ـ[مجلة «الزهور» المصرية]ـ
أسسها: أَنْطُون الْجُمَيِّل والشيخ أمين تقي الدين
الناشر: دار و صادر (تصويرا عن: مطبعة المعارف بشارع الفجالة - مصر)
عام النشر: صدرت من 1910 - 1913 م
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
أَنْطُون الْجُمَيِّل (1887 ـ 1948)
أنطون الجميّل أحد أبرز رجال الأدب والسياسة والصحافة العربية في مصر.
ولد في بيروت، وتلقى دراسته في مدرسة الحكمة، ومدرسة الآباء اليسوعيين، بدأ أنطون الجميل حياته معلماً لكنه سرعان ما اتجه إلى الأدب والصحافة، وأعانه على ذلك ثقافته العربية والفرنسية الواسعة والعميقة، فعمل محرراً في جريدة «البشير» سنة 1908م التي كان يصدرها اليسوعيون في بيروت، وبقي في هذا العمل إلى أن هاجر إلى مصر عام 1909 حيث اشترك مع أمين تقي الدين في إصدار مجلة «الزهور» في الأول من آذار عام 1910، لكن المجلة توقفت بعد أربع سنوات استطاعت فيها أن تحقق قفزة جديدة في صحافة الأدب، وقد اختار الجميّل من القصائد التي نشرت فيها طائفة وأصدرها في كتاب تحت عنوان «مختارات الزهور». بعد ذلك عمل أنطون الجميّل رئيساً للجنة الموازنة في وزارة المالية المصرية.
في عام 1932 عيّن رئيساً لتحرير جريدة «الأهرام»، وأثّر تأثيراً مهماً في مسيرتها طوال مدة رئاسته لها، وقد ظل في هذا المنصب حتى وفاته. وكان مكتبه في الأهرام يستقبل يومياً شخصيات مصرية سياسية وثقافية على جانب كبير من الأهمية والشهرة والنفوذ.
انتخب عضواً في مجلس الشيوخ المصري لعدة دورات، بعد أن مُنح الجنسية المصرية، كما انتُخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي في مصر، وكثير من الجمعيات الأخرى.
أحب مصر كما أحب لبنان، وكان يدعو باستمرار إلى توثيق العلاقات بين القطرين. لم يتزوج بل بقي عازباً، ومُنِح في أواخر حياته لقب «باشا».
أحب الأديبة مي زيادة حباً عميقاً صامتاً (!!)، إذ جمع بين روحيهما التقارب في الاتجاه الأدبي، وقرابة الموطن وغربة الدار، لكن هذا الحب المكتوم انتهى إلى شيء من القطيعة بعد عودة مي من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان، لأنه شُغل عنها في أثناء مرضها.
أولع أنطون الجميل بالأدب والشعر قبل أن يصبح صحفياً، وقد أدى به هذا الولع إلى الاتصال بالشعراء، والإقبال على مجالسهم، وعقد أواصر الصداقة معهم، وكان كثير التردد إلى ندوة الشاعر إسماعيل صبري التي ضمت صفوة أدباء وادي النيل وشعرائه، حتى أصبح نجماً لامعاً فيها .. وفي أجواء هذه الندوة تنفست شاعريته الخصبة، وتجلت مواهبه الأصيلة. كانت مقالاته في الأهرام أنيقة إلى أبعد الحدود، ينتقي ألفاظها وينسق جملها، ومهما يكن الموضوع الذي يتناوله دقيقاً وجدّياً، فإننا نحس شاعرية المعاني والأفكار تقطر رقة وعذوبة، أو تتلظى حمية، خالصة من أي وعورة أو جفاء. كان يصب آراءه في فقرات هي أدنى إلى الشعر منها إلى النثر.
اهتم بدراسة شعراء جيله كشوقي، وإسماعيل صبري، وخليل مطران، وولي الدين يكن وغيرهم، دون أن يعمد إلى جرح أحدهم، أو الإساءة إليه، أو النيل منه، بل كان يقف دائماً موقف الناقد النزيه المحايد البصير الذي لم تجرفه الأهواء والأحقاد. كان ذوقه السليم وإحساسه المرهف هما المعيار الذي ينطلق منه في دراساته ونقده.
ألف عدداً من الكتب والمسرحيات منها «أبطال الحرية» وهي مسرحية عن الانقلاب العثماني، و «وفاء السموأل» وهي مسرحية أيضاً ضمنها الكثير من شعره، «شوقي الشاعر»، و «وليّ الدين يكن» و «طانيوس عبده» و «خليل مطران» و «الاقتصاد والنظام المنزلي» (وهي محاضرة) و «البحر المتوسط والتمدن» و «الفتاة والبيت» (ترجمة عن الفرنسية) و «مختارات الزهور».
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال لـ عيسى فتوح، عن الموسوعة العربية (السورية)
وجاء في الموسوعة العربية العالمية، ما نصه:
الجميل، أنطون (1304 - 1368هـ، 1887 - 1948م).
صحفي لبنانيٌ من كبار صحفيي النهضة. ولد في بيروت ودرس في الجامعة اليسوعية حيث بدأ ممارسته الصحفية في مجلتها البشير (1906م).
سافر إلى مصر عام 1907م، وبدأ حياته المهنية أمينًا لوزارة المال في القاهرة. غير أن الصحافة كانت تستهويه أكثر من الوظيفة، فأسس عام 1907م مجلة الزهور بالاشتراك مع أمين تقي الدين. وكانت منبرًا لكبار أقلام العصر من الشعراء والكتاب من أمثال: شوقي وحافظ ومطران والمنفلوطي، وولي الدين ومي زيادة والزهاوي وشبلي شميل وآخرين؛ وقد عرفت بمستوى فكري عال ومناخ صحفي راق. في عام 1909م أسس حزب الاتحاد اللبناني، ليناهض الحكم العثماني في بلاده، وجعل الزهور منبرًا له. كان يكتب فيها الموضوعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وظل يصدرها حتى عام 1911م.
انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ في مصر (1934 - 1945م). وخلف داود بركات في رئاسة تحرير الأهرام عام 1933م وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.(/)
أمين تقي الدين الشاعر الكبير والناثر المبدع
إعداد: وفيق غريزي
شاعر مبدع، ومحام بارع، وأديب مميز، وصحافي لامع. أطرب القلوب والعقول بشعره فاهتز له الوجدان. صنّف من الرعيل الأول بين الشعراء في ميله إلى التجديد شكلاً ومضموناً، يوم كان الشعر يرسف في قيود التقليد. قصائده عدّت من عيون الشعر لما فيها من صياغة بارعة محكمة الصنع وضاءة كالشمس، ليّنة كالنسائم، تتّسم بالرقة والشفافية. إنه الشاعر والناثر أمين تقي الدين.
نشأته وحياته
نشأ الشاعر أمين تقي الدين في عصر مضطرب قلق، حيث ولد في بلدة بعقلين الشوف، عام 1884. والده القاضي سعيد تقي الدين كان رئيس محكمة الشوف لسنوات عدة. لما بلغ السابعة من عمره دخل مدرسة الداوودية في عبيه، حيث تلقى دروسه لمدة عامين. ومنها انتقل إلى مدرسة الحكمة في بيروت وتتلمذ على ايدي الشيخ عبد الله البستاني. من الحكمة سافر إلى مصر سنة 1905 وبقي هناك تسع سنوات، حيث عمل في الصحافة اليومية في جريدة «الظاهر» لصاحبها محمد أبو شادي. ودخل كلية الحقوق الخديوية، ونال شهادة الليسانس في جامعة «ديجون» فرنسا حيث كان يسافر إليها في نهاية كل سنة.
طلب إليه صديقه المفكر اللبناني انطون الجميل أن يعاونه في تحرير مجلة «الزهور» ففعل وأصبح شريكاً له عام 1911.
صقلت أرض مصر شعور شاعرنا وجلت قريحته، جراء اتصاله المباشر بالأدباء المصريين من جهة، والأدباء اللبنانيين المهاجرين إلى الديار المصرية من جهة ثانية. وأبرز المبدعين الذين أقام علاقات صداقة معهم: أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ ابراهيم، وولي الدين يكن، واسماعيل صبري، ومحمود سامي البارودي، وشاعر القطرين خليل مطران، وجرجي زيدان، وشاعر الأرز شبلي الملاط، والمفكر شبلي شميل والامام الشاعر محمد العبد وغيرهم.
قبل اعلان الحرب العالمية الأولى عاد أمين تقي الدين في العام 1913 إلى أرض الوطن، وما أن استقر في بلدته حتى أرسلت السلطة العسكرية مذكرة احضار له. فطُلب اليه سراً أن يتوارى عن الأنظار، لأن قائد درك بيت الدين قادم مع ثلة من جنوده للقبض عليه. فلجأ شاعرنا إلى مزرعة يملكها ذووه في ضواحي البلدة. وهناك انكب على كتابة المقالات والشعر، وترجم قصة «شاب فقير» من الفرنسية إلى العربية.
ويُقال إنه حُكم عليه بالإعدام، وانه فرّ من وجه السلطات العثمانية مدة من الزمن. وقد روى شاعرنا قصة نجاته من قبضة الأتراك في حديث لإحدى المجلات اللبنانية (مجلة المكشوف).
واثر انتهاء الحرب، وفرض نظام الانتداب على لبنان، عهد اليه الفرنسيون شؤون الإعاشة، ثم تم تعيينه عضواً في المحكمة التي تشكلت للنظر في بيوع الحرب وقضى فيها عامين.
بعد ذلك، نزل إلى بيروت وعمل في الصحافة، وبدأ يكتب في «البيرق» ثم في «البرق»، وأنشأ مكتباً للمحاماة العام 1919 مع صديقه جبرائيل نصار، وما لبث أن تحوّل مكتبه إلى منتدى شعري وملتقى الشعراء والأدباء أمثال: الأخطل الصغير، وموسى نمور، وميشال زكور، ووديع عقل، والياس فيّاض، وأديب مظهر، والياس أبو شبكة الذي كان يقرأ على مسامع أمين تقي الدين ما تفيض به قريحته من شعر.
ساهم شاعرنا في تأسيس «الشبيبة اللبنانية» العام 1920، وانضم إلى رابطة «الأدب العربي» وهو من مؤسّسي «الرابطة الأدبية» التي دعا إليها الأخطل الصغير. وفي العام 1921 أصبح سكرتيراً لنقابة المحامين في بيروت. ترشح للانتخابات النيابية في أكثر من مرة ولم يُكتب له النجاح. وساهم في تأسيس عدد من الأحزاب وهي: حزب الاتحاد الديمقراطي، حزب الجبهة اللبنانية - مع يوسف السودا والياس الخوري والياس البعقليني.
صفاته ومميزاته الشعرية
كان الشاعر أمين تقي الدين محبوباً من الجميع، سريع النكتة، أنيقاً في ملبسه، حلو الحديث، مترفعاً عن الصغائر، طيب القلب والسريرة. لم يسخر قلمه لمصلحة أحد مهما علا شأنه، يعتمد على علاقاته بالفئات الشعبية، يكره المدح والإطراء أو الكذب والتملّق. كان لبنانياً حتى العظم، وتجلت لبنانيته بشعره ونثره. كانت مرافعاته في القضاء حجة في البلاغة حتى أن رئيس محكمة الجنايات الشيخ محمد الجسر قال له: «إني أخشى على العدل من بلاغتك، فقد تستطيع ببيانك أن تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً». ومن الحوادث التي تُروى عنه: أن شخصاً قصد الشاعر أمين لكي يتوسط له مع الشيخ محمد الجسر من أجل حل مشكلة، فكتب إليه أمين تقي الدين على البطاقة ما يلي: «أخي الشيخ محمد. حق حامل هذه البطاقة إليك، كحقه عليّ وعليك. إذ رآني موضعاً لأمله، ورآك موضعاً لقضاء حاجته، فأنا حققت الأمل، فأنجز له الحاجة. والسلام عليك».
رغب شاعرنا في قرض الشعر وهو في سن الحداثة وعشق الشعر عشقاً كبيراً. وكان إذ ذاك في مدرسة الحكمة. وأراد شقيقه محمود يوماً أن يختبر مقدرته في النظم، فقال له سأروي لك هذه القصة، وإذا كنت شاعراً حقاً فاروها لنا شعراً؛ وروى له القصة التالية: كان في برج البراجنة رجل وجيه يُدعى محمد العرب يتخلّق بأخلاق العرب من كرم ووفاء. وكان أحد أهالي البرج قد قتل ولده وهرب خوفاً من انتقام اخوة القتيل، وقادته قدماه وهو لا يدري، إلى بيت محمد العرب نفسه - والد القتيل، فدخل عليه فقبّل يده وقال: أنا وقيعك ولا أستحق أن أقبّل يدك ويدي لا تزال ملطخة بدم. قال محمد: بدم مَن؟ أجاب الرجل أنا قاتل ابنك. وفي تلك اللحظة دخل اخوة القتيل على والدهم وسألوا والدهم عن القاتل، فقال لهم رأيته هارباً إلى خارج القرية. وبعد أن انتهى محمود من سرد الحكاية، غاب شاعرنا مدّة قصيرة من الزمن ليعود وقد نظم القصة شعراً.
شعره جزل الألفاظ، رائق الاسلوب، متين القوافي، سالم من العيوب، لا ابتذال ولا تكلف، تتجلى البساطة والعفوية، في أبياته، وتكاد الطلاوة تتدفق من صدوره واعجازه. إنه شاعر انطلق من عاطفته وإحساسه وشعوره، لا يبالغ ولا يغالي ولا يقول ما لا يحتمله الناس، فالشعر إذا لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو تلحين وأوزان حسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي. والشعر عند أمين تقي الدين يصدر عن القلب ولواعج الفؤاد ليستقر في القلب فوراً لا في الأذن. لقد نظم في أغراض كثيرة: في الوطنيات، في الرثاء، في الوجدانيات، في الاجتماعيات، في الاخوانيات».
بين الوجدان .. والوطن
كان شعره الوجداني شعر الاباء، وعزة النفس، وكرم الأخلاق، «اذا تعذب فلا يضعف ولا تخور قواه. فهو صامد تجاه مصائب الأحداث، ثابت الجنان» ويقول في شكوى الدهر:
تسائلني كيف يشقى الكريم ... كأني لبست الشقاء جديدا
تصدى لي الدهر مستبسلاً ... وأرصدت للدهر خلقاً شديدا
كلانا على عزمه ثابت ... حديد القوى يستفزّ حديدا
ووالله ما شدّ إلا شددت ... فلاقى ولاقيت خصماً عنيدا
إذا لان عزمي استراح الزمان ... وإن وهن الدهر عشت سعيدا
أحب شاعرنا وطنه كما لم يحبه إنسان من قبل، وأخلص له كل الإخلاص، وتغنى به. وأحب طبيعته وارتاح إليها وبثها لواعج صدره، وقصيدته «الله يا لبنان» من أروع القصائد الوطنية على الإطلاق، تناقلتها الألسن من جيل إلى جيل، ويقول في مطلعها:
الله يا لبنان ما أجمل ... وأروع الشيب الذي جلّلك
بين يديك الملك في جاهه ... على الثرى أو عزّه في الفلك
أنت نعيم الله في وعده ... مثلث بالنعمة من مثلك
عندما يرى الجهل والضعف في بني وطنه ينتفض داعياً إلى الوحدة ونبذ الخلافات وبسط التآخي، فيقول:
تريد لقومنا وطناً عزيزاً ... ويأبى الجهل إلا أن يهونا
تطاعن أهله عبثاً وعفواً ... ولست أرى سوى الوطن الطعينا
الشاعر في أقلام الآخرين
قال عن أمين تقي الدين الشاعر والأديب أمين نخلة الذي ربطته به صداقة عميقة: «اشعر بين المقلّ والمكثار، يقول القصيدة اثر القصيدة. أو يسكت حولاً كاملاً. وهو إن نظم الشعر فلخطرة تخطر على باله، أو جيشة تجيش في صدره. وقد ينظمه في خلوته وفي روحه وفي مجلس أدب وظرف يتفق له. حاضر القافية مكينها. معلم اللفظ روعة وسلاسة. أما المعنى فلا يزال في شأوه الأنسب، حتى يقع له دقيقاً صافياً، لا اثر عليه للكد والإعنات».
أما المؤرخ فؤاد افرام البستاني فقال: « ... كان أمين تقي الدين في مقالاته المتفرقة، وقصائده المتداولة حفظاً وإعجاباً، أستاذ فن دقيق، ومثال إنشاء صحيح، وقدوة في تفهم هذه المفردات النابضة حياة، المتململة غبطة وألماً، فغدا أقرب القدماء إلى النشوة الفنية الحديثة، كما كان أقرب المحدّثين إلى المتانة السليمة والصفاء القديم». وشبّه البعض شعره بشعر ولي الدين يكن.
والطريف في أمر شاعرنا أنه لم ينشر أي ديوان شعر. ورغم ذلك احتل مكانته بين المبدعين اللبنانيين والعرب.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقلا عن مجلة الجيش اللبناني (العدد 240 - يونيو 2005)(/)
مجلة الزهور (*)
محمد رجب البيومي
وقع في يدي وأنا طالب ناشئ مجموعة شعرية (**) عنوانها (مختارات الزهور) , وهي تضم قصائد معاصرة لكبار الشعراء في العالم العربي مبتدئة بإسماعيل صبري فأحمد شوقي فوليّ الدين يكن فخليل مطران فحافظ إبراهيم إلى أسماء لامعة أخرى مثل أحمد محرم وشبلي ملاط وبشارة الخوري, ونقولا رزق الله, وعبد الحميد الرافعي, وأمين ناصر الدين, وداود عمون والبارودي وشكيب أرسلان وطانيوس عبده, وقد قرأت قصائد المجموعة, وحفظت أكثر ما قرأت, وعرفت عن هؤلاء الشعراء ما حببهم إليّ, إذ أن كل شاعر قد تقدمته كلمة موجزة عن حياته, وصورة شمسية لذاته وكان التعريف بقلم أحد أديبين هما خليل مطران وأنطون الجميل, وقد علمت أن هذه المختارات من مجلة تسمى بالزهور, وهي مجلة أدبية جمعت أئمة البيان في العالم العربي, فتشوقت إلى قراءة أعداد المجلة ذاتها, وزادت رغبتي في هذه القراءة حين وجدت الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول في كلمته عن أنطون الجميل التي ألقاها بمجمع اللغة: (إن مجلة الزهور) أدبية يهذبها الدين, وهاتان النزعتان نزعتا الأدب والدين تجتمعان في الرسالة.
وإذن فمجلة الزهور قريبة من مجلة الرسالة التي نشأت في مدرستها الأدبية, مع فارق الزمن المطّرد بين النمو المتوقع للرسالة بعد عشرين عاما, فأخذت أتخيل ما يمكن أن تكون سجلته الزهور في صفحاتها, وأرى بالحدس الواعي أبواباً عن المقالة الأدبية, وعن البحوث التاريخية, وقصصا وقصائد وتراجم للشخصيات وتراجم أدبية عن الغرب والشرق, هذا ما كنت أره بالحدس الواعي, ثم تفضلت مجلة الهلال فأمدتني بمجموعة المجلة كي أكتب عنها, فتصفحتها على شوق, فرأيت بالعيان ما ظننته بالحسبان, وكنت كما قال عبد الرحمن شكري في بعض قصائده.
وكنت كذي حلم رأى طيف جنة ... فلما تمشى في الصباح رآها
أجل صدق الحدس وما كذب! وقبل أن أن أخص بعض أبوابها بالملاحظة أقول كلمة موجزة عن صاحبيها الأثيرين: أنطون الجميل, وأمين تقي الدين.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال بمجلة الرقيم (30/ 11/2010) عن مجلة الهلال (8/ 1998).
(**) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وهذه المجموعة تجدها بآخر الكتاب الإلكتروني الذي بين يديك(/)
أمين تقي الدين
مما ألحظه في المحيط الأدبي بعامة أن الأثر الأدبي أو العلمي يكتبه مؤلفان كبيران فينسب على الألسنة لأكثرهما شهرة, وأبعدهما صيتاً, فكتابا البلاغة الواضحة والنحو الواضح ينسبان على الألسنة للجارم رحمه الله, ويترك زميله مصطفى أمين, وكتاب الوسيط في تاريخ الأدب, وقد ظل مقررا بالمدارس والمعاهد أكثر من ثلاثين عاما ينسب لأحمد الإسكندري ويترك زميله مصطفى عناني, و (مجلة الزهور) تنسب لأنطون الجميل وحده, وهو الذي أنشأها ورسم خطتها, ولكن أمين تقي الدين قد ساعده من السنة الثانية وشاركه الأمل والألم, وكان ولي الدين يكن إذا كتب قصيدة للزهور أرفقها بخطاب يبدأ بقوله عزيزي أنطون تقي الدين فجعل الأديبين أديباً واحدا, لاتحادهما في الهدف والمشرب, وقد ولد أمين سنة 1884 ببلدة (عقلين) بلبنان, ودرس القانون فصار محاميا نابها, وترجم عن الفرنسية كتبا مختلفة ثم دفعه الشوق إلى مصر فرحل إليها ليزامل صديقه الجميّل في تحرير الزهور والقيام على إدارتها, وبعد أن احتجبت المجلة عاد إلى بيروت ليعمل محاميا كعهده من قبل, ثم لقي ربه في عام 1937, بعد أن سود مقالات وقصائد عدة, وقد قلت: إنه أتى مصر على شوق طامح ليحمل رسالة الأدب كما تصورها, ودليلي على ذلك مقال رائع حقا نشره بمجلة الزهور قبل أن يقدم إلى مصر بعدة أشهر, أجتزئ هنا ببعضه كما جاء بعدد شباط (فبراير) سنة 1911 م.
مصر الأدبية
بدأ أمين تقي الدين مقاله بسرد أكثر من أربعين علماً من أعلام الأدب والعلم والصحافة رحلوا إلى مصر من سوريا فسقطت نجومهم في سماء الوادي ثم تساءل عن سر ذلك قائلا:
"لست أدري في طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب, وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أمّ الأدب والمتأدبين, أم هي الحياة، فيها يوحى الشعر, ويُستنْزَل البيان, وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم, خذ أدباء اليوم في القطرين تجد الفرق ظاهرا, أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر, وأدباء سوريا يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين, ... ورب قائل يقول إن أدباء سوريا الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها, فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضا أنه لولا مدنية مصر, ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة, وإلا فلماذا وهم سوريون لم يرقوا بالآداب في سوريا إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر, ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسوريا نهضتهم في مصر, ولكن مدنية سوريا لم تكن عونا لهم في عملهم الشاق, فوقفت هذه النهضة في منتصف الطريق".
لست أسوق هذا القول لأؤيده أو أعارضه, ولكني أصور به مشاعر أمين تقي الدين حين هاجر من لبنان ليكون صاحب رسالة أدبية في مصر, وقد وجد من صديقه الكبير أنطون الجميّل صدرا رحيبا, ففسح له مجال العمل إدارة وتحريراً, وظهر أمين تقي الدين بشعره ونثره على صفحات الزهور وعلى غير صفحات الزهور بعد احتجابها, ومن حقه أن نسجل صفحة من جهاده في هذا المضمار ببعض ما قلناه عنه.(/)
أنطون الجميل
لا يحتاج أنطون الجميل إلى تعريف موجز كصاحبه, فقد كان رئيساً لتحرير أكبر جريدة في الشرق, وكان له من وراء ذلك مهابة وتجلة يحفظها له الرؤساء الكبار, إذ يحذرون غضبته, وأذكر أن الأستاذ حافظ محمود روى عنه في كتابه (عمالقة الصحافة) أحاديث قال فيها:
"ذات مرة في سنة 1940 كان علي ماهر باشا رئيس الوزراء يتحدث في مجلس الشيوخ, وأراد عضو المجلس أنطون الجميل أن يبدي ملاحظة أثناء حديثه, فمد علي ماهر ذراعه في وجه أنطون بإشارة تدل على أنه لا يريد أن يسمع واستاء انطون فانسحب بهدوء من كرسي السكرتارية متجها إلى مجلسه بدار الأهرام, فأحس علي ماهر أن الرجل قد غضب, فلم يكتف باسترضائه تليفونيا, أو أن يرسل إليه رسولاً, بل ذهب إليه بجريدة الأهرام مع جميع أعضاء مجلس الوزراء ليبدي اعتذاره, يقول الأستاذ حافظ محمود: وقد سألت أنطون: ماذا كان سيفعل لو لم يعتذر له رئيس الوزراء على هذا النحو, فقال: لا شيء كنت سأمحو علانية جلسة مجلس الشيوخ التي تكلم فيها علي ماهر فلا أنشر شيئاً عنها بجريدة الأهرام".
هذه الكبرياء المحببة أمام الرؤساء يزينها تواضع جم أمام المغمورين من الشباب، حدثني الأستاذ محمد السيد شحاته, وكان مدرساً بالمرحلة الأولى الأولية (حينئذ) أنه جمع من شعره الذي كان ينشره في الأهرام بتوقيع (شاعر البراري) قدراً يسيرا في كتاب, وذهب خجلا إلى أنطون الجميل ليكتب مقدمته, فقابله مرحبا مبتهجاً. ونشر مقدمة حافلة عنه في جريدة الأهرام قبل أن تتصدر بها المجموعة الشعرية, وهذا ما عجب له الأستاذ محمد عبد الغني حسن حيث قال لشاعر البراري: إنه يعرف نفراً من كبار شعراء مصر قد توسلوا للجميل كي يكتب مقدمة فاعتذر! أضيف إلى ذلك نظرة حانية له حيث كان يحتفل بنتاج الصغار من الناشئين ليظهر في أكبر صحيفة يومية, فقد قال الأستاذ محمد الحناوي وكان يشرف على صحيفة الآداب والعلوم والفنون بالأهرام, إن الجميل قد قال: إذا جاءتك قصيدة لشاعر مغمور, ورأيت في أبياتها ما يصلح للنشر, فاختر منها ودع المشهورين, لأن الناشئ سيفرح كثيراً حين يجد اسمه مقرونا بشعره في الأهرام, وذلك أكبر دافع لخلق جديد! لو أردت أن أكتب جميع خواطري عن هذا الإنسان ما اتسع المجال, ولكن فيما أوجزته ما يقدمه خير تقديم!(/)
لقد ولد الجميل في بيروت سنة 1887 م, وتعلم في الكلية اليسوعية, وحذق العربية والفرنسية على وجه تام جعله أدبيا ممتازا في اللغتين, وعين مدرسا في مدرسة القديس يوسف, ثم محررا أدبيا بجريدة البشير, واتسعت آماله فهاجر إلى مصر سنة 1909 ليحرر في الأهرام, وليعين موظفا بوزارة المالية قسم الترجمة, وبعد عام أصدر مجلة الزهور, وكان لها هدف واضح في ذهنه عبر عنه في افتتاحية العدد الأول, وقبل أن أشير إلى ما قال, أذكر أن الجو الأدبي بمصر حينئذ كان عامراً بمجلات مماثلة كالمقتطف والهلال والبيان وسركيس, ولكن المقتطف كانت إلى اكتشافات العلم الأوروبي أقرب, والهلال كانت تحفل بالتاريخ وتراجم الأفذاذ في الغرب والشرق, وأكثر ما ينشر فيها بقلم صاحبها جرجي زيدان, أما مجلة سريكس فكانت ترضي عشاق النوادر والأفاكيه والقصص المسلية وتقف عند ذلك إلا ما ندر، بقى البيان وهي مجلة مظلومة لم يتحدث عنها أحد بقدر ما يكشف عن رسالتها, وقد أخرجت طائفة من الكبار كعباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري ومحمد السباعي ومصطفى صادق الرافعي, وغيرهم من المشاهير وكان صاحبها المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي فدائيا أكبر الفداء, حيث باع ما ورثه عن أبيه الثري في سبيل المجلة مضحيا بكل نفيس! وجاءت الزهور لتزايل البيان في رسالتها، ولكن الفرق بين المجلتين أن الزهور قد اهتمت بأدباء العرب في الأقطار المختلفة فتألق على صفحاتها نفر ممن صاروا أعيان الفكر في هذا الأمر, أما البيان فقد اقتصرت على الشبيبة الناهضة في مصر في أكثر ما نشرت, وهذا الاتجاه نحو العالم العربي هو ما أعلنه الجميل حين قال في افتتاحية العدد الأول بعد حديث ممتع شاق:
"يفهم القارئ مما تقدم مجمل موضوع هذه المجلة فهي تعلل النفس بأن تكون صلة تعارف بين كتاب العرب في كل الأقطار, وذلك بنشر ما تجود به قرائحهم الوقادة من النفثات الرائقة, وفتح الباب وسيعا بوجوههم ليتباروا فيه في موضوعات مختلفة, وسننشر تباعا رسوم حملة أولية الأدب, ونفتح بابا للتراسل والتباحث فيما بينهم, وبالإجمال نتوخى كل ما له علاقة بالحركة الفكرية وما يهم الأدباء الاطلاع عليه ولا حاجة إلى القول بأننا سنقتصر في هذه النشرة على الأدبيات والفنيات مبتعدين عن السياسيات والمذهبيات".(/)
أما أبواب المجلة كما حددها الجميل في الافتتاحية فكما يلي:
(1) باب للمقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب
(2) باب للشعر مما تجود به قرائح فحول الشعراء,
(3) باب (جنائن الغرب) وهو ترجمات عن الآداب العالمية في الغرب
(4) باب في حدائق العرب تنشر فيه صفحات مطوية من خير ما جاء في التراث العربي
(5) باب أشواك وأزهار, وهو خاص بالنقد أدبيا وعلميا بقلم أديب متفنن يريد أن يكتم اسمه وقد كان التوقيع الدائم لهذا الباب هو (حاصد) من الحصاد الذي يعقب نضج الثمر, ويخيل إليّ أن (حاصد) هذا هو الجميل نفسه, إذا كان لا يريد أن يكون ناقداً صريح الاسم مجاملة لبعض من قد يسيئهم النقد
(6) باب حديقة الأخبار وهو إيجاز لما يحب أن يعلم من الأحداث وتراجم المشاهير من الأدباء
(7) باب التنويه النقدي بالكتب التي تظهر في عالم المطبوعات, وهو شبيه بما يكتبه (حاصد) إلا أن الفرق الجلي بين البابين أن الأول يواجه الأخطاء سافرة, والثاني يمزج التقريظ بالنقد الملطّف إلا ما ندر أيضا,
(8) باب الروايات وهو اختيارات لبعض القصص الأوربية المشتهرة هناك, ثم كرر الجميل ما أكده من قبل, من أن الغاية هي إيجاد صلة التعارف بين كتاب الأقطار العربية, وذكر أسماء من توسّم فيهم العون الأدبي من أعلام العصر.
ومن يتبع الأعداد المتوالية يجد صدق ما أكده الجميل في الافتتاحية, بل يجد حرصا دقيقا على اختيار الأجود المستطاب, وقد لفتت المجلة أنظار القراء منذ صدورها فتهافت على مراسلتها أعيان القلم في شتى بقاع العالم العربي, وفي المهجر الأمريكي حيث حفلت بآثار جبران خليل جبران وأمين الريحاني وإيليا أبي ماضي وغيرهم, ولو امتد أجل هذه المجلة إلى أكثر من ثلاثة أعوام لكانت حدثا هائلا في العالم العربي, لأنها جمعت من الصفوة الأخيار من يتعذر اكتمالهم في مجلة شهرية, وذلك بفضل السياسة الحصيفة التي انتهجها الجميل, عن بصر نافذ, وهدف مرموق.(/)
مصر وسوريا ..
وإذا كان الجميل سوري النشأة وقد كان اسم سوريا يطلق حينئذ على لبنان وسوريا معا قبل أن يتجزأ الوطن الواحد, فإن الجميل قد احتفل بأدباء سوريا احتفالاً بارزاً, وليس معنى ذلك أنه آثرهم على أدباء العراق أو غير العراق ممن فسحت المجلة صدرها لآثارهم, بل معناه أن صلته الشخصية بهؤلاء قد دفعتهم إلى مؤازرته من ناحية, كما دفعته إلى المبادرة بنشر ما يستطيبه من ثمارهم, وأذكر أنه أفرد عددا ممتازا بالسنة الأولى خاصا (بمصر وسوريا) وقد قال في افتتاحيته: إنه أنشأ هذه المجلة لتكون رابطة بين أدباء الأقطار العربية, وأنه اغتبط حين عُرفت (الزهور) بهذا الاتجاه, ومُيزت به على سائر المجلات فأصبح يراسلها العدد الكبير من أدباء من أدباء مصر والشام والعراق والجزائر ومراكش، لذلك فإنه يصدر هذا العدد السنوي الكبير خاصا بمصر وسوريا ليكون مقدمة لأعداد تالية. وبعد إفاضة شافية في إيضاح العلائق بين مصر وسوريا, أعلن أن العدد إن كان قاصراً على الأدبيات فهو مقدمة لما سيتلوه! والحق أن كل ما جاء بالعدد عن مصر وسوريا من الحقائق نفيس مختار على أكمل وجوه الاختيار, وقد ابتدأ بحديث مصر, فنقل شذرات مفيدة لأساطين الباحثين مثل العلامة أحمد كمال مدير متحف الآثار العربية, كما نشر قصيدة ممتازة لإسماعيل صبري تحت عنوان (فرعون وقومه) وهي شهيرة ذائعة ومطلعها:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يومَ تحصيل العلا وان
وأتبعها بقصيدة شوقي في هيكل أنس الوجود ومطلعها:
أيها المنتحي بأسوان داراً ... كالثريا تريد أن تنقضا
ومقطوعة ثالثة لعبد الحليم المصري مطلعها:
وقف عليك دموعي أيها الطلل ... عيني عليك وقلبي للألى رحلوا
وبعد الشعر جاء حديث البحث والتحقيق, فنشرت المجلة ترجمة لما قاله هيرودوت عن النيل, يليها مقال أدبي عن وفاء النيل لعله بقلم الجميل, ثم وصف للأزبكية بقلم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر المتوفى سنة 1250 هـ وحديث عن الأوبرا بقلم فارس الشدياق.(/)
وفي القسم الخاص بسوريا, كتب الأستاذ فيلكس فارس مقالاً ضافيا عن تاريخها, أعقبه حديث مترجم عن بيروت ولبنان كتبه شاعر فرنسا الأشهر لامارتين, ثم قصيدة لمعروف الرصافي تحت عنوان (ذكرى لبنان)، فمقال عن شمال لبنان بقلم الأستاذ أمين الجميل, وقصيدة عن (هنين) للشاعر المعلوف, وبحث عن طرابلس الشام للشيخ المغربي, أما حلب الشهباء فقد كانت قلعتها التاريخية مجالاً لحديث علمي دقيق كتبه القس جرجس منسن, يليه حديث عن الجامع الأموي بدمشق نقلا عن الرحالة ابن جبير الاندلسي, وبعد ذلك فصل بارع عن تدمر وملكتها العظيمة زنوبيا, وهو على قدمه الزمني من أحسن ما قيل عن المدينة والملكة معا فقد تتبعت حديث تدمر في فصول كثيرة تالية كان حديث الزهور قلادتها على إيجازه, أما الشعر الخاص بسوريا فقد نظمه شعراء مطبوعون مثل الأمير نسيب أرسلان, وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي, وفي القسم الثالث مقالات وقصائد عن الصلة بين مصر وسوريا هي من أجود ما نضح به اليراع لأعلام أفاضل مثل داود بركات وحافظ إبراهيم وعبد الحليم المصري! وقد ختم العدد بحديث عن الحركة الأدبية في سوريا .. ولعل هذا العرض الموجز يكفي في الدلالة على نفاسة هذا العدد, وتقديره أدباً وروحا واتجاها وحميّة!
المطارحات الشعرية ..
من أحسن ما امتازت به مجلة الزهور ما اهتمت به من المطارحات الشعرية بين كبار الملهمين, إذ كان في تجارب القرائح الصافية مبعث لخواطر دافقة تجيش بالأحاسيس الصادقة, وكأن دوحة ناضرة يشدو على غصن منها طائر مغرد, فيجيبه صنوه على فرع آخر بما يدل على صادق المواساة, فتكون لهذا التجاوب المتبادل رنات مشجية في نفوس القراء. لقد كتب الشاعر عبد الحليم المصري الضابط بالجيش قصيدة شاكية بمجلة الزهور, تصف حال الأديب في مصر, وما يلقى من ضنى على مهاد الجوع والحرمان, جاء فيها:
لا كنت لي يا أدبي حرفة ... إن كان من يعليك قدراً يضام
مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشآم؟
هل أنتمو في أرضكم مثلنا ... ترون سُحْب الجود تبدو جهام
وما كاد هذا السؤال الحائر (ما حالكم في أرضكم ياشعراء الشّآم؟) يدوّي في آفاق القطر الشقيق حتى تواكب الشعراء من كل صوب يجيبونه هاتفين، فقال الأمير نسيب أرسلان من قصيدة:
يابازني الجيش غداة الصدام ... من علّم البيزان سجع الحمام
هيّجت يا مصريّ شجوى وما ... أحلى جوًي أذكيته في العظام
يا عاتبا حينا على خطه ... قبلك كم من عاتب في الأنام
وقال الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف:
قد ضاق للشعر بمصر المقام ... وانتابه العقم بأرض الشآم
أبناء سوريّا ترد الصدى ... وتندب الشعر بدمع سجام
قد ضاقت الدنيا على شاعر ... حتى تمنى أن يحين الحمام
ومما قال الأستاذ (ف. نصار) من لبنان:
ياشعراء النيل لا تجزعوا ... قد صافحتكم شعراء الشآم
لا كنت لي يا وطني مسكنا ... إن كان فيك الحر خُلْقا يضام
أو كان هذا الخط لا ينجلي ... ما أضيق العيش وأشقى المقام
وجاء من البرازيل فايز سمعان وهو لبناني الأصل يقول:
يا بلبل الشعر عليك السلام ... شآمنا مصر ومصر الشآم
مالك بالقطرين من منهل ... ولي وراء البحر طاب المقام
فلتحترف غير القريض وقل ... يا دولة الشعر عليك السلام(/)
ومن المطارحات الشعرية النادرة ما عارض به أحمد شوقي قصيدة الحصري الذائعة:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟
حيث ما كادت الزهور تنشر معارضة شوقي:
مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحّم عوده
حتى انبرت قصائد أخرى على صفحات الزهور قالها إسماعيل صبري وولي الدين يكن ونسيب أرسلان, ودواوينهم مشتهرة فلا مدعاة للاستشهاد. وقد ألِف شعراء الزهور أن يقوموا بمثل هذه المطارحات في صفحات كثيرة بالمجلة, بل إن الجميل أخذ يبحث عن طرائف هذه المطارحات لينشر منها ما لم يسبق نشره, فقد نظم محمود سامي البارودي قبل خمسة عشر عاما من إنشاء الزهور أبياتا خاطب فيها شكيب أرسلان لمناسبة استشهاد الأمير ببعض شعر البارودي, وقال فيها:
أشدت بذكرى بادئاً ومعقبا ... وأمسكت لم أنبس ولم أتقدم
وما ذلك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به, لكن تهيبت مقدمي
فطار شكيب إعجاباً بشعر البارودي ورد عليه بقصيدة طويلة قال فيها:
ألا كل يوم فيك وجد كأنها طوي ... جانحا مني على نار ميسم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالروضة الزهرا, أليّة مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا ... وخوضي في حوض من الطعن مفعم
أقلّ بقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذلك المقام المعظم
وامتدت المطارحات مثنى وثلاث ورباع, ونشرها الجميل جميعها في مجلة الزهور, ثم أعاد نشرها في المختارات بالقسم الأخير.
أما الذي طرب له القراء طربا شديدا فمطارحات صبري وشوقي وحافظ, حيث نظم صبري قصيدة مطلعها:
لو أن أطلال المنازل تنطق ... ما ارتد حرانُ الجوائح شيق
فجاوبه شوقي بقصيدة مطلعها:
أما العتاب فبالأحبة أخلق ... والحب يصلح بالعتاب ويصدق
وقفى حافظ بثالثة قال في مطلعها:
سكن الظلام وبات قلبك يخفق ... وسطا عليك حنين هم مقلق
وقد نشرت جميعها بمختارات الزهور، كما أنها مسجلة بدواوين هؤلاء.
هذا الاهتمام العريق في نفس الجميل بلطائف المطارحات يدل على روح شاعرة, تجلت في نثره.
إذ كان شاعراً دون قافية أو زن, ومقالاته بالزهور أكبر شاهد على ما أقرر, وما بي أن أستشهد فأطيل.
مطارحات نثرية ..
ليست مطارحات بالمعنى الدقيق, ولكنها مناقشات جادة, دارت على صفحات المجلة في مسائل مختلفة ولعل قضية المرأة كانت أهم هذه المسائل, لأن وفاة قاسم أمين قد أعقبت جدلاً امتد إلى سنوات حول ما أثاره في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة, وكان من اللافت للنظر أن بعض الفضليات من الكاتبات لم تشأ أن تتجاوز دعوة قاسم في التربية والتعليم إلى ما فهمه المتسرعون والمتسرعات من الدعوة إلى التبرج والاختلاط ومحاكاة الغربية في السهرات الحافلة والرقص اللاهي, وهذا ما حذرت منه فضليات الكاتبات على صفحات الزهور, وقد ابتدأت به الآنسة الأدبية (هدى كيورك) بالعدد الثامن (أكتوبر سنة 1910) حيث قالت: إن الذي فهمه نساء اليوم من التقدم العصري هو (المودة) المتحضرة في مشابهة الغربيات ملبسا وسلوكا, فالفتاة لا تقنع بحياة والدها المتواضع بل تطالبه بما فوق قدرته, واستنزفت عرق جبينه لتصبح مترفة مرفهة، تقول الكاتبة الفضلى عن هذه (المتمدنة):(/)
"نفختها روح الكبرياء, فظنت نفسها أرفع قدرا من والديها, فجاءت إليهم متحكمة آمرة, فإذا لم يتموا رغابئها خشنت أخلاقها, وأوقعت الاضطراب بالمنزل غاضبة على هذا, ومستهزئة بتلك, فإذا رزقت بمولود رمت به إلى المراضع منصرفة إلى زينتها ولهوها, وأنفت أن تستعمل وسائل التطريز والحياكة".
وكانت الكاتبة صادقة حين قالت:
"نحن لم نتشبه بالغربية إلا في مادة (المودة) وحدها، لماذا لا نأخذ عنها نشاطها وجدها, وتعلقها بلغتها؟ هل رأينا فتاة أوربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فنرى أن لغة الأجنبي دليل التقدم، والغربية بذلك تستخف بنا وتسخر".
مقال حار النفس, ملتهب اللهجة, دفع بعض القارئات إلى معارضته, فكتبت الآنسة ادماكيرلس من بيروت تقول في العدد العاشر: "إن الآنسة هدى أصابت في كل سطر من سطورها أخواتها وبنات جنسها بسهام حادة إذ أجادت وصف صاحبات اللهو والزينة, وتركت الكثيرات ممن تحلين بالفضائل, فكم من امرأة تضحي بصحتها وتحرم نفسها من كل ملاهي الحياة لتسهر على حاجة منزلها وتربية أولادها, وهي حين تتبع (المودة) تعتدل دون إسراف، أما تقليد المرأة الغربية فالذنب في ذلك يرجع إلى الرجال فهم يعظمون لابسات البرنيطة. والمتكلمة بلغة أجنبية والمقلدة للغربية في حركاتها ومشيتها, فعلى الرجال أن يمدوا يد المساعدة لنا, لنرافقهم في طريق الفلاح ولا نكون عبئا ثقيلا عليهم".
ولم تسكت الكاتبة الأولى عما وجه إليها من مآخذ لا تراها صحيحة في مضمونها, فاندفعت الآنسة (هدى) إلى الرد بمقال مستفيض نشر بالجزء الحادي عشر يناير 1911 م فأثنت على الكاتبة وقالت: "إنها لا تعارض الزينة المعقولة, ولكن المندفعات بالنسبة إلى المعتدلات كثرة كاثرة واللاتي يضحين بملاذّهن في سبيل سعادة الأسرة من المتعلمات عدد قليل لا يبلغ عشرة في المائة بالنسبة للاهيات, وقد ضج الآباء في سبيل ردع اللاهيات دون جدوى, وكم من أب يترحم على العهد الماضي حين يري ما يشاهد من التبذل, ونظرة إلى الجرائد السيارة التي تضج من ذيوع الترف الكاذب, والانغماس في حمى التقليد الضار ترينا الدليل القاطع .. ".
ومن هذا الوادي ما نشر بالعدد التاسع تحت عنوان (المقيَّدات) وهن اللاتي يسرفن في الأناقة وتضييق الخطو في الطريق تحت ثقل القبعات المليئة بالزهر, والثياب المضغوطة بالحزام, والحذاء الضيق ذي الألم المحتمل لأجل المظهر, حتى أصبحت الفتاة من هؤلاء ترسف رسف المكبل بعد أن كانت تسرع كالحجل". وقد أوحي هذا المقال الناقد للشاعر الإسكندري خليل شيبوب قصيدة متهكمة نشرت بالعدد التالي, تحدث فيها عن المرأة المتصونة في القديم فأطراها إطراء مشجعا. ليكر على أختها المسرفة في الزينة فيقول:
قم بي أريك الآن كيف تغيرت ... تلك العهود وبدلت تبديلا
وتشوهت تلك الخدود وأصبحت ... تلك النهود بما حشين تلولا
قد ضيقت خصرا يذوب وعرّضت ... كفلاً بتنفير النفوس كفيلا
ومشت مقيدة الخطى فكأنما ... (ركب الكمى جواده مشكولا)
وتكاد تسقط إن رنت وإذا مشت ... شِمْتَ الأسير مصفدا مغلولا(/)
أما النقدات العلمية فما أكثرها , حيث حفلت بها مباحث المعلوف والأب إنستاس ماري الكرملي, وقد رمز لاسمه بتوقيع (سانستا) وما كنت أعلم أنه الكرملي لولا ما أشار إليه الأستاذ روفائيل بطي خاصا بتوقيعاته المتعددة فيما كتبه بمجلة الكتاب (مارس سنة 1947) ومن بينها (سانستا) ولو كان التوقيع (أنستا) فقط لقلنا إنه مرخم (أنستاس) على غير قياس؛ وهم سادتنا اللغويون يحللون ويحرمون, وبحوث الزهور اللغوية والأدبية ذات طرافة بالنسبة لزمانها, وهي الآن من المطروقات!
طرائف شتى ..
طرائف الزهور أكثر من أن تحصر , ولابد أن يعرف عنها قارئ هذا المقال قليلاً من الكثير الذي تزدحم به, ومن أطرف ما قرأته بالجزء الثاني ص 85 أن صاحب الزهور أعار الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي كتاب (الريحانيات) لأمين الريحاني, وقال له مزكيا إن الريحانيات شقيقة النظرات، فقرأ المنفلوطي الكتاب وأرسل إليه يقول:
"قرأت الريحانيات الذي أعارنيه صديقي أنطون الجميل, فلم أجد فيه من اللغة العربية إلا حروفها دائما, ومفرداتها غالبا, وجملها نادرا, فلم أحفل بذلك كثيرا, لأني وجدت فيه من سمو الخيال الشعري, ودقة المسلك النظري, ما استوقفني ساعتين كاملتين, وهي المرة الثانية التي وقفت بها هذه المدة أمام كتاب عصري منذ أعوام بعد كتاب روح الاجتماع) ". ووجه الطرافة يتضح من قول المنفلوطي إنه لم يجد إلا الحروف دائما, والمفردات غالبا, والجمل نادرا, وهذا يذكرني بما روي عن الفقيه الكبير ابن دقيق العيد حين عرض عليه قول ابن الفارض:
ومن كان فوق التحت والفوق تحته ... إلى وجهه الهادي عنت كل وجهة
حيث قال: الألفاظ مفهومة دون أن تتصل بالمعنى, ولكن التركيب لا يفهم أبدا، وليس معنى هذا أن الريحانيات شبيهة بأبيات ابن الفارض في نظم السلوك, فهي شيء آخر تماما, ولكن المعنى المقصود حيرة القارئ في ألفاظ يدركها مفردة, ويعجز عن فهمها متصلة!
أما الطرفة الثانية, فقد كان من عادة المجلات في أوائل هذا القرن, أن ترسل الأعداد إلى من تتوسم فيهم حب الاطلاع, رجاء أن يتكرموا بالاشتراك, ولكن بعض هؤلاء يتباطأ دون الإرسال, وقد صرحت الزهور في العدد الثاني ص 88 بأنها ترجو الذين لم يفيدوها عن رغبتهم في الاشتراك أن يسرعوا بذلك حين يصلهم هذا العدد! ومضى الوقت دون جدوى, فأرادت أن تنبه القراء إلى شيء مماثل فذكرت في العدد الرابع ص 200 أن الدكتور شبلي شميل حين كان يصدر مجلة الشفاء منذ ربع قرن أرسلها للقراء دون أن يتلقى قيمة الاشتراك, وأخذ يطالب القوم حتى أدركه اليأس فاضطر إلى أن يكتب مقالا عن مرضين خطيرين .. والدكتور طبيب- سماهما باسمين أجنبيين, وقال: إن أعراض المرض الأول هي أن صاحبه إذا وصلته مجلة أدبية أو علمية بادر إلى ردها, وكتب عليها كلمة مرفوض, أما المرض الثاني فأشد خطرا, لأن صاحبه يتقبل المجلة إلى آخر السنة, ثم لا يرسل مليما واحدا, وليس الذنب ذنب هؤلاء, ولكنه ذنب أصحاب المجلات الذين يبتلون القراء بشتى الأمراض المستعصية, ولابد أن يتوبوا إلى الله.(/)
والطرفة الثالثة هي أن الزهور احتفلت بالجزء الثالث بتأبين (العشماوي) جلاد مصر الذي يحرك آلة المشنقة فيقع المتهم صريعا , فأهدت صورته إلى القراء كبطل مرموق, وقالت عنه بعد أن ذكرت اختلاف الناس في مهنته بين الاعتذار والوصف بالقوة وغلظ القلب, قالت: كانت الحكومة تنقد العشماوي راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات, وكان يتقاضى عن كل مشنوق خمسة جنيهات أخرى فإذا عرفت أنه قضى 15 سنة في هذه المهنة, وأنه شنق 576 مجرما تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال على الأعناق 3600جنيه بمعدل عشرين جنيها في الشهر! ومبلغ ثلاثة آلاف وستمائة جنيه, سنة 1910 مبلغ فلكي! فقد كان ثمن الفدان في بعض الجهات عشرة جنيهات, وفي استطاعة من يأخذ عشرين جنيها في الشهر الواحد أن يشتري فدانين بهما .. فيصبح من الوجهاء.
تراجم الراحلين ..
كان من ديدن المجلات حينئذ أن تكتب تاريخا لكل راحل مرموق من أهل الفكر والسياسة والأدب، نجد شاهد ذلك في المجلات المقتطف والهلال والبيان وغيرها, ولم تشذ الزهور عن ذلك, فقد احتفلت بكثير من هؤلاء, وقد لاحظت أنها خصت الشاعر البائس إمام العبد بكلمات متكررة في أعداد متتالية, فتذكرت أني عنيت بترجمة هذا الشاعر منذ خمسين عاما, فلم أجد غير جمل مقتضبة اجتهدت في صياغتهما, حتى بلغتْ مقالا نشرته بالرسالة بتاريخ 12 نوفمبر 1951, ولكن الزهور فاجأتني بأنباء وطرف عن إمام البؤساء لو وقعتُ عليها حينئذ لاكتسب المقال دسامة حية ليست به, فقد نشرتْ ما أجهل من نثره وشعره معا, كما نشرت بعض ما قيل في رثائه, وقد أبّنت الزهور زعيم الثورة العرابية عند رحيله, ولم تتورط فيما تورطت به بعض الصحف المنافقة, حين هاجمت الراحل الصامت دون حياء, وأنطون اللبق أكبر من أن يهوي إلى نقيصة، وإذا كان لا يتحدث في المجلة عن السياسة الحزبية, فقد تحدث عن السياسة الوطنية مرات، ومن أقوى ما كتبه حديثه عن الوحدة الوطنية حين حدث الشقاق المغرض بين عنصري الأمة عقب مصرع بطرس غالي, فكان الجميل الأديب السياسي المخلص صاحب توجيه عال, ونظر ثاقب عرف يهما حتى آخر يوم من حياته, ولم تقتصر ترجمات الراحلين على الشرقيين وحدهم, بل شملت أفذاذ الغرب مثل تولستوي, ومانويل الثاني وغيرهما.
مقالات أخرى ..
لا نحكم على شيء ما دون تقدير ظرفي الزمان والمكان, حيث إن الزهور حوت من قصص العرب, ومترجمات الغرب ما اشتهر الآن بين القراء بعد أن انتشرت كتب التراث على نحو واسع, وبعد أن ازدهرت حركة الترجمة ازدهاراً يانعا, فإذا كان ما جاء في الزهور عن امرئ القيس والنعمان بن المنذر وعنتره العبسي, وليلى العفيفة وسعد وسعاد, وحرب البسوس, والجامع الأموي وغيرها قد أصبح متعدد المصادر, ميسر السبيل, فإن ظهوره على صفحات الزهور بأسلوبه الأدبي, ومنحاه القصصي في أكثر موضوعاته يعد وثبة من وثبات التوجيه الحي نحو التراث الخالد, وقل ذلك فيما نقلت من مترجمات هيجو ولامرتين, وأدمون رستان, وما عربه الأستاذ عبد الأحد في أعداد متوالية تحت عنوان (نساء شهيرات ورجال عظام)، فكل ذلك عطاء صادف موقعه وغيث هطل على زرع يشتاق الماء.(/)
بلاغة الحذف ..
لا أعني بذلك ما عرف في علم المعاني خاصا بهذا العنوان بل أعني ما عرف عن صاحب الزهور من اختيارات شعرية ونثرية لكبار الأدباء, يتعمد حذف الكثير مما اتصل بهما, إذ لا يراه ذا توجيه نافع للقارئ يدرك ذلك من يقرأ ما نشر في الزهور ثم يرجع إلى الأصل في الدواوين الشعرية, أو مجموعات المقالات لكبار الأدباء, ولعل أوضح ما أشير إليه في هذا المنحى ما نشره من قصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم
فقد كان النسيب الطويل في مطلعها تمهيداً لمديح ضاف للخديو عباس, فرأى الجميل -والخديو عباس حينئذ حاكم مصر- أن ينشر الغزل فقط مع أن القصيدة بأجمعها قد نشرت بالجرائد اليومية, وفي هذا الحذف ما يوسع مجال الوشاية عند قوم لا هم لهم سوى الشحناء! والغزل أقل أغراض الشعر عند حافظ, ولكنه في هذه القصيدة بالذات قد تفوق على نفسه, وأرادت الزهور أن تثبت ذلك بما نشرت وحذفت معا, ومما راقني في هذه القصيدة قول حافظ:
لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم
قالت من الشاكي؟ تساءل سربها ... عني, ومن هذا الذي يتظلم؟
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تفحم
لا السهم يرفق بالجراح، ولا الهوى ... يبقي عليه، ولا الصبابة ترحم
وبعد فلعلي أفلحت, أن أقدم للقارئ بعض باقات جمعتها كما اتفقت دون اتئاد صابر, فقد وجدت نفسي أمام طعوم شتى, وكلها رائع معجب, فتناولت ما امتدت يدي إليه, وتحاشيت أن أجهد القارئ بإطالة لا آخر لها, وأنا معذور فيما تركت إذ بات الأمر كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد!(/)
العدد 1 - بتاريخ: 1 - 3 - 1910
ما هي هذه المجلة؟
بدت منذ مدة من الزمن في كل الأقطار العربية طوالع حركة فكرية، ونهضة أدبية، لا يسع المكابر إنكارها. فلقد نفض الناطقون بالضاد غبار الخمول عنهم، وأفاقوا من سباتهم العميق، فألقوا نظرة إلى مجاوريهم أبناء سائر اللغات، فرأوهم قد ساروا شوطاً بعيداً في مضمار الآداب والفنون، ونظروا إلى العرب أجدادهم، فرأوا أنفسهم قد قصروا عنهم أيما تقصير: فلا السيوف المشرقية، ولا الرماح الهندية، ولا الجياد الأعوجية، يفاخرون بها الأقران، ويفتحون بها الأمصار والبلدان. . . . ولا البيان الدرّيّ، ولا الشعر السحري، ولا الهوى العذري، يخلبون به الألباب ويستولون به على ممالك الأذهان. . .
رأوا قد دالت من يدهم دولة الحسام، ودولة الأقلام، وأدركوا أن الأحفاد كادوا يضيعون ذلك الإرث المجيد الذي خلفه لهم الأجداد. فهالهم ما رأوا وما أدركوا عندما تفتحت منهم العيون، بعد مر الأجيال(1/3)
والقرون. فنهضوا نهضة من يريد أن يعتاض بالاجتهاد، عما أضاعه من الأوقات. وأخذوا ينسجون بجد ونشاط ثوباً يسترون به عريهم قبل أن تسقط أسمالهم البالية. ونفخوا الرماد الذي ذرته الأيام على نار أذهانهم ليوقدوا من القبس الباقي مصباحهم.
هذه هي النهضة التي سرت روحها بين غروب القرن التاسع عشر وبزوغ القرن العشرين في مصر والشام والعراق والمغرب وسائر البلاد التي تتفاهم بالعربية.
بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، بزغت شمس هذه النهضة الفكرية، في سماء البلاد العربية. بعد أن تقدمها شهاب من النور، في السنين السالفة كما يتقدم شروق البدور.
ولقد كان لإعلان الدستور في الممالك العثمانية كبير تأثير في هذه الحركة. فإن ثوره الأبلج بدد ما تبقى من السحب، في سماء العرب. فراق الجو، وانقشعت غيومه، وصاف أديمه. بعد أن كادت غياهب الاستبداد تطفئ كل نور ونار.
نبغ في الأقطار العربية كتاب أعلام، وشعراء عظام. أخذوا أهبتهم ونزلوا إلى الميدان. فجال فريق منهم جولات صادقة ذكرتنا مفاخر الماضين، فقلنا: إن أولاء الأبناء من أولئك الآباء. وهم - وإن كان عددهم قليلاً - سيكونون لنا خير أساتذة يؤملون بإرجاع العصور الذهبية، للآداب العربية.
ونزل فريق إلى المضمار على غير ما يكفى من التمرين والترويض(1/4)
فجالوا غير آمنين
كبوة حصانهم، أو نبوة حسامهم. ومثل هؤلاء في حاجة إلى التنشيط وزيادة التمرين تحت إدارة من يروض جيادهم ويثقف سلاحهم.
وأنى يكون ذلك وكل فريق من الكتاب يجري في مضماره بعيداً عن الفريق الآخر فلا يرى أقراناً من ربع غير ربعه يجاريهم، ولا يلاقي فرساناً من حي غير حيه يباريهم. .؟
أنى يكون ذلك ويكاد كتاب القطر الواحد يجهلون حتى أسماء كتاب القطر الثاني. لأن لا صلة بينهم ولا رابطة تربطهم. فحملة الأقلام في مصر يكادون لا يعرفون شيئاً عن زملائهم في الشام، وهؤلاء يعرفون دون القليل عن كتاب العراق. وقس على ذلك في سائر الأقطار العربية.
ولقد تذهب هذه النهضة الجميلة بلا جدوى، وتضيع هذه المساعي الإفرادية بلا فائدة إذا لم تتضام وتتضافر ليتولد منها قوة واحدة كبيرة تنهض بالآداب العربية.
وإذا ظلت الحال على هذا المنوال يظل الكتاب في الأمصار كالجزر المبعثرة في عرض البحار: لا رابط يربط بعضها ببعض ليستمد بعضها من بعض. فلا تفي كل واحدة بحاجات أهليها، فتنضب وتجدب ويهجرها من فيها.
ولذلك فكرنا في العمل على سد هذا الفراغ الذي يشعر به الجميع وعزمنا بعون الله على إنشاء مجلة خاصة - على قدر الإمكان - بهذا الموضوع وبعد مفاوضة السواد الأعظم من مشاهير حملة الأقلام في مصر والشام.(1/5)
عللنا النفس بأن نجعلها المضمار العام الذي ينزل إليه فرسان الأدب، ليجروا أشواطهم جنباً إلى جنب، فيكون هناك مباراة وتمرين واقتداء ولا فائدة بلا هذه الأمور.
أو هي تكون السفينة التي تصل الجزر بعضها ببعض، فتحمل إلى هذه ما تحتاج من تلك، وتحمل إلى تلك ما تحتاج من هذه. وهكذا يتم التعاون والتساند الأدبي.
نحن لم يخف علينا ما في ذلك من الصعوبة والمشقة، ولم تغرر بنا النفس حتى نتوهم أننا - على ضعفنا - قادرون على سد هذا الفراغ. لكننا عرضنا هذه الفكرة على أيمة الأدب في القطرين المصري والسوري فأنسنا منهم ارتياحاً كبيراً إلى هذا المشروع وتنشيطاً عظيماً على تحقيقه. ولما رأينا حينذاك أن لدينا القوة اللازمة من الأنصار والمساعدين أقدمنا على تحقيق هذه الأمنية متكلين على موفق الأمور.
يفهم القارئ مما تقدم مجمل موضوع هذه المجلة الجديدة وخطتها. فهي تعلل النفس بان تكون صلة تعارف بين كتاب العرب في كل الأقطار، وذلك بنشر ما تجود به قرائحهم الوقادة من النفثات الرائقة، وفتح الميدان وسيعاً بوجههم ليتباروا فيه في موضوعات مختلفة. وسننشر تباعاً رسوم حملة ألوية الأدب ونفتح باباً خصوصياً للتراسل والتباحث فيما بينهم وبالإجمال نتوخى كل ما له علاقة بالحركة الفكرية وما يهم الأدباء الاطلاع عليه. ولا حاجة إلى القول أننا سنقصر في هذه النشرة على الأدبيات والفنيات مبتعدين عن السياسيات والمذهبيات.(1/6)
وإليك أهم الأبواب التي سنطرقها في هذه المجلة:
1 ً - باب للمقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب في مواضيع متنوعة.
2 ً - في رياض الشعر - ننشر تحت هذا العنوان عرائس القصائد التي تجود في قرائح فحول شعرائنا.
3 ً - في جنائن الغرب - ننشر تباعاً في هذا الباب خير ما يؤخذ عن آداب اليونان والرومان والفرنساويين والإنكليز والألمان والإيطاليان والروس وغيرهم من الغربيين قديماً وحديثاً لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني الجديدة والمباني الحديثة. وسنعتمد في ذلك على تعريب فريق من الكتاب العارفين بهذا الفن.
4 ً - في حدائق العرب - ننشر فيه صفحات مطوية من خير ما قاله الغابرون من كتاب العرب لأن لدينا كنوزاً مدفونة نحن في أشد الحاجة إلى الانتفاع بها. وسنعمل على قدر الإمكان ليكون نشر هذه الصفحات بمناسبة الحوادث الحاضرة وعلى مقتضى سير الأمور حوالينا.
5 ً - أشواك وأزهار - باب خصوصي للانتقاد والملاحظات على الحوادث الجارية والتعليق عليها بقلم أديب متفنن يريد أن يكتم اسمه.
6 ً - حديقة الأخبار - نورد في هذا الباب ملخص الحوادث وخصوصاً التي لها علاقة بحياة الكتاب.
7 ً - باب خصوصي لدرس كل كتاب نفيس يظهر في عالم المطبوعات درساً أدبياً على طريقة الأوربيين في نقد كتبهم. أو البحث بحثاً وافياً في حياة كاتب من أئمة الكتبة الأقدمين
أو المحدثين.(1/7)
8 ً - الروايات - ولما كان الجمهور قد أصبح كثير الميل إلى الروايات الخيالية المعروفة باسم الرومان لم نشأ أن نحرمه ذلك. ولكن لكي نقرن اللذة بالفائدة الواجب استخراجها من كل مطالعة لم نرض بتلك الروايات التافهة التي يضعها بعض تجار الكتب في أيدي القراء. بل عمدنا إلى اختيار نخبة من طرائف الروايات الأوروبية الشهيرة التي وضعها أشهر كتاب الغرب ووكلنا تعريبها إلى من نعرف فيهم الكفاءة اللازمة.
وسننشر تباعاً أشياء كثيرة عن الأدب والفنون والعلوم والتاريخ والاجتماع وغير ذلك مما يهم القراء الاطلاع عليه.
المحررون - قلنا أن غايتنا الأولى من هذه النشرة إيجاد صلة التعارف بني كتاب الأقطار العربية وتعريف عموم القراء بمشاهير كتبتنا لما في ذلك من الفوائد التي لا تخفى على أحد ولرغبة جمهور كبير فيم عرفة وحفظ ما تجود به القرائح العربية. ولذلك لم يكن بالإمكان الاقتصار على فريق قليل من المحررين. وعليه فقد أردنا أن نضمن لنفسنا مساعدة كل من أحرزوا شهرة في عالم الكتابة فكان في مقدمهم من اقترح علينا هذا الفكر وهم ليسوا بالنفر القليل. ثم كتبنا إلى فريق آخر فورد منهم الجواب بالإيجاب مع الارتياح العظيم إلى هذا المشروع وقد لبوا هذا الطلب عن طيبة خاطر غيرة منهم على الأدب، وحرصاً على كنوز العرب. وكان بودنا نشر الكتابات العديدة التي تلقيناها من مشاهير كتابنا لما فيها من التنشيط ولكن ضيق المقام يضطرنا إلى الاكتفاء بنشر أسمائهم الكريمة فقط مرجئين نشر جواباتهم إلى فرصة أخرى. وهكذا يمكننا أن نبشر القراء منذ(1/8)
الآن بمساعدة الكتبة الآتية أسماؤهم مرتبة على حروف الهجاء:
إبراهيم أفندي الحوراني
إبراهيم أفندي شدودي (الدكتور)
أحمد بك شوقي
الشيخ أحمد حسن طبارة
أحمد أفندي الكاشف
أحمد أفندي محرم
أحمد أفندي نسيم
الشيخ إسكندر العازار
إسماعيل باشا صبري
إلياس أفندي فياض
أمين أفندي الريحاني
أمين أفندي الغريب
بشارة أفندي عبد الله الخوري
توفيق أفندي حبيب
حافظ أفندي إبراهيم
حفني بك ناصف
خليل أفندي مطران
داود أفندي بركات
شبلي أفندي شميل (الدكتور)
شبلي بك ملاط
فليكس أفندي فارس
الشيخ عبد القادر المغربي
محمد أفندي إمام العبد
محمد أفندي كرد علي
محمد أفندي مسعود
محمد أفندي السباعي
الشيخ محيي الدين الخياط
السيد مصطفى لطفي المنفلوطي
نعوم بك شقير
نقولا أفندي رزق الله
ولي الدين بك يكن
يوسف أفندي نخلة ثابت
وهناك أيضاً عدد كبير من أئمة الكتبة في مصر والشام وبغداد وتونس وطرابلس الغرب والجزائر وأمريكا إلخ قد باشرنا مفاوضتهم بهذا الشأن لتتم الغاية المطلوبة. فيجد القارئ إن شاء الله في مجلة الزهور خير ما تجود به الأقلام العربية في كل الأصقاع فيكون له فيها أحسن مجموعة أدبية جامعة يحق الاحتفاظ بها.(1/9)
السباقات - وستفتح المجلة سباقات تتناول مواضيع شتى وتجعل الحكم فيها لنخبة من أعلام الأدباء. منها سباقان كبيران: الواحد في موضوع شعري، والثاني في موضوع نثري. وتعد للمجلين في هذا المضمار مداليات وجوائز ثمينة.
الاشتراك - ولما كانت غايتنا تعميم هذه النشرة على قدر الإمكان فقد جعلنا بدل الاشتراك زهيداً للغاية تتحمله كل الجيوب. وقيمته:
في القطر المصري: أربعون غرشاً صاغاً
في الممالك العثمانية: ثلاثة ريالات مجيدية
وفي الخارج: خمسة عشر فرنكاً
وجعلنا للمعاهد العلمية وأساتذتها وللأندية الأدبية حسم 30 في المئة.
حقوق المشترك - يحق لكل مشترك في مجلة الزهور:
1 - حسم 50 في المئة من ثمن كل كتاب تنشره المجلة.
2 - حسم 25 في المئة من ثمن كل كتاب يُطلب عن يد إدارتها.
3 - الكتاب الخصوصي الذي تنشره المجلة سنوياً يرسل إليه مجاناً.
4 - نشر إعلان خصوصي لا يتجاوز السطرين مرة في السنة.
5 - الاشتراك في كل سباق تفتحه المجلة وذلك دون مقابل.
6 - حضور الاحتفالات الأدبية التي تقيمها إدارة المجلة بمساعدة المعاونين بالتحرير.
هذا بعض الشيء عن خطة هذه المجلة الجديدة، والغاية التي ترمي إليها، والأبحاث التي ستتناولها بمساعدة خير من حرر، وأشهر من حبر من كتابنا العصريين. فعسى أن تلاقي رضى القراء وارتياحهم إليها. فيلاقوا فيها فائدة لأذهانهم، وتفكهة لخواطرهم، وعلى الله الاتكال في كل الأعمال.(1/10)
السباق الشعري الكبير
لسنة 1910
الموضوع -: وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً
- (سفر التكوين ف 2: ع 17)
قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ، ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين
- (سورة الأعراف: 7)
بعد صدور الحكم بالموت على الإنسان الأول، جلس آدم وحواء في البرية عند المساء، يتساءلان: ما هو الموت؟ كيف تصوراه. . .؟ نظم قصيدة في تصوراتهما هذه.
الموعد -: آخر موعد لقبول القصائد المختصة بهذا لموضع 30 أفريل (نيسان) من السنة الجارية.
الحكم -: ويكون الحكم النهائي في الموضوع لحضرة الشاعرين الكبيرين: سعادة إسماعيل باشا صبري وحافظ أفندي إبراهيم.
السباق النثري الكبير
لسنة 1910
الموضوع: كتابة نبذة لا تتجاوز عشر صفحات من قطع هذه المجلة في الوسائل الواجب اتخاذها لترقية آداب اللغة العربية بعد إيراد لمحة وجيزة في ما كانت عليه أيام الجاهلية وعلى عهد الخلفاء.(1/11)
الموعد -: آخر موعد لقبول ما يرسل إلينا في هذا الشأن 15 مايو (أيار) من السنة الجارية.
الحكم -: وسيحكم بين الباحثين كاتبان اختصاصيان وهما: سعادة القانوني حفني بك ناصف، مدرس الآداب العربية في الجامعة المصرية، وحضرة الباحث الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي.
* * *
الجوائز -: سيمنح الفائزون في كل سباق من هذين السباقين جوائز ثمينة متنوعة سنذكرها في عددٍ آت.
الشروط -: على كل من يرغب في الاشتراك في أحد هذين السباقين أو في كليهما أن يراعي الشروط الآتية:
1 ً - أن يكون مشتركاً في المجلة - وإلا فعليه أن يرسل طوابع بريد بقيمة فرنكين لنفقات المراسلات.
2 ً - أن يوقع ما يكتبه بتوقيع مستعار. ويكتب اسمه الحقيقي وعنوانه مع اسمه المستعار في ورقة يضعها في ظرف مختوم يدون على ظاهره اسمه المستعار فقط ويضع هذا الظرف مع قصيدته أو مقالته في ظرف ثان ويرسله خالص أجرة البريد بعنوان مجلة الزهور. شارع الفجالة نمرة 1 بمصر.
3 ً - أن يذكر إذا كان يريد، عند نشر الكتابات في المجلة أن يصرح باسمه الحقيقي أو يكتفي باسمه المستعار.
4 ً - أن لا يتأخر بإرسال موضوعه عن الموعد المضروب لكل سباق.(1/12)
حج الخديوي عباس حلمي وقصائد المدح فيه
حج سمو خديوي مصر في هذا العام إلى البيت الحرام وعاد محفوفاً باليمن والبركات. وقد تبارت قرائح شعرائنا في وداعه واستقباله. فكان موسم شعر ذكرنا سوق عكاظ. ولا جدال في أن خير ما قيل في حج أمير مصر قصيدة سعادة أحمد بك شوقي أمير الشعر. وقصيدة حضرة حافظ أفندي إبراهيم نابغة مصر. وقد جئنا على بعض ما فيها من الدرر الغوالي في ما يأتي من المقال:(1/13)
شوقي والبوصيري
البردة وطرازها
قصيدة البوصيري في مدح نبي الإسلام من خير ما جادت به قرائح الشعراء معنى ومبنى. وقد توالت الأجيال والقرون على هذه البدرة الثمينة، فلم تبل جدتها، ولم تذهب بهجتها، بل أكسبتها الأيام جلال العتق والقدم ولقد شاء احمد بك شوقي أن يُلبسها طرازاً معلماً فنسج طراز البردة بمناسبة عودة سمو أمير مصر من حجه المبرور. ولقد كان ذلك يعد - تهجماً - من أي شاعر كان إلا من أمير الشعر. فهو ذو القريحة(1/14)
الوقادة والنفس الطويل، القادر على مجاراة فرسان الشعر في أي ميدان كان، فجاءت قصيدته خير طراز يليق أن توشى به تلك البردة البديعة كما سيرى القارئ من المقارنة بين بعض أبيات هذه وتلك. وقد كان بودنا إثبات القصيدتين برمتهما لولا ضيق المقام.
لم تخف على شوقي بك وعورة هذا المسلك فنصل قائلاً:
المادحون وأرباب الهوى تبع ... (لصاحب البردة) الفيحاء ذي القدم
الله يشهد أني لا أعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم؟
على أن شوقي - رغم هذا التنصل الذي قضى به حسن الذوق - قد عارض سلفه ولم يقصر عنه في أكثر المواقف:
قال البوصيري في الآيات القرآنية:
لو ناسبت قدره آياته عظماً ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
وكل آيٍّ أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
آيات حق من الرحمن محدثه ... قديمة صفة الموصوف بالقدم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم
وقال شوقي في مثل هذا المعنى:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت ... وجئتنا (بحكيم) غير منصرم
آياته كلما طال الزمان بها ... يزينهن جلال العتق والقدم
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة ... (حديثك) الشهد عند الذائق الفهم
حلّيت من عطل جيد الزمان به ... من كل منتثر في حسن منتظم
بكل قولٍ كريم أنت قائله ... تحيي القلوب ويحيي ميت الهمم(1/15)
شريعة لك فجرت العقول بها ... عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
وجاء في البردة عن وصف العالم عند ظهور الدعوة إلى الإسلام:
أبان مولده عن طيب عنصره=يا طيب مبتدأ منه ومختتم
يوم تفرَّس فيه الفرس أنهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
وجاء في طراز البردة من بديع الوصف ما نأخذ منه:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم ... إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جوراً مسخرة ... لكل طاغية في الخلق محتكم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته ... وقصير الروم من كبر أصم عمي
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم ... كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه ... والرسل في (المسجد الأقصى) على قدم
لما خطرت به التفوا بسيدهم ... كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
وهذا المعنى الأخير أخذه شوقي عن البوصيري حيث قال:
فإنه شمس فضلٍ هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم
وصف صاحب البردة انقشاع غياهب الجهالة أمام أنوار الرسالة النبوية فقال:
كم جدلت كلمات الله من جدل ... فيه وكم خصم البرهان من خصم
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
وتحداه صاحب الطراز فكمل المعنى بنفي الريب والظنون فقال:(1/16)
والجهل موت فان أوتيت معجزة ... فأبعث من الجهل أو فابعث من الرجم
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسفة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفواً كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم
والشر أن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعاً وإن تلقه بالسيف ينحسم
وقال البوصيري واصفاً قتال الأعداء فأبدع في الترشيح في الاستعارة:
راعت قلوب العدة أنباء بعثته ... كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ... ماذا رأى منهم في كل مصطدم
المصدري البيض حمراً بعد ما وردت ... من العدى كل مسود من اللمم
والكاتبين بسمر الخط ما تركت ... أقلامهم حرف جسم غير منعجم
وقال شوقي وقد أضاف إلى ذلك شيئاً من الفلسفة الاجتماعية:
علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب أس نظام الكون والأمم
لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أو قرّ من دعم
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر ... لولا القنابل لم تثلم ولم تصم
وجاء في البردة من مدح الخلفاء ما لا يقارب ما جاء على لسان صاحب الطراز حيث قال عن العرب وخلفائهم:
دع عنك روا وأثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم
وخل كسرى وإيواناً يدل به ... هوى على أثر النيران والأيم
واترك رعمسيس إن الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة (الهرم)(1/17)
دار الشرائع روما كلما ذكرت ... (دار السلام) لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بياناً عند ملتئم ... ولا حكتها قضاء عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم
يطأطئ العلماء الهام أن نبسوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
ويمطرون فما في الأرض من محل ... ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
خلائف الله جلوا عن موزنة ... فلا تقيسن أملاك الورى بهم
من في البرية (كالفاروق) معدلة ... و (كابن عبد العزيز) الخاشع الحشم
3 و (كالإمام) إذا ما فض مزدحماً=بمدمع في مآقي القوم مزدحم
أو (كابن عفان) والقرآن في يده ... يحنوا عليه كما تحنو على الفطم
إلى غير ذلك من التاريخ المسبوك بأجمل قالب شعري. . .
وأشار (محمد) البوصيري إلى اسمه فقال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... (محمداً) وهو أوفى الخلق بالذمم
وأشار (أحمد) شوقي إلى اسمه أيضاً فقال:
يا (أحمد) الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
وهناك أيضاً معانٍ كثيرة نسج عليها الشاعران أبياتاً شائقة كنا نود ذكرها لنبين مجرى الأفكار من جيل إلى جيل، ولكن في ما تقدم كفاية لاطلاع القراء على طريقة شاعر الأمس وشاعر اليوم، فيرون أن راز شوفي كان لبردة البوصيري كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم.(1/18)
حافظ والفرزدق
قال حافظ من قصيدته مخاطباً أمير مصر:
تذكر زين العابدين وجده ... وما كان من قول الفرزدق فيهما
وقول الفرزدق فيهما مشهور، ورواية الخبر، أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام. فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان من أجمل الناس وجهاً وأطيبهم أزجهاً. فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر. فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه. - فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أولياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم(1/19)
هذا هو قول الفرزدق في زين العابدين الذي يشير إليه حافظ والذي تذكره الركن عند استلام العباس له.
تمنى حافظ أن يسير في ركب أميره، فقال:
ولو أنني خيرت أن أرى ... لعيسك وحدي حادياً مترنما
فلو فرضنا أن الزحام كان شديداً حتى تعذر على أمير مصر أن يصل إلى الحجر وكان حافظ قد سار أمامه حادياً مترنماً بقوله:
مشيت كعبة الدنيا إلى كعبة الهدى ... يفيض جلال الملك والدين منهما
وفي الركب شمس أنجبت أنجب الورى ... فتى الشرق مولانا الأمير المعظما
تسير إلى شمس الهدى في طفاوة ... من العز تحدوها الزواهر أينما
لتنحى الناس لهذا الأمير وشاعره ولو كان فيهم صفوة العظماء وخيرة الأمراء.
وإذا قابلنا بين قصيدة حافظ وقصيدة الفرزدق فقد لا تفضل هذه تلك. وشاعر زين العابدين معروف بجزالة شعره وفخامته وشدة أسره حتى قدم على الشعراء الإسلاميين.
وصف الفرزدق ممدوحه بالكرم فقال:
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم
ما قال (لا) قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
هم الأسود إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتم
وقال حافظ:(1/20)
حللت بأكناف الجزيرة عابراً ... فأنضرت واديها وكنت لها سما
دعوا بك واستسقوا فلبى دعاءهم ... من الأفق هتان من المزن قد هما
رجعت وقد داويت بالجود فقرهم ... وكنت لهم في موسم الحج موسما
وجدت وجادت ربة الطهر والتقى ... على العام حتى أخصب العام منكما
فلم تبقيا فوق الجزيرة بائساً ... ولم تتركا في ساحة البيت معدما
وإذا كان الفرزدق قد أجاد وأبدع فيم دح أجداد ممدوحه فإن حافظاً لم يقصر عنه في هذا الباب أيضاً حيث قال:
سليل ملوك يشهد الله أنهم ... أقاموا عمود الدين لما تهدما
لئن بات المجد المؤثل مغرما ... لقد كان (إبراهيم) بالمجد مغرما
وإن نام حب المكرمات فؤاده ... لقد كان (إسماعيل) فيها متيما
وإن سكنت تقوى المهيمن قلبه ... فقد كان منها قلب (توفيق) مفعما
وإن بات ناهضاً بمصر إلى الذرى ... فمن جده الأعلى (علي) تعلما
الأمراء والشعراء
أمس واليوم
كان الأمراء قدماً يدعون أن كرهم علم الشعراء الشعر. وكان الشعراء يجيبون بان شعرهم علم الأمراء الكرم. ولقد يكون الفريقان صادقين فيما يقولان.(1/21)
وكان الشعراء بالأمس يقفون على أبواب الملوك والعظماء لينشدوهم الشعر، ونراهم اليوم المقربين الجالسين في الصدر.
ولقد نظم شوقي بك هذا المعنى فأبدع وأجاد. ولشاعر أمير مصر ولع بشعر ابن هاني شاعر هارون الرشيد وقد أطلق على منزله في المطرية اسم كرمة ابن هاني وكان هذا المنزل مزداناً بأبهج الزينات ليلة عودة سمو الخديوي من الحج فاتفق أن سموه مر تلك الليلة أمام كرمة ابن هاني فألقى شاعره واقفاً على الباب فقال له:
يا شوقي أعجبتني قصيدتك كما أعجبتني زينتك فارتجل شوقي بك الأبيات الآتية التي أشرنا إليها، كحاشية لطراز البردة:
زين الملوك الصيد مر بزينتي ج كرماً وباب الله طاف ببابي
يا ليلة القدر التي بلغتها ... ما فيك بعد اليوم من مرتاب
ما كنت أهلاً للنوال وإنما ... فنحات أحمد فوق كل حساب
لما بلغت السؤل ليلة مدحه ... بعث الملوك يعظمون جنابي
بدران بدر في السماء منور ... وأخوه فوق الأرض نور رحابي
هذا (ابن هاني) نال ما قد نلت من ... حسب ندل به على الأحساب
قد كان يسعى للرشيد وبابه ... فسعى الرشيد إليه وهو ببابي
* * *
أما حافظ فقد مثل بحضرة الأمير يوم وصوله وقام في السرادق الفخيم الذي نصبته لجنة الاحتفال في ساحة سراي عابدين فأنشده قصيدته التي سلفت الإشارة إليها. وكان الأمير يصغي إلى منشده بكل انتباه،(1/22)
فيقول بعد كل بيت مدح: أستغفر الله وبعد كل بيت دعاء: إن شاء الله.
فأكرم بالملوك والأمراء الذين يعرفون قدر الأدب والأدباء. . .
الصحافة والصحافيون
كان حامل القلم كحامل السيف في يمين كليهما سلاح ماض. . . وأصبح حامل القلم، في العصر الحديث، كالقابض على الصولجان: كلاهما نافذ الكلمة، مرعي الجانب.
ولكن لا يتم ذلك للكاتب، إلا إذا فهم حقيقة مهمته، وأدرك شرف مهنته. فإذا لم يكن كل من هز الحسام بضارب فكذلك ليس كل من هز اليراع بكاتب وأبعد حملة الأقلام نفوذاً الآن هم الصحافيون، بفضل انتشار الصحف وإقبال الكبير والصغير عليها. وعليه يجب أن تكون الصحافة - كما قال احد كبار المفكرين - شجرة الحقيقة يغرد على فنانها الكتاب الصادقون وإنه ليسرنا أن ندون على صفحات الزهور كلمتين في هذا الموضوع: أحداهما لأمير شرقي كبير، والثانية لشريف غربي خطير.
1
قام دولة الأمير الجليل حسين باشا كامل عم سمو الجناب العالي الخديوي في إحدى جلسات مجلس شورى القوانين ووجه إلى رجال الصحافة كلمات قلما سمعنا مثلها في الشرق من كبرائنا، قال:
إن كل أمة متمدنة يجب عليها أن تحترم الصحافة، ونود أن تكون معها يداً في يد، لتتعلم منها وتستفيد مما ينشر من الفوائد. . . .(1/23)
نتمنى أن يكون التعليم في مصر إجبارياً حتى يصبح الكل يطالعون الصحف ويستفيدون منها ويتنورون بما فيها. .
مكثت نحو الثمان سنوات تلميذاً في أوروبا، فرأيت أن تنور العامة جاء من مطالعة الصحف. .
الجرائد أكبر من أن تكون مهنة لتعيش أصحابها، بل هي أشرف من ذلك ولها فوائد عامة عديدة
إننا نعتبركم جزءاً منا حيث تحضرون جلساتنا ونقبل بارتياح أن تنتقدوا أعمالنا. . وأنتم جميعاً تعلمون مقدار احترامي لكم. .
2
وعقد مؤخراً في إنكلترا مؤتمر الصحافة فألقى اللورد مورلاي خطاباً نقتطف منه الفقرات
الآتية:
الإنشاء هو تأليف المقالات أو الكتب الضارة والمفيدة. وهو كالتصوير اليدوي يأتي بالصور الجميلة والقبيحة.
مهنة الصحافة شريفة وشاقة. قال كارليل: الصحافي، سواء كان قائداً للرأي العام أم لم يكن، أليس هو واحداً من حكام العالم؟
ولا يفهم بالصحافي من يحسن اللغة جيداً ولا من هو كثير التأنق ولا من يرسل الكلام على عواهنه بل الصحافي الحقيقي المفيد هو الذي يحافظ على أدب الكتابة وآداب الاجتماع. ويكفي أن تجتمع في المنشئ، فضيلتان: معرفة الحقوق والبساطة، وجوهر الصحافة والإنشاء قائم في ثلاثة أشياء: حسن النية والخبرة والمقدرة.(1/24)
الصحافة والإنشاء يحتاجان إلى روية أكثر من الخاطبة. لأن ما يقوله الخطيب ينسى حالاً. وأما ما يقوله الصحافي فيبقى مكتوباً ليطالع ويراجع وينتقد. وكمثله كلام المنشئ: وإنما الصحافي يحتاج إلى ذكاء متقد وإلى رزانة أعظم مما يحتاجه المنشئ لأن هذا يمكنه أن يراجع وأن يشاور. وأما الصحافي فليس له من الوقت ما يمكنه من المراجعة والمشاورة. والمنشئ ينشئ في موضوع أو فن واحد. وأما الصحافي فتعرض له كل المواضيع وكل الفنون. فيجب أن يكون راجح العقل، كثير الإدراك، سريع التحصيل ذا حنكة وحكمة ليحصل على رضى الجمهور. ويكون رأيه هو الأصح وحزبه هو الأقوى ويكون هو المحور الذي تدور حوله الآراء - وعلى الصحافي أن يكون فوق الطبيب والفقيه والصناعي والعالم والجندي والسياسي والملك وأن يكون بعيداً عن أغراض الجميع، ولا يتخذ إلا الحق له غرضاً.
الصحافي ليس خادماً في مكتب، بل هو مدير الأفكار بوجهٍ عام: وإذا خطر له مرة أن يفضل الجزئي على الكلي، والعرض على الجوهر، والغرض على الحقيقة، فليتصور أن أمامه الرأي العام يكذبه. وحينذاك تتضح له المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه، ويفهم أهمية مركزه فيحافظ عليه.
الإنشاء كلام منزل كالناموس، إذا قيل مرة فلا يجوز بعد ذلك إزالة حرف منه. هكذا يجب أن تكون الصحافة لتكون مفيدة. والصحافي المفيد هو الذي يقرأ ويحسن الاستنتاج، ويفهم
معنى الاستقلال والمسؤولية.(1/25)
وليس الانتقاد في شيء من الطعن. ولا يجب أن يخاطب المنتقد بلهجة العداء. والهجو هو ما يلجأ إليه الأعداء. وذلك محط من شان الصحافة.
والصحافة الحديثة تستدعي العناية بالتهذيب. والتهذيب هو عماد السلم والاتحاد والسياسة والاجتماع العصري. ولا يحافظ على الحقوق إلا المهذبون.
نكبة باريس
طغى نهر السين على مدينة باريس، فنشر في تلك الربوع الجميلة الدمار والخراب ولسنا في حاجة إلى إيراد تفصيل هذا الخطب الجسيم، فقد اطلع القراء على ذلك في الصحف اليومية. وإذا كانت عاصمة فرنسا مهبط الجمال وكل فنون الجمال، فيليق بالشعراء أن يسكبوا عليها في مصابها دمعة الأسف:
1
يا فرنسا لا عدمنا منناً ... لك عند العلم والفن جساما
لطف الله بباريس ولا ... لقيت إلا هناء وسلاما
روعت قلبي خطوب روعت ... ساهر الأحياء فيها والنياما
أنا لا أدعوا (سين) طغى ... إن (للسين) وإن جار ذماما
لست بالناسي عليه عيشة ... كانت الشهد وأحباباً كراما
شوقي(1/26)
2
باريس عاصمة ملك حذيت على غير منوال
إذا أطرى الواصفون بلدة قالوا: هيا لجنة، أنهارها جارية، وبناياتها شامخة، ورياضها يانعة، وأشجارها ثامرة، وأعوادها زاهرة. . . أوصاف ابتذلتها أقلام الكاتبين، ووقفت عندها بديهات الشعراء.
أما باريس فلا تتناولها هذه الأوصاف. كل شيء هو دون(1/27)
ما وصف به، إلا باريس فهي فوق ما وصفت به.
قال أكثر الناس: الجمال غريب لا وطن له. . . كذبوا. باريس وطنه ومشرق شمسه.
الذين رأوا باريس عرفوا محاسنها وهم فيها. وأبناؤها عرفوا محاسنها وهم فيها. فلما فارقوها امحت صورها من أذهانهم إلا قليلاً بقي بها ما تحتملها العقول وانضوى ما لا تحتمله. هذه محاسن ترتع فيها النفوس والنواظر معاً. وفيها ما يدخل النفوس لا عن طريق الاستشعار، بل عن طريق الإدراك. وحين تزايل الأبصار أشكالها تزايل البصائر خيالاتها.
الطرقات السوية، والقصور العالية، والمصابيح المتلألئة، والجسور الممتدة، والكنائس
المرتفعة، والدمى المنصوبة، والمصانع العاملة والندية الحافلة يتأود بينها برج ايفل، كأنه خطيب الحرية بين تلك العجائب، بل كأنه حارس القضاء موكل بسكان البانثيون.
سبحانك اللهم ما أكبر قدرتك، بل ما أفصحها وأبلغها من قدرة. .
البلدة الطيبة التي فرعت الحوادث مروتها، ثم ضحكت لها وجوهها، ربيبة العز على اختلاف أنواعه: عز الجمال، وعز العلم، وعز الدولة. اختلفت(1/28)
فيها مواكب الأبهة. دخلها هنري الرابع فاتحاً. وعاودها بونابرت ظافراً ولكن تهادت فيها انطوانت إلى ميدان القصاص. وهي بعد ذلك رقت ودقت وحلت: فكانت الفاتنة يوم فرحها، وكانت الفاتنة يوم ترحها.
وإن مواقع الجياد، يوم دخلها غليوم الأول، لهي مواقع القبل من شفاه عشاقها. ذلك أديم تنبو عنه الشقوة، ويترقرق عليه النعيم.
لم يسعدني الزمان بزورة لها، وكم اشتقتها، وكم أشتاقها. .! وإنما عشقتها الروح، ولم ترها العين. وما كن عشقي لها على قدر ما نعتها به الناعتون فأقول: الأذن تعشق قبل العين أحياناً ولكن عشقي لها على قدر معرفتي بها.
بيني وبينها الفدافد والبحار. لم يستجل مرآتها ناظراي. غير أن نفسي حلقت بسمائها وخواطري جالت في أرجائها.
كلما أنشدت بيتاً لهوغو أو لموسه، خلتني أنشد شعرها وأترجم لذاتي عنها.
حين أبصر الباريسي الظريف في حديثه الطيب، وشمائله المليحة، أذكر باريس. . . وحين أشاهد الباريسية في شعرها الذهبي، وعينيها السماويتين، وحديثها العذب، أخال جزءاً من باريس يتكلم، بل أحسب روح باريس تمثلت لعيني لتوحي إلي معاني الشعر. ولترسل من أعماق روحي كوامن الإعجاز. . .(1/29)
تتغير باريس ما بين غمضة عين وانتباهتها: هكذا ينبغي أن تكون. . . للجمال فيها كل آونة شأن جديد الجمال فها موضة فلو تأملوا إحدى فاتناتها، لألفوها صباحاً كالخوخة كللها الندى، وفاح لها شذا. ولرأوها ظهراً، وقد تمشت فيها حرارة الشمس حتى لتجانبها الشفاه إشفافاً، بعد إذ تطامنها لثماً. ولوجدوها مساءً وقد جمد نشرها وبدر، حتى لتنزل عنها الثنايا إذا حاولت لها عضاضاً.
الله في باريس وفي فتن باريس! عروس أوروبا الغالية، بنت التمدين، المثال الجمل لكل شيء: يتشبه الناس بأبنائها. يلبسون كملابسهم، ويأكلون كمآكلهم، ثم ينطقون بألسنتهم، ثم يتغتذون بعلمهم كذلك كانت باريس، وكذا ستكون.
* * *
تعالوا نبكي على باريس في أطلالها ورسومها، وفي أشلاء مواتها، وفي قصورها المتداعية. ابتدرتها سوابق عبرات السماء بمتصلة الثمآبيت، وانشق لها صدر الغمام عن كل متداني الهيدب غداة أقبل عليها السين في أواذيّه المتدافعة، وأزباده المترامية.
كم مقلة بالأمس يتكلم إنسانها عن الصبا، جاد غربها اليوم بواكفٍ هتان. وكم وجنة رق عليها ماء الشباب، خددتها مسبلات الدموع.
عبست تلك الوجوه الضاحكة، وخلت هاتيك المغاني الآهلة، وعطلت مصانع طالما أجادت تنميق المحاسن في كل البلاد، وباتت بلاد الله تندب حسناءها. . .(1/30)
قال أحد أدباء الفرنسويين لكل امرئ وطنان: وطنه الأصلي ووطنه باريس فلبيك إذن على باريس كل الناس، فهي وطن كل الناس.
من حقها على من أكرمت وفادتهم ورحبت بهم منزلاً، ونثروا عليها التبر وهي حالية، أن يكرموها في مصابها، وأن ينثروا عليها التبر وهي عاطلة.
سأبكي باريس مستمداً دموع الغمائم، مستعيناً بعيون النيرات. فإن تنفد الدموع، فإن من الأسى ما يجدده الشوق، وينميه الغرام. سلام على باريس في مصابها. سلام عليها في جلبابها الأسود. وكأنها العذراء بعثت لتدعو العالم إلى السجود. . .
ولي الدين يكن
الغد
السيد مصطفى لطفي المنفلوطي أشهر من أن يعرف. فلقد نالت كتاباته الرائقة شهرة بعيدة وتناقلتها صحف القطرين. وهو مباشر الآن طبع كتاب تحت عنوان النظرات جمع فيه ما نشره على صفحات الجرائد والمجلات. وسيكون هذا الكتاب النفيس خير متحف جمع بين أسلوب الأقدمين وتفنن المحدثين. وسنعود إليه بالتفصيل بعد بروزه من عالم الطباعة إلى عالم المطالعة. ونحن واثقون بأن كل قارئ سيضمه في مكتبته إلى كتبه الثمينة. وقد تفضل صاحبه بان يترك لنا اختيار ما نريد من الملازم التي نجز طبعها لنحلي به العدد الأول من هذه المجلة. ولذلك أتيح لنا أن نتحف القراء بالمقالة الأولى من كتاب النظرات وهي تحت العنوان المتقدم:
عرفت أني فكرت ليلة الأمس فيما أكتب اليوم، وعرفت أني ممسك الساعة قلمي بين أصابعي، وأن بين يدي صحيفة بيضاء، تسودُّ(1/31)
قليلاً قليلاً، كلما أجريت القلم فيها. ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه، أو يكبو دون غايته. وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها. لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئاً. ولأن المستقبل بيد الله.
عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأني لا أزال ألبسها حتى الآن. ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي، أو تخلعها يد الغاسل.
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من بعيد فربما كان ملكاً رحيماً. وربما كان شيطاناً رجيماً. بل ربما كان سحابة سوداء، إذا هبت عليها ريح باردة، حللت أجزاءها، وفرقت ذراتها، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود.
الغد بحر خضم يعب عبابه، وتصطخب أمواجه، فما يدريك غن كان في جوفه الدر والجوهر، أو الموت الأحمر.
لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار، حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أو على حافة القبر.
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.(1/32)
كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، رابض في مجثمه متلفع بفضل إزاره، ينظر إلى آمالنا
وأمانينا نظرات الهزوء والسخرية، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء.
يقول في نفسه لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الوالد أنه يلد للموت، ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد.
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم، فاتخذ نفقاً في الأرض، وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب من حديد وخيوط من نحاس.
انتقل بعقله إلى العالم العلوي فعاش في كواكبه، وعرف أغوارها وأنجادها وسهولها وبطاحها وعامرها وغامرها ورطبها ويابسها.
وضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة، والموازين لوزن كرة الأرض مجموعة ومتفرقة.
غاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها.
نفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها(1/33)
وعرف كيف يعيشون، وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون.
تسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها. والعقول ومذاهبها. والمدارك ومراكزها. حتى كاد يسمه حديث النفس ودبيب المنى.
اخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزاً مقهوراً لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه، لأنه باب الله. والله لا يطلع على غيبه أحداً.
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب. هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك، أو لا، فاقترب منا علنا نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك.
أيها الغد. إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك. وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها. أأذلتها وأهنتها، أم كنت لها من المكرمين.
لا لا. صن سرك في صدرك، وابق لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها، فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة. وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة.
وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر
مصطفى لطفي المنفلوطي(1/34)
ساعة الوداع
لسعادة إسماعيل باشا صبري
أترى أنت خاذلي ساعة التو ... ديع يا قلب في غد أم نصيري
ويك قل لي متى أراك بجنبي ... راضياً عن مكانك المهجور
ساعة البين قطعة أنت قدّت ... للمحبين من عذاب السعير
لا تحيني روحي الفداء لماحي ... ك غداً من صحيفة المقدور
أزهار وأشواك
حول الزهور
رغبت إلي إدارة هذه المجلة في تحرير هذا الباب، وغاية هذه المجلة شريفة، فاضطررت إلى إجابة هذا الطلب. على أني أحجمت كثيراً قبلما أقدمت. لأني إذا كنت سأجني أزهاراً طيبة يروقني ويروق قرائي شذاها ومرآها، فلقد أجني أيضاً كثيراً من الأشواك، فيؤلمني وخزها ويؤلمهم، ولربما يدميني ويدميهم. ولكن القراء الكرام سيرضون عني كما أنا راضٍ الآن بهذه المهمة الشاقة.
سأجني من أنوار الرياض شهداً وبلسماً وعنبراً فيه لذة للذوق، ومداواة للجرح، وطيب للناس. وما هذا وذاك وذلك إلا من جني الزهور، فقد جاء في تاج العروس في مادة عنبر أنه شمع عسل ببلاد الهند مرعى نحله من الزهور الطيبة يكتسب طيبه منها.(1/35)
فسأسكب عنبراً وبلسماً، إذا رأيت في الحوادث والأعمال زهوراً طيبة وإلا كان جنيي صاباً وعلقماً.
وجاء في لسان العرب إن الزهور تلألؤ السراج الزاهر. فعسى أن يقطر ما أجنيه زيتاً صافياً يزيد تلألؤ هذه المجلة الزاهرة، لا سائلاً عكراً يبعث دخاناً تدمع له العيون، وتشمئز منه الأنوف. وعلى كل فجل رغائبي أن تتوثق عرى الصداقة شيئاً فشيئاً بيني وبين قرائي الأحياء. فنتبادل ما نشاء من الأفكار بين الأزهار والأشواك. فنبتسم معاً ونتألم معاً. متذكرين أن لا ورد بلا شوك. وأن أشواكاً كثيرة بلا ورد.
إدمون روستان وحافظ إبراهيم
إدمون روستان هو أحد كبار شعراء فرنسا في هذه الأيام. ذكره طبق الآفاق، ورواياته مثلت على أكثر مراسح العالم، فصفقوا لها في كل عواصم أوروبا، وهتفوا لمؤلفها في أمريكا وآسيا وأفريقيا. ألف فاشتهر، وصنف فاغتنى، فما أحسن حظه وما أسعد نجمه. .! جمع من رواية الايجلون أو فرخ النسر ومن رواية سيرانوده برجراك ما يقدر بالملايين من الفرنكات. وها قد أنجز الآن رواية شانتكلير وهي رواية غريبة الشكل والوضع، لأن كل أشخاصها من الحيوانات. . . غير الناطقة. لكن بلاغة مؤلفها أنطقتها بما تكاد تعجز عنه الحيوانات الناطقة. بيد أني لا انظر الآن إلى هذا الأمر. بل أريد أن يعرف القراء أن مدير مجلة الالوستراسيون قد اشترى حق نشر هذه الرواية في مجلته بمبلغ. . . .(1/36)
زهيد لا
يتجاوز المليون فرنك: أربعة فصول: لا يتجاوز الفصل 500 شعر - بمليون فرنك. فيكون ثمن الشعر الواحد من أشعار روستان يباع بخمسمئة فرنك أي بعشرين جنيهاً وثمن الكلمة إذا قدرنا عشر كلمات في كل بيت جنيهان فضلاً عما ينال المؤلف من تمثيل روايته. وإذا عرفت أنها ستمثل كأسلافها ألوفاً من المرات تعرف أن روستان يقبض ثمن الحرف الواحد من أشعاره مالاً جزيلاً قد لا يناله كتابنا من الصفحات الطويلة فحرفه إذن يساوي مجلداً من كتبنا. . . الرائجة.
يعد روستان عندهم بمثابة حافظ إبراهيم عندنا. فهل يا ترى تعود قصيدة من حافظ بل ديوانه برمته بما يعود بيت من روستان على صاحبه.؟ مسكين حافظ تنقده مجلاتنا وجرائدنا كلمات النابغة، وشاعر مصر ثمن قصائده وتنقد روستان مجلة واحدة مليون فرنك ثمن رواية واحدة. . . هناك يدفعون لروستان درراً وجواهر، وهنا نكتفي بان نجد الدرر والجواهر في نفثات شعرائنا. فشعراؤنا إذن أغنياء، فنأخذ منهم، وشعراؤهم فقراء، فيعطونهم. فيا ليتني كنت شاعراً إفرنجياً تجود علي الجرائد والمجلات بالدرر لا شاعراً عربياً تجد الجرائد والمجلات تلك الدرر في أشعاري. .!
* * *
النادي العائلي
اسمه لطيف ذلك النادي الذي أسسه في بيروت فريق من الأفاضل والأدباء. وأول عمل عرفناه عنه ألطف. . . جعل جائزة قدرها خمسمئة فرنك للكاتب الذي يؤلف خير رواية تمثيلية في موضوع وطني.(1/37)
النادي يشترط أن تكون الرواية مؤلفة لا معربة. ورواياتنا المؤلفة تعد على أصابع اليد الواحدة لا اليدين والجائزة التي وضعها النادي زهيدة لا تعادل المليون الذي يقبضه روستان عن روايته. ولكنه خطا خطوة حسنة يستحق عليها كلمة برافو وها نحن نقولها لرئيسه الفاضل وسكرتيره الأديب وأعضائه الكرام. ونهنئ سلفاً الكاتب الذي سينال نصب السبق كما كان يقول العرب. ويا ليتني أعرف كيف تنسق المشاهد والفصول لأنزل إلى هذا الميدان. ومثل هذا الثناء جدير ببلدية الإسكندرية، فقد منحت جوق سليم أفندي عطا الله مئة جنيه مساعدة له: عطاء. . . البلدية قليل بجانب عطاء. . . الله. ولكنها باكورة تنشيط
البلديات والحكومات الشرقية للأجواق العربية وكل باكورة لذيذة. . .
جنون الطبيعة
الطبيعة تجن كالأفراد، وترتكب مثلهم في حالة الجنون جرائم وفظائع. وجنونها هائل في هذه المدة، ثارت العناصر الواحد تلو الثاني على بني البشر: زلزلت الأرض فانجابت بمن فيها، وتفجرت نيرانها فأودت بمن عليها، وزمجرت العواصف فأهلكت وأغرقت، وأرغت المياه وأزبدت فجرفت واقتلعت، فكأن داء الهيستيريا قد هز المادة فتمردت على العقل المتسلط عليها، المستبد بها. فيا لله من جنون الطبيعة. . .! ويا لله مت تمردها. . .
حاصد(1/38)
حديقة الأخبار
- وافقت الدول على تمديد أجل المحاكم المختلطة في مصر إلى خمس سنوات ابتداءً من غرة فبراير المنصرم.
- في التاسع من الشهر الغابر افتتحت الجمعية العمومية المعقودة للنظر في مسألة إطالة امتياز قناة السويس.
- قرر سعادة زغلول باشا ناظر المعارف تعليم اختزال الخط. وكانت الحلقة الأخيرة في سلسلة مآثره في نظارة المعارف المصرية قبل أن يغادرها.
- ظهر في مصر حزب سياسي جديد الحزب الدستوري وزعيمه عطوفة إدريس بك راغب.
- اجتمع فريق من كريمات السيدات في سراي صاحبة الدولة الأميرة عين الحياة هانم أفندي وألفن جمعية باسم محمد علي جد العائلة الخديوية العلوية لحماية الأطفال والأمهات فأكرم بالإحسان حلية للحسان.
- جرى في عين شمس أسبوع الطيران. فرأينا النسور البشرية تحلق في الجو. فتذكرنا قول شوقي عن البشر:
حين ضاق البر والبحر بهم ... أسرجوا الجو وساموه اللجاما
وقول الرصافي:
طائرُ في الفضاء طولاً وعرضاً ... بجناح من القوى غير باد
- في 20 الماضي أطلق إبراهيم ناصف الورداني على رئيس النظارة(1/39)
بطرس باشا غالي خمس رصاصات، وثاني يوم توفي الرئيس رحمه الله. وتألف الوزارة الجديدة كما يأتي: محمد باشا سعيد للرئاسة والداخلية. سعد باشا زغلول للحقانية. رشدي باشا للخارجية حشمت باشا للمالية. يوسف سابا باشا للمالية. وسري باشا للأشغال والحربية والبحرية - سعيد أصغر النظار سناً صار رئيسهم. فحق قول الشاعر بنتاؤور الذي هنأه يوم توليه نظارة الداخلية بقوله:
أهلاً سعيداً وسهلاً ... أنت الكبير الصغير
دعنا نقل عن قريب ... أنت الكبير الكبير
- استقال دولة البرنس حسين باشا كامل من رئاسة مجلس الشورى والجمعية العمومية.
أيها القارئ العزيز
أرسلنا إليك هذا العدد الأول من مجلة الزهور لاعتقادنا بغيرتك على النهضة الأدبية ورغبتك في الاطلاع على سيرها في القطار العربية. فإذا وجدت في خطة هذه المجلة ما يحقق رغائبك فتفضل بتوقيع الطلب الواصل طيه وإرساله مع قيمة الاشتراك الموضحة فيه أو التعهد بدفعها إلى وكيل المجلة في أول فرصة. والسلام.
إدارة مجلة الزهور بشارع الفجالة نمرة 1 بمصر(1/40)
العدد 2 - بتاريخ: 1 - 4 - 1910
نظرة إلى ما فوقنا
مذنب هاللي
مالت الشمس إلى المغيب، وكاد قرصها الذهبي يتوارى وراء خط الأفق المحمر، فانعكست أشعتها الصفراء، في مياه البحار الزرقاء، حتى خيل إلى الناظر أن تلك البحار مرآة صافية مرصعة بالزمرد والفيروز، وأن أمواجها تدحرج في طياتها المائعة فضة وذهباً فتتكسر على الشاطئ العابس لفراق عروس النهار، وابنة الأنوار، التي كانت تملأ القلوب بهجةً وأملاً. ولا يلبث أن يشوب هذا المنظر كدرة تتحول شيئاً فشيئاً إلى سواد قاتم لأن الليل قد مد رواقه على نصف الكرة الأرضية. . . وإذ ذاك يظهر البدر من المشرق بظلمته البهية، تخفره الزهرة ونجمة المساء ونجمة الراعي وسائر الأجرام السماوية، وهو يخطر بينها دلالاً، ويميس اختيالاً. وتأخذ السماء تزهر زهوراً بكواكب لامعة، ونجوم ساطعة، طالما تغزل بمحاسنها الشعراء فعشقوها، وبحث في كنه أسرارها العلماء وما فقهوها: حياة جديدة تبدو في العلى فتدعو النفس إلى الطيران إليها. . .(1/41)
تستحب الجواهر والحجارة الكريمة في جيد النساء، لكنك تجدها أبهى وأسنى في صدر السماء، فأين بهاء الجواهر، من بهاء الكواكب؟
وكان أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على بساط أزرق
صاغها الخالق ونثرها في الفضاء، وهي لا تزال من ذاك الحين إلى ما شاء الله تسير على خطة وضعت لها. . .
لمعت فوق رؤوس أفراد أعلام، وشعوبٍ عظام، اتخذوها سميراً فنفت عنهم الأكدار، واستنطقوها فأوحت إليهم رائع الحكم ورقيق الأشعار. . . درست تلك الشعوب ودفنت تحت أطلال مدنيتها المندثرة، والكواكب لا تزال تسطع وتضيء محدثة بعظمة الحي الباقي. . .
فيا أيها الليل الرهيب، الساطع بأنوار لا تعد. . . قد كتب في طياتك السوداء بحروف الكواكب سر عجيب. . لولاك لما كانت أعيننا تشاهد سكان السماء، بل كنا على كرتنا الصغيرة نجهل ما يحدق بنا.
أيها الليل المقدس إن كنت تحجب عنا النور، فأنت تبدي لنا الحقيقة بأجلى مظاهرها،
وتسكب على قلوبنا التعبة بلسم الراحة والسلوان، تنسينا ما ينتابنا على هذه الأرض من الأكدار والكروب وما يدهمنا من الدواهي والخطوب. تنسينا ما يحدق بنا من الشقاء والفساد.
نحن نحبك أيها الليل لأنك صادق لا تخدعنا. نحبك لأنك تصلنا بعالمٍ خفي يبين لنا أن نتصوره أحسن من عالمنا. نحبك لأنك تشعل في أفئدتنا نور الأمل وتجعلنا من سكان اللانهاية ونحن في هذه البقعة المحدودة. . .(1/42)
فأي كتاب تلذ مطالعته أكثر من كتاب السماء. وأية قصيدة تروق معانيها أكثر من القصيدة المسطرة بحروف الكواكب الزهراء على لوح القبة الزرقاء.
وهذا الكتاب سنطالعه أيها القارئ العزيز من حين إلى حين، ونقلب صفحاته المرة بعد المرة. فيكون لنا خير سلوى. وسترى أن التمتع بأسرار هذه الكواكب لا يقل لذة عن التمتع بمرآها.
وأول ما نبدأ به اليوم إيراد شيء عن مذنب هاللي لأن قرب ظهوره يتطلب منا تقديم هذا البحث على سواه.
* * *
ريع سكان الأرض من نباء ظهور مذنب هاللي واصطدامه القريب بكرتنا. وأخذ الكثيرون ينذرونا بخراب العالم في ذاك اليوم المشؤوم وقد أطلق على ذلك المذنب اسم الفلكي الإنكليزي الذي ضبط حساب ظهوره. وسيظهر هذه السنة تماماً في 18 مايو (أيار) الساعة الرابعة عشرة من الوقت الفلكي الذي يبتدئ عند الظهر أعني الساعة الثانية من صباح 19 مايو ويجتاز في ساعة من الزمن الكرة الشمسية التي يبلغ قطرها 108 مرات قطر كرتنا وتدل الحسابات الفلكية على أن المذنب سيكون على مسافة 128 مليون كيلومتر من الشمس أعني على مسافة 23 كيلومتراً من كرتنا الأرضية. فإذا كان ذنبه يبلغ هذا الطول فإنه يمسنا في طريقه وهذا ليس من المحال. فمن المذنبات ما يبلغ طول ذنبها 40 أو 50 أو مئة مليون كيلومتر. على أن مذنب هاللي ليس من هذا النوع فهو من(1/43)
المذنبات المتوسطة. لكن قد لوحظ أن ذنبه يختلف طولاً كل مرة يظهر فيها. ولم يتمكن العلماء حتى الآن من تقرير ذلك.
وهذا المذنب يظهر مرة كل 75 سنة بعد أن يكون قد اجتاز في الفضاء خمسة مليارات من الكيلومترات وقد ظهر منذ سنة 467 قبل المسيح ثلاثين مرة.
وإذا قدرنا أن ذنب هاللي يبلغ طولاً كافياً ليمسنا في طريقه فما سوف تكون نتيجة ذلك؟
الجواب متوقف على معرفة الغاز المتركب منه هذا الذنب. فقد يكون من الغازات السامة كالسيانوجين (المركب من الآزوت والكربون) فيقضي على سكان نصف الكرة الأرضية خنقاً. وتحدث صدمته بنا هياجاً في العناصر فيتأثر منها سكان النصف الثاني من كرتنا، فتثور البحار، وتخسف الجبال إلى غير ذلك من النكبات التي تنشأ عن كل تبلبل يطرأ على نواميس الطبيعة. على أن العلامة فلاماريون قد نفى ذلك وسكن الخواطر القلقة، مستنداً إلى الأدلة الآتية:
أولاً: إنه ليس من المقرر أن يبلغ طول الذنب أرضنا هذه.
ثانياً: إن أذناب المذنبات على غاية الدقة حتى أنها لا تزال شفافة ولو بلغ ثخنها عدة ملايين من الكيلومترات فنظل قادرين على رؤية النجوم من خلالها.
ثالثاً: أنه لم يتقرر إذا كان السيانوجين الموجود في قلب المذنب ممتداً إلى ذنبه.(1/44)
رابعاً: تسير كرتنا بسرعة 106 آلاف كيلومتر في الساعة ويسير المذنب سيراً معاكساً لسيرنا سرعته 170 ألف كيلومتر. فيكون مرور الكرة الأرضية في ذلك الذنب أشبه بمرور قنبلة المدفع في الغيمة. فلا يتأثر الهواء الذي ننشقه من الغازات السامة إلى درجة تجعل حياتنا في خطر.
وعليه فيرى القارئ أن انتهاء العالم الذي تنبأوا عنه لم يحن حينه ولم تأت ساعته - حتى في 18 مايو القادم. . .
عجائب غرائب
نقرأ في كتاب ألف ليلة وليلة من عجائب الحوادث، وغرائب الأوصاف، ما لا نصدق احتمال وجوده أو وقوعه، وننسب هذه الأمور المدهشة إلى مخيلة الكاتب التي غالت فوصفت ما لا وجود له إلا في عالم الخيال. وقد نكون في ذلك واهمين، وقد تكون هذه الأمور واقعية. وكل ما في الأمر أن المنشئ قد عول في وصفه على عبارة قوية، أو على استعارة تمثل دقائق الأمور، فبهرنا أسلوبه الكتابي، وأثر فينا تعبيره المجازي. ولول وصفنا على هذا النمط منزلاً من منازلنا الحاضرة وما فيه مما نعده من لوازم المعيشة، أو لو روينا على هذا الأسلوب حادثة من حوادثنا اليومية وذكرنا علاقة التلغراف أو التلفون بها مثلاً لما رأى الفلاح والقروي الساذج بينها وبين مرويات ألف ليلة وليلة من فرق عظيم. على أننا ألفنا هذه المناظر وتلك الحوادث، فلم يبق لها فينا من تأثير شديد. ولكن من لم(1/45)
يرها ولم يتعودها يلاحظ في وصفها ما لا نلاحظه ويبهره من دقائقها ما لا نلتفت إليه. يشهد بذلك الكتاب الذي وضعه أحد الصينيين وجاء فيه على تفاصيل سفره إلى باريس. ويرى فيه القارئ من الغرائب والعجائب ما يحمله على التصور انه يطالع فصلاً من كتاب ألف ليلة وليلة أو أسفار السندبان البحري.
عاد الرحالة الفرنسوي المسيو جاك باكو من رحلة قام بها في الصين، واستصحب معه إلى باريس رجلاً من التيبت كان دليله في أسفاره في الأصقاع الصينية. فكتب الرجل بلغته ما تم له في سفره إلى أوروبا، وعلق ملاحظاته على ما رأى وسمع. وترجم الكتاب إلى الفرنسوية فأحببنا أن نقتطف عنه بعض الشيء.
عنوان الكتاب: رحلة المدعو اجروب غمبو من باتونغ مع الرجل الفرنسوي العظيم (با) وفيه تفصيل ما جرى لي من الحوادث
ثم يبدأ بسرد هذه الحوادث بأسلوب ساذج وكما ترتسم على لوح مخيلته. . .
. . . وصلنا إلى تخوم الهند. فوجدت أن شكل الناس هناك غير شكلنا، ولغتهم وأشغالهم غير لغتنا وعاداتنا. فتذكرت أخي وبكيت، وعزمت على الرجوع من حيث أتيت. ولكنت فعلت لولا أننا كنا نسافر بلا تعب ونحن جالسون على مقاعد حريرية متلذذون بأطيب المآكل. . .
. . . وفي اليوم الخامس عشر من القمر الخامس نزلنا في بيت كبير يسير في البحر نهاراً
وليلاً لأنه يستضيء بنور الكواكب في سراه.(1/46)
وعند وصولهم إلى مرسيليا نزلوا في فندق من فنادق المدينة وصفه الصيني قال:
في هذا البيت مسافرون كثيرون، وكل واحد منهم في غرفة له. وفي هذه الغرف نصبت أسرة مغطاة بأقمشة من حرير وإلى جانبها طاولات مزخرفة وعليها أشياء جميلة. وكنا نجلس للأكل على مائدة كبيرة. فنتناول صباحاً شيئاً من اللبن والقهوة المحلاة بالسكر ونأكل في الظهر وفي المساء لحوماً وأسماكاً وأثماراً وحلويات. ويجب على كل واحد قبل الأكل أن ينفض الغبار عنه ويغسل يديه. ولاشك في أن أبناء وطني سيتهموني بالكذب ويسمونني كلباً دنساً، عندما سأروي لهم هذه الأمور الغريبة، ويضعون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا هذه الخرافات. . .
ويوم الأحد بعد وصولنا قال لي سيدي الفرنسوي: - نحن قد بلغنا هذه المدينة بسلامة، وبالقرب من كنيسة يصلي فيها القسيس فلنذهب إليها.
فذهبت معه بفرح عظيم، ورأيت في الكنيسة قديسين وعذارى، فجثوت على ركبتي وصليت قائلاً: أيها الإله القدير الموجود في كل مكان، أنا أجثو أمامك يا من خلق هذا العالم وأشكرك لأنك حميتني، إذ أنا الآن أمامك بكل عافية وسلامة وليس بي من ألم. اطلب منك أن تنظر إلي دائماً لتحميني
ثم زار المدينة فكتب: النساء هنا جميلات كالرجال، وملابس الجميع نظيفة. ولم أر في هذه البلاد حبوباً لأن الناس لا يأكلون إلا لحماً(1/47)
وخضاراً وحلويات. وعدد السكان يزيد عن عدد سكان ثلاث مقاطعات في التيبت وكلهم أغنياء، وليس بينهم فقير. ولا أحد يضر أحداً. ولولا أخي وأختي لقضيت أيامي هنا.
ثم ذكر سفره إلى باريس في السكة الحديدية فقال: لو سافرنا على الطريقة الصينية، لقضينا عشرين يوماً. لكن يوماً واحداً يكفي على الطريقة الفرنسوية. وقد جلسنا في بيوت صغيرة مرتفعة على عجلات من حديد، وسمعنا صفيراً حاداً وأخذت النار تحرك العجلات والبيوت الصغيرة تجري كالريح على طريق من حديد، مخترقة الجبال والوديان والأحراج، بل كانت تدخل في الأرض وتخرج (يشير إلى النفق=تونل).
وعلى هذه الطريقة وصل اجروب إلى منزل سيده في باريس. فاسمع كيف يصفه، وقابل
بينه وبين قصور الجان والمردة التي نقرأ وصفها في كتاب ألف ليلة وليلة.
. . . المنزل مركب من تسعة طوابق قائمة فوق بعضها بعض إلى علو شاهق، وفيها أكثر من مئة غرفة، وأرضها من الخشب الجميل اللامع، وقد فرشت فوقه الطنافس البديعة. ولا يسمح بالدخول إلى هذا القصر إلا لمن كان نظيف الثياب. وهناك علبة كبيرة تسع ثلاثة أنفار تحركها قوة غريبة فتصعد بك إلى حيث تشاء (يشير إلى المصعد: أسانسور) وفي الجدران أزرار صغيرة، تضغط عليها بإصبعك، فتبعث نوراً أو ماء أو حرارة. والغريب أن ليس هنالك نار ولا زيت ولا عين ماء. فيا لله من هذه العجائب التي تحير العقول. . .!.(1/48)
هذا تأثير مدينتنا الحديثة على ابن التيبت الساذج. ولا مجال هنا لإيراد كل ملاحظاته على ما رأى وشاهد. وله آراء وأفكار في حالتنا الاجتماعية لا تخلو من دقة النظر. وقد ذكر عرضاً علائق الرجال بالنساء فقال:
. . . وفي هذه البلاد يجلس الرجال والنساء معاً حول مائدة. ويقدم الرجل ذراعه للمرأة، فيتأبط ذراعها ويدخلان بهذه الصورة إلى غرفة الطعام. وحب الرجال للنساء شديد، فهم يحنون ظهورهم لمخاطبتهن بأعذب الأصوات، والابتسامة على ثغورهم. وإذا زنت عندهم امرأة متزوجة فلا يقتلها زوجها كما يفعل الرجل الشريف في بلادنا أو في الصين، بل هو يكاد لا يكترث للأمر. لكن الناس يضحكون كلما مر ويقولون أن جبينه يشبه جبين الثور.!! ولم أفهم المقصود من ذلك. . .؟
فالذي يطالع هذا الوصف مع ما فيه من الحقيقة، ولم تسبق له معرفة بأسرار الكهرباء والبخار، يتصور أنه يطالع سفراً من الأسفار التي نسميها خرافات.
عنترة وعلبة
يغزوان باريس
طالعت صحف باريس وما فيها عن رواية عنتر التي مثلت في ملعب إمارة مونتي كارلو وملعب الأديون - وعنتر رواية نظمها بالشعر الفرنساوي العالي شكري أفندي غانم - فما أطربني نجاح صديقي المؤلف في نظمها كما أطربني تخيل عنترة بطل البوادي والقفار، ونزيل(1/49)
المضارب والخيام، آكل الجشب، ولابس الخشن، في ثوبٍ من الخز يهز بكلامه قلب باريس، بل قلب أوروبا، كما يهز قلب العرب في شطر آسيا وشطر أفريقيا، ببيت من الشعر قد لا يناظره بمثله فيكتور هوغو، ولا يلاحقه شكسبير، ولا يدانيه دانتي.
أجل إنه ليطربني اليوم من بطل البادية، وربيب القفر، وفوقه في أم الحضارة، ناظراً إلى خليلته عبلة، وغانم يضع في فيه بلغة باريس، قوله بلغة بني عبس:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم
فيملي بهذا الشعر على أبطال الغرب كيف تكون الأبطال، ويملي على عشاقهم كيف تكون رجولة العشاق، بل يملي على كتابهم كيف يحلق الكاتب في سماء الخيال، حتى تكاد تتقطع دون الوصول إليه البصائر والأبصار.
وإذا أنشد قوله أغشى الوغى وأعف عن المغنم تمثل لعيني السامع إقدام الشجاع، ونزاهة الكريم، ومرؤة الجواد، وشهامة الغطريف. فلا تأنف باريس أن تعشق البدوي الأسود لفضائله، والفضيلة ملك الإنسانية كلها، فهي ليست بدوية ولا حضرية فأينما وجدت ملكت وسادت، وأينما أذيعت أكرمت وأجلت. وكرم الخلال وكرامة النفوس في أمة، تظهر وتبدو في لغتها وآدابها، وفي أناشيدها وأشعارها. فلا تعيبها نبرات لهجة، ولا مخارج حروف، مادامت الألفاظ وعاء للمعاني،(1/50)
ومادامت المعاني في ألفاظ اللغات كالدرر في الصدف. ولا تكون قيمتها بقائلها بل بنفسها. وإذا دلت على شيء فعلى فضل الأمة الذائعة فيها، والمأثورة عنها. وما قول عنترة العرب إلا حجة:
تعيرني العدا بسواد جلدي ... وبيض شمائلي تمحو السوادا
فتلك الشمائل البدوية لا تنكرها الفضائل الحضرية، ولا العلوم الفلسفية، مادامت حكمة الأمم
مستمدة من أخلاقها لتهذيب أخلاقها، ودام قدر الأمم مرفوعاً بفضائلها، كما يرفع قدر العرب إعلان فضائلهم بين من جهلهم.
وإني موقن بأن ناظماً كغانم، في بطل كعنترة، يستوحي روح ابن شداد بالفرنساوية، لا يعجزه أن يفتح للعربية باريس، وأن يغزو بحمالها أوروبا، إذا صال وجال، وهو يردد وينشد مع العبسي:
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غبارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي رأس من يشكو الصداعا
أنا البطل الذي خبرت عنه ... وقد عاينتني فدع السماعا
فأي قلب يجمد، وأي كبد تقسو لمثل هذا الكلام؟ بل أي أريج يفوق أريج زهرياته، إذا وصف الربيع الواصفون، وغناه المغنون وابن شداد هو القائل:
زار الربيع رياضنا وزها بها ... فنباتها جليت بأنواع الحلي
فالروض بين تألف وتهفهف ... وتعطف وتصرف وتململ
بل ما أجمل الباريسية يلبسها غانم دثار البدوية، ويطلق لسانها(1/51)
بشعر له نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، بود درك للحاجة، يدق معناه، ويلطف مبناه، وتعطف حواشيه، وتنير معانيه. كأنه إشراك القلوب، إذا بسط لها ترتمي عليه ولا تنفلت منه. . .
ألا أن لنا من كنوز آبائنا العرب الغطاريف حلياً أو لبسناها خالصة من الصدأ لبهرت لها عيون المتمدنين؛ وسلاحاً لو جردناه مشحوذ الغرار، لاستسلم له كل عاتٍ عنيد. ولكنا قصرنا وعجزنا حقبة من الدهر عن أن نزدان أمام العالم المتمدن بذياك الحلي الباهر. فقال الجاهلون مزدرين: عرب هؤلاء وما هي قيمة العرب؟ ولغة هي العربية؛ وأين هي من سامي اللغات ورقيقها؟؟
ولكنا قد أفقنا اليوم من السبات، وعرفنا قيمة ما بقي من تراثنا ولم تلعب به يد الشتات، فأبرز مردروس ألف ليلة وليلة للعالم الأوروبي بوشاح إفرنجي، فغض الروائيون أبصارهم حياء لسناها وبهائها. وأبرز آخر شعر حسن بن الخيام بثوب إنكليزي فتعشقه بعضهم حتى العبادة. وألبس الريحاني رباعيات أبي العلاء رداء سكسونياً، فكبروا له وهللوا، وسبحوا وحمدلوا، واليوم أنزل غانم إلى باريس عنترة البطل المغوار وعبلة الحسناء. فجاءتنا
صحفهم تري بطل العرب بل آداب العرب وتقاليدهم.
فالريحاني ومردروس وغانم وأضرابهم وأمثالهم هم اليوم أبطال العرب، يفتحون بعقول أجدادهم بلاد الغرب للشرق. ويعلون مقام أمتهم في العالم المتمدن. فإذا كثر عديد هؤلاء الأبطال. رد إلى العرب شرفهم الذي ابتذل بالضعف والضياع. ومجدهم الذي دفن مع ملكهم وألحد مع(1/52)
زهوهم حتى استنكروا على العارفين. وكادوا يخفون عن عيون المنقبين الباحثين، وصات كلمة عربي في أوروبا وأمريكا سباباً للعرب والمستعربين.
وقد قرأت في الصحف أن الذين شهدوا عنترة وعبلة كانوا آلافاً جنوا بهما سروراً وفرحاً. فلم تبق في نفسي ريبة بأن أولئك الألوف الذين سمعوا كلام عنترة قد عرفوا مجد العرب وفضائلهم فلا يجسر واحد منهم - أو هو يدعو على لسانه بالقطع - أن يعيب الغربي أجداده ونسبه بعدما عرف شيئاً عن مجد أولئك الأجداد ونسبهم.
فمن مصر إذن بل من الشرق العربي أمد مع كل أدب يدي إلى مصافحة غانم وشكره والثناء عليه. فليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدفع والحسام فقط، بل أجل منهم وأنبل من يفتحون القلوب باليراعة ويملكونها بخالب الفصاحة - وغانم منهم.
داود بركات
(الزهور) إنا نسدي شكري أفندي غانم خالص التهاني على فوزه الباهر ولا نمدحه إلا بما أطراه به الأجانب أنفسهم فقد كتبت مجلة الالوستراسيون في عدد 19 فبراير الفائت ما يأتي: في ملعب الأديون رواية جديدة تستحق أن تنجح - وقد نجحت نجاحاً ساطعاً - فهي ترضي العين والأذن والعقل، مؤلفها عربي باريسي وهو رئيس الغرفة التجارية العثمانية في باريس. . . . وقد أحيا شكري غانم بأشعار لطيفة صافية منسجمة انسجام الماء ذكر عنترة البطل العربي الشاعر العاشق ومثل ذلك قالت الطان والفيغارو والجورنال وغيرها من أمهات الصحف.(1/53)
وقد حادث أحد الصحافيين السيد علياً سلطان جزائر القمور عن رحلته في فرنسا وسأله عما راقه مما رأى وسمع في عاصمة التمدن والجمال فقال: إن رواية عنتر هي خير ما رأيت وسمعت. . .
فمع ابن باريس ومع ابن القمور نحيي الغانم ناشر أمجاد العرب. . . .
بذور للزراعيين
لتكن غايتك أكبر من مقدرتك، فيصبح عملك اليوم أحسن من عملك البارح، وعمل الغد أحسن من عملا ليوم.
الفضيلة الكبرى في الأعمال هي أن يكون كل عمل بذاته الغاية والواسطة. وان تكون لذته فيه لا في نتيجته.
الناس أشباح تحركها الأغراض والأهواء. وتتقاذفها في بحار الحب والبغض الرياح والأنواء.
النفوس أدوية يشترك في مزجها الله والإنسان. فمنها المرة، ومنها الحلوة، ومنها الحامضة، ومنها - وهذه اكره من كل الأدوية - ما لا طعم ولا لون لها.
إن من يكتفي بمسحة من العلم والحكمة كمن يكتفي بغسل وجهه إذا دخل الحمام. وليس بالأمر الصعب على مثل هذا أن يفوز بقصب السبق إما في الثقالة وإما في الرعونة. وإذا ركب إلى غرضه فرس سيبويه يعود وفي يده القصبتان، فنقرأ إذ نراه التعويذتين.
- أمين ريحاني(1/54)
في رياض الشعر
دمعة
سكبها كبير شعرائنا سعادة إسماعيل باشا صبري يوم مقتل المرحوم بطرس باشا غالي، فجاءت دراً مسبوكاً في أبيات غراء تفضل سعاته بإرسالها إلى المجلة وكان العدد الأول قيد الطبع. ونحن ننشرها الآن موقنين إن مثل هذه الأقوال تكون خير بلسم على كل قلب ملكوم وأشد رابط للسلام. وما أحسن السلام. . .
لهف الرياسات على راحل ... قد كان ملء العين والمسمع
لهف العلى قد عطلت من سنا ... بدر هوى من اوجها الأرفع
تبكي المرؤات على بطرس ... ذاك الهمام الماجد الأروع
فتشت - لما لم أجد مقلتي ... كفوءاً - عن الفضل ليبكي معي
فقيل لي قد سار في إثره ... يوم دفناه ولم يرجع
يا مجرياً دمع الملا أبحراً ... أدركهمو يا مرقئ الأدمع
يا نازلاً بين وفود البلى ... آنستهم يا موحش الأربع
عيني فيك اليوم قبطية ... تروي الأسى عن مسلم موجع
يهيم من وجد ومن لوعة ... في الجانب الأيسر من أضلعي
ويحفظ العهد كما شاءه ... أحمد سمحاً واسع المشرع
يا من سقاني الجم من وده ... هذا ودادي كله فاكرع
يا حاملا لقلب الكبير الذي ... لم ينقض الميثاق قم واسمع
إسماعيل صبري(1/55)
الزهرات الثلاث
أنشدها ناظمها الشاعر المصري في حفلة عقدت لتوديع عزتلو القاضي النزيه الفاضل عبد الهادي بك الجندي بمناسبة انتقاله من المحلة إلى طنطا. وقد صاغها الشاعر من بحر جديد الشطر الأول فيه أربع فاعلاتن والشطر الثاني فاعلاتن واحدة. وتفضل بإهداء هذه الزهرات النضرة إلى مجلة الزهور:
صبح الأزهار طيف ملكي يبهر ... بالزهور
يا لها بكراً كحور الخلد هبت تخطر ... في البكور
قلدت جبهتها في نسق زاهي البياض ... تاج عهن
وأعارت ثوبها من خير ألوان الرياض ... كل حسن
أمل باد وسعد مستعير شخص نور ... للعيون
وبهاء في حياء مستعير للظهور ... بالظنون
نجم صبح كل آن يجتلي فيه سناه ... فهو فجر(1/56)
من تكونين حماك الله يا هذه الفتاه؟ ... - أنا مصر
* * *
درت الأزهار ما جاءت له تلك العروس ... من مرام
غن للأزهار أبصاراً ترى سر النفوس ... من لمام
فأحست ذاك منهن وقالت قول فكر ... لا لسان
أفمنكن ثلاث يتقدمن لأجر ... يا حسان؟
* * *
قالت الوردة: ما للعدل مثلي من مثال ... فاجتليني
في بياضي واحمراري آيتا الحكم الحلال ... فاجتنيني
قالت الزنبقة الغراء: إني رسم حس ... للنزاهة(1/57)
هي شكلي وقوامي ولها عفة نفسي ... والنباهة
قالت السوسنة البيضاء شفافاً سناها ... عن سماحه
أنا والرحمة كالمرآة والوجه اشتباها ... وصباحه
* * *
بعد ذاك اجتمعت تلك المجيبات الحسان ... للهدية
في نظام اكسبتهن به تلك البنان ... صوغ حليه
حلية باليد زانتك بها مصر الفتاه ... رسم حال
رسم أبهى ما به يحلى على الدهر القضاه ... من خلال
خليل مطران(1/58)
يا شعراء الشام
يا طائر البان أثرت الغرام ... هل أنت مثلي مغرم يا حمام
جددت بي دائي وغادرتني ... كأنني سقم بصدر السقام
لو فرقوا ما بي على أمة ... عزريل لا يحسن فيها القيام
جسم كظن المرء في ربه ... لا تدرك الناس له من نظام
كأنني إن تعصف الربح في ... ركب ابن داوود وبردي لتام
وغن ضعفي عز بأسيهما ... لا الغاز بي قام ولا الجن قام
حظ كحظ البدر عند الضحى ... وعزمة جازت طباق الغمام
وعزة قد أكبرت ربها ... عن صحبة الجيش وحمل الحسام
وسيرة مثل افترار الحيا ... أو كابتسام البدر تحت الظلام
لا كنت لي يا أدبي حرفة ... إن كان من يعليك قدراً يضام
مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشام؟؟؟
لو أنصفتنا قومنا طأطأت ... - إن قيل راحوا أو غدوا - كل هام
هل انتم في أرضكم مثلنا ... ترون سحب الجود تبدو جهام
(لأولا بنيات كزغب القطا) ... ونسوة خطبي عليها جسام
وحب أرضٍ طال عودي بها ... وبعض قوم في رباها كرام(1/59)
لما وضعنا الدهر رحلاً بها ... ولا ضربنا في رباها خيام
ولانتجعنا الشام حتى نرى ... نضارة العيش وطيب المقام
- عبد الحليم المصري
أرسل إلينا حضرة الشاعر الأديب هذه الأبيات وطلب جواباً عليها من شعراء سورية. ثم جاءنا منه كتاب يذكر فيه اجتماعه بصديقه محمد أفندي إمام العبد وتلاوة هذه القصيدة عليه قال:. . . فما وصلت إلى ذكر الشعراء في مصر حتى نال منه الوجدان واغرورقت عيناه وارتد حزنه لإلى فؤادي بعد أن ارتسم على أسارير الجبهة، فأخذ يقرأ هذه السطور الخيالية بلسان الشاعرية ويسابقه في النطق بها لسان الدمع. . .
وقد نظم المصري في ذلك بيتين أضافهما إلى قصيدته وهما:
أصبحت لا أصبحت في حالة ... وهكذا أمسى صديقي إمام
إن كان هذا الحظ لا ينجلي ... يا دولة الشعر عليك السلام
وموعدنا العدد القادم إن شاء الله في نشر جواب شعراء سورية ليطلعونا على ما هم عليه. . .(1/60)
في حدائق العرب
ننشر في هذا الباب صفحات مطوية لمشاهير الكتاب الغابرين. لأن في كتبهم ومخطوطاتهم التي نسجت عليها عناكب الأيام كنوزاً نحن في أشد الحاجة إليها. وها نحن نورد اليوم ملخص فصل كتبه فارس الشدياق منذ 55 سنة عن الألقاب والمغالاة في الكتابة. وقلما قرأنا كاتباً عربياً فيه ملكة الملاحظة - التي يفاخر بها الإفرنج ويقولون إنها سر الإجادة في الإنشاء - أقوى مما هي في الشدياق ولا نتعرض لمبادئ الرجل وأطواره بل نورد شيئاً من قلمه لبيان أسلوبه الكتابي. وهو مأخوذ من كتابه الساق على الساق المطبوع في باريس على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي.
وصل الفارياق - وهو اسم مستعار لنفس المؤلف - إلى مصر فهداه أحد الظرفاء إلى شاعر مصري له وجاهة ونباهة عند جميع الأعيان. وهنا نترك الكلام للمؤلف:
الألقاب والمغالاة
(قال الظريف) نصحي لك أن تكتب كتاباً إلى هذا العلامة وتلتمس منه فيما تطري به عليه مواجهته. وإذا تكرم بذلك فاذكر له حينئذ ما أنت تعاينه واستنجد به. فلا بد من أن يجيبك، فإنه رجل متصف بمكارم الأخلاق ويحب دغدغة الافتخار. ولاسيما أنه يرغب في مجالسة ذوي الأدب وتيسير أسباب معيشتهم. فتلطف إليه في المقال، وأنا ضامن لك أن تفوز منه بالآمال. فشكره الفارياق على نصحه ورجع إلى محله راضياً مستبشراً. فلما جن الليل أخذ القلم والقرطاس وكتب ما نصه:(1/61)
أهدي سلاماً لو حمله النسيم لعطر الآفاق، ولو جعل للبدر هالة لما اعتراه المحاق، ولو مزجت به الصهباء لما أعقبت شربها صداعاً، ولو استفه مريض أو لعقه لما لقي برحاء أوجاعاً، ولو علق على شجر لزهت في الحال أوراقها ولو في الخريف، ولو سقيه الروض لأنبت من كل زهر بهيج طريف، ولو جعل على أوتار عود لأطربت دون عازف، ولو تغنى به في مجلس لأغنى عن المشموم والمعازف، ولو علق في الآذان لكان شنوفاً، ولو صقل به سيف كليل لجاء رهيفاً، ولو مثل لكان حدائق ورياضً، وسلسبيلاً ومحاضاً، ولو نيط بالعمائم لأغنى عن التمائم، ول تحتم به ولهان لا جزأه مجزأ السلوان، ولو كتب على رجام لألهى الثاكل عن النواح، أو على خصر هيفاء لقام لها مقام الوشاح، أو على أنف
مزكوم لما أحوجه إلى السعوط، أو على ساق أعرج لكان له من قفزه سبق وفروط، أو على لسان أبكم لانحلت عقدته، أو على كف بخيل لهان عليه في البذل ذهبه وفضته. . . وتحيات فاخرة، ذكية عاطرة، أرق من النسيم، وأشهى من العافية على قلب السقيم، وأجلى للعين من الأثمد، وأغلى للناقد من العسجد، وأصفى من الماء الزلال، واعلق بالقلب من أمل الوصال. . . وأزهر من نور الصباح، وأزهى من نور الأقاح، وأثمن من الجوهر النفيس، وأعز عند البستي من التجنيس، وعند أبي العتاهية من الزهديات، وعند أبي نواس من الخمريات، وعند الفرزدق من الفخريات، وعند جرير من الغزليات، وعند أبي تمام من الحكم، وعند المتنبي من جزل الكلم تُهدى إلى الجناب المكرم، المقام المحترم، ملاذ الملهوفين، مستغاث(1/62)
المضيعين، منهل القاصدين، مورد الطالبين. . . إلخ.
(ثم ذكر حاجته إليه). . . قال الفارياق:
فلما بلغت الرسالة إلى المذكور وطالع ما في شرح السلام من التشابيه المكلفة، لم يتمالك أن ضحك منها وقهقه، وقال لبعض جلسائه ممن ألم بالأدب: سبحان الله قد رأيت أكثر الكتاب يتهوسون في إهداء السلام والتحيات إلى المخاطب كأنما هم مهدون إليه عرش بلقيس أو خاتم سيدنا سليمان. فتراهم يشبهونه بما ليس يشبهه، ويغرقونه في الإغراق، ويغلونه في الغلو، حتى يأتي مبلولاً محروقاً. . . وما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة، وبنظم الفقر المتماثلة في المعنى. مع أن العالم يتأتى له أن يبدي علمه بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ بليغة المعنى. وهذه ألف ومئتا سنة قد مضت ومازلنا نرى زيداً يلوك ما لفظه عمرو، وعمراً يمضغ ما قاله زيد، وقد سرى هذا الداء في جميع الكتاب.
(ثم استطرد الكاتب بعد كلام بمعنى ما تقدم إلى ذكر الألقاب بطريقة التهكمية المعتادة قال:)
حد اللقب عند المشرقيين أنه هينة ناتئة، أو زنمة أو علاوة زائدة متدلدلة تناط بكونية الإنسان، وعليه قول صاحب القاموس العلاقي الألقاب لأنها تعلق على الناس. وعند الغربيين أي عند الإفرنج أنه جليدة تكوّر في الجسم. وشرح ذلك أن الهنة يمكن قطعها واستئصالها مع السهولة. وكذا الزنمة وكذا العلاوة يمكن ركسها وقلبها. فأما الجليدة فلا(1/63)
يمكن فصلها عن الجسم إلا بإيصال الضرر إلى صاحبه. وحاشية ذلك، إذ الشرح لابد له
من حاشية، إن الزنمة عند أهل الشرق غير موروثة، والجليدة عند الإفرنج متوارثة كابراً عن صاغر. مثال ذلك لقب الباشا والبيك والأفندي والآغا بل الملك إنما هو محصور في ذات الملقب به فلا ينطلق منه إلى ولده، فقد يمكن أن يكون ابن الوزير أو املك كاتباً أو نوتياً. أما عند الإفرنج فلا يصح أن يقال لابن المركيز إلا مركيز. . .
واصل الزنمة والجليدة في الغالب أكال يحدث في ذوي الأمر والنهي، لهيجان الدم عليهم. فلا يمكن تسكين هذا الهيجان وحك ذلك الأكال إلا بإحداث الهنة أو الجليدة. والغرض من كل ذلك انفراد شخص عن غيره بصفة ما.
. . . وأعلم أن الخواجا والمعلم والشيخ ليست ألقاباً معدودة في الهنات ولا في الجليدات. . . إنما هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أطلق على المسمى، وهي غير مخيطة فيه ولا مكفوفة، ولا مسرجة ولا ملفوفة. بل هي كالبطاقة شدت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلا أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينه وبينها من علاقة. . .
فارس الشدياق(1/64)
أول ممثل شرقي
ونعني به جورج أفندي أبيض، أو كما تسميه جرائد أوروبا المسيو أبيض الممثل المصري الفنى.
لا تدهش أيها القارئ لهذا العنوان، ولا تستغرب هذا الوصف إذا ما وصفنا به هذا الشاب مع كثرة الأجواق ووفرة الممثلين عندنا. فهو أول ممثل تخرج في المدارس العالية ودرس هذا الفن على أربابه في أوروبا شأن الممثلين في الغرب.
أذاعت الجرائد المحلية خبر قدومه القريب إلى الإسكندرية ومصر مع جوق فرنسوي. ورحبت به تلك الصحف ترحيباً يستحقه، كما ودعته صحف باريس بأطيب كلمات الوداع، وأحر كلمات التنشيط، وما فتحت هذه الأيام جريدة فرنسوية حتى رأيت فيها رسم أبيض وقرأت فيها ثناء جماً على حسن استعداده.
قالت الطان: أحرز الفن التمثيلي الفرنسوي نجاحاً جديداً بتخريج هذا الشاب الأجنبي الذي أعرب عن صفات بديعة.
وقالت الماتان: سيسمع المصريون لأول مرة رواياتنا الجميلة على لسان ممثل مصري.
وقالت الجورنال: فتى كان بالأمس مجهولاً وسيصبح غداً مشهوراً.
وأفاضت هذه الجرائد وغيرها كالفيغارو والبتي جورنال وجريدة المراسح في الكلام عن ممثلنا الجديد.(1/65)
شكري غانم فتح الملاعب الفرنسوية بروايته، وجورج أبيض استولى عليها بإلقائه.
عرفت جورج أبيض منذ سنتين وقابلته طويلاً ثاني مرة منذ سنة قبل رجوعه إلى باريس لتأليف الجوق العائد إلينا به الآن. وقد سمعته يمثل قطعاً من أشهر الروايات في بعض المجالس الخصوصية. فرأيت منه ممثلاً بارعاً قادراً، ينشد الشعر بفخامة وجزالة في الصوت، ولطافة ورشاقة في الحركة، وحدة وبريق في العينين، فتتغلغل نبراته من السمع إلى القلب، وتستوقف حركاته النظر، وتنفذ نظراته في الفؤاد، حتى إذا ما ترك المرسح وعاد يحدثك، رأيت فيه شاباً لطيفاً طيب المعشر، بل تكاد تجد فيه شيئاً من البرودة والجمود.
وقد خصته الطبيعة بصفات ثمينة للمثل، فهو عذب النطق فصيحه، عريض الصدر قويه، يتدفق صحة وعافية، يحب فنه الجديد حباً أشبه العبادة، وقد قرن كل ذلك بإرادة شديدة
حملته على تذليل كل الصعاب للوصول إلى تحقيق أمنيته، ومضاهاة الغربيين في فن الإلقاء.
وقف على المرسح لأول مرة في مدرسة الحكمة في بيروت حيث مثل وهو تلميذ صغير دوراً في رواية الدراهم الحمراء فسر وأعجب من سمعه. وجعل التمثيل منذ ذاك العهد نصب عينيه.
كبر التلميذ وأنهى دروسه، ودخل العالم ذلك المرسح الكبير حيث تتمثل أمامنا كل يوم ألف رواية. .
واتفق منذ خمس سنوات أنه لما كان رئيساً لمحطة سيدي جابر أقيمت(1/66)
حفلة خيرية في الإسكندرية تحت رعاية سمو الجناب الخديوي، مثلت فيه رواية البرج الهائل وكان جورج أبيض يمثل فيها دور بوريدان. فسر سمو أمير مصر من حسن استعداد الشاب وما عرف عن ميله إلى مزاولة تشخيص الروايات. فأرسله إلى باريس، ليتقن هذا الفن، ويطلع على دقائق أسراره.
ذهب الشاب إلى عاصمة الفن الكبرى وملء قلبه السرور وملء صدره النشاط. فقضى هناك خمس سنوات يدرس ويتمرن على أيدي الممثل الأشهر سلفان حتى أصبح الأستاذ مراراً كثيرة يعهد بأدواره إلى تلميذه.
قال لي أبيض قبيل سفره الأخير: أنا ذاهب هذه المرة لأعود إليكم بجوق سأؤلفه هناك فأعرض على أبناء وطني نتيجة جدي وكدي فعسى أن يرضوا بها.
وتلقيت منه رسالة في هذا الأسبوع يقول فيها: ها قد أنجزت وعدي، ووصلت إلى غايتي. في آخر الشهر تقابلني في الأوبرا الخديوية إن شاء الله وهنا سنقابله، وهناك سنصفق له إعجاباً، في روايات: بريتانيكوس وأدويب الملك والبورغراف وهوراس واندروماخ إلخ. . .
ومهما أخلصنا له التهاني الآن، ومهما أسمعناه من كلمات الإطراء فهي لا تعادل ما سنقابله به يوم يبرز لنا في رواية عربية مع جوق وطني، فيومذاك فقط يكون قد قام بالخدمة المطلوبة.(1/67)
في جنائن الغرب
ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً. لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني والأفكار الجديدة، ويطلعنا على مجرى الحركة الأدبية عند الأمم.
رواية شانتكلير
ومن لم يسمع برواية شانتكلير؟ فإن ذكر مؤلفها - ادمون روستان - قد طبق الآفاق. وحديثها قد شغل الصحف والأندية والمجتمعات الأدبية لما فيها من الجمال الفتان والتفنن الغريب.
1 - حول الرواية
قضى روستان عدة سنين في تنسيق مشاهد هذه الرواية وصياغة أشعارها والعالم الأدبي ينتظر بذاهب الصبر شقيقة روايتي الايجلون وسيرانو ده برجراك إلى أن كان الشهر الماضي فبرزت رواية شانتكلير على ملعب بورت سان مارتن فقوبلت بهاتف إعجاب لم تصادفه رواية قبلها وتردد صداها من باريس إلى شمالي أوروبا وجنوبا، وإلى شرقا وغربها، بل تجاوز البحار وبلغ أربعة أنحاء المعمور.
عمد المؤلف إلى الحيوانات وجعلها أشخاصاً ناطقة في روايته بما بهر الأبصار وخلب الألباب من رونق المناظر وجزالة الشعر.
وقد عرف القراء أن مدير مجلة الالوستراسيون قد حفظ لنفسه حق نشر هذه الرواية في مجلته مقابل مبلغ مليون من الفرنكات. وأفادنا روتر(1/68)
أن الريش الذي لزم لملابس الممثلين كلف خمسين ألف فرنك وكلفت الأسلاك والأقمشة أربعين ألف. وبلغ وزن الريش تسعمائة كيلو وبلغت ألوانه المختلفة اثنين وثلاثين لوناً. وقد وضع منه على رأس مدام سيمون (ممثلة دور الدجاجة) ما يساوي خمسمئة فرنك. وكلف ريس الديك (بطل الرواية) ألفاً ومئتي فرنك. أما الستارات فهي أبدع ما شوهد على ملعب تمثيل فما قول الشيخ سلامة وإسكندر أفندي فرج؟. .
وفي الرواية من الحيوانات الممثلة مئة وثلاثون حيواناً من ذوات الأجنحة وذوات الأربع منها: ثمانية وأربعون نوعاً من الديوك والدجاج وعشرون بومة وثمانية أرانب ومثلها من
الضفادع وثلاث حمامات وكلبان وثلاثة وطاويط وفأر وخلد وفراشة ونحل إلخ. . .
وقد اشتغل بالملابس اللازمة ثلاثون عاملاً مدة أربعة أشهر تسع ساعات في اليوم أعني 32 ألفاً و400 ساعة. واشترك في معداتها أرباب ثماني عشرة حرفة من خياطين ونساجين ونجارين وحفارين ونقاشين ومزينين إلخ. . .
ومن عرف كل ذلك يفهم معنى قول مدير المرسح عند رفع الستار لتمثل الرواية لأول مرة:
- إن ستمئة ألف فرنك معلقة بهذا الستار. . . .
وقد بلغت نفقات التلغرافات التي تبودلت بشأن ترجمة شانتكلير وتمثيلها في عواصم أوروبا عشرين ألف فرنك. وستترجم إلى تسع عشرة لغة بعد دفع رسوم الترجمة. ومثلت خلال شهر واحد في أماكن مختلفة(1/69)
بين جبل طارق وبطرسبورج أربعمئة مرة أعني أكثر من ثلاث عشرة مرة في كل ليلة. والمفهوم أننا سنراها قريباً في مصر. فأهلاً ومرحباً. . .
وبلغ دخل المرسح في الليلة الأولى خمسة وثلاثين ألف فرنك. ويقدرون أن ادمون روستان سيربح من تمثيلها ونشرها بالطبع عشرة ملايين فرنك. . فما رأي المؤلفين وأصحاب المطابع في مصر وسورية. .؟
وكان المسيو جيتري ممثل دور الديك قد أبى تمثيل دوره دون إشارات بيديه. وكان هذا موضوع خلاف بينه وبين المؤلف. فاتفق ذات يوم أن زار الممثل أحد أصدقائه وكان المسيو جيتري في الحمام ينشد تحية الشمس من دوره على خرير الماء فسمعه صديقه فشاقته تلك النبرات الخالبة فباغته في غرفة الحمام فوجده ضاماً يديه إلى فخذيه رافع الرأس شاخص العينين يتلو دوره على أفخم أسلوب. فصاح به: ما أبدعك هكذا. . .! فاقتنع الممثل ورضي بإخفاء يديه تحت الجناحين.
2 - الموضوع
أقام أصحاب الحق بنشر رواية شانتكلير قضية على بعض المجلات والصحف يتقاضونها مبلغاً وافراً من المال لأنها نشرت قبل التمثيل موضوع هذه الرواية وبعض فقرات تمكنت من الحصول عليها. أما وقد برزت الرواية الآن على الملاعب ونشرتها المجلة صاحبة الحق بنشرها، فلا خوف علينا من القضايا إذا نحن لخصنا موضوعا للقراء وترجمنا لهم
بعض مقاطيع منها.(1/70)
الفصل الأول: يمثل المرسح حوش الدجاج في إحدى المزارع. وتبتدئ الرواية بمؤامرة الطيور الداجنة على الديك (شانتكلير) لأنه قد استبد بسلطته وهو فوق ذلك يدعي أن الشمس لا تشرق في كل صباح إلا بفضل صياحه. وبينما ذوات الأجنحة على هذه الحال، إذا بطلقات نارية قد دوت في الفضاء، ووقعت في الحوش دجاجة برية. فأسرع الديك إلى استقبالها وما لبث أن وقع في جبال هواها. وبينما هو يطارحها أحاديث الغرام، تأخذ هي تصف للطيور الداجنة أفضيلة عيشة الطيور في الغابات والأحراج، وتشرح أجمل شرح معنى الحرية.
الفصل الثاني: يمثل المرسح جانباً من الغابة في الليل، وطيور الظلام تتواطئ على الإيقاع بالديك، لأن صياحه في كل صباح ينذرها بطلوع الشمس التي لا تتحملها عيون طيور الليل. وبينما طائر البوم يخطب في الجماعة محرضاً على الفتك بشانتكلير يسمع صياح الديك معناً إقبال كتائب النور واندحار جيوش الظلام. وكان الديك قد غادر حوش الدجاج في المزرعة، ولحق بالدجاجة البرية في الغابة. ولما كان قضى ليلته بعيداً عن رفيقاته الداجنات، متتبعاً إثر عشيقته الجديدة، أحب أن يستطلع طلع أخبارهن، فعمد إلى زهرة هناك ليكلمهن بالتلفون؟ فعرف ما أصابهن من الغم والهم أثناء غيابه عن مملكته، فزاده ذلك إعجاباً بنفسه. وبينما هو على هذه الحالة أقبلت عليه الدجاجة البرية، وأخذت تعاتبه عتاب الأحباب على انشغاله بغيرها عنها. فعاد يبثها ما بين جناحيه من لواعج الهيام. . .(1/71)
الفصل الثالث: لا تزال في الغابة بين أشجار السنديان والصنوبر وشانتكلير والدجاجة البرية في شهرهما العسلي. وهي لا تزال تغريه بالحرية وتفند قوله بأن شروق الشمس متوقف على صياحه. على انه يبقى متشبثاً برأيه ومعتقداً بأن مبعث النور من حلقه. وكانت جماعة الضفادع قد عرفت بمجيئه وفضلت صياحه على تغريد البلبل سلطان الغابة فقصدته لتعرض عليه إقامته مقام البلبل الغرد. فوعدها الديك خيراً. وقصد البلبل، وكان هذا واقفاً على غصن شجرة قريبة، وبينما هو يحادثه أطلقت بندقية فأصاب طلقها البلبل، ووقع على الحضيض وظهر كلب الصياد حارس المزرعة ليأخذ الطريدة، فوجد شانتكلير صديقه، فعرض عليه الرجوع معه إلى المزرعة فأبى الديك لأن الحرية والحب قد أسرا
فؤاده على ما فيهما من المخاطر. فعاد الكلب حزيناً، والديك يصفق بجناحيه ويصيح منشداً نشيد الغابة.
الفصل الرابع: وفيه حل عقدة الرواية على أجمل أسلوب فإن الدجاجة البرية - وقد صور فيها المؤلف الأنثى من الحيوانات الناطقة وغير الناطقة - أسكرت الديك بحبها وقضت الليل تغازله حتى أنه استغرق في النوم صباحاً، وأشرقت الشمس وهو لا يعي. ولما أفاق من سباته العميق، وجد كوكب النهار قد اعتلى في الأفق على عادته دون الحاجة إلى صياحه. فحزن واكتأب واضمحلت أحلامه واشتد به اليأس حتى قضي عليه. . .(1/72)
3 - مقاطيع من الرواية
وها نحن نترجم بعض فقر من هذه الرواية الشائقة لتكون أنموذجاً. يعرف القارئ منه بعض ما فيها من رقيق الشعور وسامي التصورات. ومن طالع الأصل يجد هذه الترجمة خيالاً ضئيلاً له لأنه يشق على المترجم أن يؤدي في ترجمته تلاعب روستان في الكلام والمعاني تلاعباً يستحيل أحياناً نقله إلى لغة غير اللغة التي كتب فيها.
نشيد الشمس
وهي قصيدة ينشدها الديك في الفصل الأول ليحيي الشمس عند بزوغها:
أنا أعبدك أيتها الشمس، أنت التي تنشف دموع أدق النباتات، وتحول الزهرة الذابلة إلى فراشة حية عندما يتلاعب هواء جبال البيرينه بزهر اللوز في وادي روسيليون بعد أن ينثره كما ينثر حظوظ البشر. . .
أعبدك يا من تدخل أشعتها في كل زهرة وفي كل كوخ وتبارك كل جبهة وتنضج كل خلية فهي تتجزأ ولكنها تبقى كاملة كحب الأم.
أنا أتغنى بك ويمكنك أن تقبليني عابداً لك يا من تنعكس على فقاقيع الدنان الزرقاء، وتختار عند مغيبها زجاج نافذة حقيرة لترسل وداعها الأخير.
أنت تديرين زهرة دوار الشمس وتضيئين شقيقي الذهبي في أعلى القبة. وعند ما تمرين من خلال أغصان الزيزفون تعكسين(1/73)
وتحركين على الأرض دائرات ساطعة يستوقف جمالها الماشي فلا يجرأ أن يدوسها.
تحولين طلاء الآنية إلى ترصيع بديع كما تحولين الخرقة إلى لواء خفاق. فالمجد لك في
الحقول، ولك المجد في الكروم. ولتكوني مباركة بين العشب وعلى رتاج القصور، في عين الضب وعلى جناح الإوز اللامع. . .
أنت تشقين لكل مخلوق شقيقاً يمتد وراءه فأوجدت لكل شيء ظلاً كثيراً ما يكون أبهى منه وهكذا جعلت كل ما يبهجنا مزدوجاً.
أعبك يا شمس: أنت تنثرين ورداً في الهواء، وتنيرين شعاعاً في الماء، وتضعين إلهاً في الأدغال. فتؤلهين الشجرة الشاحبة. فلولاك أيتها الشمس لبقيت الأشياء على ماهيتها.
معنى صياح الديك
في الفصل الثاني تحاول الدجاجة البرية أن تعرف من الديك سر صياحه. فيتمنع عن أن يبوح به، ثم يتغلب عليه الحب فيأخذ يشرح ذلك بأبيات بديعة كأنه الشاعر يصف مهمته في هذه الدنيا:
الديك: لاحظيني وأنا بذاهب الصبر ومنتهى العجب أجرح الأرض بأظفاري كأنني أفتش دائماً في الأرض عن شيء ما. . .
الدجاجة البرية: تكون على ما أعرف تفتش حينذاك عن شيء من الحبوب.(1/74)
الديك: لا ليس ذلك ما أبحث عنه. وإذا وجدت عرضاً في حين من الأحيان شيئاً من الحب فإني أدعه لدجاجاتي.
الدجاجة: وعم تفتش إذن وأنت تبحث في الأرض. .؟
الديك: أفتش عن مكان أنشب فيه لأصيح، ولا أصيح إلا متى تمكنت أظافري في الأرض بعد تقليه العشب وإبعاد الحصى. وعند ما تخالط نفسي الأرض الطيبة أغني وأنشد. وهذا بعض سر صياحي. وهو لا يشبه الغاني التي تنشد بعد التفتيش عنها ولكنه يصعد من الأرض إلي كما تصعد المادة الحيوية إلى الشجرة. ويكون ذلك خصوصاً عندما يقف الفجر متردداً على طرف السماء القاتمة فتتكلم الأرض فيّ ولا أبقى في تلك الساعة طائراً أياً كان. بل أصير النفير الذي ينطلق منه صوت الأرض إلى السماء. وهذا الصراخ الذي ينبعث من الأرض هو صراخ الشوق إلى النور، هو هتاف الحب الشديد الهائل نحو ذاك الكائن الذهبي الذي نسميه للنهار وهو ما تتوق إليه كل الكائنات. وهو هتاف الرجاء الذي يبعثه الحقل لمبتل طالباً قوس قزح لكل بقعة خضراء، والغابة راجيةً نوراً لكل منعطف
مظلم فيها.
هذا الهتاف الذي يمر بي ليصعد إلى السماء الزرقاء هو هتاف كل ما يشعر أنه في هاوية وقد غضبت عليه الشمس دون أن يعرف السبب. هو هتاف الوردة الواجفة وحدها في الظلام، هو هتاف الهشيم الذي يريد أن ينشف لينقل إلى الرحى، هو هتاف الأدوات وقد تركها الحاصد في الخلاء(1/75)
فباتت تخشى الصدأ، هو هتاف كل أبيض ناصع ليكون لامعاً ساطعاً. هو هتاف كل الحيوانات الطاهرة التي لا تود ستر أعمالها، هو هتاف النهر الذي يريد أن تصل عين الناظر إلى قمره، هو هتاف الوحل الذي يريد أن ينشف ليعود تربة خصبة، هو هتاف فخيم ينطلق من المزارع التي تريد أن تشعر بالنبات يتحرك في جوفها، هو هتاف الشجرة التي تريد أن تزيد على زهرها زهراً، هو هتاف عنقود العنب الأخضر الذي يريد أن يحمرّ جانبه، هو هتاف الجسر الذي يتشوف إلى خفقان الأقدام عليه، وإلى تلاعب ظل العصافير بين ظل الأغصان فوقه، هو هتاف كل من يريد الإنشاد وخلع ثياب الحداد، والعودة إلى الحياة. . . هو هتاف إلى النور ينطلق من كل جمال وكل عافية، ومن كل من يريدان يعمل عمله في النور فيرى ذلك العمل ويراه الغير.
. . . وعندما يتصاعد في هذا النداء للنهار أكبر نفسي لتكون أكثر اتساعاً وبالتالي أكثر رنيناً. وقبل أن أطلق هذا النداء أردده في صدري بخشوع ثم ينبعث صياحي واضحاً قاطعاً فخيماً حتى أن الأفق الخافق احمراراً يطيع ندائي هذا. وعبثاً يحاول الليل أن يرضيني بنور الغلس الضئيل فإني لا أزال أصيح حتى أجل الشمس تتلألأ.(1/76)
روزفلت في وادي النيل
مر مستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة سابقاً بوادي النيل أثناء عودته من الصيد والقنص في أواسط أفريقيا فقال لنا أشياء كثيرة في الخطب والمحاضرات التي ألقاها وأعربنا له عن أشياء كثيرة على صفحات جرائدنا السيارة. وها نحن نثبت شيئاً من كل ذلك.
1 - ما قال لنا
* من خطبة ألقاها في الخرطوم في 16 مارس
لا أريد أن أرى كلية من كليات الإرسالية جاعلة غايتها الرئيسية من التعليم مجرد تخريج طلبة لإحراز الوظائف في مناصب الحكومة. بل أريد أن أرى المتخرج مستعداً للعمل باستقلال وبدون اهتمام بأية مساعدة ينالها من راتب يتقاضاه من الحكومة. فإن أفضل الوطنيين شأناً هو من برع في الهندسة أو الزراعة أو الصناعة. ومن سوء الحظ أن يسري في الأذهان سواء في أمريكا وأوروبا وأفريقيا فكرة مآلها أن الرجل المتعلم يجب أن يجعل غايته الأولى التوظف في الحكومة.
من كلام قاله في الوليمة التي أعدها له حضرة الوجيه جورج بك ويصا على النيل
إذا لم أستطع أن أزور إلا بلاداً واحدة فإني أزور مصر وأفضلها على كل بلاد أخرى، وإذا أردت أن أرسل ابني لتكميل دروسه بالسياحة والمشاهدة فإني أرسله إلى القطر المصري ليرى آثاره ويقابل بين درجات ماضيه وحاضره. (وتكلم عن أجداد المصريين والسوريين فقال) أنتم(1/77)
أعرق في العمران منا، فإنه لما كان أسلافكم المصريون والفينيقيون يبنون المدن ويجوبون البحار كان أسلافنا يعيشون في غيابات الجهل وغابات التوحش.
* من كلام وجهه إلى ممثلي الصحافة المصرية لما زاروه في فندق شبرد في 27 مارس
إن كانت عندي كلمة نصح للمصري فهي أن يعامل المسلم المسيحي بتمام العدل كما يعامل المسيحي المسلم. إني انصح بهذا هنا، وحيثما كان لي نفوذ ألح في عمله. ولما كانت القوة في يدي لم أكن أسمح للمسيحي بأن يظلم مسلماً ولا لمسلم بأن يظلم مسيحياً وما دام لي شيء من النفوذ لا أسمح بشيء من ذلك. . . إن في أيدي رجالي الصحافة سلاحاً من أمضى السلاح في العصر الحديث فيجب أن يستعملوه إلا لمقاصد حسنة، فإن محرر
الجريدة أو مراسلها في هذا الزمان إنما هو خادم عمومي.
* من المحاضرة التي ألقاها في الجامعة المصرية في 28 مارس
تجنبوا الادعاء الفارغ كما تتجنبون التعصب الديني والجنسي والسياسي. وأهم من تجنب النقص العلمي أن تتجنبوا النقص الأدبي. وعل الذين يذهبون إلى أوروبا أن يشعروا أن هناك أموراً كثيرة يجب أن يتعلموها وأموراً كثيرة يجب أن يتجنبوها، فليأتوا إلى بلادهم بالحسنات ولينبذوا ظهرياً السيئات واذكروا أن الأخلاق أهم من الصفات، ولا يفوتنكم أن الأمر الخطير هو أن تتم الأعمال بأمانة وكفاءة بقطع النظر عن مركز الرجل العامل سواء في ذلك الرفيع أو الوضيع مادام عمله للمجموع(1/78)
2 - ما قلناه له
* من خطاب مفتوح لسعاد الشيخ علي يوسف مدير سياسة المؤيد
أيها الضيف العظيم: إنك الآن تخترق وادي النيل وترى النيل تكتنفه المزارع وأزهار الربيع من جانبه وترى الجو رائقاً والهواء صافياً والسكينة تملأ ربوع البلاد، فلا تظن أن هذه منحة اللورد كرومر التي منحها البلاد في ربع القرن الذي أقامه.
* من قصيدة لشوقي بك
قف بتلك (القصور) في اليم غرقى ... ممسكاً بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأبدين بضا
مشرفات على الزوال وكانت ... مشرفات على الكواكب نهضا
صنعة تدهش العقول وفن ... كان إتقانه على القوم فرضا
وأنا المحتفي بتاريخ مصر ... من يصن مجد قومه صان عرضا
لم تمت أمة ولا باد شعب ... أقرضوا الذكر والأحاديث قرضا
قل لها في الدعاء لو كان يجدي ... يا سماء الجلال لا صرت أرضا
يا إمام الشعوب بالأمس واليو ... م ستعطى من الثناء فترضى
مصر بالنازلين من ساح (معن) ... وحمى الجود (حاتم) الجود أفضى
كن ظهيراً لأهلها ونصيراً ... وأبذل النصح بعد ذلك محضا
قل لقوم على (الولايات) أيقا ... ظ إذا ذاقت البرية غمضا
شيمة النيل أن يفي وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا(1/79)
* من قصيدة لحافظ أفندي إبراهيم
قف غداً أيها الرئيس وعلم ... أهل مصر حرية التعبير
وأخبر الناس كيف سدتم على النا ... س وجئتم بمعجزات الدهور
وملكتم أعنة الريح والما ... ء ودستم على رقاب العصور
قف وعدد مآثر العلم واذكر ... نعم الله ذكر عبد شكور
وإذا ما ذكرت أنسه الكبرى فلا تنس نعمة الدستور
إنما النيل والميسيسيبي صنوا ... ن هما حليتان للمعمور
وعجيب يفوز هذا باطلا ... ق وهذا في ذلة المأسور
* الدكتور شبلي شميل
أحيي فيك مروض الوحوش - وحوش المال في أمريكا ووحوش الحيوان في أفريقيا - وقد لا تكون مصيباً في هذه، ولكنك مصيب في تلك، فأهلاً وسهلاً بقاتل الوحشين.
النظرات والريحانيات
أبرز عالم الطباعة إلى عالم القراءة في هذا الشهر كتابين نفيسين، بل(1/80)
سفرين جليلين. جادت علينا بالأولو ادي النيل ونفحتنا بالثاني جبال لبنان. بعد أن أقحطت هذه وتلك مدة من الزمن، وبخلت علينا سماؤهما بما يشفي الغليل من المزن. المنفلوطي صاحب النظرات الصائبات عرفته(1/81)
مصر وتنافلت نفثاته صحف الأقطار فعرفته البلاد العربية، والريحاني صاحب الريحانيات الزهرات عرفته سورية وأمريكا ومصر كاتباً عربيةً كما عرفه الأنكلوساكسون كاتباً إنكليزياً، ولكلا الكاتبين مقام رفيع في قومه، ومنزلة سامية عند قرائه. وهما يتشابهان بأشياء ويختلفان بأشياء.
عرفت الاثنين فعرفت فيهما نفسين منزهتين وإن اختلفا في المبدأ والنظر إلى الأمور. يدافع كل منهما عن رأيه وفكره دون أن يغضبك في رأيك وفكرك، رائدهما الوئام، وغايتهما السلام، يقول لك المنفلوطي:
ورضا البعض فيه للبعض سخط ... ورضا الكل غاية لا تنال
ويقول الريحاني لقارئه: في كل حالٍ لا أنسى انك أكلت من جفنتي وشربت من إبريقي ونمت في خيمتي فأنت إذن أخي وإن كنت خصمي، فإن افترقنا فكما ترافقنا متحابين لا متخاصمين. فقد تجد بعد هذا في آراء الكاتبين وأحكامهما في العالم الكتابي أو الاجتماعي ما لا يوافق رأيك أو حكمك ولكنك لا تغضب ولو رأيت منهما ما يؤلم.
قال أحد المؤرخين: يختلف الحكم على الثورة الفرنسوية باختلاف المكان الذي نظر الناس إليها منه. فمنهم من رآها وهو في الشارع، ومنهم من رآها من شرفات بيته، ومنهم من رآها من أعلى آلة الإعدام، وكل يحكم حسب ما رأى.
نظر المنفلوطي والريحاني إلى المجتمع الإنساني، فحكم عليه كل منهما حسب المكان الذي وقف فيه لينظر: لم يعرف الأول من بلاد الله إلا مصر ولكن مصر مجتمع قارات ثلاث فكأنه عرف بلاداً كثيرة إذ(1/82)
عرفها. . . وزار الثاني آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا فعلاً. وبعد هذه السياحة عاد الاثنان إلى عيشة الانفراد والخلاء وأخذا ينظران إلى الإنسان ومدنيته من خلال نظارات الطبيعة الصافية فهزأ الريحاني من سخافات
الإنسان وضحك ورأى في زخارف المدينة المعبودة، مئة مصيبة منقودة وأنَّ المنفلوطي
منها وشكا. فكأن قلمه ما وصفه به:
فتراه ورقاء تندب شجواً ... وتراه رقطاء تنفث نارا
ولكن الاثنين، هذا في تألمه وذاك في تهكمه، قد أحبا الإنسانية(1/83)
حباً جماً ولعل هذا معنى الابتسامة التي لا تفارق ثغر الاثنين: ابتسامة عطف ورحمة
بعض أحلام المنفلوطي حقائق، وبعض حقائق الريحاني أحلام، ولقد تؤلمنا هذه وتلك أحياناً. . . ويكاد يصح فيهما مع بعض الاستدراك ما قيل قدماً عن راسين وكورنيل: يصفنا الأول كما نحن، ويصورنا الثاني كما يجب أن نكون. فلهذا نعجب بالأول لأنه عرفنا حق المعرفة، ونحب الثاني لأنه يحسن الظن بنا. . . وقلم هذا وذاك.
هو جسر تمشي القلوب عليه ... لتلاقي بين القلوب قرارا
* * *
ألبس المنفلوطي معانيه حلة قشيبة فاختالت فيها تيهاً وفخراً، وباهت بها الحاليات من معاني الأقدمين والمحدثين نثراً وشعراً، وكسا الريحاني أفكاره ثوباً بسيطاً ساذجاً نسجه من خيوط الشمس ولونه بألوان الحقول بكل دقة واعتناء، فرات العين في الحلة المنفلوطية ما يبهجها، وشامت في الثوب الريحاني ما يؤنسها. ومن القرويات من تضاهي الأميرات حسناً وجمالاً. . . درس صاحب الريحانيات لغات الأجانب وعرف كيف يستمد منها ما يناجي به النفس، واكتفى صاحب النظرات بلغة أجداده فتمكن أن يستخرج من أسرارها ما يناغي به الروح ولو بالهمس.
لقيت السيد المنفلوطي منذ بضعة أيام وفي يدي الريحانيات فقال: ما بيدك؟ - فقلت: شقيقة النظرات ودفعت إليه الكتاب فأعاده إلي ثاني يوم وقد كتب في أول صفحة منه:(1/84)
نظرت في هذا الكتاب كتاب الريحانيات الذي أعارنيه صديقي. . . انطون أفندي الجميل فلم أجد فيه من اللغة العربية إلا حروفها دائماً، ومفرداتها غالباً، وجملها نادراً. فلم أحفل بذلك كثيراً لأني وجدت فيه من سمو الخيال الشعري، ودقة الملك النظري، ما استوقفني ساعتين كاملتين، وهي المرة الثانية التي وقفت بها هذه المدة أمام كتاب عصري منذ أعوام بعد كتاب روح الاجتماع. . . .
وبالحقيقة إن في النظرات والريحانيات ما يستوقف القارئ ساعات. فيحفظ الكتابين في
مكتبته ويعود إليهما من حين إلى حين. . .
* * *
ديوان المصري - وهو شباب شعر عبد الحليم أفندي المصري وشعر شبابه زفه إلى قراء العربية وهو خير هدية يهديها شاب إلى أمته: باكورة سعيه واجتهاده. . . ي شعر المصري كل صفات الشباب: نخوة وإباء وهمة وإعجاب وحياة تتدفق كالماء الصافي من الصخرة البيضاء. وفي شعره أيضاً عيوب الشباب - إن كان للشباب عيوب - وأي سن بلا عيب. بل ربما كان جمال كل سن في ما يعد عيوباً. جرد الشاب من اندفاعه وهوسه وعدم مبالاته بالعواقب فترى أمامك ما يمجه الذوق كالثمرة الناضجة قبل أوانها. وإذا آخذنا المصري بشيء فنؤاخذه بمحاولته الخروج في بعض قصائده من رياض الشباب إلى كهف الشيخوخة.(1/85)
فتبدو في شعره آثار التصنع. ولكن إن هي إلا سحابة صيف تنقشع أمام شمس الطبيعة الساطعة. ولسنا نغلط في حكمنا إذا وضعنا المصري في طليعة شعراء الطور الجديد وقد أحله ديوان هذا المحل وأكسبه منزلة هو جدير بها. ونحن ندعو له بان يمتد حبل عمره، ويشتد أزر شعره، لنرى الفرق بين شعر الطفولة وشعر الكهولة.
