً بكيان الجمهورية؛ فأن الرئيس الذي تجمع الأمة على ترئيسه , أو ترئُسهُ عليها بأغلبية آرائها , يتأيد بقوة ذلك الإجماع , أو بدعامة تلك الأغلبية على الأقل , تأييداً إذا عزَّزه الطمع , دفعهُ إلى قلب الحكومة من شكل إلى شكل , والاستئثار بها لنفسه , كما فعل في سنة 1851 لويس نابوليون المعروف بنابوليون الثالث. لذلك قام رجال الجمهورية على قانون سنة 1848 وأبدلوه بآخر جعلوا فيهِ الرئيس منتَخَب منتخَبي الأمة: نوَّابها وشيوخها.(3/530)
يريدون
بهذا إضعافَ تلك القوة المستعدة من الأمة بوضعها أولاً بين أيدي النواب والشيوخ , ثم بتدرّجها من هؤلاء إلى الرئيس. قالوا: وإن في تدرّج القوة من الأصل إلى الفرع , ثم إلى فرع آخر , تجزئةً لها , وإن في هذه التجزئة , على هذا النمط , اتقاءً للخطر المشار إليهِ؛ فالرئيس الذي يجمع عليه النواب والشيوخ أضعف شوكة , وأقل صولةً من الرئيس الذي تجمع عليهِ الأمة على بكرة أبيها.
المجلس الوطني - يُطلق اسم المجلس الوطني , أو الجمعية الوطنية , على مجلسي الشيوخ والنواب , متى اجتمعنا معاً , في قصر فرسايل , لانتخاب رئيس الجمهورية. وينعقد هذا المجلس بأمر سامٍ يصدره رئيس الجمهورية قبل انقضاء رئاسته بشهرٍ على الأقلّ. فأن لم يفعل , لأمرٍ ما , انعقد المجلس لنفسه قبل انتهاء تلك المدة بخمسة عشر يوماً. على أنه إذا خلا منصب الرئاسة , قبل الأجل المقرر , وذلك إما بموت الرئيس , وإما باعتزاله وإما بخلعه بعد الحكم عليه , ويجب انعقاد المجلس الوطني على الأثر , بدعوة من رئيس مجلس الشيوخ , لانتخاب رئيس جديد. والرئيس المنتخَب حينئذٍ إنما ينتخب إلى سبع سنوات جديدة وليس لتكملة السبع التي لم تتمّ. ويئس هذا المجلس في جميع الأحول , الرئيس الأول لمجلس الشيوخ؛ فيقصر العمل على الانتخاب وحده , وتحظر المناقشة والجدَل
طريقة الانتخاب - كل فرنساويّ , متمتع بحقوقه السياسية، يصحّ أن يكون رئيساً للجمهورية. ولكنّ المجلس الوطني لم ينتخب إلى اليوم غير مَن كان من أعضائه. أما الانتخاب فإلى سبع سنواتٍ ,(3/531)
وبالأكثرية المطلقة , على طريقة الاقتراع السريّ. ويجوز تجديد رئاسة الرئيس وتكرارها , وإن يكن لم تجدَّدْ لأحد من الرؤساء السابقين؛
مرتب الرئيس - ليس لرئيس الجمهورية مرتّب معين يتقاضاه كموظف في الحكومة. فإن النظام الذي وضع في سنة 1875 , ولم يزل معمولاً به إلى يومنا الحاضر , أغفل هذا الأمر تاركاً لمجلسي الأمة تقريره سنوياً في ميزانية نظارة المالية. وقد جعلته هذه في العهد الأخير مليوناُ ومئتي ألف فرنك: خصّت الوظيفة منها بستمائة ألف فرنك , وعينت لنفقات القصر ثلاثمائة ألف , وتركت الثلاثمائة الألف الأخرى لنفقات الأسفار والاحتفالات.
حقوق الرئاسة - إذا كانت الجمهورية في فرنسا قد قامت على أكتاف رجال الثورة , فلأن
تلك الأكتاف كان قد أرهقها استبداد الحكم المطلق , وناءَ بها حمل الحاكم الفرد. وإذا كان الدستور الفرنساوي قد جرَّد رئاسة الجمهورية من معظم حقوق الملكية , فلأن الدستور يقضي أبّى كان , بأن تكون الأمة حاكمة نفسها بنفسها بكل معنى الحكم. لذلك كانت السلطة المخوّلة لرئيس الجمهورية ضيقةً , محدّدةً , تكاد تخلو من كل مسئولية , وذلك أيضاً ما اهتم لإحراز هذا المقام العالي - بعد تيارس وقبل بوانكاره - أحد الساسة النابغين. كل ما لرئيس الجمهورية من الحقوق لا يتعدى حقّاً تشريعيّاً محصوراً في قليل من السلطة على مجلسي الأمة , ويسير من التدخل في سنّ القوانين , واشتراع الشرائع؛ وحقّاً آخر تنفيذيّاً مقيداً بقيودٍ(3/532)
ضيقة الحلقات يتحمل مجلس النظار كل مسئولية فيه
الحق التشريعي - أناط الدستور برئيس الجمهورية حق إشغال مجلسَي الأمة؛ فهو يجمعهما للعمل أو يؤخر اجتماعهما إلى أجل. وهو يحل مجلس النوَّاب إذا وافقهُ على حله مجلس الشيوخ. غير إن الرئيس لا يستخدم هذا الحق , حسب مطامعه وأهوائه , ولكن في ا؛ وال معينة نصَّ عليها القانون؛ كأن يتعذر , على جملة وزارات متعاقبة , تسييرُ الأعمال , والقيام بالواجبات , لإصرار مجلس النواب على المشاكسة في أمرٍ ما , واستمراره على رأي رآه , لأول مرة , في ذلك الأمر ثم لم يتحول عنه. حينئذٍ يقرر الشيوخ وجوب فضّ المجلس فيعمل الرئيس بذلك القرار. وللرئيس أن يشترك بالرأي مع وزرائه في التشريع , وإن يحمل مجلس الأمة على إعادة البحث , وإطالة النظر في كل قانون طرحتهُ الوزارة في المجلس على بساط الجدل والبحث. وعلى مجلس الأمة أن يفعل بمشيئة الرئيس.
الحق التنفيذي - يشمل هذا الحق الأمور التالية:
1ً أن يتوِّجَ الرئيس باسمه جميع القوانين , ويراقب تنفيذها
2ً أن يسامح وأن يعفو
3ً أن يستأثر بقيادة الجيش
4ً أن يعيّن في الوظائف المدنية والعسكرية
5ً أن يرئس المجتمعات الوطنية
6ً أن يمثل الأمة في علاقاتها السياسية الخارجية(3/533)
أعطيَ الرئيس حق المسامحة والعفو معاً , ولكنَّ الدستور أطلقه في الأول وقيده في الثاني
إذ جعله ميسوراً له فقط بموجب قانونٍ يصدّقه مجلسا الأمة , لأن العفو في عرف السياسة غيرُ المسامحة. هذه لا تمحو الجرم الأصلي بل تمحو جزءًا من عقابه , أو عقابه كله , وذاك يلغي الجريمة نفسها كأنه لم تكن جريمة فلم يكن عقاب. وخُولّ الرئيس قيادة الجيش العليا بمعنى أنه رئيس الحكومة الأكبر. غير أن هذا الحق لفظي لا فعلي. فالدستور الذي جعل الرئيس غير مسئول لدى الأمة , وضع كل مسئولية في أعماله على وزرائه. فمن الصعب جداً أن يعمل الرئيس بهذا الحق ناظر الحربية المسئولية عنه. بل الأصعب أيضاً أن يضع مجلس النواب ثقته في ناظرٍ يأخذ على نفسه تبعة هذا الأمر.
مسئولية الرئيس - ليس رئيس الجمهورية بمسئول لدى مجلس الأمة بل المسئول عنهُ في جميع أعماله إنما هو رئيس الوزارة , ومجلس الوزراء. غير أن الدستور الفرنساوي قال بوجوب محاكمة الرئيس إذا ارتكب الخيانة الكبرى؛ ولكنهُ لم يفسر هاتين اللفظتين بل ذكرهما مجرَّدتين. ثم أعطى مجلسَ النواب حق الاتهام , ومجلسَ الشيوخ حق الحكم. ونصَّ بوجوب تطبيق القواعد نفسها في جرائم الرئيس المدنية كما في جرائمه السياسية.
ريمون بوانكاره - وُلد في بارلدوك من أعمال فرنسا سنة 1860(3/534)
فهو اليوم في الثانية والخمسين من مره. أما حياته فهي سلسلة جدّ ونشاط , وأما تقدّمهُ فهو السائر في مراحل الترقي بالسرعة التي يمشي بها كبار الرجال , فكانت كل درجة من درجات الارتقاء التي وطِئَها قذَّافةً بهِ إلى درجة أعلى حتى لقد أصبح في كهولتهِ في أعلى القمم التي يمكن أن يحلم بالصعود إليها إنسان: في الثانية والعشرين من عمره كان سكرتيراً لمؤتمر المحامين؛ وزيراً للمعارف؛ وفي السابعة والأربعين عضواً في مجلس نقابة المحامين؛ وفي الثامنة والأربعين عضواً في الأكاديمي؛ وفي الحادية والخمسين رئيساً لمجلس النظار؛ وفي الثانية والخمسين رئيساً للجمهورية. هذا هو ملخص حياته المجيدة , وتقدمهِ المدهش. ولا تكون مثل هذه الحياة إلاَّ لرجلٍ نابغة متفرّد بصفاتهِ. وأهمّ تلك الصفات إرادة شديدة , وفكر نيّر , وثبات في العمل , وقد زانتهُ الطبيعية بصفات قلما اتفق اجتماعها في نفس واحدة فبينا تراه كاتباً بليغاً إذا بك تراه عالماً مدققاً , وبينا تقرأه فيلسوفاً مفكراً , إذا بك تجده شغفاً بالفنون الجميلة , وبينما تسمعهُ خطيباً تهتز له أعواد المنابر , إذ بك تراه هادئاً ساكن الجأش. قال الأب مرشال أستاذه الأول وقد اتصل به صدى خطبه الرنانة: لو كنت أعلم أن بوانكاره
سيستعمل لسانه بمثل هذه الزلاقة ما كنت عاقبتهُ مراراً على الثرثرة في خلا الدروس هذا وأما انتخابه لرئاسة الجمهورية فقد كان له أعظم وقع في فرنسا(3/535)
خصوصاً وفي العالم كله عموماً. واستقبلتهُ الجرائد على اختلاف نزعاتها ولغاتها بكلمات الإجلال والاحترام. قالت جريدة التيمس عنهُ: إن فوزه يعدُّ فوزاً لمبادئ الجمهورية العاقلة المعتدلة. وقالت الدايلي مايلي: لم يرئس الجمهورية الفرنساوية بعد تيارس رجل ذو تفوُّق حقيقي , ومحاط باحترام عام مثل بوانكاره. وقالت عنهُ غازته ألمانيا الشمالية: إن لهُ الفضل الأعظم في حفظ لسلم في أوربا أبَّان الأزمة البلقانية
اقتراح على شعرائنا - لم تترك صحف أوروبا إلاَّ ذكرته عن الرئيس الجديد. فأمامنا الآن أول مقالةٍ نشرها في الجرائد , وأول مرافعة له في المحاكم , ومأثورات جمة عن صباه وجميع أطوار حياته. ومما قراناه له أبيات شعرية نظمها يوم انتقل من حضن الحياة العائلية إلى ميدان العمل والجهاد. وهذه هي ترجمة تلك الأبيات لعلَّ بين شعرائنا من يسبكها في قالب النظم. قال بعنوان الفراق الأول إن الذي أتأسف عليهِ هنا ليس الصفاءَ ولا الراحة المضرَّة. ونفسي القلقة ما كانت لتتكدر من أجل دواعي الأفراح والملذات التي أُغادرها إن الذي أتأسف عليهِ هو نارٌ مدفئة في الشتاء , وسماءٌ صافية في الصيف
إن الذي أتأسف عليه هو أخٌ وصديقٌ ووالدٌ محبوب. هو أمٌّ ساهرة أبداً على ولدها
انتقضت الأيام الجميلة. فالذي أتأسف عليه - ويا له من أسف لا يجدي - لن يرجع أبداً. . .!(3/536)
حرفة الأدب
للشيخ أبي السامي مصطفى صادق الرافعي
لا أريد من معنى هذه الحرفة ما يتجوز به المتكلمون من إملاق أهل الأدب وسوء أثر الزمان عليهم كسوء أثره على بعض الكتب القديمة. . . ولا ما يترسلون به من جفاء الأديب واطرحه دون منزلته وتقديره بما ليس من كفايته , وذهابهم إلى أن الأقدار ما برحت تنصرف بسعادته إلى غيره , وبشقاء غيره إليه , كأنه في لغة الأقدار باب من الطرد والعكس. . . ولا ما يتمثلونه من قبح مكافأة كل أديب لنفسه , وجنايته عليها وابتغائه بها المراميَ في كل ما أجرى إليه من قصد , واستهدف له من غرض , كأنها غير نفسه أو نفس غيره , فما إن يزال ينصب ويتهالك فيما يعاني من أمر الأدب لا يرفق بها ولا يستجمّ لها , حتى تسترخيَ جوانبها , وتتناثر بما فيها من قوة , فيحتف عليها كل بلاء , ويمكّن منها لكل قضاء , وهو يرى أن لا بأس على نفسه من شيء ولو كان الموت ما دام قد استيقن أن لا بأس في لبه. لا أريد ذلك وما إليه مما عسى أن تبلغ به بلاغة القوم في تفضيل هذه الحرفة إذا هم جمعوا أطراف لبيان وأخذوا في متاحي القول؛ وإنما أشير إلى معنى الحرفة على الحقيقة , وأريد أن أصف شيئاً من أخلاق جماعة يحترفون من الأدب صناعة كسائر المهن؛ والصناعات التي بها قِوام(3/537)
العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة لا على جهة ما تحتاج إليه الحرفة من نفاق السوق , وتحرّك اصناعة , وتوفير الغلّة مما تزكوه به الثروة ويستطيل النَّماء , وتتصل أسباب الفائدة , وكن على جهة الحاجة اللازمة في كل حرفة إلى الأدوات والآلات , وإلى التمرّس بالأسباب والوجوه ثم إلى نزعه اللؤم التي البدّ منها في كثير من أهل الحرف والصناعات عندما يعرض من اهتضام الحق وبخس المماكسة؛ وعند تقليب النظر في أحوال الحرفاء وما أفاء الله عليهم من خير وبسط لهم من سعة؛ وعند اهتمام القلب بكساد إن وقع في الحرفة , وقوتٍ عن فات من الربح , وضعف إن أخذ في أطراف العمل , وصداع إن ضرب في رأس المال؛ وعند نصب البدن واستفراغ الدَّرع وترميق الصبر؛ فهذا كله وما يكون من بابه ويتصل بأسبابه رأيناه بكثير من أهل الأدب الذين اتخذوا من الأدب حرفة يُعرفون بها دون أن تعرف بهم , وذهبوا يتجرون في أخلاقهم على الناس , ولعل أحدهم أن يكون اسبوا من
الحمق , واذمّ من الحسد , وأقبح من الجهل؛ ثم لعله أن يكون مع ذلك أضعف مَن أنت واجد ممن يدَّعي الفهم , ويتنبل بالعلم ويتنفق بالأدب , ولكنه يمضي ممدوداً لع في غيّه , وينطلق منفّساً له في باطله , ولا يزال قد ملكه السرف ونزت به الضراوة , وبعث منه التسلط , حتى يأخذ في كل فنّ من الحمق , ويضرب في كل ناحية من السخف , زرايةً على هذا ونفاسة على ذلك وتربصاً بغيرهما. ثم هو في جماع ينزع إلى لؤم الحرفة ويتسكع في كل وجه من السفه منتحلاً ما شاء أن يتنحل(3/538)
من الأسماء يصنع منها المعاذير , ويستر بها على نفسه فضيحة من الأخلاق كان الرأي أن يتوقاها قبل أن تظهر , لا أن يحاول سترها وقد ظهرت؛ فربما زعم أنه منتقد أو متصفح أو هو يصلح عيباً أو يبغي مرمة ولابدَّ في هذا ومثل هذا بزعمه من سورة حمق ونزوة غضب ومن كلمة كزجرة المؤدب , وأخرى كغمزة المثقف , ونحوها مما يكون انتقاماً ويسمى في الرجل من الحملقة وفساد الأخلاق بحيث يرى سوء الأدب أدباً , والجنف عن الحق الواضح قصداً , والتنطع فيما يجهل علماً , وبحيث لا يرى له حجة ظاهرة على أحد إلاّ في العناد وركوب الهوى والمخاطرة , لا يرى أن أحداً يقوم له في الحجاج أو يثبت معهُ في الخصام , أو يرجح بالحق عليه وعلى باطله وهو ما هو؟ غبي فَدْمٌ إلى الجفاء والغلطة وإلى السجف والغسولة وتراه على ذلك يجمع إلى ضعف الرأي قوة العجب وإلى قلة الصواب كثرة التخطئة وإلى بطء الفهم سرعة الحكم ويرى كأن الله لم يخلق لأحد من الناس عقلاً إلاَّ على قياس من رأسه. . . فإن أنت جئته بما يعلو عن فهمه ويخرج عن طاقته بادر فقطع فيهِ برأيه وجزم عليهِ بالركاكة والإِحالة والإِفساد وسوء التعبير. ولِمَهْ؟ لأنه هو لا يفهمه فلا يوجد من يفهمه البتة إذ كان ما زاد عن قياس رأسه لم يكن إلى العقل بل إلى الجنون. . . وإن أراد أن يبتَّ الرأي في كلام من الكلام ويتعسف في الجزم عليهِ بأنهُ مال لا يستقيم , فسد لا يضح , مضطرب لا يتماسك , زعم(3/539)
لك بلا حياء أنهُ لا يفهم. عليك أن كون ذكيّاً بالوراثة منطقياً بالفطرة لتنتهي من هذه المقدمة المسلمة. . . إلى النتيجة الطبيعية. . . فتقطع بأن ما لا يفهمهُ هو بتةً إذ لا يوجد من يستبطن حقيقته في الجيل كله ما دام علم الهستولوجيا الأنسجة لا يقيم عليهِ البرهان بأن رأسه غير ذلك الرأس الذي نصبهُ الله في أرضهِ مقياساً للعقول. . .! وبعد فإن من لؤم هذه الحرمة أن ترى صاحبه ساقط الحرمة ذمر المرؤة , زريَّ
النفس بذيئاً متعهراً فحَّاشاً في هجائه أستغفر لله بل في انتقاده. . . يضع لسانه حيث شاءَ من عرض أو خلُق أو صيغة لا يبالي في كل ذلك أن يكون صدق وبرَّ أو كذب وفجرَ , بل همهُ أن يكون قد أوجع وأمضَّ , وطبَّق المفصل الذي يحزُّ فيهِ لا ينكر من ذلك على نفسهِ نكيراً ولا يغير منهُ تغييراً. ولا بدع فإني رأيت أن أحداً من الناس لا يخلو من الفضيلة إلاَّ كان فيهِ ما يعتدُّه في رأي نفسهِ فضيلة وأن فضيلة اللئيم التي يراها أن لا يخله لؤمه دون الاستطالة والتمكن؛ فلو كذب وعقَّ وكفر النعمة , وغمط الحق , وجاءَ بكل مخزية ومندية , ثم كان له أن يستطيل ويغلب , لقام ذلك عنده مقام الصدق والمبرة والشكر والإِقرار والإحسان , لكان عند نفسهِ أفضل أهل الفضائل جميعاً؛ فهو لذلك لا يتورَّع عن قول بذيء ولا يتنزه عن فعل دنيء ولا يأبى أن يكون أسخف الناس عند الناس إذا كان من نفسهِ ما عرفت. والغرور نعوذ بالله فهو ألأم اللؤم في محترفي الأدب خاصة قلما يؤتى أحدهم إلاَّ من جهته , ولا يعرض له لشيطان إلاّ من قبله؛ وأنه(3/540)
لجنون هؤلاء العقلاء إذا كان لكل امرئ شعبة من الجنون. فلو رأيت ذلك المغرور , وَرِم أنفه , أن يكون أحد أولى منه بالحق أو أحق بالصوت فلجّ في العناد , وجنح إلى الباطل , وأصرّ واستكبر استكباراً! ولو رأيته قد زيَّن له الغرور وسوّلت له نفسه الخبيثة أن يهتف بأحد هتفه مشؤمة أو يقوم فيه مقاماً مشهوداً فجعل يفتري الكذب ويصنع الباطل وينقض الحق ويحيل الصدق حتى يصف لك أفضل خلق الله فلا تراه في ألفاظه إلاّ غثاً بارداً سمجاً , وأكرم خلق الله فلا تعرفه إلاَّ كزّاً لئيماً متوقحاً , وأعلم خلق اله فلا تصيبه إلاّ جاهلاً غبياً فدْماً , وأفصح خلق الله فلا تجده إلاّ عيّاً بكيئاً حصِراً؛ وهذا لا يزال يجترئ على الله , ويمثل بخلقه هذا التمثيل , ويمسخ منهم هذا المسخ حتى لكأن الله إله المخلوقين وهذا المغرور إله الأخلاق , وكأن لله جلَّ شأنه قوة الخلق ولهذا الأحمق في معارضتها قوة الاختلاف. ولو قيل لي إن في أديب من الأدباء مائة فضيلة وفيه لغرور , لما صدّقت أن تكون فيه مع هذه الرذيلة فضيلة؛ فإن الغرور لا يكون إلاّ من سوء تقدير المرء لنفسه وتقدير نفسه للناس , وهما خصلتان لا غاية لهما إلاّ تجاّور غاية المدح وغاية الذم؛ وما أسرف امرء في مدح إلاّ كاذباً ولا أفرط في ذمّ إلاَّ كاذباً ومتى كانت مع الكذب فضيلة؟ ولولا هذا الغرور ما استنكف المخطئ أن يفيء إلى الصواب , والضال أن يثوب إلى الحق والجاهل أن ينزل إلى حيث يتعلم ,
والناقص أن يخرج إلى طلب الكمال من غيره وهذا كله تراه على أهوانه وأقله في عوام الناس وطغامهم(3/541)
وحثالهم من لا يثبتون على الباطل إلاَّ بمقدار ما يفهمون الحق؛ ولكنه على أعظمه وأتمه في هؤلاء الذين يحترفون الأدب لأنهم أهل زلاقة ولَسَن وصنعة من الكلام , وإنما قلوبهم عند النضال في حصون من وراء أفواهم فلا تزال تصرع دون قلوبهم كل حجة , أو ترد على أعقابها مهزومة أو كالمهزومة وهيهات أن تصل إليها مطلقة , أو تنزل فيها إن نزلت إلاَّ موثقة. وصفة المغرور أن يكون لسانه فوق عقله , وتكون نفسه تحت لسانه , فكيف تراه يكون لو تمت له مع هذه الصفة قوة اللسان وشرعة البديهة وشدّة العارضة واستجابة المعاني وهي أخصّ أدوات حرفة الأدب؟ على أني يعلم الله ما رأيت كالغرور من هؤلاء الأدباء يذم لك الغرور وينتفي منه ويعتده السيئة المجترحة التي لا تكفّر عنها الحسنة بالغةً ما بلغت , ثم لا تجده إلا أشدّ الناس كلفاً بأن يكون كل ما يؤثر عن المغرورين مسند إليه , متظاهراً عنه وأن تفشوَ له بذلك فاشية في الألسنة وتذهب عنه القالة في المجالس ليكون مرهوب الجانب , متقى اللسان , مخشيَّ المعرَّة مستعاذاً بالله منه , وليُعرف أنه لا يضع جانبه لخصم , ولا يغتمز فيهِ عدوّ غميزة , وليس أحد معه أبداً إلا على خطأ , وليس هو مع أحد أبداً إلا على الصواب؛ وأنه على ذلك سريع الباردة قبيح الإزراء موجع القذع حاصد اللسان؛ وأن من حمل نفسه عليه فقد حملها على التهلكة وأخطرها لما لا يملك له دفعاً دفعاً , وطلب بها ما إنَّ المعجزة كلها في أيسره؛ وأن من أخلد إليهِ وشدَّ بهِ يده والتمس مناصرته , فذلك(3/542)
الذي يضرع كل عدو إلى أمانه , ويخرُّ كل قلم ساجداً يطلب المغفرة من لسانه. إلى صفات أخرى من أمثال هذه لا يكون الغرور بدونها غروراً , ولا تكون هي في أحد إلا بخذلان من الله. فما أشأم حرفة الأدب على أهلها وعلى الناس من أهلها. . . على أنه من خير إلا وفيه جهة من الخير تحيله كله خيراً؛ فالأمور بأسبابها , والآداب بأخلاق أربابها , وقلما نبغ أديب إلا كان إنساناً فوق الإنسان , وإذا اعتبرتَ أخلاقه لا تراه إلاَّ أقرب إلى الملَك أو أقرب إلى الشيطان.