(ونرجئ الكلام في سائر ما لدينا من المطبوعات إلى العدد القادم)
أشواك وأزهار
العرَج والفرَج
الجنون فنون: ماتت في برشلونة عاصمة البلاد البرتغالية امرأة عرجاء - والعرج والجنون لا ينفيان الغنى ماتت عن ثروة طائلة وأوصت بمبلغ خمسمئة فرنك لكل أعرج يمشي في جنازتها. فكم من أعرج في ذاك اليوم عد نفسه سعيداً وشكر للطبيعة تقصيرها لإحدى قائمتيه، وكم من سالم تمنى لو بلي بالعرج، وكم من محتال تظاهر بالعرج، فسار في الجنازة وهو يردد قول بطل مقامات بديع الزمان:
تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرَج
نيشان الافتخار
قرأت في صحف البريد أن الحكومة العثمانية تنوي إنشاء فرع لنيشان الافتخار تسميه نيشان الاستحقاق ويكون أشبه بوسام(1/86)
اللجيون دونور الفرنسوي. . . ما أكثر الأوسمة والنياشين والمداليات عندنا. هي أكثر من الذين يستحقونها. بل نحن نوجدها قبل إيجاد صدور تحتها قلوب شريفة، لنضع فوقها علامة الشرف. سألني سائل: هل تحمل وساماً؟ فلم أعرف بما أجيب: إن قلت لا فقد يستحقرني لعدم نيلي ما يناله الجميع بسهولة اعتقاداً منه بعجزي. أو قلت نعم فقد يستصغرني على خفتي ظناً منه أنني سعيت وراء هذا الشرف الموهوم الذي تساوى به كل الناس. وعليه فإنه من العار أن تتحلى بوسام كما انه من العار أن تكون عاطلاً منه. . . وما غاية الحكومة من تجديد نيشان الافتخار وقد كاد يزين كل الصدور:
أما لو أنه شيء جديد ... لقلنا حبذاك الافتخار
ولكن مثله فينا قديماً ... كثير لا يباع ولا يعار
أول أفريل أو كذبة نيسان:
شهر أفريل من أجمل شهور السنة، واسمه مشتق من فعل لاتيني معناه تفتّح إشارة إلى تفتح الزهر في الرياض والحقول. على أن البشر قد شوهوا طلعته وسودوا سمعته بما سموه كذبة نيسان أو سمكة أفريل. ويرجع عهد هذه الكذبة إلى أواسط القرن السادس عشر حيث أصدر شارل التاسع ملك فرنسا سنة 1564 منشوراً قرر فيه أن يكون ابتداء العام في غرة
يناير بدلاً من أول أفريل. فأصبحت التهاني والهدايا التي تتبادل في غرة هذا الشهر كاذبة. وقد ذكروا لهذه العادة المألوفة عادة الكذب الحلال في هذا اليوم أسباباً غير ما قدمنا لا مجال(1/87)
لعدها الآن. على أن شيوع هذه العادة عند جميع الشعوب تقريباً لمما يدل على ميل غريزي في البشرية إلى الكذب. فأقمنا له هذا العيد الرسمي. وأجمعنا على الاحتفال به على اختلاف مذاهبنا. ومن أشهر الكذبات كذبة جريدة إنكليزية نشرت في 31 مارس سنة 1846 أن سيقام معرض عام للحمير ثاني يوم (أول أفريل) في نقطة معينة من لندرا. فاجتمع جمهور كبير للفرجة وإذ ذاك قهقهة أحد الحاضرين وقال تم المعرض. . . وكم من الناس يعدون كل يوم أول أفريل.
حاصد
من الإدارة
1 - نذكر الأدباء أن آخر الشهر الجاري هو آخر موعد للسباق الشاعري ومنتصف الشهر القادم آخر موعد للسباق النثري (راجع موضوع السباقين وشروطهما في ص 9 و10 من الجزء الأول).
2 - نرجو الذين لم يفيدونا عن رغبتهم في الاشتراك أن يفعلوا بعد وصول هذا العدد.
3 - كتب إلينا أحد الأدباء يقول نلتمس أن لا تعتمدوا على نوابغ الكتاب فقط فإن ذلك يحول دون ظهور الباقين. فكم من زهرة غراء ذبلت بين رمال الصحراء، وكم من درة حسناء ضاعت بين كهوف البحار وتدافع الأمواج. . . وكتب إلينا كثيرون بهذا المعنى ونحن قد وضعنا هذه الغاية نصب أعيننا منذ إنشاء المجلة قلنا: إن عندنا فريقاً من الكتاب في حاجة إلى التنشيط والتمرين تحت إدارة أساتذة الكتابة وأيمة الكلام (راجع المقدمة ص 4).
4 - وفي الختام لابد من كلمة شكر حميم نسديها لكل الصحف والمجلات في جميع الأقطار العربية لما صاغته من كلمات الترحيب والاستئناس بهذه المجلة. حقق الله الظن بنا.
- الإدارة(1/88)
العدد 3 - بتاريخ: 1 - 5 - 1910
نطاق العالم البحري
السويس وبناما
هي العقول السامية المدارك ترينا في عالم الاختراعات ما تزدهي به البلاد ويستفيد منه العباد، فترقى بالحضارة والهيئة الاجتماعية في مراقي التقدم والفلاح. . . وقد تجلت تلك العقول البعيدة المرامي في أفراد جاؤوا الوجود في أحقاب مختلفة وخصوا ما أتاهم الله من ثقوب الفهم ومضاء الفكر بالتنقيب عن أسرار الطبيعة واستخدام قواها، وتوصلوا بثباتهم إلى ما عاد على المجتمع الإنساني بالخير الجزيل.
من أعظم ما حققه الإنسان في الأزمنة الحديثة توسيع نطاق فن البحارة وتمهيد سبل النجارة في وجه أربابها. فاقتصد الوقت الثمين وقرب الأمكنة البعيدة: شاد المرافئ، ترغم أنف الماء الثائر، ورفع المنائر تهدي حائرات المراكب. فكم من برزخ نفضه، وخليج سده، وغدير أيبسه. ولم يكن ما في ذلك من المصاعب ليثبط منه العزائم. فهذه قناة السويس(1/89)
تكفل لفردينان ده لسبس ما كفلت أهرام مصر لمن بناها: اسماً ماجداً وذكراً خالداً. وهذه ترعة بناما التي يتم فتحها في القريب من الزمن سيكون لها شأن يذكر في تقريب المسافات وتسهيل الموصلات.
السويس وبناما بابا أربعة بحور عظام وهما كمنطقة تحدق بالكرة الأرضية عن طريقهما تمر تجارة المعمور وإليهما ومنهما مصيرها ومنفذها. وسوف يبقيان الطريق الكبرى اللاحبة بين آسيا وأوروبا مادام العالم السياسي على ما هو وبقيت الأرض على شكلها.
عرف القراء مجمل ما يتعلق بقناة السويس بعد تمحيص هذه المسألة في الجمعية العمومية وقيام مصر من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها للدفاع عن استقلال قناتها، وإننا لذاكرون هنا فقط شيئاً عن ترعة بناما فنقول:
بناما عبارة عن برزخ يعترض ني الأوقيانوسين الاتلانتكي والباسفيكي، واقع بني كولومبيا وكوستاريكا، جامع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وقف عقبة في وجه التجارة ويبلغ عرضه ستة وخمسين كيلومتراً بين مدينة كولون ومدينة بناما. والأولى في 22 َ و9 عرضاً و15َ و82ْ طولاً والثانية في 56َ و8ْ عرضاً و30َ و79ْ طولاً.
وفتح هذا البرزخ - أي فصل العالم الجديد إلى شطرين - مشروع خطير جليل الفوائد.
ولقد عنّ هذا الفكر لعلماء أعلام وحكام عظام وخطر لعقول نيرة ومدارك سامية أن يبرزوه إلى حيز العمل. فنشرته الأقلام والألسنة فكبّر سامعوه وقالوا: هذا من باب المستحيل. . .(1/90)
ومنذ القرن السادس عشر دار في خلد أحد البحارة نقض هذا البرزخ فاقترح ذلك على الحكومة الإسبانية. وفي هاتيك المدة أيضاً حدث الهمة بالسيد فرنندو كورتز فاتح البلاد المكسيكية إلى القيام بهذا الأمر الخطير فألف لجنة من المهندسين وعهد إليهم تخطيط رسم ترعة تجمع بين الأوقيانوسين. وضع الرسوم على صفحات القرطاس ولم يلاق في ذاك العهد من يقوم بها فيضعها قيد الفعل. فتصرم قرنان كاملان وفتح هذه في عالم الرسوم، حتى أواخر القرن الثامن عشر إذ أوفد الملك كارلس الثالث لجنة ترود تلك لأماكن وتنظر في الأمر، فتضاربت الآراء وتفرقت الكلمة ولم ينجم عن ذلك نتيجة تذكر. وبعد سنين قلائل عهد ذلك المشروع إلى مسيو ده همبلدت فلم يصب نجاحاً.
وفي السنة الخامسة والعشرين بعد الثمانمئة والألف نال البارون تييري من بوليفار محرر جمهورية كولومبيا امتيازاً يخوله حفر ترعة بناما، فعمل ولم يفلح ومن مشاهير الرجال الذين بحثوا في هذا المشروع الإمبراطور نابليون الثالث. قيل أنه كان يقضي ساعات طوالاً وهو في قلعة هام، يعمل النظر، ويشغل الفكر في التنقيب عن هذه القضية.
ومما تقدم يرى القارئ أن هذا المشروع قد بدا لعقول كثيرة، على أن المتمولين أصحاب الذهب لم يكونوا يعدون تحقيقه إلا من باب الأوهام وخطرات البال. ولذلك لم تؤلف قط شركة لهذا الغرض، ولم تقم عصابة مالية للأخذ بناصر هؤلاء العلماء وبسط يد المساعدة لهم وكان الأمريكان أنفسهم، أصحاب الجد والنشاط، لا ينظرون إلى هذا المسعى إلا بعين الهزء(1/91)
والسخرية، حتى رأوا النجاح مكللاً أتعاب ذاك الهمام المقدام فاتح قناة السويس، فعقدوا حينذاك لجنة من حذاق المهندسين لينظروا في الأمر ولكنهم فشلوا في مسعاهم ولم يفوزوا بالمرام. وقام ده لسبس يحاول أن يحقق في بناما ما حققه في السويس، فأرسل العالمين أرمان ركلو ولوسيان ويز سنة 1879، فتفقدا تلك الحزون والبطاح ووضعا الرسوم اللازمة، ونالا الامتياز من جمهورية كولومبيا، وألف هو الشركة المالية بعد أن قدر المبالغ اللازمة ب 658 مليون فرنك. فتلاعبت الأيدي بالمال وكانت هذه الحادثة من أهم المسائل السياسية التي هزت فرنسا في النصف الأخير من القرن الغابر.
وجل ما نتج عن كل هذه الأبحاث مد خط حديدي بين كولون وبناما في سنة 1855.
ومن أكبر الأسباب التي حالت دون فتح ترعة بناما، ميل الأمريكان إلى ترعة أخرى مارة ببحيرة نيكاراغوا ونهر سان جوان، وذلك لقتل المشروع الفرنسوي في مهده، سيما وقد توهم القوم بادئ بدء أن حفر هذه الترعة أقل صعوبة من نقض برزخ بناما. وظل الأمريكان على هذا الزعم حتى سنة 1903، حيث عادوا إلى الفكرة الأولى بفضل مساعي العالم فيليب بونوفيلا ومستر مرقس حنا أحد النواب، فظهر للجميع عدم صلاحية نيكاراغوا لجمع الأوقيانوسين نظراً لقوة النهر وعلو الأراضي عن سطح البحر وكثرة المواد البركانية في تلك النواحي. فوضع الأمريكان يدهم على هذا المشروع وأخذوا على أنفسهم تحقيقه بعد التسويف والتأجيل(1/92)
وهو ناجز عن قريب فيشطر أمريكا إلى شطرين، هذا وكل يعرف أن أكثر رواج التجارة بين آسيا مهد التمدن القديم وأوروبا مهد التمدن الحديث، ومن هنا تتأتى أهمية الطرق الجامعة بين القارتين.
ولبيان أهمية ترعة بناما لابد لنا من إلقاء نظرة إلى الطريق القديمة والمقابلة بينها وبين طريق الغد فتتضح لنا فوائدها التجارية والسياسية معاً لأن التجارة أصبحت اليوم محور السياسة وأساس المعاهدات والمحالفات. قال أحد كبار السياسيين: لا تحارب الدول ولا تسالم بعضها بعضاً إلا في سبيل التجارة، فالتجارة سلطانه الدنيا.
1 - الطريق عن البرزخ الأفريقي: أقدم طريق من أوروبا إلى آسيا طريق البرزخ (الأفريقي) أعني مصر فالنيل فالبحر الأحمر فالأوقيانس الهندي، وهذا ما رفع شأن الإسكندرية ووفر غناها وجعل فيما بعد للبندقية أيضاً نصيباً عظيماً من الثروة. وجد بين أوراق كتبها نابوليون بين سنة 1786 و1793 ما يلي تعريبه: إن مركز التجارة وسوق رواجها غنما هي الإسكندرية التي شاهدها الإسكندر على النيل وهكذا عمرت مصر على عهد البطالة فقامت مدينة برنيقه على شواطئ البحر الأحمر، وكانت تجارة بلاد فارس والهند مع إيطاليا وأوروبا عن طريق البحر الأحمر فالنيل. . بيد أن هذه الطريق كانت من الصعوبة على جانب عظيم، سيما وأنها بحرية وبرية، فكانت تستغرق وقتاً طويلاً ومصروفاً جزيلاً، لنقل البضائع من البحر إلى البر ومن البر إلى البحر.
2 - الطريق عن رأس الرجاء الصالح: وفي سنة 1498 جاز فسكو(1/93)
ده غاما رأس الرجاء
الصالح واختط طريقاً بحرية محضة إلى الموانئ الآسيوية فتبعته السفن التجارية وهجرت طريق البحر المتوسط فتأخرت أحوال الإسكندرية والبندقية.
قال فولتير في معرض كلامه عن الآداب: إن رحلة فسكو ده غاما إلى مملكة كالكوتا في الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح قد غيرت تجارة العالم القديم تغييراً تاماً. وكانت الإسكندرية محور التجارة ورابطة الأمم على عهد البطالة والرومان والعرب بل كانت البلاد المصرية المستودع الوحيد بين الأصقاع الأوروبية والأمصار الآسيوية ومنها كانت البندقية تستجلب محاصيل الحبوب لأوروبا فاغتنت وازدهى فيها العمران ولولا اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح لكانت البندقية الآن من أعظم الدول.
3 - الطريق عن ترعة السويس: بيد أنه في أواسط القرن التاسع عشر عادت الطريق إلى الهند من حيث كانت، وذلك بنقض البرزخ الأفريقي وجمع البحر المتوسط والبحر الأحمر. . تلك أمنية طالما سعى وراءها الفراعنة والبطالسة وأشار إليها بونابرت فحققها ده لسبس، وأعاد إلى مصر مجدها الغابر وبهاءها السابق إذ عادت كذي قبل الطريق بين آسيا وأوروبا.
4 - الطريق عن البرزخ الأمريكي (بناما): هذا وفي سنة 1492 دعت ناهضة النشاط بكرستوف كولمب إلى السير إلى الهند عن طريق جديدة. وكان قد ظن - ونعم الظن - أنه نظراً لكروية الأرض لابد من أن يصل إلى الهند عن طريق ثانية مواجهة للطريق الأولى فبدلاً عن السفر في البحر المتوسط والأوقيانوس الهندي حاول أن يسافر في(1/94)
ما ندعوه اليوم الأوقيانوس الباسيفيكي. ولما بدت له أرض عن بعيد، ظن أنه وصل إلى الهند، وهكذا اكتشف أمريكا. قال أحد المؤرخين: أمريكا جزيرة عظيمة معلقة بالقطب تشطر الأوقيانوس إلى شطرين، فكان إذن كولمب قد أخطأ بظنه ولكن يا حبذا الخطأ وما أعظم ما ناله بخطأه وقد اكتشف بالوقت نفسه طريقاً جديدة إلى آسيا على غير علم منه وذلك بنقض البرزخ الجامع بين أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية
وهذا ما سنراه عن قريب فتتصل مياه الأتلنتيكي بمياه الباسيفيكي وتزداد المتاجرة بين أوروبا وشعوب الشرق الأقصى.
وعليه فإن السويس وبناما قد جمعا بين البحار وجعلا للكرة الأرضية نطاقاً بحرياً يحيط
بها. وهل يخفى على أحد ما في ذلك من الأهمية والفوائد الخطيرة. . .؟
نبوكدنصر الشحاذ
ولم تنبح الكلاب،
من ذا الذي في الباب؟
إن في الباب مليكاً دوخه الزمان،
إن في الباب شبحاً محنياً نحن وفاضه متكئاً على هراوته، يمد يده باكياً، ويهينم شاكياً،
شبح مخيف يرتعد كالمحموم، لا يعرف أمن البشر هو أم مما فوق أو تحت طبقات البشر(1/95)
طيف من أطياف العياء والمذلة، نهب داء وفاقة، يطوف البلاد كفارة عما اقترفه من الآثام
سواه،
تصرخ فيه معدة ظالمة، فتذل فيه صورة الصمد المتعال،
تصفر في رأسه الرياح فتصرعه، فيردد صداها شبح الوساوس والأيام،
يهذي فيتساقط اللعاب من فيه، أسير أسقام وأوهام،
يدق صدره مستعطفاً فيرتجف هيكله الهشيم ارتجاف قصبة في الرياح،
إن في الباب شحاذاً يستنبح الكلاب،
إن في الباب مليكاً دوخه الزمان،
* * *
وإليك بخبره من فيه -
أنا نبوكدنصر من بين النهرين - نبوكدنصر الشحاذ. الملك. ملك بابل وآشور - الله
سبحانه يطوف بي في العالم مثقلاً بما ترونه من ذلة وفقر ومرض وصرع وجوع وأوجاع. . . اعطوني الله يعطيكم
ولله من ملك تخرق عيناه اللقمة قبل أن تدخل اللقمة فمه،
لله من ملك طي هذه الأطمار في هذا الهيكل الهشيم المخيف،
على كتفيه وفاضه، وعلى ذراعيه مواعينه، وفي يده هراوة يستعين بها على الدهر
والكلاب،
لله من ملك على رجليه من آثار المفاوز أشواكها، وفي ساقيه جروحها، وقد ركمت عليها
الأسفار غبارها،
لله من ملك يتساقط الدم من أنفه، والدمع من عينيه، فيتجمد هذا على(1/96)
لحيته، وذاك على
صدره،
يورد الصرع خديه، فتلتهب الأحلام في محجريه،
هنالك شيء من الهول ألبسه الدهر قميصاً حاكتها شياطينه،
بل هناك غور غدور من ظلمات الزمان، ونبأ من عصور عقم فيها الهيكل والصولجان،
وفي ناظريه ساعة الصرع غيظ يحتدم - ولا غيط من علو العروش مجداً،
في ناظريه يتجسم الويل وقد ذاب عظماً وعزاً ووجداً،
* * *
ها هو أمامك مغمي عليه
قد ذبل الورد في وجهه، واضطرم الوهم في ناظريه،
قد ذهب التلجلج من فيه والرجف من يديه، فهو لا يهينم الآن شاكياً ولا يمد يده باكياً،
هو يرغي ويزبد لا كالصريع، بل كالمليك المنيع، وقد شخص إلى الفضاء يصب عليه
لظى تغيظه،
كأن في الفضاء ملكه، وكأن هنالك نصب عرشه،
- أنا نبوكدنصر ملك بابل وآشور - تاجي. صولجاني. وزرائي. موعدكم غداً - إلي بآلة
الصيد - لا - لا - أشعلوا الأنوار. أين الإماء الحسان - حركوا الأوتار - تعالي. . . تعالي إلي - ليس الآن وقت العبيد - سوقوهم إلى السجن - إلى النار - الخائنة - الفاسقة - إلى النار - آه علي آه عليك. آه علي أو آه على ملكي. .(1/97)
وهذا مليك دوخه الزمان، وعضه الويل في الكبد والوهم في الجنان،
* * *
إن في الخيال الثائب إلى رشده الواقف أمامك الآن، الناطق بخليط من لغات العرب
والكلدان، نبأ من غور ظلمات الزمان،
إن فيه تجسم ظلم الدهور وعدل الزمان،
بل فيه تتجسد أرواح من جاروا على الإنسان،
بلى. إن في مثل هذا المتسول الصريع المجنون، ليتقنص الظالمون،
* * *
ولم تنبح الكلاب؟
إنما نحيب الكلاب هذا لا نباحهم،
نحيبهم على من في الباب. على مليك صرعه الزمان، على شحاذ عضه الوهم في الكبد
والويل في الجنان،
حتى الكلاب ينحبون ويتساءلون -
وأين الروح التي نفخها الله في هذا الذي خلقه على شكله ومثاله؟
وأين الكرامة التي تميز البشر عن الحيوان.
وأين الإباءة التي ترفعه على أسياده إلى خالقه؟
أين من الرجال عزة النفس والحمية والعزم والحزم والنشاط؟
* * *
إن في الباب شحاذاً من بؤساء الكلدان ممن أرهقهم سيف ابن عثمان،
طوّاف يطوف البلاد متسولاً - كفارة عن ذنوبه وآثامه؟(1/98)
كلا - كفارة عن جرائر حكامه،
هو حجة الزمان، على طغاة الزمان،
هو دمّل من دماميل مجتمع الإنسان،
هو ثمرة طغيانكم أيها الرؤساء والأسياد والحكام،
هو صنع يدكم الأثيمة لا صنع يد الله.
أمين ريحاني
حملة الأقلام في بر الشام
* إبراهيم الحوراني (محرر النشرة) - غزرت مادته فأتت أقواله (من كل فاكهة بها زوجان)
* الشيخ إسكندر العازار - كل ما كتبه ويكتبه هو من السهل الممتنع
* إبراهيم أبي خاطر - يسرك كخطيب. ولا يسوءك ككاتب
* أمين الريحاني - جمع بين لطافة الهواء. وسلاسة الماء
* أمين الغريب (صاحب المهاجر سابقاً وأحد صاحبي النصير حالاً) - أقدر صحافي لإرضاء مشتركيه. وترغيبهم في مطالعته
* أسعد رستم - لا يجاريه في البرية فرد في ضروب الفكاهة الرستمية
* أميل الخوري - لو أكمل الشوط لبلغ الغاية
* بشارة الخوري (صاحب البرق) - هو كجريدته. فيه من كل فن خبر
* بشري رمضان (صاحب الكوثر) - لم أقر له كثيراً. ولكنني أرى في مجلته مادة غزيرة.
* بطرس مختاره المعلوف - لو رام الشهرة لكان شانه في لبنان الجميل(1/99)
شأن حافظ في وادي النيل
* جبر ضومط - فكر من ذهب. في قالب من خشب
* جرجي نقولا باز (صاحب الحسناء) - أجاد قبل إنشاء المجلة. فكان أفضل من كتب في الاجتماعيات
* جورج شاهين عطيه (صاحب المراقب) - بين أفكاره السامية ولغته نسب
* جميل المعلوف - أنضج كاتب في السياسة
* خليل زينية (محرر الثبات) - له في كل واد أثر
* داود مجاعص (صاحب الحرية) - قلمه كمخلب الخطاف. إذا نشب أدمى
* سعيد الشرتوني - كل شيء منه مقبول - إلا الشعر
* الشيخ رشيد نفاع - أقوى حافظةً من أبي العلاء
* سليم العقاد (محرر الأحوال) - كاتب مجيد صبور. آثر التستر على الظهور
* شبلي ملاط (صاحب الوطن) - تكاد تلمس حدته من خلال سطوره
* شبل ناصيف دموس - شديد اللجهة. طويل النفس
* شكيب أرسلان - جال جولة رفعته إلى رتبة المشاهير. ثم أشغلته السياسة عن متابعة التحبير
* عبد الله البستاني - قريع وحده في أساليب البلاغة
* عبد الغني العريسي (صاحف المفيد) - خير مثال للحمية العربية
* عيسى إسكندر المعلوف - كثرت كتابته. فتوزعت مادته
* فارس الخوري - يحذو حذو حافظ في شعره. ولكنه لن يدانيه في نثره
* فيلكس فارس (صاحب لسان الاتحاد) هو في نثره أشعر منه في شعره
* كامل حميه (محرر النفائس) - إذا كان الإنشاء هو الإنسان فاقرأ النفائس. . .
* محيي الدين الخياط (محرر الإقبال والاتحاد العثماني) - هو في شعره فوقه في نثره.
* مصفى الغلاييني (صاحب النبراس) - أفضل ما أتمثه خطيباً(1/100)
* محمد كرد علي (صاحب المقتبسين) - لا تعرف منزلة نبي في وطنه
* محمد الباقر (صاحب المنتقد) - كل من سار على الدرب وصل
* نعوم لبكي (صاحب المناظر) - ترى ظلمة خفيفة. من خلال بلاغته اللامعة.
* يوسف نخلة ثابت - هو في تعريبه أصح لغة من أكثر المنشئين.
* * *
هذا ما وصلت إليه طاقتي القاصرة. كتبته ورتبته على حروف الهجاء.
وهناك أيضاً قسم كبير من الكتاب والشعراء المجيدين من النبت الجديد وسأذكرهم على حدة في مقالة أخرى إن شاء الله.
حليم إبراهيم دموس (بيروت)
ملكة الجمال
أو زهرة لبنان
إقامة الأفراح في أيام المرافع عادة شائعة، ومن العادة أيضاً في بعض البلاد إقامة ملكة ترأس العيد. وقد جرت هذه السنة في الجمهورية الدومينيكانية حادثة غريبة، نقتطفها عن الجرائد الأمريكية تفكهة للقراء:
أراد فريق من الأهالي أن تكون ملكة العيد في هذا العام الآنسة أماندا (محبوبة) كريمة الشيخ نجيب العازار أو (زهرة لبنان) كما يسميها الوطنيون، وقد تفردت بلطفها وجمالها. وأراد فريق آخر أن تكون إحدى الوطنيات من كريمات أعيان البلاد. وقد حمي الخلاف لدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأعياد، اشترك فيه الوزراء وكبار رجال الحكومة ووجهاء القوم، وأخذت القضية دوراً خطيراً حتى توسط في الأمر الجنرال(1/101)
راموند كاساري رئيس الجمهورية وأعلن انتخاب ملكتين فرضي الفريقان.
وفي المساء أقام الرئيس ليلة راقصة في المنتدى العالي إكراماً للملكتين، وكانت الراية العثمانية تخفق بجانب الراية الوطنية. وثاني يوم جرى الاحتفال بتتويج الملكتين، وكانت الملكة السورية لابسة ثوباً من الراية الدومينيكانية، والملكة الوطنية لابسة ثوباً مصنوعاً من الراية العثمانية، وعلى صدرها النجمة والهلال، والجميع يصيحون فلتحيى الملكة وقد شرب رئيس الجمهورية نخب العثمانيين الأحرار ونخب النزالة السورية. وفي اليوم التالي ركبت الملكة السورية يختاً مزيناً، وعن شمالها الملكة الوطنية، وراية الهلال تخفق على الساري، ووراء اليخت مدرعتان من حاميات السواحل تقلان الرئيس والوزراء والأعيان ومئات من الزوارق وكلها رافعة الراية العثمانية. وعند اقتراب اليخت الملكي أطلقت القلعة 21 مدفعاً وصدحت الموسيقى بالنشيد العثماني وكانت جميع أيام الاحتفال أعياداً زاهية لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذه البلاد. وقد أطنبت الجرائد بمدح العثمانيين وأثنت عليهم لتعاضدهم وشكرت للرئيس حكمته لأنه وفق بني كرامة الوطنيين والنزلاء.
وقد رأينا صورة الآنسة اللبنانية في الجرائد الأمريكية فوجدناها كما وصفوها.(1/102)
في رياض الشعر
أيها العرب
أين الرجال وأين الأسطول
لم يغن تحذير ولا إغراء ... فقد استوى الأموات والأحياء
إني صرخت فلم يكن إلا صدى ... مرت به الأرياح والأنواء
أين الرجال فلم تقع عيني على ... رجل فهل أرض الشام خلاء
إني سمعت هتافهم فإذا به ... عند الحقيقة أنّةٌ وبكاء
يا قوم ما هذا الجمود فحسبكم ... أن الجمود إذا استطال فناء
قد أطلق الدستور عن أبوابه ... فانحوه فهو محجة بيضاء
ومضى العتاب بقضه وقضيضه ... واقتص من سوء الظنون إخاء
الله أكبر هل جهلتم أنكم ... نهب القوي وأنتم ضعفاء
ساد التنازع في البقاء فلم يعد ... فيه لمن نبذ الجهاد بقاء
ننعي على الزمن القديم وليته ... في الشرق والزمن الحديث سواء
فلقد سخرنا اليوم من آبائنا ... وكذاك تسخر بعدنا الأبناء
أين الحضارة والنضارة والعلى ... بل أين ما جاءت به العلماء
إن الرزية أن تكون بلادكم ... بيد الغريب وأنتم الغرباء
إني أرى شركاته إشراكه ... يرمي بها فيصيد كيف يشاء
وإذا توطد أمره في أرضكم ... فستصبحون وكلكم أجراء
فاض النعيم له وما من نغبة ... فزتم بها لكنكم انضاء(1/103)
ومخضتموه ولاءكم فسطا على ... خير البلاد ولم يزعه ولاء
إني امرؤ اغتشه وأرى به ... متلوناً من دونه الحرباء
وتمرسي بالدهر أدبني فما ... طاحت بي الأغراض والأهواء
والله لا يضع العدى أوزارهم ... ولئن علا للمصلحين نداء
هتفوا (بتعزيز السلام) وإنما ... هي خدعة يرضى بها الجهلاء
أفلم تروا سفناً تنوء بجندهم ... ضاق الفضاء بها وغص الماء
ركبوا البخار فأدركوا ما أملوا ... سيان أرض عندهم وسماء
فتقحموا الغمرات لا تتلكأوا ... وتعهدوا الأسطول فهو نجاء
فإذا مدافعه انبرت لخصومه ... وتكلمت خرست لها الأعداء
وإذا بوارجه بدت في مأزق ... تنشق عنه الليلة الظلماء
لا ترهبوا من بعده متحزباً ... ترغي وتزبد حوله النصراء
قالوا العدى مثل النطاق عليكم ... يتحفزون وكلهم رقباء
يتربصون بأرضكم ريب الردى ... فبلادكم بعيونهم أقذاء
صدقوا بما زعموا ولكن حبذا ... موت إليه تسوقنا العلياء
أفما دروا أن الرشاد أعزنا ... فاليوم لا وهن ولا إبطاء
فإذا أسارير الزمان تجهمت ... وجرى الرصاص تصبه الهيجاء
وتدفقت زيم الجيوش ففيلق ... في فيلق سالت به البيداء
وقف القضاء فما تدور صروفه ... إلا وكان لنا عليه قضاء
أحييت يا عصر الرشاد رجاءنا ... ولقد يكون وليس فيه ذماء
جددت عهد (الراشدين) فلم نقل ... من بعدهم قد ماتت الخلفاء(1/104)
يا أيها العرب الكرام إليكم ... أشكو وقد فدحت بناء الأرزاء
هذا هو الأسطول يطلب رحمة ... منكم فهل في أرضكم رحماء
إن تبخل الدنيا عليه فما لكم ... عذر بذاك وأنتم الكرماء
هذا المجال لديكم فتشمروا ... إن الكريم تهزه الآلاء
أيرى (بنو عثمان) من أسطولهم ... جبلاً أشم له السحاب لواء
يترنح (البسفور) إعجاباً به ... وتخر نحو (هلاله) الجوزاء
أفتقعدون وللنساء حمية ... ثارت بهن وهمة شماء
بعن الحلي وبذلن ما يملكنه ... كرماً فيا ليت الرجال نساء
- الخرطوم
فؤاد الخطيب
إلى امرئ القيس
سائل التاريخ عاماً ثم عاما ... أي يومٍ خفر العرب الذماما
أي عهد نكثوا آياته ... أي جار لم يعزوه مقاما
المروآت هدى أعمالهم ... والوفا الدين الذي فيهم تسامى
عبدوا الأصنام لكن عبدوا ... قبلها العرض فصانوه كراما
ألهوا العزة واللات لدن ... جعلوا للنفس بالعز اعتصاما
* * *
القصور الغر تفدي خيماً ... لبني كندة تبتز الخياما
لابن حجر في ذراها خيمة ... ظللت منه الفتى الحر الهماما
ملك في طي يروي ملكه ... شاعر أبدع حتى لن يراما
أمراء الشعر تحني رأسها ... لأمير الشعر حباً واحتشاما(1/105)
يا أميري إن للعرب إذا ... ذكر المجد لآيات جساما
إن تكن قد قمت فيهم ملكاً ... كم مليك بعدك الدهر أقاما
لم يخلد ذكرك الملك كما ... خلد الشعر لك الذكر دواما
وبكيت التاج يوماً ذلة ... وبكيت الطلل البالي هياما
ما أذل الدمع للملك وما ... أشرف الدمع إذا سال غراما
حبذا العرب ومن أندى يداً ... حبذا العرب ومن أمضى حساما
أكبر التاريخ ذكراهم لدن ... ملأوا الأيام أعمالاً عظاما
حيثما كانوا فهم أهل العلى ... لو هم لا يتحدون الخصاما
أنا لو كنت أمرأ القيس لهم ... لأجدت القول فيهم والكلاما
قفا نبك حبيباً لم أقل ... بل قفا نبك اتحاداً ووئاما
- الأستانة
أمين تقي الدين
بائعة الزهور
مرت بزهر الياسم ... ين على الرفاق الحضر
تختال في ثوب سما ... وي جميل المنظر
قالت وقد مدت يداً ... بالزهر هل من مشتري؟
قلت المحيا منك كال ... بدر التمام المسفر
والياسمين كأنجم ... نظمت بكفك فانظري
قالت صدقت وهذه ... لك زهرة يا مشتري
فؤاد سليم(1/106)
بين شعراء مصر والشام
نشرنا في العدد الماضي قصيدة لعبد الحليم أفندي المصري يشكو فيها إلى شعراء الشام كساد سوق الأدب في مصر ويسألهم عن حالهم في بلادهم (راجع القصيدة ص 59) وننشر اليوم جوابين وردا علينا الأول من سعادة الأمير نسيب أرسلان والثاني من حضرة عيسى أفندي إسكندر المعلوف.
1 - أشتاق وادي النيل
يا بازي الجيش غداة الصدام ... من لم البيزان سجع الحمام
بلغت سمعي يا فتى رنة ... قد اخضلت نحري بدمع سجام
شرارة من خاطر ثاقب ... كانت لقلبي يا ابن ودي ضرام
وطرفة من شاعر نابت ... في مصر يسقى من نمير الكلام
قد صاحب الجيش زماناً وكم ... أبلى لدى الحرب وضنك المقام
وانفك عنه كافياً نفسه ... بالمنطق الفصل رهيف الحسام
لا أعرف الشاعر عيناً وقد ... يشف عما يحتويه اللثام
هيجت (يا مصري) شجوي وما ... أحلى جوى أذكيته في العظام
أفديك يا بدر التمام الذي ... أرقني بالهم ليل التمام
في بثه تبدو لنا خلة ... خلة ندب المعي همام
طابت لريب الدهر إذ مسها ... كما تمس الريح بنت الخزام
يا عاتباً حيناً على حظه ... فقبلك كم من عاتب في الأنام
إما لقيت الحيف في موطن ... فاصبر رعاك الله صبر الكرام(1/107)
عسى ترى الظلام مرفضة ... كالعقد لما انبت منه النظام
الزهر قد نم بأنفاسه ... لابد أن ينشق عنه الكمام
أشتاق وادي النيل فاعلم بذا ... يا من غدا يشتاق أرض الشام
إن سار كل يبتغي وجهه ... سمعت مني في العريش السلام
- بيروت
نسيب أرسلان
2 - صدى الشكوى
قد ضاق للشعر بمصر المقام ... وانتابه العقم ببر الشام
لذا ترى عبد الحليم اشتكى ... وردد الشكوى لديه الإمام
أبناء سوريا ترد الصدى ... وتندب الشعر بدمع سجام
يا لهف أعراب على شعرهم ... وقد قضى لهفي بداء عقام
قد ضاقت الدنيا على شاعر ... حتى تمنى أن يحين الحمام
لكنه جنى على نفسه ... جناية المرء عليها حرام
أبناء سوريا ومصر أنشدوا ... يا دولة الشعر عليك السلام
زحلة
عيسى إسكندر المعلوف(1/108)
في حدائق العرب
أجبن الناس وأحيل الناس وأشجع الناس
دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال عمر: أخبرني من أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت.
قال: يا أمير المؤمنين خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر، إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون الرجال خلقاً، وهو محتبي بحمائل سيفه. فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك - فاقل: ومن أنت؟ - قلت: أنا عمرو بن معدي كرب الزبيدي. .! فشهق شهقة فمات.
فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت.
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي، فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي له حاجة. فقلت: خذ حذرك، فإني قاتلك - فقال: ومن أنت؟ فأعلمته بي. فقال: يا أبا ثور، ما أنصفتني، أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي فأعطيته عهداً. فخرج من الموضع الذي كان فيه، واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا؟ فقال: ما أنا براكب فرسي، ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك، فأنت أعلم بناكث العهد فتركته ومضيت.(1/109)
فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت. . .
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق. فلم أرد أحداً، فأجريت فرسي يميناً وشمالاً، وإذا أنا بفارس فلما دنا مني فإذا هو غلام حسن، نبت عذاره، من أجمل ما رأيت من الفتيان وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرب منسي سلم علي، فرددت عليه السلام وقلت: من الفتى؟ - قال: الحارث بن سعد فارس الشهباء - فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك - فقال: الويل لك، فمن أنت؟ - قلت: عمرو بن معدي كرب الزبيدي - قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قتلك إلا استصغارك
فتصاغرت نفسي يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت: دع هذا، وخذ حذرك، والله لا ينصرف إلا أحدنا. - فقال: ثكلتك أمك، فأنا من أهل ما أثكلنا فارس قط - قلت: هو الذي تسمعه - قال: اختر لنفسك، فإما أن تطرد لي، وإما أن اطرد لك فاغتنمتها
منه وقلت: اطرد لي فاطرد وحملت عليه، فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو صار حزاماً لفرسه، ثم عطف علي، فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدة ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك.
فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت. فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فعرض علي مقالته الأولى، فقلت له: اطرد لي فاطرد، فظننت أني تمكنت منه فاتبعته(1/110)
حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية فتصاغرت إلي نفسي وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فوثب عن فرسه فإذا هو على الأرض فأخطأته. ثم استوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي، وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك - فقلت: أقتلني أحب إلي. ولا تسمع فرسان العرب بهذا - فقال: يا عمر وإنما العفو عن ثلاث. وإذا تمكنت منك في الرابعة قتلتك. وأنشد يقول:
وكدت إغلاظاً من الإيمان ... أن عدت يا عمروا إلى الطعان
لتجدن لهب السنان ... أو لا فلست من بين شيبان
فهبته هيبة شديدة وقلت له: إن لي إليك حاجة - قال: وما هي؟ - قلت: أكون صاحباً لك - قال: لست من أصحابي. ويحك أتدري أين أريد؟ - قلت: لا والله - قل: أريد الموت الأحمر عياناً - قلت: أريد الموت معك - قال: امض بنا.
فسرنا يوماً أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره فوردنا على حي من أحياء العرب فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحجاتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي. فقلت: بل انزل أنت، فأنت أخبر بحاجتك مني فرمى إلي بعنان فرسه، ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سايساً.(1/111)
ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو إما أن تحميني وأقود الناقة، أو أحميك وتقودها أنت - قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت فرمى إلي بزمام الناقة، ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو - قلت: ما تشاء؟ - قال التفت فانظر، هل ترى أحداً، فالتفت فرأيت جمالاً فقتل: أغذذ السير. قال:
انظر، إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر، وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء قلت: هم أربعة أو خمسة - قال: أغذذ السير ففعلت ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو كن عن يمين الطريق، وقف، وحول وجه دوابنا إلى الطريق ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا، وإذا هم ثلاثة نفر شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي - فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها - فقال لأحد بنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحارث وهو يقول:
من دون ما ترجوه خضب الزايل ... من فارس ملثم مقاتل
ينمي إلى شيبان خير وائل ... ما كان يسري نحوها بباطل
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد بها صلبه فسقط ميتاً فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل فأقبل الحارث وهو يقول:
لقد رأيت كف كانت طعنتي ... والطعن للقرم الشديد الهمة(1/112)
والموت خير من فراق خلتي ... فقتلتي اليوم ولا مذلتي
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً. فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي فإني لست كمن رأيت - فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا قصدت - فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك، فإن شئت نازلتك، وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل، فنزل الشيخ وهو يقول:
ما ارتجي عند فناء عمري ... سأجعل التسعين مثل شهر
تخافني الشجعان طول دهري ... أن استباح البيض قصم الظهر
فأقبل الحارث وهو ينشد:
بعد ارتحالي وطال سفري ... وقد ظفرت وشفيت صدري
فالموت خير من لبان الغدر ... والعار أهديه لحي بكر
ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك فإن أبقيت فيك بقية فاضربني. وإن شئت فاضربني فإن أبقيت في بقية ضربتك فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ - فقال الشيخ: هات فرفع الحارث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب له بطنه
بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس عمه، فسقطا ميتين. . . فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أسياف وأربعة أفراس. ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب، ولست كمن رأيت. فقلت: اسكتي - قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك - فقلت: ما أنا بمعطٍ(1/113)
ذلك وقد عرفت أهلك وجرأة قومك وشجاعتهم فرمت نفسها عن البعير. ثم أقبلت تقول:
أبعد شيخي ثم بعد إخوتي ... يطيب عيشي بعدهم ولذتي
وأصبحن من لم يكن ذا همة ... هلا تكون قبل ذا منيتي
ثم هوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي فلما رأيت ذلك منها خفت أن ظفرت بي قتلتني، فقتلتها.
فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت.
الاتليدي(1/114)
في جنائن الغرب
ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً، لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني والأفكار الجديدة فيطلعنا على مجرى الحركة الأدبية عند الأمم. وقد كان لما عربناه في العدد الماضي (راجع ص 68) من رواية شانتكلير وقع حسن عند جمهور القراء وتناقلت الترجمة جرائد عديدة. وقد أحببنا اليوم أن نأخذ شيئاً من قصة أندروماك بمناسبة تمثيل روايتها الفرنسوية على مرسح الأوبرا الخديوية أثناء وجود جوق جورج أفندي أبيض في مصر.
أندروماك
ثلاثة شعراء كبار طرقوا هذا الموضوع الجليل: هوميروس اليوناني وفرجيل اللاتيني وراسين الفرنسوي. وأندروماك هذه امرأة هكتور الطروادي الذي قتله آخيل وقد كانت بين السبايا من نصيب بيروس بن آخيل. وأبت الاقتران به محافظة على عهد زوجها المقتول.
وإننا ناقلون شيئاً من إلياذة هوميروس ورواية راسين مكتفين بالقليل من الكثير لضيق المقام.
1 - وداع هكتور لأندروماك
قبل نزول هكتور لمبارزة آخيل أقبل يودع امرأته وولده هذه القطعة من أرق ما جادت به قرائح البشر. قالت أندروماك لزوجها:
يا شقي البخت ذا اليأس الوخيم ... سوف يلقيك بلجات الجحيم
ولي الإرمال والطفل يتيم(1/115)
سوف تلقاك جماهير عداك ... وتلقيك مضاضات الهلاك
فلمن أبقى إذا مت سواك
أه لو ألقى إلى جوف الثرى ... قبل أن تلقى على الأرض قتيل
إن تموتن الأسى يخلد لي ... وعنا النفس ودمع المقل
لا أب أسلو به لا أم لي
أنت كل الأهل لي إذا أنت حي ... آه فارحم وانعطف رفقاً علي
آه فارفق بي وبالطفل لدي. .
قال: ما يشجيك يؤليني الشجا ... إنما الموقف أضحى حرجا
نزل الروع وبي العزم أبى ... أن يكون الروع في القلب نزيل
بين أقوامي وربات السدول ... لست أرضى العار أن تعل النصول
أو عن الهيجاء يثنيني الخمول
وأنا دوماً بصدر الفيلق ... شأن (فريام) وشأني أتقي
وأقي قومي بحد المخفق
آه لكن فؤادي والحجى ... ينبئاني أن صمصامي كليل
سوف تندك (باليون) القلاع ... وتوافينا الملمات الفظاع
كل هذا قلبي منه لا يراع. . .
بيد أن الخطب كل الخطب آه ... أن تكوني في سبيات العداه
تذرفين الدمع عن مر الحياه(1/116)
تستقين الماء كالعبد الأسير ... من (مسيس) أو ينابيع (هفير)
تنسجين القطن والقلب كسير
كل بؤس كل رزء وعنا ... كله إن حل ذا الرزء قليل
كله لا شيء إن صح الصحيح ... والذي يلقاك بي هزءاً يصيح
تلكم زوجة هكتور الشديد ... خير ما في القوم من قرم عنيد
كم له قرع بدراع الحديد
تل صدر الجيش تلاً وهنا ... سبيت زوجته وهو تليل
فتصحين وتصلين السعير ... تستجيرين ولكن من يجير. . .
يا لحود الأرض واريني التراب ... قل أن يدهمني هذا المصاب
وأنلني أيها الخطب البلا ... قبلما زوجي للسبي تنيل
ثم مد اليد للطفل فصد ... جازعاً لما رأى تلك العدد
من نواص سابحات وزرد
وبصدر المرضع الطفل ارتمى ... فلديه أبواه بسما
وبرفق عنه هكتور رمى
ذلك المغفر. والطفل بدا ... بيديه بين تقبيل يجيل
ودعا يسأل أسياد الأنام ... أنت يا (زفس) وأرباباً عظام
عونكم أسأله في ذا الغلام
فليكن مثلي هصار الأسود ... وإذا من موقف الحرب يعود(1/117)
فليقل فوق أبيه قد سما ... سل سيف الفوز يا نعم السليل
فليجندل كل جبار أبي ... فائزاً منه بحر السلب
تتلقاه ببادي الطرب
أمه جاذلة مما ترى ... ثم ألقاه لها مستبشراً
وهي ضمته لصدر عطرا
لبس المغفر حالاً ووثب ... ومضت تلفت من حيث ذهب
تذرف العبرة والقلب التهب
هوميروس: النشيد السادس من الإلياذة
تعريب سليمان البستاني
2 - وفاء أندروماك
أندروماك الآن أسيرة بيروس بن آخيل قاتل زوجها وهو يعرض عليها الاقتران به لينقذ لها ولدها وإلا اضطر إلى قتله مرضاة لليونان. وهي بين عامل الحب لابنها وعامل الوفاء لزوجها (من رواية راسين).
أندروماك - لا تظهر الضعف فإنك في البسالة آية. وانعم بإحسان مجرد، فخير الإحسان ما كان بلا غاية.
أيغلبك العشق فتخضع له اضطراراً ولا تخاف في إظهاره عاراً. وتزعم أن أندروماك يطب لها هذا الغرام، وهي على ما ترى من الأسر والحزن(1/118)
والسقام. وأي جمال يلوح لك في عينين حكمت عليهما فعالك بالبكاء؟ فخلهما واحترم مشهد تعاستنا بعد النعمة والهناء. وأنقذ غلاماً بات في أسرك ذليلاً، وكان من قبل جليلاً. ورده على والدة حزينة باكية، ولا تجعلها تفديه ببقية مهجة بالية. أنقده ولو أبت أمه إجابة طلبك، فهو جارك وجار الكريم لا يضام. فذلك عمل يليق بابن آخيل الهمام.
بيروس - أعيذك من البغض اللازم، والقصاص الدائم. فقد أسقمتني بالتجني والصد، وأتلفتني بعدوان ما له حد. فإن كنت قد أبكيتك دمعاً يوم كانت يدي ملطخة بدم أقوامك، فقد أبكيتني دماً في غرامك. وإن كنت لقيت بسببي عذاباً فقد احتملت صنوف عذاب في الغرام عذاب فكفانا يا سيدتي معاقبة تقضي بإتلافنا وليكن أعداء ولدك أعدائي سبباً لائتلافنا. (ثم يجدد لها تأكيد حبه ويعرض عليها تلقاء يدها أن يحمي ابنها ويعيده إلى مجد أبيه).
أندروماك - سيدي إن جميع هذه الوعود لا تغني في حزني شيئاً. وكنت أعد بها ابني لو كان أبوه حيا. . . فيا أيها الأطلال البالية وأيا أيتها الأوطان الفقيدة الغالية. إن في قلبنا من الشوق إليك ناراً حامية. ومن لنا بأن نراك بعد موت المقاتلة والحامية. . . رحماك يا مولاي إن دمعي الهامع لا يسالك غير الرحيل فهو غاية رجاه. فاسمح لي أن أذهب بابني فأخفيه وأبكي أباه. وقد علمت أن ميلك إلينا يورثك بغض قومك والويل - فارغب في هرميون عني (هرميون خطيبته اليونانية).(1/119)
بيروس -. . . ليس بإمكاني أن أرغب في هرميون وأميل إليها. . وقد ملكتك قلبي فلك فيه الأمر والسلطان، فكيف أهواها وليس لي قلبان: من يرى مالك عندي ولا يظن أنك الأميرة وأنها الأسيرة. أواه قول مغرم لو سمعته هرميون لنال فؤادها مناه.
أندروماك - أمل يكفها سوء حالي وأسري وإذلالي. أم تريد أن تضرم في قبر هكتور ناراً. أي ذكر رهيب لهكتور من حبا أباك مجداً كما حبوتك بدمعي اشتهاراً.
بيروس - لقد عز الصبر ولم يبق للعفو منال. . . واعلمي أن بغضي يكون كحبي شديداً. وإن الابن يؤخذ بأعمال أمه لا محال فسأسلمه إلى اليونان. . .
أندروماك - يموت ابني. . . ابني يموت ولا معين له ولا شافع إلا دمعي. . . وعسى أن يقصر ذلك عذابي ويريحني مما ألاقيه فألحق به لنلتقي معاً بأبيه. . . .
(راسين)
تعريب أديب إسحق(1/120)
الأميران في سورية
أميران جليلان زارا سورية في الشهر الغابر، وتنقلا بين آثارها وربوعها: البرنس فردريك ايتل نجل أكبر عاهل غربي، والأمير محمد علي شقيق أعظم أمير شرقي. جاء الأول القدس الشريف للاحتفال بتدشين المستشفى الألماني، وزار الثاني سورية ولبنان سائحاً متجولاً. فكان في زيارة الأميرين أكبر معنى، وأشرف مغزى.
1
فلسطين وطن الأنبياء، ومهد الشعر والشعراء:
وقف أرميا في ربوعها راثياً، فسالت قريحته بأرق الأشعار، وقام على أطلالها نادباً باكياً، فعلم الشعراء كيف يكون الوقوف والبكاء على الأطلال.
وأنشد النبي داود متغزلاً بابنة صهيون على المزمار والقيثارة، فأوقف العالم على سر الغزل والإنشاد. . .
ورفع سليمان في أورشليم، عمد هيكله العظيم، فعلم الملوك كيف تبنى الهياكل، وترفع الأعماد. . .
شعوب إثر شعوب، وملوك تلو ملوك، توالت على تلك الناحية وعرفت منتهى العظمة والعمران، وذاقت ثمالة المذلة والهوان.
هذه هي فلسطين التي ترحب اليوم بابن عاهل الألمان ومواطن جوت وشولر، ترحب وتؤهل ذاكرة ملوكها وشعراءها، وقد حظيت في جوفها رفاتهم، وفي هوائها أنفاسهم، وعلى آثارها وفي هياكلها ذكرهم وأسماءهم.(1/121)
ومن تلك الآثار العافية، والهياكل الدارسة، ينبعث صوت الإرشاد والذكرى.
وفوق أشلاء المدن، وتراب الممالك التي يدوسها اليوم ابن الإمبراطور تقرأ سطور العظمة والعبرة
فعسى أن يكون قد ذكر واتغظ واعتبر
يصعد الرحالة النشيط مجرى النيل ليقف على منبعه، وكذلك صعد الأمير الألماني إلى جبل الزيتون ليجد الدين هناك سالماً طاهراً، قبلما تشوب صفاءه كدرة أهواء البشر وأغراضهم، وتفسد طعمه العذب مرارة تراهاتهم وسخافاتهم.
فعسى أن يكون قد فاز بتلك الأمنية.
وحينئذ يعود إلى بلاده، حاملاً في برديه، كلمة الوئام والسلام، بعدما اتعظت نفسه بعواقب العدوان والخصام.
ويدرك معنى الثورات والانقلابات، بعد أن راد بلاداً حدثت فيها الثورات الكبار، فأكلت العروش، وقرضت الجماعات والأجيال.
ويعرف كيف تساس الأمم، وتقاد الشعوب، وكيف يكون التاج المرصع على مفرق القياصرة، بعدما رأى إكليل الشوك مدمياً جبهة ابن داود. . .
هذا ما نريد أن يعود به أمير الغرب من الشرق، ولا نريد أن نفهم لزيارته غير ذلك من المعاني
في الماضي أرسل هارون الرشيد مفاتيح البيعة إلى كارلس الأكبر(1/122)
إمبراطور الفرنجة دليل الاتفاق والسلام، واليوم يزور البيعة ابن الإمبراطور الأكبر فليكن ذلك دليل التصافي بعد الخصام.
2
مصر وسورية قطران شقيقان، وبلدان متاخمان. يجمعهما التاريخ وتربطهما اللغة والعادات والتقاليد. ولقد أصبح الأدب، أشد رابطة بينهما من صلة النسب.
نحن في عصر كثرت فيه المزاحمة، واشتدت المنافسة، حتى كادت كل أمة تخشى أن تمشي وحدها، فعاهدت وحالفت للتضافر والتآزر في سيرها العمراني.
وكل شيء يمهد للقطرين المصري والسوري سبل التعاهد والتحالف، ليسيرا جنباً إلى جنب في مدارج الرقي، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الفوائد الجمة.
زار الأمير محمد علي ربوع الشام، وقد عرفت الشام ما بينها وبين مصر، فنهضت نهضة واحدة لتكرم مثوى الأمير المصري، وهي تكرم في شخصه الكريم كل سكان وادي النيل.
ولائم ومآدب، وخطب وقصائد، وجموع هازجة، وجماهير مهللة، في بيروت ولبنان ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس وفي كل مدينة حلها الأمير ضيفاً كريماً على السوريين.
أمراء عظام، وضيوف أعلام زاروا سورية قبل الدستور وبعده، فاستقبلتهم الحكومة استقبالاً
رسمياً، ولكن لم يحتفل بهم الأهالي(1/123)
احتفالاً عاماً أهلياً
لأن زائر اليوم ضيف ولا كالضيوف، وأمير ولا كالأمراء. هو شقيق مصر، ومصر شقيقة سورية: في الماضي والحاضر والمستقبل، في السراء والضراء.
صفقت أفنان رياض الشام، وأغصان أرز لبنان لوصول الأمير المصري
واهتزت آثار بعلبك وترنحت طرباً للقاء من ربي بجوار الأهرام
وانسابت مياه العاصي والليطاني لتحية ابن النيل
وقامت جبال سورية تنظر إلى سليل إبراهيم باشا لأن اسم إبراهيم قد ملأ تلك الأنحاء، وذكر عدله قد سكن قلوب بنيها
ولئن طافها العلم المصري في يد إبراهيم غازياً، فهو يطوفها اليوم في يد محمد علي مسالماً مصافياً.
في جوار بيروت غابة الصنوبر زرعها إبراهيم باشا على ما يقال ليرد عن المدينة غارات الرمال، فكانت تلك الغابة إكليلاً أخضر على جبهة بيروت
في تلك الغابة استقبلت بيروت حفيد إبراهيم، وهي لعمري فكرة جميلة، لم تخف على الأمير.
جلس الأمير في ظل تلك الأشجار الباسقة الملتفة الأغصان، فذكر جده. وسمع بين حفيف الأوراق صوتاً معروفاً ينشده:
لئن بت بالمجد المؤثل مغرماً ... فقد كان إبراهيم بالمجد مغرما
و (الزهور) السورية البذرة، المصرية المنبت، تنتظم إكليلاً باهراً على جبهة مصر وسورية، لتحية ابن مصر نزيل سورية.(1/124)
ثمرات المطابع
من أكثر أبواب المجلات فائدة باب درس المطبوعات. لأن في ذلك إعلاناً للكتب المفيدة وترويجاً لها لتعميم فائدتها، وخدمة لمؤلفيها بإفراغ أفكارهم ومبادئهم في كير البحث لتمييز الجيد من الفاسد. ومن جهة ثانية ترى السواد الأعظم من القراء لا يمكنه وقته أو كيسه من مطالعة كلما يطبع ولو كانت رغبته في ذلك شديدة، فيتيسر له بواسطة المجلة التي يطالعها أن يقف على مجرى الحركة العلمية والنهضة الأدبية بمطالعة زبدة الآراء التي يستخلصها له غيره. ولما كان هذا الباب من الأهمية بمكان عظيم لم نشأ أن نحصر تحريره بكاتب واحد لأنه يتعذر عليه درس كل ما يظهر من الكتب درساً مدققاً، فعهدنا إلى فريق من الكتاب من أصدقاء هذه المجلة أن يطرقوا هذا الباب مناوبة خدمة للعلم والأدب.
على طاولتي كتب كثيرة أرسلها إلي مدير الزهور لأطلع عليها وأقول لكمتي فيها فأطلع القراء على مضمونها. وأنا أقوم بذلك بكل سرور، وأعد القارئ بالأمانة التامة، ولو أغضبت الصراحة فريقاً من المؤلفين علي، مع أن غضب الزملاء ليس بالأمر الذي يستهان به. وإذا شط بي القلم عن جادة الحق، فذلك عن قصر في النظر وضعف في الرأي، لا عن هوى في النفس وتحيز في القلب. وبعد هذه المقدمة أبدأ حديثي عن الكتب التي أمامي وهي واردة من أنحاء مختلفة.
(النجوى) رسالة وجهها فليكس أفندي فارس صاحب جريدة لسان الاتحاد إلى نساء سورية ويصح أن توجه إلى نساء الرق بل إلى نساء العالم بأجمعه. فالمرأة هي هي في كل مكان وزمان، وإن اختلفت في(1/125)
بعض أطوارها: هي الحاكمة أو المحكومة، والملاك أو الشيطان، والزهرة أو الشوكة، والعسل أو الحنظل، والابتسامة أو الدمعة. . . النساء نصف الجنس البشري تقريباً فالبحث في شؤونهن واجب على كل مفكر. أردف فارس أفندي رسالته برواية. والرسالة والرواية متساويتان من حيث الأفكار المسبوكة بألطف قالب شعري. لم أقرأ للشاب شعراً - وأقوال الشاب لأن صورته في صدر كتابه تدل على نضارة العمر - وأعتقد أنه يجيده لأنه في نثره سامي الخيال جميل التصور رقيق الشعور. بل هو يقول عن نفسه لأنه لا ينظر إلى الحياة إلا من وجه الشعور والعواطف. وقد يتعب القارئ في قراءاته لتراكم الصور والاستعارات ويمل أحياناً من وحدة السياق سيما والكتاب لم يقسم إلى أبواب بل هو أنة واحدة صعدت من صدر الكاتب دفعة واحدة ولم تته إلا في آخر
سطر وذلك يدل على غزارة مادة وقوة عارضة. فعلى صاحب هذه الصفات الثمينة أن يعرف كيف يستفيد منها. . . لم يحاول صاحب النجوى أن يكسر سلاسل الأسير بل أراد أن يعلمه كيف يحرك قيوده لتسمعه رنيناً مطرباً وقد حقق ما قال. ولكن هل هنّ يا ترى كثيرات النساء اللواتي قرأن هذا السِفر المكتوب لهن؟
وكما أن الجدال شديد حول النسائيات في عصرنا هذا فإن الحرب قائمة بين الروحيين والماديين. وكل فريق يعمل على تأييد مذهبه، وتفنيد مذاهب خصمه بالقلم واللسان. وقد نزل إلى هذا الميدان سيادة الحبر الجليل العلامة كيريوس بولس أبي مراد متروبوليت دمياط النائب(1/126)
البطريركي العام في القدس يافا وجال جولات تشهد له بطول الباع في كتابه البرهان السديد فدافع دفاعاً صادقاً عن الحقائق التي أقرها أكابر الفلاسفة وعلمها أساطين العلماء وهي من أمس الضرورات لنظام الاجتماع البشري إذ عليها تتأسس الشرائع والسنن التي تساس بها الهيئة الاجتماعية وهي مصدر الواجب والفضيلة وركن الضمير الشخصي وأساس التمييز بني الخير والشر وهنا أترك الكلام لأحد كبار العلماء المسلمين. تصفح هذا الكتاب فقال: إن صاحب البرهان السديد سديد البرهان، قوي الحجة، يحذو حذو الصوفيين في الإسلام ويحلق في سماء الروحانيات بعد أن يدحض أقوال ذوي المذاهب الذين لا يعرفون غير المادة، وكتابه جليل في بابه وهو بعيد النظر في الأمور.
ولا أخرج عن هذا الموضوع إذا تكلمت عن كتاب أو عن كتب حضرة المفضال الخور فسقفوس جرجس شلحت السرياني وأمامي منها كتاب النجوى في الصناعة والعلم والدين، وحواشيه المجموعة تحت اسم الجدوى ومنظومات الكون والمعبد والطراز المعلم وأكثر هذه التآليف مسبوكة شعراً سهلاً سيالاً على أنه لا يخلو من التطويل وشيء من التكلف وقد ذكرت عند قراءته فرحات والصائغ في تغزلاتهم الروحانية على أنه أكثر منهما تفنناً في طرق المواضيع المتنوعة. ولقد أعجبني من المؤلف حواشي كتابه التي دلت على معارف جمة في(1/127)
التاريخ والأدب والاجتماع قديماً وحديثاً. وكثيراً ما وقفت عندها أكثر مما وقفت عند المتن. ويظهر أن لهذا الكاتب البليغ في كل فن أثراً. فكتبه تدل على اجتهاد قلما عرف في كتّاب الشرق. وكأنه أراد أن يأخذ على نفسه إعادة من نبغ في حلب الشهباء من أعلام الأدباء. فيقضي أوقاته بالتأليف والتصنيف ولا تخلو النتيجة من أمثال فنلون التي عربها
نثراً ونظماً من رشاقة وجزالة في التعبير ولكن الإنشاء الساذج كان أولى بها. وكنت قرأت منها شيئاً في مجلة الضياء فاستحسنتها.
ومن غرائب الاتفاق أنني ما انتهيت من تلاوة البرهان السديد ومؤلفات الأب شلحت حتى فتحت مقدمة السبرمان تأليف سلامة أفندي موسى والسبرمان هو ما يسميه الإفرنج أو أي فوق الإنسان وهو مذهب نيتشه الفيلسوف الألماني الرامي إلى استئصال الرحمة من بني الإنسان لأنها ضربة على الإنسانية وجريمة فظيعة لأنها تخلد الصفات الرديئة في الشعوب فيجب تفسير الحياة بحب القوة وكره الضعف، والعلم على ترقية الإنسان إلى درجة السبرمان وذلك بالتحرير الاقتصادي القائم على السوسيالية وبالتحرير الأدبي بشكلٍ ينقرض معه الدنيء ليبقى العالي. وهذا مذهب يطول البحث فيه ولا مجال لي اليوم إذ لا يزال أمامي كتب عديدة وأنا مضطر إلى إرجاء الكلام عنها إلى العدد القادم.
- ناقد(1/128)
جمالان في معرض
بعد ظهر السبت في 23 أبريل كان افتتاح المعرض السنوي الخامس من معارض الزهور في كازينو سان استفانو في الإسكندرية بحضور سمو الجناب الخديوي وهو عبد الزهر والجمال. وقد جاءتنا الرسالة الآتية بهذا الموضوع. ومن أولى من مجلة الزهور بالاهتمام بمعرض الزهور:
أخذت الشمس تبزغ ساطعة في أفق صافٍ هو جزء من جو انقشعت سحابته التي كانت تبدو تارة سنجابية رامزة إلى البرد والعواصف، وتارة كثيفة سوداء منذرة بالبرق والرعد والمطر - أخذت تبزغ فتتهادى متجلية في هذا الجو اللازوردي مانحة روح الحياة إلى الطبيعة. فانجلت عبوستها مسفرة عن مجموع جمالي طبيعي رائع كاسف لسواه من الجمال. فهو الحياة في سن الشباب الزاهر، بل البهاء السائد على القلوب، بل الرواء الآسر للأميال السامية، بل الشذا الذي تحرك النسمات مصدره فيعطر الأرجاء، بل الروح التي تمتزج في نفس اليائس فتولد فيه الأمل، وتمر بالعبوس المكتئب فتنفس كربته، ويستنشقها الحزين فتخفف ما به، وتصل إلى معاطس العليل فتنعشه، بل هي التي يراها السعيد فتضاف إلى سعادته سعادة أخرى، وتلمسها أنامل الحسناء فترى مستقبلها في نطاق الغبطة، ويشاهدها المعاقر فيتجلى له الحبب للآلئ، ويضمها العاشق فيود لو ينزع قلبه فيهديه إلى عشيقته، بل هي التي ينساب الماء في مجاريها فتنمو، وتنبعث الحرارة الشمسية في عيدانها فتحيا، ويداعب الهواء البليل أوراقها فيسمع لتلامسها صوت هو الشدو، أي هي الورود - بين أحمر(1/129)
قانٍ، وأصفر فاقع، وأبيض ناصع - وقد تفتح. والقرنفل على تباين ألوانه وقد برز من أغشيته المخضرة. والياسمين وقد كسا أغصانه التي هي كجدائل العذارى بخيطانه البيضاء. والفل وقد كللت نواصي عيدانه برمز الطهر والثالوث وقد بدا كأنموذج لألوان الكشمير و. و. إلى غاية ما هناك من الزهور والرياحين ولا غرو في هذا كله فقد أخذت وصيفات الربيع تقرعن باب الجمال فلاحت عروس مايو مفترقة للوجود عن ذلك المجموع، قائلة للشاعر تغزل، وللكاتب تصور وللعاشق تأمل، وللمصور صور فإن فيّ آية الآيات.
* * *
هو ذا البستان والحديقة والحقل بل هو ذا المكان الذي بدت فيه هذه الزهور زاهرة يانعة،
ولكن ما هذه اليد الإنسانية التي تمتد إلى الأغصان فتنزع حلاها منها، وتنقض على العيدان فتنزع منها الثمر، وتغوص في الأرض فترفع الشجيرات من أصولها؟؟. . . . . . . . .
* * *
هناك. على ذاك الشاطئ الرملي الذي سورته يد الإنسان ليدرأ عن البر هجمات البحر، وحيث يبدو هذا البحر كصحيفة من لجين لانحراف الشمس نحو الغرب فتكسبه لوناً أرجوانياً. هناك حيث امتزج دوي الأمواج المزبدة بأصوات المئات من الأنفس بنغمات الآلات العازفة فينقل الهواء هذه النغمات إلى بعد بعيد - إلى هناك حيث نادي سان استيفانو الذي هو مصيف الإسكندرية الأكبر - نقلت تلك اليد هذه الورود(1/130)
والزهور والرياحين نقلاً، ورصتها فيه رصاً، ونسقتها تنسيقاً هندسياً أفرغ في قالب الحسن الوضعي فأطلق على النادي في ذاك اليوم اسم معرض الزهور
* * *
غص النادي فحوى الجمالين. جمال الحسان وجمال الزهور. فتباريا متزاحمين. أحدهما خليع طائش وثانيهما ساحر ثابت. يبدو أحدهما حيناً من السهام المندفعة من عيون الحسان فيلوح الآخر في الوقت ذاته من وراء الزهور. تتمايل الحسان حيناً آخر تمايل الدلال على نغمات الآلات العازفة فتتمايل الزهور تمايل الاستمالة للنسمات الهابة. تقع العين على حمرة الخدود فتصادف حمرة الورود. تشاهد بياض الأذرع العاجي والصدور النقية فيلوح بها الفل وهو يفوق العاج، والياسمين وهو النقاوة نفسها.
* * *
غير أنه لتنازع لم يستول على مجموع قوانا. فإننا لم نلبث حتى فطنا إلى حقيقة حجبتها عنا هذه المظاهر التي سحرتنا لأول وهلة. وهي حقيقة قد جردتنا من الإعجاب بالظواهر، فرأينا البواطن فارتسمت علينا ملامح الامتعاض وقلنا والسويداء مستولية علينا:
بئساً لكما من جمالين قد خرجا عن طورهما الطبيعي ففقدا أعظم مواهبهما السامية.
دخلت التصنعات على كليكما فهبطتما من ذروة الإعجاب التي تسنمتمانها في نفسنا.
دخلت التصنعات على الحسان ميلاً منهن إليها بغية الإبداع(1/131)
فداخلت الإنسان الريب المحسوسة في تكوينهن. ودخلت على الزهور قصد إكسابها رونقاً على رونق ففقدت
رونقها الأول.
* * *
صدى الآلات العازفة ينشف الأسماع ويجلو هموم الصدور، ودمدمة الأمواج رامزة إلى أن البحر ثائر لتقيده بسلاسل حجرية، والشمس آخذة في الأفول وهي كقبة من نار مشتعلة في الأفق الغربي. فملنا إثر ذاك الاستنتاج عن سماع العزف واعرضنا عن ذينك الجمالين واستقبلنا الشفق فانطلقت من صدرنا نفسة وقلنا:
إنك الجمال أيها الشفق الطبيعي الذي لن تنال يد الإنسان ولن تدعها أنت تصل إليك وإنك لمتمثل فعلاً في ابنة الكوخ والزهرة وهي في الحقل
- الإسكندرية
حنا صاده
أزهار وأشواك
يا شعراء
شعراء مصر يندبون حالهم، ويتذمرون لكساد سوق الأدب في بلادهم، فيناجون شعراء الشام مستفهمين، وشعراء الشام يتأوهون لسوء مصيرهم، وإعراض الناس عن بضاعتهم فيجيبون شعراء مصر آسفين. . . النغمة واحدة في القطرين، والشكوى متشابهة في البلدين، وقد أصبح لسان حال الفريقين:
اليوم من يعلق الرجاء به ... أكسد شيء في سوقه الأدب(1/132)
ومتى كان الشاعر سعيداً غير في الخيال، وأين كان غنياً سوى في التصور؟
ولو كانت الأبيات تنفع شاعراً ... لما كان يبنيها ويسكن بالأجره. . .
فتعزوا يا شعراء، ولا يأخذن منكم اليأس وأنتم الأغنياء. ألم يقل شاعركم:
ورأس مالي سحر الكلام الذي ... منه يصاغ القريض والخطب
أغوص في لجة البيان فأختار اللآلئ منها وأنتخب
وآخذ اللفظ فضة فإذا ... ما صغته قيل أنه ذهب
النظارة العجيبة
شبه العلماء العين بالآلة الفوتوغرافية ترتسم عليها كل الصور المنظورة. وقد ثبت لأحد العلماء الآن أن العين تحفظ صورة آخر ما ترى على أكمل شكل. لكن الرسم الدقيق لا يراه النظر المجرد. فاخترع نظارة مكبرة لتجسيم هذا الرسم. أنت لا تلتفت أيها القارئ إلى هذا الاختراع وتعده تافهاً ليس وراءه من فائدة كبرى. أما أنا فبخلاف ذلك فإني أعده اكتشافاً خطيراً أين منه سائر الاكتشافات. أركب هذه النظارة، وأنظر في عين ذاك المتظاهر بالورع والتقوى، فأرى رسم المكان الذي كان فيه قبل طرقه باب المسجد. وأنظر في عين تلك الحسناء العفيفة، فأرى صورة آخر حبيب كانت تغازله وتداعبه. انظر في عين الكاتب فأقرأ فيها صفحات ذلك الكتاب الذي سرق منه مقالة ادعاها. . . أنظر. . . فأرى. . .(1/133)
خراب العالم
وما عهد هذا الخراب ببعيد: ثمانية عشر يوماً تنقضي فيقضي علينا بالهلاك حريقاً أو غرقاً أو تسمماً - كما يزعم البعض. وذلك لأن مذنب هاللي يمسنا بذنبه فيكتسح عالمنا في
الفضاء كما تكتسح المكنسة حبة الرمل. . . ما اغرب طبع الإنسان. كل شيء غير منتظر يولد فينا الخوف واليأس بدل الفرح والأمل: سر في طبع الإنسان لا أعرف فك رموزه. والخوف من ظهور المذنبات قديم العهد تجده في أشعار فرجيل وفي كتابات غيره من الأقدمين. وها أن قلوب الأكثرين قد هلعت لقرب ظهور مذنب هاللي. ففي إسبانيا ساد الرعب واستولى القنوط على القوم، وفي الصين ثار الشعب وهاج وأخذ يفتك بالأجانب ويسلب وينهب. وفي النمسا خافوا خوفاً فلسفياً فباعوا أملاكهم وأخذوا ينفقون أثمانها على إقامة الأفراح والمسرات لتوديع هذه الحياة. ولعمري أن هذا النوع من الخوف يفضل سواه بكثير. ولقد ذكرني ذلك برسالة كتبها فولتر في مثل هذه الأيام منذ مئة وسبه وثلاثين سنة، وكان الباريسيون ينتظرون ظهور المذنب الذي ننتظره اليوم. فضحك كعادته ضحكاً يرن صداه في أذني الآن. فأقهقه معه لأن الضحك يجلب الضحك ألا تضحك معي أيها القارئ. . .؟ وإذا قضى علينا المذنب فنموت ضاحكين مسرورين
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن نموت حزانا(1/134)
حديقة الأخبار
- في 26 مارس مثلت الجمعية الحمصية في ملعب أكاديمي أوف موزيك في بروكلين (أمريكا) رواية جنفياف وفي 9 من الشهر الغابر مثل المنتدى السوري الأمريكي في نيويورك رواية ثارات العرب من قلم المرحوم الشيخ نجيب الحداد. فالمهاجرون ينشرون اللغة العربية في أقاصي المعمور.
- للكاتب التركي عزت مليح بك رواية تمثيلية اسمها ليلى وقد نقلت إلى اللغة الإسبانية ومثلت في الشهر الغابر في مكسيكو وقد أثنت جرائد البلاد كثيراً على هذه الرواية ومؤلفها الشرقي لإجادته في تنسيق مشاهدها وتمثيل العادات الشرقية.
- مثلت رواية عنتر تأليف شكري أفندي غانم ستين مرة في باريس في ملعب الأوديون وكانت القاعة كل مرة غاصة بالحاضرين، واضطر مدير الملعب إلى إيقاف تمثيلها بسبب ارتباطه مع بعض المؤلفين لتمثيل رواياتهم هذه السنة.
- في 17 أبريل مثل فريق من تلامذة المدرسة المارونية في مصر رواية اللصوص من قلم مدير هذه المجلة فأجادوا كثيراً.
- زار مصر في هذا الشهر جميل بك معلوف وشبل أفندي دموس وكلاهما من الكتبة المعروفين في أمريكا فأهلاً ومرحباً.
- بعد كلمة الحق والعرب ودار الخلافة صدرت جريدة عربية جديدة في عاصمة السلطنة العثمانية باسم الحضارة لمدير سياستها(1/135)
حضرة عبد الحميد أفندي الزهراوي العضو في مجلس المبعوثان ومدير أعمالها شاكر أفندي الحنبلي. وهي سياسية أدبية فنية وتصدر يومياً. بدل اشتراكها 60 غرشاً. اخبارها شائقة وعبارتها رائقة ومدير سياستها كاتب طويل الباع.
- وردت مقالة لطيفة في الإكسبرس الإسكندري عن الأندية والصحف: كل الأندية تريد أن ترسل إليها الصحف والمجلات مجاناً مع أن النادي يستفيد من الجريدة لأنها أهم الآلات والوسائل التي تعينه على بلوغ غرضه. أما صاحب الجريدة فلا يستفيد من النادي. ونظام الاجتماع يقضي بأن يكون النفع متبادلاً. . . الأندية في أوروبا تخلق الصحف وتمدها بالمال وتروجها وتشد إزرها. أما عندنا فيريدون من الجرائد أن تخدم الأندية والمجتمعات وتعضدها وتنشر تقاريرها و. و. و. وتريد أن تشترك فيها لوجه الله.
- ثلاثة من نخبة كتابنا حرمت الحكومة القراء من نفثاتهم الشائقة فتركوا الصحافة لدواوين الحكومة: حافظ أفندي عوض أصبح في المعية السنية، والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي في نظارة المعارف، ومحمد أفندي مسعود في قلم المطبوعات. نحن نتمنى لهم كل توفيق وتقدم على شرط أن يذكرونا من حين إلى حين. وإذا كانت مراكزهم الجديدة تحول دون جولاتهم المعروفة في ميادين الصحافة، فإن المجلات الأدبية لا تزال مفتوحة في وجههم. فليذكروا العهد، ولا ينسوا صحبتهم الطويلة للقلم الذي طالما غرّد في يمينهم. . .
- مخبر(1/136)
العدد 4 - بتاريخ: 1 - 6 - 1910
الكلمات الأجنبية
في اللغة العربية
من سوء الحظ ليس عندنا مجمع لغوي يبحث في تهذيب لغتنا ويعد لنا مفردات جديدة لما استجد من الاختراعات والاكتشافات شأن سائر الأمم. ولما كان هذا الأمر من الأهمية بمكان عظيم لإحياء اللغة وتطبيقها على حاجات زماننا الحاضر رأينا فريقاً من أدبائنا الأعلام يحاولون أن يسدوا هذا الفراغ ببحثهم وتنقيبهم، فوُفقوا في بعض الشيء وفشلوا في البعض الآخر.
وقد رأى نادي دار العلوم الزاهر منذ سنتين أن يقوم بهذه الخدمة الجلى بوضع مسألة الأسماء للمسميات الحديثة موضع بحثه ومناقشاته. وكان قد وضع عقب انتهاء المناقشات قراراً يكون منهجاً لسيره في التعريب. وذلك بأن يختار عشرة من الأسماء الأعجمية أو العامية فيرسل إلى كل عضو من أعضائه نسخة منها ليكتب كل منهم ما يراه لذلك الاسم من الكلمات(1/137)
العربية البسيطة أو المركبة. ثم تعاد هذه الإجابات إلى النادي في موعد معين، وحينذاك تجتمع اللجنة العلمية للنادي فتنظر في ما لديها وتنتقي من الكلمات أقربها مناسبة لمعنى الكلمة الأعجمية أو العامية. ولما اجتمع لدى اللجنة جملة صالحة من تلك المفردات قررت أن تبدأ بنشرها ليطلع عليها أعضاء النادي ويبدوا ما عندهم من الملاحظات. وإذا مضى شهر كامل ولم يرد ملاحظات اعتبرت رأياً عاماً لجميع أعضاء نادي دار العلوم فكان عليهم أن يصقلوها بألسنتهم وأقلامهم حتى تكون لعامة من يشتغلون باللغة العربية.
ولم يشأ أعضاء النادي أن يبخسوا من تقدموهم بالعمل حقهم فإن المفردات التي سبقت الجرائد والمجلات إلى استعمالها في معنى من المعاني وكانت أفضل من سواها قد أبقوها على ما هي.
هذا هو العمل الذي أخذ النادي على نفسه القيام به ولعمر الحق أنه لعمل جليل مفيد يستحق القائمون به على كل ثناء وشكر.
على أننا نطلب من الأعضاء الكرم أن يمددوا أجل البحث حتى يتمكن أدباء معظم الأقطار العربية من الاشتراك فيه، ليكون الاختيار أصح، والاستعمال أعم.
وإننا نعرض اليوم على قرائنا ما توصل إليه أعضاء النادي من البحث في وضع المفردات
طالبين من الأدباء أن لا يضنوا بملاحظاتهم حتى تصل بواسطة هذه المجلة إلى النادي فتتم الفائدة التي نسعى إليها:
- (استمارة) يرى أعضاء النادي استعمال (استئمارة) وقد وجدت(1/138)
هذه الكلمة في الكتب القديمة بلفظ استيمار بالتسهيل وحذف التاء ولكنهم رأوا إثبات التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر أي اخذ أمره.
- (انفيتياترو) ترجمت بلفظة (مدرَّج) منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء يجمع عليها.
- (بلوك نوت) تعريبها (اضمامة) ومعناها الأوراق منضمة.
- (بويه) نظرت اللجنة فيما يستعمل للتلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة (صبغ) كصبغ الثياب والورق وما أشبه. ونوع يعلو السطوح فاختارت له كلمة (طلاء) كطلاء المباني والأواني وغير ذلك.
- (تختة بوش) وهو ما يسميه الإفرنج وتعريبه (نجيرة) فقد جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها قصب ولا غيره.
- (تربيزة أو طاولة) رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعاً: فمنها ما هو للأكل وهذا (خوان) ويسمى حين وضع الأكل عليه (مائدة). ومنها ما توضع عليه الأشياء المختلفة وهذا (منضدة) مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق بعضه ويخصصه بعض اللغويين بحرّ المتاع وخياره. ومنها ما هو للكتابة خاصة وهذا يطلق عليه كلمة (مكتب) المستعملة.
- (ترسينه) إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى (كُنَّة) ومنه ما هو مكشوف وهذا (طَنَف) والكلمتان في العربية(1/139)
موضوعتان لما يخرج من الأجنحة في الدار. على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي (شرفة) وقد كثر استعمالها. وقد ورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة (مستشرف).
- (جول) اختارت لها اللجنة لفظة (مرمى) على أن كلمة (محج) الشائعة في سورية تؤدي نفس المعنى.
- (خارطة) وصحيحها (خريطة)
- (دوسيه) تعريبها (ملف)
- (شماعة أو تعليقة) وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين: أولهما ذو عمود متوسط
وشعبات بارزة فاختارت له كلمة (غِدان) وهو في اللغة قضيب تعلق عليه الثياب. والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة (شجاب).
- (طابور) الكلمة عربية حرفت وصحيحها (تابور).
- (كارت فيزيت) سبق اختيار (بطاقة الزيارة) ولا مانع من الاستغناء عن المضاف إليه فيقال (بطاقة) كما يقول الإفرنج (كارت).
وقد رأت اللجنة أيضاً استبدال (سينماتوغراف) بكلمة (خيالة) وهي كل ما تراءى لك من الصور (وفونغراف) ب (الحاكي)
وسيموغراف (بمطبعة النضح) و (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار) لأنها اتخذت قاعدة عامة في تسمية المطابع وهي أن تستعمل كلمة مركبة من (مطبعة) مضافة إلى أكبر مميز لتلك المطبعة. على أن كلمة (الآلة الكاتبة) أو (الكاتبة) فقط أقرب من مطبعة الأزرار.(1/140)
هذه نتيجة بحث اللجنة الأولى وسنوافي القراء بباقي أبحاثها طالبين منهم أن يوافونا تباعاً بملاحظاتهم على الكلمات المختارة حتى يتم المقصود وتنتشر الكلمات الجديدة في الصحف والمجلات وعلى الألسنة.
رجوع الحبيب
أرفعها إلى
ما جاء الليل حتى انهزمت الأعداء وفي ظهورهم بضع السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون وحاملين ألوية الفخر، منشدين أهازيج النصر، على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي.
أشرفوا على الجبة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلا، وبانت غابة الأرز بين تلك البطاح، كأنها وسام مجد أثيل علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان.
ظلوا سائرين، وأشعة القمر تتلمع على أسلحتهم، والكهوف البعيدة تتقلد تهاليلهم، حتى إذا ما بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية، كأنه قُدَّ منها. فاقتربوا إليه مستطلعين، وإذا بجثة هامدة مرتمية على أديم التراب المجبول بنجيع الدماء. فصرخ زعيم القوم قائلاً أروني سيف الرجل فأعرف صاحبه.(1/141)
فترجل بعض الفرسان وأحاطوا بالمصروع مستفسرين. وبعد هنيهة التفت أحدهم نحو الزعيم، وقال بصوت أجش لقد عانقت أصابعه الباردة قبضة السيف بشدة فمن العار أن أنزعه.
وقال آخر: لقد لبس السيف غمداً من الدماء، فاختفى فولاذه.
وقال آخر: لقد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضواً واحداً.
فترجل الزعيم، واقترب من القتيل قائلاً: أسندوا رأسه ودعوا أشعة القمر أن ترينا وجهه.
ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت، ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجوليته، وجه متأسف فرح، وجه من لقي العدو عابساً، وقابل الموت باسماً، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه أهازيج النصر.
ولما أزاحوا كوفيته، ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرخ متوجعاً: هذا ابن الصعبي فيا للخسارة. . .!
فردد القوم هذا الاسم متأوهين، ثم جمدوا في أماكنهم، كأن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد
فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال، فالبكاء والنحيب حري بالنساء، والصراخ والعويل خليق(1/142)
بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقاراً - ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يرتفع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولاً وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجة. ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وأن لم تجيء كان هو نفسه أشد فعلاً منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الأشفار في صدره، كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال. فاقترب الزعيم وجثا مستفحصاً، فوجد دون سواه منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب، مربوطاً حول زنده، فتأمله سراً، وعرف اليد التي غزلت حريره، والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلاً إلى الوراء حاجباً وجهه المنقبض بيده المرتعشة. تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رؤوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم كريهة مدفوعاً ببسالته فصرع وسوف يرجع إليها محمولاً على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال احد الواقفين: تعالوا نحفر له قبراً تحت تلك السنديانة، فتشرب أصولها من دمه وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوةً وتصير خالدة وتكون له رمزاً فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه.(1/143)
فقال آخر: لنحملنه إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة فتظل عظامه محفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر.
وقال آخر: اقبروه ههنا حيث جبل التراب بدمائه واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة
وقال آخر: لا تلحدوا سيفاً مضرجاً بدم الأعداء ولا تنحروا مهراً يخوض المنايا ولا تتركوا في الوعر سلاحاً تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث.
وقال آخر: تعالوا نجثو حوله مصلين صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا.
وقال آخر: لترفعه على الأكتاف جاعلين له نعشاً من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء الأعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل أن يخرسها تراب القبر.
وقال آخر: تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى، ونقلده رمحه وندخله الأحياء ظافراً، فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملاً ثقيلاً.
وقال آخر: تعالوا نودعه لحف هذا الجبل فيكون له صدى الكهوف نديماً وخرير السواقي مؤنساً، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطئ أقدام الليالي خفيف الوقع.
وقال آخر: لا تغادروه ههنا، ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية،(1/144)
بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية، فيكون له من أرواح جدودنا رفاقاً يناجونه في سكينة الليل ويقصون عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم.
فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة ثم قال متنهداً: لا تزعجوه بذكرى الحروب ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رؤوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعيده إليها كيلا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه.
حملوه على المناكب، مطأطئي الرؤوس خاشعي العيون، ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر فتجيبه الكهوف بصداها، كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جاراً أجنحته المكسورة.
- باريس 4 (أيار) مايو 1910
جبران خليل جبران
جبران خليل جبران كاتب اشتهرت كتاباته في أمريكا وامتاز برقة الشعور وسمو الخيال ثم سافر إلى باريس لإتقان فن التصوير. فأصبح يصور بالكلام أو بالألوان ما يجيش في
خاطره أجمل تصوير. وقد أرسل إلينا هذه المقالة اللطيفة من فرنسا بعد أن انقطع مدة عن الكتابة.(1/145)
القطران الشقيقان
في 8 مايو المنصرم أقام نادي المدارس العليا حفلة شائقة حضرها فريق كبير من وجهاء القطرين المصري والسوري ونجباء التلامذة إكراماً لحضرة جورج أفندي أبيض وهو أول ممثل شرقي تلقى أصول التمثيل على أساتذة الفن في باريس وذلك على نفقة حضرة الجناب العالي الخديوي (راجع الجزء الثاني ص 65 من هذه المجلة) فافتتح الحفلة عزتلو القانوني الشهير أحمد لطفي بك بكلمات طيبة.
وألقى المحتفل به مقاطيع عديدة نالت استحساناً كبيراً، وقد دعي إلى الكلام صاحب الزهور فقال ما يأتي:
هذي يدي عن بني قومي تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب
يا كرام السادة. هذا البيت لشاعر الشرق الكبير هو خير ما يستهل به الكلام في مثل هذا النادي الزاهر، ساعة أراه يضم في هذه المساء نخبة أدباء البلدين، وعلية قوم القطرين الشقيقين.
وكلمات الإخاء والسلام هي خير كلمات تردد في ساحة تجمع فيها رجال العلوم وأبطالا لآداب والفنون
فتحية وألف سلام يا أعضاء هذا النادي الأعلام، وتحية وألف سلام يا أبناء النيل الكرام. سلام تردده ربوع الشام من شواطئ البحر إلى أعالي لبنان، فيتراجع صدى هذه التحية، في كل صدر خفقت بين ضلوعه نفس حرة أبية عربية.
تحية طالما جاش بها الفؤاد، وتحركت بها الشفاه، حتى لم يقو الصدر على كتمانها في هذا المساء فانبعثت منه طاهرة خالصة من كل تكلف(1/146)
وتصنع، لأن مصدرها القلب وإلى القلب مصيرها.
فخذوها منا غليكم أيها الإخوان ومهرها الصدق، وصداقها الإخلاص. وأحلوها منكم محل الإكرام، فانتم الأحرار في بلادكم، الكرماء لضيوفكم.
* * *
ما أجمل اجتماعنا في هذا المساء، وما أبهى هذا اللقاء للاحتفال بفن من أجمل الفنون، ولتكريم أول شاب شرقي كرس نفسه لخدمة التمثيل. . . كان الفرسان في القرون المتوسطة، قبل النزول إلى ميادين القتال، يختارون عراباً لهم بطلاً من مشاهير الأبطال.
وأنا أرى رمزاً وإشارة إلى ذلك في زيارة ابن الأبيض لهذا النادي الزاهر، نادي الشبيبة الراقية المتهذبة. أتى يزوركم وهو على تمام الثقة بأنه سيجد في كل منكم عراباً له في المهمة التي وقف لها نفسه. وهل كان بوسعه أن يجد من يقوم بهذه المهمة أحسن من نادي المدارس العليا وقد رفع فوق هذا النادي علم العلم خفاقاً يهدي كل شاب صراط العلم والاجتهاد، في خدمة البلاد؟
أجل يا سادة. جميل هو اجتماعنا في هذا المساء، وقد زانته الشبيبة، وصاغت عقد نظامه. فما أجمل الشباب وقد بعث في صدوركم الغيرة على كل مشروع مفيد جليل.
صدق والله حكيم اليونان إذ قال: أمة بلا شبيبة كسنة بلا ربيع فحياكم الله يا ربيع الأمة الزاهر، وبهاءها الناضر. فلأنتم خير إكليل تزدان به جبهة مصر الفتاة، وتفاخر به الغير إذا ما الغير فاخر بالشوكة والثروة وبعد الجاه.
* * *(1/147)
فهيا يا أخوتي الشبان نتضافر ونتآزر في خدمة كل مشروع جليل نافع. علينا خدمة الآداب والمعارف، فتحيا البلاد وتنهض. علينا تنشيط العلوم والفنون، فنعيد إلى الشرق العزيز بهاءه المفقود. وننشر في ربوعنا لواء السلام والوئام، وما أبهى السلام والوئام. . . .
مني السلام على ناد سما وزها ... بما حوى من شباب العلم والعمل
لا زال تخدمه الأيام مقبلة ... فيخدم العلم والدنيا بلا ملل
ما هو الشعر
الشعر شعور النفس، وأغنية الحس، وأنشودة الضمير، ولسان الوجدان، وترجمان الجنان، وصورة العواطف الحساسة الرقيقة في كل إنسان بل وحيوان.
فهديل الهزار، وتغريد الكنار، وسجع الحمام، وصدح اليمام، وزمزمة العندليب، وزقزقة العصفور، وشدو الشحرور، وزقاء الديك، وبغام الربرب، ورنين الجؤذر، وحنين الغزل، وازرام الجمال، وهمهمة الخيل، وثغاء الأغنام، ورغاء الأنعام، بل وفحيح الهوام، بل ونقيق ربات الغدير، ونواء السنانير، وثرثرة الصراصير، أو (منشدة القصائد في أيام الحصائد) بل وتصدية كل ذي روح، كلها أنواع من الشعر على أوزان طبيعية خاصة وإن درج على خلاف هذه الحقيقة أسرى التقليد في كل عصر ومصر.
(بيروت)
محيي الدين الخياط(1/148)
في جنائن الغرب
نعرب تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً لما في ذلك من الفوائد الجليلة التي لا تخفى على أحد.
الفارس
أرسلت إلينا هذه القطعة الجميلة لننشرها في هذا الباب سيدة فاضلة غربية. والفارس عنوان قصيدة نظمها في مديح الأمير تاج الفخر الشاعر البولوني الشهير آد ميكيه ويكس وهو كاتب حماسي أحبه مواطنوه حباً أشبه العبادة ودفنوه بعد موته في قبور ملوكهم. وقد دافع عن وطنه بولونيا مدافعة الأبطال إلى أن نفاه الروس فذهب بعد أسفار كثيرة إلى فرنسا ودرّس في كليتها الكبرى ولما قامت روسيا تهدد تركيا سنة 1854 سافر إلى الأستانة وتبعه من بولونيا ألوف من المتطوعين للدفاع عن السلطنة العثمانية. وفي السنة التي بعدها أصيب بالكوليرا وتوفي في الأستانة. ولم ينس العثمانيون صديقهم فإن جمعية الاتحاد والترقي لما احتفلت بتذكار حرب القريم في 17 أغسطس (آب) الأخير، وضعت على البيت الذي توفي فيه هذا الشاعر صفيحة من البرونز، ونقشت عليها تحت اسمه هذه العبارة صديق العثمانيين وكان هذا الوطني الكبير أثناء وجوده في باريس قد أصدر جريدة بعنوان منبر الشعوب ما لبثت أن احتجبت. وقد عاود أشياعه اليوم إصدارها في الأستانة وجاءنا البريد الأخير بأول عدد منها. . . وإليك قصيدة فارس التي أشرنا إليها:
ما أسعد الفارس العربي عندما ينطلق من أعلى صخرة منحدراً إلى الصحراء، على جواد تنغرس قوائمه في الرمال بصوت أصم. ويسبح في ذاك البحر اليابس شاقاً أمواجه الجامدة بصدره الدلفيني.(1/149)
شدة جريه تزداد بسرعة عظيمة، حتى أنه بعد هنيهة يكاد لا يمس سطح الرمال، ثم يزداد سرعة فيحتجب في دجى النقع. . .
فرسي أدهم بلون الغمامة، وفي غرته نجم يسطع كالفجر الباسم. والرياح تتلاعب بعرفه الشبيه بريش النعام. والبرق يومض من تحت قوائمه المحجلة.
طر يا حبيبي المحجل تنحي يا غابات، ويا جبال أفسحي مجالاً. .!
النخل الأخضر يعرض علي عبثاً ظله وثمره، فإني أعرض عنه نافراً، فيهرب مني خجلاً،
ويتوارى في الواحة، فيخيل إلي أنه بحفيف أوراقه يضحك من جرأتي.
الصخور الواقفة على حدود الصحراء تحول نحوي وجهاً عبوساً كالحاً، وتردد صدى عدوي كأنها تهددني قائلة: إلى أين يجري هذا الأحمق، فهنالك لا ملجأ لفرسه من سهام الشمس في ظل نخلة خضراء الشعر، ولا تحت خيمة بيضاء الصدر، هنالك لا خيمة إلا القبة الزرقاء، ولا يرقد تحتها إلا الصخور، ولا يرى فيها سوى النجوم.
على أني لم أزل أجد في الجري. ثم نظرت ثانية إلى الصخور، فرأيتها تهرب وتختبئ خجلاً.
بيد أن عقاباً سمع تهديدها وتوهم أنه سيأسرني في الصحراء، فانقض من السماء على أثري، وحام فوقي ثلاثاً مكللاً رأسي بإكليل أسود، وهو يصيح ويصوت: غني أشم رائحة جثة. إلى أين تجري أيها الفارس الأحمق وأيها الفرس المجنون. هل يبحث الفارس هنا هن طريق؟ وهل(1/150)
يطلب الفرس هنا مرعى له؟ هنا لا طريق إلا للرياح، ولا مرعى إلا للثعابين. هنا لا مرقد إلا للجثث ولا مسلك إلا للعقبان
وكان العقاب يصوت ويهددني بمخالبه اللامعة. فتراشقنا بالنظرات ثلاث مرات. فلم يستول علي الرعب. بل استولى الرعب على العقاب. وأنا لم أزل أجد في الجري. وعندما التفت ثانية إلى العقاب، وجدته على بعد شاسع، كأنه نقطة سوداء، معلقة في كبد القبة الزرقاء، بحجم العصفور، فالفراشة، فالبعوضة، ثم اختفى في زرقة السماء.
طر يا حبيبي المحجل القوائم، تنحي يا صخور، ويا عقبان أفسحي مجالاً. . .!
على أن غمامة سمعت تهديد العقاب، فنشرت أجنحتها البيضاء على وجه السماء الزرقاء، وجدت في أثري: تريد الغمامة أن تكون فارساً جريئاً في الفضاء، كما أنا فارس جريء فوق الغبراء. . . ثم وقفت فوق رأسي، وصفرت تهديدها مع زمهرير الريح:
إلى أين يجري هذا الأحمق؟ هناك الحرارة تذيب صدره. ولا غمامة تغسل رأسه من الرمل المحرق الذي يعلوه، ولا جدول ماء يدعوه إليه بخريره الفضي. ولا قطرة واحدة تصل إليه من قطرات الندى، لأن الرياح الجافة تتشربها قبل الوصول إليه.
على أن تهديد الغمامة ذهب أدراج الريح، وأنا لم أزل أجد في السير، وهي ترتجف في السماء واهنة القوى، فحنت رأسها، واتكأت على صخرة، ولما التفت إليها ثانية كان بيننا
بعد شاسع وقرأت على وجهها ما يدور في(1/151)
صدرها. فاحمرت حنقاً، ثم اصفرت كمداً، ثم اسودت حتى أصبحت كالجنة، وألحدت وراء الصخور.
طر يا حبيبي المحجل، تنحي يا عقبان، وأفسحي مجالاً يا عمائم. .!
وبعد ذلك سرحت الطرف في كل أنحاء الأفق كأنني الشمس، فلم أر حولي أحداً.
فالطبيعة هنا رافدة لم يوقظها الإنسان قط من سباتها، والعناصر مستكنة حولي أشبه بحيوانات جزيرة دخلها الإنسان لأول مرة فلا تخاف منظره. . .
يا الله! أنا لست وحدي هنا. .! أرى هناك جماعة عند منفرج الرمال. أمسافرون هم. أم لصوص يترصدون المسافرين؟ ما أشد بياض هؤلاء الفرسان. وما أروع بياض مطاياهم. .! أسرعت نحوهم فلم يتحركوا، وناديتهم فلم يجيبوا. يا الله! إن هم إلا جثث. هذه قافلة كنست الريح الرمل عنها فتبدت هياكل عربان على عظام جمال. وكان الرمل يتساقط من ثقوب كانت عيوناً في هذه الأجسام وكأني به يتهددني هامساً:
إلى أين يجري هذا الأحمق؟ فما قليل تلاقيه العواصف.
ولكني مازلت أجد في السير. . . تنحي يا جثث الموتى، ويا زوابع أفسحي لي مجالاً. .!
وكانت زوبعة من أشد الزوابع التي تهز الأصقاع الأفريقية تتمشى منفردة على أوقيانس الرمال. فرأتني عن بعد، فدهشت ووقف. والتفت على نفسها قائلة:(1/152)
هذا أي ريح من أخواتي الصغيرات هو؟ يتجرأ بشكله الحقير وطيرانه البطيء على الدخول في الصحراء مملكتي؟
قالت وزأرت هاجمة علي كأنها هرم متحرك. ولما عرفت أني لست إلا إنساناً وأنني لا أرجع عن عزمي، تلظت غيظاً، وضرب الأرض بقوائمها، فاهتز لها نصف بلاد العرب. وفبضت علي قبضة العقاب على العصفور، ولطمتني بأجنحتها العاصفة، وأحرقتني بنفسها الملتهب، وقذفتني في الهواء، وضربت بي الأرض. فانتصبت ووثبت عليها وعاركتها وفككت عقد عجاجها ومزقتها، وعضضتها فطحنت بأسناني قطع جسمها الرملي. حاولت الزوبعة الإفلات من يدي فلم تتمكن وتقطعت إرباً. وسقط رأسها مطراً رملياً وتمددت جثتها العظيمة على قدمي كأنها سور مدينة.
فتنفست حينذاك، ورفعت عيني إلى النجوم ونظرت إليها بإعجاب. فنظرت إلي النجوم
بأعينها الذهبية، لأنها لم تر غيري في الصحراء. . .
آه ما أعذب التنفس هنا بملء الرئتين. كل هواء بلاد العرب يكاد لا يملأ صدري. آه ما ألطف تسريح النظر هنا على قدر مد البصر، فإن عيني تنفتحان وتريان حتى ما وراء الأفق. . .! آه ما ألطف بسط الذراعين هنا بحرية على قدر طولهما. وكأني قادرٌ على ضم الدنيا بأسرها بين ذراعي من المشرق إلى المغرب. .!
فكري ينطلق كالسهم، ولا يزال يحلق في العلو حتى يغوص في لجة السماوات. وكما أن النحلة تدفن حياتها مع حمتها حين تغرسها، هكذا أنا مع فكري أغرس نفسي في السماوات.
- آدم ميكيه ديكس(1/153)
بين عرش ونعش
نزل إدوارد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند من العرش إلى النعش، وأدرج في الأكفان، بعد ما جر ذيول الأرجوان، وغيب في ظلمة القبر بعد ما طلع في صدر الإيوان. وخلفه ولده وولي عهده جورج الخامس في حكم الملايين من الناس، بعد أن طاف الممالك والأمصار مثل أبيه، ودرس أميال الشعوب ليعرف كيف تساس، وإذا كان حكم مدام دي جنليس الكاتبة الفرنسوية القائلة: إن الأمراء هم أسوأ تربية من كل الناس بمعنى أن تربيتهم تبعدهم عن معرفة حقائق هذه الحياة - وإذا كان حكمها صحيحاً في أكثر الأمراء فهو لا يصح في إدوار ملك الأمس ولا في جورج ملك اليوم، فلقد عرف كلاهما حقائق هذه الدنيا قبل أن قبض على زمام الأحكام. . . وقد أفاضت الصحف في الكلام عن السلف والخلف، وعرف القراء كل ما تهم معرفته عن العاهل الراحل والملك الجديد. فاكتفينا بتلخيص فصل من كتاب ألفه إدوارد السابع وترجم إلى الفرنسوية، عنوانه تأملات في الموت والأبدية وإليك ما قاله الملك - الكاتب المتوفى عن الموت:
الخوف من الموت
لو أتيح لنا نحن البشر أن نرى منذ مهدنا كل الحوادث وصنوف العذاب التي تنتظرنا، لكان خوفنا من الحياة أشد من خوفنا من مغادرة الحياة.
كثيراً ما شبهوا هذه الحياة برحلة نبدأها غير مخيرين، وننهيها مضطرين، فتركض إلى الأمام بسرعة وقلق. ونسير في فجر الصبح المكفهر خارجين من ظلام الليل إلى ظلام آخر. وهذا عمل الله من البداية إلى النهاية.(1/154)
ما هو الموت؟ هو الانطفاء كالنور، هو نسيان المرء نفسه وكل حوادث ماضيه كما ينسى الأشباح التي يراها في حلم خاطف، هو إبرام علائق جديدة بالعالم الرباني، هو الدخول في منطقة أعلى، هو خطوة نحو ارتقاء الخليقة لا يقدر عليها الإنسان.
فلماذا نخاف من الموت وما هو الانتقال إلى حالة أحسن. لماذا، عندما نفكر بانحلالنا، نزيد حباً بالحياة أية كانت؟
ليس خوفنا من الموت بل من تصورنا للموت. فأبعد هذه التصورات عن فكرك، وانظر إلى الموت كما هو، يقل هول الموت في عينيك.
لا قيمة للحياة إلا إذا استعملناها لإصلاح نفوسنا، وتزيين عقولنا بأشرف الصفات، ونشر السعادة حوالينا. وعندما نعجز عن ذلك لتقدمنا في العمر فنفقد كل أمل بالتقدم في هذه الطريق، تكون الحياة قد فقدت قيمتها الكبرى.
تستولي علي قشعريرة باردة عند التفكير في الموت وكأن كل عرق فيّ يحاول مقاتلة الانحلال والانفصال. ومع كل ذلك لابد من الموت.
لماذا جئت هذا العالم؟ ولماذا لا أرى الموت كما أرى الحياة، وأنا قد منحت كليهما على غير إرادة مني!
ما عساني أن أكون بعدما أجد من شكلي الإنساني وأقطع من البشرية؟ أن هذا الريب أو الشك في ما سوف ينتظرنا هو الذي يملأنا رعباً. والظلام الذي يغشي المستقبل هو الذي يفرحنا بالنور الآن. نقدر ما في يدنا حق قدره فنخاف أن نتركه تلقاء شيء لا نعرفه.(1/155)
ولو كان الخالق قد مكننا في هذه الحياة من معرفة الحياة الأخرى لما عاد الموت حاجزاً ولكان من ينتظرون ساعتهم الأخيرة نفراً قليلاً.
فهذا الرعب هو أشد رابطة تربطنا بهذه الحياة. فالجبان الذي تهوله المصائب لا يردعه عن التخلص من حياته إلا ذاك الشك المخيف.
لماذا أبكي؟ ولماذا تنوحون على من فقدتم؟ هل نحزن على الموتى لأنهم تركوا من يحبون، وغادروا حياة طالما تنعموا بها؟ ما أقل نفع هذا الحزن وذاك البكاء. .! هل نبكي كل مساء أعزاءنا لأنهم يرقدون؟ هل نرثي أنفسنا ساعة النوم؟ وأي فرق بين الموت والنوم؟
نعم إن من ينام يبقى له أمل باليقظة بقوة مجددة عند شروق الشمس. ولكن هذا الأمل - ولو بعيد الأجل - يبقى أيضاً لمن يموت. وعند يقظته يشاهد أحبابه وأعزاءه، وبعد قليل يشاهدكم أنتم أيضاً. لأن أطول حياة هي كلا شيء: سل الشيخ الهرم ابن السبعين فيقول لك: مرت حياتي كسبعين دقيقة في الحلم فعلام نبكي إذن؟
وهذا الريب نفسه لا يخيف إلا بقدر ما تكون الحياة الأخرى بعيدة، ويزول تماماً ساعة الدنو منها. ساعة الموت تظهر لنا الحياة قاتمة تافهة، ويشرق علينا المستقبل تنيره أشعة الأبدية. فالإنسان عند موته يصفي حسابه مع العالم ويلقي بركته على أحباب قلبه، ثم يعرض عن كل شيء وينضم إلى نفسه ليقطع الحد الفاصل بينه وبين الحياة السعيدة: لم
يبق في الماضي ما يؤنسه، وأصبح في المستقبل كل ما يستميله.
إدوارد السابع(1/156)
في رياض الشعر
بين شعراء مصر والشام
نشرنا في العدد الماضي (ص 107) قصيدتين لشاعرين من سورية جواباً على قصيدة عبد الحليم أفندي المصري التي شكا فيها من كساد الشعر في مصر وسأل زملاءه في الشام عن حالتهم. (راجع قصيدته ص 59) وننشر اليوم قصيدتين ثانيتين وردتا على المجلة من سورية بهذا المعنى. وتسرنا هذه المراسلة الأدبية بين كتاب القطرين فنحن إنما أنشأنا هذه المجلة لتكون رابطة أدبية بين الأقطار العربية.
1 - يا شعراء النيل
يا دهر من أغراك بي للحرام ... ما مهجتي مرمى لكل السهام
إن كان ذنب العاشقين الهوى ... يا دولة الحب عليك السلام
قد كان لي قلب به صبوة ... ومقلة ترعى نجوم الظلام
قد كان - والعهد قريب بنا ... مذ جزت بالعشرين عفت الغرام
أصبحت لا أشتاق وادي النقا ... ولا أجاري نائحات الحمام
أمسيت لا أبكي بسقط اللوى ... ولا أناجي فيه بدر التمام
لأنصف الدهر بأحكامه ... لو كان للدهر وفاء الذمام
ولا رعوى عن غيه تائباً ... لو ينكأ الدهر قراع الملام
* * *(1/157)
يا شعراء النيل لا تجزعوا ... قد صافحتكم شعراء الشام
لكم بهم في قومهم أسوة ... ما أغنياء الشام ري الأوام
لا يبصر الشاعر دينارهم ... عيناً ولا طيفاً له في المنام
يدعوهم الفضل فلا مسمع ... هم في القصور الساهرون النيام
ما في قصور اليوم من نخوة ... قد كانت النخوة بين الخيام!!
لهفي على قوم كرام مضوا ... قد أنصفوا بالفضل قوماً كرام
يكاد لو نادى بهم آمل ... في الترب يحيي نخرات العظام
كلام أخل الشعر في عهدهم ... جواهر واليوم أمسى كلام
لا مصر ترضيهم ولا مصرنا ... ما أطيب السكنى ببردي لتام
لا كنت لي يا موطني مسكناً ... إن كان فيك الحر خلقاً يضام
* * *
إن كان هذا الحظ لا ينجلي ... ما أضيق العيش وأشقى المقام
- (لبنان)
ف. نصار
2 - حالتنا
عبد الحليم! عليك ألف سلام ... مني ومن شعراء بر الشام
عبد الحليم! لقد أثرت عزائماً ... في النفس قد سئمت من الإقدام
أبرزت من سجر القريض فرائداً ... طربت لهن جوانب الأهرام
ناديتنا متسائلاً مستفهماً ... عن حالة الشعراء والأقلام
* * *(1/158)
فعلام يا ابن النيل تنب حالة ... أنتم بها من أسعد الأنام؟؟
أتبيت في أرض النضار وتشتكي ... من غمرة البأساء والآلام؟
أتبيت في ربع الأمام وتختشي ... من نائبات الدهر والأيام؟
* * *
هلا ركبت البحر نحو ربوعنا ... فترى لأهل العلم قلباً دامي
هلا أتيت إلى الشام فتلتقي ... بحر التعصب والغباوة طامي
عجل تجد روح التحاسد عابثاً ... بمبادئ الحكام في الأحكام
فإذا الأديب أراد نشر معايب ... طويت عن الأفكار والأفهام
يترصدون له الوقيعة والأذى ... ويسددون عليه سهم ملام
وترى الصحافي الجريء مهدداً ... بالضيم من حكامه الظلام
يبغي التقدم للبلاد فينثني ... عن عزمه لمفاسد الأقوام
تلقى يراع الحر معتقلاً فلا ... يحيا بغير المدح والإكرام
إن خط آيات الحقائق مرة ... قامت عليه قيامة الحكام
فكأنه طير الحمام إذا شدا ... يلقى من القناص كأس حمام!!
* * *
فإليك - يا عبد الحليم - مثالنا ... صورته ليلاً ودمعي هامي
فلئن تكن مصر تضيق بكم على ... رحب الديار فكيف أرض الشام؟؟
- (بيروت)
حليم إبراهيم دموس(1/159)
شكوى المنفي
(قالها ناظمها حين نفي إلى سيواس وتخلى عنه أصحابه)
حيي ربوعها قطر ... يا وطناً هو مصر
ما لي إليك سبيل ... هذا خلاء وبحر
غر الأعادي انكساري ... والانكسار يغر
وسرهم طول نفيي ... ومثل نفيي يسر
هم يحسبوني أقضي ... عنهم وما لي ذكر
هيهات بعدي رجال ... والفجر يتلوه فجر
عين بكت قبل هذا ... وسوف يبسم ثغر
ارتجعي يا أماني ... بالوصل قد طال هجر
إنا عهدناك أوفى ... عهداً إذا خان دهر
فبينما أنت زهر ... إذا بك اليوم غير
فليس يرفع جد ... وليس يخفض هذر
* * *
مرت عذاب الليالي ... وكل عذب يمر
التزم الصبر كرهاً ... وليس للحر صبر
وأسلك الحلم نفسي ... ومسلك الحلم وعر
لبيك يا مجد قومي ... لبي نداءك حر
دافعت دون فروق ... قوماً رحلت وقروا(1/160)
سادوا بها فلكل ... نهي عليها وأمر
ما كنت اغلب لولا ... قوم ثبت وفروا
ضاق المجال عليهم ... ضيقاً ولم يغن كر
وفي العيون ازورار ... وفي الجوانح ذعر
فبت تلقاء ليث ... كأنما هو قصر
له شباة وظفر ... ولي شباة وظفر
يعدو إلي فأعدو ... إليه زأر فزأر
فربع في البيد ذئب ... وريع في الجو نسر
وظلت الحرب بيني ... وبينه تستمر
فاضطر للصلح رغماً ... ومن بغى يضطر
واغتالني بعد غدراً ... وشيعة النذل غدر
لا يقصدوني بعذر ... فما على الجبن عذر
بين وبين الأعادي ... يوم إذا طال عمر
حتام أخفض قدري ... وما تعالاه قدر
أن أمس فيه أسيراً ... قد يعتري الحر أسر
* * *
رضيت سيواس داراً ... وما بسيواس شر
جنوا عليها فأمست ... قد أقفرت فهي قفر
فلا بها الروض خصب ... ولا بها الزهر نضر(1/161)
اندست مطرباتي ... وأصبحت وهي دثر
فليس لي ثم نظم ... وليس لي ثم نثر
وكم بمصر أديب ... يشدو فترقص مصر
لهفي على سانحات ... كأنما هي سحر
يقولها قائلوها ... فيعتري الناس سكر
ولي الدين يكن
مقابلة الذم والاغتياب
لسعادة إسماعيل باشا صبري
بذرت شؤماً ولؤماً ... فاحصد أناة حليم
روث اللسان سماد ... في روض كل كريم
* * *
ولحضرة السيد مصطفى لطفي المنفلوطي في هذا الموضوع
إذا ما سفيه نالني منه نائل ... من الذم لم يحرج بموقفه صدري
أعود إلى نفسي فإن كان صادقاً ... عتبت على نفسي وأصلحت من أمري
وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى ... هوها فما ترضى بخير ولا بشر(1/162)
أفكار وآراء
- الإصابة ليست دائماً في جانب الإجماع. فالكثرة ليست حجة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة الوحشية، والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع.
- الفلسفة - وإن كان لا يزال لها بعض المعنى اليوم - فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام فالمستقبل اليوم للعلم. وللعلم العملي وحده فقط
- علوم الكلام التي ترمي إلى تفسير ما لا يفسر، وتأويل ما لا يؤول، قد أضلت عقولاً كثيرة، وغلت عن العمل أيدياً كثيرة، فلم تنفع الاجتماع(1/163)
بشيء، بل أضرته إذ أضلته وأصبحت عالة عليه
- نحن علمنا الإنسان أن يكذب، لأننا عاقبناه على الصدق. وإن يسرق لأننا حجبنا عنه ما يحتاج إليه.
- لا شيء أقدر على تعريف الإنسان واجباته للقيام بها مثل معرفته المنافع المترتبة له عليها. فباحترام الحقوق تعرف الواجبات.
- يجب صرف قوى الإنسان عن تلك المباحث الرثة المضيقة للعقل، المضللة له، من فلسفة نظرية، وتواريخ كنسج العناكب، وعلوم عالية ككفة الميزان الفارغة، وأقاصيص كقماقم عفاريت ألف ليلة وليلة.
- لا يستوي المرء إلا إذا طمست يد العلم ما خطته يد الجهل، ولم يعد له أثر في المدارس بل صارت المدارس للفنون والصناعات والعلوم الصحيحة والطبيعية فقط.
- لست أخشى تخطئة الناس لي إذا كنت أعرفن مصيباً، ولا يسرني تصويبهم إذا كنت أعرفني مخطئاً.
- إن العرش الذي يتبوأه الملوك قائم على قاعدة هي الأمة، فإذا خلت الأمة من تحتهم، هوى بهم ذلك العرش كجلمود صخر حطه السيل من عل.
- الثقة بالنفس غير الاعتداد بها: فالثقة خمير عن روية، والاعتداد فطير عن استسلام.
- إن العالم الطبيعي، والحاسب الرياضي، والعالم الميكانيكي، أقصر كلاماً، وأفصح بياناً، وأبسط أسلوباً، وأثبت حجة وأصدق من الأديب(1/164)
اللغوي، والعالم اللاهوتي، والفيلسوف المنطقي، وسائر علماء الجدل الكلاميين لأنه ألف البرهان الطبيعي الرياضي الذي لا يقبل المغالطة والتمويه.
- الإنسان ابن التربية وهو فيها ابن هواجسه قبل أن يكون ابن علمه.
- أنت تظن أنك تحكم لنفسك والحقيقة أنك غالباً تنطق عن أحكام سواك.
- الشرقي اليوم فضلة في الاجتماع لا عمدة، بل هو شريك سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل بها. بل هو يقتسمها مرغماً في ورودها إليه من الخارج، ويقوم في سبيلها معارضاً من الداخل.
- اللغات تحيا بحياة الأمم، وحياة الأمم غنما تكون بعلومها وصناعاتها، وحياة العلوم والصناعات بالعلماء والصناع منها، فإذا خلت امة منهم، ذهب استقلالها وكان القضاء عليها أمراً محتوماً.
- كن شديد التسامح مع من يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك. وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول تربية الطبع على الشجاعة والصدق. وبئس الناس إذا قسروا على الجبن والكذب.
- الناس حتى اليوم يكرهون البساطة في كل شيء سواء كتبوا أو تكلموا أو عملوا، ويدخلون الخيال الغريب لا في مباحثهم العلمية والأدبية والدينية فقط، بل في سائر أمورهم الاجتماعية. حتى التافهة جداً أيضاً. فإن تصوروا ملكاً أو حكماً أرادوهم بكل مظاهر الأبهة ولو ظهروا فيها بمظاهر المساخر، كأنه لا يصح أن يكونوا ببساطة أزياء العالم. . . .(1/165)
في حدائق العرب
ليلى العفيفة والبرّاق
هي ليلى لكيز بن مرة بن أسد من ربيعة بن زار نشأت في حجر أبيها وبرعت بفضلها وكانت تامة الحسن كثيرة الأدب وافرة العقل شاع ذكرها عند العرب حتى خطبها كثيرون من سراتهم. وكانت ليلى تكره أن تخرج من قومها وتود لو أن أباها زوجها بالبراق بن روحان ابن عمها. إلا أنها لم تعص أمر أبيها وصانت نفسها تعففاً فلقبت بالعفيفة.
وكان والدها يتردد على عمرو بن ذي صهبان ابن أحد ملوك اليمن فيجزل عطيته، ويحسن إكرامه، فخطب منه ليلى وجهز إليه بالهدايا السنية، فأنف أن يرد طلبته، وأمل أن يكون الملك فرجاً لشدائد قومه، وحصناً في جوارهم، وذخيرة في عظائم أمورهم، فصعب الأمر على البراق لما بلغه الخبر، وأتى إلى أبيه وإخوته وأمرهم بالرحيل فارتحلوا.
وثارت في أثناء ذلك حرب ضروس بين بني ربيعة قوم البراق وقبائل قضاعة وطي. فاتسع الخرق ودارت الدوائر على بني ربيعة. هذا والبراق معتزل عنهم برجاله لرغبة عمه عنه بابنته ليلى. فاجتمع إليه كليب بن ربيعة وإخوته يستنجدونه فقالوا له: يا أبا النصر قد طم الخطب ولا قرار لنا عليه. وأنشده كليب:
إليك أتينا مستجيرين للنصر ... فشمر وبادر للقتال أبا النصر
وما الناس إلا تابعون لواحد ... إذا كان فيه آلة المجد والفخر(1/166)
فناد تجبك الصدي من آل وائل ... وليس لكم يا آل وائل من عذر
فأجابه البراق متهكماً:
وهل أنا إلا واحد من ربيعة ... أعز إذا عزوا وفخرهم فخري
سأمنحكم مني الذي تعرفونه ... أشمر عن ساقي وأعلوا على مهري
وأدعو بني عمي جميعاً وإخوتي ... إلى موطن الهيجاء أو مرتع الكر
ثم ردهم خائبين
وبلغ الأعداء امتناع البراق من القيام بقومه، فأرسلوا إليه يعدونه بما شاء من الكرامة والسيادة فيهم إن آزرهم على قتال ربيعة. فأخذت البراق الغيرة لذلك، وزال ما كان في قلبه من الحقد والضغينة على قومه وأجاب بني طي:
لعمري لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير
بهم ذلي إذا ما كنت فيهم ... على رغم العدى شرف خطير
أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألمَّ بهم عسير
ألم تسمع أسنتهم لها في ... تراقيكم وأضلعكم صرير. . .
وأمر رجاله بالركوب فركبوا وامتطى هو مهرته شبوب وكسر قناته وأعطى كل واحد من إخوته كعباً منها وقال لهم: حثوا أفراسكم، وقلدوا نجبائكم قلائد الجزع في الاستنصار لقومكم.
فامتثلوا رأيه وتفرقوا في أحياء ربيعة. واستصرخوا قبائلهم، فجزعت ربيعة لجزع البراق، وأخذت أهبتها للحرب وتواردت قبائلها من كل فج وعقدوا له الرئاسة في قومه. ثم ساروا إلى ديار قضاعة وطي فأغاروا عليهم(1/167)
وانطبقت عليهم الفرسان البراق من كل جانب فبرّحوا بهم القتل وانهزم الباقون، ثم عاد القوم إلى القتال وطالت الحرب بينهم، تارة لقوم البراق وأخرى عليهم، إلى أن أظفره الله بأعدائه وامتلأت أيديه من الغنائم وانقادت له قبائل العرب. وكان قد فك أسرى قومه، واسترجع الظعائن وكانت من جملتهن ليلى، واصطلحت القبائل بعد ذلك وأقروا للبراق بالفضل والشرف الرفيع.
أما عمرو بن ذي صهبان خطيب ليلى فإنه أرسل إلى ليكز والدها يستنجزه وعده في أمر ابنته. فلم ير بداً من إجابة دعواه. إلا أن ابناً لكسرى ملك العجم حال دون مرامه فأرسل فرساناً سبوها في طريقها وحملوها إلى فارس مرغمة. فبقيت هناك أسيرة لا ترضى بزواج. ولما ضيق عليها العجم وضربوها لتقنع بمراد ملكهم استصرخت بالبراق وبأخوتها في قصيدتها المشهورة.
فلما بلغ بني ربيعة استنجاد فتاتهم استفزتهم الحمية وخنقتهم العبرة. فحشد البراق الفرسان وسار إلى بلاد العجم. ولم يزل يكد ويسعى حيناً بالقتال وآخر بالحيلة حتى خلص ليلى من يد مغتصبيها، وأعادها إلى ديار بني ربيعة. فأثنى عليه قومه ثناء جميلاً وتزوج بليلى وتولى رئاسة قومه زماناً فأعطى وكسا وقرى وصارت ربيعة بحسن تدبيره أوسع العرب خيراً لما حازوه من الغنائم وكانت وفاته قبل الإسلام بقرن ونصف تقريباً.(1/168)
ثمرات المطابع
فلسفة النشوء والارتقاء
قال بعضهم يوماً للدكتور شميل: إنك لمصيبة على الناس، لمغايرتهم في أفكارهم. فأجابه الدكتور: إذا جازت الشكوى فمن منا أولى بالشفقة، أنتم الذين مصيبتكم بي واحدة، أم أنا الذي مصيبته بكم متعددة!.
هذه النكتة التي رواها الدكتور في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه فلسفة النشوء والارتقاء - وهو الجزء الأول من مجموعته التي هي قيد الطبع - تصور أحسن تصوير موقف الدكتور شميل تجاه البشرية. . . ويعرف ذلك أتم معرفة من جالسه وباحثه فسمعه يتذمر ويتأفف من حالة المجتمع الإنساني وخرافاته وسخافاته، شأن الذين لم يفهمهم معاصروهم. . .
صاحب كتاب فلسفة النشوء والارتقاء أشهر من نار على علم، قضى ثلاثين سنة ونيفاً وهو يحارب ويقاتل بقلمه - لأنه لم يكتب إلا ليشن الغارة على ما يراه من الأوهام في أبناء جنسه - وهو من هذا القبيل أجرأ كاتب عرفناه في الشرق، وأمثاله في الغرب ليسوا بالعدد الكثير. يبحث وينقب ويستقري، مستنيراً بنور العقل والطبيعة، ولا يخشى في إعلان نتيجة بحثه واستقرائه ولو كان فيها ما يغضب ويؤلم ويخالف معتقد عموم الناس - وهي كثيراً ما تكون من هذا القبيل. وكفى برهاناً على ذلك(1/169)
أنه قام ينشر في الشرق مذهب دارون وشرح بختر عليه يوم كان أنصار هذا المذهب في أوروبا نفسها لا يتجاوزون عدد الأصابع. ولذلك قامت القيامة على هذا الكاتب الجديد الذي كان يريد أن ينقض كل ما بناه أسلافه. ولكن كل ذلك لم يثبط منه العزائم ولم تزده المعاكسات إلا رسوخاً في آرائه حتى ألفها الناس منه ولو لم يوافقوا عليها. وتعودوا سماعها الآن من طبيبهم وفيلسوفهم الشيخ بعد أن استكبروها من الشاب منذ ثلاثين سنة. والثبات على المبدأ - أياً كان - والتفاني في سبيله لمما يدعو إلى الإعجاب بصاحبه. ولو كان الدكتور شميل مؤمناً، لكان من أحر المبشرين وأعظم الشهداء. لأنه من الفئة المهاجمة في هذه الدنيا لا الفئة المدافعة. ولذلك هو الآن مبشر حار، ومؤمن متعصب بعدم الإيمان. وإن شئت، قل هو متعصب في كفره كما أن غيره متعصب في إيمانه. وقد يكون كلا المتعصبين سواء.
هو يقول عن نفسه أنه تقلب على مقالب التردد في الأديان من اليقين إلى الشك فالنفي ولكن هذا التردد لم تطل مدته عنده. بل طار به سريعاً إلى النتيجة الأخيرة وهي النفي ووقف عندها منكراً نافياً داعياً الجميع إلى مثل نفيه وإنكاره. وتكاد تجد في ما كتبه منذ ربع قرن ما لا يزال ينسج عليه اليوم. ولم يحاول قط أن يلبس يده الحديدية قفازاً من المخمل، ولم يعمد أبداً إلى الطرق اللينة. بل إنه يجرح بقلمه معتقدات العقل، كما يجرح بمشرطه دمامل الجسم، ولكن دون استعمال بنج أو مخدر. وهو يقر بذلك إذ يقول (ص 24): رأيت أن أخوض غمار(1/170)
البحث غير حافل بالمصاعب التي ستعترضني في هذا السبيل، وأن انخعه بتلك الصراحة الجازرة، منكباً عن خطة الذين يرون أن الحكمة إنما هي المصاداة، لعلي أزحزح الأفكار عن مألوفها، لعلمي أن تحريك الأفكار لا يكون غالباً إلا بمثل هذه المصادرة العنيفة. . .
وهذه هي طريقته الإصلاحية. ولم نر في كتابه الضخم ذكراً للشفقة والرحمة إلا مرة واحدة حيث قال: لماذا كل هذا الغضب على هذا الإنسان الضعيف الذي أقل احتياج من احتياجاته كافٍ لأن يدفعه إلى ارتكاب الجريمة لأن الاحتياج مؤلم، فالجوع فضاح، والحاجة قاتلة
وعليه فأقصد هذا الطبيب الاجتماعي إذا كنت مصاباً بدمل أو كنت ذا عضو معتل، فهو يبتره لك بلا شفقة. وإذا كنت ذا جرح يحتاج إلى بلسم أو مسكن، فإياك والدكتور شميل. فأقل ما هناك أن يكويه بالنار أو بحجر جهنم.
وإذا كان هو يؤلمك فلأنه متألم منك ومن نظامك الاجتماعي في حاضرك وماضيك.
اسمع ما يقوله عن الماضي (ص 6): إني لا أتمنى لك تمدناً كتمدن عصر سقراط، ولا تمدن باني الأهرام، ولا تمدن الرومان، حتى ولا تمدن عصر العباسيين، ولا تمدن الأمم النصرانية بعد خروج الإسلام من الأندلس وقبل الثورة الفرنسوية. وإلا فأكون قد تمنيت لك أن تكون عبداً ذليلاً لا تملك أدنى حرية لا في القول ولا في الفكر ولا في العمل وليس هذا كل مبلغ غضبه على النظام الاجتماعي في الماضي بل إنه يتمنى لو(1/171)
أحرقت كل منقولات التاريخ وما فيه من التلفيق والكذب (ص 10).
أما غضبه على النظام الاجتماعي الحالي فتكاد تقراه في كل صفحة من المقدمة والخاتمة. ونكتفي بإيراد شاهد واحد على ذلك وهو قوله: صارت علوم اللغة مماحكات لا طائل
تحتها، لا كلاماً وضع للتعبير عن الفكر والشعر إغراباً لا إبداعاً في وصف الحقائق. وعلوم الفقه سخافات يتنزل العقل فيها إلى حد التبذل. والطب شعوذة لاستنزال الأسرار وتحويل الأقدار وعلوم القوانين لاهوتاً ثانياً لا يفهم. وعلم المحاماة مخرقة وتفنناً في المشاغبات لا دليلاً مرشداً إلى الحق رادعاً للباطل إلخ. . . وعلى هذه المبادئ النخرة شاد الإنسان بنيان نظاماته الاجتماعية المتقلقلة.
وبعد أن هدم هذا البنيان أخذ يرشد إلى كيفية تشييد بنيان اجتماعي جديد. فجعل الأساس العلوم الطبيعية. فبها يصح نظر الإنسان في لغاته، وينتظم قياسه في دليله، وتقوى فلسفته بارتباطها، وتعلوا آدابه لانطباقها على العمل، وتصلح شرائعه. . . ويتسع عقله إلخ. . .
ويرى أن هذه العلوم هي المخل الذي يستكفل بقلب ما بني من النظامات المتقلقلة والشرائع الخائفة. أما العلوم الكلامية فالعداوة بينه وبينها شديدة وهو يبشرها بالانقراض القريب متى ترقى النظام الاجتماعي حسب السنة الطبيعية.
وإذا استعملنا مع الدكتور شميل تشبيهاً طيباً، فلا نكون قد خرجنا عن الموضوع: يستخرج الأطباء المصل الشافي والواقي من الأمراض، بان يلقحوا بمركوب الوباء حيواناً ما. فيتركب في دمه حالاً مادة مقاومة(1/172)
لسريان الداء بموجب نواميس الطبيعة. ويزيدون كمية التلقيح يوماً فيوماً، حتى تبلغ مقداراً كان يقتل ذلك الحيوان لو لقح به دفعة واحدة. وبزيادة كمية المادة الوبائية، تزداد كمية المادة المقاومة. ومن هذه الأخيرة يؤخذ المصل الذي يستعمل للتطعيم. . . قل ذلك عن مذهب الدكتور شميل ولا تكون بعدت كثيراً عن الحقيقة.
أو إن شئت فاحكم عليه كما يحكم هو نفسه على العلماء وقل معه: إن للعلماء أحلاماً كالعوام، والعقل خزانة كثيرة الأدراج.
هذا ما يسمح المجال ببسطه عن فلسفة الدكتور المتطرفة. ولو أردنا التفصيل لما كفى الكتاب العريض الطويل. أما عبارة الشميل فهي آية في الإيجاز مع أداء المطلوب. وقلما قرأنا كاتباً عربياً جاراه في هذا الأسلوب.
* * *
معنى الحياة - وكثيرنا يجهل معنى الحياة الحقيقي ولربما كان هذا الجهل سبب ما تراه في مفاوز هذه الدنيا من الرزايا والحطوب، والتعاسة والشقاء، والخصام والتنافر، والضغائن
والأحقاد، ومتى فهمنا هذه الحياة بمعناها الصحيح يسود السلام في العالم، وتعم المحبة بني الشر، ويذوق الإنسان منتهى السعادة الممكنة. طالع كتاب لورد افبري يتضح لك ذلك تماماً. وترى أن واضع هذا الكتاب من الفلاسفة الذين لم يضيعوا في عالم الأوهام ولا في بهرجة الكلام. ونحن في أشد الحاجة إلى مثل هؤلاء(1/173)
المفكرين الذين ينشرون المبادئ الصحيحة ولذلك يسرنا أن نصوغ أجمل كلمات الثناء على حضرة الشاب الذكي النجيب وديع أفندي البستاني الذي خدم بلاده أحسن خدمة بتعريب هذا السفر النفيس وسبكه في عبارة عربية بليغة سلسة. كما أنه يسرنا أن نرى الإقبال الذي صادفه هذا الكتاب فقد كادت تنفد طبعته الأولى قبل مرور العام عليها. وعن قريب سيطبع ثانية. وقد قررت مدارس المرسلين الأمريكان تدريس معنى الحياة في مدارسها.
* * *
نفحات الوردتين - أو مجموع الفصول الشائقة والمقالات اللطيفة التي دبجها يراع الأديبتين المرحومتين أنيسة وعفيفة كريمتي حضرة اللغوي الشهير الشيخ سعيد الشرتوني. يفوح من هذه المجموعة أريح طيب نشرته هاتان الوردتان قبل أن يذبلهما نفس الموت السام. وخليق بنسائنا وفتياتنا أن يطالعن هذه المجموعة النفيسة حتى يعرفن الدرجة التي تبلغ إليها الفتاة الشرقية. متى ترتب تربية حقيقة وصرفت أوقات فراغها بالدرس والمطالعة بدلاً من قتل وقتها وقواها العقلية بالأمور التافهة. فنثني على حضرة الأديب ميخائيل أفندي الشرتوني الذي حفظ هذه الفصول الجميلة من الضياع بنشرها بالطبع. ونسأل للأديبتين الراحلتين رحمة واسعة ولحضرة والدهما المفضال عزاء وسلواناً.(1/174)
أزهار وأشواك
الحمد لله. . . .!
الحمد لله! زال الخطر، وانقشعت غياهب الهلع، وتنفس سكان الأرض تنفس المتعوب بعد الفرج. وعاد الناس إلى مألوف أعمالهم على سطح الكرة الأرضية بعد أن وقفت حركتهم في انتظار ذك القادم المجهول. وإذا لم يكن بد من الكلام بصراحة فأقول إنني لم أكلف نفسي كتابة حرف واحد حتى ولا التفكير في موضوع حديثي الشهري مع القراء. بقيت هكذا - بلا خوف ولا وجل، ولكن بلا نشاط في العمل - حتى مر علينا المذنب مر الكرام فلم يلحق بنا ضرراً. . . هل اشمأز مما لاقاه في أرضنا فلم يشأن أن يلامسنا؟ أم هو أخذته عوامل الوجد فقبل الأرض خلسة تحت جنح الدجى وهرب غير آمل أن يفوز منها بالوصال؟ لا أدري والذي أدري أنه حمل حقيبته، ولف ذنبه وغادرنا لسفر بعيد. . . ولما أمنا وقفنا نودعه على الأفق هازئين ساخرين مرددين قول الشاعر العربي:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
حادثة صغيرة قبل ختام قصة المذنب: منذ أسبوع أيقظني عند الفجر صراخ في بيت جاري. وسمعت الجدال الآتي بين الزوجين:
- أين قضيت ليلتك؟ عد من حيث أتيت.(1/175)
- أؤكد لك يا عزيزة أنني كنت أرقب مذنب هالي
ويظهر أن الزوجة لم ترض بهذا العذر لتغيب زوجها فصفعته صفعة على خده، أرته النجوم. . . والمذنبات في رائعة النهار. . .
التمثيل والكتاب
بدت في هذه المدة طوالع نهضة مباركة في التمثيل العربي وكثر البحث في الروايات التمثيلية والممثلين وإنشاء مدرسة وطنية لتعليم هذا الفن الجميل. ولكنني لا أرى سبيلاً إلى ترقية هذا الفن إلا إذا نزل الكتاب والأدباء إلى ميدانه لينهضوا به ويعلوا مناره. ولذلك أقترح أن تؤلف رواية كبيرة تمثل في الأوبرا الخديوية وتوزع أدوارها كما يأتي: دور الملك إسماعيل باشا صبري. ودور ابن الملك لأحمد بك شوقي. وحافظ إبراهيم ونقولا
رزق الله يمثلان قائدي الجيش. والدكتور شميل يمثل دور الفوضوي عدو المملكة ويعاونه في مساعيه الشيخ يوسف الخازن. ويقوم صاحب الزهور بدور من نوع دور روميو بلا إنشاد. ويكون خليل مطران والشيخ أمين الحداد النديمين. وحافظ عوض وداود بركان رسولين. ويمثل ولي الدين بك يكن دور الأسير ويقوم إمام العبد بدور الطيف أو الشبح المخيف. وتعهد أدوار النساء إلى صاحبة فتاة الشرق وصاحبة أنيس الجليس وصاحبة الجنس اللطيف والباحثة في البادية. وتختم هذه الرواية بفضل مضحك أو فروتو يقدمه سليم سركيس وإلياس فياض ويكون من تأليفهما. ويتلو الدكتور شدودي منولوج فتاة العصر ويترأس صاحب الإكسبرس الموسيقى الوترية. . . أنا لست غنياً ولكن إذا(1/176)
عزم الأدباء المذكورون على إحياء هذه الليلة فإني أدفع نصف راتبي الشهري لمشترى تذكرة دخول ولو في أعلى التياترو وأتولى توزيع الإعلانات على إدارات الصحف وأصفق للممثلين مجاناً.
الحجاج والبكالوريا
عشرات ن التلامذة الذين تقدموا هذه السنة لامتحان البكالوريا في مصر سيسقطون والذنب في ذلك على الحجاج ولو كان - حفظه الله - عرف ماذا سيصيب فريقاً من شباب القرن العشرين بسببه لدعا على لسانه بالقطع أو على الأقل لمنع كتّاب ديوانه من تدوين خطابه لأهل العراق لئلا يطلب من طلبة البكالوريا أن يفكوا رموزه للحصول على الشهادة. وإليك أيها القارئ ما طلب تفسيره من التلامذة: ما يقعقع لي بالشنان ويغمز جانبي كتغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة. . . والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. . . فإذا سهل عليك أن تفهم هذه الأحاجي فيحق لك أن تلوم من قصر في ذلك. اما انا فلا أخجل من إعلان جهلي ولو سقطت في كل بكالوريات العالم وأتعزى في فشلي بترديد ما قاله صفي الدين الحلي:
إنما لحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس
والسبنتي والحفص والهيق ... والهجرش والطرقسان والعسطوس
لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يسلك النافر الوح ... شي منها ويترك المأنوس(1/177)
إن خير الألفاظ ما طرب السا ... مع منه وطاب فيه الجليس
ولذيذ الألفاظ مغناطيس
حاصد
فكاهة
روت الصحف الأمريكية تلغرافاً تلقته جريدة الورلد النيويوركية، ومفاده أن رجلاً عربياً مر بمحطة برلنغام في السادس من الشهر الفائت، وكانت ساحة المحطة غاصة بالعربات والسيارات وكلها بانتظار قدوم القطار إلى ذلك القسم الجميل من المدينة حيث يسكن الأشراف وكبار المتمولين. فإذا بذلك العربي - وقد انقبضت سحنته وامتقع لونه - أخذ يتكلم بحدة شديدة ويردد كلمات لم يفهمها أحد من الذين تجمهروا حواليه. وحاول بعضهم أن يستفسره عن سبب تأثره واستيائه. فأشار العربي بيده إلى واجهة بناية المحطة. فظن القوم أن الرسوم العربية المنقوشة على الواجهة قد أثارت فيه عواطف الذكر وحب الوطن، فأحدثت هذا التهيج الظاهر على محياه. ولم تعرف الحقيقة حتى وصل أحد الطلبة في مدرسة اللغات الشرقية وعرض نفسه للترجمة. فسمع العربي يتلو الشتائم واللعانات الموجهة إلى إدارة السكة الحديدية وخطوطها وعرباتها ومأموريها وأصحابها وهو محدق بنظره إلى واجهة البناية كأنه يقرأ عليها ما يقول. فأنعم الترجمان النظر في الرسوم، فأدرك سر تهيج العربي، وقال للمتجمهرين: إن ناقش هذا الزخرف العربي قد نحت في الحجر سلسلة شتائم لشركة السكة الحديدية.(1/178)
ويقول هذا العربي أنه لا يعرف في لغته كلاماً أفظع وأسفه من الكلام المنقوش على هذه البناية.
فدهش القوم لذلك واستغربوا الأمر وقصدوا مهندس الشركة يطلبون الوقوف على سر هذا الخبر. فلما سمع الرواية منهم استلقى على ظهره ضحكاً وقال: الحمد لله فقد وجد أخيراً من يقرأ هذه اللعنات ويفسر معانيها فيشفي غليلي. وليس في نقش ما رأيتم سهو ولا غلط. فإنني أنا فعلت ذلك عمداً مني وبعد إمعان النظر. وكيفية ذلك أنني حين كنت أبني هذه المحطة طلبت من الشركة جوازاً للسفر مجاناً على خطوطها كما تفعل كل شركة مع موظفيها فأبت إجابة طلبي. فتحصلت على أقبح ما جاء في اللغة العربية من الشتائم، ونقشته على الواجهة لعنة ثابتة على كر الأعوام. وهكذا قد أثبت هذه اللعنات منقوشة على اجر مشوي في النار، وحفرت انتقامي من الشركة على حجرٍ أصم بإزميل من فولاذ. . .
كيف نقضي العمر
قد اتفق لكل منا أن يقف أحياناً في آخر نهاره متسائلاً: كيف قضيت هذه الأربع والعشرين ساعة التي غارت في بحر الزمان. كم أضعت منها سدة. وكم استعملت منها في الأمور العائدة بالنفع علي أو على إخواني بني البشر. هل عشت حقيقة في هذا النهار أم قتلته قتلاً. . .؟
نتطارح وضميرنا هذه الأسئلة فنجد أن هذه الزيارة مثلاً قد ضيعت علينا وقتاً جزيلاً بلا جدوى. أو أن تلك الدعوة إلى وليمة أو إلى محفل(1/179)
لهو قد أكلت من يومنا شطراً كبيراً. أو أن توعكاً في مزاجنا قد اضطرنا إلى الراحة. وينتهي حسابنا - بعد إسقاط ساعات النوم - بأننا قضينا فقط القليل من الوقت - أو دون القليل - في الجد والأعمال النافعة. فنتحقق قول أحد فلاسفة الرومان: إن في حياتنا ساعات تؤخذ منا، وساعات تسرق منا، وساعات تفلت منا.
متوسط حياة الإنسان سبعون سنة. فإذا أسقطنا منها الوقت الذي يقضيه آكلاً شارباً نائماً لابساً نجد أنه لا يبقى له إلا شيء يسير منها.
وضع أحد الإحصائيين حساباً مدققاً لمعدل السنين التي يقضيها الإنسان من عمره في لزوميات هذه الحياة فتوصل إلى النتيجة الآتية، باعتبار العمر سبعين سنة:
يقضي الإنسان أكثر من ثلث عمره - أربع وعشرين سنة - نائماً لأنه إذا كان لا ينام إلا القليل وهو شيخ فقد كان يرقد الساعات الطوال وهو طفل.
وحساب الأوقات التي يقضيها في الأكل والشرب يدل على انه ينفق ست سنوات من عمره آكلاً شارباً.
وإذا أنزلت أوقات النزهة والكل إلخ من سني الدراسة يبقى للدرس الحقيقي ثلاث سنوات فقط.
وكذلك يقضي ثلاث سنوات أيضاً في الحمام وأمام المرآة وعند المزين ويقضي ثماني سنوات في المنتزهات والملاهي وخمس سنوات في المشي والتنقل. وست ساعات في المطالعة.(1/180)
ومجموع الأوقات التي يصرفها في الكلام والحديث ثلاث سنوات. ولكن كم من ثرثارة مهذار يقضي الشطر الأكبر من عمره متكلماً.
وإذا أسقطنا كل هذه السنين من عمر الذي يعيش سبعين سنة نجد أنه لا يبقى للشغل والعمل سوى إحدى عشر سنة.
قال الشاعر العربي:
إذا مر بي يوم ولم استفد يداً ... ولم اكتسب علماً فما ذاك من عمري
فما أقصر عمرنا إذن. . .!
حديقة الأخبار
- منذ أسبوعين عقد المؤتمر الصحافي الدولي الرابع عشر في عرض البحر أمام مدينة تريسته على ظهر الباخرة تاليا. فانتخب للرئاسة مدير جريدة فيينرتا جبلاط ولوكالة الرئاسة مسيو أدريان هبرار مدير جريدة الطان الفرنسوية.
- في العاشر من الشهر القادم يعقد عموم الصحافيين السلاف مؤتمراً في مدينة بلغراد عاصمة الصرب لينظروا في حقوق وواجبات الصحافي ويتدالون في الشؤون التي تعود على العنصر السلافي بالنفع. وأي أمتي أبشر قرائي بقرب انعقاد مؤتمر عام لخدمة الصحافة العربية.
- الجامعة العثمانية في بيروت جمعية ضمت نخبة من أفراد العناصر المختلفة لتعمل على توحيد المصالح وتأليف القلوب. وقد أصدرت جريدة بعنوان صدى الجامعة العثمانية مديرها المسؤول عبد الكريم(1/181)
أفندي أبو النصر ويحررها فريق من أعضاء الجمعية. عبارتها متينة وغايتها حميدة.
- كانت بلاد ما بين النهرين وما يجاورها مهد النهضة في آداب اللغة العربية فيما غبر من الزمان. وبقي لنا من تلك الأعصر الخوالي ما لا يزال يعد حتى يومنا أكبر ثروة في آداب لغتنا. ولم تبرح مآثر بغداد عن بال عربي. بل كنا نتألم عند تذكار الماضي والمقابلة بينه وبين الحاضر. على أن هاتيك البلاد المجيدة قد بدأت تنهض من سباتها العميق، فقد اتصل بنا أن جماعة من أدبائها قد عزموا على إصدار صحائف أدبية باسم الكرخ والرصافة والدجلة التي طالما تغنى بها شعراء العرب. فنرحب بهذه النشرات سلفاً مؤملين أن تعيد لنا أمجاد الماضي.
- أسس جماعة من أدباء العرب في الأستانة نادياً علمياً أدبياً أطلقوا عليه اسم المنتدى الأدبي وغايته كما جاء في قانونه المطبوع تسهيل تعلم اللغات الحية على الطلاب، وصرف وجهتهم إلى المذاكرات العلمية، والمسامرات الأدبية وتوفير معلوماتهم، وتوسيع مداركهم، وحفظ أوقاتهم من الملاهي
- كتب اللغة كثرة على أن اقتناءها يصعب على الطلبة والمشتغلين في الكتابة لكبر حجمها أو لغلاء أسعارها. وكان قاموس محيط المحيط الذي وضعه الأستاذ المرحوم بطرس البستاني من أوفى الكتب وأكثرها فائدة حتى نفد تماماً وعليه فقد عزم نجلا البستاني نجيب
بم ونسيب بك على إعادة طبع محيط المحيط على طرز القواميس الإفرنجية مع إضافة(1/182)
حواش وتنقيحات كان المؤلف قد زادها قبل وفاته: هذه خدمة جليلة والحاجة إليها ماسة.
- سافر أمين أفندي ريحاني من سورية قاصداً عاصمة الإنكليز لتمثيل روايته مقتل علي بن أبي طالب وقد فرغ من تنسيق مشاهدها وإفراغها بقالب إنكليزي شائق. فأقامت له جريدة البرق البيروتية حفلة أدبية في ملعب زهرة سورية خطب فيها بشارة أفندي الخوري صاحب البرق والشيخ إسكندر العازار وجرجي أفندي عطية صاحب المراقب والشيخ إبراهيم منذر. نتمنى للريحاني سفراً سعيداً وتوفيقاً في نشر آداب العرب في بلاد الغرب ولاشك في أن روايته ستصادف الإقبال الذي صادفته ترجمته لرباعيات أبي العلاء المعري.
مخبر
من وإلى القراء
جاءتنا كتب عديدة من مصر وسورية بين منظوم ومنثور ثناء على الزهور وخطتها وتهنئة لها بوفود الربيع موسمها. فنشكر للأدباء رقة شعورهم ونطلب منهم المعذرة على عدم إثبات كتاباتهم وأبياتهم بهذا الموضوع.
وجاءنا بإمضاء زهرة أن لكل الناس يوماً أو أسبوعاً يعيدون فيه ولكن للزهور فصلاً كاملاً هو عيد لها.
وكتب إلينا ظريف من البحيرة يقول: خوفاً من أن تتحقق أحلام الفلكيين ويقضي علينا مذنب هالي أسرعت في إرسال قيمة الاشتراك لئلا أطالب بها في الآخرة وجاءنا من السودان شيء بهذا المعنى.(1/183)
الرجاء من المراسلين الذين يوالون المجلة بأخبارهم الأدبية أن يتكرموا بإرسال كتاباتهم قبل نهاية الشهر بعشرة أيام على الأقل وإلا اضطررنا إلى تأجيلها.
طلب منا بعض القراء فتح باب للسؤال والجواب. وهو باب مفتوح من طبيعته. لأننا جعلنا هذه المجلة رابطة بين كتابنا وقرائهم وواسطة للتراسل بين الأدباء، على شرط أن لا يخرج موضوع البحث من موضوع المجلة.
لم ترد كتابات عديدة في السباقين النثري والشعري الذين اقترحنا موضوعهما في العدد الأول وسنعلن النتيجة قريباً.
حصل فصل الصيف وفيه يسافر عدد كبير من القراء فالأمل أن يرسلوا لنا عنوانهم الجديد لترسل إليهم المجلة.
سألنا كثيرون عن كيفية دفع الاشتراك فنفضل إرساله تحويلاً على بوستة مصر.
* * *
وعدنا بإصدار عدد خصوصي كبير في كل سنة وقد قرب موعد صدوره. ففاوضنا الكتاب الأفاضل الذين يساعدون في تحير هذه المجلة بشأن الموضوع الذي يتناوله هذا الهدد. ففضل السواد الأعظم منهم طرح الأمر على جمهور القراء ليختاروا هم الموضوع الذي يرتاحون إليه زيادةً في الفائدة. وها نحن فاعلون. فالرجاء من أصدقاء الزهور أن يرسلوا إلينا اقتراحاتهم بأقرب وقت لإعداد المعدات اللازمة.(1/184)
العدد 5 - بتاريخ: 1 - 7 - 1910
النهضة الأدبية في العراق
وعدنا عند إنشاء هذه المجلة أن نجعلها رابطة تعارف بين أدباء الأقطار العربية وبينا فائدة ذلك في حينه. فإن الأدباء في مصر والشام يعرفون شيئاً عن بعضهم بعض ولكنهم يكادون يجهلون كل شيء عن زملائهم في العراق وسائر بلاد العرب. ونحن نزف إلى القراء اليوم هذه المقالة الشائقة التي أتحفنا بها أديب من أدباء بغداد الذين يشار إليهم بالبنان وفيها الفوائد الجمة عن النهضة الأدبية في هاتيك الأنحاء.
وسيوافينا مراسلونا العديدون في كل بلاد عربية بكل ما تهم معرفته في هذا الشأن:
كل من يطالع تاريخ اللغة العربية يتحقق أمراً وهو أن هذه اللغة لم تبلغ أوجها إلا في عصر العباسيين السعيد، ثم أخذت بعد ذلك بالانحطاط والهوي شيئاً فشيئاً عند تقلص ظل هذا الدولة الجليلة حتى أفضت إلى درك ليس وراءه درك. فأخذت حينئذ بالخمود أو الجمود. ثم انتقلت إلى التقهقر.
فالعراق كان من أجل البلاد العربية التي نمت فيها اللغة الفصيحة وسارت فيها سيراً حثيثاً. وفي دياره برز أولئك العلماء النوابغ أي الكوفيون والبصريون. وفي هذين المصرين قام أكتب الكتاب وأشعر الشعراء وأبلغ(1/185)
البلغاء وأخطب الخطباء. أما اليوم فقد تبدلت الأحوال. ولم يبق من هذه البلاد إلا الأسماء دون الرجال.
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله
على أن الضربة التي قضت على العراق لم يكن سببها مقصوراً على انحطاط دولة العباسيين فقط كما يتوهمه أغلب الناس. بل زادها هولاً قتل ذوي العلم وذبحهم ذبحاً عن بكرة أبيهم وذلك بعد انقراض دولة بني العباس بقرن ونصف قرن. وهو ما استأصل كل الاستئصال عروق العلم ومنابته فانقطع حينئذ متصل حبل التعليم والتدريس والأخذ والتلقي والتلقين والتأليف والتصنيف، ثم إفناء الكتب والأسفار بالإحراق والإغراق في أم العراق، على وجه شنيع وهذا كله في النائبة الأخيرة التي نزلت بها على يد تيمورلنك في 10 تموز سنة 1401 للمسيح وتبع بغداد في الرزية، وقاسمها البلية البصرة والحلة وسائر مدن العراق الكبرى المشهورة يومئذ.
إن الرزية لا رزية بعدها ... فقدان كل أخٍ كضوء الكوكب
فهذه الرزية العظمى التي لم يقع مثلها في سائر البلاد العربية كالديار الشامية والمصرية
والغربية وغيرها هي التي أسكتت نامة العلماء والشعراء والكتاب ردحاً من الزمن وإذا لم يسمع فيه صوت عربي فصيح في العراق كله.
وساد الجهل في العراق في كل المدة التي ملك فيها بنو تيمور إلى أن انتقلت البلاد إلى أيدي آل عثمان فاستقرت بيدهم سنة 1048م، فأخذ الناس حينئذ يتنفسون الصعداء، مما دهمهم من البرحاء بدون أن يخافوا رقيباً أو جاسوساً.(1/186)
وفي تلك السنة رجع الآلوسيون إلى وطنهم بغداد قادمين من جزيرة آلوس مسقط رأس عميدهم الأول وموئلهم في المخاوف والمهالك. وكانوا قد انهزموا إليها في مذبحة تيمورلنك. فلما رجعوا عاد ضياء العلم والأدب إلى منبعثه ومصدره وحينئذ أخذ العلماء يتواردون من كل واد وناد متأثرين الألوسيين العلماء العظام. فمنهم من جاء من ناحية الموصل ومنهم من هبط من ديار الشام ومنهم من أقبل من أقطار مصر وغيرهم من غيرها.
على أن علم العلماء لم يتعد الجوامع والمساجد والكتاتيب. أما تدوينه في الكتب فإن العادة كانت قد ضعفت في أصحابها ولهذا لا ترى شعراً أو أثراً مذكوراً يرتقي إلى ذلك العهد.
وإنما بدأ عهد التأليف ونظم الشعر وقرضه في أيام داود باشا الكبير والوزير الخطير. فإنه كان عالماً جليلاً فضلاً عما كان قد امتاز به من الحنكة والدربة في السياسة إذ كان فيها داهية من الدواهي. فهو إذاً الذي أنهض همة الكتبة والعلماء والشعراء، وأيقظ فيهم ملكة الأدب التي كانت قد خملت فيهم، وهو الذي حث أهل العلم والفضل والأدب على جمع الكتب والمكاتب فعمر لها الخزائن ونظم المدارس وأنشأ المساجد والجوامع إلى غير ذلك من الأعمال العالية التي تذكرنا مآثر هارون الرشيد أو جلائل المأمون.
ولد داود باشا الكبير نحو سنة 1188 هجري (1774م) في بلاد الكرج وجاء بغداد وكان مملوكاً نصرانياً عمره 11 سنة جاء به أحد النخاسين إلى بغداد فاشتراه منه مصطفى بك الربيعي. ثم باعه لسليمان باشا والي بغداد فرباه أحسن تربية وعلمه القرآن ودرسه العلوم والفنون المشهورة في(1/187)
ذلك العصر. ولما بلغ عمره 27 سنة اتخذه وليه أمين خزنته (خزنداراً) ثم مازال يتقدم والنجاح حليفه حتى صار والياً على بغداد في 5 ربيع الثاني سنة 1232 هجري (22 شباط سنة 1817م) وفي سنة 1247 هجري (1831م) أكره على
السفر إلى الأستانة فأقام فيها إلى سنة 1260 هجري (1844م) فأرسله في تلك السنة السلطان عبد الحميد ليكون شيخ الحرم فأقام في المدينة يدرس ويعلم إلى أن توفي سنة 1267 هجري (1851م) إلا أنه لم يؤلف كتاباً سمعنا به.
ففي عهد ولاية هذا الوزير الكبير اشتهر شعراؤنا الأولون بعد تلك الفترة الأدبية المديدة. واغلب هؤلاء الشعراء غنوا مكارم هذا النابغة نابغة السياسة والعلم وقد نسجوا كلهم على المنوال القديم.
فمنهم الملا جواد البصير. ومن قصيدة له في الوزير المذكور:
بشرى لمن أشرقت في الكون طلعته ... وأزهرت في رياض الأرض غرته
وبلبل البشر والإقبال حين أتى ... غنى وأغنت عن الأقيام نغمته
وفي القصيدة 19 بيتاً. . . ومنهم الشيخ محمد ابن الشيخ جعفر وقال:
أنار الدهر وابتهج الوجود ... وأقبلت المسرة والسعود
وجاء الحق متضحاً فزاغت ... أباطلهم فهم فيها أبيدوا
وممن اشتهر بحسن نظمه وتنسيق كلمة صالح التميمي وله أشعار كثيرة وهو الذي أنكر على داود باشا أن يقرظ قصيدة المعلم بطرس كرامة قائلاً أنه لا يجوز له أن يقرظ شعراً تنصر ثم أنشد:
عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا ... ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا(1/188)
وهل من مسيحي فصيح نعده ... إذا أينع الشعر الفصيح وأثمرا
عداه شبيب والأخص وفاته ... من الرند والقيصوم ما كان أزهرا
فأجابه بطرس كرامة بقصيدة رنانة كان لها دوي بعيد في صدور الأدباء والشعر استهلالها:
لكل امرئ شان تبارك من برى ... وخص بما قد شاء كلاً من الورى
ولو شاء كان الناس امة واحد ... ولم تلق يوماً بينهم قط منكرا
فلا يفتخر مرء بعجب يناله ... تلاداً إذا عن طارف المجد قصرا
ومن شعراء عراقنا الملا عبد الحميد رحبي زاده. والحاج محمد والسيد حسين ابن السيد سليمان الحلي وعبد الله أفندي البصري والملا حسين بن إبراهيم جاوش، وعلي بن أمين الشخلي، ومحمد يس بيك بن أمين بك الموصلي، والشاعر عبد الحميد، ودرويش محمد
مصاحب، والحاج صالح آغا عبد الجليل زاده، والملا خليل أفندي بكتاش زاده، والسيد الملا خميس الموصلي، وحسن بن علي العاملي الفتوني، والملا عبود البصري، ومحمد بن عبد الله الموصلي، ومسعود بن الوزري، والشيخ عثمان بن سند البصري، والسيد عمر بن رمضان الهيتي، والشاعر الشهير عبد الباقي العمري الموصلي، والظاهر أن الوزير داود باشا ألف كتاباً هو شرح كتاب لأن المغربي أحد شعراء بغداد قال فيه يومئذ:
شرح تضوع عرفه بنضارة ... يسبي العقول بنسجه الفتان
وحوى مؤلفه العلوم مؤسساً ... أوضاعها بمصادر الإتقان
فكأنه في وقته: لكماله ... بدر يشاركه بكل سنان(1/189)
صدر الصدور وقدوة العلماء من ... هو مقصد للوارد اللهفان
ومن كواكب تلك الثريا: سالم بك ابن عبدي باشا والي الموصل، والحاج محمد سعيد الجوادي، ومحمد زين الدين الحسني، والشيخ حسن البرزنجي، وباقي أفندي العمري، والسيد راضي القزويني، والسيد عبد الغفار الأخرس، وتعداد هؤلاء الشعراء يطول، إلا أن يرصد لكل شاعر ترجمة أو لكل بيت اشتهر أبناؤه بالعلم والأدب والشعر مقالة فحينئذ يكون قد تم بعض الغرض.
وبالجملة يقال إن شعراء العراق أكثر عدداً من شعراء ديار الشام ومصر في هذه الحقبة الأخيرة إلا أنهم لم يشتهروا اشتهار هؤلاء لأسباب منها: 1) قلة وسائط الطبع في العراق لعدم اختلاط أهله بالإفرنج؛ 2) لبعد موقعه عن ديار أهل الجد والسعي؛ 3) لأن روح الاستبداد في هذه العقود الأخيرة كان قد أطفأ جذوة كل همة وحاول إتلاف كل محترف بالأدب أو معان له؛ 4) إن عدم نشر دواوين أولئك الشعراء أو قصائدهم أقعد همة كثيرين عن المجاراة والمسابقة فأضر ذلك بالأدب والأدباء والشعر والشعراء، وهناك غير هذه الأسباب:
ومما يلاحظه كل من يريد أن يتتبع آثار النهضة العلمية والأدبية في العراق هو:
1 - أن الشعراء على كثرتهم وتكاثف جمعهم ليس فيهم من يستحق أن يقال عنه أنه نبغ في الشعر للسبب الذي ذكرناه وهوانهم نسجوا على منوال من تقدمهم من شعراء انحطاط الشعر في متوسط عصور الهجرة(1/190)
بأن انتحلوا أفكارهم وتصاويرهم وأقوالهم، بل ربما
قصائدهم بأسرها. ولهذا لم يأتونا بشيء طريف أو ظريف. فلم يمتازوا عنهم بأمر يذكر. اللهم إلا اثنان وهما جميل صدقي أفندي الزهاوي ومعروف أفندي الرصافي. وكلاهما حي وهما من نوابغ الشعراء العصريين في عهدنا هذا بل في مقدمتهم. فإن شعرهما من أحسن ما جاء في وقتنا من أي جهة اعتبرته ومن أي موقف وقفت فيه لتنظر إلى محاسنه.
2 - إن العلماء والأدباء والكتبة الذين يستحقون أن يطلق عليهم مثل هذه الألفاظ يعدون على الأصابع أو قل هم منحصرون في آل الآلوسي والزهاوي والحيدري والسويدي والرحبي. وقلما سمعنا بمؤلفات غير أبناء هذه البيوتات.
3 - إن لا ترى في جميع ما سردناه من الأسماء واحداً من النصارى إن بين الأدباء وإن بين الشعراء. والسبب هو أن النصارى كانوا دائماً قليلين في العراق ولم يزدادوا إلا في نصف القرن الأخير. ولما جاؤوا إلى هذه الأقطار، بعد ذبحهم عن آخرهم في القرن الخامس عشر، كانت غايتهم الأولى البيع والشراء والتجارة وتعلم اللغات الأجنبية كالإيطالية والبرتغالية والإنكليزية والهندية سعياً وراء غايتهم. وأما العربية فلم يتقنوها لعدم احتياجهم إليها في أشغالهم أو في وظائفهم الحكومية بخلاف نصارى ديار الشام ومصر فإن اللغة العربية من اللغات التي يرتزق منها من يتقنها.
وأما نصارى هذا العهد فقد جروا على آثارهم من تقدمهم من هجر هذه اللغة الجليلة. وإذا كان عندنا اليوم من ينظم الشعر فهو لا يستحق أن(1/191)
يتسم بسمة شاعر أو ناظم، أو يتسم باسم شويعر أو شعرور. فإن أصر على أن يتصف بصفة سميناه بناظم بعروز. وأما من جهة الكتابة والتأليف فإن وجد بيننا من يقع عليه هذا الاسم فلا يحق له إلا من باب الإعارة أو الاستعارة.
4 - وأما اليهود فهم غير معذورين في تلم العربية لأنهم كانوا دائماً منتشرين انتشار الجراد في العراق كله وبعدد عديد، ولم يمحقوا إمحاقاً كلياً. ومع ذلك فلا ترى فيهم من يحسن كتابة جملة عربية، بل ولا من يتكلم كلاماً يفهمه غير اليهودي لشناعة لفظهم وسوء استعمال الكلم في محالها وكراهية لهجتهم وقلق نبرتهم.
وهذا ما ذكرته إلى هناك هو نظرة عموم لا نظرة استقصاء. ثم إنه لابد لي في الختام من أن أذكر كلمة عن حالة اللغة العربية في يومنا هذا أعني بعد نشر الدستور فأقول:
إن لغة جرائدنا (وهي في بغداد تفوت العشر) لغة في منتهى الركاكة ولا ترى فيها واحدة (وهل سمعت كلمة واحدة فاحفظها لأني لا أقول أكثر) تنهج نهج العربية الفصيحة أو تنحوه. ومن اغرب الغرائب أن يقع مثل هذا الأمر في بغداد دار الفصحاء والعلماء ونوابغ الكتاب والشعراء في سابق العهد. فإذا تصفحت إحدى هذه الجرائد وأردت أن تعرف بأي لغة تتكلم، لما اهتديت سبيلاً ولو كنت دعيميص الرمل أو خرّيتاً من الخراريت. لأنك تساءل نفسك وتقول: لعل صاحب المقال تكلم بالتركية أو الكردية أو بالفارسية أو بالهندية أو بالعربية العامية. . . .(1/192)
والأصح أنه تكلم بكل هذه اللغات معاً. وأما من جهة اللحن في الإعراب فهذا من مزايا جرائد العراق بأسرها من الموصل إلى البصرة بل ومن مميزاتها الخاصة بها أكثر من غيرها. وأما من جهة الأفكار فهي لا تزال في الطلق والمخاض. فإن شاء الله تولد وتنشأ فصيح أن يقال فيها أحياها الذي أنشأها أو أنشأناها خلقاً آخر، أو الأولى إنا أنشأناهن إنشاء.
- بغداد سانسنا
(الزهور) نشكر حضرة الأديب الفاضل المتستر تحت هذا الاسم شكراً وافراً ونثني على أده ونرحب بكل ما يتحفنا به عن تلك الربوع التي تجلت فيها لغتنا بأجمل مجاليها.
أيها الفن
مرفوعة إلى
أيها الفن، العظيم بتأثيره، الغريب بأعماله، السامي بجماله وأسراره، أنت شبح من مقدرة المبدع الأزلي في نفوس النوابغ المبدعين، أنت روح الله المرفوفة بين قلوب البشر واللانهاية، أنت فكرة مستيقظة في هذا العالم النائم بحراكه، الجامدة بمسيره.
بأصابعك الخفية تتناول العناصر وتكون منها صوراً وأشباحاً وأجساماً وأنغاماً تبقى ببقاء الزمن وتظل جميلة إلى النهاية. . .
إن العدم يصير وجوداً عندما يرم أمامك، واللاشيء يصبح شيئاً إذ يلامس أطراف أذيالك، والموت ينقلب بوقوفه لديك. جميع الأصوات(1/193)
والألوان والخطوط، وجميع العناصر والأرواح والخيالات، وكل ما تحدثه الطبيعة بحراكها والإنسان بكيانه يستسلم إلى مشيئتك ويتكون بكيانك ويتمايل مع أميالك.
أنت تلامس الزمن، فيتحجر الزمن، وينقلب تماثيل منتصبة أمام وجه الأبدية. أنت تتنفس في الهواء، فينسكب الهواء خمرة علوية من بين شفاه المغنين وأصابع الموقعين. أنت ترتعش بين دقائق النور، فيسل النور مع الحبر على أوجه الأسفار والكتب. أنت تتناول أشعة الشفق، وألوان قوس قزح، وتبتدع منها صوراً ورسوماً. أنت تطأ بأقدامك الصخور فترتفع الصخور معابد ومساجد وهياكل خالدة بخلود الدين.
أما عرشك تظل الأجيال واقفة مستيقظة مترنمة، فما مضى منها يبقى حاضراً بحضورك، وما سيأتي منها يطوف الآن مرفرفاً حول أذيالك.
إن مجد الأمم يبقى ما بقيت، ويذهب إن ذهبت، لأنك من حياة الأمم بمقام القلوب من الأجساد: فمصر وآشور وفارس لم يتعالين إلى السماء إلا بقربك وما انحدرن إلى الهاوية إلا لبعادك، وأغريقيا ورومة وبيزنطيا لم يتعانقن النور إلا في ظلالك، وما هجعن بين لحف الظلام إلا لهجرانك - واليوم قد درست الأجيال أمجاد تلك المم وجبروتها لكنها لم تستطع أن تمحو آثار أقدامك عن آثارها، ولم تقدر أن تمزق بقايا النقاب السحري الذي ألقيته على بقاياها، فالسائر على ضفة النيل يرى أشباحك حائمة بين القصور والهياكل، والواقف على الأكروبليس يشاهد شعلات أنفاسك(1/194)
طائفة فوق الأعمدة والأصنام، والناظر إلى جدران الخرائب في سبارطا وتدمر وبعلبك، يقرأ مطالع الموشحات وأذيال القصائد التي خطتها
أناملك.
إذا كان التاريخ مرآة العصور فأنت اليد التي جلت وصقلت أديم تلك المرآة، وإن كان العلم سلماً يرفع الإنسان إلى ما وراء الكواكب فأنت العزم الذي يبني ويبقي درجات ذلك السلم. وإن كان الدين شعر الحياة، فأنت الوزن الذي يجعل لذلك الشعر رنة في الصدور، ونغمة في القلوب.
أيها الفن الغريب بأسراره، العجيب بخفاياه، القوي برقته، الفاتن بهوله ومهابته، كيف نصفك وبماذا نشبهك، وأنت روح الوصف وعلة التشبيه. هل ندعوك عاطفة؟ وأنت مولد العواطف والإحساس. أم ندعوك قوة؟ وأنت مظهر القوات والعزائم. نحن نرى مجدك بعيون قلوبنا الشاخصة، ونسمع أناشيدك بآذان نفوسنا المصغية. ونثلم أطراف أذيالك بشفاه أرواحنا المرتعشة. ولكننا لا نستطيع أن نخط حرفاً من حروف اسمك حتى تلامس أصابعنا أصابعك، ولا نقدر أن نتكلم عن جمالك إلا إذا غمست ألسنتنا بخمرة جمالك، فأنت بنفسك مظهر لنفسك، ونحن بقوة الحب الذي وضعته في أعماقنا نقترب من محبة القوة التي وضعها الله في أعماقك.
اجعلني أيها الفن خادماً من خدامك المتسلطين على الحياة. وصيرني جندياً من جنودك المنتصرين على الدهور، ودع حريتي تستعبد لمشيئتك، والمس نفسي بشعاعك لعلها تقترب من مبدعها ومبدعك.
باريس
جبران خليل جبران(1/195)
في جنائن الغرب
سويفت كاتب إنكليزي اشتهر بكتابة رحلات جلفر وبينها وبين أسفار السندباد البحري بعض المشابهة. وقد أودعها حكماً وأبحاثاً عمرانية في قالب فكاهي لذيذ. ويتضمن هذا الكتاب خبر رحلته ليليبت وهي بلاد لا يزيد طول الواحد من سكانها - على ما يزعم - عن إصبعين، وخبر رحلة إلى بلاد بربدنجناج التي يسكنها المردة العظام. وقد نشر هذه الرحلات باللغة العربية حضرة البارع عبد الفتاح صبري بك وكيل المدرسة السعيدية. ونحن نقتطف اليوم شيئاً عن الرحلة الأولىة وما شاهد فيها من صغر السكان:
رحلة جلفر إلى ليليبت
(بعد نزولي إلى الشاطئ وانتشار خبري في المملكة) حضر سفير عظيم الشأن من بلاط جلالة ملكهم، فتسلق على أكتاف حجابه حتى وصل إلى أخمصي، وأقبل يمشي نحو رأسي فقطع المسافة أكثر من ربع ساعة. . . وألقى خطبة لبث فيها أكثر من عشر دقائق كان في أثنائها يشير إلى جهة بعيدة علمت بعد ذلك أنها عاصمة هاتيك البلاد، وأن الأمر قد قر على نقلي إليها.
ويظهر أنهم حالما علموا بوجودي وأنا نائم أوفدوا بريداً إلى جلالة الملك ليبلغه ذلك الحادث الجلل فأصدر أمراً بشد وثاقي وصنع مركبة تحملني إلى العاصمة.
(فاشتغل مئات من النجارين بصنع مركبة عظيمة حمل عليها وجرها إلى(1/196)
العاصمة ألف وخمسمئة جواد ولما وصل إليها طلب منه الملك أن يسمح للمفتشين بتفتيشه).
فأطعت أمره وأدخلت رجلين في جيوبي واحداً بعد الآخر فكتبا محضراً بكل الموجودات وهذا نصه.
1 - قطعة قماش كبيرة للغاية تصل لأن تكون بساطاً جميلاً في حجرة الاستقبال الكبرى بالقصر الملكي.
2 - صندوق عظيم من اللجين مغطى بغطاء من نفس هذا المعدن النفيس لم نقدر على حمله فطلبنا من الرجل - الجمل فتحه ونزلنا فيه فوجدناه مملوءاً بأكوام من التراب، هب هباؤها في الهواء عند دخولنا فجعلتنا نعطس عطساً شديداً مؤلماً.
3 - إضبارة هائلة مطوية على بعضها وفي طول ثلاثة رجال كانت مربوطة بجنزير
طويل
4 - آلة عظيمة مركب في ظهرها عشرون عموداً بطول الأعمدة القائمة في فناء القصر الملكي يحتمل أن يستعملها في ترجيل شعره. . .
5 - جنزير عظيم من الفضة معلق بإحدى جيوبه وفي نهايته آلة عظيمة، نصفها من الفضة، والنصف الآخر من مادة شفافة ظهر لنا من ورائها رموز غربية، فمددنا يدنا لجسها فحالت دون ذلك تلك المادة. ثم أدنى هذه الآلة من آذاننا فسمعنا دوياً كدوي الساقية أو الطاحون. ولا ندري إذا كانت حيواناً أو آلهاً يعبد، لأنه قال لنا أنه لا يعمل عملاً دون أن ينظر إليها فإنها هي التي تحدد أوقات جميع أعماله.(1/197)
وقد نشبت حرب أثناء وجوده هناك بين ملك هذه الجزيرة وملك الجزيرة المجاورة فلعب صاحبنا دوراً خطيراً وإليك تفصيل الخبر كما رواه):
أخذت منظاري وصوبته نحو الجزيرة فوجدت على شاطئها أسطولاً عظيماً مركباً من خمسين سفينة حربية مدرعة تنتهز هبوب الريح الموافقة حتى ترفع مراسيها وتقلع نحو بلادنا. فاستدعيت مهرة الملاحين وعلمت منهم أن البحر ير يزيد عن ثمانية أقدام في أعمق جهاته فطلبت أن يصنع لي خمسون سلسلة وعدد كبير من قضبان الحديد كي أثنيها وأجعلها صنانير. ولما جاؤوني بما طلبت غصت في البحر وسبحت حتى بلغت الشاطئ الثاني، وشبكت الصنانير في المدرعات بعد أن ربطتها بالسلاسل وقطعت المراسي، وعدت والأسطول خلفي يمخر في العباب سائراً على شكل نصف دائرة كأنه عرض بحري عظيم.
وعند عودتي إلى البر وجدت الملك والوزراء وجميع أرباب المقامات في انتظاري على أحر من الجمر وهم يحسبون ألف حساب لدعاء أعدائهم واقتدارهم. ولكن نجم سعدهم وصل إلى السماك عندما برزت من الماء قابضاً على السلاسل. فوثبوا فرحاً وسروراً وقلدني الملك في الحال أكبر وسام.
ولكن الملك لم يكفه هذا الفوز المبين الذي لم ترق فيه قطرة دم، ولم تحرك من أجله رجل، ولم ينفق في سبيله درهم، بل طلب مني أن انتهز فرصة أخرى وآتيه ببقية السفن حتى لا يبقى للأعداء حول ولا طول. غير أن مرؤتي أبت أن أؤاتيه على هذا البغي والجور وأن أكون(1/198)
العامل على استعباده أمة حرة عاشت السنين الطوال تأبى الضيم. فراجعت الملك في
الأمر، وأقمت عليه الحجج الدامغة عن ضروب الساسة وعبر التاريخ، حتى إنجاز أغلب الوزراء إلى رأيي عندما طرحت المسألة على المجلس. ولكن الملوك لا يقف في سبيل أطماعهم حق ولا إنصاف، فتراهم يستعملون كلا لوسائط السافلة الدنيئة لبلوغ غاياتهم الجائرة. وينقمون على من يمحض لهم النصح لغير مأرب شخصي أو منفعة ذاتية. ولم يخالف هذا الملك تلك السنة الشنعاء بل أضمر لي الشر والوقيعة وشاركه في ذلك عدد من الوزراء لغير ذنب اقترفته سوى خدماتي الصادقة.
وبعد أن انقضت هذه الحوادث بثلاثة أسابيع حضر ستة سفراء من قبل حكومة الأعداء ليقرروا عقد الصلح وشروطه. فساعدتهم بكل ما استطعت من قوة الحجة حتى وفقوا إلى عقد معاهدة غير شائنة ولا جائرة. فخضروا إلى بيتي يوماً في زيارة رسمية ليشكروا حسن صنيعي وأكدوا لي أن ملكهم يمتلئ سروراً وفرحاً إذا زرت بلاده. فوعدتهم أنني سأنتهز أول فرصة للتشرف بالمثول بين يدي مليكهم. على أن ملكنا بات من ذاك الحين يرمقني بعين ملؤها الإغضاء والجفاء، ولم أعرف لهذه المعاملة سبباً إلا أخيراً حيث تبين لي أن بعض الوزراء وشى بي ونقل حديثي مع سفراء الأعداد. فكان أن حنق علي الملك. وصمم على تعذيبي إن لم يقدر على الفتك بي. فشعرت لأول مرة بمبلغ الوشايات والمكايد التي تنجم عن الاحتكاك ببلاط الملوك.
تعريب عبد الفتاح صبري
سويفت(1/199)
جرنالوفوبيا وجرنالوفاجيا
كتبها الدكتور شميل لما كان صحافياً يصدر الشفاء منذ 25 سنة
الأول معناه الخوف من الجرائد والثاني التهامها - وقد نحت لهما بعضهم اسمين عربيين، فسمى الأول الجنفرة من الجرنال والنفور والثاني الجبلعة من البلع أو الجأكلة أيضاً من الأكل. وهما مرضان لم يسبق لأحد وصفهما ومن أعراض الأول أن الواحد إذا ورد له جريدة ملفوفة بادر على الفور إلى ردها وكتب على غلافها مرفوض أو مرضوض لم مرتب وهو مرض حميد. ومن أعراض الثاني أن الواحد يقبل الجريدة إذا لم يردها في آخر سنتها ولكنه يلتهم ثمنها، وهو مرض أشد ضرراً من الأول، وقال بعض المحققين بل
المرضان طوران مختلفان لمرض واحد كالخنازيري والسل ولو كره البرفسور بتر. والحق يقال إن الذنب ليس على هؤلاء وحدهم بل على أصحاب الجرائد أيضاً فإنهم هنا خلافاً لأوروبا يطرحون جرائدهم على الناس خوفاً من أنهم لو(1/200)
حذوا حذو أهل أوروبا ولم يرسلوا الجريدة إلا لمن يطلبها ويدفع ثمنها سلفاً لربما لم يجدوا مشتركاً - فها نحن قد وصفنا الداء فعلى الطبيب الحاذق أن يصف الدواء.
شبلي شميل
في حدائق العرب
حرب البسوس
كانت العرب تقول في أمثالها أشأم من البسوس لأن هذه المرأة كانت سبباً في نشوب حرب طاحنة بين القبائل. وتفصيل الخبر أن البسوس هذه نزلت على ابن أختها جساس بن مرة، فكانت جارة له، ومعها ابن لها وناقة خوارة مع فصيلها، واسم الناقة سراب. وقيل أن الناقة لرجل من بني جرم نزل بالبسوس. فخرج كليب (زوج جليلة أخت جساس) يوماً يتعهد الإمبل ومراعيها، فأتاها وتردد فيها. وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها. فقال له جساس وكان معه: هذه ناقة جارنا الجرمي.
فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى
فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه معها.
فقال كليب: لئن عادت، لأضعن سهمي في ضرعها.
فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها، لأضعن سنان رمحي في صلبك. . . ثم فترقا.(1/201)
وقال كليب لامرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره. .؟
فقالت: لا أعلمه إلا أخي جساساً. . . فحدثها بالحديث. وكان بعد ذلك إذا أراد الخروج إلى الحي منعته وناشدته الله ألا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله.
وكان كليب ذا زهو شديد لما هو فيه من العز وانقياد القبائل له، حتى بلع من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً. ولا توقد نار مع ناره، ولم يكن تغلبي ولا بكري يجير رجلاً أو يحمي حمى إلا بأمره. وكان هو يجير على الدهر فلا تخفر ذمته. ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج. وكان يحمي الصيد فيقول: صيد ناحية كذا في جواري. . . فلا يصيب أحد منه شيئاً. وكان قد حمى حمىً لا يطأه إنسان ولا بهيمة، فدخل فيه يوماً فطارت قبرة من على بيضها فقال لها من أبيات:
لا ترهبي خوفاً ولا تستنكري ... قد ذهب الصياد عنك فابشري
خلا لك الجوف فبيضي واصفري ... فأنت جاري من صروف الحذر
واتفق أن كليباً بعد خلافه مع جساس خرج إلى الحمى فوجد الحذر القبرة قد وطئتها سراب
ناقة البسوس فكسرتها، فغضب وأمر غلامه أن: ارم ضرعها. . . فخرقه بسهم وقتل فصيلها. وولت سراب ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأت البسوس ما أصاب الناقة، ضربت وجهها وانتزعت خمارها وصاحت: وا ذلاه. .!
فقال لها جساس: اسكتي. فلك بناقتك ناقة أعظم منها. فأبت أن(1/202)
ترضى. ولما كان الليل، أنشأت تقول، وهي تخاطب سعداً أخا جساس، وترفع صوتها لتسمع جساساً:
أيا سعد لا تغرر بنفسك واحترز ... فإني في قوم عن الجار أوات
ودونك أذوادي إليك فإنني ... محاذرة أن يغدروا ببنياتي
لعمرك لو أصبحت في دار منقرٍ ... لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار معشر ... متى يعرف فيها الذئب يعد على شاتي
(ومت العرب أبياتها هذه الموثبات). فقال لها جساس: اسكتي. إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة. سأقتل علالاً. . . وكان علال فحل إبل كليب. وقد أراد جساس بهذا القول كليب نفسه.
ثم أن جساساً مكث يتندس الخبر عن كليب حتى بلغه ذات يوم أنه خرج وليس معه سلاحه فتبعه وصرخ به: يا كليب الرمح وراءك. . .!
وكان كليب لا يلتفت وراءه من الكبر فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي. . . ولم يلتفت إليه فطعنه جساس فأرداه. ثم اجتز رأسه.
ولما عاد إلى الديار سأله مرة: ما وراءك يا بني؟
قال: طعنت طعنةً لتشغلن شيوخ وائل رقصاً. . . قال: أقتلت كليباً. . .؟ فأجاب: أي وأنصاب وائل أي قتل. . .
فقال أبوه: إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك في صلاح العشيرة، فلا أنا منك ولا أنت مني. فوالله لبئس ما فعلت. فرقت جماعتك، وأطلت حربها.(1/203)
وكان همام أخو جساس القاتل ينادم في ذلك الوقت المهلهل أخا كليب المقتول ويعاقر معه الخمرة فجاءته جارية تخبره الخبر. فقال له المهلهل: ما قالت لك الجارية. . .؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً. فذكر له ما قالت الجارية فقال المهلهل: اليوم خمر وغداً أمر فشرب همام وهو خائف حذر ولما سكر رفيقه عاد إلى قومه وتأهبوا للقتال.
أما المهلهل فإنه رجع إلى الحي فرأى القوم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم، فقال: ويحكم ما الذي دهاكم؟ لقد ذهبتم شر مذهب. أتعقرون خيولكم حتى احتجتم إليها، وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه؟
ولما أصبح المهلهل غدا إلى أخيه فدفنه وقام على قبره يرثيه (من أبيات):
دعوتك يا كليب فلم تجبني ... وكيف يجيبني البلد القفار
سقاك الغيث إنك كنت غيثاً ... ويسراً حين يلتمس اليسار
خذ العهد الأكيد علي عمري ... بتركي كل ما حوت الديار(1/204)
وهجري الغانيات وشرب كأس ... ولبسي جبة لا تستعار
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل النهار
وإلا أن تبيد سراة بكر فلا يبقى لها أبداً أثار
ثم جز شعره، وقصر ثوبه، وهجر اللهو، وحرم على نفسه الشراب. وأرسل رهطاً من أشراف قومه وذوي أسنانهم، فأتوا مرة وهو في نادي قومه. فقالوا له:
إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل، وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة بيننا وبينكم: وإنا نعرض عليك خلالاً أربعاً، لك فيها مخرج، ولنا فيها مقنع. إما أن تحيي لنا كليباً، أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقلته به. أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكنا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه.
فقال لهم مرة: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه. وأما دفعي جساساً إليكم، فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد. وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره. أما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل بينها، فلا أتعجل الموت. ولكن لكم عندي خصلتان: أما أحداهما، فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم واقتلوه بصاحبكم. وأما الأخرى، فإني أدفع لكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر
فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء، وتسومنا اللبن من دم كليب. ونشبت الحرب بينهم ولت أربعين سنة بسبب ناقة(1/205)
البسوس. وبقي الحرث بن عباد على الحيادة قائلاً: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. فذهبت مثلاً. وكان مقتل كليب سنة 494 للمسيح.
من القفص إلى العش
في قفصها الجميل، كانت الحمامة الأسيرة تنوح وتحن إلى الحرية. . .
ترى أمامها الفضاء فسيحاً، فتحاول الطيران، فتهشم جناحيها اللطيفين على الحواجز الصلبة، فيضيق بها رحب الفضاء. . .
تسمع أخواتها صادحات على الأفنان ضحىً وأصيلاً، وهي قضي عليها أن تئن وتنوح بين قضبان الحديد. . .
ترى الحدائق الغناء والرياض الخضراء والمياه المتسلسلة والجبال الشاهقة والأودية الظليلة، فتتزايد أشجانها وتتضاعف أحزانها لدى جمال الطبيعة كأنه خلق ليتمتع به سواها.
هذه هي حالة المرأة الشرقية في أمسها.
* * *
يد شفيقة حركها عامل الرحمة، ففتحت باب القفص وأفرجت عن السجينة المسكينة. . . طارت الحمامة إلى الشجرة، فنفضت ريشها وعادت إليها الحياة: غنت لمرأى الزهرة في الوادي، وهدلت مع هدير النهر المتدفق من الجبل. وقد زقزقت لخلاصها العصافير وغردت لنجاتها الطيور.
تنشقت الحمامة من هواء الحرية ما شاءت، ثم صفقت بجناحيها(1/206)
ومخرت في الهواء وحلقت في الفضاء.
خاف عليها منقذها من توغلها في العلى، وخشي أن يأخذها الدوار من التحليق في الطيران، فيرمي بها من شاهق مهشمة الجناحين على الحضيض. فتعود عليها هذه الحرية بشر بلية.
سبحت الحمامة في الأثير حتى استطلعت خفايا العالمين الأدنى والأعلى، ثم أخذت تنحدر حتى هبطت عشها، فانتعشت بحرارته المنعشة واستكنت به حاضنة فراخها المطلقة.
هذه هي حالة المرأة الشرقية في يومها.
* * *
لو أتيح لهذه الحمامة أن تعبر لنا عن خالج قلبها الخفوق من العواطف بعد إطلاقها من أسرها، لفاق تعبيرها وصف أبلغ الشعراء العالمين بخفايا الصدور الواقفين على نبضات القلوب. أما وقد تم لك ذلك أيها القارئ على لسان فريدة هانم تلك لحمامة الناطقة فاسمع
تغريدها وأصغ إلى شجي غنائها بعد أن كسر الدستور قيودها وحل وثاقها:
ما ألطف الطيران!. . . وما ألطف التحليق في الفضاء!. . . طيري أيتها الحمامة وحلقي صاعدة في سماء اللانهاية.
طيري إلى الأعالي. ففي الأعالي لا يخشى على جناحيك من التهشيم. وفي الأعالي تميزين الأشياء أحسن تمييز.
هذه الأبراج العزيزة، الأبراج الرفيعة، الأبراج البيضاء. هذه هي في بلادي.(1/207)
هذه المنازل والأكواخ، هذه السهول والجبال، هذه البحريات المتموجة الصافية، هذه الألوان الناصعة الزاهية، هذا الضياء الساطع، هذا النور اللامع، هذه أنت يا بلادي. فما أجملك وما أبهاك!. . .
ولكن، حذراً أيتها الحمامة من الهلاك أفلت من قفصك. فانزلي على مهل في عشك.
أنا وجدت عشي هو العائلة. فما سوف أكون فيه؟ سأكون ملكه فأنظم مملكتي الصغيرة، وأجملها بألطف الزينات وتحت إدارتي سيكون شعب صغير، فأدبر شؤونه وأقوده إلى غايته بكل سكينة.
أجل إن رحلتي في الهواء قد ولدت ف صدري مثل هذه الأوهام.
عندما حلقت في الفضاء رأيت كل منزل جزاء من البلاد. رأيت كل دار مملكة صغيرة تابعة لها الكل العظيم الذي نسميه الوطن، ورأيت كل عائلة قسماً من هذا المجموع الكبير الذي ندعوه الشعب أو الأمة
أقامتني النواميس الطبيعية والتقاليد الاجتماعية على إدارة المنزل الداخلية، فأصبح المنزل مملكة لي فيها مصالح أدبرها، وعقل أقوده، وصحة أحفظها، وأهواء أقاومها، ومعارف أنشرها.
هذا هو الدور الكبير الذي يجب علي أن أمثله في العائلة، فسأخرج من النطاق الضيق الذي حوصرت فيه لأقوم بمهمتي حق القيام، لا لأقلق خواطر أناس يغادرون على طهارة العادات ومقام المرأة في الإسلام(1/208)
أريد أن أمتزج امتزاجاً عقلياً بالعالم الخارجي لأقتبس من معارفه وأكتسب من مناظره.
فأطلقوا إذن سراحي وفكوا عقالي وعلموني. . .
من العائلة يتخذ الوطن رجاله، ففي العائلة إذن مكانه العشب ومستقبل البلاد، وعلى تأثير المرأة في الود يتوقف مستقبل العائلة العثمانية الكبرى التي تتألف الآن.
فلننتبه إلى أنفسنا أيتها النساء أخواتي الساهرات على تلك الرؤوس الصغيرة.
فلننتبه إلى تفتيح هذه العواطف كالأزهار في تلك القلوب الصغيرة التي تخفق بالقرب من قلوبنا.
بالأمس كنا لا ندرك ما يدور في رأس الأخ أو الابن أو الزوج لأن حياتهم العقلية والأدبية كانت تدور في منطقة غير منطقتنا،
فعلينا نحن معشر النساء، أن نوجد العائلة: نور واحد ونار واحدة؟
والعواطف تترقى بترقي العصور: بالأمس كنا زوجات، ووالدات، واليوم صرنا صديقات وأمهات حنونات. . .
إن إدارة عقل الولد وتكييف قلبه وتهذيب طباعه لمما يؤول إلى تكوين حياته وحياة البلاد؛ وإذا دفأنا قلبه بحرارة العواطف العائلية كما تدفئ الدجاجة فراخها نكون ق أعددناه لمقاومة عواصف هذه الحياة.
فهيا إلى الأمام أيتها العائلة الصغيرة: إن الاتفاق قريب؛ كنت حتى الآن تحت سلطة الوالد؛ ونعم ما كنت عليه لأن الأب هو الرأس؛(1/209)
ولكن ها أنا ذا مستعدة أيضاً وأنا الأم، والأم هي القلب. . .
فإن للمرأة في كل عصر من العصور ميزة تميزها وتجعل لها مقاماً كبيراً أو صغيراً في الهيأة الاجتماعية؛ وبلادنا اليوم ليست بلادنا أمس، فإن أمسنا بعيد عنا بمراحل فيجب أن أتكيف بكيفية جديدة إن أردت أن أجاري عصري هذا؛ وإلا فإني أكون طيف الماضي في الزمن الحاضر
ومن مزيج الاستقلال العقلي والتحفظ الذي يعلمه الدين ستخلق امرأة جديدة تكون الضالة المنشودة والجوهرة المفقودة. . فهيا إلى الأمام. . . إلى العلى. .!
* * *
هذه هي النغمات التي وقعتها أوتار قلب تلك الشاعرة الرقيقة، وهذه هي الأنشودة النسائية الجميلة التي دبجتها بالإفرنسية يراعة فريدة هانم أحببنا أن نتحف بها قراء العربية لما فيها
من رقة الشعور وسامي الوجدان.
في رياض الشعر
1 - على البحرية
سل المها بني إفيان ولوزان ... ماذا فعلن بقلب المغرم العاني
إذ كن في الفلك كالأقمار في فلك ... يشرفن فيه على ألعاب نيران(1/210)
فكم من الأرض سهم للسماء وكم ... سهم تسدد لي من تحت أجفان
يعلو البحيرة من نيرانها شرر ... كزفرتي حين يجري مدمعي القاني
يذهبن بالفلك إيماناً وميسرة ... فيها ويطربن من توقيع ألحان
سرب يغنين بالأفواه مطربة ... وثلة بربابات وعيدان
والورق في الشاطئ الأدنى تجاوبها ... تبدي أفانين شدو بين أفنان
2 - عيون وعيون
أرجعوا لي يا غيد ماريمباد ... مهجتي قبل عودتي لبلادي
إنني قد شددت رحلي وأهلي ... في انتظاري فأطلقوا لي فؤادي
ليتني لم أزر حماكم فإني ... في هواكم أضعت كل رشادي
وبراني الضنا فصارت ثيابي ... فوق جسمي كمضرب ذي عماد
وأتاني السقام من حيث أبغي ... صحة وانهزمت قبل الجلاد
حدثوا أن في حماكم عيوناً ... تذر الناس ضامري الأجساد
صدقوا أنها عيون ولكن ... كحلت منذ خلقها بسواد
جنبوني ذكر العيون فقلب ... في ارتعاش من فعلها وارتعاد
فهي كالكهرباء تومي بلحظ ... فتدق الأجراس في الأكباد
حنفي ناصف(1/211)
إلى الحبيب
في الشهر الغابر ضم مجلس طرب سعادة شاعر الأمير شوفير بك وطائفة من الأدباء. وكان المعني ينشد القصيدة التي مطلعها:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده
وكان لها وقع عظيم في النفوس. فطلب أحد الحاضرين من أمير الشعر أن ينظم شيئاً على
هذا النمط للإنشاد. فوعد أن يفعل. ثم زاره المقترح وذكره وعده. فلم يتأخر وأملى عليه هذه الأبيات المنسجمة عذوبة ورقة فكانت من نصيب قراء الزهور
مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحم عوده
حيران القلب معذبه ... مقروح الجفن مسهده
يستهوي الورق تأوهه ... ويذيب الصخر تنهده
ويناجي النجم ويتبعه ... ويقيم الليل ويقعده(1/213)
ويعلم كل مطوقه ... شجناً في الدوح تردده
كم مد لطيفك من شرك ... وتأدب لا يتصيده
جحدت عيناك زكي دمي ... أكذلك خدك يجحده
قد عز شهودي إذ رمتا ... فأشرت لخدك أشهده
وهممت بجيدك أشركه ... فأبى واستكبر أصيده
وهززت قوامك أعطفه ... فنبا وتمنع أملده
سبب لرضاك أمهده ... ما بال الخصر يعقده
مولاي وروحي في يده ... قد ضيعها سلمت يده
ناقوس القلب يدق له ... وحنايا الأضلع معبده
حسادي فيه أعذرهم ... وأحق بعذري حسده
أحمد شوقي
لوعة أونين
هذه الأبيات لشاعر مصر الكبير لم يسبق نشرها
أنا في يأس وهم وأسى ... حاضر اللوعة موصول الأنين
مستهين بالذي لاقيته ... وهو لا يدري بماذا يستهين
سور عندي له مكتوبة ... ود لو يسري بها الروح الأمين
إنني لا آمن الرسل ولا ... آمن الكتب على ما يحتوين
حافظ إبراهيم(1/214)
بين الشعراء
نشرنا أجوبة أربعة على قصيدة عبد الحليم أفندي المصري (راجع ص 59 و107 و157) وننشر اليوم جواباً خامساً ورد من العالم الجديد:
مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشام. . .؟
عبد الحليم
يا بلبل الشعر عليك السلام ... شامنا مصر ومصر الشام
ما لك بالقطرين من منهل ... ولي وراء البحر طاب المقام
قد قيل إن الشعر طيرة ... فاركب وطر فوق طباق الغمام
فالبدر مشتاق لوصافه ... فاقصده واضرب في حماه الخيام
أو فاحترف غير القريض وقل ... يا دولة الشعر عليك السلام
البرازيل
فائز السمعاني اللبناني
الكلمات الأجنبية
في اللغة العربية
ذكرنا في العدد الماضي (ص 137) طائفة من الكلمات الفصيحة التي وضعتها لجنة دار العلوم بدلاً من الكلمات العامية أو الدخيلة على اللغة. ولا تزال اللجنة موالية العمل في هذا البحث المفيد. وإليك تابع ما سبق.(1/215)
وأكثر الكلمات هذه المرة كانت اللجنة مسبوقة إليها كما أشارت هي نفسها إلى ذلك في التعليق:
- (اسبتالية) قالت اللجنة: كان من الممكن أن نجاري المتقدمين في اختيارهم كلمة (بيمارستان) ولكنا رأينا أن كلمة (مستشفى) مع أدائها المعنى تماماً أسهل نطقاً من الكلمة الأولى وأكثر دوراناً على الألسنة والأقلام
ونرى أن كلمة (مستوصف) أولى بالتعبير عن الكلينيك
- (بوفه: اختارت اللجنة لهذا المعنى كلمة (مقصف) - وقد سبق استعمالها - لأن معنى القصوف في اللغة الإقامة في الأكل والشرب وهذا هو معنى كلمة بوفه. أما استعمال القصف في اللهو فغير عربي. أما خزانة الطعام والشراب فقد استعمل لها المتقدمون كلمة سكردان.
ويرى صاحب كتاب العامي والدخيل - الذي سيجيء الكلام عنه - استعمال كلمة (مِقلَدَة).
(بريمة - اختارت لها اللجنة كلمة (بزال) ومعناها في اللغة: حديدة يفتح بها الدن. وهو قريب من البريمة الحالية ففي هذا الإطلاق توسع.
(تلغراف) استحسنت اللجنة الكلمة المستعملة (برق ورسالة برقية)
وشاع استعمال (برقية) بحذف الموصوف - في الجرائد السورية فهي تقول: وردت برقية من الأستانة. . . بمعنى تلغراف. واستعملت أيضاً الفعل (أبرق) بمعنى أرسل تلغرافاً. وفريق من التجار استعملوا فعل (تيّل) فيقولون: تيلوناً أي جاوبونا تلغرافياً.(1/216)
- (تباشير) الكلمة عربية محرفة وصحيحها (طباشير).
- (دبلوم) اختارت لها اللجنة كلمة (شهادة عالية) وقالت: لم توافق اللجنة على (الشهادة النهائية) ولا على (الشهادة العليا) لأن الدبلوم ليست كذلك بل بعدها ما هو أعلى منها. أما (شهادة الحذاقة) التي أشار إليها الأديب الكامل أحمد تيمور بك فربما وضعت بعد لما هو
أرقى من تلك الشهادة.
- (عفارم) اختارت اللجنة كلمة (مرحى) وهي كلمة تقولها العرب للإصابة في الرمي فيمكن التوسع فيها.
- (قومسيون) استنسبت كلمة (لجنة) المستعملة لأن معنى اللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر ويرضونه وذلك معنى القومسيون.
* * *
هذه الألفاظ التي وضعتها اللجنة أو استنسبت وضعها ونشرتها في هذا الشهر.
وقد جاء اعتراض على اللجنة بخصوص بعض ما نشرناه لها من الكلمات في العدد الماضي. فإن حضرة الأديب محمد أفندي الصادق حسين لا يستنسب تعريف (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار ويفضل تعريبها بآلة الكتابة أو الآلة الكاتبة - كما كنا قد ذكرنا - لأن ليس في اللفظة معنى المطبعة بل هي كما جاء في دائرة المعارف آلة الغرض منها أن تقوم مقام القلم في الكتابة(1/217)
ولاحظ أيضاً حضرته على كلمة (خريطة) أن معناها العربي لا يؤدي معنى (الخارطة).
أما الكلمتان (غدان) و (شجاب) اللتان وضعتهما اللجنة للتعليقة أو الشماعة كما ذكرنا ذلك في العدد الماضي (ص 140) فقد سبق إليهما حضرة المدقق رشيد أفندي عطية منذ 12 سنة في كتابه الدليل إلى مرادف العامي والدخيل المطبوع في بيروت سنة 1898 وذكر هذا المعنى بالتفصيل ص 67. ونحن نلفت أنظار اللجنة إلى هذا المؤلف النفيس فإنه يقع في 360 صفحة وهو مبوب على طريقة المعاجم، ولا نشك في أنها تجد فيه مساعداً على عملها.
ثمرات المطابع
تاريخ الأدب وحياة اللغة العربية: من اجل الخدم التي قامت بها الجامعة المصرية فتح درس جديد في أدب اللغة العربية. وهو من الدروس التي كنا لا نزال مفتقرين إليها. فقد تلاقي فينا الكاتب النحرير والشاعر المبرز، وتراه يكاد يعجز عن إيراد شيء من تاريخ مشاهير كتابنا الماضين، وذلك لعدم وجود مؤلف جامع يرجع إليه في مثل هذه الأحوال. فيضطر الأديب إلى اقتناء ومطالعة مجلدات عديدة ضخمة، وهذا ما لا يتسنى إلا للقليلين. بخلاف الإفرنج، فإن صغار طلبتهم في المدارس يعرفون أسماء(1/218)
كتابهم وشعرائهم مع نبذة من حياتهم ومكانتهم في عالم الأدب وقيمة مصنفاتهم إلى غير ذلك. حتى أن تاريخ أدب اللغة أصبح من مواد دروسهم الأولية. ولذلك تستحق إدارة الجامعة كل ثناء على خدمتها هذه. وقد ساعدها في مهمتها وجود أديب نابغة في هذا الفن، يعد دائرة معارف حية لتاريخ آداب اللغة، وهو سعادة القانوني حنفي بك ناصف وكيل محكمة طنطا. وقد جمع إلى تضلعه في القوانين والشرائع مقدرة فائقة في فني النظم والنثر جعلته في طليعة حملة ألوية الأدب في وادي النيل. (راجع رسمه وأبياته في هذا العدد ص 212).
أسندت إليه إدارة الجامعة تدريس تاريخ أدب اللغة فأسندت هذه المهمة إلى خير مسند. وقد ظل كل هذه السنة يلقي تلك المحاضرات التي عرف قيمتها كل من سمعها، ثم جمعتها إدارة الجامعة في الكتاب الذي نحن بصدده الآن.
وهذا الجزء الأول من تلك المحاضرات يبحث في الحروف العربية ومخارجها وصفاتها وترتيبها وخواصها، كل ذلك في قالب منسجم لطيف. تم تناول البحث تاريخ الخط قبل الإسلام وبعده. وقد أحببنا أن نقتطف شيئاً من هذا الباب لفائدة القراء. قال:
كان العرب قبل الإسلام أمة بدوية، لا يهمهم إلا تربية الإبل والشاء، والتجاع الكلأ لرعايتها، وشيء يسير من التجارة لجلب الأقوات والثياب والسلاح اللازم لإقامتهم في البوادي معرضين لافتراس الوحوش الضارية، وإغارات السالبين والآخذين بالأثر، وحماية القوافل التجارية،(1/219)
ومثل هذه المعيشة لا يقتضي انتشار الكتابة والقراءة. وإذا وجد فيهم من يكتب ويقرأ، فإنما هو نزيل هبط إليهم، أو آيب من سفر بعد طول إقامة في أرض متحضرة. . . وكان الأعرابي يقرع الأسماع برائع الشعر وفائق النثر، وهو لا يعرف حروف الهجاء ولا أسماء أوجه الإعراب. . .
ولم يصل الخط إلى ما هو عليه الآن، إلا بعد أن قطع أربعة أدوار. الدور الصوري المادي، الدور الصوري المعنوي، الدور الصوري الحرفي، الدور الحرفي الصرف. . . وذلك أن الناس في أول الأمر كانوا يرسمون صور الماديات للدلالة عليها، فإذا أرادوا أن يدلوا على معنى الأسد رسموا صورة أسد. وإذا قصدوا الدلالة على معنى النخل رسموا صورة نخلة. إلخ. وإذا أرادوا أن يذكروا أن ملك مصر حارب الآشوريين وغلبهم وأخذ منهم أسرة، رسموا صورة ملك مصر بالعلامة المصطلح عليها ومعه جنود مدججون بالسلاح، ورسموا صورة ملك آشور بعلامته المصطلح عليها ومعه جنده، بعضهم واقعاً على الأرض مضرجاً بالدم وبعضهم تحت سنابك الخيل وبعضهم مولون الأدبار، ورسموا جملة من الجند مربوطين بالسلاسل يقودهم جندي مصري. . . ولكن الكتابة بهذه الطريقة ناقصة، لأن من المدلولات ما لا صورة له مادية، كالخوف والحزن والفرح والنسب الإضافية والتوصيفية والنسب الكلامية التي تتصور بين الموضوع والمحمول. فكان الخط شيئاً خيراً من لا شيء. ثم بدا لهم بعد زمن أن يدلوا على المعاني التي لا صور لها بصور لوازمها فيرسموا الدواة والقلم للدلالة على معنى الكتابة، والشعر المسدول للدلالة(1/220)
على الحزن، فكانت الكتابة في هذا الدور تتألف من صور ماديات للدلالة عليها، وماديات أخرى للدلالة على ملزوماتها من المعاني، وذلك مشاهد كثيراً في الرسوم المصرية القديمة، بل هو مشاهد الآن في القرى بين الأميين، فإذا حج واحد منهم إلى مكة، رسموا على باب داره صورة محمل فوق جمل زمامه بيد أعرابي، ورسموا جملاً آخر عليه هودج، وربما رسموا سفينة بجانب الجمل للدلالة على أن صاحب المنزل حج وسافر في البر والبحر. . . ثم ترقوا إلى الدور الحرفي بواسطة الصور، فاصطلحوا على استعمال صور للدلالة على الحروف التي في صور أسمائها. فإذا قصدوا أن يكتبوا لفظ غلبت الروم صوروا غراباً وليمونة وباباً وتفاحة وإبريقاً وليمونة ورحى ووردة ومبرداً (فإذا أخذت الحروف الأول من كل كلمة كان عندك الجملة غلبة الروم) وكان قوم قد اصطلحوا على صور مخصومة بقدر عدد حروف لغتهم، ثم اختصروا تلك الصور مع مرور الأيام حتى صارت علامات لا تدل إلا على أصوات الحروف كما هو الشأن الآن. . . .
وفي الكتاب رسوم عديدة تشرح للناظر تدرج الخط من هذه الرسوم المادية حتى بلغ دوره
الحرفي المعروف الآن. . . هذا هو الجزء الأول ن تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية. الذي نثر دوره حنفي ناصف بك على سامعي محاضراته والتي نظمتها إدارة الجامعة في كتاب مطبوع لتعمم الفائدة. وإننا ننتظر بفارغ الصبر الأجزاء التالية. لأننا كما تقدم في أشد الافتقار إلى مثل هذا الكتاب النفيس. وكلنا يقدر هذه الخدمة حق قدرها ويعرف أن ناصفاً هو كفؤ لها. . .
* * *(1/221)
ومن الدروس المفيدة التي تلقى في دار الجامعة دروس علم الطبيعة، يلقيها حضرة الرياضي البارع إسماعيل حسنين بك ناظر مدرسة المعلمين الخديوية. وقد جمعت إدارة الجامعة أيضاً محاضرات الأستاذ العلامة في كتاب على حدة لتعميم الفائدة. وهذا الجزء الأول يبحث في خواص المادة وأولها التحرك وهو يتناول الحركة المنتظمة والحركة المتغيرة وتحليل الحركات ثم القوة وقياسها وتحليلها إلخ. . . ولاشك في أن المحاضرات التالية ستتناول البحث في التمدد والانضغاط والمسامية والتجزؤ وعدم التدخل وكلها من خواص المادة العمومية. ونحن في الشرق في أشد الحاجة إلى نشر العلوم الرياضية والوقوف على أسرار الطبيعة المحدقة بنا. ويرجى من إدارة الجامعة أن توسع نطاق هذه الدروس الوضعية. فضلاً عن أن إلقاءها باللغة العربية لمما يزيد لغتنا مرونة ويساعدنا على استعمالها في تدريس العلوم. وقد اظهر حضرة إسماعيل حسنين بك من هذا القبيل براعة فائقة يستحق عليها ثناء كل أديب.
* * *
وطنيات أحمد نسيم: هذا هو الجزء الثاني من ديوان أحمد أفندي نسيم. وأحمد أفندي نسيم من الشعراء العصريين المعدودين في وادي(1/222)
النيل قال فيه إسماعيل باشا صبري:
لك في الشعر يا نسيم معان ... باهرات تحار فيها العقول
كل بيت يطل منه على أفهام أهل النهى محيا جميل
وقال محمد بك هلال: لا تعجبوا أن رق فهو نسيم
وقال عبد الرحيم بك احمد: للوطنية روح تظهر في هذا الشعر وهو خير ما يلقنه الشباب
وقال إسكندر بك عمون: لا سحر غير هذا
وقال الأستاذ عبد العزيز جاويش:
لك شعر مثل النسيم إذا اعتل ... ولكنه شفاء القلوب(1/223)
وقال عبد العليم أفندي صالح المحامي: شعر نسيم، نسيم الشعر
وقال حافظ أفندي إبراهيم: أصبح البحتري غلام نسيم. . وهو يشير إلى نسيم الغلام الذي كان البحتري يتغزل به.
وقال محمد أبو شادي بك المحامي: الروح شعر للجسد، وشعرك روح للوجود.
وقال خليل أفندي مطران: في هذا الشعر ما في اسم صاحبه: من عرف أبي الطيب ونفحات النسيم
وقال الشيخ محمود العطار:
قد هدت قالة القريض نجوم ... طلعت في سماء شعرك زهرا
هذا ما قاله فريق من كبار أدباء مصر في زميلهم. وإذا كانوا - على ما رأيت - لم يبخسوه حقه من الثناء، فهم أيضاً لم يكيلوا له هذا الثناء جزافاً. فإن نسيماً بات من شعرائنا الأعلام، إذ جمع إلى متانة النظم وإحكام التركيب شعوراً رقيقاً وخيالاً عالياً. وهذه الصفات جعلت له مقاماً معدوداً بين شعراء العصر. وهو - خصوصاً في هذا الجزء الثاني من ديوانه - شاعر سياسة وجدال، والسياسة والجدال، كما يفهمها الشعراء، مدعاة إلى تحريك ساكن الشعور وإثارة كامن الخيال. خذ القصيدة الواحدة من الوطنيات تجدها قضية يعرضها صاحب الديوان، ثم يؤيدها بالأدلة الدامغة مفنداً حجج الخصم أيما تفنيد. ولقد جاءت هذه الوطنيات تاريخاً لأهم الحوادث التي جرت هذين العامين في مصر والأستانة: نظر إلى تلك الحوادث تارة نظرة حزن وأسف، وتارة نظرة(1/224)
ابتهاج وفرح - وفي كلا الحالين نظرة شاعر - فدونها بمداد يسيل من قلبه المتأثر. وأنا أرى النظم بما يحيط بنا من الوقائع أجدر بشعرائنا من التيه في مفاوز مبتذلات الماضي، ولذلك قلنا أن نسيماً شاعر عصري.
* * *
دروس التاريخ الإسلام - عرفنا الشيخ محيي الدين الخياط كاتباً بليغاً وشاعراً كبيراً، وها قد نزل إلى ميدان التاريخ فكان مؤرخاً مدققاً. ظهر القسم الأول من كتابه في تاريخ الإسلام وهو يشتمل على مجمل تاريخ صاحب الشرعية الإسلامية. كتبه لطلبة المدارس بأسلوب
سهل التعبير، حسن التبويب والتنسيق، وختم هذا الجزء الأول ببعض الأحاديث النبوية في الأخلاق والعلم والسياسة نقتطف منها: لا فقر أشد من الجهل. ولا مال أعز من العقل، ولا وحشة أشد من العجب.
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
التمسوا الرزق في خبايا الأرض، إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره دنيئها وسفسافها.
الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم.
آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.(1/225)
المسلم من سلم الناس من يده ولسانه.
من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته.
سوء الخلق شؤم، وشراركم أسوأكم خلقاً.
* * *
وأهدى إلينا حضرة الفاضل الشيخ عبد الله أفندي الرفاعي الكتبي المعروف بطرابلس الشام نسخة من الطبعة الثانية من كتاب سمير الليالي تأليف حضرة البارع محمد أفندي أمين صوفي السكري وهو جزء من أجزاء تالية تبحث في تقويم البلدان وتاريخ الأمم، بأسلوب لا يمل معه القارئ. وقد أفاض المؤلف خصوصاً في بلاد الدولة العثمانية فاستوفى تاريخها وجغرافيتها. وإعادة طبع الكتاب دليل على رواجه.
وجاءتنا أيضاً روايتنا للأديب مارون أفندي عبود محرر جريدة الحكمة: اللبنانية: الأولى وهي معربة من نوع الرومان رواية رنه واتالا الشهيرة للكاتب الفرنسوي شاتوبريان وقد عربها أيضاً فرح أفندي أنطون. والثانية - وهي تمثيلية مؤلفة - رواية كريستوف كولمب واكتشاف العالم الجديد على يده. عبارة الروايتين طلية منسجمة وتدل على مقدرة كاتبهما وكنا نود الإفاضة في مرمى الكتابين لو لم يمنعنا عن ذلك ضيق المقام وكثرة ما لدينا من المطبوعات.(1/226)
مصر وسورية
موضوع العدد الكبير
سألنا القراء في العدد الماضي عن موضوع عدد خاص كبير من الزهور يقوم مقام عددين يصدران في آن واحد في فصل الصيف. وقد جاءتنا اقتراحات عديدة ولكن السواد الأعظم مجمع على اختيار موضوع مصر وسورية لأن الزهور دائبة على إيجاد رابطة أدبية بين الأقطار العربية ويجب أن تبدأ بهذين القطرين الشقيقين. وقد كاشفنا المساعدين بتحرير المجلة فاستحسنوا الموضوع كثيراً.
وعليه فالعددان القادمان سيظهران معاً في حجم كبير وسننشر فيهما رسوم أشهر الآثار وأجمل المناظر الطبيعية في القطرين مع أقوال الكتاب والشعراء الأقدمين والمعاصرين من عرب وإفرنج. وستجيء هذه المجموعة - بفضل مشاهير الأدباء الذين سيحررونها - كتاباً فريداً في بابه يجدر بكل أديب عربي أن يقتنيه. ونسأل كل القراء أن يوافونا بما لديهم من الكتابات والرسوم الفوتوغرافية بهذا الموضوع لتتم الفائدة.
وسيرسل هذا العدد الخاص مجاناً لكل الذين يكونوا قد سددوا قيمة الاشتراك. وثمنه لغير المشتركين ثلاثة فرنكات.(1/227)
أزهار وأشواك
الكتاب على المراسح
كان لما كتبته في العدد الماضي عن التمثيل والكتاب وقع حسن في أندية الأدب، وتناقله بعض الصحف مستحسناً الاقتراح. ولم يعترض احد من الأدباء على الدور الذي خصصته به. ألقيت بذرة هذه الفكرة في الأذهان، فإذا لم تكن قد نبتت فهي لم تمت، ونحن ننتظر الربيع لنرى. وقد جاءني من بيروت الكتاب الآتي وها هو نصه:
السلام على حاصد. وبعد فنعم ما ارتأيتم بخصوص التمثيل والكتاب ولقد أحسنتم في توزيع الأدوار على قدر ما نعرف عن أدبائكم. وإذا تم إبراز هذا الفكر إلى حيز الوجود فإننا نعدكم بشد الرحال إلى وادي النيل لحضور هذه الحفلة الفريدة. ثم ندعوكم إلى حفلة من نوعها نقيمها في بيروت وتوزع أدوارها على أدبائنا: فيمثل الأمير شكيب أرسلان دور الملك. والشيخ إسكندر العازار دور النديم والشي محيي الدين الخياط دور الوزير، والأستاذ الحوراني دور بزرجمهر. ويعهد دور قائدي الجيش إلى فليكس فارس وداود مجاعص. أما دور العاشق فكثيرون هم المرشحون له. ويدير صاحب الحسناء جوق المغنيات في القصر، وبشارة الخوري يقوم بدور رئيس الحرس. أظن أن أدبائنا سيقومون بأدوارهم هذه كما يقوم أدباؤكم بالأدوار التي وزعتها عليهم. فابتدؤوا تجدونا لكم لاحقين والسلام.
الإمضاء: متطوع بالحصاد
الاقتراح إذن جميل وأنا عرضته من باب الهزل، وبت أفكر به عن جد.(1/228)
حملة الأقلام
كتب المنفلوطي في نظراته فصلاً عن الكتاب في مصر. وحذا حليم دموس في هذه المجلة حذوه عن الكتاب في بر الشام. أصاب كلاهما في بعض أحكامهما، وأخطأ كلا الاثنين أيضاً في البعض الآخر. وهل في ذلك من شيء عجيب؟ بل يصح أن يكون ما عددته أنا صواباً قد عده غيري خطأ. وعليه فلست غاضباً على الكاتبين لأنهما لم يذكراني في عداد الكتاب، ولا لأنهما أساءا إلى الكتاب تطربني نفثاتهم أو أطربا كتاباً تقتلني سخافاتهم. إذا كان الكثيرون غضبوا لهذه الأسباب فلست أنا لها بغاضب ولكن الذي أنا لأجله مستاء ناقم هو هلع الكاتبين لقيامة من خطأهما في آرائهما. فأسرع هذا في سورية وذاك في مصر إلى
الاعتذار على صفحات الجرائد. ولقد أفقد هذا التنصل كل ما كنت أعتقد فيهما من الشجاعة في المجاهرة بمعتقدهم الأدبي. فإما أنمهما قالا رأيهما في حملة الأقلام عن اعتقاد تام. وليس لهما أن يؤديا حساباً عما كتبا، أو أنهما كتبا عن غير اعتقاد - وهذا ما لا أظنه - فكان الأجدر أن لا يكتبا. وهناك سبب آخر لاستيائي من هذين الأديبين وهو أنهما فتحا باباً هيهات أن نجد من يسده. فقام كل حامل قلم يبدي لنا رأيه في حملة الأقلام ولو كان الواحد من هؤلاء يأتينا بالشيء المقبول لقلنا: لا بأس من احتكاك الآراء. ولكن هذا يقول لك: الكاتب زيد كاتب بليغ لو كانت عبارته أمتن ومعانيه أجمل. . . وذاك يقول: الشاعر عمرو شاعر مجيد لو كان أسمى خيالاً وأحكم نظماً. . . وأنا أقول على هذا القياس: لو كنت صاحب مئة(1/229)
ألف جنيه وأملاك وعقارات لما كنت فقيراً، أو لو كان ابن السبعين في العشرين من عمره لكان شاباً. . . ألا رحم الله مسيو ده لا باليس كما يقول الإفرنج. . .
أسماء الجرائد
نحب المناقشة ولو في لا شيء. ما كدنا ننتهي - وهل انتهينا؟ - من البحث في حملة الأقلام حتى فتح باب جديد بين رصيفين موضوعه أسماء الجرائد. ابتدأ الأمر بين رصيفين، ولكن أول الغيث طل ثم ينهمر، وأول النار شرارة. وها أنا أول النافخين فيها. يفكر الكاتب أو الصحافي طويلاً في عنوان كتابه أو اسم جريدته، بل هو يعلق الآمال الكبار على ذاك العنوان الخلاب أو هذا الاسم الجلاب. وهذا أمر بديهي. فكم يعقد من مجلس عائلي لانتقاء اسم للمولود الجديد تيمناً وتفاؤلاً بمدلوله. . . أسماء جرائدنا ومجلاتنا جميلة، بل هي أجمل منها. وكثيراً ما تكون من باب تسمية العبد مرجاناً وليس فيه أحمر غير لسانه أو تسمية ذاك الثقيل لطيفاً أو تلك الشنعاء جميلة. ولكن القرد في عين أمه غزال عربنا معظم أسماء الجرائد الإفرنجية لجرائدنا. فعندنا العلم واللواء كما عندهم الستندرد، والجريدة كما عندهم الجورنال، والزمان بدل الطان والتيمس، والبرق بدل الإكلير وكذلك قل عن الإنسانية والعدل والعصر الجديد والوطن. وقد اتخذنا كل أسماء الفضائل لجرائدنا فعندنا الحقيقة والاستقامة والصدق والمحبة والرجاء وأخذنا ثلاث كلمات الدستور فعندنا الحرية والإخاء والمساواة. فضلاً عن الأسماء المحلية كالأهرام والمقطم ووادي النيل وأبو الهول والأرز ولبنان. ومن الجرائد ما لا ينطبق اسمها على حقيقتها.
فالإكسبرس مثلاً(1/230)
جريدة أدبية لطيفة الأسلوب تصدر مرة في الأسبوع مع أن اسمها يفيد معنى جريدة سياسية تتلقى الأخبار قبل سواها وتصدر على الأقل مرتين في النهار وأخرى في الليل وكذلك قل عن البرق والبيروتية.
- حاصد
كل ما يكتب في المجلة وكذلك مذيلاً بتوقيعي هو لي وأنا المسؤول عنه فلا يبخسني أحد حقي بنسبة بنات فكري إلى غيري. فليس لحاصد من حطام هذه الدنيا إلا باقة أزهار مع كثير من الأشواك.
حديقة الأخبار
غادر هذه الفانية المرحوم شاهين بك مكاريوس أحد أصحاب المقطم. وهو من الذين خدموا الصحافة والمعارف في سورية ومصر الخدم الجلى وامتازوا بالجد والنشاط. وقد لبس الحداد عليه عدد كبير من الكتاب في مقدمتهم نجله سليم بك مراسل الدايلي مايل وابن عمه إسكندر أفندي شاهين رئيس تحرير الوطن وشريكاه الدكتور صروف والدكتور نمر صاحبا المقطم والمقتطف. فنسأل للفقيد الرحمة ولآله الصبر.
- أصيب الشاعر المعروف محمد إمام العبد بشقيق له. فبادر زملاؤه إلى تعزيته في هذا المصاب الأليم فأجابهم شاكراً:
أنتم سلوة الحزين وأنتم ... أمل البائس الأسيف الحزين
جل خطبي وروع الحزن نفسي ... وجرى الدمع بعد ذاك الدفين
قد خلقتم لي السلو بشعر ... وعزاء على الهموم معين
- كان هذا الشهر شهر المعاهد العلمية. وقد ذكرت الصحف المحلية أسماء الناجحين في امتحانات البكالوريا والحقوق وبينهم كثيرون من قراء الزهور فنهنئهم.(1/231)
- وأقامت المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك حفلة جميلة بمناسبة توزيع الجوائز حضرها عدد كبير من الوجهاء والأعيان. ومثل طلبة المدرسة المارونية بهذه المناسبة أيضاً رواية عربية حضرها فريق من أعيان المصريين والسوريين. فألقى حضرة الأديب محمود أفندي نظيم أبياً غراء في القطرين الشقيقين منها:
كلنا أخوة وقد جمعتنا ... لغة زادها الشام احتراما
صانها اليازجي رب المعاني ... بضياء أزال ذاك الظلاما
ظللتنا أهلة خافقات ... تنشر الحب بيننا والوثاما
صافحونا على محبة مصر ... وبنيها كما نحب الشاما
وأقامت مدرسة الفرير بشبرا مثل هذا الاحتفال الأدبي وخير ما جاء فيه قصيدة بليغة المبنى سامية المعنى ف تربية الأولاد نظم دررها حضرة الأديب الفاضل الأخ اليان باخوم مدير الدروس العربية في تلك المدرسة.
مخبر
من وإلى القراء
نشرنا في العدد الثالث (ص 121) مقالة عن البرنس فردريك ايتل في فلسطين. وقد جاءنا البريد الأخير ببعض مجلات وجرائد ألمانية. وقد نشرت ترجمة تلك المقالة مطرية الزهور وهذا يدللك على اهتمام القوم بكل ما يقال عنهم.
- لدينا مقالات وقصائد كثيرة من مراسلينا الأدباء من جهات مختلفة اضطررنا إلى إرجائها وسننشرها عن قريب إن شاء الله.
- أهدى الكثيرون من الغيورين على الأدب أعداد المجلة لسنة كاملة إلى أصدقائهم قائلين أنها خيرة هدية. فنشكر لهم أدبهم وحسن ظنهم.
الزهور بمصر أنطون الجميل.(1/232)
العدد 6 - بتاريخ: 1 - 8 - 1910
مصر وسوريا
قلنا عند صدور الجزء الأول من هذه المجلة، إننا إنما أنشأناها لتكون الرابطة الأدبية بين الأقطار العربية. وذلك بإيجاد صلة تعارف وترابط بين أدباء هذه الأقطار وكتّابها وشعرائها، بنشر رسومهم وما تجود به قرائحهم، ليتم التعاضد والتساند الأدبي، فنجني الفائدة المبتغاة من تراسل(1/233)
الأدباء وآزرهم للقيام بالنهضة الحديثة التي بدت طلائعها في أوائل القرن العشرين حتى كادت ترجع إلى الآداب العربية عصورها الذهبية.
أقدمنا على هذا العمل بعد مفاوضة السواد الأعظم من أئمة حملة الأقلام، فأنسنا منهم ارتياحاً عظيماً إلى هذا المشروع، لنهم كانوا يشعرون جميعهم بالحاجة إلى التكاتف والتعاون، لئلا يظلوا منفصلين عن بعضهم بعض، فلا يعرف الأديب المصري شيئاً عن الأديب الشامي، ولا يدري هذا شيئاً عن زميله العراقي، وقس على ذلك.
وإذا ألقيت نظرة على الأجزاء التي صدرت من هذه المجلة، ترى مقدار استحسان القوم لهذه الفكرة، وإقبال الأدباء على تعضيدها بغية تحقيق هذه الأمنية الشريفة. وتجد في كل جزء ميداناً تتبارى فيه أقلام الكتاب من كل صقع. حتى عرفت مجلة الزهور بهذه الميزة على سائر المجلات، وأصبح يراسلها العدد الكبير من أدباء مصر والشام والعراق والجزائر ومراكش. ناهيك بما يحمل إلينا البريد من رسائل التنشيط وكلمات الاستحسان.
ولقد سهل علينا إدراك هذه الغاية خصوصاً فيما يتعلق بمصر وسوريا، لسهولة الموصلات، وتشابه التقاليد والعادات بين هذين القطرين الشقيقين، وسير الحركة الفكرية فيهما في مجرى واحد.
ولهذا ما كدنا نعلن عن عزمنا على إصدار العدد السنوي الكبير حتى تواردت علينا الرسائل من القراء، وكلهم مجمعون على جعل موضوع العدد الخاص مصر وسوريا وكنا قد تركنا للقراء الكرام(1/234)
حق اختيار الموضوع الذي يروقهم البحث فيه , ولقد سرنا هذا الاقتراح أيما سرور لأننا رأينا فيه استحسان العامة وجمهور القراء لغاية المجلة، بعد استحسان الخاصة وفئة الأدباء. وأيقنا بنجاح تلك الفكرة، وهي التوصل شيئاً فشيئاً إلى إحكام الرابطة الأدبية بين الأمصار العربية.
هذه هي الأسباب التي حملت إدارة هذه المجلة أيها القارئ العزيز على أن تتقدم إليك بهذا العدد الخاص المتوج باسم القطرين العزيزين، وهي على يقين تام من انه سيحل منك محل
الرضى والارتياح.
* * *
بقي علينا بعد ذلك تقرير كيفية طرق هذا الموضوع الواسع. إذ ما عسانا أن نقول عن مصر وسوريا. ومصر وسوريا مهد الحضارة والمدنية، والملعب الذي تمثلت عليه أكبر مشاهد تاريخ البشرية. بل إن فينيقيا وأرض الفراعنة هما محور التاريخ القديم، ودائرة قطبه. حولهما كان معترك الأمم. وفيهما كان ممر الشعوب في زحفها من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق. في هذين القطرين حدثت الحوادث المأثورة، وفي ربوعهما جرت الوقائع المشهورة. فكانا في أيام الحرب ساحة الهيجاء، وفي أيام السلم مجتمع العلماء. هذا من الوجهة التاريخية أما من الوجهة الجغرافية فإن ذينك القطرين قبل نقض برزخ السويس وبعد نقضه كانا الرابطة بين آسيا وأفريقيا، والطريق اللاحبة بين أوروبا والهند والعالم الجديد. أما الوجهة السياسية فقد ضربنا عنها صفحاً في بحثنا منذ البداية، لأن مجلتنا غريبة منذ نشأتها عن السياسيات.(1/235)
وعليه فقد وجدنا موضوعنا واسعاً مترامي الأطراف، تضيق المجلدات الضخمة عن استيعاب بعض أبوابه، سيما وغنه ليس ن غايتنا إيراد تاريخ القطرين ووصفهما جغرافياً، فالكتب التي تبحث في ذلك هي فوق الحصر فضلاً عن أن ذلك خارج عن نطلق مجلة أدبية فنية مثل الزهور ولذلك آثرنا طرق هذه الموضوع من الوجهة الأدبية. فاستكتبنا الأدباء الأعلام الذين يساعدون في تحرير هذه المجلة وأضفنا إلى كتاباتهم شيئاً من أقوال الكتاب الغابرين وبعض الشذرات الأدبية في هذا الموضوع. وزينا ذلك ببعض رسوم المناظر الطبيعية والآثار القديمة في القطرين، زيادةً في الفائدة والرونق.
ولا ندعي ذكر كل ما يستحق الذكر من الآثار والمناظر وما كتب فيها قديماً وحديثاً، لأنه لا يخفى ما يستغرق ذلك من الفصول الطوال إذ إن لكل شبر من هذه الأراضي تاريخاً عظيماً أو أن فيه أثراً فخيماً. فضلاً عن أن لنا متسعاً في الأعداد القادمة لذكر ما ضاق هذا الجزء عن إيراده سواء كان عن مصر وسوريا أو عن سائر الأقطار العربية.
* * *
نعم إن الإنسان ينظر إلى ماضيه، فيخاله أحسن مما كان؛ وإلى حاضره، فيراه أقبح مما
هو؛ وإلى مستقبله، فيظنه أسعد مما سيكون؛ وبحق قال دانتي الشاعر التلياني: لا حسرة للإنسان في أيام تعاسته أعظم من ذكره مجده السالف ولكن هذا المبدأ الصحيح في كل فرد من الهيأة الاجتماعية فاسد إذا ما استعملناه للشعوب، فالشعوب تحيا(1/236)
بماضيها الذي تعده إرثاً ثميناً من الأجداد. ومن صفحات عزها الغابر تتخذ لها قوة تؤهلها للحياة الأمل. فنحن نذكر إذن ماضينا لننشط في حاضرنا، ويزداد أملنا في مستقبلنا. . . فعسى أن تؤدي مجلتنا بعض هذه الخدمة.
والعرب اليوم أشبه باليونان من حيث موقفهم إزاء الرقي الاجتماعي: ماضٍ مجيد، وحاضر مضطرب، ومستقبل مجهول سيكون كما يشاؤون وعلى مقدار استفادتهم في حاضرهم من عبر ماضيهم. ونحن اليوم لسنا في الظلام ولا في النور. ولكننا واقفون بين هذا وذاك. فعسى أن يكون ذلك غلساً يعقبه إشراق النهار، لا غسقاً يتقدم زوال الأنوار.
ولقد جرى اليونان في هذه السنوات الأخيرة على عادة جميلة، كان لها أكبر تأثير في إحكام رابطتهم القومية. وهي أنهم يصدرون كتاباً سنوياً يشترك في تحريره كل كتابهم من جميع الأصقاع التي نزلها أبناء العنصر اليوناني، فيكتب كل واحد منهم فصلاً عن أحوال أبناء جنسه في البلد الذي استوطنوه، فيتألف من ذلك مجموعة ضافية تتضمن كل ما يجدر بأبناء العنصر الواحد معرفته عن إخوانهم وحالتهم الأدبية والاقتصادية. . . ويجمل بالعرب، وهم الضاربون في أنحاء مختلفة، أن يحذوا هذا الحذو، فيأتوا مثل هذا العمل الذي لا تعد فوائده، ولا تحصى منافعه. فتكون تلك المجموعة أشبه بمؤتمر سنوي - يصعب عقده فعلاً - يتعارف بواسطتها أهل مصر وسوريا والعراق واليمن ومراكش والجزائر وتونس والمهاجرون منهم إلى أمريكا وأستراليا والشرق الأقصى(1/237)
ويطلعون على شؤونهم بعضهم بعض في كل هذه الأصقاع فيتبادلون المنفعة والفائدة.
ولم يتيسر لهذه المجلة أن تقوم بمثل هذه الخدمة منذ سنتها الأولى، نظراً إلى مشقة هذا العمل ووجوب إعداد اللازمة لهذا المشروع الكبير، ولكن تلك أمنية من أمانيها ستعمل على تحقيقها بمناصرة الفضلاء الغيورين.
* * *
وفي هذا العدد - وإن كان قاصراً على الأدبيات - مقدمة لهذا المشروع الكبير. لأن ترابط
الأجزاء الواحد بعد الثاني يؤول حتماً إلى ترابط الكل.
ولقد قسمنا موضوعنا إلى ثلاثة أقسام: الأول يبحث في مصر، والثاني في سوريا، والثالث يتناول شيئاً من أقوال كتاب كل قطر في الثاني، مما يزيد توثيق عرى التقرب بين القطرين.
هذه هي الخدمة التي ينبغي أن نقوم بها، والغاية التي يجب أن نسعى إليها، ولا نشك في أن كل قارئ يود المساعدة على تحقيقها. فإن وراء ذلك تقريب القلوب، ونشر السلام والوئام؛ والله الموفق في البداية والختام.
مدير المجلة(1/238)
1 - مصر
أسماء مصر
مرجع أسماء مصر إلى ثلاث لغات مختلفة: اللغة المصرية، واللغات السامية، واللغة اليونانية. فمن الأسماء المصرية قيمت ومنه اشتق الاسم القبطي الصعيدي قيمه والاسم القبطي المنفي خيمي وقد اختلفوا في معناه فمن قائل أنه موقد، أو مجمرة، أو تنور. ومن قائل إنه ربوة ذات نار مستعرة. ومن قائل إنه أسود. ومن أسمائها بق وهو شجر اليسار، سميت به لكثرته فيها قديماً. وكذا تونهي، أي أرض الجميز، لكون ينبت فيها بكثرة. ولها أسماء أخرى غير ذلك، منها آن تاوي أي إقليم مدينة آن الشهيرة الآن بعين شمس.
وأما أسماؤها السامية فهي مصير ومصري وجدت في الألواح الآشورية التي وردت من تلك العمارنة وتاريخها سنة 1700 ق. م. وفي شروط العائلة الأولى البابلية المؤرخة سنة 2000 ق. م. ذكرت باسم موصور في الآثار الآشورية المنقوشة في عهد السرجونيين.(1/239)
وذكرت في العبرية باسم ماصور وهو مأخوذ من مصرايم. وتعرف في العربية بمصر.
أما أسماؤها المتعارفة عند اليونان وفي أوروبا فهي أجيبتوس قال بروكش إنه مشتق من حاكابتاح اسم منف عاصمة الحكومة المصرية القديمة. لأن الأقوام المتوحشة من ملاحي البحر الأبيض كانوا يقيمون في مصر أزماناً طويلة فيسمعون من أهلها اسم عاصمتهم هذا لأنها كانت اكبر مدن مصر وأهمها وأغناها. فنقلوا اسمها إلى بلادهم وحرّفوه إلى اجيبت، وهو الشائع الآن. . . وذهب بكتيت إلى غير ذلك، فقال إن إِ معناه الماشية وجوب معناه الحارس فيكون معناهما الراعي. وقد جعلا اسماً للعقاب تهكماً به، ثم أطلقا على مصر من قبيل التهكم لإغارة الرعاة.
أحمد كمال(1/240)
فرعون وقومه
هذه قصيدة لسعادة أستاذ الشعراء إسماعيل باشا صبري، وهي من خير ما قيل في آثار مصر. وقد ضمنها الشاعر نظرية جديدة، وهي أن هذه البنايات الفخيمة لم تتم إلا على يد عمال كانوا يطلبون الإتقان الفني إكراماً للفن لا خوفاً ولا طمعاً. ولا يضارع جلال هذه الأبيات وفخامتها إلا جلال وفخامة تلك الآثار:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يوم تحصيل العلى وإني
ولست - إن لم تؤيدني فراعنة ... منكم - بفرعون عالي العرش والشان
ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت ... جباله تلك من غارات أعواني
لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملاً ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
ردوا المجرة كداً دون مورده ... أو فاطلبوا غيره رياً لظمآن
وابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو ... لا تتركوا بعدكم فخراً لإنسان
أمرتكم فأطيعوا أمر ربكمو ... لا يئن مستمعاً عن طاعة ثاني
فالملك أمر وطاعات تسابقه ... جنباً لجنب إلى غايات إحسان
لا تتركوا مستحيلاً في استحالته ... حتى يميط لكم عن وجة إمكان. . .
* * *
مقالة قد هوت من عرش قائلها ... على مناكب أبطال وشجعان
مادت لها الأرض من ذعر ودان لها ... ما في القطم من صخر وصوان
لو غير فرعون ألقاها على ملأ ... في غير مصر لعدت حلم يقظان
لكن فرعون إن نادى بها جبلاً ... لبت حجارته في قبضة الباني
وآزرته جماهير تسيل بها ... بطاح وادٍ بماضي القوم ملآن(1/242)
يبنون ما تقف الأجيال حائرة ... أمامه بين إعجاب وإذعان
من كل ما لم يلد فكر ولا فتحت ... على نظائره في الكون عينان
ويشبهون إذا طاروا إلى عمل ... جناً تطير بأمر من سليمان
براً بذي الأمر لا خوفاً ولا طمعاً ... لكنهم خلقوا طلاب إتقان
* * *
أهرامهم تلك - حي الفن متخذاً ... من الصخور بروجها فوق كيوان
قد مر دهر عليها وهي ساخرة ... بما يضعضع من صرح وإيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى ... ما يأخذ النمل من أركان ثهلان
كأنها - والعوادي في جوانبها ... صرعى - بناء شياطين لشيطان
جاءت إليها وفود الأرض قاطبة ... تسعى اشتياقاً إلى ما خلد الفاني
فصغرت كل موجود ضخامتها ... وغض بنيانها من كل بنيان
وعاد منكر فضل القوم معترفاً ... يثني على القوم فيسر وإعلان
تلك الهياكل في الأمصار شاهدة ... بأنهم أهل سبق أهل إمعان
وإن فرعون في حول ومقدرة ... وقوم فرعون في الإقدام كفؤان
إذا أقام عليهم شاهداً حجر ... في هيكل قامت الأخرى ببرهان
كأنما هي - والأقوام خاشعة ... أمامها - صحف من عالم ثاني
تستقبل العين في أثنائها صور ... فصيحة الرمز دارت حول جدران
لو أنها أعطيت صوتاً لكان له ... صدى يروع صم الأنس والجان
* * *
أين الألى سجلوا في الصخر سيرتهم ... وصغروا كل ذي ملك وسلطان(1/243)
بادوا وبادت على آثارهم دول ... وأدرجوا طي أخبار وأكفان
وخلفوا بعدهم حرباً مخلدة ... في الكون ما بني أحجار وأزمان
وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا ... عليهم العلم ذاك الجاهل الجاني
ويل له هتك الأستار مقتحماً ... جلال أكرم آثار وأعيان
للجهل أرجح منه في جهالته ... إذا هما وزنا يوماً بميزان
إسماعيل صبري
آثار مصر
1 - هيل أنس الوجود
أيها المنتحي (بأصوان) داراً ... كالثريا تريد أن تنقضا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع ... لا تحاول من آية الدهر غمضا
قف بتك القصور في اليم غرقى ... ممسكاً بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضاً ... سابحاً به وأبدين بضا
مشرفات على الزوال وكانت ... مشرفات على الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان وشابت ... وشباب الفنون ما زال غضا
رب نقش كأنما نفض الصا ... نع منه اليدين بالمس نفضا
ودهان كلامع الزيت مرت ... أعصر بالسراج والزيت وضا
وخطوط كأنها هدب ريم ... حسنت صنعة وطولاً وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى ... لو أصابت من قدرة الله نبضا(1/244)
ومحاريب كالبروج بنتها ... عزمات من عزمة الجن أمضى
شيدت بعضها الفراعين زلفى ... وبنى البعض أجنب يترضى
ومقاصير أبدلت بفتات ال ... مسك ترباً وباليواقيت قضا
حظها اليوم هدة وقديماً ... صرفت في الحظوظ رفعاً وخفضا
سقت العالمين بالسعد والنح ... س إلى أن تعاطت النحس محضا
صنعة تدهش العقول وفن ... كان إتقانه على القوم فرضا
* * *
يا قصوراً نظرتها وهي تقضي ... فسكبت الدموع والحق يقضى
أنت طغراً ومجد مصر كتاب ... كيف سام البلى كتابك فضا
؟؟؟ وأنا المحتفي بتاريخ مصر ... من يصن مجد قومه صان عرضا
لم تمت أمة ولا باد شعب ... أقرضوا الذكر والأحاديث قرضا
رب سر بجانبيك مزال ... كان حتى على الفراعين غمضا
قل لها في الدعاء لو كان يجدي ... يا سماء الجلال لا صرت أرضا
حار فيك المهندسون عقولاً ... وتولت عزائم العلم مرضى
أين ملك حيالها وفريد ... من نظام النعيم أصبح فضا
أين فرعون في المواكب تترى ... يركض المالكين كالخيل ركضا
ساق للفتح في الممالك عرضاً ... وجلا للفخار في السلم عرضا
أين إزيس تحتها النيل يجري ... حكمت فيه شاطئين وعرضا
أسدل الطرف كاهن ومليك ... في ثراها وأرسل الرأس خفضا(1/245)
يعرض المالكون أسرى عليها ... في قيود الهوان عانين جرضى
ما لها أصبحت بغير مجير ... تشتكي من نوائب الدهر عضا
هي في الأسر بين صخر وبحر ... ملكة في السجون فوق حضوضى
أين هوروس بين سيف ونطع ... أبهذا في شرعهم كان يقضى
ليت شعري قضى شهيد غرام ... أم رماه الوشاة حقداً وبغضا
رب ضرب من سوط فرعون مضٍ ... دون فعل الفراق بالنفس مضا
وهلاك بسيفه وهو قان ... دون سيف من اللواحظ ينضى
قتلوه فهل لذاك حديث ... أين راوي الحديث نثراً وقرضا
شيعة النيل إن بقي وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا
حاشه الماء فهو صيد كريم ... ليت بالنيل يوم يسقط غيضا
شيدوا المال والعلوم قليل ... أنقذوه بالمال والعلم نقضا
شوقي(1/246)
2
وقد غمرت المياه قسماً من هذا الأثر البديع المشيد على عمد في ماء النيل بالقرب من شلال أصوان كما ترى في الرسم. حتى بات يخشى أن يذهب الأثر بعد العين. وقد قال الأديب صاحب الإمضاء باكياً:
وقف عليك دموعي أيها الطلل ... عيني إليك وقلبي للألى رحلوا. . .
أرسلت بالعين في سقياك هامية ... وفي الطلول البوالي ترسل المقل
يا أيها الطلل المزور جانبه ... هون عليك كلانا بعدهم طلل
وقفت باليم رسماً لا حراك به ... واليم مضطرب والموج مقتتل
الدهر مل وآي الدهر كامنة ... في وجهك الطلق لا يبدو بها ملل
قرأت فيهن سر العالمين فيا ... شتان ما بين من قالوا ومن عملوا
كانوا إذا أبصروا شمس الضحى سجدوا ... لها وإن أبصروا شمها الهدى عدلوا
هنالك التاج كانت كلما سطعت ... بدوره طأطأت هاماتها الدول
عبد الحليم المصري
وآثار مصر من ستة أنواع وهي الأهرام والمسلات والتماثيل والقصور والهياكل والقبور. وأكبرا لأهرام وأشهرها هرم كيوبس في الجيزة وعلوه 138 متراً ومن المسلات مسلات كرنك واون والإسكندرية ومن التماثيل تماثيل ممنون ورعمسيس ومن القصور البرنث في الفيوم وهو يحتوي على 12 قصراً و3000 غرفة ومن الهياكل هيكل كرنك ولقصر إلخ. . .(1/247)
النيل
مصر هيدة من النيل
(هيردوت)
اسم النيل مأخوذ عن اليونان وأصل الكلمة في لغتهم نيلوس ولعل اليونان أخذوها عن الفينيقيين أو الحثيين أو عن القبائل التي كانت في لوبيا أو في آسيا الصغرى. أما اسمه عند المصريين بصفته مقدساً فهو جعبى وإن أخرجوه عن الألوهية سموه يومع ومعناه اليم. أو سموه النهر الكبير أور ويؤخذ من الرسوم القديمة أنه كان يكنى بأبي الأرباب، ورب الغذاء، ومخرج المأكولات بخصبه، ومالئ القطرين بمحصولاته، ومانح الحياة، ومزيل المجاعة إلخ. وحقاً إن النيل لكذلك.
وهو يحدث في مصر ثلاث هيئات: الأولى زمن الفيضان، فتصبح فيه مدن مصر جزائر وأرضها أنهاراً ولكن ذلك سيزول بمشروعات الري الجديدة. والثانية زمن الانحسار، فتتكون فيه كجنة أغراسها نضرة ومزارعها يانعة خضرة. والثالثة زمن التحريق فتكون الأرض فيه قحلة جدبة عليها غبرة. ولقد أصاب أحد شعراء العرب إذ قال:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
وقال أبو الحسين المعروف بابن الوزير مشيراً إلى ما ينجم عن الفيضان من الخيرات:
أرى أمداً كثيراً من قليل ... وبدراً في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مسبب لخليج مال
زيادة إصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال(1/248)
عيد النيل
وكانوا يحتفلون قديماً بعيد النيل احتفالاً عظيماً، فإذا جاء الانقلاب الصيفي وأتى الماء المقدس من أجباب أسوان إلى جبل السلسلة قامت القسوس المقيمة في هذا الجبل أو الملك الحاكم أو ابنه فيتقرب بثور أو بإوز، ثم يلقي في الماء قرطاساً مختوماً من البردى يشتمل على أمر فيه إطلاق الحرية له بالزيادة، لكي يضمن لمصر الخير بفيضان معتدل وكانوا يعتنون بهذا العيد رعاية للرواية القديمة القائلة إن سعادة السنة أو شقاءها موقوف على ذلك
المهرجان، فإن حصل منهم في شأنه إهمال أو توانٍ، رفض النيل الأمر الصادر إليه، وأغرق الأراضي والجهات. وفي هذا الموسم كان الفلاحون يأتون بالزاد ويأكلون معاً أياماً متوالية ويشربون حتى يثملوا. ويستمرون على ذلك حتى يأتي يوم الموسم الكبير، فتخرج حينئذ القسوس من المحراب وبينهم تمثال فيزفونه على الشاطئ بالألحان والأصوات المطربة والترتيل والمدائح وصدح الآلات الموسيقية فيقولون ما ملخصه:
السلام عليك أيها النيل، يا من ظهرت على هذه الأرض وأتيت لإحياء مصر، أنت الذي يختفي مجيئك في الغياهب إلى يوم الترتيل بقدومك أنت البحر المفيض بمياهك على البساتين التي أوجدتها الشمس لنا لتحيي جميع ما يكون في شرق. أنت صانع القمح وموجد الشعير ومطيل أجل المعابد. إن تعطلت أصابعك أو اعتراك كساد، أصبحت الألوف من الناس في فاقة. وإن نقصت وقت نزولك من السماء، أفنيت المعبودات والخلق، وتكدرت الحيوانات وصارت الأرض كباراً وصغاراً في عذاب. وإذا كانت الحال على عكس ذلك واستجيب دعاء الناس تصيح الأرض ابتهاجاً، وينشرح كل ذي بطن، ويهتز كل ظهر من الضحك. . . يا مجلب(1/249)
الأرزاق ومكثر المأكولات، أنت الذي يوجد علف الحيوانات، ويعطي كل ما لزم لقرابين المعبودات، أنت الذي يهتم بالقطرين فتمتلئ المخازن وتزداد خيرات الفقراء، أنت الذي يستجيب دعاءهم عند تقديم النذور فلا ينقصهم شيء. . . وإذا دخلت كنت محاطاً بالأغاني، وإذا خرجت صاحبك التهليل، وإذا رقصوا فرحاً يوم ظهورك من غياهب مكمنك فما ذلك إلا لكون عجزك اضمحلال لهم وفساد. . ومتى تضرعوا إليك لينالوا الماء السنوي شوهد أهالي مصر الوسطى وأهالي الوجه البحري مصطفين بعضهم بجانب بعض، وكان كل امرئ حاملاً لعد صنعته ولا ينزوي أحد وراء جاره. . أنت منبت الأرزاق الحقيقية التي هي رغبة الناس. . هذا هو كلام الالتماس الذي يجعلك مجيباً لدعائهم وإذا تكرمت بلجج المحيط السماوي على الإنسانية قدم نبرى معبود الحب عندئذ قربانه وسجدت لك كل المعبودات قاطبة. ومتى عجنت يداك شيئاً صار ذهباً، أو طوبة صارت فضة. لا يوكل اللازورد لكن القمح أفضل من الأحجار الكريمة. لقد شرعوا في الغاني على العود، وأخذوا يرتلون لك بتصفيق مستمر لتبتهج من أجلك ذراري أولادك، وليكثروا من أجلك تراتيل المدح، كيف لا والنيل هو إله الثروة، وهو الذي يحيي قلوب
النساء الحبالى. ولو تأخر عن إعطاء الغذاء، لزالت السعادة من المساكن، ووقت الأرض في ضعف شديد. . .
ولا يزال المصريون حتى اليوم يحتفلون احتفالاً عظيماً بما يسمونه وفاء النيل ولقد جرى الاحتفال هذا العام في 25 أغسطس (آب) الماضي بالأبهة المعتادة:(1/250)
وفاء النيل
في هذا اليوم الذي كان فيه قدماء المصريين يقدمون لك فتاة من أجمل فتياتهم، ويلبسونها أجمل الأثواب وأثمن الحلى، ويأتون بها إلى وسط مياهك الهادئة ويطرحونها ضحية في أمواجك اللطيفة، نأتي نحن أيضاً أبناء القرن العشرين بتقدماتنا وضحايانا.
كنت إلهاً عظيماً، لأنك كجميع آلهة البشر قوة عجيبة من قوى الكون ومظهر غريب من مظاهر الأرض. فحسبوك إلهاً كسائر آلهتهم التي يعبدونها تحب النقمة وترتاح إلى سفك الدماء وتصبو إلى الذبائح والضحايا، لذلك كانوا يزفون إليك كل عام فتاة فتانة لتكون لك عروساً أيها الإله وابن الآلهة. .!
هذا الوحش الضاري السفاح الذي يشرب الدماء والإثم كالماء الذي نسميه إنساناً قد صنعك أنت أيضاً كسائر الآلهة على صورته ومثاله. . .
على نغمات العود والقيثارة والمزمار، وبين أناشيد الغناء وضجيج الاستحسان كانوا يأتون إليك بأميرة من أميراتهم في ربيع صباها وريعان جمالها يترقرق الحسن في وجنتيها ويتألف الجمال في خديها، ولا يخشون أن يطرحوها في أحشائك أنت إله الرحمة والصلاح!
* * *
كنت إلهاً عظيماً، ولا تزال إلهاً فخيماً بيدك الخير والشقاء، وبين شفتيك الموت والحياة، تضرب وتشفي، وتميت وتحيي.(1/251)
لبثت الوفاء من السنين محجباً بحجب الأسرار ومستتراً بستر الألغاز، فاقتفى البشر آثارك في البيد والقفار، وتتبعوا مسيرك في الصحارى والرمال، وناجوك كما ناجوا كل إله سواك ليعلموا من أنت وما أنت وهم يحسبون الآن أنه قد كشفوا سرك وأوضحوا أمرك - أيخترقون أحشاء الأرض، أيشقون الأطواد الراسيات بعضها بجانب بعض؟ إنهم لمقصرون عن ذلك تقصيراً، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
تسير في عقيقك الفخيم العجيب، كما تسير الآلهة في طرقها، لا تلتفت يمنة ولا يسرة - تضحك من أبناء آدم وعلومهم وأفراحهم وأتراحهم وبخارهم وكهربائيتهم كما يضحك منهم جوبتير من نوافذ أولمبس.
الإنسان ابن أمس أما أنت فكائن منذ الأزل وستبقى إلى الأبد!
عبدوك لأن لك نفعاً يرجى وضراً يخشى كسواك من الآلهة الأخرى.
عبدناك وقد عبدنا قبلك الفلك الدائر، والنجم السائر، والهواء والسحاب، والجو والضباب، والشموس والأقمار، والأحراج والأشجار، والطيور في أوكارها، والأسماك في بحارها والوحوش في أوجارها.
عبدنا من قبلك الخنافس والثيران، والجبل والبركان والهوام والحشرات، والأصلال والحيات، وكل ما سبح في الهواء، وغاص في الماء، ودب في الغبراء.
ولما لم تبق مادة في هذا الكون الذي لا تحيط به العقول، وليس إلى معرفة كنهة من وصول خلقنا من الوهم أكواناً جديدة وقوى عديدة واتخذناها إلهاً ومعبوداً، نخر لها ركعاً وسجوداً.(1/252)
عندنا آلهة نصفها بشر ونصفها إنسان ومخلوقات رأسها إله وجسمها حيوان.
ولما لم تكفنا كل هذه الآلهة وهي الكون بأسره والوهم بجملته عبدنا الرذائل والأرواح، والشياطين والأشباح، وعقدنا محالفات مع أبالسة جهنم لنقوى بها على سلطة الإله الأحد والفرد الصمد.
فلماذا لا نعبدك أنت أيضاً أيها النيل السائر وسطنا بجلال يسحر العقول، وسر يدعو إلى الحيرة والذهول، الجاري أمامنا في منبسط الغبراء، كما تجري الآلهة في منبسط السماء والمجرة في عقيق الفضاء.
* * *
بيد أننا قد انتقلنا الآن من عبادة الأوثان، ووحدنا الآلهة والأديان وجعلنا إلهنا الأحد ديناراً، واتخذناه لديننا شعاراً، هذا النقد ذو الوجهين نظيرنا هو هو إلهنا ومعبودنا، نتبارى إلى مسجده، ونتجارى إلى معبده.
ولكن أليست مياهك أنت يا إله الخير والصلاح ومصدر الحياة والفلاح هيا لتي حولت نضرة مصر نضاراً، وتربتها تبراً؛ ألست أنت الذي خلق هذا الإله الذي تعبده أمم الأرض طراً وتعفر وجهها أمامه ليلاً ونهاراً، فأنت أنت إذاً إله الآلهة!
* * *
في قلبك أسرار مصر وفي أحشائك ألغاز كهنتها المنافقين، وسحرتها المشعوذين، وفيك
حديث ملوكها وغرائب أهرامها، وعجائب هياكلها، وفنون بنائها وضروب رسومها وسر موميائها.(1/253)
دفن في جوفك مجد مصر المؤثل وشرفها الباذخ ومدينتها القديمة التي وقف العالم أمامها مدهوشاً والتي تحج إليها عظماء الأرض وأمراؤها وملوكها لتشاهد آثارها فلا ترى إلا أطلالاً دارسة وأنقاضاً متردمة وهياكل ينعب اليوم في خرائبها ومدافن تحوم الغربان حول مواضعها، يحدق العالم فيها ويستنطق آثارها ويستفسر أسرارها ويجلو عن وجهها الصبوح حجب الخفاء والإبهام، فلا تنطق بحرف ولا تبوح بكلمة بل تنظر إليه شاخصة شخوص أبي الهول في الفضاء وأصنام الآلهة في الصحراء!
من يقدر في العالم أن يزيح اللثام عن محيا الآلهة أيزيس التي هي رمز الطبيعة وقد نقش على تمثالها أبلغ ما نقشته يد على حجر أنا هو ما كان وما هو كائن وما سيكون وليس لبشر أن يحسر لثام الإبهام عن محياي!.
* * *
في أحشائك أسرار هذا الكائن المجيب الذي نسميه بشراً والذي توارت أخباره طي الخفاء والكتمان. ألم تتبسم يا إله مصر يوم مست يد الإنسان الأول مياهك المقدسة. هلا فقهت حينئذ أن هذا الوحش الغريب الذي نفتش الآن عن حلقته المفقودة سوف يصير إلهاً نظيرك؟
شاد على ضفافك عروشاً باذخة ودولاً كبيرة ومدائن غناء، وبنى لنفسه صرحاً من المجد كان معجزة الأولين وأعجوبة الآخرين، ثم ضاقت أحشاؤك بمجده فجر جيوشه وجحافله واجتاح الأرض براً وبحراً ودوخ الممالك شرقاً وغرباً، ودوى العالم بحديث جرأته وتجاوب الجو بصدى(1/254)
انتصاراته وبسط ظل مجده على أقاليم المعمور ونقش اسمه في صفيحة الكون بين أسماء الآلهة بجانب اسمك لأنه ابنك وثمرة أحشائك.
* * *
بيد أنه إله فانٍ كجميع مصنوعاته أما أنت يا من هو صنع الإلاهة (إيزيس) فإنك شطر منها كنت وكائن وسكون وليس لبشر أن يزيح لثام الإبهام عن محياك.
تكونت من مياه الأرض التي تنعقد سحاباً في الجو وتنزل دموعاً كاللؤلؤ على فنن الجبال،
وتتفجر بحاراً في جوف الأرض تجري إلى اليم من حيث ولدت.
إنك منذ الأزل وسوف تبقى إلى الأبد وليس لملكك انقضاء - سيأتي زمن ينقطع فيه صفير البخار الذي يهز أمواجك، وتنطفئ شموس الكهربائية التي تنير وجهك، وتندك هذه البنايات الشامخة القائمة على ضفافك، وتصمت آلات الطرب وأناشيد الغناء على شواطئك، وينقرض هذا الإله الصغير الذي يطاول مجدك مع أهرامه وهياكله وبواخره وآلاته ومدنه. ومدينته ليست هي إلا ألاعيب صبيانة تزول كما يزول اللاعبون بها وتبقى أنت وحدك جارياً في طريقك الأبدية، كما تجري الآلهة في السماء والمجرة في عقيق الفضاء.
* * *
تعود حينئذ إلى جمالك الطبيعي الذي ورثته من إيزيس يوم ولدتك منذ بدء العالم تجري وسط هذا السكون الأبدي بعد أن تكون قد(1/255)
قطعت هذا السد الصبياني الذي وضعه الإنسان حاجزاً في طريقك، كما يقطع الجبار خيطاً من القنب يشده طفل إلى ذراعيه.
تجري بسكون وصمت، وتسير بجمال وجلال، كما أنت سائر الآن غير مبال بهذا الإله الصغير الذي يجهل سر الآلهة - لا تنبت على ضفافك شجرة معرفة الخير والشر لئلا يأكل منها ويحيا إلى الأبد فيملأ بلادك هياكل وآلهة وجوك لغطاً وصخباً وشواطئك إثماً وفجوراً كما هو فاعل الآن.
تجري حينئذ بسكون وصمت، وتسير بجمال وجلال، لأنك جميل وكل ما حولك جميل من سهول منبسطة وجبال راسية وأشجار باسقة وزهور باسمة - تنظر السماء غليك وتنظر إليها وهي كأنها رقعة من زمرد مرصعة بالماس، تتلألأ دراريها وتتألق أنوارها.
إذا كانت شجرة معرفة الخير والشر موجودة الآن على ضفافك فاجرفها إلى قلب البحر وأعماق الأوقيانس لأن هذا الإله الصغير الساحر الذي هو بجانبك، إذا صار إلهاً خالداً، أفسد الأرض والجو وشوش نظام إيزيس واستأثر بالقوة والسلطان وأقلق راحته وراحة الأكوان.
* * *
ذهب هذا الإله الصغير أمس إلى ضفافك ليعبدك كما كانت تعبدك أجداده وجاء بالسفينة التي كانت أسلافه تضع فيها عروسك لتقدمها ضحية لك لأنه حسبك كنفسه تحب الانتقام
وتصبو إلى الضحايا.
جاء إليك على نغمات العود والقيثارة والمزمار وأصوات الغناء وأناشيد السرور كما كان يجيء قديماً منذ ألوف من السنين. وإذا كان لم يأت بفتاة(1/256)
يقدمها ضحية لك فذلك ليس لأنه قد عرفك الآن إلهاً تحب الخير وتصبو إلى الصلاح بل لأنه قد أصبح أشد حباً لذاته وأكثر استئثاراً من ذي قبل فحفظ الفتاة لنفسه - إنه غبي جاهل ولا يزال يصنع آلهة أخرى على صورته ومثاله!
هذا وفاؤك أيها النيل فسر في طريقك الأبدية وسبيلك الخالد كما تسير الآلهة في السماء والمجرة في عقيق الفضاء.
الدكتور سعادة
وهذا نص الحجة التي تكتب سنوياً في الاحتفال بوفاء النيل بحضور فضيلة مفتي الديار المصرية والعلماء والأعيان:
في ليلة كذا الموافق كذا سنة كذا قبطية في المجلس المنعقد بالصيوان المنصوب برأس الخليج الحاكمي بمصر المحروسة لدى. . . . بمحضر كل من. . . . وحضرات الأساتذة. . . . وحضرات. . . . من أعيان مصر وغيرهم من الفضلاء والوجوه قد تحقق وفاء النيل المبارك بأن بلغ في يوم كذا المرقوم السابق لهذه الليلة كذا ذراعاً وكذا قيراطاً من الذراع المعتاد بمقياس الروضة في القاهرة. وذلك من فيض الله وإحسانه وتكرمه، ورأفة بعباده، وقد انشرحت بذلك الصدور وطلب الجميع من المولى الغفور أن يجعل النفع به عاماً، ويديم السرور. وقد وجب الخراج على أرباب الأطيان وأداء الأموال والمرتبات لجهة الخزينة العامرة حكم المعتاد، والحمد لله على منته، والمرجو من فيض فضله أن يجرينا على عوائده وإحسانه، أنه ولي ذلك والقادر عليه، وفي يده مقادير كل شيء وكل شيء راجع إليه.(1/257)
والنخل كالغيد الحسان تزينت ... ولبسن من أثمارهن قلايدا
ظافر الحداد
وللنخيل منظر مهيب ... تراع في جماله القلوب
فوق الضفاف ظلها رهيب ... صفاً بصف زانها الترتيب
من كل جبار عظيم القدر
تحسبها مردة طوالا ... تحت مظلات زهت جمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا ... سحرها النيل فلن تزالا
واقفة هنا بفعل السحر
إلياس فياض(1/258)
1 - الجزيرة
جزيرة مصر لا عدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها
فكم فيك من شمس على غصن قامة ... يميت وحيي هجرها ووصالها
شاعر عربي
2 - ليالي الجزيرة
أنا في الحب صاحب المعجزات ... جئت للعاشقين بالايات
كان أهل الغرام قلبي أمي ... ين حتى تلقنوا كلماتي
فانا اليوم صاحب الوقف حقاً ... والمحبون شيعتي ودعاتي
ضربت فيهم طبولي وسارت ... خافقات عليهم راياتي. . .
فعلى العاشقين مني سلام ... جاء مثلا لسلام في الصلوات
يعشق الغصن ذا الرشاقة قلبي ... ويحب الغزال ذا اللفتات
يا حبيبي وأنت أي حبيب ... لا قضى الله بيننا بشتات
إن يوماً تراك عيني فيه ... ذاك يوم مضاعف البركات
أنت روحي وقد تملكت روحي ... وحياتي وقد سلبت حياتي
مت شوقاً فأحيني بوصال ... أخبر الناس كيف طعم الممات
* * *
فرعى الله عهد مصر وحياً ... ما مضى لي بمصر من أوقات
حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات
هات زدني من الحديث عن النيل ودعني من دجلة وفرات
وليالي بالجزيرة والجيزة فيما اشتهيت من لذاتي(1/259)
بين روض حكى ظهور الطواويس وجو حكى بطون البزاة
حيث مجرى الخليج كالحية الرقطاء بين الرياض والجنات
ونديم كما نحب ظريف ... وعلى كل ما نحب مواتي
كل شيء أردته فهو فيه ... حسن الذات كامل الأدوات
يا زماني الذي مضى يا زماني ... لك مني تواتر الزفرات
بهاء الدين زهير
محطة مصر
لما أنشئت محطة القاهرة الكبرى اقترحت الحكومة المصرية على الشعراء نظم أبيات ترسم على جدران المحطة، وجعلت جائزة للذي يحرر قصب السبق، فنال الأفضلية فقيد الأدب المرحوم الشيخ نجيب الحداد. وإليك الأبيات التي يراها المسافر منقوشة على باب المحطة:(1/260)
يا حسن عصر بعباس العلى ابتسما ... حتى الحديد غدا ثغراً له وفما
طرائق في ضواحي القطر تبلغنا ... أقصى البلاد ولم ننقل بها قدما
مصر كصفحة قرطاس بتربتها ... غدا القطار عليها الخط والقلما
أرض به كان خصب النيل منتثراً ... حتى أتاها قطار النار فانتظما
لنا غنى عن قطار السحب منسجماً ... ولا غنى عن قطار النار مضطرما
يجري بها الرزق في جسم البلاد كما ... يجري دم في عروق الجسم منتظما
محطة هي قلب والخطوط بدت ... مثل الشرايين فيها والقطار دما
مع السلامة يا من سار مرتحلاً ... عنا وأهلاً وسهلاً بالذي قدما
نجيب الحداد
الأزبكية
كما وصفها المرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر المتوفي سنة 1250 هجري.
وأما بركة الأزبكية فهي مسكن الأمراء، وموطن الرؤساء، قد أحدقت بها البساتين الوارفة الظلال، العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة، كثياب سندس خضر على أثواب من فضة، يوقد بها كثير من السرج والشموع، فألانس بها غير مقطوع ولا ممنوع، وجمالها يدخل على القلب السرور، ويذهل العقل حتى كأنه من النشوة مخمور، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيام وليالي، هن في سمط الأيام من يتيم اللآلي، وأنا أنظر إلى انطباع صورة البدر في وجناتها، وفيضان لجين نوره على حافاتها وساحاتها، والنسيم بأذيال ثوب مائها الفضي لعاب،(1/261)
وقد سل على حافاتها من تلاعب الأمواج كل قرضاب، وقامت على منابر أدواحها، في ساحة أفراحها، مغردات الطيور، وجالبات السرور، ولذيذ العيش بها موصول، وفيها أقول:
بالأزبكية طابت لي مسرات ... ولذ لي من بديع الأنس أوقات
حيث المياه بها والفلك سابحة ... كأنها الزهر تحويها السماوات
وقد أدير بها دور مشيدة ... كأنها لبدور الحسن هالات
مدت عليها الروابي خضر سندسها ... وغردت في نواحيها حمامات
والماء حين سرى رطب النسيم به ... وحل فيه من الأدواح زهرات
كسابغات دروع فوقها نقط ... من فضة واحمرار الورد طعنات
مراتع لظباء الترك ساحتها ... وللأسود بها فيهن غيضات
وللنديم بها عيش تجدده ... أيد الزمان ولا تخشى جنايات
يروح منها صريع العقل حين يرى ... على محاسنها دارت زجاجات
وللرفاق بها جمع ومفترق ... لما غدت وهي للندمان حافات
الشيخ حسن العطار
الأوبرا
وقرب حديقة الأزبكية قامت الأوبرا الخديوية، أنشاها المغفور له الخديوي إسماعيل باشا وأول رواية مثلت فيها رواية عائدة لفردي الشهير.
وقد حضرتها الإمبراطورية أوجيني قرينة نابليون الثالث:(1/262)
وصف مصر
في منتصف القرن الغابر زار مصر الكاتب الشهير فارس الشدياق وكتب عنها فصلين ضافيين نشرهما في كتابه الساق على الساق في ما هو الفارياق المطبوع في باريس سنة 1855م و1270 هجري على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي. وعنهما نلخص ما يأتي. وسيرى القارئ أن أكثر هذه الملاحظات لا يزال منطبقاً على أيامنا هذه. قال:
مصر بلد الخير، ومعدن الفضل والكرم، أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب، وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب. إذا حيوك فقد أحيوك، وإن سلموا عليك فقد سلموك. وإن زاروك زادوك شوقاً إلى رؤيتهم، وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلاً عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد انتشر في الآفاق، وفات فخر من سواهم وفاق،(1/263)
بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه. . . وكأن حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر، فإن لعامتهم أيضاً مخالقة ومجاملة. وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام السريع والجواب، حلو المفاكهة والمطارحة. وكلهم يحب السماع واللهو، وغناؤهم أشجى ما يكون، فلا يمكن لمن ألفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها. ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات، غير أني أذم من غنائهم شيئاً واحداً، وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال مراراً متعددة حتى تفقد السامع لذة معنى الكلام. ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن. بعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس. . .
أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعز والفخر والكرم والمجد، فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسى والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها. . .
ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف، وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم كانت الأسعار في مصر رخيصة جداً. فلهذا كنت ترى الناس قصريهم وعميهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف، ومحال القهوة مجمع للأحباب، والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج، والنساء ينؤون بما عليهن من الحلي، والخيل(1/264)
والبغال والحمير
مسرجة ومكسوة بالحرير المزركش. . .
والغريب يجد في مصر ملهى وسكناً، وينسى عندها أهلاً ووطناً. . . ومن خواصها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدباً وكياسة، وشمائل مرضية، وأخلاقاً زكية. وأسواقها عارية عن ذلك رأساً.
ومن خواصها أيضاً أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلط وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق. . . وكثيراً ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف أنمى هواء مصر هذه البرنيطة وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالترب، فأصبحت هنا كالتبر. . . يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها صيري طربوشي هذا برنيطة، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي رأسي مطربشاً، وطرف دهري مطرفشاً.
ومن خصائصها أيضاً أن البغات بها يستنسر والذباب يستقصر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.(1/265)
فارس الشدياق
نابليون بونابرت في مصر
. . . وأتى النسر ينهب الأرض نهباً ... حوله قومه النسور ظماء
يشتهي النيل أن يشيد عليه ... دولة عرضها الثرى والسماء
حلمت رومة بها في الليالي ... ورآها القياصر الأقوياء
فأتت مصر رسلهم تتوالى ... وترامت سودانها العلماء
ولو استشهد الفرنسيس روما ... لا تتهم من رومة الأنباء
قاهر العصر والممالك نابليون ولت قواده الكبراء
جاء طيشاً وراح طيشاً ومن قبل أطاشت أناسها العلياء
سكتت عنه يوم عيرها الأهرام لكن سكوتها استهزاء
فهي توحي إليه إن تلك واتر ... لو فأين الجيوش أين اللواء
- شوقي(1/266)
2 - سوريا
ما بين آسيا الصغرى للشمال، والفرات والبادية للرشق، وقسم من بلاد العرب للجنوب، وبحر الروم للغرب تمتد سورية سلسلة جبالها متدرجة من الغرب حتى تنتهي على بحر الروم، وممتدة من الشرق حتى تلامس نهر الفرات عند شماله ورمال صحراء الشام عند جنوبه. وهذه السلسلة التي تمتد بطولها من آسيا الصغرى حتى بلاد العرب، من طوروس الفاصل حتى الصحراء الجافة، تظهر للناظر بأغرب حركات الطبيعة وأجمل انتساقها، فهي تحاذي خليج إسكندرونة حتى إنطاكية، ثم تتجه نحو الجنوب الشرقي حتى بعلبك، ومن هنالك تتقطع بتلال متتابعة وتمد ذراعيها لتصافح بحر الروم بجبلي لبنان والانتي لبنان.
ومن قرب الشاطئ تمد جناحاً كبيراً ينتهي بالكرمل الواقف عمودياً على صفحة الماء، ثم ترتفع على مشهد منه قمة الطور لتسود التلال العديدة الواقفة بعلو متدرج حتى تصل نقطة اختفائها على الأرض القاحلة، على الرمال المحرقة، على الصحراء.
تلك هي سوريا وفيها حلب ودمشق وبيروت وأورشليم: المدائن الأربع التي تقف كالعواصم لما حولها، وعليها مدار النظر في مستقبل سوريا وحياتها. هذه البلاد العزيزة التي رأينا فيها نور الحياة وشاهدنا على قممها(1/267)
نور الدستور لهي أكثر بلاد الدولة استعداداً للمستقبل المجيد، إذا كان أهلها كأرضها وقلوبهم كأنهارها.
هذه البلاد التي تخط بجبليها الكبيرين أثلام الأودية العميقة وتطوق السهول لترسل إليها ماء الحياة، هذه البلاد تجمع بوحدتها من أنواع الأراضي ما لا تملكه البلدان العديدة بتفرقها على كل الأقاليم.
. . . هنالك سهول الحر وهنا جبال القر، هنالك السفوح المعتدلة وهنا القمم الناطحة أطراف الغيوم. فأرضنا منبت كل ما يجتمع من الطبيعة في مملكة النبات، وكل ما تطلب الألفة الكاملة من أنواع العقول واستعداد الجسام. فإذا أوجدت لنا السهول رجال القناعة والعمل، دفعت لنا الجبال بسيلٍ عرم من أهل الفكر والأطماع، وقدمت لنا الأوساط جيشاً من بني القناعة وصفاء الذهن. لنا السنديان والكرم والأزهار. لنا القوة والفائدة والجمال.
. . . هذه سورية التي نراها مملوءة من عناية الله لا نكاد نقلب صفحة من تاريخها ما لم نجد عليها لطخة سوداء نفثها الإنسان من مظالمه ومن أطماعه. هذه للبلاد الجميلة كانت منذ البدء أرض الميعاد لكل شعب، وكل شعب فيها يئن مظلوماً كأنه منفي غريب في وادي
الدموع. كل عنصر كان يظهر على الأرض لم يتوار من صفحة الوجود، قبل مروره بسوريا، وإبقائه فيها أثراً شيقاً.
كل قافلة من رجل الإنسانية تركت على أرض سوريا تائهاً، وكل معسكر غاز ترك بقية متمردة، وكل حاكم فيها أبقى عليها سلالة تطمح إلى(1/268)
الحكم، وهكذا لا تمر أبصارنا هنيهة على أرضها ما لم نجد في أصغر أقاسمها خليط اليهود والعجم واليونان والروم والإفرنج والعرب. وفيهم الظالم والمظلوم، المستبد والملتجي، العناصر الباكية والعناصر الضاحكة، والأقوام التي تتعصب وتضرب والأقوام التي تتعصب وتحمل الويل. فيهم التركي والعربي البدوي، النصراني والدرزي، السني والمتوالي، السامري والكلبي واليزيدي وكل هذه العناصر تظهر للمفكر كمزيج هائل من الخير والشر، من التسامح والجور، من الإخلاص والكذب، من الشهامة والدناءة. من الإيمان بالله والكفر به.
. . . كيفما قلبت النظر في هذه البلاد العزيزة، تجد آثار الجور وبقايا الحروب القومية الدينية، سرح أبصارك على شاطئ بحر الروم من صيدا إلى يافا إلى أورشليم، وقف قليلاً على أطلال اليهودية القديمة، واتبع حدود البلاد حتى بلاد العرب وآسيا الصغرى حتى برية الشام وأرض حلب، فلا تتجاوز أبصارك هذه الأماكن قبل أن تملئ من مشاهد الخرائب والأطلال في كل مكان دلالة على الجهل وترفع الإنسان عن أن يكون أخا الإنسان: لقد شاهدت صور أول بحارة تجارية وفتحت موانيها يد الاجتهاد فهدمتها أيد المظالم. وبنى اليونان مرافئ لوقاية المراكب فأقتها الحكومة البادئة في اللجج. وكانت بادية الشام جنات البلاد وذخر الخلفاء فأصبحت أرجاء يأوي إليها المتشردون منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. صور وصيدا تلك الأماكن التي انبثقت منها تجارة العالم لم يبق من أهلها غير ذكر مظلم يكاد يكون الحلقة(1/269)
المفقودة لتمدن الإنسانية. إنطاكية وحمص والرملة وكل هذه المدن القديمة قد أصبحت طللاً يبني فوقه المظلومون أكواخهم ويتوه على رماده بنو الفقر والشقاء.
. . . من جعل هذه الأرجاء المملوءة بمبادئ الأمجاد عفراً تترفع عنه الأرجل ومتهدمات ينعق فيها البوم؟ من هوى بذلك المجد غير الحروب تلك الآفة الهائلة التي تتولد من الأطماع والتعصب والجهل، ولا تموت إلا على أطلال القصور أو فوق قبر ظالم أو عند
الرماد الذي يغطي الشعوب المنقرضة.
وأي زمان خلت فيه سوريا من طامع يستثمرها أو سفاح يقرد أبناءها بالسياط وبالسيف؟ من تحت حكم الجمهوريات الرومانية إلى حكم قناصلها إلى جور الإسكندر وأحكام بومباي، ومن تسلط السلجوقيين إلى عصا إمبراطرة الغرب الحديدية، ومن العرب إلى يد الإفرنج دفعت شعوب سوريا كالعبيد وسيقت كالنعاج، وهذه الأرض المزهرة المثمرة استثمرها اليونان وهدمها العرب واستعبدها الإفرنج. إنها لبلاد تضم كل قوى الحياة هذه البلاد التاعسة التي ساطتها كل العصور وداست على قلبها كل الشعوب ولم تزل تتنفس وفي عروقها دم وفي صدرها حياة.
لا يكاد يوجد مكان كسوريا تتجلى فيه عظمة الخالق في بدائع خلقه وضلال الإنسان في آثار تعصبه وقساوته وضلاله. لا توجد بدلا حملت كسوريا استبداد الملوك العديدين وبربرية الجنود وعواصف الحروب.
لقد تغير وجه سوريا مئة مرة منذ اثنتي عشر قرناً وتتابعت الحكومات العديدة على هذه البلاد، وكل واحدة منها تدفع أقوامها شوطاً بعيداً عمن(1/270)
تقدمها في سبيل المظالم والاستبداد.
وقد كانت بلادنا محطاً لإعصار الشعوب من كل جهة، من الشمال ومن الجنوب، من قفر الرمال ومن قفر الثلوج، من الحجاز ومن بلاد التتر وكل هؤلاء الأقوام لم يجتازوا سوريا إلا وأبقوا عليها أثر العنف ودلائل الدمار. . .
(وبعد أن أتى الكاتب على ذكر الغزاة الفاتحين الذين اجتاحوا في سورية قال):
وفي العاشر من تموز سنة 1324 جاءنا فاتح جديد بلا حملة ولا سيف. جاءتنا فتاة تركية بجناحها الذهبي وابتسامتها الخلابة لتجفف الدموع التي أسالها أبوها القاسي. ظهرت ابنة الترك لتضمد جراح سوريا وقد سبرت الأجيال قروحها إلى أقصاها. أو بالحري جاءتنا فتاة الحرية وهي ابنة العالم كله لا تنتسب لأمة ولا لشعب دون أخيه.
جاءت محررة الإنسانية من قيودها ومطلقة للعناصر من أوهامها والأديان من تعصباتها.
ملاك في شماله غصن السلام، في يمينه قبس النور نشاهد على شعاعه ما أخفته عنا ظلمات القرون، فلننظر إلى مجاهل أمراضنا نظرة الشجاع إلى جراحه، فإن الحرية لا تشفي ولكنها تعطي العليل حرية الشفاء.
فليكس فارس(1/271)
بيروت ولبنان
وصلنا إلى بيروت وهي من المدن السورية الآهلة بالسكان، وقد عرفت عند الأقدمين باسم بيريت وأصبحت على عهد أغسطس مستعمرة رومانية وأطلق عليها الفاتح الروماني اسم جوليا السعيدة وقد ميزت بهذه الصفة، لخصب ضواحيها وفخامة موقعها، وجمال جوها العديم المثيل. والمدينة قائمة على رابية جميلة تنحدر شيئاً فشيئاً إلى البحر وقد قامت فيه بعض صخورها فرفعت عليها الحصون التركية. أما ميناؤها فهي كناية عن لسان أرض يمتد في البحر ويقي المراكب من الرياح الشرقية. وكل هذه البقعة وما حواليها من الروابي مكللة بخضرة جميلة، وترى شجر التوت قائماً على مدرجات من الأرض. وشجر الخروب والتين والدلب والبرتقال والرمان تلقي ظل أوراقها المختلفة الألوان على تلك الأنحاء. ووراءها الزيتون ذو الورق الرمادي يزركش هذا المنظر الأخضر البديع. وعلى مسافة ميل من المدينة انتصبت سلسلة جبال لبنان وفيها الأخاديد التي يضيع فيها النظر. وتتحدر في طياتها مجاري الماء إلى صور وصيدا أو إلى طرابلس واللاذقية. وقمم تلك الجبال المتفاوتة العلو تضيع في السحب البيضاء أو تسطع من انعكاس أشعة الشمس فتشبه جبال الألب وثلوجها الأبدية.(1/272)
إن أرز لبنان أشهر أثر طبيعي في العالم. تناولت شهرته الدين والعلم والتاريخ: فورد ذكره مراراً في التوراة، وعمد الأنبياء في تشبيهاتهم واستعاراتهم إلى الأرز، ومن الأرز اتخذ سليمان الخشب لبناء هيكل الإله الأحد. . .
الأرز أقدم شاهد على الأعصر الخوالي، بل إن هذه الشجرات تعرف التاريخ أحسن مما يعرف التاريخ نفسه ولو كان يمكنها الكلام لروت لنا أحاديث الحكومات والديانات والشعوب المنقرضة.
وهل من هيكل أجمل من هذا الهيكل. .! وهل من مذبح أقرب من السماء من هذا المذبح؟ لقد أظلت تلك الأغصان الباسقة أجيالاً عديدة من الناس وكلها تسبح الله بأسماء مختلفة وتعبده في مظاهره الطبيعية. وأنا أيضاً صليت أمام الأرز. وكان الهواء يرتل بين الفنان ويتلاعب بشعري وينشف على جفوني دموع التأثر والأخبات.
لامارتين(1/273)
وقال لامارتين في غير هذا المكان من كتابه: لو أتيح لي أن أدبر حياتي كما أريد. لقضيت عمري صيفاً على قمم لبنان وشتاءً عند سفحه. وقد قال الصمة الشاعر العربي مثل ذلك في نجد:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ... وما أحسن المصطاف والمتربعا
والمصطاف مكان الصيف والمتربع مكان الربيع.
يا بني أمي إذا حضرت ... ساعتي والطب أسلمني
فاجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخذوا من ثلجه كفني
داود عمون(1/274)
ذكرى لبنان
برزت تميس كخطرة النشوان ... هيفاء مخجلة غصون البان
تستعبد الحر الأبي بمقلة ... دب الفتور بجفنها الوسنان. .
لم أنس في قلبي صعود غرامها ... إذ نحن نصعد في ربى لبنان
حيث الرياض يهز عطف غصونها ... شدو الطيور بأطرب الألحان
لبنان تفعل بالحياة جنانه ... فعل الزلال بغلة الظمآن
وترد غصن العيش بعد ذبوله ... غصناً يميد بفرعه الفينان
فكأن لبناناً عروس إذا غدا ... يزهو بنشر غدائر الأغصان
جبل سمت منه الفروع وأصله ... تحت البسيطة راسخ الأركان
تهفو الغصون به النهار وفي الدجى ... تهفو عليه ذوائب النيران
وترى النجوم على ذراه كأنها ... من فوقه درر على تيجان
لله لبنان الذي هضباته ... ضحكت مغازلة مع الوديان
يجري النسيم الغض بين رياضه ... مرخى الذيول معطر الأردان
لبست ربى لبنان ثوباً أخضراً ... وزهت بحيث الحسن أحمر قان
نثر الربيع بهن زهراً مؤنقاً ... يزري بنظم قلائد العقيان
فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى ... فكأنهن بحسنهن غوان
وكأن صنيناً أطل مراقباً ... يرنو لهن بمقلة الغيران
معروف الرصافي(1/275)
شمالي لبنان
نقتطف عن رحلة الطبيب العالم الدكتور أمي الجميل إلى تلك الأنحاء الجميلة ما لا يضيق عنه نطاق هذه المجلة. قال:
بعين الطبيب وبأذنه فحصت هذه البقعة الجميلة، وبمداد الوطنية أسطر رسالتي. وكنت أود أن أعطي موهبة الشعر ساعة من الزمن فقط، لأمثل جمال لبنان للناظر إليه من الباخرة، لأن للشاعر وحده أن يشخص لنا عظمة هذا الجبل الذي أقدامه في زرقة البحر، ورأسه في زرقة السماء، جروده مغطاة بمنطقة ناصعة البياض من ثلوج الشتاء، وسواحله تكسوها خضرة الليمون والبساتين. وبين ثلوج دائمة في الأعالي، وربيع دائم في الساحل، تلال مشجرة، ووديان مخصبة، وقرى زاهرة، وأديار عامرة. وفي كل مكان منه شعب نشيط عرف بسمو الذكاء، كما اشتهر بكرم الأخلاق وشرف المبادئ وصدق العقائد، في سورية كما في مصر وأوروبا وأمريكا.
أي نوع من الجمال بخلت به الطبيعة على لبنان العزيز؟ وقد جعلت فيه أنواع الحيوانات البرية والبحرية، والنباتات والأزهار من الأرز حتى الليمون والبلح، والمناخات كلها من الحار إلى البارد، ومن الرطب إلى الجاف، والهواء النقي والمياه العذبة والمناظر العجيبة، فجروده بديعة للاصطياف، وسواحله عجيبة للإشتاء، وبين هذه وتلك مسافة ساعتين فقط. .!
فما أكرم الطبيعة علينا وما أبخلنا عليها.(1/276)
وقد كانت الذاكرة تنتقل بنا إلى الأيام التاريخية، أيام عز جبيل ومتاجرة الفينيقيين ومرور ملوك الآشوريين وأعمال الرومانيين أو الصليبيين إلخ إلخ عندما كنا نمر أمام النقط والأماكن التي فيها هذه الآثار العظيمة كنهر الكلب ونهر إبراهيم والمعاملتين والبلمند.
. . . سلكنا طريق زغرتا، فمررنا بجانب حدائق طرابلس الغناء، ذات الدخل العظيم، ثم ارتقينا أعلى المدينة ووصلنا إلى لبنان. وكل هذه الأراضي ذات خصب عجيب لأنها جمعت كل ما يلزم للنبات: تربة جيدة وحرارة قوية ومياه غزيرة. وهناك ترى من أهم وأجمل ما يوجد من الزيتون.
ولم نلبث أن وصلنا إلى زغرتا القائمة على تل لطيف تحيط بها سهول ووديان ذات تربة كلها خصب وآخر ما يمتد إليه الطرف جبال قريبة مشجرة وأعلاها يغطيه الثلج.
وقد نشا من الزغرتا وبين رجال عظام منهم البطريرك جرجس عميره واسطفان الدويهي وجبرائيل الصهيوني ويوسف بك كرم الشهير.
ويمر بهذه البلدة نهر رشعين ومياهه تفيض الخيرات على بساتين زغرتا وحدائقها.
وبالاختصار إن الطبيعة دللت كثيراً أهالي زغرتا، وبعكس ما ينتجه الدلال ترى الزغرتاويين أبطالاً وأبناء أبطال وآباء أبطال: أمس واليوم وغداً. . .
. . . أين وا حسرتاه! فرسان اللبنانيين؟ أين شجاعة رجالنا أين حماستهم في الحروب وشهرتهم في الوغى. أني إقدامهم على العظائم؟ إذا(1/277)
أعلنت حرب على المملكة، أين أسود لبنان؟ وغن أراد عدو مهاجمة لبنان والاعتداء على امتيازه وحقوقه فمن هم حماته.
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يتق الشتم يشتم
فلو قام أبو سمرا أو الشنتيري من القبر فأين هم الأبطال الذين كانوا يقتحمون معهم أهوال دفاع شريف. فإنه لم يبق عندنا جماعة مدربة مستعدة إلا في زغرتا وفي بعض البقع الدرزية.
. . . ولا يتوهمن السامع أن الشجاعة تنفي رقة الشعور، ولطف الحاسات فقلب الأب الحقيقي هو حقاً قلب أسد وقد تحققت ذلك أيضاً في زغرتا، فإن هؤلاء الرجال والنساء الذين يقال عنهم سواعد من حديد قلوب حديد رجال من حديد هم أحن الناس على الأولاد وأكثرهم عطفاً على المرضى. ولم أر في البلاد ذكر الموتى مكرماً ومحبوباً أكثر منه في هذه البقة حتى كدنا نقول إنهم يكرمون الموتى إلى درجة تقتل الأحياء. . .
الدكتور أمي الجميل
قالا لمتنبي
أحب حمصاً إلى خناصرةٍ ... وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حميّاها(1/278)
صنين
جبل يناجي في العلو إلهه ... وبعيد صوت نسيمه التلحينا
يا حبذا النبع المبرد سفحه ... فكأنه الألماس سال مصونا
سفح تدفق ماؤه مترقرقاً ... بين الحصى أكرم بذاك معينا
فترى المياه خفيفة في جريها ... وحصى العقيق لدى المياه رزينا
وهضابه الشماء تجثو هامها ... لخريره وتخال ذاك أنينا
كم من مليك قد أقام بجيشه ... فجنى ثمار النصر منه مبينا
ولكم عليل فيرباه قد شفى ... داء ألم به وكان دفينا
وبقربه الآثار تنبئ أنه ... طحن النوائب كالدهور طحينا
حيث المعابد للفينيقيين قد ... درست وزانت سفحه تزيينا
والشمس مذ جنحت لمغربها بدت ... جاماً لغرف البحر جاء معينا
بعث الضباب البحر يجري صاعداً ... جري المياه إليه حيناً حينا
فكأن ذاك الحزن سهل أفيح ... من بعد ما كان السهول حزونا
أكرم بهاتيك المناظر أنها ... حنت لها كل القلوب حنينا
من كان يشتم الغلو فقل له ... حب المواطن قد دعوه دينا
جاريت نظم ابن الحسين بوصفه ... وذكرت سيف الدولة المدفونا
وإذا صعدت عليه أعلى قمة ... نلت الجنان وحزت عليينا
- عيسى إسكندر المعلوف(1/279)
طرابلس الشام
في سنة 1112 هجرية أي منذ مائتين وعشرين سنة تقريباً زار الشيخ عبد الغني النابلسي مدينة طرابلس.
والشيخ عبد الغني هذا مفخرة من مفاخر دمشق الشام وواسطة العقد الذي ينتظم علماءها الأعلام:
كان رحمه الله عالماً فقيهاً أصولياً صوفياً أديباً شاعراً وهو مشهور بالولاية وله قدم وذوق في علم الأحوال. وقد ألف في معظم فنون زمانه حتى فن الفلاحة والزراعة. فلا غرو إذا احتفل به أهل طرابلس الاحتفال اللائق بعلمه وفضله وشهرته التي ملأت الخافقين.
وكان سبب زيارته طرابلس دعوة من حاكمها إذ ذاك أرسلان محمد باشا قصداً للنفع العام
تولى أرسلان محمد باشا الحكم في طرابلس بعد سقوط أسرة آل سيفا الشهيرة في تاريخ سورية والتي حكمت في طرابلس وعكار وعرقه وما يلي ذلك من النواحي حقبة من الزمان ثم زال حكمها سنة 1068 هجرية.
ولما وصل الشيخ النابلسي إلى طرابلس الشام ذهب تواً إلى دار السعادة وهو اسم لمنزل الأمير أرسلان باشا المشار إليه. لكن الأمير كان قد أعد لنزول الشيخ داراً أخرى وهي دارس حسين جلبي آغاة مينا طرابلس. والذي يسمع وصف هذه الدار يخال نفسه في عالم ألف ليلة وليلة وأنه يقرأ فصلاً من فصولها: فقد كانت تلك الدار. كجنة النعيم دار(1/280)
القرار. تنتعش فيها الأرواح وتبتهج بها الأشباح، وهي محتوية على بيوت فاخرة. وأماكن كثيرة عامرة ذات مياه رائقة وأحواض دافقة. وفي ساحة هذه الدار بركة ماء طولها أربعة عشر ذراعاً. وعرضها سبعة أذرع وباعاً. وأمامها مقعدان. لطيفان وعليهما عرائش العنب. وبينهما فسقية صغيرة من الرخام الأبيض يتدفق ماؤها كأنها كأس بلور زانه الحبب. وبأرجاء هذه الدار بساتين وأشجار، ورياحين وأزهار ما بين ياسمين وسيسبان. وأشجار نارنج وفاغية وريحان. . وكنت منذ أيام سمعت مدير مينا طرابلس يساوم في أجرة دار يريد سكناها في المينا فلم يشأن أن يدفع سوى ثلاثة ريالات في الشهر. أما آغاة المينا منذ مائتين وعشرين سنة فقد كانت له - عدا الدار التي مر وصفها - دار أخرى في المينا لا تقل شيئاً عن تلك الدار: فقد كانت قصراً رفيعاً. ومكاناً مشرفاً بديعاً، وهو مطل على البحر المتلاطم بالأمواج. وشبيه في سموه بهاتيك الأبراج. وجهاته مطلقة. وجوانبه على هاتيك
البساتين والمرج الأخضر مشرفة.
وقوله: هاتيك الأبراج إشارة إلى أبراج أو مسالح سبعة مبنية على شاطئ البحر أمام طرابلس الشام. كانت تشحن بالسلاح والذخائر والمقاتلة لحماية الثغر من عدو مهاجم أو قرصان متلصص. وبين البرج والبرج ألف خطوة أو أكثر أو أقل. وهذه الأبراج من بناء الصليبيين. لكن المسلمين لما استولوا عليها كانوا يرممونها ويزيدون فيها ما يكسبها قوة ومناعة. وفي بعض هذه الأبراج محراب للصلاة، ومن ثمة ذهب بعضهم إلى أن هذه الأبراج مما شيده المسلمون. لكن التحقيق أنها من(1/281)
آثار الصليبيين. ولم يبق منها اليوم سوى برجين ماثلين في الساحة التي اتخذت الآن محطة كبرى للسكة الحديدية التي تصل طرابلس بحمص وتتم بعد بضعة أشهر. وعما قريب يعفى أثر البرجين المذكورين من لوح الوجود كما عفي أثر سائر الأبراج التي اشتراها الأهلون من الحكومة وشادوا عليها وبأنقاضها مخازن وبيوتاً.
لبث الشيخ النابلسي في طرابلس زهاء خمسة عشر يوماً. وقد اجتمع بفضلائها وعلمائها. وتجول في أرياضها ومتنزهاتها. وأحصى جوامعها وحماماتها. ولما ركب زورقاً للنزعة في البحر ورأى أشكال القوارب ومختلف هيائتها سأل عن كل واحد منها وسرد أسماءها. فكانت عشرين نوعاً.
وكان إذا ذكر حماماً قال إن مسلخه كبير أو صغير وفيه حوض من رخام أو ليس فيه. وذهب بعض الفضلاء إلى أنه يريد بكلمة المسلخ المكان الذي فيه يسلخ المغتسلون ثيابهم أي ينزعونها. وقد أعاد هذه الكلمة مراراً. فكأنها كانت شائعة في زمانه. ولا نعلم إن كانت تستعمل اليوم في دمشق بهذا المعنى أو لا؟
وكانت تجري بين الشيخ النابلسي وبين علماء طرابلس وفقهائها مذكرات ومباحثات ومطارحات. وكان معظمها أو كلها يدور حول غرائب الأبحاث ونوادر المسائل النحوية والفقهية كمسائل الوقف والطلاق وغير ذلك. فكان كل منهم يذكر قولاً رآه في بعض الكتب لبعض الفقهاء ويطلب رأي النابلسي في المسألة أو هو يطلب رأيهم فيما أشكل عليهم أمره.
ومما يستدعي الملاحظة أن علماء طرابلس أو علماء ذلك العصر كانوا(1/282)
مفتونين بحب كتب العلم، يتنافسون باقتنائها ويتباهون بنوادرها. فكان الشيخ النابلسي كلما زار فاضلاً في داره
عرض عليه ما عنده من نفائس الكتب ونوادر الأسفار العلمية والأدبية ويأخذ كل منهم في سرد ما يعلمه من هذا القبيل.
ومما يلاحظ أيضاً أن مدة الخمسة عشر يوماً التي قضاها النابلسي في طرابلس - وكانت كلها مذاكرات ومباحثات - لم يجر فيها ذكر لمدارس التعليم - فلم يذكر تلميذ ولا مدرسة ولا للعائلة - فلم تذكر امرأة ولا تربية وبيت. ولا للصناعة والتجارة - فلم تذكر حرفة ولا بضاعة ولا حانوت. ولا للعادات والتقاليد - فلم يذكر شيء من أمور الأفراح والمآتم والحفلات الأخرى حتى كأن طرابلس في ذلك العصر ليس فيها تلميذ ولا امرأة ولا صانع ولا تاجر ولا شيء من مميزات كل هيئة اجتماعية أو أن الكلام في هذه الأشياء ليس مما يهتم به أو هو مما لا يحسن أن يدور الحديث بشأنه بين رجال الطبقة العالية.
وأغرب من جميع ما ذكر أنه لم يجر حديث بينهم عن شؤون السياسة وأخبار الحكومة وأحوال الدولة، فلم تذكر أسلامبول ولا اسم السلطان ولا محاربة ولا معاهدة ولا وزارة ولا شيء من هذا القبيل. مع أن الطبقة التي يجالسها الزائر الكريم من أعلى طبقات طرابلس في العلم والوجاهة والنفوذ والاتصال بالمقامات العالية خارج طرابلس. فهم الحكام الإداريون. والقضاة والمفتون.
فما أكبر الفرق بين زمننا هذا الذي يذكر فيه اسم الحكومة وشؤونها(1/283)
ألوفاً من المرات كل يوم - وذلك الزمن الذي لم أسمعهم ذكروا فيه شيئاً من هذا القبيل مدة خمسة عشر يوماً. فسبحان مغير الأطوار. ومقلب الليل والنهار.
المغربي
قال الأديب صاحب الإمضاء يصف موقعاً بديعاً قامت في سفحه مدينة طرابلس الشام موطن أسرته. وتظهر البلد للمشرف من هذا الموقع وقد انسحبت وراءها البساتين وجرى من خلفها البحر ويرتجف وليس بينها وبين السماء في نظر العين إلا أن تتخطاه:
يا صخرة حملتنا في ذرى جبل ... إليه معطف قلبي حين ينعطف
إن شبهوا بربك قلباً قاسياً فأنا ... أراك قلباً بنا من حبه شغف
كم في لياليك أنفاس يكاد بها ... قلبي - وقد ذكر الأحباب - يختطف
آنست من مسها في مهجتي سحراً ... مس اللحاظ تحيينا وتنصرف(1/284)
كأن أضواءها في القلب من طرب ... مواقع الأمل المظنون تنكشف
تواقفت ومضت تهوي على عجل ... كالطير صف ولكن لم يكد يقف
* * *
أعليتنا الجو نستجلي محاسنه ... كأننا لسماء الله نزدلف
نلوح في عين راءٍ نحو أطلعت ... : كهمزة رفعتها فوقها ألف
نرى طرابلس تبدو كالحمامة في ... وكر لها أظهرته روضة أنف
والبحر يحكي ذراعاً للسماء به ... تزحزح الأرض عنها فهو يرتجف
مناظر ما اختلفنا في محاسنها ... والحسن أنواعه فيهن يختلف
فيا طرابلس حيتك المنى بلداً ... بي من هوى الحسن فيه فوق ما أصف
أحس بين ضلوعي كلما خطرت ... ذكراك أن إليك القلب ينحرف
مصطفى صادق الرافعي
يافا
قال البهاء زهير ملغزاً في مدينة يافا
بعيشك خبرني عن اسم مدينة ... يكون رباعياً إذا ما كتبته
على أنه حرفان حين تقوله ... ومعناه حرف واحد أن قلبته(1/285)
قلعة الشهباء
هي قلعة شامخة الذرى أكب عليها الدهر وانزلها في الحضيض والسفال، فعادت أطلالاً بالية ورسوماً دارسة وخرباً صامتة، تحدث الورى بعظمة الجدود وتناجي النفوس بقدرة الخالق في الوجود والكائنات.
عندها تقف الألوف طويلاً بين متنزه يلهو بالمادة، ومفكر يدرس في كتاب الوجود، ومعتبر يتأمل بمصير الأمور، ومهندس يشتغل بالمقادير والأشكال، وراوٍ محقق يستنطق الآثار ليسجلها ذكرى وعبرة للآتين والكل لا يجسر أن يلفظ كلمته الأخيرة في واضع أسسها ورافع أبراجها.
على ممرها اللاحب جرت الغزاة غازياً إثر غازٍ، وتدفقت الأجناد فيلقاً تلو فيلق، متسابقين متزاحمين متدافعين بين مشتبك القنا وعلى صليل السيوف، وتحت مثار العثير، وعلى هتاف الظفر ونحيط الذعر والاندحار إلى. . . مجد النصر ومجد الفتح. إلى. . . هوة الأبدية ولهوات العدم.
فوق حصونها الهائلة كم بكت من مقل وكم سالت من دماء، وكم تحققت من(1/286)
آمال وكم خابت من أماني، وكم انحطت من عروش وكم انعقدت من تيجان، وكم استرسلت من نفوس إلى الحياة. . . إلى الخلود. حتى انهزم الوهم مطارداً أمام الحقيقة كما ينهزم الظلام أمام الصبح وتطارد الذرات أمام الرياح الزعازع.
في ثنايا بقايا الرميمة تختبئ معلولات الدهور من بابل إلى آشور إلى مصر. ومن مكدونية إلى رومية إلى بزنطية. ومن العرب إلى الجراكسة إلى الأتراك. من قرون الظلمة إلى أعصر النور، وحب السؤدد وحب الأنانية دافع إلى تنازع البقاء. إلى تنازع الإثرة. والدنيا ملأى بالتناقض والشر والأباطيل.
على أبوابها وحناياها نقشت الأجيال أسطراً من مثل المؤيد والمظفر والماجد والمرابط والعالي المولوي والأميري الشمسي وسيد الملوك وغياث الدنيا والدين ومحيي العدل في العالمين، إلى ألفاظ أخرى ألهوا بها المادة وعبدوا أميالها وقدسوا فظائعها فحرقوا لها بخور الضمائر والشواعر فيا للغرور ويا للجهالة. . .!
من أنقاضها التي بعثرتها أيدي الأحداث وجدرانها التي داستها أرجل الأجيال وأنفاقها المنحنية تحت وطأة السنين صدى يتردد في فضائها ويتجاوب في أنحائها فيروي تلاطم
الأهواء واصطدام المطامع وما جر احتكاكها والتحامها على الإنسان من الولايات والمصائب. . .
هنا معقل شادته أيد طامعة في الخلود، وهنا هيكل تعبدت فيه نفوس فطرت على التدين، وهنا عقول غشى عليها الجهل فما أدركت من صفات الألوهية سوى العظمة والجلال، وهنا غمارات وقفت على هذه الخرائب وقوف الحياة على شفير الموت، وهنا حلقات من سلسلة الإنسان مرت أمامها كمرور الأيام الأبد القائم.
عقب الجبلة الصمت العميق، وتلا الضجة السكينة البالغة، فلا يقلقها إلا حفيف أجنحة الطير ولا يزعجها غير وقع أرجل الحشرات، وفي هذا الليل الأبدي والجمود المطلق تبدو الحقيقة الأزلية جلية من خلال زخارف العصور، وتنجلي الحكمة السرمدية بسنائها المتألق الباهر من طيات طبقات الأجيال المتلاشية.
لفتة إلى هذه الآثار، وقفة على هذه الأطلال، وتأمل معي ببقية عادية(1/287)
طرقتها بوائق الدهور. فعندها تتضاءل الطبيعة دون العلة الأولى القادرة، ومن ورائها تبرز المبادئ السامية بروز الغزالة وهي تواسي البشرية المتألمة وتعزيها في بهرة ارتماضها وتعاستها وتمزق عن أبصارها الحجب الكثيفة المنسدلة على غايتها الأخيرة.
فهي الآن كالجبار المسجى بأكفانه البيضاء، أو كالمستغرق في منامه المسرور بأحلامه، فلن تستيقظ من رقدتها الأبدية. وقد كانت كالحارس الموكل إليه الأمن والمناضل عن الملك والقطين. فباتت كالخطيب المنذر بالقضاء المنبئ عن المنقلب والزوال، فيعرف منه الحي العاقل حقارة البقاء ويتحقق كاذب الآمال.
ومنها صوت الطبيعة يرن في أودية القلوب بما يحققه الاختبار أن المركب إلى انحلال وأن الحيوة كالظل والخير السائر، أو كالسفينة الجارية على الماء المتموج التي بعد مرورها لا تجد أثرها ولا خط حيزومها في الأمواج، أو كالطائر يطير في الجو فلا يبقى دليل على مسيره. يضرب الريح الخفيفة بقوادمه، وشق الهواء بشدة سرعته ورفرفة جناحيه ثم لا تجد لمروره من علامة، أو كسهم يرمى إلى الهدف فيخرق به الهواء ولوقته يعود إلى حاله حتى لا تعرف ممر السهم (سفر الحكمة 5: 9). . . . وقد خطت فوقها يد الأجيال بأحرف من نور (هو الحي الباقي).
* * *
من البائن المعروف أن القلعة الموصوفة قد كانت في طرف حلب ينحدر من جنوبها سور يحيط بالمدينة وينتهي طرفه إلى جانب القلة الشمالي وهذا السور كان يعرف بالرومي لبناء الروم له ويشتمل على 128 برجاً ضخماً بقي بعض أبرجة منها إلى أواخر القرن الماضي. فأمر جميل باشا المشهور بهدمها فهدمت عن آخرها.
والقلعة الآن في أواسط المدينة وهي قائمة على ربوة صناعية راكمتها الأيدي، وشادت فوقها القلعة على شكل هرمي أو هيئة إهليلجية يبلغ قطر قمتها 50 متراً ومحيط قاعدتها 400 مترو تعلو عن سطوح المنازل المحاذية لها 60 متراً وعن سطح البحر 500 متر وفي أعلى القلعة منارة مسجدها الجامع ترتفع عن سطحها 40 متراً.
وجوانب القلعة مسفوحة رصفها الملك الظاهر بالحجارة الهرقلية المنحوتة والآن(1/288)
قد استولى الخراب على أكثرها. ومن حولها خندق واسع منقور في الصخر الأبيض يفصل القلعة عن الأبنية المجاورة لها ويغمر عند الحاجة بالمياه فيتعذر على الجيش المحاصر اجتيازه. وفي قمتها سور يحيط بها كأنه الإكليل يعصب هامها قامت فوقه بروج ومرام كان الجنود يرمون منها العدو المهاجم بأصناف القذائف والسهام وهذا السور قد تهدم فلم يبق منه إلا القليل قائماً ينبئ عن عظم شانه وضخامة بنيانه.
وعلى جانبي القلعة الجنوبي والشمالي برجان هائلان مربعا الشكل شادها الأمير سيف الدين جكم ولما خربا جدد بنيانهما الملك الأشرف قانصوه الغوري في سنة 914 - 915 هجري وهما الآن أصلح حالاً من سائر أبنية القلعة التي استولى عليها الخراب والدمار إلى حد التعطيل الفاحش والتشويه الشنيع.
ولا يصعد إلى هذه القلعة إلا من جهتها الجنوبية ومدخلها متقن الصنعة عجيب البنيان يجتازه الداخل على جسر ممتد إلى المدينة يستند على ست حنايا ضخمة مرتفعة. وعلى باب المدخل برجان على جانب من المناعة والضخامة وعليهما نقوش بديعة تزينهما وعلى طولها كتابة عربية من الخط النسخي المملوكي، تبهر النظر وتستلفت الخواطر، يستفاد منها أن السلطان خليل بن قلاوون أمر بعمارة هذا المدخل بعد إهماله وإشرافه على الدثور في سنة 690 هجري (1291م).
ولهذا المدخل عدة أبواب يتخللها دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة، وكان لكل باب اسفسلار ونقيب وأماكن لجلوس الجند وأرباب الدولة، وعلى هذه الأبواب نقوش وكتابات عديدة جميلة تخلب الألباب ومن حولها شرفات ومرام لآلات الحرب وأدوات الكفاح تزيد هذا المدخل العجيب رونقاً وجمالاً.
وإذا تجاوز الداخل باب المدخل صاعداً إلى القلعة وماراً بالأبواب والدركاوات الواسعة المعابر كثيرة الزوايا المستقيمة، ينتهي إلى الباب الأوسط فيرى على طرفيه ثعابين طويلين يلتفان على بعضهما وفي أعلاه كتابة جميلة مآلها أن الملك الظاهر(1/289)
غياث الدين غازي هو الذي حصن القلعة وشاد على مدخلها البرجين السابق ذكرهما وجعل له ثلاثة أبواب من حديد. ولما ينتهي الداخل إلى الباب الأخير يرى على جانبيه أسدين عظيمين ناتئين، وإلى الجانب الأيمن مزار يعزى إلى الخضر وكان ينسب للخليل (إبراهيم) يقصده بعض المسلمين، بالنذور والهدايا.
ومتى بلغ الداخل قمة القلعة يبدو له صحتها مركوماً بالأتربة والحجارة الضخمة ويرى أبرجة متهدمة وحنايا متشعثة وشرفات متداعية، أفنى عليها الدهر فدرست محاسنها وتعطلت زخارفها. وفي أواسط قمتها باب الجامع وعليه أنواع الوشي والنقوش العربية. وعلى جانبها الجنوبي دار العز أو دار الشخوص لكثرة ما كان فيها من التماثيل والزخارف وفي صحنها ركام من القنابر القديمة ومنها يدخل إلى ناد للملك الظاهر طوله الشمالي 25 متراً في عرض 7 أمتار وطوله الجنوبي 25 متراً في عرض 15 متراً، وفي صدره نافذة كبيرة مستطيلة مربعة تطل على المدخل والمدينة وإطارها تطاريفها الخارجية دقيقة الصنعة محكمة النقوش يروق العين منظرها.
وفي أواسط قمة القلعة منحدر مسدود الآن كان ينزل منه إلى أنفاقها السفلية حيث كنيسة النصارى باقٍ بعض رسومها ماثلة من مثل حنية الكاتدرا وأعمدة وحنايا أخرى. وإلى جانبها الغربي مخازن حديثة البناء تحوي أصناف الذخائر والأدوات الحربية وإلى جانبها بئر الماء المعروفة بالساتور كان ينحدر إليها ب 125 درجة وعمقها الآن 47 متراً. وذلك كله لا يناسب المدخل في شيء من حسنه ونقوشه وتصاويره وكتاباته المختلفة.
ومن قمة القلعة تنكشف لك المدينة مركومة بعضها فوق بعض ومن أعلى منارتها ينبسط
نظرك إلى مدى بعيد تجد منه منظراً بديعاً فاتناً يترك في النفس أثراً من السرور والانبساط وترى ما يكتنف حلب من الغياض والرياض الخضراء والسهول الخصيبة الواسعة وما يحيط بها من الربى والتلال إحاطة الهالة بالقمر أو السوار بالمعصم كأنها الحصون والمعاقل تحصنها وترد عنها الغارات العشواء.
* * *(1/290)
ذهب غالب مؤرخي العرب إلى أن أول من بنى القلعة سلوقوس الأول الملقب بنيقاطور أحد قواد الإسكندر الذي ملك على سورية سنة 301 قبل المسيح. وارتأى أهل التحقيق أن بناتها الحثيون الذين استولوا على سورية الشمالية في القرن السابع عشر (ٌ. م) واستندوا إلى ما خلفه هذا الشعب القوي من الكتابات والتماثيل والرسوم العديدة في هذه النواحي، واستدلوا فيما استدلوا عليه بما بين هذه القلعة وبين قلاع حمص وحماه وحارم من التشابه العظيم.
والحق يقال إن سلوقوس أصلح القلعة فقط، لما رمم بحلب بعض الترميمات، وبنى فيها أبنية جديدة وأطلق عليها اسم بيريا أو باروا. ولما فتحها كسرى أنوشروان وشاد سورها بنة في القلعة مواضع.
وعندما فتح ابن عبيدة حلب كانت قلعتها مرممة الأسوار بسبب زلزلة أصابتها قبل الفتح فأخربت أسوار البلد وقلعتها ولم يكن ترميمها محكماً فنقض بعضه وبناه. وعنى بها بنو أمية وبنو العباس فتركوا فيها آثاراً ولما هاجم نيقفور ملك الروم حلب سنة 351 هجري امتنعت القلعة عليه وكان قد اعتصم بها جماعة من العلويين والهاشميين فحمتهم، ولم يكن لها يومئذ سور عامر فكانوا يتقون سهام الروم بالأكف والبرادع.
ولما تولاها الأمراء الحمدانيون بنى فيها سيف الدولة وابنه سعد الدولة مواضع وكذلك شاد بها بنو دمرداش دوراً وجددوا أسوارها وكذلك عني عماد الدين آق سنقر وولده عماد الدين زنكي بتحصينها وكذلك بنى بها طغتكين برجاً من جنوبها وخزناً للذخائر وكذلك شاد فيها نور الدين زنكي أبنية كثيرة.
ولما ملكها الملك العادل سيف الدين الأيوبي بنى بها برجاً وداراً لولده فلك الدين. ولما ملكها الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وبنى فيها مصنعاً للماء ومخازن للغلات وسفح
تلها ورصفه بالحجر الهرقلي وأعلى بابها وجعل له جسراً ممتداً منه إلى البلد، وجعل للقلعة ثلاثة أبواب من حديد وبنى فيها داراً عرفت بدار العز قامت على دار للملك نور الدين زنكي كانت تسمى دار الذهب ولما احترقت سنة 609 هجري جدد بنيانها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.(1/291)
وفي سنة 622 هجري (1225م) تهدم منها عشرة أبراج مع بدنياتها فاهتم الأتابك شهاب الدين طغرلبك بعمارتها من أسفل الخندق إلى قمتها. وفي سنة 628 هجري (1230م) هاجمها التتر وهدموا أسوارها واستلبوا ما كان بها من الذخائر والمجانيق. وفي سنة 659 هجري (1260م) أعادوا الكرة إليها فأخربوها خراباً شنيعاً، وأحرقوا المقامين فيها حتى لم يبق فيها من مكان للسكنى كما قال ابن الخطيب.
واستمرت القلعة خراباً إلى أن جدد عمارتها الملك الأشرف خليل بن قلاوون على ما سبق ذكره وذلك في سنة 690 هجري (1291م) ولما فتح تمرلنك حلب في سنة 803 هجري (1400م) استباح القلعة نهباً وحرقاً فاستمرت أيضاً خراباً إلى أن جاء الأمير سيف الدين جكم نائباً إليها من قبل السلطان فرج بن برقوق في سنة 807 هجري (1404 م) فأمر ببنائها وألزم الناس بالعمل فيها حتى عمل بنفسه واستعملوا جوه الناس، بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على متونهم. وبنى البرجين اللذين على باب القلعة وبنى على سطحهما القصر المائل الآن وذلك سنة 809 هجري وبنى البرجين اللذين في سفح القلعة من جنوبها وشماليها (وقد سبق وصفهما).
ولما تمرد علي باشا جان بولاد على الدولة العلية سار مراد باشا لقتاله وإخضاعه في سنة 1017 هجري (1607م) وتبع آثاره وحاصر المدينة فافتتحها وأقام المنجنيقات على القلعة وراسل رؤساء المحافظين عليها واعداً إياهم بمناصب وخلع، فاغتروا بها وسلموه القلعة، فقتلهم عن آخرهم وفر جان بولاد إلى الأستانة طائعاً وقبل سنة 351 هجري (962م) لم يكن سورها محكماً ولم يكن مقام الملوم بها فاهتم بعد ذلك من تولاها من الملوك والأمراء بعمارتها وتحصينها وعصي فيها فتح القلعة على مولاه مرتضى الدولة لؤلؤ ثم سلمها إلى نواب حلب، فعصي فيها أيضاً عزيز الدول فاتك على الحاكم إلى أن قتل بها فصار الملك الظاهر وولده المستنصر يوليان والياً بالقلعة وآخر بالمدنية خوفاً من أن يجري ما جرى
من عزيز الدولة. فلما ملك بنو دمرداش حلب سكنوا في القلعة وجرى مجراهم من جاء بعدهم من الملوك والأمراء.
ووصفها رهط من أهل الرحل والجغرافية من مثل ابن حوقل الذي اشتهر سنة(1/292)
367 هجري (977م) فقال إنها غير طائلة ولا حسنة العمار وشمس الدين المقدسي نحو سنة 375 هجري (685م) فذكر منها، سعتها ومناعتها وما فيها من خزائن السلطان وابن الطيب السرخسي في رحلته سنة 271 هجري (884م) فذكر سورها وبئرها التي ينزل إليها في 130 مرقاة ودير النصارى فيها وابن بطلان البغدادي في سفرته سنة 440 هجري (1048م) فذكر منها مسجدها وكنيستها إلى غير هؤلاء ممن أجمعوا فيها على ما قاله الرحالة ابن جبير والمسفار ابن بطوطة من امتناعها وارتفاعها ومطاولتها الأيام والأعوام، وقد قال فيها الخالدي شاعر سيف الدولة:
وخرقاء قد قامت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصعب
يجر عليها الجو جيب غمامة ... ويلبسها عقداً بأنجمه الشهب
إذا ما سرى برق بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السحب
فكم من جنود قد أماتت بغصة ... وذي سطوات قد أبانت على عقب
روى بيشوف الجرماني في تاريخه عن أحد حاخامي اليهود قال: إنه رأى في القلعة كتابة عبرية مفادها (أنا يواب بن سرويا أخذت هذه القلعة). . . ويواب هذا تولى قيادة جيوش داود في سنة 1055 ق. م فإذا صحت هذه الرواية كانت هذه الكتابة أكثر قدمية من سائر كتابات القلعة، ورجحت ما قاله المحققون من أنها من بنايات الحثيين. وأما الكتابات الباقية فهي عربية لا تتعدى القرن السبع للهجرة.
وقد كان يتولى حراسة القلعة نفر من الشعب ويعرفون حتى الآن ببيت القلعجي إلى أن انقرضت وجاقات الإنجكارية وانتظمت أحوال العسكرية، فتولت المحافظة عليها إلى أن عاد أمرها في هذه السنة إلى رجال الملكية. وقد تعاقبت عليها الرجوف والزلازل مرات عديدة يطول إيرادها وآخرها في سنة 1822 وسنة 1872، فتشعثت أسوارها وتهدمت أبراجها، وأصبحت أخربة دارسة وأطلالا بالية. وقد أهمل أمرها من عهد بعيد فعادت إلى ما تشاهد عليه الآن مما سبق وصفه في هذه المقالة فسبحان من بيده تصريف الأمور وإليه
المصير.
القس جرجس منش(1/293)
وصف دمشق
جاء ذكر الشيخ النابلسي ص 280 وهذه أبيات مختارة من قصيدته في وصف الشام:
إن سامك الخطب المهول فاقلقا ... فأنزل بأرض الشام وأسكن جلقا
بلد سمت بين البلاد محاسناً ... ونمت بهاء واستزادت رونقا
إن تعشقوا وطناً فذي أولى بكم ... دون البلاد بأن تحب وتعشقا
خير الأناس أناسها يرعون أنواع الوداد ويحفظون الموثقا
طابت هواء للنفوس وماؤها ... عذب زلال سائغ لمن استقى
يا حسن واديها وطيب شميعه ... قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا
وتراسلت أطياره بين الربى ... سحرً فهيجت الفؤاد الشيقا
كيف اتجهت يخر نحوك ماؤه ... وإليك يركع كل غصن أورقا
وتلاعبت فرسانها وتراكضت ... ما بينها تعلو الجياد السبقا
ضحكت أزاهرها على أغصانها ... فأتى النسيم يميلهن وصفقا
سقيت دمشق الشام صوب غمامة ... أشقى على غيطانها فتدفقا
كم نزهة للعين فيها قد زهت ... وسرت على طرف الهموم فأطرقا
لم ترض عيني غيرها من منظر ... ولذا ترى قلبي بها متعلقا
هي منشأي لا حاجر وطويلع ... ومحل أنسي لا الغوير ولا النقا
وطني وأول ما وطئت بها الثرى ... لا زال عيشي عن حماها مطلقا
لذ يا فؤاد بما بها من معشر ... إن سامك الخطب المهول فأقلقا
الشيخ عبد الغني النابلسي(1/294)
الجامع الأموي
هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشرا ألفاً من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتبا لتواريخ فشرع في بنائه وبلغت الغاية في(1/295)
التأنق فيه وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجاراً وفرعت أغصاناً منظومة بالفصوص ببدايع الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف. فجاء يغشي العيون وميضاً وبصيصاً. وكان مبلغ النفقة فيه أحد عشر ألف دينار ومئتي ألف دينار.
ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مئتا ألف خطوة وهما ثلاث مئة ذراع. وذرعه في السعة من القبلة إلى الشمال مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرين مرجعاً. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق إلى الغرب، سعة كل بلاطة منها ثماني عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف. وقد قامت على ثمانية وستين عموداً منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها. واثنتان مرخمة ملصقة بالجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة.
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وهي عظيمة الاستدارة قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن فإذا استقبلتها أبصرت منظراً رائعاً ومرأى هائلاً، يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاد على يمين والنصف الثاني على شمال جناحيه، وسعة هذا الغراب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء(1/296)
منيفة على كل علو كأنها معلقة في الجو. والجامع مائل إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون.
والبلاد المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة
أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها. وفيه مجتمع أهل البلد وهو متفرجهم ومتنزههم كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد. فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرا. ولا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون.
وفي الصحن ثلاث قباب إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة كأنها الروضة حسناً وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال إنها كانت مخزناً لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير وفي وسطه أنبوب من الصفر يرمي الماء علواً فيرتفع وينثني كأنه قضيب من لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافاً واستحساناً، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة.(1/297)
وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، وأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة صنعة، يتقد ذهباً كلها وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجدارة تحفها سوبريات مفتولات فتل الإسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها، وبعضها أحمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها كله عظيم لا يلحق وصف ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر.
وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من
مصاحف عثمان (رض) وهو الذي وجه به إلى الشام. وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.
وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان من صفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر، قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان(1/298)
عنقيهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر. ولا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك في أن القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشر دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وأفاض على الدائرة شعاعاً فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس الميقاتة. . .
ابن جبير، زار دمشق سنة 580 هجري
قال النابغة الذبياني يمدح النعمان
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ولا أحاشي: ولا أستثني -وأحددها عن الفند: صنها عن الظلم -خيس: ذلل -الصفاح: حجارة عراض رقيقة -العمد: السواري من الرخام وهي الأساطين وأحدها أسطوانة(1/299)
ملكة الصحراء
إذا سرت في بادية الشام وقاربت الوصول إلى حاشية منها، تظهر لك عن بعد شاسع من خلال الحجب الهوائية الشفافة نقطة سوداء في الشمال الغربي من حمص وحماه، فتنتعش نفسك وتشعر بقرب آثار الحياة، بعد أن تكون سرت أياماً في ظل الموت محاطاً بسكون الطبيعة الراقدة. ولا تكاد تتقدم قليلاً إلى الأمام حتى تنقشع الحجب شيئاً فتتسع تلك النقطة وتنجلي بعد حين عن دائرة خضراء غير منتظمة، ولا تزال الدائرة آخذة بالوضوح والانتشار ذات اليمين وذات اليسار كلما(1/300)
أسرعت الخطى، إلى أن تشرف عليها وتقف برهة مستنشقاً الصعداء فإذا بك أمام أثر من آثار الجبابرة الذين كان يتغنى بمدحهم شعراء اليونان. ترى جبلاً منتصباً على طرق البادية كسور منيع أقامته يد الطبيعة هناك لصد الغارات عن مملكة زنوبيا يتدفق من جوفه نبع غزير تنساب مياهه الكبريتية في بقعة خضراء منبسطة أمام الجبل بين بساتين غضة حافلة بأشجار الفاكهة على اختلاف أنواعها وحقول واسعة زرعت بأنواع الحبوب ومروج خضراء تتخللها وهي مرعى خصيب تغشاه قطعان الماعز والضان. تقف وتسرح النظر حيناً في تلك البقعة الجميلة، فتتمثل لك الطبيعة ضاحكة باسمة الثغر فتؤنس وحشتك وتنفس كربتك وتنسيك هذه الابتسامة اللطيفة من عروس البادية كلما لقيته قبل وصولك إليها ومصافحتك لها من عبوسة واكفهرار في باديتها القاحلة الجرداء. وفي وسط هذه البقعة الجميلة ركام من الخرابات، تتخللها أبنية فخيمة متهدمة آية في الإبداع وأعمدة ضخمة متناسقة تناطح السحب، ممتدة على مسافة بعيدة كصف من الجبابرة أقامتهم ملكة المشرق حراساً على باب باديتها أو كأنما هي أيدٍ مدتها إليك ملكة الصحراء من وراء حجب التاريخ لتصافح ضيفاً كريماً جاء يحييها في مقر ملكها. فتقف حائراً مبهوتاً وترى مجالي العظمة والجلال بادية على تلك الآثار الضخمة. فتدرك أنها آثار قوة هائلة حلت في تلك البقعة من البادية ردحاً من الدهر، فدانت لها الممالك وانقادت إليها الشعوب.
تلك آثار تدمر موطن زنوبيا، ملكة المشرق وعدوة الرومان، ومنقذة سوريا من رق العبودية،. . . وأهم آثار تدمر واقعة في سفح ربوة ممتدة(1/301)
من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي على مسافة ثلاثة فراسخ، وهي مؤلفة من آثار هيكل عظيم جعله العرب في القرون الوسطى قلعة حصينة، وإلى جوانبها كثير من آثار الهياكل والقصور الفخيمة، بينها أنقاض
من عهدين مختلفين: بعضها سابق لعهد بخت نصر وهي ركام من الأبنية المتهدمة المبعثرة والبعض يرتقي عهده إلى القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح. ومعظمها قائم إلى اليوم وليس فيها كتابة ما سابقة لعهد المسيح أو لاحقة لعهد ديوكليسيانوس. ومن هذه الآثار أعمدة تفوق الحصر لا يقل علو الواحد منها عن 15 متراً ووراءها قصور متهدمة وأبواب وسراديب وأروقة ومماشٍ وأقواس. والأرض مغشاة بأحجار وأعمدة محطمة على أكثرها نقوش بديعة. وفي الجهة الغربية من الهيكل الكبير كثير من المدافن وجد على بعضها كتابات فينيقية ويونانية. وفي السهل الواقع جنوبي النبع مدافن أخرى مقفلة بأحجار ضخمة لم تستخرج كنوزها إلى الآن. وفي سفح الجبل كثير من هذه المدافن أهمها وأفخمها ما كان واقعاً على الضفة اليمنى من النهر في سفح جبل بلقيس أو ملكة سبأ ومن آثار تدمر سور يستنيانوس وهو سور ضخم تتخلله أبراج شامخة، شيد أكثرها الفاتح الروماني لصد إغارات العرب عن المدينة. وعلى قمة الجبل حصن قديم يعرف بقلعة ابن معن وهو من عهد فخر الدين المعني الأمير اللبناني المشهور الذي بسط سلطته على سائر بلاد الشام، وهو مشرف على تدمر وضواحيها فتراها منبسطة أمامك بهياكلها وقصورها وما بقي من أعمدتها وترى هيكل الشمس قائماً في وسطها كقلعة عظيمة. وفي الجهة الغربية منه الآكام القائمة(1/302)
عليها مدافن الملوك والعظماء تنبسط أمامها بادية الشام التي تحدها على بعد شاسع جبال متقطعة تتخللها معابر القوال التي كانت تسير على عهد قريب في تلك الفلوات بين دمشق وبغداد. وبالإجمال ليس بين المدن القديمة مدينة جامعة بين كثرة الآثار القديمة وضخامة الأبنية وفخامتها ودقة نقوشها وأهميتها التاريخية كمدينة تدمر إلا مدينة بعلبك فهما أثران يعدان من أعجب آثار الأقدمين في سائر الأقطار قاطبة.
وكان لتدمر في الأعصر الخالية شأن خطير وقد كان وقوعها على طريق القوافل التي كانت تسير بين دمشق وبغداد من أهم الأسباب التي مهدت لها السبيل إلى بلوغها شأواً بعيداً من الحضارة والعمران فكانت مركزاً تجارياً متوسطاً بين أوروبا وداخلية آسيا تشحن إليها المنسوجات الحريرية من الهند ومحصولات الأرض من البلاد الآسيوية المجاورة لها فترسل منها إلى أوروبا. أما قبل المسيح فلم يكن لها من الشأن ما كان للمدن السورية الأخرى ولم يرد ذكرها في التوراة بين تلك المدن وجل ما ذكر في سفر الملوك وسفر
الأخبار أن سليمان الحكيم بنى تدمر وشيد فيها هيكلاً عظيماً لبعال وسماها تدمر أي مدينة النخل لكثرة ما كان هناك منه.
وفي أيام السلوقيين خلفاء الإسكندر كانت خط الاتصال بين إنطاكية وسلوقية (اللاذقية) عاصمتي مملكتهم وسميت لعهدهم بلميرا مترجمة عن اسمها الأصلي. وفي أيام الرومانيين أزهرت بمتاجرها وصناعاتها وضاهت أعظم المدن السورية ولاسيما في القرن الثالث للمسيح إذ كان يحكمها أودينات الذي أدى خدماً جليلة للرومانيين(1/303)
في حروبهم ضد سابور ملك الفرس. فقهره في عدة مواقع دموية جرت له معه ورده إلى ما وراء الفرات. فمنحه الرومانيون لقب ملك مكافأة له على ولائه وشجاعته واعترفوا له بحقوق الملكية. وكانت زوجته زنوبيا (وتعرف عن العرب بزبيدة) من أرقى بنات جنسها في ذلك العصر وكان لها اليد الطول في رفع منزلته عند الورمان بما أوتيت من الحنكة والدهاء السياسي. ولم يكن يعرض له أمر إلا شاورها به ووقف على رأيها فيه. فتضافرا على رفع شأن المملكة. ومات أودينات سنة 367م. مقتولاً بيد أحد كتبة سره تاركاً الحكم لزوجته زنوبيا. وكانت هذه الملكة تدعي أنها من نسل كيلوباترا ملكة مصر. وقيل أنها بنت أمير عربي. وكانت تتكلم لغة وطنها فينيقيا وتجيد اللغة القبطية واليونانية واللاتينية. فأدخلت المدنية اليونانية والرومانية إلى عاصمة ملكها بإنشائها مدارس كبرى كان يؤمها طلاب العلوم بحيث لم يكد يمر الدور الأول من حكمها حتى كانت تدمر من أرقى مدن العالم.
ولما نودي بها ملكة على تدمر منحها مجلس الشيوخ الروماني لقب أوغسطس وانتحلت لقلب ملكة تدمر وملكة المشرق ولم يكد يستتب لها الأمر حتى طمعت بخلع نير الرومانيين فجيشت الجيوش وأخذت تطاردهم من آسيا وكانت ذات جرأة غريبة وإقدام عجيب، تسير إلى الحرب حتى ملكت سورية بأكملها من أقاصي بلاد الشام حتى بلاد فارس. وقد زحفت على مصر واستحوذت على قسم منها واستولت أيضاً على أقاليم أخرى من الإمبراطورية الرومانية الضخمة وحالفت الفرس، فحسدها القياصرة والملوك، وأشفقوا منها على(1/304)
ممالكهم أن تضمها إلى مملكتها الجديدة وظلوا يراقبون حركاتها بعين الحذر وهم مترددون بين محاربتها وموالاتها إلى أن تبوأ أورليانوس العرش فحصر همه في إخضاعها. وسار بجيوشه إلى المشرق وقاتلها في عدة مواقع، أشهرها موقعتان في سهل إنطاكية وسهول
حمص استظهر فيها عليها، وبلغ إلى تدمر فحاصرها وأشار على ملكتها بالتسليم فأبت فشدد الحصار على المدينة وسلم أهلها سنة 272. أما زنوبيا فركبت هجيناً تريد بلاد فارس فقبض عليها فرسان الرومانيين عند باب المدينة، وأخذها أورليانوس أسيرة إلى رومية وعاملها معاملة ملكة عظيمة الشأن مفاخراً بالنصر الذي أحرزه على أكبر ملكة كانت تهتز لها أعصاب الإمبراطورية الرومانية فأعد لها قصراً فخيماً في مدينة تيفولي بالقرب من رومية فقضت حياتها فيه تحف بها العظمة والجلال.
وقد أجمع المؤرخون على أنها كانت فتانة فائقة الجمال شديدة النزوع إلى الحروب والفتوحات، واشتهرت بحقها وسمو مداركها وشدة بأسا حتى جرت أوصافها مجرى الأمثال في الأعصر الخالية. وفي لبنان آثار عديدة منسوبة إلى زبيدة منها أقنية الماء الممتدة من نهر بيروت إلى المدينة ومن نهر إبراهيم إلى جبيل ومن نهر قديشا إلى كورة طرابلس.
ثم قام ديوكلتيانوس ويستنيانوس فحاولا إعادة تدمر إلى مجدها السالف فأخفق سعيهما: ومذ ضربها أورليانوس تلك الضربة النجلاء قضى على شهرتها وتاريخها قضاءً مبرماً فأخذت من ذلك الحين بالانحطاط إلى أن باتت أثراً بعد عين وغاصت في لجة عميقة من النسيان قروناً طوالاً كانت(1/305)
فيها قرية حقيرة لا شأن لها يعرفها علماء الجغرافية بكونها حداً لبادية الشام في الشمال الغربي من حمص وحماه.
وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن معظم سكان تدمر وضواحيها كان في أيام زنوبيا مؤلفاً من العرب بدليل أن أكثر الأسماء الواردة في الكتابات اليونانية القديمة التي وجدت في تدمر عربية محضة ومثلها الكتابات التي وجدوها في حوران فإنها عربية اللفظ والمعنى وإن تكن مكتوبة بأحرف يونانية. وفي بعض التواريخ أن تدمر ظلت في أمن ن غزوات العرب المسلمين دهراً طويلاً ولكنها قاست الشدائد في حروب الأمويين والعباسيين سنة 745م. وما يليها. وقد زارها العالم الفرنساوي فولني سنة 1758 فوصفها أبدع وصف ومزق ما كان مسدولاً على تاريخها من الحجب الكثيفة وألفت وصفه لها أنظار العلماء والسياح فطفقوا يتقاطرون إليها من كل حدب وصوب لمشاهدة آثارها العجيبة.
فحبذا لو كانت حكومتنا الدستورية الجديدة تتمثل بالحكومات الأوروبية فتصرف بعض عنايتها إلى الآثار القديمة الحافلة بها البلاد السورية فإن في جمع هذه الآثار في متاحف
خصوصية من الفوائد المادية ما لا يقل قيمة في اعتبار الأمم المتمدنة عما في ذلك من عبر التاريخ البالغة والفوائد الأدبية للبلاد التي تشتمل على آثار جليلة كآثار تدمر وبعلبك ودمشق والقدس وغيرها مما يعرض لنا كل يوم أن نورده مثلاً من الأمثلة العديدة على بلوغ التمدن الشرقي أقصى درجات الكمال في زمن كانت أوروبا تتخبط في دياجي الجهل والانحطاط.
- بولس مسعد(1/306)
نهر الصفا
وهو النبع المتدفق من عين زحلتا في جبل لبنان، أرسل إلينا وصفه هذا البديع سعادة الأمير أرسلان.
يا صاحبي قفا على نهر الصفا ... نهر لدينا بات أشهر من قفا
باكرته طرب الفؤاد وقد رمى ... فلق الصباح لثامه فتكشفا
نهر حسبت أديمه بلورة ... وهاجة أو نصل سيف مرهفا
ورشفت ريقة مائه معسولة ... فافتر عن ثغر الحباب تلطفا
نضج النهار عليه ذوب لجينه ... وكساه مخضر العشابة مطرفا
وحباه مؤتلق الحصى بجواهر ... أضحى بهن مختماً ومشنفا
متمايل الأعطاف قد غنت له ... طير السماء مثقلاً ومخففا
ومقلد بالسيد جيداً أعيداً ... ومزنر بالسر خصراً أهيفا
أقبلت أنظر في بديع حدوده ... غزل المياه موشعاً وملففا
عجت غواربه فتحسب أنه أسد يزمجر في الدجى متغطرفا
كم سرحة تلقاه يخبط جذعها ... أهوت إليه من الغصون مثقفا
وتكتلت أزباده فكأنها ... سرب الحمام البيض طار فرفرفا
والدوح ترشقه ببندق حبها ... فيذوب من رشقاتهن تخوفا
نهر جزيل المركمات تقسمت ... نعماه بين الضفتين فأنصفا
يسقي النبات بجانبيه كأنه ... دمع الحزين يبل جفناً أوطفا
لما رأيت سهاده لا ينقضي ... أيقنت أن وساده صلد الصفا
نسيب أرسلان(1/307)
زار المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي قلعة بعلبك فحفر على باب هيكل باخوس بيتين من الشعر هما:
يا بعلبك فريدة الأزمان ... بالصنع والإتقان والبنيان
لم تبقك الأيام في حدثانها ... إلا لتظهر قدرة الرحمان
ثم زارها الشيخ إسكندر العازار فكتب تحتهما بيتين على سبيل المعارضة:
يا معقلاً فيه العقول تحيرت ... يا معبداً لمفرق الأديان
لم تبقك الأيام في حدثانها ... إلا لتظهر قدرة الإنسان
ثم زارها الشيخ يوسف أبو صعب فكتب تحت الأربعة أبيات بيتين:
يا بعلبك عروسة الأزمان ... ونديمة المريخ والميزان
لولا الذي في النفس منه بقية ... لأعدت فيك عبادة الأوثان(1/308)
قلعة بعلبك
إيه آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوة وبعد المزار
ووقيت العفاء من عرصات ... مقويات أواهل بالفخار
ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري. .
خرب حارت البرية فيها ... فتنة السامعين والنظار
معجزات من البناء كبار ... لأناس ملء الزمان كبار
ألبستها الشموس تفويف در ... وعقيق على رداء نضار
وتحلت من الليالي بشاما ... ت كتنقيط عنبر في بهار
وسقاها الندى رشاش دموع ... شربتها ظوامئ الأنوار
زادها الشيب حرمة وجلالاً ... توجتها به يد الإعصار
رب شيب أتم حسناً وأولى ... وأهن العزم صولة الجبار
معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار
مثل القوم كل شيء عجيب ... فيه تمثيل حكمة واقتدار
صنعوا من جماده ثمراً يجنى ولكن بالعقل والأبصار
وضروباً من كل زهرٍ أنيق ... لم تفتها نضارة الأزهار
وشموساً مضيئة وشعاعاً ... باهرات لكنها من حجار
وطيوراً ذواهباً آبيات ... خالدات الغدو والأبكار
في جنان معلقات زواهٍ ... بصنوف النجوم والأنوار(1/309)
وأسوداً يخشى التحفز منها ... ويروع السكوت كالتزآر
عابسات الوجوه غير غضاب ... باديات الأنياب غير ضواري
في عرانينها دخان مثار ... وبألحاظها سيول شرار
تلك آياتهم وما برحت في ... كل آن روائع الزوار
في مقام للحسن يعبد بعد ال ... عقل فيه والعقل بعد البار
* * *
أهل فينيقيا سلام عليكم ... يوم تفنى بقية الأدهار
لكم الأرض خالدين عليها ... بعظيم الأعمال والآثار
خضتم البحر يوم كان عصياً ... لم يسخر لقوة من بخار
وركبتم منه جواداً حروناً ... قلقاً بالممرس المغوار
أن تمادى عدواً بهم كبحوه ... وأقالوه إن كبا من عثار
وإذا ما طغى بهم أوشكوا أن ... يأخذوا لاعبين بالأقمار
غير صعب تخليد ذكر على الأر ... ض لمن لدوه فوق البحار
شيدوها للشمس دار صلاة ... وأتم الرومان حلي الدار
نحتوا الراسيات نحت صخور ... وأبانوا دقائق الأفكار
وأجادوا الدمى فجاز عليهم ... أنها الأمرات في الأقدار
سجدوا للذي هم صنعوه ... سجدات الإجلال والإكبار
بعد هذا أغاية فترجى ... لتمام أم مطمع في افتخار
خليل مطران(1/310)
3 - بين مصر وسورية
حييت يا وطناً تصبو القلوب إلى ... أرجائه وبه الأرواح تغتبط
شمس المعارف في علياه جامعة ... أطرافه وهي فيما بينها وسط
ففي ذرى الأرز حبل من أشعتها ... يلقى وحبل على الأهرام منبسط
إبراهيم اليازجي
القطران الشقيقان
حفرت معاول الفعلة ترعة السويس، فكانت كالمبضع بتر شرياناً بين عضوين في جسم واحد، طالما توارد فيه الدم صعوداً من مصر إلى سورية ونزولاً من سوريا إلى مصر. فإذا كانت سورية قد انفصلت عن مصر بثغرة لا تزيد فجوتها عن 65 متراً، فلا تقولن إن يد ده لسبس(1/311)
غلبت الطبيعة. فالطبيعة لا تغالب، وإذا ما غولبت غلبت. ولكن الإنسان كان قبل مدنيته يخضع الطبيعة ويذللها، فصار بعد ازدهار المدنية يستخدم بعلمه قواها وقوتها، ولكنه يحس من نفسه أنه خاضع لتلك القوات والقوى.
إذا كان مصرائيم وكنعان قد اجتازا برزخ السويس من سورية إلى مصر، فصيرا مناقعها حقولاً، وبحيراتها سهولاً، وأكامها مدناً، وروبيها دساكر وقرى. وإذا كان توتمس وقواده قد عبروا ذلك البرزخ إلى سورية واكتسحوا الأمصار، وثلوا العروش، ونصبوا لهم نصباً على ضفة الفرات، فإن سلاتس زعيم الرعاة قد نهج نهجهم فاجتاز البرزخ إلى مصر ونصب على ضفات النيل هياكل وتماثيل. وإذا كانت عبادة الإله أودنيس والآلاهة الزهرة قد ترامت من قنن لبنان إلى هضاب أصوان، فإن عبادة الإله أوزيريس والآلاهة أيزيس قد استفاضت من شاطئ بحرية المنزلة إلى شاطئ العاصي. وإذا كان الغزاة والفاتحون قد عدوا سورية قلعة مصر، فإن الصناع والتجار الآسيويين قد حسبوا مصر مزرعة سورية، فهبطها يعقوب بأبنائه يمترون، وجاءها الفينيقيون يتجرون.
ظن الرومان أنهم إذا قالوا في الهياكل والمساجد أن ابن مصر من جالية النوبة لا من جالية فينيقيا واليمن، غرسوا في فؤاده حب الأسود الأفريقي لحسبانه أخاً، واقتلعوا من صدره حب الفينيقي والآشوري الأبيض لحسبانه غريباً. ولكن الطبيعة التي لا تخضع إلا لنظامها أبت على المصريين أن ينقادوا إلى الكتب التي قالوا لهم أنها مقدسة. على أن(1/312)
لغة تلك الكتب بنبراتها ومقاطعها فينيقية سورية. بل أبت طبيعة الأرض عليهم أن يكونوا إلا أخوة السوريين لصقاء دارهم، بل أبت التقاليد الواحدة إلا أن يكونوا متحدين فلم ينل الرومان من تعاليمهم منالاً لأن كل ما يخالف ناموس التكوين والوجود فانٍ، وما ينجم عنه - وكان ثمرته - خالد باقٍ.
* * *
انقضت العصور المظلمة، وباعدت الأيام والأقدار بين اللغتين، وفرقت بين الدولتين
والإلهتين، إلى أن جمع بينهما عيسى بتعاليمه. ثم تلاه محمد بفرقانه. فازداد تفاعل القطرين واحتكاكهما، وعاد أحدهما طريق الآخر في البشارة بالدين، والفتح بالقوة. فما انبعث نور من مصر إلا ليكون وهجه في سورية، وما تلألأ ضوء في سورية، إلا ليكون أول سطوعه في مصر. وما استفاض علم في إحداهما إلا لتكون أول بوارقه في الأخرى. وذلك كان شأنهما من يوم كونتا، وذلك سيكون ما دامت الأرض على تكوينها والأفلاك على دورانها.
وإذا كانت قناة السويس قد عدت في هذا العصر ثغرة فاصلة فتحتها يد المدنية، فإن تلك اليد الفاصلة نفسها قد وثقت روابط الصلة، وأحكمت عرى التواصل بأثير الهواء وثبج الماء، فلا تعد القناة الآن فاصلاً. ومن على حافتيها يتخاطب المتقابلان، ومن فوق مائها يتصافح الأخوان ومن ذا الذي يمنع الهواء أن يهب، والماء أن يصب.
علم عبد الملك بن مروان المصريين لغة العرب فصاروا عرباً، وعلم خلفاؤه السوريين هذه اللغة فصاروا بها أخوة المصريين، فاجتمع لهم(1/313)
من روابط الإخاء والوئام والاتحاد اللغة والجوار، إن لم نزد عليهما الدين. وإذا ما تفاهم الناس تحابوا، والكلمة التي تحتقرها إذا حدثت، هي التي تعلم الأمم، لأن بها يبرز الفكر جلياً للسامعين، فمن كلمته بلسانه كنت أخاه بذلك اللسان ونقلت إلى رأسه ثمار عقلك، وإلى صدره خوافي صدرك. وتأخذ منه ما عنده وتعطيه ما عندك. تتأدب بأدبه ويتأدب بأدبك، وتتعلم من علمه وتعلمه من علمك، وفكر لا يبرز بحلة الكلام وجوده كعدمه.
هكذا كان شأن البلدين بعد الفتح الإسلامي وصيرورة لغتهما لغة واحدة. فما نبت فن في أحدهما حتى جنى الآخر ثماره، وما ظهر علم أو عالم حتى كان للاثنين معاً. فإذا قلبت صفحات التاريخ، وتراجم النوابغ، ظهرت لك هذه الحقيقة ناصعة، حتى كأن حبل المدنية واللغة في القطرين سلك كهربائي، إذا ارتج طرفه في بلد ارتج سائر في البلد الآخر، وإذا أضاء مصباحاً في القاهرة، أضاء مثله في دمشق وبغداد. وإذا ما ضربت السياسة للأوطان حدوداً، فإن العلم لا وطن له وإن كان للعالم وطن. وإذا صح أن يقال بين الأمم الأخرى أن حدود الوطن باللغة، فإن هذا لا يصح بين مصر وسورية ولغتهما واحدة.
حكم محمد علي مصر وأنشأ المدارس، ونقل العلم إلى لغة العرب ليعلم مصر، ولكنه علم بلاد العرب كلها ذلك العلم وكان يكفيهم منه أن ينقله إلى لغتهم ليتفهموه. ففي رؤوس جبل
لبنان وفي أطراف سورية تجد في خزانات الكتب كتب الطب للرشيدي، والجغرافيا لكلوت بك، والفلك لمختار باشا، والهندسة لوهبي بك، والزراعة لأحمد ندى إلخ. وفي أطراف تلك(1/314)
البلاد تجد أطباء شيوخاً ومهندين هرمين تلقوا العلوم في مدارس مصر.
وبدت النهضة الأدبية في سورية منذ خمسين عاماً، فانتفعت بها مصر: فصحف البستاني ومجلاته وكتبه وقواميسه ودائرة معارفه، ومؤلفات الشدياق، وكتب اليازجي، وتصانيف فانديك، ومطبوعات اليسوعيين والأمريكان وتآليفهم كانت لسورية ومصر معاً. وهذه مجلات مصر وسورية وصحف كلتيهما كأنها مجلات الأخرى وصحفها. وهؤلاء كتاب مصر وسورية وعلماؤها كل واحد منهم كاتب كلا القطرين وعالمه.
تصعد الجبل في سورية أو تهبط الوادي، فتسمع المغنين يتغنون بقصيدة شوقي، أو منظومة حافظ، وتطوف الأرجاء هنا، فتسمع الأدباء يتحدثون بمؤلفات اليازجي أو الشرتوني أو البستاني، وتطالع المجلات وفصولها فلا تجد فرقاً بين كاتب مصري ومصنف سوري. وإذا تدرجت في البحث والتنقيب ونزلت إلى صميم الشعب وحياض العامة، رأيت التقاليد بالأغاني والأناشيد والرقص والعزف واللهو والحزن والمآكل والملابس والأفراح والمآتم والأثاث والفرش وتدبير المنزل نقل بعضها أو أكثرها أو كل جديد متقن منها من بر الشام إلى بر مصر، أو من بر مصر إلى بر الشام. فهما في اللغة والرقعة الجغرافية بلد واحد وإن لم تكونا في السياسة كذلك.
فإذا كانت الزهور قد أنشئت لزيادة التعارف بين أدباء القطرين وعلماء المصرين، فإنما هي قد رمت إلى غاية جلى وغرض نبيل، قد يكون أقل منافعه سرعان التعارف والترابط بين الأدباء، حتى يزداد الشعبان نفعاً، بها، بفضل لغتهما الواحدة.
داود بركات(1/315)
تحية الشعراء
1 - من شعراء مصر إلى سورية
لمصر أم لربوع الشام تنتسب ... هنا العلى وهناك المجد والحسب
ركنان للشرق لا زالت ربوعهما ... قلب الهلال عليها خافق يجب
أم اللغات غداة الفخر أمهما ... وإن سألت عن الإباء فالعرب
إذا ألمت بوادي النيل نازلة ... باتت له راسيات الشام تضطرب
لو أخلص النيل والأردن ودهما ... تصافحت منهما الأمواه والعشب
بالواديين تمشى الفخر مشيته ... يحف ناحيتيه الجود والدأب
نسيم لبنان كم جادتك عاطرة ... من الرياض وكم حياك منسكب
في الشرق والغرب أنفاس مسعرة ... تهفو إليك وأكباد بها لهب
هذه يدي عن بني مصر تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب
فما الكنانة إلا الشام عاج على ... ربوعها من بنيها سادة نجب
حافظ إبراهيم
يحن لمصر من سكن الشاما ... ونحن نود لو كانت مقاما
منابت لا تجف بها الخزامى ... ولا تشكو أزاهرا الأواما
وأرض تنبت اليوم المعالي ... وكانت تنبت الرسل الكراما
على لبنان زهري الهضاب ... على الأردن خمري الحباب
على القدس المفضل في الكتاب ... على تلك القصور على القباب
سلام متيم لولا الليالي ... تفيده لما بعث السلاما
عبدنا الله لا خوف انتقام ... ولكن قيل عدن في الشآم
فأكثرنا الصلاة مع الصيام ... لتجمعنا الشآم لدى الزحام
ولو لم نعتقد صدق المقال ... لما صلى فتى منا وصاما
عبد الحليم المصري(1/316)
2 - من شعراء سورية إلى مصر
أيه يا مصر أنت منزل قوم ... أخذوا قسطهم من المدنيه
قد هجرنا لأجلك الوطن الأول ... مهوى أهوائنا الأصليه
واتخذنا لنا أخلاء من أهلك ... أهل النهى وصدق النيه
نشأت بيننا الصلات قديماً ... وسنبقى مادامت الذريه
كم نعمنا فيما مضى وشقينا ... فاقتسمنا حظوظنا بالسويه
بين مصر والشام عهد قديم ... هو عهد الإخاء والوطنيه
عقدته السماء والأرض والنا ... س فكان الوثيقة الأدبيه
فلتعش مصر وليعش ساكنوها ... وعليك السلام يا سوريه
نقولا رزق الله
سلام على الوادي الخصيب ونيله ... على نبته غضاً على قومه غرا
بني النيل أنتم ألين الناس جانباً ... وأبسطهم كفاً وأرحبهم صدرا
بني النيل إنا إن أقمنا وإن نسر ... نرد لبني النيل السعادة واليسرا
وهذي أيادينا نصافحكم بها ... فانتم لها أوفى وأنتم بها أحرى
الدكتور إبراهيم شدودي
مصر العزيزة دام العز منتسباً ... لقومك الغر من فرع ومن سلف
أبناؤك اليوم من أبناء شرقهم ... مكان هادي السرى في المهمه القذف
قد مدن الغرب من آثار ملكهم ... وأشرق الشرق من سيارة الصحف
كرام نفس إلى حلم إلى أدب ... وأهل عزم إلى ظرف إلى لطف
أمين البستاني المحامي(1/317)
وأي شيء بمصر لا يتيمنا ... مصر حوت كل ما شاق الورى وسبى
وأعشق الأنس يجلو لي دجى كربي ... وفي الكنانة أنس يكشف الكربا
وأعشق اللغة الفصحى وقد ضربت ... في مصر اللغة الفصحى لها طنبا
دار إذا قال فيها نازح وطني ... أحب منها إلى قلبي فقد كذبا
أهدي السلام (لشوقيها) و (حافظها) ... و (للخليل) ومن يبقى من الأدبا
رشيد مصوبع
الحركة الأدبية
كانت سورية في النصف الأخير من القرن الغابر مهد كتاب مشاهير وأدباء أعلام كان لهم اليد الطولى في نهضة اللغة العربية والآداب الرقية، ولما ضاق عليهم هذا المضمار في ربوع الشام، هاجروا زرافات إلى وادي النيل، فكانت الديار المصرية خير مسرح تجلت عليه عرائس أفكارهم وبرزت إليه نفائس خواطرهم. بل وجدوا في تلك الديار التي حلوها على الرحب والسعة تكملة لسليقتهم. وهكذا إذا كانت الشام قد أنبتتهم فإن مصر انتمهم وأنضجت أفكارهم فأنتجت أينع الأثمار بعد أن كانت حملت ألطف الأزهار. وما عهد اليازجي والنقاش والحداد وأديب إسحق وغيرهم ببعيد. وعليه فيصعب على من شاء أن يكتب تاريخ الآداب العربية الحديث أن يفرق بين القطرين ويميز بين كتاب البلدين. وجل الكتاب أن لم نقل كلهم قد نسقوا نسيم لبنان العليل ورشفوا ماء النيل السلسبيل. فيحق لكلا القطرين أن يدعيهم.
وكانت ريح الاستبداد العاصفة قد شتتت شمل السوريين ونثرتهم في كل أنحاء العالم، فطرحتهم مطارح النوى إلى أقصى بلاد الله، فعرفوا مجاهل أفريقيا ومفاوز(1/318)
أمريكا وبطاح أستراليا. ولما كان السوري ميالاً بطبيعته إلى الكتابة والتحرير حمل معه إلى المهجر طرسه وقلمه فأنشأ الصحف والمجلات وخدم اللغة العربية أينما نزل، والبريد يحمل إلينا في كل أسبوع جرائد شتى ومطبوعات متنوعة من مراكش وكندا والولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل والأرجنتين إلخ.
ولما سكنت عاصفة الاستبداد التي كادت تجتاح كل عقل مفكر وقلم محبر، هب نسيم الحرية اللطيف فرد إلى سورية بعض أبنائها بعد أن كان قد خيل أن لا تلاق بع ذاك الفراق. فرأت بيروت صاحب المهاجر النيويوركي وصاحب المناظر البرازيلي وصاحبي الراوي والمصور الإسكندريين ورأت دمشق صاحب المقتبس وطرابلس المغربي ورحبت حلب بأدبائها وبغداد بشعرائها. . . ولكن الكثيرين قضي عليهم في أرض منفاهم، فخمدت أنفاسهم وتقطعت أوصابهم، فكان لحدهم في أرض غير التي هز عليها مهدهم. . . وإن سورية لتذكرهم اليوم في عينها دمعة محرقة لأنها تشعر بالحاجة إليهم لإنارة العقول وتثقيف الأذهان في طور الانتقال الصعب الذي تمر به الآن، وهي تقول: رحمة وسلام على من مات، وأهلاً وسهلاً بمن عاد. . .! بل هي تلقي نظرة ملؤها الشكر إلى شقيقتها
مصر التي حفظت لها أبناءها وأثمار أحشائها. وتدعو الكتاب المصريين لزيارة ربوعها، فإن التضييق الذي كان يقصيهم عنها قد اندرس وزال، فيلاقون كل حفاوة وإكرام، ويشعرون عندما يطأون الأرض السورية أنهم ليسوا بالأعراب فإن كتاباتهم قد سبقتهم وأعدت لهم السبيل، فصبيان المدارس يروون شعرهم ونثرهم، والكتاب يوردون رأيهم وقولهم. ولنعم النسب نسب الأدب.
ولقد وقفت مجلتا نفسها على القيام بهذه الخدمة منذ نشأتها، وهي دائبة بمعاونة الأدباء، الذين يقلدون جيدها بدور نفثاتهم، على متابعة هذه الخطة التي نالت رضى العموم. ولهذا نحن نقدم إليك أيها القارئ العزيز هذا العدد الكبير، وقد بذلنا المجهود في تزيينه بالرسوم العديدة وتحليته بأنفس ما جادت به قرائح الكتاب ونحن موقنون بأنك سترتاح إلى هذا الموضوع الجليل وتقدره حق قدره(1/319)
لأنك بواسطته ستعرف أشياء كثيرة عن البلدين المتجاورين أو القطرين الشقيقين، والتعارف يؤول إلى التحاب والتواد، وعن ذلك ينجم التضامن في المصالح والتساند في المرافق، ومن أحوج منا الآن إلى التضامن والتساند.