كيف نقيس الزمان
الزمان! ما هو الزمان؟
يمرُّ بنا ونمرُّ به , يُحيينا ونحييه , يلاشينا ونلاشيه , ولا نعرف ماهية كيانه. ويعبر جسر الحياة تاركاً بين جوانب الأحياء جروحاً , ناثراً على سواد الشَعر بياض القِدَم , طابعاً على الجباه الوضّاحة تجعدات المجاهدة والملل , دون أن نحاول إرهابه أو الاقتصاص منه: الشيخوخة قبلةُ الزمان للبشر. لكن ما هي الشيخوخة , وما هو الإرهاب , وماذا يعني العقاب؟
والزمان. . . ما هو الزمان؟
أراد لبنتز تحديده فقال فيه أنه تتابع الأشياء المتواردة. وسواءٌ(3/543)
كان هذا التحديد كافياً أو غير كافِ على الإطلاق , فهو دائماً يعبر نوعاً عن أهم أحوالنا البسيكولوجية والفيسيولوجية المنقسمة إلى ثلاثة ظروف هي سلسلة حياة الإنسان: الماضي والحاضر والمستقبل. ولكلٍّ من هذه الظروف علاقة كلية بالآخر يستحيل فيها الحذف والإلغاء لأنها إن لم تكن تلاشي الظرفان وتلاشى الزمان , وهذا من ضروب المحال. فالحاضر بمفهوميتنا هو ما يقع تحت إدراك الحواس اللمسيّ أو المعنويّ , في آن كائن بين خطين وهميين كل منهما أكثر أو أقلّ وضوحاً: خط الذكرى وخط الأمل , أي خط الماضي وخط المستقبل؛ والحاضر مزيج من الاثنين , وفي الوقت نفسه لا هو هذا ولا هو ذاك. بيدَ أن العلم المجرَّد يكاد يلغي هذه الأزمنة الثلاثة , وليس الزمان في نظره إلاَّ تتابع أشياء وأوقات لا بداية فيها ولا نهاية , كما أن الفضاء مسافة لا تحدّ , ولا أعالي فيها ولا أداني وجميع أجزاء الوقت التي انعيها كساعات النوم وساعات الغيبوبة تمتزج بعضاً ببعض وتتيه في هاوية الزمان كانت
فالزمان - كالمسافة - كائن وإن لم تتوارد فيهِ أشياء متتابعة ولأن ما لا نراه نحن يراه غيرنا , وما لا يراه غيرنا يستعد من الطبيعة قوةً , ويتبادل مع أنواع متشابهة متضادة حركته الحيوية الدائمة. وفروغ الزمان - كفروغ المسافة - كلمة لا تعني شيئاً , ويتعذَّر على الإنسان تصوُّر مسافة أو زمن خاوٍ خال من كل ما يقع في دائرة الحواس: فهناك دائماً(3/544)
هواءٌ ونور أو ظلام؛ وذرّات صغيرة هي عالم بذاتها , ودقائق أثيرية إن هي إلاَّ جرائيم الحياة. أما قياس الزمان مجرداً كما هو فأمرٌ مستحيل لأن إدراكنا متناهٍ والزمان غير متناهٍ ,
فضلاً عن أن القياس يستوجب مشابهة حجم إلى حجم من نوع ثان. فكيف نقيس الماضي وهو انقضى ولم يبقى منهُ إلاَّ الذكر - أي أمانة في الحواس - بالمستقبل الذي لا نتلمس خياله إلاَّ في دوائر الرموز والتقادير؟ على أنّا وإن لم نقوَ على قياس الزمان طولاً وعرضاً فتأثيراتنا النفسانية ميزان بخله وكرمه , ولا قيمة إلاَّ بما يورثه إلينا من السعد والشقاء. أرواحنا ملك مشيثته ولا ينفك جائلاً فيها - حتى يرضى. وهل يعرف الزمان معنى الرضي؟ وهناك أقيسة علمية رياضية آلية تترتب عليها حركات الاجتماع وقد اصطلح البشر على استعماله والسير بموجب قواعدها.
منذ فجر الوجود كانت الحوادث الفلكية الطبيعية أساس تقسيم الزمان , وأهم هذه الحوادث لدينا هي دورة الشمس ودورة النجوم. والأوقات في علم الهيئة السماوية ثلاثة: يوم شمسي , ويوم متوسط , ويوم نجميّ. وكلٌّ من هذه الأيام ينقسم إلى أربع وعشرين ساعة , وكل ساعة تتركب من ستين دقيقة كما أن كل دقيقة تتألف من ستين ثانية. فالوقت الشمسيّ يقاس بمرور الشمس تتابعاً في مكان غير ثابت(3/545)
وهو أطول من اليوم النجميّ. وأطول يوم شمسيّ هو 23 ديسمبر , وأقصر يومٍ يومُ 16 من الشهر نفسه. والوقت المتوسط أوجده الفلكيون لإصلاح الوقت الشمسي , وذلك باختراع شمسين آليتين تدوران على محورهما. أولهما تجتاز القوس السمتية بحركة متعادلة متوازنة , بنوع أنها تصلح حركة الشمس الحقيقية المتباطئة بسيرها من البعد الأدنى إلى البعد الأقصى , المتسرعة بسيرها من البد الأقصى إلى البعد الأدنى. والشمس الثانية أو المتوسطة , تجتاز خط الاستواء السرعة التي تجتاز بها الشمس الأولى القوس السمتية , فتمران في آن واحد في خط معادلة الليل والنهار. حركة هذه الشمس المتوسطة اليومية هي اليوم المتوسط وهو أصلح جميع الأيام الشمسية على تعددها واختلافها. والوقت النجمي يقاس بمرور نجمةٍ تتابعاً في مكان واحد في ساعة معينة , والمسافة بين المروو والمرور هي اليوم النجميّ وهو أقصر قليلاً من اليوم الشمسي , ذلك لأن بينا الأرض تدور دورة تامة على محورها تتبع الشمس في القوس السمتية انحناءً ملائماًَ لحركتها الخصوصية غير انه نقيض حركة النجوم اليومية. وأعظم فرق بين اليوم الشمسي واليوم النجمي هو 23 ديسمبر وقدره ثلاثون ثانية. وأقصر فرق بينهما في 16 من الشهر نفسه وقدره 21 ثانية. واليوم النجميّ هو في 23 ديسيمبر
وقدره 21 ثانية. واليوم النجميّ أقص قليلاً من اليوم المتوسط. إن كانت حركة الفلك أساس قياس الزمان فالساعات والمقاييس(3/546)
تدوّن تلك الحركة. وأول آلة كان يستخدمها الأقدمون هي بناية حجرية أو خشبية تحدد الساعات وتقيس ارتفاع الشمس بموجب اتجاه الظل نحو الشرق والغرب , نحو الشمال والجنوب. ويقال أن الأهرام شيدت لهذه الغاية أيضاً. ففي أهرام مصر إذاً درس مهم من هذا القبيل. وأعقبت الساعة الشمسية هذا النوع من قياس الوقت. وأقدم ساعة شمسية يذكرها التاريخ هي ساعة أشار ملك أورشليم سنة 740 قبل المسيح وردَّد ذكر هذه الساعة صدى الأجيال ناقلاً خبر أعجوبة النبيّ أشعيا الذي أخّر الظلّ في الساعة عشر درجات. أما الآن فلا نرى أعجوبة في مثل هذا الفعل لأنه يتجدد يومياً في ساعة تنعت بالرجعية من اختراع فلاماريون في مدينة جوفسي. ووجدت أول ساعة ثمينة في أثينا في سنة 433 قبل المسيح , وأول ساعة في روميه في سنة 306 ق. م. هذه كانت أقيسة النهار. وكانوا في الليل يستعملون ساعة الماء أو الساعة الرملية وهذه الساعة عبارة عن حوض صغير وفي قعرهِ ثقبٌ يسيل منه الماء - أو الرمل - نقطة فنقطة في أنبوب ذي درجات محصاة تدلُّ الملآنة والفارغة منها على عدد الساعات. وكانت هذه المقاييس مصطلحاً عليها بين جميع فلكييّ الشرق من كلدان وصينيين ويونان. وقد أهدى هارون الرشيد إلى شارلمان ساعة ماء قيل أنها أجمل ساعات ذلك العصر. وكان ذلك بمناسبة اتفاقهما(3/547)
ضدّ يونان الآستانة ومسلمي أسبانيا. وأول من أوجد حركة ساعاتنا الحالية راهبٌ عاش في القرن العاشر يدعى الأب جربر وقد صار بعد ذلك بابا روميه وسمي سلفسترس الثاني. واشتغلت الشعوب على اختلافها في تحسين الآت الساعة وضبط حركتها الدقيقة , وبرع في ذلك ألمانيا وفرنسا فأوصلتا قياس الزمان إلى حدّ قصيّ من الدقة الصناعية والإتقان الذي لا إتقان بعده. أما أشهر ساعة أوروبية فهي ساعة ستراسبورج وقد استمرّ أساتذة الصناعية على الاشتغال بها مدة جيلين ونيف وألا تزال باقية إلى أيامنا هذه. غير أن حكومة ستراسبورج اضطرت إلى تغيير بعض عقاربها وتبديل بعض آلاتها في القرن الماضي.
لم يكتف زعماء التقدم الآليّ بقياس الزمان بل أرادوا قياس الارتقاء في الكون بواسطة الآلات. فما أكثر دعوى الإنسان! فقد اخترع هاينرتش شميد تلميذ هيكل ساعة لا تعدّ
الساعات بل الأجيال , وتدل عقاربها إلى الدرجة التي وصلتها الإنسانية في سلم الارتقاء. كل ساعة في هذه الآلة التاريخية عبارة عن عشرين ألف عام , وكل دقيقة تمثل ثلاثة أجيال , وكل ثانية تعني خمس سنوات. فليس ما يذكر في النهار الإنساني قبل الساعة العاشرة صباحاً - أي العصور الميثولوجية. وقبل الظهر بعشرين دقيقة تدل العقارب على ظهور آثار الارتقاء الأولي في مصر وبابل. ومنذ سبع دقائق - بالنسبة إلينا - تجلت شمس(3/548)
الفلسفة اليونانية وانتشرت مبادئ العلوم. ولم يمض بعد أكثر من نصف دقيقة على ظهور الآلات البخارية , كذا ولم ننتبه غيبوبة الجهل إلى عالم المعرفة إلاَّ منذ دقيقة وبعض الثواني. هذه فكاهة علمية فلسفية. لكنها كجميع الفكاهات تضمر تهكماً ودعوى , وتمكن في أعماق معانيها مرارة في رغبة المعرفة , وألماً في استكشاف ما أغمض عن العقول في ضمير الوجود. فيا ليت شعري لماذا كانت الأيام ولماذا كنا؟ ألندوّن حركات النجوم بعقارب معدنية , أم لنقابل نبضات القلب في الصدر بحفيف الأفلاك في الأثير؟ ألنرى الزمان تائهاً في دوائره الأبدية التي لا مجال للمدارك فيها , أم لنشعر بأقدام خياله دائسة على الأرواح فتطبع عليها ما شاءت من آثار حاسة مجهولة بذاتها , نسميها ألماً أو سروراً بحسب ما تُسر به إلى أعصابنا من الاهتزازات المريحة أو المضنية. . .؟
أم كانت الأيام وكنا لنرتقي بها وتتعظم بنا.
ميّ
خطرات
لكارمن من سيلفا - ملكة رومانيا الحالة
ما يُخجل في الصبى , تُبكي في الكهولة , ويُضحك في الشيخوخة
النار تغلي الماءَ والماء تطفئها؛ لا تكرم الجحود لئلا يطفئك
البيت لا أولادَ فيه كالجرس لا مطرقة له!
غيرة الخاطب محمدة , وغيرة الزوج إهانة
الحب قويّ السلاسل , ويكسر القيود , ولكنه يقتله تثاؤب بسيط!(3/549)
فر رياض الشعر
الشعر والشعراء
هل عرفتم لعاشقٍ نُظراَء ... عشقَ الأرضَّ قلبهُ والسماَء
تقطعُ البَرَّ منهُ لحظةُ عينٍ ... حين يجتاز فكرُهُ الجوزاَء
يُصلح الحسنُ عندَه كلَّ خلقٍ ... فيسوّي الأحياء والأشياَء
شبَّ مذ شبَّ عاشقاً لا يبالي ... حكمةً كان عشقهُ أم خطاَء
عشقَ الروضَ والغياضَ وأزها ... رَ الروابي والأغصنَ الخضراَء
وصغارَ النجوم تبدو وتخفي ... والدراري والقبَّة الزرقاَء
وفضاَء البحار والسحبُ تحكي ... سُفناً تحتها تشقُّ الماَء
وسكون الدجى كأنَّ الكرى أأ ... قي عليهِ مع الظلامِ غطاَء
هامَ بالغاب زانها الشجرُ العا ... لي وزانَ الفضاَء والصحراَء
يسمعُ الوحشَ والطيورَ فيهوي ... كلَّ صوتٍ كأنَّ فيهِ غناَء
أيُّ تاجٍ يتوِّجُ الغابَ في ك ... لّ صباحٍ يُزالُ عنها مساَء
دررٌ من أشعة الشمسِ صيغت ... ملأتها مهابةً وبهاَء
وإذا الشمسُ بالحجابِ توارتْ ... تكتسي الغابُ حلةً سوداَء
تحتها تنضوي الطيورُ فتمسي ... دونها كلُّ جنةٍ غَّناَء
إنَّ في الغاب للقوافي عروساً ... جمَّة الحسنِ تفتنُ الشعراَء
تتراءى فلا يَراها سواهم ... وَهيَ ليستْ لغيرهم تتراَءى
ولذا يرتجي من الزمنِ الشا ... عرُ لو أنهُ يجيبُ رجاء
عيشةً في الخلاء لا عيب فيها ... غيرَ أنْ ليس يسمعُ الضوضاَء(3/550)
حيثُ لا خبثَ في الهواء ولا في ال ... تربِ والماءِ يجلبُ الأدواَء
حيث لا رزقَ كلما ركض المر ... ءُ مجدّاً وراَءهُ يتنادى
فهوَ ما بينَ خوفِ سبقٍ وكدٍّ ... كغريقٍ يصارعُ الأنواَء
لا تطيبُ الحياةُ إلاَّ لمن يه ... ربُ منها ويهجرُ الأحياَء
ليت شعري متى أرى شعراء ال ... شرقِ يوماً بفضلهم أغنياَء
ورثوا مَن تقدَّموهم فنالوا ... شرَّ إرثٍ مذلةً وشقاَء
بين هجوٍ كالسبِّ أو هوَ أدنى ... ومديحٍ تعدُّهُ استجداَء
عُوِّدوا الذلَّ فالكبيرُ كبيرٌ ... فيهمِ حينَ يسألُ الكبراَء
ليس كالمال للقرائح سمٌّ ... حين يلهو بيعاً بها وشراَء
إنما الشعرُ للنفوس غذاءٌ ... أفسدوهُ فصيَّروهُ هُذاَء
يتبعُ الشعرُ أهلهُ فامتهاناُ ... وابتذالاً أوْ عزَّةً وإِباَء
أيها الشاعرُ اتَّقِ الله واذكرْ ... أنَّ للشعرِ حكمةً علياَء
كن دليلاً إلى سبيلٍ سويٍّ ... ومناراً يبدّدُ الظلماَء
ثمَّ لا تنسَ موطناً كان يوماً ... لكَ كالأمّ نسبةً ونماَء
فاحترم عهدَهُ وعهدَ بينهِ ... ثمَّ علّمهمُ كذاكَ الوفاَء
علّم الشعبَ إنَّ للشعب ديناً ... يمنحُ النفسَ قوةً ورجاَء
قلْ لهُ إنهُ كذلك حرٌّ ... يعبدُ الله مطلقاً كيف شاَء
خُلِقَ الدينُ رحمةً غير أنَّ ... الناس كانوا لبعضهم أعداَء
هدموهُ سرّاً وشادوهُ جهراً ... وأقاموا منهم لهُ رؤساَء
فانبرى بعضُهم عدوَّا لبعضٍ ... يخدعون الجهَّال والبسطاَء(3/551)
عمرَك اللهَ ليس أجب أمراً ... من رؤوسٍ تهشّمُ الأعضاء
ليس هذا القريض إلاَّ حديثَ ال ... روح أوحت بنظمهِ إيحاَء
فتملّكْ بهِ العواطف وأملأ ... كلَّ نفس فضيلةً وعلاَء
واتخذه إلى القلوب سبيلاً ... وتلطَّفْ تصطدْ بهِ العنقاَء
لا تهاجم بهِ عفافَ العذارى ... لا تُضلَّ الأحداثَ والضعفاَء
لُذْ برأي الجمهور في كلّ صعب ... وَصُنِ العدلَ وارحمِ البؤساء
لا تصفْ أيّ حالةٍ قبل أن تد ... رسَ منها الأفعالَ والأسماَء
لا تقلّدْ فيهِ ولا تتكلفْ ... في المعاني مشقةً وعناء
قلْ سلامٌ على القديم ودعهُ ... فكفانا نقلّدُ القدماء
وتعلَّمْ إذا رأيتَ دعيَّا ... كيف تعمى عن أن ترى أدعياء
وتجلّدْ لصنعةٍ مَنَح الل ... هُ ذويها تجلداً وعزاء
لهوَى في نفوسهمْ زاولوها ... وكذا اللهُ يخلقُ الأهواء
عشقوها فأسكرتهمْ زماناً ... ثم ماتوا من سكرهم فقراء
فهمُ كالشموعِ تفنى احتراقاً ... وهمُ كالشموعِ تلقي ضياء
رحمَ الله مَن مضى ولنفاخرْ ... أن للعلمِ عندنا شهداء
نقولا رزق الله
شكوى شاعر
يا شميمَ الشيح إن جزتَ حمىً ... يستقي الدمعَ على البعدِ رَهاما
أبلغِ المحبوب عني سلوتي ... قبلَ أن تُبلغهُ عني السلاما
علّهَ يبلو أناساً بعدنا ... فيرى مَن ذا على العهدِ أقاما(3/552)
ربما أعلنتَ مرضاةَ الهوى ... سرَّ من تهوي فقطَّعتَ الذماما
أيها الباذِر حَبّاً في الرُّبى ... جئتَ تصطادُ فطيَّرتَ الحماما
قد سكرنا فوجدنا دولةً ... وصحونا لم نجد إلاَّ المُداما
وبَذرْنا العمرَ حُبّاً ومُنىً ... وحصدناهُ انشقاقاً وانقساماً
ولقد عشنا كِراماً في الهوى ... فإذا مُتنا بهِ مُتنا كِراما
عبد الحميد المصري
نظرة بعيدة
ويح العيونِ أكلّ شيءٍ أبصرتْ ... أغرى بها ألماً وهاجَ شُجونا
القبحُ يقذفها وتسبلُ دمعها ... غرُّ المحاسنِ حسرةً وفتونا
فانظر كأنك حين تنظرُ لا ترى ... أو عِشْ معنًّى في الحياةِ حزينا
أو قلٍْ لغاويةِ العيونِ تقدَّمي ... عهدَ الملاحةِ والشبابِ سنينا
إن الذي يسبيكِ سوف ترَينهُ ... قوساً ولكنْ لا تُصيبُ طعينا
قد كان يُذكركِ السماء فقد غدا ... حَدِباً يحنُّ إلى الترابِ حنينا
الدهرُ أغرى بالجمالِ جنودَهُ ... لولاهُ جُنَّ العاشقونَ جنونا
إن أبدعتْ أيدي الطبيعة صورةً ... جاء الزمانُ فأفسدَ التلوينا
فأعاد نضرتَها البهيةَ سُفعةً ... وأحالَ سوداء الغدائرِ جُونا
حاشايَ أشمتُ بالجمالِ وإنما ... أجدُ الخيالَ على الخيالِ معينا
عباس محمود العقاد(3/553)
فرسايل
اتخذ الإنسان الحروف , والأنغام , والألوان , والأحجار ليعبر عن أفكار عقله وعواطف قلبه. فنشأ عن ذلك فنُّ الكتابة وفنُّ الموسيقى وفنُّ التصوير وفنّ الهندسة. وكل فنٍّ من هذه الفنون يُعدُّ مظهراً من مظاهر العقل البشري , وشكلاً من الأشكال التي تجلى بها في خلال الأجيال والعصور؛ فنبغ الكتَّاب البارعون , والموسيقيون المطربون , والمصوّرون الحاذقون , والنقاشون الصانعون. وكانت درجة نبوغهم بنسبة حذقهم في استعمال المادة الأوَّلية - من ألفاظٍ وأنغامٍ وألوانٍ وأجار - في إبراز مولّدات أفكارهم وبنات قرائحهم. إن البصير المتأمل يقرا تاريخ الفكر البشري تارة مدوّناً في كتاب , وطوراً موقّعاً في لحن , وحيناً ممثلاً في رسم , وآوانة منقوشاً في بناء , حسبما كتبهُ القوم بحروف أو نغم أو لون حجر. وما أهرام مصر , وبعلبك الشام , وحدائق بابل , واكروبول آثينا , وكابيتول رومه , وإيوان كسرى , والخوزيق والسدير , وبرج إيفل , وجسر بروكلين إلاَّ صفحات كبيرة من ذلك الكتاب العظيم المدوَّن فيهِ تاريخ البشر القديم والحديث بحروف من حجارة وحديد. فنقرأ بنتاؤور وهوميرس وفرجيل وامرئ القيس وغيرهم , أو كما نسمعها في نغمات(3/554)
الموقّعين ونراها في ألوان المصوّرين منذ القِدَم حتى اليوم.