فإلى قادة الأفكار في القطرين نوجه خصوصاً الدعوة إلى العمل على زيارة الترابط في الشؤون المادية والأدبية. ويا حبذا لو تألفت لجان في مصر تزور سورية ولجان في سورية تزور مصر. فتدرس هذه وتلك الأسباب التي توثق عرى التآلف للأخذ والرد شأن الأقطار الأخرى في الغرب، عسى أن تنبعث من احتكاك هاتين المدنيتين القديمتين شرارة توقد مصباح المدنية الحديثة في مصر وسورية فينير الظلام الذي كدنا نضيع في دياجيه، بعد أن كان أجدادنا المصريون القدماء والفينيقيون ينيرون العالم بفنونهم وصنائعهم. فيحق أن نعيد حينذاك الآية من الشرق النور النور الطبيعي والنور الأدبي.
* * *
وفي هذه المناسبة لا يسعنا إلا لسداء صميم شكرنا وشكر قراء الزهور العديدين لكل الأدباء الذين ساعدوا بنوعٍ خاص من تدييج هذه المجموعة، معتذرين للذين اضطرنا ضيق المجال إلى تأجيل كتاباتهم الرائقة، فإن الموضوع كما قدمنا واسع الأطراف لا يمكن استيعابه في كتاب واحد ولنا في سائر أعداد المجلة متسع كافٍ لإيراد ما تأخر هذه المرة.(1/320)
العدد 7 - بتاريخ: 1 - 10 - 1910
غلاء المعيشة
موضوع يستحق البحث والتمحيص، وداء يدعو إلى إعمال الفكرة لاستئصال جراثيمه التي تمكنت من جسم الأمة فباتت تنخره نخراً حتى كادت تقضي عليه.
ولسنا نطرق هذا البحث كالأبحاث التي تطرقها المجلات من حين إلى حين فتضرب على أوتارها على نغم واحد، أو يعمد إلها الكتاب والمنشئون متى جمدت قريحتهم وأغلق عليهم إيجاد موضوع يطلقون ليراعهم فيه العنان، بل نطرق هذا الموضوع لأنه حديث السواد الأعظم من الشعب الشاغل الأكبر للأفكار. ومن لم يقل به علناً أصبح يهدس به سراً. فإن مجموع الشعب لا يشتغل بالأحزاب والمضاربات ولا يهتم للتصريحات السياسية والأنباء البرقية. ولكنه يصرف جل كلامه واهتمامه إلى الغلاء المحدق به من كل جهة: غلاء المأكول، غلاء المشروب، غلاء المسكن، غلاء الملبس. . إلخ.
كل شيء غالٍ: الحياة غالية، الموت غالٍ. .! وليس ذلك من(1/321)
قبيل المبالغة. فإن الجمعيات الخيرية قد صارت تدفع منذ مدة لدفن الموتى الفقراء أضعاف ما كانت تدفع من ذي قبل.
* * *
ماذا يفيد ما تدعوه تمدناً عصرياً إن لم يكن وراءه إلا رفاهية الأغنياء وبذخهم - وهم القليلون - وشقاء الفقراء وبؤسهم - وهم الكثيرون؟ وهل نعد تمدناً أو حضارة أو رقياً تلك الحركة الآئلة إلى هنا الأفراد وعناء المجموع؟
يتبادر إلى الذهن أن رواج المعاملات وكثرة المعامل وسهولة المواصلات التي تقرب بين شواسع الأقطار إلى غير ما جاد به العصر من الاكتشافات والاختراعات المسهلة أبواب الارتزاق لمما كان يجب أن يؤدي إلى محاربة الغلاء وزيادة الرخص وتوفير أسباب الهناء والسعادة في الطبقة الوسطى. فهل نحن حاصلون على ذلك؟ وهل كانت النتيجة كذلك في أطراف المعمور؟ قليلة هي البلدان التي فازت بهذه الأمنية. فإننا نرى على الغالب أن كل هذه الأمور الآنفة الذكر لم تجر إلا رفه ذوي اليسار وتنعم أصحاب الدرهم، بعد أن ساعدتهم على ابتزاز الأموال واحتكار ثروة العباد.
من أحسن محاسن الشرائع السهر على مصالح الأفراد والعمل على الذود عن حقوقهم ومرافقهم. وكل حكومة عاقلة عادلة تدرك واجباتها وتفهم أنها القيمة على الرعية. . . وما ألطف وأسمى ما كان يقول هنري الرابع ملك فرنسا: أود لو تمكن كل شعبي من أن يطبخ
اللحم في كل(1/322)
أسبوع ويذوق شيئاً من رغد العيش. . .
وقد أطلعنا مؤخراً على إحصاء ظهر عن نفقات المعيشة في فرنسا فأخذنا منه أن هذه النفقات ظلت تتصاعد منذ أول القرن التاسع عشر حتى سنة 1883 وأنها أخذت منذ ذاك العهد تتناقص تدريجاً. وما ذلك إلا بفضل الحكومة الساهرة على كل الطبقات من رعاياها فإن معدل نفقات المآكل كان في منتصف القرن الغابر 1052 فرنكاً سنوياً فنزل في سنة 1903 إلى 915 فرنكاً. والفرق عظيم إذا قابلنا بين النفقات في بلادنا منذ خمسين سنة وبينها اليوم ورأينا الصعود الفاحش الذي طرأ عليها حتى أصبحت أضعاف أضعاف ما كانت عليه.
وما رأينا صعوداً في الإحصاء المذكور عن فرنسا إلا على أجار المنازل وهناك أسباب شتى لا تخفى قضت بذلك. على أن الكثيرين يسعون إلى ترخيصها حتى تسهل المعيشة من هذا القبيل أيضاً. فإن شركات متعددة نهضت تشتري الأراضي وتبني فيها المساكن الملائمة لتأجيرها بأثمان غاية في الاعتدال. ويا حبذا لو رأينا عندنا مثل هذه الشركات ونحن في أمس الحاجة إليها.
قلنا إن نفقات المعيشة في فرنسا نقصت في نصف القرن الغابر. وإن الدخل قد زاد زيادة تذكر فإن الماهيات ارتفعت حتى 111 في المئة عما كانت عليه. ومن المعروف أن الشعب الفرنساوي بات الآن من أسعد الشعوب وأغناها. ولا نبحث عن سبب غناه في غير ما تقدم.
* * *(1/323)
وإذا نظرنا إلى باقي البلاد نرى أن نفقات المعيشة قد ازدادت. ومعدل هذه الزيادة 15 في المئة في كل من إنكلترا وألمانيا والنمسا. بيد أن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم باتوا يهتمون ويشكلون اللجان من الاقتصاديين الخبيرين لمداواة هذا الداء ونحن جامدون لا نخطو خطوة في سبيل هذا الإصلاح الضروري تاركين للطبيعة أن تطبب مرضنا هذا. فالطبقة الموسرة لا يهمها زيادة بضع مئات من الجنيهات على نفقتها، والطبقة المتنورة على حد قول المثل عينها بصيرة ويدها قصيرة. . . هذا والشعب المسكين يكاد يرزح تحت أعباء حمله الثقيل.
أما وقد ضرب الغلاء أطنابه في أكثر الأنحاء فلننظرن في الأسباب الداعية إليه والعلاج الواقي منه.
إن هذه الأسباب منها اقتصادية ومنها سياسية ومنها أدبية أما الأسباب الاقتصادية فهي ناجمة عن حماية التجارة التي لا يزال معمولاً بها في أكثر البلدان. ولا ننكر أن هذه الحماية قد تجر نفعاً ولكنها في الغالب تساعد أصحاب المعامل والأراضي الواسعة دون سواهم بضرب الرسوم الفاحشة على الواردات الأجنبية فيصبحون ولا مزاحم لهم يتقاضون الأسعار الباهظة عن سلعهم وأغلالهم والناس مضطرون إلى قبولها. وإذا أضفنا إلى ذلك زيادة الطلب على كل الأصناف نرى أن غلاء المعيشة هو معلول طبيعي لهذه العلة.
أما الأسباب السياسية أو الإدارية فهي زيادة الماهيات وأجرة العملة. وليست هذه الزيادة مبنية على مقاسمة الأرباح بين العامل وصاحب(1/324)
العمل بل ناتجة عن الاعتصابات المتعددة فزاد ثمن الأشياء لزيادة أجور العمال وتنقيص ساعات العمل وقد رأينا مثلاً في السنة الماضية صعود أسعار الفحم مع أن مناجمه غنية متوفرة لأن إضراب الفعلة عن العمل شهوراً طويلة قد قلل المحصول.
وهناك أيضاً أسباب أدبية لها تأثير في الغلاء أكثر مما يظنه البعض. فإنه قد سادت في عصرنا روح المساواة والتماثيل في المعيشة. فابن هذه الأيام يجهد نفسه وكثيراً ما يبذل ماء وجهه ليجاري جاره في الأكل والشرب والملبس والمسكن وكل مظاهر الأبهة والفخفخة ولو كان بين ثروة هذا وذا بون شاسع.
وقد نزلت النساء إلى هذا الميدان فكان لهن النصيب الأوفر، وغني عن البيان ما يتأتى عن هذه المنافسة من غلاء الأسعار وزيادة النفقات.
أما ملافاة هذه الأسباب ومداواة هذا الداء فأمر منوط بالحكومات والأفراد: على الحكومات أن تسعى لإزالة السببين الأولين أعني الاقتصادي والسياسي وذلك برفع حماية التجارة شيئاً فشيئاً واستبدالها بحرية المبادلة المطلقة ثم بضمانة حرية العمل للعمال وسن القوانين لوقايتهم. . . وعلى لأفراد نبذ هذه الأضاليل والأوهام فليست المساواة الحقيقية قائمة على بعض مظاهر خارجية بل هي مبنية على مساواة الحقوق والواجبات. وعليهم أيضاً الرجوع إلى بعض البساطة القديمة ففيها هناء أكبر ورغد أكثر ونعيم أوفر. . .(1/325)
في رياض الشعر
يا ليل الصب متى غده
نشرنا ص 213 معارضة شوقي بك للقصيدة المشهورة يا ليل الصب. . . فكان لها أجمل وقع بين الأدباء. وجاءنا على أثر ذلك معارضات ثلاث حال دون نشرها تخصيص الجزء الماضي بموضوع مصر وسوريا والمعارضة الأولى من سعادة إسماعيل باشا صبري والثاني من عزتلو ولي الدين يكن بك والثالثة من سعادة الأمير نسيب أرسلان.
1
أقريب من دنف غده ... فالليل تمرد أسوده
والتفت تحت عجاجته ... بيض في الحي تؤيده
حرب عندي لمسعرها ... شوق مازلت أردده
هل من راق لصريع هوى ... هل من آسٍ يتعهده
حتى مَ يساوره كمد ... يبلي الأحشاء تجدده
وإلى مَ يصارعه ألمٌ ... إن هم يقوم ويقعده
في القصر غزال تكبره ... غزلان الرمل وتحسده
صفرت كفي منه ومضى ... وقد امتلأت مني يده
كم صغت التبر له شركاً ... وقضيت الليل أنضده
وأشاور (شوقي) بل أدبي ... هل أقصر أم أتصيده
مولاي أعيذك من ضرم ... لا يرحم قلباً موقده
أدرك بحياتك من رمقي ... ما بات هواك يهدده(1/326)
قد بان الحب لذي عينين وهذا الشوق يؤكده
(شوقي) جوّد في الشعر وقل ... آمنت بأنك أوحده
إسماعيل صبري
2
الحسن مكانك معبده ... واللحظ فؤادي مغمده
يا سيدتي هذا حر ... لم يعرف قبلك سيده
الليل وطيفك يعرفه ... إن كان فؤادك يجحده
كم يوحي طرفك لي غزلاً ... وأنا في شعري أنشده
وتساجلني الأطيار هوى ... في الدوح أبيت أردده
للصبح سناؤك أبيضه ... لليل غرامي أسوده
أحببت قلاك فمطلقه ... عندي عذب ومقيده
إن ضل حنانك عن قلبي ... فأنا بولوعي أرشده
قد بات دلالك يخذله ... وجمالك كان يؤيده
زيدي تيهاً ازدد كلفاً ... كلفي إن رثّ أجدده
(شوقي) إن بنت يضاعفه ... (صبري) إن جرت يؤكده
خلان هما شمسا فلك ... طرفي مع طرفك يرصده
فصلي بالله ولو حلماً ... ومضناك جفاه مرقده
وعديه اليوم لو كذباً ... الصب يماطله غده
ولي الدين يكن(1/327)
3
مضناك عصاه تجلده ... هل أنت بعطفك منجده
منهوك الجسم به كمدٌ ... إحناء الأضلع موقده
ترجيع الورق يهيجه ... ووميض البرق يسهده
وله نفس لو ما خفقت ... أحشاه لعز تردده
إن تهجره فعزاءك في ... دنف يتهامس عوده
لا يسري طيفك في غلس ... قد زور نورك فرقده
ما حال فؤادي في شغفي ... يستبكي الصخر توجده
إن يغدو الصدغ يصدعه ... ويروح الخد يخدده
ويكر الطرف فياسره ... فيقوم الفرع يصفده
والصد له جرح جلل ... لولا الآمال تكمده
أفدي مولاي فكل فتى ... يشقيه الحب ويسعده
كم فزت بمرأى طلعته ... فوزاً يتقطع حسده
وسكرت براح شمائله ... سكراً ما فاه معربده
غصن أغرتني رقته ... أترى شكواي تؤوده
والشعر صداح في وله ... يهوى الأغصان مغرده
نسيب أرسلان(1/328)
تقلب سعادته في أسمى مناصب الحكومة المصرية فعرف بالهمة والحزم وأصالة الرأي. وخاض ميدان الأدب فكان من المجلين، وتسابقت الصحف والمجلات إلى نشر مبتكرات أفكاره العالية، فأطلق عليه الأدباء لقب أستاذ الشعراء وهو لا يزال يحلي الزهور منذ ظهورها بنفثات يراعه الشائقة حتى أصبحت له المكانة الكبرى عند قرائها.(1/329)
الحمل والذئب والليث
نظم عزتلو الفاضل إبراهيم بك العرب شيئاً كثيراً من الحكايات على السنة الحيوانات على نسق الشاعر الفرنسوي لافونتين. وقد بعث إلينا ببعض تلك الحكايات ننشر منها اليوم الحكاية الصغيرة الآتية:
حمل أبصر ذئباً بالفلا ... ورأى الشر بدا من مقله
اعترته رجفة من خوفه ... وتمشى حائراً في خبله
فاحتمى بالليث كي يحفظه ... ورأى في الليث أقصى أمله
فأتاه التف من مأمله ... وانقضى ما يرتجي من أجله
رب من ترجو به دفع الأذى ... عنك يأتيك الأذى من قبله
العرب
تمدن المرأة العصرية
في 23 يوليو (تموز) أقيمت حفلة شائقة في حديقة الأزبكية بمصر إكراماً لعيد الدستور العثماني. وقد مثل فريق من الأدباء رواية أبطال الحرية وفي ختام الحفلة تلت حضرة الآنسة الأديبة هدى كيورك تحية العلم بنطق فصيح. فأعجب بها كل الحاضرين وقد أرسلت إلينا المقالة الآتية فدلت على براعتها في فن الإنشاء كما كانت قد دلت على مهارتها في فن الإلقاء. وإننا نثبت مقالتها بمزيد السرور طالبين من فتياتنا ونسائنا أن يطرقن هذه المواضيع الاجتماعية لما يترتب على بت هذه الأفكار من المنافع الجمة.
من زمن ليس ببعيد كنا نسمع الرجل المتعلم يئن ويبعث من صدره التنهدات لحالة الجهل المستولية على المرأة. وقد بقي مدة آسفاً متحسراً(1/330)
لعدم وجود أنثى تعادله في المعارف، وتماثله في الأفكار، لترفع قدر بنات جنسها وتبين تأثيرها أدبياً في الهيئة الاجتماعية، نافية ما نسب إليها من ضعف المدارك وجهل الواجبات. وقد دامت هذه الحالة المحزنة مدة طويلة دون أن يسمع صوت يبشر بطريقة تربية حديثة تبدد ظلام الجهل المتلبد. وتقشع غيومه الكثيفة إلى أيامنا هذه حيث لاح لنا نور العلم من خلال المدارس التي شيدت في كل الأنحاء وصارت المخرجات منها تعد بالألوف والمئات. غير أن الرجل الذي كان يئن بالأمس من جهل المرأة وضعف إدراكها، أصبح اليوم يتحسر على تقدمها ومعارفها. وتمنى لو بقيت على الجهل التام بدلاً من أن تذوق العلم غير الصحيح الناشئ عن التربية العصرية المقتبسة من قشور التمدن الغربي الحديث. فلنبحث الآن عن الحقيقة لنرى ما هي الخطة التي اتخذناها لنرتقي في التمدن ونكتسب ثمار العلم.
يلوح لي بأن أول شيء عرفناه نحن معشر النساء من أنواع التمدن هي آفاته وأولها المودة. فقد تبعناها وبذلنا جهدنا في تتميم شروطها متمثلات بنساء الغرب، وواضعات كل إرادتنا في قبضة أيديهن لتدرننا كيفما شئن وشاءت أذواقهن. فكم من جاهلة منا عدت نفسها سعيدة وترنمت وهماً لعدم تأخرها في شيء عن مماثلة الغربيات ولكن فيما يتعلق بالمودة فقط. وكم من أخت لها ازدرت بنصائح العقلاء والمسنين واستهزأت بشخصهم إذ لم تجد عليهم رداءاً مطابقاً للمودة. فتنكرهم إن كانوا أهلها وتجحدهم إن كانوا محسنين إليها، وكل هذا عملاً بأمر المودة. . . ولو أن(1/331)
هذه الآفة بقيت عند أرباب الثروة واليسار لهان أمرها وقل ضررها، غير أنها تخطت كل الحدود ودخلت حتى بيوت المسكنة والفقر فرأينا الرجل
الذي يصل ليله بنهاره في الكدح والجد ليقوم بأود معاشه، أصبح اليوم مضطراً مجبوراً إلى أن يكرس ما يربحه ثمن رداء تنتظره ابنته هدية باردة، وهي جالسة على منصة حكمها ودلالها. لأنها تبعث المودة هي أيضاً فلا ترتضى بحالة والديها ولا تكتفي بما لديهم من وسائل المعيشة. استنزفوا عرق جبينهم لتربيتها في المدارس الكبرى طمعاً في تعليمها الواجب لتكون فخرهم في حياتهم فكانت النتيجة آيلة إلى خرابهم. فقد خيبت آمالهم ولم تكتسب سوى المودة والتقليد.
نفختها روح الكبرياء وملكها حب التشبه بالكبراء، فظنت نفسها أرفع قدراً من والديها فأتتهم آمرة متحكمة. وإذا لم يتموا رغائبها ويجيبوا مطالبها خشنت أخلاقها، وأوقعت الاضطراب والكدر في المنزل غاضبة على هذا مستهزئة بذاك إلى أن يستملك الحزن قلبا فتضيع الشجاعة وتقطع الرجاء وتقول لليأس مرحباً.
مثل هذه الأعمال جعلتنا سخرية عند العقلاء وحملتهم على الاعتقاد بأننا سبب عنائهم وشقائهم وقاطعات سلك تقدمهم.
أطلقوا علينا هذا الحكم ونحن في القسم الأول من حياتنا.
وأما الحكم الثاني فيكون نتيجة الحكم الأول. فإذا دخلت إحدانا ميدان الحياة وحصلت القليل من الثروة تراها ماثلت صاحبات الألوف والملايين في لبسها وبذخها. فاشتغلت في زينتها ولهوها. وتخلت عن(1/332)
إدارة بيتها. وألقت كل هذه المهمات على عاتق الخدم لتحرص على راحتها وتتفرغ لسرورها. وإذا أرادت أن تولي سياسة منزلها بعض الاهتمام نراها تسيء التصرف لأنها لم تتعلم أصول التدبير والإدارة العائلية بل كانت في شاغل عنها في تدبير زينتها والتفنن في زيها.
وإذا رزقها الباري مولوداً لتحميه بعنايتها وتحرص عليه ساهرة على مستقبله، ترمي به إلى المراضع فيشب على أيدي المربيات دون أن تسمعه كلمة نصح أو تأديب. وربما دفعها حب الذات والملذات إلى تأخيره عن المدرسة إذا كانت ماليتها لا تقوى على إسرافها ونفقات ابنها، فتكون قد ضحت مستقبله على مذبح جهلها وحب ذاتها. وهكذا تنفق مالها وتتلف آدابها وتحط من قدرها وتضيع مستقبل عمرها وهي تجري وراء المودة والتقليد. ومع هذا كله لا تريد أن تفتح أذنها لغير كلمات الثناء والإطراء والويل لمن يقول أمامها إن
النساء سبب الشقاء. . . .
هذه هي حالة أكثرنا في هذا العصر وهذه هي ثمرات علمنا وتمدننا أبمثل هذا الاستعداد وعلى هذا المنوال نتهيأ لتربية الأحداث، وأوضاع الناشئة من لبن المبادئ ما صفي وراق، لنحفظها من أردان الفساد ونبث فيها روح المروءة وعزة النفس والغيرة على الوطن. قلنا إذا لم نطرح هذه الترهات والسفاسف إلى قعر البحار فتسعى إلى الحاجيات قبل الكماليات ونعمل على حفظ كيان الحياة قبل تزيينها، فلا يمكننا أن نقوم بمهمتنا في هذه الحياة بل نعيش تعيسات ونسبب تعاسة غيرنا. وعليه فلا يصح أن نتعلم التطريز ونترك الخياطة، وأن نهتم بالموسيقى ونهمل تدبير(1/333)
المنزل، وأن نعتني بالرقص قبل تربية الأولاد، وأن نبرع في التصوير ولا ندري مشاركة الرجال في تذليل مصاعب الحياة، وأن نقرأ الروايات الخيالية قبل التواريخ.
نحن لم نتشبه بالغربية سوى بمادة واحدة عرضية وذات نتائج مضرة لأن أختنا الغربية إذا تبعت المودة تكون عرفت قبل ذلك كل ما تجب معرفته فلا يخشى عليها والحالة هذه من التهور في دركات الهلاك. فلماذا نحن لا نماثلها في معارفها كما نسعى لمماثلها في أزيائها. لماذا لا نأخذ عنها مثلاً نشاطها وجدها وتعلقها بلغتها وحسن عاداتها، هل رأينا قط فتاة غربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فقد أصبحت عندنا عادة مألوفة بل قاعدة مكتوبة أن نتقن أية لغة كانت أجنبية ولا نعلق أدنى أهمية على لغتنا ولماذا؟ لأن للمودة دخلاً أيضاً في هذا الباب. فقد رأينا فلانة عملت هكذا فتبعناها وتوهمنا أن اللغة الإفرنسية أو الإنكليزية أرق وألطف من العربية. . . فما هذا الجهل وما هذه الأوهام. فلا كانت أيام أدت بنا إلى هذه الحالة ومكنت الغربية من أن تسخر بنا وتستخف بعقلنا، فهي بتمسكها بلغتها وارتقاء معارفها جعلتنا نحتاج إليها ونخشى أن تنتهي باستعبادنا ونحن لم نزل غافلات غير عارفات أنه بإحياء لغتنا نحيا وباعتبارنا أصلنا نعتبر. . . لننظر إلى الرجال نر على أية حالة من الرقي والتقدم هم فكل يوم نسمع بعالم كبير منهم ومصلح مفكر بينهم يسير وتتبعه الألوف سعياً وراء الإصلاح هذا ونحن متقاعدات متكاسلات مع أننا لو أحيينا فينا روح الحمية وأقبلنا بنشاط على طلب المعارف لما قصرنا عن إخواننا(1/334)
الرجال في إعداد ما يقوم عليه الترقي والعمران. فلنشعر إذاً عن ساعد الجد والهمة لنكتسب
علماً واستفادة كلما زادت في عمرنا ساعة فنعد للوطن رجالاً يؤيدون أعمالنا ونبين للعصور الحاضرة والآتية كيف تسير المرأة مع الرجل فتدركه.
هدى إسكندر كبورك
المال والجمال
كل ما يحب ويعبد، يمل فيهمل إلا المال والجمال. .
بالأصفر الوهاج تمهدت سبل العمران وقامت المشاريع العظام، وطالما كان صلة العقد
بين الدارين.
وجاء في حديث الأقدمين إن ربة الفجر تزوجت طيثون لجماله وزفس منحه الخلود.
الواحد رب ثان، والآخر صفة من صفات الرحمن
أقنومان في جوهر واحد وللناس في عبادتهما مذاهب.
بينا الملكة تطل من الأعالي، تبتسم لها الخليقة معجبة بمنظرها الفتان.
صوادح الطير تحييها بالتغريد وبنو الإنسان بالتمجيد
تبزغ الشمس فاللجين يذوب على فروع المشرق، وقبيل الغروب تغزل الشمس خيوطاً
من عسجد.
فكأنها تغازل الطبيعة بغمزات ساحرات، مودعة فيها روح الحياة.
من ثم يسفر القمر مستنيراً بنور ملكة النور، وقد جمع بين بعض صفات الأقنومين، فكان
زينة العالمين في سكينة الليل الهادي.(1/335)
وهناك من قطب إلى قطب، ومحيطٍ إلى محيط، تسير النجوم وتدور مشعشعةً بأنوارها
الذهبية، حيث الأفق يبدو:
بساط زمردٍ نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم
وما أبدع المذنبات حين تفيض بسيال من نضار:
تشرق الشمس وتغيب ومثلها القمر والنجوم وكل يمثل الجوهر الفرد بأشرف التشابيه،
فحبذا المنوال؟
وما أدرك ما الجوهر الفرد؟ هو ربة الجمال؛ إلاهة الغنى والثروة!
* * *
وماذا نرى: أمجد ابن الإنسان؟ علام تطاولت الأعناق وحدقت الأحداق؟ ما هذا الموكب
السامي الأنور؟
هذا موكب حملة العرش! وما عرش بلقيس. . .
وهو السدة العظمى، مرصعة بالدر والجوهر. فسناؤها يأخذ بالأبصار!
وها قد نصبوا العرش! ولمن نصبوه؟
لملكة النور، ملكة اللجين والعسجد
ومن هي تلك
هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة!
* * *
أي سكان المدينة! الأبواق الأبواق!
فاسمعي يا سماء، وأنصتي أيتها البرية الصامتة. . .
الملكة هابطة على عرشها المجيد. كأنها وحي منزل من روح الله الجميلة(1/336)
فينوس تتجلى في سحابتها الذهبية، محفوفة بإلاهة الهواء، فهي فتنة الآلهة.
أبولون ومينيرفا في ركابها، جوبيتير يرنو إليها شغفاً، من أعلى قمم جبال إيدا
فاتنة الفلاسفة وسالبة عقول الحكماء تنجلي بمظاهر جبروتها
مخرسة البلغاء، ومنطقة الخرساء تتسنم أريكة ملوكتها
فلا سلطان فوق سلطانها، وإمام عرشها تخضع القوات
كنوز ابن داود تحت سلطتها، ومفاتيح الجنان في يدها
فالملوك في أعتابها، والعظماء على أبوابها يسترحمون ويستعطفون
تفعل ما تريد، فتعز وتذل ولأجلها قام تنازع البقاء
تصلي نيران الحروب، فتسير القلاع في البحار، والجبال في القفار، والقصور في الهواء
تغزو فتقهر، وتبرم الصلح كيف تشاء
نشاهد بها فتاة الدهر فلا تشيب، مالكة نواصي الزمان وقائدة أعنة العصور من جيل إلى
جيل
ومن هي تلك؟
هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة!
* * *
هي الألف والياء، سلطانة الآيات والمعجزات، كانت وحدها العامل الأكبر على إظهار
مواهب البشر(1/337)
فأقيموا لها الأعياد، وأشعلوا الشموع حول كنوزها، وأوقدوا المباخر
قدموا القرابين على مذابح أقدامها، وارفعوا الأصوات بالصلوات
فالحياة منها ولها، وبها نسعد ونشقى
سبحوها بصنوج الهتاف وآلات الطرب، قدسوا اسمها وخبروا بكل عجائبها
فالأرض والسماء بذكرها تحدثان!
ومن هي تلك؟
هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة وغاية متمنيات بني الإنسان
فالسلام لك يا لذة الأنام ومحبوبة الأرباب
السلام لك يا حياة النفوس ومعبودة القلوب
السلام لك والمجد أيتها الملكة الجميلة والغنية. . .
(إنطاكية) سمعان بطرس اللادقاني
الخريف
ظهرت سحابة في كبد القبة الزرقاء، وابتل جناح الهواء، واغرورقت مقلة السماء، فوقعت على الأرض بعض نقط ماء. . . تركت السنونو الديار مهاجرة إلى أقطار شاسعة، وهب نسيم بارد فألوى سنابل الحقل وأحنى غصون الأشجار الباسقة. عري وجه الأرض من دبيبها وصارت الدنيا كهلة وقد ولت أيام شبابها فقلنا: ها الخريف قد أقبل والصيف قد أدبر. . .(1/338)
عبس وجه الطبيعة، واكفهرت طلعة السماء فاستحالت زرقتها سواداً، واتشحت بثوب الغيوم الكالح حداداً، وجادت المزن حزناً بدمعها الصافي، فبرد بعض ما فيها من الحر والحرقة، فسالت في مآقي الأرض حمراء أسفاً ووجداً على هجر شبابها.
اصفر العشب الأخضر من لوعة هذا الفراق، وبكت الشجر فتساقطت منها الأوراق، وأصبحت تلطم جذعها بغصونها الجرداء، وحيث كنت تسمع تغريد الطيور الشجي الرخيم، لا تسمع الآن إلا حفيفاً رائعاً أشبه بزفرات المهجور الحزين. إذ أن ريح الشمال قد هبت وكان لهبوبها في الغاب صدى نوح وعويل، وأخذت تتلاعب بالأوراق الذابلة المتناثرة كتلاعب الرزايا بالأنام.
وكأن الطيور قد أنفت هذا المشهد، فأخذت تشق الفضاء ولسان حالها يقول: نحن رسل الزهو والزهر، ووفود الصفاء والبشر. . . لا تألف إلا الرياض الخضرة والحدائق النضرة، وإلا تحول تغريدنا إلى نوحٍ ورثاء، وأصبح أشبه بنعيق البوم والغربان. فنعود متى عاد الربيع. . .
أما تأثير هذا الفصل في النفوس فشديد. وليس بأقل من تأثيره في الطبيعة. فيشعر الإنسان بانقباض يستولي على فؤاده، ويسمع في داخل صدره صوتاً ينذره بقرب فصل الشتاء فصل الشيخوخة، فيتساءل حزيناً: وهل أرى فصل الربيع ثانية؟ هل أرى الأشجار تخضر والأطيار تعود. . . فيستسلم لهذه الأفكار التي تغذي النفوس بغذاء الحقيقة، وتروي القلوب التي حرقها الظمأ إلى المجهول. ويا نعم ما قال الشاعر:(1/339)
إن فصل الخريف وافى إلينا ... يتهادى في حلية كالعروس
غيره كان للعيون ربيعاً ... وهو ما بيننا ربيع النفوس
ومن أمعن النظر في حياة الإنسان يراها كفصول السنة:
فصل ربيع مزهر مثمر، يطيب فيه الهواء ويروق أديم السماء. تشرق شمس الهناء، والإقبال فتبدد غياهب الكروب، ويسطع على الأفق بدر السعادة والآمال، فيضيء ظلمة القلوب، فتتفتح أزهار الصفاء، وتنضج أثمار الرجاء. . .
وفصل شتاء محزن تتلبد غيوم الشدائد في سماء مظلمة ناقمة؛ فتمطر ثلجاً تجمد له حركة القلوب الخافقة، وتسيل دموع الأعين الحارة. تعصف رياح الجزع فتتلاعب بأوراق الآمال الذابلة، وتقصف رعود المصائب فترمي القلب البشري بصاعقة اليأس القاتلة.
تلك هي حياة الإنسان: عسر ويسر، راحة وشقاء، شدة ورخاء، ورد وشوك، طلوع ونزول، شروق وأفول، حلاوة العسل ومرارة الحنظل، ابتسامة ثغر ونقطة دمع، ابتهاج الربيع وكآبة الخريف.
الكلمات الأجنبية والعامية في اللغة العربية
نشرنا في الجزء الرابع من الزهور ص 137 وفي العدد الخامس ص 215 الكلمات العربية التي باشر نادي دار العلوم وضعها لبعض اللكمات الأجنبية أو العامية وأبدينا ما عنّ لنا من الملاحظات بشأن هذه الأوضاع. واقترحنا(1/340)
حينذاك على أعضاء النادي أن يفسحوا المجال لسائر أدباء الأقطار العربية حتى يتسنى لهم مشاركتهم في الرأي تعميماً للفائدة. وجعلنا مجلة الزهور المنتشرة في البلاد العربية واسطة لمبادلة الآراء في هذا الموضوع. فتناقلت الصحف والمجلات بحثنا هذا وذيلته بما عرض لها من الملاحظات. وقد جاءنا من أحد مراسلينا في بغداد كلام بهذا الشأن نعرضه على أعضاء نادي دار العلوم. وقد عرف القراء هذا الكاتب من مقالته الشائقة النهضة الأدبية في العراق ص 185 التي كان لها وقع عظيم في بلاد العرب. قال:
تلقى العلماء في بغداد أحسن التلقي ما أخذه نادي دار العلوم على نفسه من تتبع الألفاظ الأعجمية والعامية لوضع مقابل أو مرادف لها في العربية وأول شيء يعن لنا في هذا الصدد أنه يحسن بأعضاء النادي أن يشركوا سائر أهل الديار العربية في هذا العمل الخطير ليكون الجميع يداً واحدة في استحسان الموضوعات الحديثة أو دفعها وإلا وقع النزاع وانتفى الانتفاع.
لابد من أن تفسر الكلمة الإفرنجية أو العامية قبل أن يوضع لها مرادف في العربية. بل ويحسن أن يكتب مرادفها بالإفرنجية، وإذا كانت إفرنجية أن تكتب بأحرف تلك اللغة ليهتدى بها. وإلا فقد تكون اللفظة شائعة في ديار مصر ومجهولة في ما سواها. كما هو الأمر في الحروف الآتية: استمارة، وبولك نوت، وجول، وترسينة وغيرها فإننا لم نفهم المطلوب منها.
وأما (انفيتيانرو) فإن وجوده وجوداً طبيعياً في البلاد الصخرية أو الجبلية من بلاد اليمن والحجاز وديار مضر وربيعة وبكر مما حدا العرب إلى وضع حرف يؤدي معناه. وقد سموه جَديرَة واللفظة إلى اليوم معروفة(1/341)
في بلاد اليمن وديار مضرو الجزائر هذا فضلاً عن أن اللفظة فصيحة في هذا المعنى فقد جاء في الصحاح ويقال للحظية من صَخْرٍ. جديرة ولا يمكنهم أن يعرفوها يومئذ أحسن من هذا التعريف. ومن مادة ج د ر اشتقوا الجدير وهو مكان قد بني حواليه جدار (الصحاح) والجدار هو الحائط. وكل درج من درج هذا الميدان
المدرَّج عبارة عن جدار لما قبله.
(بوية) المشهور في معنى البوية ما يقابله بالفرنسية وهو بالعربية الأدلم وقد استعملوا أيضاً في هذا المعنى الفارسية الأرَنْدَج وأما إذا أرادوا به ما تدهن به الحيطان وغيرها من آنية وأوعية فهو في الأول والثاني: الدهان ويقابله بالفرنسية ,
(خارطة) لم ترد الخريطة بمعنى الخارطة لهذا المخطط الأرضي. إلا أن يكون ذلك من باب المعرب الحديث. وإنما قالوا فيها تخطيط الأرض أو رسم الأرض أو مصور الأرض. ومن ذلك عناوين بعض الكتب في الجغرافية مع رسومها. إلا أن الخريطة قد وردت بمعنى أو في كلام المولّدين.
(طابور) ليست هذه الكلمة محرفة عن العربية تابور وإنما هذه هي نفس التركية طابور فحرّفها المحدثون بصورة تابور، والتركية من أصل بولوني فالكلمة إذاً لم تدخل في لسان آل عثمان إلا بعد سنة 1561 وأما في كتبا لعرب فلم ترد تابور إلا بعد شيوع اللفظة التركية بين العثمانيين والذي استزل أهل النادي للقول بعربية اللفظة وجودها في تاج العروس بل تنبيه على عجمتها. بيد أن صاحب التاج كثيراً ما يغفل عن(1/342)
أصل اللفظة. وإلا فسائر أمهات اللغة ودواوينها القديمة لا تذكرها.
(دوسيه) المستعمل في العراق في هذا المعنى الإضبارة وقد جاءت بهذا المعنى في كتب العرب وأما ملف فلا تؤدي هذا المؤدى إلا ببعض تكلف.
هذا ما بدا لنا وهو فوق كل علم عليم.
(بغداد) ساتسنا
حالة آداب العرب
في عصر الجاهلية وعلى عهد الخلفاء
اقترحنا على الأدباء في الجزء الأول من الزهور كتابة نبذة عن الوسائل الواجب اتخاذها لترقية اللغة العربية بعد إيراد لمحة وجيزة فيما كانت عليه أيام الجاهلية وعلى عهد الخلفاء. فاستحن الموضوع كثيرون، ولكن الذين حاولوا الكتابة فيه كانوا قليلين، لأنه يقتضي بحثاً وتدقيقاً عظيمين. وكان المجلي في هذا الميدان حضرة الباحث المدقق عيسى أفندي إسكندر المعلوف، فأفاد فيما كتب، وأجاد فيما اقترح، وها إننا ننشر اليوم مقدمته عما كانت عليه آداب العرب في عصر الجاهلية وعلى عهد الخلفاء مرجئين القسم الثاني، وهو ما يجب اتخاذه من الوسائل لترقية تلك الآداب إلى العدد الآتي:
العرب من القبائل السامية التي انتشرت في شبه الجزيرة المنتسبة إليهم، وقد بقوا سحابة عصور طويلة بلا كتابة فحفظت آثارهم بأشعارهم ورواتهم، وعرفوا بفرعين عظيمين البائد والباقي: فالقبائل البائدة طمست آثارها كعاد وثمود وطسم وجديس ممن أقاموا في عمان والبحرين واليمامة(1/343)
واشتهر منهم لقمان الحكيم صاحب الأمثال التي يقال أن أصلها من الشعر المقفى ولغتها حميرية. والقبائل الباقية هي بنو قحطان وبنو عدنان ويعرفون بالعرب العاربة وكانت كتابتهم الحميرية أو القلم المسند القديم انتشرت في اليمن فكانت لغة القبائل البادية وعرفت بلغة قحطان وقد وجدت آثارها في جبل الصفا في حوران وفي مأرب (اليمن) وحروفها منفصلة ولما اعتمد الإسلام على لغة قريش العدنانية تغلبت على اللغات الأخرى وأماتتها. واللغات السبع المشهورة بالفصاحة في العرب العرباء هي: لغة قريش وهذيل وهوزان واليمن وطي وثقيف وبني تميم. ومن القلم المحيري اشتق الكوفي ثم النسخي وفروعه إلى عهدنا.
وكانت نهضة العرب قبل الإسلام بنحو قرن أي في أثناء القرن السادس للميلاد ولقد رقاهم احتكاكهم بالحبشة والفرس والروم من مناوئيهم.
وكان الشعر في أول أمره عندهم مقاطيع وأرجازاً فقصده المهلهل، وأول من أطال الرجز وقصده الأغلب العجلي بزمن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ثم العجاج. وسئل أبو عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال نعم ليسمع عنها. قيل وهل كانت توجز؟ فقال نعم ليحفظ عنها. .
ومن أقدم أشعارهم احتضار جدهم يعرب بن قحطان، ومنظومات الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي وشداد بن عاد، وعاد بن عوض وثمود بن عابر وزرقاء اليمامة وربيعة بن نزار والزباء وعامر بن حليس والمرقش الأصغر إلى أن نبغ أصحاب المعلقات والمجمهرات والمنتقيات والمذهبات والمرائي والمشوبات والملحمات فكانت المعلقات من الطبقة الأولى وما يليها من الثانية إلخ.(1/344)
وكان شعرهم في الجاهلية طبيعياً، وصفوا فيه الظواهر الجوية، ومحاسن الأخلاق والعادات، ومنهم من أحب الروية ومنهم من فضل البداهة، وكان مذهبهم الشعري صحيحاً يتجنبون فيه السرقة والكذب. وقال الأصبهاني في الأغاني: إن موضع شعراء الجاهلية واحد من البلاغة إلا أنه غلب على ذي القروح (امرئ القيس) التجمل بالمعاني وبديع الوصف، وعلى النابغة الاسترسال في البراعة، وعلى زهير العناية بتقويم الألفاظ. وانفرد من هم دون طبقتهم بأشياء مثل أبي دؤاد بوصف الخيل، وعلقمة بوصف الوحش، وأوس بن حجر بوصف الخمر، إلى غير ذلك مما اكترث من أمثلته في كتابي (الطرف الأدبية في تاريخ اللغة العربية).
ومن خطبائهم المشهورين عبد شمس الملقب بسبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقس بن ساعدة الأيادي أسقف نجران، وسحبان وائل الباهلي، وكعب بن لؤي بن غالب، وعامر بن الظرب العدواني، وأكثم بن صيفي وعبد المطلب بن هاشم جد النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وغيرهم.
وعقدوا لهم أسواقاً لتناشد الأشعار وإلقاء الخطب والمباحثة والمماجدة أهمها سوق عكاظ. ولم يعرفوا من العلوم إلا نتفاً من النجامة ومن التاريخ ولاسيما الأنساب، ونبغ بينهم تراجمة عرفوا اللغات الأعجمية مثل زيد بن حماد المنتهي نسبه إلى زيد مناة الذي تقرب من الأكاسرة واقطعوه قطائع وولده عدي بن زيد وغيرهما.
ثم صارت الخلافة الإسلامية إلى الخلفاء الراشدين منهم فنبغ رأسهم النبي بالخطابة والقول الفصل وهكذا أخلافه وصحابته وعرفت الكتابة في(1/345)
هذا العهد، وتحضرت العرب وكان الشعر على منوال الجاهلي ولكنه أدخلت فيه صناعة المديح والألفاظ الدينية فنبغ فيه الشعراء المخضرمون كعبد الله بن رواحة ومالك بن نويرة والعباس بن مرداس وكعب بن زهير وحسان بن ثابت الأنصاري والخنساء، ثم الشعراء المسلمون مثل عمرو بن معدي
كرب الزبيدي والنمر بن تولب التغلبي وأبي ذؤيب الهذليو النابعة الجعدي وغيرهم. وكان للخفاء أشعار وتواقيع وخطب ورسائل بليغة، ووضع أبو الأسود الدؤلي علم النحو بإشارة الإمام علي بن أبي طالب إلى غير ذلك.
ثم جاءت الخلافة الأموية فوضعت النقط والحركات. وكان الشعر عليه مسحة من صبغة الجاهلية ولكنه مال إلى الحضارة والتبسط بالمدح والإطراء فنبغ فيه القطامي النصراني وعبيد الراعي وذو الرمة والكميت بن زيد وابن خماعة وليلى الأخيلية وأشهرهم ثلاثة الفرزدق وجرير والأخطل النصراني. واشتهر من خطبائهم إياس بن معاوية وزياد ابن بيه وابن القرية الهلالي وخالد بن صفوان التميمي ونحوهم.
أما الكتابة فقد حولت في هذا العصر إلى العربية في الدواوين، بعد أن كانت بالأعجمية في الشام ومصر والعراق. وكبير كتاب هذا العصر عبد الحميد كاتب مروان الجعدي وإليه ينسب وضع آداب هذا الفن.
واشتهر عندهم علم الأنساب، ومن أكبر رواتهم حماد الطائي. وعرف الغناء عن الفرس. والفقه والطب وبنيت المستشفيات وعربت المصنفات الأعجمية من طبية وكيماوية إلى غير ذلك.(1/346)
أما العصر الذهبي للعربية فهو عصر العباسيين من سنة 750 م - 1258 م وقد قسمته في كتابي (الطرف الأدبية) إلى نهضتين نهضة المشرق ونهضة المغرب. فأزهرت في المشرق بغداد والبصرة وبخارى ودمشق والقاهرة والإسكندرية بالعلوم والآداب واشتهر خلفاؤه بمعاضدة العلم ولاسيما هارون الرشيد وولده المأمون، حتى قال بعض المستشرقين: إن هارون كان يستصحب في سفراته مائة عالم. ولقب أوغسطين اللغة العربية حتى لقد أهدى القيصر نيقيفور إلى الرشيد كتباً كثيرة عربية. ولما كتب المأمون المعاهدة بينه وبين ميخائيل الثالث إمبراطور القسطنطينية على إثر الحرب المشهورة بينهما كان من جملة شروطها أن يرسل إليه الكتب النادرة الثمينة فأرسلها وعربت. وكان في بغداد ديوان الترجمة للتعريب وبيت الحكمة للمطالعة. وكان العلماء يتسابقون إلى خدمة الخلفاء ويرحلون في طلب العلم وقراءة الكتب على مؤلفيها أو طلبتهم ويأخذون إجازات بما اقتنوه منها. وأزهرت في المغرب قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية وصقلية وفاس ومراكش
والقيروان ولاسيما بمعاضدة الخلفاء أخصهم عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر. وكانوا ينافسون المشرق بترقية المعارف حتى أن الحكم الثاني الأندلسي اشتهر باستنساخ الكتب، فأرسل ألف دينار إلى أبي الفرج الأصبهاني ثمن أول نسخة من الأغاني، ليظهره في الأندلس قبل ظهوره في المشرق فقرئ فيها قبله. وقد حمله مؤلفه إلى سيف الدولة بن حمدان قلم يعطه أكثر من ألف دينار فاستنزرها الصاحب بن عباد لأنه كان يكبر الكتاب.(1/347)
وهكذا تبارت الدولتان الشرقية والغربية بتعريب الكتب العلمية وتعزيز المكاتب وتشييد المدارس وتقريب العلماء والمترجمين والشعراء وكان معظم الأطباء المعربين في المشرق من النساطرة المسيحيين وفي الأندلس من الإسرائيليين. وكانت المدرسة المستنصرية في بغداد وكلية قرطبة والقيروان مباءة للعلماء.
فوضع في المشرق فن العروض والقوافي، وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي. واشتهر سيبويه بالنحو والأصمعي بالرواية وإسحق الموصلي وولده إبراهيم بالغناء وأبو نواس وأبو العتاهية والمعري وديك الجن بالشعر. وأشهر شعراء هذا العصر ثلاثة المتنبي وأبو تمام والبحتري كما فصل ذلك ابن الأثير في مثله السائر.
ووضع في المغرب فن الموشحات المنسوب إلى مقدم بن معافر الغريري وأخذ عنه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وغيره فاشتهر من شعراء المغرب ابن خفاجة وابن هانئ وابن حمديس وابن سهل وابن همار وابن هبون وابن صارة وابن رضوان وحفصة بنت حمدون والرميكية وابنتها بثينة وابن باجة وابن بقي وابن زهر وغيرهم.
وعلى الجملة فقد كان الأندلسيون نحو ثمانية قرون أساتذة للأوروبيين، ونبغ من أدباء ملوكهم المعتضد بالله العبادي وولده المعتمد وغيرهما ولهم شعر رائق.
ومن مشاهير كتاب المغرب ابن عبد البر وابن الأبار وابن رشيق وابن زيدون وابن زمرك وابن أبي رندقة الطرطوشي وعائشة بنت أحمد(1/348)
وأسماء العامرية والشلبية وغيرهم.
ومن فلاسفة الشرقيين ابن سينا، والفارابي والرازي ومن الغربيين ابن رشد وابن الطفيل وغيرهما من كبار الأطباء ممن لا محل لاستيفاء تراجمهم الآن.
ولقد نالت العربية في عصر الدولتين الشرقية والغربية مجدها وامتدت آدابها مع غزوات أهلها في القارات الثلاث آسيا وأفريقية وأوروبا، ومعظم أوروبا التي بسط العرب عليها
جناح سطوتهم إسبانيا وصقلية وإيطاليا الجنوبية.
واقتبس الأوروبيون عن العرب العلوم مثل الباب سيلبسترس الثاني (جيربرت) وفريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا وألبرت الكبير وغيرهم.
ولقد سمي هذا العصر بالعباسي تغليباً مع أن دولاً كثيرة نشأت في أثنائه مثل دولة بني حمدان في حلب، وبني بويه في فارس، وبني ساسان في ما وراء النهر، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس. وقامت في تلك الأثناء الدولة السلجوقية فشيدت المدرسة النظامية في بغداد، وأقامت المستشفيات والمراصد. وشيد الفاطميون بمصر دار الحكمة للعلوم ومكتبة كبيرة. ثم جاءت الدولة الأيوبية على عقب الفاطمية فشيدت المدارس في بغداد وحلب والمستشفيات في مصر والمراصد في دمشق وغيرها وكانت رغبات الشعب في العلم ومساعدات الحكومة هي الباعث الأكبر على النجاح.
ثم غلبت الأمة العربية على الملك في القرون المتأخرة فكثرت غزوات الصليبيين والترك والتتر حتى تأخرت لغتهم بمزاحمة لغة الفاتحين لها وذلك من سنة 1258م إلى أوائل القرن التاسع عشر. ومع ذلك فقد نبغ في هذا(1/349)
العصر المتأخر شعراء من أشهرهم ابن العفيف التلمساني وصفي الدين الحلي وابن الوردي وابن نباتة وابن النحاس وان معتوق والنابلسي والشيخ أحمد البربير ومن المسيحيين المطران سليمان الغزي والمطران جرمانوس فرحات والخوري نقولا الصائغ وغيرهم.
ومن الكتاب ابن خلدون المغربي وابن جزي الغرناطي. ومن المؤلفين كثير لا محل لاستيفاءهم وحسبنا أن نشير إليهم ففي العلوم اللسانية ابن مالك الأندلسي صاحب الألفية وابن عقيل والاشموني شارحاها والصبان محشيها. وفي العلوم البيانية واللغوية جلال الدين السيوطي الذي ألف في جميع الفنون العربية، والخفاجي صاحب طراز المجالس وشفاء الغليل وشرح درة الغواص. وابن منظور صاحب لسان العرب والفيروز بادي صاحب القاموس والزبيدي صاحب تاج العروس.
وفي التاريخ والجغرافية والرحلة أبو الفداء وابن جبير وابن بطوطة والحسن القرطبي المعروف بالأسد الأفريقي. وياقوت صاحب معجم البلدان والمقريزي والمسعودي ومن النصارى ابن العبري وابن الفضل الإنطاكي والسمعاني والدويهي والبطريرك مكاريوس
الحلبي المعروف بابن الزعيم وولده الأرشد ياكون بولس وغيرهم. وفي الرياضيات ابن الهائم وأبو بكر الجمال المصري وغيرهم. ومما امتاز به هذا العصر اختراع المطبعة فكان للعربية نصيب منها في أوروبا فطبعت بحروفها كتب كثيرة في إيطاليا وفرنسا وإنكلترا والأستانة وحلب ولبنان ومالطة إلخ.
ولما تنفس القرن التاسع عشر انتشرت بيننا الطباعة فاعتزت بها(1/350)
آداب العربية ونبغ كثير من المؤلفين والعلماء والمعربين فنشروا لنا من المؤلفات ما هو جدير بالمطالعة وإن كانت لا تزال قاصرة عن حاجاتنا فإن فيها دليلاً على نهضتنا وكفى بجرائد المهجر في أمريكا الشمالية والجنوبية ومطابعه ومؤلفاته شاهداً عدلاً على أن العربية جددت شبابها واستعادت نهضتها. فماذا يجب اتخاذه لترقية آداب هذه اللغة؟ (هذا ما نراه في الجزء الثاني).
عيسى إسكندر المعلوف
في جنائن الغرب
العزلة
طالما كنت أجلس في الجبل تحت ظل شجرةٍ من بلوط، وقد خيم الحزن على صدري، فكنت أسرح الناظر في السهول التي نشرت أمامي أحاسن محاسنها يتلو بعضها البعض وقد أخذت زخرفها وأزينت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقد آذنت ذكاء بالغروب مرتدية حلتها الصفراء تعلوها الكآبة. ولا أدري إن كان ما ألم بها توجعاً ورحمة لي، أو من ألم البين والفراق.
أمامي النهر يزمجر بأمواجه الزاخرة المزبدة، وينساب كالأفعى وسط الرياض، وهناك البحيرة الساكنة كالمرآة الصقيلة. وقد ارتسم كوكب المساء على صفحات الماء. وكانت الجبال التي تحوطني متوجة بغابات قاتمة رمى عليها الشفق أشعته الأخيرة.(1/351)
لم تك هذه المناظر الجميلة لتروقني أو تنفحني ببعض سرور ينعش القلب، بل كنت أشاهد الأرض كظل متنقل، كما أن شمس الأحياء لا تدفئ الأموات.
كنت أنقل الناظر من أكمة لأكمة ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب فلم أظفر بهناء يخفف ما بي من ألم الكآبة والوحشة.
ماذا تفيدني هذه الوديان والقصور والأكواخ التي لا أعبأ بها إذ لا أجد بها ضالتي المنشودة، وما كانت لتشرح صدري هذه الأنهار والصخور والغابات مع ما أنا فيه من الانفراد والعزلة. وإن غاب عن عيني عزيز واحد فالدنيا بأجمعها تكون أمامي قفرة موحشة.
لا أحفل بشمس تتبعها عيني في مسيرها من الشرق إلى الغرب جارية في سماء صافية أو مكفهرة إذ لا أنتظر شيئاً من الأيام.
ولو استطعت أن أتبعها في مجراها لكنت أشرف على الجو والصحاري ولكنني لا أرغب في شيء من جميع ما تنيره ولا أطلب أمراً من هذا العالم العظيم.
ولكن ربما كان بعد هذا الكون عالم آخر تضيئه الشمس وتظله سماء أخرى، ولو تسنى لي أن اترك جثماني في الأرض وأصعد بروحي إلى السماء لأنظر بعيني ما أراه في الأماني والأحلام، فهناك أتنشي من رحيق المنبع الذي آمله وأجد ما أتطلبه من الأمل والحب، وهذا غاية ما تشتهيه الأنفس، وليس له اسم في المقام الدنيوي. فلم بعد ذاك أمكث في الدنيا دار
النفي إذ لا علاقة لي بها ولا شأن لي فيها.(1/352)
مثلي كمثل الورق الذابل حينما يتساقط في المروج فتحمله الريح إلى الوديان فاحمليني مثلها أيها الشمال العاتية.
(تعريف محمد كامل حجاج)
لامارتين
الوصايا الصحية
تحمل إلينا التلغرافات يومياً أنباء مزعجة عن فتكات الكوليرا في أنحاء أوروبا. وقد بات الوباء على الأبواب يتهددنا. فيجب علينا إتقاء لشره ورداً لغاراته، أن نتدرع بقانون الصحة فيكون لنا حرزاً حريزاً. وقد زودنا حضرة الفاضل صاحب الإمضاء في تقويم البشير بخير الوصايا، فعلينا أن نعمل بها، قال:
العلم يقول والعمل والاختبار يؤيدان قوله: احفظ وصاياي لتحفظ لك صحتك فتعيش طويلاً معافى سعيداً ويكثر نسلك ويقوى وطنك وهاك هذه الوصايا:
- 1 -
الأمراض المعدية - إن أكثر الأمراض، بل كافة الأمراض المعدية والأوبئة، إنما سببها ميكروبات أي كائنات حية وضعها العلماء في عالم النبات (إلا بعضها القريب من عالم الحيوان) في طائفة الطحلب. أما صغرها فمتناهٍ كشرها. وهي تتكاثر بسرعة عجيبة هائلة إذا وجدت غذاء مناسباً وشروطاً موافقة من الرطوبة وبعض الحرارة وغيرهما. ولكل مرض معدٍ ميكروب خاص به يفرز سماً أين منه غالباً سم الأفعى. ولكن اعلم ولا تنس قط أن الأسلحة التي نحارب بها الميكروبات، وبها نمنع انتشار الأوبئة، كما تمنع أوروبا الراقية انتشار الكوليرا والطاعون والجدري، هي:(1/353)
1 - سلامة البنية بالمحافظة على القوى الطبيعية الموروثة والمكتسبة، ذلك بالمعيشة المرتبة والمأكل الوافي والنوم الكافي، مع تجنب الأتعاب الشاقة عقلية كانت أو جسدية، والابتعاد عن الشهوات والمنكرات، لأنها تضعف ما وضعته فينا الطبيعة من قوة الدفاع لمقاومة الأمراض. الشره السكير الفاسق الفاسد السيرة والسريرة الزاني هو ذاك الرجل الذي عناه سنكا الفيلسوف بقوله: الإنسان لا يموت بل يقتل ذاته.
2 - النظافة التي هي ركن القانون الصحي. وفضل النظافة على التنظيف كفضل الوقاية على المعالجة، أو علم حفظ الصحة (الهيجين) على الطب. نظافة مدينة أو شارع أو مكان أو ثوب أو مياه هي مقياسها الصحي.
3 - التطعيم وتجديده لبعض الأمراض لاسيما الجدري لأنه الواقي العجيب من هذا الداء الوبيل. وقد اتضح أن اللقاح المضاد للدفتيريا والطاعون جزيل الفوائد إبان الأوبئة كواقٍ
من هذين المرضين. ونحن بانتظار اكتشاف لقاح لباقي الأمراض المعدية لاسيما السل والتيفوئيدية.
4 - عزل المصاب بمرض معد عن السلماء، لأن أغلب الأمراض، إن لم تنتقل بواسطة البعوض أو الذباب أو الماء كالوبالة (الملاريا) والهواء الأصفر، فهي تسري إلى السليم باللمس والمخالطة كعدوى الخناق (الدفتيريا) والجدري والتعفنات الجراحية والشهقة والحصبة. ويعين لخدمة المصاب بالجدري ونحوه من الأمراض التي لا تصيب الإنسان عادة إلا مرة واحدة من أصيب قبلاً بذلك المرض فاكتسب بذلك مناعة أو معافة.
5 - التطهير أي ملاشاة الجرثومة في مصدرها وينبوعها إما بالنار لإحراق(1/354)
ما هو قليل الثمن أو بالغليان أو بالمستحضرات التي تقتل الميكروبات كمحلول السليماني أو حامض الفينيك أو الفرمول أو سولفات النحاس مثلاً لغسل الناقهين من بعض الأمراض المعدية كالجدري أو لبصاق المصدورين، وكحليب الكلس لجدران الغرف وخاصة لبرازات المصابين بالتفيفوئيدية أو الكوليرا أو الدوسنطاريا. أو بالمطاهر والمخانق البخارية أو بالهواء السخن الذي يطهر الثياب والفرش والأثاث بقوة الحرارة.
فمن فعل ذلك بات آمناً ونظر إلى الأوبئة نظره إلى ذئب ضمن قفص، وفهم كيف أن الأوبئة التي كانت قديماً تجرف، حيث تدخل، ربع أو نصف الخليقة، أصبحت الآن إصاباتها تعد على الأصابع وكيف أن التجارة والاتصالات تخلصت من المحاجر (الكورتنتينات).
2
الأرض - أما الأرض التي على سطحها نقضي حياتنا فيشترط فيها الابتعاد عن التربة الكثيرة التشرب للرطوبة، لأن الأماكن الرطبة هي منابت التعفن كالتربة الدلغانية التي تكثر فيها المياه الآسنة والمستنقعات. فهناك تتفشى الحميات الدورية والخبيثة والتسمم الملاري، فتئول في أماكن كثيرة إلى انحطاط البنية وانقراض السكان. وقد تعلمنا آخراً أن الجرثومة المسببة كل ذلك كجرثومة الحمى الصفراوية تنتقل إلى الإنسان بلدغ البعوض. ومناخ أراض كهذه يصلح بملاشاة المستنقعات وتخديد التربة وفتح قنوات لصرف ما يأسن من الماء ولتجفيفه وبالاختصار بالزراعة لاشِ البعوض برش قليل من البترول على سطح
حياض الماء (جرام عن(1/355)
كل متر مربع من سطح حوض ماء) وتلافه بإسدال شباك ضيقة الثقوب على النوافذ وباستعمال الكلل (الناموسيات) عند النوم إلى غير ذلك من الوسائل المعلومة.
3
الهواء - بلا هواء من يمكنه أن يعيش دقيقة، على أنه إن كان الهواء لازماً فمن اللازم أيضاً أن يكون الهواء نقياً. أهرب من الهواء الفاسد والمحبوس كما تهرب من الحية لأنه هو أيضاً سام. . . واسعَ وراء الهواء المطلق الصافي لأنه من أهم الشروط الصحية للمريض والسليم بل هو من السل الذي ترتعد منه فرائصك أحسن واقٍ وأنجع شاف. وقد لقح بعضهم حيوانات بباشلس السل، ثم أطلق بعضها في الفلاء وحبس البعض الآخر، فالأولى سلمت والثانية أصيبت بالداء. فاختر إذن الأماكن القليلة الازدحام وتجنب الغبار، لأنه يحمل كثيراً من الميكروبات، تنزه أوقات الفراغ في البرية أو على شاطئ البحر وفي غابات الصنوبر وأحراج الإيكالبتوس لأن الأشجار تمتص الرطوبة وتنقي التربة بجذورها وتصفي الهواء بأوراقها، إنما لا يجوز أن تسد غضاضة الأشجار النوافذ. الهواء الحار مزعج للفكر والجسم، والمناخ الحار مضعف تكثر فيه التعفنات والحشرات المؤذية كالبعوض والبق والذباب والبراغيث وله أمراض خاصة تكوّن قسماً من الباتولوجيا هاماً. الاستدفاء على المنقل أضر كثيرين لأنه يصدر من الاشتعال غاز سام هو أكسيد الكربون (الحامض الفحمي) وهو يسبب سنوياً موت أناس عديدين.(1/356)
4
المشرب والمأكل - الماء تحتاج إليه في كل حين أي لمشربك وطبخك ولتنظيف بيتك ولصناعتك وبستانك. الماء ضروري لحمامك ولصحتك. والماء البارد ينشط ويدفئ شتاء ويخفض الحرارة صيفاً والماء السخن ينظف ويسكن. ولكي يكون الماء كافياً، يجب أن يكون وافراً، وعلى كل حال يجب أن يكون نقياً سليماً من كل ميكروب منذ خروجه من ينبوعه. ولابد لهذا الينبوع من حرم ووسائل كافية تقيه من ارتشاح أقذار ما يجاوره من التربة حين سقوط الأمطار. ولتوزع المياه منقولة ضمن أنابيب حديدية محكمة لا تتحلب إليها الأوساخ لاسيما برازات الإنسان. وإذا لم يكن الماء نقياً وعند الاضطرار ولأقل ريب
رشحه بمرشحة شمبرلان أو بالأحرى إغله فتسلم من الكوليرا والدوسنطاريا والتيفوئيدية وبعض الديدان التي هي مائية الأصل. على أنا نبشر القراء بأن العلم اكتشف اكتشافاً عظيماً خطيراً وهو أن بواسطة مرور أشعة مصباح كهربائي زئبقي على الماء يمكنك أن تطهره بالحال وتقتل ميكروباته بدون أن تفقد ذلك الماء شيئاً من ذلته وفوائده لأن أشعة الطيف التي هي ما وراء البنفسجي المعروفة جيداً لدى من درس الطبيعيات، هي ذات قوة عجيبة لقتل الميكروبات. وهذا الاكتشاف هو الآن موضوع مباحث عديدة ذات نتائج سامية.
ليتك لا تأخذ مشروباً إلا الماء لأن المسكرات سموم. والسم لا يخرج من خزانة الصيدلي إلا بأمر الطبيب. كيف لا وهي تضر الجسم(1/357)
ضررها العقل والدين والآداب والاقتصاد وتضعف أكثر الأعضاء، وتؤثر في لابنين وتسم الدم: أسكر بعضهم ديكاً فتحول لون عرفه من أحمر جميل إلى أزرق أسود أي لون تسمم الدم. وبالاختصار إن شرب المسكر هو الطريق الرحب المؤدي إلى الخمارة والقهوة وملعب القمار والمستشفى أو المأوى والمارستان فالمقبرة.
وليكن طعامك صالحاً من حيث الكمية والتحضير تغلب فيه المواد النباتية على اللحوم (اصطلحوا أن يضعوا الحليب والألبان والبيض بمصاف المواد النباتية وهي من أنسب المآكل من كل الوجوه). اللحوم سريعة الفساد خصوصاً في بلادنا الحارة وتتوفر فيها الجراثيم لاسيما لحم الخنزير. الحبوب بالإجمال تغذي جيداً وهي سهلة الهضم إذا هرست ناعماً ونضج طبخها. وأما الخضر والثمار فتشتمل على مواد مغذية غير وفيرة، ومعظم تركيبها من الماء، إلا أنها لذيذة وموافقة جداً. احذر المهيجات كالبهارات والمسكرات والخردل فهي تجعل المعدة بليدة فمريضة. ولا يدفعنك إلى الطعام شره أو شرب عرق بل شهوة طبيعية نسميها القابلية أوجدتها العناية لتعويض ما يفقدنا إياه العمل. وما تأكله برغبة تهضمه بسهولة. المعدة مثل كل أعضائنا تتعب مما تكره والسخرة تزعجها. وليكن الطعام ملائماً للعمل والظروف كحليب الأم وحده للرضيع. والأطعمة اللينة لمن فقد أضراسه وصعب مضغه. امضغ جيداً، لأن الباري تعالى لم يضع الأضراس إلا لوظيفة لها هامة. قليلون ينالهم الأذى لقلة طعامهم وأما كثيرون فيتخمون ويمرضون لشراهتهم. وما ملأ
الإنسان وعاء شراً من بطنه. لا(1/358)
تدخل الطعام على الطعام. خفف عشاءك تحمد منامك.
- 5 -
المسكن - لسكناك نتفق محلاً رفيعاً معتزلاً بعيداً عن كل مكان وسخ خطر وإن أمكن في وسط حديقة واجعل جدرانه من حجر أو قرميد وارفع حضيضه، وافصله عن رطوبة التربة القائم عليها بطبقة عديمة الامتصاص كالحجرية. والرطوبة منبت العفونة والعفونة مرض وبالأحرى المرض عفن. وسع غرفه وقلل سكانها، ولكن الشبابيك عديدة عالية وسيعة أشبه بأبواب منها بشبابيك، وافتحها وسيعاً وكثيراً وطويلاً ومتقابلة ما استطعت سبيلاً. . . كيف تنشئ نوافذ فتسدها بالبردايات؟ ألا تعلم المثل الشهير: البيت الذي تدخله الشمس لا يدخله الطبيب. الميكروبات مثل كل محبي الأذى ترغب في الظلام. فالشمس هي المطهر الأقوى والأعم والأرخص. أقول للعامة لأفهمها فوائد الشمس. افتحوا نوافذكم لدخول الشمس كما لو كان لدخول ليرات إنكليزية. لا تستكثر من الأثاث لغير لزوم فإنه قد يصبح مأوى للغبار وعشاً للميكروبات. والقانون الصحي قد قضى عليها كما قضى عليها قانون الاقتصاد إذ قال: من يشتري الفضولي لا يلبث أن يبيع الضروري كرس ثمنها للأشياء المفيدة الصحية. النور الاصطناعي يزاحمك على الهواء النقي المحيي فنم إذا في الظلام. تعود إبقاء نافذة مفتوحة في غرفة المنام. ونم ضمن كلة (ناموسية) تقيك البعوض. ضع المستراح خارجاً أو منفصلاً عن البيت وليكن فيه النور والهواء وافرين وليكن حضيضه وجدرانه صقيلة تلاقياً للأوساخ. بادر(1/359)
وضع لبيتك فاصلاً مائياً أي أنبوباً معرجاً كحرف؟؟ العربي أو؟؟ الفرنساوية النائمين. لأنه عجيب الفائدة إذ يمنع الغازات الفاسدة وكل رائحة وكم هي غزيرة في بلادنا الحارة! وبواسطته ترى الآن المستراحات لا تفترق من هذا القبيل عن قاعات الاستقبال أو لتنزل البرازات إلى صناديق حديدية محكمة أو فلترسل مع كل الأقذار إلى الأسراب لتتطهر أخيراً بتسميدها البساتين والأراضي المزروعة.
6
الثياب - لا تلبس للزخرف بل للاحتشام واتقاء البرد والعناصر الخارجية. البرد أشد وطأة والتبرد أكبر أذى لشديدي التحفظ وكثيري التلفف من غيرهم، فهم أقل تصلباً تجاه تقلبات
الطقس.
احذر الأربطة والملابس الضيقة التي تعوق دورة الدم ونمو الأعضاء. احذري أيتها السيدة المشد (الكورسه) فهو قفص يحبس الأعضاء الرئيسية، وهو عثرة في سبيل قيامها بوظائفها ولأنه يزيح بعضها عن مكانه ويعوق نمو جميعها. لا تكنسي بثيابك الطويلة الأوحال والغبار حيث جراثيم الأمراض وبصاق المسلولين، بل اسهري على ثوبك أن يكون نظيفاً أكثر منه أن يكون على آخر موضة. الحذاء الضيق يضايق الرجل ويشوهها ويسبب المسامير بل انزعاجاً في الجسم.
7
الأخلاق والعادات - تجنب البطالة كتجنبك الأشغال الشاقة جسدية كانت أو عقلية، فالجسدية تفقدك النشاط وتضاد نمو الأعضاء بينما(1/360)
هي أم الرذائل والهموم، والكسل هدام القوى العقلية والجسدية. والعقلية تنهك قواك وتجعلك معداً للأمراض وتضعف الأعصاب، العمر ينفد والشغل لا يفرغ. اشتغل باعتدال لأن الشغل يسلي ويقوي الأعضاء وينشط ويضاد السمن والنقرس والحصى التي تجلبها الحياة الساكنة الحياة الجلسوية. استرح في كل أسبوع يوماً تاماً طبقاً للوصية ونم واشتغل واسترح ثمان ساعات من كل يوم. لا تحول ليلك إلى نهار لتقضي سهراتك بما يحرمه الدين أو القانون الصحي كلعب القمار. أرح بالك وأشغل جسمك تلك نصيحة أراني باحتياج إلى إعطائها كل يوم مراراً. اسع وراء اكتساب الخصال الحميدة والمبادئ الشريفة. تعود العادات الحسنة وعودها خاصة لبنيك، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر. عود أولادك النشاط وقلة التنعم. . . صلبوهم تدريجياً. ربوهم يا شرقيون على الرجولية الحقيقية: الفسق والغضب وكل ما يخل بالآداب ينخر العافية ويذهب بالهناء ويأتي بالشيخوخة قبل الأوان، كما قال ابن سيراخ منذ القدم. الزنى يدهورك في لجة الأمراض المخيفة ويلبسك ثوب العار كمرض الزهري الذي ينتقل إلى النسل، فالآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. ولذلك لا عجب إذا اعتبرنا الزواج فرضاً مقدساً على المرء تجاه نفسه ووطنه وتجاه الإنسانية. فالمرأة حياة الرضيع وملجأ الصغير ومسرة الشاب وشريكة الكهل وعضد الشيخ. ونكرر التحذير من السكر والأشربة الكحولية. خف من أخذ أول كأس عرق أو كونياك كما يجب أن تخاف من إمضاء أول كمبيالة أو
أول كفالة. التدخين يضر غالباً ولا يفيد.(1/361)
ضع نصب عينيك النظافة والاعتدال في كل الأحوال: نظافة التربة نظافة الماء نظافة المسكن والملبس نظافة الشارع نظافة الجسم نظافة. . . اعتدال في العمل اعتدال في المأكل والمشرب اعتدال في. . . نظافة واعتدال هاك تكراراً مختصر قانون الصحة.
ونحن نعتقد أن المحافظة على الصحة فرض واجب وأن تعريض الذات أو القريب للأمراض المعدية جريمة أو جناية. . .
علمت فاعمل. لأن العمل بلا عمل، كجسم بلا روح، أو كشجرة بلا ثمر.
الدكتور أمين الجميل
في حدائق العرب
صفة المحبة
قال أبو بكر الوراق: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب ما هو. فقال: يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواه النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، وتتحرك لأشرافها طبائع الحياة، فيصور من ذلك خلق حاصر للنفس متصل بخواطرها يسمى الحب.
وسئل حماد الراوية عن الحب ما هو. فقال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنية.
وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب،(1/362)
وأفظع ما لقي، وأحلى ما اشتهى، وأوجع ما بطن، وأشهى ما أعلن، وهو كما قال الشاعر:
وللحب آفات إذا هي صرحت ... تبدت علامات لها غر صفر
فباطنه سقم وظاهره جوى ... وأوله ذكر وآخره فكر
وقالوا: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك سرفاً
من كل حديقة زهرة
* لم ينقرض أكلة البشر عن وجه الأرض: ذهب مبشران إلى جزائر هيبريد الجديدة، وقالا للسكان: أحبوا بعضكم بعضاً فأجابوهما نحن نحب بعضنا بعضاً ونحب خصوصاً البيض وأكلوهما. وفي الكونغو قبض الوطنيون المتوحشون على ضابطين بلجيكيين وأكلوهما. وأكل أهالي النيجر طبيباً إنكليزياً ذهب ليدرس أمراض تلك البلاد فأحله القوم في معدهم. وفي جزائر الأميروته ذهب خمسة من الألمان فريسة الأهالي.
* دخل التلغراف اللاسلكي في طور الاختراعات العلمية التي يستخدمها الإنسان في حاجاته. وأصبحت المراكب في عرض البحار تخاطب البر وتتلقى أخباره على مسافة مئات من الكيلومترات. ومن أعلى برج إيفل يتخاطب الفرنسيون مع إخوانهم في مراكش وقد انتفعوا بذلك كثيراً في الحملة المراكشية الأخيرة. وفي العام الماضي كان اثنان من الأمريكان مسافرين كل في مركب بعيد عن الثاني فتكمنا بواسطة التلغراف اللاسلكي أو تلغراف مركوني من لعب الشطرنج.(1/363)
* أخذ الأمريكان يصطنعون السيكار من ورق الكتابة. فينقعون الورقة مدة في عصير التبغ، ثم يضعونها في مكابس خصوصية لقطعها وتضليعها حتى تخدع العين بمرآها وتلف على شكل السيكار المعروف، وبقول ذوو الخبرة في التدخين أن هذا التبغ الاصطناعي لذيذ الطعم، زكي الرائحة.
* في أوروبا اليوم 160 مدينة يزيد عدد سكانها الواحدة على مئة ألف. منها 25 مدينة تضم الواحدة أكثر من نصف مليون نسمة. و7 يزيد سكان الواحدة منها على المليون وهي لندرا وباريس وبرلين وفيينا وبطرسبورج وموسكو والأستانة.
* يلزم 120 كيلو من البارود لحشو المدفع الجديد الذي من قياس 305 مليمترات.
* سوق الزواج في المكسيك كاسدة أكثر منها في كل بلاد. فإن عدد المتزوجين كل سنة يبلغ 89 فقط عن كل عشرة آلاف ساكن ونسبة المتزوجين في فرنسا إلى هذا العدد 160.
* باريس أكثر المدن قهوات وخمارات وبارات ومعدل عددها 11 لكل ألف نسمة ويليها سان فرنسيسكو وفيها 9 قهوات أو خمارات لكل ألف نسمة وبرلين 8 ونيويورك 4 ولندرا 2. وفي بطرسبورج قهوة لكل ألفي نسمة. فهل للحكومة أن تحصي قهوات مصر لنرى نسبتها إلى الأهالي؟
* في نيويورك 19. 243 فابريقة أو معملاً تشتغل ب 350 صناعة مختلفة وقد بلغ دخلها في السنة الماضية 11 مليار فرنك.
* دل الإحصاء الأخير في روسيا على أن عدد سكانها 160 مليوناً(1/364)
وقد زاد الروس 25 مليوناً في الثلاث عشرة سنة المنقضية.
* يصح أن يطلق على سنة 1910 اسم سنة المذنبات. فلا يزال القراء يذكرون مذنب هالي وما ألقاه من الرعب في النفوس. وسيظهر لنا قبل انقضاء السنة 6 مذنبات ولكنها كلها أصغر من الذي تقدم.
بين هنا وهناك
اجتمع صاحب الزهور ببعض أدباء بيروت، فدار الحديث على الأدب هنا وهناك، ولما كان ملاحظ جريدة البرق البيروتية قد وفى هذا الاجتماع حقه من الوصف، فقد رأينا نقل ما كتب:
وكانت شمس الأربعاء على جناح الشفق يوم اجتمع في مكتب البرق عصابة من الأدباء:
أنطون الجميل وأمين تقي الدين وأمين الغريب وإلياس فياض ويوسف ثابت وشكري السودا وبشارة الخوري وهلم جرا - هؤلاء كانوا من أركان العصابة.
وصاح بهم صائح: هلموا فقد ضاق صدر الغرفة، وبعد دقائق كنا في روضة جمعت الطيبات الصوالح وسمحت بثلاثة أصحاب هم نصر الله الحداد وشكري أرقش وداود مجاعص فقلنا، وكأنا كنا على ميعاد:
- هات يا فياض هجاءك في سركيس
- سمعاً وطاعة(1/365)
الذي علق في ذهني أنشره احتراماً لذكر المقدوح فيه وهو من اقترح الهجاء لنفسه ودفع جائزة عليه.
دونكم هذه الأبيات القلائل:
عجباً تحاول أن تنال هجاء ... أتراك قبل اليوم نلت ثناء
أين المشير وأين أيام مضت ... أصليت فيها الخافقين عداء
أنسيت تلك الحرب حين أثرتها ... وحملت تلك الحملة الشعواء
إذ تستعد من الجياد يراعة ... ومن السلاح وقاحة وبذاء
وإذا الورى يتجنبونك مثلما ... يتجنبون العنزة الجرباء
إلى أن يقول لا فض فوه
يا ويح ذا الأدب الذي أعطيته ... لو كنت قد أعطيت معه حياء
تالله ما والاك إلا خائف ... من ذا اللسان الطعن والإيذاء
والود إن تكن المخافة أسه ... فالعنكبوت أشد منه ولاء
لا تغترر بعريض شهرتك التي ... ملأت بك الأقطار والأرجاء
فالشر أسرع ما يكون تفشياً ... والخير يمشي مشية عرجاء
هذا هجاؤك يا سليم وإنه ... ليسوءني أني أقول هجاء
ما كنت أنحو نحوه لو لم تكن ... عينت جائزة له غراء
وكما علمت فإننا في أزمة ... لم تبق بيضاء ولا صفراء
فعساك تقترح المديح لكي ترى ... مني مديحاً كالصباح ضياء
لكنني لا أتجيد لك الثنا ... إلا إذا ضاعفت لي الإعطاء
فهجاء مثلك ليس فيه تكلف ... وأرى مديحك كلفة وعناء
وتناول بعد ذلك بلبل رياض الطرب عوده وأنشد يا ليل الصب متى غده وأنشد وقفةً أيها القمر(1/366)
لا أرى تقريظاً لعود السودا ألطف من كلمة قالها فيه الريحاني. منها ما تقرأ:
ما بين أناملك والأوتار، سحر يسحر حتى السحار
ما بين أناملك والأوتار، عرائس ألحان وأبكار
تلبسهن من يديك الورد سربالاً، وتكللهن بالجلنار
ويرحهن النزر من خمر أنفاسك، ويذيبهن الإكثار
ما بين أناملك والأوتار، أغصان أنغام وأوتار
ولدى اهتزاز الغصن تنور الليالي وتزهو الأسحار
وتجتمع حول العود أرواح المحبين من شاسع الأمصار
فإن سلك عودك لكسلك البرق يزيل المسافة بين الأقطار
وإن لفي وقتك الموسيقي العجيب زمان نعيم مضى وليالي وصل طوال قصار.
فقد جئتنا والله في فنك بآيات ومعجزات كبار
وقد خيل لي وأنت تداعب تلك الأسلاك وتطايبها بأن مرسح الأوبرا على صدرك يدار
فتراءت لي الغواني والراقصات كأنهن لهيب من نار.
وكان الجميل صلة مجسمة بين أدباء القطرين المصري والسوري بما كان يسمعنا من أشعارهم ويطرفنا من مأثورهم حتى سكرنا بالخمرتين.
- ملاحظ(1/367)
من وإلى القراء
كان للعدد الكبير الذي أصدرناه مخصصاً بموضوع مصر وسورية أحسن وقع لدى عموم المشتركين وقد جاءتنا كتب كثيرة من أنحاء مختلفة وكلها تطري الفكرة التي حملتنا على نهج هذه الخطة والعمل على التقريب بين القطرين الشقيقين. ونحن نرى بمزيد من السرور انتشار هذه الروح بين قراء الزهور ونشكرهم على مؤازرتهم لتحقيق هذه الأمنية كما أننا نشكر الصحف العربية في مصر وسورية وأمريكا على ما خطته بهذه المناسبة من كلمات الثناء فإنما هذه الأفكار تحيا وتعيش بتداولها بين الأدباء والعقلاء.
* تأخر هذا العدد عن موعد صدوره لأسباب خصوصية دعت صاحب المجلة إلى خارج مصر، فرأينا أن نضمه إلى العدد الذي بعده ونرسلهما إلى المشتركين في آن واحد.
* احتفل الأخوان المسلمون في هذا الشهر بعيد الفطر السعيد أعاده الله بالهناء واليمن والبركات.
* بإمضاء الزهرة الذابلة تلقينا كتاباً جميلاً أملاه قلب حساس وخطته يد لطيفة أثنت فيه على الزهور ومنشئها وكتابها، وتمنت لها حياة طويلة ليظل عشاق الأدب يزينون بها مكاتبهم كما تزين العروس رأسها بزهر الليمون. . . سلمت أيتها الزهرة المستترة من الذبول، وأجادك الندى بقطراته المنعشة، ولكن أين الذبول من الزهرة التي تفوح بمثل شذاك العطر.(1/368)
العدد 8 - بتاريخ: 1 - 11 - 1910
العمال والحكومات
العمال هم العدد الأوفر في الأمم، والعامل الأكبر على رقي الشعوب، عليهم مدار قيام الكون، وبهم تقدم بني الإنسان في معارج العمران.
هم معدن ثروة البلاد وغناها، ومنهم مصدر نفوذها وسلطتها، وينبوع مجدها وعلاها، بل هم أعصاب البشرية ومجموع حياتها وقواها.
هم الذين بعملهم الدائم وجهادهم المتتابع وسعيهم المتواصل يسيرون بسفينة بلادهم سيراً حثيثاً أميناً في بحر تنازع البقاء المتلاطم غير هيابين ولا فخوري. فلا تقعد بهمهم العواصف العاصفة، ولا تثبط عزيمتهم الرياح الثائرة والأمواج الهائجة، بل يواصلون الجد بثبات وحزم. . . ولا يفاخرون بعملهم ولا يباهون بخدماتهم شأن كبار القوم.
هم لا تصيبهم مزن الألقاب والرتب وعلامات الشرف المصطلح عليها، هم لا يؤبد رسمهم بالتماثيل النحاسية والأنصبة المرمرية، لكنهم يصبونها من قلوبهم ومهجهم ليمجد بها غيرهم. هم لا يخلد اسمهم في التاريخ بل يكتبون صفحاته بدماء أفئدتهم ليعظم فيها سواهم. هم لا يكللون(1/369)
بأكاليل الغار بل يغرسونها بعرق الجبين ويجنونها بكد اليمين ليزينوا بها جبهة رؤسائهم.
أما هم فجل ما إليه يتوقون هو ما يسدون به رمقهم ويسترون عورتهم، فلا يتقاضون الإنسانية جزاء تفانيهم الدائم واستهلاكهم المستمر إلا ما يعولون به عيالهم.
العملة هم الأحرف الصغيرة التي تنضد منها قصيدة البشرية، وتتألف منها أنشودة الكون. وما الكبار والحكام والمتمولون سوى أحرف العنوان الكبيرة التي تستلفت الأبصار وتستوقف القارئ ولا معنى ولا مداول لها إلا بما يليها من صغير الحروف.
بل قل إن العملة هم أشبه بأولئك البحارة الذين يشتغلون في داخل الباخرة. يوقدون ويديرون ويحركون. ولا يرى أحد لهم عملاً حتى أنهم أنفسهم لا يرون نتيجة عملهم إذ هم في قعر المركب مدفونون.
بيد أن سير السفينة الماخرة في عباب الماء، تحت زرقة السماء، نحو الأرض البعيدة، هو معول شغلهم، والفضل فيه راجع إليهم. . . .
نحن لا ننكر أن أولئك البحارة لا يصلحون بلا القبطان، كما أن الجنود لا يقوون بلا القائد لكنه قد يفوت الكثيرين فينسون أو يتناسون أنه لولا البحارة لما وجد القبطان، ولولا
العساكر لما كان القائد. كما أنه لولا حروف الكتابة الصغيرة، لما وجدت حروف العنوان الكبيرة. وهذه سنة الخلاق في خلقه.
تنبهت الحكومات الراقية إلى هذه الطبقة الأكثر عدداً الأقل حظاً،(1/370)
وفهمت أي فراغ تملأ في الكون؟ وأية دعامة هي للثروة الحقيقية والتقدم الصحيح فوجهت إليها عناية خاصة، وسنت لها قوانين ونظامات حافظة. ونعم ما هي فاعلة.
على أن العمال لم يلفتوا الحكومات إليهم إلا بفضل ما أظهروه من التضامن والتعاضد والتكاثف، فألفوا النقابات والجمعيات، وأسسوا صناديق التوفير والتأمين، حتى أصبحوا هيئة منظمة ذات حول وطول. إذا داعوا سمعت دعواهم. وإن طالبوا أجيبت مطالبهم.
ساءت حالهم، ونكبوا بالضيق والعسر وباتوا في أنحاء المعمور أجمع عرضة للهلاك شقاءً وبؤساً وليس من يمد لهم يد المساعدة إلا الأفراد القليلون. فهبوا هبة واحدة، وعملوا على تنظيم شؤونهم المادية والاجتماعية، فنالوا المنزلة التي يستحقونها في المجتمع الإنساني. وما أشرف منزلة العامل من منزلة. . . .!
ولكن القوة تولد البطر، والسطوة تنتج الاستبداد، ويد الغايات تمتد إلى كل مجموع. اعتصب العمال فنالوا مطالبهم الحقة أحياناً، ورأى بعض الزعماء فيهم قوة تدك العروش، وتهز التيجان على الرؤوس، فاتخذوهم آلة لنيل مآربهم الملتوية. فرأينا الاعتصاب تلو الاعتصاب بحق وبغير حق وتلك الحركة التضامنية - الجميلة في بدايتها - تتحول أحياناً إلى ثورة فوضوية لا رادع لها ولا وازع. فتعرقل التجارة، وتقطع المواصلة، وتضر بالزراعة، وتوقف دولاب الصناعة، وتقوم عقبة كؤوداً، في وجه سير العمران. وكثيراً ما صار هذا التضامن تضامناً إجبارياً أدهى وأضر(1/371)
من التخاذل. وهذا الاعتصاب المتكرر في فرنسا وإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة قد سبب هذه السنة من الأضرار ما لا يقدر.
على أن هذه الحركة لم تبد إلا في تلك الدول التي تعد في طليعة الأمم الراقية، حيث تنبه الشعب وأدرك ما له من الحقوق - وإن نسي أحياناً ما عليه من الواجبات. ولما كانت الحكومة صورة الشعب رأينا تلك الحكومات - وإن هالها هياج العمال - تسعى إلى تحسين حالهم وصيانة مصالحهم وصد أصحاب رؤوس المال عن اهتضام حقوقهم. فلئن تعدى العمال أحياناً حدودهم مدفوعين بيد تعمل في الخفاء، فإن طول الحيف الذي كثيراً ما يلحق
بهم يشفع لهم ويجعلهم دائماً جديرين بكل اهتمام.
ولذلك رأينا مجلس نواب ألمانيا يقرر المباشرة حالاً بكثير من الأشغال العمومية المنوي إنشاؤها في المستقبل، وذلك لتشغيل الذين لا يجدون شغلاً.
وسمعنا مناقشات مجلس العموم في إنكلترا تتناول أمر العملة ومسألة إعالتهم في شيخوختهم ووفاتهم.
وقرأنا منشورات الرئيس روزفلت المنددة بالشركات والنقابات المدافعة عن حقوق العمال والفعلة المهضومة. فقامت لها أمريكا وقعدت.
وشاهدنا حكومة فرنسا لدى تشكيلها وزارتها الأخيرة قد أوجدت نظارة خاصة دعتها نظارة العمل للنظر في شؤون العمال والذود عن مرافقهم ومصالحهم والسعي في ترقية أحوالهم المتوقف عليها رقي البلاد. .
لعمري إننا سائرون حسب سنة الارتقاء إلى زمن - عساه أن يكون قريباً - تصبح فيه نظارات العمل أرفع شأناً وأكثر خطارة من نظارات(1/372)
الحربية والبحرية. . .
فهلا تنظر حكوماتنا الشرقية، وهلا يرى قادة الأفكار منا الحاجة إلى ترقية حال عمالنا والسهر على مصالحهم، والذود عن حقوقهم فلا يبقوا في أيد أصحاب العمل آلة مسيرة، حتى إذا ما أدت الخدمة المطلوبة أو تعطل سيرها طرحت خارجاً.
وسنأتي في العدد القادم على بعض ما يتعلق بالاعتصابات.
كيف ترتقي
اللغة العربية
نشرنا في الجزء السابق ص 343 القسم الأول من مقالة حضرة صاحب الإمضاء وفيه لمحة عن حالة الآداب العربية في أيام الجاهلية وعلى عصر الخلفاء. وهذا هو القسم الثاني وفيه بحث عن الوسائل الواجب اتخاذها لترقية هذه اللغة:
إن ارتقاء آداب اللغة العربية يجب أن يتم بسلم ذات ثماني درجات، لا غنى للواحدة عن الأخرى فيها ولا يمكن الوصل إلى قمة نجاحها بغيرها وهي: الدولة والأمة والمدارس والصحافة والتأليف والمجتمعات العلمية والمكاتب. وإليك الكلام على كل منها باختصار.
1 - الدولة - لا خفاء أن اللغة ترتقي بارتقاء الدولة فهي التي تذود عن حوضها وتحمي ذمارها. ومن يجهل نهضة العباسيين في الشرق، والأمويين في الأندلس، والفاطميين في القاهرة، والأيوبيين في بلاد العرب. بل من يجهل نهضة الغربيين بحكوماتهم، وتعزيزهم للغاتهم(1/373)
باستخراج دفائن الكتب ومن الخزائن القديمة ونقلها إلى لغاتهم، وتقريب العلماء وإجراء الرزق عليهم، وإرسال النساخ إلى كل إقليم ينسخون ما فاتهم من المؤلفات حتى ملأوا المكاتب ورقوا آداب اللغة وعقدوا لذلك مجامع من علماء استقدموهم من أطراف مملكتهم. فهكذا ترقي الدولة آداب لغتها وترفع منار آدابها، وتنشرها بين ظهراني الناطقين بها، فتساعد المؤلفين وتمنحهم امتيازات لحفظ حقوق مؤلفاتهم استثماراً لها. فتكثر الرغبات في وضع المؤلفات العائدة على العربية بالنفع والمرقية لآدابها والناشرة للعلوم العصرية فيها. وطالما نرى عندنا أن زيداً يؤلف كتاباً فيغير بعض عباراته وعمرو يطبعه. أو انه ينسج على منواله مستعيناً بأسلوبه ويزاحمه فيه. فعلى آداب العربية السلام وعلى اللغة العفاء. بل طالما نرى المدارس والمؤلفات لا نظام يوحد مبادئها فلا أمل في إحياء اللغة بيننا على هذه الخطة.
2 - الأمة - يجب أن تكون حريصة على لغتها شديدة الغيرة عليها. ومن سوء الحظ أن معظم المتعلمين عندنا والمعلمين ينظرون إلى لغتهم شزراً. فكيف ينتظرون من الحكومة أن تساعدهم؟ وإذا لم يعتقد كل عربي أنه من المعيب أن يتعلم الإنسان اللغات الأعجمية وهو يجهل لغته، فلا أمل في الإصلاح. ولرب معترض يقول وما النفع من لغتنا العربية مع
كساد بضاعتها؟ فأقول لمثل هذا المعترض أن الناطق باللغة العربية لا يستغني، مهما تيسرت له الذرائع خارج موطنه، عن العودة إليه. فبأي لغة يخاطب قومه ويكاتبهم ويخطب فيهم ويفاوضهم؟ وإذا شاء كتابة شيء في موضوع وأراد تعريبه فأي لباس يلبسه وبأي قالب يسكبه.(1/374)
أليست اللغة العربية هي التي أوحت إلى شاعرها أن يقول بلسانها:
كلامي عقار عتقت تم وروقت ... وبعض كلام العارفين عصير
إذا ظهرت يوماً بزاة خواطري ... فما لعصافير الطريق صفير
وهي التي وصفها الآخر بقوله:
ذكرت فصغرها العذول جهالة ... حتى بدت للناظرين فكبرا
3 - المدارس - المدارس القديمة في العالم من زمن الفلاسفة اليونان، ومن أقدم ما قام عند العرب منها كلية القيروان في مدينة فاس عاصمة بلاد المغرب في أفريقية، أسست في القرن التاسع للميلاد ونشرت العلم في أوروبا، ثم الجامع الأزهر سنة 359 هجري (970م) والمدرسة المستنصرية في بغداد سنة 630 هجري (1233م)، فضلاً عن مدارس هارون الرشيد في بغداد والمدن الشرقية ومدارس الأندلس في قرطبة وغيرها من المغرب. ومدارسنا الحاضرة قلما تعتمد في تدريسها العلوم على اللغة العربية بل تدرسها بالإفرنجية وهذه ضربة قاضية بإماتة اللغة وتوقيف نموها والإجهاز عليها، لأن اللغة أشبه بشجرة، تقطع بعض فروعها، وتنبت عساليج جديدة وتؤبر (تطعم) ليتم خصبها. فالأولى بنا أن ننقل العلوم العصرية على اختلافها إلى لغتنا العربية فتتوسع اللغة ألفاظاً وتكثر الأوضاع فيها ويشتد أزرها. وإن قيل إن دون ذلك عقبات تعترضنا، فقل إن المرء من مهد العوائق وذلل المصاعب. فهذه كتب مطبعة بولاق في أول عهدها، وكتب المدرسة الكلية الأمريكية في بيروت في بدء نشأتها، شاهد على سهولة التعريب ووضع الألفاظ للمسميات الغربية في العلوم الطبية والرياضية(1/375)
والطبيعة، يساعدنا على ذلك الاشتقاق والنحت في العربية وهما من أمتن دعائمها للمتأمل المحقق. وربما أعجزنا وضع كلمة عربية لمسمى إفرنجي فيكفي أن نبقيه على أصله بعد تقريبه من الصيغ العربية كما فعل المعربون في عهد الدولة العباسية وما بعدها، فأدخلوها ألفاظاً كثيرة أغنت اللغة.
4 - الصحافة - ليست الصحافة بيننا بمتجاوزة أول القرن التاسع عشر الماضي وقد
أخذت على نفسي البحث في تاريخها (بمجلة النعمة) الأرثوذكسية في دمشق ونشرت الدور الأول منها من سنة 1800 - 1870 م وسأتابع البحث فيه والنظر في ما أفادتنا الصحافة في أدوارها. وقد قدرت أن ما أنشئ من الجرائد، - ميتة وحية - باللغة العربية حتى الآن زهاء ثمانمائة جريدة. ولكن الجرائد الحية لا تكاد تتجاوز المائتين بين مجلة وجريدة في جميع أطراف المعمور. فهل أفادتنا وتفيدنا الصحافة؟
قال العلامة مكولي الإنكليزي: إن كتاب الجرائد هم مشتركوها فإذا نظرنا إلى حالة المشتركين بصحائفنا، لا نستطيع أن نحكم بترقي الصحافة لقلة الرغبة في الجرائد ولعدم تمييز المفيد منها عن المضر. كيف لا ولئن يزال تهجم كتابنا على فن الصحافة وليس لديهم رأس مال علمي ولا مادي كاف هو السبب الأول في انحطاطها. وقلما اجتمع للصحافي المال والعلم معاً. فبانفراد أحدهما تتحول الجرائد إما إلى تجارية لتحصيل المال، وإما إلى اكتساب الشهرة للمتمول. وفي الأمرين الغرور بالنفس فلي إذن من أغراضها الأولية خدمة الشعب واللغة. فضلاً عن أن كثيراً منها تصرف جل اهتمامها إلى التحامل والتشيع وبث روح الشحناء(1/376)
فتضيع الفائدة المنتظرة منها، وتقل ثقة الشعب بها. اللهم إلا بعض الجرائد التي اتخذت لها خطة معتدلة وتثبتت في رواية أخبارها ووضعت الصدق نصب أعينها. ولكنها قليلة لا تستطيع سد الثلم التي تخرقها تلك.
وأحسن دواء لذلك إنشاء مدارس للصحافة ومؤتمرات لها تبحث في أسباب ترقيها كما هو جار عند الأمم الراقية. فتكون الجرائد صادقة المبادئ ومنشئوها ومراسلوها يوافقون مبادئها. فلا ينشئ مجلة أو جريدة إلا من ترشح لهذا الفن ردحاً من الزمن وعرف أصوله. وحبذا لو عرب بعض أدبائنا اليوم كتاباً في فن الصحافة من كتب الإفرنج. وإن كنا نخسر فيه رواية غرامية تثير نقعاً وتمنع نفعاً. فيستلفت الأنظار إلى آداب الصحافة.
5 - المطابع - الطباعة حديثة عندنا لا تتجاوز القرنين والعقد الأول من الثالث. أما الإفرنج فقد عرفوا الطباعة العربية على أثر اختراع المطبعة عندهم، وطبعوا كثيراً من المؤلفات التي لا تزال إلى اليوم نادرةً مرتبة مفيدة. ومعظم مطابعنا الآن أنشئت بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الماضي وكثر عددها. ولكننا نرى معظمها تجارية، تطبع الكتب دون مقابلة على أصلها ولا تدقيق بإصلاحها، فتخرج مشحونة بالأغلاط غير
متقنة الطبع ولا الورق ولا الترتيب، مع غلاء في أثمانها فلا يقبل الناس على ابتياعها فيدعي واضعوها كساد بضاعة العلم.
فما أفضل الذرائع المتخذة لترخيص أثمان المطبوعات والاقتصاد بالحروف العربية، لتروج الطباعة والكتب ويقبل الأدباء على التأليف والناس على المطالعة. ومما أذكره بأسف أن المرحوم الشاعر الناثر رزق الله(1/377)
حسون الحلبي الذي نشرت ترجمته في مقتطف هذه السنة، كتب مقالات ضافية، استنسخت إحداها وهي في الاقتصاد المطبعي باختصار بعض حروف ليقل عددها فيسهل العمل على المنضد (الصفيف) وترخص نفقات الطبع، فلم يلب دعوته أحد. ومثله فعل المرحوم العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في وضع الحروف الاقتصادية، قبل مغادرته سورية وانتقاله إلى مصر والحرف باقٍ في مطبعة خليل أفندي سركيس الأدبية لم ينضد منه إلا صورة إعلان في الجرائد على أثر وضعه، وشروح نجعة الرائد التي طبعت أولاً في تلك المطبعة وأعدمت عند حريقها.
ومما تؤاخذ عليه مطابعنا عدم وضع فهارس للكتب فيتشوش الطلب على المطالع وتنكمش نفسه وينقبض صدره. فضلاً عن أنها إذا طبعت كتاباً كان قد طبع في أوروبا وذيل بحواش وفهارس وملاحظات مفيدة، حذفت كل هذه الزوائد، زاعمةً أنها فضلات، مع أن لها المقام الأول في التأليف. وما ذلك إلا لأننا نقصد السرعة في العمل للكسب لا لخدمة اللغة. وأذكر أنني رأيت كشف الظنون طبع أوروبا وعليه تعاليق مفيدة وله فهارس تقرب على المطالع بعيد مطالبه. ثم رأيته مطبوعاً في مصر والأستانة وليس فيه غير فهرس المواضيع. وكذلك كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب فإنه مطبوع في أوروبا بتعاليق وفهارس ومجدد طبعه في مصر منذ بضع سنوات وليس فيه إلا فهرس صغير جداً. وهكذا قل في رحلة ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما وهذا مثلاً كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري المطبوع في مصر. لا يفهم منه المطالع شيئاً،(1/378)
حتى يقرأه تباعاً صفحة صفحة. مع أنه لو كلف أحد بدرسه ووضع فهارس لما حواه من المباحث الكثيرة في أعلام الحيوانات والتراجم والأقاصيص والفكاهات والأشعار والأسجاع، لقربت الفائدة من مطالعته.
ومع ذلك فقد رأيت قليلاً من الكتب المطبوعة في مصر قد أبقيت فهارسها مثل (طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة وغيره.
ولا يجب أن ننسى عناية كثير من المطابع المصرية والبيروتية في الإتقان والترتيب والنظافة. ولكن نحب أن يعم هذا السعي المحمود بيننا ترغيباً للمطالعين وتقريباً للاستفادات. وأهم ما نستلفت إليه المطابع إصلاح الأغلاط والتدقيق.
6 - التأليف - نريد بالتأليف ما يشمل وضع الكتب وتلخيصها أو تعريبها. ونحن في أشد حاجة ماسة إلى وضع كتب مدرسة على نظام موحد، وكتب تهذيبية ومعجمات غنية بالأوضاع والاصطلاحات والحدود العلمية، معرضة عن الألفاظ المائتة والبذيئة. وإلى مؤلفات في العلوم الطبيعية كالفلك والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والكيمياء والفلسفة الطبيعية والطب والجراحة والصيدلة والنبات إلخ. وإلى مؤلفات في العلوم الأدبية كالاقتصاد السياسي وعلم الأخلاق والتربية والعمران وآداب السلوك والتاريخ وفلسفته والآثار القديمة وتدبير المنزل وتاريخ الاكتشافات والاختراعات.
ومن أهم ما يجب التأليف فيه تاريخ آداب العربية فإن للإفرنج(1/379)
كتباً كثيرة في هذا الفن. وليس بني أيدينا كتاب واف يبحث عن لغتنا وترقيها وانحطاطها.
ومن أمثل ما يعلل عن تأخرنا في التأليف، عدم إقبالنا على غير القصص والروايات. فهذه نجعة الرائد وضعها مؤلفها منذ عشرات من السنين، ولم يباشر طبعها حتى آنس بعض الإقبال عليها والمساعدة في نشرها، فمات قبل إتمام طبعها، وطوي الجزء الثالث منها إلى أجل غير مسمى. ومثلها كتاب تنوير الأذهان في علم الحيوان لزميله الدكتور بشارة زلزل الذي مات قبل أن يتم بعض كراريس منه. ولو كان طبعه منذ أعوام لأنجزه بحياته، واستفدنا من أوضاعه العلمية وفي هذين الكتابين غنى للغة.
ومما أذكره من هذا القبيل أنني وضعت منذ عشر سنوات ونيف كتاباً في تاريخ آداب اللغة العربية سميته الطرف الأدبية وأنفقت وقتاً طويلاً لجمعه من تضاعيف أسفار إفرنجية وعربية، وهو إلى الآن مطوي أمره وربما بقي هكذا إلى يوم النشور.
7 - المجامع العلمية - عرفت هذه الاجتماعات باسم الأكاديميات نسبة إلى أكاديميوس أول من انتبه إلى البحث في الاجتماعات. وأول من أسس مجمعاً علمياً أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد. وعقد العرب سوق عكاظ ومربد البصرة لهذه الغاية. وعرفت الأكاديميات في أوروبا في النصف الأول من القرن السابع عشر بعناية الكردينال ريشيليو،
وزير لويس الثالث عشر ملك فرنسا. ومن اللجان العربية اللجنة العلمية(1/380)
المصرية أسسها نابليون سنة 1798 ولن تزال إلى عهدنا. وأنشأ الأمريكان في بيروت مع بضع المواطنين الجمعية السورية سنة 1847 م فبقيت بضع سنوات وعطلت. وبعد سنة 1880 أعيدت باسم المجمع العلمي الشرقي وعطلت أيضاً. ثم أنشئت الدائرة العلمية في مدرسة الحكمة المارونية وعطلت. وسنة 1893 أنشأ المصريون مجمعاً لغوياً علمياً للبحث في الأوضاع العربية فقرروا فيه بعض ألفاظ وتعطل. وإلى الآن لم يقم مجتمع علمي يسعى في الأوضاع والتعريب وحاجات اللغة. ولعل أدباءنا يسعون اليوم بسد هذه الثلمة إذا اجتمعت كلمتهم وتوحدت مبادئهم وانتخبوا أعضاءه من كل ملة ومشرب وموطن وإلا فلا مجتمع عربي يذكره التاريخ في آدابنا العربية.
8 - المكاتب - المكاتب قديمة في العالم كثيرة النفع للغات. وقد اعتنى العرب بتأسيس كثير منها في أيام نهضتهم، كمكتبة قرطبة، ومكاتب بغداد ودمشق والقاهرة، ويذكر المؤرخون أنه كان في صدر القرن الخامس للهجرة نحو سبعين مكتبة في الأندلس. ولقد أعدمت النكبات مكاتبنا، وما بقي من نفائس المؤلفات حمله الإفرنج إلى بلادهم فأغنوا مكاتبهم بآثارنا. ولولا وجود المكتبة الخديوية بمصر وبعض مكاتب الأستانة ودمشق وفاس وبغداد وحلب وبيروت وطور سيناء، لكانت المكاتب عندنا أثراً بلا عين. على أننا في حاجةٍ شديدة إلى إنشاء مكتبة عامة في إحدى مدننا الكبرى تضم شتات المؤلفات الشرقية بقية الدارجين من قومنا، فنستنسخها من مظانها ونجمع شملها، فنحفظ كثيراً(1/381)
من الكتب التي لا توجد إلا نسخة منها في إحدى المكاتب فإذا نكبت خسر العمل خسارة كبيرة. ويجب تنظيم جمعية لطبع الكتب النفيسة والتدقيق بمعارضة نسخها ومقابلتها كما فعلت شركة طبع الكتب المصرية في طبع المخصص لابن سيده في 17 مجلداً وفتوح البلدان للبلاذري وغيرهما.
هذه السلم المثمنة الدرجات التي يمكن أن نصعد عليها إلى قمة مجد اللغة وفي اعتقادنا أن المرتقي عليها لا يجب أن يترك درجة إلا ويمر بها، لأن الطفرة محال. والله يتولى من أمورنا السداد، ويفتح لنا أبواب النجاح خدمة للغة التي تفتخر بأننا ننطق بضادها، بمنه وكرمه.
لبنان
عيسى إسكندر المعلوف
الحرية
زرت صاحباً لي منذ أيام، فألفيت لديه بلبلاً سجيناً في قفص، يغرد نشيداً محزناً كأنه من قلب مزقه ألم الفراق، ويضرب أسلاك سجنه بجناحيه آملاً أن يرى له مخرجاً من ذلك المضيق. ولم يزل يغرد شاكياً ويصيح باكياً، ويتنقل في قفصه بسأم، ويضرب الأسلاك بألم، حتى أخذ منه التعب مأخذه فأنساه طريف التعب تليد الأسر.
وقد زرت صاحبي هذا اليوم. فوجدت القفص خالياً من الفريد. فسألته عنه، فأنبأني أنه قد انتحر.(1/382)
تذكرت هذه الحادثة حينما أمسكت بيدي القلم للكتابة في الحرية. فما تمالكت عن ذكرها عبرة للذين يصبرون على الضيم، ويرضون بالاستعباد، وقد خلقهم الله أحراراً.
ذلك البلبل تعود أن ينتقل من غصن إلى غصن، ويطير من فنن إلى فنن يغرد أينما شاء، وحيثما أراد. فلما انتقل من هذا الجو الفسيح الذي لا يستنشق فيه سوى نسيم الحرية البليل، وهوائها العليل، إلى ذلك القفص الذي يضيق به، بذل جهده في أن يتخلص منه. فلم يمكنه. وعز عليه أن يعيش سجيناً فانتحر. ويا ما أبلغ قول مصطفى كامل لا معنى للحياة مع اليأس ولا معنى لليأس مع الحياة.
إن هذا درس مفيد للإنسان. إذ هو أحرى بأن يتمثل بقول عنترة العبسي:
لا تسقني كأس الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
إن الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أحسن منزل
عند ذلك تذكرت قول أحد الأدباء لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من السلاسل والقيود لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص وكان خيراً له من حياة لا يرى فيها شعاعاً من أشعة الحرية ولا تهب عليه نسمة من نسماتها.
فالحرية هي معنى الحياة. ودليل الرقي، وعنوان المجد، ودعامة السعادة. ورائد الآمال. وروح الاستقلال.
الحرية هي سر الوجود، سر القوة سر الثبات في العمل، سر نجاح الأمم، سر تقدم الشعوب، سر نظام الحكومات.(1/383)
الحرية كما قال حافظ إبراهيم هي معنى الوجود، ففي فقدها سجن النفوس، وعقال العقول
وقيد الأفكار.
الحرية كما قال المنفلوطي: هي شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم وآخرها بظلمة القبر. هي الحياة ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة التماثيل المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.
الحرية كما قال مصطفى كامل: هي بنت الحقيقة، وما انتشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها. هي نو ساطع إذا انتشر اختفى الظلم وانتش العدل.
هذه هي الحرية. لا مثلما يتوهمها البعض من أنها لا تكون إلا مع الغنى والجاه. ولو انقشعت سحابة الجهل عن عيون هؤلاء الأغبياء، ورفع حجاب الوهم عن أبصارهم وبصائرهم لتمثلوا بقول الشاعر:
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً ... وإذا مت لست أعدم قبراً
همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا
وعدو الحرية الوحيد هو الجبن، لأنه يفقد الإنسان قيمته في نظر الناس، ويمحو ثقته في نفسه، ويجعله يحتمل أثقال الأسر بلا تأفف أو نزوع إلى التخلص من قيوده.
بلى هو الذي يسدل على الأنظار ستاراً فلا ترى من خلاله تمثال الحرية ويضرب على الأسماع، فلا تصغي إلى نداء الداعين إليها.
الجبن كما قال فيلسوف الشرق الشيخ محمد عبده هو الذي أوهى(1/384)
دعائم الممالك فهدم بناءها، وقطع روابط الأمم فحل نظامها. هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين. وبطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين يسهل على النفوس احتمال المذلة ويخفف عليها المسكنة ويهون حمل نير العبودية.
فلابد لطالب الحرية من خلع رداء الجبن كما قال ابن قلاقس:
ظهر ذات الحجول إن طلب المج ... د وإلا فبطن ذات الحجال
عز سفح به الأسود ودلت ... قنة ما بها سوى الأوعال
فيجب أن يكون منا ذلك الأسد الرئبال الذي يزود عن حوضه، لا ذلك الوعل الذي يقع فريسة في يد أول صياد.
ولا نصبح أمام الأمم آساداً، إلا إذا كنا أحراراً.
اتبره (السودان)
عز الدين صالح
مصطلحات علم الحيوان
عني كثير من الكتاب والأدباء في هذا العصر بتعريف كتب الإفرنج، لما وصله إليه هؤلاء من العلوم والفنون والاختراعات والاكتشافات، حتى دانت لهم الطبيعة وعناصرها على اختلاف أنواعها، بينما بقينا نحن متأخرين عنهم بمراحل لا تقاس، لاهين بأمور ليست من العلم بشيء. فوجب علينا الآن أن ندركهم ونستدرك ما فات منا، سائرين سيراً حثيثاً بل طائرين طيراناً، وأن لا نبقى ناكصين على أعقابنا في الميدان الذي جرى فيه أجدادنا في سابق العهد لئلا يسبقنا الأقوام في كل يوم(1/385)
ونحن نتأخر عنهم كل يوم. ومن ثم تحتم علينا أن نأخذ عنهم العلم إلى حيثما أوصلوه كما أخذوه عنا إلى حيثما كنا قد أوصلناه.
ومن جملة العلوم التي نأخذها اليوم عنهم علم الحيوان. فقد أوصلوه اليوم إلى درجة لا غنى لنا عنها. لكن لما أخذ كتابنا بتعريب كتبهم، تصرفوا بها كأن أجدادنا لم يعنوا بهذا العلم أبداً، ولهذا نقلوا عنهم ألفاظاً اصطلاحية بألفاظها الفرنجية كأن من سبقنا لم يضع لها ما يراد منها في العربية. ومن ثم وجب العمل على إعادتها بدون أن تقبل أبداً إدخال الغريب الأعجمي في لغتنا، كما انه يجب علينا أن نأخذ عن الأقدمين الألفاظ الاصطلاحية التي وضعوها في هذا المعنى، وان لا نصطلح شيئاً جديداً هو دونه في التأدية والمراد. ولهذا أحببنا أن نورد شيئاً في هذا الباب ليكون بمنزلة المثال يقاس عليه. من ذلك:
إن المحدثين سموا الطيور التي تتردد إلى المياه بالطيور المائية وهي من الإفرنجية وسماها الأقدمون من الناطقين بالضاد: بنات الماء والمفرد ابن الماء، قال في المرصع: ابن الماء. . . يطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير
وسموا الطيور الطويلة الساق التي تخوض في الماء الضحضاح الطيور الشاطئية أو الخوائض أو الساحلية أو الطويلة الساق وهي بالفرنسوية وسماها الأقدمون الشاهمزك او الشاهمرج والجمع شاهمر كات أو شاهمر جات وقد وردت مراراً قي كتبهم من ذلك في المخصص لابن سيدة قال: وطير الماء أكثر من مائتي لون زعموا. والعرب لا تعرف(1/386)
أكثرها. قال صاحب العين: وأسماؤها عندنا بالنبطية لأنها في البطائح في بلاد النبط. والشاهمرجات أيضاً ضروب ألوان. آه. والكلمة فارسية مركبة من شاه أي ملك أو كبير أو طويل ومرغ أي طائر ومعناه الطائر الطويل أو الملكي أي الطويل الساق. وقد وردت مراراً لا تحصى في كتاب الحيوان للجاحظ.
وسموا الطيور التي تشبه البط والوز والتم الكفية اليد معربين بذلك كلمة والعرب سموها السوابح.
وسموا الطيور التي تقتات الحبوب أي أكلة الحبوب وسماها العرب بهائم الطير قال الجاحظ: والبهيمة (من الطير) ما أكلت الحب خالصاً (كتاب الحيوان 1: 15).
وسموا الطيور التي تقتات الحب واللحم معاً آكلات الكل ويقابلها بالفرنسية وسمتها العرب المشترِك قال الجاحظ (1: 15): المشترك عندهم كالعصفور فإنه ليس بذي مخلب معقف ولا منسر وهو يلقط الحب وهو مع هذا يصيد النحل إذا طار ويصيد الجراد ويأكل اللحم ولا يزق فراخه كما تزق الحمام بل يلقهما كما تلقم السباع من الطير فراخها، وأشباه العصافير من المشترك كثيراً. اه
وسموا الطيور التي تقتات اللحم أكلة اللحم أي وسماها العرب سباع الطير قال الجاحظ (1: 15): والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصاً. اه.
وسموا الطيور التي يصطاد بها طير الصيد وهي من الإفرنجية(1/387)
وسماها العرب العتاق والأحرار والجوارح (عن الجاحظ 1: 14).
وسموا ما يطير من الحشرات حشرات طائرة ويريدون بذلك اللفظ الإفرنجي وسماها العرب الهمج قال الجاحظ (1: 14): الهمج ليس من الطير ولكنه مما يطير والهمج فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. اه.
وسموا الحيوانات التي تقتات الروث والرجيع والأوساخ أكلة الرجيع وهم يعربون لفظة وسماها العرب الجلالات وقد ذكرها الجاحظ في عدة مواطن من كتابه.
هذا كله من قبيل الاصطلاحات العامة ونحن لم نذكر إلا برضاً من عد. وأما من جهة الألفاظ الخاصة بأسماء الحيوان والطير فإن المحدثين قد ذهبوا فيها مذاهب. فمنها ما أخطأوا في تعربيها كقولهم في بجع والأصح هو اللقلق. والبجع ونحن أول ما نبه العلماء على هذا الوهم الفظيع في مجلة الصفاء وكقولهم في عقاب وفي نسر والأصح أن يعكس الوضع، أي أن يقال في نسر وفي عقاب. وكذلك كنا نحن أول من نبه على هذا الغلط في مجلة بيروتية ومثل هذا الوهم كثير قد وقع لبعضهم وقد نبهنا عليه في المجلات ومنه ما هو باقٍ في كتبهم يحتاج إلى تنبيه.
ومن أسماء الطير والحيوان ما وضع له المحدثون ألفاظاً جديدة لا عهد للعرب بها، مع أن الغرب عرفوا تلك الطيور أو تلك الحيوانات بأسماء أخرى(1/388)
شائعة في كتبهم. كتسميتهم للمكاء وهو بالفرنسية باسم ماص المعز مع أن العرب عفوه بأسماء متعددة منها المكاء والخرج وخاطف الرياح. - ومن هذا القبيل تسمية المحدثين للحيوان المعروف عند الإفرنج باسم لنكس كأن العرب لم يعرفوا هذا الحيوان. والحال أنهم عرفوه باسم وشق ولنا كلام طويل في هذا البحث أي بخصوص كون هذه الكلمة تعني اللفظة الإفرنجية
هذا ونحن نقف عند هذا الحد لأن الموضوع واسع الأكناف رحب الساحة، وقد اكتفينا بالإشارة تنبيهاً للغافل وتذكيراً للعاقل إذ قد قيل: وذكر فإن الذكرى تنفع كما قد قيل: واسمع غير مسمع.
بغداد
ساتسنا
في رياض الشعر
بكاء صديق
فقدت مصر في هذا الصيف قاضياً من خير قضاتها بوفاة المرحوم إسماعيل بك ماهر القاضي في المحكمة المختلطة بالإسكندرية. فبكاه سعادة إسماعيل صبري باشا بأبيات رقيقة - وكان رفيقه في المدرسة وعشير صباه - قال:
أناعي ما هر لم تدر ماذا ... أثرت من الشجون الكامنات
نعيت إلي أياماً تقضت ... بإسماعيل غراً صافيات
ألا من للضعيف إذا تقاضى ... ولم ير شخصه بين القضاة
ومن للعدل إن رفعت بناة ... دعائمه ولم يك في البناة(1/389)
أماهر أن وعد الله حق ... وما جزعي عليك من التقاة
فما لي والأناة ملاك نفسي ... هلعت ولم تجملني أناتي
وما لي إن أمرت ببعض صبرٍ ... رأيت الصبر إحدى المعجزات
أماهر كنت فيما مر أنسي ... فمن لي في الليالي الباقيات
وكنت إذا شكوت تبيت وجداً ... تردد ما يريبك من شكاتي
وتسأل ساري النسمات عني ... حنواً والبروق الوامضات
ومن يفقد شبيهك يبك دنيا ... تولت بالمودة والمقات
كذبتك لو صدقتك بعض ودي ... لهد جوانبي صوت النعاة
ولاستقت حيال النعش عيني ... وراءك راحلاً همم البكاة
برغمي أن تقلص منك ظل ... وقاني حقبة لفح الحياة
وأن نضبت خلال كنت منها ... أعب لديك في عذب فرات
وأن صفرت يميني من ودادٍ ... غنيت به ليالي خاليات
أخي ما حيلتي إلا سلام ... يزورك في المساء وفي الغداة
وإلا الدمع أنثره عقيقاً ... على ذكرى حلاك الغائبات
قضيت فكنت أسرعنا مسيراً ... إلى غرف الحنان العاليات
شكوى الميتم
عاد سمو أمير مصر من الأستانة، فرحب به شعراؤنا بقصائد جميلة حلوا بها جيد الصحف. وجادت قريحة نابغة مصر بيتيمة من شعره المعروف، افتتحها بأبيات غزلية، وهي:
كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم(1/390)
ما أنت في دنياك أول عاشقٍ ... راميه لا يحنو ولا يترحم
أهرمتني يا ليل في شرخ الصبا ... كم فيك ساعات تشيب وتهرم
لا أنت تقصر لي ولا أنا مقصر ... أتعبتني وتعبت هل من يحكم
لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم
* * *
قالت من الشاكي - تسائل سربها ... عني - ومن هذا الذي يتظلم
فأجبنها وعجبن كيف تجاهلت ... هو ذلك المتوجع المتألم
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تقحم
أسلمت نفسي للهوى وأظنها ... مما يجشمها الهوى لا تسلم
وأتيت يحدو بي الرجاء ومن أتى ... متحرماً بفنائكم لا يحرم
أشكو لذات الخال ما صنعت بنا ... تلك العيون وما جناه المعصم
لا السهم يرفق بالجريح ولا الهوى ... يبقي عليه ولا الصبابة ترحم
لو تنظرين إليه في جوف الدجى ... متململاً من هول ما يتجشم
يمشي إلى كنف الفراش محاذراً ... وجلاً يؤخر رجله ويقدم
يرمي الفراش بناظريه وينثني ... جزعاً ويقدم بعد ذاك ويحجم
فكأنه واليأس ينسف نفسه ... للقتل فوق فراشه يتقدم
رشقت به في كل جنب مدية ... وأنساب فيه بكل ركن أرقم
فكأنه في هوله وسعيره ... واد قد أطلعت عليه جهنم
هذا وحقك بعض ما كابدته ... من ناظريك وما كتمتك أعظم
قالت أهذا أنت ويحك فاتئد ... حتى م تنجد في الغرام وتتهم(1/391)
كم نفثةٍ لك تستثير بها الهوى ... هاروت في أثنائها يتكلم
إنا سمعنا عنك ما قد رابنا ... وأطال فيك وفي هواك اللوم
فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصد ... فيما تزين للحسان وتوهم
أصغت إلى قول الوشاة فأسرفت ... في هجرها وجنت علي وأجرموا
حتى إذا يئس الطبيب وجاءها ... أني تلفت تندمت وتندموا
وأتت تعود مريضها لا بل أتت ... مني تشيع راحلاً لو تعلم
حافظ إبراهيم
على ضريح فتاة
يا تراب الحبيب فيك فتاة ... كل أرواحنا تحن إليها
هي كانت عليك ألطف ظل ... أيها الترب لا تثقل عليها
إسكندر العازار
على ضريح فتى
شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت فكان الخسوف ... لباس الحداد على فقده
لأحد شعراء العرب(1/392)
سقوط عرش
جلس الملك الفتى على عرش صبغ أرجوانه بالدماء، وتكلل بتاج غاصت جواهره بالدموع. ولا سند له ولا عضد سوى حنان والدة يحوم فؤادها حوله، كما تحوم الدجاجة حول فراخها وقد هددها العقاب الكاسر. ولكن أتى لحنان الأم - مع كل ما فيه من القوة - أن يسند تاجاً هاوياً، أو يدعم عرشاً متداعياً، وقد تحول نحوهما تيار الشعب الجارف.(1/393)
ثقل التاج على هامة الملك الضعيف فأحناها، وتدحرج بين يديه فكاد يكون لهما قيداً. وثقل الملك على العرش الذي نخرته الدسائس والمكايد فهبط به هبوطاً كاد يودي بحياته.
سقط الملك مانويل الثاني وسقطت معه أسرة براغنس التي ملكت في البرتغال منذ سنة 1640 وقامت الجمهورية على أطلال الملكية. كما أن هذه كانت قد بنت صرحها على خرائب ما تقدمها من الحكومات. فإن الفينيقيين هم أول من استعمر تلك البلاد المعروفة في القدم باسم لوزيتانيا نسبة إلى اللوزيتاني الذي كان يسكنها، ثم دالت دولة أبناء فينيقيا وقامت دولة القرطجنيين فظلوا أسياد البلاد حتى برز النسر الروماني فظل فيها نافذ الأمر سبعة قرون اثنين منها قبل المسيح، وخمسة بعده، ولما لفظت الإمبراطورية الرومانية الغربية نفسها الأخير، تقاسمت الشعوب ميراثها العظيم، فكانت البرتغال من نصيب الغوطيين، حتى نازعهم الإرث طارق بن زياد وأقام في البلاد دولة عربية زهت على عهدها المعارف والفنون والصنائع. . . ثم انجلى العرب عن تلك الربوع وظلت البرتغال في حروب مع جارتها إسبانيا حتى ثبت استقلالها في أواسط القرن السابع عشر، وعظمت ثروتها، وقويت شوكتها، بعد أن راد أبناؤها البحار واكتشفوا بلاداً جديدة في أفريقيا وأمريكا.
هذا هو ماضي البلاد التي ودع مانويل عرشها على غير ملتقى، وطلق تاجها على غير رضى. على أنه لم يأت ما يجوز معه الاستشهاد بقول من قال:(1/394)
أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه
فإنه ذاق حنظلاً عصره غيره، وجنى شوكاً زرعه سواه. أجلسته الحوادث على عرش مضرج بدم أبيه وأخيه، ووضعت على رأسه تاجاً لم يكن ليحلم به وها أن نفس هذه الحوادث قد أخرجته من وطنه طريداً وأقصته عن بلده شريداً.
كان مانويل على عهد أبيه كارلوس الأول لا يكترث للملك وسياسة الناس بل كان مولعاً
بالفنون الجميلة لأن ولاية العهد كانت لشقيقه لويس فيليب ده براغنس، ويروى عنه قوله عندما أنعم الملك إدوارد على أخيه بوسام ربطة الساق: إن أخي فرح مسرور بهذا الشرف الذي حازه ويحق له ذلك لأن له مطامع سياسية أما أنا ففرحي الكبير سيكون يوم أتمكن من إدارة جوقة موسيقية. وقد حمله ولعه بالفنون على زيارة البلاد القديمة فجاء اليونان ومصر وفلسطين. وبينما هو في مثل هذه الأحلام الجميلة باغتته ثورة فبراير (شباط) 1908 فأودت بحياة أبيه وأخيه وأجلسته على العرش. فحاول أن يسد الثلم التي أحدثها أسلافه. ولكن هيهات لابن عشرين أن يرمم أطلال مملكة بالية ويوقف معاول الزمان التي تدكها، وقنابل الأيام التي تنسفها.
لما ضعفت شوكة العرب في الأندلس، تغلب الإفرنج على أحد ملوكها ففر هارباً، وقبل مغادرته بلاده نظر إلى قاعدة ملكه وبكى. وكانت أمه معه فقالت: ابك بكاء النساء على ملك لم تعرف أن تدافع عنه دفاع الرجال.(1/395)
فهل قدرت الملكة آمليا أن تقول مثل هذا القول لولدها مانويل عندما ودع بلاده باكياً.
أرملة كارلوس الأول ملك البرتغال المتوفي ووالدة الملك مانويل الثاني, وهي بنت الكونت ده باريس وشقيقة الدوق دورليان, ولدت في 28 سبتمبر سنة 1865 وتزوجت في 22 مايو سنة 1886, فولد لها ولدان لويس فيليب الذي قتل مع أبيه في غرة فبراير سنة 1908, والملك مانويل الذي هرب معها الآن إلى إنكلترا(1/396)
في حدائق العرب
الأندلس
إن الحوادث الجارية في إسبانيا، والثورة التي قامت في البرتغال فقلبت الملكية وأحلت محلها الجمهورية، لفتت الأبصار إلى تلك الأنحاء فأحببنا أن نخصص هذا الباب من المجلة بتلك البلاد وهي معروفة عند العرب بالأندلس، وقد سادوا فيها مدة طويلة وذكرها يملأ كتبهم.
قال أبو عبيد البكري في وصفها:
الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وزكائها، أهوازية في عظم جبالها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سهولها.
وقال أحد الشعراء:
يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأشجار وأنهار
ما جنة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تختشوا أن تروا من بعدها سقراً ... فليس تدخل بعد الجنة النار
وقد فتح العرب الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى بن نصير وكان ذلك سنة 711م.
وإلى طارق ينسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح في قبلة الجزيرة الخضراء. . . واحتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنين وتسعين في 12 ألفاً. . . وخرج من(1/397)
الجبل واقتحم بسيط البلد شاناً للغارة، وأصاب عجوزاً من الجزيرة فقالت له في بعض قولها أنه كان لها زوج عالم بالحدثان، فكان يحدثهم عن أمير سيدخل إلى بلدهم هذا، فيغلب عليه. ويصف من نعته أنه ضخم الهامة - وأنت كذلك - ومنها أن في كتفه شامة عليها شعر، فإن كانت فيك فأنت هو. . . فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت، فاستبشر بذلك ومن معه. . .
وقد دونت العرب في كتبها الخطبة التي ألقاها طارق بن زياد لما بلغه دنو ردوريغ - أو لذريق كما يسميه العرب - وهي من أبلغ ما خطب به قائد أمام جنوده، قال وكان على ما يروى قد أحرق المراكب التي أقلت عساكره لئلا تحدثهم النفس بالعودة إلى الأوطان:
أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه. وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ول تنجزوا لكم أمراً، ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطاغية. فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص(1/398)
متاع فيها النفوس. ابدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي عما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. . . وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان. . . والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. . . واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله. . . فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عظيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله. . .
وظلت الأندلس تحت سيادة العرب ثمانية قرون (711 إلى 1492) فتغلب عليهم الملك فردينان. ولما خرجت الأندلس من يد العرب قال أبو البقاء صالح بن شريف الرندي قصيدته المشهورة، منها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية ... وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ... ونهرها العذب فياض وملآن
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ... وما لها مع طول الدهر نسيان(1/399)
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ... كأنها في مجال السبق عقبان
وراتعين وراء البحر في دعة ... لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ عن أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبان
رئيس الجمهورية البرتغالية
كان من أساتذة الفلسفة وعلم الإجتماع, وله في هذه المواضيع تآليف كثيرة وهو الآن في الثامنة والستين من عمره. ومن أعز أماني براغا ضم إسبانيا والبرتغال تحت راية الجمهورية(1/400)
أملي
في هزيع ليل من ليالي الخريف وقد نبا بي مضجعي، تحاملت متماسكاً متمالكاً إلى نافذة من مخدعي، أرسل صعداء أحرجت صدري، وأعالج نجية هم أسهرتني. وكانت الليلة قمراء والهواء بليلاً بطيء الإسراء، والسكوت سائداً مالئ العمار والخلاء، لا داب يمرح ولا طائر يسيح، وقد هجع الناس آمنين في أسرابهم، ونام الخليون ملء أجفانهم، فلا يسمع غير حفيف الأشجار، ووقع الأوراق تتساقط من على الأغصان تساقط دمع حزين جازع أو عاشق ضارع تساقطاً له رجع لطيف عذب شجي اضطرب له الوجدان فتحركت الأشجان، كأنما يد الحنان طرقت أبواب الفؤاد، أو أن أنامل الصبابة تمشت على أوتار الجنان. فشعرت من نفسي استئناساً بتلك الوحشة، وارتياحاً إلى تلك العزلة، كأن بينهما حديثاً يتساقطانه أو نجوى يستسرانها ولكنها نجوى ليست من لغة يراع أو إنشاد شاد، إنما هي ذات لغة طلية عذبة حلوة لا تدركها غير مشاعري ولا يفهمها سوى فؤادي.
فلبثت أنتقل ببصري إلى ما حوت الأرض من كائنات مرئية، والسماء من أجرام فلكية ولكل منها مع النفس نجوى تطربها، وسمر لطيف يشجيها. حتى قضى بي التجوال إلى البدر، وقد برز من خبائه بعد طول الصبر. وأقبل سابحاً في فضاء السماء، جائلاً بين بدائع الأفلاك بعزة وخيلاء تحيط به النجوم احتراماً وإجلالاً، وتتمشى الكواكب بخدمته(1/401)
إدباراً وإقبالاً، متدججاً بسلاح نوره يروش سهام أشعته، ممزقاً بها حجاب الظلام مظهراً ما خفي وراءه من سهول وأعلام.
رويدك يا شبه الحبيبة فالجوى ... أضاع رشادي إذ رأيتك سارياً
رويدك قد حركت ساكن لوعتي ... وأرسلت دمعاً فوق خدي جارياً
رويدك في تعجيل طلعتك التي ... جعلت فداها الروح مني وماليا
رويدك دعني أملأ العين من بها ... سناك لعلي لا أذم اللياليا
نظرت إليه نظراً ملياً وتصفحته تصفحاً جلياً كأنه أدنى عائنة إلى ناظري، وأقرب الكائنات لمساً من يدي، فالفيت شأنه شأني وقد ألفت نظره أمري فتلاقت العيون بالعيون وراحت الأحداق هائمة في الأحداق تخترق أهداب الجفون. . . حتى أسفر وجهه الصبيح عن ابتسامة خفق لها الفؤاد منبسط الجوارح، ونزعت إليها الروح من بني الجوانح.
مضى حين وأنا منصت إليه وهو منصت إلي؛ أستمع لنجواه ويستمع لنجواي وإذا بغيمة
سوداء هاجمته وهو في غفلة عنها، وحالت بين وبينه مكتنفة إياه بجناحيها، فكئبت لذلك كآبة من أصيب بفراق نسيبه أو فجع بفقد حبيبه، ولا نسب بيننا غير ائتلاف العواطف ولا حب سوى أن بهاءه أشبه بهاء من أنا شاغف، وإن لم تكن عواطفه على شيء من السحر، أو أن بهاءه من بهاء بدري. فتطلعت إليه أتشوقه في مجراه، وأتبين بعد الاختفاء ما اعتراه، فلمحته حيران هائجاً، وهو مع الغيمة في عراك، ومنها في أحبولة وشراك، وكان ذلك الشراك على صدري الحرج نسيجاً من خيوط الأوهام، أو ستراً لبسته فتخرمته نصال السهام.(1/402)
لبثت طويلاً متصبراً، وربما كان لبوثي قصيراً وأنا لم أدر، حتى تلعلعت السماط وبان البدر وهو بعدوته يزري، ونظر إلي فألفاني كما عهدي مشوقاً متشوفاً إليه، ورأيته كما عرفته يتألق ضوء البشر من بين عارضيه.
عاد البدر إلى ما كان عليه وعدت. وسار في سمره وسرت.
وإني لأرتشف خمر السرور صراحاً من يد ذلك الموقف، وقد أطلقت للعواطف والشعور سراحاً، إذ بغيمة أشد من الأولى حقداً وأعظم منها سواداً دنت منه تناصبه العداء وتكلفه الجلاد.
هذا ومازالت جيوش الغيوم تارةً تتشتت تحت سهامه فتنخزل أمامه أو تجانبه، وطوراً تتألب عليه ثائرة متضامنة تواثبه، وهو يتنفس جيناً فيظهر للعيان في مظهر التعب الخاثر ثم ينساب في العجاج متوارياً وراء الغبار المتطاير وكلما ظن أنه ناجٍ أدركته غيمة رجعت به إلى الميدان قسراً فيعود إلى المدافعة عن نفسه مكرهاً مضطراً.
هكذا شاء القدر أن أتجرع الكأس بعد أن ترشفتها، وأكره النفس على الصبر بعد أن أطعمتها، حتى كان عبس الليل وقد غاب البدر تحت غيوم انحدرت عليه انحدار السيل، فلم ير غير فضاء داج ظلامه، وعمار موحشة أعلامه، انكفأت إلى مضجعي حزيناً كئيباً اسمع زفزفة الأوراق تتساقط من على الأشجار فكان لها هزة في النفس ورجفة في الفؤاد أطبقت عيني تحت ثقل اليأس وستر الانكسار. . .
أملي هو البدر والغيوم هي كوارث الدهر وظلمة الليل هي ظلمة القب. . .
لا لا أملي يا ناس!
فيليب مخلوف(1/403)
في جنائن الغرب
بمناسبة الثورة البرتغالية حصصنا باب حدائق العرب بشيء عن عهد الدولة العربية في تلك البلاد، وأحببنا الآن أن نطلع القراء في هذا الباب عن شيء من آداب البرتغاليين:
أشهر أدباء البرتغال على الإطلاق هو لويس ده كاموانس عاش في القرن السادس عشر. وقد وضعه كتابه لوزيادة في مصاف كبار شعراء العالم. وهو نشيد من نوع الياذة هوميروس، موضوعه رحلات البرتغاليين واكتشافاتهم في العالم الجديد، وبطل هذه المنظومة البديعة فاسكو ده غاما الذي اكتشف طريقاً جديدة إلى الهند وهي طريق رأس العواصف الذي أطلق عليه فيما بعد اسم رأس الرجاء الصالح
أما فيلسوفهم الكبير فو باروخ سبينوزا.
ولد سنة 1632 في أمستردام (هولندا) من عائلة برتغالية إسرائيلية. وله في الفلسفة تآليف عديدة. لا يمكن التسليم بكل ما فيها من الآراء. وقد اقتطفنا لقراء الزهور فصلاً كتب فيه عن العواصف والأهواء وهذا ملخصه:
العواصف والأهواء
كل التقلبات التي تطرأ على النفس ترجع إلى اثنين: الانتقال إلى كمال اكبر أو الانتقال إلى كمال أنقص. وعواطف النفس ترجع أيضاً إلى نوعين: عواطف لذيذة وعواطف غير لذيذة. أي الفرح والحزن. وعليه فالفرح هو الشعور بالانتقال إلى كمال اكبر والحزن هو الشعور بالانتقال إلى كمال أنقص. لأنه يستحيل أن تقبل النفس بلا مقاومة فكرة انحطاطها ويستحيل أن لا تحب كيانها وأن لا تفرح بتحسن وجودها. ولما كنا نفهم(1/404)
أن الفرخ والحزن لا ينتجان عن إرادتنا بل عن تغييرات الجسد وعن تصور هذه التغييرات، وجب أن يكون الفرح علامة الكمال، والحزن علامة النقص، بل أن الفرح هو نفس الانتقال إلى كمال أكبر، والحزن هو نفس الانتقال إلى النقص، لأن العاطفة لا تفصل عن النفس بل هي النفس مكيفة بإحدى الكيفيات.
وترى النفس أحياناً تفهم، أو تظن أنها تفهم، سبب فرحها أو حزنها، وأحياناً تكتفي بالتأثر من الفرح والحزن تأثرها من شيء واقعي مع بعض الشعور بأن مصدرهما الجسد. وفي هذه الحالة يسمى الفرح سروراً إذا تناول كل مجموع الجسم، وملذة إذا تناول عضواً معيناً
في الجسم. ويسمى الحزن كآبة إذا تناول المجموع وألماً إذا تناول أحد الأعضاء.
وعندما نقرن الفرح بصورة كائن خارجي، نحاول أن نملك ونحفظ هذا الشيء المقرون بفرحنا، ونقول حينذاك إننا نحب هذا الشيء. . . فالحب إذن هو الفرح المقرون بصورة سبب خارجي، والبغض هو الحزن المقرون بصورة سبب آخر.
هذا وإن أفراحنا - كأحزاننا - مرتبطة بعضها ببعض بطرق متنوعة فإذا شعرت النفس بعاطفتين في آن واحد فلا يمكنها فيما بعد أن تشعر بواحدة دون الأخرى، وقد تكون الأشياء الأقل أهمية في نظرنا سبب فرحٍ أو حزنٍ وبالتالي موضوع رغبة. ويكفي لذلك أن تقرن هذه الأشياء في مخيلتنا بشيء كان لنا سبب فرح أو سبب حزن فمجرد تفكرنا في شيء في حالة فرحنا أو حزننا يكفي لحملنا على حب هذا الشيء(1/405)
أو على بغضه. بل يكفي أن يكون بعض الشبه بينه وبين موضوع حبنا، حتى نحب هذا الشيء، أو بعض الشبه بينه وبين موضوع بغضنا حتى نبغضه. وهكذا نحب أشياء ونبغض أشياء، دون أن نعرف لذلك من سبب مقرر فنسمي ذلك ميلاً أو نفوراً.
وقد ظهر لك كيف نعلق فرحنا أو حزننا على أشياء عديدة، فنكون أسرى الحوادث والظروف.
ونحن نشعر تجاه أشياء ماضية أو مستقبلة بنفس العواطف التي نشهر بها تجاه أشياء حاضرة، لأن صورة الشيء، ماضياً كان أو مستقبلاً، هي دائماً في حيز الحاضر عندما نفتكر بهذا الشيء. ولا نسميه ماضياً أو حاضراً إلا عندما نقرنه بفكر وزمان مضى أو سيأتي. وصورة الشيء في نفسها هي دائماً ذاتها سواء غاب هذا الشيء أو حضر. وعاطفتا الفرح والحزن عندما تقرنان بصورة شيء آت تسميان الأمل والخوف. وعندما تقرنان بصورة شيء مضى تسميان الارتياح والندم.
سبينوزا
ثمرات المطابع
فصل الصيف عادة فصل كساد في عالم المطبوعات، وجمود في قرائح الكتاب والمنشئين. على أن البريد حمل إلينا في هذين الشهرين مطبوعات جمة ومؤلفات عديدة، كنا نود أن نفيها حقها من الدرس والتقريظ، لولا كثرتها وضيق المقام. وها نحن نمر بك سريعاً أيها القارئ على أهم ما أهدي إلى هذه الإدارة من الكتب التي يكون منها لك فائدة:(1/406)
* الصحائف السود - ولي الدين يكن، كاتب بليغ وشاعر رقيق، يطير في العالم العلوي بجناحي الخيال والشعور، وينظم الابتسامات والدموع في سلك بيانه درراً أين منها الجواهر التي تزين النحور. عرف أبناء جنسه الترك مكانته من الأدب. وحلت نفثاته أحسن محل عند إخوانه العرب. حتى أحرزت شهرة بعيدة في عالم الكتابة. فلا يكاد يدبج مقالة أو يحبر قصيدة حتى تراها متناقلة في صحف سورية والعراق والمغرب وأمريكا. وقد عرفه قراء الزهور من فئة كبار الأدباء الموالين لمجلتهم. وإذا هم اليوم أقبلوا على الصحائف السود يجدون ولي الدين فيها غير الذي عرفوه منشداً مؤثراً أو متغزلاً مطرباً، وإن كان هو هو في بلاغته وتفننه في إيراد معانيه. فهو في هذه الصحائف التي وسمها بالسواد يئن بل يتألم مما يشاهد من الظلم والحيف والجهالة المخيمة على العقول، لكن في أنينه دوي التهديد، وفي شكواه رعد الوعيد، وفي ألمه قضاء على ما يتألم منه فكأنه المغلوب الغالب، والمقهور القاهر. وكأني به وقد ألبس صحائفه هذه ثوب الحداد يضحك من الأيام التي يعاركها وتعاركه. وإذا طلبنا إليه اليوم بعض صحائف بيضاء، نكون قد أعربنا عن رغبة العدد الكبير من القراء.(1/407)
* المهاجر السوري - كتاب كثير الفوائد جم المنافع يتضمن إفادات وإرشادات يهم المهاجرين أو الذين ينوون المهاجرة إلى العالم الجديد أن يطلعوا عليها. وضعه رجل خبير بهذا الموضوع وهو حضرة جميل أفندي بطرس حلوه، أحد التراجمة في إدارة المهاجرة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عرفنا المؤلف قبل اليوم شاعراً متفنناً من القصائد التي ينشرها في جريدة الهدى الشهيرة، وإذا به في هذا الكتاب ملاحظ دقيق وبحاث اجتماعي. تناول في كتابه تاريخ المهاجرة إلى أمريكا وحالة المهاجرين الأدبية والاجتماعية والتجارية والاقتصادية وشيئاً كثيراً من قوانين ونظامات تلك البلاد ودستورها وعاداتها وصناعتها وزراعتها. ومتى عرفت أن المهاجرين من العرب إلى أمريكا يعدون بمئات الألوف وأن
الذين يتأهبون للنزوح إليها أكثر من الكثير، لا يسعك إلا الثناء على واضع هذا الكتاب المفيد وعلى إدارة جريدة الهدى المعتبرة التي عهدت إليه هذه المهمة. كما انك لا تتمالك عن الإعجاب بهؤلاء المهاجرين الأذكياء الذين هاجروا إلى أرض كولومبوس، فجاروا أشد الأقوام في ميدان تنازع البقاء، فأحرزوا لهم مقاماً رفيعاً في التجارة والثروة والصحافة والأدب، ونشروا لواء اللغة العربية في تلك الأقطار النازحة، وإنا لنغتنم هذه الفرصة لإعلان فضلهم كما أننا نثني أجمل الثناء على صاحب الكتاب الذي نحن في صدده وعلى حضرة صاحب الهدى الكاتب القدير نعوم أفندي(1/408)
مكرزل. ولما كان هذا الموضوع من الأهمية في مكان عظيم رأينا أن نعود إليه في العدد القادم فنذكر بعض ما تجدر معرفته عن المهاجرين في مهجرهم.
* منطق المشرقيين - الفلسفة القديمة - تمكنت المكتبة السفلية لصاحبيها الفاضلين محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القتلان على حداثة عهدها من إبراز عدد كبير من الكتب المفيدة والأسفار النفيسة ونشرها بالطبع بأرخص الأثمان وآخر ما أتحفتنا به هذان المؤلفان الجليلان. والأول منطق المشرقيين هو من تصنيف الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا الفيلسوف الشهير مع قصيدته المزدوجة في المنطق التي وضعها باسم الرئيس أبي الحسن السهلي، وفي مقدمة الكتاب بحث في حياة ابن سينا وفلسفته مقتبس عن ابن أبي أصيبعة وابن خلكان وعن دائرة المعارف الإنكليزية. أما الكتاب الثاني وهو مبادئ الفلسفة القديمة فقد جمعت فيه رسالة ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم فلسفة أرسطو ورسالة عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة وكلاهما من تصنيف الفيلسوف أبي نصر الفارابي. ويبتدئ الكتاب بترجمة حياة المؤلف وفيها إفادات كثيرة ن نسبه وسفره إلى العراق وغيرها من بلاد الشرق، وصلته بمتى بن يونس مع شيء من آراء الأوروبيين في فلسفته. وفي الرسالة الأولى شرح مطول عن كتب أرسطو والذين ترجموها إلى العربية، وعن مذاهب(1/409)
اليونان في الفلسفة مع تراجم مشاهير فلاسفة العرب واليونان. وفي الرسالة الثانية فصول مختصرة في أهم مباحث الفلسفة، كمبحث النسبة بين واجب الوجود والموجودات، وتكوّن الكائنات، ولوازم الجسم، وتجزء المادة، والروح والجسد، والخير والشر إلخ. . . وقد بذلت المكتبة السفلية عناية كبرى في طبع هذين الكتابين على أجمل شكل وتصحيحهما وتعليق
الحواشي حتى جاء يفيدان العقل ويسران النظر.
* ديوان الخطيب - لا نغالي إذا قلنا إن هذا الديوان هو أنفس ديوان شعري أبرزته المطابع في هذا العام. فقد جمعت قصائده العصماء بين سمو المواضيع وكبر المعاني وبلاغة الديباجة. ومتى قام الشعر على هذه الدعائم فقل إنه من أجود الشعر وأشده وقعاً في النفوس. وفؤاد أفندي الخطيب عربي صميم. فهو شديد الولع بأدب العرب، فلا يترك شاردة عن كتابهم وشعرائهم إلا ويعيها، ولا مجموعة لهم مطبوعة أو مخطوطة إلا ويقتنيها. كما أنه شديد الغيرة على مجد العرب وشرفهم وآثارهم الغراء، فلا يدع متجهماً ينتقص قدرهم إلا ويحمل عليه الحملة الشعواء، ترى دليلاً على ذلك إذا راجعت في ديوانه هذا آمال وآلام وأيها العرب وصاحب إقدام إلخ فترى أنه يحق له أن يقول عن شعره:
أذود به عن حوض قومي فكلما ... بدا غرض أطلقت سهماً مسددا
على أن هذه الغيرة لا تغمض عين الخطيب عن عيوب قومه، فهو شديد التقريع والتأنيب، متوجع الفؤاد في الشكوى فاسمعه ينشد متألماً:(1/410)
لك الله من دمع تحدر صيبا ... فلم يزد الأحشاء إلا تلهبا
وما هو إلا النفس سالت من الأسى ... على أمة لم ترض إلا التحزبا
إذا زال في الدين التعصب عندها ... أناب اختلاف الجنس عنه تعصبا
وهو ينادي بالتضامن والإصلاح، بلهجة يتجسم فيها الإخلاص:
بشروني في القبر إن كنت ميتاً ... عندما ننهج السراط السويا
وقد طرق الخطيب في ديوانه الشعر القصصي في حلم الهوى والعجوز اليابانية فأجاد ما أراد، وأنشد الغزل والغرام في حسناء الشرق ولوعة والقمر وغصن الأراك واللقاء والوداع فأطرب وأبدع في الإنشاد. ولو راجعت ما قاله فيه صبري وحافظ إبراهيم وولي الدين والكاظمي وغيرهم من أعلام الأدباء، لوجدتنا دونهم في التقريظ والثناء.
* الرشيد والبرامكة - ما أجل ذلك العصر وأعظم حوادثه، وما أفخم الرجال الذين زانوه كالرشيد والمأمون ويحيى وجعفر والفضل، وما أشد نكبة البرامكة الكرام تأثيراً في النفوس. ولقد قصر كتابنا الروائيون في إهمالهم حتى اليوم مثل هذا الموضوع الجميل وإبرازهم على ملاعبنا العربية. إلى أن سد هذا النقص حضرة الفاضل المطلع الأب أنطون رباط
اليسوعي، فسكب هذه الحادثة الكبيرة في قالب رواية تمثيلية، فصادفت استحساناً كثيراً حيثما مثلت. وقد بذل حضرة المؤلف عناية عظيمة في جمع ودرس كل ما قالته العرب عن نكبة البرامكة، فطالع العشرات من(1/411)
المؤلفات في هذا الباب كما ترى، ذلك من الحواشي والأسانيد التاريخية التي يوردها. على أن غزارة المادة وإفاضة الكتاب في هذه الحادثة أخلنا في وحدة موضوع الرواية وتنسيق مشاهدها فجاء بعضها متقلقلاً لا رابط يجمعه، بل أن حذفه خير من إثباته. وهناك شيء من التعابير الدارجة على ألسنة العامة في عصرنا لا ندري كيف اندس في بعض نثرها حتى وشعرها القديم، كختام الأبيات المثبتة في مطلع الفصل الخامس مثلاً. على أن هذا لا يمنع رواية الرشيد والبرامكة من أن تكون من أكثر رواياتنا المؤلفة انطباقاً على قواعد الفن وقد استحق مؤلفها كل شكر.
* الكواكب - السر الثمين - كتابان نشرهما شاب لم يتم العقد الثاني من عمره وهو الأديب علي أفندي عنايت نجل عزتلو محمود بك عنايت باشمهندس ري مديرية الجيزة. والكتاب الأول كناية عن مجموعة روايات وفكاهات اقتطفها من مطالعاته وعربها بعبارة طلية منسجمة وأردفها بشيء من الأدبيات مما اختاره من كتاب العصر فجاءت مجموعة صغيرة كثيرة المادة. والكتاب الثاني هو تعريب رواية أدبية غرامية فكاهية عن اللغة الإنكليزية. وفي الكتابين دليل على نشاط هذا الفتى النجيب وشغفه بالأدبيات فهو جدير بكل ثناء وتنشيط.
* ولدينا أيضاً مطبوعات كثيرة منها؟ زهرة النسرين وهي من(1/412)
منظومات الأديب أمين أفندي فتح الله صباغ والجزء الثاني من الريحانيات وقد أفضنا في الكلام عنها ص 80 من الزهور والجزء الثاني من دروس التاريخ الإسلامي تأليف الشيخ محيي الدين الخياط وقد تكلمنا عن هذه الدروس أيضاً ص 225 عند صدور الجزء الأول منها. وموضوع هذا الجزء مجمل تاريخ الخلفاء الراشدين.
أزهار وأشواك
العود أحمد
السلام عليك أيها القارئ ورحمة الله. .! طال عهد الفراق بيني وبينك على غير وداع، وها نحن نلتقي اليوم على خير وسلام. ولم يجد صاحب الزهور متسعاً لأشواكي ولا مجالاً لأزهاري في عدده الكبير عن مصر وسورية فحرمني من التفكه بمحادثتك الشهرية، حتى خفت أن تنساني، وإن كنت لا أنساك. . . أنت لاشك قضيت صيفك خارج العاصمة بعيداً عن حرها وغبارها وضوضائها، فطلبت بليل الهواء في الإسكندرية، أو عيشة الخلاء في رأس البر، أو النزهة في ربوع أوروبا، أو الراحة في ربى لبنان. وإذا لم يكن قد تم لك شيء من ذلك، فأنا مشفق عليك راثٍ لحالك، وناقم معك على رئيسك وأشغالك. أما أنا(1/413)
فلما بدت طلائع الصيف حملت منجلي وأخذت حبلي وذهبت إلى حقلي للحصاد، فكان موسمي مقبلاً. ورجعت الآن مثقلاً بأحمال كثيرة سأهدي إليك منها الشيء الكثير، منتظراً منك هدية حملتها لي من مصيفك. ومهما كانت الهدية فأنا أهنئك وأهنئ نفسي بسلامة العودة، وأقول لك كما كان يقول العرب عدنا والعود أحمد.
المقيدات
لما أخذت على نفسي كتابة هذا الباب من الزهور جعلت من مواد بر وغرامي ألا أتعرض لسيداتي بنات الجنس اللطيف. احتراماً لهن وخوفاً منهن. فإن غضب السماء والأرض والإنس والجن لأهون علي من غضبهن. ويسوءني وأيم الحق أن أقدم لهن لأول مرة أحادثهن أشواكاً بدلاً من باقة أزهار. ولكن على نفسها جنت براقش وأنا لست الملوم. . . تفننت يا سيدتي في أزيائك وبرزت لنا في كل فصل بل في كل شهر في زي جديد، ففتنت وسبيت وفتكت: فمن قبعة أشبه بحديقة لما عليها من أنواع الأزهار، إلى قبعة أشبه بغابة لما عليها من الأطيار، فقلنا: ذلك لك فأنت زهرة هذه الحياة العطرة وبلبلها الغرد. . . وأغرقت في تنويع ملبوسك لوناً وشكلاً، فرضينا بكل أنواع دلالك ومظاهر جمالك. ولكن كيف نرضى لك بزيك الأخير وقد قيدت مشيتك وضيقت خطوتك حتى أطلق على تابعات زيك الغريب اسم المقيدات فأصبحن يرسفن رسف المكيل بعد ما كن يكرجن كرج الحجل.(1/414)
يمشين مشي قطا البطاح تأوداً ... قب البطون رواجح الأكفال
بل أين مشيتك الآن، وأنت أشبه بالبطة، من المشية التي قال عنها الشاعر:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل
والله يا سيدتي - وتأكدي إني أخلص لك النصح وأصدق القول - إن زيك هذا يسلبك كل ما جادت به عليك الطبيعة. فبحق فاتنات ألحاظك، حلي هذا القيد من رجلك، وكفاك ما قيدك به ظلم الرجال من القيود والأغلال. ولسان حال كل منا يقول:
لو أطلقت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة في المشي تنفطر
حب الملك وملك الحب
الحب سلطان - مطلق لا مقيد، ومستبد لا دستوري - هكذا يقول الناس وخصوصاً معشر العشاق الذين عرفوا حكمه. على أن الحزب الجمهوري في البرتغال لا يريد أن يقر بذلك للجميع. سطا هذا الملك بصورة مغنية جميلة على قلب ملكهم، فأسره وقيده بقيوده الذهبية. - وهل الملك إلا بشر؟ فأنكر الحزب هذا الاستسلام من مليك البلاد لمليك الألباب. وخسر مانويل تاجه وعرشه في سبيل غرامه. فكأن شعب البرتغال يعترف بملك الحب وينكر حب الملك. ولكن فليتعز سليل أسرة براغنس، فإن له قدوة بأحد ملوك العرب الذين جلسوا قبله منذ قرون على عرش الأندلس. فرضي أن ينال من أحب كيفما كان الأمر.
فإما بذل وهو أليق بالهوى ... وإما بعز وهو أليق بألمك(1/415)
وكان نصيب مانويل أن ينال من أحب كما يليق بالهوى ذلك السلطان المستبد. . . فأين نيازي وأنور، وأني براغا وماشادو الذين يقضون على سلطة الحب المطلقة ويعلنون الدستور في مملكة القلوب. إلا أن كل أحزابهم وجيوشهم لا تقف لحظة في وجه سهامه النافذة. ولو هم قدروا فإن رعية هذا الملك لا ترضى أن تفلت من قيوده الجميلة. وهكذا سيظل الحب الملك المطلق مهما اشتدت الأحزاب الدستورية، وانتشرت الفكرة الجمهورية.
حاصد
سلوقية غير اللاذقية
ورد في مقالة حضرة الشيخ بولس مسعد عن تدمر (ص 303) أنها كانت على أيام السلوقيين خط الاتصال بين إنطاكية وسلوقية (اللاذقية) عاصمتي مملكتهم. . . فكتب حضرة الأديب رفيق أفندي صالح إلى صاحب الهلال مشيراً إلى الخطأ في جعل المدينتين مدينة واحدة مورداً ما ذكره المرحوم والده إلياس صالح في كتابه آثار الحقب في لاذقية العرب من أن سلوقس بنى إنطاكية وسماها باسم أبيه وسلوقية باسمه وأفاميا باسم امرأته واللاذقية باسم والدته. وهذا من الأمور التاريخية المثبتة. وقد كتب إلينا صاحب مقالة تدمر يقول إن وضعه لفظة اللاذقية بين قوسين كان سهواً فهو يقصد السويدية القائمة الآن بالقرب من المكان الذي كانت فيه سلوقية. فنثني على عناية رفيق أفندي صالح بالحقائق التاريخية.(1/416)
العدد 9 - بتاريخ: 1 - 12 - 1910
هنري دونان
مؤسس جمعية الصليب الأحمر
نعت أنباء البرق في الشهر الفائت شيخاً جليلاً ورجلاً عظيماً كادت الأيام تنسج حوله عناكب النسيان، مع أنه جدير بأن يبقى حياً في القلوب والأذهان. وافاه أجله في إحدى قرى سويسرا في شيوخة صالحة بعيداً عن ضوضاء هذه الحياة بعد أن جاهد فيها جهاد الأبطال.
هنري دونان هو اسم رجل تجهله عامة الناس، مع أنه أهل لأن يكتب بماء الذهب في سجل المحسنين إلى الإنسانية. هو اسم رجل كبير النفس والقلب، سامي المرمى رفيع المبدأ. له على أبناء جنسه الأيادي البيضاء، فقد بذل في سبيلهم كل غالي ونفيس ليخفف عنهم وطأة البلاء والشقاء. كيف لا وهو مؤسس جمعية الصليب الأحمر ذات المواقف المعروفة في ساحات القتال ومساعدة المجروح على تضميد جرحه وتعزية نفسه.
ولد هنري دونان سنة 1828 في جنفا من عائلة عرفت بالوجاهة(1/417)
والثروة، ومال منذ نعومة أظفاره إلى أعمال البر والعطف على الإنسان. وكانت له يد تذكر في مقاومة الرقيق. ولم تلبث قصص الحروب والمرويات عن المعارك وأهوالها أن وجهت منه النظر إلى حالة الجرحى وما يقاسون في ميدان الكفاح. وفي سنة 1859 لما استعرت نار الحرب بين النمساويين والفرنسويين ذهب بنفسه إلى ساحات القتال ليدرس كيفية إمكان مساعدة الجرحى، وحضر معركة سولفرينو التي اشتبكت بين المتقاتلين في الرابع والعشرين من شهر يونيو (حزيران) من تلك السنة. وعند المساء أخذ يطوف ساحة الحرب. فنظر هناك عدداً كبيراً من الجرحى مخضبين بدمائهم يئنون وينوحون ويستغيثون ويستنجدون، ولكن لا مغيث ولا منجد. فأثر هذا المشهد في فؤاده أي تأثير، وخفق قلبه لهول ما رأت عيناه، وقال ما قاله غيره قوتل الإنسان ما أعظم شره. كيف قدم على الفتك بأخيه الإنسان؟ فجمع حوله بعض المتطوعين وباشر للحال مساعدة الجرحى المتروكين.
ومن ذاك الحين أخذ يدرس ويبحث ويطالع، فدخل في أعماق النفس البشرية، فوجد أن الحرب مرض الإنسانية وعلتها الكبرى. فوقف وقفة المداوي الخبير. فرأى أن هذه العلة صعبة الاستئصال، وإن شفاء هذا المرض العضال ضرب من المحال. فقال في نفسه: إذا
كان ليس في الإمكان إيجاد داء لحسم هذا الداء فلنخترع له مسكناً يخفف آلامه.
وآلى على نفسه أن يفرغ جهده ويكرس حياته في سبيل هذا المشروع العظيم، فكتب مقالة عنوانها ذكرى سولفرينو يدعو بها(1/418)
الشعوب المتمدنة إلى الاتفاق على تأليف جمعية دولية تجمع الإحسان لمساعدة الإنسان المجروح من يد الإنسان. فكان لمقالته تأثير عظيم في النفوس، ووقعت من الجميع موقع الاستحسان. ولكن صداها ما لبث أن خفت، كما أن تأثيرها ما عتم أن زال من القلوب. ففهم دونان أن مثل هذا المشروع يقتضي جداً طويً وسعياً مستمراً، فأخذ يزور العواصم الكبرى، ويخطب في المجالس والأندية حتى وضع أساساً لعمله وقاعدة لمشروعه.
وكان الوقع الأكبر لصوته، والنهضة العظمى وراء دعوته في عاصمة فرنسا حيث لاقى دونان كل مساعدة ومؤازرة. وأول من مد إليه يد المعاونة جريدة الديبا حيث أخذ الكاتب الشهير سان مارك جيراردان ينشر المقالات الشائقة في هذا الموضوع. وحذا حذوه غيره من الكتاب في سائر البلاد، فانتشرت الفكرة انتشاراً بعيداً، ولم يمض إلا القليل حتى تم تأسيس جمعية الصليب الأحمر وأصبحت مطمح أنظار الجميع. فانتظم في سلكها كل عظيم وشريف، منهم: غيزو ورنان وروايه كولار وده لسبس ومدام ستايل وغيرهم. وفي 26 أكتوبر من سنة 1863 اجتمع الأعضاء لأول مرة في مدينة جنفا، وفي السنة التي بعدها عقد في المدينة نفسها مؤتمر عام أرسلت إليه جميع الدول معتمدين يمثلونها لتقرير قانون الجمعية الدولية العامة لمؤاساة جرحى الحروب.
وعلى هذه الكيفية كان تأسيس جمعية الصليب الأحمر التي وقفت نفسها من ذلك الحين على خدمة الجرحى ومساعدتهم على اختلاف(1/419)
المذاهب والجنسيات، فخففت شيئاً من أهوال الحروب وقللت من بلاياها ونشرت راية السلام فوق نيران المدافع وبريق البواتر.
ولا تسل عن فرح دونان وغبطته عندما رأى مشروعه مكللاً بالنجاح، فعد نفسه سعيداً ورأى أن مهمته قد انتهت فاعتزل العالم وعاش منفرداً في إحدى القرى حتى كاد يصبح نسياً منسياً مع أن اسم جمعيته طبق الآفاق، وذكر مآثرها ملأ الأسماع. فلا يذكرها أحد إلا بالثناء والاحترام. وأمام شارتها المعروفة يسكت المدفع، ويغمد السيف، ويبسط ملاك الرحمة جناحيه على ضحايا البشرية.
ولكن صاحب الفضل ينال ثوابه. ففي سنة 1901 نال هنري دونان الجائزة التي وضعها العالم الأسوجي الفرد نوبل للذين يمتازون بخدمة الإنسانية إن بعلمهم أو كتاباتهم أو مشروعاتهم الخيرية. فكان له فيها مسد لحاجته.
هذا هو الرجل الذي نعاه البرق في الشهر الماضي فلم تدجج القصائد في رثائه، ولم تفض الصحف في تعداد مآثره، مع أنه في طليعة من خدموا الإنسانية جمعاء.
فأكرم بمثل هؤلاء الرجال الذين تجب كتابة أسمائهم على صفحات القلوب إقراراً بفضلهم واعترافاً بجميلهم. ولينم هنري دونان سعيداً في ضريحه فإن قلوب الألوف من الذين تؤاسيهم جمعيته يباركون اسمه ويستمطرون الغيث على ثراه.(1/420)
نفثة مصدور
الجهل أبو الشقاء والجهالة أمه
مونتاين الفرنساوي
ما خلوت إلى نفسي أناجيها، إلا وأدعم بالأصابع رأساً أثقله الغم، وألفه الهم،
ولو كان هم واحد لاحتملته ... ولكنه هم وثانٍ وثالث
وما قبضت على اليراع إلا وأحنيت على القرطاس ظهر من عجمت عوده الطوائح، فغادرته بين صبية يتضورون جوعاً، وبنيات يقضين فجوعا
فذا حظي من الدنيا ... فدعني لا تزد غما
في الغرب قوم إذا ضل أهلوه شرعوهم، وإن ظلمت حكامهم صرموهم، ينهضونه إذا قعد، ويقعدونه إذا نهض، لا خيل عندهم ولا سلاح إلا أقلام مذلقة إذا امتطوا صهواتها ومروا بها على القراطيس كان لها صرير ردد صداه المغربان، وضج لدويه المشرقان، وهي إذا غمزت الدواة، وأصابت منها المداد، حقنت دماء، وهدرت دماء، فهي جامعة الضدين، وموفقة النقيضين، هي الحرب والسلام، والخوف والأمان، واللين والقسوة، والحق والقوة، لا تخاف في الحق لومة لائم، ولا تلبس الحق بالباطل، جالت الجولة إثر الجولة، فرأيناها في كل عصر ودولة، تتمخض لتلد الحرية والاستقلال، وهما التوأمان العزيزان.
أما الآن فقد أينعت أزهارها، ونضجت أثمارها، وغدا ترابها تبراً،(1/421)
وماؤها نميراً، وأرضها تدر من طيبات الرزق لبناً وعسلاً.
ما هوغو وفولتير، وغوركي وتولستوي، ودانتي وشكسبير، ونيوتن وواشنطون، والميكادو وميلتون، إلا من نوادر القرون، وعجائب البطون، رأوا بلادهم تتراوح بين الإغماء والموات، وتتضاءل تحت أغشية الوهم والتقاليد، فبرزوا إلى ميدان التحرير وأثاروا حرباً عقدت الأقلام عجاجها، وأدارت الأفهام ثقالها، وما هي إلا لحظة حتى أجرت في مرهفات الصوارم رونقاً انعكس وميضه، وأضاء ما حوله، فالتقى السيف بالقلم، والشجاعة بالشمم، وإن هي إلا حملة من حملات الإصلاح حتى نكست أعلام الجهل وعاد أعوانه يتسكعون في ديجور الظلمات، وما دروا أنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذرا لموت فكان ما كان من ذلك الانقلاب الكبير الذي أجهز على حياة الاستبداديين، نقى الدين والسياسة من غطارفة المستبدين، وغطارسة المستأثرين، بعد أن لاقى الغرب الأمرين، إن
هؤلاء العظماء هم عقل بلادهم، وروحها، وسيفها.
أطلقوها من أسرها، وفكوا عنها قيودها، وعضدوها بعد سقوطها وأحيوها بعد مواتها، وسلكوا بها في مهيع النور والهدى.
ليس المرء بأصغريه فقط، إنما هو بأكبريه أيضاً؛ القلب واللسان، والهمة والحسام. فالأولان يتعززان بالآخرين، ولا غنى للآخرين عن الوين. وما أشد يا شرق ما يتحدث الغرب بفضل رجاله، وما أشد يا غرب ما يغمط الشرق أيادي أدبائه، هؤلاء في شرقهم يشقون، وأولئك في غربهم يسعدون.(1/422)
أي رباه! قبسة من أضوائك، ونظرة من سمائك، تشمل هذا الشرق فتدرأ عنه سوء الشبهات، وتكفيه شر النكبات، وتصد عنه زلقات فوضى الأقلام، وزلات خفاف الأحلام، أيسام سوء العذاب ويحطه الخسف من أعلى عليين، وهو مهبط الوحي، ومهد الأنبياء؟. . . أيكون مسرح الترهات وملعب الخزعبلات ومنه نشأ العلماء وفيه أول ما تغنى الشعراء؟. . . أين الرشيد والمنصور ينظران ما صارت إليه بغداد وما أنتجته لها مثقلات الليالي. إن الرازي وأبا العلاء يتألمان في مراقدهما عندما يسمعان الرصافي ينوح هتوفاً على نضارة بغداد ويحرق الأرم على مجدها الطارف، وسؤددها التالد، ولاسيما حينما يقول:
أيا سائلاً عنا ببغداد إننا ... بهائم في بغداد أعوزها النبت
علت أمة الغرب السماء وأشرفت ... علينا فظلنا ننظر القوم من تحت
ما عهدنا القوم والله يبيتون على الطوى، ويغمضون على الجوى، وهم أباة الضيم القائلون النار ولا العار، والحتف ولا الإقامة على الخسف، والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها.
أيخف أبناء الشرق اليوم إلى شرب الكأس التي شرب بها عظماء أجدادهم، فيعيدون إليه سابق اخضلاله في عهد الحضارة الأندلسية ويحيون رسماً لم يعف دارسه من قنطرة الوادي، ومكتبة الإسكندرية!. . .
نحن يا قوم أحوج إلى النهضات منا إلى التفنن في أساليب التفرق والشتات، فانهضوا نهوض الغرب، وقفوا في الربوع وقفة خبير بمواقع الخلل، وتعاونوا ولا تفرقوا فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة. . .(1/423)
في البلاد العربية نهضة شريفة ستكون مقدمة من مقدمات الإصلاح في الشرق، وخطوة
واسعة في ميدان الارتقاء، بل هي إحدى طوالع الحركة الفكرية. وسوف تلعب دوراً يخلد لها حسن الذكر على صفحات الإنسانية البيضاء. ولكن لم يشترك في هذه النهضة إلا أفراد قليلون وهناك الكثيرون ذهب الجهل الذميم بعقولهم، وختم على قلوبهم، وأضلهم عن النهج السوي، وما هم إلا ليعيثوا فساداً والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون.
. . . كأني برحالة الفرنجة إذا أم بلادنا، ورأى الخمول نافضاً غباره على أحيائنا، يقول متمثلاً بحليم مصر وهو ذاهب إلى السودان ليشغل إحدى وظائف الجيش فيه:
تيممت أرضا تدب الجهالة ... فيها دبيب الصبا في الروابي
إذا حدّث القوم فيها أديب ... يخالونه أعجمي الخطاب
أي عاقل لا يسمع هذه المجازفة - وهي الحقيقة - ولا يرثي لحالة قطر يضيق بأهليه، وينفّر زائريه؟
* * *
قيل للفيلسوف: ممن تعلمت الأدب؟ قال من قليل الأدب، وهو قول مأثور سبقنا إلى إدراكه الغرب يوم كبا فرسنا في ميدان السعي والعهد ليس ببعيد، فما أحرانا باليقظة اليوم، بعد عميق رقودنا، فنمحو إهانة لحقت بنا، ووصمة وسمنا بها، ولا غضاضة علينا إذا اعترفنا بقول(1/424)
الفيلسوف، فإن من لم تعظه نفسه كلت فيه المواعظ.
والنفس لا ترجع عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
. . . نساء القرن العشرين في الغرب يتمتعن بحقوق لم يخولها القرن العشرون لرجال الشرق. قال نابليون: إذا أردت أن تعرف رقي كل أمة فانظر إلى نسائها. فماذا عسى أن يبلغ هذا القلم من وصف حالة النساء في الشرق وقد:
حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتّكات
فيا شرقيون كفانا ما فات، وحسبنا ما تمضنا هذه النكبات، فكأين من أوانس كاتبات، وغيد شاعرات، وخود ممرضات، وأديبات مبرزات، نشأن منكن يا شرقيات!. . .
* * *
هذا يم خاضت فيه من قبل أقلام وسبحت عقول، وما أنا بالجاني علي نفسي بالخوض في
خضمه، والإحاطة بأطرافه، والأمر ظاهر للعيان غني عن البيان، فانحطاط الشرق لانحطاط بناته، وجمود فتاته، وعلى تهذيبها يتوقف ارتقاؤه، فهي داؤه ودواؤه.
وتلك نفثة مصدور لو لم يضق الخناق، وتبلغ الروح التراق لكسرت القلم قبل أن أبوح بها، والسلام.
- بيت جالا، إسكندر الخوري(1/425)
العمال في الهيئة الاجتماعية
كتبنا في صدر الجزء التاسع الماضي مقالة عن العمال والحكومات بمناسبة الاعتصابات التي توالت في أوروبا وسرت عدواها إلى مصر، وقد ألقى السر إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترا خطاباً في تأبين أحد أصحاب المصانع الكبرى بحث فيه عن مركز العمال في الهيئة الاجتماعية نقتطف منه ما يلي إتماماً للفائدة:
إن الاستياء البادية دلائله بين طبقات العمال، والذي يظهر حيناً بمظاهر الاعتصاب، وحيناً بالتذمر من النقابات وزعمائها، لا يرجع كما يتوهم البعض إلى تحرّج مركز العمال، أو سوء مصيرهم، فإن حالتهم وإن كانت لا تزال موضوعاً للتحسين، فإنها أرقى بكثير مما كانت عليه منذ خمسين سنة. وعليه فإن سبب هذا الاستياء الشرود في عالم الأحلام والآمال والمطامع التي لم يكن يحلم بها عمال الزمان الماضي.
فإنه كان من المحتم أن ينتج عن مبدأ المساواة السياسية التي سلمنا بها، مبدأ المساواة الاقتصادية. زادت رواتب العمال وتحسنت طرق تشغيلهم ولكنهم باتوا يتساءلون إذا كانت تلك الزيادة وهذا التحسن بنسبة نقص نفقات الصناعة الحديثة. ثم إن الطبقة العاملة باتت في قلق دائم من حيث استمرار العمل، لأن وقوف الأشغال مدة من السنة أصبح قاعدة مطردة في كل البلدان.
وقد ولد نشر التعليم بين الشعب عاطفة نفور في صدور فتيان العمال من حياة العامل وما فيها من شظف العيش والعناء الجزيل والنصب الدائم وهذه الأمور تدلك على أسبابا لتذمر والاستياء بين العمال بالرغم عن(1/426)
تحسن مركزهم في الهيئة الاجتماعية. وإن جماعة هذه عواطفهم واستعداداتهم يكونون في كل حين على أهبة التمرد، بسبب أو بلا سبب، تارة على رؤسائهم أصحاب العمل، وتارة على زعمائهم أنفسهم.
وعليه فيجب أن نحذر من إضعاف النقابات. وإذا تركنا الفوضى تتشرب إليها، فإننا نكون رفعنا راية اليأس وسرنا وراءها، لأن كل جماعة لا قائد لها لا يسعها إلا التخريب والتدمير.
فنحن نريد أن نرى نقابات العمال أقوى مما هي، لا أن نراها ضعيفة مضطربة كما يرغب البعض في ذلك. لأن قوتها أصبحت اليوم أكثر لزوماً من كل حين. وهي التي تجعل موازنة في المجتمع الإنساني، إذ تقف أمام قوة رأس المال التي باتت أكثر مقدرة وأقل
شفقة من الماضي.
وقد اتسعت الهوة الفاصلة بين مساهم الشركة الذي ينتظر بفروغ صبر توزيع حصص الأرباح، وبين العالم الذي يشتغل في هذه الشركة، فإن الاثنين يعيشان متباعدين وليس ما يقربهما. وهذا التباعد مضر بالطرفين. فيجب أن تعود العواطف الإنسانية صلة بين كليهما. فلا الدستور السياسي يحرر الشعب، ولا الامتيازات تساعده، ولا الأملاك تغنيه، إذا لم ترسخ في قلبه أخلاق الرجولة والثبات والاستقامة.
فلنسع إذن كلنا أغنياؤنا وفقراؤنا، أفرادنا وجماعاتنا لننشئ هيئة صناعية كبرى يمكننا أن نطالبها كلنا بحقوقنا ولكن نقوم أيضاً كلنا بواجباتنا نحوها. فتكون جمعية لا يعد العامل فيها حيواناً مأجوراً حتى ولا يداً عاملة بل عقلاً مفكراً وقلباً شاعراً.