من أجمل فصول هذا التاريخ المكتوب بالحجر المنحوت قصر فرسايل الشهير. وإذا كانت نصف هذا القصر بأبلغ وصف إذا قلنا أنه قلنا أنه أثرٌ من آثار لويس الرابع عشر الكبير الذي ازدهرت قلماً عرفتهُ من قبل ومن بعد , حتى أُطلق عليهِ اسم الملك - الشمس وعلى عصره اسم العصر الذهبي وهذا القصر قائم في البلدة المعروف باسمها , وهي واقعة على مسافة ثمانية عشر كيلومتراً من باريس جنوباً بغرب , وقد ورد ذكرها لأول مرة في التاريخ في النصف الأول من القرن الحادي عشر. ولم تكن في بداية عهدها سوى مزرعة قائمة في ظهرانيّ العاصمة , يقصدها ملوك فرنس - وأخصهم هنري الرابع ولويس الثالث عشر - للصيد والقنص رجال الفنون والصنائع حتى أقاموا فيها ذلك الصرح الشاهق , فقام تحفّ به العظمة والجلال , ويكنفهُ الذوق والجمال , مثل كل ماتمَّ على عهد هذا الملك المجيد من الأعمال. وقد بدأ العمل في بناء العمل في بناء القسر سنة 1661؛ وظلَّ البنَّاؤون والرسامون والمصوّريون يعملون فيهِ مدة إحدى وعشرين سنة متوالية , وكان الملك يطَّلع على كل الرسوم والمقايسات ويراقب بنفسه تنفيذها. ويبتدئ تاريخ بلدة
فرسايل في الحقيقة من ذلك العهد.(3/555)
لأن الملك أمر أن تقام حول قصره منازل لضباط بلاطه ورجال حاشيته. وأخذ الأمراء يتسابقون لتشييد القصور لهم حتى يكونوا على مقربة من سيدهم ومولاهم. فاتسع نطاق البلدة وزاد عمارها. ولم يسمح لأحد أن يزيد بناء داره عن دور واحد. وشذَّ عن هذه القاعدة قصر كلانيي الذي أراده الملك مضاهياً لقصره رونقاً وجمالاً , وأُعدَّ لسكنى مدام ده مونتسبان؛ على أنه هُجر فيما بعد وهدم بأمر الملك سنة 1769. وظلت البلدة في عمار متواصل على عهد لويس الخامس عشر. وفي 22 فبراير شباط سنة 1787 عُقدت فيها جمعية الأعيان , فكانت بداية الثورة الفرنسوية الكبرى , لأن هذه الجمعية قررت تقسيم البلاد إلى مقاطعات تديرها مجالس محلية. وهذا أشبه باللامركزية التي يطلبها العثمانيون اليوم. وجاءت سنة 1889 فكانت فرسيال ميداناً لحوادث خطيرة يطول تفصيلها لأنها صفحة كبيرة من تاريخ الثورة. ففي 5 مايو من تلك السنة كان انعقاد الجمعية العمومية في فرسيال؛ وفي 20 يونيو اجتمع فيها مندوبو الأمة وأقسموا ألاَّ يتفرقوا قبل أن يسنّوا للبلاد نظاماً دستورياً تسير عليه؛ وفي 5 أكتوبر هجم شعب باريس على فرسيال , ودخلوا لقصر عنوةً , وعادوا ثاني يوم بالملك والملكة أسيرين إلى باريس. وظلت المدينة في هدوٍ وسكينة بعد انتقال مقرّ الحكام منها حتى سنة 1814 إذ احتلها جيش المتحالفين المهاجمين فرنسا , وقد أحلَّبها البروسيان في السنة(3/556)
التالية الخراب والدمار. ولكن الملك لويس فيليب أعاد لفرسيال سنة 1837 رونقها وبهاءَها بإقامة متحفٍ فيها جامع لكل آثار فرنسا المجيدة؛ على أنه أبى أن يسكنها كما أبى ذلك أيضاً نابوليون الثالث بعد تبوّئهِ عرش الإمبراطورية , كأن ذكرى ما حلَّ بلويس السادس عشر ظلت تخيف الرؤوس المتوّجة فلم يؤمن رأس منها أن يستظلَّ سماء ذلك المكانز وفي الحرب السبعينية احتلت جيوش بروسيا مدينة فرسيال , وظلَّ معسكرهم العام فيها من 18 سبتمبر سنة 1870 إلى 7 مارس سنة 1871 وفي القصر الذي بناه لويس الرابع عشر ملك فرنسا الأكبر , نودي بغليوم الأول ملك بروسيا إمبراطوراً على ألمانيا. وبعد جلاء الجيش الألماني عن أرض فرنسا قامت في البلاد حرب أهلية , فتألفت حكومة لمقاومة الثورة وجعلت مركزها فرسيال. وفي 5 مايو سنة 1889 أقيمت في فرسيال احتفالات باهرة بمناسبة التذكار المئوي للثورة الفرنسوية الكبرى. وفي 18 أكتوبر سنة 1896
استقبلت حكومة فرنسا إمبراطوراً وإمبراطورة روسيا استقبالاً رسميّاً.
أما القصر القائم في مدينة فرسيال والمعروف باسمها فهو من أفخم آثار فرنسا وأجملها. فهو فخمٌ جميلٌ بنفسه , فخمٌ جميلٌ بما جرى فيه من الحوادث , فخمٌ جميلٌ بما يضمّ الآن من الآثار النفسية وطرَف الفنون والصنائع التي يندر أن يوجد لها مثيل.(3/557)
وفي الجزء الأوسط من القصر قاعة السلام , وقاعة الحرب وقاعة ديانا , إلاهة الصيد , وقاعة أبولون , وغيرها كثيرو وهناك أيضاً حِجَر الملك وفيها سريره وهو أشبه شيء بعرش للملك لا بسرير للنوم. وفي المؤخر قاعة المرائي الشهيرة وطولها 72 متراً زانها المصوّر لبرون برسوم بديعة الصنع. وإلى جانبي باحة الرخام الكبرى ينبسط جناحا القصر , كل جناح على طول 120 متراً. وكان الأيسر منها خاصاً بسكنى ماري انطونيت التي قيدت من تلك المقاصير الفخمة إلى ساحة العاب إبان الثورة المشهورة. ولا تزال إلى اليوم حجرتها الخاصة كما تركتها في ذلك العهد. وكان الجزء الأسفل مسكناً لوليّ العهد. أما الجناح الأيمن فكانت فيه مخادع الملك الخاصة. وفيها نافذة محجوبة يطلّ منها الملك على باحة الرخام الكبرى فيرى ولا يُرى. وبعد أن حوّل الملك لويس فيليب القصر إلى متحف في سنة 1837 جعل من الجناح الأيمن معرضاً لرسوم الحوادث والوقائع العسكرية ومن الجناح الأيسر معرضاً لصور ورسوم ونقوش تتعلق بتاريخ فرنسا وآثارها المجيدة. وكان في طرف الجناح الأيسر المصّلى وهو آية في جمال الهندسة ورونق الزخرفة , وفي طرف الجناح الأيمن الملعب الذي اتخذه المجلس الوطني مكاناً لاجتماعه من سنة 1871 إلى سنة 1875 ثم تحوّل إلى مجتمع لمجلس الشيوخ إلى سنة 1879. وفي سنة 1875 أعدت الحكومة في(3/558)
الجزء الأوسط مكاناً فسيحاً نوّاب الأمة واليوم مجتمع المجلسين النوّاب والشيوخ عند انعقادهما معاً كاجتماعهما في أواسط الشهر الماضي لانتخاب رئيس الجمهورية , كما رأى القارئ ذلك مفصَّلاً تفصيلاً في صدر هذا الجزء. وفي جنبات القصر وفسحاته وحدائقه تماثيل عديدة من الرخام أو البرونز لمشاهير رجال التاريخ الفرنسي يتوسطها في الباحة الكبرى تمثال بأني القصر لويس الرابع عشر ممتطياً جواده. ومَن ذَكر فرسايل , فقد ذكر قصرَي التريانون بأمر من لويس السادس عشر وأهداه إلى الملكة ماري انطوانِت. أما حدائق فرسايل , فعند وصفها يقف القلم واجماً واللسان عييّاً.
أهي جنة الله في أرضه؟ أم هي إحدى الجنان التي ورد ذكرها في أقاصيص ألق ليلة وليلة؟ فسماؤها وأرضها , وهوائها وماؤها , وأشجارها وغياضها , وأطيارها وأزهارها فتنة العقول والعيون , وأية من آيات الجمال والإبداع.
وبعد هذا - وما هو إلاّ يسير من كثير - ألا يصلح القول بأن مثل هذه الآثار صفحات حية من تواريخ الأمم تقرأ فيها آيات مجدها , وأسفار عظمتها.(3/559)
في جنائن الغرب
ضريح الشاب
للشاعر الروسي الشهير بوشكين
هبّتْ سموم الحياة فأذوت وردة الربيع. قصفتها قبل أن يفوح شذاها العطر؛ نزعتها عن الغصن ووارتها التراب. حُجب , فاعتاض عن المحبة والمسرات سكوناً وبرداً مخيفين. كان يحب العذارى عندما كنَّ يجتمعنَ أيام الربيع تحت الأشجار؛ والآن لا صوت له في مجتمعاتهنَّ. كم حسدته أعين الشيوخ , وكم خفقت لمرآة قلوب العذارى؛ كم وكم تهامس الشيوخ عند مرآه كنا نحن أيضاً شباناً , وكان فينا نضارة ونشاط. ستتوالى السنون وتصبح أيها الشاب مثلنا. وآسفاه ألم يصبح مثلكم؟ إنه ذوي قبل أن يجني ثمر الحياة. لم يكد ينشأ حتى قصفته يد المنية. كان بالأمس ففقد. كما تتلاشى أنوار النجوم أمام عظمة الشمس تلاشت حياته أمام ملاك الموت. لا يزال الشيوخ في قيد الحياة وهو ذوي في ربيعها , وصديقات الشاب عاكفات على المسرات كأنه لم يكن. وقلّ إن يرد ذكره في الأحاديث. ولعلّ واحدة هنالك من اللواتي أحببنه تسكب الدمع على ضريحه. هنالك الشاب في آخر الطري - حيث نبتت السروة تتمايل أسفاً على زهرة الحياة الذابلة - عبثاً ترسل أشعتها , ويسبح البدرُ(3/560)
في أوقيانوس الفضاء , وتنساب الساقية قرب الضريح مرددةً أنينها المنسجم! عبثاً تتمايل أغصان الغابة , وعبثاً تأتي الحسناء في طلب الأثمار وتضع رجلها وجلة في المياه الباردة. . . لن يوقظه من ظلمات قبره شيء!
عبده أبو حجره
الزهور
الزهور أحلى خلائق الله التي نسيَ أن يضع فيها نفساً ناطقة
هـ. و. بتشر
الزهور شِعرُ الأرض المطرب
إن الزهور كتاب مفتوح قد وضعهُ الخالق لتعليم الإنسان اللطف والتسامح في كل شيء؛ وأحسن برهان على ذلك أن الإنسان يدوسها تحت قدميه , أما هي فترفع رأسها وعلى وجهها ابتسامة جميلة , وإذا أدناها من أنفهِ اشتمَّ رائحة ذكية وهذا معنى الآية {أحسنوا إلى مبغضيكم}
دي مونتغميري
خلق الله الزهورَ لزينة الأرض وجمالها , ولتعزية الإنسان؛ ولكنَّ أغبط البشر وأسعدَهم من يجمعُ آيات الحكمة السماوية من زهرة واحدة.
وورد ورث
الزهور تعزية الإنسانية , وكنز القروي الحقير
رسكن
إن العالم بلا زهور كوجهٍ بلا ابتسام , ووليمة لا يرحب أصحابها بالمدعوين؛ بل يقابلونهم بكل عبوسة. أليس الزهور كواكب الأرض , والكواكب زهور السماء؟
مسز بلفور
الخرطوم تعريب بباوي غالي(3/561)
قصر سان جيمس
مرّ بالقارئ في غير هذا المكان شيء عن قصر فرسايل كتبناه بمناسبة الجمعية التي عُقدت فيهِ لانتخاب رئيس الجمهورية الفرنسوية. ورأينا بمناسبة اجتماع المندوبين العثمانيين والبلقانيين في قصر سان جيمس بلندن أن ننشر كلمةً عن هذا القصر كتبها خصيصاً لمجلة الزهور كاتبٌ أديبٌ فاضل زاره في العام الماضي قال: سرْ كيفما شئت في شوارع عاصمة الانجليز , لا تجد فيها من عظمة البناء ما تشاهده في غيرها من عواصم الغرب. وما ذلك إلاَّ لأن الانجليز أبعد الناس عن الأبّهة الظاهرة , وأشدهم تمسكاً بالعظمة الحقيقية. فإذا نظرت إلى قصور اللوفر وفرسايل والنويلري؛ ولكنك إذا دخلت إليها وقفت عندها حاسر الرأس خاشع الطرف , مما يتمثل لك من عظمة الملك ورفعة السؤدد. ولعلَّ الانجليز أحرص الناس على آثار ملوكهم , وقصور عظمائهم. والعبرة عندهم بما وقع في تلك القصور من الحوادث التاريخية الخطيرة. ولذلك تراهم ينظرون إلى قصر سان جيمس مثلاً , فتطربهم ذكرى ما وقع فيه وطرأ عليه. مررتُ بهذا القصر لأوَّل مرة , فوجدته ذا منظر حقير من الخارج , حتى ظننتني واقفاً أمام بيت رجل من طبقة العامة. ولولا صديق لي(3/562)
كان معي ولفت نظري إليهِ ما صدَّقت أنني واقف أمام قصر من أعظم قصور الانجليز. بني هذا القصر في عهد الملك هنري الثامن الذي اتخذه مسكناً له. إلا أن ملوك انجلترا الذين جاءوا بعده لم يتخذوه مقرّاً خاصّاً حتى عهد الملك وليم الثالث. ويظهر أنه لم يبقَ اليوم من بنائه الأصلي إلا آثار قليلة , فإن ناراً هائلة التهمت معظمه في سنة 1809 , فدمرت جناحه الشرقي. ثم أُعيد بناؤه بالنسق الذي هو عليهِ اليوم. أما الدخول إليه فيقتضي طلب إذن خاص إلا في بعض المواسم التي يعرض فيها الجيش في فناء القصر إذ يستطيع الزائرون الدخول إلى الباحة الكبرى ليشاهدوا حفلة العرض. ولهذا القصر تاريخ يترنح له الانجليز لذكراه. فإن اسمه مقرونٌ عندهم بذكر ملوك وملكات وساسة وعظماء تركوا بعدهم ذكراً مجيداً. فهو القصر الذي سكنه الملك هنري الثامن وادورد السادس والملكة اليصابات. وإليه لجأت الملكة ماري عند غياب زوجها , وأقامت به حتى وفاتها. وكان هذا القصر مقرّ الملك شارلس في أهنأ أيام ملكه , وفيه ولد معظم أولاده. ولما حُكمِ عليه بالموت صلّى صلاته الأخيرة في البيعة التي في داخله , ثم خرج منها واجتز في حديقتهِ محاطاً بثلةٍ من الجند الذين اقتادوه إلى المشنقة كما هو معروف عند دارسي التاريخ. وقد ودَّعهُ أولاده في
ذلك اليوم وداعاً اتخذه كثيرون من الرسَّامين موضوعاً تفنَّنوا بهِ وأبدعوا ما شاءَ لهم الفنَ. وكان القائد مونك الشهير(3/563)
يعقد موآمرته السياسة في هذا الصرح ويسعى لإعادة الملك المخلوع. وفيهِ أيضاً وُلد البرنس جيمس فردرك ادورد الذي كان مطالباً بعرش انجلترا. وكان البعض يعتقدون أنهُ لم يكن ابناً شرعياً بل نقل إلى غرفة أمهِ الملكة بطريقة الخداع. ومن أدلتهم على ذلك أن السرير الذي وُجد فيهِ الطفل مقمطاً كان إلى مؤخرة الدَّرج التي في داخل القصر بعيداً جداً عن أنهِ. على أن هذا الزعم لم يبقَ من يؤيدُه اليوم في انجلترا. ومن الحوادث الخطيرة التي وقعت في هذا القصر أن الملك جيمس الثاني نام فيهِ في الليلة التي سبقت تتويجهُ. ومن هناك هرب ولم يرجع إلى انجلترا قط. ولما جاء وليم أوف أورنج اتخذه مقرّاً له ريثما يستتب له العرش. وبلغ قصر سان جيمس ذروة شهرتهِ على عهد الملكة حنة وزوجها؛ فإنهُ أصبح منذ ذلك الحين مركزاً لسائر الحفلات والمقابلات الرسمية. وسكن فيهِ جورج الأول والثاني والثالث والرابع. ولما جاءَ وليم الرابع اتخذه هو والملكة أدلائيد مقرّاً لهما؛ وأقاما كثيراً من الحفلات الرسمية؛ إلاَّ أن شمس سعده آذنت بالأفوال عند ارتقاء الملكة فيكتوريا إلى العرش فأنها أهملتهُ ووقفتهُ على بعض الحفلات الرسمية فقط. وربما كان آخر الحفلات التي جرت فيهِ حفلة اليمين التي أقسمها المرحوم الملك ادورد السابع عند ارتقائهِ العرش , ثم حفلة اجتماع المندوبين الأتراك بمندوبي البلقان للبحث في شروط الصلح كما يعلم القراء.
س. ع(3/564)
في حدائق العرب
الانتقاد
انتقادُ الخنساءِ لشعر حسَّان بن ثابت مشهورٌ؛ والخنساءُ من شهيرات شواعر العرب , وهي تماضر بنت عمرو بنت الحارث بنت عمرو بن الحارث بن الشريد المضريّ. والخنساءُ لقبٌ غلب عليها , وكنيتها أمُّ عمرو. وقد ضرب بها المثل في حزنها على أخيها الآخر. قيل لجرير: مَن أشعرُ الناس؟ تبيّن الضعفُ فيهِ. قيل: أوَ كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. أما انتقادها الذي أشرنا إليهِ فإليك خبره: أنشدت الخنساء النابغةَ قصيدةً في أحد المواسم. فقال لها إنكِ أشعر من كل ذات ثديين وكان حسَّان بن ثابت ممن أنشدوا في ذلك الموسم , فغضب من إطراء النابغةَ الخنساءَ , وقال أنا أشعر منكَ ومنها فقال النابغة خاطبيهِ يا خنساء فقال لحسان ما أجوَد بيت في قصيدتك قال: هذا البيت
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دَما
فقالت: ضعَّفتَ افتخارك , وأنزرتهُ في ثمانية مواضع من هذا البيت؛ فقد قلتَ لنا الجفنات والجفنات ما دون العشر , ولو قلتَ الجفان لكان أكثر؛ وقلتَ الغرُّ والغرَّة بياض في الجبهة , ولو قلتَ البيضُ لكان أكثر اتساعاً؛ وقلتَ يلمعنَ واللمع شيءٌ يأتي بعد شيء , ولو قلت يشرقنَ لكان أفضل؛ وقلتَ بالضحى ولو(3/565)
قلتَ (بالدجى لكان أكثر طراقاً؛ وقلتَ أٍسيافنا والأسياف ما دون العشرة , ولو قلتَ سيوف لكان أكثر؛ وقلتَ يقطرنَ ولو قلتَ يسلنَ لكان أكثر؛ وقلتَ دَماً والدِماء أكثر من الدم. فسكت حسان ولم يحر جواباً.
ثمرات المطابع
حديث عيسى بن هشام
لمحمد بك المويلحي
كلفتني الزهور أن أنتقد حديث عيسى بن هشام لمحمد بك المويلحي. فكرهت في أول الأمر أن أضع نفسي بين الأدباء في موضع يحقُّ لهم أن ينكروه عليَّ , لأنني ما كتبت قبل الآن فكيف بهم إن رأوني دسست نفسي بينهم لانتقد كتاباً أنشأه كبير من كبارهم , والمنتقد مكروه عندهم ولو كان ذا إطلاع واسع ومادة غزيرة. ولكنني آنست من اسم المويلحي فائدة للناس كالفائدة التي عادت علينا جميعاً من ما هنالك للمرحوم أبيه , فقرأت كتاب الابن متيمناً باسم الوالد. كنت إذا أتاني كتاب عربيٌّ أُلقي عليه نظرة لأرى حجمه؛ فإن كان غليظاً ثخيناً قرأت اسم المنشئ , فإن كان ذلك الكتاب أول عهد المؤلف بالتأليف قلت أن في الرجل بعض الغرور لأني لا أتوسم خيراً في رجل لم روّض نفسه على التأليف من قبل , ثم هو يرمي إلى القراء كتاباً(3/566)
ضخماً لا يقدم عليه إلا كل محنَّك في هذه الصناعة؛ لأن الإنشاء كبقية الصنائع يجب على الإنسان إن أراد التفوّق فيه أن يمارسه كثيراً , ويجهد نفسه في كل يوم لتقويم إعوجاجه , وتصحيح هفواته. وخير طريق للمرء تبلغه ذلك , الاقتداء بكبار المنشئين , والمقارنة اليومية بين عمله وعملهم , وأسلوبه وأسلوبهم , ي مؤلفات صغيرة ينشئها من حين إلى آخر. فإن ارتاحت نفسه إلى المقارنة , وآنس منها الفلاح , جازله بعد ذلك التعرض للمواضيع الواسعة المؤلفات الضخمة. أذف إلى ذلك أن من عرّض نفسه للتأليف وجب عليه أن يضع نصب عينيه التفوّق فيه , ذلك أولاً لأن المؤلف حرّ في أن يظهر كتابه متى شاء فأحر به أن لا يظهره إلا بعد أن يكون أتم بنيانه وأحكمه , ومحص كلياته وجزئياته. فإن أظهره قبل ذلك عدَّ مغروراً أو محتاجاً , والقارئ لا يغتفر له غروره وليس عليه سدّ احتياجاته , ثانياً لأن المنشئ يعلل نفسه بأن كتباه سيعمرّ طويلاً , والعمر الطويل في البنية الصحيحة. وهناك قاعدة أخرى أشير إليها إشارة خفيفة لأنها لا تحتاج إلى بيان كبير , وهي تنحصر في أن كل مؤلف يعتمد على جهل قرائه في عدم كشف خطأِه لهو شرُّ المؤلفين.
هي قواعد أولية , تكاد تكون بديهية؛ ويسؤني ويسوء كل مجتهد أن ترى بعضاً من جماعة
المؤلفين العربيين أغفلوها فانكبّوا عليها. ولا غرابة(3/567)
في ذلك لأن حبَّ الكمال والجمال طبيعة في الإنسان يهتز له فيسعى إليه من كل صوب. خذا أكثر الكتب العربية التي أنشئت في هذه السنين الأخيرة وأنا الكفيل لك أن ترى فيها إحدى الخلال الآتية: إما أن يكون الكتاب متين اللغة تافه الموضوع , وأما تافه الموضوع وركيك اللغة معاً , وقلما وجدت كتاباً متيناً لغة وموضوعاً. موضوع حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن بسيط. وخلاصته أن عيسى بن هشام , رأى في المنام , أنه بينما هو سائر بين القبور يحدث نفسه بغرور الإنسان إذا برجّةٍ عنيفة من خلفه. فرأى قبراً قد انشقّ وخرج منه دفين كان في حياته أحد البلشاوات المعاصرين لمحمد علي باشا , وطلب إليه أن يسير معه في أنحاء القاهرة. وعند خروجهما من المقبرة تعرض لهما مكاريٌّ مكَّار وأراد خدعهما , فتشاجروا فأدَّت بهم المشاجرة إلى تداخل البوليس فقاد الجميع إلى القسم , ومن القسم إلى النيابة فالمحكمة. وبعد انتهاء المحاكمة أراد الباشا التطواف في القاهرة فسار يصحبه عيسى بن هشام وزار منتدياتها وحوانيتها ومحال اللهو فيها إلى غير ذلك. وغرض الكاتب من هذا كله انتقاد كل شيء وقع النظر عليه من الحمَّار المكار إلى الهرم الكبير. والكتاب يقع في 447 على هذا المنوال وكل ما جاء فيها رآه عيسى بن هشام في المنام.(3/568)
قبل كل شيء أرى أن محمد بك المويلحي أخطأ في تسمية كتابهِ حديث عيسى بن هشام لأن عيسى بن هشام هذا يعرفهُ صغار التلاميذ وكل ناطق بالضاد أنهُ رجل بديع أزمان الهمذاني عزى إليهِ البديع رواية المقامات التي ابتدعها. وإني لأخاف أن يرى المجتهدون في هذه التسمية حيلة على ترويج الكتاب. عجبت من هذه التسمية كما يعجب محمد بك المويلحي نفسه لو رأى كتاباً لي ومن وضعي اسمهُ كليلة ودمنة أو سقط الزند. وزاد تعجبي أيضاً عندما رأيت أن المنشئ اقتصر في إهداء كتابه إلى أرواح أبيهِ الأديب , وجمال الدين الأفغاني الحكيم , ومحمد عبده العالم , والشنقطيطي اللغوي , والباردوي الشاعر , وأغفل عمداً أو عن غير عمدٍ بديع الزمان. ليس من العدل أن يؤخذ اسم رجل شهرهُ البديع حتى صار كنار على علم ويزان به كتاب توخي فيه أسلوب البديع في الإنشاء والتسجع ثم يضنّ عليهِ بهدية معنوية لا قيمة لها.
حدث عيسى بن هشام أنهُ رأى في المنام القبور تفتح ويخرج منها دفين , وحمَّاراً يخدع
الدفين , وشرطيّاً يحابي الحمار , ومأموراً يحابي الشرطي , ومفتشاً يحابي القاضي , وناظر حقانيه يحابي لجنة المراقبة , ومحامياً يخدع الجميع. كل هذا رغبة منهُ في انتقاد الحمَّار والعسس والمأمور والمفتش(3/569)
والنيابة والقاضي ولجنة المراقبة والحقانية والمحامي ولكنهُ لم ينتقد شيئاً فيهم بل طعن عليهم , والانتقاد شيء والطعن شيء آخر. ويجب على المنتقد أن يأتي بالبرهان الصادق , والبرهان مشقة عقلية , فاختار المؤلف الطعن لكي لا يتكلف البرهان. المنتقد يصف الدواء والطاعن لا يصف شيئاً. نظامنا الحالي أرقى نظام وجد إلى الآنز فيهِ إضرار وفيهِ منافع ولكن منافعه أكثر من ضرره. فمسخهُ على هذه الصورة , وعرضهُ على الناس بهذا الشكل القبيح ليس من العدل في شيء ولا من حسن الإنشاء أيضاً. زار الباشا يصحبهُ عيسى بن هشام القسم فقلم السوابق فغرفة التحقيق فمحكمة أول درجة , فمحكمة الاستئناف فمكتب المحامي , فلم ير سوى الرشوة والإهمال والنصب والكسل والمحاباة والاغتيال والسرقة إن هذا التعميم تحامل معيب لا يصدقهُ فيهِ أحد وأني أنكره عليه وادعوه إلى دار المحكمة الأهلية يوماً لينظر بعينيه كيف يعامل المتقاضون ويسمع بأذنيهِ الأحكام التي يصدرها القضاة. وسار الباشا يصحبه عيسى إلى الحانات والفنادق وأندية المقامرين وقال فيهم ما قال مالك في الخمر. فلا أرى بأساً؛ غير أن كلامه عليهم أصبح مبتذلاً يعلمه الخاص والعام وقد ردده الناس منذ أبينا نوح أول من سكر إلى اليوم فلم يأتنا المؤلف بشيء جديد من عنده. ثم تحامل المؤلف على هيئتنا الاجتماعية تحاملا لا يبرره شيء حتى أن الباشا تعامى عن كل عمل صحيح فيها. سار الباشا ما سار وطاف ما(3/570)
طاف , فلم ير خط التراموى ولا أوتوبيلاً ولا تلفوناً ولا نوراً كهربائياً , وإن رأى شيئاً من ذلك عرضاً لم يسأل عنهُ ولم يتعجب منه , ذلك أما أن يكون لضعف في التأليف وأما لغرض في نفس المؤلف لكي لا يسوقه الكلام في ذلك إلى مدح مدنيتنا التي قد لا تروقه. وسمع عيسى بن هشام ما سمع ورأى ما رأى وطاف ما طاف , في منام واحد لم يستيقظ منهُ لحظة واحدة لا فزعاً من الدفين الخارج من القبر , ولا على صياح الباعة وضوضاء المدينة , ولا من شيء آخر. وكنت قد أمَّلت أن المؤلف سيوقظه في آخر بعد 447 صفحة فخاب ما أمَّلت وأظنه لا يزال نائماً إلى اليوم. لا بل ذكر المؤلف أن عيسى بن هشام رأى في المنام أنهُ دخل إلى غرفتهِ ونام صفحة 443. تالله لم يبق
للتعجب موضع.
لو أردت أن أتتبع المؤلف في كل خطواته لاضطررت إلى إنشاء كتاب أضخم من كتابه انتقاداً ليه وأني ما اعتدت الكتابة إلاّ قليلاً فأحجمت عن ارتكاب خطأ وقع هو فيه. ولكني لا أختم هذه المقالة قبل أن أذكر للقراء شيئاً من حسن ذوق المؤلف في التأليف , واختياره البرهان الصحيح على ما يقدمه من المقدمات. قال: كان محمد علي باشا الكبير معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلوّ وبعد النظر. . . . وإني أعرف قصة في حسن(3/571)
الإجمال والإدماج وذلك أن صدر أمره إلى المرحوم حسن باشا الانجير كويلي بتعيينه حاكماً على السودان فامتنع الرجل وأظهر عجزه لجهله باللغة العربية وقال كيف يمكني أن أتولى أمور قوم لا أعرف حرفاً واحداً من لغتهم فدعاه محمد علي وقال: ليست معرفة اللغة مما تقضيه ولاية الأحكام ولا أن تكتفي بمعرفة كلمتين اثنتين في اللغة العربية يجري بهما لسانك وهما فلوس كرباج ويحه ألم يخجل من خديوينا حفيد ذلك الرجل الكبير. إنها فرية على محمد علي باشا وهو معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلو الهمة وبعد النظر إن من كان ذلك الرجل لا يقول هذا القول
ا. ي
التصوير الشمسي والزنكوغراف - لشكري أفندي صادق ولعٌ خاص بالفنون الجميلة والصنائع. وقد أتحف قرّاء العربية بأبحاث جليلة في هذا الباب. والكتاب الذي نحن بصدده الآن يبحث في صناعة التصوير الشمسي والحفر على الزنك من الوجهتين العلمية والعملية , وهو مزين بصور ورسوم كثيرة تساعد القارئ على تفهّم ما فيه من القواعد والشرور. ولا غنى لطلاب التصوير الشمسي من اقتناء مثل هذا الكتاب الحافل بالفوائد.
تاريخ الفنون الجميلة اليونانية - هذا الكتاب أيضاً للشاب(3/572)
النشيط الأديب شكري أفندي صادق. ومن عرف الشأو البعيد الذي بلغته الفنون عند قدماء اليونان يعرف الفائدة التي يمكننا أن نجنيها من درس تاريخ الفنّ اليوناني الذي عبرّوا عنه بكلمة واحدة وهي الجمال فنقني على شكري أفندي الثناء الجميل ذاكرين له اعتناءَه بالفنون الجميلة على قلة المعتنين بها اليوم في الشرق.
قانون الزواج - هو أكبر كتاب علمي فيسيولوجي صدر في بابه في اللغة العربية. وضعه
حضرة الكاتب الفاضل إلياس أفندي الغضبان صاحب تاريخ الإنسان الطبيعي وضمَّنه نواميس الزواج الطبيعية وشروطه الصحية والأدبية وأهم ما توصل إليه العلم والاستقراء فيما يتعلق بتعليل الجنس والحمل والولادة والمولود والأمراض الناشئة من الإفراط وغير ذلك. وقد عمد حضرته في وضع هذا السفر الكبير إلى أحدث ما كتبه علماءُ الغرب في هذا الباب وإلى ما جمعه من كتب العرب مراعياً في ذلك الأنسب لعاداتنا وللمحيط الذي نحن فيه , فجاءَ كتابه ملأنا بالفوائد والملاحاظات الطبية التي يهم المتزوجين وطلاّب الزواج أن يطلعوا عليها , فيستفيدوا مما فيها من النصائح والإرشادات التي كثيراً ما يتوقف عليها هناء الزوجين مادياً وأدبياً. والكتاب مزين برسوم كثيرة وهو مكتوب بعبارة سهلة منسجمة.
روض الرياحين - أو الجزء الأول مما كتبه حضرة الأديب(3/573)
ظاهر أفندي الريس قبل الثلاثين. وهو مجموعة الرسائل التي نشرها في جريدة المقطم. ولما كانت هذه الرسائل تتناول مواضيع شتى من أدبٍ وسياسة وفكاهة واقتصاد , فإنها لم تفقد جدتها بفوات الحوادث التي كتبت بصددها. ولذلك يمكن القارئ أن يجد فيها لذة وفائدة لاسيما وإن كاتبها الفاضل بعيد عن الدعوى يروي الحقائق كما يراها ليستفيد منها وليشاركه غيره في الفائدة. وهذه صفة من أجلّ صفات الكتّاب والمنشئين.
تاريخ الصحافة العربية - أنجز حضرة الفاضل الفيكونت فيليب دي طرازي كتاب تاريخ الصحافة العربية ومثل للطبع على ورق صقيل بحجم كبير. وهو يبحث عن مجمل أخبار صحافتنا الشريفة وآدابها منذ ظهورها حتى الآن في العالم كله. ويشتمل أيضاً على حوادث كل جريدة أو مجلة أو نشرها موقوتة بلا استثناء واحدة منها مع رسوم أصحابها والمحررين فيها. وقد أضاف إلى ذلك تراجم مشاهير الصحافيين حرصاً على صيانة آثارهم وتنويها بفضلهم وتخليداً لذكرهم في القرون اللاحقة. ولا شك أن مثل هذا العمل المجيد قد اقتضى من حضرة الكاتب عملاً شاقاً , وجلداً كبيراً. فنحن نثني على همته كل الثناءِ , ونتمنى لكتابه الرواج الكبير.
الصحة والآداب - كتاب وضعه الدكتور بول جود من أطباءِ البحرية الفرنساوية وعرّبة حضرة الأديب الفاضل فريد أفندي يوسف(3/574)
بزري. وقد عرف العلماءُ مزية هذا المؤلَّف فنقلوه إلى لغات شتى وجعلوه بين أيدي الناشئة ليتعلموا منه ما يجب عليهم لحفظ صحتهم
وآدابهم فللمترجم الأديب الشكر الوافر.
مواليد شهر فبراير شباط
يزعم الكثيرون أن لليوم والشهر اللذين يولد فيهما الإنسان تأثيراً في أخلاقه وحياته. وها نحن ناشرون على سبيل الفكاهة شيئاً من ذلك عن شهر فبراير شباط
1 منه ثوريّون يحبون الحرية وينزعون إليها
2 منه من عشاق الثوب العسكري , تطربهم فخفخة الألقاب وصليل السيوف
3 منه سيئو الأخلاق , محرمون من لذة المعيشة العائلية
4 منه يحبون التنقل في الأعمال , ويوفّقون في الغالب إلى وجودها
5 منه معسرون في شبابهم وعزوبتهم ويثرون بزواجهم
6 منه أفكارهم سامية , ويميلون إلى الاجتماعات
7 منه أخلاقهم شيئة ويحبون الانفراد
8 منه كبار العقول مفكرون ولهم بالمصائب أعظم درس ويميلون إلى الأشغال الرياضية
9 منه ذوو رزانة وحزم , بطيئو الحركة , معتدلون في طلباتهم
10 منه حسَّاد كسالى , يتمنون ولا ينالون
11 منه حمقاء يحبون الخصام سريعو الغضب سريعو الرضي
12 منه سيئو الإدارة معرضون دائماً إلى خطر الفقر(3/575)
13 منه قساة القلوب , متصلبوا الرأي عديمو الحركة أمام مصائب الزمان
14 منه ذوو أمزجة حادة , يتأثرون لأقلّ الأمور وينظرون لكل شيء بعين الاستغراب
15 منه يطرون الانتحار ويلجأون إليه متى تعسرت أمورهم
16 منه يميلون إلى الاشتغال بالزراعة , وأمامهم مستقبل حسن
17 منه طائشون تتملكهم العادات الشريرة ولا ينجون منها إلاَّ بصعوبة في أيام كهولتهم
18 منه سريعو الخاطر , جريئون ويفوزون بالمناصب العسكري
19 منه ذوو أفكار عالية وآراء صائبة وينالون الشرف والثروة
20 منه لينو العريكة ذوو صدور رحبة يوفقون إلى سعادة المعيشة العائلية
21 منه بطيئو الحركة يجلبون لأنفسهم الخسائر المالية
22 منه ميالون إلى الأشغال الإدارية ويصلحون للمراكز السامية
23 منه سعداء في حياتهم قانعون بما يلغوا إليهِ
24 منه ضعفاء العقول متقلبو الرأي مع شيء من الحمق
25 منه يُحيطهم الشقاء كيفما اتجهوا ولكنهم صبورون ويفوزون في النهاية
26 منه يتزوجون من غير جنسهم طمعاً بالثروة ويعيشون بهناء
27 منه أسفارهم محفوفة بالمخاطر
28 منه مهددون بالخراب ويوقفون لتربية أبنائهم تربية صالة فيسعدون بهم.
أ. غ(3/576)
رأي في اللغة
قلنا كلمة في جزء سابق عن حديث القمر وهو الكتاب الذي وضعه حضرة الكاتب المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي. وكان إن انتقد المؤلف أحد الكتاب وآخذه ببعض ألفاظ قال أنها من استعمال العامة. فنشر الرافعي رداً على ذلك نقتطف منه ما يأتي , قال:. . . كأننا لا نزالُ نحتاجُ كلّ حرفٍ ووضع كل كلمة إلى نصوص هؤلاء أصحاب الصحاح واللسان والقاموس وكأنّ هذه اللغة لا تجري على قواعد يمكن أن تنزل منزلة السنن الطبيعية في الحياة , بحيث لا تأبى في عصر من العصور أن يُضافَ إليها شيءٌ من المستحدثات الزمنية. وإلاَّ فكيف وضعها العرب إذن , وكيف تبسطوا فيها حتى بلغت بهم ما بلغت بهم من السعة , كيف جاء القرآن الكريم من ألفاظهم نفسها وأجراه فيما لم يستعملوه ولا هم بهِ عهد , وهو مُعجزة القوم , وكيف فصحت الألفاظ المولَّدة وأسماء المستحدثات العلمية حتى ألحقت بمادة اللغة؟؟
إنَّ القول بأن هذه فصيحة , وهذه مولّدة قد مضى زمنه. فإنما كان الباعث عليهِ قرب عهد الرُواة من فصحاء الأعراب في الصدر الأول , ثم تقليد علماء اللغة من المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقاً بشروط هذا العلم الذي يحملونهُ وبآدابه التاريخية إذا كنَّا في كلّ نقول: نصَّ الجوهري وابن مكرم والمجد وفلان وفلان , ونغفل عما وراءَ ذلك مما تنصُّ عليهِ طيعة اللغة من أوزانها وقواعدها وطُرُق الوضع والاستعمال فيها , فما نحن بأهل هذه اللغة ولا بالقائمين عليها , ولا هي لغة عصرنا , إنما هي لفة الجوهري وابن مكرم والمجد وفلان وفلان.
لستُ أتردّد في القول بأن سبب الضعف الذي طرأ على هذا اللسان إنما هو في هذه العقول الضعيف الذي طرأ هذا اللسان إنما هو في هذه العقول الضعيفة التي تقوم عليهِ أسوأ القيام , لا بالنظر ولكن بالتقليد الأعمى , فلا نزال نرجع بكل لفظة إلى حدود البادية , كأنَّ هذه البادية العربية هي جغرافية اللغة , وإنما يستقيم مثل هذا إذا كانت اللغة , وإنما يستقيم مثل هذا إذا كانت اللغة ميتة ليس فيها قوة النموّ كهذه العقول التي يغني عنها كلها كتابٌ واحد كلسان العرب.
أبو السامي الرافعي(3/577)
العدد 32 - بتاريخ: 1 - 3 - 1913
السنة الرابعة
للزُّهور
يبتدئ في هذا الشهر فصل الربيع، فتتفتّح الأزهار، وتتزَّين الطبيعة بأبهى حلُاها، وفي هذا الشهر أيضاً تبتدئُ الزهور السنة الرابعة من حياتها، ولزهور الأدب أسوة بأزهار الرياض. وها نحن اليومَ آخذون، مع أنصار هذه المجلة من أفاضل الكتاب والشعراء، بجمع باقةٍ جديدة نقتطفها للقراءِ من جنان الأدب والمعارف، لتُضمَّ إلى أخواتها السابقة. ونحن على رجاء أننا قد أحسنّا في عملنا الماضي، وعلى أمل أن نحسنَ العمل في الأتي.(4/3)
القسطنطينية
بناها قسطنطينُ على أنقاض بيزنطية. كانت عاصمةً لمملكة الرُّوم الشرقية، كما كانت رومة قاعدةً للإمبراطورّية الغربية، أختان تشابهتا بالعزّ، وعاشتا زمناً، لكلٍّ مجدها المؤثل، وجلالها المهيب. وهي كرومة قائمة على سبع تلالٍ مرتفعات، في مثل شبه جزيرة مثلَّثة الزوايا يحيطُ بها الماء من جهاتٍ ثلاث: تطلُّ على بحر مرمره من الجنوب، وتُماشي البُسفور من الشرق، وتلمس خليجَ قرن الذهب من الشمال، ثمَّ ينبسط إليها من الغرب سهلٌ يقف حذاءَها، متهيّباً جلالها، فتُشرف عليهِ من مكانها العالي كالنسر باسطاً جناحيهِ. حصَّنها الرُّوم منذ القِدَم ردّاً لغارات الأعداء، وعزَّزها الترك على أثرهم صدّاً لهجمات الطامعين. فبني الأوَّلونَ سورها وأبراجها، وشادَ الآخرون حصونهم وقلاعها. ولكن الطبيعة بزَّت أولئك وهؤلاءِ في كل ما بنوهُ وشادوهُ، فمنَّعت موقعها بالهضاب المتسلسلة، والبواغيز الضّيقة، فإذا هي كعقاب الجوّ، لا تؤخذ، وإذا هي، كحلقِ الليث، لا تباح أرادها العرب، يوم كانوا يستطيعون ما يريدون، ففشلوا، وحاصروهم حين لم تكن مدافع ولا قنابل، فارتدّوا عنها عاجزين، وظلت تردُّ بمنعتها غوائل الأعداء، وتدافع بعزَتها كوارث الأيام؛ الملك عزيز بها، وسلالة بانيها تتوارث مجدها وتتنعَّم بجاهها، حتى دبَّ الضعف إلى الرُّوم، وتغلغلَ الوهَن في نفوسهم، يوم أبطرتهم نعمة العيش،(4/4)
وأسكرتهم غبطة السلطان، فمشى عليها محمد الفاتح، وحاصرَها من البحر والبرّ، ثم أخذها عنوة واقتدراً في سنة 1453.
محمدُ! كسرتَ جناحَ النسرِ، فأهوى من سمائه، واقتلعتَ ناب الليث، فاستبحتَ حماه!
بناها قسطنططين، واستأثرتَ بها أنت؛ كانت للرُّوم فصيَّرتها إلى الترك؛ ما خفق عليها الصليب، حتى رفعتَ فوقها الهلال؛ بينا هي قاعدة الإمبراطورية، إذا بها دار الخلافة!
فتحتَها ببأسك، وصنتها بحولك ومجدك، ثمَّ تَوارثها أبناؤُك من بعدك!
ما نمتَ عنها ولكن نامَ بنوك!
عجباً نام الترك، وعيون الروم يقظى عليها!
أمغتصبَ الروم ملكهم، قمِ انظر إلى بقايا ملكك العظيم
النسرُ الذي اصطدتَهُ قد استنسرت أفراخهُ؛
والليث الذي اقتنصتَهُ قد استأسدتْ أشبالُه،
البلغارُ على أبوابِ فروق، والرومُ أمام الدردنيل!!
ليست فروقُ عروسَ الشرق وحدَه، بل هي عروس الدنيا جميعها. خُلقت صورة مكبَّرة للجمال، ومثالاً مصغرَّاً لجنان النعيم! هي إنجيل الطبيعة أُنزلت فيهِ آيات الحسن، ونمَّق الدهر صفحاتهِ(4/5)
بطراز البديع! فيهِ وحيُ الحب , وإلهام الشعر؛ وكلّ لفظةٍ يحتويها , تحتوي ألف مغنىً من معاني العظمة والجلال!
فَرُوقُ درَّة في فمِ البُسفور , ولؤلؤة في عُنق الدردنيل؛ هي عقد من الماسِ يصل بحر مرمره بالبحر الأسود؛ هي تاجٌ من الجوهر على مفرقِ آسيا وأوروبا؛ هي كوكب وقَّاد أطلعتهُ الطبيعيةُ بين الشرق والغرب! ربِّ إن سمحتَ بأن نَعْبُدَ الجمال فلِفروق السجودُ والعبادة!
وقفتُ على البوسفور حيث تمشَّى من البحر الأسود , وماشيتهُ إلى حيث التقى ببحر مرمره , فلم أجد منظراً أعظم تأثيراً في النفس , من مشية ذلك البوغاز الضيق , العميق , الطويل , المتلوّي في مسيره , كما تتلوّى الأفعى في زحفها.
أحاطت بهِ من على ضفَّتيهِ: الأسيوية والأوروبية , ربوع خضراء زاهية , ومغانٍ مشجَّرة تعانِق سهولها الماءَ في ذلك الوادي , ثم تتدرَّج في الصعود حتى تراها تلالاً عالية , قريبة المآخذ , متصلة الرؤوس بالكعاب كالزمح أنبوبٌ على أنبوب. وأطلَّت مآذن الجوامع على قرنهِ الذهبي فتماوجت خيالاتها سابحةً في مُياههِ الرائقة؛ وتراكضت أشعة الشمس إليهِ , فانعكست عنهُ إلى جانبيهِ , فتلهَّى النسيم يلعب بها , كما يتلهَّى وليدٌ يلعبُ بانعكاس النور عن المرآة. ورأيتهُ , ليلةَ عيد الدستور , في أوائل الصيف , وقد راق الجوُّ(4/6)
وصفا أديمُ السماء , وتلألأت الأنوار على ضفَّتيهِ , ومشت فيهِ البواخر مشعشعةً بالأضواء , ونزلت إليهِ نجوم الفلك تغتسل فيهِ إلى جانب الأشعة المتحدرة إليهِ من برَّي آسيا وأوروبا , في وسط الأنوار المتدفقة عليهِ من تلك البواخر السارحات والرائحات؛ فأخذ هذا المنظر بمجامع قلبي , وسكتُّ مخافة أن يشغلني الكلام بوصفهِ , عن التمتع لحظةً بجمالهِ؛ غير أني أسررتُ إلى نفسي هذه الكلمات:
طوبى لمن دفنهُ عبد الحميد في البُسفور فقد ذهب إلى الجنة من أقرب طريق!
أكان البسفور طريقَ الأحرار إلى الجنة , كما كان طريقَ وليّ الدين بك يكن إلى سيواس؟؟؟ لست أدري! غير أن وليَّ الدين نفسهُ يقول في وداع فروق يوم نفيَ منها:. . .
وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما: شطَّي آسيا وأوروبا , يتناغيان بالمصابيح. عاشقان ضنَّت عليهما الأقدار بالتلاقي. مررنا بهما أم مرَّا بنا. لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقهُ. نشرت فانطوت. زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم. فرائيها متخيّل وعارفها متوّهم. ما شكَّ ناظر إلى السماء وإليها أن تلك المصابيح كواكب سقطت عليها. عهدي بها في حالتيها , بينا هي عرين إذا بها كناس. يخالط فيها كل زئير ليث عندلةُ عندليب. تتجاور بها مسارح آرام ومصارع كرام. تسقي من ماء معين , ومن دم مهراق. تطالعها(4/7)
وجوه ضاحكة , وأخرى مجهشة. تقسمتها مواسم الصبا فهي تارة مشتىً , وآوانةً مصيف , وحيناً مربع. جنة يحرسها حارس جهنم. فروق يا ظلوم. خذي روحي فما هبطت عليَّ إلاَّ فيكِ. كان بكِ مهدي. وأريد أن يكون بكِ لحدي. الوداع الوداع يا فروق. وسلام الله عليكِ وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد. مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منكِ ليلاً لأراك في ثوب حدادك. أمن أجلي كل هذا؟ كلا. بل حدادكِ على أختكِ الغزالة. أنا أضْيَعُ فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرّة من ذراتك ضلّت بين ثنيات الأثير. . .
ما هذهِ بلاغة الواصف , إنْ هيَ إلاَّ حقيقة الموصوف!
رويداً رويداً أيها الدَّهر! ترفَّقْ بفروق؛ أقصر خطوَبكَ عنها. فروقُ بنت الأجيال الطويلة؛ مدينة الإمبراطرة , وكرسيّ السلاطين. أفي كلّ يومٍ نكبةٌ تروعها , وفي كلّ ساعةٍ كارثة تساق إليها؟ بنوها يتآمرون على بنيها؛ وشعوبها تقاتل الشعوب دفاعاً عنها. لوثوا محاسنها بالدمِ المسفوك على مذابح المطامع والأنانية؛ ضجَّت الأرض لهول ما تلقاهُ من فظائع حربهم , واتخمت ذئابُ الفلاةِ من أشلاءِ قتلاهم!