- إدوار غراي(1/427)
في رياض الشعر
نفس مكرمة ونفس تُزدرى
غيرت عهدك في الهوى فتغيرا ... ملك الهوى قلبي وقلبك ما درى
كوني كما أنا في الغرام وفية ... لا تهجريني ما خلقت لأهجرا
أصبحت فيك من الولوع بغاية ... إن زدت حسناً لا أزيد تحيرا
بلغ المدى بي كل شيء في الهوى ... فإذا أردت زيادةً لن تقدرا
يسمو بك الحسن المدل إلى السما ... ويمت بي الجد المذل إلى الثرى
ماذا التخالف في المحبة بيننا ... نفس مكرمة ونفس تزدرى
ينفك عمري في الهوى متقدماً ... ويظل سبقي في الهوى متأخرا
وأكاد أحسب في غرامك شقوتي ... لو كان يسعد عاشق بين الورى
عندي حديث إ أردت ذكرته ... من لي بأن تصغي إلي وأذكرا
عصفت به ريح الملامة موهناً ... فجرى على وجه العذول وغيرا
لا تنكري نظرات عيني خلسة ... الله قد خلق العيون لتنظرا
وقفت عليك فما انثنت عن منظر ... فتنت به إلا لتطلب منظرا
أرسلت طيفك في المنام يزورني ... فدنا وولى وهو يعثر بالكرى
لم يبق من أثر سوى تبسامة ... خطرت على نفس الهوى فتأثرا
أتبعته أملي فأقصر دونه ... ولو استمد بلفتة ما أقصرا
لا يعذلوني في غرامك ضلة ... من هام فيك فحقه أن يعذرا
رقت حواشي الروع فيك صبابة ... ونهى النهى عنك الفؤاد فأعذرا(1/428)
قلبي يحس وهذه عيني ترى ... ما حيلتي فيما يحس وما يرى
إن تصبري عني فقلبك هكذا ... أما أنا فأخاف أن لا أصبرا
ولي الدين يكن
الحنين إلى مصر
لخير بلادي لا لنفسي اكتب ... وفي الله لا في المال والجاه أرغب
ولست مبيحاً للدنايا طويتي ... فلا ينثني عزمي ولا أتقلب
أحب بلادي والعدا يعذلونني ... وكل محب بالعواذل متعب
بلاد يروق الخلد خضر مروجها ... وترنو لها حور الجنان وتعجب
ويحسد نهر الكوثر العذب نيلها ... وقد راح في أعطافها يتصبب
وما فارقتها النفس كارهة لها ... بلى كل شيء في بلادي محبب
فها أنا للسودان من مصر عائد ... وروحي لمصر من دمي تتسرب
فيا عجباً للنيل يجري بجانبي ... ونفسي على أيامه تتلهب
فيا نيل بلغها سلامي وقل لها ... على العهد ذاك النازح المتغيب
فلو أن ماء النيل مازج أدمعي ... لما كان يحلو في الشفاه ويعذب
* * *
فكم مجلس لي بالجزيرة شائق ... هو الخلد أو خلد على الأرض يطلب
تظلله الأدواح والطير فوقها ... تبوح بأسرار الغرام وتعرب
تحف به الأزهار من كل جانب ... وألوانها تملي علي وأكتب
فأخضر فينان وأبيض ناصع ... وأحمر مرجان وأصفر مذهب(1/429)
إذا الريح هبت عطر الأفق نشرها ... وأنوارها أوحت إلى الشمس تغرب
إذا الأرض طرف دمعه النيل جارياً ... على أنه بالعشب طرف مهدب
وللروح معنى في النسيم مخبأ ... إذا مس ميتاً قام يسعى ويدأب
مقاعد ترتد العيون حسيرة ... لديها ويسبى الرشد فيها ويسلب
ويوم لدى الأهرام قصرت ظله ... يرئم له ملهى بقلبي وملعب
تكاد حمياً لفظه ودلاله ... لرقته بالأذن والعين تشرب
لدى عجب من صنعة الجن شاهق ... تتبعه ألحا عيني فتتعب
معاهد فرعون وآثاره التي ... تروق على مر الزمان وتعجب
فيا قوم للأوطان زاد تشوقي ... فجفني قريح والفؤاد معذب
فلولا هواها ما حملت بعادها ... فما كنت لولا حبها أتغرب
أذود العدا عنها وأقتحم الردى ... واطفوا على موج المنايا وأرسب
إذا ذكرتها النفس في الروع أقدمت ... على الموت لا تخشى ولا تتهيب
فيا ليت شعري والزمان معاند ... هل الدهر يصفو أم هل الدهر يعتب
وهل ركب مصر للحياة طريقه ... فيشدى له أم للمنايا فيندب
فيا مصر للعلياء والمجد أقدمي ... وما المجد إلا قوة وتغلب
ويا مصر للعرفان والعلم شمري ... فهذا دواء للبلاد مجرب
وإن نحن أرضينا الإله أعاننا ... وإن نحن أغضبناه يا قوم يغضب
وكل بناء في يد الله ركنه ... فليس له في العالمين مخرب
محمد توفيق علي ضابط بالجيش المصري(1/430)
يوم الفراق
(مطلع قصيدة لسعاد صاحب الإمضاء)
هل عند ذاك السرب أنا بعده ... في الحي من آماقنا نتدفق
أو أن أضلعنا على ما استودعت ... يوم الفراق من الجوى تتحرق
أمنازل الأقمار أهلك أسرفوا ... في النأي إسراف الغني وأغرقوا
لو أنهم قد أنصفوك منازلاً ... ما راقهم في الكون بعدك مشرق
(مصر) إسماعيل صبري
الرجاء واليأس
رجونا وكان اليأس لولاك راحة ... فرد لنا بالله ما أنت سالبه
فأنت امرؤ أطمعتنا وحملتنا ... على مركب لا يهدأ الدهر راكبه
حافظ إبراهيم
المشد
سألت فتاةً لم أرى منك معطفاً ... يحيط به هذا المشد ويكنف
فقالت أرى غصن القوام مكلفاً ... بحمل ثقيل منه قد كاد يقصف
فمنطقت خصري بالمشد كما ترى ... ليحمل جور النهد قدي المهفهف
(مصر) فيليب مخلوف(1/431)
في جنائن الغرب
اتجهت الأفكار في الشهر الماضي إلى تولستوي فيلسوف الروس الأكبر وهربه إلى الدير ليجتاز في العزلة التامة المرحلة الأخيرة من حياته التي قضاها في البحث عن الحقيقة. فرأينا أن نخصص هذا الباب بشيء من حياته ومبادئه الفلسفية.
في 9 سبتمبر الماضي أنجز تولستوي السنة الثانية والثمانين من عمره. وكان في سنة 1862 قد تزوج بابنة الدكتور برس صوفيا أندرفنا فوجد فيها أكبر تعزية في حياته وأحسن مساعد في أعماله فكانت تعاونه في جميع مذكراته وترتيبها وتنسخ مسودات تآليفه. وفي المدة الأخيرة كان يملي عليها أفكاره فتدونها. وقد رزق منها ثلاثة عشر ولداً منهم الآن تسعة أحياء. وقد رباهم على مبادئ روسو وتضلعوا كلهم في العلوم واللغات.
والذي زاد في شهرة هذا الرجل الكبير تطبيق أعماله على أقواله فقد زهد في هذه الدنيا وتنازل عن جميع ممتلكاته مكتفياً ببقعة أرض يستثمرها بنفسه. وكان يرى أن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل فكان يخيط ثيابه وحذاءه ويقضي أيامه في الإرشاد ومساعد المعوزين وقد أنشأ في مزرعته ياسنيا بوليانا مدرسة كان يعلم فيها كل يوم بضع ساعات. وله حوادث وحكايات شهيرة تتناقلها الصحف وكلها تدل على شرف عواطفه وأمياله وسمو حكمته وفلسفته. وقد اكتسب احترام الجميع ونال أرفع منزلة بين المفكرين المصلحين في حياته ومماته. ولبست روسيا جمعاء عليه ثوب الحداد. وأخذ الناس يحجون إلى قبره.
أما تآليفه فأشهرها الحرب والسلم وحنة كرنين والبعث إلخ. وقد نقلت إلى كل لغات أوروبا وعرب منها الشيء الكثير حضرة الفاضل سليم أفندي قبعين. ونحن نقتطف من تعريبه نتفاً تطلع القارئ على مبادئ الفيلسوف الروسي:(1/432)
مبادئ تولستوي
تنحصر مبادئ تولستوي الدينية والاجتماعية في الوصايا الخمس الآتية:
أولاً - أحب الله من كل نفسك وأحب قريبك كذلك. لا تهن أحداً، واجتهد بان لا تحرض أحداً على فعل الشر، لأن الشر يتولد من الشر.
ثانياً - لا تغازل النساء، ولا تهجر المرأة التي اتحدت بها، لأن هجر النساء وتغييرهن يحدثان الفساد في العالم.
ثالثاً - لا تحلف بشيء ولا تعد بشيء، لأن الإنسان بكليته تحت سلطة الله، والناس لا يجنحون إلى الأقسام إلا مدفوعين إليها بالأعمال والنيات الشريرة.
رابعاً - لا تقاوم الشر بالشر، واحتمل الإهانة واعمل أكثر مما يطلب منك الناس. لا تحاكم أحداً ولا تدفع نفسك للمحاكمة. والإنسان إذا مال إلى الانتقام فإنه ليعلم الناس أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله.
خامساً - لا تفرق بين موانيك والغرباء، لأن جميع الناس من مصدر واحد.
وقد شحن الكونت تولستوي مؤلفاته بالنصائح والحكم الفلسفية وكلها على منتهى السذاجة، وله الفضل على سائر الفلاسفة - كما قدمنا - بأنه يعمل بما يعلم وإليك شيئاً من أقواله:
لا تعم المساواة في العالم، ولا ينقطع الحسد من بين الناس، ولا(1/433)
تزول المنافسة وتفقد البغضاء، إلا إذا سعى كل بنفسه لتحصيل ما يقوم باوده. فيجب على كل واحد أن يقبل على الشغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه، دون أن يعتمد فيها على غيره. فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس، لوجدنا أن أصلحا الحاجة، ومصدرها الفاقة. وأما الشرور والآثام والفجور والفساد فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وإملاء البطون بالمآكل التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات.
إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات، وأن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل.
قال تولستوي مخاطباً ابن المدن المتنعم في رخاء العيش المتناهي في بذخ الحياة: قم واخرج من خدرك وطف في المدينة، وقف إلى جانب أولئك الذين يطعمون الجياع ويكسون العراة، ولا تخف. وانتظم في سلكهم وسر معهم كتفاً إلى كتف، واعمل بيديك الرخيصتين الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل أرفق به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى، فلا شد في أنك ترى نفسك أسعد حالاً مما كنت عليه، وتجد انقلاباً في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة.(1/434)
المرأة العصرية
. . . منشئ الزهور
. . . . قرأت المقالة التي دبجتها حضرة الآنسة هدى كيورك ص 330 من زهوركم. فرأيتها قد أصابت في معظم أقوالها كبد الحقيقة ولكنها أصابت في كل سطر من سطورها أخواتها وبنات جنسها بسهام حادة. أجادت في وصف السيدة أو الفتاة التي تقتل الوقت بالزينة والتفنن بالأزياء وأهملت ذكر الفتيات الكثيرات اللواتي يعملن بكل جد ونشاط للتحلي بحلى الفضائل. وليس هنا مقام إيراد ذكر من نبغ من بنات جنسنا بالرغم عما يحدق بنا من المصاعب والتقاليد المقيدة لنا. بل أقول لمن يرموننا بكل فرية: كم امرأة منا تضحي صحتها وتحرم نفسها من كل ملاهي هذه الحياة لتسهر على بيتها وتدبر منزلها وتهذب أولادها وتبالغ في إرضاء زوجها. بل كم من فتاة تحيي ليلها بعد نهارها للعمل على سد عوز ذويها وإعانة أبويها الشيخين. وإذا هي تمكنت فوق ذلك من اتباع المودة فلمهارتها وتفننها. وما أدرى الناس بمهارة يدي المرأة؟ فهي تلبس ثوبها وتغالي في النظافة عليه، ولا تلبث أن تغير زيه ومودته حسب الدارج حولها، وتتفنن بذوقها المعروف بزركشته وتخريجه حتى يخالها الناظر جديداً في كل الفصول. وما قلته عن الثوب أقوله عن أثاث البيت. وليست هذه الفتاة التي وصفتها بالشيء النادر أو القليل الوجود. فكم في البيوت المتوسطة من هذه النساء.
أما اتهامنا بالنزوع عن تقاليدنا الشرقية ولغتنا العربية إلى التقاليد(1/435)
الغربية واللغات الإفرنجية، فالذنب في ذلك على الرجال كما هو علينا. نظرة بسيطة إلى الصالونات والمجتمعات تؤيد قولي هذا. فلابسة البرنيطة، الناطقة بلغة أبناء السين أو التاميز. المقلدة للغربية في مشيتها وحركاتها هذه هي المكرمة، أما سواها فأمرها معلوم. ولما كانت المرأة - كالرجل - تحب أن تكرم، أصبح لها بعض العذر على ظهورها بهذه المظاهر.
أما ما ذكرته حضرة الكاتبة الأديبة عن وجوب اقتدائنا بالرجال من حيث الترقي والتقدم. فأقول - ولا أخشى أن أجرح أبناء الجنس القوي، فلكم حملوا علينا الحملات الشديدة - أن نهضتهم في ربوعنا الشرقية هي بنت أمسها. فليمهلونا قدر ما أمهلتهم الأيام فيروا منا رقياً لا ينقص عن رقيهم. وإذا هم لقبوا أنفسهم بالجنس النشيط، إلا يجب عليهم أن يقطعوا مئات الخطوات قبل أن نقطع العشرات نحن بنات الجنس الضعيف؟ فضلاً عما أثقلتنا به
الاصطلاحات من العادات القديمة التي تكاد تسد سبل التقدم في وجهنا. فعلى الرجال إذا كانوا يرغبون حقيقة في إصلاحنا أن يمدوا لنا يد المساعدة لنرافقهم في طريق الفلاح ولا نكون عبثاً ثقيلاً يؤخرهم في مسيرهم. وإلا فلا تتعبن هدى نفسها بالنصح فإننا كما قال الشاعر رحمه الله:
نحن صم عن الملام وعمي ... عن سبيل الهدى فلا ترشدونا
وعلى كل فأنا أبسط يدي من وراء البحار لمصافحة حضرة الآنسة التي فتحت هذه الباب على صفحات هذه المجلة عسى أن نستخرج من الزهور الدواء الشافي لأمراضنا الاجتماعية.
بيروت ادماكيرلس(1/436)
في 14 من الشهر الماضي افتتح مجلس المبعوثان العثماني فصل جلساته الثالث، فرأينا أن نذكر شيئاً عن أحد المبعوثين عن ولاية سورية في المجلس الأول الذي التأم سنة 1878. وهو المرحوم نقولا نقاش زميل المرحوم خليل غانم، وسليل أسرة نقاش التي خدمت الآداب العربية أجل الخدم. فإن في ذكر أعمال السف تنشيطاً للخلف:(1/437)
هو نقولا بن إلياس بن ميخائيل نقاش ولد في بيروت في أوائل سنة 1825. ولما بلغ الرابعة من عمره انكب على تعلم مبادئ اللغتين العربية والسريانية حتى أتقنهما قراءة وخطاً مع العلوم الحسابية. ثم درس اللغة الإيطالية حتى أصبح ينشئ بها كأربابها. وتخرج بعد ذلك على شقيقه المرحوم مارون نقاش الشهير وأخذ عنه مبادئ اللغة التركية وخلفه في باشكتابة بيروت وملحقاتها. وظل في هذه الوظيفة بضع سنوات كان أثناءها يزاول العربية والتركية حتى برع فيهما فنظم القصائد الرنانة وكتب المقالات الشائقة.
وفي غضون ذلك أنشأ شقيقه مارون الملاعب العربية بتأليف أول روايات تمثيلية ظهرت في لغتنا وجاراه نقولا الشاب في هذا الفن فوضع روايات كثيرة أودعها الحكم والفوائد (وسنعود إلى كل ذلك في أعداد الزهور الآتية).
ثم تقلب في مناصب شتى لا محل لتفصيلها الآن فأظهر في جميعها من الاستقامة والبراعة ما أكسبه ثقة العموم كما أظهر ذلك في أعمال التجارة التي تعاطاها حتى كانت سنة 1878 فانتخبه مواطنوه لينوب عنهم في مجلس المبعوثان الأول فقام بواجب النيابة حق القيام. إلى
أن فض هذا المجلس على ما هو معلوم فعاد إلى مقسط رأسه وعين عضواً دائماً في محكمة التجارة ولم يلبث أن استقال منها وكان قد أحرز شهادة الحقوق من الطبقة الأولى وفتح مكتباً للمحاماة ظل يشتغل فيه حتى انطفأ نور حياته في 4 ديسمبر سنة 1894 وهو في السبعين من عمره.(1/438)
ولا يزال من أولاده حضرة النطاسي البارع الدكتور أنطون نقاش وعزتلو القانوني الشهير جان بك نقاش الذي استأنف الاشتغال بالمحاماة بمكتب والده، وحضرات الأفاضل الأفندية بطرس وأيوب ونقولا.
وقد ترك آثاراً أدبية وعلمية جليلة منها روايات وأشهرها الشيخ الجاهل، وربيعة، والوصي. وديوان شعر منسجم بليغ. وقد ترجم كتباً قانونية كثيرة وعلق شرحها وملاحظاته عليها منها قانون الأراضي، وقانون الجزاء، وقانون المحاكمات الحقوقية، وقانون التجارة وذيله، وقانون الأبنية، وقانون تشكيل المحاكم إلخ. وله مقالات وخطب شائقة نشر معظمها في جريدة المصباح التي أنشأها سنة 1889 فكانت في مقدمة الصحف العربية.
وقد نال الرتبة الثانية والوسام المجيدي الثالث من الدولة العثمانية ووسام سان غرعوار من طبقة شفاليه. وفي سنة 1869 زار سورية سمو الغرندوق فردريك (الذي صار فيما بعد إمبراطوراً لألمانيا وهو ولد الإمبراطور غليوم الحالي) فامتدحه صاحب الترجمة بقصيدة عصماء فأهدى إليه دبوساً ثميناً مرصعاً بحجر كريم. وأهدى إليه سمو الغرندوق نقولا شقيق قصير روسيا خاتماً جميلاً في مثل هذه المناسبة.
هذه هي بعض مآثر ذلك النائب الكريم أحببنا أن نوردها اليوم بمناسبة التئام مجلس المبعوثان، قياماً بواجب الذكر نحو الذين خدموا البلاد والعلم والأدب بأمانة وإخلاص.(1/439)
في حدائق العرب
الوفاء والحب
جلس معاوية بن أبي سفيان يوماً في مجلس له بدمشق وكان الموضع مفتح الجوانب الأربعة، وكان اليوم شديد الحر لا نسيم فيه. فإذا برجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيته حافياً. فتأمله معاوية وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت؟ - فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين - فقال والله لئن كان قاصدي لأجل شيء، لأعطينه واستجلب الأجر به، أو مظلوماً لأنصرنه. يا غلام، قف بالباب، فإن طلبني هذا الأعرابي فلا تمنعه من الدخول علي. فخرج فوافاه. فقال: ما تريد؟ - قال: أمير المؤمنين - قال: ادخل. فدخل فسلم. فقال له معاوية: ممن الرجل؟ - قال من تميم. قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ - قال: جئتك مشتكياً، وبك مستجيراً - قال: ممن؟ - قال: مروان بن الحكم عاملك - قال: اذكر لي قصتك وأبن عن أمرك. فقال:
يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفاً، وكنت بها قرير العين طيب النفس. وكانت لي جذعة من الإبل أستعين بها على قوام حالي وكفاية أودي. فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر. فبقيت لا أملك شيئاً. فلما قل ما بيدي وذهب مالي وفسد حالي، بقيت مهاناً ثقيلاً على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي، وأزور من لا(1/440)
يرغب في زيارته. فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المآل، أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً لنصرتي. فلما أحضر أباها وسأله عن حالي، قال: ما اعرفه قط - فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها. ففعل، وبث خلفها، فلما حضرت بين يديه، وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً، وعلي منكراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء أو استهوت بي الريح في مكان سحيق، ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن إخلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل، وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني، ونظر إلي كالأسد الغضبان وقال: طلق سعاد - فقلت: لا. فسلط علي جماعة من غلمانه، فأخذوني
يعذبونني بأنواع العذاب، فلم أجد بداً من طلاقها، ففعلت فأعادني إلى السجن ومكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني. وقد أتيتك راجياً، وبك مستجيراً، وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول:
في القلب مني غرام ... للنار فيه استعار
والجسم مرمي بسهم ... فيه الطبيب يحار
وفي فؤادي جمر ... والجمر فيه شرار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
فليس إلا بربي ... وبالأمير انتصار
ثم اضطرب واصطكت لهاته، وصار مغشياً عليه وأخذ يتلوى كالحية(1/441)
فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين، وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم كتاباً يقول فيه: إنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته. ثم كتب كلاماً طويلاً منه:
وليت أمراً عظيماً لست تدركه ... فاستغفر الله من فعل امرئ زان
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقبان
طلق سعاداً وعجلها مجهزة ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
ثم طوى الكتاب وطبعه، واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم وسلما عليه وسلما الكتاب إليه. فصار يقرأ ويبكي. ثم قام إلى سعاد وأعلمها بالأمر. ولم يسعه مخالفة معاوية، فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزهما وصحبتهما سعاد. ثم كتب إلى معاوية كتاباً يقول فيه هذه الأبيات:
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد ... أوفى بنذرك في سر وإعلان
وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
اعذر فإنك لو أبصرتها لجرت ... فيك الأماني على تمثال إنسان
فسوف تأتيك شمس ليس يدركها ... عند الخليفة من أنس ومن جان
ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، فسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال: لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية(1/442)
ثم أمر بإحضارها، فلما رآها رأى صورة حسناء لم ير أحسن منها، ولا مثلها في الظرف والجمال والقد والاعتدال. فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان فقال: علي بالأعرابي فجيء به وهو في غاية من تغير الحال. فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلوة، وأعوضك عنها ثلاث جوارٍ نهد أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك؟
قال فلما سمع الأعرابي معاوية، شهق شهقةً ظن معاوية أنه مات بها فقال له: ما بالك بشر بال وسوء حال؟
فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن أستجير من جورك، وأنشد يقول:
لا تجعلني فداك الله من ملك ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاداً على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
أطلق وثاقي ولا تبخل علي بها ... فإن فعلت فإني غير كفار
ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد. ثم أنشد:
أبى القلب إلا حب سعدى وبغضت ... علي نساء ما لهن ذنوب
فقال معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها. فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك.
قال: افعل - فقال: ما قولين يا سعاد؛ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده؟ أو(1/443)
مروان بن الحكم في تعسفه وجوره أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره. .؟ فأنشدت تقول:
هذا وإن كان في جوع وأضرار ... أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله ... وكل ذي درهم عندي ودينار
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخازنته لحادثات الزمان، ولا لغدرات الأيام؛ ولكن له صحبة قديمة لا تنسى، ومحبة لا تبلى؛ وأنا أحق من يصبر معه في الضراء، كما
تنعمت في السراء.
فتعجب معاوية من عقلها ومودتها ووفائها، فدفع لها عشرة آلاف درهم، ودفه مثلها للأعرابي، فأخذها وانصرف.
الاتليدي
تاريخ المهاجرة وأسبابها
كثر ذكر المهاجرة في هذه الأيام وأفاض الكتاب الكلام فيما يتهدد سورية من الخراب من سفر أبنائها. فرأينا أن نورد هنا تاريخ هذه المهاجرة إلى أمريكا مستندين في أقوالنا وتعليماتنا إلى كتاب جميل أفندي حلوه الذي تكلمنا عنه في الجزء الفائت ص 408 ووعدنا بالرجوع إليه:
كان ذكر العالم الجديد، ولا يزال، مقروناً بالخيرات والبركات، ولكم صور في أدمغة الأوروبيين والشرقيين جبالاً من الذهب تناطح السحائب، وآباراً تفيض من التبر سكائب، حتى كادوا يظنون أن لا شيء يعوزهم هناك إلا المجارف لتجميع ما فيها من مال تليد وطارف. مع أن(1/444)
الأحوال قد تغيرت في أيامنا. وأمريكا اليوم هي غير أمريكا بالمس. ولكن تيار المهاجرة لا يزال يقذف إليها في كل سنة مئات الألوف من المهاجرين.
وعهد مهاجرة السوريين قديم، يرتقي إلى أجدادهم الفينيقيين الذي رادوا البحار، وحملوا تجارتهم إلى أقصى الديار. أما مهاجرتهم إلى أمريكا فلم تبدأ إلا منذ نصف قرن تقريباً. وكان الباعث الأكبر عليها اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية بفساد الحكومة الاستبدادية التي جرت على مذهب فرق تسد فتأصلت روح التعصب بين الجماعات والتشيع والطوائف حتى كادت توقع البلاد في حرب أهلية دائمة، وتضعضع الأمن، وسادت الفوضى، ودرس العلم، وثقلت المعيشة. وما بشر الناس بخيرات أمريكا حتى هرع الكثيرون إلى البواخر تحملهم إلى شواطئ العالم الجديد حيث أفلتوا من عقل التقاليد وانفكوا من قيود الفقر والمظالم، وتنفسوا الصعداء لأن حالة الفلاح العثماني كانت من أتعس الحالات.
وكان القرويون أول من شد الرحال إلى أصقاع أمريكا. وكان إثراؤهم السريع وحشدهم المال الكثير في الوقت القليل محرضاً كبيراً على إقبال إخوانهم على اللحاق بهم إلى أرض الحرية والإخاء والمساواة والغنى. وقد فتحت حكومات أمريكا باب المهاجرة لدخول المهاجرين لأنها كانت في حاجة إلى تعمير البلاد واستثمار الأراضي. وفتحت أيضاً الحكومة العثمانية الباب وسيعاً لخروجهم لأن معظمهم كان من النصارى، واهمة أنها بنزوحهم تخلص من مشاكلها مع الدول الأوروبية: على أن المسلم العثماني كان ومواطنه المسيحي سببين في احتمال المظالم وتكبد المغارم. فلحق به إلى(1/445)
المهجر وهكذا لم تلبث
المهاجرة التي بدأ بها النصارى أن شملت سائر الطوائف والملل من المسلمين والدروز والمتاولة فاقتعدوا غارب الرحيل إلى العالم الجديد وكان تيارها في بداية الأمر موجهاً إلى البرازيل وما قاربها قبل أن اتجه إلى الولايات المتحدة.
وصل المهاجرون إلى بلاد سادت فيها الحرية، واستتب الأمن، وتوفرت مصادر الارتزاق، والكل فيها سواء، برعاية النظام والقانون، والاشتراك في إدارة شؤون البلاد. فنزلوا في ميدان الجهاد وأقبلوا على العمل بنشاط واجتهاد. فأثروا شيئاً فشيئاً وتخلقوا بأخلاق القوم الذين نزلوا بينهم وفتح الكثيرون منهم البيوت التجارية الكبيرة بعد أن كانت تجارتهم دائرة على الكشة والجزدان ومدوا يدهم إلى الصناعة والزراعة فأحرزوا نجاحاً يذكر.
ويقدر عددهم الآن بثلاثمائة ألف في الولايات المتحدة وحدها وقد أسسوا أيضاً جوالي كثيرة في الجمهورية الفضية والبير والبرازيل والمكسيك وهايتي وسائر أنحاء أمريكا وأصبحت لهم بين القوم منزلة سامية، وقد أجاد حافظ إبراهيم وأبدع في وصف المهاجر السوري إذ قال:
يمضي ولا حلية إلا عزيمته ... وينثني وحلاه المجد والذهب
ير صرف الليالي عنه منقلباً ... وعزمه ليس يدري كيف ينقلب
بأرض كولب أبطال غطارفة ... أسد جياع إذا ما ووثبوا وثبوا
أسطولهم أمل في البحر مرتحل ... وجيشهم عمل في البر مغترب
ما عابهم أنهم في الأرض قد نثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب(1/446)
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركباً صاعداً ركبوا
سعوا إلى الكسب محموداً وما فتئت ... أم اللغات بذاك السعي تكتسب
وبالحقيقة فقد نشر المهاجرون لواء اللغة العربية في أقصى أنحاء المعمور وأصبحت جرائدهم ومجلاتهم في أمريكا تعد بالعشرات. وصحافتهم من أرقى الصحف العربية منها جرائد يومية تصدر بحجم أكبر جرائدنا اليومية وهي مشحونة بغرر المقالات ودرر الأشعار (وسنعود إلى كل ذلك في أبحاث آتية عن النهضة الأدبية في أمريكا).
* * *
هذا جل ما يقال عن تاريخ المهاجرة وأسبابها وحالة المهاجرين. وأمامنا الآن نقطتان: أولاً،
إيقاف تيار المهاجرة الذي كاد يفرغ البلاد من سكانها. وثانياً، الاهتمام بالذين هاجروا وحفظ روابطهم بوطنهم. وكلا المرين جدير بالبحث وإمعان النظر.
كتب الكثيرون من الأدباء عن الطريق الواجب اتخاذها لإقفال باب المهاجرة. ولكن النقطة الجوهرية راجعة إلى أمرين، مادي وأدبي. أي تسهيل الحكومة للأهالي تأسيس المشروعات الاقتصادية والأعمال العمومية بل مباشرتها بنفسها، وإنشاء سبل المواصلات واستثمارها ثروة البلاد حتى يجد الناس مرتزقاً. وضبط الأمن وإقامة العدل ونشر المساواة التامة دون محاباة. فإن ذلك لا يمنع الناس فقط عن المهاجرة بل يعيد إلى الأوطان العدد الأكبر من الذين نزحوا عنها. فينفعون بلادهم بما اكتسبوا في الخارج من الخبرة والمعارف والثروة.(1/447)
وقد أحسن صاحب الكتاب الذي أشرنا إليه في صدر الكلام إذ قال: المهاجرة هي أمتن ذريعة تتذرع بها الأمة لدى أولي الأحكام، تنفيذاً لبغيتها من الإصلاح والنظام وهي كمقاطعة البضائع بين الدول حرب سياسية اقتصادية لابد لها أخيراً من الفوز والغلبة
أما النقطة الثانية فهي الاهتمام بالمهاجرين في مهجرهم وهم يبلغون مئات الألوف كما قدمنا وفيهم التاجر والمالي والطبيب والمحامي والصانع والمزارع والمؤلف والمخترع. فهم إذن قوة استعمارية عظيمة بالمعارف والعلوم والفنون والمال ونشر النفوذ ويحق لدولتهم أن تفاخر بهم ويجب عليها أن تحتفظ بهم فتحكم علائقها بهم ولو بعدت الديار وشط المزار، وذلك بالالتفات إليهم وتعيين قناصل ووكلاء سياسيين ينظرون في أحوالهم ويوثقون رابطتهم القومية وجامعتهم الوطنية، ويذودون عن حقوقهم ومرافقهم فلا يكونون عرضة للإهانة وطعمة لكل من تحدثه النفس بالتهجم عليهم وليس كل ما قدمنا بالأمر العسير على الحكومة الراقية التي تفهم واجباتها نحو أمتها.
بين جدران السجون
وكادت الغزالة تتوارى وراء حجاب الأفق فقفلنا معها عائدين من سراي الحكومة إذ استوقفنا عند الباب الغربي طرق مطرفة رددت صدى ضرباتها المتتابعة جدران ذلك المكان.
في الشبيبة، مهما تكاملت صفاتها، روح دفعتنا إلى سؤال أحد(1/448)
الجنود الخفراء عن مصدر هذا الصوت، فأجاب: من سجن المغاور. وكان هنالك قوة دافعة أيقظت فينا الميل إلى الاطلاع على ما يجري في تلك القصور السفلية! فسرنا إلى حيث انبعث الصوت. وزادنا ميلاً اعتراض أحد أنفار الخفارة لنا بقوله بلهجة عسكرية مألوفة يا سق، فانتظرنا.
ولم يطل انتظارنا، حتى فتح باب قصير، خرج منه أحد ضباط الجندومة، يصحبه كهل حامل على منكبه مطرقة ثقيلة. وفي يده بعض الأدوات الحديدية، وتلاهما عدد من أنفار الجندومة لا يتجاوز العشرة.
اقتربنا من الضابط وسألناه زيارة السجن فأجاب بنصح:
- سرحوا أبصاركم في الأماكن المبهجة، وابتعدوا عن هذه الديار فهي مفعمة شقاء.
ولكن لما أظهرت له ميلي إلى درس أحوال سكانه. أطرق هنيهة، وأشار إلى أحد أنفاره باستئذان المدير الأعلى.
وكان النهار قد مال إلى الزوال، فعاد الرسول معلناً غياب المدير ففكر صاحبنا برهة وقال: هيوا بنا!
ولجنا الباب الذي كان لم يزل مفتوحاً ودخلنا إلى نفق مظلم يبلغ طوله العشرة أمتار تفصله عن مدخله شبكة خشبية ضخمة يشرف على فناء دار عالية وإلى جانبيه وحول جدران الدار أبواب صغيرة ملاصقة الحضيض ينزل منها إلى المغاور التي يقطنها المسجونون والتي اتخذ منها هذا المدفن اسمه الشريف.(1/449)
إلى أحد جدران النفق كان فتى في ريعان الشباب مطرق الرأس كأنه في واد عميق من التفكر. وإلى يمينه قيد كبل يده برجله.
انتبه الفتى من غفلته عند دخولنا فحول نظره إلينا ثم إلى الأرض وخطا خطوة ليتوارى عن أبصارنا. ولكن خطوته هذه حركت السلسلة الرابطة رجلة بيده. فأحدثت حركته صليلاً اهتزت له أبداننا. وذكر صاحبنا بحالته المحزنة. فاستند مرة ثانية إلى الجدار وأطرق
مفكراً.
لو أتيح لنظرنا أن يخترق ستر الظلام. لرأى حمرة صبغت وجنتيه. ودمعتين تجولان في عينيه. هاتان العينان اللتان لم تخشيا الأهوال نكصتا أمام أعيننا. تانك الوجنتان اللتان شاهدتا الموت صافعاً بكفه محيا فريسته احمرتا خجلاً منا. تلك اليد التي هزت الخنجر بجرأة لارتكاب الجريمة ارتجفت عند موقفنا.
للمرء مهما تقلب على بساط الجرائم وتمرغ في حمأة الفحشاء. ساعة نور وضياء. ساعة تختلي فيها الروح بمناجاة المادة في معزل عن الكائنات. ساعة ينظر بها الإنسان إلى أعماله فيلعنها. ويحكم بنفسه على نفسه.
هاتوا لي طبيباً ماهراً، دعوه يعالج هذه النفس الشقية، لينزع عنها جراثيم الوباء! ليضمد جراحها ويصب عليها بلسماً يبرد النار التي تأكلها، وأن الضمين لكم بأن تعود إلى النفس حياتها. نعم. في الفتى نفس حية. أنت تصلح لأن تكون من أكبر النفوس. لو سعى أحد لتقويم أميالها. ولكن مسكينة هي. خانها حظها. فسقطت على معبر الطريق. وداستها الأرجل فدنستها. دون أن تلقي من يلتقطها ويعتني بشأنها. ولادتها(1/450)
كانت سبب تعاستها. فعاشت حقيرة. وقد دفعتها الحاجة إلى الرذيلة فهوت لضعفها. وما سقطتها إلا نتيجة نظام سن لحياتها. فشبت بين الجرائم. وستموت أثيمة. دون أن يكون الذنب كل الذنب عليها.
هذه النفس خلقت لتكون عضواً عاملاً في المجتمع الإنساني فرذلها حتى أصبحت عبئاً عليه. ثم بترها بدل معالجتها فانسلخت عنه وفي قلبها نار. وفي جوفها علقم مما حل بها.
أمام هذا المنظر الرهيب. تحركت فيّ عاطفة الشفقة على هذا المسكين عدت إلى نفسي. فوجدتها قاصرة عن إعانته. فقلت لمن معي: كفانا ما شاهدنا فعودوا بنا.
ولما تحولنا عنه تقدم منا الضابط الذي كان دليلنا في رحلتنا وقال: - عندي من يستحق التفاتكم. وهو اللبناني قاتل ابن الخياط. وجارح الإيطالي في السجن منذ أسبوعين. فإن أحببتم فسأدعوه إليكم. ثم نادى: يا أبا فارس! هو ذا من يريد أن يراك. فاصعد من سجنك.
فأجابه صوت كأنه آت من وراء القبر قائلاً: ها أنا ذا وتلاه صليل سلاسل رددته أعماق تلك الحفرة. ثم وقع أقدام ثقيلة وظهر أمامنا رجل في الأربعين من عمره طويل القامة عريض الكتفين أسود اللحية كثيفها. وعيناه تقدحان في ظلام ذلك المكان شرراً وهو لابس
سروالاً ورداءً من الجوخ الأسود وعلى رأسه طربوش لف حوله منديل جيبه. نظر الرجل إلينا ثم حيانا وقال: ما تطلبون مني؟
زرنا هذا المكان ولما علمنا بوجودك قصدنا مشاهدتك في وحدتك(1/451)
- أشكركم على هذه المنة. . . هي المرة الأولى التي زارني بها أحد مدة التسع السنين التي صرفتها في سجني.
وسألناه عن حاله فقال متنهداً: في التعاسة والشقاء. بين القتلة والمجرمين كما ترون. لقد قاسيت الأهوال وذقت أمر الشدائد. وإلى جنبي سلسلتي الثقيلة. لم يكن لي مؤنس في وحشتي سوى كتاب أرسله لي حضرة قنصل أمريكا منذ شهور لما بلغه أمري. وعلم أني صرفت ثلاث سنين في أمريكا.
- ولماذا تركت أمريكا وأتيت إلى هنا.
- أنا لبناني الأصل، ولدت من إحدى الأسر المعروفة في قرية. . . وقد قضيت سني حداثتي في المنزل الوالدي ثم أرسلني أبي إلى المدرسة حيث تلقيت العربية والإفرنسية والإنكليزية. ولما شببت سرت إلى أمريكا قصد المتجر. ولكن لم يكتب لي فيها التوفيق فعدت منها - ويا ليتي لم أعد - بعد ثلاث سنين إلى مسقط رأسي. ومنها إلى هذه المدينة حيث لاقيت ما لاقيت.
- ما هي قرابتك بالكاتب اللبناني المعروف. . .؟
- هو ابن عم أبي.
- أنت كريم الأصل. حسن التربية. فما الذي دفعك إلى ارتكاب الجريمة؟
- فتش عن المرأة. قال ذلك بالإفرنسية وسكت. فنظرت إليه وإشارات الأسف تلوح على وجهه وسكت أيضاً. خواطر مظلمة مرت(1/452)
على مخيلتي. وأمور شتى تواردت على بالي. الكلمات التي قالها بطل أوسترليتز وفاغرام سجين القديسة هيلانة قطعت مسافة قرن من الزمان. وطرقت مسمعي من فم سجين المغاور أحد ضحايا المرأة.
تلك المخلوقة اللطيفة موضوع خيالي. من تسجد أمامها روحي وتحرق على مذبحها بخور أماني وآمالي. تلك التي اعترفت أن سعادة المرء منها. مثلت أمامي كشبح شقاء الجنس البشري وسبب تعاسته. شعرت بسلسلة آثام وجرائم. أولها إغواء حواء. وآخرها غواية
المسكين المنتصب أمامي.
الرجل. وما صار إليه من المدينة في القرن العشرين. هذا المخلوق الذي يزاحم بأعماله الألوهية. ويدرس سر الخلود. هذا الكائن مخضع الأرواح والعامل ما وراء الوجود. تصورته أسير جسم نحيف وقد نحيل، بل ألعوبة بين القلب والعين. بل فريسة نظرة وميل.
ولم يكن إلا لمحة بصر. حتى مرت أمام ناظري صور جميلة.
أمام النجاح الباهر في التقدم والعمران. وعلى أثر الانقلاب العظيم في البشرية والأكوان تذكرت كم لتلك اليد اللطيفة من التأثير في العمل وكم شددت من عزائم وأحيت من أمل؟ كم دفعت إلى الأمام. مسهلة الأمور. وكم رفعت من خافض محركة فيه الشعور؟ تذكرت - وما أحلى ذكرى لحاظ العيون السود. وسحر ورد الخدود. ولواجع قلب يخفق تحت رمان النهود - وقلت في نفسي: لله أفي تربية المرأة هذا السر المكنون والكنز المدفون.
ثم انتبهت إلى الواقف أمامي وقلت: هذا ما كان من الجريمة الأولى(1/453)
فما دفعك إلى الثانية. وكيف أتيتها وأنت على ما أنت؟
فأجاب وقد قدحت عيناه ناراً: رجل أهان شرفي فانتقمت منه.
عدت خطوة إلى الوراء ونظرت إلى هذا الرجل العجيب فوجدت سيماء الأبهة والعظمة تلوح على محياه كأنه أتى أمراً تحمد عقباه. تأملته وقد دفعه نزقه وطيشه إلى عمل فظيع. فقتل عمداً شاباً في ربيع العمر توهم أنه حط من كرامته ثم استأنف قائلاً:
- حكم علي بالإعدام لارتكابي الجريمة الأولى. وقد استبدلت محكمة التمييز هذا الحكم بالسجن المؤبد. على أن الدستور حمل إلي عفواً فخفض مدة سجني إلى الخمس عشرة سنة. صرفت منها تسعاً في السجن. وبقي منها ست سأقضيها وأنطلق من هذه البلاد إلى حيث أستطيع الانتقام من الحكومة والإنسانية بنشر ما لاقيت في سجني من الحيف والظلم.
ما أشقى ما فطر عليه البشر! جريمتان تهتز لهما الأبدان. ارتكبهما هذا الشقي بخلق هامد. ودم بارد. دون أن يحرك قلبه الجلمودي عامل ندامة أو شفقة. وهو يعلل النفس بالخلاص. وينتظر ساعة يستطيع بها الانتقام من العدل والقانون. فما أتعس قلب الإنسان. رحمة طلبت فيه قلبي لهذا التعس لا عدلاً. وسلاماً تمنيت له لا انتقاماً. فما العدل والانتقام مما يغير فطرة غرستها فيه الطبيعة ورضي بها الإله. وعدنا بإعطائه بعض ما يخفف به من
تعاسته. فعمدت إلى قول الريحاني وقصدت أن يشترك القلب واللسان مع اليمين في الإحسان. فدنوت منه وقلت:
- أخي! ليس ما لاقيته من الحكومة إلا قصاصاً عادلاً عما جنته(1/454)
يداك. فتذكر أن جهالتك أفقدت رجلاً مثلك حقه في الحياة وسلبته نصيبه من الدنيا. جريمتك عظيمة فاعمل على إصلاح مستقبلك ليكون كفارة عما جنيت.
ثم جمعنا شيئاً من الدراهم وأردنا أن ننقده إياها. فأبى وقال: لا حاجة بي إلى ذلك. ولا أرغب إلا في إحسان القلب إلى القلب فعدوني بالعودة إلي من حين إلى حين ليشرق نور الأمل في جو نفسي ويقشع عن صدري غياهب اليأس والقنوط.
فوعدنا وخرجنا وقد تمثل أمام أعيننا تقصير الإنسان في واجبه نحو أخوانه. فكم من النفوس تذهب ضحية الجهل لأنها لم تجد من يهذب أخلاقها ويقوم طباعها وهي إنما تنتقم من الإنسانية لأن الإنسانية أهملتها.
حلب
يوسف توتل
أزهار وأشواك
بين الرصافة والجسر
أتردد كثيراً إلى مكتب إدارة الزهور لأطالع الصحف والمجلات العربية الواردة من كل الأنحاء. فإن لي شغفاً في استطلاع أنباء أدباء العرب.
وقد تصفحت في زورتي الأخيرة جرائد بغداد، فرأيتها صاخبة ناقمة، وفيها الردود الطويلة العريضة على مقالة كتبها أديب بغدادي في الزهور عن النهضة الأدبية في العراق. قال ذاك الكاتب إن الصحف(1/455)
هناك لا يزال بينها وبين الكمال مراحل شاسعة. فرأت تلك الصحف أن توسعه شتماً وسباباً لتدمغه بالحجة وتبرهن على رقيها وقربها من الكمال. وما كان أغناها عن ذلك البرهان! إن صحافة مصر وأمريكا العربية أرقى من صحافة العراق وصحافة الإفرنج أرقى من هذه وتلك ومع ذلك فإن الكتاب هنا وهناك لا يزالون يرمون الصحف بالتقصير دون أن يخطر على بال صحافي أن يفرغ جام غضبه على المنتقد. لأن الجميع يفهمون أن مهمة الصحافة كبيرة فالمطلوب منها كثير. ولكن الظاهر أن في العراق فريقاً من محرري الصحف ومنهم كتاب الرصافة سريعي الغضب قريبي التهيج وما عهد حملتهم على جميل الزهاوي ببعيد. ومن الأمور التي لا أجد لها وصفاً ولا نعتاً أن احد هؤلاء الصحافيين أغار على رواية أبطال الحرية تأليف منشئ هذه المجلة فطبعها وتاجر بها بين قومه - تجارة رابحة إن شاء الله. . . 1 ولكني أشكو هذه السرقة الشنعاء إلى زميلي الرقيب اليقظ الذي يكتب في الإخاء تحت عنوان الجرائم الأدبية. فليقل لي إذا كان يحق لمثل هؤلاء الصحافيين أن يغضبوا إذا قال قائل إن صحافتهم لا تزال في أدنى درجة من سلم الترقي؟
ألا حيا الله ربوع بغداد، وجادتها مزن العلم لتعود إلى ما كانت عليه من ازدهار المعارف والعمران على عهد الخلفاء، وإن ذلك لقريب بفضل أصحاب النهضة الحقيقية لا بفضل المدعين، وإن كل أديب عربي يتوقع هذه الأمنية كأن:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث يدري ولا يدري(1/456)
حول الأزياء أيضاً
كان لما كتبته عن سودة المقيدات في العدد الماضي وقع كبير بين قرائي وقارئاتي.
فاستحسنه القراء، وتلوه في الأندية والمجتمعات وعلى مسمع من بناتهم ونسائهم. واختلف رأي القارئات فيه، فمنهن من استصوبن مقالي وعدلن عن هذا الزي الغريب القبيح فحللن قيود أثوابهن، ومنهن من أبرقن وأرعدن علي وسددن سهام العتاب إلي لتعرضي لهذا الموضوع الحرج. وما كنت لأعود إليه اليوم لولا القصيدة التي جاءتني بواسطة منشئ المجلة من صاحب التوقيع. فها هي بنصها وعلى السيدات المقيدات أن يعرضن عنها:
لم تشف من داء الغرام عليلا ... صباً يردد أنة وعويلا
يهوى محاسنها ويرجو قربها ... فيرى حساماً دونها مسلولا
نبت الطبيعة بالبساطة لا كما ... شاء المشد نحافة ونحولا
يا حسنها أيام أرخت مرسلاً ... من شعرها لا يعرف التجديلا
ونضت نقاب الحسن عن وجناتها ... فكأنها شمس الغروب أصيلا
وثنت قواماً كالقضيب ليانةً ... يهتز أن هب النسيم بليلا
وقفت وقوف الريم يرمي لحظها ... نبلاً فيصمي عروة وجميلا
تلك التي بجمالها وجلالها ... وكمالها تدع الذليل جليلا
وتهز باليمنى سرير رضيعها ... وبكها اليسرى تجر قبيلا
قم بي أريك الآن كيف تغيرت ... تلك العهود وبدلت تبديلا
وتشوهت تلك الخدود وأصبحت ... تلك النهود بما حشين تلولا
قد ضيقت خصراً يذوب وعرضت ... كفلاً، بتنفير النفوس كفيلا
صقلت عوارضها فلا والله ما ... حد المهند مثلها مصقولا(1/457)
من أبيض يقق وأصفر كالح ... أو أحمر لا يعرف التحليلا
وتتوجت بغمامة أو روضة ... حتى الحمام غدا بها إكليلا
فأعجب لها يا صاحبي إذ صيرت ... تاج الرؤوس غمائماً وبقولا
وتفننت في لبسها وأتت لنا ... ما لم يكن بحسابنا معقولا
ومشت مقيدة الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
وتثاقلت في خطوها تطأ الثرى ... فكأنها آسٍ يجس عليلا
وتكاد تسقط إن رنت وإذا مشت ... شمت الأسير مصفداً مغلولا
كيف الخلاص وقد أحلت نفسها ... في عقدة تدع العزيز ذليلا
ثمن الثياب غلا فأنت لذا ترى ... دينار قلب عقيلها مبذولا
وإذا تباخل كان ذلك ذنبها ... فلأجلها صار الكريم بخيلا
هيهات إصلاحاً ترجي بعدها ... يا شرق قد عاد الصعود نزولا
الإسكندرية
خليل شيبوب
أنا لم أورد هذه القصيدة لاستحساني لها فقط، بل لأحول إلى صاحبها بعض ما أصابني من غضب سيداتي المقيدات اللواتي يشبهن الفارس وقد ركب جواده مشكولا.
في كرمة ابن هاني
في كرمة ابن هاني، في مهبط الشعر وكعبة الأدباء، في منزل شوقي بالمطرية، بين متلألئ الأنوار، ومفتح الأزهار، على رنات العود والقانون، ونغمات المنشدين المطربين، تحت الخمائل الجميلة، والسرادقات الفخيمة، التقت جماعة من الوجهاء والأدباء مساء الخميس الماضي، ابتهاجاً بعودة سمو أمير مصر إلى عاصمته.(1/458)
فالتقت الحلقات حول وزير جليل، أو شاعر أديب، أو منشد مبدع؛ والمضيف الكريم يتنقل بين هذه الحلقات، فكانت ليلة سمر وأنس وسماع فريدة، والزمان بمثلها ضنين. وفي الحديقة الغناء مدت الموائد المثقلة بألوان الطعام وأنواع الشراب. وكانت فترة أنشد خلالها أحد المنشدين بحضور رئيس النظار غزلية شوقي مضناك جفاه مرقده (وهي الأبيات التي نشرتها الزهور ص 213 وعارضها كبار شعرائنا) وقد زاد عليها الشاعر أبياً كثيرة، منها في الغزل:
الحسن حلفت بيوسفه والسورة أنك مفرده
بيني في الحب وبينك ما ... لا يقدر واش يفسده
ما بال العاذل يفتح لي ... باب السلوان وأوصده
ويقول تكاد تجن به ... فأقوال وأوشك أعبده. . .
قسماً بثنايا لؤلؤها ... قسم الياقوت منضده
ورضاب يوعد كوثره ... متقول العشق ومشهده
وبخال كاد يحج له ... لو كان يقبل أسوده
وقوام يروي الغصن له ... نسباً والرمح يفنده
ما خنت هواك ولا خطرت ... سلوى بالقلب تبرده
ومن الأبيات التي يمدح بها الأمير:
يا سيف الدولة عش أبداً ... للعصر يهزك أحمده
سعدت بقدومك مصر ضحى ... وتلاقى الأوج وفرقده
ثم ختمها بنشيد وطني منه:
يا مصر سماؤك جوهرة ... وثراك بحار عسجده(1/459)
والنيل حياة دافقة ... ونعيم عذب مورده
والملك سعيد حاضره ... لك في الدنيا حر غده
والعصر إليك تقربه ... وإلى حاميك تودده
والشرق رقيك مظهره ... وحضارة جيلك سؤدده
لسريرك بين أسرته ... أعلى التاريخ وأمجده
بعلو الهمة نرجعه ... وبنشر العلم نجدده
وبعد أن انقضى هزيع من الليل أخذ القطار يقل المدعوين أفواجاً عائداً بهم إلى مصر.
حاصد
من كل حديقة زهرة
* سيتم عن قريب بناء دار البلدية في نيويورك وعلوها 70 متراً وعمق أساسها 44، وقد كلفت 50 مليون فرنك.
* الرأي في أصل الأثمار التي نأكلها مختلف. على أن المعروف أن أصل المشمش من الصين، والفريز (الفراولة) من ولاية فرجينيا في أمريكا، وأصل البرتقال من الصين أيضاً، والليمون الحامض من الهند، والتين من سورية، واللوز من التركستان، والجوز من الهند، والسفرجل من القفقاس، والإجاص (الكومترى) من أرمينيا، والعنب من كل مكان، والتفاح من جنة عدن حيث أغوت حواء آدم بتفاحة.
* كان القاضي في إحدى محاكم النمسا يسأل في الشهر الماضي متهماً عما إذا كان له أخوة. فأجاب أن له أخاً توفي منذ 140 سنة. فده القاضي. فقال المتهم: تزوج أبي وله من العمر 19 سنة فرزق ولداً عاش(1/460)
بضعة أيام ومات، ثم تزوج والدي بعد ذلك بخمسين سنة فولدت أنا ولي من العمر الآن 85 سنة. وعليه فقد توفي أخوه منذ قرن ونصف تقريباً.
* كسدت تجارة الكتب في كندا فعمد أحد الكتبيين إلى طريقة مبتكرة للإعلان، فبدلاً من أن يملأ واجهة مكتبته بالكتب نصب سريراً تتمدد فيه فتاة جميلة وبيدها كتاب تطالعه. فكان الناس يتجمهرون أمام المكتبة وبالطبع يشترون الكتاب. نصيحة نقدمها للكتبيين عندنا.
* عادة من يجلسون في القهوات أن ينقدوا الخادم حلواناً أو بخشيشاً وقد أحصى أحدهم المبالغ التي تنفق من هذا الباب في باريس وحدها فإذا هي 280. 000 فرنك كل يوم أو 8 ملايين و400. 000 فرنك في الشهر. ولمجموع فرنسا في السنة 473 مليوناً. فكم يا ترى تنفق على الجرسونات في مصر من الملايين المؤلفة من القرش التعريفي ونحن أكثر الناس قعوداً في القهوات؟
* اكبر كتاب وأصغر كتاب موجودان في المتحف البريطاني في لندرا؛ والأول يبحث في جغرافية ألمانيا القديمة، أهدي إلى تشارلس الثاني سنة 1660 وهو مجلد بالنحاس وزنه 300 كيلو. أما الكتاب الثاني فلا يتجاوز حجمه ظفر الإصبع وهو نسخة من الإنجيل رسمها أحد المصورين في أوائل القرن السابع عشر.
* في الهند الإنكليزية في قبيلة ظارو تقوم المرأة بأعمال الرجل والرجل بأعمال المرة: فهي تطلبه للزواج وتشتغل لتسد حاجات المنزل وهو يبقى في البيت ويهتم بالأولاد.(1/461)
* وفي آسيا عند قبيلة أكواكا المتوحشة يحرق الولد جسد والديه بعد موتهما وليسحق عظامهما ويسف الرماد حتى يمتزجا بجسمه وهكذا يفعلون بالأحباب والأصدقاء.
* أكثر الشعوب استعمالاً للتلفون الأمريكان وعندهم 6. 600. 000 آلة تلفونية ويليهم الألمان وعندهم 860. 000 تلفون ثم الإنكليز 590. 000 والفرنسيون 197. 000 والأسوجيون 167. 000. ولكل ألف نفس في الولايات المتحدة 82 تلفوناً وفي أسوج 31 وفي ألمانيا 14 وفي إنكلترا 13 وفي فرنسا 5.
* لم يبدأ استثمار مناجم الفحم إلا في أوائل القرن الرابع عشر.
* يظهر أن الحيات لا تحب الثوم، فإن الوطنيين في بلاد أفريقيا حيث تكثر هذه الزحافات يدهنون جسمهم بعصير الثوم فتهرب الحيات من رائحته. وهكذا يأمن الأهالي لدغاتها السامة.
حديقة الأخبار
* عرفت مصر حضرة إدوارد أفندي مرقص كاتباً مدققاً وشاعراً بليغاً واشترك في وادي النيل في تحرير صحف كثيرة. وقد عاد الآن إلى وطنه اللاذقية حيث أصدر جريدة المنتخب وأخذ يودعها من نفثاته كل ما يلذ ويفيد. ولاشك في أن يكون لهذه الصحيفة مستقبل حسن فتخدم البلاد والأمة خير خدمة.(1/462)
* كان أمين أفندي الغريب من أكبر خدمة الآداب العربية في بلاد أمريكا وكانت جريدته المهاجر من أرقى صحف العرب على الإطلاق. ولما أعلن الدستور في البلاد العثمانية عاد إلى بيروت وتولى رئاسة تحرير النصير مدة فأظهر إخلاصاً وبراعة في معالجة الأبحاث الوطنية. ثم رأى أن يؤسس صحيفةً جديدة فأنشأ جريدة الحارس وقد جاءتنا أعدادها الأولى طافحة بالفوائد والأخبار واللطائف الأدبية فكانت برهاناً جديداً على علو كعب الأمين في عالم الأدب.
* جريدة الاتحاد المصري من أقدم الصحف المصرية، مضى عليها ثلاثون سنة وهي عاملة على خدمة الوطن ونشر الآداب والمبادئ الطيبة، ويعز على محبي النهضة الأدبية أن يروا هذه الصحيفة اليوم لابسة ثوب السواد حداداً على فقد صاحبها ومؤسسها المأسوف عليه روفائيل مشاقه. وافه أجله في 6 نوفمبر الماضي وهو في الخامسة والخمسين من عمره قضى معظمها في خدمة الصحافة. فمنذ سنة 1880 دخل في جريدة الاجبت الفرنسوية ثم أنشأ جريدة لونيون ايجبسين باللغة الفرنسوية أيضاً وما لبث أن حولها إلى جريدة عربية هي جريدة الاتحاد المصري المعروفة. فإذا نحن أسفنا على فقد هذا الصحافي القديم فإننا نرجو لجريدته دوام الانتشار والازدهار بهمة نجله الأديب ادجار أفندي مشاقه وعناية محررها الكاتب البليغ نجيب أفندي غرغور.
* في مصر نهضة شريفة - ومصر مهد النهضات الشريفة في الشرق - ترمي إلى تحسين حالة المرأة والنظر في ترقيتها. وآخر مظاهر(1/463)
هذه النهضة كان صدور جريدة العفاف التي أنشأها حضرة الفاضل سليمان أفندي مهران السليمي للدفاع عن حقوق المرأة وقد جعل شعارها العفاف تاج المرأة فإن زال دال ملكها وسبك أحد محرري الجريدة الأديب الشيخ محمود رمزي نظيم هذه الآية في أبيات قال في ختامها:
إن الفتاة ملك ... كل نعيم ملكها
ربانة الكون التي ... في السعد يجري فلكها
وتاجها عفافها ... إن زال دال ملكها
ومتى عرفت أن للسيد الفاضلة مدام بستاني مؤسسة نادي الأوبرا يداً في إدارة العفاف أيقنت أن مستقبل هذه الجريدة سيكون زاهراً.
* المكتبة العمومية في بيروت لصاحبها الأديب النشيط سليم أفندي إبراهيم صادر من أشهر وأقدم مكتبات الشرق والمطبعة العلمية الملحقة بها بإدارة حضرة الفاضل الهمام يوسف أفندي صادر من أكثر المطابع خدمة للمعارف وقد طالما عملت هذه وتلك على إتحاف عالم الأدب بخير المصنفات وأنفس الكتب. وآخر أثرٍ ظهر منهما كان الأنيس وهو اسم مجلة روائية تشتمل على سلسلة روايات أخلاقية تاريخية أدبية معربة بأسلوب جميل عن أشهر مؤلفي الغرب وستصدر مرتين في الشهر بنحو 100 صفحة كل مرة واشتراكها في البلاد العثمانية 35 غرشاً صاغاً وفي الخارج 9 فرنكات.(1/464)
العدد 10 - بتاريخ: 1 - 1 - 1911
بين الأعياد
كان الشهر المنصرم شهر أفراح وأعياد - عيد الأضحى الإسلامي فعيد الميلاد المسيحي - فتبادل الناس التهاني، وتزاور الأخوان والأصدقاء معيدين، وانقطع الجميع عن أعمال الحياة ومشاغلها، وأخلدوا بضعة أيام إلى الرحالة العقلية والجسدية. وما الأعياد إلا واحات جميلة خضراء في صحراء هذه الحياة المضنكة المقفرة. يصل إليها الإنسان منهوك القوى فينعش جسمه بنسمة هواء ينشقها، ويحيي فؤاده بجرعة ماء يرشفها، فيجدد ما خار من قواه، ويعاود السير جاداً بنشاط حتى يجتاز المرحلة الأخيرة، ويبلغ الغاية القصوى.
ينشر هذا الجزء من الزهور من تحت الطبع مع حلول عيد جديد وهو بزوغ سنة 1991 ميلادية مع أول يناير (كانون الثاني) وابتداء السنة الهجرية 1329 في 2 منه الموافق غرة محرم. فإدارة هذه المجلة تتقدم لقرائها وأنصارها وكتابها وكل العاملين فيها بتهاني العيد سائلة لهم العافية والسلامة والهناء والتوفيق.(1/465)
1911 م=1329 هـ
كل سنة تسافر سفرة كبيرة تدوم 365 يوماً و6 ساعات و9 دقائق و11 ثانية: سفينتنا الأرض، وبحرنا الفضاء، وملاحنا الطبيعة، مصدرنا الحياة، ومقصدنا الأبدية. . . سلسلة أسفار حلقتها الأولى في المهد، وحلقتها الأخيرة في اللحد. وقد سافر بعضنا هذه السفرة عشرين مرة، وبعضنا ثلاثين، وآخرون خمسين أو أقل أو أكثر. . . منا من يتأثر لكل عارض يطرأ عليه أثناء السفر، فيأخذه الدواخ، ويقع متلاشياً، ومنا من يبقى ثابتاً حازماً تأبت عليه الطبيعة، وثارت العناصر، وهاجت الأنواء. . .
سفرة من سفراتنا هذه انقضت وقد بدأناها في أول يناير سنة 1910 وأنهيناها عند منتصف الليل البارح. وما كدنا ندخل المرفأ، حتى أقلعت السفينة بنا للحال، وخرجنا لرحلة جديدة حول الشمس وهي السفرة العاشرة بعد المئة والسبعة آلاف للخليقة حسب الترجمة السبعينية. فيجدر بنا أن نذكر شيئاً عما يعرض لنا أثناء هذه الأسفار المتواصلة:
تقطع في كل ساعة 106. 700 كيلومتر حول الشمس أعني في كل دقيقة 1811 كيلومتراً ونصف تقريباً. وفي أشهر السنة الاثني عشر تكون الأرض قد قطعت 963 مليوناً من الكيلومترات. فما أسرع سيرنا في بحار اللانهاية.
أما سفينتنا فهي عظيمة الطول والعرض يبلغ نطاقها الأربعين مليون(1/466)
متر، ومساحتها 510. 082. 000 كيلومتر مربع وحجمها 83. 260. 000. 000 كيلومتر مكعب. أما وزنها فلا ينقص عن 5. 957. 930. 000. 000. 000 مليون كيلوغرام وهو ثقل لا يدركه العقل البشري. وقد أراد أحد علماء الفلك أن يقربه إلى الفهم فقال: وزن الأرض يعادل 78 مرة وزن القمر أو 966 مرة وزن فرنسا، أو 52 مرة ونصف وزن أوروبا. أو 11 مرة ونصف وزن آسيا أو 13 مرة وزن أمريكا. أو 13 مرة ونصف وزن أفريقيا. (فتكون آسيا أثقل الأقطار في كفة الميزان). وكل هذه الأرقام باهظة يصعب تقديرها في الواقع فنقتطف عن تقارير العلماء بعض تشابيه يسهل فهمها:
سكان الأرض مليار ونصف مليار، فلو عد كل واحد منهم في كل دقيقة مائة طن من وزن الأرض وابتدأ بذلك منذ خليقة العالم لاقتضى لهم 76. 800 سنة تقريباً حتى يعدوا كم في الأرض طناً (والطن ألف كيلوغرام).
أو لو شئنا أن ننقل الأرض إلى الشمس، لاقتضى لذلك مليون من الخطوط الحديدية يسير عليها مليون من القطارات يقطر كل واحد منها عشرة آلاف عربية وتبتدئ بالشحن سنة 2710 قبل المسيح حتى تفرغ من عملها في عامنا الحالي. ونقل الأرض إلى الشمس لا يؤثر في هذه الأخيرة أكثر من نقطة ماء تقع في البحر. وهذا هو كبر الأرض التي لا يعتد بها بالنسبة إلى بقية الأجرام السماوية. والإنسان الذي هو بمثابة ذرة على سطحها يعد سيد كل هذه الكائنات بفضل عقله وإدراكه.(1/467)
وفي أثناء سفرتنا على ظهر هذه السفينة الضخمة نشاهد أيام صحو وصفاء، وأيام عواصف وشتاء. وما ذلك إلا ما نسميه فصول السنة الأربعة وهي فصل الربيع ومدته 92 يوماً و21 ساعة. وفصل الصيف ومدته 93 يوماً و14 ساعة. وفصل الخريف ومدته 89 يوماً و19 ساعة. وفصل الشتاء ومدته 89 يوماً.
والسنة في كل الحسابات مؤلفة من اثني عشر شهراً. وأسماء الأشهر مختلفة ومدتها تتراوح بين 29 و31 يوماً. وفي الأسبوع سبعة أيام يعبر عنها بالأعداد السبعة الأولى: فالأحد=1 وهو يوم بطالة عند النصارى، والاثنين=2 وكان يوم بطالة عند قدماء اليونان، والثلاثاء=3 وكان يوم بطالة عند الفرس، والأربعاء=4 وكان يوم بطالة عند الآشوريين، والخميس=5
وكان يوم بطالة عند قدماء المصريين، والجمعة=6 وهو يوم بطالة عند المسلمين، والسبت=7 وهو يوم بطالة عند الإسرائيليين.
وإذا شئت أن تعرف أي الأشهر 31 وأيها 30 فأطبق كف يدك وعد أسماء الأشهر على عقد الأصابع والفواصل مبتدئاً من يناير فإذا انتهى العدد فأعده مرة ثانية فالشهر الذي يقع على العقدة يكون 31 يوماً والذي يقع على الفاصلة (أي بين العقدتين) يكون 30: وفي شهر فبراير (شباط) 28 يوماً وفي السنين الكبيسية 29. وتعرف السنة الكبيسية بقسمة العدد على 4، فإذا لم يبق شيء فهي كبيسية، وإلا فليست كبيسية مثلاً: 1911: 4 يبقى 3 فهذه السنة ليست كبيسية. وسنة 1912: 4 لا يبقى شيء فالسنة القادمة كبيسية.(1/468)
ولقد لجأ الإنسان منذ بداية تاريخه إلى الظواهر الفلكية لتدوين أيامه. وأهم التواريخ التي شاعت بين البشر الحساب الشمسي والحساب القمري لأن مراقبة الشمس والقمر أسهل من مراقبة غيرهما من الأجرام الفلكية.
وكان بعض الأقدمين قد اختاروا للدلالة على السنة المدة التي تقتضيها الشمس منذ انتقالها من نقطة الاعتدال الربيعي إلى وقت رجوعها إلى هذه النقطة نفسها.
وكان المصريون يحسبون سنتهم 360 يوماً منقسمة إلى 12 شهراً يؤلف كل واحد 30 يوماً. ومن ثم كان الاعتدال الربيعي يتأخر خمسة أيام وربع في كل سنة، حتى أنه بعد مرور 18 سنة أخذ الربيع مكان الصيف. فأصلحوا هذا الخطأ بأن حسبوا السنة مؤلفة من 365 يوماً على أن ذلك لم يخل أيضاً من الغلط لأن السنة الشمسية على الصحيح مؤلفة من 365 يوماً وربع يوم تقريباً. وكثر الفرق مع توالي السنين حتى أصلحه سوسيجنيس بزيادة يوم كل أربع سنوات وسمي هذا الحساب الحساب اليولي لأنه تم على عهد يوليس قيصر. وهو لا يزال متبعاً حتى الآن في الكنيسة الشرقية.
لكن حساب سوسيجنيس لم يكن خالياً من الغلط، لأن السنة مركبة في الأصح من 365 يوماً و6 ساعات إلا 11 دقيقة و10 ثوان. فصار يحصل عن إهمال هذه الدقائق والثواني فرق يوم كامل كل 129 سنة وهذا هو غلط الحساب اليولي وبلغ هذا الفرق عشرة أيام على عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر فأصلحه هذا البابا بأن أسقط عشرة أيام وجعل(1/469)
اليوم الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1582 اليوم الخامس عشر منه وأمر بأن
تكون السنة 366 يوماً كل أربع سنوات مع حذف يوم كل 129 سنة وذلك تفادياً من الغلط في المستقبل. وهو الحساب الذي تعول عليه اليوم كل أوروبا ما عدا روسيا واليونان. وبات الفرق بين الحسابين 13 يوماً.
أما السنة الهجرية فهي قمرية مؤلفة من اثني عشر شهراً: ستة منها تتركب من 30 يوماً وستة من 29 يوماً لأن دوران القمر يتم في 29 يوماً ونصف تقريباً وكانت بداية تاريخ الهجرة سنة 622 من تاريخ المسيح في الخامس عشر من شهر تموز (يوليو) عند تولد الهلال.
وليست السنة القبطية إلا السنة المصرية القديمة فهي مؤلفة من 12 شهراً عدد أيام كل منها 30 يوماً يضاف إليها 5 أيام في آخر السنة لتكون 365 يوماً وفي السنين الكبيسية تكون الزيادة 6 أيام. ويبتدئ التاريخ القبطي من سنة 284 بعد المسيح وهو تاريخ الشهداء الذين استشهدوا في مصر على عهد ديوكليسيانس.
أما تاريخ الإسرائيليين فيعد ابتداؤه منذ خلق العالم. والسنة الإسرائيلية مؤلفة من 12 شهراً في السنين البسيطة ومن 13 شهراً في السنين التي يمسونها امبوليسمية أو إضافية وهي تعود 7 مرات في مدة 19 سنة يزيدون فيها من بعد شهر آذار شهراً آخر مؤلفاً من 29 يوماً يسمونه راذار أي آذار الثاني. وذلك لتقريب السنة القمرية من السنة الشمسية.
وفي الدولة العثمانية يوجد أيضاً حساب السنة المالية وكان ابتداء هذا(1/470)
التاريخ سنة 1205 هجرية موافقاً لأول آذار 1789 حساباً شرقياً. وكان ذلك في عهد السلطان سليم الثالث الذي أصدر أمره إلى الدفتردار مورالي عثماني بأن ينظم الشؤون المالية في الدولة اعتباراً من ذلك اليوم. وظل بدء السنة المالية أول آذار الشرقي، وحسبا الأشهر فيها كحساب الأشهر في السنة الشرقية.
هذا جل ما يتسع المجال لإيراده عن الحسابات المختلفة التي يتبعها البشر لتدوين تاريخهم، وهذا ملخص ما يقال عن رحلتهم السنوية حول الشمس، عسى أن تكون سفرة هذا العام سفرة خير وإقبال إن شاء الله.
الانتخابات الإنكليزية
باتت الخواطر متجهة في هذه الأيام إلى الانتخابات الجارية في إنكلترا، فرأينا أن نطلع القراء على بعض تعليمات عما يدور حول هذه الانتخابات لأن في ذلك شيئاً من الفكاهة والفائدة.
حل مجلس البرلمان الإنكليزي بعد حياةٍ قصيرة لا تتجاوز الأحد عشر شهراً لأن الانتخابات الأخيرة تمت في شهر يناير من السنة الماضية. فكان هذا المجلس أقصر المجالس عمراً بعد مجلس سنة 1886 الذي عاش خمسة أشهر ونصفاً.
وليس تجديد الانتخابات العمومية بالأمر الذي يستهان به. فإن انتخابات 1906 قد كلفت بريطانيا مليوناً و167 ألف جنيه، وانتخابات 910 التي جرت في يناير الماضي كلفتها مليوناً و297 ألف جنيه، ولاشك(1/471)
في أن الانتخابات الجارية الآن ستكلفها مثل هذا المبلغ على الأقل.
وليست هذه الأرقام إلا التي يعترف بها المنتخبون رسمياً والتي يجيزها القانون. ويقول العارفون أن حقيقة ما ينفق إبان الانتخابات يبلغ ضعفي هذا المبلغ، أي أن كل تجديد انتخاب يكلف البلاد 50 مليون فرنك تقريباً. ولذلك ترى المنتخِبين والمنتخَبين لا يميلون كثيراً إلى تجديد الانتخابات العمومية، ناهيك بما يلحق بالتجارة والصناعة من وقوف الحال. فإن المرشحين يقتصدون في نفقاتهم تأهباً لمصروف الانتخاب، فتهجر المسارح والفنادق والمتنزهات وكل المحلات العمومية، لأن زبائنها ينتشرون في كل أطراف البلاد للاهتمام بشؤون الانتخابات التي تستمر مدة أربعة أسابيع تقريباً.
وفي السلطنة الإنكليزية 7 ملايين وستمئة ألف منتخِب ويؤخذ من كتابٍ خاص نشر في هذا الموضوع أن كل صوت يكلف بالتعديل 3 شلنات و10 بنسات (4 فرنكات و75 سنتيماً) وأغلى ثمن للأصوات هو في ايكوسيا حيث يكلف الصوت 5 فرنكات و50 سنتيماً، وأرخص الأصوات في ارلندا، حيث يبلغ ثمن الصوت 3 فرنكات و60 سنتيماً، وكلف مستر اسكويث انتخابه في المرة الأخيرة 20 ألف فرنك، ومستر بلفور 40 ألفاً والسرجون بثل 110 آلاف وهو أكبر مبلغ أنفق في هذه الغاية.
ولا يحق الانتخاب في إنكلترا إلا للذي يدفع أجرة منزل على الأقل عشرة جنيهات في السنة. وإجراء الانتخابات في أوائل السنة لا يوافق الأحرار لأن العامل الإنكليزي في تلك
المدة يكون متغيباً عن منزله، ومن(1/472)
الصعب الاهتداء إليه وجمله على إعطاء صوته. وهذه المهمة منوطة برجال خصوصيين من أصدقاء المرشحين يطوفون المنازل والأحياء بقائمة الانتخاب، وهم مدربون خصيصاً للقيام بهذه المهمة. فيهيئون أدلة الإقناع، ويتوددون للناخبين، ويستميلون النساء والأولاد، ويقصدون العامل في معمله، ويترقبون ساعات الفراغ ليحملوه في الأتومبيل إلى محل الانتخاب لإعطاء صوته لمن يريدون. ويحظر عليهم القانون استئجار المركبات لهذه الغاية فلا يسعهم إلا استعمال المركبات الخصوصية أو التي يقدمها أنصارهم. وهذا مما يوافق المحافظين أكثر من سواهم لأنهم عادة من الأغنياء أصحاب السيارات والمركبات. وهذا السعي وراء الناخب لاصطياده يدلك على ضعف العقيدة السياسية.
وقد أصبح التصويت الآن في إنكلترا سرياً لكنه كان علنياً حتى سنة 1872 فكان المنتخِبون يحضرون إلى المحل العمومي ويعلنون جهاراً إذا كانوا ينتخبون جونس أو سميث مثلاً. فيعلو الصياح ويشتد النزاع. لأن أنصار هذا المرشح أو ذاك كانوا يسكرون الناخبين لاكتساب أصواتهم. وهكذا كانت الأصوات تباع وتشرى علناً. وكان وكلاء المرشحين يقضون نهارهم وليلهم في الحانات، يعاقرون الخمرة مع الناخبين الذين كانوا كثيراً ما يقضون شهرهم بين هذا الوكيل وذاك ويقبضون الدراهم من كلا الاثنين وهم لا يهمهم نجح الأول أو الثاني.
وقد تغيرت الحال منذ 25 سنة فأصبح القانون يعاقب بالحبس مدة سنة وبغرامة قد تبلغ خمسمئة فرنك كل من يدعو الناخب إلى الشرب أو(1/473)
الأكل أو يحاول التأثير عليه بالوعد أو الوعيد.
وبالرغم عن كل هذه التشديدات لا يزال هناك من يخرق القانون. فإن الناخب يتلقى يوم الانتخاب ضمن ظرف خصوصي تذكرة للسفر مجاناً في السكة الحديدية إلى دائرة الانتخاب دون أن يعلم مصدرها. وهناك حيل كثيرة تستعمل لتعدي ما يجيزه القانون. ولكن لما كانت جميع الأحزاب تعول عليها لم يقم من يشكو أو يداعي. وعليه فإن للدراهم الكلمة الأولى في الانتخابات في إنكلترا كما في غيرها، والحزب الذي لديه ثروة كبيرة في دائرة من الدوائر الانتخابية يمكنه أن يضمن النصر لأشياعه.
على أن الانتخابات الإنكليزية ليست معرضة للضغط الإداري كما هو جارٍ في باقي البلاد. فليس هناك من مأمورين إداريين يأتمرون بأمر ناظر الداخلية فيجرون الانتخابات على هواه.
وبالإجمال فإن لدى الإنكليز كما لدى غيرهم ألف طريقة وطريقة للتأثير على أصحاب الأصوات ولكن تحقيق ذلك من الأمور الصعبة بل المستحيلة. ولما كانت هذه الطريق توافق تارة هذا الحزب وتارة تؤيد ذاك، فليس من يريد أن يتحمل مسؤولية تعديلها أو مقاومتها. وهكذا تظل الأمور جارية مجراها المعتاد ما دامت النفس البشرية ذات مطامع وأميال.(1/474)
هواجس النفس بين العامين
ضافني السهاد ليلة أمس فسامرته حتى سئمت، فعفته ورحت استدعي النوم الساعة والساعتين، فبقي شارداً، فقلت: لا حول ولا. . . ثم أشعلت المصباح أدفع به وحشة الظلام.
وكان قد نام سكان الدير، وسكتت الحركة، فلم أعد أسمع إلا دقات ساعتي، كأنها تقول: الزمان يزول. . . فشعرت بوجيب قلب وخشوع، فقلت لنفسي: يا نفس لك من هذا السهاد فرصة ثمينة فاغتنميها، وتأملي قليلاً في شأنك، فعما قليل تصيرين إلى موقف بين عامين، مودع ومسلم، وتلك وقفة قل من استفاد منها. راجعي كتاب الماضي، وافتحي كتاب المستقبل، لكن الأمس قد عرفته، فتطلعي إذن إلى الغد. جولي في فضاء الخيال ثم لقني قلمي ما يمر بك من الهواجس، وأملي عليه ما به تشعرين!
فشعرت أن نفسي قد توقفن هنيهة كأنها رازحة تحت أحمال الانفعال والتأثر. هذا وحفيف الأوراق يزيد في وحشتي، وعقرب الساعة لا يزال يسير، فنظرت فإذا العام قد دخل في النزاع وأوشك أن ينقضي أجله.
فانقبضت إذ ذاك نفسي واندفعت تقول:
إلى أين أيها العام أنت مهرول في هذا الليل الدامس؟ وفي إحدى يديك مشعل يكاد ضوءه ينطفئ، وفي الثانية منجل مفلل. . . وعلى مَ أخذت معاجيل الطرق وعلى ظهرك أحمال الأيام تنوء بها؟. . . رويدك(1/475)
رويدك فإن طريق الماضي وعرة متحدرة، والظلام مدلهم وأنت شيخ مسن.
فالتفت إلي فإذا وجه جعدته الهواجس، وشعر متلبد شعثته الوساوس، وكتفان تقوستا من قراع النوائب، وقال وهو مسرع: دعني لا تلهني، فإن الأعوام رفقائي قد تقدمتني إلى محطة الأبدية. . . ولم يكد ضياء مشعله يتوارى في ظلام الزمان، حتى قرع أذني صوت الساعة الكبيرة فكان نصف الليل!!!. . .
* * *
فالتفت إذ ذاك استقبل تباشير العام الجديد، فرأيته وقد أقبل على مركبة ملكية لابساً حلة الشباب البهية، فتفرست في تلك المركبة الكبيرة، فإذا فيها من الذخائر العجيبة ما يكاد القلم يقصر عن وصفه.
رأيت فيها أشواك الشقاء وقد اشتبكت بأزهار الهناء، ومن ورائهما برفير الملوك وأطمار رثة تبين من خلالها يد المتسول مفتوحة للاستعطاء. وسرير يبدو منه رأس الطفل الصغير ونعوش أغنياء وتوابيت فقراء، وسمعت ضحكاً وبكاء، ورأيت عدلاً رافعاً لواء الحق، وظلماً ناشراً راية البطل، وفضائل بصورة راهبة قد جثت أما سرير المنازع، ورذائل شنعاء بهيئة السكارى، ورأيت النميمة تدب عقاربها، والرصانة كالأسطوانة الراسخة، والشراهة كأنها حوت على مائدة، والقناعة وقد نبتت حواليها أعشاب النساك والزهاد، إلى أشياء أخرى كثيرة من بندقية قانص الطائر، وشبكة صائد السابح. وسكة الفلاح، وعكاز الأعرج وسرير المقعد، وشبابة الراعي، وريشة المصور وقلم الكاتب، وكتاب الزاهد، ولجج فاغرة فاها، وأوبئة(1/476)
تنتشر جراثيمها، ونيران يتصاعد لهيبها، ورياح تعصف، ورعود تقصف، وسكون وسلام، وحروب ودماء.
فهبت أمام هذا المشهد الهائل، ثم قلت: يا نفس لقد رأيت ما رأيت فقولي لي الآن ما تشتهين في رأي هذا العام وإلى م تتوقين؟ ثم قلت: مهلاً فإني قبل أن تختاري أود أن أريك بعين الحقيقة ما قد رأيته بعين الفكر.
* * *
لما تنفس الصبح كنت على ظهور الأشرفية حيث يبدو للناظر بقعة خضراء بسقت فيها الأشجار، تطرد تحتها مياه النهر، وهي تنساب متسابقة إلى البحر فتغور في اللجج، فجلست على صخر وقد حان وقت بزوغ الشمس، وسكن نسيم الصبح، فراحت العصافير تتنقل على الأشجار وأخذت الطبيعة تنهض من سبات النون، والحياة تتجدد في الأعشاب، والدخان يتصاعد من فوق البيوت حيث تسمع قلقلة المفاتيح والأقفال وصرير الأبواب وعويل الأطفال. ثم أخذت المناظر تتضح شيئاً فشيئاً وما هي إلا بضع دقائق حتى بزغت الشمس من وراء الأفق ترسل حرير شعاعها يمسح دموع الأزهار. وكانت بارتفاعها تشرف على الغيوم المنتثرة فتفر هذه مسرعة أمام ملكة الطبيعة. وصارت فقاقيع مياه النهر تتألف لامعة كأنها تفتح وتغمض. والتلال تيقظ السهول لترتدي أردية الجلاء.
فقلت يا نفس أمامك من الطبيعة مشهد طالما شبب به الشعراء،(1/477)
فتطلعي وابتهجي وقولي لي، أتريدين أن أنصب لك على هذه التلال خيمة منها تملكين هذه البرية الجميلة؟. . .
فآنست من نفسي انعطافاً كأنه يقول: أجل إن المشهد لباهر ولكن ليس هنالك كل رغائبي.
فقلت لها: ارفعي النظر قليلاً، وانظري إلى لبنان العزيز، وطن الأسود وأرض الأولياء. هاك صنين وقد جلس على القنة شيخاً جليلاً فصبحيه مع الشمس في رأس العام، وتمني له شيخوخة صالحة واطلبي لبنيه أن لا يقلقوا راحة أبيهم الشيخ، وقد شيبت رأسه الأعوام وحدبت ظهره الأيام. تلذذي بما يحمله إليك النسيم من منعطفات الوديان واستنشقي شذا الأرز ونفحات الرياحين. نقلي النظر في هاتيك القرى المنتثرة هنا وهناك، وانظري القرويين وقد هبوا لأشغالهم. خذي النظارة وانظري الرعيان على هاتيك الروابي وقد سرحت قطعانهم ترعى في المراعي الخصيبة، هاك الشبابات في أيديهم، ولو كنا على مقربة منهم لسمعنا ألحانهم الرقيقة. وها إن المكارين أيضاً ينزلون في معاجيل الطرق وهم يترنمون على ظهور دوابهم ويتغنون بالميجانيا والعتابا. آه ما أجمل الجلوس في ظلال تلك الأشجار الوارفة وما أحيلى المقام في هذا الجبل المقدس. فقولي لي الآن أتريدين أن تكوني أميرة على لبنان فتحيي فيه الشهامة والمروءة وترجعي إليه ما مات من الفضائل إلى الحيوة، وتقلعي ما يزرع فيه من زروع الفساد فتخفق فوق روابيه رايات الأمن والسلام؟
فتململت ثم قالت: ذلك من أفضل الأمور ولكن ليست لذتي في التسلط على الشعوب فعجبت لأمرها وذهبت بها إلى شاطئ البحر(1/478)
وهنالك الحصى البيضاء منتثرة فوق الرمال كأنها اللآلئ على بساط من حرير. وعلى الشاطئ صياد مشمر الساقين وقد غاصت قدماه في زبد الأمواج، وألقى الشص في الماء ووقف ينتظر النصيب. فأسرعت الأمواج إلينا كأنها تريد السلام فكانت تحني الرؤوس وتعود إلى اللجج. وهنالك قوارب نشرت الشراع فهب فيها نسيم التوفيق، فمخرت تشق المياه تاركة من ورائها خطوطاً طويلة لا تلبث أن تغمرها المياه.
ثم صفرت باخرة ومرت ترشق الفضاء بدخان يحموم، وعلى ظهرها المسافرون يلوحون بمناديلهم وداعاً لمن يشيعونهم بالعيون والقلوب. فقلت لنفسي: أتشائين السفر إلى الأصقاع البعيدة فنسيح ونتنزه في جنات الأندلس ونرى ما ترك العرب فيها من آثار العظمة ثم ننتقل إلى فرنسا ربة البدائع. ثم نيمم إيطاليا فنفكه السمع بالأنغام الموسيقية وذلك مما يطيب لك جداً ونشخص إلى رومة مقام السيادة المسيحية ونزور الدياميس حيث رفات
الشهداء، ومن هنالك نتوجه إلى ألمانيا فنتوغل في غاباتها. ونرتحل إلى روسيا لنرى قبابها العالية ونرسل النظر في هاتيك السهول الواسعة. ثم نرجع إلى بحر الروم فنصعد من يافا إلى الأرض المقدسة فنزور المغارة التي بزغ منها نور الخلاص وجرى ماء الحيوة، وبستان الزيتون والجلجلة التي تتبرك الشفاه بلثم ترابها. ثم نجتاز مضيق السويس إلى البحر الذي عبره بنو إسرائيل بالأقدام، ومن هناك يمتد نظرنا إلى بادية العرب أرض الشعراء، وإلى أفريقيا فنجتازها من أهرام الفراعنة، إلى أرض الترنسفال التي حشا الله جوفها بالألماس ونمر بشواطئ الهند(1/479)
حيث اللآلئ ونتفرج على الأواني الصينية البديعة الصنع. وإذا شئت واصلنا السير إلى اليابان فأمريكا فأستراليا، ولا ندع أرضاً وطئتها أقدام الرحل والسياح إلا دخلناها. فهل تسرين بذلك؟
فأجابت: حبذا الأسفار ففيها نزهة الأبصار والأفكار، ولكن ليس في ذلك ما يشبع رغبتي ويتم لذتي.
فحرت في أمري وقلت لها هلمي إلى الحقول فنبذر البذور ونستغل الغلال ونشحن السفن ونتجر التجارات الواسعة ونعدن المعادن ونكثر من المعامل، فنربح الأرباح الطائلة ونجمع من الذهب القناطير المقنطرة، فنبني الدور ونشيد القصور ونكثر من الخدم والحشم وندعو بالمغنين والمطربين والراقصين ونأدب المآدب ونحتسي كؤوس الشراب مع الندماء والأحباب. فما تقولين في ذلك. أما تشتهين أن تسبحي في غنى الأرض وملاذها؟
فعبست وقالت: كلا!. . ليست في ذلك راحتي.
فقلت: لعل الدرس يطيب لها. فسألتها: أتريدين الانصباب على الدرس لتكوني في مستقبل الحين عالمة في الطبيعيات والكيمياء والرياضيات والفلسفة والطب. فتكشفين سر الكهرباء وتوسعين حدود علم النجوم، وتظهرين أجساماً جديدة وتخترعين قواعد حسابية وتكشفين عن أدق أسرار النفس وتوجدين دواء لكل داء. أو تودين أن تكوني موسيقياً بارعاً يتسلط على النفس بأنغامه فيضحك الثكلى ويسيل أجمد العيون. أو تشتاقين أن يكون لك ريشة تحقر أبدع ما أتى به رافائيل وميكالنج، أو(1/480)
قلم يصور أرق العواطف فيلقي في زوايا النسيان أولئك الشعراء المشاهير هوميروس وفيرجيل وامرؤ القيس وشكسبير ودانت وراسين. . . أو أن تكوني خطيباً مصقعاً يقتاد الشعوب، ويهز بقايا أثينا ورومة وطن
أمراء الخطابة. أو نقاشاً يدهش أرواح اليونان في قبورها. أو قائداً يكسر على ركبته سيوف الإسكندر والقيصر ونابليون؟ وأخالك الآن لا ترفضين. فتوقفت ثم قالت: إن مجد العلوم والفنون لمما يفضل على جميع ما سواه. ولكن رغيبتي فوق كل ذلك.
فوقفت وقفة المتحير وقد فرغت جعبة مسائلي فقتل: ويك أن في أمرك لعجباً: لقد عرضت عليك كل ما يتوق إليه المرء في هذه الدنيا وأنت عن كل ذلك ترغبين، فلقد والله أبرمتني وأسأمتني. . فإلى الدير!.
ثم قفلت راجعاً إلى غرفتي مطرقاً مبلبل البال وقضيت النهار مفكراً.
ولما كانت العشية خشيت أن يضيفني السهاد كما ضافني أمس. فصعدت إلى السطح قرب الساعة الكبيرة، وكانت الشمس في المغيب والدغش مقبل ليغشي الأرض فكانت المناظر تذهب تباعاً، وما هو إلا قليل حتى أرخى الليل سدوله وغيب البرية الظلام. فظهرت النجوم تتألف في الفضاء ببهاء يسحر العيون ويأخذ بمجامع القلوب.
وكانت نفسي إذ ذاك كمصباح يحوم حوله ألوف من الفواش والهوام. وإنني لكذلك إذ لاح لي خاطر جديد فناجيت نفسي قائلاً يا نفس لقد رفضت كلما عرضته عليك من أمور هذه الدنيا، فم يبق إلا أن أسألك أمراً واحداً: أتريدين أن نركب طيارة تطير بنا إلى ذرى الفضاء فنكون(1/481)
على مقربة من الكواكب والنجوم، فنراعي بهاءها ونعجب لاتساعها وكثرتها. ونسبح فيها لانهاية له من الفضاء ومن هنالك نشرف على الأرض وما فيها ونشاهد البحار والسهول والجبال فهلا ترضين!!!. .
وهناك انتصبت عابساً شاخص العيون أنتظر ما تجيب.
فرأيت أن نفسي قد انقبضت واجتمعت كعصفور يتحفز للطيران حتى حسبت أنها تقول. نعم! لكني ارتددت إلى الوراء إذ انتفضت وقالت بلهجة الموبخ: لا! كلا!!!. .
فأخذ مني العجب مأخذه فالتفت إليها وقد ملئ فمي بكلمات اليأس والقنوط وقلت: يا نفسي! فقاطعتني الكلام وقالت: مهلاً!. لقد طلبت إلي أن أهجر الأرض، فلبيك ولكن اعلم أني لا أكتفي بالوقوف بين الأرض والسماء وإنما أشتهي وأرغب وأتوق أن اخترق الفضاء وأتغلغل بين الكواكب والنجوم فاجتازها حتى أصل إلى الذي خلق الكواكب والنجوم وأوجد المال والجمال، وأبدع العلوم والفنون، وبسط الأرض ورفع السماء حتى أصل إلى الله فهو
خيري الأعظم وفيه محط رغائبي ومجتمع أشواقي. وبعد أن أطلعت على رغيبة نفسي رجعت إلى غرفتي مطمئناً ساكناً وقلت: اللهم اجعل هذا العام عام إقبال وفلاح، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
بيروت
الخوري مارون غصن(1/482)
تمدن المرأة العصرية
عودٌ على بدء
كتبت في العدد الثامن من هذه المجلة الغراء عن المرأة العصرية وكيفية استعمالها التمدن الحديث، وما جلبته من الأضرار بسبب فهمها قشوره لا لبه. وقد أرسلت على ذلك حضرة الآنسة الأديبة ادما كيرلس رداً لطيفاً، ذكرت فيه أني رشقت بنات جنسي بأحد السهام إذ وصفت المرأة التي تقتل الوقت بالزينة، وأهملت ذكر التي تعمل لاكتساب الفضيلة والتحلي بها. وعليه أجيب: إن الذي حملني على وصف النساء المهملات لواجباتهن دون المتفانيات في سبيلها هو أن تلك التي تسعى في خدمة العائلة وتضحي الملاهي والمسرات لتحافظ على ترتيب داخليتها ومستقبل صغارها هي قليلة جداً بالنسبة إلى العدد الكبير من أخواتها الباقيات، يوجد منها تقريباً عشرة بالمئة. وهذا عدد زهيد لا يبنى عليه حكم، ولا يقوم بالشرط المطلوب لسد الثلمة الواسعة في صرح الترقي والعمران. وعليه فقد تكلمت بمقتضى الحالة العمومية التي هي المصدر الحقيقي لكل عامل إن تأخر وإن تقدم. غير أن أقوالي أصابت الحقيقة عينها، ولذا جاءت جارحة لبعض القلوب اللطيفة، ولكني لم أبح بهذه الأفكار، إلا لاعتقادي بوجودنا في عصر النور والمعارف، عصر الحرية، حيث لا يجوز حجب الأفكار عسى أن يستخرج من كل فكرة فائدة، فنصل بعد ذلك إلى الغاية المطلوبة من ازدياد المعارف وارتقاء المدارك.(1/483)
وقد قالت حضرة الكاتبة عاذرة، بنوع ما، التي تتبع المودة ناسبة هذا لمهارة يديها بعد أن تكون حافظت على نظافة الملابس، فتمكنت من قلبها حسب الذوق الدارج، وقد أتت عبارتها هذه في محلها من الحق والعدل. على أنه يقال في هذا ما قيل في تلك، أعني إن المرأة البارعة التي تتزين بفضل مهاراتها وتفننها، ولا تتبع المودة إلا بعد أن تكون حافظت على إتمام واجباتها هي من العدد القليل، وليس لإصلاحها تأثير يذكر في بابا لخراب الواسع. وكم من زهرة ضاعت بين أشواك فخنقت، وكم من نجمة سترت تحت غيوم السماء فحجبت نورها عن الأبصار. فلم يظهر للناظر إلا الظلام الحالك وهكذا نحن لا يمكننا إلا أن نرمي في مقالنا إلى العدد الكبير أي إلى اللواتي يصرفن الغالي والرخيص في اتباع ما تختلقه ربات الأزياء، وهذا أمر أصبح أشهر من نار على علم. فكم من رجل
يئن لبذخ امرأته. وعدم مراعاتها أحواله، وكم من أولاد أشرفوا على التهور في دركات الهلاك، ووالدتهم بشاغل عنهم في إعداد الزينة والتفنن بها. وكم من أب أحنت ظهره متاعب الأيام، وبيضت شعره أهوال الزمان، غير أنه يبكي الآن لما يشاهده من اعوجاج الأزياء، وترك البساطة القديمة وعدم اللياقة في الأثواب، فأصبح ينظر لابنته المتقلدة نظرة المهيب الموبخ وإذا لم تعبأ بنظرته يئس وقال: حبذا يوم أرى فيه مماتي جاهلتي هذه تبذل النفس والنفيس لتتمثل بالعاقلة، وتتحلى نظيرها بحلى العلم والفضيلة، التي لا تشوبها شائبة ولا تؤثر فيها الأهواء والأزياء: وإننا نرى مثل هذا الأب آباء يبذلون كل ما في وسعهم ليبثوا روح البساطة وسلامة الذوق في(1/484)
قلوب النساء، وما تقرأ في الجرائد من الانتقاد علينا وعلى أزيائنا يؤيد صحة قولي. فعليه يكون أتباعنا للتقاليد المضرة على رضى تام منا أما لمطابقتها لأذواقنا ودرجة معارفنا، وإما لمراعاتنا أصوات الجهلاء. وعلى كل فإن لم يزد عدد المصلحات فينا على عدد المخربات، فلا أمل بالنجاح، وعبثاُ ننادي بالإصلاح دون الشرط المتقدم.
أما ما كان من نزوعنا عن لغتنا العربية إلى اللغات الإفرنجية فليس من ذنب على الرجال في هذا الباب، كما زعمت حضرة الكاتبة الأديبة، بل هم يعذرون إذا اعتبروا من أتقنت اللغات الغربية دون سواها، لأن معرفة اللغات الأجنبية تدل على زيادة علم وارتقاء، فضلاً عن أنها لغة الاختراعات والمعارف، ومن لم يتقنها حتى ن الرجال لا يمكنه أن يكون عاملاً مفيداً في الهيئة الاجتماعية. على أن هذا لا يمنع أن نحفظ للغتنا المركز الأول خصوصاً وفيها ما لا يقل فائدة عن آداب بقية اللغات، وإذا قلنا بوجوب تعلمها لا نعني الاقتصار عليها فقط، كلا، بل المراد من ذلك جعلها اللغة الأصلية التي لا يجوز إهمالها مطلقاً، لأنه من الضروري أن يعرف ابن كل أمة آداب لغته، وما فطر عليه أجداده، وكيف كانت أحوال بلاده.
فلنا نحن الشرقيين في هذا ما تفاخر به، ولو ثابرنا نحن أيضاً معشر النساء على درس اللغة العربية، وأتقناها كما يجب نظير بقية اللغات، إذ لم أقل أكثر، لحملنا الرجال على احترامها واعتبارها فيا بتكريمهم من أتقنت العربية أكثر من سواها ولكن من أين لنا هذا ونحن نرى أن أم العائلة(1/485)
إذا أرادت مناغاة ولدها ناغته بلغة أجنبية، ومتى كبرت ابنتها
وأسمعتها نصائحها سمعتها الابنة بلسان أجنبي. وعليه تشب هذه الصغيرة وعندها الميل الأكثر إلى ما تعودت سماعه فتظن أن اللغة الأجنبية تغنيها عن لغة قومها وهكذا تغفل وتكون على جهل تام من العربية وتاريخها، وقد رأينا كثيرات من اللواتي يتجاهلن لغتهن ظناً منهن أن في ذلك مفخرة لهن، أو بالأحرى تفرنجاً. فانظرن، يا صاحبات الرأي الصائب فينا، إلى هذه الأفكار التي سرت في عقول أكثر فتياتنا. أليس هذه دليلاً واضحاً على تأخرنا؟ وهل يرجى تعميم اللغة العربية وارتفاع شأنها عند الجنس اللطيف وفيه من يحتقرن ويجهلن لهذه الدرجة لغة أجدادهن؟ لعمري إن لم نسع لاستئصال هذه الأوهام من عقول هؤلاء الأخوات يخشى علينا من زيادة التهور. ولا يجب ن نلقى من هذا القبيل كل اتكالنا على الرجال إذ نحن صاحبات التأثير الأكثر مفعولاً في استمالة الرغائب والأميال لكل غاية نقصدها، فعسى أن ينصرف هذا المقصد إلى ما فيه هدايتنا ونهضتنا.
وإني بكل شكر وسرور أبسط يدي من هذا الوادي لمصافحة اليد التي بسطتها لي أديبة بيروت، بل أضع يدي بيدها للسير في الدفاع عن بنات جنسنا كل واحدة على طريقتها. كما أنني أرجو من سائر أخواتنا أن يطرقن هذه المواضيع التي تدور على شؤوننا الخاصة لأن بها العامل الأكبر على ترقينا ونهوضنا عسانا نصادف في الزهور الطريق المؤدية إلى ما فيه خيرنا وفلاحنا.
- مصر هدى إسكندر كيورك(1/486)
في رياض الشعر
كتب حضرة الألمعي مدير الجريدة مقالة جميلة عن تولستوي، فأرسل إليه سعادة أحمد شوقي بك قصيدة في ذلك الموضوع رأى أن يجمع فيها بين حكيم هذا العصر، الكونت تولستوي، وبين حكيم الدهر، فخر الضاد، أبي العلاء المعري وقد طرق الموضوع نفسه حضرة حافظ أفندي إبراهيم فرأينا أن نتحف القراء بدرر القصيدتين:
حكيم العصر وحكيم الدهر
(تولستوي) تجري آية العلم دمعها ... عليك ويبكي بائس وفقير(1/487)
وشعب ضعيف الركن زال نصيره ... وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم ... وأنت سراج غيبوه منير
يعانون في الأكواخ ظلماً وظلمة ... ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان والرضى ... عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه ... وللخادميه الناقمين قشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه ... أناجيل منها منذر وبشير
وتبكيك إلف فوق (ليلى) ندامةً ... غداة مشى (بالعامري) سرير
تناول ناعيك البلاد كأنه ... يراع له في راحتيك صرير
وقيل تولى الشيخ في الأرض هائماً ... وقيل بدير الرهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه ... وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى ... وجاور (رضوى) في التراب (ثبير)
وأقبل جمع الخالدين عليكما ... وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرنها شذى ... جناهن مسك فوقها وعبير
بهن تباهى بطن حواء واحتوى ... عليهن بطن الأرض فهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى ... فأنت عليم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديماً وحادثاً ... بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السموات في غد ... وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى ... طويل زمان في البلى وقصير
كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة ... ولم يؤوني دير هناك طهور
أرى راحة بين الجنادل والحصى ... وكل فراش قد أراح وثير(1/488)
نظرنا بنور الموت كل حقيقة ... وكنا كلانا في الحياة ضرير
إليك اعترافي لا لقس وكاهن ... ونجواي بعد الله وهو غفور
فزهدك لم ينكره في الأرض عارف ... ولا متعال في السماء كبير
بيان يشم الوحي من نفحاته ... وعلم كعلم الأنبياء غزير
سلكت سبيل المترفين ولذني ... بنون ومال والحياة غرور
أداة شتائي الدف في ظل شاهق ... وعدة صيفي جنة وغدير
ومتعت بالدنيا ثمانين حجة ... ونضر أيامي غنى وحبور
وذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ولاحظ مثل الشمس حين تسير
فما راعني إلا عذارى أجرنني ... ورب ضعيف تحتمي فيجير
أردت جوار الله والعمر منقض ... وجاورته في العمر وهو نضير
صباً ونعيم بين أهل وموطن ... ولذات دنيا كل ذاك نذور
بهن وما يدرين ما الذنب خشية ... ومن عجب تخشى الخطيئة حور
أو أنس في داج من الدير موحش ... ولله أنس في القلوب ونور
وأشبه طهر في النساء بمريم ... فتاة على نهج المسيح تسير
تسائلين هل غير الناس ما بهم ... وهل حدثت غير الأمور أمور
وهل آثر الإحسان والرفق عالم ... دواعي الأذى والشر فيه كثير
وهل سلكوا سبل المحبة بينهم ... كما يتصافى أسرة وعشير
وهل آن من أهل الكتاب تسامح ... خليق بآداب الكتاب جدير
وهل عالج الأحياء بؤساً وشقوة ... وقل فساد بينهم وشرور(1/489)
قم أنظر وأنت المالئ الأرض حكمة ... أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها ... ودهر رخي تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد ... تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعاً في الحياة كأنها ... ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى ... وغش وإفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة ... على الحكم جم يستبد غفير
وأضحى قول الناس مولى وعبده ... إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفاذ المال لا أمر في الورى ... ولا نهي إلا ما يرى ويشير
تساس حكومات به وممالك ... ويذعن أقيال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويؤوي جيوشاً كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهباً ... تعلق أسباب السماء يطير
شوقي
* * *
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى ... لمدحك من كتاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده ... إذا قيل عني قد رثاه صغير
فقد كنت عوناً للضعيف وإنني ... ضعيف وما لي في الحياة نصير
ولست أبالي حين أبكيك للورى ... حوتك جنان أو حواك سعير
فإني أحب النابغين لعلمهم ... وأعشق روض الفكر وهو نضير(1/490)
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس ... وهز لها عرش وماد سرير
وقال أناس إنه قول ملحد ... وقال أناس إنه لبشير
ولولا حطام رد عنك كيادهم ... لضقت به ذرعاً وساء مصير
ولكن حماك العلم والرأي والحجى ... ومال إذا جد النزال وفير
إذا زرت رهن المحبسين بحفرة ... بها الزهد ثاوٍ والذكاء ستير
وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى ... وشاهدت وجه الشيخ وهو منير
وأيقنت أن الدين لله وحده ... وإن قبور الزاهدين قصور
فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا ... مهيب على رغم الفناء وقور
وسائله عما غاب عنك فإنه ... عليم بأسرار الحياة بصير
يخبرك الأعمى وإن كنت مبصراً ... بما لم تخبر أحرف وسطور
كأني بسمع الغيب أسمع كلماً ... يجيب به استاذنا ويحير
يناديك أهلاً بالذي عاش عيشنا ... ومات ولم يدرج إليه غرور
قضيت حياة ملؤها البر والتقى ... فأنت بأجر المتقين جدير
وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا ... وما أنت إلا محسن ومجير
وما أنت إلا زاهد صاح صيحةً ... يرن صداها ساعة ويطير
سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا ... إليها بما تعطيهم وتمير
حياة الورى حرب وأنت تديرها ... سلاماً وأسباب الكفاح كثير
أبت سنة العمران إلا تناحراً ... وكدحاً ولو أن البقاء يسير
تحاول رفع الشر والشر واقع ... وتطلب محض الخير وهو عسير(1/491)
ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم ... دليل على أن الإله قدير
ولم يبعث الله النبيين للهدى ... ولم يتطلع للسرير أمير
ولم يعشق العلياء حر ولم يسد ... كريم ولم يرج الثراء فقير
ولو كان فينا الخير محضاً لما دعا ... إلى الله داع أن تبلج نور
ولا قيل هذا فيلسوف موفق ... ولا قيل هذا عالم وخبير
فكم في طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور
ألم تر أني قمت قبلك داعياً ... إلى الزهد لا يأوي إلي ظهير
أطاعوا أبيكيرا وسقراط قبله ... وخولفت فيما أرتئي وأشير
ومت وما ماتت مطامع طامع ... عليها ولا ألقى القياد ضمير
إذا هدمت للظلم دور تشيدت ... له فوق أكتاف الكواكب دور
أفاض كلانا في النصيحة جاهداً ... ومات كلانا والقلوب صخور
فكم قيل عن كهف المساكين باطل ... وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما صد عن فعل الأذى قول مرسل ... ولا راع مفتون الحياة نذير
حافظ
وقد طرق هذا الموضوع أيضاً حضرة الأديبين أحمد أفندي نسيم وبعد الحليم أفندي
المصري. وأطلعنا على قصيدتيهما بعد نشر ما تقدم فلم ينفسح المجال لنشرهما.(1/492)
يا ليل الصب متى غده
نشرنا المعارضة التي جاءتنا من شوقي بك لهذه القصيدة، ثم عارضها بعده على صفحات الزهور أيضاً أعلام شعرائنا كصبري باشا والأمير نسيب أرسلان ووليا لدين بك يكن. ولا يزال البريد يحمل إلينا من أنحاء مختلفة معارضات كثيرة يحول دون نشرها ضيق المجال. منها واحدة لحضرة الأديب محمود أفندي الناظر من أم دومه قال فيها:
أهوى رشأ لولاه لما ... قد حارب جسمي مرقده. .
قد ضاع الوصل فيا أملي ... بحياة الدل تؤيده
فالوجه سباني أبيضه ... والشعر سباني أسوده
وقال أيضاً حضرة الفاضل الشيخ محمود رمزي نظيم من قصيدة
العيش تولى أرغده ... فعسى بالوصل تجدده
إن تنكر حبي أو ولهي ... فلسان الدمع يؤيده. .
مولاي ومثلك لا يجفو ... صباً يهواه ويعبده
إن راح اليوم على أمل ... من وصلك أيأسه غده
كم جمع من أمل بلقا ... ئك والهجران يبدده
وجاءنا أيضاً شيء بهذا المعنى من حضرة كاظم أفندي الدجيلي من بغداد.
وقد تراكمت علينا المواد الشعرية ومعظمها من فطاحل شعرائنا في أجمل الموضوعات سننشرها تباعاً في حينها. فترجو من أصحابها صبراً وعذراً.
ومن الطرف التي سنتحف بها قراءنا في العدد القادم مراسلات شعرية دارت بين سعادة الأمير شكيب أرسلان اللبناني والمرحوم محمود سامي باشا البارودي أيام كان هذا منفياً في جزيرة سيلان ولم يسبق نشرها قبل الآن. وقد مكنتنا الصدف من تقديمها إلى قراء الزهور قبل سواهم.(1/493)
إحياء الآداب العربية
أرسلت إلينا الحكومة المصرية نص المذكرة التي رفعها إلى مجلس النظار عطوفة رئيسه محمد سعيد باشا والتقرير الذي وضعه سعادة ناظر المعارف أحمد حشمت باشا بشأن إحياء الآداب العربية، وذلك بمباشرة نشر الكتب النفيسة التي جمعها حضرة العالم أحمد زكي بك من مكتبات الأستانة وأوروبا. وقد طالعنا كل ذلك بمزيد من الارتياح. بعد أن كانت الزهور قد اقترحت في أعدادها الأولى البحث في الوسائل الواجب اتخاذها لإيجاد هذه النهضة. وقد قال لنا زكي بك أنه كان يرى بمزيد السرور اهتمام مجلتنا بهذا الموضوع بينما كان هو يعد معدات مشروعه الجليل. ولسنا في مقام تعريف قرائنا بزكي بك. . فإن أبحاثه النفيسة قد نشرت اسمه بين علماء الشرق والغرب، ولكنه لا يسعنا إلا أن نشكره ونشكر الحكومة المصرية على هذه الخدمة الجلى. ولا عجب فإن مصر كانت ولا تزال مبعث النهضة العربية وركنها الكبير. ونحن ننشر اليوم المذكرة التي وضعها عطوفة رئيس النظار بهذا الشأن. وسننشر في العدد القادم تقرير سعادة ناظر المعارف.
كان ن دأب الحكومات التي تناوبت الحكم على وادي النيل منذ الزمان القديم طلب المباراة في ميادين السبق لرفع منار العلوم ونشر رايات العرفان سعياً وراء الفخر المخلد والمجد المؤبد. وكان من همها على الأخص توجيه عنايتها إلى إعلاء شأن اللغة العربية وآدابها بما كانت تبذله من الرغائب لانبعاث الهمم من رقدتها، وانعقاد العزائم على خدمتها، وتعضيد أهل العلم وذوي الفضل على دوام البحث والاستنباط.
غير أن نوب الزمان وطوارئ الحدثان تناولت هذه العناية فيما تناولته، فأخمدت نارها وحجبت أنوارها، فانجلت العزائم وتلاشت الهمم، وكادت(1/494)
محنة الدهر تقضي على ملكة الاختراع والابتكار بين أهل هذه الديار، وتفقدهم ميل النفس إلى التصنيف والتأليف. ثم تفرع على ذلك اندثار دور الكتب واندراس آثارها بيننا، بعد أن كانت قائمة على الدهر تشهد للأمة المصرية بعلو كعبها وجميل أثرها في هذا الباب. ومازالت يد الزمن تعبث وتدمر، حتى سخر الله لهذه البلاد محيي مواتها وباعث رفاتها ذلك الرجل العظيم محمد علي الكبير رأس هذه الأسرة المالكة. فزواج بين ترقية الأمة المصرية مادياً وأدبياً، ومزج بين إصلاحها معاشاً ومعاداً، حتى منحه التاريخ لقباً ينطبق عليه بكل حق وعدل وهو محيي مصر.
ثم كانت سيرة خلفائه الفخام من بعده على نحو ما رسم وقدر، فكان من حسنات المغفور له إسماعيل باشا أن جمع من هنا وهناك ما أبقته عوادي الأيام من حطام تلك الدور النفيسة دور الكتب القيمة فتلقف شواردها وضم أشتاتها وأسس دار الكتب الخديوية القائمة الآن وأفاض عليها هو وابنه الخديوي توفيق على الأخص ما يضمن طول بقائها ودوام الانتفاع بها، فكانت غلة العقار المحبوس عليها كفيلة بتقدم هذا المعهد وارتقائه.
ولكننا لا نزال نرى إلى اليوم أن دار الكتب هذه لم تتجاوز في مهمتها المطلوبة منها وهي نشر العلوم والمعارف حد الاستعداد والتأهب للعمل وقد آن الوقت الذي يحب أن تخطو فيه خطوتها الواسعة في هذا السبيل، وتبرز للملأ من جليل الأعمال ما فيه سرعة ارتقاء الآداب والعلوم.
وأمامنا اليوم فرصة حاضرة، حانت لنا بالنظر في المفكرة التي وضعها حضرة أحمد بك زكي، الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وضمنها ما(1/495)
عنّ له من وجود الإصلاح وضروب الوسائل التي من شأنها إحياء الآداب العربية بديار مصر. وقد ذيلهما بنبذ قصيرة عن عدة كتب ومصنفات بخط اليد، توصل إلى نقل صورها بطريقة التصوير الشمسي في القسطنطينية والبلاد الأجنبية.
وقد مضى على واضع هذه المفكرة زهاء عشرين سنة وهو يوالي البحث والتنقيب عن أنواع الطرق الموصلة إلى تعميم المعارف واستنهاض الهمم لاجتياز باب العمل في فنون الإصلاح المطلوب لإحياء العلوم والآداب العربية. ولذلك قابل أصحاب الحل والعقد ما شرحه من سديد الآراء ومحكم الوسائل بعين الرضا والقبول. وعهدت الحكومة الخديوية إلى صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية أن ينظر في الأمر، ويقرر فيه ما يرشدها إلى الطريق القويم في هذا الباب.
ولست أرى وسيلة لشرح ما رآه سعادته في هذه الموضوع أفضل من الفات مجلس النظار إلى نص التقرير الجليل الذي يشير فيه إلى وجوب العمل على حسب الخطة التي رسمها صاحب المفكرة مع بيان الوسائل الفعالة لإبراز هذا المشروع إلى حيز الوجود. ولقد بادرت بإبلاغ هذا التقرير إلى نظارة المالية مشفوعاً برأيي في الموافقة عليه من جميع الوجوه مع تأييد كل ما أشار به سعادته من الاقتراحات النافعة لتجديد الآداب العربية.
ولما درس سعادة سابا باشا ناظر المالية هذا المشروع كتب إلي كتاباً تاريخه 18 أكتوبر سنة 1910 قال فيه: إن نظارة المالية تشاهد بمزيد الرضا ونهاية الامتنان تلك المجهودات التي مازال يبذلها أحمد بك زكي(1/496)
وإنها توافق بتمام الارتياح على الغاية التي يسعى وراءها في تجديد الآداب العربية وختم سعادته كتابه بأن نظارة المالية مستعدة لأن تخصص لهذا الغرض مبلغ الألف جنيه المربوط في الميزانية لتشجيع الأعمال الأدبية.
فهذه الأريحية الكريمة تدعونا إلى البحث في الأسباب التي يكون من شأنها استمرار هذه الحركة المباركة بما يضمن ظهور آثارها بدون انقطاع.
وبما أنه من الضروري النظر في تدبير الوسائل التي تكفل لهذا العمل ما يقتضيه من البقاء والاستمرار.
وبما أن المصنفات التي نقلها أحمد زكي بالفوتوغرافية هي ذات قيمة عظيمة من الوجهة العلمية والتاريخية والأدبية.
وبما أن معظم هذه المصنفات التي أشار إليها هي من وضع المؤلفين المصريين ولا نكاد نرى لها أثر في البلاد التي تولد فيها وظهرت بها.
فلهذه الأسباب
أقترح على مجلس النظار تكليف نظارة المعارف العمومية بما يأتي:
أولاً - المبادرة بدون تأخير في تدبير الوسائل التي تضمن إحياء الآداب العربية حسب البيانات التي أوضحها سعاد احمد حشمت باشا في تقريره المؤرخ في 11 رمضان سنة 1328 (15 سبتمبر سنة 1910).
ثانياً - تخصيص المبلغ الاحتياطي المتكوّن بدار الكتب الخديوية لهذا الغرض.
ثالثاً - الابتداء في إحياء الآداب العربية بطبع ونشر الموسوعتين الكبريين المعروفتين باسم نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين(1/497)
النويري ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري.
رابعاً - الاستمرار على موالاة هذه النهضة التجديدية بطبع ونشر بقية الكتب التي أشار إليها حضرة أحمد زكي ك حسب الكشف المرفق بهذه المذكرة ثم سائر المخطوطات العربية الأخرى الكثيرة الندرة العظيمة الفائدة.
هذا وإنني أرى من جهة أخرى أن ضمان النجاح لهذه الحركة الخصيبة يوجب على مجلس النظار أن يسهل على نظارة المعارف العمومية القيام بمهمتها بالفلاح الذي نبتغيه لهذا الإصلاح فلذلك يحسن بحكومة الجناب الخديوي المعظم أن تكلف نظارة المالية بأمرين اثنين أيضاً وهما:
أولاً - جعل مبلغ الألف جنيه تحت تصرف نظارة المعارف المعمومية بصفة عامة إعانة خصوصية لطبع الموسوعتين المذكورتين قبل.
ثانياً - إصدار الأوامر اللازمة إلى مطبعة بولاق الأهلية للإسراع في إنجاز أعمال الطبع بكل ما في الإمكان.
وأملي وطيد في أن المجلس يتكرم بالموافقة على ما أبديته من الاقتراحات ليجري العمل بانتظام وفق المرغوب، فإن إنجاز هذا المشروع على أجمل حال مما يجمل بحسنات هذا العصر، ويكون غرة في جبين الدهر، تشهد بارتقاء العلوم والآداب بيمن مولانا الخديوي ناشر رايات العدل ورافع أعلام العلم والفضل.
محمد سعيد
رئيس مجلس النظار
وقد وافق مجلس النظار المنعقد برئاسة الحضرة الفخيمة الخديوية على ما جاء في هذه المذكرة وفي تقرير ناظر المعارف الذي سيجده القراء في العدد القادم.(1/498)
في جنان الغرب
نأخذ ما يلي من كتاب السعادة والسلام الذي وضعه اللورد افبري وعربه حضرة الأديب وديع أفندي البستاني وسيجزئ الكلام عنه بعد.
1
الشاعر والسماء
ما فرغ الآلهة من شأن الخليقة حتى أعلنوا للبشر أن سيقتسموا الأرض فيما بينهم، وضربوا لهم موعداً لذلك. وما آن الموعد المضروب، حتى وضع أهل الزراعة أيديهم على الحقول الممرعة، وأخذ التجار يمهدون القفار ويسلكون البحار، واحتل الرهبان منحدرات الجبال الصالحة لغرس الكروم، وخصص الأشراف وأبناء الترف الأحراج والغابات لأجل الاصطياد والتنزه، واستولت الملوك على الجسور والمضايق والخلجان لأجل وضع المكوس والضرائب عليها: أما الشاعر فما نجا من حيث كان غريق التأملات العميقة، حتى هب يسعى، ووصل فوجد كلاً قد فاز بنصيبه فراح يبكي بخته ويطالب بحقه. ولكن ما الحيلة ولم يبق في يد الآلهة شيء يعطى. فقالوا له: هيا تعال اسكن معنا في صفاء السماء الأبدي. تعال إلينا كلما شئت فالباب أبداً مفتوح لك. فقنع الشاعر بما أصابه. إلا أنه غني عن تكلف مشقة الصعود إلى طبقات الجو وطياق السماء فهو إذا شاء خلا باله وسكن بلباله، ففكره يستنزل السماء إلى الأرض.(1/499)
2
وصف الحية
وكم من حيوان نظل لا نعرف له شأناً حتى يقوم كاتب كرسكن يصفه لنا. . . وهاك وصفه للحية:
ذلك الجدول الفضي الأملس - أفكرت في جريه وسعيه؟ الحية لا تمشي بل تسعى وتجري. وكأنها الزورق في البحر، إلا أن التراب ماؤها وقشرها مجذافها ورأسها دفتها. بل هي النهر تنساب في السهل انسياباً. تتموج ولا ريح تتلاعب بأمواجها. تجري ولا شلال يقطع مجراها. كل جسمها يتحرك معاً - إلا أن بعضه ذات اليمين وبعضه ذات اليسار وقسم منه إلى الأمام والآخر إلى الوراء، تمر بك ولا تسمعك صوتاً، وتفوتك وتترك لك أثراً فحواه:
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار.
فاجئها بصرخة وإذا بالجدول المنساب قد استحال سهماً مسدداً وموجة السم استقامت رمحاً مقوماً يخترق الأعشاب وينفذ منها ولا طعنة الفارس من صدر العدو. لها رئة ولا تكاد تتنشق الهواء أو تتنفس الصعداء. سواء عندها الشمس والظل فهي باردة حارة، جامدة إلا أنها تتسلق ولا القرد، وتسبح ولا السمكة، وتثب ولا الغزال، وتصارع وأين منها ابن حواء وتسحق وأين منها النمر. هي قوة شيطانية مجسمة على الأرض. وكما أن العصفور هو قوة الهواء مكسية ريشاً فكذلك الحية إنها قوة التراب لابسة مسوحاً وجلداً. وكما أن العصفور هو رمز للروح والحياة، فالحية رمز لقضي الموت على الحياة وقبضته على الروح.
افبري(1/500)
الكلمات الأجنبية والعامية
في اللغة العربية
لما ألف نادي دار العلوم لجنة علمية من أعضائه لمباشرة وضع كلمات عربية للكلمات الأجنبية والعامية، قابلنا عمله هذا بكلمات الثناء والإطراء، وكنا أسبق المجلات والصحف إلى نشر الكلمات التي أقرها مع إبداء ما عنّ لنا من الملاحظات عليها. وتناقلت بحثنا هذا صحف كثيرة في سوريا وأمريكا، وجاءتنا ملاحظات كثيرة من مراسلينا في بيروت وبغداد نشرنا معظمها في حينه، مما دل على ارتياح العرب قاطبة إلى هذا المشروع الجليل. وكان يليق بلجنة النادي أن تعير تلك الملاحظات جانباً من الالتفات، تعميماً للفائدة، لأنه يجب أن يشترك في مثل هذا المبحث أدباء الأقطار العربية كافة، فقد يكون بلد مصطلحاً على كلمة مجهولة في غيره كما ظهر ذلك مما سبق لنا نشره.
والذي يسوءنا تواني اللجنة في متابعة عملها. فقد مر عليها أشهر من الزمان، دون أن تتحفنا بشيء جديد في هذا الموضوع، سوى مفردات قليلة قررتها في شهر سبتمبر. ولم نكد نجد لها تعليلاً لما اختارته من الكلمات كما كانت تفعل من قبل. فأسفنا وأيم الحق لظهور آثار هذا الخمول الذي ألفناه بعد التحمس في كل ما نشرعه من المشروعات. لأننا كنا نعلق آمالاً كبيرة على أعضاء دار العلوم من حيث كفاءتهم واجتماعهم عدداً كبيراً للسعي وراء غاية واحدة، بخلاف سائر اللغويين الذين ليس(1/501)
بينهم من رابطة. ومع ذلك يبقى لنا الأمل بتجدد الهمم وانبعاث العزائم بعد انقضاء فصل الصيف حتى تعود اللجنة إلى سابق عملها الذي يطالبنا الكثيرون به.
* * *
وإليك الكلمات الأخيرة التي أقرتها اللجنة:
(أتومبيل) - استعمل الكتاب في هذا المعنى كلمة (سيارة) وتعارفها الناس فوافقت اللجنة على استعمالها.
(اكسبرس) - ترى اللجنة استعمال (قطار سريع) ثم يستغنى عن الموصوف ويكتفى بالصفة فيقال (السريع) كالمعتاد. . . ومن رأي رشيد أفندي عطية صاحب كتاب العامي والدخيل الذي أشرنا إليه في الجزء الخامس من الزهور (ص 218) استعمال كلمة
(عاجلة) والتاء للمبالغة كالتاء في راوية.
(بودره) - اختارت اللجنة لفظة (غُمنة) والغمنة في القاموس الاسفيداج، والغمرة تطلي به المرأة وجهها.
(بزرميط) - اختارت اللجنة (هجين) لمن أبوه خير من أمه و (مقرف) لمن أمه خير من أبيه و (مخلَّط) إذا لم تلاحظ الخيرية في إحدى الجهتين.
(بنطلون) - وفصيحها (سروالة) معرب شلوار بالفارسية - وفي سورية يقولون (شروال) وبنطلون لفظة إيطالية الأصل وهي منسوبة إلى القديس بنطلوني الإيطالي أول من استعمل هذا اللباس.(1/502)
(ترتوار) - قالت اللجنة (طوار) وطوار الدار (بكسر الطاء وفتحها) ما كان ممتداً معها وهذا ممتد مع الشارع. - على أن لفظة ({صيف) قد استعملها المولدون وتعارفها الناس.
(تملي) - وفصيحها (دائمي).
(روماتزم) - استحسنت اللجنة كلمة (رثية) وهي في القاموس وجع المفاصل واليدين والرجلين.
(زنبلك أو زنبرك) - جاء في القاموس: يقال لكل ما لم يتحرك ولم يدر دوارة وفوارة بفتح الدال والفاء. فإذا تحرك ودار فهو دوارة وفوارة بالضم. والزنبلك متحرك، فرأت اللجنة أن كلمة (دوارة) أقرب الكلمات العربية إلى هذا المعنى.
(صالون) - استعمل الكتاب كلمة (بهو) وهي تؤدي المطلوب.
(قشلاق) - ويقولون في سورية (قشله) وفصيحها الثكنة وهي في القاموس مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علم. جمعه ثُكَن.
أما تمرجي (وفصيحها ممرض) ودونانمة (وفصيحها أسطول) ويمكخانة (وفصيحها مطعم) فهي مستعملة فقط في بعض الأنحاء وما يقابلها في اللغة الفصحى أشهر منها وأعم استعمالاً.(1/503)
ثمرات المطابع
السعادة والسلام - تكلمنا عن كتاب معنى الحياة في الجزء الرابع ص 173. وقلنا كلمتنا في مبادئ فلاسفة المؤلف ومتى عرفت أن لورد أفبري هو أيضاً واضع السعادة والسلام وأن معربه هو أيضاً وديع أفندي البستاني الذي ملك عنان اللغتين الإنكليزية والعربية، حتى بات يؤدي كل معاني اللغة الأولى في أجمل عبارة من اللغة الثانية، عرفت قدر الكتاب الذي نحن بصدده الآن. تطالع المئتين والخمسين صفحة التي يتألف منها الكتاب دون أن يستولي عليك شيء من الملل الذي يصاحب عادة مطالعة الكتب الفلسفية. وذلك لأن مؤلفه لم يطرق الفلسفة الناشفة والاستنتاجات المعلة، بل عمد إلى النفس البشرية وما حولها من مظاهر الطبيعة، فقابل بين مؤثرات هذه وانفعالات تلك، بأسلوب قريب لذيذ يرتاح إليه الفؤاد ويتغذى منه الجنان. ولما كانت السعادة والسلام أمنية الجميع فيجدر بالجميع أن يقبلوا على هذا المؤلف النفيس. أما التعريف فهو على جانب عظيم من البلاغة والطلاوة. وقد عمد المعرب إلى ما في الكتاب من المقاطع الشعرية فسكبها في قالب شعري جميل، فنجح في النظم نجاحه في الشعر. والكتاب مهدى إلى الناشئين المصرية والسورية ويجب على الناشئة العربية عموماً أن تستفيد منه، لأنها في طور حاجتها(1/504)
فيه شديدة إلى مثل هذه المبادئ النافعة، وإذا نحن أثنينا الثناء الجم على فرع الدوحة البستانية الذي قدم لأخوانه هذه الهدية الثمينة، فنحن نثني باسم الكثيرين الذين ذاقوا بعد مطالعة كتابه سعادةً وسلاماً.
* * *
الجاذبية وتعليلها - هو عنوان رسالة وضعها شاعر مدينة السلام وأديبها الكبير جميل أفندي صدقي الزهاوي، ضمنها ملاحظات كثيرة على الجاذبية وأنواعها ونواميسها، مصرحاً بأنه اعتمد في ما كتب على ما علمه بنفسه عن المادة وقواها، طالباً من القارئ أن لا يحتقر الرأي لصاحبه إذا هو لم يحترم صاحب الرأي لرأيه والزهاوي من الذين يحترمون لآرائهم، كما أن آراءهم تحترم أيضاً لصاحبها.
* * *
مراثي وديوان المرحوم إلياس صالح اللاذقي - من الأدباء الذين اشتهرت كتاباتهم في أواسط القرن الغابر، وكان لهم نصيب وافر في نهضة الآداب العربية، الشاعر البليغ
المرحوم إلياس صالح. الذي ولد في اللاذقية سنة 1839 ونبغ في صناعة الكتابة واللغات. وقد تقلب في مناصب الحكومة وعرف بالنزاهة والإخلاص. وزار مصر ونظم فيها قصائد جميلة في مدح خديويها أو آنذاك المغفور له إسماعيل باشا وبعض وزرائها ووجهائها. وكان يخشى على آثاره الكتابية من أن تلعب بها يد الضياع(1/505)
لولا همة ولده النجيب البارع رفيق أفندي صالح الأجزاجي في المصلحة الطبية السودانية. فإنه باشر جمعها ونشرها بالطبع. وأول ما أتحفنا به ديوان المرحوم والده وما قاله الشعراء والكتاب في رثائه فجاء هذا الأثر الجميل خير مرآة لما كانت عليه الحركة الفكرية في الشرق في ذلك العصر.
* * *
الرحلة الحجازية - كان حج الجناب العالي الخديوي في مثل هذه الأيام من العام الماضي موضوعاً تبارت فيه قرائح الشعراء، فدونا بعض ذلك في العدد الأول من الزهور، وبتنا ننتظر صدور كتاب جغرافي تاريخي يتضمن تفاصيل تلك الرحلة ووصف الربوع الحجازية إلى أن جاءنا كتاب الرحلة الحجازية لواضعه عزتلو المفضال الأديب محمد بك لبيب البتنوني الذي رافق الجناب الخديوي في هذه الرحلة. وقد ضمنه تاريخ تلك البلاد وآثارها وقبائلها وعاداتها وإحصائياتها، وحلى كل ذلك بما يناهز الأربعين رسماً وخريطة عن الحرمين ومصر والشام وأطراف بلاد العرب حتى يعرف تلك الأنحاء فإنها غير معروفة للآن كما يجب لذوي البصيرة والعرفان، مع أنه يقصدها سنوياً أكثر من مئتي ألف نفس من المسلمين وعليه فقد استحق المؤلف ثناء المسلمين لما دفعه من الترهات التي ألحقتها بالمشاعر الدينية مبالغة الوهم أو مغالبة الغرض وثناء العلماء عموماً لمما قرره في رحلته من الحقائق الجغرافية والتاريخية، والملاحظات الدقيقة الفلسفية. ولا نشك في أن الإقبال على هذا المؤلف(1/506)
سيكون عظيماً سيما وقد جاء في أيام باتت النفوس فيها متعطشة إلى كل ما يتعلق ببلاد العرب.
* * *
تقويم البشير - هو التقويم الذي تصدره جريدة البشير منذ 34 عاماً. وضعه حضرة مديرها الفاضل الأب لويس معلوف فجمع فيه أهم الفوائد عن الحسابات المختلفة للسنين والأشهر والأيام، والأعياد عند عموم الطوائف، مع ذكر المناصب الروحية والمدنية وأسماء أربابها،
والتقسيم الإداري في الدولة العثمانية إلى غير ذلك من الفوائد التي تتضمنها عادة أتقن التقاويم الإفرنجية. وهناك أيضاً شيء من المقالات المفيدة منها مقالة طبية للدكتور أمين الجميل، وسماد الأرض للأب طوران. وأهم تواريخ العلوم، وفوائد بيتية، والمشروبات الكحولية لصاحب هذه المجلة. إلخ. . . كل ذلك مرتب على أحسن ذوق.
مفكرة المعارف - وهي المفكرة التي أصبحت في جيب كل أصحاب الأشغال لأنهم لا يستغنون عنها. تصدرها سنوياً مطبعة المعارف الشهيرة في عالم الطباعة. وهي تتضمن الحسابات الغربية والهجرية والقبطية مع مفكرة إجمالية لكل شهر. وفيها جداول للعملة والمقاييس والموازين المصرية مع مقابلتها بقيمتها في سورية وأمريكا وفرنسا وإنكلترا. وقد جلدت تجليداً لطيفاً مذهباً وثمنها أربعة غروش صاغ. وأصدرت المطبعة المذكورة أيضاً نتيجة أو روزنامة جميلة الشكل ملصوقة على لوحة كبيرة تعلق بالحائط(1/507)
وعليها رسم أوروبا مع شارة كل دولة من الدول بألوان زاهية. وهي على نوعين: نوع بعشرة غروش ونوع بستة وهي والمفكرة تطلبان من مكتبة المعارف بأول شارع الفجالة لصاحبها نجيب أفندي متري.
أزهار وأشواك
أماني وتمنيات العيد
قابلته صباح العيد، وكان قد مر علي أربع سنوات دون أن أراه. وقعت عيني عليه فلم أكد أعرفه. رأيت بدل ذاك القوام الرشيق والقد النحيل والوجه الأصفر جسماً ممتلئاً صحة وعافية ومحيا يكاد الدم ينفر منه. صافحته طويلاً وقلت: وما الذي اعتراك يا صاح؟ فأجاب وعلى ثغره ابتسامة السرور: هي الأزمة يا أخي لم تبق ولم تذر - والعشرون ألف جنيه ريع أطيانك وأموالك؟ - ذهبت غير مأسوف عليها. . . قال هذا وقد تحولت ابتسامته إلى قهقهة عالية. فبقيت حائراً فيما أرى وأسمع وتمتمت: أتمنى لك في رأس السنة الصحة والسلامة ورجوع الثروة. . . فقاطعني قائلاً: حسبي القسم الأول من هذه التمنيات. فإننا دائماً في حاجة إلى الصحة، أما الثروة فأنا بغنى عنها، وقد رضيت بالسعادة بديلاً. . . اسمع لي، يذهب ما بك من العجب. كنت غنياً كما تعرف ولم أك سعيداً وأنا الآن قد جمعت بين الفقر والهناء. كنت وامرأتي نسكن قصراً شاهقاً يملأه الخدم والحشم، وتخطر المركبات في باحته، فكنت أقضي ليلي(1/508)
ونهاري في الملاهي بين خلاني، وامرأتي من جهتها تفعل ذلك مع صديقاتها فلا أراها ولا تراني. أما الآن فنحن نسكن منزلاً صغيراً، ونذوق فيه أفراح المعيشة العائلية، ونملأه بالحب والسلام. فزوجتي لي بكليتها وأنا لها بكليتي، ولاكنا لأولادنا وهم لنا، فلا ندع أحداً يستولي على ذرة من فؤادنا. كان المرض ضيفنا المعتاد أما الآن فلا نعرف ضيفاً إلى الصحة بفضل ترتيب حياتنا كان خوفنا من الفقر شديداً، والآن لا نخاف شيئاً لأن الفقر نزل بنا فوجدناه خير نزيل. كنت في مثل هذا العيد أقضي نهاري راكضاً من بيت إلى بيت لمعادية من نسميهم أصدقاء، وأقضي شطراً من ليلي في كتابة بطاقات الزيارات والرد عليها، والشطر الآخر في المقامرة، أما الآن فأنا أحيي عيدي ليله ونهاره بين أولادي وزوجتي. فيا ما أسعد حالتي. فبالله عليك ادع لي وعلي بما تشاء ولكن لا تتمن لي رجوع الثروة والجاه، لئلا أرجع إلى ما كنت عليه من الشقاء والعناء. وأنا لا يسعني إلا أن أدعو لك بان تصير إلى ما صرت إليه. . . قال وودعني عند منعطف الشارع وهو يردد: يا صفا الأزمان. . .
الحصان والمودة
أنصح للكاتب الذي تخمد نار قريحته، وتنضب مياه مادته. أن يطرق الموضوعات النسائية وما يتعلق بربات الحجال من الأزياء والتفنن في مظاهر الجمال، فيفتح عليه، وتتوارد الأفكار إلى دماغه، بدليل أن شعراء العرب الأقدمين كانوا يستهلون كل القصائد من مدح ورثاء وفخر ووصف بالغزل لأن الغزل كما يقولون يشحذ القريحة. على أني لم(1/509)
أكتب لأتغزل بل لأنتقد ولكني استفدت من القاعدة المطردة. انتقدت الأزياء فقام الشعراء في العدد الماضي يؤيدون انتقادي، وها أن الحيوانات نفسها تعطيني حجة جديدة هذه المرة ادمغ بها بنات حواء. وكم لنا من عظة على ألسنة الحيوانات. فلتسمع سيدتي الرواية الآتية وإذا شكت في صحتها أعود فأعين لها الزمان والمكان والأشخاص:
سيدة من كرائم السيدات كانت في مركبة جميلة يجرها جوادان من الخيول الكريمة. وكان على رأس السيدة قبعة من تلك القبعات الطويلة العريضة خضراء اللون وقد زانتها كل أنواع الزهور والرياحين. وكان على جانب الطريق حمار ينظر إلى المارين والمارات نظرة الفيلسوف - وكم في نظر الحمير من البلاغة! - فلما وقع نظره على المركبة ومن فيها نهق نهيق الفرح، وضرب الأرض بقوائمه الأربع وأخذ يعدوا بسرعة حتى وصل إلى العربة وانتشل القبعة عن رأس صاحبتنا بما فيها من الدبابيس والشعر المستعار ظناً منه أن هناك. . . ربطة برسيم!. . .
مغزاه: ادع ذلك لربات المودة. . . .
حاصد
بين هنا وهناك
حل مصر ضيفاً كريماً في الشهر الماضي حضرة الشاعر العصري شبلي بك ملاط مؤسس جريدة (الوطن) البيروتية رباشكاتب القلم العربي في متصرفية جبل لبنان. وحضرته من الكتاب المعروفين والشعراء الذين يشار إليهم بالبنان في بر الشام. وقد اجتمعنا به مراراً عديدة في حلقة من الأدباء وسمعنا شيئاً كثيراً من شعره الرقيق سنتحف به القراء من حين إلى حين. ولما كان شعراؤنا في هذه(1/510)
المدة ينشرون على صفحات الجرائد أبياناً للغناء أحببنا أن ننشر للملاط شيئاً من ذلك وهي أبيات عارض بها الجندي القائل:
ألحاظه قد أرسلا ... والقد هز الأسلا
يا معشر العشاق لا ... تلقوا بأيديكم إلى. . .
مهفهف حلو اللمى ... وليس يروي لي ظما
يمر بي مبتسماً ... وكلما مر حلا إلخ
وقال شبلي ملاط:
بليلٍ حظي اكتحلا ... ظبي بقلبي نزلا
ما كاد يحيي الملا ... حتى أمات الأملا
نشوان من غير حبب ... ريان من ماء الأرب
مهفهف من الذهب ... لا من تراب جبلا
حكمته فاحتكما ... بالقلب حتى ظلما
يا مالك الروح لما ... أشمت بي من عذلا
فمر بي يبتسم ... وقال لسنا نرحم
ما الحسن إلا صنم ... وكم قتيل قتلا
فرحت والقلب اضطرم ... أرثي لعباد الصنم
وكان عهد وانصرم ... وكان قلب وسلا(1/511)
من كل حديقة زهرة
* أدى التلغراف اللاسلكي خدمات لا تحصى فعم استعماله. وفي العالم الآن 128 محطة لهذا النوع من التلغراف على الشواطئ، و579 محطة عائمة في عرض البحار، و365 محطة من البوارج الحربية، و214 على السفن التجارية. وقد حتمت الحكومات الآن على البواخر الكبرى التي تسافر في الأوقيانوس أن تكون مصحوبة بآلة للمخابرة بالتلغراف من دون سلك.
* في ألمانيا 5 آلاف مجلة وجريدة منها 800 يومية، وفي إنكلترا 3 آلاف منها 909 يومية، وفي فرنسا مثل هذا العدد تقريباً وفي بلجيكا ألف و900 منها مئة يومية، وفي إيطاليا ألف و400، وفي كل من النمسا وإسبانيا وروسيا واليونان وسويسرا بين 400 و500 ومجموع صحف أوروبا 20 ألفاً تقريباً. أما في آسيا فيصدر فقط 3 آلاف مجلة وجريدة معظمها في اليابان والهند. لأن اليابان وحدها تصدر 100. وفي أمريكا عدد كبير من الصحف منها 12 ألفاً و500 في الولايات المتحدة وحدها وأكثر من ألف من هذه الصحف يومية ومنها 120 يحررها ويديرها ويطبعها الزنوج وفي أفريقيا 200 صحيفة تنشر خصوصاً في مصر والمستعمرات الأوروبية.
* يؤخذ من الإحصاء الأخير أن معدل ما يدخنه كل واحد من سكان فرنسا من التبغ في السنة ألف و24 غراماً.(1/512)
العدد 11 - بتاريخ: 1 - 2 - 1911
المتاجرة بالرقيق الأبيض
عقد المؤتمر الدولي الرابع لمقاومة انتشار البغاء والمتاجرة بالرقيق البيض، في عاصمة إسبانيا في أول الشهر المنصرم. فاشترك فيه عدد كبير من كل المذاهب والطوائف والجنسيات، من مؤمنين وملحدين، وكلهم متضامن في وجوب محاربة هذه الآفة الاجتماعية التي لا تعد ضحاياها ولا تحصى: وقد أحببنا إطلاع القراء على بعض ما جرى وحدث في جلسات المؤتمر لما في ذلك من العظة والعبرة ولشدة حاجتنا نحن أيضاً إلى ملافاة ما ينجم عن انتشار البغاء من البلايا والرزايا، فإن محليات صحفنا مشحونة بالتفاصيل المحزنة عن متاجرة بعض ساقطي الأخلاق بالفتيات المسكينات، مما تتألم له الإنسانية وتستر منه الهيأة الاجتماعية وجهها خجلاً وحياءً.
انقسم أعضاء المؤتمر في الطرق المؤدية إلى ملافاة هذا الداء إلى قسمين، وإن كانوا متفقين في الجوهر: فرأى الفريق الأول أنه ليس بالإمكان استئصال شأفة هذا الداء فيجب حصره في المحلات المعروفة(1/513)
تحت مراقبة الحكومة الشديدة، وتقييده ضمن نطاق قانون خاص، لئلا يزيد تفشيه. ويرى الفريق الثاني أن في سن قانون للبغاء تسليماً به وشبه مساعدة له ولذلك لا بد من إقفال هذه المحلات ومصادرتها.
وقد تناقش الأعضاء في ذينك المبدأين وكان السواد الأعظم مؤيداً للثاني منهما وكانت الحكومة الإسبانية في جانب هذا الفريق، إذ أصدر ناظر داخليتها قراراً بإغلاق المحلات المسموح بها. أما القائلون بوجوب وضع النظام الخاص فإنهم يسلمون بأن مقاومة تلك المحلات قد قلل عددها، ولكن قد حل محلها الخمارات والحانات التي تخدم فيها النساء، وخصوصاً في الثغور والمدن التي يكثر فيها رجال الجيش.
وأول ما طرح على المؤتمر تحديد معنى المتاجرة بالرقيق الأبيض فأجمع الأعضاء على استبدال هذا الاسم باسم المتاجرة بالنساء لئلا ينحصر الأمر بالبيضاء دون سواها من النساء. ثم بحث المجتمعون في القوانين المتعلقة بالرقيق وأنواع العقوبات التي يعاقب بها من يتاجر بهذه التجارة الدنيئة، فأجمعوا على وجوب طلب العقوبة على طريقة واحدة سواء كانت المتجر بها أو بالغة سن الرشد أو لا، خلافاً لما هو متبع في أكثر البلاد.
وقد رأوا أيضاً أن المهاجرة من أكبر المصادر التي تتلقى منها محلات الفجور فرائسها. ولذلك يجب سد هذا الباب باتفاق الحكومات على منع الفتيات اللواتي لم يبلغن سن الرشد
عن المهاجرة، وإنشاء لجنة تفتيشية لهذا الغرض ولإعادة النسوة اللائي أغراهن مغرٍ على الفحشاء إلى أوطانهن، وقد اقترحت جمعية صديقات الفتاة الاهتمام بمكاتب التخديم وإدارات(1/514)
الملاعب والثغور والمحطات لمراقبة الفتيات.
هذا مجمل ما جرى في هذا المؤتمر من الأبحاث التي دارت كلها حول وجوب حماية المرأة، وخصوصاً الفتاة القاصرة، من الأخطار التي تتهددها، والمرغبات التي تحدق بها حتى تقودها إلى مواخير الفساد، فلا تجد بعد ذلك يداً شفيقة تكسر قيود الفحشاء إلي تغل يديها، وتبقيها راسفة في أدنى دركات الانحطاط الإنساني، فتتاجر - أو يتاجر الغير - بجسمها وقلبها، وهي دامية الفؤاد، دامعة العين. . .
* * *
وقد رأينا الحكومة المصرية تبذل بعض المساعي في هذا الشأن على أن التدابير التي اتخذت حتى الآن لا تعد كافية لمحاربة هذه الآفة الاجتماعية التي تفتك بفتيات ساذجات لا سلاح لهن يتقين به سهام الأهواء الفاسدة والعواطف الملتوية. وإننا نرى بمزيد الأسف أن أكثر محلات التخديم عندنا قد أصبحت واسطة لمعاونة الرذيلة على الفضيلة، بل محلات سمسرة للمضاربة في بورصة الأعراض، تعرض فيها البنات في سوق الأهواء لينتقي المخدوم له خادمة تخدم بيته وأمياله الفاسدة، فتقتضي عنده القليل من الزمن، ثم تخرج من منزله الذي أضاعت فيه عرضها لتدخل المحل الذي تضيع فيه بقية الحياة والشرف الباقية. وهذه هي حكاية أكثر تاجرات الهوى، حكاية قليلة الفصول، هائلة المغزى.
أما بشأن مراقبة المحطات والثغور، فإنك تجد في البلاد الراقية جمعيات من أفاضل الرجال وفضليات النساء توفد بعض أعضائها إلى المحطة(1/515)
أو إلى الميناء، عند وصول كل قطار أو باخرة، لمراقبة القادمين، حتى إذا ما وجدوا بينهم فتاة قاصرة غريبة وحدها، بحثوا عن سبب هجرتها من بلادها، فأعادوها إلى أهلها، أو تولوا أمرها بإيجاد عمل لها تكتسب منه رزقها دون بذل ماء وجهها.
فما أجدرنا بتأليف مثل هذه الجمعيات العاملة، وبلادنا الشرقية، كما لا يخفى، محط لرحال الأجانب من كل أقطار المعمور، يقذف إليها تيار المهاجرة في كل أسبوع أناساً مختلفي الأخلاق والطبقات، بل الأحرى أن تؤلف كل جالية من الجوالي - وخصوصاً في مصر -
مثل هذه الجمعية، أو تجعل في جمعياتها الخيرية لجنة تهتم بهذه الشؤون وتتولى مراقبة البنات القاصرات اللواتي لا يجدن لهن في بلاد الغربة معيناً ولا مرشداً.
وما قلناه عن محلات التخديم والمحطات والمواني، يقال أيضاً عن المسارح والحانات وعن بائعات الزهر والموسيقيات والمغنيات الصغيرات في الشوارع حيث نشاهد منهن جيشاً جراراً يطوف القهوات، والواحدة منهن، على صغر سنها، تسعى في تقليد الكبيرات بحركاتها وغمزاتها ومداعبة الجالسين وتتعود منذ نعومة أظفارها سماع بذيء الكلام والمغازلة السمجة.
فإلى كل هذه الأمور نلفت أنظار الحكومة وجمعيات الطوائف المختلفة. فإن صيانة كيان الأمة وأخلاقها وقوتها لفي صيانة آدابها. وكما إننا اتخذنا التحوطات الشديدة ضد الهواء الأصفر، فلنتخذ تحوطات أشد وأعم ضد هواء المفاسد، فإن هذا الوباء أهول فتكاً وأسوأ عاقبة من ذاك.(1/516)
الشيخ صالح التميمي
1 ً - تمهيد - شعراء العراق في عهد داود باشا كثيرون. ومع كثرتهم لا يعرفهم إلا القليل. وهذا القليل أيضاً هم من أهل بغداد لا غير. فكأنك قلت أو تقول: لا يعرهم أحد. وعليه فالتنويه بأسماء أولئك الأدباء الأفاضل ضربة لازبٍ على كل من عرف شيئاً من أمر فضلهم أو أدبهم أو علمهم. ولما كنت قد جمعت من الكتب ما يندر وجودها عند الغير لكونها أعز من الغراب الأعصم، أو أعز من الأبلق العقوق. جئت بهذه الترجمة لأنادي بفضل هذا النابغة الذي لا تروى له ترجمة في الكتب التي تروي ترجمة من هو دونه قدراً ومرتبة.
2 ً - ولادته وصوبته - ولد صالح التميمي في قصبة الكاظمية سنة 1180 هجري (= 1766م) وما كاد يراهق إلا وتوفي والده. فلما أصبح التميمي يتيماً ورأى نفسه من الميل إلى الشعر وقرضه ما لا يقوى على دفعه، رحل إلى النجف ليتلقى أصول الأدب واللغة على الشيوخ الأجلاء(1/517)
أعلام العلم الموجودين في تلك البلدة. وكان في أثناء تحصيله العلم ينظم أغاني تزري بحسن الغواني، ويتناقلها أهل الصقع من لسان إلى لسان حتى طبقت شهرته ديار العراق كلها جمعاء. ولقد وقعنا على تلك الأغاني من الأنواع المشهورة يومئذ في هذه البلاد حتى لا يكاد يصدق أن ناظم بردتها وموشي حبرتها ذاك اليافع النابغ. فقد قال بعد رحلته من الكاظمية إلى النجف ذاكراً أحد أقرانه وقرنائه:
يا غائباً غاب السرور لأجله ... ما لذي لي عيش وأنت بعيد
إني رأيتك في المنام معانقي ... وأظن أني في المنام سعيد
لما انتبهت وجدت روحي وحدها ... الدار قفر والمزار بعيد
وقال من الموال وهو في النجف:
عصر الصبا فات ما له من رجوع أو عود ... هيهات أسلى بنغمات الأوتار أو عود
من لامني لو همت وأضحيت شبه العود ... وأبات بهموم ما تحصى همومي بعد
ألماً تناله بالصبوة ما تناله بعد ... يبين شبيك وتبقى بالجهالة عود(1/518)
وقال من باب العتابة:
تخطرت جنها بكرة بلوني ... هذولاً بمحبتهم بلوني
ويوم أوافيهم بين بلوني ... صار ما نفع بي الدوا
وقال من باب الزهيري:
من يوم ساروا فلا جرح القلوب يطيب ... حيث زروع الهنا بفراقهم ما حلا
هيهات من بعدم يوم أشوفه إبطيب ... يا محسن للصبر وين الشقي الما حلى
من عقب عطر الخدود إيسرني أي طيب ... والله إن الشهد من بعدهم ما حلا
هل كيف مر الصبر لي بالفراق إيطيب(1/519)
وقال من نوع الدوبيت:
خليلي لو رأيتني بالضيق ... مربوط بلساني ذا المنطيق
خلت قوامي والعروق تقطعوا ... وليس من يشبه لأمري ويفوق
هذه أمثلة من نظمه قبل شدوه الأدب على الأصول المتعارفة في المكاتب والمدارس فكيف لا ينتظر منه النظم البديع. ثم من بعد أن تلقى العلم واللغة وآدابها والقريض وأصوله، برع في النظم والنثر حتى فاق من سواه من شعراء العراق في ذلك العصر.
3 ً - شبابه وخلقه - قد ذكرنا أن ولادته كانت في الكاظمية (مدفن الكاظمين موسى ومحمد الجواد) وأنه تلقى العلم في النجف وكلاهما من أشرف المزارات عند الشيعة. ولهذا نشأ صالح شيعياً متمسكاً بمذهبه كل التمسك محتقراً لمذهب السنة بل ومتعصباً تعصباً ذميماً كارهاً لأهل الذمة على اختلاف نحلهم ومللهم. وكان كلما صادف في طريقه ذمياً مهما كان تشهد للحال وغض طرفه. وإذا أتى مجلساً، ورأى فيه ذمياً، لم يدخله. وإذا كان في مجلس ودخل ذمي نهض للحال لكي لا يجتمع تحت سقف واحد معه. وتصرفه هذا أثر في شعره كل التأثير حتى انه كان يحتقر كل كلام نثراً كان أو شعراً صادر من يهودي أو نصراني.
وكان صالح مربوعاً حسن الصورة ممتلئ الجسم بدون أن يكون بديناً حنطي اللون، كبير العينين أوطف أبلج كبير الأذنين واسع الجبهة، أسود شعر الرأس بدون أن يكون فاحماً. عريض الوجه أنافياً، واسع الفم ثخين(1/520)
الشفتين حسن الشاربين، دقيق أسلة اللسان رقيق لحمته، قليل شعر اللحية لطيف الأطراف من يدين ورجلين ناعم ملمس البشرة.
4 ً - أخلاقه - قد سبقنا فقلنا أنه كان متديناً إلا أنه كان متعصباً غاية التعصب، وكان إذا جلس في مجلس لا يرفع صوته بل يغض منه وإذا مشى في الطريق لا يلتفت إلى هنا وهناك، بل سار سيراً متئداً غضيض الطرف. وكان طلق اللسان حسن المحادثة طيب
الأخلاق ولاسيما مع أخوانه في المذهب، واسع الحفظ يروي شيئاً لا يقدر من شعر الجاهلية والمخضرمين وصدر الإسلام. وكان يحفظ من النكات أغربها، ومن اللطائف أوقعها في النفس وكانت محاضراته مفيدة جداً، لا يصاحبه أحد إلا وقد استفاد منه فائدة علمية أو أدبية أو شعرية. وكان لا يحتمل تقريظ شاعر بحضوره وإذا سمع شيئاً امتعض من المقرظ امتعاضاً لا يوصف بل وربما عاداه أو قال فيه أبيات هجو وعرّض بع تعريضات لا تليق برجل أديب فاضل راوي أحاديث مثله.
5 ً - نبوغه وبعض مقاطيع من شعره - لما نشأ صالح يتيماً ولم يكن ذا ثروة تذكر، اتخذ الشعر وسيلة للاسترزاق فنجح بل أفلح. وكان أول أمره أنه كان يفد على أعراب خزاعة وكان فيهم يومئذ أدباء أجلاء يقدرون الأدب وأصحابه كل القدر. ووجد في أسرة شيوخها يداً ندية تنضح بسائل بل بجامد ناضر هو النضار، فزاد في ترطيب لسانه وحل ما تعقد منه. وأفادته وفادته حتى قادته إلى أن يكون من القادة بين قالة الشعر. وأخذ يتردد إلى كبراء بغداد ووزرائها الأعلام وعظماء أشرافها الكرام، حتى ذاع(1/521)
اسمه بين الملا من قاسٍ ودانٍ، بل وانقاد العاصي لشعره وله دان. فبقي في دار السلام متربصاً تحسن الأيام.
حتى كانت سنة 1232 هجري (= 1816م) التي وزر فيها داود باشا وكان من محبي المعارف ومنشطي أبناء الأدب وإذا بالسعد قد أقبل يتهادى إليه بين الفوز وبعد الشهرة. وعليه فما كاد الوزير يستقر على منصة الوزارة حتى دعا إليه شاعرنا الشيخ صالحاً، وميزه من بين الكتاب والشعراء، واختصه بنفسه وصار شاعره وجليسه في سره وجهره. واعترافاً بهذا الفضل أنشأ التميمي كتابين وسم أولهما باسم شرك العقول. وغريب المنقول وذكر فيه أيام الوزير المذكور وما جرى في أيامه من المقاتل والمعارك والأحداث. وسم الثاني باسم وشاح الرود. في نظم الوزير داود ودونه جميع ما انشده من الشعر بحقه وبحق ولده وبحوادث أسرته، وحشاه لطائف ونكات جرت في عهده. وكل ذلك بأسلوب شائق تستطيبه الآذان وينبسط له الجنان. وأول قصيدة وشى طرازها للوزير داود هي هذه:
زهت الرياض وغنت الأطيار ... وزها المقام ورنت الأوتار
وصفا بها العيش الأنيق وروقت ... فيها المياه وجادت الأمطار
وعلت على دوح الأراك حمائم ... وتزاهرت بفنائها الأقمار
والقصيدة طويلة فيها 52 بيتاً كلها على هذا النمط، نمط انحطاط الشعر بعد عهد العباسين. وقد نظم الشيخ في مديح الوزير وآله ومن ينتمي إليه أكثر من 50 قصيدة.
ومما ميزه به الوزير أنه لم يجز لشاعر عراقي أن ينظم أبياتاً لبناء عمومي(1/522)
من الأبيات المسماة بالتواريخ فقد خص ذلك بالتميمي، ولذا ترى في ديوانه كثيراً من هذه التواريخ كتبت على أبواب المساجد والمدارس والمكاتب. وقد قال الوزير بهذا الصدد: لا يفتى ومالك في المدينة إشارة إلى علو كعبه في هذا المقام. ومما نظمه من هذا القبيل تاريخ أنشأه للسيف الذي بناه داود باشا في الجانب الغربي من بغداد وعلى دجلة في المحل المعروف اليوم برأس الجسر قال:
أقسم بالله الذي زينت ... سماؤه بالخنس الكنس
إن الذي شيد هذا البنا ... ذو همة بالفلك الأطلس
داود ذو الأيدي ومن علمه ... ما حل في شخص سوى هرمس
فقل لمن يجهد في مكسب ... من ناطق فيه ومن أخرس
أوف إذا كلت ومن بعد ذا ... أرخ وبالميزان لا تبخس
- سنة 1240
والسيف هو محل تباع فيه الحبوب ولاسيما الحنطة والشعير. وقد قال فيه تاريخاً ثانياً وقد كتب في محل آخر:
دع هرمي مصر وبانيهما ... ولا تقل ذا من عجيب الزمان
وانظر إلى دجلة في كرخها ... تجد بناء دونه الفرقدان
شيده داود عن حكمة ... تخفى وسر العدل منها يبان
لكي إذا باع به واشترى ... ذو سفه يخشى مكين المكان
وفي الأقاليم جرى أرخوا ... من يخسر الميزان حكماً يهان
- سنة 1240
ومثل هذه التواريخ لا تحصى. إلا أن الذي شهر ذكره في الآفاق(1/523)
هو تعرضه لخالية بطرس كرامة وقد أشرنا إلى ذلك في الزهور ص 188 - 189 ورد النصراني عليه والجملة ثلاث قصائد قد أصبحت أشهر من قفا نبك بين أدباء العراق.
ومن مصنفات صاحب الترجمة كتاب ألفه للشاه زاده أخي علي شاه سماه الأخبار المستفادة من منادمة الشاه زاده ومبنى العنوان يد على معنى الديوان. وفي ذلك العهد عقد عرى الصداقة مع صاحب الحويزة يومئذ وهو السيد عبد علي فنظم له الروضة السائرة ووفد بها إليه سنة 1235 هجري (= 1819م) فأجازه عليها أحسن إجازة.
وكان الشيخ من المكثرين في الشعر وله ديوان كبير وكان واسع الاطلاع على أنساب العرب ووقائعهم وأيامهم وتواريخهم. ومن غريب أمره أنه كان لا يسمع شعراً إلا ويعرف قائله ولو لم يذكر له اسمه. ولهذا أحبه الكبار والصغار واتفقوا على موالاته. بيد أنه لم ينظم الشعر إلا في مدح الأمراء والولاة وكبار الحكام ولم يعرض بضاعته على هذا وذاك ولهذا قيل فيه شاعر الأمراء.
ومن مميزاته أنه كان سريع الجواب عارفاً بدقائق اللغة وأسرارها لا تخفى عليه خافية وإذا سئل عن شيء فيها، نطق بالجواب بدون تلعثم، وأبدى من السداد أقرب موارده وأعذب مياهه. ولذا صار شعره في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، لسلاسته وتدفق مياهه الرائقة. وقد اجتهد حساده أن يخفوا شعره ما استطاعوا لكن لم يفلحوا. وهل يفلح الظالمون؟(1/524)
وقد شعر شاعرنا بهذه الشائبة شائبة حساده فقال:
لا ذنب لي عند حسادي سوى أدبي ... وشهرة دفنوا فيها وما نشروا
بلاغة طار في الآفاق طائرها ... في كل قطر لآدابي ولي خبر
ولما دالت دولة الوزير داود باشا في سنة 1247 هجري (= 1831م) قدم الوزير علي رضا باشا إلى بغداد فمدحه هو والوزير داود باشا بقصيدة كان لها رنة وطنة منها هذه الأبيات:
ظفرت بداود الوزير والمردى ... قوارع خطب لا يفك اصطلامها
ولو ظفرت فيه نزار ويعرب ... بيوم هياج والذمام ذمامها
فخاطبها مستعطفاً عن حياته ... لعاجله قبل الخطاب حمامها
على أنه ما مد كف مسالم ... وترتكب الأمر العظيم عظامها
واعلم حقاً أنني إن ختمتها ... بذكر علي قيل مسك ختامها
وله قصائد في أنواع الأبواب من زهريات وربيعيات ورثائيات وإخوانيات ما يضيق دون
استيعابه في هذا المقال.
6 ً - أفول شمسه ووفاته - المرء كالشمس يبدو صغيراً ثم يكبر ثم يميل إلى الزوال، وكلما طعن في السن ظهرت فيه دلائل وزوال أيامه. وشاعرنا التميمي لم يشذ عن هذه القاعدة المطردة أو كادت تكون مطردة. فإن شعره أخذ بالانحطاط ولم تبق فيه تلك النضارة نضارة الشباب وجدة الإهاب، وكان قد تجاوز السنة الثمانين إذ بلغ الواحدة والثمانين. وكان قد أدرك هذه الحقيقة ولهذا لم يعد ينظم الشعر كما كان ينظمه في عهد الغضاضة، وانقطع للعبادة والزهادة فجاءته المنية وهو في بغداد نهار الخميس(1/525)
بعد الظهر لست عشرة خلون من شهر شعبان سنة 1261 هجري (= 1844م) وحضر دفنته أناس لا يحصى عدهم، ودفن بجوار الكاظمين وقد رثاه شعراء عصره ومنهم عبد الباقي أفندي العمري والشيخ عبد الحسين ابن الشيخ قاسم محيي الدين وغيرهما.
ولم يعقب التميمي إلا ولدين لا غير. أحدهما الشيخ محمد سعيد الشاعر وقد اشتهر بنظمه بعض الشهرة. والآخر لم يكن على أسالٍ من أبيه وقد مات كلاهما ولم يعمرا كأبيهما. وهكذا انقطع نسل هذا الشاعر كأنه لم يلد ولم يولد.
وما عيش الفتى في الناس إلا ... كما أشعلت في ريح شهابا
فيسطع تارةً حسناً سناه ... ذكي اللون ثم يرى هبابا
(بغداد)
ساتسنا
المرأة العصرية
فتحت حضرة الآنسة هدى كيورك باب هذا الموضوع في مقالة أولى أدرجتها في الزهور فرأيت من الواجب علي أن أدافع عن بنات جنسي بما أراه حقاً فرددت عليها بمقالٍ سبق. ولكن حضرتها أعادت الكرة فرأيت أن أعود إلى الموضوع لأنه جليل جدير بالبحث. وقد صادف كلام مناظرتي استحساناً عند الرجال حتى باتوا يشمتون بنا.
قالت حضرتها إن المرأة الحكيمة المدبرة التي وصفتها قليلة بل نادرة، لا يجوز أن يبنى عليه حكم عام. وهذا ما أخالفها فيه. فأنا نظرت قبلما(1/526)
كتبت إلى ما حولي من النساء والبنات فوجدتهن كثيرات بل أكثر من اللواتي وصفتهن في مقالها. فبنيت حكمي عليهن، وصح لي بناء هذا الحكم. وجدت فيهن الإخلاص والوفاء وحسن الإدارة والسهر على الشؤون المنزلية. بل كم رأينا من الوالدين يفضلون البنات على البنين لأنهم وجدوا في البنات تعزية ومعيناً، ولم يروا من البنين إلا إسرافاً وتبذيراً. ألا ناشدتك الله يا هدى هل تعرفين بنتاً مهما أسرفت، أو امرأة مهما تفننت بالأزياء توصلت إلى أكثر ثورة أبيها أو زوجها. ولكن كم من الشبان بددوا الأموال الطائلة التي ورثوها عن آبائهم، وكم من الرجال أطاروا دوطة نسائهم. نظرة إلى من حولنا تثبت صحة ما ذكرت. وقد سبق لي القول، وأعيده الآن، إن معظم ما آخذت به المرأة العصرية من التفرنج والتورط في المودة مصدره الرجال الذين يميلون إلى هذه المظاهر، فهل يرجع كل اللوم إلى المرأة الضعيفة التي تجاريهم؟ وإذا كان لا يصح حجب الأفكار لأننا في عصر الحرية والنور. فأنا أجاريك في ذلك - وإن كانت هذه الحرية اسماً بلا مسمى - وأرى من الواجب أن تنهض المرأة لتدافع عن حقوقها المهضومة فتنالها كاملة وتتوصل إلى المنزلة التي تستحقها في المجتمع الإنساني. وقد أصبحت والحمد لله تدرك ذلك، فرأينا بين أخواتنا الكاتبات والطبيبات والممرضات والمحاميات بين الأشواك بل صار أمامنا حديقة فسيحة من الزنبق يعطر شذاها الأرجاء. هي ليست نجمة صغيرة تحجبها الغيوم بل هي مجموع كواكب(1/527)
ترصع صدر السماء. وعلينا نحن إذا كتبنا أن نكتب في الحث والتنشيط لا في الملامة والتأنيب. فكفانا من الرجال سوء ظن ببنات جنسنا، حتى باتوا ينسبون ما أكتب وتكتبين على صفحات الزهور الزاهرة إلى أقلام رجال متسترين كأنه لم ينبغ من بنات حواء كاتبات مجيدات وشاعرات بليغات. ولي بأدب مناظرتي وكتاباتها الشائقة خير حجة أدمغ بها من
داخله مثل هذا الريب.
(بيروت)
ادما كيرلس
وقد جاءنا في هذا الموضوع رد من صاحب الإمضاء، وقف فيه موقف الحكم بين الكاتبتين قال:
بين هدى وأدما
أمامي الآن على منضدة الكتابة مجلة الزهور حيث مناظرة الآنستين الأديبتين ص 330، و435، و483. أتسمحان يا سيدتي لهذا القمل الضعيف بأن يجول مع رتبي يراع قوي من الجنس اللطيف، غير متعمد نصرة واحدة على أخرى، فأنتما متفقتان في الموضوع مختلفتان في الشكل. وها أنا أسعى إلى التوفيق بينكما.
ملاحظة قبل الموضوع: مقالة الكتابة الأولى أحدثت تأثيراً كبيراً بين شقيقاتها. وسمعتهن مراراً يتحدثن بما كتبت، واسمحي يا سيدتي أن أقول لك: إن أكثرهن كان ناقماً عليك. وهذا برهان يثبت مبدئياً إن ما قلته حق لأنه جرح - ولا يجرح غير الحقيقة.
ورد الكاتبة الثانية أرقص بنات جنسها طرباً وعجباً، وتمنين(1/528)
قطع البحار فعلاً، كما قطعنها شعوراً لمصافحتها أو لتقبيلها - بحسب درجة التأثير - شكراً وامتناناً، لدفاعها عنهن.
واسمحي لي يا سيدتي أن أقول لك: إن هذا أيضاً يثبت مبدئياً ضعف بنات الجنس اللطيف فهن يغضبن لأقل ملاحظة تبدى لهن، ولو عن حسن قصد، ومن إحداهن، ويطربن إذا ما ردت واحدة منهن على مغضبتهن - ولو كان الرد لم ينف حقيقة. فهن عشيقات المدح والإطراء طبعاً، مجفلات من أقل نقد وتأنيب.
ولنأت الآن إلى الموضوع: قالت هدى: المودة أهلكت بل طلعت دين النساء والرجال معاً - تعبيرك يا سيدتي أخف من تعبيري ولكن تعبير أقرب إلى الواقع على فظاظته - المودة أهلكت النساء لأنهن ضربن صفحاً عن الوصية الأولى من الوصايا العشر، وعبدن الزي، وصلين للتفرنج، وصمن للتقليد. . .
والمودة أهلكت الرجال لأن المصاريف أربت على المداخيل، فتطرق العجز إلى ميزانية البيت، وصارت العائلة مضطربة قلقة في كل أحوالها لاضطراب الماديات وتقلقل المال. .
وسطت الزخرفات على الواجبات فأهلت المرأة عن زوجها وبنيها، فشغلت عنهم بزينتها - سلسلة متواصلة أدت بالشرق إلى الخمول ومن ظن أن محل الفساد غير هذا فقد أخطأ - هذا ما قالته هدى.
أمنت ادما على قول مناظرتها، إلا أنها أخذت عليها عدم عطفها على المتحليات بالفضائل من أخواتها، وهن كثيرات، وعتبت(1/529)
عليها لإجمالها الكلام، ثم فوقت إلى صدور الرجال أسهماً، لولا أنها من يد الجنس اللطيف الضعيف، لأصابت نحور القارئين لتشفي القارئات - هذا ما ردت به أدما.
لم تنف كاتبة بيروت ما أثبتته كاتبة مصر. إذن قول الأولى حقيقي وإن جارحاً، والداء موجود بل عضال يجب الإسراع إلى معالجته وإلا اتسع الخرق على الراتق.
أما الرد بأن في الشرق بنات ونساء عرفن واجباتهن وتسربلن بدثار من الفضائل قشيب، فتحصيل حاصل. بمعنى أن الكاتب الاجتماعي ينظر إلى المجموع لا إلى الأفراد، فإذا صحت النظرية على الجماعة وشذ عنها بعض الأفراد، لم ينف الشذوذ صحة المبدأ، بل كان له دعامة موطدة وقد قيل: لا قاعدة بلا شواذ.
الحماسة مشكورة يا سيدتي البيروتية ولكن الحرية المطلقة أحق بالشكر وأحرى بالثناء.
إذا كنا عمياً لا نبصر وأتينا اختصاصياً ماهراً فجعل لنا أعين زجاج يخالها المرء لأول وهلة عيوناً حقيقية فهل هذه الحيلة تنفي عنا العمى وترد إلينا البصر؟ - إنها في نظر العاقل ألعوبة صبيانية تقلل من مقام فاعلها لأنه شاء أن يغر نفسه ويضحك على ذقون الناظرين إليه، وهو لم يحسن الحيلة.
إذا قلنا إن النساء غير كاملات بيننا فذلك لا يفيد أن الرجال كاملون فالرجال في الشرق ولا شك غارقون في بحر من النقائص والشوائب وكما أن وجود أفراد فاضلين من الجنس النشيط لا يدفع المظنات عن الجنس(1/530)
كله، هكذا قل عن وجود صفوة من النساء الكريمات اللاتي لا يغنين شيئاً عن المجموع وهو وأبيك بعيد عن الكمال. . . كما لا تجهلين.
وعليه فالكاتبتان متفقتان على أن في الجنس اللطيف ما يستدعي الإصلاح والإصلاح العاجل، ولم تختلفا على وجود البعض منهن متحلياً بحلى الأدب والفضل. وأكبر شاهد على
أن الكتابة الأولى لم تقصد أن تنفي كل مليحة عن بنات جنسها أنها مبدئياً تعتقد أنها هي نفسها على الأقل في معزل عن تلك الشوائب التي تدعو أخواتها إلى الإقلاع عنها. والكاتبة الثانية أثبتت لنا عملياً وجود هذا البعض بما كشفته لنا عن أسرار المرأة الفاضلة وتفننها بالتبديل والتعديل، حتى يخال المرء أن كل شيء عندها جديد حين يكون قد أكل الدهر عليه وشرب. . .
كل هذا حسن يا سيدتي والأحسن منه - وإن غاظكن - هو أن تعلمن أن عمار الكون متوقف على حسن رأيكن، وأنا اعتقد أن خراب الكون لا يهمكن كثيراً إذا عمرت الدائرة الصغيرة التي توجد فيها كل واحدة منكن. وعليه فأقول لسيادتكن إن هذه الدائرة التي تعشن بها لا تعمر ولا تصلح إلا بصلاحكن: الود والبنت يتمشيان على آثار والدتهما أكثر من اقتفاء أثر والدهما. والتربية البيتية - وهي أساس كل شيء حسن في العائلة - منوطة بالمرأة دون الرجل.
فإذا أقلعت المرأة عن؟ الزخارف والرفارف والمشارف والحرير أحسنت إلى نفسها وإلى أولادها وكل من حواليها.
فبالله عليكن يا سيداتي اتركن التفرنج والتزخرف واهتممن قليلاً(1/531)
بترتيب منزلكن وتربية أولادكن تربية جدية لا تربية دلع وتخنيث، فتشب الأولاد أشد تأنثاً من الإناث إلى آخر ما هنالك من النقائص التي لا تخفى على بصيرتكن - وإذا كنا معاشر الرجال لا نحترم إلا المتفرنجة، وإن كانت محتقرة، ونحتقر الغير متفرنجة، وإن كانت محترمة، فهذا سقوط منا فعلمننا يا رعاكن الله أن نحترم فيكن الأدب والفضل والجد والترتيب والعلم الصحيح، لا أن نحترم القبعة إذا حجبت دائرتها نور الشمس والبرد إذا قيد أرجلكن حتى تتدحرجن وتتزحلقن كلما عثرت قدم لكن - وما أكثر ما تزل القدم في تلك المقيدات!
سأغضبكن يا سيداتي بكلامي هذا وإن كان عن حسن نية وسأغضب صاحب الزهور باضطراري إياه إلى نشره، لأنه متفانٍ بخدمتكن، ولكن متى علمتن أنني أطوع لكن من البنان وإنني لا أرى للحياة معنى إلا بوجودكن، حملتم كلامي على محمل الإخلاص. وموقتاً أخفي اسمي خوفاً من غضبكن والسلام على من اتبع هدى.
حسون
إحياء الآداب العربية
ذكرنا في الجزء الماضي (ص 494) المذكرة التي قدمها إلى مجلس النظار عطوفة رئيسه بشأن إحياء آداب العرب وننشر الآن كما وعدنا ملخص التقرير المقدم بهذا الموضوع من سعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف:
رئيس مجلس النظار عطوفتلو أفندي حضرتلري
تفضلتم عطوفتكم بدعوتي لدرس المفكرة المقدمة من حضرة أحمد بك زكي عن الأسباب والوسائل المؤدية لإحياء العلوم والآداب العربية بمصر مع(1/532)
مجموعة الكتب التي استنسخها حضرته بالفوتوغرافية واستحضرها من الأستانة وأوروبا ولقد أمعنت النظر في هاتين المسألتين وأبدي اليوم لعطوفتكم ما أراه في هذا الشأن.
إن هذه المفكرة تشرح بأجلى بيان ما كان للقاهرة من التأثير في رفع منار العرفان وترقية الآداب العربية. فإنها بفضل مركزها وعناية أهلها، أصبحت في أوائل العصور الحديثة محطاً لرجال أهل العلم، ومهبطاً لطلاب الفضل.
ولقد أشار صاحب المفكرة إلى مبلغ الأريحية التي كان يجود بها ملوك مصر وسلاطينها، وازدهاء رونقها في بلاد الشرق. فكانت النتيجة من هذا العمل المزدوج، أن ظهرت في سماء المعارف العربية كتب جليلة حافلة بالبحث في الموضوعات المفيدة في كل فن ومطلب، ولكن سوء الحظ قضى بأن لا يصل إلى أيدينا من تلك المصنفات الثمينة سوى النزر اليسير.
ثم جاء دور الأفول فكان من دواعي الانحطاط أن مصر أضاعت ذخائرها وكنوزها في التقلبات التي أصابتها مما لا فائدة من ترديد ذكراه الآن. فانطفأ ذلك السراج الوهاج، وهبا ذلك الذكاء المصري. بيد أن شعاعاً ضئيلاً من الأمل تبدى في الأفق. فنبعث معه ذلك الذكاء من مرقده، بعد أن كان الناس يظنونه قد دخل في خبر كان ولكنه في الحقيقة إنما كان في سبات لا في ممات والفضل في تجدد هذه الحياة الأدبية راجع إلى محمد علي الكبير وإلى حفيده إسماعيل.
لذلك توخى صاحب المفكرة أن يستفيد من هذه اليقظة الأدبية. فأخذ يعمل إلى إيجاد الوسائل اللازمة لتجديد عهد الآداب العربية في ظل خديوينا المحبوب عباس الثاني الذي تعود أن يقفو آثار أسلافه الفخام في سلوك المكارم وتجديد مفاخر المآثر.
وللوصول إلى هذه الغاية التي مازال ينشدها واضع المشروع، قد اقترح حضرته تنظيم دار الكتب الخديوية تنظيماً يشمل جميع فروع الإصلاح التي تستوجبها مكانتها، لتأتي بالثمرة المطلوبة، وتقوم بالخدمة الواجبة عليها.(1/533)
وإنني أوافق حضرته من هذه الوجهة موافقةً تامة، ولذلك شرعت فعلاً في درس هذا الإصلاح درساً دقيقاً، لأتمكن في وقت قريب من جعل خزانة كتبنا النفيسة كفيلة بالقيام بجميع الأغراض التي أنشئت لأجلها، أو التي يحق لنا انتظارها منها، حتى تكون من أقوى العوامل في نشر أنوار العلوم العربية.
ثم أشار صاحب المفكرة إلى انه يجب إرجاع المطبعة الأهلية إلى مجيد عملها السابق وذلك بطبع التآليف التي تفخر بها علماء مصر، حتى يتسنى لأهل الجيل الحاضر أن يشمروا عن ساعد الجد، ويواصلوا سلسلة الابتكار في العلوم والآداب التي بدأ بها أجداده الأمجاد.
وقد رأى صاحب المشروع من الواجب عليه أن لا يقف عند الإشارة إلى نظريات مبهم أو إبداء رغائب مجردة عن وسائل التنفيذ، مما لا يكون كفيلاً باستكمال وسائل النجاح، فلذلك أفرغ وسعه، وبذل جهده، ولم يضن بشيء من ماله ووقته وراحته، حتى تيسرت له كل الأسباب المؤدية لتحقيق الخطة التي رسمها لنفسه، وذلك أنه قرن العلم بالعمل، فانتهز فرصة الانقلاب الذي حصل في الدولة العلية، وشخص إلى الأستانة وتمكن هناك من استخدام الفوتوغراف في نقل جلائل المؤلفات التي تزدهي بها الآداب العربية، خصوصاً تلك التي كانت فيما مضى من أجمل الذخائر في الخزائن المصرية.
ولم تقف همة هذا البحاثة عند حد التنقيب وتلمس تلك الآثار من كنوزها في القسطنطينية، بل واصل سعيه أيضاً في ربوع العلم بأوروبا لاستيفاء كل المعدات ولإتمام عمله على أحسن حال.
هذا وقد ألمع في مفكرته بإيضاح وجيز إلى كل واحد من هذه المصنفات النادرة فكتب نبذة قصيرة تكشف عنها اللثام وتبين الفوائد التي تعود على اللسان العربي والأمة المصرية من العناية بطبعها وتعميم نشرها.
ولقد رأيت من الواجب أن أستعلم عما إذا كان لهذه المصنفات أو لبعضها أثر ما في دار الكتب الخديوية، أو في إحدى مكتبتي الأزهر الشريف والمجلس(1/534)
البلدي بالإسكندرية.
فوافتني هذه المعاهد الثلاثة ببيانات تسمح لي بالتصريح بأن المؤلفات التي نقلها حضرة أحمد بك زكي لا توجد أصلاً ضمن مكاتبنا ومجاميعنا الأهلية، وأنها لم تطبع حتى الآن، وإن في طبعها نفعاً عظيماً للمتنورين من أبناء مصر وسائر أهل العلم على الإطلاق.
ولا ريب في أن حكومة الجناب العالي الخديوي الآخذة بناصر الآداب العربية ستقدر هذه الكنوز حق قدرها وتعمل على اقتنائها، وإضافتها إلى خزانة كتبها النفيسة، خصوصاً وأن معظمها مما جادت به قرائح البارعين من المصريين.
وليس من الصواب أن يقف عمل الحكومة الخديوية عند هذا الحد، بل يتحتم علينا أن نبادر إلى السعي في طبعها، بحيث لا يمضي قليل من الزمن حتى تصبح منهلاً سائغاً للقاصد، ومورداً عذباً لكل طالب.
ونحن إذا نظرنا إلى أهل الشرق وإلى العلماء المستشرقين في هذه الأيام تراهم جميعاً يتهافتون إلى الوقوف على كل ما له ارتباط بالحضارة الإسلامية. ولا شك عندي في أن الحظ الأوفر في هذه النهضة المباركة ينبغي أن يكون لمصر، إن لم تكن هي القائدة لحركتها والمدبرة لشؤونها، وذلك نظراً لمركزها الطبيعي ولما كان لها من الأيادي البيضاء على العلوم والآداب. وبهذه المناسبة أرى من الواجب أن نشكر المعاهد العلمية الغربية، لما تبذله من المساعي في تأييد هذه الحركة والأخذ بناصرها. ولا غرو فإن المستشرقين الذين تفتخر بهم المدارس الجامعة في بريطانيا العظمى وسائر أوروبا وأمريكا، لا يألون جهداً في العمل على نشر الكتب التي صنفها جهابذة العرب وبحثوا فيها عن شتى الموضوعات. فهؤلاء المستشرقون لا يزالون يدأبون على العمل مع الصبر في التحصيل والدرس، والبراعة في التنقيب والبحث. وبذلك تيسر لهم أن ينشروا طائفة كبيرة من أمهات الكتب العربية النفيسة، وقد يترجمونها في بعض لأحايين إلى لغاتهم، أو يتخذونها موضوعاً لمباحثهم كيما يشاركهم قومهم في الاستفادة منها. وهم بهذا السعي يبثون فينا روح الأمل باسترجاع كنوز آدابنا الشرقية رويداً رويداً ومن المؤكد أن(1/535)
هذا الأمل لا يلبث أن يدخل في حيز الإمكان ويتحقق في عالم الوجود، إذا ما تعهدته مصر بالقسط الواجب عليها من المساعدة.
ولقد آن للحكومة الخديوية أن تعضد العلماء المصريين وتفتح لهم مجال البحث ليتمكنوا من
الاستمرار على التنقيب والتأليف فيعيدوا في مصر عصر آبائهم ويصنعوا مثل ما صنعوا.
وأرى لإطراد هذه الحركة أن نبدأ منذ اليوم بطبع الموسوعتين اللتين تفتخر بهما مصر والعرب على الإطلاق، وأعني بهما نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري. لأن هذين الأثرين الجليلين قد انعدما من بلادنا في جملة ما أضاعته من الكنوز الغوالي على أثر ما انتابها من الطوارق والطوارئ.
ولقد أعيى العلماء الغربيين استكمال هذين الأثرين النفيسين، فلم يوفقوا إلى جمع أشتات هذه الضآلة المنشودة مع ما بذلوه من الجهد في كثير من الأزمان، حتى أتاح الله لأحد مواطنينا فتيسر له بعد متاعب احتملها مدة عشرين عاماً واهتدى لجمع المواد والأجزاء التي يتألف منها هذان السفران، وأثبتها كلها بالفوتوغراف فحق لنا بعد ذلك أن نهنئ أنفسنا على هذا النجاح الباهر.
وإذا أخذنا في طبع هاتين الموسوعتين بسعد الجناب الخديوي العالي، الذي تفضل فأظهر عنايته العالية بأمرهما، فلا شك أن الإقبال على اقتنائهما سيكون عاماً عند جميع الطبقات وخصوصاً عند الفئة المولعة بالدرس وأرباب العقول المستنيرة بمصر والشرق بل يتعداهما إلى الجامعات ودور الكتب في البلاد الأجنبية والمستشرقين الذين يقدرونهما حق قدرهما لأنهم استفادوا منهما.
وعلى ذلك فإنني أشير بتشكل لجنة من أهل الدراية تختارها نظارة المعارف العمومية لتهيئة هذين السفرين للطبع ويكون من خصائصها النظر في الأصول، وضبطها بالدقة قبل تسليمها للمطبعة الأهلية، لأن الطبع إذا ما باشرته الحكومة الخديوية بنفسها وأشرفت عليه برعايتها، يجب أن يكون مستوفياً لكل أسباب(1/536)
الكمال ليجيء مناسباً لحاجات العلم والنقد في العصر الحاضر.
ورأى أيضاً مخابرة نظارة المالية لتأمر المطبعة الأهلية بتوسيع نطاق القسم الأدبي حتى يتسنى له طبع ثلاث ملازم أو أربع في اليوم الواحد. ولعل سعادة ناظر المالية يسمح بتخفيض شيء من مصاريف الطبع للمعاونة على ترويج هذا العمل الأدبي العميم الفائدة الذي من شانه المساعدة على ترقية الأفكار وتعميم المعارف إذ بفضل هذه المنحة يمكننا أن نزيد في عدد النسخ بغير زيادة في النفقات والأكلاف. وبذلك يتسنى لنا أيضاً تخفيض قيمة
الاشتراكات وأثمان البيع تخفيضاً محسوساً يساعد على زيادة الإقبال وتسهيل أسباب الانتفاع.
بقي علينا أن ننظر في تدبير المال اللازم للشروع في هذا العمل الخطير وهو متوفر لدينا لوجود المبلغ الاحتياطي في دار الكتب الخديوية فإن هذا الاحتياطي مخصص بطبيعة الحال لإحراز واستنساخ وطبع المحفوظات العربية، وقد بلغ آخر أغسطس الماضي 9392 جنيهاً مصرياً. ويجب الإشارة إلى أن استخدام ذلك المبلغ الاحتياطي في هذا السبيل النافع، ستنتج عنه ثمرة مفيدة لدار الكتب الخديوية من الوجهة المادية المحضة، فضلاً عما يترتب عليه من المزايا الأدبية الكثيرة. وعلى كل حال فلو فرضنا أن هذا المشروع لا يكون من ورائه مغنم مادي، فإن الحكومة الخديوية ينبغي لها أن تغتبط بهذا المسعى الذي يفضي إلى إفاضة نور الأدب العربي في بلاد الشرق، وذلك لأن الجامعات في بلاد الإنكليز والمطابع الأهلية في ديار أوروبا، هي التي تأخذ دائماً على عاتقها طبع المؤلفات الأهلية الكبيرة القيمة الواسعة الحجم ولو أدى ذلك إلى خسارة مالية فادحة وذلك لقصور يد الأفراد عن القيام بما تقتضيه من النفقات الجسيمة. أما مشروعنا هذا فإنه بعيد عن ذلك بالمرة، لما فيه من الكاسب التي تدعو إلى الإقدام عليه والاهتمام بشأنه.
فإذا صدفت هذه الآراء والاقتراحات ما أبتغيه لها من حسن القبول لدى عطوفة الرئيس رجوته أن يسمح لي باتخاذ الوسائل اللازمة لإنجاز هذا المشروع(1/537)
على أحسن حال لكي يزيد في شرف هذا العصر الأسعد، المشمول بيمن خديوينا المحبوب الأمجد، الحامي لواء العلم والأدب، الراغب في تقدم لسان العرب.
وفي الختام أرجو عطوفتكم قبول فائق الإخلاص وجليل الاحترام.
ناظر المعارف العمومية
أحمد حشمت
مصر الأدبية
مصر تعرف أدباء سورية وهؤلاء يعرفونها! فهي إذا لم تكن منشأ جمهورهم وأمهم الحنون فهي منشأ ومربية كثيرين منهم ولا ريب.
عرفت أديب إسحق، وسليم النقاش، وأمين الشميل، وسليم وبشارة تقلا، وخليل اليازجي، ونجيب الحداد، وبشارة زلزل، وإبراهيم اليازجي، من حملة الألوية في طليعة النهضة الأدبية الحديثة. وحضنت يعقوب صروف، وسبلي شميل، وفارس نمر، وجرجي زيدان، ومحمد رشيد رضا، وسليمان البستاني، وداود عمون، وخليل مطران، وسليم سركيس، ورفيق العظم، وأمين الحداد، ويوسف الخازن، وإسكندر شاهين، وداود بركات، وعبد الحميد الزهراوي، وسامي قصيري، وسليم عنحوري وخليل زينية، ونقولا رزق الله، وأمين البستاني، وطانيوس عبده، ومصطفى صادق الرافعي، ونجيب شاهين، وانطون الجميل، وفرح أنطون، ويوسف البستاني، ورشيد عطية، ونقولا حداد، وعبد القادر المغربي، ونجيب هاشم، من حملة الأقلام اليوم.
وربت محمد عبده، وقاسم أمين، ومحمود سامي البارودي، وإبراهيم(1/538)
المويلحي، وعبد الله نديم، وإبراهيم اللقاني، وعلي الليثي، ومصطفى كامل ونشأت أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري، وفتحي زغلول، وعلي يوسف، وأحمد لطفي السيد ومحمد المويلي، وحنفي ناصف، وولي الدين يكن، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وإمام العبد، وعبد الحليم المصري، ومحمد مسعود، وأحمد الكاشف، وأحمد فؤاد، وأحمد نسيم، وأحمد محرم العرب، وعبد الرحمن شكري، ولطفي جمعه وكثيرين آخرين وعطفت علي جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد المحسن الكاظمي.
فإذا كان للآداب العربية جنة فمصر جنتها يجري في أرباضها النيل. وإذا كان مجلى لعرائس الأفكار فسماء مصر موحى الشعر وملهم البيان.
ولست أدري أفي طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أم الأدب والمتأدبين، أم هي الحياة فيها توحي الشعر، وتستنزل البيان. وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون، وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم وقد احتلها الإنكليز.
ولست أدري - وقد نشأ في سورية شعراء ومنشئون كثيرون - أسباب الفرن بين النفسين
المصري والسوري!
خذ أدباء اليوم في القطرين تجد ذلك الفرق بيناً ظاهراً.
أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر، وأدباء سورية يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين. أنا أحب إلي أن تغلب علي لهجة رؤبة العجاج ومهيار الديلمي من أن تتملكني لهجة الفريد ده موسه أو واشنطون ارفنغ.
إن لغتي لغة مهيار ورؤبة أهذبها بما يقتضيه يومي من التهذيب(1/539)
ولكنها ليست لغة موسه أو ارفنغ فتلين لي وتطيعني أو إذا هي لانت أو أطاعت فليس وسطي وسطها، وحياتي حياتها، وإقليمي إقليمها، وبياني بيانها. ولعل مثل هذه النظريات هو ما ابتعد بأدباء مصر عن مثل هذا التقليد. أو لعل الأقاليم الحارة تطبع أهلها على حب الملاهي فيتولد فيهم الخيال والابتكار ويلهمون الجديد والبيان فإذا هم اقتبسوا عن الإفرنج فالمعاني والأغراض ليس الطريقة والبيان. أو لعل حكومات مصر كانت العامل على ذلك بإطلاقها الأفكار وتنشيطها الأدباء؟
ذكرت هذه العوامل وفي اعتقادي أن العامل الأكبر والأقوى إنما هو مدينة مصر ومصر الحديثة أرقى الأمصار الشرقية مدينةً ولا ريب.
انظر إلى تاريخها منذ فتح العرب مصراً وامتزجت مدينتهم فيها بمدينة الأقباط المتسلسلة من الفراعنة والورم والفرس والكلدانيين والآشوريين وغيرهم إلى أن تولاها الأتراك ثم دخلها الفرنساويون وإلى أن احتلها الإنكليز فتهافت عليها الغربيون من كل صوب، نجدها مزيجاً من مدنيات مختلفة متباينة وقد بلغت اليوم شأواً بعيداً من الرقي أو ليس في بعض هذا متسع للقول بأن مصر أرقى من سورية في الحضارة وأن الآداب إنما تتكيف بتكيف الحضارة وتمشي مع المدنية في طريق واحدة؟
رب قائل يقول إن أدباء سورية الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها. فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضاً أنه لولا مدينة مصر ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر، لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة،(1/540)
وإلا فلماذا - وهم سوريون - لم يرقوا بالآداب في سورية إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر؟ ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسورية نهضتهم
بمصر ولكن مدنية سورية لم تكن عوناً لهم في عملهم الشاق فوقفت تلك النهضة في منتصف الطريق.
إذا وصف حافظ قلم المرحوم الشيخ محمد عبده بقوله:
إذا مس خد الطرس فاض جبينه ... بأسطار نور باهر اللمعات
كأن قرار الكهرباء بشقه ... يريك سناه أيسر اللمسات
فلأن حافظاً عرف الكهرباء فلما لامسها اهتز. ولما مس لولبها أنارت فأوحى إليه هذا العلم ذلك المعنى فقاله بذلك البيان المأثور عنه.
يقول كارليل الكاتب الإنكليزي المشهور إن كل إنسان خلق شاعراً وإنما تتفاوت قوى الشاعرية فيه بتفاوت قوى عواطفه وبيانه وبتفاوت قوى المؤثرات المحيطة به. والمصري حواليه من مدنيته وفطرته وطباعه وعاداته وأخلاقه ألوف من المؤثرات تستفز نفسه. وتستثير فؤاده، غير أني - والمجال لا يسمح بتعدادها - أتجاوز عنها إلى إحداها فأذكرها بالإيجاز وهذا المؤثر الذي أريده هو الغناء.
أنا لا أعرف إلى اليوم مصرياً واحداً ليس يستخفه طرف الإنشاد ولا يذهب بلبه الصوت الحسن. خذ أياً شئت في مصر وأسمعه يا ليل ثم انظر إليه تره طرباً ثملاً يتلوى تلوي المغني في غنائه. ويتمايل معه كيف مال ويرقص رقص الدف بيد الناقر عليه وينتفض انتفاض الأوتار تحت ريشة العواد. فالمصري كما ترى يؤثر في الغناء كل التأثير فكيف به(1/541)
إذا كان شاعراً والشاعر كما قال شوقي: خلق الشاعر سمحاً طرباً. . .
شوقي أطربه عبده الحمولي بقوله: يا ليل فقال فيه:
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل فيصغي مستمهلاً في فراره
وهزه إنشاد المغني يا ليل الصب متى غده فقال أبياته الجميلة:
مضناك جفاه مرقده
وإسماعيل صبري طرب لغناء بعضهم فنظم له القد المشهور:
قدك أمير الأغصان
وخليل مطران استخفه الطرف فنظم لمغنيه الدور المغروف:
الكمال في الملاح صدف
ومراد فرج المحامي استفزه صوت مطربه فكتب له الدور المعروف أيضاً:
سلمت روحك يا فؤادي
والغناء في مصر أشهر من أن يوصف. فإذا قيل أن الموسيقى أخت الشعر وجدت مصراً مصداقاً لهذا القول ولا ريب: والغناء كما قلت أحد المؤثرات المحيطة بشعراء مصر فهو يستفز نفوسهم. ويستثير عواطفهم فيطربون له. ويهيج شاعريتهم. فيستنزل على ألسنتهم الإلهام ويوحي البديع إلى بيانهم. فيعمدون إلى الابتكار. وينبذون التقليد.
هذه كلمتي في مصر الأدبية وأنا أعلم حق العلم أني لم أستوف الموضوع حقه ولا نظرت فيه من جميع أطرافه كما يقتضي البحث الدقيق.
- (البرق) أمين تقي الدين(1/542)
المراسلات السامية
وعدنا القراء في الجزء الفائت بإتحافهم بالمراسلة الشعرية التي دارت بين أميرين من أمراء القريض، المرحوم محمود سامي باشا البارودي والأمير شكيب أرسلان اللبناني. وهي قصائد غراء لم يسبق نشرها قبل الآن، تكاتب بها الشاعران أيام كان البارودي منفياً في جزيرة سيلان - كما سيجيء في ترجمته التي سننشرها قريباً. وكان سعادة الأمير الأرسلاني قد استشهد في بعض كتاباته أولاً وثانياً بأبيات للبارودي، وذلك على غير معرفة شخصية بينهما فكتب محمود باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية:
أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً ... وأمسكت لم أهمس ولم أتكلم
وما ذاك ضناً بالوداد على امرئ ... حباني به لكن تهيبت مقدمي
فأما وقد حق الجزاء فلم أكن ... لأنطق إلا بالثناء المنمنم
فكيف أذود الفضل عن مستقره ... وأنكر ضوء الشمس بعد توسم
وأنت الذي نوهت باسم ورشتني ... بقول سرى عني قناع التوهم
لك السبق دوني في الفضيلة فاشتمل ... بحليتها فالفضل للمتقدم
ودونكما يا ابن الكرام حبيرة ... من النظم سداها بمدح العلا فمي
فأجابه الأمير بما يأتي:
لك الله من عان بشكر منمنم ... لتقدير حق من علاك محتم
وشهم أبي النفس أضحى يرى يداً ... تذكر فضل أو جميل لمنعم
رأى كرماً مني تذكر قوله ... فدل على أعلى خلالاً وأكرم
ولو كان يدري فاضل قدر نفسه ... رأى ذكره فرضاً على كل مسلم(1/543)
أيعجب من تنويه مثلي بمثله ... لعمري الذي قد شق في شعره فمي
ومهما يكن من أعجم فبفضله ... يرى ثقفياً في الورى كل أعجم
إذا مطر الغيث الرياض بوابل ... فأي يد للطائر المترنم
إذا ما تصبت بالعميد صباحة ... بوجه فما فضل العميد المتيم
وهل ينكر الإحسان إلا لآمة ... وينكر حسناً غير من طرفه عمي
وهل في شهود الشمس أدنى مزية ... وقد جاء ضوء الشمس لم يتكتم
رويدك لا تكثر لدهرك تهمة ... ولا تيأسن من أهله بالتوهم
فما زال من يدري الجميل ولم يكن ... لتأخذه في الحق لومة لوم
وأنت الذي لو أنصف الدهر لم يكن ... لغيرك في العلياء صدر التقدم
جمعت العلى من تلدها وطريفها ... فجاءت كعقد في ثناك منظم
غدت خطتي إما يراع ومخدم ... وأنك قطب في يراع ومخدم
ولم أر كفاً مثل كفك أحسنت ... إلى المجد أرعاف المداد مع الدم
جمعتهما جمع القدير بكفه ... إلى محتد سام إلى المجد ينتمي
ولو كان يرقى المرء ما يستحقه ... إذاً لبلغت النيرات بسلم
وأنت الذي يا ابن الكرام أعدتها ... لأفصح من عهد النواسي ومسلم
وأنشرت ميت الشعر بعد مصيره ... لأعظم نثراً من رفات وأعظم
وأشهد ما في الناس من متأخر ... يدانيك فيه لا ولا متقدم
ولو شعراء الدهر تعرض جملة ... لمنجدهم من كل حي ومتهم
لأبصرت شخص البحتري منك بحتراً ... وخلق أبي تمام غير متمم
لك الآبدات الآنسات التي نأت ... وأنست عكاظ الشعر بل كل موسم(1/544)
لكم أسهرت جفن الرواة وخالفت ... حظوظك منها شرد غير نوم
شغفت بها طفلاً فأروي بديعها ... ولم أرو من وجدي بها نار مضرم
ولا عجب أني أحن صبابةً ... فيسري الهوى بالقول للمتكلم
أفي كل يوم فيك وجد كأنه ... طوى جانحاً مني على نار ميسم
أحمل ريح الهند كل تحية ... فكم من صبا منها عليك مسلم
وقد طالما حدثت نفسي وعاقني ... ترددها ما بين أقدم وأحجم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالروضة الزهرا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا ... وخوضي في حوض من الطعن مفعم
أقل بقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذاك المقام المعظم
وهب أنني باز قد انقض أشهب ... فهل يطمع البازي بلقيان ضيغم
ولكن لي من عفو مولاي ساتراً ... فها أنا ذا منه به بت أحتمي
أمحمود سامي إن يك الدهر خائناً ... وطال عليك الزجر طائر أشأم
فما زالت الأيام بؤساً وأنعماً ... وحظ الشقا بالمكث حظ التنعم
ولولا الصدى ما طاب ورد ولا حلا ... لك الشهد إلا من مرارة علقم
عسى تعتب الأقدار والهم ينجلي ... وينصاح صبح السعد في ذيل مظلم
وأهديك في ذاك المقام تهانئاً ... حبيرة مسدٍ في ثناك وملحم
(لهذه الرسائل بقية)
شكيب أرسلان(1/545)
ونفسك فابدأ بتصويرها ... بما أنت من خالدٍ فاعل
وإلا مضى الجسم مع رسمه ... ولا يخلد الزائل الزائل
(نظم صاحب الرسم وهو في الخامسة عشرة من عمره)
عبد بلا ثمن
يا من أقام فؤادي إذ تملكه ... ما بين نارين من شوق ومن شجن
تفديك أعين قوم حولك ازدحمت ... عطشى إلى نهلة من وجهك الحسن
وتستعيذ إذا ألفتك مبتسماً ... من لؤلؤ بالنهى حرزاً من الفتن
جردت كل مليح من ملاحته ... لم تتق الله في ظبي ولا غصن
فاستبق للبد بين الشهب رتبته ... تملكه في أفقه عبداً بلا ثمن
إسماعيل صبري(1/546)
أزهار وأشواك
صنعة زوجي؟
بين ضيوفنا الكرام في مصرا لآن تلك التي ستجلس يوماً ما على عرش من أعظم عروش العالم، أعني بها قرينة ولي عهد ألمانيا. رافقت زوجها، ولي عهد اليوم وإمبراطور الغد، في قسم كبير من سياحته لتعرف البلاد وتطلع على شؤون الأمم. وقد نزلت في ربوعنا، في أرض داسها قبلها رجال عظام ونساء شهيرات، فعلى الرحب والسعة. . . حكاية صغيرة عن هذه الأميرة الكبيرة: كانت البرنسيس تهتم بإيجاد عمل لإحدى الأوانس. واتفق أنها قرأت في إحدى الجرائد إعلاناً من صاحب أحد المخازن يطلب فيه دموازيل مساعدة في البيع. فرأت الأميرة أن تقصد صاحب المخزن بنفسها لتوصيه بالآنسة. دخلت إلى المخزن، وقد صبغ الحياء جبينها، وقالت مترددة: قرأت إعلانك في الجريدة. أنت تريد مساعدة. . .
فتبسم التاجر - ولم يكن يعرف الأميرة - ووضع يده على كتفها قائلاً: بكل أسف يا ولدي، لا أرى شكلك موافقاً. ولكن لا بأس، عودي إلى بعد شهر وأحضري معك ما لديك من الشهادات. . . . ما اسمك؟ - سيسيليا - وهل أنت متزوجة؟ نعم - وما صنعة زوجك؟ - الآن. . . لا شيء. ولكنه سيكون يوماً. . . إمبراطوراً.
إدارات البريد
قرأت في الصحف الإنكليزية أن حركة البريد في مدينة لندرا قد(1/547)
زادت في الأعياد الأخيرة نحو 75 في المئة. فقد وزع في أسبوع العيد 25 مليوناً من الرسائل. وقد جرى كل ذلك بأتم انتظام ولم يتأخر التوزيع إلا في مئة ديك رومي و250 إوزة و800 طرد من الطيور الداجنة و200 طرد من الزبدة والبيض وذلك لنقص في العنوان. وقد أعلنت مصلحة البريد أمر هذه الطرود وسلمتها إلى أصحابها بعد أن أثبتوا شخصيتهم ثم كان هناك شيء من الطرود يخشى عليها من العطب والتلف إذا تأخر تسليمها فكانت المصلحة تبيعها وتحفظ ثمنها لأصحابها.
انقل ذلك لمصالح البريد في بعض الأنحاء حيث يخطف كل عدد من الزهور غير مؤمن عليه. وأكتفي اليوم بهذه الإشارة، راجياً أن لا اضطر إلى التصريح. . .
حاصد
ثمرات المطابع
ظهر القسم الثالث من كتاب دروس التاريخ الإسلامي تأليف حضرة الكاتب البليغ الشيخ محيي الدين الخياط وقد سبق لنا الكلام عن هذه الدروس عند صدور الجزئين الأولين منها. أما القسم الذي أمامنا فهو يتناول مجمل تاريخ بني أمية وهو مزين بخريطة الدول العربية الإسلامية.(1/548)
وظهر أيضاً الجزء الثاني من كتاب سمير الليالي الذي وضعه محمد أفندي الصوفي السكري وقد تكلمنا عنه عند صدور الجزء الأول منه ومجمل أبحاثه جغرافية. أما هذا الجزء فقد دون فيه أشهر الحوادث التاريخية وأورد معلومات شتى وفوائد كثيرة.
الحمل خارج الرحم: رسالة طبية وضعها حضرة العالم الدكتور محمد أفندي عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب، بحث فيها بحثاً دقيقاً موضوع الحمل فأورد أقوال نُطس الأطباء في هذا الموضوع وأردفها باختباراته الشخصية ويسرنا أن نرى كثرة الكتابة عن هذه الموضوعات الاختصاصية في اللغة العربية مما يدل على نهضة حقيقية. فنثني على حضرة الدكتور عبد الحميد وننتظر منه متابعة أبحاثه في لغتنا.
ضحايا البشرية: مجموع مقالات عمرانية انتقادية من قلم حضرة الأديب ندره أفندي نقولا ألوف. لهجتها تدل على ثورة في صدر كاتبها انفجرت بزفرات كلها تألم مما يؤلم ومما لا يؤلم من هذه البشرية التي لا تعد ضحاياها. والذنب تارة على المجتمع الإنساني وتارة على الأفراد أنفسهم الذين يذهبون ضحية جعل معنى الحياة. وقد كتبت مقدمة هذه المقالات حضرة المنشئة الأديبة السيدة لبيبه هاشم صاحبة فتاة الشرق.(1/549)
القواعد الحسابية للأعمال التجارية والزراعية: وضع هذه المجموعة حبيب أفندي داود بحري وجمع فيها جملة قواعد حسابية كثيرة الأهمية في القسم الزراعي كتضريب قيم الفدان والقيراط والسهم معاً بأية فئة كانت وتضريب قيم الأردب والكيلة إلخ. وفي القسم التجاري قواعد الفائدتين البسطة والمركبة وقواعد الشركة وكيفية تقسيم الخسائر والأرباح.
لباب الخيار في سيرة المختار: لمؤلفه الكاتب القدير الشيخ مصطفى الغلاييني منشئ النبراس ومدرس العربية في المكتب السلطاني البيروتي صدره بلمحة إجمالية من حالة العرب وعاداتهم وممالكهم قبل الإسلام. ثم تناول سيرة نبي الإسلام وما تخللها من الحوادث التاريخية الخطيرة بأسلوب لذيذ مفيد.
رفيق الجندي المسيحي: دعي المسيحيون إلى الخدمة العسكرية بعد إعلان الدستور فرأى حضرة الفاضل الأبد يواكيم الفرنسيسي أن يضع لهم هذا الكتاب المفيد حيث تكلم عن شرف الخدمة العسكرية وحب الوطن وممارسة الفضائل المتحتمة على من ينخرط في سلك الجندية.
من كل حديقة زهرة
* يباع كل يوم في باريس سبعمئة ألف كارت بوستال مصورة.(1/550)
* في أمريكا مئة امرأة تنفق الواحدة منهن على ملابسها في السنة 150 ألف فرنك، وألف امرأة تنفق 75 ألف فرنك، وعدد لا يحصى تنفق الواحدة منهن من 30 إلى 40 ألف فرنك. ولإحداهن ولع خاص بالمناديل الثمينة فلا يكلفها المنديل الواحد أقل من جنيه.
* افتتح في بروكسل متحف للجرائد. ومنشئوه فان دن بريك كان قد جمع 35 ألف نسخة من جرائد مختلفة. وهي أكبر مجموعة من هذا النوع وقد أهداها صاحبها المذكور إلى المتحف الجديد مع سبعمئة كتاب عن الصحافة والصحافيين. ولدى متحف الصحافة هذا خمسة آلاف نسخة مزدوجة للمبادلة.
* يقدر رئيس قلم الإحصائيات في الولايات المتحدة قيمة الهدايا التي تبودلت في بلاده بمناسبة أعياد الميلاد بخمسمئة مليون فرنك. هذا ما عدا التقادم المالية من المصارف والشركات والمحلات التجارية إلى مستخدميها. وقد وزعت البنوكة من هذا القبيل 50 مليون فرنك تقريباً، وأهدت جمعية احتكار الفولاذ إلى عمالها معاشات قيمتها 60 مليوناً.
* اقترح أحد النواب الفرنسويين على المجلس سن ضريبة مقررة على حملة الأوسمة والنياشين.
* مضى قرن كامل على احتكار التبغ في فرنسا. وقد باعت الحكومة في السنة الأولى بمبلغ 60 مليون فرنك وهي تبيع الآن سنوياً بمبلغ أربعمئة وخمسين مليوناً وبلغ ربحها الصافي في هذه المدة خمسة عشر ملياراً ونصف مليار. كل هذه المبالغ ذهبت دخاناً في الفضاء.(1/551)
ختام السنة الأولى
هذا الجزء هو الجزء الثاني عشر والأخير من السنة الأولى للزهور التي تتألف منها الآن مجموعة من أنفس ما جادت به قرائح مشاهير كتاب العرب في هذا العصر. ويرى القارئ من إلقاء نظرة على الفهرس العام عدد وشهرة الكتاب الذين حصلت إدارة هذه المجلة على مساعدتهم بالتحرير لتكون الزهور كما وعدنا عند صدور الجزء الأول رابطةً بين أدباء الأقطار العربية، لأن المقصود من المجلة أن تكون معرض أقلام مختلفة لا مجموع مقالات من قلم كاتب واحد. وكلما كثر عدد محرري المجلة زادت قيمتها وزاد الإقبال عليها. هكذا نفهم المجلة وهكذا عملنا على أن تكون الزهور فتحققت آمالنا بفضل أنصار الأدب وأعوان العلم. ويحق اليوم للزهور بعد قطع المرحلة الأولى من عمرها أن تنافس بمحرريها وهم من أشهر من حمل قلماً عربياً، وأن تفتخر بقرائها وهم الطبقة الراقية من الأمة العربية. وستظل عاملة على إرضاء مشتركيها بالتحسن المتواصل والاحتفاظ بخطتها الأدبية المنزهة عن الشخصيات والتحزبات الجنسية والمذهبية.
وإذا حق لها هذا الفخر فإنه يجب عليها إسداء صميم الشكر للمحررين فيها ولقرائها ووكلائها الأدباء على مؤازرتهم لها، ولحضرة صاحب مطبعة المعارف ومديرها وعمالها النشطين على ما بذلوه من سبيل حسن الطبع والترتيب مما صادف استحساناً كبيراً عند أصحاب الذوق.
أحسن قصيدة وأحسن مقالة
طالعت أيها القارئ في الاثني عشر عدداً من الزهور المجموعة لديك مقالات وقصائد كثيرة ولابد من أن تكون فضلت واحدة منها على سواها. فنقترح الآن عليك أن تكتب لنا عن المقالة أو القصيدة اللتين حازتا تفضيلك. - ومتى اجتمعت لدينا الأجوبة الكافية ننشر عنوان القطعتين اللتين تنالان أكثر الأصوات. -(1/552)
العدد 12 - بتاريخ: 1 - 3 - 1911
السنة الثانية
نودع اليوم السنة الأولى من حياة هذه المجلة ونستقبل السنة الثانية قطعت الزهور المرحلة الأولى من عمرها وهي لم تر إلا ابتسامة الرضى من المنشطين، ولم تسمع إلا كلمة التشجيع من القراء والمشتركين. قطعت الشوط الأول في مضمار النهضة الحديثة، وأقلام أعلام الأدباء تحدق بها فتقيها كل عثرة، ونفثات كبار الكتاب والمفكرين تحوم حواليها في كل خطوة. فأدركوا بها الغاية التي وضعتها نصب عينيها منذ وجودها.
ظهرت هذه المجلة وقد غص عالم الأدب بالصحف والمجلات ومع ذلك فقد أتيح لها أن تفسح مجالاً واسعاً وتحرز لنفسها مقاماً سامياً. ندون ذلك في مطلع السنة الجديدة لا فخراً ولا مباهاة، ولكن إقراراً بفضل مشاهير الأدباء الذين خصوها بنفثاتهم الرائقة، واعترافاً بكرم القراء الذين شاؤوا أن يروا فيها الصحيفة الأدبية التي كانت إليها نفوسهم تائقة. فكان إقبال أولئك على تحريرها داعياً إلى إقبال أولاء على اقتنائها.
قلنا في أول مقالة رسمنا فيها للقراء خطة هذه المجلة أننا سعينا لجعلها(2/3)
رابطة بين كتاب الأقطار العربية حتى يتعارفوا وتتمكن فيما بينهم أواصر الأدب. ونشرنا إثر ذلك أسماء الكتاب والشعراء الذين وعدونا من أنحاء مختلفة بإبراز بنات أفكارهم على أوراق الزهور. ولم يكونوا بالنفر القليل. فأثنى الجميع على هذه الخطة الجديدة وأجمعوا على استحسان هذه الفكرة ولكن فريقاً أبى عليهم تحفظهم إلا أبداء الشك في التمكن من تحقيق هذه الأمنية العزيزة. وهي حمل أُدباء العرب على الاشتراك في تحرير صحيفة تكون لسان حالهم. واقروا بأنه لو أتيح لمجلة أن تجمع هذه الشتات لكانت في مقدمة المجلات.
غير أننا لم ندخر وسعاً للوفاء بما وعدنا كما يتبين لك ذلك من مراجعة أسماء من وعدنا بنشر كتاباتهم وأسماء من ساعدونا فعلاً وهي مدونة في فهرس السنة الأولى. فتجد أن عدد الكتاب الذي اشتركوا في تحرير الزهور يناهز المئة وهي نتيجةٌ نفاخر بها لأن المجلة الحقيقية - كما ذكرنا في أحد الأعداد السالفة - هي معرض أقلام مختلفة، لا كتابة عن مجموعة مقالاتٍ لكاتب أو كاتبين. وقد وعد عموم هؤلاء الكتاب بالمثابرة على إتحاف قرائنا بدرر أقوالهم. وفاوضنا غيرهم أيضاً بهذا الشأن فكان مثل من تقدمهم مدعاةً لنزولهم أيضاً إلى هذا الميدان.
أبواب المجلة
وسنحفظ التبويب الذي سرنا عليه حتى الآن فقد صادف استحسان العموم وهو:
1ً - باب المقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب في موضوعات متنوعة(2/4)
2ً - في جنائن الغرب ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب اليونان والرومان والفرنسيين والانكليز والألمان والايطاليان والروس وغيرهم من الغربيين قديماً وحديثاً لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني الجديدة والمباني الحديثة. كما ترى في مجموعة السنة الأولى.
3ً - في حدائق العرب ننشر فيه صفحات مطوية من خير ما قاله الغابرون من كتاب العرب لأن لدينا كنوزاً مدفونة نحن في أشد الحاجة إلى الانتفاع بها.
4ً - في رياض الشعر نعرض في هذا الباب عرائس القصائد التي يزفها إلى قرائنا أشهر شعرائنا. - ولما كانت قد تراكمت علينا مواد هذا الباب حتى تكاد تضيق عنها صفحات هذه المجلة ولو خصصناها كلها بالشعر رأينا إحالة كل ما يأتينا من هذا القبيل على لجنة مؤلفة من ثلاثة من شعرائنا المعروفين ينتقون منها ما يرونهُ ملائماً للنشر. أو يقولون كلمتهم في تلك القصائد إذا أراد ناظموها.
5ً - أشواك وأزهار يوالي تحرير هذا الباب صديقنا حاصد الذي عرفهُ القراء منتقداً دقيقاً بين الجد والهزل.
أما نقد الكتب على الطريقة التي سلكناها فسنتابعهُ كل ما وقع لدينا كتاب يستحق الإفاضة في البحث.
الوكلاء والاشتراكات
طلب الكثيرون منا أن يكونوا وكلاء للزهور في أنحاء مختلفة. وكنا لا نجيب دائماً إلى طلبهم لأن الدفع سلفاً قد أغنانا عن كثرة(2/5)
الوكلاء على أن من رغب في أن يكون وكيلاً لهذه المجلة عليه أن يجد لها على الأقل ستة مشتركين جدد. أما دفع الاشتراكات خارج العاصمة فنطلبهُ مقدماً. وأفضل طريقة لإرسال البدل هي حوالة على بوسطة مصر أو على أحد المصارف المعروفة.
المبادلة والهدايا
وقد أكثر أيضاً عدد الزملاء الذين يطلبون مبادلة الزهور على أن كثرتهم تحول دون إجابة
طلب الجميع. وقد جاءنا في السنة الماضية ما يناهز المئة صحيفة أو مجلة أو نشرة مع طلب المبادلة. ولا يخفى أن إجابة الجميع من المتعذرات. وأكثر من ذلك عدد الأندية والجمعيات المختلفة التي تكتب لنا تستهدينا المجلة خدمة للأدب وإحياءً للمشروعات العلمية وهذا جلُّ ما تتمنى ولكن كثرة الطلب اضطرتنا إلى الرفض وكل ما في الإمكان حسم 30 في المئة من أصل الاشتراك لهذا الأندية شأننا مع طلبة المدارس.
الكتب
أعلنا في بداية السنة الماضية أن إدارة المجلة مستعدة لتقديم كل الكتب التي يطلبها المشتركون مع تنزيل يُذكر من أصل الثمن وذلك خدمة للقراء الذين كثيراً ما لا يعرفون أين يجدون مطلوبهم. وقد طلب منا في أثناء السنة 270 كتاباً تقريباً. ولما كانت الطلبات تتكاثر يوماً عن يوم رأينا أن نتفق مع أصحاب المكتبات الشهيرة لتكون المفاوضة معهم رأساً مع حفظ حقوق خصوصية لمشتركي الزهور سنعلنها مع اسم هذه المكتبات في عدد قادم.(2/6)
إيماءة زائر
إلى بعض ما بأورشليم وبيت لحم من الصدقات الجاريان والمآثر الباقيات
إن شوقي إلى أول أرض طلعت عليها شمس الإنجيل حملني هذه السنة على زيادة أورشليم وبيت لحم. فأبحرت من بيروت يوم الجمعة ثالث حزيران ومعي ابن عمي ميخائيل فانتهت بنا الباخرة إلى مدينة يافا عصر السبت ونزلنا عند الآباء الفرنسيسيين الكرام. وبعد ظهر الأحد علونا متن الباخرة البرية نريد بيت المقدس فلم ينقض إلا أربع ساعات حتى نعمت العين برؤية المدينة المقدسة لكن لا بالأعمال الصالحة بل بقتل الأنبياء ورجم المرسلين وصلب المسيح.
ولقد تذكرت والقطار بنهب تحتنا الأرض ما كان القدماء يكابدون من مشاقِ السفر ومكارهه فقلت أين سرعة تلك اليعملات والهملَّعات والعُذافرات من سرعة هذا القطار. وأين العصور الخالية من عصر البخار والكهرباء الذي انبسط فيه سلطان العقل على القوى الطبيعية فسخرها لخدمة الجمعية البشرية حتى هان الصعب ولأن القاسي. ودنا العاصي. فصار يتسنى لنا السفر إلى الأرض المقدسة بل إلى أقصى المعمور براحةٍ وأمان حتى إذا قلنا السفر راحة ونزهة لا نكون قد أخطأنا كما أن(2/7)
الذين قالوا السفر قطعة من العذاب لم يخطئوا فكل يصف السفر على ما هو في عصره.
هذا ولقد رأيت هنالك من آثار رجال الفضل والخير الحاملين لواء المحبة البشرية ما دعاني إلى أن اكتب هذه الرسالة القصيرة إشادة بذكرهم وإثارةً لما في أفئدة غيرهم من كامن الرحمة وقد استحسنت أن أقدم على ذلك كلاماً في دواعي التعظيم والتكريم لتلك الديار الفلسطينية فأقول
لا بدَّ لتفضيل بقعةٍ على بقعة من داعٍ ذاتي أو داعٍ خارجي. أما الداعي الذاتي فهو جودة التربة وطيب الهواء وعذوبة الماء ولذة الثمار وحسن الموقع والخصب.
وأما الداعي الخارجي فهو ما يأيتها أما من رجل ممتاز بعلمٍ أو باختراع، وأما من حادثة عظيمة تقع فيها كذي قار والجفار وذات الرمرم وهي مواضع جرت فيها وقائع حروب فقالوا: يوم ذي قارٍ ويوم الجفار ويم ذات الرمرم. فكل بقعةٍ توصف بإحدى هاتين الصفتين أو بكلتيهما تحوز الكرامة في عيون الناس. فهل شغف الناس بزيارة الأرض المقدسة إلا لما طبعوا عليه من العناية بحفظ آثار العظماء والفضلاء وكل من عرف بمنقبة أو اشتهر
بحادثة كبيرة أو باختراع نافع فهم يتغالون بأثمانها ويتفاخرون بإحرازها. فيا لحسن بخت من توجد عنده اليوم رسالة بخط ذي القرنين مثلاً أو بخط إسناده أرسطو الفيلسوف فيتزاحم أغنياء الغربيين على اشترائها بأغلى ثمن كما يتزاحمون على شراء جوهرة كبيرة(2/8)
صافية فهم يتخذون مثل ذلك حلية خزائنهم وآية عظمتهم.
وكما طبعوا على العناية بحفظ آثار العظماء طبعوا أيضاً على الحنين إلى كل بلدٍ نبغ فيه فاضل أو خرج منه عظيم حتى إذا حانت لهم فرصة لزيارته اغتنموها تبريداً لغلة الشوق بلقائه أن حياً وبرؤية بلده أو بيته أو رمسه أن ميتاً فهذا عاهل الألمان قد زار يوم كان في دمشق قبر صلاح الدين الأيوبي ووضع عليه أكليلاً أجلالا لذلك الملك المشهور بالبسالة والحزم ولم يردّه عن تكريم الرمس ما كان بين ضجيعه وبعض ملوك الألمان من الوقائع الحربية.
ولقد جربت ذلك بنفسي فإني لما كنت العام الماضي في طريق حلب لم أكد أحول نظري عن جهة المعرة حتى جاوزت وذلك أن في قلبي حنيناً إلى بلدةٍ تشرفت واشتهرت بأنها مولد أبي العلاء المعري.
فكم من بلد شرف من أجل أنه مولد شهير. وكم من بقعة عظم قدرها وبعد ذكرها لما أنها مدفن عالم نبيل أو فيلسوف عظيم أو فاتح عزيز. فهذه جزيرة القديسة هيلانة قد انتشر ذكرها في كل ناحيةٍ من الأرض لمجرد أنها كانت منفى نادرة الزمان بل يتيمة الأيام نابليون الأول عاهل الإفرنج. وهذه تواريخ المدن والممالك لا يُذكر فيها الأمن تنبه بهم أوطانهم وتعتز بهم بلادهم فيجعلهم المؤرخون قلائد على أعناق تلك الممالك وتيجان مجد على رؤوس تلك الأمم. فإذا كان إلى هذا الحد يبلغ أعظام الناس لأوطان المشاهير ومنازلهم وقبورهم فماذا عسى يكون إعظامهم للأرض التي ولد ونشأ فيها السيد المسيح الذي أبى أن يحفل بالظاهر الحسن والباطن قبيح.(2/9)
فصب كل وصايا الذين في وصية واحدة وهي المحبة التي جعلها ينبوعاً لكل حسنةٍ وفضيلة وجعل كل ما سواها من التكاليف الدينية وقايةً لها
بل ماذا عسى يكون شرف أرض وطئها مشترع تنقاد إلى أنجيله ممالك ضخمة وأممٌ عظيمة قد صارت بقية أمم الأرض تقفي على آثارها وتنهج منهاجها تعلم أمة تهوى الفلاح
ولا تجري وراءها متبعةً خطاها في العلم والصناعة والزراعة والتجارة. فهذه المملكة اليابانية لم تصعد من هاوية الجهل والخمول إلاّ باقتصاصها آثار الممالك التي انبسط عليها نور الإنجيل
أورشليم - هي مدينة يقصدها الإسرائيلي لأنها كانت قاعدة مملكتهم وفيها كان هيكلهم العظيم ويزورها المسيحي تبركا بما بها من الآثار المسيحية ويردها المسلم ليزور الجامع الأقصى فتلك الآثار الدينية التي تجرّ الناس إليها من قاصي الديار ودانيها قد صارت أشهر من أن تذكر وأعرف من أن توصف. فإن استغنى بلدٌ بذكر اسمه عن التعريف فأورشليم وبيت لحم لا يتقدمهما في ذلك بلد في المعمور. فليس في المشرقين أبعد منهما ذكراً ولا أشرف منهما أثراً فلا أجد حاجة إلى وصف تلك الآثار وإن كان تأثيرها في نفسي كتأثير الماء على الكبد الظمأى إذ لا إخال أحداً يتلو كتب العهدين ويمرّ بأسماء كثير من الأمكنة التي تردّد إليها السيد المسيح ورسلهُ وصنع فيها الآيات كبيت عنيا وقانا الجليل ما لم تلتهب بين جوانحه لواعج الشرق إلى زيارتها.(2/10)
ولما رأيت القبر المقدس الذي تمسح به المسيحيون والمهد الذي يتبركون بزيارته ثم رأيت ما رأيت من الأديار الكبيرة والمدارس المجانية والمضايف الواسعة النظيفة الحسنة الأثاث التي تكرم مثوى الزوّار وتستحسن وفادتهم فتقدم لهم مثل ما يقدم للغني السخي في بيته. فعندئذ تخيلت تلك الآثار المكرمة قد استحالت ينابيع ذهب يعيش عليها خلقٌ كثير. وتمثلت جبل الجلجلة وبستان الزيتون وادي تبر وقلت في نفسي لو جمع ما أنفق الزوار في طريق الأرض المقدسة من لدن ابتداء النصرانية إلى اليوم لربما وازن ما على جبل الجلجلة من التراب. فأورشليم هي معرض الكرم المسيحي الأوربي فكم للآتين والروم والبروتستانت هنالك من أيادٍ بيض على نصارى تلك المدينة وسائر الأرض المكرمة فثمة من المدارس والمياتم والمضايف ما يقضي بالفضل لأصحابها وينادي بلسان حاله هذه الثمرات الطيبة إنما هي ثمرات الإيمان.
ألا وان الأرض المقدسة كلها ألسنة تنطق بفضل الآباء الفرنسيسيين الذي تقدموا الجميع في هذه المبارّ فالمسيحيون هنالك سابحون في غمر مكارمهم متقلبون على بساط نعمهم فهم الذي يجمعون الحسنات الجمة من مسيحي أوربا وأميركا لينفقوها على المسيحيين من قطان
الأرض المقدسة وزوارها. سعيد // الخوري الشرنوني
ويلي ذلك كلام عن المسجد الأقصى ووصف ابن خلدون له سنذكره في العدد القادم.(2/11)
في حدائق العرب
الأحنف
هو أبو فخر الضحاك بن قيس التميمي الأحنف. وكان قد شهد مع علي بن أبي طالب وقعةً بصفين. فلما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه الأحنف يوماً فقال له معاوية: والله يا أحنف، ما أذكرُ يوم صفين إلاّ كانت حزازةٌ في قلبي إلى يوم القيامة.
فقال له الأحنف: والله يا معاوية، إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا. وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها. وإن تدن من الحرب فترا ندنُ منك شبراً. وإن تمشِ إلينا نهرول إليك.
ثم قام وخرج
وكانت أخت معاوية من وراء حجابٍ تسمع كلامهُ. فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعدُ. فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مئة ألف من بني تميم ولا يدرون لما غضب.
وأخبر النويري عنه قال: كان معاوية قد كتب إلى عماله أن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة. ثم أن معاوية قال للضحاك بن قيس الفيهري:
لما تجتمع الوفود إني متكلمٌ فإذا سكتُ، فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد ولد معاوية وتحض عليها. فلما جلس معاوية للناس، تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال الضحاك: يا أمير المؤمنين، أنه لابدّ للناس من والٍ بعدك فذلك أحقن للدماء، وأصلح للدهماء،(2/12)
وآمن للسبيل، وخيرٌ في العاقبة. والأيام عوجٌ كل يوم في شأن. ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه. وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأياً. فحوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفرغاً نلجأ إليه ونسكن إلى ظله.
وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك. ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه.
فقال معاوية: أجلس فأنت سيد الخطباء فأذعن من حضر من الوفود.
فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر. .
فقال الأحنف: نخافكم أن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا. وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذا الأمة رضىً، فلا تشاور فيه. وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فأنت صائرٌ إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا.
ومن أقوال الأحنف المأثورة:
رب غيظ تجرعتهُ مخافةَ ما أشدُّ منه
كثرة المزاح تذهب الهيبة
السؤدد كرم الأخلاق وحسن الفعل
الداء اللسان البذي والخلق الردي
السنة الأولى للزهور
في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون قرشاً صاغاً. ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.(2/13)
الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا
لقد عرف العالم أجمع تولستوي ومبادئه الفلسفية وقد قرأوا مصنفاته الكثيرة حتى طبق صيته الخافقين، فلم يبق محل إلا وانتشر فيه اسم هذا الفيلسوف العظيم ولا مجلة إلا وذكرت اسم هذا الحكيم بالإعجاب والتكريم. ولكن قليلون هم الذين يعرفون فيلسوف روسيا الثاني الكاهن العظيم كابون. ولذا أحببت أن أنقل لقراء العربية على صفحات الزهور ترجمة حياة هذا الكاهن العظيم وشيئاً من مبادئه السامية التي أدهشت العالم بأسره وخصوصاً الروس وقد عاش بينهم وتألم لآلامهم، الأمر الذي جعله مكرماً ومحبوباً من الفلاحين البؤساء الذين كانوا يعاملون معاملة قاسية تقشعر لهولها الأبدان ويندى منها جبين الإنسانية خجلاً، وأنني أنقل هذا عن إحدى المجلات الأميركية بقلم إحدى سيدات روسيا اللائي لهن القدح المعلى في فن الإنشاء واسمها بريبشكوفسكا.
قالت: لقد خفي اسم هذا الكاهن العظيم قائد فلاحي روسيا يوم ثار ثائرهم من جراء الظلم الذي أصابهم من أصحاب الأملاك. وإن ما يعرف من مبادئ هذا الأب الورع المحروم من الكنيسة لتصرفه تصرف مهيج سياسي لهو أقل من القليل. ذلك لانصراف أفكار الجمهور للمظاهر الخارجية والترهات الباطلة. فسداً لهذا النقص وحباً في نشر مبادئه السامية القاضية على الظلم وذويه، أحببت أن أنشر عنه ما يزيد العموم معرفة به:(2/14)
إن الأب كابون لم يكن ديموقرطياً ولا اشتراكياً فوضوياً ولا حراً متطرفاً بل كان للفلاحين كما كان تولستوي للإشراف. كلاهما تولستوي وكابون مؤمن بالقوة المبدعة، وكلاهما ينظر للعالم نظر الآسف المتحسر ويعد بذل النفس في سبيل فكر سامٍ شريف ومبدأ قويم منتهى ما يتطلبه البقاء الإنساني.
الأب كابون كتولستوي له اعتقاد ثابت في القوة الأدبية المودعة في الإنسان وفي قوة نفسه الخالدة.
الله والإنسان هما في نظر الفلاح الروسي تقريباً على التوازي وهذا هو السبب في عدم وجود شيء يصعب على الروسي العقلي القيام به. وهذا الاعتقاد يشمل عموم العقليين في البلاد الروسية ولكن معظم هذا الاعتقاد أو هذا العلم علم النفس يظهر باجلى وضوح في حياة بطلي روسيا في هذا العصر. وهاتان الطبيعتان تقصد بذلك تولستوي وكابون مع تشابههما تمام التشابه تظهران لتعمل كل واحدة ما يغاير الأخرى في ذات البيئة والظروف
كلتاهما تطلب راحة الشعب ورفاهيته الراضخ. ولكن بينما نرى الفيلسوف تولستوي يحض الناس على نبذ التباغض وأبطال الحروب والرجوع إلى الطبيعة فيحفظ كل حقه لذاته، نرى الأب كابون يحثهم على العمل والدأب، ويدعوهم باسم الله الأزل للحياة والعمل، ويأمرهم بطلب حقوقهم الموهوبة من القوة المبدعة ولو آل ذلك لامتشاق الحسام وخوض غمرات الحرب والصدام. أما النتيجة(2/15)
التي يرمي إليها هذان الفيلسوفان فواحدة، وما اختلافهما إلا في الطرق المؤدية إلى هذا النتيجة. فواحد يحلق في السماء ويتيه في التصورات الجميلة والأحلام الذهبية. والآخر ينزل إلى الأرض فيضع نفسه بجانب أخوانه التعساء ويبذل النفس والنفيس ليضع حداً لآلاتهم المبرحة ويجبر قلوبهم المنكسرة. وهو لا يصبر على هذا الضيم ولا يتوانى في إنقاذ إخوانه من الحيف المحدق بهم. ذلك لأنه يرى العار كل العار في أن ينظر إخوانه في البشرية يرزحون تحت نير العبودية، فيتألم لآلامهم فقط ولا يرمي إلى انتشالهم من وهدة سقوطهم. لذا أبت نفسه الشريفة إلا أن تستبيح ما حرمته الحكومة فتثير أفكار الفلاحين عليها ليطالبوا بحقوقهم المهضومة وقد كان يصرخ متألماً إلى السلاح! إلى السلاح! ليها الشعب التعس. حتى م ترضخ للذل؟ ألست الشعب صاحب النصرات القديمة والمجد الأثيل؟ فانزع عنك ثوب خمولك فإنه يحول بينك وبين الحقيقة الساطعة. فارتد ثوب الشجاعة لتحفظ مجداً طريفاً وتعيد عزا تالداً أودت به أيدي الوحوش الضارية وحوش الإنسانية.
أما تولستوي فكان ينادي بأعلى صوته: تألموا أيها التعساء فإن العالم مملوءٌ بالمفاسد، وإن ما يدعونه مدنية وارتقاء لهو الانحطاط بعينه فاصبروا يا من مزقت أفكارهم حجب اللانهاية فعرفت أموراً قصرت عن إدراكها أفكار أقرانهم. واحتملوا الآلام، فإنكم بهذا تنالون السعادة وارجعوا إلى أمكم الطبيعة فإنها أكبر مخلص لكم هذا هو وجه الاختلاف بين هذين الحكيمين وهو ينحصر في الطرق كما ذكرت آنفاً ولا يتناول الغاية(2/16)
إنه ليصعب على البعيدين عن روسيا الذين لا يعرفون من شؤونها غير ما يقرأون في المجلات والجرائد السياسية أن يتصوروا حالة الفلاح الروسي من حيث مذلته وانحطاطه وتألمه وصبره وقوته العظيمة. لذا أحب أن أظهر من أمرهم ما اختفى ومن أفكارهم ومبادئهم ما توصلت إليه.
إن حالة الفلاح الروسي من حيث ذله وتألمه عن علمها القاصي والداني مما تنشره الصحف لذا أصبح الكلام عليها من قبيل تحصيل الحاصل. أما اعتقاده ومبادئه فأراني مضطرة إلى ذكرها لأنها ما تزل مجهولة بسبب الضغط الشديد وتقييد الصحافة. يقول فلاحو روسيا بأن العدل الله يقضي على الكائنات كلها بالسعادة والسرور دون فارق بين غنيّ وفقير، ويبغي للجميع على السواء الوسائل الآيلة لتعزية قلوبهم. وإنه يحظر عليهم عمل الشر وظلم بعضهم البعض، فلا يغتصب أحدهم حق أخيه ولا يؤذيه في عمله بل يكون له عوناً فيدرأ عنه كل شر مفاجئ. وهذا الاعتقاد عام يشمل عموم الفلاحين في بلادنا وهو قديم ولكنه في هذه الأيام تجاوز حيز القول إلى حيز العمل فصاروا يؤيدونه بالفعل. وقد توسعوا به حتى قالوا أن إلهاً صالحاً براً حكيماً خلق الإنسان من العدم وخلق له الأرض ليعيش فيها آمناً. وما وجدت هذه السهول الواسعة والرياض الجميلة والإحراج والأنهار إلا ليتمتع بها كل فرد فيعمل في السهول على قدر طاقته فلا يعارضه في عمله معارض ولا يهضم حقه أحد فلهذا لا يرهبون الشغل، بل يصلون إناء الليل بأطراف النهار كادّين، مبتهجين بمرأى الطبيعة وعندهم رغبة شديدة في معرفة أحوالها وإظهار مكنوناتها.(2/17)
هذه هي مبادئهم ذكرتها باختصار على أمل أن أرى في بلادي كثيرين كالأب كابون يبذلون كل مرتخص وغال في سبيل إنهاض هذا الوطن المحبوب من وهاد المذلة والخمول إلى أوج السعادة والرقي، فنعيش آمنين وننشق نسمات الحرية اللطيفة والسلام
حمص
شكري عافل
نحن وهم
في التربية والمرأة
1 - هم يصحبون تربية العقل بتربية الجسم فتصح منهم الأجسام والعقول. ونحن نهمل تربية الجسم فيضعف العقل فلا تصح منا لا العقول ولا الأجسام.
2 - هم أحسنوا تربية المرأة فحسنت تربية الرجال. ونحن أهملنا تربية الأم فساءت تربية الأطفال.
3 - هم يخيفون أولادهم بذكر الحقائق. ونحن نخيف أولادنا بالأوهام، فيشب رجالهم لا يخشون الحقائق التي ألفوها. ويشب رجالنا تزعجهم الخيالات.
4 - المرأة عندهم شريكة الرجل يحتاج إليها في كل لحظة. والمرأة عندنا رفيقتهُ لا يطلبها إلا وقت الشهوة.
5 - المرأة عندهم محترمة في الطريق، وعندنا عرضة فيه لكل سبّ وتضييق.(2/18)
6 - اجتهدوا في اقتباس الحسن من مدنيتنا. واجتهدنا في تقليد القبيح من مدنيتهم.
في الملاهي والمقابر
7 - ملاهيهم لتثقيف العقول. وملاهينا لإرضاء الشهوات.
8 - قابرهم جنات الدنيا ومقابرنا جحيمها.
في العلم والعلماء
9 - طالب العلم وطالب المال عندهم لا يشبعان. وعندنا لا يكادان يبلغان طرفاً منهما إذ هما يكتفيان.
10 - العالم عندهم بعمل بعلمه. وعندنا يتحدث به.
11 - هم يرون قوى الطبيعة فيفكرون في استخدامها، ونحن نراها فنعجب بها أو نهرب منها.
12 - علماؤنا إذا استفتيتهم رجعوا إلى ذاكرتهم في إجابتك. وعلماؤهم إذا سألتهم حكموا المعقول في إفادتك.
في الاقتصاد
13 - أكثرنا ينفق فوق ما يكتسب، وأكثرهم يكتسب فوق ما ينفق.
14 - يأتون بلادنا ليربحوا فيها. ونقصد بلادهم لننفق فيها.
15 - هم يجدّون وراء الثروة. ونحن نرى الثروة بجانبنا ولا نكلف أنفسنا مد اليد إليها.(2/19)
16 - حبس أغنياؤنا الأموال فملكتهم. وأطلق أغنياؤهم الأموال فملكوا بها.
17 - ترفع كبيرنا عن الأعمال التجارية والمالية، فملكه صغيرهم بها.
18 - لا نملك في بلادهم، ويملكون في بلادنا. فيستخدموننا في الأرض. ونشتري منهم حاصلاتنا.
19 - فقيرهم إذا احتاج اشتغل، وفقيرنا إذا احتاج سأل.
في فلسفة الحياة
20 - عندهم حب الأمة مقدم على حب النفس. وعندنا حب النفس مقدم على حب الأمة.
21 - الاتحاد عندهم رأس مال الأعمال العظيمة وسر نجاحها، وعندنا العمل العظيم يوجب التفريق فيه حب الاستئثار به فلا يتم أبداً.
22 - تتكل الأمة فيهم على أفرادها، ويتكل أفرادنا على الأمة.
23 - إذا اعترض العامل منهم عائق أزاله، وهذا عمل الرجال. وإذا اعترض العامل منا عائق أن واشتكى، وهذا عمل الأطفال.
24 - الرجل منا يرجو من المستقبل تحسين حاله. والرجل منهم يعمل على تحسينه بنفسه.
25 - رجلهم يبدأ بنفسه قبل الناس، ورجلنا يبدأ بالناس قبل نفسه.
26 - حكوماتهم تخدم الأمم. وأممنا تخدم الحكومات.
27 - هم ينظرون إلى مستقبلهم. ونحن ننظر إلى ماضينا. لهذا هم تقدموا ونحن تأخرنا.
صالح جودت(2/20)
في رياض الشعر
محمود باشا سامي البارودي
ولد سنة 1840 وتوفي سنة 1904
هو محمود سامي بن حسني بك حسني وكان أبوه من أمراء المدفعية في الجيش المصري. وجده عبد الله بك الجركسي من الكشاف في أوائل عهد محمد علي. والكاشف يشبه مأمور المركز اليوم. وقد أضيف إلى اسم عائلتهم لفظ البارودي نسبه إلى إتياي البارود التي كانت في التزام أحد أجداده - ولد صاحب الرسم في السراي المعروفة باسمه والتي فيها اليوم إدارة الجريدة وتلقى العلم في المدارس الحربية التي أنشأها جد العائلة الخديوية ثم سافر إلى الأستانة وانكب فيها على الدرس ووظف في نظارة الخارجية. ولما سافر الخديوي إسماعيل باشا(2/21)
إلى الأستانة سنة 1863 دخل البارودي في بطانته وعاد معه إلى مصر ثم أرسل مع بعض الضباط إلى باريس ولندرا لمتابعة الأعمال العسكرية وعند رجوعه رقي إلى رتبة قائم مقام ثم إلى رتبة أمير آلاي. وقد سافر مع الجيش المصري الذي أوفدته مصر لمساعدة الدولة العثمانية على إخماد الثورة في كريد سنة 1868 واشترك أيضاً في حرب الدولة مع الروس سنة 1877 وقد تقلب في مناصب عديدة عسكرية وإدارية. وبعد إقالة الخديوي إسماعيل باشا وتولي توفيق باشا عُين البارودي ناظراً للأوقاف. وكان في كل هذه المدة يحبر القصائد الشائقة ويجمع الكتب النفيسة فكان من أكبر أركان النهضة الأدبية الحديثة ولا يزال الشعراء حتى يومنا يعترفون له بالأسبقية. وقد كانت له اليد الطولى في إنشاء الكتبخانة الخديوية. ولما دخل الإنكليز مصر بعد ثورة عرابي كان البارودي من جملة الذين حكم عليهم بالنفي إلى سيلان مع زعيم الثورة. وإلى ذلك العهد ترجع المراسلات السامية التي ننشرها وقد عاد إلى مصر من المنفى قبل وفاته بقليل وتوفي في 12 ديسمبر ك 1 سنة 1904 هذا ملخص حياته. ولما كان له تأثير كبير في النهضة الأدبية سنعود فيما بعد إلى درس آثاره الكتابية.
المراسلات السامية
بدأنا في الجزء الأخير من السنة الفائتة بنشر المراسلة الشعرية التي دارت بين الأمير شكيب الأرسلان والمرحون محمود باشا سامي البارودي، يوم كان هذا الأخير منفياً في
جزيرة سيلان. وقد نشرنا رسم الأمير الأرسلاني، وهاذ نحن ناشرون الآن رسم البارودي مع بقية المراسلات التي دارت بين الشاعرين
ثم كتب محمود سامي باشا إلى لأمير شكيب بهذه القصيدة
أدّي الرسالةَ يا عصفورة الوادي ... وباكري الحي من قولي بإنشادي
ترقبي سنة الحرّاسِ وانطلقي ... بين الخمائل في لبنان ورتادي(2/22)
لعلّ نغمةَ ودٍّ منك شائقة ... تهزُّ عطف شكيب كوكب النادي
هو الهمامُ الذي أحي بمنطقِهِ ... لسانَ قوم أجادوا النطق بالضادِ
تلقي به أحنفَ الأخلاق منتدياً ... وفي الكريهة عمراً وابن شدَّادِ
أخي وداداً وحسبي أنه نسبٌ ... خالي الصحيفة من غلٍ وأحقادِ
أفادني أدباً من منطقٍ شهدت ... بفضله الناس من قارٍ ومن بادِ
عذب الشريعة لو أن السحاب همى ... بمثله لم يدع في الأرض من صادِ
سرت بقلبي منهُ نشوةٌ ملكت ... بحسنها مسمعي عن نعمة الشادي
يا ابنَ الكرام عدتني منك عادية ... كادت تسدُّ على عيني باسدادِ
فاعذر أخاك فلولا ما به لجرى ... في حلبة الشكر جري السابق العادي
وهاكها تحفةً مني وإن صغرت ... فالدرّ وهو صغيرٌ حلي أجيادِ
فأجابه الأمير شكيب بالقصيدة التالية:
هل تعلم العيس إذ يحدو بها الحادي ... أنَّ السرى فوق أضلاع وأكبادِ
وهل ظعائن ذاك الركب عالمةٌ ... أنَّ النوى بين أرواحٍ وأجسادِ
تحملوا ففؤادي منذُ بينهم ... في إثرهم نضوُ تأويبٍ وإسآدِ
يرتادُ منزلهم في كل قاصية ... وحجبهُ لو درى أحرى بمرتادِ
بين الجوانح ما لو أنتَ جايبهُ ... أغناك عن لفّ أغوار بانجادِ
وفي الفؤاد كشطر الكفّ بادية ... في جنبها تيهُ موسى ليس بالبادي
كم بتُّ أنشد أحبابي وأُنشدُهم ... في الهند يا شدَّ ما أبعدت إنشاديِ
ولو أناجي ضميري كنت مُسِمعهم ... قولي كأنهمُ في الغيب إشهاديِ
من كان دون مرامي العيس منزعهُ ... فلي هوى دون أمواج وأزبادِ(2/23)
دون الخضارم أن ضل الحبيب سرى ... فإن وجدي نعم القائف الهادي
هوى بأروع لو أن الزمان درى ... لما أحلَّ سواه الصدرَ بالنادي
سامي الأرومة في أعراقهِ نسبٌ ... في المجد لا يشتكي من ضعف إسنادِ
أرقُّ من شمأل الوادي شمائله ... وعند شدّ الليالي صخرة الوادي
من معشرٍ لو يقيس الناس شأوهم ... إلى العلى افتقروا فيه لإرصادِ
يا من لنا ردُّه من فائتٍ عوضٌ ... يمحى به وزرُ أحقاب وآمادِ
أن يحجبوك فما ضرَّ النجوم دجى ... ولا زرى السيف يوماً طيّ أغمادِ
لا بأس أن طال نجز السعد موعدهَ ... فأعذب الماء شرباً في فم الصادي
عسى لياليك قد سلّت ضغينتها ... وقد صفت كأسها من سؤر أحقادِ
واستأنف الدهر سِلماً لا يكدرها ... فالدهر قد يرتدي حالات أضدادِ
لو كان يُسعد قوم قدرَ فضلهم ... ما لاقَ مثلك أن يحظى بإسعادِ
النسيم العاشق
قصيدة تلاها في جمعية شمس البر في بيروت في الشهر الفائت
إلياس أفندي فياض وهو الشاعر المعروف لدى أدباء القطرين
هذه قصة جرتلنسيم الرو ... ض فيما مضى من الأزمانِ
وردت في كتاب سحرٍ قديم ... خطه فكر ساحرٍ شيطانِ
لم يكن قادراً على فهم معنا ... هُ سوى شاعر لعوب المعاني
وُجد الشعر حينما وُجد السخـ ... ـر شقيقين ليس يفترقانِ(2/24)
قيل أن النسيم قد كان يوماً ... يتمشى على ربى لبنان
كتمشي المصطاف لا شغل يدعو ... سوى حسن منظر الوديانِ
هائماً لا يقرّ منهُ قرارٌ ... من مكان يميل نحو مكانِ
تارة يلثم الزهور وطوراً ... يرتمي في معاطف الأغصانِ
إذ أتى منزلاً عظيماً لشيخٍ ... من شيوخ القرى رفيع الشانِ
فانبرى داخلاً إليه من الكوَّ ... ةِ وثباً من غير ما استئذانِ
ثم بنتٌ للشيخ تغزل صوفاً ... وهي في مأمن من الحدثانِ
تعزل الصوف كفها ولها جف ... نان بالسحر والهوى غزلانِ
عبث الزائر الجسور بشعر ... ناعم فوق رأسها الفتانِ
فتدلت أطرافهُ الشقر من ... فوق عيون سود وخد قاني
ورأى صاحبي النسيم جمالاً ... ما رآه من قبل في إنسانِ
فغدا شاخصاً إليها مديماً ... نحوها نظرة الفتى الحيرانِ
ذلك الأهوج الخفيف المرائي ... القليل الثبات في كل شانِ
فاضح العاشقين ناشر أسرار ال ... هوى بين كل قاصٍ ودان
أصبح الآن بابنة الشيخ صباًّ ... مستهاماً بحبها متفاني
عاشق لا يُرى ويكفيه منها ... إن يراها في كل حال وآن
حيث كانت يكون في البيت أو في ال ... روض بين النسرين والريحانِ
كل شي منها يراه فما تخ ... جل منهُ وليس بالخجلانِ
همهُ كل همه أن يراها ... في سرور وغبطة وأمان
جاعلاً نفسه كما تشتهي ... برداً فحراً على اختلاف الزمانِ(2/25)
فإذا الليل كان ليل شتاء ... يخز البرد فيه وخز السنانِ
صار حالاً إلى هواءٍ لطيف ... فاترٍ وفق نسبة الميزانِ
وإذا اليوم كان يوماً شديداً ... يلذع الحرّ فيه كالنيرانِ
جاءها من ذرى الجبال بنفح ... منعش الروح منعش الجثمانِ
وإذا استشعر انقباضاً بها ... يوماً مضى مسرعاً إلى البستانِ
وأتاها من الطيور الشوادي ... بارق الأنغام والألحانِ
وإذا الفصل كان فصل خريف ... وغدا الروض مثل وجه العاني
وخلا خدرها من الزهر من ... ورد ومن نرجس ومن أقحوانِ
سار خلف الفراش في الحقل ... يجنيهِ كما تجتنى زهور الجنانِ
وأتاها منهُ بباقات حسن ... مدهشات من سائر الألوانِ
من عقيق ولازورد وياقو ... تٍ وتبر وأبيض كالجمانِ
تتجارى في خدرها طائرات ... لامعات الجناح كالعقيانِ
وإذا كان في يديها كتاب ... درسُهُ محوج إلى الإمعانِ
وانتهت من تلاوة الوجه منهُ ... ثم همت بدرس وجه ثانِ
فتراه بنفخةٍ قلبَ الوجه فلي ... ست تحتاج مد البنانِ
ولكم وقفة له ليس تنسى ... عند ذاك السرير ذي الأركانِ
وقد استحوذ النعاس عليها ... وتولى الكرى على الأجفانِ
يجتلي حسن معصمين أضاءا ... فوق ملموم صدرها الملآنِ
ولكم زحزح الستار وأدنى ... ثغره فوق ثغرها الظمآنِ
فرواها كما ارتوى دون أن ... تخجل منه وليس بالخجلانِ(2/26)
هكذا عاش في هواها زماناً ... ناعم البال خالي الأشجانِ
حاسباً أن للصفاء دواماً ... هل دوام الصفاء بالإمكانِ
ودّعِ الحبَّ يا نسيم فقد جا ... ءك خصم أقوى إلى الميدانِ
جاء من يخطب الفتاة فتى ... في عصره كان أبسط الفتيانِ
ما له ميزة على من سواه ... غير مال يفيض كالغدرانِ
غرها كثرة الحليّ فمالت ... وقديماً تهوى الحليَّ الغواني
رضيته بعلاً فيا خيبة الآما ... ل من ذلك المحب العاني
آه مهما يكُ النسيم لطيفاً ... طيب النشر عاطر الأردانِ
كيف يسطيع ضد مال وجاه ... وحلي بهية اللمعانِ
لهف قلبي عليه بعد مزيد الع ... زّ يمسي في ذلة وهوانِِ
واقفاً خلف كوة البيت يشكو ... بانين كأنه الثكلانِ
وله كالحمام طوراً هديلٌ ... وفحيح آناً كما الثعبانِ
ولكم حدثته بالشر نفسٌ ... ما لها بالشرور قبل يدانِ
فابتغى أن يصير عاصف ريح ... هادماً بيتها على السكانِ
ولدن وافت الكنيسة بالموكب ... تبغي إتمام عقد القرانِ
عيل صبراً فثار ثورة ليثٍ ... وأثار الغبارَ ملء العيانِ
وانبرى للشموع يطفئها غيظاً ... ولم يحترم جلال المكانِ
زاد حقداً فرام تجفيف ما في ... الكأسِ حتى تبقى بلا قربانِ
ومدير الناقوس مما اعتراه ... أسمع الناس دقة الأحزانِ
كل هذا لم يجدِ نفعاً وتمَّ ... العرسُ رغماً عن ذلك الهيجانِ(2/27)
فمضى هائماً على وجهه والصد ... ر يغلي بالحقد كالبركانِ
ساح في الأرض مستغيثاً ملو ... ك الريح من كل صادق معوانِ
بين هيف وزعزع ودروجٍ ... وسموم وعاصف مرنانِ
ثم وافى من بعد عامين في ... جيش خضمّ يموج كالطوفانِ
يزرع الرعب في البلاد ويكسو ... هوله الشيب هامة الشبانِ
خارباً في طريقه كل ما ... مرَّ عليه من عامر البلدانِ
وصل البيت وهو يحسب أن ... يذريه في الهواء مثل الدخانِ
إذ رأى في جوانب الدار مهداً ... فيه طفلٌ يبكي بغير بيانِ
ولدى الطفل أمه وهي من ... خوفٍ عليه شديدة الخفقانِ
فتلاشت قواه وانتصر الحب ... عليه والحب ذو سلطانِ
فجثا قرب طفلها آخذاً عنها ... يهزُّ السرير كالغلمانِ
بيروت
إلياس فياض
لاعب القمار ومدمن الخمر
لابد لكل حي على وجه المعمورة من فطرة غريزية وميل طبيعي يسوقه إلى تنفيذ مآربه وقضاء حويجاته. وما الإنسان إلا عبد خاضع وخادم مطيع لكل ما يجول بفكره من كبيرة وصغيرة. فلاعب القمار ومدمن الخمر ومستعمل التبغ ومتعاطي المنبهات والسارق والزاني كل منهم يكتسب هذه العادات الذميمة والأفعال الرذيلة التي تؤول به إلى مهاوي التهلكة من مصدرين. أولهما وراثي عن آبائه وأجداده.(2/28)
وثانيهما تقليدي عن أصحابه ورفقائه.
فالوراثي هو ما يتلقاه من الوالدين اللذين اعتادا النزوع عن الفضيلة وعمدا إلى ارتكاب كل ما تأباه النفوس الطاهرة، فلا تعجب إذا رأيت الطفل يشب على أخلاق والده. فإذا كان الوالد سارقاً لقن ولده منذ نعومة أظفاره قواعد السرقة وشروطها. ويا له من درس مميت حياة الطفل الأدبية: وإن كان مدمن خمر علمهُ - على غير علم منه - طريق الحانة وارتياد محلات السكر وأوحى إليه فلسفة احتساء الكؤوس. وقد يطبق له العلم بالعمل فيمد له يده تحمل سماً زعافاً ويتناول الولد الكأس بإخلاص من يد أبيه ويتجرعها واثقاً بالمحبة الأبوية التي تريد الخير لأبنائها. ولا تسل يا صاح عما يصيب هذا الابن المسكين في مستقبل الأيام من الشقاء والحياة التعيسة التي أسست أركانها اليد الأبوية الأثيمة بل لا تسل عن تقهقر بلادٍ يربى أطفالها على هذا النمط.
أعرف سكيراً هشمه الدهر بنابه وأناخ عليه بكلكله حتى أنفق كل ما لديه من مال وعقار فيما هو عليه من العادات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وأصبح يلتحف السماء ويفترش الغبراء. وإذا بزغت شمس الصباح جال على بيوت أهل المدينة قارعاً باباً بعد آخر متوسلاً. فإذا أتاح الله له شيئاً من القوت وبعضاً من الدراهم رجع إلى الخامورجي وأعطاه ما لديه من النقود في طلب كأس خمر يروي بها ظمأه الذي لا يروى. ثم يرجع إلى كوخه خارج المدينة فيجد زوجته البائسة التي كثيراً ما يغمى عليها من كثرة البكاء والنحيب على ما حل بها وبه من البؤس والشقاء.(2/29)
والمصدر التقليدي هو ما تكتسبه هذه الفئة من المعاشرات الرديئة التي تجمع أفراداً لا آداب لهم ولا أخلاق غير الافتخار بمباراة أمثالهم في الرذائل وعمل ما تقشعر منه الأبدان. وهذه الفئة مؤلفة من الرعاع والأوباش وبينهم أولاد المثريين الذين ورثوا عن آبائهم مالاً طائلاً. أضاعوه - لنقص في تربيتهم وآدابهم - في أماكن اللهو والطرب. على أنه كثيراً
ما يكون المقلد لرفيقه أو المقتبس عن عشيره من عائلة شريفة المبدأ ومن أبوين شريفين يربيان أولادهما على الفضيلة والآداب القويمة التي لا تزعزعها يد الدهر.
وإذا أحصيت الآفات القتالة في المعترك الحيوي كان أولها لعب الميسر الذي يهدم أركان الفضيلة. ويجلب العار والمذلة ويبدل الأفراح أتراحاً ويمزج كأس الحياة بمرارة حنظلية فينغص عيش مرتاده ويستفرغ قواه المادية والأدبية. حينذاك يثوب إلى رشده ويندم على ما فرط منه حيث لا ينفع الندم هذا أن لم تدفعه شدة الضيق وأنفة النفس إلى الانتحار تخلصاً من هذا الشقاء المقيم.
ولعمري إذا كان المقامر حديثاً في مزاولة هذه المهنة وقضت عليه بد الزمان ونكبة الدهر بخسارة عاجلة وظهر طالعه المنحوس وهو يرى مواله تتسرب من جيبه إلي جيب سواه لا يكاد ينتهي من لعبه إلا وتتوالى عليه جيوش الذهول والأوهام فيضيع لبه ويفقد رشده ولا تمضي بضع دقائق إلا وهو مساق إلى حيث لا يدري وهو تارة يضحك وطوراً يبكي. وكثيراً ما تقوده هذه الحالة إلى السرايا الصفراء مأواه(2/30)
حيث يلتقي برفقائه ليقضي معهم ما بقي له من الحياة التعيسة. فهذه نتيجة المقامرة وهذا هو الجنون بمعنى الكلمة.
وأما إذا ربح المقامر بعد توالي خسارته فقلما يحترس على ماله. فتسول له نفسه - والنفس أمارة بالسوء - بالتقدم خطوة ثانية إلى الأمام في الملذات والموبقات لصرف دريهماته المكتسبة عن غير طريق العمل والنشاط. فالمقامر والحالة هذه سواء كسب أو خسر فهو كمن يبحث عن حتفه بظلفه.
إن القمار أبيت اللعن مضيعة ... للمال والصيت وإلا رزاق والزمن
فإن رأيت فتى يلهو بمقمرةٍ ... هييء له أدوات الغسل والكفن
فو الله أنه يسوءنا كثيراً نحن معشر المصريين انتشار مثل هذه الآفات بمصرنا السعيدة وشقيقها السودان المصري. حيث إنها من دواعي التأخير وعثرة في سبيل الرقي والتقدم العصري.
عطبرة (السودان)
عبد المطلب لبيب
بين القصور والأكواخ
لمن القصور هنا؟ شامخة البنيان. تناطح الجوزاء في سماء الخيلاء؟ من الذي شيدها وبناها، وبزخرف الصنائغ حلاها وجلاها، فما الخورنق والسدير والإيوان، عند بداعة صنعها والاتقان.
ولمن هاتيك الأكواخ هناك؟ خاملة الشأن، تعانق العساليج في ربي الأكام وظليل الوديان! كأنَّ من أنشاها وكونّها، بزهور الفردوس(2/31)
وشاها وزينها، فما وشّاها وزينها: فما بهرجة القصور وزينتها، إزاء بساطة هيئتها.
هو روح في عالم الخيال يطوف! ويستقصي كنه ما جريات القرون فإذا ما داني المدينة العجباء، انشقت جباهُ حصونها والأسوار، عن مشهد المملكة الدنيا، بل دار النقمة والويلات!.
وما صوتٌ، إلا وانفتحت الأبواب، فلا حرَّاس ولا حجَّأب. وطرفةُ عينٍ وانزاح كل حجاب.
فملوك تراؤا فوق عروش الملكية، قيدتهم قوانين البلاد، وحكام على منصات الأحكام، أعيتهم قضايا العباد.
ورعايا تناوبتهم الضربات، بها الأغنياء والفقراء في حرب عوان نار وطيسها تشوي الحساد، مظالم ومغارم، شيدوها فوق أنقاض الأماني ومهاوي الآمال، وتقاليد وعادات، شوهت وجه الهيئة الاجتماعية وحياة الكل شؤون وشجون، تقسمتها ذكرى الماضي وهمّ الحاضر وأمل الآتي.
أما حياة البؤساء فمذلةٌ وهوان!
وهنا، هنا الإنسان عدو أخيه الإنسان!
فكأن صراخ التذمر والشكوى يصم سماع الأجيال
وانسدلت الأستار! فما البكاء، وما صرير الأسنان.
أو ترى السعادة اسماً بلا مسمى، أم أثراً بعد عين؟ بل هي سر الحياة. وأين السر يكون؟ في ذلك المنبسط الهادي، مهد البساطة والأمان، في تلك الأكواخ المنسية، مبعث الراحة ومهبط الحرية، حيث(2/32)
لا شقاء ولا ضوضاء، والطبيعة في هدوّ وسكون
وهناك عندما الفجر يلوح. على النغمات الأطيار ونسمات الأسحار، يرتاد فضاء اللاَّنهاية
صوت رنان، تردّد صداه الأزمان:
سلاماً يا ابنة الطبيعة الساذجة، يا ربيية الفضيلة الطهري، البرية من عيوب المدنية. .
وتبرز فتاة الكوخ، ومظهرها رسول الشفقة وعامل النشاط وملاك السلام، وتحيي الأكوان!
فتحنُّ إليها الإلهة وتباركها السماوات!
وهناك يتجلى شبح الإنسانية! فيقيم الصلاة، ويقدم القربان بين تصاعد بخور الذكرى. وحنان الألحان السماوية، حتى إذا ما حل الروح، بارك الأم وابنتها، وتوارى. وفي ثغره ابتسامة الأبدية. . .
انطاكية
سمعان بطرس اللاذقاني
تمدن المرأة العصرية
دارت خلال السنة الماضية على صفحات الزهور مناقشة في المرأة العصرية وتمدنها بين الآنستين هدى كيورك وأدما كيرلس، نددت الكاتبة الأولى بالمرأة لأنها أخذت بقشور التمدن دون اللباب وفندت الثانية أقوالها مبينة أن الذنب - أن كان هناك ذنب - على الرجل لا على المرأة. وانقسم القراء إلى قريقين فريق يؤيد هذه، وفريق ينتصر لتلك. وكتب أحد الأدباء بإمضاء حسون محاولاً أن ينصف بين الكاتبتين. ولكن الآنسة أدما رأت في مقاله ما يشفُّ عن التجيز فبعثت إلينا بالرد الآتي:(2/33)
طال الآخذ والرد في هذا الموضوع وما كنت لأعود إليه اليوم لولا تعرض حسون للوقوف موقف الحكم فكان صارماً شديدأً وإني والكثيرات من رفيقاتي لمندهشات من فتح صاحب الزهور صدر مجلته لمثل هذا الحكم الجائر، وهو الكاتب الذي طالما ترنمنا بكتاباته الشائقة في الدفاع عن حقوق المرأة المهضومة. . وقبل أن أجول الجولة الأخيرة في هذا الموضوع أرجو من الأدباء أن لا يحملوا كلامي على محمل الامتعاض من انتصار الغير لمناظرتي. كلاّ وإيم الحق، بل أن ذلك ليطربني وأرى فيه دليلاً أدمغ به خصمي إذ هو يعترف أن في صفوفنا نحن النساء من يجاهر بالحق ولو كان علينا. . وبعد هذه المقدمة أقول لحضرة الخصم الجديد الذي يحاول الظهور بمظهر الحكم المنصف:
يا أيها الرجل المعلم غيرهُ ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ
وقبل أن تنظر إلى القذى في عين أختك انزع الجسر من عينك. ثم أصلح تربية الرجال لأن الرجل بيده كل شيء في شرقنا، وليست المرأة - إن صالحة وإن صالحة - إلا صنعة يديه أدبياً. فهي إذا كانت الآن كما تزعمون فلانكم أنتم أردتموها كذلك يا معشر الرجال. وأنا قد كتبت ما كتبت واثقة بالإصابة لأن ما قلته من البديهات التي لا تحتاج إلى برهان، وقوة الحقيقة أوضح من نور الشمس. ولكن أكثر الأذهان في هذا العصر لا تكترث لأقوال النساء. على أنه لابدَّ من أن يأتي عصرٌ ينظرون فيه لا إلى من قال بل إلى ما قال. فيظهر الخفي على أهل هذا الزمان بأحسن جلاء. ويرى هذا القلم الذي يعدُّونه قصبة مرضوضةً(2/34)
سيفاً ذا حدين فيثبت الحق ويزهق الباطل أن الباطل كان زهوقاً.
أنا لم أقل بعصمة النساء ولا بعصمة واحدة من نساء العصر، ولكني اعتقد اعتقاداً خالياً من كل ريب أن المخطئين أكثر من المخطئات، والواقع أصدق شاهد. تعود الرجل أن ينظر
إلى المرأة نظر القوي إلى الضعيف ولكل امرئ من دهره ما تعود. وعليه فهو يحكم بلا خشية كما يشاء هواه لأن أنصاره كثيرون، بخلاف المرأة الضعيفة التي تنزل إلى ساحة المناظرة الأدبية واحدةً تجاه جيشٍ عظيم من الرجال وأهل المنهج القديم من النساء. ولكن لابدَّ من أن تنمو البذرة التي تلقيها وتثمر في أوانها.
والإصلاح في أول أمره لا يكون إلاّ من أفراد قليلة ولكنه من طبيعته ينمو ويقوى إلى أن يبلغ الكمال.
هذا ويحق لي أن أردّ حكم حسون أفندي واستأنف القضية إلى محكمة ترأسها أحدى السيدات لأنه ليس من العدل أن يكون الرجل في موضوعنا خصماً وحكماً في آن واحد. فضلاً عن أني وحضرة مناظرتي الكريمة لم نحكم بيننا حسوناً. . ولا غراباً. لأن نعيق هذا وتغريد ذاك عندنا سيّان والسلام
بيروت
أدما كيرلس
أحسن مقالة وأحسن قصيدة
سألنا القراء أن يكتبوا لنا عن أحسن مقالة وأحسن قصيدة استحسنوهما في مجموعة السنة الماضية. فجاءتنا أجوبة كثيرة والأراء فيها مختلفة. وسننشر النتيجة في العدد القادم ليتسنى للبعيدين أبداء رأيهم.(2/35)
في جنائن الغرب
نار السماء
في الجوّ سحابة مسودة الأطراف، تبهت تارة، وتارة تتقد وهي عابسة للكون كأنها الصيف المحرق. إنها سابحة في الفضاء فتحلو مشاهدتها لرائيها الذي يخال في الوقت نفسه أن ريح الليل الهابة تحمل ضوضاء مدينة بأسرها قد أسكرتها حرارة التقبيل وكثرة الملذات.
أمن السماء اندفعت هذه السحابة أم من البحر صعدت أو لُفظت من الجبال أو هي مركبة الجحيم النارية حاملة شياطين إلى كوكب من الكواكب القاحلة؟
قماء هي الآن ولكن يا للذعر إذ كيف يندفع بين حين وآخر من جوفها غير المدرك لهيب ساطع يتلوى كالثعبان
البحر ثائر وأمواجه مزبدة وهي أمواج عالية لا يدرك البصر طولها والأسماك تسبح في هذه المياه العميقة فتبدو تارة على سطحها كقطع من الفضة وتارة تتوارى في اللجة. وكأن الأفق البعيد ملامس لهذا البحر فتتمازج زرقة السماء بزرقة الماء
رأت السحابة النارية ذلك فثبتت وسألت:
أَأُجفف هذه المياه؟ فأجابها صوت يقول: كلاّ! فاندفعت بقوة زفرة الرب ناشرة الظلمة في الأرجاء
هوذا خليج على ضفتيهِ آكام خضراء قد ضربت عليها خيام(2/36)
يصدر عنها أغانٍ شجية ينقلها الهواء إلى السماء. وها هم أناس رُحل يصيدون الأسماك والأطيار، وهم عائشون أحراراً موطنهم العالم كله إذا أرادوا ذلك وفراشهم الأرض وغطاؤهم السماء. إنهم قبيلة تلئهة حياتها في الشمس والهواء، وها هم أفرادها بين أطفال وشيوخ ونساء وفتيان وفتيات قد كونوا شبه دائرة وأخذوا يرقصون حول نار مشبوبة يتصاعد لهيبها حيناً أفقياً وحيناً تعبث به الرياح. إنهم مجهولون وقد أسفرت النساء منهم عن أذرع كالأبنوس وصدور كالليل فلاحت النهود السوداء.
تعروا رجالا ونساء فألقوا بأنفسهم للاستحمام معاً الماء فامتزجت أصوات البشر الصادرة من صدورهم بهدير الأمواج. ورددت الريح الهابة صدى صنوج وغناء فتوقفت السحابة النارية في الفضاء فصاح بها صوتُ خفي: إلى الأمام. .
مصر كبساط من سندس زاه منعكسة عليه شمس كالذهب الأصفر وكل ما فيها وديان. يغازلها في الشمال بحر بارد وفي الجنوب رمل محرق وهي ضاحكة بينهما ضحك السعادة والاطمئنان.
هناك ثلاثة شواهق مثلثة الزوايا أقامها الإنسان وهي تدهش البصر، وقد مزقت رؤوسها الجو، وتجمعت حول قواعدها الرمال وإلى جانبها إله من الحجر الوردي اللون قد آل على نفسه حراستها لئلا تهب ريح سموم كاللهب فتضطرها إلى أحناء الرؤوس. وهناك مسلات منصوبة ونيل هادئ منساب تحركه نسمات تدفع الزوارق نحو مدينة تلامس منازلها الماء(2/37)
سلطانة الكواكب متهادية نحو الغرب، خالعة على المدينة ثوباً من الورد، وقد داعب النسيم الماء العذي فطرقت مسامع مصر تنفسات عشيقها النيل الذي جعل يرنو بعينه الدامية إليها وهي منارة الأمصار. هوذا سلطان منير قد طلع يتهادى في فضاء فسيح صافٍ لا تشوبه سحابة وأخذ يتبع آثار مصدر نوره كما يتبع العشيق خطوات معشوقته مستعداً منها سعادة تدوم ما دام لم يكن هناك احتكاك.
سألت السحابة قائلة: أين أقف؟ فأجابها صوت اهتزت له الأرض: ابحثي.
الأرض كجمرة تتأجج ولا تشاهد العين سوى رمال يذرها هواء ملتهب وهي رمال تبدو حيناً شامخة كالجبال وتظهر حيناً منبسطة كالسهول فنحن أذن في الصحراء التي تجتازها قوافل الجمال ولا يعرف منعزلاتها الندية سوى الله. وهي صحراء كبحر يتصاعد الدخان منه وزبد أمواجه تراب من النار. فسألت السحابة أأحول هذه الأتون المترامي الأطراف إلى بحيرة تخترقها الأفلاك؟
فأجابها صوت من السماء:
إلى الأمام! إلى الأمام!
هذه بابل ذات القلاع المتهدمة، بل هذه هي المدينة العظيمة التي انبثقت منها مفاخر الفتوحات ولكنها خرب وانهارت فارتسمت أظلال الأطلال ذات المنظر المؤثر على أربعة جبال تحيط بها أحاطة السوار. بل هذه هي الدائرة التي أقيمت فيها سلم يرقى بها إلى السماء. ولكن السلم(2/38)
حطمت فأصبح لا يسمع في تلك الأطلال سوى فحيح الأفاعي وزئير ملوك الغابات، ولا يرى حولها غير النخيل المحلقة في جوانبه العقبان.
فسألت السحابة: أأجهز على هذه البقايا؟. . فأجابها الصوت السماوي: إلى الأمام! إلى الأمام!.
فاندلع منها لسان ناري كان لاندلاعه دويُّ كقصف الرعود وقالت: إلى أين المساق؟.
هاهما مدينتان تناطح قصورهما الجو ويتخلل طرقها وساحاتها الحدائق فتعبث النسمات بأزهارها ورياحينها فيمتزج شذاها العطر بزفرات دنسة صادرة عن أجسام وطئ ذووها الفضيلة بقدم الرذيلة فقتلوها في نفوسهم قتلاً فاستسهلوا تضحية الطهارة للعار والعفاف للشهوات، فباتوا عرايا تحت تأثير هزات الحب، سكارى بخمرة الوصل، فيا أيتها المدينتان الجهنميتان المندفعتان في لجج الأهواء، الخالعتان عنهما أكليل الكمال، الدائبتان في إيجاد سافل المسرات إنكما وصمة المدن ومصدر دنس للأمم جمعاء.
ها نجمة الصبح قد أشرقت متلألئة في سماء مكفهرة الأفق، والمدينتان في سبات، إذ قد انقطعت ضوضاء القبلات وهمدت النفوس وانعكست أشعة القمر على أجسام منطرحة على الثرى وهي جامدة كالجثث لما حل بها من العياء، فأخذ الهواء من جوانب سادوم متجهاً نحو عاموره وللحين حجبت السحابة السوداء السماء، فقال لها القائل العلوي بصوت يصم الآذان. هنا! فانفجرت السحابة انفجاراً ذا دوي هائل، واندلعت(2/39)
السنة النار اندلاعاً، وهوت على قصور تناطح السماء، فتحولت المدينتان إلى أتون متسعر ذي لهب قاتم يزعج النفوس واستفاق الأهلون الذين لم يفكروا هنيهة في الله، وأصوات الدماء توجف القلوب وانهيار الجدران يروّع الأسماع، فاندفعوا في الطرق المتقدة والذعر آخذ منهم كل مأخذ، فصارت الأجسام إلى بقايا سوداء.
هوذا الملك يشرف من قصره والكاهن من معبده والرجل والمرأة من مخدع غرامهما الدنس، ولكن كيف السبيل إلى الفرار والنار المضطرمة تلتهم وتدمر. فقل أذن أن الجحيم قد انفتح لابتلاع الأرض وما عليها من مبان وإناس.
لم تبق النار على شيء
وعبثأً حاولوا استمداد الآلهة فإن يد الله قد ضربت فسحقت الإنسان مع الصخر، ولا شت العشب وجففت الماء، وحولت عواصف تلك الليلة الرهيبة رواسي الجبال من حال إلى حال
هناك سواد منتشر في الأرض وفي السماء
هناك الآن صخور قاحلة جرداء لا يكاد ينبت فيها عشب حتى يصفر ويذبل ويموت، فإن الهواء الذي يهب في تلك الأرجاء يلهب ويحرق.
لم يبق للمدينتين من أثر. ولم يدع الماضي لعبرة الحاضر والمستقبل سوى بحيرة مرة تغلي كمرجل لذكرى نار السماء
تعريب حنا صاوه
فيكتور هوجو(2/40)
جرائدسوريا ولبنان
أصبحت الجرائد العربية كثيرة في سوريا ولبنان. فلا يمر بنا أسبوع إلا نقرأ فيه عن صدور جريدةٍ جديدة لكاتب جديد.
ولا يخفى أن الإنسان لا تمكنه الأحوال من مطالعة الجرائد كافة لأنه لا قبل له بالاشتراك فيها بأسرها ولو كان موسراً كثير المال
ولما كان لي نزعة خاصة إلى مطالعة الجرائد والمجلات العربية فقد أحببتُ أن أعرف الأخوان بالصحافة والصحافيين في سوريا ولبنان. جاعلاً بين الفريقين صلة تعارف ورابطة أخاء.
فقسمت الصحافة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول الجرائد اليومية والقسم الثاني الجرائد الأسبوعية والقسم الثالث المجلات الشهرية والنصف شهرية.
ولما كان ذرعي يضيق عن مطالعة الجرائد جمعاء فقد ذكرت في هذه السطور أهم الجرائد التي أقراها دائماً، فإذا أغفلت جريدة فلأنني لم اقرأها طويلا. أو لأنني سمعت باسمها فقط. فعذراً من أصحاب هذين القسمين:
1 - الجرائد اليومية
1ً: الأحوال بيروت: صاحبها سابقاً خليل البدوي وأصحابها حالا رعد وبوبز. هي الجريدة الوحيدة التي تصدر في كل البلاد العربية مرتين في النهار. كاتبها سليم العقاد. هو أعرف المحررين بأسرار الصحافة.(2/41)
تكثر هذه الجريدة من التلغرافات والأخبار المحلية. لهجتها مسيحية. تدلي إلى تخرب. جرئية في انتقادها الموظفين والمأمورين.
2ً: لسان الحال بيروت: صاحبها خليل سركيس. هي جريدة المعندلين. كاتبها رشيد عطية اللغوي المدقق. قراؤها التجار والكهول. آراؤها السياسية على خطة واحدة فهي نسخةٌ من الطان والليفانت هوالد هي سائرة على قاعدة القديم على قدمه أما في الانتقاد فهي والأحوال على طرفي نقيض.
3ً: المفيد بيروت: صاحباها عبد الغني العريسي وفؤاد حنتس. يساعدهما في الكتابة أحمد
صلاح الدين. هم ثلاثة أشخاص في روحٍ واحدة. جريدتهم جريئة. ولها مواقف تشهد لها بحبها للعرب. وهي الجريدة البروتية الوحيدة التي تقرأ في الاستانة بروية واهتمام. فمنزلتها في بيروت منزلة طنين في الاستانة. قراؤها عديدون. وأكثرهم من ناشئة المسلمين.
4ً: النصير بيروت: صاحبها عبود أبي راشد. محررها سعيد عقل الداموري. كاتب وشاعر معاً. هو سركيس بيروت. حركة دائمة. وأسرع كاتب في تسقط الأخبار، وخصوصاً اللبنانية. تطبع كل يوم مضاعف بعض الجرائد اليومية. هي تمثل صوت الشعب كما أن لسان الحال يمثل مشيخة الشعب.
5ً: الرأي العام بيروت: صاحبها ومحررها طه مدور. جريدتهُ(2/42)
مندفعة كثيرة الانتشار بين الشبيبة المسلمة. تريد أن تسبق المفيد. والمفيد لا يشق له غبار - محالفته ثلاثية - يغمس صاحبها قلمه في سويداء قلبه. فهو يكتب ليفيد أكثر مما يستفيد.
6ً: الاتحاد العثماني بيروت: صاحبها الشيخ أحمد طباره. هي عند المسلمين كلسان الحال عند المسيحيين، لها برقيات خاصة - والمفيد أيضاً - وخطتها سائرة مع الزمان.
7ً: حديقة الأخبار بيروت: هي الجريدة الأولى التي تأسست في سوريا بفرمان سلطاني في 1 ك 2 يناير سنة 1858. منشئها المرحوم خليل الخوري الشاعر الشهير. وقد تحول امتيازها لعهدة أخيه وديع الذي يحررها. مادتها ضعيفة. أخبارها وتلغرافاتها منقولة.
8ً: الثبات بيروت صاحبها اسكندر الخوري. رئيس تحريرها خليل زينيه، وهو شيخ المحررين، وأخفهم روحاً وأطولهم باعاً.
والثبات هي الجريدة البيروتية الوحيدة التي تصدر عند الظهر. أما بقية الجرائد اليومية - ما عدا أحوال المساء - فإنها تصدر صباحاً إلا يوم الأحد. أما جريدة المفيد فإنها تصدر الأحد وتحتجب الجمعة.
9ً: المقتبس دمشق: صاحبها محمد كرد علي، مؤرخ مدقق وكاتب سريع الخاطر. يهتم بشؤون المسلمين اهتماماً شديداً. قوة الجريدة متوزعة بينها وبين المجلة.
10ً: العصر الجديد دمشق: صاحبها المحامي ناصيف أبو زيد. تختلف جريدته ارتقاءً وترتيباً باختلاف كتاب العصر فيها فقد تولى(2/43)
إدارتها عيسى إسكندر المعلوف فجرجي
الحداد وسليم العنحوري فاسكندر المرحالا. فالعصر في دمشق الشام كالصدق المحتجب في بونس إيرس.
11: الكائنات دمشق: صاحبها أديب نظمي. كاتب كبير. في إنشائه رقة وسلاسة. وفي نفحةٌ من مفحات الأديب ولو لم يكن. في دمشق العصر الجديد المسيحي والمقتبس الإسلامي لكان لهذه الجريدة شأنٌ يذكر في أرض الشآم.
هذه هي أهم الجرائد اليومية ومن وصفها ترى أن فيها المتطرفة والمعتدلة والمحافظة.
حليم إبراهيم دموس
وسيأتي الكلام عن الجرائد الأسبوعية والمجلات
من كل حديقة زهرة
تبلغ قيمة الأشجار المغووسة في شوارع برلين مليون مارك وعددها 45 ألف شجرة مزروعة في ثلثمئة شارع. ولدى المجلس البلدي 250 بستانياً و700 مساعد لخدمة هذه الأشجار والحدائق العمومية. وثلاثة أرباعهم من النساء.
من عادات اليابانيين في أعراسهم أن العروس توقد ليلة زفافها مشعلا وتقدمه إلى خطيبها وهو يتناوله ويحرق بناره الألعاب التي كانت للفتاة في صباها.
في روسيا عدد كبير من البوليس السري. ولا يقل عدد النساء المنخرطات في هذا السلك عن ألفي امرأة. ويبلغ رواتب البعض منهن(2/44)
خمسين ألف فرنك. فكيف يقال أن المرأة لا تحفظ سراً.
أكبر مدفع ٍ في العالم موجود الآن في قلعة كرونستاد روسيا وقد صب في معامل كروب الشهيرة. ووزن قنبلته ألف ومئتا كيلوغرام وهو يقذفها إلى مسافة 19كيلومتراً ويكلف كل طلق من طلقاته 7 آلاف و 500 فرنك.
ثبت أن ميكروب السل لا يتسرب إلى لبن الماعز فهو خير لبن يغذى به الطفل المحروم من لبن أمه.
في ولاية ميشيغان تبيع الحكومة رخصاً بحيز لصاحبها أن يسكر متى أراد وحيث أراد دون أن يتعرض له البوليس كما تباع رخص الصيد وغيرها.
لا غنى للإنسان عن الملح ويجب أن يأكل منه 15 غراماً على الأقل و30 على الأكثر.
يقول الفلكي الأميركي ولد مركمبغرت أن النجم الذي سار وراءه المجوس إلى بيت لحم لم يكن إلا مذنب هالي.
لدى إنكلترا أسطول من زوارق الصيد يبلغ 26 ألفاً و500 زورق يركبها مئة وستة آلاف صياد.
تفتخر السيدة سارة برملي من بوننجهام في انكلترا بأنها أكبر نساء العالم سناً. فإن لها من العمر 112 سنة وقد عاشت في ثلاثة قرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين لأنها ولدت سنة 1799.(2/45)
عشرة أعداد الزهور
صدر في السنة الماضية اثنا عشر عدداً من الزهور في 560 صفحة. ولما كان العدد الكبير من المشتركين يغيرون محل إقامتهم في شهري الصيف حدث تبلبل في توزيع المجلة وفقد منها أعداد كثيرة، ولذلك رأينا أن نوقفها في شهري الصيف مصدرين منها عشرة أعداد بدلاً من الاثني عشر. ولكي لا يخسر القراء والمشتركون شيئاً زدنا عدد صفحات الأعداد كما ترى ذلك الآن حتى تبقى مجموعة العشرة أعداد 560 صفحة كمجموعة الاثني عشر عدداً. وخصصنا هذه الزيادة برواية شهرية تصدر في كل جزء إجابةً لطلب الكثيرين.(2/46)
أزهار وأشواك
مات محمد العبد الأديب المعروف بشعره الطلي، وزجله اللطيف، المشهور بلونه الأبنوسي القاتم الذي كان يعد لون عنترة معه بياضاً ناصعاً، مات إمام، فكان لمنعاه رنة أسف وحزن، لأنه عاش بائساً ومات بائساً، وكان يلقب نفسه في حياته إمام البؤساء ورئيس حزبهم وقد تطوع في هذا الحزب الكثيرون من الأدباء واقروا له بالرئاسة والإمامة. وله ولهم في هذا الموضوع قصائد جميلة تناقلتها الصحف. نظم إمام في موضوعات كثيرة ولكن الفكرة السائدة في شعره هي الأنين والشكوى من الزمن. فقلما تطالع له بيتاً ولا ترى الدمع نافراً من حروفه ولا تسمع الزفير متصاعداً من تفاعيله. وكانت له طريقة في إنشاد الشعر تشبه الندب والرثاء. ولكنه كان مع ذلك خفيف الروح لطيف المعشر لا يمل جليسه له حديثاً، وله في الإشارة إلى لونه نوادر ونكات ظريفة منها جوابه المشهور لمن سأله عن امتناعه عن الزواج وهو ذلك البيت:
أنا ليلٌ وكلُّ حسناء شمسٌ ... فاجتماعي بها من المستحيل
لقيته يوماً وقد شدَّ عنقه بربطة حمراء فسألته عن السبب فقال: ليعرف الناس أين ينتهي جسمي وأين يبتدئ رأسي وكنت ماراً صباح يوم قرب البوستة فلقيت أماماً في قهوة كان يكثر التردد إليها فقال: هل لك في سماع شيء من الشعر؟ - فقلت: هات - قال: أجببت أمس أن أحذو حذو زميلي وابن لوني عنترة العبسي فظمت أبياتاً في الحماسة. . وتلاها علي فإذا هي تهديد للأعداء وتغزل بالردينيات(2/47)
والمشرفيات وتغني بخوض غمرات القتال، فقلت له: سبقت والله فارس بني عبس فكأنك رضعت من لبن المعامع وربيت بين السيوف والرماح فقال: ومع ذلك ألا ترى الجبن والخوف متجسمين في كل بيت فأجبته: لا أفهم إلى ما تشير فقال اسمع، بينما كنت أنظم هذه الأبيات ليلة أمس إذا بحركة بدت من ناحية النافذة فارتعدت فرائصي خوفاً، وكاد لبي يطير شعاعاً، ولم يكن ذلك ألا قطة جارتنا قفزت من كوة الدار. . . .
وكان إمام بعيد الشهرة في سوريا وأميركا وكان يراسل عدة جرائد وقد أحرز بعض جوائز مالية في سباقات فتحتها صحف تلك البلاد. وسيكون لنعيه أسف هناك كما كان له هنا. ولكن ذلك لا يجديه نفعاً بعد مماته، كما أن شهرته لم تدفع عنه بؤسه في حياته. وهكذا يعيش ويموت الأديب في الشرق: كحصاة تلقي في الماء الراكد فتحدث بعض تموجات
سرعان ما تضمحل، وانتهى! ولم يكن إمام العبد ليشذ عن هذه القاعدة رحمات الله عليه. .
أم ولا كالأمهات
جرت هذه الحادثة منذ شهرين، في أيام الأعياد، ولم يتسن لي أن أقصها على قرائي وقارئاتي قبل اليوم، ليشاركوني في التلذذ بها، لأنها وأيم الحق لذيذة جداً، بل هي ألذ من حلوى العيد، أو أن ذوقي وجدها كذلك. . . دعاني أحد الرفاق مع صاحب الزهور لمناولة الطعام عنده، فأجبت الدعوة. وقضينا ساعات رائقة بين أكل مريء(2/48)
وشرب هنيء وحديث عذب. وكان لصاحبي ولد يذهب ويجيء بيننا فرحاً مرحاً. ويعرض علي الألعاب التي أهديت إليه في العيد وهو معجب خصوصاً بلعبةٍ تدور بلولب خاص وتسير كأنها القطار البخاري. فقلت للولد على سبيل المداعبة:
أي متى يحملك الإعجاب بحركتها الخفية على كسرها؟
فالتفتت إلي الوالدة وقالت:
بالله عليك يا حاصد هلا سألته أي متى يحمله الدرس والاجتهاد على اختراع مثلها؟
وقف الولد عن كل حركة وحدق عينيه الجميلتين في عيني أمه كأنه يحاول أن يرى في تلك المرآة الصافية معنى ذلك القول الذي لم يدرك كنهه عقله الصغير وقال بكل سذاجه: الحق معكِ يا أماه. . .
قبلت الولد وانحنيت إجلالاً أمام تلك الأم الفاضلة. وقد ذكرني كلامها ما قاله قائد ألماني في خطبة كان قد ألقاها منذ أيام وجيزة: يا قوم أنتم في هذه المواسم تبحثون عما تهدونه إلى أولادكم، لا تفتشوا طويلاً، اهدوا إليهم سيوفاً وبنادق لتتربى فيهم روح الشجاعة والبسالة فينشأوا أشداء أقوياء. بل رأيت كلام هذه الأم الفاضلة أعقل واسمى من كلام القائد. ولما تركنا المنزل قال لي صاحب الزهور: عسى أن يكون وياشد ما تكون دهشة هذه الأم عندما ترى كلامها مدوناً في هذه الصفحة.(2/49)
صلاة الحصان
للغربيين عطفٌ على الحيوانات يفوق عطفنا على إخواننا بني الإنسان. وقد ألفوا الجمعيات الكثيرة للرفق بالحيوان وانفقوا في هذا السبيل الأموال الطائلة لتخفيف أوجاع الحيوان غير الناطق. وقد ابتدعت إحدى هذه الجمعيات في الولايات المتحدة طريقة لطيفة للوصول إلى
هذه الغاية. فألفت صلاة دعتها صلاة الحصان وطبعت منها الملايين من النسخ وعلقتها في الشوارع والمحلات العمومية. وإليك نصها كما قرأتها في جرائد تلك البلاد:
بخضوع أرفع إليك صلاتي يا معلمي اطعمني وارو ظمأي. وبعد العمل والتعب امنحني فرصة للراحة في الإسطبل الخاص. بلغني أوامرك بالكلام لأن صوتك أفعل بي من اللجام والسوط. علمني وعودني العمل بتمام إرادتي. لا تضربني عند الركوب ولا تجذبني بسير اللجام عند النزول. وإذا أنا لم أفهم حالاً لا تسرع وتقبض على السوط بل أنظر جيداً إلى اللجام لعله يجرحني وإلى الحديدة التي في رجلي لعلها تؤلمني. وإذا رأيتني أعلك حديده اللجام انظر إلى أسناني. لا تقطع ذنبي لأنه سلاحي الوحيد، أُحارب به الذباب المحيط بي. يا معلمي العزيز إذا جعلني كبر سني ضعيفاً وعاجزاً فلا تحكم علي بالموت جوعاً، بل أحكم علي بالإعدام ذبحاً تخفيفاً لعذابي. وفي الختام سامحني لأجل هفواتي، وأقبل هذه الصلاة التي أرفعها إلى مقامك السامي بكل تقوى، آملا أن تحوز قبولاً. فأنني مولود حساس مثلك أستحق الشفقة والرحمة. آمين حاصد(2/50)
رواية الشهر
مغارة العظام
1
أمسيكم بالخير يا جدعان
أسعد الله مساك يا سليم! أهلاً وسهلاً
كل عام وأنتم بخير
وأنت بألف خير. يا مرحباً بك. تفضل واجلس
وكان الداخل - سليم - فتى في مقتبل الشباب، تبدو على وجهه سمات السذاجة والقناعة، وهو لابس عباءةً قد التفع بها على زي القرويين في لبنان، متلثم بكوفية ترد عنه هجمات البرد وتكسب هيئته شيئاً من الشجاعة والإقدام. وعند دخوله انتصب الجميع واقفين ووضع كل يده اليمنى على صدره حسب العادة إجابةً للتحية. فجلس سليم القرفصاء في حلقة الإخوان والأصحاب، وهو يردد: تفضلوا، ربنا يحفظكم. . .
وكان قد جاء لقضاء السهرة مع زمرة من عشرائه في بيت أحدهم، وكانت الليلة ليلة رأس السنة. وقد جرت العادة في مثل هذه الفرصة أن يجتمعوا فيتداولوا الأحاديث المتنوعة والأخبار والنوادر. وكثيراً ما خالط أصواتهم رنة الأقداح، وطيبت أرواحهم بنت الراح.
فلما اجتمع شملهم في تلك السهرة خاضوا كل المواضيع. فتكلموا عن العام الجديد والأحوال الحاضرة، وعن المزروعات وبشائر الموسم، وعن العادات والتقاليد فأدى بهم الحديث بالطبع إلى ذكر الأيام الغابرة والأسف عليها والحنين(2/51)
إليها. فقال: العم أبو حبيب وكان أكبر الجميع سناً.
لا يذهب يومُ ويأتي مثله. سقى الله أيام أجدادنا فإنها كانت أيام خير ومروه وشهامة.
وهكذا أخذوا يثنون على العصور الماضية وطفق كل يسرد ما رواه له أبوه وأجده عن أمور شتى ونوادر متنوعة وخصوصاً ما يتعلق بالبسالة والبأس وقوة الجنان. هذا وسليم صامت لا ينطق بحلوة ولا مرة. على أنه كان يتأفف في قلبه من الحط من شأن رجال اليوم وإقدامهم. فاعترضهم أخيراً قائلاً:
بارك الله في همم الرجال: لا تظنوا أن النخوة قد تلاشت أو أن الشجاعة قد فقدت من
صدورنا. وما أيامنا إلا كأيام من تقدمنا. وفي كل عصرٍ رجالٌ لا يهابون الموت إذا تمثل لهم، وآخرون يخشون ظلهم إذا انعكس في ضوء القمر.
فاشتد حينذاك الجدال وأدى إلى التحزب للماضي أو الانتصار للحاضر. وجاء في عرض الكلام ذكر مغارة العظام وخوف الناس من المرور بجانبها، فقال أحد الحاضرين لسليم:
إذا كنت يا صاحبي كما تدعي لا تقل شجاعةً وبأساً عن أبائك وأجدادك. هل لك أن تقصد مغارة العظام في مثل هذه الساعة فتدق فيها وتداً؟
أدق وتداً وآتيكم بجمجمة. . . قال سليم ذلك ببعض البساطة الدالة على ثبات جنانه.
فوقع كلامه على الحاضرين موقع الدهشة. لأن المكان المذكور كان قفراً، قد انتصبت فيه صخور جرداء، لا نبات هناك ولا أثر للحياة، وكان في منعطف ذلك الموضع مغارة واسعة ألقيت فيها من أمدٍ مديد عظام وجماجم كثيرة فأكسبتها اسمها ومغارة العظام وكان ذلك القفر مخيفاً رهيباً. وإذا اضطر بعض القرويين للمرور به نهاراً يسير وجلا مذعوراً ويهرول دون أن يحول نظره إلى تلك المغارة المشؤمة(2/52)
وهو يكثر من ذكر اسم الله العظيم مستعيذاً به من شر الأبالسة والجن. أما في الليل فما كنت تجد من يتجرأ على المرور من هناك ولو ملكته كل أملاك القرية لأن السكان كانوا يزعمون أن أرواح الموتى تطوف ليلاً في ذلك المكان، فيا ويل من يراها أو تراه.
ولذلك أحدث جواب سليم دهشة في الحاضرين، فنسبوا كلامه في بداية الأمر إلى المزاج أو الإدعاء. لكنه اتبع القول بالفعل وقام للحال فالتفع بعباءته وتلثم بكوفيته وقال: على الله الاتكال وخرج والجميع في حيرة من أمره.
2
في بيت منفرد عن بيوت القرية فتاة يتيمة اسمها تعيش وحدها مع جدتها العجوز وتكتسب قوتهما بعرق جبينها من غزل القطن وتسليك الحرير.
وكانت الفضائل قد زينت روحها كما أن الطبيعة قد زانتها بالجمال واللطف المقرون بالشجاعة وليس ذلك بالشيء النادر بين القرويات.
وكان قد خطبها شاب يتيم مثلها ومكمل الصفات مثلها وهو صاحبنا سليم الذي عرفناه في مطلع هذه الرواية فأقسمت له أن تحفظ عهده وتصون وده، وعاهدها هو على مثل ذلك.
فكان الحب بينهما متبادلاً.
وكان إبراهيم عبد الله أحد الشبان المعروفين بسوء الأخلاق ولؤم الطباع قد فتن بهوى سلمى وأخذ يزاحم سليماً في حبها. ولكنها لم تكن تلتفت إليه. وكثيراً ما حاول أن يستميلها تارةً بالوعد وطوراً بالوعيد فلم تكن ألا لتزيد نفوراً منه. وقد علم خطيبها سليم بواقع الأمر فلم يكترث له لأنه كان واثقاً بمقدرته وفضله على إبراهيم ومكانته من قلب خطيبته. سيما وأنه يعرف في قرنه الوهن والجبانة فكان يعرض عنه ازدراء أو شفقة.
وقد جاء سليم في أول تلك السهرة ليلة رأس السنة فزار خطيبته. وقدم(2/53)
لها ولجدتها الهدايا البسيطة في ذاتها العظيمة بما قارنها من عواطف حبه. واتفق أن دعيت الجدة ليلتئذٍ إلى بيت كانت صاحبته مشرفة على الولادة، فلبت الدعوة عملاً بالواجب المرعية حرمته بين القرويين، وإذ ذاك لم يسع الشاب إلا الرحيل أدباً ولياقة، فسار قاصداً حلقة الأصحاب للسمر معهم فكان من أمره معهم ما عرفناه.
وبقيت سلمى وحدها تتسلى بذكر خطيبها، وإذا بالباب قد فتح فجأة ودخل إبراهيم عبد الله وهو في منتهى التهيج. فإنه كان يترقب فرصة يخلو له فيها الجو. فطال انتظاره حتى عيل صبره وكاد يقطع الأمل لو لم تواطئه الأيام وتمهد له السبيل في هذه الليلة. ولما دخل صاح بالفتاة والآن. . . . وهجم عليها. ففرت من وجهه ولجأت إلى زاوية البيت فتبعها. ولما ضاق بها المكان ولم تجد لنفسها مناصاً رجعت إليه لتدفعه، فوقع نظرها على خنجر في منطقة، فانتشلته بأسرع من لمع البرق وصاحت إليك عني وإلا قتلتك وكان التهيج والغضب قد أخذا منه مأخذهما حتى كاد يفقد رشده، فهجم عليها. ولكنها قابلته بطعنة خرقت أحشاءه. فوقع على الأرض صريعاً يتخبط بدمه ولم يلبث أن فاضت روحه الخبيثة.
وحينئذٍ اضطربت الفتاة واستولى عليها الذعر من هول هذا المشهد ونظرت إلى السماء نظر الخائف المستغفر ولسان حالها يقول: يا إلهي أنت الشاهد على غدره، لم يكن لي وسيلة أخرى لصيانة شرفي. أنا برئية يا إلهي.
ولكن إذا كانت بريئة في عين الله فكيف يعلم البشر براءتها وكيف يصدقون كلامها؟ وماذا عسى أن يكون من أمرها وكيف العمل للخروج من هذا المأزق الحرج. . . لم تجد سبيلاً إلا مواراة الجثة وكتمان الأمر خشية الفضيحة والهوان، ولكن ما الحيلة ومن يكون
نصيرها وسليم غائب، وجدتها بعيدة عنها، وكيف الوصول إليهما دون أن تتنبه الظنون.
دارت كل هذه الأمور في رأس الفتاة واستولت الحمى على دماغها المضطرب(2/54)
فلم تر إلا أن تستجمع قواها وتتكل على شجاعتها فتقوم وحدها بستر أمرها. فعمدت إلى الجثة ووضعتها في كيس وحملتها على ظهرها وقد ضاعف الرعب قواها وسارت قاصدة مغارة العظام لتواريها هناك.
3
وصلت المغارة وقد أنهكها التعب فتقدمت وهي ترتعد خوفاً ورعباً، وكان لأقدامها وقع مروع يرن في أذنيها كصوت قضاء رهيب. وقد حجبت الغيوم المتلبدة في كبد السماء وجه القمر الساري فساد على تلك الأطلال ظلامٌ مدلهم ترتعش من هوله الأبدان. تقدمت الفتاة وهي تعثر تارةً بجمجمة وتارة ببعض العظام المتراكمة فيزداد اضطرابها ورعبها. ولما وصلت إلى الداخل أخذت تعمل على مواراة الجثة تحت كومة من العظام إذ طرق مسامعها وقع أقدام على باب المغارة.
فانتفضت مذعورة وقد أخذتها القشعريرة. فحولت نظرها إلى الخارج فتراءى لها خيال قائم أمامها يتقدم ببطء وهدوء ورأت نفسها وحدها في هذا المكان المخيف، ولا مجير ولا معين، فافتكرت: آه لو كنت هنا يا سليم ورأيت في أي حال أصبحت تلك التي قادها حبك والاحتفاظ بعهدك إلى هذا المكان في مثل هذه الساعة.
ثم ما لبثت أن عاد إليها الجلد بعد أن استعانت بالله، فعمدت إلى العظام والجماجم المحيطة بها وأخذت تقلبها بعضها على بعض، فأحدثت قرقعة مخيفة رددتها جدران المغارة، وتواتر بها رجع الصدى. وكانت سلمى ترمي من وراء ذلك إخافة الطارق في مثل هذه الساعة. فلم يخطئ ظنها لأن الخيال وقف برهة كمن داخله الخوف. لكنه عاد فأخذ يتقدم إلى الأمام شيئاً فشيئاً، وسلمى واجفة لكنها تزيد في قرقعة العظام.
4
ولم يكن الداخل إلا سليم، فإنه جاء قاصداً مغارة العظام ليأتي بالجمجمة التي راهن(2/55)
عليها رفاقه. فلما وصل وقف عند الباب وسرح بصره في الداخل، فلم ير شيئاً من اشتداد الظلام، فتقدم قليلاً فسمع تلك القرقعة في المغارة، فأول حركة بدت منه الرجوع إلى الوراء، لكنه
نفى عن مخيلته ما تصوره حلماً وتقدم وهو يظن أن أذنيه اسمعتاه شيئاً وهمياً. . . ولكن زادت الضجة. . . لا محل للريب، إن في المغارة أحداً. . . أمن عداد الأحياء وأم من عالم الأموات. . .؟ تقدم بضع خطوات، والقرقعة تزيد كأن الأبالس حلفت أن تقلق راحة هذا المكان: ولكن لابد لسليم من أن يأخذ جمجمة ويقوم بوعده ولو خرج الشيطان بنفسه ليحول دون مبتغاه.
فما زال يتقدم. وحينذاك انجلى القمر قليلاً فتراءى للشاب منظر هائل: جثة منتصبة أمامه تتقدم نحوه ووراءها يلوح خيال لم يتميزه. . . ثم انبعث من وراء الجثة صوتٌ يلقي الرهب في القلوب: يا من لا يخاف من الأحياء ارتعد أمام الأموات، فأوجس سليم خيفة مما رأى وسمع، وكاد يطير فؤاده روعاً. لكنه ما برح يتقدم كمن تجرهُ قوة جذابة، فما شعر إلا وقد سقط عليه شيء ثقيل بارد، ولم يكن ذلك غير الجثة، فصرخ بسم الله. . . . واستل خنجره، فأجاب صوتٌ ضعيف: استرني أيا كنت يسترك الله.
وكان القمر قد سطع بكل جلاء فأضاءت المغارة ومن فيها، فعرفت سلمى الخيال الداخل عليها، وعرف سليم الشبح المنتصب أمامه، ففتح ذراعيه وهتف:
أنت هنا يا سلمى. . .!
حفظاً لعهدك يا سليم. . .!
وأشارت إشارة معنوية إلى جثة مزاحمه المطروحة على قدميه بين العظام والجماجم ففهم كل شيء(2/56)
العدد 13 - بتاريخ: 1 - 4 - 1911
كل مياه البحر
لا تغسل الأدران التي تعلق بقلب الفتى من سوء التربية
لو شئنا أن نورد ما قاله الفلاسفة والشعراء والكتاب وأساتذة الاجتماع عن الولد، ذلك المخلوق الطاهر، لضاقت عن ذكر بعضه فقط المقالات الطوال. فإن الولد كان ولم يزل موضع عناية كل من اهتم بخدمة بني الإنسان وترقية شؤونهم، لأن هؤلاء الأطفال هم الحجارة التي نعدها لبناية الغد. وبقدر ما نسعى في صقلها وحسن وضعها يجيء وضع بناية مستقبلنا جميلاً متقناً. فمهنا كتبنا وسطرنا في هذا الموضوع الجليل لا نكون وفيناه حقه من الاهتمام.
ريع الجميع من كثرة القضايا التي تعرض على المحاكم بشأن التعدي على آداب الأولاد وهتك حرمتهم وتسطير حروف الفحشاء على صحيفتهم التي كانت بيضاء ناصعة، فعادت وقد مرت عليها يدُ المنكر فذرة سوداء. وقد زاد هذه الحوادث شناعةً وفظاعة أن أبطاها المشؤمين هم ممن يطالب منهم أكثر من سواهم السهر على نور الآداب لئلا تطفئة أهواء المفاسد.(2/57)
ثم أنهم اتخذوا فريسة لنار شهواتهم أغصاناً رطبة ناضرة.
وإذا كانت هذه الأعمال تشجب وتستنكر وهي تكون برضى الفريقين فكيف يعبر عنها حين تتم قسراً وعنوة مع من لم يبلغوا سن الرشد ولم يعرفوا من لذات هذه الدنيا إلا قبلات أم حنون، ومن آلامها إلا الحرمان من لعبة أو تأنيب والد شفيق.
فهل بعد ما نرى ونسمع صباح مساء يمل القراء لو طرق الكتاب موضوع الآداب مراراً وأكثروا من الحض على التربية وهي المصل الواقي الشافي من كل هذه الأوبئة؟ لا لعمري أن الواجب الأول على حملة الأقلام قبل التسابق في نشر الأنباء السياسية وإذاعة الاكتشافات العملية الجري والمباراة في هذا الميدان.
تتبدئ تربية الولد بين جدران المنزل وفي حجر العائلة بين الأخوة والأخوات حين تكون نفس الطفل كما قال عنها الشاعر اللاتيني هوراس كالشمع المرن تتكيف بالكيفية التي يريدها وليُّها ومن منا إذا تطلع في مرآة الذاكرة إلى تلك الأيام البعيدة لا يذكر كلمة سمعها أو حادثة شهدها كان لها أكبر تأثير على ضميره الأبيض ولا بياض السوسنة في الحقل،
وأشد وقع على قلبه الصافي ولا صفاء الماء المتدفق من الصخر.
ولكن ما أقل سهرنا على أولادنا وأكثر تغافلنا عنهم وهم في العقد الأول من العمر. انزل معي أيها الوالد إلى أي شارع شئت من شوارع المدينة وافتح هناك عينيك وأذنيك. تنظر ما تنبو منه عينك وتسمع ما(2/58)
تنفر منه أذنك بل أنت لست بحاجة إلى فتح هذه وتلك فإن المشاهد المخجلة تلفت منك الأبصار قسراً، والكلمات البذئية تشق إلى أسماعك سبيلاً. بل علام أدعوك إلى ذلك وكثيراً ما تسمع وترى طفلك الصغير يأتي من الحركات ويفوه من العبارات بما يأبى القلم تسطيره، وذلك على مرأى منك ومسمع وأنت باسم له مشجع لعمله بسكوتك المذنب. . .
وعندما يبلغ الولد العقد الثاني من العمر ويصير يافعاً ينتقل القسم الأكبر من واجب تربيته عن عاتق الوالدين إلى عاتق المؤدب في المدرسة. ففي هذا الطور من العمر تتفتح أزهار النفس وتستعد لطرح ثمرها. فإن وجدت الأزهار هواءً نقياً وماءً طاهراً، جاءت نضرة زاهية. وإن لاقت هواءً ساماً وماءً فاسداً، جاءت ذابلة قبل الأوان. فترى الشاب شيخاً هرماً ويا تعس من كان هذا شبابه. . .
وفي هذا العمر تزداد مهمة متولي التربية أهمية بازدياد الأخطار المحدقة باليافع: أخطار داخلية لأن عقله بات يفهم ما لم يكن يفهمه وقلبه أصبح لعبة في تيار الأهواء النفسانية، وأخطار خارجية لأن هناك عشراء السوء يضعون يدهم بيده للسير في طرق الضلال؛ ودواعي الفساد تحدق به من كل جانب وتتنازع إرادته الضعيفة التي لم تتقو في نار الاختبار ولم تتصلب في خبرة الدنيا والناس.
وما عسى أن يكون مصير الفرد الذي ألقيت بذرة الرذيلة في قلبه طفلاً، ووجدت من يتعهدها ويعمل على إنمائها في صدره يافعاً. .؟ إلا أن مصير هذا المسكين لا محالة إلى أدنى هوات الانحطاط الإنساني.(2/59)
وهيهات أن يقبض الله له يداً فيها من القوة ما يكفي لانتشاله من هذه الوحدة. وإذا أسأنا تربية أولادنا فلا نعجب لكثرة الجرائم وتعددها بل فلنعجب لأنها لم تبلغ أضعاف ما نحن سامعون.
فلنجعل أذن شؤون التربية نصب أعيننا فلا ندخر وسعاً لأبعاد الأولاد عن كل أسباب الفساد
فنحفظ لهم حياة النفس والجسم. وعلى نظارة المعارف أن تزيد سهراً وتيقظاً في تعهد معاهد العلم، فتطهرها من حين إلى حين لئلا تنمو فيها ميكروبات أوبئة الآداب. وعلى رجال البوليس أن يحافظوا في الشوارع على حرمة الآداب فلا نسمع في غدواتنا وروحاتنا تلك الألفاظ البذيئة التي تعلو في الطريق على كل صوت. . .
تشكلت جمعية رعاية الأطفال بهمة بعض الأفاضل الغيورين على مصالح بلادهم فأخذت تعمل بجد ونشاط لوقاية الأطفال ودرء الأمراض والعاهات عن أجسامهم النحيفة، فنعم ما فعلت.
واهتمت الحكومة بوضع قانون يتعلق بتشغيل الأحداث واضعة نصب أعينها في سن هذا القانون صحة الولد لئلا تذبل وتذوي بين جدران المعامل ساعة هي في طور نموها، فحبذا ما فعلت.
ولكن يتحتم علينا مع الاهتمام بشؤون الأولاد المادية أن نوجه اهتمامنا إلى شؤونهم الأدبية، فنعمل على وقاية القلب كما نعمل على وقاية الجسم. حتى يسلم هذا وذاك من الأمراض القتاله.
وعليه فيجب أن تؤلف جمعيات لهذه الغاية تأخذ على عاتقها الاهتمام بهذه المسألة الخطيرة وما هذا على من يحب أبناء جلدته بالأمر العسير.(2/60)
وهكذا نكون أعددنا للمستقبل رجالاً أقوياء جسماً ونفساً، فيكسبون أمتهم قوة مادية وقوة أدبية تدفعها إلى مقدمة الأمم الراقية.
قال ألفرد ده موسه، وهو ذلك الشاعر الطائر الصيت الذي رشف كأس الملذات حتى الثمالة: يا ويل من يدع الفساد يتملك فؤاده. فإن قلب الفتى أشبه بإناء عميق. فإذا كان أول ماء يسكب فيه فاسداً فإن كل مياه البحر لا تكفي لغسله لأن هذا الإناء بعيد القرار وشائبة الفساد في قعره.
فلنجتهد إذن ليكون أول ماء نسكبه في قلوب أطفالنا نقياً من كل دنس، مستخلصاً من أجمل زهور الفضائل.
إيماءة زائر
إلى بعض ما باورشليم من المآثر تابع
المسجد الأقصى نعم قلت إني لا أتعرض لوصف تلك الآثار، غير أن قلبي لا يسمح لي أن أذكر أورشليم وأعرض عن ذكر الحرم فإنه أبدع ما رأيت حتى اليوم وقد عثرت في تاريخ ابن خلدون على ما أظن أن السواد الأعظم من القراء لا يعرفونه وهذا نص قوله:
وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضع الزهرة، وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونهُ يصبونهُ على الصخرة التي هناك. ثم دثر ذلك الهيكل وأتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أن(2/61)
موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق من قبله وأقاموا بأرض التيه. أمره الله باتخاذ قبةٍ من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهيا كلها وتماثيلها، وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارةً بقناديلها وأن يضع مذبحاً للقربان. وصف ذلك كلهُ في التوراة أكمل وصفٍ، فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد. وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها. وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان. ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويتقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها. ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم لهُ ذلك. وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام واتخذه عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج، وغشى أبوابهُ وحيطانهُ بالذهب، وصاغ هيا كلهُ وتماثيله وأوعيتهُ ومنارتهُ ومفتاحه من الذهب، وجعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه تحمله الأسباذ والكهونية (كذا في الأصل) حتى وضعه في القبر. ووُضعت القبة والأوعية والمذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد وأقام كذلك مما شاء الله ثم خربهُ بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة والعصا، وصاغ الهياكل ونثر الأحجار. ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس
الذي كانت الولاية لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر وحدَّ لهم في بنائه حدوداً دون بناء سليمان بن داود(2/62)
عليهما السلام فلم يتجاوزوها. ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة ثم لبني خسمان (كذا في الأصل) من كهنّهم ثم لصهرهم هيرودوس ولبنيه من بعده وبني هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنق فيه حتى أكملهُ في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الورم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانهُ. ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه، ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارةً وتركه أخرى. إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمهُ هيلانه وارتحلت إلى بيت المقدس في طلب الخشبة على الأرض التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنهُ رمي بخشبته على الأرض وأُلقي عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة (كنيسة القيامة) كأنها على قبره بزعمهم. وخربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزاءً بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام. وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة. فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكثف عنها وبني عليها مسجداً على طريق البداوة وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت.
ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد البني صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق. وكانت العرب تسميه بلاط الوليد وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فاطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في(2/63)
آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم، زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام وبنوا على الصخرة المقدسة منهُ كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العبيديين وبدعهم
زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام، وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة، وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه لهذا العهد. انتهى.
هذا وأما الذي أردت الإيماء إليه من بعض ما بأورشليم وبيت لحم من الصدقات الجاريات والمآثر الباقيات فهو المدرسة الصلاحية في القدس الشريف ومدرسة اليتامى العلمية الصناعية في بيت لحم.
أما المدرسة الصلاحية المعروفة بمدرسة القديسة حنة فهي مدرسة كهنوتية كبيرة متقنة البناء مجانية معدة لمائة وخمسين طالباً، ومدة الطلب فيها عشر سنين، لكنها مخصصة بمن يترشح لخدمة الله من طائفة الروم الكاثوليكيين دون سواها. وكلما انتهى فوج تستقبل فوجاً آخر. والقائمون فيها على إنارة العقول بالتعليم وتهذيب الأخلاق بالترويض رجالٌ ممن برزوا في حلبة الفضل وممن أخذوا السبق في مضامير العلم. إلاًَّ وهم إجلاء من الرهبان البيض الذين كأنما بياض ثيابهم ينادي ببياض سرائرهم. وقد تخرج في هذه المدرسة العظيمة الشأن عدة من الكهنة الذين تعتز بهم المنابر وتستنير بأقوالهم المجامع والمحافل ويفوح من آثارهم شذا الفضائل فإذا نظرت يا رعاك الله إلى ما تجني من العوائد الكبيرة طائفة يقوم على إرشاد أبنائها رجال من أهل العلم والصلاح من أمثال(2/64)
هؤلاء عظم في عينك قدر منشئ هذا المعهد العلمي الحري بأن يُدعي (بيت النور والفضل) وجلت في نفسك همتهُ ولاح لك ضوء حكمته. ولاسيما متى اعتبرت سداد رأيه بتوسيده أمر التعليم والتربية والإدارة في ذلك المعهد إلى أولئك الرهبان الذين أفصى همهم أن يوقدوا مصابيح العلم ويبذروا بذور الفضائل ويزيلوا من أمام المجتمع الإنساني دواعي الشقاء ويكشفوا حنادس الجهل وناديت بأعلى صوتك يا رحمة الله أسقي قبر الكرديناك لا فيجري الذي دخل سورية محسناً وودعها محسناً.
وأما مدرسة البنين ببيت لحم فهي بناية بل بنايات هائلة عالية كأنها خطيب فصيح متبوئ منبر الثناء على همة رجل الفضل الذي أخذت آثاره من النفع بأوفر حظ، وضربت له من مجد العاجلة والآجلة بسهام لا بسهم. فقد زرت هذا المعهد الرحب الذي أسكرت منشئه خمرة الهيام بتعليم الصغير، واستغرقته لذة الغرام بتربية اليتيم، فرأيت فيه زهاء المائة من
الفتيان يتعلمون عشر صنائع من الصنائع اللازمة للبلاد ورأيت من مصنوعاتهم ما يشهد لهم بالبراعة والحذق في الصناعة وقد عرفوا بذلك حتى صار المتأنقون من أهل اليسار من الأطراف القريبة والبعيدة يستصنعونهم ما يحتاجون إليه.(2/65)
وهم يتعلمون مع تلك الصنائع العشر ثلاث لغات الفرنجية والطليانية والعربية، ويلقى في أذهانهم من بذور التعاليم والآداب المسيحية ما أجمع الكون على أنهُ منبثق أنوار المدينة.
ثم أن تلك المدرسة مجانية تبذل لذلك العدد العديد من اليتامى كل ما يعوزهم من طعام وكسوة وكتب وأدوات صنائع ولا تطلب من تلك النفقة الباهظة عوضاً إلا وجه الله الكريم. فأولئك اليتامى وكل من اتصل به خبر هذا الأثر الجليل يقولون: رحم الله (الأب انطون بلوني) الذي أعلى للجميل معالمه وحمى مكارمهُ فلقد كانت أيامه أيام المبار والمحامد وأزمان المكارم والمآثر.
ومن حسن نظر هذا الغيور في عواقب الأمور أنه لما طعن في السن ووصل إلى عصر يوم الحياة خشي على هذا الميتم الكبير وسائر المدارس التي أنشأها في الناصرة وفي بيت جمال وفي كرم الزان أن تغلق أبوابها وتنضب ينابيعها فسلمها إلى من لا يألون جهداً في المحافظة عليها بل إلى من لا يصرفهم عن إنمائها وتوسيعها غرضٌ من الأغراض فهم جماعة من الآباء الساليسيان متجردون لخدمة الله بتعليم الأحداث والسعي لتخفيف شقاء الحياة (بيروت)
سعيد الخوري الشرتوني.
السنة الأولى للزهور
في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون قرشاً صاغاً. ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.(2/66)
بين هدى وأدما
عود إلى تمدن المرأة العصرية
قرأت أدبية بيروت كلمتي بين هدى وأدما فأغضبتها وهي على ما هي عليه من لين العبارة ونعومة المعنى وقرأت ردها علي فأخذتُه بحلم وسعة صدر على ما فيه من القوارص والمغامز فكان غضبها وحلمي دليلين على نقيضين: ضعف النساء ورصانة الرجال.
قبل الموضوع لي ملاحظة:
أولاً: عتبت الآنسة أدما ورفيقاتها على صاحب الزهور لأنه وسع لمقالي صدر مجلته فهي إذن تريد أن يباح القول ويمنع عن فريق آخر، ويصدر الحكم لصالح الفريق الأول. فالداعي وإن لم يكن من القضاة ولا المحامين يرى أن استئثار خصم بالكلام دون الآخر يجعل البحث والحكم باطلين، وهي حقيقة بديهية ما كانت لتخفي على الآنسة أدما ورفيقاتها لولا ثورة العواطف. ولو أنهن رغبن بحرية الكلام وإباحته للخصوم لأثبتن رحابة صدرهن. أما الآن فقد سجلت السيدة أدما ورفيقاتها المندهشات على أنفسهن واحدة من تلك المميزات التي تؤكد ضعفهن وتكون حجة للرجال عليهن.
ثانياً: جاء في ردها فإذا كانت المرأة الآن كما تزعمون فلأنكم أنتم أردتموها كذلك يا معشر الرجال.
هنا قررت الآنسة الأديبة ضمناً أحقية دعوانا وسلمت أن المرأة هي(2/67)
فعلاً كما وصفناها وإن حالها تستدعي العلاج العاجل لكنها ترى أن المرأة ما أصبحت هكذا إلا لأننا نحن أردناها هكذا.
معنى هذا: إن النساء ما هن إلا مخلوقات وجدن لإرضاء الرجل لا غير.
أيرضيك هذا الاستنتاج المنطقي يا سيدتي؟
ثالثاً: كتبت أديبة بيروت المتحمسة جداً ثلاث رسائل طالعناها بشغف وأثنينا على همة ونهضة ناسجة بردها إلا أن النقطة الوحيدة في الرسائل الثلاث هي أن في النساء فاضلات وأيدت ذلك بالحجج الدامغة، وأن في الرجال غير فاضلين وأثبتت ذلك بالبراهين الناصعة كل هذا صحيح، وكل هذا مسلم به، ولكن ليس هنا الموضوع.
مثلاً: أب له عشرة أولاد خمسة ذكور وخمس أناث. في الذكور ولدان شقيان وثلاثة
فاضلون. وفي البنات اثنتان فاضلتان وثلاث شقيات. أراد الأب إصلاح ما أعوج في الأناث الثلاث فأجبنهُ: ما لك ولا صلاحنا ألا ترى أن في أولادك الذكور شقيين وأن بيننا نحن فاضلتين، فما دام بين أخوتنا الذكور أشقياء وما زال بين شقيقاتنا فاضلات دعنا في جهلنا.
أجواب البنات الثلاث مقنع سديد أم هو برهان فاسد؟
وجوابك يا سيدتي لا أراه مستنداً على دعائم أوطد. ولما كان في النظريات الصرفة بعض الصعوبة اسمحي لي أو أورد حكايتي مع امرأتي قديماً وحديثاً وهو بحث واقعي لا يحتاج إلى فلسفة وقولي لي إذا لم تكن حكايتي هي حكاية سائر الفتيان والفتيات التي تحدث كل يوم: يا طير(2/68)
والأمثال تضرب للبيب الأمثل.
لما كنت عازباً وقد مضى على ذلك زمن ليس باليسير كنت أحسبني لا أتزوج أبداً لدواع لا محل لذكرها أهمها اعتقادي بعدم مقدرتي على القيام بكل الواجبات التي تطلبها المرأة إلى أن علقت يوماً بفتاة فتانة.
ترددت على بيت أهلها وبعد المعاشرة عرفوا أميالي ولم يقصدوا منعي عن فتاتهم فأخبروني بأنها كما أحب:
عمرها 18 سنة، تتقن فن الطبخ، وتعرف أن تهيئ ألف شكل وشكل، غير مكترثة بالمودة، ولا تحب النظر إلى الأكبر منها وهي فوق ذلك تحب تدبير بيتها بنفسها ولا تتكل على الخادمات في شيء، فضلاً عن أنها تحب اللغة العربية لغة أهلها وهي تكاد تكون متعصبة لها.
وكان الهوى قد دب في الصدر وقضى على بقية كانت لا تزال تحبب إلي العزوبة فاستسلمنا للأقدار وعقد الزواج.
مضى شهر العسل وابتدأت المعيشة البيتية العادية، فماذا رأيت؟
علمت في أثناء الحديث أن عمرها 24 سنة لا 18 وقالت معتذرة: لا تزعل. فنحن النساء نخصم دائماً 30 بالمئة على الأقل من عمرنا.
فقلت: قيدنا الأولى يا سيدتي وبتنا ننتظر أخواتها.
أتيت يوماً إلى البيت فلم أجد الطعام جاهزاً فسألت عن السبب فقالت مولاتي: الخادمة
متمارضة وأنا لا أعرف من شغل المطبخ شيئاً. ففي بيت أهلي كان لكل عمله: لي الزينة والنزهات، وللطاهي الطبخ،(2/69)
وللخادمة التنظيف وما أشبه. .
فقلت: قيدنا الثانية يا سيدتي.
لم تمض مدةٌ وجاءتنا سيدة من المثريات كثيراً تلبي من الملابس الثمينة ما يدهش وعليها من الحلي ما يقدر بمئات الجنيهات وربما الألوف. فأخذت سيدتي تسألها عن هذا وذاك وهي معجبة مفتونة وأنا أقول: سؤالها من قبيل حب المعرفة بالشيء ولا الجهل به فقد أكد لي أهلها أنها لا تنظر إلى الأكبر منها. ذهبت الزائرة الكريمة وإذا بسيدتي تقول: ما أجمل حلقها سألت لك عن البائع فهو زيفي تعال ننزل ونشتر مثله. . . فدهشت وقلت: ولكن. .
لا لزوم إلى لكن. . أنا أعلم أن المبلغ ليس متوفراً كله معك الآن فندفع قسماً ونعطي وصلاً بالباقي فندفعه بعد سنة.
أمرك سيدتي. ولكن اسمحي لي أن أقيد الثالثة.
قيد ما تريد بشرط أن نشتري الحلق وانظر كم أنا حريصة: ما طلبت غير الحلق وتجاوزت عن المشبك وعن أسورة الماس وغيرها من الحلي.
أشكر لك تجاوزك وحرصك يا سيدتي: ثم رزقنا طفلاً صغيراً وبعد أن مننتني سيدني ما شاءت بسبب هذا المولود حسبت أنها تغير شيئاً من خصالها فتنبته إلى المنزل وتصبح حريصة حباً بولدها فضلاً عن اعتقادي أنها ستحرص عليه حرصها على عينيها السوداوين وما كان أشد دهشي حين طلبت حالاً مرضعاً. فقلت ولكن المرضع لا تنتبه إلى الولد(2/70)
فقالت: شيء مضحك. وهل تريد أن أنهك جسمي. لا لا. أحضر المرضع حالاً. أما يكفيك أني أعطيتك ولداً. آه منكم يا رجال.
فقيدنا الرابعة.
جاء دور تسمية المولود. فسألتها عن الاسم الذي تريده قالت ويلهلم فيكون سمي امبراطور ألمانيا.
قلت: يا سيدتي أنا عربي وابن عربي وأحب أن اسمي ابني اسماً عربياً. أيكون اسمي حسون واسم ابني ويلهلم.
فضحكت مولاتي مني ومن اسمي وقالت ومن قال لك أني لم افتكر بتغيير اسمك. يجب أن
تسمي نفسك: إدجار فقلت: سمي ابنك كما تريدين واسمحي لي أن أبقي اسمي كما هو: بعد ها لكيرة جبة حمرا. هذا قليل من كثير مما جرى لنا وعندي زيادة للمستزيد.
فرأيت أن دوام الحال على هذا المنوال من المحال فأخذت اسعى بتحسين الحالة رويداً رويداً متربصاً الفرص السانحة الملائمة إلى أن أصبحت سيدتي اليوم من خيرة العقيلات رأياً وتدبيراً وحرصاً وطبخاً إلى آخر ما يلزم من الأعمال البيتية. .
وقد قرأت عليها ما تقدم وولدنا أمامنا يصغي باندهاش عمره خمس سنين فتبسمت وقالت: حقاً أن المرأة تجهل الحال المحزنة التي تكون فيها حتى تتغير فحينئذٍ ترى الفرق الهائل بين ما هي وبين ما يجب أن تكون فكم أنا مديونة لك يا عزيزي. . .(2/71)
الحيدرية
1 - لمعة عامة في أهل هذا البيت في الزوراء بيت شريف المحتد، عريق النسب، كثير العلماء، شهير بالفضلاء والأدباء، اسمه بيت الحيدرية وأول من نبه منهم الجد الأعلى الشريف أحمد الأعرابي وكان من بادية الحجاز فتحضر في المدينة فأصبح من أكابرها المعدودين وممن يشار غليه بالبنان. ويتصل نسبه بموسى الكاظم.
وقد هاجر بعض من سلالته إلى العراق والبعض الآخر إلى بلاد ما وراء النهر. فالذين احتلوا العراق جاؤوه أيضاً من بلاد وراء النهر وكان أول نزولهم في البصرة فأقاموا فيها معززين وما أبطأوا أن غدوا من سادتها العظام ورؤسائها الفخام يأخذون جزية اليهود والنصارى والصائبة الذين كانوا في تلك الحاضرة. ثم أبدلت الجزية بدراهم معينة في عهد السيد عبد الغفور الحيدري مفتي الشافعية في بغداد. وكان يتقاضاها من خزينة البصرة. وكان لهؤلاء السادة عدة قرى في جوار بغداد مثل شهربان وهبب وشروين وغيرها. ونحو ثلاثين قرية في نواحي شهرزور وذلك من عهد السلطان سليمان خان الذي ملك من سنة 1520 - 1566 م إلى أيام السلطان عبد المجيد 1839 - 1861. وأما اليوم فإن السادة الحيدرية وأن كانوا أغنياء ولهم أراضٍ كثيرة بيد أنهم لا يضارعون أجدادهم بوفرة حطام الدنيا.
وكان إفناء الحنفية والشافعية في دار السلام منحصراً في السلالة(2/72)
الحيدرية قبل وقوع طاعون بغداد الجارف الذي اجتاح المدينة سنة 1247هـ - 1831 م. ثم انحصر بهم إفتاء الشافعية فقط. وجميع إجازات علماء العراق تنتهي إلى الحيدرية وتنتمي إليهم. بل وبعض إجازات بلاد الروم أيضاً أي آسية الصغرى تنتمي إلى أحمد بن حيدر صاحب المحاكمات الشهير.
وأما الذين ظعنوا إلى ديار ما وراء النهر فإنهم أصبحوا هناك أيضاً من امرائها العظام وفضلائها الكرام، بل نشأ منهم الدولة الصفوية في الديار الفارسية. واتصال هذه الدولة بالحيدرية يرتقي إلى الشيخ صدر الدين بن القطب الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحاق. وكان الصفوية على مذهب أجدادهم مذهب السنة والجماعة. ثم تشيعوا وأول من عدل عن سنة آبائه وزاغ عنها إسماعيل شاه الصفوري. وذلك أن واحداً من أصحاب هذا المذهب نفث في صدره أنه إذا تشيع هو وعساكره يقهر عدوه السني السلطان سليم خان ويورده
حياض الخاسرين الخاسئين. ففعل، إلا أن الواقع لم يحقق ما كان في النفس من الأمنية.
قال السيد إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري، وهو الذي أخذنا عنه معظم أنبائنا وأفاداتنا: إن الشيخ صفي الدين رأى في المنام أن قد خرج من يده اليمين نور امتد إلى عنان السماء. ومن يده اليسرى كلب فلما أفاق قصّ الرؤيا على أحد المعبرين. فأول النور بأنهُ سيكون له ولد يتناسل منه العلماء إلى انقراض الدنيا. وأما الكلب فإنهُ سيولد له ولد يتناسل منه أناس خوارج عن جادة الكتاب والسنة والجماعة. وقد(2/73)
وقع ذلك لأن الحيدرية من لدن صفي الدين إلى يومنا هذا ولله الحمد لم تنقطع العلماء منهم. بل ورثوا العلم عن أب وجدٍ. ولا فخر. وأسأل الله تعالى أن يمد ذلك إلى قيام الساعة كما أول ذلك. والملوك الصفوية ارتدوا على أعقابهم وترفضوا وتركوا مذاهب آبائهم أهل السنة والجماعة. فنعم الجدود. ولكن بئس ما خلفوا انتهى كلامه بخرفه.
هذا كله من جهة النسب إلى الأب الأعلى. وأما من جهة الأم فإن السلطان حسن الأيلخاني المعروف بسلطان حسن الطويل أو الشيخ حسن الكبير الذي ملك بغداد وآمد ديار بكر وخراسان ونواحيها كان فرعاً من هذه الدوحة العريقة في الشرف وقد توفي الأمير المذكور سنة 757 هـ=135م.
2 - أسعد صدر الدين الحيدري إذا وعيت ما قرأت ثبت لديك أن هذا البيت بل الأولى هذه الدوحة كثيرة الفروع والأفنان وشيجة العروق متشعبة الأغصان، والأحاطة بمن نبغ من رجالها من الصعب العسر الحصول عليه. إلا أننا نذكر بعض من اشتهر ذكره في العراق وامتد صيتهُ إلى أبعد الآفاق. فمنهم أسعد صدر الدين مفتي الحنفية ببغداد وهو ابن العلامة عبد الله الحيدري البغدادي وكان من الرجال الدُهاة. وكبار الرواة. ذا هيبة ووقارٍ. وجاه كبارٍ. نال من القبول والكلمة النافذة بين العباد. ما جعله بين أول مستشاري ولاة بغداد. ودرس العلوم العقلية والنقلية أربعين سنة متوالية وعاش حتى ناهز عمره الثمانين من الأعوام. وأخذ عنه العلم عدة علماء أعلام، منهم: العلامة الكبير والوزير الخطير(2/74)
والي بغداد الشهير داود باشا فإنهُ لازمهُ قبل الوزارة سبع عشرة سنة وقرأ عليه المعقول والمنقول حتى فاق أقرانهُ. ومما يؤسف له أننا لم نستطع أن نتوفق إلى العثور على تاريخ ولادته ولا على سنة وفاته.
وأما تأليفه فمنها: 1: حاشية على تحفة المحتاج للشيخ العلامة ابن حجر الهيتمي المكي. حاكم فيها بين المحشين على التحفة. جمع فيها وحقق وأوعى. 2: حاشية على المحقق عبد الحكيم الهندي علي الخيالي. 3: حواشيه على حاشية العلامة اللقاني المصري على شرح الغزي للتفتازاني في علم الاشتقاق. 4: حواشيه على حاشية القرباغي في المنطق. 5: حواشيه على حاشية العلامة الطحطاوي على الدر المختار. 6: شرحه على اللغز البهائي المشتمل على علوم شتى. وغير ذلك من التعاليق والحواشي المفيدة المختلفة ولكن لم نقف له على شعر منظوم ولا على كتب تاريخية ولا على مصنفات رياضية أو ما ضاهي هذه الأبحاث العقلية أو الأدبية أو اللغوية.
3 - صبغة الله الحيدري ولد صبغة الله بن إبراهيم الحيدري في قرية ماوران ورحل إلى بغداد في صباهُ فاستوطنها وهو شيخ مشايخ علماء بغداد في عصره وقد أخذ عنه العلم جميع معاصريه في الموصل وبغداد وما بينهما. وكانت وفاته في بغداد في طاعون سنة 1187 هـ=1773م.
وممن نبغي من أولاده الملا عيسى فإنه كان فاضلاً أديباً تلقى العلوم عن أبيه صبغة الله فبرع فيها ولما سافر إلى بغداد أمين العمري قرأ عليه واستفاد منه كثيراً. وتوفي قبل أبيه ونبغ أيضاً ابنه الآخر حيدر مفتي(2/75)
بغداد وعالمها أخذ العلم عن أبيه ففاق اقرأنه وذويه، أقام بالإفتاء مدة طويلة في حياة والده إلى أن توفي بطاعون بغداد سنة 1187 هـ=1773 م.
وممن أخذ عنه المعقول والمنقول: أمين العمري. ومن قبله شيخهُ السيد موسى الحدادي الموصلي والعلامة الملا جرجس الأربلي والملا حمد الجميلي وخير الله العمري. وغيرهم.
ومن تآليفه: 1: حاشيته علي البيضاوي. حواشيه على حواشي المدقق عصام الدين على شرح الكافية للجامي. 3: حواشيه على الحاشية المسماة بالمحاكمات على العقائد الدوانية لجده العلامة أحمد بن حيدر. 4: حواشيه على الكتب الحكمية الصعبة المأخذ.
4 - إبراهيم بن حيدر هو والد صبغة الله المتقدم ذكره. ولم نقف على سنة ولادته ولا على عام وفاته. وله تآليف جمة. منها: 1: حاشية على تحفة المحتاج لابن حجر المكي. 2: شرح الزوراء للدواني. 3: الإلهامات الربانية وهو سفر جليل يتناول كل بحث وفن. ويسميه بعضهم الملهمات واسمه يدل على فحواه لأنه يحوي خواطر في مختلف العلوم. 4:
شرح بانت سعاد. 5: تفسير القرآن في مجلدين. 6: شرح تشريح الأفلاك في الهيئة. 7: الحاشية الدقيقة على حاشية لحاشية قول أحمد علي الفناري في المنطق. 8: الحاشية على حاشية الوغ بيك على شرح المسعودي في آداب البحث. 9: حاشية على حاشية المحقق ميرزا خان على حاشية السيد السند على شرح المطالع في المنطق. 10: حاشية على الجوامع في أصول الفقه. 11: حاشية على شرح عصام الدين على رسالة البيان. 12: حاشية(2/76)
على الكواكب الدرية في القواعد الجفرية. وغير ذلك من الحواشي بل الغواشي التي ليس تحت إيرادها بل ومطالعتها فائدة جزيلة إذ هي على الحقيقة عقبات تصد المطالع عن الوقوف على الحقيقة مثل كتابه: حاشية على حاشية عبد الحكيم الهندي على شرح الشمسية في المطق.
5 - الشيخ حيدر بن أحمد هو والد إبراهيم المار ذكره. ولا نعرف أيضاً يوم ميلاده ولا يوم رحيله. وكان أيضاً من أساطين العلم المعدودين في وقته: قال عصام الدين عثمان العمري الموصلي في كتابه الروض النضر في ترجمة أدباء العصر وهو كتاب خطي موجود في دير مبعثنا العراقي ما نصه: نشر ألوية التدريس في قرية ماوان. فقصدته رجال التحصيل من كل مكان. والتفت إلى الإفادة عرضاً. فأزحمت الفضائل بعضها بعضاً. فقصدوه من سائر البلدان. ومن خراسان وطخارستان. والعجم وداغستان. وصنف وأفاد. وملأ بتأليفاته الأقطار والبلاد. فحاز المعالي. واستخدام الأحرار والموالي. وتفرد في فنونه. حتى نزل من جسد الفضل منزلة عيونه وقبره تحت قلعة إربل يزار. إذا كان عليه الحول في المكارم والمدار.
وله من التآليف: 1: حاشية على شرح مختصر المنتهى في أصول الفقة. 2: حاشية على شرح التجريد في علم الكلام. 3: حاشية على شرح حكمة العين في الحكمة. 4: حاشية على حاشية اللاري على شرح القاضي الرومي على الهداية في الحكمة. 5: حاشية على شرح العقائد العضدية للدواني. 6: حاشية على حاشية الخيالي على شرح العقائد(2/77)
النسفية للتفتازاني. 7: حاشية على أشكال التأسيس في الهندسة. 8: حاشية على شرح عصام الدين على الرسالة العضدية. 9: حاشية على إثبات الواجب. وغيرها من هذا الطرز الذي يضيع فيه الزمان إذا أوردنا أسماءها. وكأن تأليف الحواشي على الحواشي على الشروح على
الشروح على الشروح من مزايا هذا البيت.
6 - أحمد بن حيدر هو والد الشيخ حيدر المذكور وسنو ولادته ووفاته مجهولة أيضاً لم نقف عليها مع ما بأيدينا من كتب الحيدرية الخطية. ومن تآليفه: 1: حاشية على شرح العقائد الدوانية المشهورة باسم المحاكمات لأنه حاكم فيها بين جميع الحواشي الواقعة على الشرح المذكور. وصارت جادة تقرأ عند التكميل في الديار العراقية وغير ذلك من البلاد العربية بل وفي البلاد الهندية أيضاً من متعلمي اللغة الضادية. 2: كتاب رد الرافضة. 3: كتاب إثبات غسل الرجلين في الوضوء وأبطال المسح. 4: رسالة كبيرة في تفسير هذه الآية: [الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ] 5: حاشية على الشفاء في علم الحكمة لابن سينا. وقد استشهد المؤلف في تأليفه هذا بالفاضل العلامة عبد الحكيم السيالكوتي الهندي وكانا قد تعارفا في إحدى السفن البحرية في أثناء السفر وأهدى أحمد الحيدري نسخةً من كتاب المحاكمات إلى صديقة السيالكوتي وهذا أهدى إليه كتاب المطول بخط مؤلفه العلامة التفتازاني مع حاشيته عليه بخطه. والحاشية على المطول الذي أهداها السيالكوتي إلى الحيدري هي أول نسخة وصلت إلى الديار العراقية.(2/78)
7 - حيدر بن محمد الصفوي هو والد أحمد السابق ذكره. وكان أيضاً من العلماء العاملين وله حاشية عظيمة على تحفة ابن حجر وكان مفتي الشافعية في خطة العراق ترجع إليه فحول العلماء في الفتوى وكان يدعى في العراق بابن حجر الثاني وكان معاصراً له.
8 - محمد بن حيدر بير الحيدري هو والد أحمد المشار إليه. وله حاشية على إثبات الواجب. وهو أول الواردين من ديار ما وراء النهر إلى العراق وقد نشر فيه العلوم العقلية والنقلية وتلقتهُ العلماء بالتعظيم وأخذوا عنه الحقائق العلمية وكان يتكلم باللغة التركية الجغطائية. وولد ابنه حيدر المذكور آنفاً في العراق من امرأة تزوجها من الطائفة الباشورية من أولاد عبد الله بن عمر بن الخطاب وهم أيضاً بيت علم وفضل وجاهٍ أقدم أهل العلم وغيرهم في العراق لأن جدهم أتى العراق من زمن أبيهم الأكبر عبد الله بن عمر بن الخطاب.
9 - حيدر بير الدين 10 - الشيخ أمين الدين وأخذه العلم عن آبائه بالتسلسل ونسبهُ الأعلى.
ونختم مقالتنا هذه بكلام السيد إبراهيم فصيح الحيدري تتمة لما أتينا بذكره قال: ووالد محمد العلامة المشار إليه هو الشيخ العلامة المرشد الكامل حيدر بير الدين بن أمين الدين له خوارق عظيمة وقد جمع بين علم الظاهر والباطن.
ووالد هذا العلامة المرشد المشار إليه الكامل الشيخ أمين الدين له كرامات وخوارق عجيبة جمع علم الظاهر والباطن. وكل واحد من هؤلاء(2/79)
الرجال العظام أخذ العلم عن أبيه وكمل عليه إلا أحمد بن حيدر صاحب المحاكمات فإنه أخذ عن أبيه العلوم النقلية وبعض العقلية وأخذ عن غيره بعض العقلية وسمع الحديث عن عبد الملك العصامي عن الشيخ ابن حجر المكي كما هو مذكور في ثبته.
وأخذ جدنا محمد العلم والطريقة عن أبيه بير الدين عن أبيه العلامة إبراهيم برهان الدين عن أبيه المرشد الكامل الشيخ صدر الدين عن أبيه سلطان المشايخ الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحاق عن القطب الشيخ أحمد أخي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.
وأخذ جدنا صفي الدين أيضاً عن أبيه الشيخ أمين الدين عن والده العلامة المرشد الشيخ قطب الدين عن والده العلامة الحافظ المرشد الشيخ صلاح الدين رشيد عن والده العلامة الولي الكبير فيروز شاه عن أبيه الولي الكبير محمد شاه عن أبيه الولي المرشد الكامل شرف شاه عن أبيه الشيخ محمد عن أبيه الولي الجليل الشيخ إبراهيم الملقب بالأذهم عن أبيه الشيخ جعفر عن أبيه الشيخ محمد عن أبيه الشيخ إسماعيل عن أبيه المحدث الحافظ أحمد الإعرابي عن أبيه المحدث الحافظ الشيخ محمد عن أبيه الإمام أبي محمد القاسم عن أبيه الإمام أبي القاسم حمزة عن أبيه الإمام الهمام موسى الكاظم عن أبيه الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر عن أبيه الإمام زين العابدين عن أبيه الإمام الشهيد السيد شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة أبي عبد الله الحسين عن أبيه الإمام والبطل الضرغام(2/80)
أسد الله الغالب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين عن سيد المرسلين وأفضل العالمين ابن عمه محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فلله الحمد على هذا النسب العالي ولا ترى نسباً كنسب الحيدرية في أخذ كل عن أبيه وهو من عجيب الاتفاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
بغداد
ساتسنا
الجرائد والمجلات في مصر
يؤخذ من التقرير الأخير الذي أصدرتهُ مصلحة البوستة المصرية أن عدد الجرائد في مصر قد هبط في سنة 1910 المنصرمة من 144 جريدة ومجلة إلى 124.
وكان أكثر النقصان في الصحف العربية فإن 16 جريدة منها احتجبت ولم يحتجب من الصحف الإفرنجية سوى جريدتين.
وفي مصر 29 جريدة عربية سياسية، و41 جريدة أفرنكية سياسية و4 جرائد شرقية غير عربية، و17 مجلة علمية وأدبية وصناعية عربية و9 أفرنجية، وجريدة هزلية عربية، و3 مجلات قضائية عربية، ومجلة واحدة أفرنجية، وثلاث مجلات طبية عربية، ومجلتان أفرنجيتان، و9 مجلات عربية دينية، ومجلتان أفرنجيتان، ومجلتان عربيتان نسائيتان ومجلة أفرنجية ومن هذه الجرائد 80 تصدر في مصر و37 في الإسكندرية و3 في بورسعيد و3 في طنطا وواحدة في أسيوط.(2/81)
في جنائن الغرب
نشرنا حتى الآن تحت هذا العنوان بعض مختارات من كتابات مشاهير أدباء الغرب، وقد أحببنا اليوم أن نأخذ صفحة عن اللغة التركية وهي مرصعة بالمعاني النفيسة:
الابتسامة
الابتسامة هي علامة الابتهاج، وبشيرة الأرواح الحساسة.
الابتسامة عدوة لجيوش الهموم تهاجمها فتمزق شملها شذر مذر
الابتسامة مرآة الباطن، الابتسامة لسان القلب
كل شي في الكون ابتسامة
الابتسامة، واسطة فعالة تجعل العدو صديقاً
الابتسامة، دواء القلوب المنكسرة
الابتسامة، سبب لتعارف القلوب
الابتسامة، أمضى سلاح للنساء
رب ابتسامة ينكسر بها القلب، وابتسامة ينجبر بها، وابتسامة تلتئم بها القلوب المنكسرة.
الابتسامة موهبة إلهية يتفجر منها ينبوع السعادة لكافة البشر في لمعان البروق، ورعد الصواعق وخرير المياه، وتغريد الطيور، ابتسامة. النور، والضوء، واللون، والجمال، والروض، والربيع، والورد وروض الورد - كلها ابتسامة.
جميع الكائنات تبتسم، السحر بنسيمه، والصباح بفجره، والشمس(2/82)
بطلوعها والمساء بشفقه، والليل بضوء قمره، ولمعان بحومه، والشبوبية بنضارتها، والشيبة ببياضها، والسماء بأمطارها، والأرض بمراعيها، والكلام بمعناه، والنظر بغمزه، والغناء بوزنه، والموسيقى بتوافق ألحانها تبتسم المسرة لانخداعنا بها، والمشقة لانتقامها منا.
يبتسم المرء باختلاف الأحوال الطارئة عليه في زمن التحقير، ووقت التبشير وحيثما يقع بمصيبة، وعندما يسر، وفي الحزن واليأس والأمل والمحنة والظفر.
ضحك الأطفال كنغمات البلابل، وضحك النساء كرائحة الرياض العطرة، وضحك الرجال كأصوات الصواعق إذ في ضحك الأطفال عصمة، وفي ضحك النساء شفقة، وفي ضحك الرجال عزم وثبات.
الابتسامة، هي التي تستقبل الآتين إلى عالم الوجود وهي التي تودع الراحلين إلى عالم البقاء.
فالعالم هو الذي يجعل حياته ابتساماً وضحكاً ويبتعد عن أراقه دمعة في زمانه الضحوك المبتسم.
فيسكن في البيت الضحوك، ويشارك في حياته من تضحك وتبتسم، ويتخذ أحباء يضحكون، ويمضي سحابة حياته في الضحك والابتسام.
الطالب البائس
ذكرنا كلمة في العدد الماضي عن المرحوم محمد أمام العبد الشاعر البائس الذي كان يقول أن سواد جلده حداد على حظه. وقد أحببنا أن ننقل إلى قرائنا شيئاً(2/83)
من نثره، وهو كلام له في البؤس والبائسين، قال:
خرجت ذات ليلة من داري وأنا بين الهم والغم، وفي صدري من الأشجان ما في قلبي من الأحزان، فضربتُ في الطريق من غير صديق. اللهم إلا نفس يتردد، وحزن يتجدد، فما زلت كذلك حتى اكتنفني التعب، وغلب علي النصب. وكنت على مدى النظر من الجزيرة فرأيت أن أكون فوق الجهد، لأدني مسافة البعد، فصدقت. عزيمتي بعد جهاد، وبلغت اربتي أو كدت أكاد، وما هي إلا خطرة مرت مر النسيم، تحت سجن الليل البهيم، حتى بصرت بظل يسرع في مشيته، وكأني به يقاضي الأقدار في محنته، ولما أمسى مني حيث أمسيت منه، تسرب إلى نفسي أن أقف منه على نفسه لأن البائس يميل إلى البائس، واليائس يحن إلى اليائس. والوجوه صحيفة لما تخفيه السرائر أو تضن به الضمائر. فألقيت عليه تحيتي فأردفها بأحسن منها، ثم جعلت له إلى الحديث سبيلاً فتمشى الحزن في صدره حتى كدت أحس به في صدري، وأسبل من جفونه دموعاً في كل دمعة لؤلؤة بيضاء ترى على خده ياقوتة حمراء كأنها بنت الشفق، في ذلك الغسق.
فقلت له: ما شأنك يا بني؟ وما أمر الجائحة التي نزلت بك؟
فقال لي بصوت لا يسمعهُ إلا من أراد أن يتسمع: إنني ولدت في يومٍ أخذ صباحه بمسائه، وذهب ظلام بضيائه. فتوفي والدي قبل عقد التمائم، فأسلمتني الأقدار إلى أم حنون لا تملك من المال غير ما يغني عن السؤال، وكانت تلك الأم الكيسة تعمل صباح مساء في بيت(2/84)
وحدتها أو دار هجرتها، وكنت أنا في ذلك العهد من طلاب العلم في المدرسة.
فما قنعت الأقدار بفعلتها الأولى، بل نزلت علينا في ليلة اختلفت أجرامها وتنكرت نجومها، وكثرت همومها، ولم تزل بنا حتى أصابت والدتي بعلة طوتها في لحدها، واسقمتني من بعدها. فلم أجد من يقوم بتربيتي من بني الإنسان في هذا الزمان بعد ما أبعدتني المدرسة عن مناهل العلم وتركتني أتلمس نصيراً من الوهم.
وأنا الآن لا أملك غير نفس أبي اليأس أن يبتعد عنها قيد شبر، وفؤاد أصبح غرضاً لسهام الدهر. فامتعضت قليلاً وقلت في نفسي أما آن للأغنياء أن تساعد زمرة الفقراء؟ رب أن
ناظر المعارف أولى الناس بإجابة هذا النداء. فإن لم يكن كذلك فقد ضاقت المسالك، والأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
محمد أمام العبد
رثاء إمام
وقد أرسل إلينا الأدباء مراثيهم يندبون فيها زميلهم وصديقهم العبد، فلم نتمكن من نشرها سيما وقد عزم حضرة عز الدين أفندي صالح علي جمع مختارات إمام مع أقوال لأدباء فيه. فلترسل إليه في الإسكندرية (بوستة ثابتة). غير أننا ننشر الأبيات الآتية التي جاءتنا مت عزتا وإبراهيم بك العرب، وفيها خير وصف لحالة الأدباء:
يا إمام القريض بالشعر تُرثى ... وقليلٌ على الإمام الرثاءُ
ما وفى بالوفاء فيك خليلاً ... أين مني ومن حليل وفاءُ(2/85)
ليتني عندما أحببت نداء الله ... أخبرتُ حين جاء النداءُ
كنت أوفى عهداً وأرعى إِخاءً ... أن مثلي لديه يُرعى الإخاءُ
شغلتني عنك الشؤونُ ببعدٍ ... علم الله ليسَ فيهِ جفاءُ
تعبٌ كلها الحياةُ لعمري ... وعناءٌ لا ينتهي وشقاءُ
عشتَ في الدهر تشتكي ألم البؤ ... س وحظُّ الأديب ذاك البلاءُ
هكذا هكذا الأفاضل تشقى ... في حياةٍ وتسعد الجهلاءُ
أن حظَّ الأديب أضيقُ حظٍ ... حُسبَ الفضل قسطه والذكاءُ
فإذا عاش فالهجاء نصيبٌ ... وإذا مات فالرثاءُ الثناءُ
كل من مات ظامئاً لم يفدهُ ... أنهُ بعده يفيض الماءُ
أو يجدي المدفونَ عمران قبرٍ ... فيهِ جسمٌ عليهِ يجري الفناءُ
ليس للمرءِ في الحياة سوى يو ... م سرورٍ يطيب فيهِ الهناءُ
إنَّ هذي الحياةَ من عاشَ فيها ... ألفَ عام أو ساعةً فسواءُ
فحياةُ الأديب داءٌ عضال ... وممات الأديب نعم الدواءُ
العرب
أنا قاتل عصفوري
في فجر يوم من أيام الربيع، بكرت إلى رواق من منزلي في وسط سهل يقبع، يشرف على حديقة غناء، ومروج ملونة بين خضراء وحمراء وصفراء.
جلست إلى تلك المناظر البديعة، الجامعة بين اعتدال الطقس(2/86)
وسكون الطبيعة، أروح النفس في فضاء أرجائها، واملأ العين من بديع بهائها، ولم تكن الغزالة بعد أرسلت أشعتها أو بأن سماطها، وقد أخذت الطيور تغادر أعشائها وأوكارها، وترسل في الفضاء الهادئ شجي أصواتها، ما بين هديلٍ وسقسقة، وسجعٍ وقطقطة، فكان من مجموع تلك الأصوات الرخيمة العذبة، ذات الألحان الشجية، جوقة موسيقية، ألفتها القدرة الألهية، لعبادته سبحانهُ وتوحيده، ولقنتها الكائنات شكرها له على سوابع نعمه وللاستزادة من رحمته وجوده.
وأنا في ذلك الاستطراد من حالٍ إلى حال، ما بين مشاهدة الطبيعة وركوب الخيال، حط بي الطوف عند كناريين، متماثلين في حسن الحلية وجمال المنظر متحاكيين، يتداعبان فوق غصنٍ وهو يميل تحتهما أو يختلج ويضطرب، كما شاء أو شاء لهما الحب واللعب، ثم يعود فيتثنى أو يستقيم، كأنه راحة بسطتها الطبيعة إليهما للتسليم، أو ذراع تهدهدهما به تهدهد الأم لابنها الفطيم على سماع نوس هبات النسيم.
أقر هذا المشهد ناظري، وبدا لي التأمل فأخذت أتأملهما والسرور آخذ بعطفي، ذلك والعصفوران في مداعبة وطفر، وكر ومفرّ، هذا يجثم، وذاك ينقز أو يدوم، هذا يرفرف حول ذاك أو يزف، وذاك يدف هرباً من هذا أو يسف، ثم يهفان إلى الأرض يمرحان ويتلبدان، ويعودان إلى الغصن يجتمعان.
شاهدت ذلك مبهور النظر طروب السمع، فهبت بي عاطفة الاستئثار والميل إلى الجشع، فمددت لذينيك المتحابين السعيدين شركاً(2/87)
اصطادهما به، حتى كان صباح الغد وافيت الشرك فرأيت أحدهما فيه.
مضى الربيع وتلاه الصيف وأعقبه الشتاء، والعصفور ملكي أفعل به ما أشاء، وقد حبستهُ في قفصٍ ذي صنع بديع محكم البنيان، وشكل جميل بهي الألوان، وكنت أتعهده بكل صنف تمكنت من جلبه من صنوف مطعم البغثان، ولكن العصفور كان قليل الأكل مقهم الشهوة، نادر الاستحساء نزر النغبة، وكان كلما ازددت به اعتناءً واهتماماً، ازداد مني نفوراً واعتصاماً، أو جئت أستميله تململ وتلوى، وكأنه يشكو جراحاً بالحشى أو أنه كره مقامه
واجتوى.
انقضى فصل الشتاء وأنا أعالج نفرته ووحشته، وأراود سآمته وكأبته، وأخذت لذلك بجميع أسباب رفاهية الطيور وراحتها، واحتلت بصنوف الحيل التي تؤدي إلى استمالتها، فلم يكن ما يستمال به ويرضيه، أو يحفف من زهده في حياته ويسليه على يأسه من تحقيق أمانيه.
جاء الربيع وأخذت الكائنات المرئية تتحلى بحلاها البهية، والطبيعة تعرض مصنوعاتها السنية، قمن زهرٍ تبسم عن ثغره، وشجر جاد بثمره، ونسيم سرى بنسماتِه، وجدول جرى هادئ في منعرجاته، وبرزت الطيور من مكامنها، وعادت تصدح على أفنانها، ولكن طيري لم يشترك مع بني جنسه في أفراحهم ومسراتهم، كأنه لم يكن منهم وهو بعيد عنهم وعن مختلفاتهم، حتى كان صباح يوم وأنا في شغلٍ شاغل، طرق أذني صدح شجيٌ متواشل، فأسرعت مستبشراً فرحاً إلى وجهة مصدره، استعلم عن مرسله وأتحقق صدق خبره، فألفيت كناري(2/88)
مضطرباً هائجاً في قفصه يروح ويجيء لا يستقر، وقد عاينته في مجيئه ورواحه ملازماً جانباً واحداً من قفصه، وناظراً صوباً واحداً لا يحيد عنه حدقة بصره، فاتجهت وجهته انظر فرأيت على زجاج النافذة المطبق، كنارياً آخر قد انشب مخالبهُ في الأفريز منه وتعلق، وناءى بجؤجؤه فارشاً جناحيه على الزجاج، وقد فتح منقاره يلهث تعباً مع اضطراب في الجسم واختلاج، وهو يحدُج إلي حيناً ويحدق إلى العصغور السجين حيناً، ويتبادل معه صدحات متقاطعة متداركة متواصلة مملوؤة حناناً وحنيناً. كأنها أُحاح مكروب مكدود، أو همهمة مصدور مفؤود، طال عليها العهد، ولم يقو على حبسها عن النفث بها منه جهد، فأرسلها رنيناً ثم أدركها نادماً وأراد إخفاءها أو ملاشاتها بين جوانحه فتراجعت مترددة في فيه مسممةً لها في قفص الضلوع منه هنيناً.