رويداً أيها الدهر! هل أتعب مرورُ الأجيال كاهل بيزنطية؟
خذ بيدها! إن أنقاضها تتحرّك تحت فروق!!(4/8)
مدينة المصريون الأقدمين
تقتطف الصفحات التالية من كتاب في تاريخ مصر القديم والحديث لحضرة الكاتبة الفاضلة السيدة هند كريمة سعادة اسكندر عمون بك المحامي الشهير. وقد بحثت حضرتها بحثاً دقيقاً في مدينة مصر , في أزمنتها الأولى , فتكلمت عن الديانة والشرائع والعلوم والآداب والصنائع والكتابة كلاماً كثيراً الفائدة ولكننا اقتصرنا على نقل ما ورد فيهِ عن ديانة المصريين وشرائعهم. قالت: سبق قدماءُ المصريين شعوبَ العالم قاطبةً في مضمار التمدُّن والترقي , وأدركوا من العلوم والمعارف والآداب ما لم تبلغ إليهِ أُمةٌ في تلك الأعصر الخوالي , حتى أنه ليصحُّ أن تُعدَّ المدَنيةُ المصرية أمّاً لمدَنيات شعوبٍ كثيرة أخذت عنها واقتدت بها. وقد خلّف لنا المصريون من الآثار المجيدة ما ينطق بما كانوا عليهِ من التقدُّم الأدبي والمادي والصناعي؛ ولا يزال علماءُ العاديات يكتشفون في أيامنا هذهِ أدلةً على ازدهار المدَنية المصرية القديمة. وفي ما يلي شيءٌ مما كانت عليهِ حالةُ مصر الدينية والأدبية والمادية:
الديانة المصرية - كان قدماءُ المصريين من أشدّ الأمم تمسكاً بالدّين؛ يدلُّ على ذلك المعابد والهياكل الكثيرة التي لا يزالُ معظمها قائماً حتى يومنا. وأصلُ دينهم مجهول , ولعلهم أتوا بهِ من آسيا عندما هاجروا منها إلى مصر. وكانوا في بداية أمرهم موحدين يؤمنون بإلهٍ واحدٍ أزليّ مبدع الأرض والسماء , تعجز العقول عن إِدراك جوهرهِ. ثم أَخذوا(4/9)
يعبدون ذلك الإلهِ في مظاهرهِ المتعدّدة؛ فرمزوا إلى كل صفة من صفاتهِ بتمثالٍ أو حيوانٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلك؛ فأدّى بهم هذا الشركِ والوثنية؛ وقسموا الآلهة إلى ثلاث طوائف: آلهة الموتى , والآلهة الشمسية , وآلهة العناصر. ومن أعظم آلهة الموتى أوزيريس إلهُ الخير ورمزُهُ النيل , ووإيزيس إلاهة الخصب والحياة ورمزُها التربةُ السوداءُ , وأنوبيس حافظ الموتى ورمزُهُ ابن آوى. ومن أعظم الآلهة الشمسية رع الإلهُ الأكبر ورمزهُ الشمس , وتم إلاهة الغروب ورمزها العجل منيفس. أما آلهة العناصر فأعظمها نو إلهُ الماءِ ورمزُهُ المحيط , وتيفون إلهُ الشر والفاقة ورمزُهُ الصحراءُ. وقد تختلف أسماءُ هذهِ الآلهة باختلاف الأعصر والأماكن التي عُبدت فيها. وكان قدماءُ المصريين يعتقدون أن آلهتهم تتزاوج , وتتألم , وتموت , وترعى حقوق الجوار , وتأكل وتشرب , فكانوا يقرّبون لها القرابين والضحايا من الحيوان والحبوب والأثمار. وكانوا يعتقدون أيضاً أن مقام الإلهِ بالنسبة إلى
سائر الآلهة هو مقام البلد المعبود فيهِ بالنسبة إلى سائر البلدان؛ فعندما سيطرت طيبة مثلاً على وادي النيل , جعلت إلهها أمون سيداً لجميع الآلهة. ولما دالت دولتها , أصبح أمون في المرتبة الثانية بين الآلهة. . . ومن أشهر الرموز التي أُلّهت وعبدت ابن آوى رمز أنوبيس , والعجل أبيس والجُعَل وكلاهما رمز فتاح وغيرها من الحيوانات كالقرد والهرّ والتمساح وفرس الماءِ والبازي والجعَل أي الجعران. وكانوا يعبدون العجل مدة 25 سنة فإذا لم يمت بعد هذهِ المدة أخذوهُ في مهرجان عظيم(4/10)
وأغرقوه في النيل , ثم أخرجوهُ وحنَّطوه ودفنوهُ في مدفن العجول بقرب سقارة ولبسوا عليهِ شعائر الحداد إلى أن ينتقوا لهم عجلاً آخر يعبدونهُ. وكانوا يحزنون حزناً شديداً عند هبوط منسوب النيل ويقدمون لهُ القرابين استرضاءَ. وفي إبّان فيضانهِ كانوا يطرحون فيهِ فتاة عذراءَ يسمونها عرس النيل وقد بقيت هذهِ العادة متّبعة حتى نسخها عمرو بن العاص لدّن فتح مصر. وعيد وفاءَ النيل من المواسم التي يحتفل بها حتى اليوم في البلاد. ولما دخل مصر اليونانيون ثم الرومانيون أخذ كل فريق عن الآخر بعض معبوداتهِ؛ وصار المصريون يؤمنون بوحي أبولّون ومينزفا وديانا وجوبيتر المشتري ومارس. ثم ظهرت النصرانية وانتشرت في العالم فاعتنقها فريق من المصريين. وظلت تنشر في البلاد حتى أصبحت دينها الرسمي , واضمحلت الوثنية في مصر بنهي طيودوسيوس عنها. وفي سنة 641 فتح عمرو بن العاص مصر فدخلها معهُ الإسلام. وقد اعتقد قدماءُ المصريين بالخلود والثواب والعقاب. وكان الإِلهُ الديان أوزيريس , وكانت مملكتهُ الجديدة حقول الفول إشارة إلى خصبها. وكان قومهُ هناك متمتعين بالسعادة التامة والملذات على اختلاف أنواعها , يطوفون مع الإله الشمس في زورقهِ ولا ينالهم أذًى. ولم يكن ينمكن من الوصول إلى مملكة الأموات هذهِ إلاَّ من حنّطهُ وأقاموا له بعض الطقوس الدينية. فمن تمَّ لهُ ذلك بُعث من(4/11)
قبرهِ وسافر إلى حقول الفول , فإن كان عاقاً شجاعاً تغلب على ما يلاقيهِ من المصاعب , وبلغ سالماً مملكة الأموات حيث يمثل بحضرة الديان أوزيريس وأعضاء مجلسهِ الاثنين والأربعين. فيسمع المجلس اعترافهُ , ثم يزن الإِلهُ توت قلبهُ بميزان الحق , فإن كان صالحاً أجازوا لهُ الإقامة معهم وإلا حكموا عليهِ بالنفي المؤَبد والتعذيب الأليم. وكان المائل بحضرة الديان ينفي عن نفسهِ أولاً ارتكاب المحرَّمات , فيقول: لم أُعذّب الأرملة , ولم أخدع أحداً , ولم أكذب قط , ولم أعبث بالحق
, ولم أعرف الخيانة ولا الكسل ولا التعجرف , ولم أُدنس الأشياءَ المقدسة , ولم أسعَ إلى ضرر العبد لدى مولاهُ , ولم أُبكِ أحداً , ولم افتك بأحد غدراً أو ظلماً , ولم أحمل أحداً على ارتكاب اللبن من فم الرضيع , ولم أشهد زوراً , ولم أسرق خبز المعابد , ولم أُحرز مالاً حراماً الخ ثم يعدّد بعد ذلك الحسنات التي أتاها فيقول: لقد عشت بالعدل , وتغذيت بالحق , ونشرتُ الأفراح في كل صوب , وأطعمتُ الجياع , وسقيتُ العطاش , وكسوت العراة , ومددتُ للغرقى يد النجاة
شرائع المصريين وآدابهم - من أمعن النظر في الذنوب والآثام التي تتنصل منها الموتى وفي الصالحات التي تدَّعيها يوم المعاد , أدرك ما كان عليهِ المصريون من الأخلاق الراقية والمناقب الحميدة. وقد عثر الباحثون في الآثار المصرية على كتابات عن شرائع المصريين وآدابهم نقتطف منها ما يلي:(4/12)
كان يُعاقَب بالقتل كلُّ من يحلف يميناً كاذبة أو يحنث بيمينهِ؛ ومن يرى رجلاً يعتدي عليهِ معتدٍ ولا يغيثهُ وهو قادرٌ على ذلك؛ فإن لم يقدر ولم يرفع أمر المعتدي إلى أولياء الأمر عوقب بالجلد ومنع عنهُ الطعام ثلاثة أيام. ويُعاقب بالقتل أيضاً كل من يرفع إلى قاضٍ وثيقةً كاذبة؛ ومن يقتل عمداً سواءٌ كان المقتول عبداً أو حرّاً؛ وكذلك من يقتل حيواناً مقدساً. وكان يعاقَب بقطع اللسان كل من نُفشي أسرار الحكومة للأعداء؛ ومن لم يكن لهُ عملٌ أو حرفة يحترفها لتحصيل رزقهِ؛ ومن شرائعهم أيضاً أن ناكر الدَّين يُصدَّق بيمينهِ إذا لم يكن عند المدَّعي سندٌ يؤيد دعواهُ؛ وإن للدائن حقّاً على ممتلكات المدين لا على شخصهِ , فلا يجوز للدائن أن يسجن المدين أو يمسَّهُ بأذى لأنهُ تابع لوطنهِ يخدمهُ في الحرب والسلم. ولم يكن يجوز لأحدٍ أن يحترف حرفةً غير حرفة أبيهِ فكانوا بذلك يتوارثون الصنائع والحرف. وكانت المرآة المصرية حرة كنسائنا اليوم , نصيبها من الإرث نصيب الرجل , وقد أباح لها شرعهم أن تتصرف بإرثها بعد زواجها كيف شاءَت , ولقبوها وهي مزوجة بسيدة البيت
هند عمون(4/13)
انتقام النسيم
من أرباب النظيم
لسعادة سليم بك عنحوري الدمشقي شهرة واسعة في الأدب. فهو شاعر قدير وكاتب مجيد , وله من الآثار في هاتين الصناعتين ما تناقلته المجلات والصحف العربية من كل مكان. وقد أراد حضرته - وهو نزيل مصر اليوم - ألاّ يحرم الزهور من نفثاته , فبعث إليها بالمقال التالي. قال: لستُ أدري وأبيك ما سرُّ هذه الصحبة القديمة القائمة بين الشعراء والنسيم منذ عهد امرئِ القيس فآتياً , ولا ماهية تلك العلاقة الرابطة بين هذه النسمات الرقيقة , بين رصفائي أمراء الكلام , فإنه لم يكفهم , وهم أرباب الذوق , وسادة اللطف , بل هم وحدهم الناس على مذهب شاعر الأمير الذي يقولك
جاذبتني ثوبي العصيَّ وقالت ... أنتم الناس أبها الشعراءُ
أنهم يتنسمون النفحات الهابة من مواطن الأحبة , فيتبردون بأنفاسهم التي توليهم طيباً , وهم يكسبونها من زفراتهم المتوهجة بالوجد شرراً ولهيباً. ولهم يرضهم إن يتخذوا النسيم بريداً ورسولاً يحملونه السلام , ويستقضونه لبانات الغرام , وهم يكلمونهُ بصيغة الأمر كأنهُ بعض الخدَّام كما فعل صاحبنا ابن زيدون في قوله يتغزل بولادة الأندلس:
ويا نسيم الصَّبا بلّغ تحيتنا ... من لو على البعد حيَّا كان يُحينا
بل يعرّضونه بسبب هذه الرسائل السمجة للخزي والطرد والحجاب كما فعل ابن ماني , بحسب إقراره عن نفسه إذ قال:(4/14)
حجبوها عن الريا لأني ... قلتُ يا ريح بلّغيها السلاما
لو رضوا بالحجابِ هانَ ولكن ... منعوها عند الوداع الكلام
فإنهُ لولا رسالتهُ تلك ما حجب الرياح أحد عن الاستمتاع بملامسة ذلك المحيَّا الفتان , ولم يقنعهم إنهم يبثّون تلك النسمات الشكوى , فتقاسهم البلوى , وتشاطرهم الكمد , وتعتلّ لاعتلالهم , وترثي لحالهم , ما جرى لابن هاني القائل:
ومرَّ بيَ النسيمُ فرَقَّ حتى ... كأني قد شكوتُ غليه ما بي
أي نعم , لم يكفهم ولم يغنِهم كل هذا حتى زادوا - على ما اشتهر من رقتهم - غلطةً , وتمادوا بفضولهم حرصاً وأنانية , فطفقوا يسومون تلكم النفحات الطيّبات حملَ ما تتقاصر
دونهُ هممُ الرجال وتنوءُ ببعضهِ قلل الجبال. فقد زيَّن , للوزير مجد الدين الطغرائي , الغرورُ بما نال من شرف الوزارة , مضافاً إلى مزية اللسن , وحلاوة النظم , وشدة العارضة , أن يسخّر الريح لتي يلوح من تضاعيف كلامهِ أنهُ طالما استخدمها في قضاء أغراضهِ الغرامية , وحاجات نفسهِ السرية , بأن تقيم بين الأصداغ والطرر وتشوشها , وتنتهز الفضلات , وتتحين الفرص لتحوم حول الثغور وتقبّلها. ثم تسلك بين الأجسام والغلائل , وتستبضع من ذلك الحانوت الحافل بكل شائقٍ رائق , ما يطيب بهِ خاطر الوزير , وترفرف عليهِ أمانيُّهُ , ثم تأتيه على مهلٍ , مستترة بأجنحة الليل الهادي , فتنبههُ من نومهِ اللذيذ الهنيء وتنتفض عليهِ انتفاضاً , لعل نفحة الطيب المستمدة من ذلك البدن خصيب الرطيب تقضي لبانات فؤادهِ المعنى الكئيب. وإن كنت ,(4/15)
أيهذا القارئُ اللبيب , في شكٍّ مما أقول توهماً منك أن رجلاً كالطغرائي الذي يقولك
أصالة الرأي صانتني عن الخطَلِ ... وحلية الفضل حلّتني لدى العطلِ
لهو أعقل وأدهى وأمتن وأرصن من أن يسترسل على مثل هذا الهذر والفضول , فإليك أبياتهُ بحرفها الواحد تقرأها فتزداد يقيناً:
بالله يا ريح إن مُكّنتِ ثانيةً ... من صدغهِ فأقيمي فيهِ واستتري
وراقبي غفلةً منه لتنتهزي ... لي فرصةً وتعودي منه بالظفرِ
وباكيري وِرد عذبٍ من مقبّلهِ ... مقابل الطعم بين الطيب والخصرِ
ولا تمسّي عذاريهِ فتفتضحي ... بنفحة المسكِ بين الوِرد والصدرِ
وإن قدرتِ على تشويش طرَّتهِ ... فشوشيها ولا تبقي ولا تذرِي
ثم اسلكي بين برديهِ على مهلٍ ... واستبضعي وانثني منهُ على قدرِ
ونبهيني دون القوم وانتفضي ... عليّ والليل في شكٍّ من السحرِ
لعلَّ نفحة طيب منكِ نائبةٌ ... تقضي لبانة قلب عاقرِ الوطرِ
ولقد صار - جنابهُ العالي - مثالاً حسناً جرى عليهِ بعدهُ كثيرون , وفي جملتهم المرحوم فرنسيس مراش الحلبي. بل زاد هذا على طنبوره نغمة أخرى إذ قال:
نسيم الصبَّا عن سرتِ بين نهودها ... خذي ليَ غرفَ الياسمين وعرّجي
وإن ترفعي ذاك اللثامَ فتلثمي ... لماها فبالله اذكري قلبيَ الشجي
ومن العجيبِ أنَّ أحد هؤلاء المتنطسين تمادى في تمادى في تحامله , وزاد في غلوائهِ , حتى أتهم تلك النمساتِ الطيبات بارتكاب الجنايات إذ قال:
خطراتُ النسيم تجرحُ خدَّي_هِ ولمسُ الحرير يُدمي بنانَهْ(4/16)
كأنَّ الرياح ذات سيوفٍ ورماح , تجرح من تحبُّ , وتقتل من تريد بلا حساب , وما عليها من جناح. بل أضاف بعضهم على ذلك فحسبها ممن يحبلنَ ويلدنَ فقال:
قد رقَّ حتى خلْتُهُ ... بحشي النسيم تخلَّقا
فهل سمعت بربّك أو رأيت مثل هذه الصقاعة والرقاعة؟؟؟ والانكى من كل هذا أن تلك الحالة على بردها وثقلها , وانتقادها الشديد على أصحابها , قد لجّ بنا داعي التقليد والحرص على التحدي , أن نتلبس بها , ونزاولها فقلنا , ونحن نتوب إلى الله من هذه الوصمة:
يا نسيماً يأوي الغداة جنانا ... حُورها العِيْن يستلبنَ الجَنانا
مازَجتْهُ أجسامنا وهي قَتلى ... فاستردَّت أرواحها موتانا
وسرى في مسامّ صرعي الغواني ... فاغتدى الكلُّ ناشطاً جذلانا
هل تموَّجتَ فوق سوسَن خدٍّ ... ضمّ ورداً يجاور الأقحوانا
أو لمست النسرينَ حول جبينٍ ... ألبستهُ ألبابنا التيجانا
أو تسللتَ بين بُردٍ ونهدٍ ... فوق صدرٍ رمَّانهُ قد رمانا
أو تطرَّقتَ الأعضاد تمشي الهوينا ... وحللتَ العروش والأيوانا
وسرقتَ الشذا المعّطرَ منه ... وانتشقتَ الخزام والسيسبانا
وأتيتَ الرفاقَ تختال عُجباً ... ثملاً من أنفاسها نشوانا
تتهادى ما بين نفحٍ وطيبٍ ... صيَّر العقل صاحياً سكرانا؟
أي وربي فعلتَ هذا وإلاّ ... من تراه أولاك ما أحيانا؟
ثم انظر ناشدتك الله إلى التحكم البادئ من شاعرٍ آخر يخاطب نسيماً جاءَهُ من نجد:(4/17)
ألا يا صبا نجدٍ متى جئتَ من نجدِ ... لقد زدتني واللهِ وجداً على وجدِ
ومن تراهُ خوَّل الشعراءَ هذا الحق فيسألون النسيم كيف راح , ومتى جاءَ , ثم يقترحون عليهِ أموراً , ويتهمونهُ بأمور , ويعنتونهُ أعناتاً طالما شكا إلى الله منهُ في هذا العصر ,
عصر الحرية والنور , وهم عنهُ متغافلون , وفي طغيانهم مستدرجون. وهل يعجب أهل مصر بعد هذا اليوم - وهي كعبة الشعراء ومنبت البلغاء - أن يأتيهم النسيم في شهر ابريل نيسان سموماً , لا بارداً ولا كريماً , فيجعل جناتهم جحيماً , وماءَ نيلهم حميماً , وهو موتور من أهل النظام , مظلوم يطلب الانتقام؟؟
سليم عنحوري
أقوال في المرأة
المرأة أكمل المخلوقات كنفوشيوس
المرأة تعلّمنا الظرف والأدب فوليتر
ليس لروايات شكسبير أبطال بل بطلات رسكن
المرأة أفقدتنا الفردوس وهي وحدها قادرة أن تعيدنا إليهِ هوتير
تكون المرأةُ على أكملها عندما تكون على أتمتها تأنثاً غلادستون
المرأة آخر من بقي عند الصليب , وأول من أسرع إلى القبر باريت
المرأة الجميلة جوهرة. والمرأة كنز سندي
تجد المرأة في بدء كل شي دمرتين
أعذبُ ما في الحياةِ تحية الزوجة المحبة ولز
أيُّ شِعرٍ يفوق عيني المرأة في السحر شكسبير
إن السماء لا تعرف شيئاً أرقَّ من قلب المرأة الذي تسكنهُ الشفقة لوثير(4/18)
الأدب في العراق
السيد محمد سعيد حبّوبي العراقي
ولد في النجف , وبها نشأ وحصل. وقضى شطراً من شبيبته في بلاد نجد حيث تشتغل أسرته بالتجارة. ثم هو في النجف يعد في صدور العلماء المجتهدين , وعمره ستون سنة ونيف.
تأثير الإقليم - للإقليم ولنوع المعيشة أثر كبير في تكوين أخلاق الإنسان وملكاتهِ النفسية. وإذا التفتنا إلى من تترجم اليوم رأينا الشاهد على ذلك. الوسط الذي وُجد فيهِ الرجل , أول ما وُجد , كان مباءَة علمٍ وأدبٍ وشعور , والسماءُ التي رمقها , أول ما رمق , وضَّاءَة جميلة , الحرارة شديدة الوقع , ولون النور ناصع بياضه. فأهّلهُ ذلك , فوق ما في فطرتهِ من الاستعداد , لأن يكون ملك الشعر والشعور , وربَّ الفصاحة والبلاغة , الساحر بيانه , الفاتن عيانهُ. ولم يكن ذلك كلَّ ما جعل الرجل كذلك؛ بل إنه وُجد في مهد البساطة , وتمكنت من نفسه آداب الفطرة الصحيحة , فصفا ذهنه , واتَقد خاطرهُ , وقد انتشق نسيم بلاد العرب الجافّ المعتدلة حرارته , وشاهد الأودية والجبال والشعاب النضرة , فانعكست في لوح باطنهِ صوَر تلك المشاهدات الغريبة , وطالع رياض الجزيرة وأرباضها , فأجال طرفه هناك في بساتين الطبيعة العامرة؛ هناك في موطن الحب والعواطف , موطن الدموع , وفي مهبط الشعر والعشق والحياة الخفيفة(4/19)
الهنية , وفي محطّ رحال الكلَف والهيام , والضلال والحيرة. في النجف وُلد , وفي نجدٍ والحجاز وُجد؛ فجاءَ آيةً في الشعراء الحقيقيين الذين لم يوجدوا إلاَّ ليكونوا أمثلة للروح الإِلهية المقدسة , وأشباحاً للنفس الملكوتية الطاهرة. أولئك هم أنوار العالم , وهم متمّمو نقصان الوجود.
كلمة في شعره - فسدت معاني الشعر العربيّ , قبل فساد ألفاظه , بزمنٍ طويلٍ عهدهُ , فخرج بالشعر كثير من ذوي القرائح عن غايتهِ , وانقلبوا خرَّاصين قوَّالين ما لا يفعلون , غالينَ في المدح , وتأليهِ العظماء , وإكبار الجبَّارين. وقد أكتسبهم بالمال عشّاق الشهرة والمجد الباطَلين , فأفسدوا فطرتهم. على أنه لم تخلُ تلك الفَتَرات من نبيٍّ للشعراء يرسل كأبي العلاء ابن المعرّة. وقد كانت ألفاظ ذلك الشعر عامرةً على فساد معانيه. ثم جاءَ دور الألفاظ فأفسدها ابن نباتة والقيراطي وابن حُجة والصفدي والحّلي صفي الدين , بصناعتهم
اللفظية؛ فعاد الشعر العربي , من جهة المعاني , مدحاً ورثاء كلهما كذب وإغراق , ومن جهة الألفاظ , كلماتٍ مهملة أو معجمة , يتأمل كيف يضع الشاعر بعضها إلى بعض , أو كيف يقابل بعضها ببعض , ناسياً أن ليس الشعر إلاَّ لحناً جميلاً تؤلفهُ الأرواح الشاعرة , أو أنهُ ليس إلاَّ روحاً تبعثها ألحان الضمائر , وهي منقطعة إلى مناجاة الله والطبيعة. ويمتاز شعرُ مَن نحن بصددهِ , برجوعهِ إلى حقيقة الشعر في الأكثرِ إن من جهة الألفاظ , وإِن من جهة المعاني. أما الألفاظ فإنها السهلة(4/20)
الجزلة , تجمع إلى الرقة المتانة , ونظمها يحوز إلى فخامة التأليف , وجلال التركيب , جمال الأساليب. وأما معانيهِ فإنها في الأغلب وصفٌ وتصوير , وتجسيمٌ للخواطر , ونعت الطبيعة , ولهجة شديد في العشق , وفي الحب والأحباب. وإذا تصفحتَ مجموع شعره رأيتَ سفرَ دموعٍ وعواطف , ووجدت ثمة ديانة الشعراء , وأهازيج الأرواح , وتهليلاً وتسبيحاً يتضاعد من عالم النفس , إلى عالم الحس؛ ويشهد على سلوكه ومذهبه في المحبة الخالصة مثلُ قوله:
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجتْ عليهِ عروقي
وقوله:
إني اتخذتُ هواهمُ حَسبَاً ... أُعزى إليهِ , وحبَّهم شَرعا
وقوله في موشح:
ليت دين الحبّ لما عرَفا ... لم تقُم بيعتُهُ في عُنُقي
وقوله:
لستُ أنسى عهدكَ الماضي وإنْ ... مرَّ بالعينِ خيالاً لستُ أنسى
طفتُ سَبعاً حولَ مغناك كما ... قمتُ أقضي الصلواتِ الخمس خمسا
فها أنت ترى نوعاً من عبادة السالكين الذين تجردوا عن الاتصال بالمادَّة , وأصبحوا أرواحاً محصنة حائمة حول سراج الحقيقة , حيامَ الفراش على النار. ولماذا تودّ اللحاق بالحقيقة؟؟ لأنها للحقيقة خلقت , ومن الحقيقة بدأت , وإلى الحقيقة تعود. ولست أدري ماذا كان يلمُّ بهذا الشاعر حين ينقطع إلى التأمل في(4/21)
جمال الطبيعة؛ أكانت الطبيعة تنقطع إلى شهوده , فتجدهُ مظهراً من مظاهرها الجميلة , وتكاشفهُ , فتفيض أسرارها الغامضة على لسانه؟ بلى! وأنهُ لسانٌ ناطق للطبيعة , فقد كان مرأى الأزهار يؤثر فيهِ , وخطرانُ
الغصون الميس يعبث بلبّه , فيحملهُ على أن يقول:
يا بانة الجزعِ , لا والنازلين بهِ , ... ما كنتِ عارفةً لولاهمُ الهيفا
ويقول:
مالتْ فقلتُ لها يا بانةُ اعتدلي ... وإن جُبلت على التعطافِ والميَلِ
ويقول:
وذكرت في ذي البان ميسَ قدودِهم=فطفقتُ من شغفٍ أضمّ غصونَهُ
ويظهر من لهجتهِ في شعره , إنهُ كان شديد التمسك بمبدإهِ الحب تمسكاً يمثّل له أن الهلاك والحيرة منجاة وهدًى فيهِ , وإن طغيانه عليهِ عدل وإنصاف تلزم معهما الطاعة. فتراه يقول:
منَح الصبابةَ أضلُعاً وفؤادا ... وعصتُهُ سلوة مُقصرٍ فتمادى
وطغى عليهِ الحبُّ وهو أميرهُ ... فأطاعَ جامح قلبه وانقادا
وربما أصيب , كدأب الحائرين من هذه الطائفة المعذبة , بمن لا عاطفة , بل لا قلب له , فيطعن في سلوكهِ , فيضطران أن يواجه هؤلاء بمثل قوله:
يا عاذِليَّ في الهوى تورَّعوا ... واطَّرِحوا نفسي ومَن تيَّمها
قالوا الغرام مهلكٌ قلتُ لهم ... ما عيشتي إن لم أكن مغرمَهَا
وقوله:
يا لائميَّ ليومَ في حُبّهِ ... مهلاً فما شانكما شأني(4/22)
هاموا هيامي فيكَ لو أنهم ... قد عرفوا مَعناكَ عُرفاني
شعره - وقد آن لنا أن نُثبت شيئاً من شعره؛ فهو الذي يقول:
لُح كوكباً , وامشِ غصناً , والتفتْ ربما ... فإِنْ عداكَ اسمُها لمَ تعدكَ السيما
وجهاً أغرَّ وجيداً زانهُ جيَدٌ ... وقلمةً تخُجلُ الخطّيَ تقويما
يا مَن تجلُّ عن التمثيلِ صورتهُ ... لأنتَ مثَّلتَ روحَ الحسنِ تجسيما
لو أبصرتك النصارى في كنائسها ... مُصوَّراً ربَّعتْ فيكَ الأقانيما
نطقتُ بالشعر سحراً فيكَ حين غدا ... هاروتُ طرفكَ ينشي السحرَ تعليما
إذا سفرتَ تولّى المتقي صنماً ... وإن نظرتَ توقّى الضيغمُ الريما
من لي بألمي , نعيمي بالعذاب بهِ ... والحبُّ أن تجد التعذيبَ تنعيما
ألقى الوشاحَ على خصرٍ توهَّمهُ ... وكيف وشّحَ بالمرئيِّ موهوما
أشيمُ برقَ ثناياه فيوهمني ... تألّق البرقِ نجديّاً إذا شيما
يا نازلي الرمل من نجدٍ أُحبكُم ... وغن هجرتم ففيما هجركم فيما
هل توردون ظماَء عذبَ مائكم ... أم تُصدرون الأماني حُوَّماً هيما
لي بَينكم , لا أطالَ اللهُ بينكُم , ... غضيضُ طرفٍ يردُّ الطرف مسجوما
أنا رضيعُ هواهُ منذ نشأتهِ ... ونشأتي لن تروني عنهُ مفطوما
يا جائراً وعلى عمدٍ أحكّمهُ ... أعدلْ وجُرْ بالذي ولاّك تحكيما
حرَّمتَ وصلي كما حلَّلتَ مقتلتي ... صدَّقتُ شرعكَ تحليلاً وتحريما
ولهُ:
دموعي وهيَ حمرٌ مُرسَلاتُ ... وشت بي عند أهلِكَ لا الوشاة
أتنكرُ يا أخا القمرين لثمي ... وفي شفتيكَ من شفتيِ سماتُ
فلو نزعتْ لحاظُك عن قسيٍّ ... لما اختارتْ سواهنَّ الرماة(4/23)
فسلْ كبدي ففي كبدي سهامٌ ... بأهدابِ الجفون مُرّيشاتُ
وسلْ عطيفكَ كم طعنا فؤادي ... إذا علمتْ بموقعها القناةُ
أتحكي السمرُ قدَّك باعتدال ... وما ثُقّفتَ وهيَ مثقَّفاتُ
وله:
يا غزالَ الحِمى , وقلتُ غزالاً , ... حين أبصرتُ في ضلوعي كناسا
حسبوا غنجَ مقلتيكَ نعاساً ... ومن الغنج ما يكونُ نُعاسا
مَن كسا خدَّك الشقيق كساني ... من بَهارِ الضَّنا عليكَ لباسا
فاسقني , لا عطشتَ , ثغراً وريقاً ... يومَ تسقي النديمَ خمراً وكاسا
وارعَ لي ذمةً لديكَ وعهداً ... يومَ تنسى العهودَ أو تتناسى
هبْ جميع الورى أحبّتك حبي ... غير أني قاسيتُ ما لا يقاسي
وله:
خطرتْ فجدَّ وشاحُها بخفوق ... فكأنها اتشحتْ بقلب مشوقِ
وعلى الدلالِ تماسكتْ فتلاعبتْ ... كفُّ الصِبّي بقوامِها الممشوقِ
شربتْ بوجنتِها دمي واستخدمتْ ... لخضاب أنملها دَمَ الراووقِ
قمنَ الولائدُ إذ تهبُّ من الكرى ... من حولِ واضحةِ كنارِ فريقِ
وضفرنَ جثلاً من أثيتِ عتاكلٍ ... نُضّدنَ فوق المتن نضدَ عذوقِ
الحسنُ حوزتُها ولكن غيرُها ... بالمستعار أتى أوِ المسروقِ
والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجت عليهِ عروقي
يا أسمَ جادكم السحابُ إذا سرى ... متجلّلاً برواعدٍ وبروقِ
جون إذا احتلب المهبّ ضروعَهُ ... هدرتْ رواعدُهُ هدير فنيقِ
إني وثقتُ بحبكم فتكاثرت ... عللٌ تُقلّلهُ فقلَّ وثوقي(4/24)
وله:
شمس الحميَّا تجلّت في يَدِ الساقي ... فشعَّ ضوءُ سناها بين آفاقِ
سترتُها بفمي كي لا تنمَّ بنا ... فأجَّجت شعلةً ما بين آماقي
خُذْها كواكب أكوابٍ ويشفعُها ... ما يحتسي الطرفُ من أقداحِ أحداقِ
وبتُّ أُسقي وباتتْ وهيَ ساقيتي ... نحسو الكؤوسَ ونسقي الأرض بالباقي
ضممتُها فتثّنت وهي قائلةٌ ... بالغنج مهلاً لقد كسَّرتَ أطواقي
مسودَّةُ الشعر لولا ضوءُ غُرّتها ... لما هدتني إليها غيرُ أشواقي
يهدي غليكَ بمرآها ومسمعِها ... جمال يوسف في ألحانِ إسحاق
وقال:
للهِ يومَ وداعِهم من عُصبةٍ ... وقفتْ وقد سَرتِ الجمالُ وخادا
وَقفتْ بهم أقدامُهم إن يركضوا ... أثرَ النياقِ فاركضوا الأكبادَا
فوق الركائبِ أنجمٌ لا تجتلي ... ورياض حسنٍ تمنعُ الرُّوادا
عَربٌ , معاطفُ غيدِهم ورماحهم ... سيَّانِ , كلٌّ ينثني ميَّادا
بعثوا الخيالَ , وما رقدتُ , وليتَهم ... بعثوا إليَّ مع الخيالِ رُقادا
أُحيي الدُّجى أرَقاً كأنَّ نواظري ... خُلقتْ محاجرها قذى وسُهادا
بذمامِ ذيَّاكَ الغزالِ حشاشةٌ ... أُسرتْ ولم يَقبل فدىً فتُفادى
يا غارساً بالجزع روضة حسنهِ ... ومخيفَ رائدها قناً وصعادا
كَنّيتُ عنكَ بمن سواك مُوريّاً ... بهوى سعادَ وما هويتُ سُعادا
أعرضتَ عني وادَّعيتَ مودّتي ... أرأيتَ إعراضاً يكون ُ ودادا
إني لأسترُ عِفتي بخلاعةٍ ... وأرومُ فيما أنتحيهِ مُرادا
والضدُّ قد يبدو بمظهرِ ضدِّهِ ... أوَ ما ترى نورَ العيونِ سوادا
يا رَبعَ لذَّاتي ومربعَ جيرتي ... حيَّا معاهدَك الغمامُ وجادا(4/25)
لا أبتغي للوصلِ فيكَ نهايةَ ... أبداً ولا للعيشِ فيك نَفادا
لا والذي سَمَكَ السمواتِ الغلي ... وأقامهنَّ وما أقامَ عمادا
لا أرتضي غيرَ الأكارم معشراً ... يوماً ويوماً ولا غير العراقِ بلادا
وقال:
ومودّعٍ للركب ودَّ بأنهُ ... لو قد أسألَ عن الفؤادِ شؤونَهُ
لم تقطع الإظعان ميلاً في السُرى ... إلاّ وكحّل بالسُهادِ جفونَهُ
قطعتْ بهم سهلَ الغميم وَحزَنهُ ... فسقى الغميمُ سهولَهُ وحزونَهُ
فترى الدموعَ تخالُها بحراً طمي ... وترى الحمولَ تخالهنَّ سفينهُ
يا قلبُ حسبكَ بالغرامِ رهينةً ... شطَّ الغريمُ ومما قضاكَ ديونهُ
فلأُنهكنَّ القلبَ من حسراتهِ ... يوم الترحّل أو يُجنَّ جنونهُ
قالوا أشابَ البينُ مفرقَ رأسهِ ... كلاّ ولكن قد أشابَ عيونهُ
وذكرتُ في ذي ألبان ميسَ قدودِهم ... فطفقتُ من شغفٍ أضمُّ غصونهُ
وقال:
يا ساكني الزوراءِ حسبُكُم النَّوى ... فلقد وهي جلدي بكم وتجلّدي
أمُرَ ضْتموني بالبعادِ وإنما ... أقصى شقائي أن أراكم عُوَّدي
كثرتْ عليَّ النائحاتُ صوارخاً ... إن لم أكثّرْ في هَواكم حُسَّدي
موَّهتُ عنكِ بلَعلعٍ وبحاجر ... ولأنتِ من تلك العبارة مقصدي
فليحلُ بالزوَراء عيشُكِ سائغاً ... إني أغصُّ بكلّ عيشٍ أرَغدِ
وليهنِ أعينَكِ الرُّقادُ فإنَّ لي ... عيناً إذا رَقد الملا لم ترقدِ
إِن أسلمتكِ يدُ الغرام فإِنني ... مُلقىً بقبضتهِ أروحُ وأغتدي
وله من قصيدة:
أجدّك علّمني لوصلك حيلةً ... فأنتَ الذي علَّمتني الهيَمانا(4/26)
وهبْ أنَّ سمعي قانغٌ بحديثكم ... أللعينِ مَعنىً أو تراكَ عيانا
إلى النزوانِ العيسُ تلوي أعنَّةً ... وهيهاتِ ليست تملكُ النَّزوانا
وليست تشيم البرقَ من أبرق الحمى ... بلى! قد تشمُّ الشيح والعَلَجانا
فيا أخويَّ المدَلجينِ كليهما ... إذا جزتما الجرعاء فانتظرنا
ويا صاحبي لا تلوِ عنها مُعرِّجاً ... هلمَّ لنَلقى من نحبُّ كِلانا
وقمْ نجتلي النارَ التي قال خابطٌ ... من الناس حسبي أن رأيتُ دخانا
وإن لمعتْ فاقصد لمشرقِ ضوئها ... وأمَّ شروقَ الضوءِ لا اللمَعانا
وله:
وإن أقضي بحبكِ مستهاماً ... فكم قبلي قضى صبٌ معَّنى
قضى القيسَانِ قبليّ: قَيسُ ليلى ... من الهجِ الطويلِ وقيسُ لبنى
هذا وقد أثبتُّ كل ما مرّ إشارة بذكر أديب دقَّ خطرُه , وتطلَّس أثرُه , لنبوغه بين قومٍ لا يحتفون بنابغة , ولا يحتفلون بنبيل , فحَمله استخفافهم بالشعر وذويه على الإشاحة عنهُ بوجهه , ودعاهُ اهتضامهم للأدب وأهله , إلى الإضراب عن معاناته , فانصرف منذ عهدٍ بعيد عن قرض الشعر , لولا ذلك لعُدَّ اليوم في صفّ المتفوّقين من غواة هذا الفنّ الجميل , وقليلٌ ما هم
النجف
محمد رضا الشبيبي
الزهور رأى القراء في شعر الشيخ الحبوبي وفي ما نشرته هذه المجلة سابقاً عن أدباء العراق أن تلك الأصقاع شعراء مجيدين يذكروننا بأسلافهم فحول شعراء العرب. فنشكر لكاتب هذه المقالة أنه عرّف على أدبائنا اليوم واحداً من هؤلاء الشعراء النابغين.(4/27)
الزهور
المرء روح خفيٌّ لست تنظره ... إلاَّ بمرآتهِ من هذه الصوّرِ
غن المرء ظاهره عنوان باطنه ... فهاكُم عن فؤادي أصدقَ الخبرِ
عبد الحميد الزهراوي
للسيد عبد الحميد أفندي الزهراوي شهرة في الأدب لا تقلَ عن شهرته في السياسة. ولئن كانت سوريا قد عرفته سياسياً ماهراً , ومبعوثاً غيوراً على مصلحتها , فإن مصر عرفته من قبل كاتباً مجيداً , وصحافياً قديراً. على أن شواغل السياسة لم تصرفه عن الكتابة فقد طالما أنشأ المقالات الضافية , وكتب الفصول الشائقة في جريدته الحضارة الغراء. ولقد اغتنمنا فرصة وجوده في هذه الأثناء في مصر , فسألناه أن يزين بعض صفحات الزهور بفصل يكتبه خصيصاً لهاو فتفضل بالمقال التالي , قال:(4/28)
رغبتم , أيَّد الله بكم دولة العلم والأدب , أن أضع بين زهوركم ورقة يتمثل عليها شيء من تفكراتي , ولو أطلعتم على قلبي , وعرفتم كم أقدر الزهور حق قدرها , وكيف أتهيَّب أن أضع بينها مثل هذه الورقات , لما سمحت مكارمكم الأدبية أن تضعوني بين مشكلَين من تلبية هذه الرغبة الشريفة , والأحجام عنها. أما وقد قضى حظّي أن تخفي عليكم حالي , مع وضوحها وقوة فراستكم , فإن الأقدام رجح عندي على الأحجام , وشجعني على ذلك أنَّ فوضى الأقلام قد تستطيع تعاريجها أن تخفي مثل هذه الورقات فلا تنفذ إليها أعين الحذاق. ولا أكتم عنكم أن ما شغل الأفكار هذه الأيام من هبوب عواصف السياسة من الغرب على الشرق , ومن الشرق بعضه على بعض , قد حال بيننا وبين مجالات الكتابة؛ لأن المجال إن كان في السياسة , فهي قاضية أن ليس كل ما يعلم فيها يقال , وإن كان في الأدب , فمعلوم أنه لا محل للموسيقى حين تكون المدافع قائمة بدورها على أبواب البلاد , وإن كان في الفلسفة , فلها رجال لا أرى غني من طبقتهم , ولا تسمح نفسي إن تحشر في زمرة الطبقة التي لا تستحق في نظر الناس إلاَّ أن توسم بالتقليد؛ فلأجل هذا كله وقفت طويلاً أمام تكليف صديقي صاحب الزهور وقفة الحائر , ثم انطلق لساني يقول: كيف الخلاص من الزهور. ولما قلت هذه الكلمة وجدت ضالتي؛ فإن ذهني انتقل إلى موضوع يصح أن نسميهُ جليلاً. ذلك أن لاحت لي العلاقة العظمى التي البشر والأزهار , ورأيت أن هذا النوع بأجمعه غير
مستغنٍ عن الأزهار. فلما(4/29)
رأيت الناس تربطهم بها هذه الرابطة العظمى , بحيث لا ينفكّون كلهم عن طلابها , والخضوع لتجلياتها - لما رأيت هذا المرأى الغريب الذي يقلّ التنبه له , هان عليَّ عدم إمكان التخلص والتملص من أمره الزهور وسهل عليّ الدخول في موضوع قد يصح ن يأوي إلى هذه الرياض لأنه متعلق بالزهور.
العلاقة التي بيننا وبين الأزهار
قلت أن العلاقة بيننا وبينها عظيمة والآن أزيد فأقول: هي عظيمة جداً. وهذا أراه يحتمل شرحاً كثيراً , وأبدي أسقي على أني لم أجد من الوقت , ومن تفرّع الفكر ما استخدمه في هذا الشرح على مقدار ما يحتمل الموضوع , فأنا أكتفي بإشارات قليلة فإني لا أخال أن للزهور قرّاء من غير الأذكياء , وأولئك تكفيهم الإشارة. إن العلاقة بيننا وبين الأزهار هي علاقة التربية؛ أي أننا نحن نرّبيها وهي تربينا , وهي مساعدة في حفظ نوعنا , ونحن مساعدون في حفظ أنواعها. ولما كان من حكمة ذي العناية أن يكون طلبنا لما نحتاج إليه من الأشياء الضرورية بسوائق طبيعية , وضع فينا سوائق جمة متنوعة بتنوع ما نحتاج إليه؛ وأعظم السوائق حبّ الجمال. ووضع سبحانه فيما نحتاج إليه , ويحتاج إلينا , جواذب جمة متنوعة أعظمها الجمال. ففي الأزهار قوى تجذبنا , ووفينا قوى تسوقنا إلى محبتها. ولست أدري أشاعرة تلك الحبائب بهؤلاء المحبين , وأتربّينا لجواذب فينا تجذبها ,(4/30)
وسوائق فينا تسوقها إلى ذلك؟ نعم لا أدري هذا فتركه لسبح خيال بعض الفلاسفة. . .
كيف تربّينا الأزهار
أما تربة الأزهار إيانا فعلى أساليب شتى , بعضها شديد الظهور. فمن ذلك: تربيتها أبداننا؛ ذلك أن قسماً عظيماً من أغذيتنا يتمثل في أهم أدواره زهراً , ثم ينقلب حَبّاً , أو فاكهةً , أو لبّاً. ولا ينبغي أن ننسى أن الأعشاب هي الأساس في تربية أبدان جمهور الحيوانات؛ لأن أو أكل اللحوم منها , إنما تتغذى بلحوم أو أكل الأعشاب في الغالب , ولأنها أعني أو أكل اللحوم إذا وجدت في اللحوم غذاءها , لا تجد فيها شفاءها إذا أصابها مرض , بل تلتمسه في الأعشاب كما ينقله المشاهدون. وإذا كانت الأعشاب هي الأساس في التغذية , ومن الحبوب والفواكه والألباب قسم كبير من الأغذية والأدوية , كان واضحاً معنى تربية الأزهار أبداننا. أما تربيتها لأفكارنا وعواطفنا فهذا الذي يحتاج إلى الشرح؛ ولعله يكفي أن
نقول: أن أعظم أسباب رقيّ الإنسان إنما هو حب الجمال وأن أعظم حامل للواء الجمال هي الأزهار التي لا يستطيع أبلغ البلغاء أن يدخل في تفاصيل بهائها وازدهارها وتشكلها بالألوف من الألوان التي يفرق بعضها عن بعض امتيازات في غاية الدقة. فكلما ألف الإنسان المزيد من التمتع بجمالها وعُني بتربيتها وترتيبها ازداد ذوقه سلامة , وطبعه لطفاً , وروحه نشاطاً.(4/31)
وهناك أسلوب آخر من تربيتها إيانا يذوقه الصوفيون , والفلاسفة الروحيون؛ فلا نتعرض له ههنا.
كيف نرّبي الأزهار
هذا المطلب من الموضوع نترك بعض جهاته لعلماء الزراعة , ونأخذ نحن بجهة واحدة منه؛ وهي أن التقليد الذي يدخل في كل شيء قد دخل أيضاً في تربية الأزهار التي اعتاد الناس أن يزينوا بها حدائق البيوت. ذلك أننا رأينا أكثر الحدائق إنما تحتوي على أصناف من الأزهار معهودة عند الكل في الغالب , في حين أن الأزهار التي تحتوي عليها أرض الله الواسعة تكاد لا تحصى. هذا التقليد قد يذكّرنا بجمود أكثر الأفكار على ما عرف الأولون , من غير تأمل , في ذلك الذي عرفوه خطأَ أو صواباً؛ وإذا انتقل الفكر من الجمود في تربية الأزهار , إلى الجمود في تربية العقول والنفوس , يرجف القلم ويستعفي من الخوض فيه؛ فليعذره القارئ إذا أراد أن لا يترك لذة الوقوف مع الزهور , وقفة الذاكر جميلها وجمالها , المتعلم من حكمة التي تتجلى لي كلما رأيتها تزين الرياض والحدائق , وهي أن تسبيح بديع الأكوان كلها يكون بالروح والجنان , كما يكون باللسان , وإنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ يُسَبّحُ بحَمْدِهِ ولكنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهُم.
عبد الحميد الزهراوي(4/32)
أي الرجال تفضله النساء
من كان طويلاً القامة , قوي البنية , جميل الطلعة , ذا ذكاء لا يباهي به , لين العريكة , متسامحاً بالجزئيات , غيوراً في الحب , رؤوفاً بالضعيف , يركن إليه في كل الأحوال ويمكن خداعه أحياناً. وإني وإن كنت أرى صعوبة التعميم في أمور كهذه , فلا ريب عندي أن أكثر النساء يملنَ إلى الرجل الذي يستأثر بالسلطة , وإن يكن بعضهنَّ يفضلن الاستبداد على الإهمال , لأن المستبد شرس الطباع , مكروه في الغالب
وردت هذه الجملة في آخر رواية كتبتها آدا ليفرسون , فلفتت نظر مدير مجلة الستراند , فاتخذها موضوعاً اقترحه على أديبات الانكليز فوردته الأجوبة التالية: لا يصح التعميم في قضية كهذه؛ فإن لكلٍ من الناس في الحبّ مذهباً ولولا ذلك لساد في الأرض الشقاء. وأنا أوافق السيدة ليفرسون على كره الرجل المستبدّ , وحب الرؤوف. أما رأيي الخاص فإني أقدّم الحيطة والرعاية على باقي الصفات , إذ لا شيءَ عندي أبغض من الإهمال وعدم الاكتراث. ولستُ أُعلّق على المنظر الشخصي كبير أهميةٍ , فإني أعشق في الرجل أخلاقهُ لا أسنانهُ البيض وشاربهُ المفتول.
مود. أنسلى
إن وصف آدا ليفرسون يصدق بالإجمال على النوع الذي تفضّله النساء. غير أنَّ بعضهنَّ يفضّلنَ ذا النفس الكريمة , ولو كان قبيح الصورة , والقويَّ على الضعيف. أما المستبدُّ الشكِس الطباع فلا يُطاق. وقد أصاب هزلت في قولهِ: عن المرأة تعشق الرسم الذي اعتادت تصويرهُ في مخيلتها.