نظرت وسمعت فحرت في أمري، وبقيت لا أعي فعلاً آتيه ولا أدري، وفي هذا الحين وقف العصفور المحبوس بغتة وأرسل صوتاً ليس بالصدح المألوف، ولا بالتغريد المعروف، وإذا هو كرير صدرٍ مثقل بالغموم، وتأوه فؤاد مكلوم، زفر به صاحبه زفيراً، مد به النفس حيناً فكان شجياً مثيراً، ثم رمى به فإذا هو بقية روح كان الأمل قد حبسها عند حد التراقي، ودفع بها اليأس فغادرت صاحبها قتيل الاستبداد والاسترقاق
ملكتُ جسمه وحياته ولم أملك فؤاده وعواطفه وهو الحر الكريم فكنت قاتله
أيها المستبدون اتقوا الله في خلائقه وعباده
فيليب مخلوف(2/89)
في رياض الشعر
الأخوان الشاعران
في سورية اليوم أخوان شاعران، بل بلبلان مطربان، تكفي الإشارة إليهما، لمعرفة اسميهما، وهما تامر بك وشبلي بك ملاط، ينشدان من على قمم لبنان قصائدهما المرقصة، فيرنُّ صداها في كل بلاد العرب. أصاب كبيرهما مرضٌ في عقله إثر حوادث سياسية لا مجال لذكرها الآن. فبات يهيم على وجهه، لا سلوى له إلا الشعر ينشده إبّان إفاقته من ذهوله. وصغيرهما شبلي بك يتولى الآن باشكتابة القلم العربي في جبل لبنان بعد أن خاض ميدان الصحافة وأنشأ جريدة(2/90)
الوطن البيروتية فكان له فيها جولات صادقة كما أن له في الشعر وسائر فنون الأدب المنزلة السامية وقد سبق لنا نشر منظومة من شعره (ص 510 من السنة الأولى) عند وجوده في مصر. وقد أحببنا الآن أن ننشر رسم الأخوين مع شيء من شعرهما:
الشاعر المريض
قال تامر بك يصف حالته في مرضه وهو كما وصف:
دعاني أجرع الغمَّا ... فجفني بالأس نمّا
وخلاّني أُصيحابي ... وسهم الغدر قد أصمى
فلم أُبصر أخاً يُرجى ... ولا خالاً ولا عمّا
وراح الحظ عن شكوا ... يَ في أذن له صمّا
وجدَّ الدهر في قهري ... يحثُّ الهمةَ الشما
رأيت الناس تخشاني ... كأني وأبئُ الحُمَّى
فلا أدري أحيّاً ب ... تُ أم ميتاً قضى ظلما
أرى بيني وبين البؤْ ... س وداً طافحاً يمَّا
أما من مفسدٍ واشٍ ... سعى بالوشي مهمّا
فخلى ودَّنا شملاً ... شتيتاً لن يرى لمّا
يميناً حار عقلي في ... حياةٍ تشبه الحلما
أرى فيها من الأضدا ... د ما يستوقف الفهما
أعاجيبٌ قضت مني ... شؤوناً بالأذى جمَّا
فبي كالضرب آلاماً ... وما من ضاربٍ همّا(2/91)
وكالتجريح أوجاعاً ... وما من جارحٍ أمَّا
وكالنيران تشوي الرو ... ح ثمَّ اللحم والعظما
ولا نارٌ ولا جمرٌ ... وما يُشعلُ الفحما
وكالأدواء أعراضاً ... تُذيب الصخرةَ الصمّا
وما من علة تُشكى ... لطبٍ يبرئُ السقما
وكالأغلال في جسمي ... ولم أحملْ به دهما
وعقلٌ ذاهلٌ ساهٍ ... سجينٌ موثقٌّ رمَّا
كأني غير موجودٍ ... وموجود قد اهتما
أراني قد أرى ريناً ... بأنف الحق قد شما
أشكُّ اليومَ بي حتى ... وجودي خلتهُ وهما
فقبلي لم يكن سجنٌ ... يعمَّ الروحَ والجسما
حبيسُ الروح عن حسٍّ ... وفكرٍ سرَّ أو غمَّا
وعن حفظٍ وعن ذكر ... وعن حكمٍ ولو مهما. . .
حبيس الفعل ثم النط ... ق لا حتى ولا أمَّا
ولا سمعٌ ولا شوق ... ولا لمس ولا شما
قوى محبوسةٌ جمعا ... ءُ مما خص أو عما
فعالٌ وانفعالاتٌ ... ولا حريةٌ ثمّا
وحسّاس جمادٌ في ... زمان واحدٍ حكما
مقود غير مختار ... كأني آلةٌ صما
إذا ما حشرةٌ أزّت ... عرتني هزّة رغما(2/92)
وإن صرّ الذباب الغثُّ ... صرّت أضلعي مما. . .
ويأتيني البكا عفواً ... ويعصيني البكا لما. . .
ولا أستطيع جذب النف ... س عن ضحكٍ بي أنتما
ولا أقوى على ضحكٍ ... إذا أميتهُ أمّا
وحال كالغني شكلاً ... بقفرٍ مدقعٍ نمَّا
رياشٌ جمة شتى ... ومالي مسّها جزما
طعامٌ شائق حلوٌ ... ولكن مرَّ لي طعما
ونوم دون تهويم ... تراه أعيني حتما
شؤون لو رواها الح ... رُّ نالت سمع من صمّا
وقالوا جِنَّةٌ عاثتْ ... بعقلي فالتوى رقما
وقالوا إنما القسي ... سُ فيه نافعٌ حسما
خرافاتٌ وأوهامٌ ... تعيب العقلَ والعلما
وقالوا إنهُ داءٌ ... لأعصابي قد انضما
ومنهم من رأى شيئاً ... ولا أكنى ولا سمى
فهذا النزرُ مما بي ... على ما استطعتهُ نظما
ولا أرتادُ للأيا ... م تمداحاً ولا ذمّا
فذا حظي من الدنيا ... فدعني لا تزدْ غمّا
تامر ملاط(2/93)
الوردة الذابلة
بسمَ الحبُّ للربيع محيّا ... فهفا القلب للهوى وتهيا
نشقةٌ من عبير أثواب ميّا ... تترك الشيخ في الغرام صبيا
وتردُّ الفتى المكفّن حيا
يا دمَ القلب فوق زهر الخدودِ ... كم معنى فدىً لها وعميدِ
وقتيل كما قتلتُ شهيد ... وشقي يشقى - وكم من بليد
يدّعيها وبالهوى يتزيا(2/94)
ما الهوى أن يكون كالزيزفون ... (خيره ما يكون كالزيتون)
مثمراًو الثمارُ فوق الغصون ... كملاح الولدان ملئ العيونِ
يتناغون بكرةً وعشيا
حول أم تذري دموع الحنان ... كلآلٍ منثورةٍ أو جمان
وأبٍ بين تلكم الغزلان ... خافق القلب حالم بالأماني
حبذا الحلم بالمنى ذهبيا
تتمشى بأهلها الأجيالُ ... فعيالٌ في أثرهنّ عيالٌ
كل ما في الوجود طيفٌ خيال ... يتراءى كما تراءى الآلُ
ثم يمضي وما يغادر فيّا
في بلاد الشام بيتٌ عالٍ ... أفسد الحسنُ فيه بعضَ الخصال
وإذا شئتَ قل جبين الجمال ... فيه قد مس حمأة الأوحال
وهوى للحضيض شيّاً فشيا
لم تصن بالعفاف عزَّ الجبين ... ربةُ البيت عن هوىً وفتونِ
فانتحى زوجها مكان الظنون ... وهي لجت تمادياً في الهونِ
فأضاعا نهج الحياة السوّيا
لست أدري ما للضلال دعاها ... ربما زوجها به أشقاها
هي تاهت لما رأته تاها ... وتباهت لما رأته تباهى
بحياةٍ ماتا بها أدبيّا
ولو أن الحسناء كانت فقيره ... ربما قال بعضهم (معذوره)(2/95)
غير أن الحسناء كانت كبيره ... بغناها وبالخصال صغيره
تستبيحُ الهوان بغياً وغيا
لم تقف قلبها عن حب واحد ... شأن من صادها على الرغم صائد
بل كما قيل أطعمت كلَّ وارد ... واستوى عندها الخلي والواجد
ونضت برقعَ الحيا علنيا
فتحامت مكانها السيداتُ ... وتجافت عنها الظبا الخفرات
والأديبات في النسا الراقيات ... طرحتها كذاك تلقى النواة
وطوتها يدُ المعرة طيا
يا ابنة التيه صحوة وأفيقي ... ودعي الكرع في فساد الرحيق
حان أن تنهجي سواء الطريق ... إن ذنباً جنيته بالعقيق
قد سرى سمه إلى سوريا
وبكت منه بنتكِ العذراءُ ... يوم قالوا كأمها (أسماءُ)
دُمية كالصباح لا أهواءُ ... ساورتها ولم يمسّ الهواءُ
من لظى خدها الدم الوردّيا
وردةٌ في منابت الشوك صلى ... من هيام لها البها وأهلاَّ
تتجلة وفي القلوب مصلى ... لهواها فيه التسابيح تتلى
ذلك الحسن كان روحانيا
ملكٌ فر من يدي رضوانِ ... ويد الخلد والنعيم الثاني
كلما لاح مائساً غصنُ بان ... أكبرت قده مهى عسفان
وأتقى الناس لحظه البابليا(2/96)
أيها الهابط التراب لتشقى ... كان أفق الجنان للحسن أبقى
بذنوب الآباء أصبحت رقا ... ليس غير الهوان والضيم يُلقى
فاهجر الأرض أو تعيش شقيا
كل ما في الرياض من أزهارِ ... كل ما في السماء من أقمار
كل هذا تلقاه عند العار ... شهب الرجم أو لهيب النار
أو ضباباً من الشقا أبديا
هفوات الجدود والآباء ... عثرات الأحفاد والأبناء
ذاك ما جاء في فم الأنبياءِ ... عن إله الشرائع الغراء
بشقاء البنين كان نبيّا. . .
بلغت بنت زينت العشرينا ... تجتني من أحلامها الياسمينا
وتشمُّ الريحان والنسرينا ... من رياض الصبا جوىً وحنينا
وتناجي سرَّ الشباب الخفيّا
طالما شادت القصورُ رجاَء ... طالما هزّها الصبا كبرياء
لست أرضى تقول إلا العلاء ... لست أرضى إلا الغنى والثراَء
لستُ أرضى إلا الفتى اللوذعيا
أنا بنت الصباح ثغراً وخدّاً ... أنا بنت الجوزاء قدراً ومجداً
قلْ لدهرٍ يروم للحسن حدّا ... إن قومي النجوم عماً وجدّا
وأبي المشتري وأمي الثريا
يا ابنةَ الصبح أنتِ بنتُ الظلامِ ... أنت بنت الأحلام والأوهام(2/97)
ليس بالوجه حلةُ الإعظام ... ليس بالحسن حلية الآرام
إن يكن منبتُ الجمال دنيا
قد يكون الجمال سعداً ونحسا ... قد يكون الجمال ليلاً وشمسا
فاقرائي من جمال أمك طرسا ... تعلمي أن دون عرسك رمسا
جاده وابلُ الشقاءِ سخيا
أنت لم تذنبي إلى الناس ذنبا ... أنت أنقى من مدمع الصب قلبا
لكن الكون ظالم فهو يأبى ... أن يبرّيك كارهاً أو محبا
أو يرى ثوبك النقيّ نقيا
خرجت بنت زينبٍ للخلاءِ ... في أصيل مفضض الزرقاء
حيث كانت معاشر الأغنياء ... تتلاقى قبيلَ كل مساء
تنشق الريح والهوا البحريا
فاشرأبت من دونها الأعناقُ ... وتمشت لوجهها الأشواقُ
وسعت إثر خطوها الأحداقُ ... فتراءوا كأنهم عشاقُ
عبدوا ذلك البها الملكيا
ذاك حيث انثنت شكا وتوجد ... ذاك أن لاح ثوبها يتنهدْ
ذاك يبدي أشايراً لا تحمد. . . ... أبهذا يا قوم مرقى ومصعد
للمسمى تمدناً غربيا؟
أين تلك الشمائل العربيه ... أين تلك الشهامة الشرقيه
أين تلك النفوس وهي أبيه ... أين تلك الأبصار وهي حييه
رحم الله مجدنا الشرقيا!!!(2/98)
وقت كانت أسما تجيء وتذهب ... سمعت قائلاً بها يتريب
إن أسما لو لم تكن بنتَ زينب ... قارنت في الفتيان حراً مهذّبْ
من كرام العيال شهماً غنيّا
كلمات رنت بأسماع أسما ... رنة السهم أو أشد وأصمى
وردت سرّ أمها والمعمى ... من حياة كانت بلاءً وظلما
لفتاةٍ لم تأتِ أمراً فريّا
صغرت نفسها هواناً وذلاّ ... وامّحى ظلُّ عجبها واضمحلاّ
لحظةٌ لم تدع لأسماء ظلاّ ... من ليالي أحلامها البيضِ قبلا
فجرى دمعها وكان أبيّا
وسرت في العظام منها الحمى ... سرياناً راع الطبيب وهمّا
أم أسما لا كان مثلك أمّا ... ليس بالجسم داء بنتك أسما
إن في القلب داءَها المخفيا
فتواري عنها إلى الظلماتِ ... ودعيها ترجعْ إلى الجناتِ
أن تكوني شر النسا الأمهاتِ ... فهي شمس العرائس الطاهراتِ
وهي زهر الآداب طيباً وريّا. . .
بين دمع ولوعةٍ وزفير ... جثت الأمُّ قرب ذات السريرِ
وتراَءت لها أفاعي الضمير ... نازلات منهُ بمثل القبورِ
تنهش اللحم ما لعظام مرّبا
وتراءت أمامها الأشباحُ ... وضحايا الخداع والأرواحُ(2/99)
يوم كانت ولحظها السفاحُ ... دمُ قتلاه مهرقٌ ومباحُ
وهي تسقى دم الكروم هنيا
لا وفاءٌ لا عزة لا صدودُ ... لا ضمير لا ذمة لا عهودُ
لا شرفٌ ضائعٌ وكف جحود ... وفؤادٌ له الدنايا قيودُ
لم تفارقهُ يابساً وطريّا
فأحست بما جنت في صباها ... وبكت حظها دماً وبكاها
وانحنت فوق بنتها ترعاها ... وهي بالخلد شاخص ناظراها
والردى هاتف إلى القبر هيا
ربِّ قالت رفقاً بشمس حياتي ... خذ حياتي واحفظ حياة فتاتي
ما مضى فات والذي هو آتِ ... قمت فيهِ بالزهدِ والصلواتِ
وسقيت التراب من عينيا
أنا بنت الهوى وبنت الخطيه ... أنا أشقى من كل أمٍ شقيه
أنا يا رب مريم المجدلية!! ... نظرة من علاك تشفِ الصبيه
وتجدد إيماني العيسويا. . .
أمَّ أسماء فات وقت المتاب ... فاسألي للفتاة خير الثواب
والبس بعدها سواد الثياب ... واندبي الغصن ذابلاً في التراب
وصباح الشباب ليلاً دجيا. . .
ذبلت وردة الشام سقاما ... وهي ترنو إلى الحمام ابتساما
لا غرام حتى تخاف الحماما ... إن من عفَّ ليس يدري الغراما
وفؤاد الفتاة كان خليا(2/100)
لم تقل حين أومأت بالسلام ... ساعة الموت غير هذا الكلام
كل ذلي وشقوتي وسقامي ... وبلائي وما رأيت أمامي
كل هذا جنتهُ أمي عليا
شبلي ملاط
جرائد سورية ولبنان
(سبق الكلام عن الجرائد اليومية وفي العدد القادم كلام عن المجلات)
2 - الجرائد الأسبوعية
1 - المناظر: صاحبها نعوم لبكي، الكاتب المعروف في سورية ومصر والمهجر. جريدته ربنة عاقلة، تقرأ مقالاتها وأخبارها بسرورٍ وارتياح. هذا ذات مبدأ في كل مباحثها. وهي محتجبة الآن. وستظهر قريباً في لبنان.
2 - البرق (بيروت): صاحبها بشارة الخوري. الكاتب الرقيق والشاعر اللطيف. جريدته عنوان الاعتناء، ومثال الذوق والترتيب. تقرأها الشبيبة الراقية. وتخشى الحكومة اللبنانية وحزب المتصرّف سهام شواردها ورؤوس حرابها. وهي أكثر الجرائد انتشاراً.
3 - المراقب (بيروت): صاحبها جرجي شاهين عطية. كاتب عاقل. وشاعر صميم. جريدته رصينة، ولها مباحث سياسية جديرة بالاعتبار. تطربك افتتاحياتها، وتسليك رواية أسبوعها.
4 - الحرية (بيروت): صاحبها داود مجاعص. كاتب جريء(2/101)
متطرف. كثير الذكاء. قليل الاعتناء. له صيحات مشهورة قبل 24 تموز جريدته عدوة المتصرّف ومريديه. وحي محتجبة الآن لأسباب قاهرة.
5 - الوطن (بيروت): كان يومياً بعناية الشاعر المطرب شبلي بك ملاط. وقد أصبح أسبوعياً بإدارة باترو باولي. هو كاتب متطرف. له انتقادات صائبة. وملاحظات مفيدة.
6 - الحارس (بيروت): صاحبة أمين الغريّب، صاحب المهاجر سابقاً. كاتبٌ عصريّ متفنن، خلق ليكون صحافياً. يصدر جريدته مرتين في الأسبوع بحجم المناظر. له اعتناء خاص في انتقاء المواضيع والأخبار اللذيذة المسلّية.
7 - البشير (بيروت): أنشأه الآباء اليسوعيون بعد احتجاب مجلة المجمع الفاتيكاني. مديره الأب لويس معلوف الزحلي المولد. يصدر اليوم مرتين في الأسبوع وله خطة قديمة لم يحد عنها قط. هو في ثباته على مبدأه خيرٌ من أكثر الجرائد المتقلبة.
8 - النشرة الأسبوعية (بيروت): أنشاها المرسلون الأمريكان. يحرر رئيسياتها ويعتني بلغتها العالم الكبير إبراهيم الحوراني. وهو كاتبٌ بليغ وشاعر مدهش. له قلمٌ سيال يجعل
للنشرة رونقاً.
9 - لسان الاتحاد (بيروت): صاحبها فيلكس فارس. كاتبٌ وخطيبٌ جريء، أفكارها جديدة، يميل إلى الخيال. للجريدة اعتبارٌ وشأن عند أعضاء الاتحاد والترقي. ولو أن سرعة انتشار الجريدة تتوقف على سرعة قلم كاتبها لكان لسان الاتحاد أوسع الجرائد انتشاراً.(2/102)
10 - أبابيل (بيروت): صاحبها حسين محيي الدين حبَّال. كاتبٌ جارح مصيب وجريدتهُ وطنية بحتة وانتقاداتها عادلة.
11 - الإقبال (بيروت): صاحبها عبد الباسط الأنسي. محررها الشيخ محيي الدين الخياط. هو أغزر كتّاب المسلمين البيروتيين مادة، وأعلاهم كعباً. هو عندهم الأستاذ البستاني عند المسيحيين. ولو أنه يهتم بالمواضيع العمومية اهتمامه بالمواضيع الإسلامية لكان الإقبال أنفع الجرائد وأرقاها.
12 - لبنان: صاحبها إبراهيم الأسود. هو من الحكومة وللحكومة ومع الحكومة. يناصرها ويدافع عنها في كل حين. وتختلف الجريدة رقياً باختلاف محرريها. ويكتبها اليوم محبوب الشرتوني وهو كاتبٌ وشاعرٌ مجيد. مركز الجريدة بيروت.
13 - الصفاء (عاليه - لبنان): صاحبها علي ناصر الدين، محررها ولده أمين ناصر الدين. هو شاعرٌ فحل وكاتبٌ بليغ. للجريدة اعتناءٌ خاص بالمواضيع الدرزية اعتناء البشير بالمسائل اليسوعية، والإقبال بالشؤون الإسلامية.
14 - المهذب (زحلة): صاحبها الخوري بولس الكفوري. هي الجريدة التي تعيش في لبنان لتفيد دون أن تستفيد. منشئها شمعة مضيئة في زحلة تذوب لتنير غيرها. كاتب افتتاحياتها اليوم خليل سعد. وهو عالمٌ كبير وكاتب ناضج.
15 - البردوني (زحلة): صاحبها اسكندر الرياشي. هو يكتب(2/103)
للشبيبة والشبيبة المقبلة على جريدته ولو اعتدل في الهزليات لكان البردوني أفضل جريدةٍ في زحلة.
16 - زحلة الفتاة: صاحبها إبراهيم الراعي. محررها شكري بخاش. كانت مجتهد حرّ. الجريدة صلة بين زحلة والمهجر. لها اهتمامٌ خاص بتاريخ زحلة ورجالها الذين اشتهروا بالسيف والقلم والصناعات. تعتني في محلياتها اعتناءً شديداً.
17 - الإخاء (حماه): صاحبها جبران مسّوح. كاتبٌ عصري متطرف ولكنه مصيب. له انتقادٌ عادلٌ على الجرائد والمجلات العربية التي تنقل ولا تشير إلى مكان النقل. للجريدة مباحث اجتماعية خليقة بالاعتبار.
18 - حمص (في حمص): صاحب امتيازها سيادة المطران اثناسيوس عطا الله. محررها قسطنطين يني. كاتبٌ عصري رقيق وشاعر أرق، تعتني الجريدة في شؤون المهاجرين. ولا عجب، فمنهم نشأت. وبمكارمهم نمت وأزهرت.
هذه أهم الجرائد الأسبوعية التي أقرؤها دائماً على وجه التقريب. وهناك جرائد عديدة كالحقيقة. والأيام، والخرج، وحط بالخرج، والرشيد، وصدى الجامعة العثمانية، وحمارة بلدنا، وطرابلس، وعيواظ، والحكمة، والروضة، ولبنان الرسمية، والاتفاق، والأجيال، والشعب، والتقدم، والراوي، والمنتخبات، والنفير، والكرمل، والزهرة، وفلسطين، وغيرها من الجرائد التي ضربت عن ذكرها صفحاً لعدم تمكني من قراءتها طويلاً والسلام.
- حليم إبراهيم دموس(2/104)
أزهار وأشواك
سمكة أبريل
رويت لقرائي السنة الماضية حكاية هذه السمكة أو الكذبة فاكتفي اليوم برواية إحدى الكذبات المشهورة في هذا الصدد: أعلن أحد الظرفاء في جريدة باريسية عن رغبته في الزواج وطلب من الراغبات في الاقتران به أن يكتبن إليه عن عنوانهنّ إلى نمرة عينها لهن. وأردف هذا الإعلان بإعلان آخر عن لسان فتاة غنية جميلة تطلب من الشبان الراغبين في الزواج مثل ما طلب في إعلانه الأول من الشابات. فاجتمع لديه في مدة وجيزة ما يناهز المئتين من الأجوبة الواردة من الفتيات ومثلها من أجوبة الفتيان، فأجاب كلاً بمفرده ضارباً له موعداً في إحدى ساحات باريس العمومية للمقابلة وطلب من الفتى - أو الفتاة - أن يزين صدره بوردة بيضاء لسهولة التعارف ثم كتب - دائماً باسم مستعار - إلى مدير البوليس ينبئه بوجود مؤامرة من الحزب الملكي ضد الجمهورية وعزم الأعضاء على مباغتة الحكومة بمظاهرة كبيرة وأفهمه أن شارة المتآمرين وردة بيضاء. فلما أزف الموعد اجتمع في الساحة المعينة أربعمئة فتى وفتاة تقريباً وعلى صدورهم الورد الأبيض. وإذا بالبوليس مقبلٌ بخيله ورجله للقبض على أعضاء المؤامرة الموهومة. ولم يلبث أن جاءت إشارة تلفونية من المحافظة أن قد أتاها أن المسألة من قبيل كذبة أول أبريل. . . فضحك البوليس وضحك المتآمرون وضحك خصوصاً مدبر هذه الحيلة. . .(2/105)
زيٌّ جديد
وما أكثر أزيائك يا سيدتي! وما أدهش تفننك في ملابسك. . . ضلّ الحكيم القائل لا جديد تحت الشمس أو أن قوله وصل إلينا ناقصاً مبتوراً، ولا شك أنه استثنى مما نفى فقال:. . . إلا ما تولدهُ أدمغة النساء ويا لله من أدمغة بنات حواء! حملت في ما مضى الحملة الشعواء على مودة المقيدات فنالني ما نالني من غضب السيدات أثناء تلك الحملة. ولذلك لستُ بمجددها اليوم بمناسبة مودة السراويل والشناتين التي بدت طلائعها في ربوعنا، بل أن أتقهقر بانتظام أمامها. وأخلي لها المكان، فامرحي أيتها الحسناء ما شئت في شنتانك الجديد وسروالك الحديث، فقد كفى ما أصاب رجليك وساقيك من الضغط والتقييد. وأنا أضع على رسمك الذي زينت بهِ هذه الصفحة باقة من أزهاري، حافظاً أشواكي لوقتٍ
آخر.
الحكومة والأدباء
أبت حكومتنا المصرية إلا أن تضع يدها على كل كاتب أديب أو شاعر بليغ. وآخر من استهواه ذهبها الوهاج واستماله راتبها الضخم حافظ إبراهيم شاعر النيل، فاختطفته من بين الرياض التي كان يغازلها، والنجوم التي كان يناجيها، وجماعة البؤساء التي كان يسليها، ووضعته في المكتب الخديوية لينسقها ويحليها، ومن عرف ما في دماغ حافظ من بديع المحفوظ أيقن أن الحكومة قد ضمّت إلى مكتبتها الجامدة مكتبة حية. وإذا كان(2/107)
قد شق على الكثيرين أن يروا حافظاً منصرفاً عن خدمة دولة الشعر إلى دولة الإدارة فإنهم يتعزون متى عرفوا أنه ضمن حياته عن غير طريق القصبة المشقوفة. وقد خاطبه أحمد نسيم بهذه الأبيات:
أديبَ الأمتين لك البقاءُ ... سعدت فلا عناء ولا شقاء
نقضت عنك أيامٌ طوال ... من البأساءِ وارتفع البلاءُ
أتيتُ إليك في بردَى أديبٍ ... كريم لا يدنسه الرياءُ
يصوغ لك التهاني في قوافٍ ... لها بك في متانتها اقتداءُ
كعهدك لا تكن إلا وفياً ... سجيّته المروءةُ والوفاءُ
أتحجبك المناصب عن نسيم ... وتُبعدك المراتبُ والعلاءُ
وألا كيف كنتَ فأنت خدنٌ ... خليقته المودةُ والإخاءُ
أتذكر يومَ تذكر بؤس عيش ... وأنت إزاَءه وأنا سواءُ
ويوم نذمُّ دنيانا ونشكو ... أناساً خاب عندهمُ الرجاءُ. . .
تقول إذا استطعت وهبت نفسي ... فما عندي سوى نفسي سخاءُ
فأما الآن ليس لديك عذرٌ ... ولا لك عن مواساتي إباءُ
إذا أنشدتُ بين يديك شعري ... وتمداحي فقد وجب العطاءُ
وفي عشرين ديناراً لمثلي ... إذا مُنحت قنوعٌ واكتفاءُ
بحق البؤسِ إن لم تعطينها ... فما لك بعدها إلا الهجاءُ
وإلا فالسلامُ عليك مني ... إذا قالوا على الشعر العفاءُ
فليحذر حافظ اليوم هجاء زملائهِ المعجبين بهِ بالأمس، وليكن لحالهم ذاكراً، ولعهدهم حافظاً.
حاصد(2/108)
رواية الشهر
العروسان
أغرم لوتيك بإيقون الرائعة الجمال، وكان كلاهما في سن يحن فيها القلب إلى القلب، وتتوق النفس إلى النفس. وكانا يقطنان بريطانيا والعادات القديمة لا تفتأ مرعية تتجلى فيها بأبهى مظاهرها والطباع الكريمة تظهر بأجمل حلاها. وكان حبهما طاهراً يرفع قلب الإنسان إلى أعلى مراتبه السامية، ويهذّب الطباع على خير ما تبتغيه البشر. فإذا خرجا من الكنيسة يوم الأحد استقرا الأنظار وتكلما بالعيون كما كانا يتراسلان كتب الهيام مع هبوب النسيم وتألق النجوم. غير أن إيفون كانت فقيرة لا تملك سوى بقرة واحدة تنتجع الكلاء في الرياض الخضرة وترد الماء في المناهل العذبة. وكان لوتيك قبلة حبها وكعبته غنياً يملك العقارات والضياع وكروم التفاح ولم يكن لأحد من السادة ما كان له من الحلي والحلل النفيسة والدرر اليتيمة. أما والد لوتيك فكان رجلاً محنكاً ذا خبرة بأحوال العالم عليماً بأسرار الغرام فشعر بحب ولده وقال يوماً لزوجته حنة: إني أرى لوتيك يكاد يكون مقطباً فلا يبسن إلا متجهماً ولا يتكلم إلا مدمدماً. ألف الأسى فكأنما بين الأسى قرب وبين قلبه الدامي. على أني عرفت علة حزنه وسبب وجومه فإنه قد اختار لك كنة فتاة فقيرة لا تملك من حطام الدنيا إلا بقرة وهو مالها التليد الوحيد ولكنها بديعة ذات محاسن هيفاء القد تخجل البدر إذا طلع والنجم إذا سطع. ألا يمكن الفضيلة والجمال أن يعوضا عن الغنى والجاه لنضربنَّ صفحاً عن غرامه ولندعه وشانه وليقترن بحليلة أصمت فؤاده بنبال هواها وتيمته بجمال طلعتها.
وآهاً لك أيها القلم تكسر على صخور عجزك وتمزق يا قرطاس بين أنياب ضعفك فإنكما لا تستطيعان أن تعربا عما خامر قلبي ذينك الشابين من السرور والجذل لما أنبأهما والد لوتيك برضاه عن زفافها إليه. فلا خير في يراعٍ يخون الفكر ولا ينقاد للقلب(2/109)
ولا جناح إذا مزق طرس ينوء بوقر حديث الابتهاج. فانطرح لوتيك بين ذراعي والديه ودموعهُ تهمي. أما إيفون فإنها ضمن يديها إلى صدرها ورفعت عينيها إلى السماء شاكرة لرحمان. غير أنه لم يكن لها من يقاسمها أفراحها فالموت القاسي كان قد مزق بمخالبه المفترسة حياة والديها وزج بهما في أعماق القبور.
بزغت غزالة النهار مائسة تبدد عن الأفق غيوم الظلماء كما كانت شمس الحب تمزق بأضوائها المتلألئة حنادس الحزن والأسى عن قلب لوتيك وعشيقته إيفون. قرع الناقوس واحتشد القوم في الساحة العمومية ينتظرون بذاهب الصبر قدوم العروسين ليسرحوا الأنظار في حسن محيا إيفون الفتاة. وما كنت ترى إلا عيوناً شاخصة ولا تسمع إلا أفواهاً تقول ما أجمل وأبهى سنا طلعتها. فرفع الكاهن يديه وقال: ليبارككما رب السماء وليسكب عليكما غيث رضوانه ما أحسن مثلكما فعلى الأغنياء أن يمدوا يد المصافحة إلى البؤساء لنهم كلهم أبناء أسرة واحد، اذهبا وعيشا بسلام آمنين.
بالقرب من تلك القرية جزيرة صغيرة تتحطم على صخورها أمواج البحر المتلاطمة وتأوي الطيور إليها فتؤنس وحشتها بشجي ألحانها حتى أن القادم إليها يكاد يحسب نفسه قد هبط في جنة عدن أو صعد إلى عالم الأبرار وكان يسكنها ناسك قوَّست الأيام ظهره وأضعفت السنون بصره وكان على كل من يتزوج من سكان هذه القرية أن يقدم له شيئاً من العسل واللبن. فركب العروسان القارب ترافقهما أصوات الغناء وعزف آلات الطرب حتى إذا قاما بالعادة المرعية وقدما للناسك الهدايا المعدة ركبا البحر فشاهدا من أهواله ما لا يعبر عنه إذ سمعا للجبال صفيراً وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً والأمواج تطرب لسماع أصوات الرياح فكانت طوراً تبتعد وتضطرب وتارة تلتطم وتصطفق فلما أيقنا أنهما لا يجدان إلا فضل الله واقياً ومجيراً قالت إيفون: رب نجنا من وهدة العطب ولك منا أن نزور مذبح هامة رسلك. فاستجاب الله الدعاء. فهدأ البحر وسكن وحصل بعد الشدة الفرج وشما من السلامة أطيب الأرج.(2/110)
وآهاً لك يا أيام الفرج والسرور ما لك تمضين كوميض البرق ما لك تمرين مر السحاب ولا تعودين.
يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... دهراً وردَّ من الهوى يوماً كفى
مضى شهر على عرسهما. رعياً لكما أيها الزوجان المسيحيان أن الدين يأمركما فسافرا وودعا الأوطان والأهل والخلان. والوداع يا بريطانيا الحبيبة الوداع. مضى اليوم الأول والقلب راجف ولكن للأيام حداً وللأسى نهاية فكما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم. أما كانا يجددان العزم بحديث الحب وغضاضة الشباب، ألا يكفي الغرام لتبديد ما تلبد في أفق سماء
النفس من غيوم السآمة والكآبة. كانا يمشيان باحترام ويركعان أمام المعابد ويتصدقان على الفقراء. وإذا ما الشمس أحرقت بلظى أوارها ولهيب شعاعها أديم الأرض التجأا إلى ظل بعض الأشجار فأكلا الخبز تقشفاً وشربا الماء صرفاً وشكرا المولى ورب العباد. وكان الناس يرونهما ماشيين مطرقين والسبحة في أيديهما. على أن الحب فضاح فكان حنو نظرهما واضطراب قلبيهما يذيعان سرهما على الطريق ويهزان أفئدة الناس عطفاً عليهما. وإذا رآهما الشيوخ قالوا: حاجان يؤمان بين الله. أما الفتيات فيخلنهما عاشقين يتبادلان كلمات الصبابة والهيام. فلما اجتازا الوابور ووصلا إلى نيفير فاجأهما نبأ فشو الطاعون في تلك الضواحي وكان الموت يحصد بمنجله البتار كل من تقع يداه عليه، فقال لوتيك: بدار نهرب من هذه البلدة لئلا يصيبنا الداء. ولكنها لم تجب شيئاً بل اصفر وجهها واصطكت ركبتاها وارتجفت شفتاها ووقعت بين ذراعي زوجها وقالت: اهرب أنت وحدك يا حبيبي ودعني فإني مصابة، فقال لوتيك: ويلاه ماذا تقولين؟ لا تموتي بربك لا تدعيني وحدي. قلت كلا إني لا أقضي بل أنا ذاهبة لأعد لك مكاناً في جنة الخلد ودار البقاء فلا تجزع يا حبيبي إني أنتظرك. تحت عرش الله إلى الملتقى.
غداً يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري عن دياركم بُعدا
تحمل يا قلب تحمل ولا تتفطر حزناً وكمداً. وضع جثتها في التابوت بعد أن زودها بقبلاته الحارة وأنشده لها بصوته الرخيم غناء الوداع الأخير وحفر لها جدثاً تحت ظل(2/111)
دوحة وزينهُ بالأزهار وسقاه بالدموع ثم مضى ولم يدع الحزن في قلبه ولم يذر. قضى النذر وعاد ووقف على قبر الحبيبة وقال:
أفدي بروحي ذلك الوجه الذي ... جمع الجمال وحسن ذاك المبسم
زيحي لثامك يا ابنة الصبح التي ... قد أصبحت شرفاً لكل الأنجم
فمتى ترى عيناي ما قتلت به ... روحي عسى تحيي بمنظره السمي
فلو انجلت كل الغواني لي ولم ... أكُ ناظراً لسناك لم أتنعم
فضعي يديك على ضنا صدري عسى ... تدرين ما فعل الحمام بأعظمي
عبثت أيادي الدهر بي فأذبنني ... وأعادت العبرات مثل العندم
ها أنا ذا يا حبيبتي رجعت، ها أنا ذا قد أعتقت من أسر ذلك النذر المشؤوم، لقد ذهبت
حتى ينابيع التيبر وصليت على أعظم الشهداء والقديسين فلا شيء الآن يوقف حياتي في هذا العالم إنها تطير مشتاقة إليك. يا رب أنت أعطيتني حياتي فلا تبخل علي الآن بمماتي. وأنتم يا حراس القبور والأموات أستحلفكم باسم الله وابنه أن تضمانا كلينا في قبر واحد وأن تكتبا عليه هذين البيتين:
كنا على ظهرها والعيش في مهل ... والعيش يجمعنا والدار والوطنُ
ففرق الدهر بالتشتيت الفتنا ... فاليوم يجمعنا في بطنها الكفنُ.
قال هذا ووقع على القبر جثة هامدة. أنشدي أيتها الطيور احزن الألحان وخذ، مثلاً مما ترى أيها الإنسان. لما فتحوا قبر إيفون ليضموا لوتيك إليها توردت وجنتاها المصفرتان وأفتر ثغرها وتنحت ليلاً ووسعت لحبيبها مكاناً.
فدهش الناس مما رأوا ونصبوا لهما قبراً منيفاً يركع بجنبه للصلاة من يريد أن يفتح قلبهُ للحب الزواجي الطاهر.
(عن فيكتور هوغو)
- حلب، لويس أسود(2/112)
العدد 14 - بتاريخ: 1 - 5 - 1911
زهرة الشباب
1
يوم من أيام الربيع: جو السماء صافٍ ووجه الأرض زاهر زاهٍ. خرجت إلى البرية وفي النفس عوامل لم أدرك سرها المكنون، وكنت آنئذٍ أجد لذة قلبية في الوحدة والانفراد.
نظرتُ إلى المغرب، فرأيتُ الشمس تتوارى وراء بحار من الذهب والياقوت، وستار الليل يمتدُّ شيئاً فشيئاً على وجه البسيطة وقد هبَّ نسيم لطيف ممسَّك فأحنى سنابل الحقل، وطلع القمر على أفق المشرق يتمايل تيهاً ويتمايس عجباً بين النجوم الزواهر وهو يرسل إلى الأرض أشعة أنواره الذهبية.
وبينما أنا أسير مرتشفاً هذه الأنوار العلوية، مستنشقاً هذه الروائح العطرية، إذ ظهرت لي في غسق المساء مخلوقةٌ عجيبة نظرت إليَّ وابتسمت، وقد سترها رداءٌ أنصع بياضاً من زنابق الحقل، ولاحت على وجهها حمرة أبهى من حمرة الورد الذي يكلل رأسها. وكان شعرها(2/113)
الذهبي مسترسلاً على كتفيها. ومن عينيها الدعجاوين تنبعث أنوار الأمل والطهارة. . فمدَّت نحوي إحدى يديها وأشارت إليَّ بالثانية إشارة الحنو والانعطاف. . .
فبقيت برهةً شاخصاً إليها أقول في نفسي: لاشك إنها من سكان السماء. إذ لم يكن في بهائها الرائع شيءٌ أرضي، وكانت تحيط بها أنوار سماوية فتزيد في سنائها سناء. فمددت يدي وهتفت: ومن؟؟؟. . . .
فأجابتني بصوتٍ أرقّ من نسيم الربيع وأعذب من نغمة الشحرور: يا صاحٍ، وضعني الإله الخلاق في صدرك عند ولادتك، فنموت وترعرعت معك وها أنا قد بلغت أشدي مع سنتك السادسة عشرة. فحياتي حياتك وموتي موتك. أنا شقيقتك وأكون رفيقتك في قطع مفاوز هذه الحياة إلى أن أذوي وأذبل فأطرح على الحضيض، فأتركك في نصف الطريق بعد أن نكون قطعنا معاً النصف الأول منها، وليس هذا اليوم ببعيد يا أخي. فحياة الزهرة رمزٌ عن حياتي القصيرة. فمتى ذبلتُ تأسف عليَّ حين لا يجدي التأسف. فلا ماء عينيك يحييني ولا حرارة قلبك تنعشني. . . أنا لستُ غنية، وكل ثروتي في الزهور التي تكلل رأسي، لكني سأسكب عليك نعماً يحسدك عليها كبار الأرض وأغنياؤها. وأضع على مفرق رأسك إكليلاً يغبطك به كل من نظر إليه. سأتتبع آثارك دائماً دون أن تنظرني غير أنك دائماً تشعر
بوجودي. . . سأنفخ من روحي الطاهرة في الطبيعة لتروق عينك(2/114)
وتبتسم لك في صباحك ومسائك. . . لكن عليك أن تقدّر هذه النعم قدرها قبل أن تفلت من يديك. وأدّخر منها للنصف الثاني من الطريق حيث أكون قد غادرتك. . . . .
قالت وكان كلامها ينسكب على قلبي كندى الصباح وبعد برهة استأنفت الكلام:
قلت لك يا أخي إن حياتي قصيرة ولكنه بوسعك أن تطيلها أو تقصرها. إن رجليّ نحيفتان فلا تقدني في المسالك الوعرة، وحمرة وجهي أبهى من حمرة الورد فلا تكدرها بريح الأهواء اللافحة، واعمل كي لا ينخزك الضمير إذا ما فقدتني. ومتى فارقتك فليبق ذكري محفوظاً طيَّ صدرك فينعشك ساعة القنوط ويضيء نبراسه ظلام حياتك
وحينئذ أحنت رأسها نحوي كالملاك الحارس وشعرت بيدها تخطُ على جبهتي علامة سرية ففتحت يديَّ
فكنت كالقابض على الهواء وتوارى طيفها في غسق المساء. . .
2
يوم من أيام الخريف: عبس وجه السماء واكفهر، وعريت الأرض من بهائها ورونقها. وكنت سائراً أجد في حزن الطبيعة صورة حزني وقد استولت عليًّ الوحشة التي تستولي على القلوب عند غروب شمس النهار.
فتراءت لي مخلوقة نظرت إليَّ وبكت، وقد اتشحت برداء ممزق بالٍ، ولاحت على خديها صفرة أشبه بصفرة الأوراق المتناثرة وقد حرقت(2/115)
عينيها دموع الأسى، وكانت محنية الظهر كزنبقة ذابلة قُطعت عنها مياه الحياة. فعرفت فيها تلك التي ظهرت لي منذ خمسة عشر عاماً، وهتفت بصوت الرعشة: وما تريدين الآن؟. . .
فأجابتني بصوتٍ أشد حزناً من زمهرير هواء الشتاء:
قد أزفت ساعة الفراق وهو فراق أبدي، وقبل أن أتركك أحببت أن أودّعك وداعي الأخير. . .
لقد أنكرتني يا ناكر الجميل. قمت أنا بكل وعودي لكنك لم تكترث لها. وضعت على رأسك إكليل الطهارة وخفرتك بحراس الإيمان والأمل والمحبة. . . آنست وحدتك بأحلام ذهبية وشغلت مخيلتك بأفكار زهرية، جعلت السماء تبسم لك والأرض تتهلل أمامك. أما أنت فقل
لي بربك ماذا صنعت بكل هذه المواهب. . .؟ بذّرتها ودستها بالأقدام. . .
فهتف بصوتٍ تخنقهُ العبرات: قد زال الغشاء عن عينيّ. ألا رحماك إبقي. . . ردّي إليَّ الأمل والمحبة فأفارق الحياة ولساني يستمطر عليك البركات.
فأجابت:
أنت ستعيش بعد. أما أنا فعما قليل سأموت. انظر إليّ واعرف ما قاسيتُ من المشقات. أنهكتَ قواي وهددت عزيمتي. كنتُ أرفع إليك نداء الاستغاثة وأسألك الرحمة، أما أنت فلم تفهم هذا النداء بل كنت تقودني وتدفعني إلى المهالك. فمزَّق ثوبي شوك الطريق وأدمى(2/116)
قدميّ. وأحرقتني حرّ الهجيرة واستنزف ينبوع الحياة فيَّ. لم تعد ترطب زهرتي بماء الإيمان والرجاء فذبلت زهوري وتساقطت على الأرض ذاوية فنثرها الهواء في كل الأنحاء. . . كل هذا وأنت لا ترحم ولا تشفق. أما الآن فها قد جمد الدم في عروقي وعلا جبهتي اصفرار الموت فأتيت أودعك الوداع الأبدي الأخير. . . .!.
فصرخت صرخة اليأس:
لا. لا تموتين بل تعيشين فلم تنبس ببنت شفة، فأردفت قائلاً: ومن تكونين أيتها المخلوقة العجيبة. . .؟.
فقالت:
يا أخي أنا لست الآن شيئاً. . . لكنني كنت زهرة شبابك.
قالت وتوارت عني في غيوم السماء فمددت يدي فلم أقبض إلا على زهور سقطت من إكليلها الوردي فأخذتها فإذا هي ذابلة لا أثر فيها لطيبها السابق ولنضارتها السالفة. فذرفت دموع الندامة وهتفت: ربي اقبل توبتي وامح خطيئتي واغسل ذنوبي يا أرحم الراحمين. . . .
إلى السراية الصفراء
تدل الإحصاءات الأخيرة في كل مملكة من العالم المعروف على أن عدد المجانين يزداد يوماً عن يوم وهي نظرية تخالف المألوف فإن العالم كما نعتقد في تقدم إلى الأمام نحو المدنية والرقي العقلي ولا أدري ما(2/117)
معنى هذا التقدم إلى الرقي العقلي مع ازدياد عدد المجانين!! مسألة فيها نظر.
محسوس بل وملموس باليد تقدم الصناعة ومشاهد بالعين تفوّق المكتشفين والمخترعين عن أسلافهم إذ لا أظن أن ابن آدم سبق فاخترع المنطاد أو اكتشف الكهرباء في حقب الزمان العابر أو عثر على مجاهل الأرض أو اخترق اللحم بأشعة فنظر العظم أو استأصل المعدة وعمل جهازاً لحياة صاحبها فعاش بدونها أو تطرف في الأبحاث الكهربائية فكلم أخاه على بعد شاسع بلا واسطة أو استخدمها لنقل صورة المتكلم في ثوانٍ لتظهر أمام المخاطب.
مع الاعتراف بكل ذلك لا أدري معنى لهذا التقدم مع ازدياد عدد المجانين إلا إذا كان ازدياد عددهم يعد تقدماً للجنون!! أو أن أكون أنا مجنوناً هربت من السراية الصفراء ولا عجب فكم بين غير المحبوسين بها من هم أجدر وأولى بدخولهم فيها مصفدين بالحديد مقيدين بالأغلال.
روى لي أحد الثقاة أن رجلاً كان يدعى علي كجك من نسل الأتراك الذين تمصروا يسكن حياً بالقاهرة من الأحياء الوطنية خرج يوم جمعة للصلاة بالمسجد فلقيُه رهط ممن لا خلاق لهم - وكثيرٌ ما هم - فابتدروه بقولهم علي كشكش ومازالوا به حتى خلص منهم بدخوله إلى المسجد. حبس نفسهُ في بيته شهرين وظن بعد ذلك أن الرهط انقشع أو نسيهُ فخرج في يوم جمعة إلى المسجد ولكن القوم قابلوه بمثل ما فعلوا وزادوا على ذلك قولهم حرامي المشمش ومازالوا به حتى جنّ(2/118)
الرجل فتناول حجراً وضرب به أحدهم فشج رأسه فاستاقوه إلى المخفر ومنه إلى المحكمة حيث كان المرحوم الشيخ محمد عبده على كرسي القضاء الأهلي ولما سأله القاضي عن جرمه اعترف ولم يجحده ولكنه قال إنه فعل ذلك عن سبب فسأله القاضي عن السبب فقال صلّ على النبي فأجابه الإمام فكرر الرجل طلب الصلاة على النبي مراراً والإمام يجيبهُ إلى أن ملَّ القاضي من هذه المطاولة فقال ألا تقص السبب؟ فقال المجرم إذا كنت وأنت الإمام المعروف مللتَ الصلاة على النبي أفلا أملّ أنا من صياح هؤلاء خلفي بما أكره؟
هذا هو أحد المجانين جن من الناس وراح فريسة أخيه الإنسان لا ذنباً جنى ولا جرماً ارتكب ولا حشيشاً تعاطى ولا شأواً قصده فلم يدركه فكأنما كلما تقدم الإنسان تأخر وكلما داوينا جرحاً سال جرح.
دخلت طور الكهولة وعركت شطراً طويلاً من الدهر وعاشرت الناس أجناساً متعددة بأخلاق متباينة - عاشرتهم حسب أخلاقهم وإني أقسم بمن يرحم روح المسكين حرامي المشمش إني عييت عن درس طباعهم ومعرفة طلباتهم.
يعضك أحدهم بنيابه ويجبهك لأنك لا تصلي ويقول لمن حوله أبيبه فإن صلاة العشاء قد وجبت!!!
يذكر أحدهم أخاه الإنسان في غيبته ذكراً مؤلماً حتى ليكاد يبكي من حدته وحتى تظن أنه إذا قابله قتله، وقبل أن يتم اغتيابه يحضر ذلك المذكور بالسوء فيقفز المغتاب دون الجماعة للقياه ويأخذه ملء حضنه(2/119)
ويقبله عشراً ويجامله ويفسح له مكاناً بجانبه ويشرب نخبه!!!
يسمع الجالسون ذلك ويرونه ولا يجرأ أحدهم على صفه المغتاب الأثيم بل يسكت وهو بسكوته يساعد على انتشار الرذيلة.
يأخذك أحدهم على معزل ويقول لك أنه يريد أن يكلمك في أمر ذي شأن ولكنه سريّ جداً ويهمك الاطلاع عليه حتى إذا ما شوّقك إلى سماعه استحلفك بالطلاق أن لا تبوح به لأحد فإذا فعلت وحلفت قال لك أن فلاناً قال عنك كذا وكذا وكذا فتصبح في حيرة لا أنت بالقادر على مناقشة المغتاب الحساب لأنك مقيد بالحلف ولا أنت بالقادر على كظم غيظك فتبتلى بمرض في فكرك فتجن فتساق إلى السراية الصفراء ولا ادري على من يكون الذنب في جنونك - أعلى المغتاب أم الجالسين معه الذي تجردوا من الشجاعة الأدبية أم ذلك الذي بلّغَك فكسر قلبك.
تضيق نفسك ليلة فتذهب إلى محل التمثيل عسى أن يذهب بهمك فتجد المكان غاصاً بجمهور المتفرجين فينشرح صدرك وتظن أننا عرفنا أين نقضي سهراتنا حتى إذا بدأ التمثيل ووصل الممثل إلى قطعة محزنة مثل موت رومية على قبر حبيبته جولييت ثم موت جولييت ظهرت لك أخلاق القوم بكل مظهرها إذ ترى الجمع وقد اختبط - تسمع تصفيقاً حاداً وطلب استعادة تلك القطعة المحزنة ليس لأن الممثل أو الممثلة أجاد أو
أحسنت بل لظنهم أن تلك التأوهات التي مثلتها الممثلة أحسن تمثيل إنما هي خلاعة منها - ذلك لأنهم لم يفقهوا معنى لما سمعوا -(2/120)
ترى ذلك وتسمعهُ فتذهب إلى بيتك محموماً بحمى دماغية فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
تجول بطرفك بين من حولك فتجد شباكاً منصوبة للكيد بك خيوطها بأيدي من أحسنت إليهم فتصرف وقتك في التفكير فيما عساه أن يكون سبباً لانقلاب ذلك الإحسان إلى هذه الإساءة فلا تجد سبيلاً لحل المعضلة فيختلط عليك الأمر فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
تسمع السارق يفتخر أمام الجمهور بسرقته والزاني يحدث الناس بحوادث فحشه وفجر العاهرات معه والسكير يزهو على الحضور بنموذج عربدته والكاذب يضحِك من حوله بنكات كذبه - فإذا ما وجهت بلومك إلى أحدهم هبَّ الجمع المحتشد حولهم ورموك بالغلظة وسوء الخلق ونسبوا أولئك المجرمين لخفة الروح والدم. فكأنما الناس قد أجمعوا أمرهم على استحسان المنكر فإذا كنت حراً يجري في عروقك دم أحمر جننت فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
أحبس نفسك في بيتك بين أولادك أو كتبك وإذا مررت بقوم فمرّ بهم مر الكرام ولا تختلط بهم تعش سعيداً، أو فجهز وصيتك إذا أردت الاختلاط بالناس لأنك ستجن حتماً وتساق إلى السراية الصفراء.
عطبره (السودان)
محمد فاضل(2/121)
أيها البدر
يسر الزهور أن تقدم اليوم إلى قرائها أديباً لبنانياً لم تشغله وظائف الحكومة عن الاشتغال بالعمل والأدب، وهو حضرة رشيد بك نخلة قائم مقام قضاء جزّين. وسيرى القراء في ما سيتحفهم به على صفحات هذه المجلة من المقاطيع الشعرية والمقالات الأدبية أية منزلة رفيعة أدركها في عالم الكتابة. ولما كان حضرته مجهولاً من أدباء مصر اقترحنا على أحد مواطنيه من الكتّاب المطلعين على أسرار الأدب أن يكتب للزهور درساً بيانياً عنه سننشره في عددٍ تالٍ:
تآكلت العيون، وتناهبت القلوب، وما تركت مضجعاً هادئاً، ولا جنياً مطمئنة أيها البدر. . .
ما التصقت في كبد القبة الزرقاء ساهياً لاهياً إلا لتزيد غصة عاشقيك، وتحول ملايين أميال المسافة بينك وبين القلوب، فيمتنع التفاهم حتى بالخفوق والأنين أيها البدر. .
دموع الحب وتنهدات الوحشة وزفرات المهجورين، زهور منثورة على قدمي نورك وبهائك يا عريس السماء. . .
شكاوي الموجعين وتذكر المساكين وصدى قرع صدور البائسين، نغماتٌ ربما طربت لها وأنت نشوان عالق حيث تنخلع عنك الرقاب أيها المحلّق السماوي. . .
الطوى من يوم إلى يوم، والسهر من ليلٍ إلى ليل، والتسجي على نواتئ الصخور ومناخز الأشواط، بالعين السابحة والفكرة السائحة، كل ذلك ربما اتخذته تفرغاً إليك وتدلهاً أيها المحبب البدري.(2/122)
انتزاع الإحساس من الآدميين، وتجلمد قلوب بني الإنسان، وتعري شجر الخريف من لباسه الورقي، ونضوب موارد الماء، وعقم بطن الدأماء، كل هذا ربما اعتبرته تجرداً لحبك وتخلياً عن سواك أيها الكوكب الدري. . .
أنت منذ كنتَ، ونحن منذ كنا. . . أنت تنظر إلى ما هو دونك نظراتٍ ليس فيها من المعنى إلا أنك ذو نظرٍ وتنظر (وقد لا يكون ذلك) ونحن على وفرة ما حول العيون من البهارج والجمال لا ننظر إلا إلى ما فوق. . . إليك أنت ننظر. . . بكل المعاني وبملء ما يتسع مجال النظر. أيها السراج المشعل بغازٍ إلهي والعالق في لا شيء.
الليل إذا كفر وتولى الصب الضجر، وسئم المهجور موعد مبزغ النور، وافترشت جنبهُ التراب والتحفت بأم السحاب، وتحول من حركة إلى سكون ومن فكرٍ إلى عيون. . يقولون
إنك أنت السلوى بدون مَنّ، وأنك إن لم تكنها إذاً فمن. . . أهو كذلك يا سمير العاشقين. . .
القلوب مواطن الرحمة - قبل هذا الجيل - فهل لك بين ضلوعك أيها البدر ذاك العضو الأجوف الذي يسمونه قلباً. . . .
رشيد نخلة
السنة الأولى للزهور
في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً. وثمنها خمسون غرشاً صاغاً ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.(2/123)
في حدائق العرب
الوفاء
خرج النعمان بن المنذر يتصد على فرسه اليحموم، فأجراه على أثر حمار وحش، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر على رده. وانفرد عن أصحابه وأخذته السماء بالمطر. فطلب ملجأ يتقي به حتى دفع إلى خباء وإذا فيه رجل من طيّ يقال له حنظلة بن أبي عفراء ومعه امرأة له. فقال النعمان هل من مأوى - قال حنظلة: نعم. وخرج إليه وأنزله وهو لا يعرفه. ولم يكن للطائي غير شاة، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقهُ أن يكون شريفاً خطيراً فماذا نقريه؟ - قالت: عندي شيءٌّ من الدقيق، فاذبح الشاة وأنا أصنع الدقيق خبزاً. فقال الرجل إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها واتخذ من لحمها مضيرة، فأطعمه وسقاه من لبنها، واحتال له بشراب فسقاه. وبات النعمان عنده تلك الليلة. فلما أصبح، لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طي أنا الملك النعمان فاطلب ثوابك - قال أفعل أن شاء الله. ثم لحقته الخيل فمضى نحو الحيرة.
ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وساءت حاله فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لحسن إليه. فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة.
وكان النعمان قد سكر في بعض الأيام وله نديمان يقال لأحدهما خالد بن المضلل وللآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأمر بقتلهما. ولما صحا سأل عنهما فأُخبر بخبرهما فخزن عليهما حزناً عظيماً لأنه كان يحبهما محبة شديدة(2/124)
وأمر بدفنهما وبنى فوقهما بناءين طويلين يقال لهما الغَريَّان وجعل لنفسه كل سنة يوم بؤس ويوم نعيم يجلس فيهما بين الغرييّن. فكان يكرم من وفد عليه في يوم النعيم ويقتل من وفد عليه في يوم البؤس. ولما وفد عليه حنظلة وافق وفده يوم البؤس. فلما نظر إليه النعمان ساءه وفوده في ذلك اليوم وقال له: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم؟ - فقال أبيتَ اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه - فقال: لو سنح لي في هذا اليوم قابوس لم أجد بداً من قتله، فأطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتولٌ لا محالة - وقال: أبيت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد نفسي - فقال النعمان: لا سبيل إلى غير ذلك - قال: إن كان لابد منه فأجلّني حتى أعود إلى أهلي فأوصي إليهم وأقضي ما عليّ ثم أنصرف إليك - قال: فأقم لك كفيلاً - قال: فالتفت الطائي إلى شريك
بن عمرو بن قيس الشيباني وكان يكنى أبا الحوفزان وهو صاحب الردافة فقال:
يا شريكاً يا ابن عمرو ... هل من الموت محاله
يا أخا كل مصابٍ ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فيك ال ... يوم عن شيخٍ بكفاله
ابن شيبان كريم ... أنعم الرحمن باله
فأبى شريك أن يكفله. فوثب إليه قراد بن أجدع الكلبي وقال للنعمان: أبيت اللعن عليَّ ضمانه. فرضي النعمان بذلك وأمر للطائي بخمس مائة ناقة. فانصرف الطائي وقد جعل الأجل حولاً كاملاً من ذلك اليوم إلى مثله من القابل. فلما حال الحول وقد بقي من الأجل يوم واحد، قال(2/125)
النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكاً غداً فقال قراد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولَّى ... فإن غداً لناظره قريب
فذهب قوله مثلاً. ولما أصبح النعمان ركب كما كان يفعل حتى أتى الغريين فوقف بينهما وأمر بقتل قراد. فقال له وزراؤه: ليس لن أن تقتله حتى تستوفي يومه. فتركه النعمان وهو يشتهي أن يقتله ليسلم الطائي. فلما كادت الشمس تغيب وقراد قائم مجرد في إزارٍ على النطع والسياق إلى جانبه رفع له شخص من بعيد. وكان النعمان قد أمر بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يتبين الشخص. فكفّ عنه حتى دنا وإذا هو الطائي. فلما نظر إليه النعمان، قال: ما الذي جاء بك وقد أفلتَّ من القتل قال: الوفاء - قال: وما دعاك إلى الوفاء! - قال: ديني - قال وما دينك؟ - قال: النصرانية - قال: فاعرضها علي. فعرضها، فتنصر النعمان وأهل الحيرة جميعاً وكان قبل ذلك على دين العرب. وترك تلك السنة من ذلك اليوم وأمر بهدم الغريين وعفا عن قراد والطائي وقال: ما أدري أيكما أكرم وأوفى. أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه. وأنا لا أكون ألأم الثلاثة.
وقد أخذ المرحوم الشيخ خليل اليازجي هذه الحادثة وبنى عليها رواية تمثيلية شعرية عنوانها المروءة والوفاء.
وألف في هذا الموضوع أيضاً الأديب ميشال أفندي سرسق روايةً تمثيلية فرنسوية العبارة مثلت في باريس وبيروت منذ بضع سنوات وعنوانها '(2/126)
خطاب
ألقته الآنسة الأديبة هدى كيروك في السوق الخيرية التي أقيمت في المشغل النسائي الذي أنشأته الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك:
نعم أن عطف القلب مجدٍ ونافعٌ ... ولكن عطف الكف بالبذل أنفع
سلامٌ على جمهور عطف قلباً وكفاً، سلام على كرام دفعتهم حماسة الشرف، وحرّكتهم رقة الإنسانية إلى مثل هذا الاجتماع، سلام لوجوهٍ باسمة، وتحية لنفوسٍ آنسة، أتت تفتح أبواب المساعدة، وتمهد سبل السعادة لأخوات بائسات بتنَ زمناً طويلاً يقرعن أبواب ضمائرنا طالباتٍ رحمةً وإغاثة. فنعم الإجابة إجابتكم إياهن اليوم في هذا المجتمع الخيري، نعم القلوب الرقيقة، ونعم الأيادي الكريمة.
سيداتي وسادتي، قد احتفلنا في السنة الماضية بافتتاح المشغل الخيري وكنا نعلل النفس بنجاحه واتساعه. ومع ذلك كنا نخشى أن تنتابه يد النسيان، وتسدل عليه غشاءً كثيفاً ككثير من المشاريع التي تنشأ في المشرق بين الرياحين والأزهار، ولا تلبث أن تختنق بين شوك التخاذل والتقصير.
غير أن هذا المشروع قد نجا بعون الله وقد رأينا تلك الغرسة الضئيلة التي زرعت بالأمس شجرةً باسقة بفضل ما بذل في إنمائها من الهمة الشماء والتفاني المتواصل. وإن اجتماع هذا اليوم لبرهان ساطع على ما للطائفة من الميل لفعل الخير والبذل في سبيل الإحسان.
نعم أيها السادة الأفاضل، إن الطائفة على العموم قد ساعدت هذا المشروع بكل قواها. فراعيها الجليل ببركاته وإرشاده، وأغنياؤها ببذلهم(2/127)
وسخائهم. وعقلاؤها بأفكارهم وآرائهم، وأعضاء جمعيتها الخيرية برقابتهم ونشاطهم وتذليلهم أشد الصعاب ليُسَيّروا المشروع في الطريق القويم. هنا هي النهضة الحقيقية. وهذه هي الجمعيات الخيرية التي يقوم بها نجاح الأمة وبمساعدتها إتمام فروض مقدسة.
وقد اتقدت تلك الروح الحميدة في صدور السيدات بكل ما لها من الحماسة والإقدام، وجعلت ذلك الجنس الضعيف جيشاً باسلاً يتغلب على الصعوبات ويقاوم كل معارض في سبيل الخير، ويفتح الجيوب بكل ما لديه من أنواع الرقة والتأثير. فلذا رأيتم جمعية لأوانس متحليات برداء الطهر والفضيلة تبرز لنا من الأشغال اليدوية ما نعده كنوزاً ثمينة إذ حاكته أيدي عذارى متقدات غيرة متفانيات حباً في سبيل منفعة البائسة وانتشالها من وهدة الفاقة.
وقد اتفقت تلك القلوب الشفيقة وتعاضدت فتألقت جمعية خيرية قضت سنة كاملة في استخراج الفوائد والأشغال، لتحيي هذه الحفلة في هذا اليوم، وتدعونا للاشتراك فيه تنشيطاً لها ومساعدة.
فنشطوا وساعدوا وافتحوا أيديكم الكريمة، وجودوا على هؤلاء الأخوات موضوع جهاد الأنفس الأبية، جودوا بما يُطَيّبُ عيشهن لأهنئهن بحضوركم وأناديهن:
ثقنَ أيتها العزيزات وأعلمن بأنكن أيدٍ عاملة ضمن دائرة الجمعية بل دائرة الرحمة بين آباء وأمهات وإخوان وأخوات جلّ غايتهم صيانتكن وضمان مستقبلكن فافرحن إذاً وصفقنَ واصرخن معي: بشرى الأيتام فقد صانتهم يدُ الإحسان. . .!
- هدى إسكندر كيورك(2/128)
الفتاتان
الشرقية والغربية
ما السنن وفيضانه، والهواء الأصفر وسريانه، وعبد الحميد وطغيانه، بأهول مما ابتليت به الفتاة الشرقية من الجهل المبين، والحيف المشين.
تعسة أنت أيتها الفتاة! الكتّاب يسلقونك بألسنة حداد ودعاة الإصلاح ينظرون إليك ظلاماً، أنت هي داءُ الشرق يقول أولئك، وهؤلاء يصيحون أنت هي دواؤه، بينا نرى زيداً ينادي بوأدك وعمرو يعمل على كيدك!
ذاك يقودك إلى الأمام إلى فردوسك المفقود وسؤددك القديم، إلى مجدك، إلى نعيمك، إلى سمائك الخالدة وهذا يتبجح ويصرخ بملء فيه: مكانك تحمدي أو تستريحي.
تعسة أنتِ أيتها الفتاة! خيَّروك فحيّروكِ فارقبي يوماً يحرجونك فيخرجونك، يوم تصعقين بنيازك نهضتك عمد الضلالات، وتقوضين بما أوتيت من الحكمة أسس التقاليد والعادات، يوم تشقين بصولجان عظمتكِ سجوفاً حاكتها أكفُّ الجهالات في الأعصر المظلمات، يوم تنعشين من صرعتك، وتنشطين من عقالك، يوم يأتي عليك حين من الدهر تنوئين فيه بأعباء ثقال، يوم تصمين أذنيك عن استماع المورطين في شبهات الجل الضاربين في بهماء الغرور: في ذلك اليوم: يوم تزلزل بكِ الأرض زلزالها ويصير سافلها أعلاها، يومَ تضجّ بكِ الدنيا من(2/129)
أقصاها إلى أقصاها، قولي: إن التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسراها.
أيتها الفتاة: أنت أمّاً أشقى منك فتاة. وما الذنب ذنبك لأنكِ نشأت كما أراد قيّمك وذووكِ، وشاء أهلكِ وأوبكِ. اتخذوك عانية فلم يتقوا الله فيك، وحسبوك سائمة فباعوك بيع السماح فوق ما حمّلوك، فيا حبذا لو خلَّقوك بأخلاق غير أخلاقهم، وعلموا أنكِ خلقتِ لزمانٍ غير زمانهم.
أيتها الفتاة! لو علمتِ خطورة مركزك وما يصير إليه أمركِ. يوم تضحين أمّاً ترضع أولادها لبان الغباوة وتنهلهم أفاويق الشقاء، لو علمتِ ذلك لرغبت عن الزواج وفضلتِ حياتكِ فتاة حمقاء على أن تكوني أماً شعراء. اسمعي ما يقول هملت: إلى الدير أيتها الفتاة إلى الدير، وإذا أردتِ أن تتزوجي فتزوجي الموت. إن الموت ستار للعيوب.
يستخف الشرقيون بوقر الأمومة فيقدمون فتاتهم عليها غير هيابين، فيستحدثون وقراً يهبط كاهلهم، يا ويل الشرق ممن عرمت نفوسهم وزاغت أبصارهم وكانوا الحوائل دون تهذيب الفتاة ورقيّ أمّ المستقبل.
الجنة تحت أقدام الأمهات - حكمة أدركها بنو الإنسان إلا المشرقان، يا ويحنا أنورد نفوسنا موارد المخاوف ومصادر المهالك، والحيوانات العجماوات قد خصت في طبائعها بالميل عما فيه هلكتها وصرعتها، وهي لا تفهم خطاباً ولا تحير جواباً، إنها لمصيبة تقصم الظهر وتسحق العظم.
كلمات كالليمون الحلو حلوة في البداية مرة في النهاية. شلّت يميني(2/130)
إذا كنت لا أجاهر بالحق ولو كان الحق يجرح أحياناً، أيظنُّ عاقل أنه يمكن لهذا الشرق أن يستطفَّ على عالم العقل والحقيقة وأن يتشرب روح التمدن القديم ما دام مقام المرأة غير متعير فيه؟ أو نبلغ الكمال التي تتوخاه الشعوب الراقية وتسدد نحوه الخطوات ما دامت نفوسنا صغيرة؟.
أيتها المرأة، أيتها الفتاة، أنتِ لم توجدي لتكوني في أقفاص ذهبية تخلب بجمالها وتسلب بقوامها، ولا لتباهي كما يباع البلبل والببغاء. ولا لتشوه محاسنك وتمسخ مصوناتك، أنتش لم توجدي لنسيب الناثر وتشبيب الشاعر، ولا ليقول فيك صريع لحظكِ وقتيل طرفكِ:
قتولٌ بعينيها رمتك وإنما ... سهام الغواني القاتلات عيونها
ولا لتخدعي بقول القائل:
إذا قامت لحاحها تثنَّت ... كأنَّ عظامها من خيزران
إن هذه إلا خواطر يوحيها شيطان الشاعر على الخواطر، والجمال كما تعلمين في عين الناظر.
دخل عمرو بن العاص على معلوية وعنده ابنته عائشة فقال: من هذه يا أمير المؤمنين. فقال: هذه تحفة القلب - فقال: انبذها عنك، فإنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويولدنَ الضغائن. - قال: لا تقل يا عمرو ذلك فوالله ما مرَّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الإخوان إلا هنَّ - فقال عمرو: لقد حببتهنَّ إلي يا أمير المؤمنين.
أنت خلقت لغاية أسمى وغرض أجل وحياة أرقى وزمنٍ يفهمك(2/131)
وتفهمينه ويعرفك وتعرفينه!
إن هذا الزمان وأريد بالزمان بينه قد هضم حقك، وغمط فضلك، ونكث عهدك، ولم يوفّكِ
قسطك، فلا تركني إليه ولا تعولي عليه بل اجعلي رائدك سوء الظن به، إن سوء الظن من حسن الفطن.
رحماكِ يا نفس الأمين، ولله أبوكَ يا جميل، وسلام عليم يا وليَّ الدين، إذا كان للحق أنصار فأنتم أنصاره وإذا لم يكن للفتاة حماة فانتم حماتها وقادتها، سيروا على بركة الله مسراكم ولا تحفلوا بتنطع المتنطعين واستهتار المستهترين.
أيتها الفتاة الشرقية، لقد سبقتكِ أختكِ ربيبة الغرب لأنها يقظى وأنتِ في منام، تجرين شوطاً فتسبقك بأشواط، ومن سبق في أول الميدان سبق في آخره. ولكن لا يهولنكِ هذا القول ولا يقعدنك عن السعي فيما يقيل عثرتك وينهض بكِ من كبوتكِ لأن ليس على المجتهد حرج ولابد دون الشهد من إبر النحل.
أنتِ إذا امتثلت بالسلحفاة التي أدركت شفعة الجبل قبل الأرنب الذي استخف بطئها وازدهى بسرعته (ولا أراك إلا ممتثلة) فإني مبشركٍ بنجاح باهر وفوزٍ عظيم بحول الله.
أتستهجنين ما أتته شجاعة جان دارك وحصافة كاترين وحكمة فكتوريا وأنت القائلة.
قيَّدوني هوَّلوني ضربوا ... موضع العفة مني بالعصا
كذب الأعجم لا يقربني ... ما معي بعض حشاشات الحيا(2/132)
أتستغربين أمر المطالبات بحقوق الانتخاب ومنك الزباء والخنساء وفيك القائلة: النار ولا العار، والحتف ولا الإقامة على الخسف.
في مجلس نواب أسوج سيدة تنوب عن جم غفير وعدد كثير من بني بجدتها وهي تعمل مع الرجل جنباً إلى جنب وسرعان ما يجري على أثرها آرام التايمز وغزلان السين.
فإلى الأمام يا ابنة قحطان، وإلى العلا يا ابنة عثمان، حلّقي في سماء هذا الوجود وانعمي نظرك في جناية يدك يتبدَّ لعينيك البون بين الفتاتين كما يتبدى الصبح لذي عينين، أرسلي من كنانة لحظيك سهماً يبقر بطن الجهل، واحملي عليه بما أوتيت من قوة الأسود وعظمة الآلهة حملة ترقص لها عجائز وائل وحينئذٍ قولي:
وإني وإن كنت الأخيرة عصرها ... سآتي بما لم تأتِ قبلي الأوائل
بيت جالا (فلسطين)
إسكندر الخوري البيتجالي
حول تمدن المرأة العصرية
تابعت بمزيد الشغف المناقشة التي دارت على صفحات هذه المجلة الزاهرة بين هدى وأدما ونزول حسون إلى ميدان الجمل. وسرني كثيراً طرق هذا الموضوع العمراني الجليل لما فيه من الفائدة العائدة على الجنسين ولو كابر الرجال وادّعوا أنهم بغنى عن الإصلاح لإدراكهم آخر درجات الكمال. أكبرتُ الشجاعة الأدبية التي أبدتها هدى في نقد(2/133)
أخواتها، وأعجبتني الحمية التي أظهرتها أدما في الانتصار لهنَّ، وقلت إن كلاهما ترمي إلى الإصلاح وإن اختلفت الطريق. وسرّني في بداية الأمر إقدام حسون وإن كانت ساءتني فيما بعد مغالطاته وانتقاله من العموميات إلى الخصوصيات. وإنّ في سكوت هدى وإحجامها عن الردّ لأكبر دليل على موافقتها لي فيما أقول.
يطول بي المجال لو أردت تفنيد مزاعم حسون. وأنا أسلّم معهُ أن في النظريات الصرفة بعض الصعوبة فليسمح لي أيضاً أن أكتفي بإيراد حكايتي مع زوجي - كما أورد لنا حكايته مع زوجته، وهو - كما يقول - بحثٌ واقعي، لا يحتاج إلى فلسفة، وليقل لي إذا لم تكن حكايتي هي حكاية معظم الفتيات مع الفتيان يا طير والأمثال تُضرب للبيب الأمثلِ. . . .
لما كنت فتاة عزباء - وقد مضى على ذلك زمن ليس باليسير - كنت أحسبني لا أتزوج أبداً لأسباب يطول ذكرها - أهمها خوفي من شبان العصر وما آلت إليه حالهم وأميالهم.
زارنا في أحد الأيام شابٌ فأعجب والدي ما ظهر عليه من الرزانة والرصانة. وأكثر الترداد إلى بيتنا وهو دائماً بمظهر الكمال والسكينة. فكان إذا دعوناه إلى الطعام وقدمنا له كأساً من المقبلاتً التي تؤخذ قبل الأكل، تمنع وأظهر كرهه لكل ما يشتم منه رائحة المسكر. وإذا قضى عندنا سهرته وعرضنا عليه أن يشاركنا في إحدى تلك اللعبات البسيطة التي تتداولها العائلات وليس فيها ما يؤاخذ عليه، رفض لميله مبدئياً عن(2/134)
كل ما يشبه الميسر والمقامرة. وهذا وأهلي يزيدون إعجاباً به، وانتهى الأمر بأن فاتحهم بميله إلى فتاتهم ورغبته في الاقتران بها. فأجابوه بطيبة خاطر وأكد أنه لا يريد شيئاً من دوطتي (أو مهري) بل إن هذا المال يبقى لي ولمن نرزق من الأولاد. وكان نصيبٌ، وكان اقتران وكان شهر عسلٍ وانقضى، ويا ليته ما ابتدا. . . .
أعددت الطعام في إحدى الليالي وبت منتظرة قدوم شريك الحياة الساعة والساعتين، إلى أن سمعت كرَّة عربةٍ فأسرعتُ إلى فتح الباب وقابلت الزوج بالابتسامة المعتادة، فقابلني بوجهٍ
عبوس، فقلت: أشغلتَ بالي أيها العزيز بتأخيرك غير المعتاد.
فأجاب ببرودة:
- لا لزوم إلى انشغال البال، فإن هذا التأخير من عاداتي حيث أكون في الكلوب مع أصحابي. . .
ولم ألبث أن رأيت العادة راسخة. لأنني كنتُ أقضي معظم الليل وحيدة وهو بين السركل والكلوب والنادي، ولا يعرف باب البيت إلا عند بزوغ الفجر. وكان في بداية الأمر يدّعي أنه مضطرٌ إلى ارتياد هذه المحلات لمقابلة أناس ذوي شأن تهمه مقابلتهم. ثم لم يعد يرى ما يدعو إلى التستر فكان يجاهر بانشغاله عني بالبوكر والبريدج والبكارا.
- ولكنك، وأنت خطيبي، كنت تكره حتى اللعبات العائلية فما حملك الآن. . .؟
- أنا اكره ما أريد وأحب ما أريد، فليس هذا من شأنك.(2/135)
فسكت وقيدت الأولى. . . .
هذا وهو يتمادى في هذه العيشة الطائشة ولا يترك طاولة اللعب إلا لطاولة الشرب فيجيئني وقد تخدر دماغه، وتشنجت أعصابه من الوسكي المعززة بالكونياك المدعوم بالابسنت.
- عهدتك تكره كل ما يشتم منه رائحة المسكر فما. . .
- أكره وأحب على ذوقي. وأنت تعرفين طريق بيت أبيك. . .
فسكت وفي القلب غصة، وفي العين دمعة وقلت: قيدنا الثانية.
لا أحب إطالة الحديث لأن هذه الذكرى تؤلمني.
أخذ يعرض عني تماماً لميه عن بساطة الزوجة إلى تبرُّج الغانيات، أنهكه السهر، وهدّ قواه الكحول، فأهمل شغله وصار يقضي نهاره بالراحة وليله بالملذات، فمدّ يده إلى دوطتي ثم إلى مصاغي، فذهب كل شيء على طاولتي اللعب والشرب، وأنا صابرة خشية العار والفضيحة.
قصتي هي قصة معظم الزوجات حتى أصبح الإسهاب فيها من باب الابتذال فأكتفي بما تقدم.
حكاية بحكاية يا حسون فعساك أن تعرض بعد الآن عن سرد الحكايات، وإلا خرجت من هذا الموضوع منتوف الريش مهشم الجناح. . . غرّد ما شئت وزقزق ما أردت، فقد تحسنُ
التغريد والزقزقة، ولكن دع عنك محاولة درس قلب النساء، فقلب النساء لا يعرفه إلا من كوَّنه وهو وحده يعلم ما يقاسي هذا القلب من الظلم والعذاب.
- سلمى(2/136)
2
وجاءنا أيضاً ردُّ من سيدة فاضلة جمعت بين أنفة البدويات ولطف الحضريات إذ قضت شطراً من صباها في قبائل العرب الرحَّل بين الجياد والرماح، ثم انتقلت إلى منازل الحضر تزّين مجتمعاتهم بظرفها وأدبها. فأكرم بسيدة تهزُّ في آن واحد السيف والقلم وكلاهما في يدها ماضٍ قاطع. وإليك ما كتبته:
قرأتُ مقالة حسون أفندي للدرجة في الجزء الثاني من الزهور رداً على مقالة الآنسة أدما فعنَّ لي أن أكتب كلمة في الموضوع وإن كنت أفضل حمل المغزل على حمل اليراع.
لا أنكر ما في مقالة حسون من خفة الروح، ويعجبني ما يحتاط به لنفسه قبل طرق موضوعه من المقدمات والملاحظات. وجرياً على ذلك أطلب إليه أن لا تأخذه الحدة مما سأقول لأني أميل إلى بعض الخشونة الطبيعية مني إلى الرقة المصطنعة والمجاملات المصطلح عليها. وعليه فأؤكد له أنه لا يرى أبرّ مني في نصحه ولا أخلص في ردعه.
حكايتك مع زوجتك مدهشة لعمر الحق. وأنا أشك كثيراً في أنك متزوجٌ حقيقة، لأنه لو كان كذلك لما وصف المرأة بما وصفتها به إذ جردتها عن كل ما يسمى قلباً. ولكن أسلم معك جدلاً أن حكايتك واقعية وأنها حقيقية كما رويت ووصفت. فأقول حينئذ أن هذا لا يفيد موضوعك شيئاً ولا يكسبك برهاناً يعوّل عليه. لأننا نكاد لا نجد امرأة واحدة في الألف تشابه امرأتك هذه الغريبة الأطوار. ثم أننا نرى من جهة ثانية أن كل الذنب عليك لأنه كان بإمكانك مدة(2/137)
خطبتك لها أن تتحقق من أميالها وأخلاقها. ذكرت إعراضها عن العربية لغة قومك وكان يسعك أن تعرف ذلك قبل الزواج من حديثك لها ومكاتبتك إياها. آخذتها بشغفها بالأزياء، وهذا أمرٌ كان من السهل أيضاً الاطلاع عليه من ملابس خطيبتك وطريقة تزييها. أوردت تمنينها لك بالمولود، وهذا يدل على سخافةٍ في عقلها كان بوسعك أن تعرفها من جلسة واحدة فضلاً عن معاشرتك لها - كما تقول - وأنت خطيبها. وهكذا قل عن سائر ما أوردت من المآخذ والمغامز. فلا لوم إذن إلا على نفسك. وهب إن عين الحب عمياء وأنك
غفلت عن أمورٍ كان يجب أن لا تغفل عنها، فإن أمثال من وصفت من النساء كثيرٌ بين الرجال. فإذا كانت المرأة عادةً تخصم 30 في المئة من عمرها فكم يخصم الرجل الذي يخضب شعره لتسويد شبيبته؟
قبيح بكم معشر الرجال أن تحملوا هكذا حملة على النساء. والمرأة أول ما وقع عليه نظركم في هذا العالم وهي التي أرضعتكم وسهرت عليكم الليالي الطوال وهزت مهدكم وصانتكم بحنانها وبلّغتكم ما بلغتم من الرقي. وأنتم تسومونها عذاباً وأختاً وزوجة.
وعلى كل فإن امرأتك يا حسون درّة ثمينة وكل ما عددته لها من الذنوب لا يذكر، لأنك شهَّرت بها وهتكت حرمتها وهي لا تزال بك مغتبطة وعنك راضية.
سردت لنا حكايتك معها ولو أتيح لها أن تقص لنا حكايتها معك لسمعنا مثل شكواك وأكثر - على ما أظن - وأنا أعتذر بما ألفته من(2/138)
حرية البدو لأقول: عن امرأة سيادتكم قبلت النصح ورضيت الإصلاح ولكن سيادتكم الله اعلم إذا كان. . . .
- هند الريان
(الزهور) نرى أن المتناقشين على ما في مناقشتهم من اللذة والظُرف قد خرجوا كثيراً عن دائرة البحث الأول، ويا حبذا لو حصروا مناقشتهم في نقطة معينة، لأن الموضوع واسعٌ متشعب الأطراف يصعب استيعابه إذا لم يتم البحث في كل فرع على حدة.
في جنائن الغرب
الحب المكتوم
كثيرون هم الشعراء والكتاب الذين أحبوا وتغنوا في شعرهم بذكر الحبيب ولم يبوحوا قط باسمه محافظة على كرامته أو لغير ذلك من الأسباب. ومنهم من لم يدع الحبيب نفسه يدري بعاطفة المحب ومثل هؤلاء العشاق يعشقون بحواس الروح لا بحواس الجسد وقليل ما هم. نروي اليوم من هذا القبيل قصة الشاعر الفرنسوي فليكس أرفر (1806 - 1850) فإنه أحبَّ امرأة مدة حياته كلها وتيمه هواها وهي تجهل ذلك تمام الجهل لأن مروءته أبت عليه أن يكاشفها بهواه وهي غير مطلقة الحرية، لئلا تخون واجب الأمانة المطلوبة منها لغيره. وقد نظم في هذا الموضوع قصيدة جميلة أحببنا أن نعربها لقرائنا بالنظر إلى شهرتها في الآداب الفرنسوية. وقد تكاثرت الأقوال والظنون لمعرفة تلك التي سلبت فؤاد الشاعر دون أن تدري فمنهم من توهمها مدام فيكتور هوغو ومنهم من تصور غيرها ولكن الشاعر لم يبح أبداً بهذا السر ويقول أن الحبيبة ذاتها ستقرأ أبياته ولا تدري من يعني. وهذا هو تعريب الأبيات:(2/139)
في نفسي سرٌّ محفوظ، وفي حياتي حادثٌ مكتوم: هو غرامٌ أبدي تولّد في لحظةٍ من الزمن. ولما كان لا دواء لهذا الداء اضطررت إلى كتمانه، وتلك التي سببته لم تدر به قط.
وآهاً علي: أمر بالقرب منها دون أن تنظر إلي. فأنا دائماً معها، ودائماً وحدي. وسأقطع مفاوز حياتي حتى النهاية وأنا لم أعط شيئاً ولم أتجرأ على طلب شيء.
أما هي - وإن كان الله قد خلقها رقيقة الشعور شفيقة القلب - فستسير في طريقها غير مبالية ولا سامعة حفيف الحب الذي يرافق خطواتها.
وهكذا، وهي في أمانتها التامة على الواجب، ستقول عندما تقرأ هذه الأبيات المملوءة بذكرها من هي تلك المرأة. . . .؟ تقول ذلك ولا تدري من هي. . . .!
في رياض الشعر
يا موت
يا موت خذ ما أبقت ال ... أيام والساعات مني
بيني وبينك خطوةٌ ... أن تخطها فرّجت عني
إسماعيل صبري
على قبري
أقول لهم في ساعة الدفن خففوا ... عليّ ولا تلقوا الصخور على قبري(2/140)
ألم يكف همٌّ في الحياة حملته ... فأحمل بعد الموت صخراً على صخر
أحمد شوقي
خيبة أمل
وخيّب آمالي وقوفك دونها ... وأنك عند الظالمين مكين
يسرك أني نائم الجد عاثرٌ ... ويرضيك أني للخطوب ألين
ليهنك ما بي من أسى وخصاصةٍ ... وتقليبي الكفين حيث أكون
حافظ إبراهيم
المراسلات السامية
ضاق العدد الماضي عن متابعة نشر المراسلات التي دارت بين المرحوم محمود باشا سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان:
كتب محمود سامي إلى الأمير من جزيرة سيلان:
ردي التحية يا مهاة الأجرع ... وصلي بحبلك من لم يقطع
وترفقي بمتيم علقت به ... نار الصبابة فهو ذاكي الأضلع
طرب الفؤاد يكاد يحمله الهوى ... شوقاً إليك مع البروق اللمع
لا يستنيم إلى العزاء ولا يرى ... حقاً لصبوته إذا لم يجزع
ضمنت جوانحه إليك رسالة ... عنوانها في الخد حمر الأدمع
فمتى يبوح بما أجن ضميره ... إن كنت عنه بنجوةٍ لم تسمع
أصبح بعدك في دياجر غربةٍ ... ما للصباح بليلها من مطلع
لا يهتدي فيها لرحلي طارق ... إلا بأنة قلبي المتوجع(2/141)
أرعى الكواكب في السماء كأن لي ... عند النجوم رهينةً لم تدفع
زهرٌ تألق في السماء كأنها ... حببٌ تردّد في غدير مترع
وكأنها حول المجرّ حمائم=بيضٌ عكفن على جوانب مشرع
وترى الثريا في السماء كأنها ... حلقات قرطٍ بالجمان مرصع
بيضاء ناصعة كبيض نعامةٍ ... في جوف ادحى بأرضٍ بلقع
وكأنها أكر توقد نورها ... بالكهرباءة في سماوة مصنع
والليل مرهوب الحمية قائمٌ ... في مسحه كالراهب المتلفع
متوشح بالنيّرات كباسلٍ ... من نسل حامٍ باللجين مدرّع
حسب النجوم تخلفت عن أمره ... فومى لهن من الهلال بإصبع
ما زلت أرقب فجره حتى انجلى ... عن مثل شادخة الكميت الأتلع
وترنحت فوق الأراك حمامة ... تصف الهوى بلسان صب مولع
تدعو الهديل وما رأته وتلك من شيم الحمائم بدعةٌ لم تسمع
ريا المسالك حيث أمت صادفت ... ما تشتهي من مجثم أو مرتع
فإذا علت سكنت مظلة أيكة ... وإذا هوت وردت قرارة منبع
أملت عليَّ قصيدة فجعلتها ... لشكيب تحفة صادقٍ لم يدّع
هي من أهازيج الحمام وغنما ... مشكاته حد السماك الأرفع
نبراس داجيةٍ وعقلة شاردٍ ... وخطيب انديةٍ وفارس مجمع
صدق البيان أعض جرول باسمه ... وثنى جريراً بالجرير الأطوع
لم يتخذ بدر المقنع آية ... بل جاء خاطره بآية يوشع(2/142)
أحيى رميم الشعر بعد هموده ... وأعاد للأيام عصر الأصمعي
كلمٌ لها في السمع أطرب نغمةٍ ... وبحجرة الأسرار أحسن موقع
كالزهر خامره الندى فتأرجت ... أنفاسه بالعنبر المتضوع
يعنو لهما الخصم الألد ويغتذي ... بلبانها ذهن الخطيب المصقع
هي نجعة الأدب التي من أمها ... ألقى مراسيه بوادٍ ممرع
ملكت هوى نفسي وأحيت خاطري ... وروت صدى قلبي ولذت مسمعي
فأسلم شكيب ولا برحت بنعمة ... تحنو إليك بأيكها المتفرع
فلأنت أجدر بالثناء لمنةٍ ... أوليتها والبرّ أفضل ما رُعي
أرهفت حدي فهو غير مفلل ... ورعيت عهدي فهو غير مضيّع
وبثقت لي من فيض بحرك جدولاً ... غمر البحار بسيله المتدفع
عذبت موارده فلو ألقت به ... هيم السحاب دلاءها لم تقلع
وزهت فرائده فصارت غرةً ... لجبين كل متوجٍ ومقنع
هو ذلك النظم الذي شهدت له ... أهل البراعة بالمقال المبدع
أبصرت منه أخا أيادٍ خاطباً ... وسمعت عنترة الفوارس يدّعي
وحلمت أني في خمائل جنةٍ ... ومن العجائب حالمٌ لم يهجع
فضل رفعت به منار كرامةٍ ... صرف العيون عن المنار لتبّع
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني ... والنجم أقرب غايةً من منزعي
فأعذر إذا قصر الثناء فإنني ... زرت المقال فلم أجد من مقنع
لازلت ترفل في وشاء سعادةٍ ... وحبير عافيةٍ وعيشٍ أمرع
(وفي العدد القادم جواب الأمير)(2/143)
يا أيها الريح
تمرُّ آناً مترنحاً فرحاً، وآونة متأوهاً نادباً، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك. فكأنك بجرٌ من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتنا وهي ساكنة.
تتصاعد مع الروابي وتنخفض مع الأدوية وتنبسط مع السهول والمروج. ففي تصاعد عزم، وفي انخفاضك رقة، وفي انبساطك رشاقة. فكأنك مليكٌ رؤوفٌ يتساهل مع الضعفاء الساقطين ويترفع مع الأقوياء المتشامخين.
في الخريف تنوح في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثور بشدة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتل وتضعف، ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارى وراء تقلب السكون فنخالك ميتاً قتلته سهام الشمس ثم كفنته بحرارتها.
لكن - أنادباً كنت أيام الخريف أم ضاحكاً من خجل الأشجار بعد أن عرّيتها من ملابسها؟ أغاضباً كنت أيام الشتاء أم راقصاً حول قبور الليالي المكلسة بالثلوج؟ أعليلاً كنت أيام الربيع أم محباً أضناه البعاد فجاء يصعّد بالتنهيد أنفاسه على وجه حبيبته الطبيعة لينبهها من رقادها؟ أميتاً كنت أيام الصيف أم هاجعاً في قلوب الأثمار وبين جفنات الكروم وعلى يبادر القش؟
أنت تحمل من أزقة المدينة أنفاس العلل، ومن الروابي أرواح(2/144)
الزهور. وهكذا تفعل النفوس الكبيرة التي تحتمل أوجاع الحياة بسكينة، وبسكينة تلتقي بأفراحها.
أنت تهمس في أذن الوردة أسراراً غريبة تفهم مفادها فتضطرب تارةً، وطوراً تبتسم وهكذا تفعل الآلهة بأرواح البشر.
أنت تبطئ هنا وتتسارع هناك وتتراكض هنالك، ولكنك لا تقف قط. وهكذا تفعل فكرة الإنسان التي تحيا بالحركة وتموت بالسبات.
أنت تكتب على وجه البحيرة أشعاراً ثم تمحوها، وهكذا يفعل الشعراء المترددون.
من الجنوب تجيء حاراً كالمحبة، ومن الشمال تأتي بارداً كالموت، ومن المشرق لطيفاً كملامس الأرواح، ومن المغرب تتدفق شديداً كالبغضاء. أمتقلب أنت كالدهر، أم أنت رسول الجهات تبلغ إلينا ما تأتمنك عليه؟
تمر غضوباً في الصحاري فتدوس القوافل بقساوة ثم تلحدها بلحف الرمال. فهل أنت أنت ذلك السيال الخفي المتموج مع أشعة الفجر بين أوراق الغصون، المنسل كالأحلام في
منعطفات الأودية حيث تتمايل الزهور شغفاً بك وتتخاصر الأعشاب سكراً من أنفاسك؟
تثور ظلوماً في البحار فتحرك ساكن أعماقها، حتى إذا أزبدت حنقاً عليك فتحت فاهاً لجةً ولقمتها من السفن والأرواح لقماً مرة. فهل أنت أنت ذلك المحب المتلاعب حنواً بغدائر الأطفال المتراكضين حول المنازل؟
إلى أين تتسارع بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا؟ إلى أين تحمل رسوم(2/145)
ابتساماتنا وماذا تفعل بشعلات قلوبنا المتطايرة! هل تذهب بها إلى ما وراء الشفق - إلى ما وراء هذه الحياة. أم تجرها فريسة إلى المغائر البعيدة والكهوف المخيفة، وهناك تقذفها يميناً وشمالاً حتى تضمحل وتختفي؟
في سكينة الليل تبيح لك القلوب أسرارها. وعند الفجر تحلك العيون اهتزازات أجفانها. فهل أنت ذاكر ما شعرت به القلوب وما رأته العيون!
بين جنحيك يستودع الفقير صدى انسحاقه، واليتيم حرقته، والحزينة تأوهاتها، وطي أثوابك يضع الغريب حنينه والمتروك لهفته والساقطة عويل نفسها. فهل أنت حافظ لهؤلاء الصغار ودائعهم. أم أنت كهذه الأرض لا نودعها شيئاً إلا تحوله إلى جسمها؟
أسامع أنت هذا النداء وهذا العويل، وهذا الضجيج وهذا البكاء، أم أنت كالأقوياء من البشر تمتد إليهم الكف فلا يلتفتون وتتصاعد نحوهم الأصوات فلا يسمعون؟
أسامع أنت يا حياة للمسامع؟
خليل جبران خليل
عناصر الجنس المصري
كلها من جنس واحد
يصدر هذا العدد من الزهور والمؤتمر المصري لا يزال منعقداً في مصر الجديدة يتباحث أعضاؤه في شؤون البلاد الاجتماعية والاقتصادية ويضيق نطاق هذه المجلة عن إيراد كل ما جرى وقيل في هذا المجتمع الكبير، كما أن ذلك خارج(2/146)
عن موضوعها. ولذلك نقتصر على تلخيص خطبة جميلة لسعادة العالم الدكتور اباته باشا في وحدة العناصر المكونة للجنس المصري قال:
أيتها الأمة المصرية، أحييك بكل إجلال وأكبرك بكل احترام. هل تسمحين بالخطابة لشيخ غريب عنك هو إيطالي مولداً وقلباً، إلا أنه أقام أكثر من نصف قرن في بلدك الكريم تحت هذا السماء الجميل، فأصبحت مصر وطناً ثانياً له وأصبح هو من أبنائك تجمعه بك صلة دائمة رابطتها الإخلاص.
قد خدمت هذا البلد بكل أمانة وفي خدمتي الطويلة رأيت كثيراً وفكرت كثيراً وحق علي اليوم أن اجهر بكل إخلاص باعتقادي، أجهر به مستريح الضمير غير مدفوع بمصلحة شخصية إليه، وأملي أنكم بعد أن تسمعوا هذا الاعتقاد من فم رجل على باب الثمانين لا يزال في قوته تتقبلونه منه بقبولٍ حسن، عسى أن يكون قوله نافعاً لكرامة الأمة ولإخاء أبنائها.
وإني إذا اشتركت قليلاً في عمل اليوم بخطابي هذا، إلا أني أطلب أولاً أن يزال كل سبيلٍ لسوء التفاهم. ولذلك يجب علينا أن نسعى أولاً في الاتفاق على معنى المؤتمر المصري وأني على ثقة تامة بأني أعرب عما في نفوسكم إذا قلت إن معنى المؤتمر المصري هو في عرفكم كما هو في عرفي ذلك المعنى الدقيق الذي هو أوسع وأكرم معنى. فإذا قلنا مؤتمراً مصرياً فقد قلنا مؤتمراً قويماً اجتماعياً لكل المصريين الذين هم أبناء أصل واحد لأنه إذا قيل في أي بلد آخر من بلاد العالم، إنكليزي، ألماني، فرنساوي، إيطالي، روسي أو تركي، فالاسم مطلق على أبناء الأمة بلا(2/147)
تمييز بين الدين أو العقيدة.
أما وقد ثبت ذلك، فسأبرهن لكن بسرعة على أصل هذه الأمة وأقيم الحجة على أنكم من عنصر واحد.
إن جل مطمعي أن لا آتي بشيء جديد أو غريب، وأن لا أعطيكم إلا ماهر ملك لكم. لأني أود أن أكون الصوت المعبر عما يدور بخلدكم وأن أعبر عما في ضميركم إذا بحت لكم بما في ضميري. ولكني سأتكلم عن أشياء قل من يعرفها وأني أعتمد على عنايتكم حتى يسهل علي أداء مأموريتي. . .
كل شيء له علاقة بالعصور التي سبقت التاريخ المعروف لنا فهو قائم على الفروض، ولابد لنا إذاً من الاكتفاء بإلقاء نظرة سريعة على الأمم الأولى التي كانت في مصر. فمن هذه العصور الخيالية إلى عائلة منيس يجب علينا أن نعتبر سكان مصر الأولين أنهم الأبناء الأصليون لهذا البلد. في العصور الأولى جاء جماعةٌ من أهل البادية المقيمين على ضفاف البحر الأحمر واجتازوا الصحراء (صحراء العرب الآن) بينما اخترق صحراء ليبيا جماعةٌ من بدو الشمال وأقاموا في البلاد الواقعة تحت الشلال الأول حيث كان طمي النيل قد كوّن وادي النهر وقد تكاثر هذا الطمي حتى كوّن الدلتا إلى البحر الأبيض المتوسط.
وبينما الساميون الذين جاؤوا من آسيا والليبيون الذين جاؤوا من شمال أفريقيا يجتمعون جماعاتٍ وفرقاً كان الأتبيون الذين جاؤوا من الجنوب قد نزلوا إلى بلاد النوبة وأدخلوا فيها الجنس الأسود الذي لا يزال قائماً بها إلى الآن.(2/148)
من هذه الاجتماعات الأولى تكوّنت العائلات الفرعونية الأولى لما انتشر طمي النيل في واديه أخصبت طبقات الأرض الأولى هذا الطمي القائم المسمى (كم) ومن ذلك سمي السكان الأولون للبلد تو - كم وقد بقي هذا الاسم علماً على البلد زمناً طويلاً.
وفي ذلك الحين رأى الفراعنة أن من الضروري لهم جداً أن يتخذوا إقليم كوبتوس مبدءاً لغزواتهم لأقاليم سينا الجبلية وأن يجلبوا منها (المافك) النحاس ثم دعتهم الحاجة الماسة لجلب الذخيرة إلى فرع النيل الأيمن. ولما كانت صحراء العرب هي أقرب الطرق إلى البحر الأحمر فقد أصبحت أسهل وأعمر النقط التي يرحل إليها سكان الجزء الأعلى الأقدمون وبذلك صارت مدينة كوبتوس مورداً للتجارة ومركزاً للمواصلات بين القصير والبحر الأحمر والصومال.
وقد لاحظ ذلك المقدونيون عند غزوهم مصر، فغيّروا اسم كمي باسم أجيبت الذي نسخوه
من اسم مدينة كوبتوس التي كانت ترحل منها القوافل لأنها كانت مركز التجارة. فكوبت أو كبيت كانت عاصمة إقليم كان يحرسه إله اسمه خيم وأصلها مشتق من اسم البلد القديم (كم) الذي يؤيده اللون الأسود. واليونانيون أضافوا لهذه الكلمة حسب عادتهم حرفاً يضعونه في أول الكلمات (ابثيلون) وبذلك كوّنوا كلمة إجيبت.
مصر العليا التي دعيت بهذا الاسم الجديد كان يرمز إليها بباقةٍ من زهر اللوطس، بينما كان الوجه البحري يرمز إليه بورقة بردى لأنه كان يوجد بكثرة زائدة في مستنقعاتها.(2/149)
ومن ذلك الوقت وللأسباب التي قدمناها، صارت كلمة مصري تطلق على الأمة بأسرها الأرض والسكان القائمين عليها لا دخل للدين ولا للطبقات في ذلك مطلقاً، ولا يوجد في العالم إلا الإسرائيليين الذين يطلق عليهم كلمة يهود كأن دينهم علامة على أمتهم لأنهم لا يزالون منتشرين في العالم يسعون في تكوين مملكة صهيون.
فمن قال مصري، فقد قال أهل البلد الذين أطلق عليها الاسم والذين كوّنوا الأمة المصرية وذلك بالرغم عن ديانات الفراعنة أو المسيحيين أو المسلمين في ما بعد. فالمصريون هم المصريون فكل مصري قديم بدل عقيدته بالعقيدة الجديدة لا يزال مصرياً لأن الدين خاص بالشخص أو بالجماعة ولا دخل له في سلطة الأمة التي هي كل لا يقبل التجزئة، وكلٌّ منا يعاشر أشخاصاً لا يعرف عقائدهم وكلمة كافور المأثورة كنيسة حرة في أمة حرة لا تزال أثراً كبيراً للحاضر والمستقبل بالنسبة للأمم. . .
أيها المصريون أذكركم أنه يجب أن تتحدوا كلمة واحدة وأن تجمعكم أخوَّة واحدة مسيحيين كنتم أو أقباطاً أو مسلمين فالقوة في الاتحاد فليست الغاية نصرة المناقشات الدينية لأن الدين لا دخل له في الشؤون الوطنية.
مراعاة الحق العام والآداب الخاصة هي جزء من الوطنية والوطنية تشمل الجميع ولا شيء يخرج الناس من الأوهام القديمة ويريحهم منها إلا الذكاء. وما دمتم أيها المصريون عائشين في علاقات مستحكمة، أفلا يكون بعضكم محتاجاً للبعض! إن هذا الارتباط من لوازم الحياة ومن(2/150)
طبيعة الأشياء ومن مقومات الوطنية، إن ضعف ضعفت وإن قوي قويت فوجب أن تكونوا أيها المتواطنون إخواناً.
يجب أن يكون بروغرام وحدتكم وعملكم المشترك مؤسساً على هذه القاعدة حرية
الأشخاص في عقائدهم غاية. والتربية والرقي الأدبي واسطة. فالسلام على أقوياء العزيمة من الرجال الذين يسعون إلى الوحدة لا من طريق الدين ولكن من طريق احترام عقيدة الفرد.
إنه إذا أراد أحد الكلام عن أي واحد من المصريين يعبر عنه بكلمة قبطي أو مصري. خطأ كبير، خطأ تاريخي، خطأ أدبي، خطأ وقع فيه كل الكتّاب بلا تفكر ولا روية لأنه بذلك قد أضلوا الحق أحياناً.
لابد أن تضيء الأفكار الجديدة في كل مكان، ولابد أن يسود الفكر الجديد في وادي النيل السعيد، ولابد أن نقول جميعاً بصوتٍ واحد تهتز له أركان المسكونة إنما المصريون متساوون، إنما المصريون أخوة. إن امتيازات الطبقات تزول ولكن الأمة لا تبيد أبداً، ففي خلط العناصر والمساواة بينها إيجاد روح واحدة للأمة.
فيا أيها المصريون إذا كانت العقائد قد فرّقت بينكم فلتقرب الأفكار وتجمعكم. كونوا خير خلف لأكبر سلف فإن آباءكم كانوا أهل مجد كبير.
يلزمنا أن نكرر القول بأن عقائد الفاتحين لمصر لا دخل لها في أصل أهلها المتناسق.
الأمة ليست خليطاً وليست هي كوم من الرماد تذروه الريح وتبعثره، ولكنها جسم حي كبير تجمعه روح واحدة مكونة من إرادات(2/151)
مجتمعة ومن أفكار مشتركة ويجب أن تكون تربية الأمة قائمة على المحافظة على هذه الروح.
من المحتم أن يتعلم الأبناء في المدارس العليا والدنيا حب مصر وتاريخها، وإن يشبوا وهم يعتقدون أن مصر هي المصريون، هي كل واحد، هي كلكم جميعاً. لا يشوب هذا التعليم شائبة من أموركم الخصوصية وأحوالكم الدينية. فالمصري القديم لا يزال باقياً على أصله وأكبر برهان على ذلك أهل القرى الذين نراهم محافظين على صورة آبائهم الأولين.
وإني لا أبيح لنفسي أن أتكلم عن الحق والمساواة والرقي أمام مجتمعكم لاعتقادي أن هذه المبادئ السامية هي قائمة بينكم منقوشة في صدوركم ولاشك أنه سيأتي يوم قريب تضيء فيه على أرض مصر المباركة.
إن مصر تطل عليكم من أعلى آثار مجدها القديم تنظر إلى المستقبل بعين كلها أمل ترجو أبناءها أن يجتمعوا فيما بينهم وأن يتحدوا كأنهم شخص واحد حتى يطمئن قلبها وتعلم أن
أولادها بارون بها.
لتحيى الوحدة الوطنية فهي التي ستقربكم من بعضكم والتي ستشيد هذا البناء الفخيم الذي ترمون أساسه اليوم. . .
فيا مصر كم من تذكار يهيّجه في نفوسنا اسمك الكريم. فإن العالم بأسره يتطلع من زمن مديد إلى هذا البلد الذي لا يصادف أبناؤه إلا تعضيداً من البلاد الأخرى. وإنه يحقق للمصريين إذا نظروا إلى ماضيهم الجميل وإلى أصلهم الجليل أن يصيحوا بمزيد الإعجاب لتحيى مصر.(2/152)
من كل حديقة زهرة
* كلف القطار الخاص الذي أنشئ للإمبراطور غليوم خمسة ملايين من الماركات، وقد اشتغلوا به مدة ثلاث سنوات وهو يقطر 12 عربة فيها غرف نوم والأكل والمكتب والحمام والاستقبال إلخ أي انه كناية عن قصر نقال.
* عرضت فتاة في الولايات المتحدة على إحدى السيدات مبلغ 25 ألف دولار لتطلق زوجها وتدع لها حق الاقتران به، فرضيت.
* الضريبة على الكلاب قديمة، وقد بات بعض الحكومات ينوي وضع ضريبة على القطط بغية المساواة في عالم الحيوان.
* يحدث في الولايات المتحد 30 حادثة قتل في اليوم أي 11 ألفاً في السنة تقريباً. ولا يقبض إلا على اثنين من المئة منهم فقط. أما الباقون فيتمكنون من الفرار. ومعدل المجرمين الذين يلقى عليهم القبض في ألمانيا 95 في المئة، وفي إسبانيا 85، وفي إيطاليا 77، وفي فرنسا 61، وفي إنكلترا 50.
* يجب على المحامين في فنلندا قبل الحصول على الرخصة لمزاولة مهنتهم أن يتطوعوا بضعة أشهر في سلك البوليس.
* يزداد النظر حدة كلما امتد الأفق وبعد. فالعرب الذين يقطنون الصحراء الفسيحة هم أحد نظراً من سواهم. فينظرون على مسافة 10 أو 12 كيلومتراً أشياء لا يميزها غيرهم. وكذلك الأسكيمو في أوروبا، فإنهم يرون الكلب الأبيض على الثلج على مسافة بعيدة جداً. وما ذلك إلا لأن(2/153)
عيونهم التي لا يقف أمامها حاجز تتعود النظر إلى بعيد بخلاف سكان المدن.
* أقدم شجرة في العالم شجرة اكتشفت في المكسيك يقدر علماء النبات عمرها بستة آلاف سنة وتبلغ دائرة قطرها 35 متراً.
* تبني إحدى الشركات الأمريكية الآن في نيويورك بنايةً يبلغ علوها 600 قدم وهي مؤلفة من 50 طابقاً وليس فيها شيء من الخشب. وسيستعمل لإنارتها 15 ألف قنديل وفيها 16 مرقاة (اسنسور).
أزهار وأشواك
شم النسيم
كان يوم العيد وكان بعده يوم شم النسيم، احتفلت به مصر كبيرها وصغيرها، وغنيها وفقيرها، ساد السرور، وعم الابتهاج والحبور. جميلة الأعياد التي تشترك فيها أمة بأسرها، وخصوصاً متى كانت هذه الأمة - كأكثر أمم الشرق - مؤلفة من عناصر مختلفة، وإذا كان لا شيء يقرّب القلوب مثل الاشتراك في الأحزان فكذلك قل عن الاشتراك في الأفراح. فالعاطفة المتبادلة المشتركة مدعاة إلى التآلف والتسالم. كل ذلك تجلى بأجمل مظاهره في العاصمة وضواحيها - وفي سائر مدن القطر بالطبع - حيث كانت المسرة رائد الجميع والغبطة مرفرفة على كل الرؤوس، ولسان القوم ينشد مع صديقي الشاعر المصري:
العمر يومٌ للسرو ... ر وألف يومٍ للهموم
فدع النواح وهاتها ... صفراء بيضاء الأديم(2/154)
راحٌ وريحانٌ ورو ... ضٌ زانه عودٌ وريم
وجرت على أوتاره ... أطرافه جري النسيم
فمغردٌ ومرددٌ ... هذا يدل وذا يهيم
ومصفقون مقاطعو ... ن ومستعيدٌ مستديم
أما في بيروت فقد غنى الرصاص بين القوم، وأبرقت الخناجر، وسالت الدماء، فما اغرب ما يفهمون من الحرية والمساواة والإخاء. . . .!
القبلة
تلك الحركة اللطيفة التي تغنى بها الشعراء قديماً وحديثاً، تلك الإشارة البليغة إلى ما تكنّه - أو لا تكنه - الضمائر أصبحت الآن في خطر عظيم. والقتال شديد حولها بين جماعة الأطباء وأهل الشعر والشعور: الأولون مهاجمون يريدون استئصالها من العادات والآخرون مدافعون يريدون الذود عنها. قرأت أن أطباء المجلس الصحي في ولاية إنديانا الأمريكية وزعوا منشوراً جاء فيه: بأمر من مجلس الصحة العمومية نحظّر التقبيل ولاسيما التقبيل في الفم فأصبحت القبلة الآن - على ما يقال - تختلس اختلاساً في تلك الولاية بعد أن كانت مباحة. على أن فريقاً من الشبان اجتمعوا وعلقوا على منشور المجلس الصحي
الملاحظة الآتية نحن لا تقبل فم أحد ولكننا لا نملك النفس عن تقبيل نرجس العيون وورد الخدود، فالقبلة ممنوعة في ولايتنا ولكنها مباحة في صفحة الوجه الصبوح. كن ما شئت إلا عضواً في مجلس الصحة. . . .(2/155)
فما رأي قرائي وقارئاتي هل هم ينتصرون للأطباء للقضاء على القبلة، أم هم يقفون في جنب الحزب الثاني ويدافعون عنها. . .؟
هم وهن.
الله ما أشد الحرب التي أصلت نارها كاتبات الزهور الأديبات حول مسألة المرأة! هذه الحرب قديمة العهد - منذ آدم وحواء - ولكن أديباتنا قد جلن فيها جولات مشهودة على صفحات هذه المجلة. أنا اليوم لست كامل العدة لأنزل إلى الميدان، بل أقف بعيداً عن هذه المعمعة. وليسمح لي المتخاصمون أن أقص عليهم حادثتين من قبيل الرواية فقط:
الأولى: حاصر كونراد الثالث إمبراطور ألمانيا مدينة وينسبرج فلم يتمكن من فتحها وإخضاع سكانها إلا بعد حصار طويل، ولذلك أحب الانتقام وأباح لعسكره السلب والنهب لكنه شفق على النساء فأذن لهن بالخروج من المدينة سالماتٍ وبأخذ أثمن ما لديهن. وما أعظم ما كانت دهشته عندما رأى كل امرأة قد حملت زوجها على ظهرها. فسأل عن معنى ذلك فأجبن بصوتٍ واحد ألم تسمح لنا بأخذ أثمن ما لدينا؟ وهل أثمن من رجالنا؟ فأعجب الإمبراطور بسمو عواطفهن وعفا عن المدينة.
القصة الثانية: اشتدت العاصفة على إحدى السفن وهاجت عليها الأمواج وماجت حتى كادت تغرقها ومن عليها، فأمر القبطان أن يطرح إلى البحر كل ما هو ثقيل يستغنى عنه، فعمد أحد الركاب إلى امرأته وطرحها في لجج المياه قائلاً: هذا أثقل شيء لدي.
- حاصد(2/156)
رواية الشهر
الملك المسروق
حكى الكاتب قال:
جلست إلى السفير بعد طعام العشاء وقد ملأ كأسي ثم ملأ كأسه من الكونياك اللذين الذي كان قد اعتاده، واتكأ في مقعده مسنداً رأسه على شماله، ومشعلاً في يمناه سيكاراً طيب النكهة كان يرسل دخانه دفعةً إثر دفعة فتفوح منه رائحة ذكية. وكنت صامتاً أنظر إليه محترماً سكوته فلم أشأ أن أبادئه الحديث حتى رأيته قد مد يده إلى الكأس فتجرعها ثم ملأها والتفت إلي وقال:
- من الأسف أن يظل تاريخ أوروبا السري مكتوماً عن الناس لم يدونه الكتاب ولم ينشروه!
فقلت متعجباً: أو لأوروبا إذن تاريخ سري غير معروف؟
فأمال السفير رأسه إلى الوراء، وامتص مصة طويلة من سيكاره ثم نفخ دخانها وقال:
- أو ترتاب في ذلك؟ إن البرنس بسمارك لم ينشر رسالته البرقية التي هاجت الحرب الفرنساوية الألمانية إلا منذ أيام خلت فهو قد خبأها نحواً من عشرين سنة. فالتاريخ السياسي الحديث مملوء حوادث جهلها إبان حدوثها هذا البارون روتر المسكين فبقيت سرية غامضة. أما الصحف فاكتفت بالقشور دون اللباب!
- ولكننا يا سعادة السفير - وكنا في باريس - يجب أن لا ننسى أن الرسالة البرقية يسهل كتمانها. وأما الحوادث الجلى. . .
- رويدك يا سيدي ولا تتعجل في حكمك! أمل يتصل بك مثلاً نبأ المرض الوهمي الذي أصاب ملك إسبانيا في حداثته؟
- المرض الوهمي؟(2/157)
- وبعبارةٍ بسيطةٍ تلك الإشاعة القائمة يومئذ أن ألفونس الثالث عشر أصيب بداء معديٍّ خطر، وإنه لزم سريره في غرفته فلم يكن يسمح له بالخروج، ولا يؤذن لأحدٍ بالدخول عليه؟
- بلى أنا أذكر ذلك ولكن. . .
- ولكن الملك الصغير كان سليماً معافى! وأما أخبار الصحف فكانت كاذبةً ولم يكن يقصد منها إلا ذر الرماد في العيون فيعمى الناس عن الحقيقة التي لو عرفت حينئذٍ لأقامت إسبانيا وأقعدتها. إن ألفونس الثالث عشر لم يكن مريضاً في ذلك العهد ولكن مسروقاً!!
وكان السيكار قد احترق إلا بعضه فرمى السفير بعقبه إلى صحيفة فضية وأطفأه فيها ثم تناول آخر فأشعله وعاد إلى حديثه فقال:
- إذا شق عليّ أن أحدثك بخبر هذه الواقعة فلأني لعبت فيها الدور الأهم. فأنا أخاف أن يظن بي حب الإثرة والتباهي وذلك ما أأباه! لا تحن رأسك يا سيد فإني أقول ما أتيقنه!
- عفوك يا سعاد السفير! وكيف كان ذلك؟
- منذ خمس عشرة سنة نشرت الصحف الأوروبية نبأ خلاصته إن داءً عقيماً معدياً أصاب الملك الصغير فلزم غرفته ولازمته الملكة أمه واثنان من الخدمة الأمناء ولكنهما لم يكن يؤذن لهما بمخالطة أحد في القصر. وكان الأب أوليفا مربي الملك، والسنيور جويستالا رئيس الوزارة يومئذٍ الشخصين الوحيدين اللذين كان يباح لهما أن يعودا المريض. أما حكاية هذا المرض فكما سترى:
كانت الحكومة الإسبانية قد عزمت على الاحتفال باستعراض عسكري إكراماً لعيد القديس يعقوب شفيع إسبانيا، وقد أعلنت أن الملك والملكة أمه سيحضران الحفلة. وكان شعب مدريد قد تهافت في ذلك اليوم إلى الساحة الكبرى أمام القصر الملكي حيث وقف الجيش على أتم أهبةٍ وانتظام يرقب طلعة الملك عليه فيحييه ثم يبتدئ الاحتفال.(2/158)
ففي صبيحة العيد وردت على الملكة رسالة مكتوبة على غلافها لفظة مستعجل ومختومة بطابع البريد من مدينة بامبلون. وإنك لتعلم أن فريقاً من الشعب الإسباني كان قد بنى آماله على موت ألفونس الثاني عشر بدون عقب ذكر ليولي على العرش الدون كارلوس. فلما ولد ألفونس الثالث عشر لم تذهب تلك الآمال لأن الدون كارلوس ما فتئ يطالب بالعرش لأسبابٍ شتى لا أرى فائدةً من ذكرها، ومثلك كاتباً صحافياً لا يجهلها. أما بامبلون هذه - وقد دلتني أمائر وجهك على أن ذكرها أثر فيك تأثيره في الملكة يومئذ - فهي مقر الكارلوسيين ووسط هذه الشيعة السياسية! فلما فضت الملكة تلك الرسالة وجدتها خلواً من التوقيع ولكنها قرأت فيها أن مؤامرة سرية قررت اغتيال الملك الصغير وعينت موعداً
للفتك به في يوم عيد القديس يعقوب، ومكاناً لارتكاب الجناية ساحة الاستعراض العسكري في ذلك العيد. فأطلعت الملكة الأب أوليفا على الرسالة فرأيا معاً إبقاء الملك في القصر وخروج البرنسس دزاستوري شقيقته البكر إلى ساحة الاستعراض بالنيابة عنه. أما ألفونس فاستاء كثيراً فألهاه مربيه بلعبةٍ تمثل فيلقاً من الجند مصطفاً في شبه ساحةٍ للقتال. ثم كان موعد الاحتفال فزايلت الملكة القصر إلى حيث الجيش والشعب ولازم الأب أوليفا تلميذه الصغير في كل صباح. ولكنه ما انقضت ساعة على ذلك حتى دخلت ساحة القصر عربة مقفلة تقل ضابطاً لابساً لباس جنرال إسباني وآخر كان يظهر بصفة أركان حرب. وأعلن الأول نفسه باسم الجنرال اسبينوزا رسول الملكة إلى الملك فأدخله الحجاب تواً إلى حيث ألفونس الصغير ومربيه.
وقطع السفير حديثه هنيهةً فقلت مستفهماً: عفوك يا مولاي وهل كان يوجد جنرال إسباني بهذا الاسم؟ فمد السفير يده إلى شاربيه ففتلهما بين السبابة والباهم وقد صعدهما إلى أعالي وجنتيه ثم قال:
نعم! غير أنه كان يقود في ذلك العهد الفرقة المعسكرة في برشلونة. مهلاً رويداً فإنك ستعلم كل شيء.(2/159)
فلما مثل الجنرال بين يدي الأب أوليفا والملك الصبي قال لهما إن الجيش تظاهر بالاستياء لغيبة الملك فخشيت الملكة حدوث أمر ذي بال فأنفذته إلى القصر ليستصحب ألفونس الثالث عشر إلى ساحة الاستعراض. وكان الجيش في تلك الأيام الآمر الناهي في إسبانيا فلم يخامر الأب أوليفا ريبٌ في كلام الجنرال فهمّ إلى قبعة الملك فوضعها له على رأسه وأوعز إليه بالذهاب فوراً. وكان ألفونس في السابعة من عمره فقفز درج القصر قفزاً شأن الصغار إذا دعوا إلى ما يحبون، وركب في العربة المقفلة وإلى جانبه الجنرال اسبينوزا وأمامهما الضابط الآخر.
ولما عادت الملكة إلى البلاط على أثر الاستعراض استقدمت ولدها إليها فهب الأب أوليفا مرتبكاً وقص عليها ما كان. ففهمت جلالتها أن ألفونس إنما انتشل انتشالاً من قصره لأن الجيش لم يتظاهر بالاستياء المزعوم فهي لم تستقدمه إلى الحفلة قط. تصور يا سيدي إذن الألم الذي أحست به الملكة كريستيانا سليلة هابسبورج تلك المرأة التي كانت تخبئ تحت
عظمة الملك وأبهة التاج حنان الأم الرؤوف، وشغفت الأرملة ببنيها. إنني تشرفت بمعرفتها وقوبلت مراراً في مخدعها الملكي فما ظننت قط أن تلك الملاحة الخلابة، وذلك الجلال الباهر يلينان للحزن الوالدي حتى حده الأقصى. وكانت جلالتها حينئذ في موقفٍ حرج فاستشارت السنيور جويستالا فأشار بوجوب كتمان الأمر كل الكتمان مخافةً أن يغتنم الكارلوسيون تلك السانحة، أو يستفيد الجمهوريون من تلك الفرصة فتسود الفوضى، وتكون في المملكة من أقصاها إلى أقصاها ثورة لا تحمد عاقبتها. إن مخافة هذه الفوضى خلقت ذلك المرض الوهمي الذي أشرت إليه فزعمت الملكة أن ألفونس أصيب فجأة بداء عقيم، وإنه حجر عليه في غرفته، ورددت الصحف هذه المزاعم فعكف الشعب على الصلاة وبكر إلى الكنائس يتشفع القديس يعقوب!
* * *
وتوقف السفير هنيهةً عن حديثه فتناول كأسه وابتلع ما فيها دفعة واحدة، وأشعل سيكاراً جديداً وأشار إلي بأن أشرب فامتصصت مصةً من كأسي عملاً(2/160)
بإشارته. ورأيته قد أمرَّ يده على جبينه ففركه قليلاً والتفت إلي فقرأ في عينيّ معنى الاستزادة والرجاء فتمجد في مجلسه وفتل شاربيه ثم تنحنح وعاد إلى حديثه:
أود إليك يا سيدي أن تعذرني عن متابعة حكايتي فقد بلغت فيها الآن حيث بدأ دوري بالعمل وأنا لا أريد أن أتباهى بأعمالي وإنما يكفيك أن تعلم أن الحظ أسعد إسبانيا بوجودي يومئذ في مدريد ولولاي لكان في تلك المملكة ما كانت المملكة في غنىً عنه. فدنوت بكرسي قليلاً من مقعده وتململت كمن ذهب صبره وقلت: كلي إصغاء إليك يا سعادة السفير. غير أن لي سؤالاً أستفيد جوابه. إنك كنت في مدريد في ذلك العهد فكيف كان ذلك فأنا لا أعهد أن سعادتك تقلدت السفارة في تلك العاصمة؟
فقطب سعادته جبينه وأليس وجهه هيئة الرزانة والوقار وقال: لا لم أكن سفيراً هنالك ولم تكن لي مهمة سياسية قط. فلا توقف علي في السؤال لأن من الأمر سراً أود كتمانه وغنما حسبك أن تعرف أنه كان لإحدى الأوانس الفاتنات دخل في وجودي يومئذ في عاصمة الإسبان.
فأحنيت رأسي احتراماً واعتذرت عن هفوتي بما حضرني ثم قلت وأنا أفرك كفاً بكف.
عفوك يا سيدي فقط قطعت عليك حديثك. فتبسم تبسمة من فهم براعة الطلب فارتحت إلى رضاه وسكت فقال:
هذا ما كان من أمر الملك والملكة: وأما أنا فلما أتاني أن ألفونس مريض وقد كنت أحبه ويحبني ويهفو إلي حين يراني أبرقت إلى باريس إلى أميل جيرولت وشركاه أن يرسلوا إلي أثمن وأجمل لعبة في مخزنهم المشهور وقد وصلتني في اليوم الرابع وهي تمثل فارساً مغربياً متقلداً سيفه ومعتقلاً رمحه وممتطياً هجيناً يتحرك بلولب فيمشي متثاقلاً.
وحملت اللعبة إلى القصر فلما قرأت جلالة الملكة كلمة ضروري على بطاقة زيارتي أمرت فوراً بإدخالي إلى الحجرة المحاذية حجرة الملك الصغير. وكانت سلسلة هابسبورج قد أخذ الحزن مأخذه منها، وتولاها اليأس وساورتها الهواجس(2/161)
والرؤى غير أنها ما برحت حافظةً عزتها وكبرها؟ فلما مدت يدها مسلمةً قالت بالفرنساوية وهي تتكلف الرقة: أي داعٍ أتى بك إلينا يا حضرة البارون؟ فانحنيت ثم أجبت بالإسبانية وأنا أحسن هذه اللغة: نبئت أن جلالة الملك مريض فأتيت أعوده حاملاً إليه هدية تؤنسه في وحشته. وأني لأرجو أن أنال الحظوى في عينه فأسليه في بلواه ولست أخاف العدوى فأحجم عن القيام بالواجب.
وكنت أتكلم محدقاً في عيني جلالتها فلم تفتني معاني الحيرة فيهما فلما سكت قالت: يسوءني يا حضرة البارون أنني لا أتمكن من قبول التماسك فإن جلالته لا يستطيع مقابلة العواد. على أنني أعدك أنني لا أكتمه حديث لطفك ومروءتك متى تم له الشفاء. فقلت وقد بسطت بين يدي جلالتها اللفافة المتضمنة اللعبة: سمعاً وطاعة! لا أخال أني صديقي ألفونس مريض إلى حد أنه لا يستطيع التسلي بمثل هذه اللعبة الجميلة. حنانيك يا مولاتي فلا تمنعي عنه فرحه بي، ولا تمنعي ابتهاجي برؤيته! فحولت الملكة وجهها عني، ولوت رأسها ثم مدت يدها بمنديلها إلى عينيها تنشف لؤلؤتين صافيتين أبرقتا فيهما.
أسليلة هابسبورج تبكي؟ إن الملكة كريستيانا أرملة ألفونس الثاني عشر، وأم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا نسيت عظمة الملك وفخفخة التاج، وعزة الصولجان، فرأيتها حينئذ أماً لا ملكة وكانت تلك الدموع دموع الأمومة لا دموع الملك!
فتقدمت من جلالتها جازعاً مرتبكاً وأنا أقول: رحماك يا سيدتي! أتراني ارتكبت إثماً بإلحاحي إلى هذا الحد فعفوك إذن عني! فمالت إلي وأمسكت بيدي قائلة بل أتيت كل جميل
وما قلت غير ما أشكرك عليه. إنني اعلم وفاءك فإذا بحت لك بالسر الذي يبكيني فلأني أعتقد بشرف خلقك: إن ألفونس لا يتمكن من قبول هديتك لأنه ليس في حجرته فقد انتشل من هذا القصر منذ أربعة أيام.
فصعقت في مكاني وهالني الأمر جداً ولكنه لم يذهب بثبات عزائمي، وحدة ذهني فلفت إلى جلالتها لفتة السائل المستفيد فأومأت بأن أجلس وجلست على مقربة مني، ثم قصت علي الحكاية كما قصصتها الساعة عليك. وزادت أنها أوعزت إلى(2/162)
البوليس السري باقتفاء أثر العربة المقفلة التي دخلت القصر في صباح العيد وخرجت منه بالملك الصبي. غير أن البوليس لم يعلم قط أن ذلك الصبي المنتشل كان ألفونس نفسه. وكنت أسمع حديثها بإصغاء وانتباه شديدين فلما جاءت على آخر القصة أبرقت عيناي ولم يفتها بريقهما فنظرت إلي مستغيثة فقلت: علي يا سيدتي بالأمر فأرد إليك الملك المسروق في خلال خمسة أيام. فانتفضت في مقعدها انتفاض قلبها في صدرها وإنما الأم بعض حياة البائس رد إليه. ثم مدت يدها إلى يدي فشدت عليهما وهي تقول: أتعدني وفي وعدك مثل هذا التأكيد فكأن لك إذن نفوذاً عظيماً على الكارلوسيين؟ فقلت رويدك يا سيدتي لا تتهمي الكارلوسيين بمثل هذا الإثم الفظيع. إنني عرفت الدون كارلوس المطالب بعرش إسبانيا وشرفني بأن دعاني إلى مائدته الخاصة وصادقته فسبرت نفسه فأنا أعيذه من التدني إلى هذه السفالة. فبهتت جلالتها لدفاعي عن الدون ومريديه ثم قالت: كيف تفسر إذن الرسالة التي وردت علي من بامبلون قلت حيلة احتالها بعضهم طمساً للحقيقة ودفعاً للشبهات.
فقامت إلى خزانة في الحجرة التي كنا فيها وفتحت درجاً صغيراً وعادت إلي بالرسالة فقرأتها فإذا بها تحتوي طلب مليون بيستاس فديةً للملك وهي خلو من التوقيع غير أن في ختامها هذه الكلمات: بأمر جمعية اليد السوداء فلما تأملتها جيداً أعدتها لجلالتها قائلاً: وإن هذا التوقيع مستعارً أيضاً فاليد السوداء لم تقدم قط على انتشال الملك وإنما انتشله أثمة جناة استعاروا اسم جمعية اليد السوداء تهويلاً وتستراً. ثم اقترحت اقتراحي على جلالتها فرضخت له وأمضت لي كتابةً خلاصتها الإذن لي بعمل كل ما أراه نافعاً. فتسلحت بتوقيعها الملكي وانصرفت.
وكان أول همي أن أجد لنفسي صفة التبس بها عن المظان والشبهات ففكرت كثيراً فقر
رأيي على أن أستعير صفة طبيب إنكليزي فلبست اسم الدكتور هري برون وألحقته على بطاقة الزيارة بهذه الكلمات: من المدرسة الطبية في لندن.
فقلت عفوك يا سعادة السفير فقد كان التعبير الأصح من جامعة العلماء الطبيعيين في لندن فهز سعادته كتفيه غير مكترث لتصحيحي وقال: أنتم الإنكليز(2/163)
جميعكم سواء في الأنانية. أو ظننت أن كل المدريديين يعلمون أن أطباءكم يميزون معاهدهم في تسميتها مدرسة أو جامعة؟ وتناول سعادته كأسه فتجرعها ثم ملأها وعاد إلي فقال: وقد اختر أن أكون طبيباً إنكليزياً لأن غرابة الأطوار منتشرة بين الإنكليز حتى لقد أصبحت أشبه بداء معدي أصبتم به أنتم سكان تلك الجزر البريطانية. وكان الدور الذي وددت أن ألعبه في القصر الملكي يقتضي شذوذاً في الأخلاق وهذا ما لا يتاح لي إذا لم أكن إنكليزياً. ثم بدأت عملي فاستنطقت الأب أوليفا استنطاقاً دقيقاً وسألته أن يريني آخر رسم للملك المسروق فرأيته يمثله أجمل تمثيل بعينيه الكبيرتين البراقتين وملامحه الدالة على العزة والعنفوان. وعرفت من الأب أيضاً أن تلك الصورة انتشرت انتشاراً عظيماً في المملكة وتداولتها الأيدي في جميع الأنحاء فعلقها التاجر في معرض تجارته، والغني في قاعة منزله والفقير على حائط كوخه. فقلت للأب حينئذ إذا كان ذلك كذلك فغنه يستحيل على سارقي الملك أن يخرجوا به في شوارع العاصمة في رائعة النهار فالشعب يعرفه والبوليس لا يجهله. ثم طلبت منه أن يسمي لي الخدمة الذين رأوا الصبي راكباً فيها فتردد في قبول طلبي زعماً أن جميع من في القصر يعتقدون بأن الملك عاد إلى بلاطه سليماً معافىً. ولم يكن من خلقي امتهان الإكليروس، واحتقار آرائهم وفلسفتهم رغم كوني غير كاثوليكي. إنك تعلم يا سيدي أن لا دين لي سوى حب فرنسا، وأن لا إله أعبده غير الشرف ومع ذلك فإني أحترم الكنيسة وما الإكليروس في نظري إلا كالنساء صنف من الناس أرى من النذالة أن يهانوا ويشتموا. إما انتم البروتستانت فقد برهنتم على ذكائكم بإقصائكم هذه الطغمة عن الشؤون السياسية.
- عفوك يا سعادة السفير. . . بل إقصائها فقط عن كراسي النيابة في مجلس العموم.
- هذا كذاك فالمعنى واحد. قلت إني أنفت من فلسفة الأب أوليفا ولكنني أبيت أن أتدنى إلى إهانته بل أفهمته أنه يجب أن لا تكون له إرادة في جانب نهيي وأمري. ثم مشى أمامي إلى دائرة الخدمة فنظرت في ساعتي وسألته متى خرج الملك فقال في مثل هذه الساعة ولهذا
فإن الذين شهدوا خروجه كانوا قليلي العدد. فقلت(2/164)
ذلك خير وأبقى. ودعا الأب ثلاثة من الخدم بأسمائهم فهرولوا مسرعين فبادرتهم بالسؤال ولم أدع لهم سبيلاً للاختلاف والتلاعب في الشهادة ففهمت أن الملك كان ملتفاً بغطاء من القطيفة، ومنزوياً في العربة كمن يحس بشدة البرد، ولم أستفد غير ذلك مما يعول عليه. فعدت بالأب إلى حجرته وقد بدأت استخفه وأمله لكثرة ما كان يلقيه علي من الأسئلة الباردة ولما استقر بنا المكان وأخذت أفكر في السبيل المؤدي إلى الحقيقة، إذ فتح علينا الباب فجأة ودخل منه رجل فسلم على الأب أوليفا بخشوع واحترام. فمال الأب إلى أذني وأسر إلي إن الزائر الدكتور هناريز طيب القصر فأبيت أن أتعرف إليه لأنني خشيت أن يطارحني حديث المدرسة الطبية في لندن فينكشف له سري. ورأيت أن أشغل الأب عن زائره فسألته عن طعام الملك فقال إن جلالته يحب الأطعمة التي يقدمها السنيور غوميز رئيس طهاة القصر وقد ساءه في الأيام الأخيرة انحراف ألم بمزاج هذا الطاهي فلم يذق جلالته أقراص الحلوى والكعك وهو ولوع بها ولكنه لا يشتهيها إلا من صنع غوميز نفسه الذي لا يزال مريضاً حتى اليوم. على أننا نرجو أنه متى تم الشفاء لجلالته يكون السنيور غوميز قد تعافى أيضاً كما يرى حضرة الدكتور وفي تلك الآونة وقف الطبيب فودع بالاحترام كما سلم فقلت للأب علي بوكيل القصر الساعة. فلما مثل بين يدي أمرته بأن لا يدخل القصر مخلوق فيه حياة قبل أن يستأذن له منا اللهم عدا الملكة والسنيور جويستالا ثم قلت له: أما خدمة القصر فراقبهم وضيق عليهم فلا يخرج أحدهم على غير علم مني، وأما أنت فقدم لي في كل ساعتين تقريراً مسهباً فيه عن صفة كل طالب أذنت له بالدخول أو لم آذن. فانحنى الوكيل احتراماً ثم قال: وهل تشمل هذه الأوامر دائرة المطبخ حيث يكثر اختلاط الباعة بالطهاة والخدمة؟ فأرسلت إليه نظرتين حادتين وقلت: بل هي تشمل تلك الدائرة في الدرجة الأولى. وحذار الحليب خصوصاً فهو قارورة الميكروبات، ومنشأ الأمراض المعدية. ثم كانت ساعتان فأقبل علي الوكيل حاملاً تقريره الضافي فنظرت فيه ووعيته(2/165)
تماماً ثم حملته إلى جلالته الملكة. . . ولكني ما لي أراك لا تشرب كأسك أتراك شغلت بحديثي عنه؟؟
فقلت: حديثك يا سيدي السفير أطيب من الكونياك. فتناول كأسه وابتلعه ثم أشعل سيكاراً وامتص منه بضع مصات ملأ دخانها سماء الغرفة وعاد إلي فقال: يذكرني دخان هذا
السيكار بليلة ساهرة مرت بي على شاطئ البوسفور في الأستانة على أثر خلع السلطان عبد العزيز وقد أحرقت في تلك الليلة عدداً ليس بقليل من أمثال هذا السيكار. . . لأن لخلع ذلك السلطان وموته حديثاً سأطرفك به في إحدى ليالينا فقد كنت في ذلك العهد موظفاً في سفارتنا في عاصمة الترك وحضرت بنفسي وقائع تلك الرواية المحزنة فلم يفتني شيء منها!
- عفوك يا سعادة السفير! وحملت التقرير إلى جلالة الملكة ثم كان ماذا؟
- فلما اطلعت جلالتها عليه لم تجد فيه ما يريبها غير أني رجوت منها أن تستعيد ذاكرتها وقائع الأيام الأخيرة في القصر، ومازلت أسمع حديثها حتى ذكرت أنها غضبت مرة من السنيور غوميز رئيس الطهاة وعاقبته. وكان لهذا الرجل ولد صغير سنه كسن الملك ألفونس يحبه الملك ويهفوا إليه، فأنفذه أبوه إلى ألفونس يستعطفه عليه ولكنني أبيت مصرة على عقابه.
وفيما كانت جلالتها تقص علي هذه الأحاديث إذ دخل علينا الوكيل فقال لي: أمرتني يا حضرة الدكتور أن أستميحك لأذن لك داخل إلى القصر وهو ذا الآن ولد صغير واقف بالباب يستأذن بالدخول على أبيه. فقلت: من الولد ومن أبوه؟ قال بدريلو غوميز ابن السنيور غوميز رئيس الطهاة. قلت لا يدخل. بل احرص عليه في حجرتك حتى تصلك أوامري بشأنه! فالتفتت إلي الملكة قائلةً: وما شأن هذا الصغير حتى يمنع من الدخول على أبيه؟ قلت عفوك يا سيدتي إن هذا الولد ليس بدريلو غوميز بل رسول أنفذه سارقو الملك إلى القصر. فامتقع وجه جلالتها، واضطربت اضطراباً فقد جاء فيه أن بدريلو غوميز دخل(2/166)
القصر إذ أذنت له بالدخول ثم لم يخرج منه فكيف يمكن أن يكون هو هو الداخل الآن؟ ونظرت إلى جلالتها فرأيت في عينها معاني القلق والخوف فرأيت أن لا أكتمها الحقيقة فقلت: وعدتك يا سيدتي بإعادة ابنك إليك وها أنذا أبر بوعدي الآن قبل الميعاد المحدد. إنني ذاهب لآتيك بألفونس الثالث عشر!!
ثم خرجت ووقف على باب الدائرة المخصصة لسكنى السنيور غوميز وعائلته وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول: أو هذا أنت يا بدريلو؟ ثم فتح الباب نصفه فدخلت فإذا أنا برجل كبير الجثة، عرض الصدر، مفتول الساعدين، متين العضلات. فلما بصر بي
نظر إلي نظرتي نمر كاسر وقال: من أنت يا سنيور؟ قلت طبيب أرسلتني إليك جلالة الملكة لأعودك. قال أنا أشكر تعطفات جلالتها ولكنني لست بحاجةٍ إليك فقد زايلني الطبيب الساعة. قلت لا بأس ولكن أمر جلالتها يجب أتنفيذه فدعني أجس نبضك على الأقل ثم تناولت يده بغتة قبل أن يحير جوباً وقلت له إن نبضك سريع يا سيدي وأنا أرى أن حالك تقتضي تبديل الهواء لأن مناخ هذه الدائرة من القصر سام قتال. هلم بنا إلى الخارج. . . فاتقدت عيناه بالشرر وارتمى على مقعد هناك وقال: بلى أن رأيك سديد يا سيدي الدكتور غير أني أشعر بارتخاء في أعصابي فأنا لا أستطيع مزايلة هذا المكان اليوم! فلم أكترث لجوابه ولكنني تقدمت إلى باب مقفل في أقصى الحجرة وهممت بفتحه فإذا بذلك الرجل قد وثب إلي وثبة الذئب الجائع يريد أن يحول بيني وبين الباب فشهرت مسدسي وصوبته إلى صدره قائلاً له: مكانك أو تموت!! فارتد إلى الوراء خائفاً مذعوراً ففتحت الباب ودخلت فرأيت الملك مضطجعاً في كرسي طويل وماسكاً قرصاً من الحلوى يأكله قضمة قضمة.
حينئذ وقف السفير فتجرع كأسه ووضع باهميه في كمي صدريته عند الكتف وقدم رجله اليسرى مسافة نصف خطوة عن اليمنى ونظر إلي بكبرٍ وإعجاب فقلت: ثم كان ماذا؟ فهز كتفيه وقال بصوتٍ أجش: كان ما أنت تعرفه ويعرفه جميع الناس! أنني أعدت ألفونس الثالث عشر إلى سرير الملك الذي يتربع فيه اليوم!!(2/167)
ثم سكت سعادته فقلت: ولا أبنت لي يا حضرة السفير كيف عرفت أن الملك كان لم يزل محجوزاً عليه في القصر: قال أخالك يا سيدي لم تصغ إلى حديثي كل الإصغاء. أو لم أقل لك إن أولئك الجناة لم يستطيعوا الخروج به من المدينة لأن الشعب يعرفه والبوليس لا يجهله؟ أو لم أقل لك أيضاً أن غوميز مرض قبل حفلة الاستعراض العسكري بنحو ثمانية أيام كان يعوده في خلالها الطبيب هناريز؟ إن غوميز هذا كان رئيس تلك العصابة الشريرة وأما الطبيب فلم يكن إلا أحد أعضائها. فمتى وعيت هذين الأمرين وتفهمت الوقائع جيداً سهل عليك أن تعرف ما عرفته.
- ثم ماذا كان عقاب هؤلاء الأثمة الأشرار.
- عفي عنهم لم يعاقبوا إذ كان من الخرق في الرأي أن يذاع في المملكة سر انتشال الملك على تلك الصورة. أما أنا فقد حمدت الاتفاق الذي أتاح لي الدفاع عن صديقي الدون
كارلوس وقد اعتذرت الملكة مني لإساءتها الظن بهذا الصديق الشريف ثم خصتني جلالتها بنوع من الشكر عن عملي كان لذيذاً وحلواً. إن الملكة كريستيانا امرأة جميلة فتانة! ولما استأذنت جلالتها بالانصراف قال لي: أما خدمتك لإسبانيا فالسنيور جويستالا رئيس الوزراء يشكرك عليها، وأما خدمتك لأم الملك فجزاؤها هذا التذكار مني إليك. ومدت يسراها فأخرجت من إحدى أصابعها خاتماً من ألماس ووضعته بيدها في إصبعي هذه. . . .
وتأملت يد السفير فلم أجد فيها الخاتم فقلت: وددت إليك يا سيدي أن تريني هذا التذكار الجميل. فتنهد ثم قال: فقدته في ساعة لذة ولهو فقد مر إلى يد أجمل من هذه اليد، فلا تسلني كيف وأين فإن الواجب يقضي بكتمان أسرار النساء. وحينئذ مد السفير يده إلى ساعته فوقفت مستأذناً فهز يدي وهو يقول: عدني بأنك لا تفشي حديثنا الليلة فأنتم الصحافيون لا تؤتمنون على سر ولا تقدسون شيئاً. فتبسمت وقلت بل عفوك يا سعادة السفير. . . فلم يدعني أتم حديثي بل قال: فأقسم أمامي إذن بأنك إذا نشرت هذه الحكاية لا تنشر اسمي فأعدك بأن أقص عليك أمثالها من تاريخ أوروبا السري فأقسمت لسعادته وودعته وهو يقول لي: إلى الغد!.(2/168)
العدد 15 - بتاريخ: 1 - 6 - 1911
الزهور في عهدها الجديد
في غرة مارس من السنة الفائتة، صدر العدد الأول من مجلة الزهور متوجاً بأسماء أعلام الشعراء ومشاهير الكتاب، الذين وافقوا على الفكرة الباعثة إلى إنشاء هذه المجلة، وهي إيجاد صلة تعارف بني حملة ألوية الأدب في عموم أقطار العرب. وقد شاؤوا جعل الزهور لسان حالهم للتراسل فيما بينهم، واتخاذها مجالاً للمباراة في نشر نفثات أقلامهم وبنات أفكارهم. ألقيت هذه البذرة في عالم الأدب فنمت وأزهرت وأثمرت ومر على المجلة سنة وبعض السنة وهي سائرة على الخطة التي اختطها لها هؤلاء الأدباء. فكانت جنة غناء وروضة فيحاء تغني على أفنانها بلابل النظم وسواجع النثر، فأطربت الأسماع، ولذت الأفهام بما جمعته من عرائس الأفكار ومبتكرات الأقلام. وقد لقيت من الرصفاء الكرام أصحاب الجرائد والمجلات تنشيطاً كبيراً. فما صدر منها جزء إلا قوبل بأحسن كلمات التقريظ والثناء بل كثيراً ما فسحت تلك الصحف مجالاً بين صفحاتها لنقل ما كان ينشره امراء البيان في الزهور من شائق الكتابات. وقد يضيق الجزء والجزءان من هذه المجلة عن إيراد ما خطته صحف مصر وسورية وأمريكا والعراق والمغرب بهذا الشأن. فكانت شهرة محرري الزهور وإعلان الصحف عنها وتحبيذ خطتها مدعاة إلى انتشارها(2/169)
وبعد صيتها في كل الأقطار. وقد جاء ما نشرته المجلة من رسوم ومشاهير الكتاب - أسوة بأمها المجلات الأوروبية - مشوقاً كبيراً إلى زيادة الإقبال عليها.
هذا ما أدركته المجلة في عهدها الأول.
* * *
ولما كانت الفكرة الداعية كما تقدم إلى إنشاء هذه المجلة متشعبة الفروع تقتضي القيام بأعمال جمة لتحقيق هذه الأمنية العزيزة، رأى صاحب الامتياز أن يحول الزهور إلى شركة تديرها وتقوم بجميع مقتضياتها من أقلام إدارة وتحرير ومكاتبات، واستيعاب أبواب المجلة الكثيرة، والبحث عما طوته الأيام من آثار الكتّاب النفيسة إلى غير ذلك من لوازم المجلات الكبرى فتم تأليف الشركة بعنوان
الجميل وتقي الدين وشركاؤهما
وهكذا أصبح بالإمكان أن نعد القراء والمشتركين الذين وضعوا يدهم بيدنا منذ أول ساعة
بإجراء تحسينات كثيرة في أبواب المجلة المعروفة، من مقالات وقصائد، وتعريف أهم آثار الغربيين، ونشر أحسن مختارات العرب، وفتح أبواب جديدة للأخبار العلمية والأدبية وتراجم الكتاب وغير ذلك مما يجعل المجلة جامعة كما يريدها القراء، كل هذا مع الاحتفاظ بخطتها الأدبية الصرفة البعيدة عن كل المنازع السياسية والمذهبية. ولذلك فنحن على يقين من حفظ ثقة المشتركين والقراء العديدين مع اكتساب ثقة غيرهم، وإنا سنعمل في كل الأحوال على إرضاء من أصبحت نفسهم تتوق إلى نشرة أدبية تطلعهم على مجرى الحركة الفكرية وليسوا بالنفر القليل.
تحرير الزهور
إن محرري الزهور في عهدها الأول - وهم خيرة الكتاب والشعراء الذين نفحوا هذه المجلة بالزهرات الطيبة الجميلة، فكان منها في كل شهر باقة، وكان من(2/170)
مجموعها في الاثني عشر شهراً روضة زاهرة متضوعة الأريج - هؤلاء الكتاب والشعراء الذين أحبهم القراء وولعوا ببنات أفكارهم سيظلون على عهدهم الأول ينشرون في الزهور كل جيد نفيس وكل طيب رائق. على أننا - ونحن لا نريد إلا التحسين المتواصل - قد فاوضنا جمهوراً آخر من أدبائنا لمشاركتنا أيضاً في تحرير الزهور حتى تتحقق الآمال الموضوعة منذ البداية أساساً لحياة هذه النشرة، فتتم بذلك كله الصفة المميزة لها في عالم الأدب. وقد دفعنا طمعنا بالتحسين ورغبتنا في طرق كل جديد إلى إشراك كبار المستشرقين أنفسهم وقادة الأفكار الأجانب في تحرير هذه المجلة. فكتبنا إلى فريق منهم نستكتبهم مقالات خصوصية عن الحركة الفكرية في بلادهم لنعربها خصيصاً لقرائنا. ولنا بالقراء وطيد الأمل بأنهم سيكونون عوناً لنا في تحقيق هذه الأماني جميعها، فلا يبخلون علينا بكل وسائل التنشيط والتشجيع، ورجاؤنا إليهم أن يعتقد كل فرد منهم أن الزهور إنما هي منه وله.
أما إدارة المجلة الداخلية فسيتولاها أحدنا أمين تقي الدين فالرجاء من وكلاء الزهور ومشتركيها أن يعتمدوا توقيعه في كل ما يتعلق بشؤون المجلة
الجميل وتقي الدين وشركاؤهما
السنة الأولى للزهور
في الإدارة مجموعة الزهور مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون غرشاً صاغاً ويضاف إليها
أجرة البريد للخارج.(2/171)
لو
الشبيبة ربيع الحياة، والشبان زهرة الوطن، والشيخوخة صيف الحياة، والشيوخ ثمرة الأمة.
وإذا كان الفيلسوف اليوناني يقول: أمة بلا شبيبة هي سنة بلا ربيع فيمكنا أن نزيد: أمة بلا شيوخ هي أزهار بلا ثمار.
صدر الشباب الرحب مملوء آمالاً ونشاطاً، وعافية وإقداماً. لكن الشباب لا يعلم، والشباب لا يدري. فتذهب قواه سدى، وتضيع سجاياه عبثاً. فهي كالقوة الميكانيكية التي لا يعرف صاحبها أن يستعملها فتضيع بلا جدوى ولا فائدة.
ورأس الشيوخ مملوء حكمة وعقلاً وتروياً وإدراكاً. لكن الشيوخ قد فقدوا النشاط والإقدام. عرفوا استعمال القوى بعد أن أضاعوها. وأدركوا صفات الشباب بعد أن فقدوها. فهم أشبه بالميكانيكي الذي تعلّم إدارة آلته بعد أن تخربت.
فيجب أن يكون الشيوخ في الأمة الرؤوس المفكرة، وأن يكون الشبان الأيدي المنفذة. فباتحاد هاتين القوتين تترقى البلاد وتسعد. وليس أكبر من أمة شيوخها يرشدون شبانها، وشبانها يطيعون شيوخها. بذلك افتخر الشاعر العربي بقبيلته إذ قال:
وفتية إن نقل أصغوا مسامعهم ... لقولنا أو دعوناهم أجابونا
وبهذا المعنى قال الإفرنج في أمثالهم:(2/172)
لو علم الشباب. ولو قدر المشيب!. .
,
وقد أخذ إسماعيل باشا صبري هذا المثل الإفرنجي ونظمه في شعر عربي من شعره المعروف بسلاسة المبنى وبلاغة المعنى فقال:
لم يدر طعم العيش شبان ... ولم يدركه شيب
جهلٌ يضل قوى الفتى ... فتطيش والمرمى قريب
وقوىً تخور إذا تشبث ... بالقوى الشيخ الأريب
أواه لو علم الشباب ... وآه لو قدر المشيب
فلو كان الشباب يجمع إلى قواه الخبرة والتجربة لأتى بالمعجزات ولو كان المشيب يجمع إلى اختباره المقدرة على العمل لجاء بالآيات الباهرات. ولكن
آواه لو علم الشباب ... وآه لو قدر المشيب
عواطف وآمال
لا لا لم ينزل العندليب على الزهرة إلا ليشكو لها الصبابة ويبثها الهيام، ولم ترسل هذه عطرها إلا لتؤكد له جبها، وما فتقت عنها الآكام إلا لتضم بين ذراعيها الحبيب، فعطفاً على المحب أيها الإنسان. . .!
لله ما أنكد العيش وأنغصه إذا لم يقطعه السرور وتتخلله الأغاني!(2/173)
وما أمرّ الحياة وأظلمها إذا لم يمتزج بشرابها سيال الحب ولم تسطع فيها أنوار الغرام!
ونظير مياه الينبوع تجري في السواقي وتخفيها البحار، وكمثل رياح القفر تهب في وريقات الزهور وتبتلعها أوراق الأشجار، تمضي الحياة الخالية من الحب ويتصرم الشباب تطويه الوحشة ويقصره السأم. . . .
دب النعاس بجفن ذكاء فاضطجعت على فراش الأمواج ونامت نوماً هادئاً رغماً عما كان بنفس هذه من الهيجان. ورأت ذكاء ولو في المنام حزن الأرض وانقباض أهلها فأرسلت فتاها فأتى وملأ الفضاء نوراً والقلوب رجاء.
هب النسيم نسيم الغروب فمزق عن الوردة اللباس وكساها بثوب من الإنعاش قشيب فأعجب لمعرٍّ وكاسٍ. . .
عسعس الليل وأوت إلى أوكارها الأطيار. وطالت ظلال الأشجار فزادت المكان وحشة، وساد السكون عميقاً فأخلدت عوامل الطبيعة إلى الهدّو، وما استطاع تقطيعه سوى أنفاس الباري يرسلها نسمات لطيفة فتزكي تلك الأرجاء، وتترك منها للإنسان أثراً جميلاً يستهوي القلوب ويسترق الأسماع. وكأن السرور جالب التأمل إن هو تناهى، فجلست على صخرة هناك وجعلت أتأمل.
بالطبيعة جلست أفتكر في أصل وجودها وكيف يكون فناؤها من أصغر زهرة فيها إلى أكبر سروة، فعجبت من عواملها ومجدت خالقها.
بهذا الهواء كيف يهب منها نقياً كأن أنفاس البشر لم تقو على(2/174)
إفساده وقد اختلطت به مراراً. بهذا الليل وقد رأى العالم يرتكب تحت حمايته أفظع الذنوب وأشنع الآثام كيف يستره كأنه جهل أن من سكت عن الأشرار بالشر رمي ومن دافع عن المذنب بالذنب اتهم. . .
أحزنت نفسي هذه التصورات فبدت على وجهي منها دلائل القلق. وكأن الطبيعة وقد علمت أنني من محبيها لم تشأ أن تتركني حليف الغم والقلق وقد طلبت منها سميراً فأرسلت إلي ما
يلهيني فرأيت شبحين كانا يظهران تاراً من خلال الأشجار ويختفيان فأوقعاني في الريبة ولم يجدني ذلن نفعاً فرجعت أفتكر أيضاً ولكن لا فبين الأول والثاني خطى ومراحل.
* * *
تقدمت لأرى ما وراء ذلك وإذا بي أمام شاب تنبعث من عينيه شرارات القسوة والخشونة يداعب حيزبوناً تبينت بوجهها تجعدات جمة وبجبينها خطوطاً عديدة ولم أستطع علم هيئتها وإدراك كنه أمرها رغماً عن إحداقي بها وإعمال الفكرة في قراءة ما في نفسها. وهناك إلى جانب من الغاب كهلٌ ملقى على الحضيض دامي الأحشاء على وجهه سمة الوقار وبنظرته الحنو والإشفاق. ولم ألبث أن رأيت الشاب قد أخذ بذراع العجوز وتوغلا في الغاب. وأما أنا فتوسمت في خطوط جبين المرأة وبعد النظر طويلاً قرأت بأحرف كتب بعضها بشوكٍ غليظ وبعضها بزهورٍ لطيفة هذه الكلمة - الحياة - واستلفت نظري شيء ناتئ على كتف الشاب فحدقت فيه وتهجيت هذه الكلمة وقد كتبت بمداد أسود على(2/175)
صحيفة من النحاس - الفساد - ولما بعدا عن الشيخ ووارتهما أغصان الغاب رجعت إليه فلقيته يئن أنيناً متقطعاً وهو يحتضر وكان احتضاره رهيباً مزعجاً فدنوت منه وسألته وأنت من أنت يا هذا فأجاب والنور يخرج من فيه: أنا الحب العذري - أنا الطهر - أنا العفاف.
قال هذا وتنفس الصعداء وكان بها خروج الروح. وأدرت لحاظي في هيئته فرأيته قد تحول كله إلى شعلة من نور ورأيت زهرة آسٍ كان يتضوع منها عرفٌ قوي الرائحة رغماً عن ذبولها. وساد السكون على تلك الأنحاء عميقاً فرجعت أدراجي نحو منزلي لما رأيت أن الهواء أصبح بارداً وشعرت بوطأة السكون.
بيروت، جميل مدور
نظرة إشراف عام
على ديار نجد
وقعت مقالات مراسلنا البغدادي الفاضل أحسن وقع عند قرائنا لأنه كشف فيها النقاب عن أمور وحقائق من اطلع عليها، وهي تتعلق ببلاد العرب وتاريخ النهضة الأدبية فيها. ونحن نبشر القراء اليوم بأن هذا الكاتب القدير سيدبج للزهور سلسلة مقالات في هذا الموضوع الجليل الذي لم يسبق إليه. وهو يبني كتاباته على أبحاثه الشخصية الواسعة مدعومة بما يستقيه من أوثق المصادر. وها نحن ننشر اليوم مقالته الأولى التي تشرح هيئة تلك البلاد وحالتها الحاضرة وهي مقدمة لأبحاث آتية. وفي هذه المناسبة نكرر له الشكر باسم الزهور وقرائها على ما يتحفنا به من المباحث الشائقة التي تعد خير خدمة للعلم والأدب. وإليك الحلقة الأولى من هذه المقالات:(2/176)
1 - توطئة - خذ بيدك أي كتاب أردت، وتصفح أية مجلة شئت، وطالع أية جريدة شاقتك، بشرط أن يكون موضوعها الكلام على نجد، ثم قل في نفسك بعد أن تكون قد فرغت من الوقوف على ما راقك: هل هذا الذي قرأته صحيح يا ترى؟ - أقول: هلم ننظر إذا كانت شروط الصحة متوفرة في هذا السؤال. إن الكاتب الذي حبر تلك الأقوال لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون غريباً عن بلاد نجد، وإما أن يكون من أهلها وسكانها. فإن كان دخيلاً في تلك الربوع، فلا غرو إنه لا يستطيع الوقوف على الحقيقة كما لو كان من أبناء تلك الديار نفسها، لأنه قد قيل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وكيف يمكن الأجنبي أن يعرف من الأمور إلا ما يشاهده وهل يشاهد غير ظواهرها؟ بل كيف يسوغ لأبناء الوطن أن يبوحوا بجميع أسرارهم لمن كان غريباً عنهم؟
أما إذا كان من صميم أهلها فهو أيضاً لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون أمياً من طبقة الناس السافلة، وإما أن يكون علياً أو عالماً، فلا تكاد تراه ينطق إلا بما له ويسكت إلا عما عليه خوفاً مما يتوهمه فضيحة لأبناء وطنه، أو خشية أن يندد به تنديد خائن لبلاده.
ومن ثم وجب أن يكون الكاتب عن هذه الديار وطنياً صادق الوطنية. أديباً فاضلاً من علية الناس وأشرافهم، عارفاً بما اختفى من تلك(2/177)
الربوع وما ظهر، بعيد النظر بأحوال أهلها،
كاتباً ضليعاً بل من حملة الأقلام الصادقي اللهجة، جريئاً مقداماً لا يخاف لومة لائم، محباً لترقي وطنه، ناطقاً بما له وعليه ليصح الاعتماد على كلامه في كل ما يقول.
وهذه الشروط كلها قد اجتمعت في سليمان أفندي الدخيل صاحب جريدة الرياض (من صحف بغداد الحرة). فهذا الرجل من صميم بلاد نجد، ومن خيرة سراتها، وقد جاب تلك الأقطار طولاً وعرضاً، وسافر إلى بلاد الهند وإلى غيرها من الديار المتمدنة وقابل بين الأمم الراقية في الحضارة والأمم السائرة إليها سيراً وئيداً أو حثيثاً، وعرف الداء ووصف الدواء، ولهذا طلبت إلى هذا الفاضل الأديب (وهو خال أحد أبناء ابن سعود) أن يتحفني بما يعرف عن نجد معرفة تفيد قراء الزهور وتكون المقالة شاملة لأحوال نجد شمول مشرف عليها من أحد جبالها، ناظراً غليها نظراً عاماً بعيني البصر والبصيرة معاً. فكتب لي مقالة حسنة وضاءة. وقد أدمجت فيها ما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي، وما سمعته من بعض الأدباء الفضلاء من أهالي تلك الربوع فحصل من هذا الإدماج شيء يشبه تداخل للحمة والسدى. وقد أحطت بقوسين ما لحضرة الكاتب الصديق من النص الرائق الفائق إقراراً بفضله وبراعة قلمه وسداد آرائه. وأبقيت بدون علامة ما لهذا العاجز الذليل من الكلام النزر القليل.
2 - موقع نجد وحدودها - ديار نجد واقعة في قلب بلاد العرب وهي سرتها. وحدودها من الشمال النفود الفاصلة بلاد الجوف عن بلاد(2/178)
نجد. وهي النفود بوجه الإطلاق. ومن الجنوب النفود المسماة بالربع الخالي وهي بلاقع أو مفاوز أو فلوات لا تفرق بشيء عن نفود الشمال. ومن الشرق الإحساء والقطيف ومن الغرب بلاد الحجاز.
3 - سكان نجد في الزمن الخالي وفي الزمن الحالي - كان أهل نجد في السابق كأغلب سكان بلاد العرب: أخلاطاً من أمم شتى من عرب وفرس وإدميين وعبران وآشوريين وكلدان وبابليين ثم امتزجوا امتزاجاً واحداً مع الزمان حتى أضحوا أمة واحة، ولما جاء الإسلام زادوا وحدة ولما ظهرت الوهابية بانوا كل البينونة عن سائر سكان الجزيرة حتى أضحوا أمة مستقلة بنفسها ولها أوصاف خاصة بها كالشجاعة والبسالة والتدين المفرط الضارب إلى التعصب والإباءة وعدم تحمل الضيم وتوقد الذكاء وحب التجارة الواقفة على أصول الشرع إلى غير هذه المناقب الدالة على أن النجديين من الناس الذين بانوا عن
سائر العرب بالمآثر الجليلة التي لا تشاهد إلا في السلف الخالي.
4 - أقسام نجد - تقسم نجد إلى ثلاث إمارات ولكل إمارة(2/179)
حاضرة قائمة بنفسها. الإمارة الأولى قاعدتها (الرياض) وهي حاضرة إمارة الأمير الخطير ابن سعود الذي قام بتجديد مذهب السلف الصالح وهو المذهب الذي يلقب الآن بمذهب الوهابية أو بالوهابية من باب الإطلاق أو من باب الأغلبية. وأهل نجد كلهم يلقبون بالوهابيين نسبة إلى من قام بالدعوة في بداية الأمر وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أما موقع الرياض فمعروف أي في جنوبي نجد.
الإمارة الثانية: إمارة الأمير الجليل ابن الرشيد وقاعدتها (حائل) وهي في شمال نجد.
الإمارة الثالثة: القصيم (بالصاد لا بالسين كما يكتبها بعض أهل الجرائد) وهي عبارة عن بلدتين كبيرتني وهما: (عُنيْزَة) وهي عاصمة إمارة (آل سليم). و (بُرَيْدة) وهي عاصمة إمارة (آل مُهنَّأ) وما بين هاتين البلدتين مسافة قدرها ست ساعات للراكب.
وكلتا البلدتين عُنَيْزَ وبُريدة دخلت في قبضة الأمير عبد العزيز بن سعود الموجود الآن.
5 - العلم بوجه الإجمال في هذه الإمارات الثلاث - استناداً إلى ما تقدم، نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام ونخص كل إمارة بكلام يناسبها مناسبة إجمالية فنقول: كانت ربوع ديار (الرياض) وتلقب حيناً (بالعارض) منبعث أنوار العلم والعرفان في عهد غضارة إمارة آل سعود. لكن أكثر هذا العلم يدور على علم التوحيد والكلام والأصول والتفسير والفقه واللغة وجميع العلوم الدينية وقليل من النحو والصرف وسائر علوم الآلة.(2/180)
فلما أخذت دولتهم بالزوال تقلصت ظلال العلوم عنهم أيضاً رويداً رويداً وتشتت العلماء على أوجه شتى: فمنهم بالموت وآخرون بالمهاجرة إلى بلاد أخرى يرتزقون فيها لأن عيشتهم في السابق كانت متوقفة على ما يجريه الأمير ابن سعود من الرواتب الدارة الأخلاف الجارية من بين المال وهذا يمتلئ مما كان يجمع على ما جاء به الشرع الشريف من النظام والأصول المثبتة في الإسلام.
أما اليوم فلم يبق من تلك العلوم شيء في الرياض وانتقل أغلبه إلى بلاد (القصيم) و (حائل) السالفتي الذكر. ولا يوجد من يتعاطى العلوم فيها إلا أناس قلال. ووجودهم كعدمهم. وهم الذين خبطوا في الديانة خبط عشواء. وأظهروا التعصب الديني الأعمى وأشاعوا عنه
وعن أصحابه أموراً لا توافق مذهب السلف. وهي وإن كان اغلبها ملفقاً إلا أن لها بعض الحقيقة فجسمها خصومهم وحسادهم على تلك البقاع وعلى عزتهم فيها وانتصارهم على مناوئيهم إلى أن تقلص ضل دولة آل سعود ففرحوا بذلك فرحاً لا يوصف. وما زالت الحالة في تأخر وتقهقر حتى اضطر أكثر أهل تلك البلاد إلى المهاجرة للاسترزاق فظعنوا عنها مكرهين ولكن هجرتهم لم تبعد لأنهم لم يتجاوزوا الإحساء والزبير والبصرة. أما اكثرهم فتراهم في البحرين وعمان وسائر تلك الأصقاع وكلها لا تخرج عن بلاد العرب. والذين هاجروا لم يكتسبوا بهجرتهم علوماً تقدمهم إلا النزر القليل مما يوافق مشربهم وتغربهم أي معرفة أعداء الدول وقواها وبعض ممالكها ومستعمراتها وسياسة بعضها لبلاد نجد. والخلاصة أنهم يتأثرون(2/181)
كل ما له تعلق ببلادهم.
والبعض منهم (وهم أفراد قليلون) وصلوا إلى الهند كمدينة لكنو وحيدر آباد وأمرتسر وغيرها ودرسوا بعض علوم الدين وشدوا شيئاً من الفلسفة وعلوم العمران والاجتماع. لكن علوم هؤلاء الأفراد لم تؤثر في قومهم التأثير المطلوب لما رجعوا إليهم قافلين بها، ولذا لا تراهم حظيين في عيون وطنييهم.
أما إمارة ابن السعود الآن وحاشيتها. وإن شئت فقل: أما مقدمو إمارة ابن السعود فإنهم على كفاية من العلم اللازم لإدارة شؤونهم حسب سعتها وما تطلبه منهم مكانتهم بل يوجد بينهم أفراد لا يستغنى عنهم لحل الأمور المعضلة أو المشكلة. وأكثرهم ممن تربوا في المدن.
وفي هذا العهد (أي منذ إعلان الدستور العثماني) انتبهوا انتباهاً عظيماً وهم في شوق لاعج إلى الاطلاع على حقائق الأمور والانضمام إلى الحكومة العثمانية. ولكن يا للأسف أن الحكومة لم تشرح صدرهم إلى اليوم فهي لا تراسلهم بل لا تنظرهم. لا بل لما طلب ابن السعود من ناظر الداخلية (طلعت بك) - حسبما بلغني - ليبعث إلى المجلس من قبله مبعوثين رده قائلاً: تفعل ذلك في الانتخاب الجديد.
ولما كانت بيني وبين الأمير ابن السعود قرابة (إذ أني خال أحد أولاده) مثلت بين يديه بعد ما قضيت سنين في الهند وشرحت له أحوال الدستور في الأمم الراقية فانشرح له صدره وأفادني بأنه يكون أول مؤيد له وأعظم مساعد للحكومة العثمانية في ما تريده وألححت عليه بأن(2/182)
يوفد إلى الحكومة العثمانية مبعوثين من قبله ففعل وطلب ذلك لكنه رد كما تقدم
القول.
هذا وأهل هذه الإمارة يطالعون بلاعج الهوى الجرائد والمجلات وهي تأتيهم من كل حدب وصوب ويطلبون الكتب ولاسيما الحديثة الوضع ليقتنوها ويطالعوها. وهم يقبلون عليها إقبال الجياع على القصاع. غير أن الاضطرابات التي تحدث بين القبائل غالباً لأدنى سبب. وسنة الأعراب منذ القدم سنة الغزو والهجوم لا تدعهم يتفرغون لها كل التفرغ ليستفيدوا الفائدة المطلوبة. ومع هذا فإني أرى أنه لا تمضي سنوات إلا ويصلون إلى درجة حسنة من العلوم والآداب بمنه تعالى وكرمه.
2 - وأما العلوم والآداب في حائل (ويقال لهذه الإمارة أيضاً الجبل وجبل شمَّر وهو جبل طيء في السابق) فهي على غير ما رأيته في الإمارة الأولى.
ومما يجب أن تعلمه قبل إيغال في البحث أن هذه البلاد قد وصلت إلى درجة تذكر في العلوم منذ سابق العهد. وإمارتها لشمّر منذ أن وجدوا إلى يومنا هذا. وقد استولى عليها آل السعود حين قويت شوكتهم وعظمت صولتهم. وما كادت شمسها تميل إلى الغروب إلا وعادت تلك الديار إلى أهلها الأقدمين. وكان أول أهلها ورؤسائهم: آل علي ثم انتقلت إلى طلال فبندر فمحمد الرشيد.
بغداد
ساتسنا(2/183)
صحافة سورية ولبنان
3 - المجلات
هذه مقالتي الثالثة عن صحافة سورية ولبنان. . . ولا يخفى أن للانقلاب العثماني الأخير فضلاً عظيماً على هذه المجلات التي أنا ذاكر. فمل يكن منها قبل إعلان الدستور إلا مجلة المشرق ومجلة المقتبس.
أما بقية المجلات فقد صدرت في العامين الأخيرين كما يظهر لك في هذا المقال.
وقد اجتهدت، في هذا القسم، أن أذكر تاريخ صدور لهذه المجلات متخيراً أوثق المصادر في ذلك فأقول:
1 - المشرق (بيروت): نشأت في أول كانون الثاني سنة 1898. صاحبها الأب لويس شيخو اليسوعي. كاتب باحث. كثير التنقيب. كثير الاطلاع. مجلة شهرية يسوعية محضة. هي وجريدة البشير فرسا رهان في مضمار المدافعة عن الدين. لهجتها شديدة، وعبارتها بين بين.
2 - المنتقد (بيروت): هي شهرية. نشأت في 15 أيلول سنة 1908 صاحبها محمد باقر، كاتب رقيق، له ذوق سليم في ترتيب مجلته وتبويبها. متساهل في آرائه.
3 - النبراس (بيروت): نشأت في 22 كانون الثاني. صاحبها الشيخ(2/184)
مصطفى الغلاييني، كاتب وشاعر مجيد. أصح أصحاب المجلات السورية عبارة. وقد احتجبت النبراس والمنتقد لأسباب قاهرة.
4 - الحسناء (بيروت): شهرية نشأت في 20 حزيران سنة 1909. صاحبها جرجي نقولا باز، كاتب عصري مجيد. أستاذه الاجتهاد، ومدرسته المطالعة. هو نصير السيدات الخاص. أكثر مباحث مجلته ترقية الفتاة. قارئات المجلة أكثر من قرائها. لجرجي أفندي أسلوب خاص في كتابته.
5 - الكوثر (بيروت): شهرية. نشأت في 18 تموز سنة 1909. صاحبها بشير رمضان، كاتب مجتهد له اعتناء خاص في ترتيب المجلة. لا يضع فيها رسالة أو قصيدة نشرت في إحدى الجرائد. عبارته جزلة، ومجلته منتشرة جداً بين الشبيبة الإسلامية الراقية.
6 - الكلية (بيروت): شهرية. نشأت في أول شباط سنة 1910. تصدر في الكلية
الأمريكانية، في اللغتين العربية والإنكليزية. الأولى بقلم الأستاذ بولس الخولي العالم المتفنن، والثانية بقلم رئيس الكلية هورد بلس الخطيب الشهير. أكثر مباحثها في شؤون المدرسة والأساتذة والتلامذة.
7 - النفائس (بيروت) نصف شهرية. نشأت في 1 آذار سنة 1910. صاحبها أنيس الخوري. يكتبها كامل حمية، الكاتب الرقيق والشاعر المجيد. مباحث المجلة طلية. ولمحررها أسلوب داخله هزل يدلي إلى انتقاد.
8 - الرابطة (بيروت): مجلة جامعة. نشأت في أول كانون الثاني(2/185)
سنة 1911. تصدر في المدرسة العلمانية الفرنسوية بثلاث لغات (العربية والتركية والإفرنسية) بعناية رئيس المدرسة المسيو ديشان، والأستاذ عساف بك الكفوري الكاتب العربي الصميم، والمجلة كاسمها رابطة ولاء وصلة إخاء بين التلامذة.
9 - المسرة (حريصا - لبنان): نشأت في أول حزيران سنة 1910. أصحابها المرسلون البولسيون. يحررها السيد جرمانوس معقد أبلغ مطران عربي، له أسلوب خاص في إنشائه.
10 - النديم (جسر نهر بيروت): نشأت في 15 أيلول سنة 1910 صاحبها شاكر عون، عالم غير كاتب. والنديم أقرب إلى جريدة منه إلى مجلة.
11 - النفائس العصرية (القدس): نشأت سنة 1908 وهي مجلة شهرية. صاحبها خليل بيدس، كاتب اجتماعي رقيق. لمجلته اعتناء خاص في ترجمة الروايات المفيدة المسلية. قراء المجلة كثيرون. وأكثرهم من الأرثوذكس.
12 - الإنسانية (حماه): نشأت في حماه سنة 1910. صاحبها حسن رزق، كاتب متساهل، وشاعر بليغ. لمجلته اعتناء خاص في ترقية المرأة.
13 - المقتبس (دمشق الشام): نشأت أولاً في مصر سنة 1905. صاحبها محمد كردعلي، كاتب مؤرخ. مجلته ثقة في سرد المسائل التاريخية. ولو كان حظه بقدر اجتهاده لكان لمجلته شأن عظيم في الشرق.
14 - العرفان (صيدا): نشأت سنة 1909. صاحبها الشيخ أحمد(2/186)
عارف الزين. مجلته جامعة. فيها من كل فن خبر. منشئها مثال التساهل الديني.
* * *
وهناك مجلات أخرى لم أذكرها لعدم قراءتي إياها طويلاً كالطبيب للدكتور إسكندر بارودي، والجسمانية للأب يوسف علوان، واللطائف الأهلية لمحمد جمل، والتلميذ للمدرسة العثمانية، والمجلة السورية لفيليب يوسف تيان، ومجلة الاقتصاد لأنيبال إبيلا، والحقوق لمعوشي وخلف، والعري، والعروس، والشبيبة وغيرها من المجلات التي لم تعش كثيراً لضعف مادتها العلمية من جهة. وفقر أصحابها من جهة أخرى.
حليم إبراهيم دموس
في جنائن الغرب
عفريت المنزل
معربة عن كتاب لفيكتور هوغو.
لوسي. . . ما لك ترتجفين. لا ترتعدي فرقاً، ولا تجزعي قلقاً. أتخشين عبدك، وهو يتفانى في سبيل خدمتك. أتخشين ممن يريد أن يظل قربك ما دام الليل ليلاً والنهار نهاراً. أتخافين من يبذل حياته وسعادته ليزيد يوماً واحداً في عمرك؟ ألا اغفري لي أيتها الصبية الجميلة إن أزعجك كلامي أو راعك منظري. فالكلام قد ضاق في صدري وأنا(2/187)
أريد أن أتكلم فإن السكوت يؤلمني.
ألا قولي ما الذي يدعوك إلى البرية، إذا ما الشمس هتكت حجب السحب، وبددت جيوش الظلام، وتمايلت الحقول طرباً لهبوب نسيم الصباح البارد. ألا أمكثي في بيتك واسمعي ما يوحي به إليك عفريت دارك، وعي في صدرك ما يبث في نفسك من الحب والهيام. وإذا ما الكرى أسبل عليك ستاره، وبت سكرى من نشوة خمره الفتان. أنفث في صدرك ذكرى الأحباب ومن طوتهم الأيام وأدرجتهم القبور تحت أحجارها، وأكلل مهادك الجميل الوثير بأجمل الأزهار لوناً وأعبقها أرجاً. فأجعل أيامك كبعض أيام أيار، وليلك كبعض الليالي المقمرة.
وإن طمت بك السأمة مرة إلى استماع تغريد الأطيار تحت ظل الأشجار أو صفير البلبل المعجب عندما تمي ملكة النهار مائسة نحو ظلمات المغرب، أعير الأطيار شجي نغماتي، وأضع في فم البلبل أطرب آلاتي، وأنفخ في هبوب النسيم البليل بعض شذا الجنة فيحيي أنفاسك المنهوكة تحت وقر العمل. وإذا ما الغراب الأسحم نعق قرب دارك، طرته بعيداً وأقصيته عنك كيلا يوشوش عليك ذهنك أو ينغص عليك عيشك.
عندما تستسلمين بنفسك إلى زورق الصايد المتمايل فرقاً فوق تجعد الأمواج واضطراب المياه، فإني أنا أدفع بذلك الزورق الغارق إلى بر السلامة وآمر الأرواح فتهدأ وريح الجنوب فتهب باردة وتنفح وجهك الأحمر، وآمر الأسماك الصغير أن نبهج ناظريك بألوان ظهرها الذهبية(2/188)
فتجلو عن نفسك صدأ الأحزان والكآبة.
وأنا كالكلب الأمين أحرس دارك من شر اللصوص، وأرافق أنعامك إلى مرعاها الأخضر، وأذب عنها الذئاب والضباع، وأرد إلى أسرابك ما شرد عنها من الأغنام. أصنع لك الجبنة عندما تدر لك قطعانك أبانها، وإذا ما الشمس نادت حي على الفلاح كنت أول بادئ في العمل فأهيئ لك خيلك وأجرد عنها أقذارها.
ألا تريدين أن تنظري إلي. . . آه لو لم ترفضي إذن لعلمت أن الأرواح ليست قبيحة كما تتوهمها عقول البشر، لي أجنحة أطير بها وعينان زرقاوان كرقيع السماء الصافي، أنا ابن الهواء، أنا ابن الهباء، ونحافة جسمي تدلك على صدق قولي.