أدلا بيد أرنولد
ليس أبغضُ لديَّ من الشاب الجميل. غير أني اشترط في من أحب إن يكون منظرهُ مقبولاً. ذا عينين لطيفتين , وذقن تدلُّ على القوَّة , وإن لا يكون(4/33)
في وجهه ما يدلُّ على الدناءَة؛ يحب الأولاد والكلاب قادراً على استمالتهم إليه. وأفضّل من زادَ على هذا الذكاء , وسعة الإطلاع , وكرم النفس , والقوة الحقيقة. فإنَّ القويَّ لا يظلم ولا يستبد. وإكراهُ الجبان الغيور. ومن الحكمة أن لا تفحص المرأة عن ماضي رجلها. وإن تثق بهِ كل الثقة.
مسز اسكيو
إنّ الاستبدادَ في الرجل كثيراً ما يكون عنوان الضعف؛ فالمرأة الحكيمة تعرف كيف تحصل على السلطة الحقيقية , بإظهارها الطاعة واللين , ويمكنها الفوز بأكثر رغائبها إذا تظاهرت بعكس ما تروم. أما الرجل الرؤوف الذكيّ , الثقة , فهو عطية الآلهة. وإني استغرب ممن تفوز ببعلٍ كهذا يخطر لها خداعه في بال
كاترين بايتس
يستحيل على امرأة واحدة أن تجيب على هذا السؤال المهم؛ فإن لكلّ امرأة ميلها. وبصفة كوني عظواً من الجنس اللطيف أجيب: أنني أفضّل الرجل الذي ينزع للسلطة , وإكراه الرجل الضعيف النفس , كما تكرهُ الكثيرات منا ضعيف البنية , واحتقر الرجل البسيط الذي يُخدع. أما الخصال التي لها الميزة عندي فهي الشجاعة والذكاء والمواساة وخفّة الروح. وإن أضفت إليها دماثة الخلق والكرم بلغت حدّ الكمال.
مارجري بون
إن قلنا إننا نفضّل الرجل الطويل الجميل الذكيَّ القوي , فلا نضلّ؛ إذ نكون قد اخَترنا أفضل النوع المذكر. ومن منا لا تميل إلى الرجل المتسامح في صغائر الأمور؟ غير أني أرى اللواتي يفضّلنَ محبَّ الأثرة , على ضلالٍ مبين؛ فهنَّ يستحسنَّ منهُ مظاهر القوة في زمن الخطبة , ثم لا يلبثنَ أن يسمينها استبداداً مشيناً بعد الزواج. ومما لا يُعارض فيهِ أنَّ المرأة تحبُّ الغيرة في الرجل , لأنها لا تريد أن يُشرك فيها. وأما من يمكن خداعهُ أحياناً فهذا شرط يستغني عنهُ لأنَّ الرجل الذي لا تقدر المرأة على خداعهِ لم يولد حتى الآن.
صوفيا كول(4/34)
إن الزمان الذي كانت تميل المرأة فيهِ إلى ذوي السيادة والأثرة من الرجال قد مضى مع الجيل الغابر , فإننا بنات القرن العشرين نودُّ أن نرى في الرجل العصريّ المجاملة والمروءة التي ينبغي أن تكون بين القوي والضعيف؛ أما إذا وجدت المرأة رجلاً نقدر أن تثق بهِ ثقةً دائمة , فينبغي أن تخجل من أن تُقدِم على خداعهِ.
مسز كرسبيني
إن رأي مسز ليفرسون هو رأي ناضج ناشئٌ عن خبرةٍِ وتدبر. وهذا لا يتم إلاَّ لمن قضت
في الزواج أو العزوبة عقداً طويلاً. أما الفتيات اللواتي يهمهنّ في الدرجة الأولى , ما نحن في صددهِ , فإنهنَّ يملنَ مع القلب وليس مع العقل. وإني أرى الصفة الفضلى في ما يسمونهُ بالسمر والغزَل؛ فإن كل بنات جنسنا مهماكنَّ متعقلات يُرضيهنَّ من أزواجهنَّ أمور في الحقيقة صغيرة كمثل نظرةٍ أو قبله عند الوداع , أو حديث رقيق , أو لمسة تحبب , أو باقة زهر. والرجل الذي يحسن هذه المجاملات البسيطة تغتفر لهُ المرأة ذنوباً كثيرةز ويسرُّها أن ترى الغيرة فيهِ ما دامت ترى فيهِ آثار الحب الصادق إذ لا تقدر أن تعيش بلا حبيب.
ماي أرجنتون
ليس لي رأي خاص في هذه المسئلة سوى أني اعتقد أن جنسنا ينقسم إلى قسمين كبيرين: قسم يميل إلى التحكُّم , وقسم يرغب في أن يكون محكوماً. ولكل منهما فئةٌ تقابلهُ من الجنس الآخر. واعتقد أيضاً بالمبدأ القائل شبيهُ الشكل منجذبٌ إليهِ وإن شذَّ بعض الأحيان.
ألينور غلن
لو عُرض الأزواج في السوق كالبرانيط الجديدة ما ترددت النساء في اختيار أجملهم صورةً , وأطولهم قامةً , وأقواهم بنيةً. ولكنها ترى في من تحب الكمال ولو كان على عكس ذلك. ومما يدهش أن بعضاً من الرجال الذين تفتتن بهم كثيرات من النساء , ليسوا على شيءٍ من المواهب الطبيعية. وأنا أحتقر المرأة التي ترضى باستبداد زوجها , ولا أحب الغيور فهو لا يطاق كرفيق العمر؛ ومن كان هذا طبعهُ فلا يسهل عليهِ تغييرهُ. وإليك ما أفضّلهُ في الرجل: أن يكون محباً(4/35)
سليم الذوق , كريم الطباع , سريع الفهم , خفيف الروح , محباً للمجون. فإن المجون يخفف أثقال الحياة.
مسز بنروز
تختلف النساء في الذوقِ اختلاف الرجال فيهِ؛ وما يقضي بالعجب أن صنفاً من النساء والرجال لا نرى فيهِ من الميّزات ما يكتفي بأن يجعله الفائر بالشهرة في الحب. إنما السر أن هذا النوع لا يشعر بالحب الحقيقي؛ وهو ذو العواطف الهادئة , من إذا رأى امرأة تعرض عنهُ يقدر أن يظهر لها وكأنه يقول أني أستغني عنكِ أنتِ بكل سهولة لأن من يهزّه الحبُّ الصادق لا يمكنهُ أن يعلق بأكثر من شخصٍ واحد. وإذا تصفحتَ التاريخ تجد أنَّ
الرجال الذين اشتهروا بشدةِ سلطتهم على قلوب النساء , والنساء اللواتي كنَّ يلعبنَ بقلوب الرجال , كانوا بلا استثناء , فاتري العاطفة , شديدي الأنانية.
مسز بايلي
أميل إلى من كان يرمي إلى غرضٍ معلوم في الحياة , وهو قويٌّ ثابت؛ من يتكلُ على نفسهِ , ويقتصر في مظاهراتهِ الخيبة على ما يكفي أنهُ يفهِمَ زوجته أنهُ يُحيها. وأريدُه طويل الأناة دِمتَ الأخلاق
أن مُعظم النساء يعبد القوة , ويكرهُ في الرجل التأنُّث. ولذا فلا يهمّ الجمال هذا الفريق؛ لأن الرجل الجميل يغلُبُ أن يكون معجباً بجمالهِ , وهو محتقر ومرذول من النساء. يلذُّ للمرأة أن ترى الغيرة في من تحب , ولا تكره سلطة الرجل , وإن كانت لا تعترف بذلك جهرا حتى ولا لنفسها.
مسز ستانلي
كصديق أفضلُ الرجل المجوني الحلو الطباع , المتوسطَ الذكاء , من يقدران يجعل المرأة تعتقد بأنها أجمل وجهاً , وأبهج عشرةً , وأفخر زينةً من كل امرأةٍ سواها , فتصيدّقهُ وترضي عنهُ ولو قال نفسَ الكلام لكثيرات غيرها. ولكن كحبيب وزوج أشتهي المفكّر في غيره الرؤوف الرقيق. مَن يحب الأولاد والحيوانات إليكم ومَن يَحسُن الاتكال عليهِ دائماً
مود يارلي
ع. ع(4/36)
الرسميات
لم يكَدْ انتخاب المسيو يَذيع حتى أعلن رغبتهُ في خلع نير الرسميَّات وميله إلى حرية المعيشة. فهو يريد أن يؤمَّ هذا المكان , أو يختلف إلى ذلك الموضع بغير عين ولا رقيب. وهو يبتغي أن يثابر على مشاطرة المجمع العلمي الفرنساوي أعمالهُ. وأن يتناول الطعام عند أصدقائهِ إيانَ شاءَ دون أن يحاذر لومة لائم على مخالفتهِ لقواعد العادات المرعية في الرسميات. إن الرغبة التي أبداها المسيو بوانكاره على أثر انتخابهِ لرئاسة الجمهورية الفرنساوية تدلُّ على عواطف ديموقراطية حقيقة كامنة في صدر ذلك الرجل العظيم الذي أجمعت الكلمة على استحسان انتخابهِ لذلك المنصب الرفيع. وهي لعمر الحق عواطف لا يسع كلَّ ذي عقل سامٍ إلاَّ إطراؤها. أجل أن الرسميات المقضي على رئيس الجمهورية الفرنساوية التقيّد بها في هذه الأيام , لم تعد معدودة شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الرسميات الكثيرة التعقيد التي كان العمل جارياً بموجبها في العصور الماضية في قصور ملوك فرنسا. ومع ذلك فإن المسيو بوانكاره أنف من الخضوع لها. وهبْ سلّمنا بوجوب العمل بمقتضي قواعد الرسميات في بعض الحفلات التي تقتضي تصدُّر رئيس الجمهورية فها , كالأعياد العمومية واستقبال رؤساء الحكومات الأجنبية وسفرائهم , فلا يمكننا التسليم بضرورة بقاء ذلك الرئيس مقيداً بتلك القواعد في معيشتهِ البيتية. ففي جلسة عقدت في 21 سبتمبر أيلول سنة 1792 اقترح مانويل أن يقيَّد زعيم الجمعية العمومية بقواعدَ رسميات تُعيد إلى الذهن ذكرى بعض القواعد التي كانت مرعية في عهد الملكية الملغاة. فللحال ارتفعت أصوات الاعتراض على اقتراحه وأُقيم النكير عليهِ بالصوت الحيّ. وكان من جملة مقال تاليان في ذلك الصدد: إني ليدهشني تباحثكم في أمر الرسميات. فلا يمكن أن يوضع موضع المناقشة(4/37)
استئثار رئيس الجمعية بميزةٍ خاصة حين لا يكون مزاولاً لأعمال منصبهِ. وهو حين يكون خارج هذه الردعة يعتبر فرداً من جملة أفراد الأمة وكأننا بالمسيو بوانكاره يرغب , حين هو لا يزال أعمال الرئاسة في أن يكون حرّاً يتصرف في أعماله كفردٍ بسيط من أفراد الأمة. فكأن روح أجدادهِ قد تقمصت فيهِ فدعتهُ إلى إجراء ذلك العمل الذي استوجب له الثناء. يرجع أصل الرسميات في فرنسا إلى الملك فرنسيس الأول 1494 - 1547 وقد كان ملوك فرنسا قبله على غاية من البساطة في معيشتهم. فأراد هذا الملك أن يفتدي بُمناظرهِ العاهل شارل الخامس في الأبهة والعظمة الموروثتين عن أجدادهِ
دوقات برغونيا. هذا كان بدء إدخال الرسميات إلى بلاط فرنسا. وقد زادها هنري الثالث تعقيداً. وأما هنري الرابع فإنهُ بذل المجهود لجعلها بسيطة. وعالج مناوأتها غير مرة. غير أن ماري المديشية زوجتهُ كانت من قوم شديدي الاستمساك بأهداب الرسميات فانتصرت لها , وزادتها تعقيداً على تعقيد. وكانت الرسميات ف بلاط لويس الرابع عشر من أصعب الأمور المقضي على الإنسان العمل بها. فلم يكن الملك يُجري حركة أو إشارة إلاّ ويبادر إلى قضاء أمره شخص من الأشخاص المعينين لتلك المهمة بموجب قانون الرسميات. فإذا نهض الملك من السرير , قضت الرسميات على بعض الأشخاص إن ينهضوا بأعباءِ خدمتهِ. فهذا يقدّم له قميصهُ , وذاك سراويلهُ. وإذا جلس إلى المائدة , قام على خدمتهِ جمهورٌ من رجال البلاط يقدمون له بالتناوب ألوان الطعام وأنواع الشراب. فكانوا يأتونهُ بالشواءِ في حفلة منظمة؛ فيسير في المقدمة جنديان يحمل كلٌّ منهما رمحاً على كتفهِ. ويتلوها خادم يحمل الشواءَ يتبعهُ أربعة من الحراس يحملون البنادق على أكتافهم. وكل ذلك لأجل قطعة من اللحم المشوي. ولو كانت هذه(4/38)
الحفلة تزيد في لذة الطعام لكانت مغتفرة. ولكنها كانت تذهب بلذتهِ لأن الطعام كان يبرد في أثناء ذلك. وظلت تلك الحفلات الرسمية المستهجنة معمولاً بها حتى اتقدت نيران الفتنة الكبرى فأخذت الملكة ماري انطوانت , زوجة الملك لويس السادس عشر , منذ قدومها إلى الديار الفرنساوية , تتذمر من تلك الرسميات برسائل كانت تخطها إلى والديها. ولما زُجّت في السجن بعد الثورة قالت: إني استفدتُ شيئاً من الثورة فقد تخلصتُ من الرسميات فليحكم القارئ من الحادثة الآتية عما إذا كانت الملكة مصيبة أو مخطئة في قولها هذا: حدث ذات يومٍ من أيام الشتاء أن الملكة ماري انطوانت كانت تغيّر ملابسها وقد تعرّت , وأوشكت أن تلبس قميصها. وكانت عقيلة كامبان قيّمة غرفة الملكة حاملة القميص مطويّاً. فدخلت إحدى نساءِ الشرف , ونزعت قفازيها , وتناولت القميص من القيّمة - ولا بدَّ من أن يعلم القارئُ أن الرسميات كانت تقضي على كل شخص يقدّم شيئاً ما إلى الملك أو الملكة بأن يكون عاري اليدين - فأخذت سيدة الشرف القميص وهمت بإعطائهِ إلى الملكة. وإذا بالباب يُحكُّ - وينبغي للقارئ أن يعلم أيضاً أنهُ لم يكن يجوز لأحد أن يقرع باب الملك أو الملكة , بل كانت الرسميات تقتضي أن يُحكُّ الباب قبل فتحهِ - فتح الباب ودخلت دوقة أورليان - وهنا تبدو صعوبة
أخرى وهي أن قواعد الرسميات كانت تقضي بأنهُ إذا دخل على الملك أميرٌ من الأسرة المالكة , أو دخلت على الملكة أميرة من بيت الملك , حين يكون الملك أو الملكة يلبسان ثيابهما , كان من حقّ الأمير أو الأميرة أن يقوم مقام السيد أو السيدة المنوط بهما أمر تقديم الملابس للملك أو الملكة. دخلت دوقة أورليان ونزعت قفازيها , وهمت بأخذ القميص من سيدة الشرف. ولكن الرسميات لم تكن تجيزه لهذه السيدة إعطاءَها القميص فأعادتها إلى(4/39)
عقيلة كامبان وهذه ناولتها للأميرة. وبينا هنَّ على تلك الحالُ حكَّ الباب مرة أخرى , وولجت كونتة بروفانس؛ ولما كانت هذه الأميرة سلفة الملكة كان لها الأفضلية على دوقة أورليان فسلمت القميص إليها. وفي أثناء ذلك كانت الملكة العريانة ترتجف من شدة البرد. وكل ذلك كان لئلا تتخطى حدود قواعد الرسميات. ولما رأت عقيلة كامبان أن الأمر قد طال. وأنهُ يُخشى أن تصاب الملكة بزكام من ذلك البرد , وإن قواعد الرسميات لا تدفع عنها غوائله الذميمة , تناولت القميص وبادرت إلى إلباس الملكة دون أن تنزع قفازيها , ودون أن تحترم قبّة الشعر العالية المبنية فوق رأسها. فتبسمت الملكة لعمل عقيلة كامبان , وإن يكن قد ساءَها من جهةٍ خرق حرمة الرسميات. قال الكاتب بولس لويس كوريه: إن الرسميات تصيّر الملوك عبيداً للبلاط. ولقد أصاب وايم الحق هذا الكاتب في قوله , لأن أولئك الملوك لم يكونوا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة , أو يبدوا أدنى إشارة , دون أن يتدخل للحال في أمرهم إنسان ليس منهُ فائدة. ومما هو أغرب من ذلك أن هذه الرسميات مع صرامتها في بعض الشؤون العادية كانت في غالب الأحيان مهملة في أمور كثيرة عظيمة الأهمية. كان للملك لويس الخامس عشر عدد كبير من الخدام القائمين على خدمته في لبس ثيابهِ وعلى المائدة وغير ذلك. ولكنهُ لم يكن لديهِ خادم يوقد النار في غرفتهِ ليدفئها. وقد قال لعقيلة دي باري أنهُ كان غير مرة في فصل الشتاء يضطرّ بذاتهِ إلى إيقاد النار في غرفتهِ ليصطلي عليها. أقبح ما في الرسميات أن المقرّبين من الملك كانوا يضربون حولهُ نطاقاً يحول دون وصول الحقائق إليهِ؛ فيبقى بينهُ وبين الشعب حاجزٌ حصين , فالرسميات التي كانت تحجب حاجات الشعب وأمانيهُ عن علم الملك , كانت داعياً إلى إضرام نيران الفتن. فقد حدث في اسبانيا من الفتن ما لم يحدث في غيرها من البلدان(4/40)
ويعزى ذلك الأمر إلى الرسميات التي يُعمل بها في تلك المملكة أكثر مما يُحافظ
عليها عند سواهم من الشعوب. وقد نظم فيكتور هوغو الشاعر الفرنساوي المشهور عقد رواية حسناء سماها روي بلاس أدار رحى الكلام فيها على قطب الرسميات , وما يتخللها من العادات التي يمحُّها الذوق السليم , دون أن يركب مركب المغالاة , أو يتمادى في المبالغ بهذا الموضوع. ولما كان بالشيءِ يذكر , نورد هنا نكتتين لطيفتين تأتيان مصداقاً لما نحن في صددهِ: أمر ملك اسبانيا في خالي الحين أن يقدّموا للملكة جياداً من كرام الجياد الأندلسية لتختار منها فرساً كريماً. فانتقمت منها جواداً مطهماً وركبتهُ. ولم تكد تمتطي صهوتهُ حتى جعل يرفس , فهوت إلى الأرض وبقيت رجلها معلقة بالركاب. فأجفل الحصان جامحاً , وجرّ وراءَه الملكة. وكان ذلك الأمر في عرصة القصر والملك ينظر من الشرفة , والاضطراب والقنوط بالغان منهُ. وكان في العرصة عدد غير قليل من الخفراءِ ورجال البلاط ينظرون إلى الملكة ولا يجسرون على الدنو منها لتمليص رجلها من الركاب لأنهُ كان محظوراً على أيٍّ من الناس أن يمسّ شخص الملكة ولاسيما رجلها. وكان ثمت فارسان اسبانيوليان , فدفعتها الحمية إلى إنقاذ الملكة ولو سامهما ذلك الأمر إلى اقتحام غمرات الحمام. فقبض أحدهما على لجام الحصان وأوقفهُ , وملص الآخر رجل الملكة من الركاب. ثم أنهما برحا القصر لساعتهما مسرعين إلى منزلهما , وأسرجا جوادين , وتركا المدينة هاربين من غضب الملك. وفقد في اسبانيا أيضاً أحد الملوك حياتهُ بسبب تمسكه رجال بلاطهِ بالرسميات. وذلك أنهُ كان للملك فيليب الثالث موقد في غرفتهِ أضرمت فيه النار وارتفع لهيبها. فاندلع لسانها اندلاعاً كاد يحرق وجه الملك. وحدث أن الشخص الموكول إليه أمر العناية بتلك النار كان غائباً. فلم يدر في خلد أحدٍ من الحضور في حضرة الملك أن يقوم مْقامهُ. وظن الملك أن كرومة مقامهِ تمنعُ الابتعاد عن تلك(4/41)
النار أو أبعادها عمهُ. ولذلك ظلّ قاعداً على عرشهِ حتى أثرت بهِ النار تأثيراً أحرق وجههُ , وكان سبباً لوفاتهِ بعد بضعة أيام. أما الملكة فكتوريا الانكليزية فقد كانت أعقل من ملك اسبانيا من هذا القبيل؛ فإن في عملها والكلمات التي فاهت بها في الحال التي سنبينها , انتقاداً مرّاً لتلك الرسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان. كانت الملكة فكتوريا ذات ليلةٍ جالسة في ردهة من ردهات قصرها وقد التفَّت حولها عصابة من الأمراء والأميرات وكبار رجال المملكة. فجعل المصباح يدخّن. فنهضت الملكة وخفضت الذبالة. وكان من وراء عملها هذا
دهشٌ شديد استولى على الحاضرين. فصاحت إحدى سيدات الشرف: أو مثل جلالتك تتنازل بذاتها. . . فأجابتها الملكة: نعم فلو إني قلت أن القنديل يدخّن , لكانت سيدة من سيدات الشرف قالت للحاجب: ألا ترى يا حضرة السيد أن قنديل الملكة يدخّن؟ وحينئذٍ كان هذا الأخير ينادي خادماً لإصلاحهِ. ولا يخفي أن هذا الأمر يستغرق وقتاً من الزمان يمكن أن يلتهب القنديل في خلاله. ولذا قد آثرت تولّي إصلاحه بذاتي. . . وقد انتسخت الرسميات أو كادت في عصرنا نت قصور الملوك في بلدان أوروبا الشمالية. ففي كوبنها أو ستوكهولم أو كريستيانا لا يتعجب أحد من رؤيتهِ الملك يتنزه وحدهُ في الشوارع حاملاً عصاه بيده , أو يركب الترامواي كأنهُ من سوقة الناس. وأما الرسميات في بلدان أوروبا الجنوبية فإنها لا تزال مرعية كما كانت في الماضي. وهي تعتبر إرثاً اتصل بالشعوب اللاتينية من بيزنطة. وعندنا أن أفضل شيء هو ما جرى عليهِ القوم في أوروبا الشمالية من البساطة في المعيشة. والتحرر من قيود الرسميات الثقيل. ورحم الله مرمونتل القائل فلنهزأ بالرسميات , وبالتربة التي أنبتها.
إلياس طنوس الحويّك(4/42)
يوسف شكور باشا
أيها السادة!
عادة الاعتذار عن التقصير أصبحت من مبتذلات العادات في مستهلّ كلام الخطباء. غير أنكم تغتفرون لخطيب اليوم أن يجري عليها , إذ لا يرى مندوحة عنها , فيسألكم المعذرة إذا بقيَ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ خطيبٍ أن يتهيَّب هذا الموقفَ أمام مثل هذا الحفل الحافل بوجوه البلاد أدباً وعلماً ومقاماً. ويُحجمَ إزاءَ الموضوع الخطير الذي دُعيت للكلام فيهِ. بل إنني أمام(4/43)
هذا الجمع الموقَّر , وفي تكريم فقيدنا الجليل , لا أرى أجدر من ذلك الفقيد نفسهِ بالوقوف مؤبناً وخطيبً , يجول جولاته المعروفة , ويتدفق بفصاحتهِ المشهورة. على أنه إذا كانت يد الموت قد عقلَتْ ذاك اللسان الزلق , وأخمدت ذلك الصوت العالي , وأبلت ذيّاك الصدر الرحب , فلا أقلَّ من أن تسمعوا الهممَ صوتاً - ولو ضعيفاً - يندبُ تلك المناقبَ الغراء , ويرثي هاتيك الهممَ الشماء , فيترامى هذا الصوت الضئيل إلى مسامعكم , كما يترامي الصدى محمولاً على تموجات الهواء.
أيها السادة
عقدت الجمعية الخيرية هذه الحفلة , ودعتكم إليها , قياماً بالواجب عليها نحو رجل تفتخرُ بأن تعدَّه من أعضائها , وإحياءً لذكر فردٍ تعتزّ أمتهُ بأنهُ كان من أفرادها. ولستُ أدَعي الإتيان على سرد حياة فقيدنا الكبير , وحياته كانت حياةً عمومية عرَفها القاصي والداني؛ كما أنني لا أبغي تعدادَ مناقبهِ وخلاله , وأنتم أعرَف بها , وما فيكم إلاَّ القريب والصديق والرفيق. ولكنَّ في إعادة ذكر السلف تنشيطاً للخلف , وفي تمجيد فضائل السابقين إرشاداً وعظة للاَّحقين. وما أحوَجنا , شبيبة اليوم , إلى مثل هذه الأمثال الناجعة , تستفزُّ هممنا ساعة الخمول , وتبعث فينا روحَ الإِقدام وقتَ اليأس , وتضيءُ طريقنا إبَّان الظلام , وترفعُ رؤوسنا إلى العلى في عصر الماديات. وما أجمل المثل الذي يتجلى لنا من هذا القبيل في حياة ابن شكور , وهي الإخلاص والنزاهة , وعفة(4/44)
النفس ورحابة الصدر , والإِقدام والذكاء والهمة العلياء. تاللهِ! إِن من كانت هذه حياته , يحق لأسرتهِ , بل لأمته , أن يعظُم في عينها مماته , فتقدرَهُ حقَّ قدره , وتذرف العبرات على قبره. وهذا ما تفعله اليوم أسرته , وطائفته , وأمته. بل يبكيه وطناه: وطن سلالته , ووطن شأته. فيحقُّ أن
يُقال فيهِ ما قال شوقي في موت أحد نوابغ رجالنا:
حلَّ بالأميتن خطبٌ جليلُ ... رجلٌ مات والرجالُ قليلُ
أيها السادة!
من الصفات الكثيرة التي عُرف بها فقيدنا , يلذُّ لي أن أقف عند اثنتين وهما: نزاهتهُ وهمته اللتان لم يختلف فيهما اثنان. وقد ورث هذه المناقب عن النبعة الكريمة التي يتحدَّر منها , وسهر على هذا الإرث الأدبي الثمين سهرَ الحريص على درهمهِ. فلم يسمح بأن تمتد إليه يدٌ , أو أن تشوبه شائبة. فجمع بين تليد ذووه من قبله. فإن جده الأكبر , شكور كنعان , هاجر من جبل لبنان - وكم أنبت هذا الجبل الأشم من الفروع الكريمة! - وجاء مصر مع أخيه يوسف كنعان شكور. فدخل هذا في خدمةِ الطبيب الذكر الخالدِ الأثرِ , محمد علي باشا الكبير. فعرف ذلك النابغة قدر ابن شكور اللبناني - ومن أعظم مزايا كبار الرجال معرفة قدر الرجال - فدرَّ عليه نعماءه , وولاَّة إدارة دار الضرب , ثم(4/45)
عهد إليهِ تنظيم جمارك دمياط , ولا تزال آثار همته ونزاهته مدوَّنة في تاريخ مصر. وقد توارث أبناؤه تلك الهمة والنزاهة؛ وياما أجملَ ما تجلتا بهِ في شخص حفيدهِ - فقيدنا , منذ درج من مهده , حتى أُدرج في لحده. فكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف شكور التلميذ؛ وكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف أفندي شكور الموظف بالمالية؛ وكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف بك شكور المراقب في الأموال غير المقرّرة؛ كما عرفه الجميع هماماً نزيهاً وهو يوسف بشا شكور مدير بلدية الإسكندرية؛ كما ظلَّ هماماً نزيهاً في خطبه وكتاباته: خلتان عرف بهما يافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً. وغنيٌّ عن البيان أنّ هاتين الخلتين لا تنتجان إلاَّ عن فضائل جمة مستكنة في الصدر؛ كما أنهما تُنتجان فضائل جمة تتجلى بها النفس: فالنزاهة تفرض الإخلاص وسلامة النية وطهارة الطوية؛ والهمة تفرض الذكاء وعزة النفس والميل الغريزي إلى الأمور السامية. ومن هذه وتلك يتولد شرف المبدأ والترّفعُ عن الدنايا والرمي إلى عظائم المقاصد. وقد برهن فقيدنا الكريم على ذلك في كل طورٍ من أطوار حياته وشهد له بذلك كلُّ من عرفه من رئيس ومرؤوس. ففي مدرسة ليون الكبرى , حيث تلقي دروسه , كان آيةً في الذكاء والاجتهاد , حتى بزَّ أقرانه , ونال قصبات السبق في لغة الأجانب على أبناءِ تلك اللغة , فعاد مكللاً بأكاليل الغار , حاملاً شهادة البكالوريا العلمية. وفي نظارة
المالية , أظهر من المقدرة على العمل والدراية في الأمور ما لفت غليهِ نظر رؤسائهِ , ففتحوا له باب التقدم سريعاً. فولجه , وهو(4/46)
على تمام الاستعداد , وأخذ يصعد في درجات الترقي قفزاً , حتى صار مراقباً في الأموال غير المقررة. وعرف رياض باشا ونوبار باشا الطيبا الذكر قدر ذلك الموظف النزيه النشيط , فولّياه أمور مالية صعيد مصر. ولما صحت العزيمة على إنشاءِ بلدية الإسكندرية المختلطة سنة 1890 , رأت الحكومة أن تعهد بهذه المهمة إلى رجل كفوءٍ للقيام بها , فوقع اختيارها على يوسف شكور بك. فنظّم تلك البلدية أحسن تنظيم , واشتهرت مقدرته ودرايته بين الوطنيين والأجانب , حتى رأت الحكومة أن تعين مديراً لأول بلدية مصرية دولية ذاك الذي أنشأها ورتب شؤونها. فذلل ما كان هناك من الصعاب , وأزال ما كان من العقبات. وظلّ في تلك الوظيفة عاملاً مجتهداً , مدة اثنتي عشرة سنة. وخرج منها طاهرَ الذيل , ناصع الجبهة , مخلّفاً في تلك المدينة - وهي مسقط رأسه - مآثر غير دوائر تنطق إلى الأبد بجليل عمله وعظيم نزاهته وإخلاصه. وقد يطولُ بي تعداد ما أتاه هناك من الأعمال الخطيرة والإصلاحات الجليلة , حتى بات لا يذكر اسم الإسكندرية والإصلاح فيها إلا ويُقرن باسم شكور باشا. وقد رأت تلك البلدية بعد موتهِ أن تُطلق على أحد شوارع المدينة اسم رجلها الكبير ومصلحها العظيم. ويا نعم ما فعلت! وفي سنة 1903 غادر خدمة الحكومة نهائيّاً. على أن تلك النفس الكبيرة الناهضة أبت التمتع بالراحة التي استحقتها بعد جهادٍ طويل؛ فتولى شكور باشا إدارة شركات مالية مختلفة. أزهرت على يده وأثمرت؛ وكانت برهاناً جديداً على علوّ همة الرجل , ومضاءِ عزمه , وثاقب فكره.(4/47)
ورأى من الواجب عليهِ أن يخدم مصر , حتى آخر رمق من حياتهِ؛ فعكف على خدمتها بقلمه ولسانه. فكان ذلك لا يباري. فشغل ساعات فراغهِ بتحبير تلك المقالات الشائقة في مواضيع اقتصادية وعمرانية ومالية. وكم كان له في هذا الميدان من الجولات الصادقة , والآراء الصائبة , التي تناقلتها صحف البلاد. وكم سمعناه في المحافل العمومية قارعاً أعواد المنابر يتدفق كالسيل الجارف , بفصاحته السلاّبة , وبلاغتهِ الخلاّبة. فكانت شباة قلمه كنصل الرمح أو أقوى , وحدُّ لسانهِ كحدِّ السيف أو أمضى. وقد أخلص في خدمته سموّ أميرنا العباس , كما أخلص جدُّه من قبل في خدمة جد الأسرة الخديوية الكريمة. شهد له بما سردتُ وعددت من جليل الأعمال وباهر الصفات كل من عرفه - وما
هم بالنزر اليسير من وطنيين وأجانب. وقد ذكره الورد كرومر في تقاريره الرسمية أكثر من مرة بالخير والثناء. ومما قاله فيه - ومثل هذه الشهادة لا يستهان بها: إن مدير عموم بلدية الإسكندرية , يوسف شكور باشا , رجلٌ سوري ذو نشاط كبير ودراية عظيمة. ولا شك في أن إصلاحات خطيرة قد تمت على عهده في مدينة الإسكندرية , ويجب عليّ أن أجاهر بأن تحريات لجنة التحقيق لم تتمكن من وجود ما يشين نزاهة شكور باشا. على أن تلك النزاهة لم تكن قط موضوع الريب هذا قليلٌ من كثير , أيها السادة , مما عرف به فقيدنا الكريم.(4/48)
ولكنت استوقفكم طويلاً , لو شئت أن أدرس حياته كموظف وكرجلٍ وكمفكر. ولذلك أكتفي بأن أقولَ بالإجمال: أن تلك الحياة كانت صفحة ناصعة البياض , لم تخط فيها إلاَّ سطور الهمة والنزاهة والشهامة والمرؤة. وإني لأذكر أبداً آخر مرة قابلته فيها , وكان يُعد مقالاتٍ ضافية في بعض المواضيع الاقتصادية الوطنية , ولا أزال أرى ذاك الذكاءَ اللامع , ومع ذلك الإخلاص المجسَّم , وهو يشرح نظريته ورأيه في ذاك الموضوع الحيوي. كما أنني لا أزال أذكر آخر مرةٍ سمعتهُ فيها خطيباً , وقد وقف يؤبن أحد عظماء رجالنا , فكان ينادينا بأعلى صوته إلى العلى! إلى العلى. . .! وكأني الآن بروحه الطاهرة تشرف علينا من الأخدار العلوية وتنادي بنا إلى العلى! إلى العلى. . .! إلى العلى! يا سادتي. فلتكن هذه الكلمة شعاراً لنا. . إلى العلى! يا شبيبة الشرق الناهضة. فلتكن هذه الآية السامية العظة التي نستخلصها من حياة ذلك الرجل الكبير. إلى العلى , في أقوالنا وأعمالنا! إلى العلى , في مقاصدنا وآمالنا!. . . .
النهر
ونهر حالَفَ الأهواَء حتى ... غدا طوعاً لها في كلّ أمرِ
إذا سرقتْ حُلى الأزهارِ ألقتْ ... إليهِ بها فيأخذُها ويجري
عبد العزيز الأنصاري(4/49)
ثمرات المطابع
ديوان الكاشف - أحمد أفندي الكاشف شاعرٌ من شعراءِ(4/50)
مصر المعدودين , يشهد له حافظ إبراهيم بأنه مستقلٌّ في بيانهِ ومبدأهِ ووجدانهِ ويرى شوقي في شعره روح الإخلاص كما يرى إسماعيل صبري أن في ذلك الشعر ما يستحقُّ أن يقف له القارئ إِعجاباً وإجلالاً , ويقول خليل مطران أن الكاشف يلقي إليك أبياتاً شائقة اللفظ , شريفة المعنى , متينة القوافي ويرى السيد المنفلوطي أن الكاشف الشاعر الوحيد الذي عرف الناس من أمره أنه إذا نطق فإنما ينطق بلغة نفسهِ , وإذا حدّث فإنما يحدّث عن حسهِ وينعته أحمد محرّم بأنه صادق الأسلوب , واضح السنن , صافي العبارة ويقول فيهِ صاحب المنار أنه ينظم الشعرَ للذة نفسهِ وإمتاع وجدانه وقد شهد للكاشف بذلك كل من قرأ شعره , ودرس نظمه. ولكننا أوردنا أقوال مشاهير شعرائنا وكتّابنا لنزيد القراء معرفة بالشاعر الذي ننشر اليوم رسمه بمناسبة إهدائهِ إلينا الجزء الثاني من ديوانه. وقد امتاز الكاشف على معظم الشعراء بأنه يرمي في قصائده إلى تأييد آراء خصوصية ومذاهب له في السياسة والدين , فهو يدعو إلى الجامعة الإسلامية , وتحرير الشرق , وتأييد الخلافة في بني عثمان , وقد يحدو بهِ ذلك أحياناً إلى الغلوّ والتشيع , مما يجعله شاعر فئةٍ مخصوصة , يطربُ لشعره بعض الأفراد , لا شاعراً اجتماعيّاً تهتزّ لأقواله أمة بأسرها لما تتضمنه من الدروس العمرانية , والأبحاث النفسية كما هي حقيقة وظيفة الشاعر. ولكن في إخلاص الكاشف لأكبر شفيع له. وهو من هذه الوجهة أكبر وأسمى في القسم الثاني من ديوانهِ منهُ في القسم الأول(4/51)
وقد أهدي الكاشف ديوانهُ إلى سمو عزيز مصر , فكانت هذه الهدية من جملة الأدلة على إخلاصه المأثور للأريكة الخديوية التي طالما نظم فيها القصائد الغراء.
علم الاقتصاد - الثروة ركنٌ من أهم أركان المدنية الحديثة , بل قاعدة من أثبت القواعد التي قامت عليها أمم اليوم وعليها طبّقت قوانينها ونظاماتها. ولذلك أصبحت حياة البلاد في علم الاقتصاد الذي يبحث في تلك الثروة وكيفية استحصالها وتقسيمها وتداولها واستهلاكها. ولا يزال هذا العلم الذي وجّهت إليه أوروبا عنايتها متقهقراً بل معدوماً في بلاد الشرق , مع ما يتعلق عليه من الفوائد الجلّي. وقد سرّنا أن رأينا حضرة الحقوقي الفاضل رفيق أفندي رزق سلوم يتناول هذا الموضوع(4/52)
الجليل ويدرسهُ درساً جليّاً وافياً في كتابٍ وضعهُ لهذا الغرض , أورد فيه زبدة أقوال العلماء الاقتصاديين وأرائهم فيما يتعلّق بالثروة
والتجارة والصناعة والزراعة ورأس المال والعمّال والاحتكار والشركات الخ. وأننا نبتهج بأن نرى ناشئتنا التي تتلقى العلوم العالية في أوربا تعود ينا وهي حاملة بذور العلم الصحي فتبذره في ربونا لتعدّ للغد حصاداً طيباً. فهنيء رفيق أفندي ونثني على عمله واجتهاده. والكتاب مهدي إلى حضرة السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي.
التربية والتعليم - مهما كثرت الأبحاث في هذا الموضوع الجليل لا نزال في حاجة إلى المزيد , ولاسيما إلى ما كان منها وافياً بالمقصود قائماً على نظرية صحيحة ومن هذا النوع كتاب التربية والتعليم لحضرة الباحث الفاضل محمد أفندي أمين , وقد شخّص فيه علّة امة ووصف لها الدواء الناجع ف جميع أطوارها: في البيت , وفي المدرسة , وفي المجتمع. والتربية البيتية هي أساس التربية. وعماد البيت المرأة ومن أقوال المؤلف: أرأيت بيتاً يتلألأُ ضوءُ السعادة بين حيطانهِ , وتحطّ السكينة والطمأنينة بين جدرانهِ , ويبزغُ نور الهدى من خلال بنيانهِ , وتحفُّ بهِ لملائكة صفاً صفاً , ثمَّ لم يكن مركز دائرتهِ امرأة صالحة! ونحن نشكر لمحمد أفندي أمين توفيقهُ في هذا البحث المفيد , ونرجو لمؤلَّفهِ كل رواج. ومقدمة الكتاب مدبّجة بيراع حضرة الأستاذ أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة.
مذكرات حي - هي صفحة من حياة أحد شبان العصر المتألمين , لصاحبها الأديب إلياس أفندي منسي , وقد أملاها عليه قلب جريح يشكو من الزمان وأهلهِ مرّ الشكوى , وكتبها بقلم كثيراً ما مزج الدموع الحارة بمدادهِ , فجاء الكتاب من أوله إلى آخره زفرات متصاعدة , وأنفاساً متحرّفة , وأنيناً مؤلماً. على أنه إذا كانت القلوب قلقة في الصدور في سن الشباب , لأنها تتغذى بالأحلام التي يصعب تحقيقها , أو لأنها تنبض خفّافة كلما مست يدُ المصائب أوتارها , فلا يحسن بها أن تستسلم إلى اليأس , وتضيع في وهاد القنوط. بل يجب أن يكون للعقل سلطة(4/53)
على العواطف فلا تجمح بصاحبها جموحاً قد يضرّ به. ونحن نأمل لمذاكرات حيّ إقبالاً من القراءِ يمهد لمؤلفها السبيل إلى نشر مذكرات أخرى تكون ثورة العواطف فيها قد سكنت واضطراب الفؤاد قد هدأ.
ذكرى الحبيب - هي مجموعة المرائي التي قيلت في الأديب المرحوم حبيب الجمّال , وقد جمعها أخوه الآسف حضرة القانوني الفاضل إبراهيم أفندي جمّال صاحب جريدة؟ الحقوق وأودعها شيئاً مما نظمه وكتبه في فقيدهِ الحبيب , فنسال لرصيفنا العزاء ولشقيقه الرحمة.
الزَّهرات - للأستاذ يوسف أفندي الفاخوري مقام كبير بين حَملَة القلم سوريَّا. فهو كاتب شاعر عُرف بالإجادة في هاتين الصناعتين. والزهرات , وهي مختارات من نظمهِ ونثرهِ تؤلف باقة جميلة جمعت من روضة أدب غضّ.
أزهار وأشواك
درس في الجغرافيا
قرأت الفصل الجغرافي الآتي في جريدة البيان النيويركية , أورده كما هو , تاركا لذكاء القارئ معرفة البلد المقصود. قال الكاتب:. . . . بلاد من بلاد الله يحدَّها شمالاً بحر حب الوظائف؛ وجنوباً مملكة الذُّل؛ وشرقاً نهر التعصب؛ وغرباً جزيرة الزعامة؛ وفيها بحيرة تدعى بحيرة الأحزاب؛ ويخترق تلك البلاد جبال شامخة تدعى(4/54)
جبال المواربة؛ وفيها سهول اختلف الجغرافيون في تسميتها فبعضهم يسميها سهول الخبث , والبعض الآخر يطلق عليها اسم سهول الخداع , ومن مدن هذه البلاد مدينة الكذب والتدليس , والخضوع للحاكم.
تجارة تلك البلاد النفاق والشقاق - ولكن الأهلين وجدوا أن هذه التجارة كادت تذهب بأموالهم فتركوها , وهم الآن يتجارون بالحرية والمساواة والصدق - وأصبح عندهم بورصة هي بورصة الحب والسلام. أما مزروعات هذه البلاد فمخصبة جداً؛ زرعوا في الماضي الجهل فحصدوا الاختلافات , هم الآن يزرعون العلم لأنهم وجدوا أن غلالهُ أجود غلة ومبيعاته في الداخل كثيرة وللخارج أكثر. وفي هذه البلاد معادن كثيرة , منها معادن اللطف والظرف والجمال , ومنها معدن العفاف والكرم , وقد بدأوا باستخراج هذه المعادن من عهد قريب.
المرأة والمرآة
لي حديثٌ اتجاذب وقارئي أطرافه وذيولهُ من حين إلى حين , فتارةً يرضيهنَّ , ويُغضبهنَّ تارةً , وأنا على كل حال أجدُ فيهِ بعض اللذَّة , لأن معاكسة الأصدقاء , أو مداعبة الصديقات - تحلو كما تحلو المسامرة والمجاملة. وهذا الحديث هو عن المرأة. - وحديثها أو حديثٌ عنها يطربني. حديثي عن المرآة والمرآة - ولو كنت من علماء الاشتقاق والنحت لوجدت بين اللفظتين قرابةً لغوية فوق القرابة المعنوية.(4/55)
والمرأة بطبيعتها ميَّالة إلى المرآة , وقد اختراعها منذ عهدٍ بعيد. فإنَّ أُمنا حوّاءَ - عليها أشرف السلام - قد اتخذت لها من مياه النهر الصافية مرآةً تستشيرها في معاني جمالها ودلالها , وكذلك فعلت بناتها وحفيداتها , قبل أن يخترع علماء الكيمياء - إرضاءً للمرآة - ذلك الطلاء الذي طلوا به الزجاج فجعلوه يعكس ما يُعرَض أمامه من الصوَر. والمرأة أمينة لمرآتها , ثابتة على
صداقتها. ودليلي على ذلك الإحصاء الذي وضعهُ أحد الثقات قال , والأرقام لذلك الرجل الثقة , والتعليق لي: تقضي الفتاة بين السادسة والعاشرة من عمرها 7دقائق كل يوم أمام مرآتها؛ وبين العاشرة والخامسة عشر 15دقيقة؛ ثم تشتدّ روابط الصداقة بين هذه تلك , فتقضي الصبية بين الخامسة عشر والعشرين 22 دقيقة , وتزداد هذه العاطفة بين الخامسة والعشرين والثلاثون , فتبقى في المرأة يومها أمام المرآة نصف ساعة؛ ثم تأخذ العلاقة بالتراخي , فتنزل الجلسة اليومية أمام المرآة إلى 24دقيقة بين الثلاثين والخامسة والثلاثين , وإلى 18 دقيقة بين الخامسة والثلاثين والأربعين وإلى 6 دقائق فقط فيما بعد حتى الستين. فمن هذه الدقائق من حياة المرآة أمام المرآة يتألف مجموع 349574 دقيقة , أي 242 يوماً ونيف. أليس في هذا الثبات أكبر تفنيد لمن يتهم الأنثى بعدم الثبات , وينسب إلى بنات حواء التقلب في أميالهنَّ وعدم الأمانة. . .؟(4/56)
العدد 33 - بتاريخ: 1 - 4 - 1913
أدرنه
هيَ عاصمةُ التركِ الأولى في أوروبا. آخر أثر في البلقان لمجد بني عثمان. أخذها فردينانُ بالأمس كما أخذها مرادُ الأول من قبل كلاهما بذل في سبيلها ثمناً غالياً من مالٍ ومن رجال. روضةٌ غنُّاءُ في منبسطٍ ريَّان الصدر , مخضرّ الأديم. تترامى حولها سهول فسيحة يتسلل فيها نهر أردَهْ وينساب في غياضها نهر تُوندجه , حتى إذا هما بغاها لأقامها أمامها نهر ماريتزا فعانقاهُ وتمشَّى الثلاثة معاً إلى خليج إينوس. هيَ بنتُ القِدَم , وأمُّ الحوادث الجسام. بناها أدريان إمبراطور الرُّومان , بناءً مثلَ همَّتهِ وطيداً , فكانت من بعدهِ معقِلَ الملوك , وأبعد غايات الجيوش , وأجلَّ هموم الفاتحين. هيّ رواية التاريخ: مرَّت بالأجيال الوسطى وشهدت مطامع أقوامها.(4/57)
كم خميسٍ لَجَبٍ صادَمها , وكم ملكٍ همام زحف عليها. لا هيَ ناسيةٌ وقائع قسطنطين وليسينيوس , ولا مجازرَ الغوط وقومِ. الإمبراطور فالانس مَلِكان تلاقيا أمامها وتَناجزا على مرأًى منها طمعاً فيها. فلمَّا تغلَّبَ قسطنطين فتحت لهُ صدرَها , ومدَّت إليهِ ذراعيَها. وشعبانِ تطاحنا عندها رغبةً في حيازتها , فلما قهر الغوط فالانس نبذت هذا , وأباحت حماها لقاهريه. هي تحبُّ الغالب , وتزدري المغلوب! ثم حاضَرَها البلغار , ورموها بالحجارة والنار , فدفعتهم بمنعتها وردَّتهم عنها خاسرين؛ حتى إذا ضيَّقوا عليها الخناق , وأرهقوها بالجوع , تمكَّنوا منها , فدخلوها مهلّلين مكبّرين. مَن استطاع أخْذَها عنوةً فقد استطاع شبهَ المستحيل. هيَ سبيلُ الغربِ إلى الشرق: آوتِ الصليبيين في طريقهم إلى بيت المقدس , والطريق إليهِ يومئذٍ نار ودم , وجمعت في ذراها إمبراطور الروم , وفردريك بَربَروس , فتعاهدا تحت ظلِّها وتحالفا , وكانت لهما الشاهدَ العدل. ثم مشى بها الدهر أو ماشتهُ. لا صروفهُ هيّنة , ولا عزائمها واهنة. كما أنشبَ فيها ظفراً أنشبت فيهِ ناباً وظفراً. لاقت بهِ طاغية عتيَّا. ولاقى بها صبوراً حمَّالةً للخطوب. قوَّتان متكافئتان. هي الحلقة الأولى من سلسلة الفتوحات العثمانية في أوروبَّا. فتَحها(4/58)