ألا قولي يا لوسي ما بالك ترتعدين؟ إني لست أعجب من رعبك. إليك آخر سؤلي، وما العهد بك أن ترفضي نعمة طلبت إليك فاسمعي. إن الله يأذن للأشباح أن تلبس الهيكل الإنساني مرة في السنة. فأنا سآخذ صورة حبيبك مانيوس من نقشت صورته على سويداء قلبك وعلقت نفسك بهواه. ألا فاقبلي طيفي الشارد كما لو كنت إياه وارحمي شقائي. . . إن التي كانت ترتعد خوفاً وتغرق رعباً منذ هنيهة من ذلك الصوت الحنون الرخيم، وتطرده منتصرة بالصليب، قد علا وجهها الأحمر وصمتت حياءً وخجلاً، فدنا من فمها فمٌّ وتعانقا. أتلك قبلة بشرية أم قبلة روح طوتها الأيام فبعثها الغرام. . .؟
لويس أسود(2/189)
في رياض الشعر
فؤادي
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بمرجعة بعض الذي كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمناً ... حمل الصبابة فأخفق وحدك الآنا
ما كان ضرك إذ عقلت شمس ضحى ... لو أذكرت ضحايا العشق أحيانا
من يعص في الحب نصح الناصحين يذق ... في الوصل ناراً وفي الهجران نيرانا
إسماعيل صبري
ما كان
تنأى فتدنيك آمال مكذبة ... لم تبق ذكراً ولا هيأت سلوانا
قد كان ما كان من قلبي ومن نظري ... يا ليت ما كان قبل اليوم ما كانا
ولي الدين يكن
الحب المكتوم
نشرنا في جنائن الغرب من العدد الماضي تعريب أبيان بالعنوان المتقدم للشاعر الفرنسوي فليكس أرفر وقد نظم الترجمة شعراً صاحب الإمضاء قال:
بنفسي سر للغرام مكتم ... وحادث حب في فؤادي مبهم
تولد في قلبي على حين غرة ... وتلك التي أوحت به ليس تعلم
سأقطع عمري لا وصال ولا لقا ... ولا أمل يدني إليها فانعم
فواهاً على صب يمر بقربها ... وقد جهلت أن الذي مر مغرم
تسير ولا تدري بسر غرامه ... ولو علمت كانت ترق وترحم
إذا قرأت شعري تقول من التي ... تتيمه والقلب فيها متيم
أحمد نسيم(2/190)
المراسلات السامية
وكتب الأمير شكيب أرسلان إلى سامي باشا البارودي جواباً على قصيدته العينية المنشورة في العدد الماضي:
أترى يحل هواك بين الأضلع ... ويحل لي بسواك ذرف الأدمع
وأبي أشرك فيك في دين هوى ... وأكون للتوحيد أول مدعي
وتظل تشرد بي لغيرك صبوة ... هي من سجوفك في المحل الأمنع
وأهيم في روض الحسان موزعاً ... قلباً وهي بالحمل غير موزع
قلب عليك تختمت أبوابه ... ما نحوه لسواك طرقة مطمع
إني طويت عن النسيم شغافه ... إن جاءني من غير تلك الأربع
وحجبت عن كل العواطف حجبه ... إلا الحنين لبدر ذاك المطلع
وأبحت إلا في الغرام هوادةً ... ومنعت إلا أنة المتوجع
أضحت تغاير في هواك جوارحي ... حتى ليغضب ناظري من مسمعي
وأغار من طرفي لغيرك ناظراً ... لمحاً ولو شيم البروق اللمع
ولو استطعت الشمس ذدت لهابها ... عن وجنتيك ولو سعت في رقع
ولقد أغار الهاجس من خاطرٍ ... من سر مهجة راهب متورع
يمشي إليك ولو بأعمق قلبه ... ويشير بالأفكار لا بالإصبع
درعت حسنك بالكمال وفتية ... من حول خدرك حاسرين ودرّع
في كلةٍ تذر الضراغم عندها ... من ذلة أمثال عفر الأجرع
ما للمطامع في الوصال ودونه ... خفر الشريعة والرماح الشرّع
نفسي الفدا لمقنع هجرت له ... أجفانهن شفار كل مقنع
تتهافت الأوهام عن حجراته ... ويرد خاطره المتيم إذ يعي(2/191)
ذاك الحمى إلا على من أمه ... مني بممتنع الوجيب مشيع
أكنهت بالإقدام سر ضميره ... وحللت بالأقدام قلب المصنع
هي زورة تحت الظلام وردتها ... فرداً بلا عضدٍ. . . بلى قلبي معي
فنظرت من ذاك الهلال لنير ... وعلقت من ذاك الغزال بأتلع
وأسغت في نهل الشفاه وعابا ... ما ليس يعذب بعده من مكرع
بتنا كأنا خطرة في خاطر ... أو وهلة حلت فؤاد مروع
نبهت بالأغزال هاجع حبها ... وحماتها من غافلين وهجع
وسقيتها كأس الهوى دهقاً ولم ... يحل الهوى إلا بكأس مترع
متمليين من العناق كأننا ... قوس خلا لزيادة من منزع
أروي غريب حديث أحوال الجوى ... والراح ليس يطيب غير مشعشع
وصلٌ أعاد الشمل أي موصل ... لكن أعاد القلب أي مقطع
عاطيتها صرف الهوى وعفافنا ... طول التلازم لم يشب من موضع
كانت مضاجعنا تنث كمالنا ... لو كان يوجد منطق للمضجع
والليل يكتم ما ينم بسره ... أرج النسيم سرى بمسك أضوع
وترى المجرة في السماء كأنها ... در تناثر من سماء مضرع
حتى إذا شق الدحنة شوقها ... لقا ذكاء وشاب فود الأسفع
ورأيت أسراب النجوم تتابعت ... بفرارها مصع النعام الأمزع
ما كان أحوجنا بذاك لآية ... تأتي لنا في عكس آية يوشع
زحزحت عنها ساعدي وتركتها ... دون الكرى من تحت عبء مضلع
وطلعت أعثر بالسيوف ولو درى ... أهل السيوف مقامتي لم أفزع
أيفول مهجتي الكماة وما لهم ... فخر سواي إذا اغتدوا في مجمع
وترى تخون الخيل فارسها وهل ... يردى الحسين على يد المتشيع(2/192)
أو من لهم مثلي إذا عبس الوغى - وتضاحكت أنياب ثغر المصرع
وتشاجرت سمر القنا وتجاذبت ... بذوائب والسيف شبه الأصلع
ولقد بذذت السابقين فمن لهم ... بوقوف سير بالمكارم موضع
وبلغت من سامي الفخار وجاءني ... التقريظ من محمود سامي الأرفع
خنذيذ هذا الدهر واحد أهله ... مقدام حلبته الغر الأبتع
القائل الفصح التي عن مثلها ... يثنى المقفع في بنان مقفع
لو جاء في العصر القديم لما روى ... إلا قصائده لسان الأصمعي
قد قاد مملكة الكلام وحازها ... أخذ الأعزة للذليل الأضرع
أن يعصه قول فلم يك لفتة ... حتى يذلل مستقيم الأخدع
سهل البيان عصيه للمحتذي ... فلأنت منه بين عاصٍ طيع
خلقت له عليا اللغات فلو هفا ... نحو الركاكة جاء كالمتصنع
تهجو المعاني حوّماً حتى إذا ... سامين فكرته هبطن بموقع
مازال يبدع قائلاً حتى يرى ... بدعاً على الأيام إن لم يبدع
إن أجدبت أرض الخلائق بالثنا ... فخلاله للحمد أمجد مرتع
أو حار قومٌ في الشعاب فإنه ... رب المضي على المضيء المهيع
أضحى يطارحني القريض وهل ترى ... من إصبع يوماً يقاس بأذرع
أملى إلي قصيدة فأذابني ... خجلاً وهيبةً خاشع متصدع
يا ابن الغطارفة الألى لم ينتموا ... إلا بأزهر في الندي سيمذع
يا غرو أن يرتج علي بحضرة ... إن قابلت شمس الضحى لم تسطع
فلو أن سحبان الفصاحة قائم ... في بابها ما قال غير متعتع
فهناك ما بهر الخواطر هيبةً ... وزرى بعارضة الخطيب المصقع
كل العقائل في حماك وصائف ... والمنشآت من الجواري الخضع(2/193)
فأسلم رعاك الله سابغ نعمةٍ ... وأعاد عيشك للزمان الأمرع
وأعذر إذا قصرت عن حق فلو ... أمليت أسود مقلتي لم أقنع
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الأولى
من مسز هملتون إلى الأميرال نلسن
كانت مسز هملتون أجمل نساء عصرها حتى قال فيها أحد شعراء قومها: ليشفق الله عليك فما أشقاك في جمالك الساحر. وقد جرى لها مع الأميرال نلسن الشهير أمور معروفة في التاريخ انتهت بانفصالهما وبعثت إليه بالرسالة الآتية على أثر ذلك. قالت:
لا يشفع في كتابتي إليك إلا ذكرى أيامنا الماضية وأحلام الصبى التي كنا نتعلل بها. وقد انطوت اليوم صفحة تلك الآمال وانقضى ما بيننا من عهود كانت أشبه بحلم أعقبته يقظة هائلة.
كيفما التفت أرى العالم أشبه بفراغ لا تستطيع الكائنات جميعها أن تملأ زاوية من زواياه. ذلك لأن قلبي الذي كان طافحاً بأحلام السعادة قد أصبح اليوم خالياً ولعل قلبك أيضاً مثله فلا حب ولا آمال ول عهود ولا وعود.(2/194)
هل تذكر أيامنا السالفة والعهود التي كانت تربط قلبينا معاً رباطاً كنا نهزأ إذا قيل لنا أن الأيام ستفت فيه؟ أمل تقل لي يومئذ أنك تحب الحياة لأنني في الحياة، وتخشى الخلود لأنه قصير المدى في أعين المحبين؟ فأين ما كنا نتعلل به من أحلام الشباب؟
* * *
. . . . أنا جالسة إلى نافذتي اكتب إلي هذه الأسطر ولا اعلم أين أنت. أنت بعيد عني ولعل بين وبينك شقة شاسعة من الماء والفضاء. أرى الشمس وقد أوشك قرصها أن يختفي وراء الأفق وهي تنثر التبر من أشعتها الذهبية. كنت أود لو أنها لم تكن مشرقة على هذا العالم لأن ذلك أدعى إلى مؤاساة الحزين ولأن في ابتسامتها شماتة بالقلب المنكسر. وما أوقعها عظمة في النفس وهي واقفة تلقي على الكون حية الوداع.
* * *
لست ألومك لما جرى. . . ولكنني آسف لزهرة غرسناها فلما آن قطوفها لفحتها ريح محرقة. فإذا كانت الآلهة تستطيع أن تعاقب البشر فهذا منتهى الشدة في العقاب. ألم أحب
الآلهة لنني أحببتك؟ ألم أتمثلك دائماً الكل في الكل؟ ألم أقل لك أنني أخشى أن ينتهي الخلود قبل أن يشبع القلب من حبك؟.
* * *
لزمت الفراش مدة فلم أترك غرفتي قط. لا أزال أشعر بضعف وشقاء. في لجو غيمة، وفي قلبي غيوم. ليتني أنسى الماضي وأعود إلى(2/195)
ابتسامتي السالفة. أتذكر يوم كنت تقول لي إن ابتسامتي مسروقة من ثغور الملائكة؟ فأين أنت اليوم لتنظر ما قد حل بتلك الابتسامة؟
حقاً ما أظلم الآلهة: إنها تمنح الربيع للطبيعة، والأريج للأزهار، والحب للقلب، ولكنها تمنع الابتسامة عن ثغور الحزانى فما أشقى القلب الحزين - الحزين بسبب الحب!
* * *
فكرت فيك اليوم ملياً لسبب لا أدريه. ذكرتك فتمثلت نفسي كمن يستيقظ من حلم هائل. أصحيح أن ما بيننا قد انتهى؟ أصحيح أن صفحة الماضي قد انطوت؟ إذن لماذا لا تنطوي معها هذه الحياة؟ لماذا لا تخمد نبضات هذا القلب وتهدأ دقات هذا الفؤاد؟ أإلى هذا الحد يبلغ بالمرء الشقاء؟
* * *
إن الزمان هو الطبيب الأكبر يا. . . . هو سيشفيك من مرض الحب الذي ألم بك ردحاً من الأيام، وربما لا تزال آثاره في زوايا قلبك الذي كان قبلاً مسكناً لي. سوف يأتي يوم لا تذكر فيه من هذه التي تخاطبك الآن سوى شبح يتضاءل كلما مرت به الأيام إلى أن تسدل عليه حجاباً، وتقذف به في هاوية الماضي. وما أعرب تلك الهاوية اللاقرار لها - أبدية تفغر فاهاً لتبتلع كل تذكاراتنا العذبة، وأحلامنا الماضية - رحماك أيتها الأبدية بتلكم الآمال!
* * *(2/196)
قلبي مفعم غماً وآلاماً مبرحة. ونفسي تميل اليوم كثيراً إلى الدير. ولكنني كلما ثبت إلى نفسي رأيت الدير أشبه بمقبرة تزج فيها الفتاة نفسها وتقضي على البقية الباقية لها من الآمال في هذه الحياة. يقولون إن الدير أول محطة على الطريق إلى السماء. ولكن فاتهم أنه أيضاً مقبرة للأحياء تدفن فيها المرأة ما أبقى من حشاشتها الغرام. . .
رشيد بك نخلة
السماء التي أظلت صاحب هذا الرسم أظلت غير واحد من أهل البيان. هي ألهمت هؤلاء وهي أوحت إليه. وكما متعت رشيداً بجمالها(2/197)
وتصبت قلبه بآياتها. أنزلت تلك الآيات على قلوب كثيرين، وابتذلت أمامهم جمالها الفتان.
تلك السماء الصافية الأديم جوّادة تعطي، وكريمة لا تمنع، فالشاعر القدير من استفاد من عطائها، وأثرى بهباتها، واستنزل إلهامها، واستجلى بديعها، واقتبس من سحرها، واسترق من أسرارها. وعلى قدر هذه المواهب تكون مسؤولية الشاعر أمام نفسه، وأمام السماء التي أوحت إليه. لهذا أرى أن يسأل الأديب اللبناني عن كثير، ويطالب بمقدار وافر:
* * *
أمامي هذا الرسم ولي بصاحبه صلة مودة قديمة. إن رشيد بك نخلة معروف في لبنان لا يجهله مواطنوه. قد لا يعرفه بعضهم سياسياً حاذقاً ولكن جميعهم يعرفونه شاعراً مجيداً، وكاتباً بارعاً حلو الحديث أديب اللسان!.
ولد في الباروك إحدى قرى لبنان وحيداً لأبوين كريمين فنشأ كريم الأصل شريف التربية. لم يعرف المدرسة قط قبل أن كان يافعاً فلما أقام فيها بعض السنة ملّها وملته. ليس في فطرته ميل إلى التقيد ولا في خلقه غير حب الانفلات والحرية. كان في حداثته يقول الشعر العامي اللبناني ومنه تدرّج بفضل السليقة إلى الشعر الفصيح. أما قواعد العربية فاقتبسها من مطالعاته لدواوين الشعراء وكتب الأدباء فبات ينطبق عليه قول بعضهم.(2/198)
ولست بنحوي يلوك لسنانه ... ولكن سليقيٌّ يقول فيعرب
* * *
في مكتبة الزهور شيء يسير من شعر هذا الشاعر المطبوع وإنما هو قليل من كثير لأن رشيداً محب للشعر جواد القريحة غير أنه قليل الاكتراث لبنات أفكاره وعدوٌّ للشهرة والظهور. يقول الشعر ليلذ نفسه ويطرب فؤاده فإذا ما اكتفى لذة وطرباً رمى بأوراقه في أدراج مكتبته فليس تنفتح عليها تلك الأدراج ولو ثقبناها بمسمار.
ولقد تسنى لنا أن نفوز ببعض تلك اللآلئ المكنوزة فرأينا أن ننشرها تباعاً تاركين للقراء أن يقدروا قيمتها الغالية ويعرفوا مكانتها من الأدب.
قلت أولاً إن الشاعر الذي أوحت إليه سماء لبنان، وألهمته الطبيعة الباهرة الجمال في تلك
الربوع والأصقاع، مطالب بكثير، ومسؤول عن أدبٍ وفرٍ وبيان ساحر يكونان بمقدار ما استنزل مما حواليه من الوحي والإلهام. إذن فإن رشيداً سيكون ولا ريب حبيباً إلى قراء الزهور ولعله لا تشغله وظيفته السامية في حكومة جبل لبنان عن إتحافنا على التمادي بزهراته الطيبة؟
أمين
أنت
ملك أنت يا مادحة السرير ومنهنهة الصغير، ومعنى حيوة هذا الوجود أنت.
أنت آنست وحشة الجد الأول حيث كان، وحبك كان حماطة قلب(2/199)
صاحب الحكمة، وجمالك هو نشيد الأناشيد، وكلما في هذه الحياة من القوة هو أنت.
أنت الضلع المسلوخ عن القلب، وأم البشرة الناعمة، وذات الجسم البض، والكتلة المكهربة التي كوّنتها يد المبدع العظيم، وكلما في الطبيعة من جاذبية وجمال هو أنت.
أنت وكلما يقع تحت معنى اللطف ورقة الشعور هو أنت.
أنت يا نقية القلب يا سلسلة المقادة يريدون أن يجعلوا منك غير ما هيأت الطبيعة. يريدون أن يمتهنوا امتيازات نوعك التي اختصته بها الفطرة. يدّعون أنهم يريدون لك الكمال وهم بذلك غنما ينتقصون قدرك ويستخفون بميزتك.
يحاولون أن يزيلوا عنك مزايا الأنوثة المحبوبة ويخلّقوك بأخلاق الرجال وأنت لو فطنت لعلمت أنهم بذلك إنما يحاولون تبغيضك إلى القلوب عدا أنهم يعالجون من ذلك أمراً أدّاً.
يقولون إنهم يريدون أن يجلسوك في صدور المجالس وعلى كراسي النيابة ويدججوك بالسلاح وينزلوك إلى ساحات القتال وأنت لو علمت ما خلقت لهذا.
يزعمون أن الأجيال الماضية ظلمتك، وإن عصر النور هذا سيرفع عنك تلك الظلامة بما سيعدون لجسمك الأبض من المقاعد الخشبية في تلك المجالس ويدفعونه لبنانك المنمنم من رهيف الحد.
يريدون أن يفتلوا ساعديك ويضخموا منكبيك ويميتوا من ذلك(2/200)
القلب الملكي عاطفة الحنو والإشفاق ويبتذلوا مجلى جمالك وبهائك للعيون وبالجملة يريدون أن يجعلوك رجلاً وامرأة معاً.
هذا ما يريدون وذلك ما يعالجون ويدّعون نصرتك ويهزون لواءك.
أما أنا يا ذات المعصم وربة السوار، فلا أريدك إلا كما خلقت مادحة السرير منهنهة الصغير مؤنسة الوحشة مملكة القلوب ناعمة البشرة أنيقة الجسم منمنمة البنان رقيقة الشعور.
رشيد نخلة
(وسننشر في العدد القادم شيئاً من شعره)
أفكار وآراء
* عمل الطفل الصغير لا يفقد قيمته في جانب عمل جبار الأعمال، وعمل الفرد لا ينقص من قوته إنه جزء من عمل البشرية كلها.
* إتمام الواجب هو دليل الحياة، ومعنى الحياة وكمال الحياة، فمن لا يقوم بواجبه فلا حياة فيه، وقد يعيق سائر الكائنات عن عملها العظيم.
* الإنسان سيد المخلوقات، وأدقها صنعاً، وأكملها تركيباً، عليه من الواجب نحو نوعه ونحو سائر المخلوقات أكثر مما عليها جميعها، وهو يشتد إعراقاً في الإنسانية بقدر ما يشتد على القيام بالواجب.
* إن الراحة أو ما يدعونه في اصطلاح الفلاسفة سعادة إنما هو القيام بالواجب على أنواعه.(2/201)
* بقدر ما يتعمق الإنسان في العمل ويتبحر في الفلسفة يزيد احتراماً لفضيلة واضعي الأديان، وتساهلاً في قبول الحكمة التي أتوها.
* قبل كل محبة أيها الإنسان حب ذاتك لأن من لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب الآخرين.
* من لم يجد بداً من إتلاف كيان المعتدي عليه صوناً لكيانه هو، فقد اختار أهون الشرين.
* إن الانتحار الذي يزيد عدد الملتجئين إليه كل عام في الشعوب الراقية لهو دليل على انحطاط أولئك الملتجئين إلى الموت فراراً من الحياة وهرباً من القيام بالواجب نحو نفوسهم.
* آدابك الفكرية تظهر على لسانك لأنه قرطاس تصوراتك، فجرّب أن تفتكر حسناً وتفعل حسناً، فلا تستطيع أن تقول إلا حسناً أيضاً لأنه من فضلة القلب يتكلم اللسان.
* يعتقد البعض أن لكل إنسان ملاكاً حارساً، وأنا أقول لك إن لكل إنسان شيطاناً أيضاً، وواجباتك الأدبية هي أن تقاوم هجمات هذا الشيطان حينما يريد التغلب على عقلك وضميرك، ولذة الانتصار في هذا العراك هي إضعاف المرارة التي تعانيها في مغالبة عواطفك وأهوائك.
متى عرفت أيها الإنسان كيف تتسلط على أهوائك، فقد عرفت كيف تضبط كل أعمالك، ومتى فهمت أنك تعيش لتفيد فقد عرفت كيف تستفيد لتعيش، فالطمع إذا كان مقروناً بغاية
حسنة فهو خلة محمودة رغماً عما يقول في مذمته المكابرون.(2/202)
* من يعرف كيف يكسب الدينار عن طريق الاستقامة، لا يخشى من بذله في الطريق الحسنة.
* قد أجمع السواد الأعظم من الناس على جعل ما لا تصل إليه أفهامهم من مظاهر القوة صفة للخالق فإذا لم تقدر أن تعتقد ما يعتقدون، فاختر لنفسك معتقداً يعلمك الخير ويرتاح إليه ضميرك ويحيا به.
* خير للمرء أن ينظر إلى ما وراء المحسوس بعين الرجاء وآمال السعادة من أن يغمض عينيه ويستسلم إلى الحكم الظلمة.
* سيرة الإنسان في بيته تظهر أخلاقه الحقيقية أكثر مما يظهرها أي مظهر آخر.
* كما تكون العائلة تكون الأمة، والأمة المنحطة إنما هي مجموع تغلب فيه العائل المنحطة، كما ان الأمة النشيطة التي ينبغ أفرادها إنما هي مجموع تغلب فيه العائلة المرتقية.
* البيت يؤثر في الأفراد أكثر مما تؤثر فيهم المدرسة والكنيسة والجامعة، لذلك أطلق الناس على الرجل الفاضل اسم ابن البيت مضموناً به كل الألقاب والأوصاف الحميدة.
* بيتك هو المقدس الذي تطهر به نفسه، بل هو الكنيسة والكنيس والجامع والخلوة، وهو المكان الذي تلتهب فيه عليقة المحبة والتهذيب، وإذا لم يكن عليك أن تخلع نعلك من رجليك كما جعلت العزة على موسى، فعليك إن تخلع عنك كل وصمة عار أو فكر شرير يطرأ على ذهنك. هذا هو البيت بكل معناه، فواجباتك الأولى أن تحترمه كمقدس لك.(2/203)
* حسن سلوكك في بيتك سعادة لك ولشريكة حياتك، ومدرسة لبنيك وبناتك، فإن كنت لا تستطيع هذا، فجرب أن تكون بلا بيت لئلا تنزل عن عرش رجوليتك وتقلل من هيبتك واعتبارك وتدوس الإنسانية وواجباتك نحوها.
* الأخلاق الحسان تلقى إليك كالوزنات التي أشار إليها يسوع الجليلي على شرط العمل بها وإنمائها، فإن لم يكن لك ضمير حي يطالبك بها، فلابد من أن تطالب بها من أولادك يوم يرون ذواتهم تعساء في حياتهم، ذلك إذا لم تستوف الطبيعة نفسها حقها منك.
سامي الراسي
أحسن مقالة وأحسن قصيدة؟
سألنا القراء رأيهم في أحسن مقالة وأحسن قصيدة نشرت في السنة الأولى للزهور. فجاءتنا الأجوبة مختلفة مما يدل على الاختلاف في الأذواق.
مقالة رجوع الحبيب لجبران خليل جبران وقصيدة شوقي بك في رثاء تولستوي أحرزتا أكثرية الأصوات. وجاءت بعدها قصيدة فرعون وقومه لإسماعيل باشا صبري وقصيدة نفس مكرمة ونف تزدرى لولي الدين بك يكن.
ونالت قصيدتا صبري باشا أيضاً بكاء صديق ودمعة أصواتاً غير قليلة. ومثلها قصيدة شوقي بك إلى الحبيب.
ومقالة الرقيق الأبيض ومن القفص إلى العش أحرزتا خصوصاً استحسان القارئات.(2/204)
أما محبو الأبحاث الأدبية فقد أعجبوا بوجهٍ خاص بتاريخ الآداب لعيسى معلوف وبالنهضة في العراق لساتسنا.
ومن المقالات التي نالت أصواتاً غير يسيرة العمال والحكومات والقطران الشقيقان لداود بركات وما كان في معناها من قلم تحرير المجلة في مفتتح العدد الأول وفي العدد الكبير مصر وسورية.
وقد جاءتنا كتابات أيضاً تعرب عن استحسان خطة درس الكتب كالريحانيات والنظرات ومجموعة الشميل والمقابلة بين شوقي والبوصيري وحافظ إبراهيم والفرزدق. وطلب أصحابها أن نكثر من هذه الدروس الانتقادية فنجيبهم: أعطونا كتباً وخذوا دروساً.
وأثنى الكثيرون على الأشواك والأزهار التي يجمعها حاصد وكتب إلينا أحد الظرفاء يقول: باقةٌ جميلة جمع فيها الورد والبنفسج والزنبق والياسمين: مجموع أزهار عطرية لا أعرف أيها أفضّل فلذلك جمعتها كلها وحرصت عليها في خزانتي.
هذا مجمل ما جاءنا من الأجوبة على سؤالنا نورده مع الشكر لكل الذين لبوا الطلب.
أزهار وأشواك
القبلة والقانون
ذكرت في العدد الماضي كلمة عن القبلة والصحة، وتحظير المجلس الصحي في ولاية إنديانا للتقبيل. وقد كتب إلي فريق من القراء نظماً(2/205)
ونثراً يشاركون شبان تلك الولاية في احتجاجهم على هذا المنع الثقيل. ولم يأتني شيء بهذا المعنى من القارئات. مع أن رأيهن في الموضوع ذو شأن خطير. وقد قرأت خبر حادثة جرت في أمريكا - وأية غريبة لا تحدث في العالم الجديد؟ - مفادها أن قد طرح على القضاء حل هذا المشكل هل يجوز للزوج أن يقبل زوجته ساعة هي لا ترغب في ذلك. . .؟ جاوبت المحكمة سلباً، وحكمت على مستر جورج شوت بغرامة مئة دولار مع الأمر بعدم تقبيل زوجته قبل. . . الحصول على رضاها. ونحن نود لو صرحت لنا المحكمة برأيها في ما إذا كان الرجل مضطراً إلى تقبيل زوجته ساعة هي ترغب في ذلك وهو لا يرغب. . .؟ غريبة ثانية عن المحاكم الأمريكية: تضايقت امرأة من قبلات زوجها الكثيرة فرفعت أمرها إلى القاضي. فرتب للرجل عشر قبلات فقط في النهار تاركاً له الخيار في تقرير مواعيدها، فجعلها خمساً صباحاً وخمساً بعد الظهر. . . أف للقبلة ما أثقلها إذا كان شبح القانون واقفاً بين الشفاه والخدود. وقبحاً لها ما أمرّها إذا كانت تؤخذ بكمية ومواعيد مقررة كحبوب بنك ومستحلب سكوت. . .
بريد وبريد
مصلحة البريد وجدت لتخدم مصالح الجمهور. أنت تدفع الغرش أو الخمسة والعشرين سنتيماً على رسالة تكتبها لتصل تلك الرسالة إلى من كتبت إليه. ويتقاضى منك صاحب الجريدة أو المجلة علاوةً عن قيمة(2/206)
الاشتراك تلقاء نفقات البريد، حتى تصل الجريدة أو المجلة إليك، لا إلى أحد عمال البوستة ليطالعها ويعيدها إليك متأخرة - هذا إذا خطر على باله أن يردّها. هذه أمور معروفة، فيثقل عليك وعلي ترديدها، ولكنها كثيرة ما تهمل فيضايقك ويضايقني إهمالها ولربما ألحق بنا ضرراً. وكيل إدارة الزهور مضطر إلى إرسال الأعداد إلى بعض الأنحاء مؤمناً عليها لئلا يختطفها عمال البريد في تلك الولاية. وكثيراً ما لا يجديه التأمين نفعاً ضد هذه الأيدي الطويلة. سبق لي تسديد شوكة من أشواكي
إلى هؤلاء القوم غير المحترمين. فتكسرت على جلدهم وهو أسمك من بعض الجلود. . . وإذا عدت اليوم إلى هذا الموضوع فلأقدم زهرةً من أعطر أزهاري لعمال البريد الأمريكي.
جاءني ظرف وعليه طابع من الولايات المتحدة ففضضته ووجدت فيه ظرفاً آخر مختوماً بالشمع مطبوعاً بطابع باريس، وضمنه رسالة من أحد أصدقائي هناك. فتعجبت للأمر، لكني قرأت على زاوية الظرف ما ترجمته وجد هذا المكتوب غلطاً ضمن رزمة جرائد فليرجع إلى صاحبه، فما أعظم الفرق بين بريد وبريد. . .!
حول إمام العبد
قلت في عددٍ مضى كلمة عن المرحوم إمام العبد وكان مدير هذه المجلة الجديد قد كتب نبذة في البرق عن ترجمة ذلك الشاعر فأرسل عز الدين أفندي صالح أحد أصدقاء إمام بهذه المناسبة بعض ملاحظات(2/207)
خصوصية اقتطف منها بعض ما يأتي: كنت قد أشرت في ما كتبت إلى الأبيات الحماسية التي نظمها الشاعر الأسود محتذياً حذو ابن لونه شاعر بني عبس وذكرت كيف أن القطة القافزة من النافذة قد أطارت لبه شعاعاً وهو يفتخر بالأسنة والسيوف وإليك هذه الأبيات:
ولما التقينا والأسنة شرع ... ونادى المنادي لا نجاة من الحتف
عطفت على سيف المنية فانجلت ... صفوف وكان الصف ألصق بالصف
فرحت وفي وجهي وجوه عبوسة ... وعدت وأشلاء الفوارس من خلفي
فلم أر قلباً غير قلبي بجانبي ... ولم أر سيفاً غير سيفي في كفي
وقسم سيفي القوم قسمة عادل ... فأرضى الثرى بالنصف والطير بالنصف
وأشار كاتب ترجمة إمام في البرق إلى أبيات نظمها الشاعر في شاب توفي مسلولاً، وإليك بعضها:
عشق الموت مكرهاً في شابه ... رب موت تحار في أسبابه
قبل أن يدفنوه في الرمس ميتاً ... دفنته الأيام في جلبابه
فإذا رمت أن تراه بعين ... لا ترى غير أنةٍ في ثيابه
كيف تقوى كفاه في موقف ال ... عرض إذا كلفوه حمل كتابه
أيها الموت لا عدمتك خلاّ ... طالما أنقذ الفتى من عذابه
وأورد صديقي من النكات عن إمام غير ما أوردت قال: شد عنقه يوماً بربطة سوداء فقال أن أحد إخوانه لما رآه هكذا حسب قميصه غير مزرر فطلب منه أن يزرره.
وجلس يكتب فسقطت نقطة حبر على القرطاس فقال أن جليسه يومئذ قال له (نشف عرقك).(2/208)
وأراد يوماً أن يذهب إلى البيت وليس في جيبه نقود. فركب عربة حتى إذا وصل إلى داره وولجها أطل للسائق من النافذة وقال له يا عربجي. سيدي مش عاوز يركب. . .
وقال إمام يتغزل بغادة بيضاء:
أنت عبدٌ والهوى أخبرني ... أن وصل العبد في الحب حرام
قلت: يا هذي أنا عبد الهوى ... والهوى يحكم ما بين الأنام
وإذا ما كنت عبداً أسوداً ... فاعلمي أني فتى حر الكلام
وقال متغزلاً بغادة سوداء مثله:
وسوداء كالليل البهيم عشقتها ... لأجمع بين الحظ واللون في عيني
إذا ضمَّنا ليلٌ تبسم ثغرها ... فلولا سناه بت في جنح ليلين
وقال شاكياً:
نسبوني إلى العبيد مجازاً ... بعد فضلي واستشهدوا بسوادي
ضاع قدري فقمت أندب حظي ... فسوادي عليه ثوب حداد
أضفت كل ذلك إلى ما سبق لي ذكره عن صديقي الإمام إعلاناً لفضله وقياماً بواجب الحرفة.
حاصد
تمدن المرأة العصرية
طالت المناقشة في هذا الموضوع وخرج المتناظرون كما قلنا في العدد السابق عن دائرة البحث الأول، فباتوا يتناقشون في ما إذا كان عدد الفضلاء يزيد على الفاضلات أو إذا كان الأمر بالعكس وهذا ما يصعب تقريره. وجاءتنا ردود كثيرة نظماً ونثراً يضطرنا ضيق المقام إلى الاكتفاء بتلخيصها أو الإشارة إليها. منها مقالة(2/209)
طويلة معتدلة اللهجة بإمضاء منصف حاول صاحبها أن يوفق بين الفريقين فقال بعد مقدمة أثنى فيها على الآنستين اللتين فتحتا هذا الباب:
. . . قد أجادت الآنسة هدى بوصف الحالة السائر عليها العدد العديد من نسائنا وفتياتنا الجاهلات، وقد أصابت المرمى بانتقادها تلك العادات الذميمة التي ستؤول بنا إذا طال أمدها إلى الهلاك والدمار أدبياً ومادياً. ولكنها بالغت جداً أو أنها غلطت في التقدير فتوهمت أن الحالة أسوأ مما هي وتصورت أن الفاضلات من الشرقيات أقل من القليل، ووافقها على ذلك طيرها المغرد، فأصدرا حكمهما الجائر وأعلنا قضاءهما المبرم. وإني لمخالف لهما ف الرأي ومتفق مع كاتبة بيروت، فأرى أن الفاضلات الحكيمات لم يزلن والحمد لله أكثر كثيراً من الجاهلات الخاملات، مما يبشرنا بحسن المصير ويؤملنا بحميد المنتهى، بشرط أن نثابر على ما نحن مجدون في أثره من الإصلاح.
. . . . قُيّض للذكر طبقاً لناموس القوة وشدة البأس أن يكون المتسلط المتبوع، وللأنثى بحكم ضعف الجسم ونحافة البنية أن تكون الخاضعة التابعة. وهو ناموس سارٍ منذ بدء العالم حتى اليوم، وعام بين المخلوقات كافة دون استثناء. . . وعليه لا غرو إذا رأينا المرأة تتوخى أن ترضي الرجل في كل عمل من أعمالها وتحاول أن تنال منه الالتفات والإعجاب. فحق والحالة هذه للآنسة أدما أن تقول إن معظم ما تؤاخذ به المرأة العصرية من التفرنج والتورط في اتباع المودة سببه الرجال لأنهم يميلون إلى هذه المظاهر.(2/210)
ثم بين الكاتب الأديب ما ألت إليه حال شبان هذا العصر من سوء فهم التمدن، وقال إن إصلاح المرأة الذي ينشده المتناظرون لا يتم إلا بإصلاح الرجال:
يجب علينا أن نصلح أنفسنا أولاً ومن ثم نسعى وراء إصلاح نسائنا وبناتنا، ولربما لا نبقى بحاجةٍ إلى هذا وقتئذ إذا أنهن يسبقننا حالاً إلى الإصلاح طبقاً لرغائبنا وسيراً مع أميالنا. وإن لمخالف حسوناً فيما نسب إليهن من الضعف ووهن المبدأ، فإنهن وإن يكن ضعيفات
الجسم نحيفات القوام، فهن قويات الشعور شديدات الإحساس، وما كان غيظهن من انتقاد الآنسة هدى وسرورهن من مدافعة أديبة بيروت إلا نتيجة هذين العاملين وهما كما يشهد الجميع رمز الرقي وعلامة التفوق في سمو الأخلاق. وقد نسي أديبنا على ما يظهر ما وصفهن به شيخنا العازار حيث قال:
وصفوا المرأة بالضعف وقد ... جهلوا ما قال فيها الكما
هي في الأرض إله مثلما ... خالق الأرض إله في السما
ثم رد منصف على حكاية حسون مع زوجته مما لم يخرج في المعنى عن رد سلمى وهند في العدد الماضي.
أما حسون فقد أرسل إلينا ردين الأول على سلمى والثاني على هند. ونحن لما تقدم من الأسباب نقتصر على نشر الأول منهما خصوصاً لأنه يرجع البحث إلى نقطته الأصلية ويظهر بأحسن بيان الغاية من هذه المناظرة، ويبين بطريقةٍ منطقية واضحة دور المرأة في المجتمع الإنساني ووجوب إصلاحها. ولنا الأم بأن يكون جوابه المقحم خاتمة هذه المناقشة، قال موجهاً الكلام إلى سلمى:
أسلم لك جدلاً بأن معظم الفتيان على شاكلة فتاك، وأسمح لنفسي(2/211)
بأن أقرعه على سلوكه الفظ مع فتاة من مثيلاتك حليتها الأدب والفضل وزينتها اللطف وخفة الدم. . . ولكن تسليمي هذا لا يخرجنا من الدائرة التي رسمناها وهي أن وجود فتيان أشقياء لا يجيز للفتيات أن يكن على مثالهم. ولما كان قصدنا الإصلاح وكنت من المسلمات بوجود النقص الذي ذكرناه في السيدات وجب أن تسلمي حتماً بأننا على حق فيما ذهبنا إليه وبأنه يجب تقويم ما اعوج فيهن بصرف النظر عما في أخلاق الرجال من الاعوجاج. فعيب الرجل يقتصر غالباً على الرجل وحده على حين أن نقص المرأة يتعداها إلى أولادها وهذا هو السبب الذي يحملنا على المناداة بوجوب إصلاحها قبل إصلاحه وإليك البرهان:
قوام الهيئة الاجتماعية موقوف على قوام العائلة وقوام العائلة منوط بالتربية البيتية والتربية البيتية من اختصا المرأة دون الرجل: فالرجل عادةً بعيد عن البيت منهك في أشغاله. فهو لا يرى أولاده إلا خلسة ويظهر ذلك جلياً في البلاد الحية التي تتطلب الجهاد اليومي حتى يتمكن الإنسان من حفظ مركزه بين الناس.
أما المرأة فواجبها وحالها الطبيعية تقتضي عليها بان تكون في البيت مع أولادها. فهم يشبون على ما تريد ويتخلقون بأخلاقها.
فهي إذن مسؤولة عن التربية البيتية أي عن قوام العائلة. نظرة يا سيدتي إلى العائلات يثبت لك صدق ما قدمنا. ولا تجهلين أن أمثلة العامة هي فلسفة الشعوب وأن فلسفة الشعوب هي من أصدق النظريات وأشدها انطباقاً على الواقع ففي كل الدنيا تقول العامة ما معناه: إن البنت(2/212)
هي صورة أمها. فنحن نقول: طب الجرة على فمها تطلع البنت مثل أمها. والفرنجة تقول: كما تكون الأم تكون البنت. ولما كانت التربية البيتية منوطة بالأم دون الرجل كما أسلفنا فحيث تكون الأم الصالحة تكون البنت الصالحة وصلاح البنت فتاة يكفل صلاحها أماً وهذا يكفل صلاح العائلة وصلاح العائلة يكفل صلاح الهيئة الاجتماعية.
إذا فصلاح الهيئة الاجتماعية موقوف على صلاح المرأة قبل الرجل.
تلك حلقة مقدمات ونتائج محكمة الرباط لا يتسع المكابر إنكارها.
فمتى تبين ذلك ظهر سبب تصدينا لهذا البحث وثبت حسن قصدنا وسلامة نيتنا. . .
(وليعذرنا أصحاب باقي الردود إذا اضطررنا إلى إهمالها والسلام).
مولود عجيب
كتب من المنصورة أن امرأة فقيرة قد وضعت مولوداً عجيباً عمره تسعة أشهر رحمية. وله رأس ووجهان وأربع أعين. اثنتان في مركزهما الطبيعي واثنتان في الجبهة، وله أيضاً أنفان وأذنان وفمان وشفتان علويتان وأرنبتان وفكان سلفيان، وما بقي من الجسم فهو طبيعي وقد ولد ميتاً وهو خنثى.(2/213)
ثمرات المطابع
تذكار الماضي - إذا قال أديب الشعر في أيامنا الحاضرة نشره في الصحف والمجلات على زعم أن الناس لا يطربون إلا لشعره ولا تستهويهم إلا بنات أفكاره. وقد يغالي بعضهم في تهوسه إلى حد أنه يحسب أن شعره من ضروريات الحياة فالجرائد والمجلات في مصر وفي سورية لا تفتأ تحمل في كل عدد من أعدادها شيئاً كثيراً من شعر النشأة الحديثة، والقراء لا يبرحون يتعرفون إلى شعراء من هذه الفئة لم يكونوا يعرفونهم من قبل.
كذلك لم نجد أديباً من هؤلاء ولوعاً بالشعر يقوله في أغراض كثيرة ويجيده في مواقف عديدة وهو يكاد يكون مجهولاً من إخوانه الأدباء مثل صاحب ديوان تذكار الماضي.
إذا قرأت هذا الديوان لم تذكر أنك قرأت شيئاً منه في الصحف والمجلات ولا عرفت صاحبه إيليا أفندي ظاهر أبا ماضي لولا أبيات نشرتها له جريدة العلم منذ عهد غير بعيد، فإذا جربت أن تتعرف إلى هذا الأديب بأدبه وشعره عرفت أنه سمح القريحة يحاول أن يأتي في أكثر أبياته بالمعاني الجديدة فينظمها في قالب يغلب فيه اندماج اللفظ ومتانة التركيب.(2/214)
ذلك كله جيد ولكن الأجود أيضاً أنما هو تلك السهولة التي يجدها الناظم في نظمه على اختلاف الأوزان الشعرية والمواضيع المتنوعة!
في الديوان قصائد تقع في نحو ثمانين صفة تحامى فيها شاعرها المدائح وأشباهها منصرفاً إلى أغراض ثانية هي أجمل وقعاً في النفوس، أكثر دلالة على الشاعرية.
وفي الديوان أيضاً كلمة وجيزة أهدى بها الناظم مجموعة أقواله إلى الأمة المصرية وقد خاطبها بقوله عن ديوانه هذا وهو بحمد الله لا يجمع بين دفتيه سوى ما يرضي الحق ويرضيك ويرضي هذا الفن الجميل على أن كلمته هذه تغتفر له في جانب ما في الصفحات التي تتلوها من القصائد والمواضيع المختارة.
والديوان في جملته يبشر صاحبه بمستقبل مجيد في عالم الأدب ولاسيما إذا هو اعتنى باختيار ألفاظه الشعرية وتنقيتها، وتجنب التعابير التي هي أقرب إلى العامي منها إلى الفصيح. أما الشاعرية في حد ذاتها فهو مطبوع عليها.
الواجبات - تقول الآية الذهبية: افعلوا بالناس ما تريدون أن يفعل الناس بكم. وتقول الحكمة السائدة: إذا عرفت الواجب عليك كنت إنساناً حقيقياً. وتقول كارمن سيلفا ملكة
رومانيا الحالية في كتابها خواطر ملكة: لا سعادة إلا في الواجب فمعرفة الواجب هي أصعب ما يلاقيه الإنسان في جميع أدوار حياته. وفي(2/215)
اعتبارنا أن الواجب لا يتسنى تحديده ووصفه فهو يتكيف بحسب الأحوال التي تقتضيه. غير أن من الواجبات ما أصبح عاماً معروفاً كواجبات الإنسان نحو نفسه، وواجباته نحو الهيئة الاجتماعية في نظر إجمالي وهو ما تحدّى ذكره ووصفه حضرة الفاضل سامي أفندي يواكيم الراسي أحد أدباء الجالية السورية في البرازيل في كتابه الواجبات - العامة والإفرادية.
أهدى إلينا حضرته هذا الكتاب فطلعنا معظمه فإذا هو نتيجة تفكر وتعمق في ما يحيط بكل إنسان من الأحوال. وخلاصة نظرات دقيقة تدل على ذكاء الكاتب واستدلاله بصغائر الأمور على كبائرها شأن المفكرين الباحثين الذين يقفون في بحثهم وتفكيرهم عند الأشياء التي يتجاوز عنها الكثيرون منا، ويعنون بدرس المسائل التي لا يخطر لمعظمنا أن يعنى بها هنيهة ما. تلك هي فلسفة الأشياء الصغيرة تبنى عليها الحقائق والنتائج.
فالواجبات - وإن كانا لا نوافق مؤلفه في كل أفكاره فيه - كتاب مفيد يحسن بأن يكون في مكاتب الأدباء إلى جانب الكتب العربية العصرية القليلة العدد في مثل هذا المواضيع المفيدة. أما لغته فسهلة سلسلة كأنما لم يحفل الكاتب إلا بالتعبير عن أفكاره بوضوح وجلاء غير مهتم لزخرفة العبارة وتزويق التركيب حتى لقد يعثر قلمه أحياناً ببعض الهنات فيهمله ويظل سائراً في طريقه. وكما يرى القارئ في غير هذا المكان فإننا اقتبسنا من الواجبات بعض الأفكار من الصفحات الأولى(2/216)
منه دلالة على ما فيه من الفائدة. ولعلنا نفعل مثل ذلك في عدد آتٍ.
نشكر المؤلف على هديته ونلفت الأنظار إلى كتابه.
رواية البائسين - هي الرواية الاجتماعية الشهيرة التي وضعها فيكتور هوغو شاعر فرنسا الأكبر في نهضة آدابها الحديثة. وبطلها جان فالجان الذي حكم عليه بالنفي لأنه سرق كسرة خبزٍ ليسد بها رمق أولاد شقيقته يوم كانوا يتضورون جوعاً. كتبها مؤلفها سنة 1862 وهو حينذاك في الستين من عمره. فنالت شهرة بعيدة وترجمت إلى معظم اللغات لأن كاتبها الكبير جمع فيها جل آرائه وأفكاره في الهيأة الاجتماعية. ويضيق بنا المجال اليوم لتحليل هذه المبادئ وإيفائها حقها من الدرس والبحث. جاءنا الجزء الأول من هذه
الرواية منقولاً إلى العربية بقلم الكاتبين جرجي وصموئيل يني صاحبي مجلة المباحث الطرابلسية. وقد حاول المعربان أن يطابقا الترجمة عل الأصل قدر الإمكان ليحفظا أسلوب المؤلف وخطته الكتابية. . . وقد سبق لحافظ إبراهيم منذ بضع سنوات أن عرب أيضاً جزءاً من هذه الرواية فكان لظهوره ضجة في عالم الأدب العربي. ولا ندري لماذا أحجم شاعرنا عن متابعة عمله. هذا ونحن لا نزال نقول إن نقل آداب الإفرنج إلى لغتنا لمما يكسب العربية ثروة طائلة من المعاني بشرط أن يوفق أدباؤنا إلى تعريب الصالح منها وإيفائه حقه.(2/217)
رواية الشهر
زعيم اللصوص
1
على مسافة فرسخين من قرية ألبي إحدى قرى كالابريا فوق رابية صغيرة كنت ترى بيتاً قديم البنيان في وسط بقعة خضراء، وهو يشرف من الغرب على القرية المذكورة، ومن الشرق على غابات كثيفة وكان يسكنه قرويان - جاكوبو وامرأته حنة - عُرفا عند العامة بتقواهما وبرّهما. على أنه كان في القرية أناس يزعمون أن في الزوايا خبايا ويؤكدون أنهم كثيراً ما نظروا رجالاً من ذوي الشبهات مدججين بالسلاح يطوفون ليلاً حو هذا البيت المنفرد ويدخلون إليه من باب سري ثم ينسلون منه باكراً ويتوارون في الغابات. ومما كان يؤيد هذه الإشاعات أن جاكوبو كان يرصد بابه عند غروب الشمس فلا يقبل زيارة أحدٍ من أهالي القرية. فكان ذلك مدعاة لزيادة الريب والظنون.
وفي الواقع لو أتيح لهؤلاء دخول هذا المنزل في إحدى ليالي شباط لأصبح ظنهم يقيناً وزعمهم رواية صدق. فإنك كنت ترى في إحدى القاعات بضعة عشر رجلاً شاكي السلاح بأزياء مختلفة جالسين ول طاولة عليها قطيع من اللحم المشوي وبالقرب منهم برميل يستقون منه خمراً فيأكلون ويشربون بشراهة. وكان جالساً على أحد طرفي الطاولة رجل يناهز الثلاثين من عمره تنم ثيابه وهيأته على انه زعيم هذه الجماعة. وكان بالقرب منه فتاة لا تتجاوز العشرين ربيعاً بديعة الجمال، رشيقة القد مدمجة المفاصل، قلما ينظر لها شبيه بين القرويين. وكانت علامات الحزن باديةً على محياها وهي تنظر إلى رفيقها ببعض الحنو. أما الباقون فكانت قد لعبت برؤوسهم حميا الخمرة فأخذوا ينشدون ما طاب لهم ويقهقهون بأعلى أصواتهم حتى اشتد اللغط. وكثرت الضوضاء. فصرخ بهم زعيمهم:(2/218)
- وحق إبليس إن هذه الجلبة كادت تفضحنا، ألا تصمتون!
وكان للمتكلم على ايظهر عظيم نفوذ في رجاله، إذ سادت السكينة للحال، فتابع كلامه قائلاً:
- لا أعلم ماذا يحملني على التشاؤم هذه الليلة. . . وعلى كل فها أنا أقوم حارساً في الغرفة المطلة على الغابة، وابقوا أنتم هنا، كلوا واشربوا، ولكن اعلموا أني سأغمد خنجري في
صدر من يأتي بضجة.
قال، وأشار إلى الفتاة أن اتبعيني، وأخذ بندقيته وخرج وجلس مع رفيقته قرب نافذة الغرفة الثانية.
2
- لم البكاء يا إميلي. .؟
- آه يا أنجلو! إن منظر هؤلاء الرجال يخيفني
- لا تخافي يا عزيزتي، أنت قلبي، وما عهدي بقلبي يعرف الخوف. هؤلاء الرجال الذين يبارزون الموت لو رأوا رسم شخصه يرتجفون أمامي. وقد مازج خوفهم مني حبهم لي. فهم دون شك يعتبرونك ويجلونك ولا يسعهم إلا الائتمار بأمري.
أما الفتاة فاتكأت إلى ذراعه بحنو واسترسلت في ذرف الدموع، فقال:
- آه يا أميلي، لا شك أن الندم يستولي على قلبك الآن لأنك عرضت نفسك فتبعتني، ألا بربك ارجعي إلى ذويك، فلا أريد أن أنالك قسراً، لا أريد أن أعرضك إلى المخاطر والمهالك إلى المنفى والموت، فاعلمي يا عزيزتي أن كل خطوة من خطواتي تقودني إلى الهاوية، أما أنت فأمامك طريقان: طريق سهلة أمينة وهي الطريق التي تركتها، وطريق صعبة خطرة، في كل خطوة منها إثم وفي كل مرحلة جريمة وفي آخرها المشنقة، فاختاري لنفسك:
- إني اختار الطريق التي تسير فيها أنت.
- اسمعي إذن، لأنه يجب الآن أن تعرفي من أنا وما هي غايتي. . . كان أبي من عائلة شريفة النسب عريقة الحسب وكان من حزب البوربون فسقط(2/219)
بسقوطهم. وكان شيخ القرية الجديد يخاف صلاح أبي ونفوذه فأصبح له عدواً لدوداً لأن الفضيلة لا تجعل صاحبها بمأمن من العدوان بل كثيراً ما يجعله هدفاً لاضطهاد الأشرار. وكان للشيخ المذكور ولد سكر من نشوة الكبرياء ولعبت في رأسه ثورة الأهواء وكان ينظر غلي بعين الحسد والضغينة لأني كنت أفوقه في الرماية وشدة الساعد. فكان يقابل تحياتي بكلام الهزء والسخرية ويعيرني حزبي كلقب عار وذل. . . آه إن خنجري كان يرقص حينذاك في غمده ونفسي تحدثني بأن أذيق هذا المتعجرف ثمرة عنفوانه، لكن التروي كان يسكن ثائري
خشية ما سيجر ذلك على عائلتي من الولايات. . . كنت عند عودتي من شغلي مساء أرى أهلي في حالة الجزع التام: أمي وأختي تذرفان الدموع، وأبي يتمشى باضطراب ويرمي بنظرات اليأس إلى بندقيته القديمة المعلقة على الحائط. . .
وعند هذه الذكرى انتصب انجلو واقفاً وقدحت عيناه شرراً، فمالت إليه الفتاة قائلة:
- لا تنقطع عن الكلام يا أنجلو فإن عندما تتكلم أشعر بأنك تبث في شيئاً من روحك. . فكبح جماح غضبه المتصاعد وعاد إلى حديثه:
- وكانت والدتي تعرف ما أنا عليه من الحمية فباتت تتوقع من يوم إلى آخر وقوع الصاعقة. . . كانت هي وأختي فيلومين تغزلان وأنا أبيع الغزل في آخر الأسبوع. . . آه ما كان أشد حبي لأختي. . ألا تتذكرينها يا إميلي. . . فإنها من عمرك وجميلة مثلك. . .
قال هذا وسالت من عينيه دمعتان. . . وكان القمر في الخارج قد احتجب وراء غيمة سوداء وتراءت الأشجار كالأشباح. هذا وكان سائر الرفاق لا يزالون في القاعة يأكلون ويشربون. . فاستأنف أنجلو الكلام قائلاً:
- فعادت أختي يوماً إلى البيت وهي تبكي بكاءً مراً وذلك بسبب أرنست اللعين ابن شيخ القرية الذي أسمعها كلمات تمس بشرفها. مرت بضعة أيام وإذا بي ذات صباح أمام ذلك الوغد اللئيم قرب منزلنا وهو يترصد خروج أختي ليكاشفها(2/220)
بحبه. فوثبت عليه وألقيته على الحضيض وأوسعته ضرباً، وكدت أقضي عليه لو لم يخلصه بعض القرويين. ولما عدت إلى البيت وجدت عائلتي باضطراب عظيم فتقدم إلي أبي بكل وقار وأعطاني البندقية والخنجر وقال: يريدون أن تكون لصاً فاذهب إلى الوعر. . . فودعت أهلي وذهبت. ولما لم يتمكن أعداؤنا من إلقاء القبض علي حولوا كيدهم إلى ذوي. فاتهم أبي بمؤامرة سياسية مع حزب البوربون وهو بريء منها فزج في السجن. وكان أرنست السافل لا يزال يعلل النفس ببلوغ مأربه. ولما لم يكن الوعد ولا الوعيد يثنيان أختي فتحيد عن طريق الشرف عمد هذا الشيطان إلى حيلة جهنمية. وكان يعرف تماماً أن بعد فراري وسجن أبي لم يبق في البيت من يحمي حماه. فأتى مع أحد رفقائه في ذات ليلة ونادى أمي أن لها مكتوباً من وحيدها. وكانت والدتي قلقة البال لانقطاع أخباري عنها منذ أسبوعين، فأسرعت إلى فتح الباب وهي لا تعرف من المنادي. ففاجأها هذا الشرير بضربة كادت تفقدها الحياة ووضع
على فمها الشبام أما أختي فوقعت مشغياً عليها من شدة الرعب. فنقلت إلى فراشها. . . وهكذا دخل العار إلى بيتنا. . . وعند الصباح كانت فيلومين قد فقدت الرشد لأنها لم تتحمل ما أصابها من المنكر. . . .
قال أنجلو هذه الكلمات الأخيرة وقد جحظت عيناه وهو يلهث ويرتجف غيظاً.
- يا لله ما أكبر مصابك يا أنجلو. . .؟
- فبلغ أبي في السجن خبر ابنته، فأبت نفسه الأبية احتمال العار. فمات وهو يلعن السماء والأرض أما أمي فبعد هدر دم ابنها وفضح ابنتها وموت زوجها كافراً قضت نحبها في أتعس حالة. أما أنا. . . أما أنا يا إميلي فلم أعد أفتكر بموت والدي ولا بما أصاب شقيقتي بل صرفت كل أفكاري إلى الأخذ بالثأر حلفت أغلظ الإيمان بان أنتقم من على مصائبنا شر انتقام. ولم تلبث الظروف أن بلغتني مرامي، إذ أعلمني أحد اللصوص - وكنت قد أصبحت منذ يومين زعيم إحدى جماعاتهم - أن شيخ القرية وابنه سيمران عند المساء قرب الغابة عائدين من المدينة. فذهبت ولم استصحب أحداً من رجالي لأذوق وحدي لذة الانتقام. فكمنت هناك ولما مر(2/221)
الشيخ وجهت إليه رصاصة كانت القاضية عليه، أما أرنست فأصابت رصاصتي الثانية رجله فسقط عن جواده ولم أكن أقصد قتله كأبيه. فقدته إلى مغارة هناك وأوقدت ناراً وأخذت أذيقه من العذابات ألواناً وهو يبكي ويتضرع وأنا اضحك ضحكاً مخيفاً. . . آه أن الليلة التي قضاها معي تساوي تلك الليلة التي قضاها مع شقيقتي المسكينة. خرجت فيلومين من يديه وقد فقدت رشدها وشرفها، وخرج هو من يدي وقد أصبح جثة كالفحم وذهبت روحه الخبيثة إلى الأبالس. . . آه ما أشد ما كان فرحي في تلك الليلة. . . .
قال وضحك ضحكاً أشبه بهرير الكواسر، فارتعدت فرائص إميلي وعادت إلى الوراء. ثم نكس أنجلو راسه وبكى. . . فاقتربت إميلي وأخذت يده وجلست بقربه وبقيا هكذا مدة. . . ولما رفع رأسه قال:
- آه يا إميلي لست قاسياً بهذا المقدار، ولكني. . . فلم يتمم عبارته بل أخذ بندقيته بكل سرعة وحدق بنظره نحو الغابة كأنه يريد خرق الظلام بعينيه. فانتفضت إميلي قائلة: ماذا اعتراك؟ - فأجاب: رجال الدرك. . . ألا تنظرين هذه الخيالات؟. . . ثم أسرع إلى
الغرفة، وصاح بجماعته: خيانة! وقعنا في الشرك! وكأن وقوع الخطر بدد عنهم سكرتهم فابتدروا السلاح واجتمعوا حول عريفهم سائلين: ما العمل؟ فأجاب أكبرهم سناً وكان قد نظر من النافذة إلى الجنود: يحاول رجال الشرطة أن يطوقوا هذا المنزل. فهيا بنا إلى الغابة ومتى راموا الدخول نهجم هجمة واحدة. هذا رأيي. فأجاب الجميع: وهذا رأينا.
فقال انجلوا: وإميلي؟ ماذا نصنع بإميلي.
فقال أحدهم تبقى هنا؟ - فأجاب أنجلو وأنا أيضاً أبقى - ولكنهم يقتلونك - يقتلوني ولكني لا أتخلى عنها - كم أهلكت النساء رجالاً. . .
وكان جاكوبو وامراته صاحبا المنزل أثناء ذلك في بكاء ونحيب، يندبان سوء طالعهما.
فتقدم أكبر اللصوص سناً وقال: لو كان الفداء لما تأخرنا. ولكن(2/222)
يا زعيمنا إذا بقيت هنا فإنك تجلب الموت عليك وعلى من تريد خلاصها فاسمع لي: نشد وثاق الثلاثة - صاحبي المنزل وإميلي - ويدّعي جاكوبو أنها ابنة أخته أتت تزوره في هذه الأيام وأننا دخلنا هذا المساء إىل منزله عنوة وقيدناهم بعد الوعيد والإهانة. فتنطلي الحيلة على رجال البوليس، أما نحن فإننا نؤمل النجاة بنار بارودنا ومضاء خناجنرنا.
فلم ير أنجلو بداً من لإذعان بعد موافقة الجميع على هذا الراي وقبول إميلي به، لاسيما وقد نادى اللصوص به: عليك يا زعيمنا الاعتماد. . .! فنزل الجميع بعد أن شدو وثاق الثلاثة المذكورين.
فقالت حنة إذ ذاك لزوجها. أجل سندعي أن الفتاة ابنة أختك وهكذا ننجو ولكن الحكيم من قدم الحذر فإذا ألقي القبض على أنجلو ألا تبوح إميلي بكل شيء فإنها تحبه وتجود بكل شيء في سبيله فتكون العاقبة علينا وخيمة. فإذن - وأشارت إشارة معنوية إلى خنجره - تدعي إنهم دخلوا بالرغم عنا وأنهم قتلوا نسيبتنا. . .
سمع أنجلو صوت استغاثة فصاح آه صوت إميلي؟ ما حل بإميلي. . . فأجاب أحد رفقائه: لا شيء. ولا سبيل للإحجام. . . وهجم اللصوص هجمة واحدة، وكان أنجلو بينهم كالأسد الكاسر ينشطهم بالقول والفعل ومسدسه لا يسكت وخنجره لا يغمد إلا فص الصدور. فاجتمع حوله معظم قوات العدو وتمكن رفاقه من النجاة. أما هو فظل يقاتل بكل بسالة ولكن ما تجدي البسالة والعدو يتكاثر حوله ويضيق عليه النطاق حتى قبضوا عليه وشدو وثاقه.
3
هجم الليل، السكوت سائد والظلام باسط سدوله على الطبيعة. في قاعة سفلى رجل جريح ملقى على الحضيض: هو أنجلو وقد ألقي في هذا السجن بعد أن كل بالقيود. عيناه تقدحان شرراً والدم يسيل من جروحه. على الباب خفيران يتحدثان عن الواقعة الأخيرة.
- لله ما أشد ساعد أنجلو وما أشد بأسه. . .(2/223)
- نعم ولكن قتله لتلك الفتاة المسيكة - كما أفاد جاكوبو وامرأته - لمما يسمه بسمة الدناءة والعار.
- إن في الأمر لسراً. فقد أمر الحاكم بتوقيف هذين الشخصين، فإن في أعمالهما وأقوالهما ما يفتح مجالاً للشكوك. خصوصاً أن ليس من يعرف لهما هذه النسيبة التي وجدت مقتولة في منزلهما، فإن جاكوبو. . .
انقطعا عن الكلام لأن الحاكم بعينه كان قد دخل يتبعه أربعة من الرجال حاملين جثة فتاة، فقال الحاكم لأحد أتباعه: دعوا الجثة قرب السجين، وابق أنت هنا لاحظ كل حركاته فإن كلمة واحدة تكفي لإرشادنا إلى الحقيقة.
قال هذا وانصرف، فأدخلوا الجثة ووضعوها قرب أنجلو دون أن يكلموه. ولم ينتبه هو لهم لأنه كان كالمغمى عليه من شدة الألم. وبعد قليل أفاق من غيبوبته فرأى على نور السراج الضئيل شيئاً بالقرب منه. فجر قيوده بكل عجز حتى وصل إليه. . . فلمس شيئاً بارداً. . . جثة إنسان. . . فرفع النقاب الذي كان يستر الوجه، فانتفض جسمه ثم بقي مدة صامتاً جامداً. . . وصرخ: إميلي. . .!
عند الصباح دخل الحاكم إلى السجن وسأل الرجل عما كان من أمر السجين فأشار الرجل ونظر الحاكم. . . جثة على جثة.
آثار العباسيين في بغداد
تشتغل لجنة ألمانية مؤلفة من 150 شخصاً في بلدة سامراء من أعمال ولاية بغداد للتنقيب عن الآثار القديمة، بدأت بحفر الجامع الكبير المشهور بجامع الملوية فظهر أثر المحراب والأسطوانات والشاذروان. وكل هذه الأبنية بالجص، وهي من بنايات خلفاء بني العباس وقد مضى عليها نحو ألف سنة وهي ثابتة الأساس متقنة الصنع والهندسة، وبعد أن أخذ رسمها بالتصوير الشمس شرع العملة يحفرون من جهة نهر دجلة الحمامات والآبار وهي بمنية بالطين لا بالآجر ومبيضة بجص منقوش نقشاً هندسياً لطيفاً لا مثيل له في هذه الأيام.(2/224)
العدد 16 - بتاريخ: 1 - 7 - 1911(2/225)
تتويج ملك الإنكليز
جرت حفلة تتويج جورج الخامس ملكاً على إنكلترا وإمبراطوراً على الهند في دير وستنمنستر حيث يُمسح ملوك بريطانيا العظمى كما كان ملوك فرنسا - في عهد الملكية فيها - يُمسحون في ريمس. والإنكليزي معروفون بشدة تمسكهم بتقاليدهم القديمة لاسيما في حفلاتهم الرسمية وما يتعلق بحكومتهم وحكامهم. فيوم التتويج يوم مشهود عندهم يبتدئ عند الصباح إذ يقبل الملك والملكة على الدير المذكور ويدخلان الكنيسة باحتفال عظيم ويجلس الملك على الكرسي الملكي القائم على منصة منصوبة في صحن الكنيسة. ويبتدئ التتويج بالاعتراف أي بتقديم خضوع الأعيان وبإعلان الشعب رضاه بالملك واستعداده لطاعته وخدمته. ثم يسأل رئيس أساقفة كانتربري الملك هل هو عاقد النية على أن يجري العدل والرحمة وأن يحكم طبق دستور البلاد وشرائعها فينهض الملك ويقسم على الكتاب المقدس أنه لفاعل.
ثم يسير إلى عرش إدوارد الأول المنصوب بين المذبح والمنصة(2/226)
ووراءه اللوردات حاملين السيوف. فيقف حوله أربعة من الأشراف وقد امسكوا ببساط مذهب فوق رأسه. ويكون على المذبح إلى جانب الحلى الملكية التي أحضرها اللوردات كوز ذهبي بشكل نسر باسط جناحيه وهو مملوء زيتاً. فيتقدم رئيس الأساقفة ويمسح بالزيت رأس الملك وجبهته وصدره ويديه، ويلبسه الحلة الملكية، ثم يأخذ السر تشريفاتي المهمازين ويركع أمام الملك ويمس بهما عقبيه. وبعد ذلك يجيء حامل سيف المملكة ويقدمه إلى السر تشريفاتي الذي يدفعه إلى رئيس الأساقفة وهذا يصلي عليه ثم يمنطق الملك بالسيف ويقول رئيس الأساقفة: بهذا السيف أجر عداً واقطع دابر الظلم، واحم كنيسة الله وساعد اليتامى والأرامل ورد الأشياء البالية وحافظ على الأشياء المردودة وأصلح كل خطأ وثبت كل صلاح. . . . فينهض الملك وينزع السيف ويضعه مسلولاً على المذبح ثم يعود إلى عرش إدوارد الأول حيث يقدم له رئيس الأساقفة الكرة الملكية، ويضع في بنصره خاتم الملك ويقدم له القفاز فيلبسه ويدفع له الصولجان قائلاً: اقبل الصولجان الملكي علامةً للقوة الملكية والعدل ويقدم له صولجاناً آخر عليه تمثال حمامة ويقول: تقلد عصا العدل والسلام ثم يأخذ رئيس الأساقفة التاج ويقول: اللهم يا تاج الأمناء، بارك وقدس عبدك هذا جورج مليكنا، وكما أنك كللت رأسه اليوم بتاج من الذهب النقي فاملأ قلبه بنعمة من عندك وكلل هامته بجميع الفضائل
السامية.
وبعد الصلاة يضع التاج على رأس الملك بكل احترام فينادي(2/227)
الشعب بصوت واحد اللهم احفظ الملك ثم يضع الأشراف تيجانهم.
الصغيرة على رؤوسهم وتضرب الطبول وتنفخ الأبواق فتطلق المدافع من برج لندرا.(2/228)
ثم تقدم التوراة للملك وعند ذلك يحمله رؤساء الأساقفة والأساقفة ويضعونه على عرشه ويخضعون له ثم يقوم رئيس الأساقفة ويقبله في خده.
ثم ينزع البرنس أوف وايلس تاجه عن رأسه ويركع عند قدمي الملك ويركع سائر الأمراء في اماكنهم بعد أن ينزعوا تيجانهم أيضاً ويلفظون يمين الطاعة فيقول البرنس أوف وايلس صورة العد وهم يرددونها بعده جملة فجملة.
ويتم مسح الملكة وتتويجها على نسق ما تقدم.
هذا ما جرى في حفلة تتويج الملك جورج الخامس في 22 من الشهر الفائت، وقد طالع القراء في الصحف اليومية ما جرى من الحفلات الشائقة في بلاد الإنكليز ومستعمراتهم الواسعة احتفالاً بتتويج مليكهم.
وفي الشهر الذي يلي التتويج يعين الملك كبير بنيه برنساً لواليس أو ولياً للعهد وهو البرنس إدوارد الذي بلغ السابعة عشرة من عمره.
أما الملك جورج فهو خامس ملوك إنكلترا بهذا الاسم رقي العرش البريطاني في 6 مايو من السنة الماضية، وكان مولده في 3 يونيو سنة 1865 وهو ابن الملك إدوارد السابع والملكة ألكسندرة كبرى بنات كريستيان السابع ملك الدانمارك. وهو منذ نعومة أظفاره كثير الميل إلى البحرية وقد انخرط في سلكها وتدرج في رتبها حتى بلغ رتبة أميرال. ولما توفي أخوه الأكبر البرس ده كلارنس أصبح هو ولي العهد سنة 1891.
وفي 6 يوليو سنة 1893 تزوج بالأميرة فكتوريا ماري كبرى أولاد الدوق أوف تك وهو يكبرها بسنتين. وقد أطلقوا عليها منذ صغرها اسم(2/229)
ماي وهي مشهورة بصلاحها وحبها للخير. وقد زارت مع زوجها أيام كان ولياً للعهد المستعمرات الإنكليزية. ثم قاما بزيارتهما الكبرى للهند
سنة 1906 فدرسا أخلاق الشعوب العديدة الخاضعة لدولة الإنكليز.(2/230)
ولهما خمسة أولاد أكبرهم في السابعة عشرة من عمره وأصغرهم في السادسة.
هذا ما يسمح المقام بذكره عن ملك الإنكليز الجديد وزوجته. وهو يحكم مئات الملاين من البشر في البلاد المترامية الأطراف. فيمكنه أن يردد قول فيليب الرابع ملك إسبانيا لا تغيب الشمس عن ممالكي ويكاد يقول ما قاله الرشيد: يا سحابة السماء أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين عليها يعود إلي. . .
فعسى أن يكون عهد ملكه عهد وئام وسلام فتنتشر روح السلم وتسود فكرة العدل والإنصاف.
في جنائن الغرب
وصف الشلال وطلوع الشمس
قال رسكن يصف شلالاً: قف بي إلى هذا الشلال نراقب قوس الماس المنحدر من علٍ كالسيف الصقيل لا ثلمة فيه ولا وصمة، يتفوق تلك الصخور كقبة من البلور الصافي. وهو سريع السقوط مستمرة فلا تكاد تحسبه متحركاً لولا زبدٌ يلوح لك فيه كالشهب المتناثرة، أو كالجوهر على شفرة الحسام. وتأمل مسقطه من صدر النهر حيث ترى كأن صخراً ناصع البياض طيرته الريح شظايا فانتشر في الجو شعاعاً. بل تأمل زرقة المياه المشوبة ببياض الزبد وسنائه تقل هو الجو الصافي ملأته الشمس ضياءً وبهاء.
وإليك كلمة لرسكن أيضاً في الجداول والمجاري الصغيرة: ولله أودية سويسرا بمجاريها الصغيرة وكأني بها قد اختارت منحدرات الجبال مصدراً ومنبعاً، حباً منها(2/231)
للطفر والقفز من أعالي الصخور إلى أسافلها، تاركةً ماءها على رحمة الهواء يقذف به ذات اليمين وذات اليسار، وينثره بلوراً صافياً تكسبه أنوار الشمس لون النضار. وإذا انتهت إلى المروج الخضراء ضللت ذاتها، ورخمت نغماتها، بين أعشابها ونباتها، وظلت في ظلالها، خيالات لها، إلى أن تنفذ منها مترقرقة متدفقة، كأنها تذكر غايتها إذ تبصر بواديها، فتهب مسرعة إليها.
وطلوع الشمس في بعض البلدان أجمل منه في غيرها، وأجمل ما يكون في الأماكن القريبة من خط الاستواء. وقد وصفه أحد الكتاب كما يلي:
تأتي الساعة الخامسة من الصباح ولا يزال الظلام مخيماً بسدوله. وعندئذ تفيق بعض العصافير وتبدأ تحرك سكون الليل بتغاريدها وأناشيدها كأنها تبشر بقدوم مليكة النهار قبلما يبدو موكبها الوهاج في أفق الشروق. وما هو إلا القليل حتى تتكاثر الأصوات من كل فج وصوب، وأغلبها من حناجر الأطيار المبكرة، فتأخذ حجب الظلام بالارتفاع شيئاً فشيئاً. ولا يأزف النصف الثاني من الساعة الخامسة حتى يلوح الفجر، وتذر شوارقه، ويتدفق النور فيضاً إلى أن يفعم الأرض والفضاء. وهنالك تبرز الشمس بحلتها الذهبية، وترسل بأشعتها العسجدية إلى مواطن الحياة من الطبيعة تبشرها بعودة الحياة، فتزقزق العصافير، وتتثنى الأزهار، وتخرج النحلة من قفيرها، وتبتهج الفراشة في مطيرها، فتلك ساعة تنتظرها
البراعم وأكمام الأزهار وأوراق الأشجار لتكسب فيها زهواً ونشاطاً ورونقاً وجمالاً. ثم أن تلك النسمات العليلة البليلة، تستمد من النور ما تبل به وتنقه من علتها فتمر بك بما يبرئك أنت لو كنت عليلاً. مناظر تخلب الألباب وتفتن الأبصار، يرسمها للصور، ويصفها الشاعر، آيات من الجمال بينات.
(من كتاب مسرات الحياة الذي عربه الأديب وديع أفندي البستاني وباشرت طبعه مطبعة المعارف).(2/232)
نظرة إشراف عام
على ديار نجد
وكان أول أهل نجد ورؤسائهم: آل علي ثم انتقلت إلى طلاق فبندر فمحمد الرشيد فعبد العزيز ثم إلى ابنه متعب ثم إلى خال متعب سلطان ثم إلى سعود أخي سلطان ثم إلى سعود بن عبد العزيز خي متعب. ولهؤلاء في ذلك قصة تاريخية عجيبة طويلة لا يسع المقام ذكرها.
ولما دالت إمارة آل السعود وافق آخرها نمو إمارة محمد الرشيد فانتقلت أكثر الكتب إلى حائل. وأنت تعلم أن لا صناعة ولا تجارة لأهل حائل إلا الغزو لا غير. ومع ذلك فتراهم قد سبقوا غيرهم في العلوم العصرية وذلك لاختلاف كبرائهم إلى الأستانة ومصر والحجاز أيام السلطان عبد الحميد المخلوع فأصبح البعض منهم يعرف اللسان التركي والفارسي.
وترى في بلادهم اليوم الكتب العربية القديمة النادرة الثمينة التي لا ترى لها وجوداً في سائر البلاد العربية وأغلبها غير مطبوع. وتؤانس جماعة منهم تطالع الصحف السيارة والمجلات الموقوتة. وأهل هذه الديار متنورون أكثر من غيرهم من أهل تلك الأقطار في العلوم العصرية وأوسع اطلاعاً في الأمور السياسية. ولهم ميل شديد إلى الحكومة العثمانية، وهذا الميل أشد ظهوراً فيهم ممن سواهم. لكن الحكومة لا تزال في ريب من أمر العرب وإحجام عنهم. وعلى ما أرى: إنها تود أن تكون في(2/233)
غنى عن نصرتهم. ولعلها تخاف من أنهم إذا تمدنوا قلبوا لها ظهر المجن وعادوا إلى مجدهم السابق. وهذا كله من التخيلات السياسية ومن الأوهام التي لم تدر في خلد العرب.
ولما أتيت بغداد ورأيت الحالة الحاضرة أبديت ما أوجبته علي الوطنية العثمانية والعربية للطرفين المتقابلين المتصلين بجامعة الدين وشرحت ذلك بسلسلة مقالات بسطتها في جريدتي الرياض وبينت للعرب ما ينجم من الفوائد الجمة إذا انضموا إلى أبناء آل عثمان وصاروا يداً واحدة على الأعداء. ولقد أثر كلامي هذا في أبناء وطني تأثيراً عظيماً كان ذا نتيجة تذكر لكن ذهب هذا كله أدراج الرياح لما رأوا أن الدولة العثمانية لا تعيرهم أذناً مصغية ولا أحلاماً واعية. فلعل الزمان يحسن النيات في أبناء عثمان فيجني هؤلاء في بضع سنين ما لم يجنوه بحذرهم مدة سنوات متطاولة.
هذا فضلاً عما شرحت للحكومة مما يجب أن تتخذه من الاحتياطات اللازمة لمنع دخول الأسلحة إلى بلاد العرب. وذكرت لها الوسائط الحسنى للبلوغ إلى تمدن صادق وأرسلته إلى أحد مبعوثي العراق. وبعد أن قرئ في المجلس حول إلى النظارة. ولا أدري بعد هذا ما جرى بع. ولعله ضاع أو احترق مع جملة الأوراق التي ذهبت في إحدى حرائق الأستانة في هذه الأيام الأخيرة.
أما ميلهم إلى العلوم الأدبية كالشعر والنحو وعلوم الآلة والسياسة والاجتماع فمما تظهر منافعه عن قريب إذا ما تحسنت الأحوال وتوفرت وسائط النقل والانتقال بعد أمد غير بعيد بمنه تعالى وكرمه.(2/234)
3 - القصيم - البحث في علوم وآداب أهالي القصيم يتناول البلدتين المذكورتين اللتين تتقوم منهما فأهل هذه البلاد ليسوا كأهل الديار الأخرى. فلقد دخلوا بتجارتهم البلاد الكثرة من الأصقاع المتمدنة كالهند ومصر والشام ولندن ومدن أمريكا. وتجد بعضهم قد توطن تلك الربوع كما احتل بلاد العراق كبيرها وصغيرها. ولقد تقدموا في التجارة أحسن من غيرهم بكثيرة. وكذلك قل في العلوم على مختلف أنواعها وتشعب أفنانها. كل ذلك في البلاد المختلفة المذكورة كما في ديار قطرهم الواسع. فإنك لا تسير إلى بلدٍ إلا وتجد فيه منهم نفراً يتعاطى الأمور التجارية غير مغفل العلوم المعروفة في تلك البلدة. ولهذا إذا تيسر لك فدخلت بلادهم ترى فيهم هذا يكلمك بالتركية، وذاك يطارحك الكلام بالفارسية، وتسمع واحداً يذاكرك بالهندية، ويقبل إليك آخر بالإيطالية، ويقترب منك صديق محب يخاطبك بالفرنسوية إلى غير هذه اللغات من أردوية وتامولية وإنكليزية.
أما التاريخ فهم يعتنون به أشد الاعتناء. وكذلك يزاولون علوم الاجتماع والسياسة مزاولة تفوق معالجة سواهم لها. وهنا نختصر القول زائدين على ما تقدم ذكره عن الإمارتين الأوليين بخصوص العلوم والمعارف انه لا يوجد في تلك الربوع مدارس أو مكاتب على ما نشاهده في البلاد الأخرى المتمدنة من ابتدائية ورشدية وكلية وجامعة. أما مدارسهم فهي مدارس خاصة بهم تشمل جميع المطالب وتجمع في ردهاتها كل طالب على السواء. فالتلميذ يأخذ أي كتاب كان أو أي كتاب أراد قراءته ثم يحضر(2/235)
المدرسة ويقرأه على المعلم الموجود فيها بدون أن ينتظم في سلك حلقة لتلقي العلم معاً من الأستاذ في وقت محدود كما
هو الأمر الجاري في المكاتب العصرية المنتظمة.
وبيوت أكثرهم ليست إلا مدارس وأندية علم، إذ ترى فيهم من ينضم إلى رفيق ثانٍ له او إلى ثالث أو أكثر حسبما يتفقون عليه فيجتمعون في بيت واحد منهم. أو أنهم يجتمعون في كل يوم في بيت غير البيت الأول بل في بيت الرفيق على التوالي فيتدارسون في الكتب التي وقعت بأيديهم وهكذا يفعلون حتى النهاية على ما كان جارياً في سالف الزمن في أنديتهم ومجالسهم ومجتمعاتهم.
6 - أخلاق أهلها - أخلاقهم وهي أخلاق العرب الأقدمين العزيزي النفس المتوقدي الذهن الأذكياء الأباة أخلاق لم تغيرها الحوادث والزمان فهم اليوم أهل كرم وشجاعة ووفاء وسماحة وحماسة وسيرتهم توافق قوانينهم وتنطبق عليها أتم الانطباق ولا تحيد عن الكتاب والسنة فهم يجلونها أعظم الإجلال ولا يتعبرون سواهما. نعم يوجد بين القبائل من يجري على قوانين وسنن وشرائع راجعة إليهم وخاصة بهم يقومون لها ويقعدون لكن إذا جاؤوا المدن رجعوا إلى الشرع الشريف في أمورهم وشؤونهم الاجتماعية. هذا فضلاً عن أن لهذه السنن من المزايا والمحاسن ما تفيد كل الإفادة تلك الأقوام في هاتيك الربوع ولولا ضيق المقام لأتينا على ذكر بعض منها إظهاراً لمنافعها ولما أودعتها من الحكمة البعيدة المرمى والمبنى والمعنى.(2/236)
7 - تجارتهم - التجارة التي يتعاطاها أهل تلك الأرجاء هي الخيل والإبل وكلاهما من أحسن ما وجد من جنسيهما في الدنيا كلها جمعاء. ولعلنا نعقد يوماً فصلاً نذكر فيه ما يجب الوقوف عليه ف هذا البحث. والتمر وأنواعه كثيرة وأسماؤه في تلك الأسماء القديمة لم تتغير وهذا يفيدنا في تصحيح بعض الألفاظ الواردة في هذا المعنى. والسمن واسمه عندهم الدهن كما يسميه العراقيون. والصوف والوبر، ويذهبون بكل صنف من هذه الأصناف إلى حيث يكون رواجه. فيذهب بالخيل مثلاً إلى بلاد الهند. وأغلب أصائل هذه الأنجاء من نجد. وينقلون الإبل إلى مصر والشام. ويحملون التمر إلى الحجاز. ويبيعون الدهن أو السمن في البصرة والكويت والحجاز حسب الوقت الذي يوافق نقله أو يصادف تصريفه وإنفاقه في موطن دون الموطن الآخر الذي رخص فيه. وهذا هو سر أسفارهم المترامية وتغربهم عن أقطارهم العزيزة. ولهم في ذلك من الصبر والجلد ما لا تراه في أقوام آخرين.
فإنك ترى الواحد منهم يقيم نائياً على مسقط رأسه ثلاثين حولاً مثلاً ولا يتأفف من حالته البتة. وهم أهل سعي وكد وجد لا تعيقهم الأخطار الشديدة ولا الأهوال الهائلة عن الوصول إلى ما به منفعتهم. أفبعد هذا تتعجب من كون كثيرين منهم وصلوا إلى لندن وأمريكا والديار النائية. فلقد يقضي واحدهم الأيام الطوال والأعوام الكثار بدون أن يلتفت إلى وطنه.
8 - زراعتهم - اغلب زراعتهم متوقفة على الحنطة والشعير والذرة (الأذرة أو الأدرة) والسمسم والدخن ويزرعون كل هذه الحبوب بقدر(2/237)
حاجتهم إليها. وإذا حبست السماء ماءها عنهم اضطروا إلى جلب ما يحتاجون إليه من البلاد الأخرى كالكويت والبصرة والسماوة وغيرها. ولقد كانت الزراعة تتقدم عندهم تقدماً عظيماً لولا أمران أحدهما جور الحكام، والثاني قلة المياه. ولقد حاولوا مراراً استنباط المياه بالآلات المختلفة أو حفر الآبار الارتوازية فلم يتيسر لهم ذلك لصعوبة الطرق ووعورتها بحيث لا تستطيع العجلات السير فيها. وأما إذا قلت: فهناك جمال تضطلع بحملها. قلنا: تضطلع بحمل بعضها لا بكلها لأنه يوجد آلات ثقيلة غاية الثقل لا يحملها البعير الواحد بل ولا البعيران أو الثلاثة ومن ثم أصبح نقلها من البعيد التحقيق. ولولا ذلك لأصبحوا في غنى عن الديار الأخرى في كل أين وآن. بل لزادت حاصلاتهم على نفقتهم ولربحوا من التجارة بما فضل عندهم أموالاً طائلة تأتيهم من البلاد التي ينفقون اليوم فيها أموالهم للحصول على ما يحتاجون إليه.
9 - الصناعة عندهم - ليس لهم من الصنائع إلا ما لغيرهم من مجاوريهم أهل الكويت والبصرى كالنجارة والحدادة والسكافة والخياطة وما ضاهى هذه المهن. ومهارتهم في صناعة الأسلحة غريبة فإنهم وإن كانوا أخلاء من جميع الوسائل الميسرة لهذه الغاية فإنك تراهم يصلحون ما يقع من أنواع الخلل ببنادق ماوزر ومرتيني. واغرب من هذا أنهم يفرغون المدافع إفراغاً محكماً ويحسنون التصرف بالمدافع الجديدة الطراز حتى أنك تخالهم أنهم تلقوا علم المدافع عن أصحابه المهرة. وإذا وقع في هذه الآلات خلل أصلحوه على أقوم وجه. ومع كل هذه البراعة والتفنن لا تشاهد(2/238)
في أيديهم أدوات تامة العدد كما ترى في البلاد الراقية في المدنية. وعندي انه لو وجد في حوزتهم آلات تساعدهم على تحقيق أمنيتهم لبرزوا في الصناعات على من سواهم ولأتوا بكل عجاب. وأوقفك الآن على اغرب
من هذا كله: إنهم يتحررون المباحث العلمية الدقيقة ويتتبعون الاكتشافات الحديثة كالكهرباء والسلك الجوي وبعض الآلات البرقية وما ضاهى هذه الموضوعات الجديدة. وأعهد واحداً في القصيم يضيء محله بالنور الكهربائي الذي هو من صنع يديه وقد ركب الأجزاء التي يتولد منه بإعمال فكرته. وإذا كانوا لا يحققون دائماً ما يعقدون النية عليه فهو لأنهم في شغل شاغل عنه بما يقومون به من أمر المعيشة وتطلبها في الأقطار النائية.
10 - ديانتهم - بقي علينا إيراد أمر الديانة ولاعتقاد عندهم. فقد أسلفت وقلت إنهم يعتمدون على الكتاب (القرآن) والسنة (وهي الصحيح عن رسوم الله - صلى الله عليه وسلم -) ولدي بحث جليل في هذا الموضوع وهو لا يخلو من فائدة لمن يريد تتبع الحقائق على وجهها الصادق الصحيح واستقراء ثوابت الأمور. ولعلي أعود إلى هذا المجال في فرصة أخرى.
11 - هواء البلاد - لا تكاد تلفظ كلمة نجد إلا وتتصور هذه البلاد تحت عينيك ويهب عليك نسيمها ويتلاعب أمامك هواؤها الطيب الجاف لأن معنى نجد ما أشرف من الأرض وارتفع واستوى وصلب وغلظ. . . ولا يكون النجد إلا قفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل(2/239)
الجبل معترضاً بين يديك يرد طرفك عما وراءه. . . (عن التاج) - والهواء في منتهى الحرارة وقد تبلغ في الظل في بعض المواطن 52 درجة بالميزان المئوي. وعند الصباح يهب نسيم طيب لذيذ في الصيف وإذا تكبدت الشمس السماء انقطع الهواء في شهر تموز وآب وأيلول حتى يكاد الإنسان يموت اختناقاً إلا أنه لجفافه لا يؤثر كثيراً في الصحة. ويضطر من يسكن تلك الديار إلى اتخاذ المآكل الخفيفة الهضم والانقطاع عن المسكرات والامتناع عن الأطعمة المطبوخة باللحوم الثقيلة.
12 - تأثير الهواء في السكان - أعلم أن اغلب الأمراض تتولد هناك من الكبد لشدة الحر. ومن مؤثرات الحر على أهل البلاد أن أغلبهم ضعاف نحاف سمر الألوان طوال القامة إلا أنهم أقوياء يحتملون الجوع والعطش والحر إلى درجة لا تكاد تراها في سواهم. وهم عصبيو البنية ذوو عزم شديد ومضاء بعيد إذا قصدوا شيئاً لا يرجعون عنه ولو كلفهم كرب الموت وإراقة الدماء وهم من بين جميع العرب سريعو تلقن العلوم والمعارف بل هم يتلقفونها تلقفاً لسرعة تناولهم إياها. وكذا قل عن الصنائع والفنون على اختلاف أنواعها وضروبها.
13 - عدد السكان - ليس في بلد من بلاد العرب من يحصي عدد الأنفس. هذا فضلاً عن أن هذا العمل يعد عندهم مشؤوماً. إلا أن العارفين يقدرون أهل نجد بما ينيف على مليون نسمة.
14 - نظرة وداع لبلاد نجد - يتضح لك مما أسلفنا ذكره أن بلاد نجد من أحسن بلاد جزيرة العرب تراباً وهواء. ولهذا قال ياقوت في(2/240)
معجمه: لم يذكر الشعراء موضعاً أكثر مما ذكروا نجداً وتشوقوا إليها من الأعراب المتضمرة. من ذلك قول أعرابي:
حنيناً إلى أرض كأن ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر
بلاد كأن الأقحوان بروضه ... ونور الأقاحي وَشْيُ بُرْدٍ مُحَبَّرُ
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري من نحو نجد بنافع ... أجل لا ولكني إلى ذاك أنظر
أقي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينيك مجرى ماؤها يتحدر
متى يستريح القلب أما مجاوزٌ ... بحرب وأما نازح يتذكر
وقال أعرابي آخر:
فيا حبذا نجد وطيب ترابه ... إذا هضبته بالعشي هواضبه
وريح صبا نجد إذا ما تنسمت ... ضحى أو سرت جنح الظلام جنائبه
بأجرع ممراع كأن رياحه ... سحاب من الكافور والمسك شائبه
وأشهد لا أنساه ما عشت ساعة ... وما انجاب ليل عن نهارٍ يعاقبه
ولا زال هذا القلب مسكن لوعة ... بذكراه حتى يترك الماء شاربه
(بغداد)
ساتسنا
الإسباذ والكهونية - كتب إلينا مراسلنا البغدادي يقول: جاء في مقدمة الأستاذ الشرتوني (الزهور ص 62) تحمله (تابوت العهد) الإسباذ والكهونية والصحيح تحمله الأصيار أو الأسيار وهي جمع صِيْر أو سِير وهو أسقف اليهود أو حاخامهم الكبير. والكهونية صحيحها الكوهنية وهو جمع كوهن وهو الكاهن بلسان اليهود وقد ذكر هذه الرواية ابن خلدون فيم واضع كثيرة وهو لا يستعمل لفظة كاهن العربية. وبنو خمسان (ص 63) صحيحها بنو
حشمناي.(2/241)
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الثانية
من الأميرة أميليا إلى الجنرال فتزروي
أرقت البارحة كثيراً فلم تغمض لي عين ولا استقر بي السرير. حاولت كثيراً أن أطبق أجفاني فكانت رسالتك الأخيرة تزيد في شجوني وتبعد عني النعاس. ولو أنك علمت ما سيكون من تأثيرها في ما خططت منها حرفاً واحداً.
ليتك اليوم قريب مني. . . ليتك إلى جانبي فكنت ترى ما أبقاه لي حبك من حشاشة ذائبة وكبدٍ لا تلبث أن يقضي عليها اليأس. فإن كان فؤادك قد دبَّ إليه شيء من الفتور فلماذا تجعلني أعلل نفسي بأحلام(2/242)
ذهبية ولماذا تخادعني بغرام أشبه بسحابة صيف تلوح قليلاً ثم تنقشع؟ ألم أفتح لك قلبي وأفرغ لك ما فيه من حب وآمال؟ فلماذا تحاول أن تستر عني مكنونات فؤادك وتسدل عليها حجاباً يحول بيني وبينك؟
أراني معذبة من أجلك يا شارل. فإن كان هذا العذاب جزاء حبي لك فانعم به من جزاء. إنني أستعذب كل عذاب من أجلك إلا فراقك. فإن كان قد قضي به علي فما أشقى القلب الرازح تحت ثقل الحب. . .
ليس لي اليوم إلا تعزية واحدة هي التمتع بذكر ما فات. فأنا أنفق ساعات الفراغ في مراجعة رسائلك الماضية حتى لقد كاد بعضها يفنى من كثرة تلاوتي لها. ذلك لأن قلبي عطشان. . . عطشان إليك أيها المستريح من عناء الحب. . .!
أتمثلك وق حجبت وجهك عني. أتصورك وقد طويت كشحك وسددت أذنيك فلم تعد تسمع نبضات هذا القلب ولا تبصر ما ألم به من النحول. أليس حراماً عليك أن تعتقل برباط الحب فؤاداً خلياً ثم تدير عنه وجهك وتقول عليه السلام؟ سامحك الله يا من لا أزال أذكره وأحبه!.
أمامي صورتك التي أهديتها إلي. كلما نظرت إليها ثارت عواطفي في داخلي وفاضت نفسي إليك. عوّدتني أن ألقي بنفسي بين ذراعيك ففي أحضان من ألقي بها بعد اليوم؟ ليت الأبدية تتثاءب وتفتح فاها فكنت أثب إلى أحشائها وأتخلص من حياة كلها تعاسة وشقاء.
حقاً ما أتفه الكائنات وأشد فراغها لولا الحب. لولاه لكانت ساعات الأبدية طويلة مملكة. أليس الحب تحية الملائكة لسكان السماء؟(2/243)
أليست العين تستنير بأشعة الشمس والقلب يستنير بأشعة الحب ومصدر كليهما ابتسامة الآلهة؟ فإن كان يحتم على الإنسان عبادة الآلهة فلأنها مصدر الحب. في كلا الحب والعبادة تركع النفس أمام معبودٍ لا تدركه ولا تلم به. في كليهما تناجي النفس النفس وتهمس الروح إلى الروح وفي كليهما يكون السكون أبلغ من النطق. . .!
لدي أخبار كثيرة كنت أود أن أكتب إليك عنها لولا أن قلبي رازح تحت عبء من الهموم. وما الذي يهمك اليوم من أخباري بعد أن طويت صفحة الماضي وتناسيت ما كان بيننا من عهود ووعود. أيكون حب الرجال أقصر من أيام البنفسج؟ أبمثل هذه السرعة تنطفئ تلك الشعلة الروحانية وتترك القلب في ظلام دامس؟
نزلت اليوم صباحاً إلى الحديقة فجلست تحت الشجرة التي تفيأناها معاً لآخر مرة. حدقت في الحجرة التي كنت جالساً عليها فثارت في عواطفي وأسرعت نبضات قلبي إذ تذكرت تلك الساعة السعيدة. هل تذكر أن الفصل كان ربيعاً والنسيم عليلاً وكل ما في الطبيعة يضحك ويبتسم؟ فما أعبد الفرق بين ذلك الربيع وهذا الخريف. وما أشد وطأة الخريف على القلب المنكسر. إنه يذكرني بخريف الحياة عندما تذبل زهرة الحب ويهدأ خفوق القلب وينقطع نشيد الملائكة - نشيد الحب الذي تهمس به الروح إلى الروح.
لماذا أنت حزين منكسر القلب يا شارل؟ إن كان لأحدنا أن يحزن فلي أنا الحق الأسبق بذلك. وأما أنت فمم تشكو وما الذي يحزنك في(2/244)
هذه الحياة؟ ألم يمنحك الله شباباً وجمالاً وعقلاً وكل ما يتمناه الإنسان في هذا العالم؟ أليس مجال المجد متسعاً أمامك وقلب كل امرأة فدية لك؟ فافرح إذاً لأن الحياة أقصر من أيام البنفسج. افرح لأن عبوستك تزيد في دجى هذا العالم وظلماته. افرح لأن أشعة الابتسام تبدد غيوم الحزن. افرح لأن العزاء الوحيد الباقي لي بعدك هو أن أراك سعيداً في هذه الحياة.
سلام عليك من حشاشة ذائبة. سلام عليك من كبد مقروحة. سلام عليك من مقلة دامية. ربما كانت هذه آخر رسائلي إليك فقد أشار علي الأطباء بالابتعاد عن هذه المشاهد التي كيفما التفت تذكرني بك وبأيامنا الماضية.
أما أنا فمقيمة على حبك. ثابتة في ولائك. مقسمة أن لا أنساك. . .
سليم عبد الأحد
التعليم الإجباري
في مصر
يسر الزهور أن يكون في عداد محرريها فئة من السيدات والأوانس تساعد في حملة الأقلام على نشر لواء النهضة الأدبية. وإلى هذه الفئة نضيف اليوم اسم حضرة الكاتبة الفاضلة كريمة سعادة اسكندر بك عمون المحامي الشهير صاحبة اليد الطولى في عالم الأدب كما سيرى القراء ذلك من الرسائل التي وعدتنا بنشرها في الزهور. وقد علمنا أن هذه الكاتبة الأديبة تشتغل بوضع في المرأة وواجباتها سنعود إليه في فرصة أخرى. وهذه الآن طليعة تلك الرسائل:(2/245)
جعل أفاضل القطر المصري منذ سنوات عديدة أمر التعليم الإجباري حديث النفس في خلواتهم وموضوع البحث في مجالسهم علماً منهم بأن الترقي الصحيح لا يكون إلا إذا نال كل فرد من أفراد الأمة حظه من العلم فالحمد لله الذي أوحى إليهم بهذه النهضة العلمية المبشرة بانبلاج فجر النجاح والوئام.
مصر بحاجة شديدة إلى ما يربط أبناء العناصر والأديان المختلفة فيها برباط متين، ويشغل همم أفرادها وأفكارها عما لا طائل تحته بما يفيدها ويرفه شأنها. فما هو هذا الشاغل وما هو ذلك الرباط المتين؟
هو العلم الذي يقيد أفراد الأمة بقيود الإخاء الأدبي ووحدة الطلب، ويحبب إليهم العدل ورعاية القوانين فيكفون عن المنازعات التي لا تجدي نفعاً، ويصبحون أهلاً للتمتع بالجلاء الذي طالما تاقوا إليه. وهو أيضاً الشاغل الذي يحبب إلى ذويه المال والتقدم فيطرحون عنهم الكسل ويسعون بجد مستزيدين من الثروة ما استطاعوا، آخذين عن الأمم الراقية كل ما من شأنه تحسين صنائعهم وزراعتهم فتزداد الأمة بأسرها بسطةً في عيشها ومنعة في كيانها.
ومن اول نتائج تعميم التعليم أنه ينقص الجنايات نقصاً عظيماً على حد قول جول سيمون لا تفرغ السجون إلا إذا امتلأت المدارس ولا تمتلئ المدارس إلا إذا صار التعليم إجبارياً. والإحصاءات تؤيد ما نقول وتدل على أن متوسط عدد المجرمين ينقص بنسبة زيادة عدد المتعلمين. ففي إنكلترا مثلاً بلغ عدد تلاميذ المدارس الابتدائية 5. 000. 000(2/246)
تلميذ بعد
أن كان 1. 400. 000 وذلك من سنة 1870 التي صدر فيها دكريتو التعليم الإجباري إلى سنة 1894. فكان من نتائج هذه الزيادة نقص السجناء من 20800 إلى 13000 سجين ولو ازداد عدد هؤلاء بنسبة ازدياد عدد الأهالي لبلغ 28. 000 بدلاً من 13. 000 سجين ولأصبحت نفقات السجون 8. 000. 000 جنيه بدلاً من 4. 000. 000 جنيه. ومن الإحصاءات التالية نرى شدة تأثير التعليم الإجباري في إنجلترا وويلس من سنة 1870 إلى سنة 1899.
سنةجناياتمتشردونجرائم الأحداثعدد الأهالي187019789106022168100018741622النقص كان تدريجياً2308800018791533700024700000188414276000263132511889094527830179189291510029055550189977068334231061000 والحكومة الإنكليزية تخصص من مجموع الضرائب 8 ملايين جنيه سنوياً لتنفق على الفقراء فلو ازداد عدد الفقراء بنسبة ازدياد عدد الأهالي لاضطرت إلى مضاعفة ذلك المبلغ أي إلى إنفاق 16 مليون جنيه.
إن هذه النتائج تصدق على كل بلاد يكون فيها التعليم إجبارياً فلذلك نرى أعيان مصر يتوقون إليه وحكومتنا الحريصة على ترقي الأمة(2/247)
راغبة فيه. فما هي إذاً الموانع التي صدتها عن نشره حتى الآن؟
هما اثنان. أولاص عدم وجود المال اللازم للقيام بنفقاته وثانياً احتياج الفلاح المصري إلى مساعدة اولاده له في زراعته.
أما الأجوبة على الاعتراض الأول فهي أولاً أنه لا يتعين على مدارس التعليم الإجباري أن تتعدى حد الكتاتيب الصغرى ولا أن تعلم علوماً عالية. وإنما يكون التعليم الإجباري مقصوراً فيها على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وجغرافية مصر والقرآن الشريف. ولا ريب أن الفقهاء الذين يصلحون لتعليم هذه المبادئ كثيرون في البلاد المصرية، والرواتب التي يقنعون بها طفيفة جداً فلا تثقل كاهل الحكومة ولا تؤثر في ميزانيتها تأثيراً يذكر.
ولقد فرضت الحكومة زيادة خمسة في المئة على أموال الأطيان الأميرية لتضاف إلى نفقات التعليم. فلو أبلغت هذه الزيادة إلى عشرة في المئة لقابلها أفاضل المصريين بارتياح كلي متى علموا أنها لازمة للتعليم الإجباري وأنها ستنفق كلها عليه. وفوق ذلك نعلم كلنا أن
إيرادات الحكومة المصرية تفوق كل سنة نفقاتها بنحو 500. 000 جنيه فلماذا لا ينفق جزء من هذه الزيادة في سبيل التعليم الإجباري؟ ألا تفضل الحكومة أن تقول لنا عند نهاية كل عام أن زيادة إيراداتها عن نفقاتها كانت 100. 000 جنيه فقط ولكنها تنفق عن سعة في سبيل تعليم الشعب من أن تقول أن المتوفر نصف مليون جنيه ولكنها قابضة يدها عن بذل المال اللازم لنشر التعليم وتاركةً القوم يتمرغون في أوحال الجهل؟(2/248)
أما الجواب عن الاعتراض الثاني فهو أن أشد احتياج الفلاح لمساعدة أولاده له إنما يكون في زمن زرع القطن وخله وجمعه. وكل ذلك الزمن لا تزيد مدته عن الثلاثة الأشهر فما على الحكومة إلا أن تجعل تلك الأيام أيام الإجازات المدرسية فيربح فيها التلميذ عقله من عناء الدروس، ويروض عضلاته بالأشغال الزراعية. على أنه إذا كان لابد للفلاح من يد تعينه على عمله متى كان أولاده بعيدين عنه في المدارس فإن له من أيدي بناته تلك المعونة المطلوبة، إلى أن تسمح الأحوال بأن يشمل التعليم الإجباري صبيان مصر وبناتها.
هند إسكندر عمون
في رياض الشعر
أمين بك ناصر الدين رئيس تحرير جريدة الصفاء اللبنانية شاعر مجيد وكاتب بليغ. شهير في سورية ومجهول في مصر فالزهور تفتخر بأن تضمه إلى عداد أنصارها الذين يتكاثرون يوماً فيوماً، وسيزداد القراء معرفة بأدبه الزاهر مما سنتابع نشره من شعره الرائق مشفوعاً برسمه ونبذة من ترجمة حياته وهو لا يزال في ربيعها:
الحي يخاطب الجماد
أو شاعر يناجي صورة
أراك يا رسم لا تنفك مبتسماً ... أذاك شانك أم ذوق الذي رسما
تستقبل الصبح جذلاناً بلا سبب ... ولا يسموك أن تستقبل الظلما
سيان عندك يوم كله طرب ... وآخر بسمات الهم قد وسما
ولا يروعك سيف الموت منصلتاً ... والخطب مندفعاً والدهر منقما(2/249)
كفاك يا رسم فخراً أن مثلك لم ... ينقل لحاجته فوق الثرة قدما
كفاك عزة نفس أن تدوم ولا ... تأتيك منة إنسان قد احتكما
لا ينطوي لك قلب ما بقيت على ... حقد ولا يتعدى طبعك الكرما
وأنت خير نديم للذين رأوا ... تجنب الناس أمراً يدفع السأما
ترعى لراسمك العهد المتين ولا ... أرى من الناس إلا مخفراً ذمما
والحي يسقم أحياناً وأنت على ... أتم عافية لا تعرف السقما
ويدرك الهرم الإنسان بعد مدى ... وأنت غض شباب آمن هرما
وتهزم الناس أرزاء تروعهم ... في حين يرجع عنك الرزء منهزما
أراك تفصح عما فيك من طرب ... وأن عدمت لسناً ناطقاً وفما
سلمت يا رسم من هم ومن كدر ... وما على الأرض حي منهما سلما
يا ساهراً لم يذق ليلاً غرار كرى ... وراقداً لم يؤرق منذ ما رسما
تضاحك الشمس منك الوجه مشرقة ... ويلثم البدر ثغراً منك قد بسما
لك الطبيعة صفو العيش قد قسمت ... وضده وجزيل اليأس لي قسما
كن موضعي ولا كن رسما فذلك لي ... خير وخذ فكرتي والطرس والقلما
أمين ناصر الدين
الحب المكتوم
كان لأبيان فليكس أرفر الني نشرنا تعريبها في جنائن الغرب (ج 3 ص 139) أحسن وقع في نفوس الأدباء لما فيها من رقة الشعور. ولقد تبارى الكثيرون من شعرائنا في سبكها في شعر عربي، غير أنهم لم يراعوا الأمانة في تأدية معاني الشاعر الإفرنجي. وكان أكثر ما نظم انطباقاً على الأصل ما جاءنا من حضرة الشاعر المجيد صاحب التوقيع، قال:(2/250)
يا غراماً في مهجتي أبدياً ... من لحاظ بلحظة دب فيا
حادث في الهوى تكتم حتى ... كاد يخفى في النفس مني عليا
لا دواء للداء مصدره الح ... ب الذي بات عن سواي خفيا
سببته تلك التي ليس تدري ... أنه قد غدا هوى عذريا
ويح قلبي أمر بالقرب منها ... لا أراها ترنو بلحظ إليا
معها دائماً ووحدي دوماً ... دانياً دائماً ودوماً قصيا
سوف أقضي الحياة لم أعط شيئاً ... كيف يعطى من ليس يطلب شيا
وأراها وإن تكن ذات قلب ... وشعور رقا كطبع الحميا
تتخطى الحياة ليست تبالي ... مات مضنى الغرام أو ظل حيا
وحفيف الهوى يرافق منها ... خطوات تخطفت مقلتيا
هكذا وهي في الأمانة ترعى ... لشروط الزواج عهداً وفيا
تقرأ الشعر وهي ملء سطور الش ... عر وصفاً ولطعةً ومحيا
ثم تغدو تساءل النفس عمن ... تركتني في الحب صبا بكيا
* * *
ويح حظي هي التي تيمتني ... بهواها وليس تعلم شيا
رشيد نخلة
مجد العرب
كفاك يا طير شدواً هجت بي طربا ... أما تراني حزين القلب مكتئبا
لو كنت مثلي مقصوص الجناح لما ... شدوت بل كنت تلقى الويل والحربا
لم ينصف الدهر جيدينا فطوقني ... من الحديد وحلّى جيده ذهبا
هب لي جناحيك مأجوراً أطر بهما ... ينفّس الجو عني هذه الكربا(2/251)
أعرهما لي أطر في الجو مرتفعاً ... حتى أعانق في أبراجها الشهبا
نفسي تتوق إلى العلياء مذ علمت ... أني امرؤ ورثت أخلاقه العربا
إني لأعجب ممن يستخف بنا ... أن لا يرى خطة استخفافه عجبا
سلوا القرون الخوالي عن مفاخرنا ... سلوا الرماح سلوا الهندية القضبا
سلوا الزمان الذي كانت تتيه بنا ... فيه المعالي وكنا السادة النجبا
وكان فارسنا إن جال جولته ... في نصرة المجد رد الجحفل اللجبا
إن صاح رددت الآفاق صيحته ... واهتزت الأرض والأفلاك إن ضربا
كتائب تترامى في حميتها ... إلى الردى لا ترى جبناً ولا هربا
من كل لاحق روح راح يطلبها ... بسيفه غير ملحوق إذا طلبا
كالسيف منصلتاً والليث مفترساً ... والسيل منحدراً والبحر مضطربا
فجاءنا زمن صرنا به خدماً ... لغيرنا وغدت أرواحنا سلبا
أرى الممالك داستنا بأرجلها ... كما ركبنا على أعناقها حقبا
ما لي أرى الشرق لا تصفو موارده ... لأهله ويراها غيرنا ضربا
لو أن للشرق روحاً أو له كبداً ... ترق بث لنا شكواه وانتحبا
يا ويح للدهر يلهو بي ويلعب بي ... أبعد ما شاب يهوى اللهو واللعبا
أنا امرؤ في صميم الذل مرتبتي ... من مصر لا نبطا قومي ولا جلبا
يا أيها الموسرون اليوم يومكم ... شيدوا لنا من معالي جاهكم حسبا
رقوا المعارف تدعوكم بلادكم ... لا تخذلوها فإن الحق قد وجبا
كم من تعيس يسيل النحس من يده ... أمسى سعيداً وكم من غاصب غصبا
حلفا
محمد توفيق علي
ضابط بالجيش(2/252)
شبت وما شاب
غرست هواك في قلبي ربيعاً ... فشبَّ وشبت في زمنٍ قريب
فما أنا راجعٌ زمن التصابي ... ولا هو بالغٌ زمن المشيب
عبد الحليم المصري
البدر والليل
لعلها آخر ما نظمه إمام العبد
كان إمام قد أشفى، فدعا بدواة وقلم وكتب الأبيات التالية، وفي حروفها على الورق ما يشعر بارتجاف يده، ثم أوصى إحدى النسوة اللواتي كن يعطفن عليه في شدته بأن ترسل ما كتب إلى مجلة الزهور. فلما قضى لرحمة ربه، وقد ضعضع الأسى والبؤس من حوله، ذهب أمر الرسالة عن تلك المرأة الحزينة، حتى إذا جفت الدمعة إلا قليلاً وبردت الجمرات إلا بعضها بلغت الأبيات إلينا وروح إمام ترفرف بين كلماتها وسطورها. وهذه هي:
تمنى أن يجازيني بوجدٍ ... فكان الوجد أسبق من مناه
واحرمني لذيذ النوم لما ... جرى حكم الإله على هواه
رآه البدر أحسن منه وجهاً ... فحدَّث نفسه لما رآه
وألبسني عليه الحب ثوباً ... يريك الليل أطول من مداه
عرفت الحظ من لوني وثوبي ... فأين يكون في الدنيا سناه؟
إمام العبد(2/253)
في حدائق العرب
بمناسبة ما ذكرناه في أول هذا العدد عن تتويج ملوك الإنكليز أحببنا أن ننشر هذه الصفحات المطوية عن كيفية المبايعة عند العرب وعن الشارات الخاصة بالإمارة.
البيعة
البيعة هي في العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم إليه النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك. ويطيعه في ما يكلفه به من الأمر المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعةً مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومدلول الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ. ومنه بيعة الخلفاء، ومنه أيمان البيعة، كأن الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك، فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة.
وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل، أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل.
شارات الملك
إن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته، والمشتهر منها:
الآلة - من شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون.(2/254)
السرير - أما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهو أعوادٌ منصوبة أو آرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم، وقد كانوا يجلسون على أسرة من الذهب. وكان لسليمان بن داود كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب. إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف، أما
في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه. وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم: إني قد بدنت. فأذنوا له واتخذه. واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة. ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك، فيجلس عليه، وهو أمامه، ولا يغيرون عليه وفاء له بما اعتقد معهم من الذمة وإطراحاً لأبهة الملك. ثم كان بعد ذلك لبني العباس وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفى عن الأكاسرة والقياصرة.
السكة - وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج الرسوم عليها ظاهرة مستقيمة، بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى. . . ولفظ السكة كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علماً عليها في عرف الدول، وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة.
الخاتم - وهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية، والختم على الرسائل(2/255)
والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له أن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه محمد رسول الله. قال البخاري جعل الثلاث كلمات في ثلاث أسر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله. وقد تختم به أبو بكر وعمر وعثمان.
الطراز - من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير والديباج أو الأبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وسدى بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكم الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم، فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصداً للتنويه بلابسها من السلطان فمن دونه، أو التنويه
بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه. . . وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك. ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفال أو السجلات. . . . وكان الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز. وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز. . .
(باختصار عن ابن خلدون)(2/256)
ألفرد ده موسه
أذكريني كلما الفجر بدا ... فاتحاً للشمس قصر الذهب
وأذكريني كلما الليل مضى ... راكضاً بين جنود الشهب
وإذا ما صدرك ارتج على ... نغم اللذات وقت الطرب
أو دعاك الظل يا مي إلى ... لذة الأحلام عند المغرب
فاسمعي من داخل الغاب صدى ... صارخ فيه يناديك أذكري
أذكريني إن غدا صرف القدر ... فاصلاً ما بيننا للأبد
يوم لا تبقي الليالي والعبر ... من رجاء لفؤادي الكمد
وأذكري حباً به قلبي انفطر ... ووداعاً ذاب منه كبدي
وإذا الحب على القلب انتصر ... غلب البعد وطول الأمد
وأنا ما عشت يكفيني خبر ... منك والقلب يناديك أذكري
أذكريني عندما ألقى المنونا ... ويضم الترب ذا القلب الكسير
عندما تفتح للفجر الجفونا ... زهرة القفر على قبري الحير
لن تري من بعدها ذاك الحزينا ... إنما نحوك روحي ستطير
وبها أبقى على العهد أمينا ... جاعلاً حبك لي خير سمير
واسمعي من جانب القبر أنينا ... هاتفاً في ظلمة الليل أذكري
هذه أبيات عربها عن الإفرنسية حضرة الدكتور نقولا أفندي فياض، ولا شك في أن هذه القصيدة عصرية الفكر واللهجة لأنها نظمت سنة 1842 وقد وضع لها ألحاناً تناسب معانيها الشجية بعض الموسيقيين(2/257)
وأجمل هذه الألحان وأحبها إلى عشاق البيانو والكمنجة - لأنها أكثر وقعاً في النفس - نعمة ابتكرها الموسيقي الإرنسي جورج روبيس.
وناظم هذه الأبيات بالفرنسوية هو الذي يسميه الفرنساويون شاعر الشبيبة. هو ذاك الذي لا ينساه أبداً من قراه مرة، بل كلما قلب صفحات بعض الكتب الغزلية تعود إليه تلك المعاني البديعة، والتعبيرات المحزنة التي تصدع القلوب، فيكاد يرى ما بين يديه من القصائد، إذا ما قابل بين هذه وتلك، سبك أسجاع فارغة، وتلاحم اصطلاحات لغوية وكتابية ثقيلة، وثرثرة جالبة الصداع لفقدانها معاني العواطف، وعجزها عن إظهار آثار الآلام الروحانية.
يلقب القارئ صفحات الكتاب فتحول بين نظره والمجلد صورة الشاعر الفتى: رقة في الجسم ورقة في الشعور، خيالات أحلام متتابعة تجول في مياه العينين الصافيتين، علامات الذكاء الوقاد مرسومة على الجبهة الجميلة تحت طيات الطرة الذهبية، وعلى الشفة تحوم شبه ابتسامة، مزيج هيام ومرارة. . .
هو فتى العذابات والدموع الذي عندما تذكره يتبادر إلى ذهنك اسما بايرن الإنجليزي وادجر ألن بور الأمريكي. لأن في كتابات هؤلاء الثلاثة شيئاً من المشابهة والمقارنة، وكثير من شعب تخيلاتهم تتلامس في سماء الغزل، كما أنك تجد في حياة كل منهم ظروفاً ومميزات تجعله أشبه بالآخر برغم سكناهم بدلاً تختلف باللغة والتقاليد.
قيثارة ساحرة أوتارها العواطف، وأغنيتها النوح، وقرار هذا النوح(2/258)
قروح القلب، شاعر الشبيبة في كل آن ومكان ألفرد ده موسه من لا يعرفه ولو بالاسم على الأقل؟
ولد ألفرد ده موسه في باريس سنة 1810 وتلقن دروسه في مدرسة هنري الرابع حيث امتاز على سائر أترابه بحدة ذكائه وقوة شاعريته. وبعد خروجه من المدرسة اخذ يدرس الشريعة ثم الطب. لكن مشاكلات المهنة الأولى والمنافرات التي لابد منها فيها، وشناعة التشريح وكراهته في المهنة الثانية أحدثت نفوراً في روحه الشديدة التأثر فعدل عنهما، وصار يمضي أكثر أوقاته في جنائن باريس وضواحيها حيث يختلي بذاته ويطلق العنان لتأملاته ويهيم ساعات طويلة في عالم الخيالات والأحلام.
وكان إذ ذاك فريق من الأدباء والشعراء الإفرنسيين قد ألفوا جمعية دعوها سناكل الغرض منها العمل على ترقية الشعر وتسهيل بعض الصعوبات التي تقيد فكر الناظم وتحدد حرية قلمه. وكان شاعر فرنسا الكبير فكتور هوغو رئيس تلك الجمعية. فدخلها موسه ولاقى فيها ما تتوق إليه نفسه من التحكك بمثل هذه النفوس السامية، والعقول الراقية، والقلوب الرقيقة. لاقى شعراء مثله، وذكاء مثل ذكائه. ومحاورات أدبية فنية مفيدة، وأصدقاء يفهمون طبيعته وأخلاقه ويقدرونها حق قدرها، بالنسبة لاشتباك مجانسات تخيلاتهم ومطالبهم. ولا شيء في الدنيا يشبه الروح الذكية أكثر من روح أخرى ذكية، والعكس بالعكس.
دخل موسه في جمعية كان هو أصغر أعضائها سناً، إذ لم يكن له من العمر سوى ثماني
عشرة سنة، فسعد حيناً. وكان الجميع يدعونه تحبباً(2/259)
بنيامين أو الفتى الهائل ' فكتب قصائده الأولى متقلداً فيها تارة الشاعر الفرنسي اندره شنيه، وطوراً فكتور هوغو ذاته، وعرب في الوقت نفسه عن الإنجليزية كتاب تومس دوكنسي المعنون اعترافات أفيوني -
ولما لم يكن والد الفتى الشاعر راضياً عن حياة ولده على هذه الكيفية التي لا فائدة منها - على زعمه -، أراد أن يضعه في وظيفة تضمن له سعادة مستقبله المادية، لكن ألفرد لم يرد تضحية حريته العزيزة، وإضعاف ذكائه الفريد، واستعداداته الأدبية في مثل هذه الأشغال الاعتيادية. فأبرز إلى عالم القراءة مجموعة أشعاره الأولى، وكان عمره نحو عشرين عاماً. فكان لظهور هذا الكتاب دوي عظيم بين ذوي الأقلام، وانتقدته الجرائد، وذمه الناقدون وسخط على مؤلفه أعضاء الجمعية لأنهم رأوا أن بنيامينهم شط عن الخطة المحدودة، غير مبالٍ بقوانين النظم عندهم، وهم لم يكونوا نفوا تماماً قواعد الشعر المدعو بالكلاسيك وكانت منظومات ده موسه تضرب كلها على نغمة جديدة لم يسبقها تمهيد في تاريخ الآداب الفرنساوية. وقد اتبع هذه الخطة شعراء فرنسا مدة حتى أتى ادمون روستان فكان آخر هذه الفئة، وزارع بذور الشعر الحالي الذي ينعتونه بالمائل إلى الزوال وذلك لأن شعراء العصر يتصرفون بالأفكار والتخيلات والأوزان والأسجاع بحرية لم يسمع بمثلها من ذي قبل. وترى كثيرين يتعجبون كيف ضمت الأكاديميا الفرنسوية إلى أعضائها(2/260)
منذ شهرين تقريباً أحد هؤلاء الشعراء، وهو هنري ده رنييه.
لم يبال ده موسه بالنقد والناقدين بل اكتفى برضى السيدات عن أشعاره، وإعجاب الشبيبة الفرنساوية بمنظوماته. فانفصل عن أعضاء جمعيته انفصالاً تاماً، ولم تضم سنة حتى نشر قصيدة أخرى اتبعها بمنظومات متعددة، لم يفهم قيمتها أبناء تلك الأيام إلا القليلون منهم. ولما كان في الثالثة والعشرين من عمره اجتمع بالكاتبة الشهيرة جورج ساند، وكانت هذه تكبره بخمس سنوات تقريباً، وقد مثلت هذه المراة النابغة دوراً مهماً مؤلماً في حياة الفرد ده موسه، وكان تأثير ذكرها في كتاباته عظيماً جداً حتى أنك تكاد لا تقرأ شيئاً مما كتبه بعد التقائه بها، إلا وترى فيه رمزاً يدل عليها. تحكك ذكاؤه بذكائها، وناهضت قواه الأدبية قواها، فأحدث هذا التحكك وهذه المناهضة، بين هذين النابغتين، شعلة محرقة، كما يحدث
في تلامس الأسلاك الكهربائية. وكادت هذه الشعلة تذهب بحياة الشاعر فأدرك الخطر وابتعد عنها ابتعاداً كلياً (1835) لكن ذكرها تبعه كيفما توجه. فنظم كتابه إلى لامارتين ولياليه وهو يعينها دائماً، وهذه القصائد تعد من أبجع وأرق ما كتب بالفرنساوية في هذا الباب.
وكانت أيام ألفرد ده موسه الأخيرة معذبة تعسة، حتى سئم الحياة وأضحى ينتظر الموت بفروغ صبر، وتراكمت الأمراض على جسمه فأعيته وسحقت، او وزادت في سحق فؤاده. وظل على هذه الحال حتى وفاه القدر في سنة 1859، فتوفي على أثر مرض في القلب، ولا عجب أن يموت(2/261)
شاعر القلوب من علة من قلبه. وآخر كلمات لفظها تدل على كثرة أحزانه وكرهه الحياة إذ قال: سأنام عن قريب والحمد لله!.
وكانت الكاديميا الفرنساوية انتخبته عضواً في سنة 1842 كما انه ظل سنين طويلة أمين خزانة الكتب في نظارة المعارف، ولا يخفى ما في هذين المنصبين من الشرف الذي يتمناه كثيرون لأنفسهم، لكن ألفرد ده موسه لم تكن تغره الظواهر الفارغة.
وقد كتب ما عدا منظوماته البديعة - وكان معاصرون يتهمونه بنقلها من منظومات لورد بايرن الشاعر الإنكليزي - مجلدات نثرية متعددة، وروايات تشخيصية أجاد فيها. فادعوا أيضاً أنها مسروقة من كتابات أدجر ألن بو والشاعر والكاتب الأمريكي. وهذا شأن الحساد دائماً، فهم يتهمون الممتاز عنهم بما يتصورونه ضده.
لا، ألفرد ده موسه لم ينقل عن احد، وأعظم فضيلة فيه كانت فضيلة الإخلاص. لكن حياة كل من هؤلاء الثلاثة كانت تعسة جداً، كأنه سبحانه وتعالى يبخل بالماديات على الذين أغناهم بالأدبيات، فإن معظم الرجال الكبار كانت حياتهم مفعمة بالأوجاع المتنوعة، مما لا تذوقه الأرواح الاعتيادية، والعقول الساذجة، ولا عجب في ذلك.
هذه نظرة عامة في حياة ناظم أذكريني فأفتكر به أيها القارئ ولو برهة، وارث لحاله، وقل معي: سلام عليك أيها الراقد تحت الصفصافة! سلام ورحمة!.
(مصر) مي
الزهور: سنقول كلمة عن الأديبة التي أتحفتنا بهذه المقالة في باب ثمرات(2/262)
المطابع من هذا العدد. وبهذه المناسبة ننشر للقراء أبياتاً نظمها الشاعر خليل أفندي مطران وكتبها على
الصفحة الأولى من ديوان شعر لموسه أهداه إلى فتاة أديبة:
عاش هذا الفتى محباً شقيا ... وقضى نحبه محباً شقيا
وبكى دمع عينه في سطور ... جعلته على الندى مبكيا
منشد للغرام لم يشد إلا ... كان إنشاده نواحاً شجيا
شاعر كان عمره بيت تشبيبٍ ... وكان الأنين فيه الرويا
فأقر إي شرح حاله وأعجبي من ... ذلك القلب كيف بات خليا
إن في نظمه لحساً لطيفاً ... باقياً منه في السطور خفيا
فاذرفي دمعةً عليه تعيدي ... ورق الطرس بالحياة نديا
وتثيري من روحه نسماتٍ ... وتفيحي منها عبيراً ذكيا
الغناء العربي
في مصر
عبده الحمولي - زرئ الغناء العربي في مصر في أوائل الشهر الماضي بالمرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي أحد مشاهير المغنين الذين عاصروا عبده الحمولي وأخذوا عنه.
كان الحمولي في مصر كما كان إبراهيم الموصلي في بغداد. كلاهما إمام المغنين في عصره. وكما التف حول الموصلي جماعة ممن عاصروه فأخذوا(2/263)
عنه ثم تفننوا في الذي أخذوه وحسنوا فيه، هكذا الفت حول الحمولي كثيرون من المتأخرين فأخذوا عنه ثم تفننوا في الذي أخذوه أيضاً. وكان أشهر هؤلاء محمد أفندي سالم والشيخ يوسف المنيلاوي.
يخرج المالكين من حشمة الم ... لك وينسى الوقود ذكر وقاره
يسمع الليل منه في الفجر يا ل ... يل فيصغي مستمهلاً في فراه
شوقي
وكانت لعبده طريقة في غلناء ابتكرها لنفسه فأنزلته المنزلة الأولى(2/264)
بين أرباب هذا الفن الجميل فاقتبس المنيلاوي ما حلا له منها وحسن فيه حتى لقد كان يسمعه الحمولي نفسه فيقول: أخذ عنا فسبقنا.
والله لو أنصف العشاق أنفسهم ... أعطوك ما ادخروا منها وما صانوا
وما أنت حين تغنيهم وتطربهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان
فأجاد في تقليده إياه ولم يزل إلى يومنا هذا المغني الوحيد الذي يقلد عبده في الأغاني التي سمعها منه وهي مزيته الأولى.(2/265)
آثر الناس عن عبده أنه ولد في طنطا، وكان له أخ أكبر منه فوقع شقاق بين أخيه وأبيه، ففر به أخوه من وجه والدهما هائماً به في الخلوات لا يجدان أحداً يأنسان به ويلجآن إليه، حتى دنا الغروب فسخر الله لهما رجلاً آواهما في ليلتهما ثم أقاما عنده أياماً. ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء ويضرب الآلة المعروفة بالقانون، فلما سمع صوت عبده أعجبه فعاد به إلى طنطا واشتغل معه فيها مدة وجيزة. وقد بقي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج فيها عبده من بين أبيه مرسوماً في نفسه فكنت تراه إلى آخر عمره ينقبض صدره، ويتقطب وجهه كلما دخل عليه
أوان الغروب. ولما اشتهر صيته وتفرد في صناعه الغناء ألحقه المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق بمعيته، وسافر معه إلى الأستانة مراراً فاقتبس شيئاً كثيراً من الغناء التركي وأدلخه في الغناء العربي وقد حسنه وتفنن فيه. وغنى وهو في عاصمة الترك السلطان عبد الحميد، واتصل بكبار أهل الدولة يومئذ فأوعزوا مقامه على شده أثرتهم بالعز لأنفسهم. وقصد إلى الأستانة مرة أخرى فلقي فيها ما أقصاه عنها كل حياته.
وآثروا عنه كرم الأخلاق ورقة المعشر والمروءة وسلامة الطوية. حدثنا بعضهم قال: جمع عبده في منزله حلقة من الفضلاء فغناهم حتى الهزيع الثالث من الليل. وأنه لكذلك إذ أقبل عليه خادمه الخاص فأسر إليه أمراً فهب من موضعه معتذراً للقوم بما حضره. ومشى عابس الوجه مقطب الحاجبين. ثم كانت ساعة ورجع إلى مكانه فجس عوده وغنى(2/266)
أصحابه صوتاً شجياً مؤثراً كان يشرق بدمعه في خلاله. ثم استمر في الغناء حتى كان الهزيع الرابع من الليل، فهم ضيوفه بالانصراف، فأقبل عليهم يحدثهم في أمره قال: إنكم شاركتموني في فرحي فهلا تشاركونني في حزني؟ وكان له ولد وحيد أتاه الخادم بنعيه وهو يغني فمضى إلى ذويه فبكاه معهم حيناً ثم عاد فغنى أصحابه فقد آثره عنه بعض المغنين وأودعه في آلة الغناء المعروفة فونوغراف وقد سمعناه فهو منتهى ما يكون من الرقة والتأثير.
وآثروا عن مروءته وبذله للمعروف حوادث يعلمها الناس لا يجهلونها وجميعها يدل على أخلاقه الفاضلة رحمه الله.
محمد عثمان - إذا ذكرت عبده الحمولي تبادر إلى ذهنك فوراً ذكر المرحوم محمد عثمان. فقد كان هذا الرجل إلى جانب عبده ما كان معبد إلى جانب إسحق بن إبراهيم الموصلي. غير أن عثمان ابتلي بداء عقيم ذهب بجمال صوته وطلاوته فانصرف إلى تأليف الألحان فكان بصيراً بأخذ النغم من مواضعها وبجمعها على نسق مستحب كلفاً بصناعته، جاداً في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق ولهذا كان لا يغني منفرداً إلا على أجنحة الآلات. فإذا لحن أغنية وأسمعها لأول مرة خرجت متقنة الوضع رائقة للسمع، ولكن يبدو عليها إثر إعنات الفكر ويشتم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها والملائمة بين رناتها ومعانيها. وعلى الحقيقة(2/267)
فإن عثمان كان في أخريات عمره واضع معظم الألحان فيأخذه عبده عنه، وهو ضريبه، ويكسوه من الحلي والحلل ما تشاء بديهته الخاصة به.
الشيخ المسلوب - ومن ذكر محمد عثمان ذكر معه الشيح محمد عبد الرحيم الشهير بالمسلوب فقد كان هذا الرجل وما برح إلى يومنا هذا شيخ الملحنين. غير أن الكبر أقعده عن الإنشاد في السنين الأخيرة - وهو خير من أنشد الأذكار الصوفية في هذا العصر - وحالت الشيخوخة بينه وبين صناعته الجميلة فأقصى نفسه عن حلقات الغناء. ولكنه ما فتئ يجيد التلحين والوضع إذا سئل شيئاً منها.(2/268)
إذا لقيت هذا الرجل الشيخ اليوم لقيت راوية للغناء العربي في هذا العصر. فإن حدثته حدثك من تاريخ الغناء في القرن الفائت ما لا تحتويه بطون الأوراق فهو تاريخ حي للغناء والمغنين.
محمد سالم - وكما أقعدت الأيام الشيخ المسلوب أعجزت معه أيضاً زميله محمد سالم وهو أحد أربعة يحق لنا أن نسميهم بأئمة الغناء العربي في مصر في العهد الأخير. نريد بالثلاثة الآخرين عبده الحمولي ومحمد عثمان وسلامة حجازي.(2/269)
كان محمد سالم إبان عهده بالفن من نظراء عبده في الإتقان وجودة الأداء. وقد اعترف له عبده نفسه بذلك إذ كان يقول عنه(2/270)
أحسن الأصوات ف مصر صوتان: صوت سالم في الرجال، وصوت ألمز في النساء.
المغنون والملحنون - من المغنين من اشتهر بالغناء وبالتلحين معاً، ومنهم من عرف بإحدى هاتين المزيتين فقط. فمن الفئة الأولى عبده الحمولي ومحمد عثمان، والشيخ سلامة حجازي.
ومن الذين أخذوا بالتلحين وحده الشيخ عبد الرحيم المسلوب، وأبو خليل القباني الدمشقي، وإبراهيم أفندي القباني، وداود أفندي حسني، وأحمد أفندي غنيمة.
أما الذين أخذوا وغنوا فكثيرون أشهرهم محمد أفندي سالم، والشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي أفندي حلمي، ومحمد أفندي السبع والشيخ سيد السفطي، وعلي أفندي عبد الباري، وكثيرون آخرون.
النساء المغنيات - ولم يكن نصيب النساء من الإجادة في الغناء بأقل كثيراً من حظ الرجال
منه فقد اشتهرت ألمز زوجة المرحوم عبده الحمولي بحسن الأداء ورخامة الصوت، وفهم أسرار الصناعة، وعرفت ليلى - وليلى أشهر من أن تعرف - بطلاوة الصوت وعذوبته والبراعة الفائقة في الأداء والمقدرة على الأخذ والتقليد.
وهناك قيان زاولن هذه الصناعة واختلفت منزلتهن فيها باختلاف استعداد كل قينة منهن، وباختلاف الوسط الذي نشأت كل(2/271)
واحدة فيه. على أن أشهرهن اليوم توحيدة والسويسية وبهية اللواتي يغنين عامة الناس في قهوات مصر.
أشهر الأغاني - من الأغاني ما تداولها الناس وغنوها ناسين أسماء ملحنيها على حين أن الواجب يقضي بأن يعرف الملحن بالأغاني التي وضعها كما يعرف الشاعر بالقصائد التي نظمها. لهذا رأينا - ضناً بفضل أولئك الملحنين أن يذهب به النسيان - ذكر أشهر الأغاني مقرونة بأسماء الملحنين كما ترى.
أشهر الألحان التي وضعها عبدو:
أهين النفي وأتذلل إليكم. . .
غرامك علمني النوح. . .
كادني الهوى وصبحت عليل. . .
قده المياس زود وجدي. . .
جددي يا نفس حظك. . .
متع حياتك بالأحباب. . .
أشهر أغاني محمد عثمان:
يا ما أنت وحشني. .
قدك أمير الأغصان. .
القلب سلم من زمان. . .
عهد الأخوة نحفظه. .
اليوم صفا داعي الطرب. . .
أشهر أغاني المسلوب:
ناحت فأجبتها. . .
رايح فين يا مسليني. .
في مجلس الأنس الهني. . .
أشهر أغاني إبراهيم القباني:
الكمال في الملاح صدف
البلبل جاني وقال لي. . .
تضحكني الحواسد في غرامي. .
يعيش ويعشق قلبي. .
أشهر أغاني داود حسني:
يا طالع السعد افرح لي. .
دع العذول. .
سلمت روحك يا فؤادي. .
أسير العشق. .
عزيز حبك
القلب في ودك(2/272)
نتيجة عمومية - لولا أن أتاح الله للغناء العربي في العهد الأخير المرحومين أبا خليل القباني، وعبده الحمولي، لكانت صناعة هذا الفن الجميل قد اندثرت ولم يبق لها أثر. فإن القباني نقل إلى مصر ما أخذه بالسماع والتواتر عن الأغاني العربية القديمة أحياها، والحمولي أخذ تلك الطريقة وهذبها ثم تفنن فيها حتى اختص بها وأخذها عنه معاصروه فذهبوا فيها أيضاً مذاهب شتى.
حبذا لو استطاعت الحكومة المصرية - وهيا لحكومة العربية الوحيدة التي تسعى أبداً إلى تخليط مجد العرب - أن تنشئ مدرسة لفن الموسيقى العربية فتحفظ هذا الفن من الضياع، وتعيد له مجده القديم. إن هذه لأمنية لنا على الحكومة لعلنا إن نعود إليها فنوفيها حقها من البحث.
ثمرات المطابع
تاريخ آداب اللغة العربية - واضع هذا السفر النفيس جرجي أفندي زيدان ليس بحاجة إلى التعريف. فهو من أشهر كتابنا وأكثرهم نشاطاً واجتهادا، ً وأجلهم خدماً للغة العرب وآدابها وتاريخ تمدن أممها. وإذا ما ذكر يوماً الكتاب الذين كانت لهم يد في النهضة الأدبية في هذا العصر جاء اسم زيدان في مقدمتهم. فإن مؤلفاته - بين تاريخ وروايات وآداب واجتماع - تعد بالعشرات. وهي - وإن اختلفت في القيمة(2/273)
باختلاف موضوعها - وتشهد لصاحبها بسعة الاطلاع وحب البحث والتنقيب عن الحقائق وخصوصاً بالثبات على العمل، الأمر الذي لا يحق لكثيرين من كتاب الشرق أن يفتخروا به: ويسر الزهور التي وقفت نفسها على نشر آثار أدبائنا وتعريفهم إلى قرائها أن تعلن اليوم فضل هذا الرصيف الكريم وتزيين صفحاتها برسمه بمناسبة ظهور كتاب تاريخ آداب اللغة العربية. وهو كتاب يشتمل على تاريخ اللغة العربية وعلوها وما حوته من العلوم والآداب على اختلاف مواضيعها وتراجم العلماء والأدباء والشعراء. . . من أقدم أزمنة التاريخ إلى الآن وهذا الجزء الأول يحتوي على تاريخ آداب اللغة في عصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر الأموي.
لا يخفى على أديب ما هو عليه هذا الموضوع من تشعب الأطراف ووعورة المسلك واضطرار من يعالجه إلى الوقوع في هفوات عديدة. ولم يفت هذا الأمر زيدان أفندي فإنه العالم الحقيق الذي يعرف أن ما لا نعلم هو أكثر مما نعلم، فأشار إلى ذلك في مقدمته بكل صراحة وحرية ضمير شانه في ما تقدم من مؤلفاته. فإذا كان في النظرة العامة التي وضعها عن حالة العرب وآدابهم ولغتهم ولهجاتهم في الجاهلية نقص، أو إذا كان في سرد أسماء الشعراء سهو أو إهمال، أو في الحكم على شعرهم ولغتهم ما هو موضوع المناقشة فلأن الموضوع غير واقع تحت الحصر، ولأن المستندات الواجب الاعتماد عليها مبعثرة في مئات من الكتب بين مطبوعة وخطية وهذه الكتب منثورة في مكاتب مختلفة بين عواصم الغرب والشرق فلا(2/274)
يتسنى الوقوف عليها. ولذلك ترى أن تاريخ الآداب العربية الذي نحن الآن بصدده قد جمع بين دفتيه جل ما يمكن جمعه من المعلومات عن هذه الآداب. وهو من هذا القبيل أشبه بواضع أول معجم لمفردات اللغة فإنه أغفل بطبيعة الحال كلمات كثيرة جاء بعده من استدركها ودونها فكمل عمله. وفي رأينا إن أكبر مساعد على وضع تاريخ شامل واف لآداب لغتنا هو أولاً: انتقاء مختارات من أدباء العرب. فإن هذه
الكتب على وفرتها - وأوسعها مجاني الأدب لا تفي بالمطلوب لاسيما من حيث التنسيق والتبويب - فالحاجة ماسة إلى تقسيم الكتاب حسب العصور وإيراد نبذة موجزة عن حياة كل كاتب أو شاعر مع أسماء مؤلفاته وإبداء رأي في كتاباته ثم ذكر المأثور من هذه الكتابات، على الطريقة التي سار عليها الإفرنج في تبويب مختاراتهم. والأكثر الثاني الذي يساعدنا على ضبط تاريخ آداب لغتنا هو الدروس الإرادية وذلك أن يعمد أدباؤنا المعروفون(2/275)
إلى كاتب أو أكثر من كتاب العرب فيدرسونه درساً أدبياً وافياً من حيث ترجمته ونقد كتاباته وتأثير الوسط فيه إلخ فيضعون عنه لمحة تجمع زبدة الآراء وهكذا يتسنى من مجموع هذه الدروس إبداء أحكام صادقة وإيراد روايات راهنة عن كتابنا السالفين. وسنباشر ذلك في الزهور قريباً إن شاء الله. ويجدر بالجامعة المصرية وبغيرها من معاهدنا العلمية الشرقية أن تفرض على كل مرشح لنيل الشهادة النهائية وضع درس من هذه الدروس عن أحد شعراء العرب كما تفعل معاهد الغرب. هذه في رأينا أهم الوسائل التي توفر لدينا المعدات اللازمة لوضع تاريخ حقيقي لآداب لغة العرب.
فإلى زيدان أفندي نزف أطيب التهاني بما خدم به هذا الموضوع الجليل منتظرين توفيقه إلى إظهار الجزء الثاني من كتابه وهو سيكون ولا ريب أوفى بحثاً وأتم بياناً لأنه يتناول عصراً كثرت آثاره وتوفرت المعلومات عنه. وعلى كل حال فإن الكتاب يعد صفحة جميلة في حياة مؤلفه المملوءة بالأعمال الأدبية.
أزهار أحلام , - يسرنا أن نرى عدد الأوانس والسيدات اللواتي ينزلن إلى مضمار الكتابة يزداد يوماً فيوماً. فنحن اليوم نحتاج إلى صفحة كبيرة لتعداد أسماء الكواتب والشواعر عندنا. ويزيد سرورنا عندما نرى فتاتنا تحمل مع القلم العربي الريشة الإفرنجية، وتجاري الأجانب أنفسهم في لغتهم. عرف قراء العربية(2/276)
الكاتبة الأديبة مي مما نشرته من الروايات الجميلة والمقالات الشائقة والأبحاث النفسانية الدقيقة في جريدة المحروسة الغراء وقد أتحفتنا بمقالة لطيفة عن ألفرد ده موسه نشرناها في غير هذا المكان من هذا الجزء. وأمامنا الآن كتاب شعر إفرنسي رقيق، في ذيله بضع صفحات نثرية جميلة، تأليف إيزيس كوبيا. وإيزيس ومي هما شخص واحد، والقلم الذي حبر المقالات والروايات العربية،
والريشة التي حاكت برد هذه القصائد الفرنسوية، تحملهما يد واحدة ويملي عليهما فكر واحد. الكتاب الذي نحن بصدده الآن مجموعة أزهار عطرية نبتت في رياض الأحلام الجميلة، وهي مهداة إلى روح لامرتين شاعر القلوب الحزينة، وهذه الروح المتألمة ترف على كل صفحاته وتجعل الكاتبة تقول في قصيدة هل هي شاعرة؟ معناه: البكاء والرأفة والحب والألم هذه هي صفات الشاعر وقد ظهر من المواضيع التي طرقتها الكاتبة أنها لا تصف إلا ما ترى، ولا تعبر إلا عما تشعر به. فجاءت منظوماتها صورة حقيقية لما يشغل فكرها ويحرك قلبها، ولذلك أنت تشاركها عند تلاوة أشعارها في هذه العواطف مهما كان رأيك في القالب التي سبكتها فيه. فلا تتمالك من أن تصبو معها إلى مصر ونيلها وآثارها وسهولها، وتحن معها إلى لبنان وجماله وأوديته. وإذا كانت إيزيس كوبيا شاعرة في نظمها فقد وجدناها أشهر منها في تلك الصفحات النثرية التي ختمت بها أزهار أحلامها حيث لم تعد مقيدة بقيود القافية والوزن، وكثيراً ما تكون الأزهار المنثورة أجمل من الأزهار المضفورة على شكل مقرر. ولولا ضيق المقام(2/277)
لأتينا على ترجمة بعض هذه الأفكار المدونة في هذه الصفحات.
قالت إيزيس في مقدمة صغيرة استهلت بها مجموعتها: إذا كانت كتاباتنا صادقة، فلا أهمية لقيمتها من حيث الفن. فنحن تارة نتألم وتارة نفرح، ولكننا دائماً نتنهد. وإن التنهدات التي تملأ صدر الإنسانية متشابهة، وما الاختلاف إلا في توقيعها. . . فلا تحاولن يا من يطالع هذا الكتاب أن تنتقد أو تعلل، بل ابتسم، فإن ابتسامة التسامح هي أجمل زهور النفس. فلا تبخل علي بهذه الابتسامة التي التمسها. . . ونحن لم نبخل بهذه الابتسامة عند مطالعة هذا الكتاب، ولكنها كانت ابتسامة رضى عما فيه، وإعجاب بالقلم الذي كتبه.
منتهى الإفادة - من الكتب التي لها مساس بالحياة العائلية، كتاب منتهى الإفادة في أسرار الجمال والصحة والسعادة لمؤلفه حضرة البارع الدكتور أمين أفندي ناصيف. تصفحناه فوجدناه سفراً جليلاً يبحث عن الطرق الصحية لتحسين الخلقة ولتلافي العاهات ولتقويم الأعضاء منذ الصغر وللتدابير التي يجب اتخاذها لتجنب كل ما يشوه الوجه. وقد ذكر المؤلف عدة وصفات لنعومة البشرة ولحفظ الأسنان ولصحة العينين واعتدال القامة وغير ذلك وختمه بمباحث طبية جاء فيها على خلاصة ما يقال في الأمراض الكثيرة الشيوع،
وأسهل الطرق لعلاجها. والكتاب جدير بالمطالعة لما فيه من الفوائد الجمة.(2/278)
تهنئة إخلاص - عرف قراء الزهور سليم أفندي عبد الأحد الكاتب المجيد الذي ينشر في هذه المجلة رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام ونحن نقدمه اليوم إليهم شاعراً بارعاً في اللغتين العربية والإنكليزية. يدل على ذلك كراس صغير أهداه إلينا وفيه قصيدتان عربية وإنكليزية رفعها إلى جلالة الملك جورج الخامس بمناسبة تتويجه نقتطف من الأولى قوله في وصف الأسطول:
عرش تؤيده السفائن دونها ... شم الجبال الراسيات وتعضد
الشامخات السابحات تعج من ... أثقالها لجج المحيط وتزبد
تخد البحار وفي حشاها زفرة ... تمتد في موج الخضم فتوقد
وقوله:
يا باسطاً ظل السلام وناشراً ... للعدل ألوية بفضلك تشهد
فخر الملوك سيوفهم مسلولة ... وفخار سيفك أن سيفك مغمد
مجد إذا قيس الخلود ففترة ... تفنى وعرشك في القلوب مؤبد
أما القصيدة الثانية فقد نشرتها الصحف الإنكليزية في مصر وأثنت على ناظمها أجمل الثناء.
صحيفة الوجدان - نشرت الزهور في سنتها الأولى شيئاً مختاراً من نظم الأديب رمزي أفندي نظيم. وقد أتحفنا حضرته اليوم بمجموعة ما نشره في جريدة العفاف الغراء في مواضيع مختلفة وهي تبشر شاعرها الشاب بمستقبل مجيد في هذا الفن.
لغة العرب - هو عنوان مجلة أدبية تاريخية سيصدرها قريباً في(2/279)
بغداد حضرة العالم المدقق الأب انستاس ماري الكرملي المعروف لدى علماء الشرق والغرب بأبحاثه الجليلة. والغاية الأولى من إصدار هذه المجلة كشف النقاب عن أحوال العراق وجزيرة العرب وأحوال أهلها وعلومهم وآثارهم وآدابهم إلخ. وحضرته أقدر من طرق هذه المواضيع. فنرجو له نجاحاً وفلاحاً في هذه المهمة النبيلة، وسنعود إلى هذا الموضوع ببيان أوفى. لأن هذه المجلة ومديرها الفاضل جديران بالتفات الأدباء والمفاوضة مع مدير مجلة لغة العرب في بغداد.
إلى قراء الزهور
عطلة الصيف
كتبنا في العدد الأول من هذه السنة الجملة الآتية:
صدر في السنة الماضية اثنا عشر عدداً من الزهور في 560 صفحة. ولما كان العدد الكبير من المشتركين يغيرون محل إقامتهم في شهري الصيف حدث تبلبل في توزيع المجلة وفقد منها أعداد كثيرة. ولذلك رأينها أن نوقف إصدارها في شهري الصيف. وقد زدنا عدد صفحات كل عدد حتى تبقى مجموعة العشرة الأعداد 560 صفحة كمجموعة الاثني عشر عدداً. . . . .
فعدد هذه الشهر والحالة هذه هو آخر عدد يصدر من الزهور قبل عطلة الصيفية وموعدنا القراء الكرام أول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.(2/280)
العدد 17 - بتاريخ: 1 - 10 - 1911
العودة
كان شهي يوليو وكان فصل الذهاب، فأخذت القطورات الحديدية والبواخر البحرية تقل الناس أفواجاً إلى مصايف مختلفة ألطف هواء واعدل مناخاً. فسكنت الحركة في العاصمة، وهدأ دولاب الأشغال، وأقفلت المعاهد العلمية.
وجاء الآن شهر أكتوبر، وهو فصل العودة والإياب، فعاد التاجر إلى متجره، والمحرر إلى قلمه، والموظف إلى ديوانه، والمحامي إلى مكتبه، والطبيب إلى عيادته، والتلميذ إلى درسه بعد أن جمعوا في عطلة الصيف ذخراً من القوة والنشاط لمواصلة العمل في مراحل هذه الحياة.
وقد عادت الزهور إلى قرائها وعاد قراؤها إليها، والشوق ملء جوانح الفريقين، بعد فراق شهرين. فهي ترحب اليوم بالجميع وتسأل للجميع كل صفاء وهناء.
* * *
نهنئ الجميع بسلامة العودة، ويلذ لنا اليوم أن نخصك بالتهنئة، أيها(2/281)
التلميذ العزيز العائد إلى رياض المدرسة لتجني من زهر الآداب والعلوم عسلاً شهياً لك ولأهلك وبلادك. نخصك بالتهاني، وجميع القراء يشاركوننا في ذلك، لأن فيهم أباك وأمك، وأخاك وأختك.
منذ شهرين ونيف جرت الامتحانات في المدارس، وأقامت معاهد العلم الحفلات الشائقة لمكافأة ذوي الجد والاجتهاد. فنشرت أسماؤهم علناً، ولم تضن الصحف اليومية بإفساح محل واسع بين أخبارها للثناء على المبرزين من الطلبة وإطراء ذكاء من حاز قصب السبق منهم في ميدان الدرس. فكم كان يخالج صدرك حينذاك من عواطف الفرح والحبور لقيامك بالمفترض عليك إن كنت من الفائزين. أو كم كان يتلاعب في رأسك من أفكار التأسف والندم على ما فات من فرض أهملته أو درس تهاونت فيه أو واجب تأخرت عن القيام بع إن كنت من الخاسرين.
من يصف لنا ما دار في خلدك عند أو بتك إلى أهلك ظافراً غانماً أو خاسراً صفر اليدين؟ أو أي قلم يصور لنا ما كان في تقبيلك لأهلك وتقبيل أهلك لك من العواطف والمعاني؟
بهذه القبلة قلت لهم أنك فهمت ما يتكبدونه من الضحايا في سبيلك وسبيل تهذيبك إذا كان قد عدت ويداك مثقلتان بشهادات جدك، وإكليل الغار والظفر يعلو جبينك الوضاح المتلألئ بنور الغبطة والأمل. وكم كان إذ ذاك بقبلتهم لك من الفخر والابتهاج، لأنك شرفت اسمهم
الذي ستعرف به في المجتمع الإنساني، فأنسيتهم عرق الجبين وكد اليمين والنفقات الباهظة.(2/282)
بهذه القبلة عبرت لهم عن شديد أسفك على ما فات وعزمك الأكيد على الدرس والاجتهاد إذا كنت قد رجعت إليهم ولم تفلح وكم كان بقبلتهم له من اللوم والتأنيب على خمولك وأنت لم تكسب شيئاً في الجهاد الأول من هذه الحياة. . . .
كل هذه الأفكار والعواطف خالجت صدرك وصدر ذويك، فشعرت بفرح أو حزن، وشهروا بذاك الفرح أو هذا الحزن. فعزمت على مواصلة السير في خطتك الحميدة كما في الماضي، أو على التعويض بالدرس والتكفير بالجد عن ذلك الماضي.
مضى الآن أكثر من شهرين على تولد هذه العواطف في صدرك. وقد قضيت هذا الردح من الزمن بين القمم الخضرة والمناظر النضرة، إذا كان أهلك من ذوي اليسار، فتنقلت بين ربى لبنان أو سويسرا، وزرت آثار الحضارة الجليلة في عواصم أوروبا، فانفتحت نفسك لشعر الطبيعة وسجدت مخيلتك لذكاء الأمم الراقية، أو أنك بقيت في بلدك تطالع وتدرس حركة الزراعة والأسواق تحت إدارة أبيك أو ولي أمرك فطبع فيك حب العمل والسعي وراء الرزق. وعلى كل فقد قضيت هذه الأيام بين ذويك، فجددت نشاطك وقواك وادخرت في المعيشة العائلية حزماً جديداً وعزماً أكيداً.
ما أعظم ما كان تأثيرك أيها التلميذ العزيز عندما نزعت ورقة التقويم اليومي فوجدت مسطراً على الورقة التي تليها بحرف ضخم أول أكتوبر وهو تاريخ العودة إلى المدرسة.(2/283)
منذ شهرين استقبلك أهلك بقبلة اللقاء، واليوم يستودعونك الله بقبلة الوداع. وليست هذه القبلة بأقل من الأولى معنى ورمزاً. فتحوا ذراعيهم لضمك إلى صدرهم بعد عشرة أشهر قضيتها بين المحابر والأوراق، وهم يفتحونهما الآن لوداعك بعد شهرين قضيتهما بالقرب منهم. يودعونك ولسان حالهم يقول.
سر يا ولدي بالله الله مسراك، واقض سنتك المدرسية جاداً منعكفاً على دروسك مطيعاً لرؤسائك محباً لرفقائك، فترد منهل المعارف وترتشف كأس العلوم وتعود إلينا أكمل عقلاً وأوسع فكراً وأغزر أدباً وأكثر علماً. ضع نصب عينيك مستقبلك فهو سيكون غداً ما تريده اليوم فتحصد آتياً ما تزرعه حاضراً. أنت عماد بيتك وعصا شيخوخة أهلك، أنت محط
آمالنا ووارث شرفنا واسمنا وكل ما لنا. . . وعليك أن لا تنسى أنه لا منفذ للإنسان ولا معين في هذا الإعصار الهائل الذي ثارت رياحه وعصفت عواصفه على المجتمع الإنساني إلا الفضيلة والعلم فاجعل الكتاب أليفك والجد حليفك لتكون رجلاً نافعاً لبلادك وعضواً عاملاً على ترقية أبناء جنسك.
هذا بعض ما تقوله لك ساعة الوداع قبلة أبيك الحنون يا منتهى أمله وقبلة امك المحبوبة يا نور عينها ولن نزيد عليها شيئاً لأن فيها أحسن فصاحة وأبلغ بيان بل نقول لك: لا تنس هذه النصائح التي أملاها عليك قلب أعز الناس إليك، بل اتخذها دليلاً ومرشداً لك فهي تشدد عزيمتك حين التهاون والخمول، وتجدد أملك ساعة اليأس والقنوط. . .(2/284)
لم أجدها
فتشت عنها فلم أجدها، وهي موجودة. ولا أزال أنشدها، فهل أجد تلك الضالة المنشودة؟
بين رفيقات طفولتي، وعشيرات شقيقتي بحثت، فلم أجد ضالتي!
جبت المدن والأقطار، وخبرت الناس ودرست الأميال والأخلاق وأنا أبحث عنها. طرقت الأندية والمجتمعات، وعاشرت المتمدنات المتعلمات باحثاً منقباً عمن أريد. فلم أجدها.
قصدت القرى والجبال. فاختلطت بالقرويات الساذجات، ودرست معيشة الفلاحين في مزارعهم، فتوهمت أني وجدتها، وإذا من توهمت أنها هي، هي غير من أطلب، فرجعت ولم أجدها.
درست تاريخ الأمم الغابرة والعصور السالفة، ونفضت غبار النسيان عن تلك الوجوه الماضية علّي أجد بينها تلك التي أرجو. فلم أجدها.
لكل شاعر عروس شعر يتغزل بحسنها، ولكل كاتب خريدة رواية يشدو بذكرها. فتشت بين العرائس والخرائد. فلم أجدها.
* * *
أسأل: أين هي؟ فلا أعلم. . . ومن هي؟ فلا أدري. . . وكيف هي؟ فلا أعرف. . . لساني قاصر عن وصفها، وقلمي عاجز عن تصويرها.
لا يعرفها غيري ليهديني إليها، أو يهديها إلي. لأني أنا أيضاً أجهلها وتكاد نفسي أيضاً تجهلها، فأفتش عنها ولا أجدها.(2/285)
أغمض عيني عما أرى، وأصم أذني عما أسمع، فأضيع في عالم الخيال فيتراءى لناظري شخصها بني خيالات الأوهام، وينساب إلى مسمعي صوتها بين حفيف الأحلام. فأتوهم أني عرفتها أو عرفت بعض الشيء عنها. فإذا ما عدت إلى عالم الحقيقة أراني عاجزاً عن إعادة بعض ما رأيت وسمعت أو ما توهمت أني راءٍ وسامع.
لم أجدها حتى الآن، ولكني لا أزال أفتش عنها، لأنها موجودة ولن أزال أنشدها حتى ألتقي بتلك الضالة المنشودة.
* * *
البلبل يجد الغصن الذي يغرد عليه في ليالي القمر، والفراشة تجد الزهرة التي تتغذى منها عند السحر، والزهرة تجد قطرة الندى التي تحييها، والغواص يجد الدرة التي يسعى إليها،
والشاعر يجد القصيدة التي يحوم خاطره حواليها. . .
فهل أجد من تكون غصن شبابي لأزهر، وزهرة ربيعي لأثمر، وندى أيامي لأحيا، ودرة عيشتي لأتحلى، وقصيدة أيامي لأتغنى. . .؟
فتشت عنها وإلى الآن لم أجدها. ولقد تكون فتشت عني فلم تجدني. ولعلها هناك وأنا أبحث هنا، وقد تكون هنا وأنا أفتش هناك فهل تلتقي نفسانا؟ ومتى تلتقيان. .؟
سأبحث عنها حتى أجدها، لأنها موجودة. ولن أزال أنشدها حتى التقي بها تلك الضالة المنشودة.(2/286)
حالة العلم في نجد
قبل الوهابية وبعدها
أرسل إلينا حضرة مراسلنا البغدادي الفاضل ساتسنا تابع البحث عن بلاد العرب الذي نشرنا منه قسماً في الزهور هذه السنة (ج 4 ص 176 وج 5 ص 233) وهو البحث الذي وضعه خصيصاً لقراء مجلتنا بمساعدة حضرة الألمعي سليمان أفندي الدخيل صاحب جريدة الرياض الزاهرة. وما جاء في المقالة بين قوسين هو لمراسلنا والباقي للصحافي البغدادي الأديب.
رأيت من مقالتنا الأولى أن ديار نجد واقعة في إقليم تحيط به النفود إحاطة الهالة بالقمر، بحيث أن الطبيعة قد عزلتها عن سائر البلاد وجعلت العلوم والآداب لا تصل إليها إلا بعد تجشم المشاق التي لا تطاق. هذا فضلاً عن أن هناك سبباً آخر أوقف سير نجد في سبيل التقدم ومجاراة أهل سائر الأقطار في رقي سلم المعارف وهو أنها أصبحت منذ الإعصار المتوغلة في ظلمات القدم طريقاً للحاج ينتابه العرب منسلين إليه من كل حدب سحيق وشعب عميق. على أن الاختلاف إلى تلك الديار أصبح أعظم من سابق منذ استحكام قدم الإسلام في الأرض، فغدت نجد من الديار ولهذا ازدادت رغبة النجديين في الترحيب بالحاج واستقبالهم وحسن ضيافتهم، ولم تعد الحال تمكنهم من أن يتفرغوا لغير القرى وما ضارعه من الأمور التي تنشأ منه أو تستند إليه.
ولهذا السبب لما ظهر الإسلام ودان أهل نجد به خفت أتعابهم(2/287)
لقلة مؤونة ما يطلبه الإيمان منهم وعلى هذا المبدأ قلنا في مقالتنا الأولى: إن أهل نجد يعتمدون في ديانتهم واعتقادهم على الكتاب والسنة.
وبودي أن أبسط الكلام في هذا الموضوع وأبينه بأجلى برهان حتى لا يبقى للمعترض أدنى حجة، ولكن ضيق الوقت لا يسمح لي بذلك وعليه فلا جناح علي إذا تابعت هذا البحث في مقالات متتالية. وعندي أن فوائدها لا تقل عن فائدتها إذا كانت مفرغة في حلقة مقالة واحدة.
نجد في سالف العهد
إذا هبطت ديار نجد وتجولت في أنحائها تجول مفكر متدبر تعثر فيها على آثار تدلك دلالة
واضحة على أنها كانت في العهد القديم معهد حضارة ومنتجع علم مرتاد عمران راق وأن لم تكن على نحو غيرها التي كشف لنا تاريخها عن أحوالها وما كانت عليه من العروق في المدنية والشموخ في العز والأصالة في العلم والحضارة؛ ترى اليوم في المغاور والكهوف المنقورة في الأودية والجبال البعيدة عن السكنى ما يدهشك من الآثار؛ ترى رسوم كتابة ورقماً لا تشبه كتابتها الكتابة الإفرنجية ولا العربية بل هي كتابة خصوصية لعلها كلدانية قديمة أو نبطية أو مسند أو ما ضاهى هذه الكتابات القديمة؛ ترى عاديات وآثاراً وهياكل كالتي تشاهد مثلاً في سدوس قرب بلدة ملهم إذ هناك تمثال دفعت بدلاً عنه دولة أوروبية مبلغاً طائلاً من المال فأبى أصحابه بيعه؛ ترى أبنية فخمة ضخمة وآثاراً جليلة تشهد بأن بناتها كانوا أهل جد وجهد وجلد،(2/288)
وأن لهم مهارة عجيبة بأعمال الهندسة والبناء لارتفاعها في الهواء وحسن نظام أجزائها، وتناسبها وبديع مجاورتها بعضها لبعض.
نجد بعد الرسالة
ومن بعد أن بعث الحكيم (- صلى الله عليه وسلم -) بالهدى والحق وانتشر الدين الإسلامية في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم. فسار أهلها على هذه الطريقة المثلى، وبيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر وعمر رضه شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها؛ هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهالي نجد عن الإمعان في حقائق دينهم فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحبون في الإيمان والاعتقاد إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام والخرافات ولاعتقادات الباطلة بالشجر والمطر والبحر والنجم وعبادات القبور والعكوف عليها والاعتقاد بأهلها النفع والضرر إلى غير ذلك مما للعراق فيه اليوم النصيب الأوفر والحظ الأكبر رغماً عن انتشار العلم فيه. وبقي أهل نجد في هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب ولاعتقاد الضار بالإنسان ديناً ودنيا وأخرى وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد عبد الوهاب.
نجد في عهد الشيخ محمد عبد الوهاب
نشأ الشيخ محمد رحمه الله في بلدة العُيَيْنَة في حضن والده عبد الوهاب(2/289)
بن سليمان فرباه أحسن تربية ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده حينئذ قاضياً في بلدة العيينة من قبل حاكمها
الأمير عبد الله بن محمد بن حمد المعمر، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثي المطالعة والتدبر والتفكر شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين: عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب العذب الفائض في علم الفرائض، والشيخ محمد حياة السنوي المدني، فأقام عندهما مدة ثم رجع إلى نجد ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم. ثم حاول المسير إلى الشام فمصر ولكن صده عارض في الطريق فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد العلم ما لم يتسن لأحد غيره في وقته. ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حرَيْملا وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن سليمان عن القضاء وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد الوهاب القاضي إلى حريملا
ولما ثبتت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف الخرافات والبدع والأضاليل وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين وأخذ بنشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(2/290)
هرب الشيخ محمد بن عبد الوهاب من بلدة حريملا
كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة بل كانت كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يوماً أن الشيخ زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله وأرادوا إتمام الأمر بالفعل فساروا إليه ليلاً وتسوروا الجدار وبينما هم في هذا العمل إذ صاح صائح في المحلة، فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم فهربوا وكفاه الله شرهم.
ولما أسفر الصباح رحل إلى بلدة العيينة وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه الأمير عثمان بالتجلة والترحاب والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعهده بحفظ حياته ونصره على أعدائه.
حكاية الشجرة والقبة
وقد طلب الشيخ إلى الأمير أن يقطع شجرة كانت تعبد في البلدة وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب رضه فتمنع الأمير، وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه فأذن له في الآخر. ثم طلب إليه أن يسير هو أيضاً معه فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس ولما وصلوا إلى المحل المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة. فكان ذلك العمل من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ.(2/291)
أمير الإحساء
ما فعل الشيخ هذا الفعل إلا واشتهر أمره ونبه ذكره، فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد، وكان ذا قوة وبأس شديد، فبعث إلى عثمان بن محمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد الشيخ من بلاده. فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيح محمد بن عبد الوهاب أن يسافر إلى حيث يريد.
الدرعية
فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية فسار وسير الشيخ عثمان معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل إلى الدرعية، فحل ضيفاً عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها. ثم علم به بعض كبار الدرعية فزاروه، ولما اطلعوا على مبدأه استحسنوه وأحبوه. ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود لينزله ضيفاً عنده فتخوفوا. ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان الأعمى وزوجته وأخاه شاري، فاتفق الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل زوجته اجتمع به أخوه وعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير وأشاروا عليه بإكرامه واحترامه. فسار إليه برجله ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى قصره فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيداً لدعوته بكل قوته. فأخذ الناس يفدون إلى الدرعية أفواجاً أفواجاً فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع يكاتب بلدان نجد وقراها ويدعوها(2/292)
إلى طريق الحق، وما لبث أياماً قلائل إلا وخضعت له القبائل ودانت له أغلب البلدان. ومازالت الإمارة في امتداد واتساع حتى أصبحت دولة آل سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة لغدت اليوم من أعظم الدول الإسلامية قوة وسطوة ورهبة
ولامتدت أمرتهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم يدر في خلد أصحابها فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها فاحتالوا على الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية وللحال اتقدت تلك النار الحامية نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة فأضرت بالطرفين.
ولابد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم الآخر في فرصة أخرى والله ولي التوفيق. وهم نعم الرفيق.
في جنائن الغرب
حديث القلوب
للكاتب الاجتماعي لامينه
1
أعيروا السمع وقولا لنا من أين يأتي ذاك الدوي المصم الغريب(2/293)
الذي يسمع في الجوانب كافة؟
ضعوا الأيدي على الأرض وقولوا لنا لماذا هي تضطرب وقد اكتنفها الظلام.
هناك شيء مجهول يتحرك في جوف المسكونة فهناك والحالة هذه عمل من أعمال القدرة.
أفي الوجود خليقة لا تنتظر الساعة؟ أفي الأجسام قلب لا يخفق لها؟
ارتفع يا ابن الإنسان إلى الأعالي وقل لنا ماذا ترى؟
أرى في الأفق سحابة ممتقعة اللون يحيط بها شعاع أحمر كأنه لهيب.
وأرى أمواج البحر تتلاطم، وقمم الرواسي تتزعزع، والروابي تتمايل، فتنهال على الوديان فتغير مجاري الأنهر.
أرى الآن أن الثوابت كلها تتحرك، وأن الوجود يتخذ لنفسه شكلاً جديداً.
- وماذا ترى أيضاً يا ابن الإنسان؟
أرى الغبار يتصاعد فينعقد سحباً في الفضاء البعيد، فتنتشر في الأرجاء وهي تختلط وتتصادم مارة فوق المدن فتبدو كالسهول.
وأرى الشعوب تهب أفواجاً والملوك يضطربون فوق عروشهم. فهناك إذن حرب قائمة.(2/294)
وأرى عرشاً بل عرشين قد تحطما وبددت الشعوب بقاياهما.
وأرى شعباً ينازل شعباً آخر غاطساً في الحديد. ضربات الأول ساحقة ولكن هو ذا قد سقط والدماء تسيل من جسمه العاري فهو قد طعن طعنة قاتلة.
بل إنه جرح ليس إلا، فإنه لا يزال يبدي حراكاً وقد أقبلت عليه عذراء طرحت عليه ثوباً أبيض وهي تبتسم له ابتسام الإشفاق ثم أخرجته من ساحة القتال وقد اصطبغت يداها بالدماء.
وأرى شعباً آخر ينازل متواصلة مجدداً قواه التي يفقدها في الجهاد توصلاً إلى بغيته التي
ينشدها.
وأرى شعباً ثالثاُ قد وطأته أقدام ستة من الملوك قد شهروا خناجرهم وهم يغمدونها في نحره كلما أبدى الحراك.
وأرى ساحة شاسعة قد أقيم فيها بنيان شاهق توارى بين الستائر السوداء.
وأرى الشرق يضطرب ناظراً مذهولاً إلى انهيار آثاره الشاهقة وتحول معابده الصوانية إلى رماد، باحثاً في طيات الوجود عن عظمة زاهرة يستعيض بها عظمة زالت، ومجد جديد يقام على أطلال مجد قد اندثر.
وأرى حسناء في الغرب حادة العينين عالية الجبين وضاحة الوجه ممسكة مرقماً لا تحركه أناملها مسطرة كلمة حتى تهتف لها الشعوب وتحييها الناشئات وتمجدها الأفئدة.(2/295)
وأرى في الشمال رجالاً يكتنفهم برد أبدي فاستعانوا عليه بحرارة الإيمان.
وأرى في الجنوب رؤوساً ذليلة تحت تأثير لعنة أجل ما هي، وهي رؤوس قد ثقلت بنير هائل أيضاً فطأطأها ذووها شديداً وأخذوا يجولون أرقاء، ولكن هو ذا روح قد حل في ربوعهم فأخذوا في تقويم هذه الرؤوس تدريجياً.
- وما الذي تراه أيضاً يا ابن الإنسان؟
أرى النور والظلمة يتزاحمان ويتدافعان.
وأرى الشر هارباً أمام الخير الذي أقبل محفوفاً بأعوانه واضعاً قدمه على العرش ليحكم وماداً يمناه إلى الصولجان ليثبت به البسيطة.
2
عدنا بالفكر إلى الزمن الغابر، وحلقنا في فضاء تلك القرون حيث كانت الأرض خصبة تدر الخيرات على بنيها وقد عاشوا سعداء فيها فكانوا كأخوة.
فرأينا الثعبان قد أخذ يزحف بينهم موجهاً عينيه النافذتين إلى الكثيرين فاستهواهم فاضطربت منهم النفوس، ودنا بعضهم من بعض فهمس الثعبان في آذانهم بضع كلمات أصغوا إليها لاهثين ثم أنهم قالوا إننا ملوك.
وللحال امتقعت الشمس واصطبغت الأرض بصبغة الحداد ثم سمعت ضوضاء شديدة عقبتها أنة طويلة تلتها رعدة استولت على النفوس.
فقل إذن إن الساعة كانت كساعة الطوفان. وساد الرعب على(2/296)
الأكواخ - حيث لم يكن هناك قصور - واستسلم القاطنون بها إلى مفزعات الأوهام والوساوس وتولتهم رجفة.
واستل الذين قالوا إننا ملوك سيوفهم وهاجموا الأكواخ.
فوقعت فظائع جمة داخل تلك الحصون القصبية وجرت الدموع ممزوجة بالدماء.
وصاح الرجال وجلين لقد عاد القتل فانتشر. وكان هذا غاية دفاعهم فإن الخوف قد قتل فيهم النفوس وأوهن السواعد.
وتخلوا عن أنفسهم يائسين فثقلت أيديهم بالأغلال التي جعلت منهم ومن نسائهم وبنيهم مجموعاً زج خليطاً في كهف أعده هم أولئك الذين قالوا أننا ملوك، فبات بنو الإنسان وهم كذلك كحيوانات في مربط.
ومزقت العاصفة طيات السحب وبددتها وقصف الرعد شديداً وسمعنا صوتاً أشد يقول: لقد انتصر الثعبان ولكنه انتصار لا يطول.
ولم يصل إلى آذاننا بعد ذلك سوى خليط أصوات مبهمة رامزة إلى الضحك والزفير والسب.
ففهمنا أن الشر سائد فبكينا بكاء مراً تلاه انتعاش في النفس بدا لأمل تولد، ألا وهو أن ذاك الشر الواقع إنما هو مقدمة للخير المقبل.
لاح لنا هذا كله كما وقع في حينه ولاح لنا ذاك الخير، فقل إذن أن الإنسانية ستتحرر فتنطلق من عقالها ويهوي أولئك الذين قالوا إننا ملوك إلى الكهف نفسه فيجدون الثعبان يتلظى.(2/297)
3
أبناء أب واحد أنتم، وأم واحدة قد أرضعتكم فلماذا لا يحب بعضكم بعضاً كأخوة ولماذا تسعون إلى التنازع كأعداء. . .؟
ملعون الإنسان الذي لا يحب أخاه. وأكثر من ملعون هو إن جعل من نفسه عدواً لأخيه. ولذا لعن الملوك والأمراء والعظماء فإنهم لم يحبوا إخوتهم. وعاملوهم كما لو كانوا لهم أعداء.
ليحب بعضكم بعضاً وأنتم لا تخشون الملوك والأمراء والعظماء. إنهم ليسوا بأقوى منكم
غير متوحيدن في المحبة الأخوية.
لا تقولوا إن ذاك من شعب ونحن من شعب آخر فإن الأرض وطن الجميع، فيجب أن يكون الجميع واحداً.
تفضي إصابة العضو بأذى إلى تألم الجسم كله، وأنتم هذا الجسم، فتحاشوا وقوع الأذى بالعضو ولا تدعوه يسقط تحت نير، فإن في ذلك سقوط المجموع، ولا تكونوا كذاك القطيع الذي ينقض عليه الذئب فيفترس منه كبشاً حتى إذا عاوده الجوع عاود الافتراس. نعم لا تكونوا كذلك ميلاً منكم إلى الظن بأن افتراس الكبش الأول يعود عليكم بما كان له من النصيب في المرعى، فإنه لظن يؤدي بصاحبه إلى ان يكون الفريسة السائغة لذاك الوحش الذي يروي ظمأه بالدماء ويسد سبغه باللحم.
4
إن صادفتم رجلاً يقاد إلى الإعدام أو السجن، فلا تتسرعوا في(2/298)
القول بأنه رجل شر يجب أن يبتر، إذ أنه يجوز أن يكون رجل خير قد رغب في خدمة الإنسان فعاقبه مضطهدو الإنسان بالقتل أو بالسجن.
وإن رأيتم شعباً دفع مثقلاً بالحديد إلى قساوة جلاده فلا تقولوا بأنه شعب دموي عكر السلام وأثار الاضطرابات فإنه قد يكون صائراً إلى الفناء لخلاص البشرية.
تعريب حنا صاده
سياحة في إسبانيا
عواصم البلاد ومتحفها ومعابدها وآثارها - المكتبة العمومية - سراي الملك والاصطبلات - زيارة الشاعر روستان في جبال كامبو - مصارعة الثيران - لعبة بلوت باسك
وعدتكم ووعد الحر دين، أن أوافيكم ببعض الأخبار عن سياحتي في البلاد الإسبانية، وكنت أود كثيراً ان أقوم بالوعد أحسن قيام، لولا شواغل كثيرة تحول دون بلوغ المرام، وما أكثر شواغل الأيام! خصوصاً لمن كان معها في جهاد وخصام. . . ولكني بحمد الله قد فزت الآن بما أرجو بالرغم من العقبات التي حاول أن يضعها في سبيلي ذوو الغايات فأزالتها يد الحقيقة ومهدت لي السبيل.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأسهل ما يمر به الوحول(2/299)
أختلس هذه الفرصة من وقتي لأحرر لكم ما يجول بالخاطر مما شاهدته النواظر فعسى أن يكون به تفكهة لقراء الزهور وأني أعدكم بتفصيلات أهم وأخبار أتم، عند إنهاء سياحتي في هذه البلاد.
إسبانيا بلاد جميلة تشبه كثيراً جبال لبنان بحسن مناظرها وعذوبة مائها وأخلاق رجالها وخلق وعادات نسائها. ولكنها أكثر منه عمراناً، وجبالها أقل منه وهاداً، وبعضها قاحل وأغلبها تكسوه الخضرة الجميلة والأشجار الباسقة وأكثرها من صنف الحور والسنديان والزيتون والصنوبر. وقد يستخرجون من هذا الشجر الأخير المادة الصمغية الموجودة فيه، ويبيعونها بأسعار غالية. أما في بلادنا فلا يستفيد الأهالي شيئاً تقريباً من شجر الصنوبر مع كثرة وجوده.
برشلونة: مدينة جميلة جداً وفيها كثير من البنايات البديعة، وشوارعها في غاية الإتقان والانتظام، ومركزها الطبيعي أشبه شيء بمركز مدينة بيروت، تبتدي بناياتها من المرفأ وتنتهي بعلو متتابع إلى جبل عال يحيط بها عن قرب. وفي أعلى ذلك الجبل أقامت شركة إنكليزية بنايات بغاية الإتقان وفنادق وقهوات وتياترات وكنائس ومحلات ألعاب مختلفة وقد سموا تلك القمة إشارة إلى ذلك الجبل العالي الذي صعد إليه الشيطان وقال للسيد المسيح: انظر إلى هذه الممالك التي تحت سلطتي. . . إلخ حينما أراد استغواءه كما جاء في الإنجيل. وفي الحقيقة إن المنظر من ذلك العلو الشاهق من أبدع ما يمكن أن تتصوره الأفكار ومنه تشاهد شوارع البلدة في غاية التنسيق والإبداع تكتنفها الأشجار(2/300)
من الجانبين بكمال الترتيب. وطريقة الوصول إلى ذلك الجبل بواسطة سكة حديد فينيكيلير كهربائي جليل الفائدة لأنه يسر بواسطة تكافؤ القوى، فعند صعود القطر يوجد قطر آخر ينزل والواحد متصل بالثاني بواسطة شريط واحد. وحين الوصول إلى منتصف الطريق يفترقان بواسطة شريط خصوصي وهكذا يأخذ كل منهما طريق الآخر، فيصل الصاعد والنازل في آن واحد والمسافة التي يقطعها ذلك الفينيكيلير هي 1180 متراً.
وبرشلونة هذه بلدة تجارية كثيرة المصانع والمعامل وأهلها أكثر شدة وحماسة من أهالي العاصمة. ولذلك ترى عدد الثورويين في برشلونة أكثر بكثير منه في مدريد. ويوجد فيها كما في كل إسبانيا تقريباً عدد كبير من الكنائس الضخمة الكثيرة الإتقان الدالة على ما وصلت إليه عظمة الدين في الأيام السالفة في هذه البلاد. وأهم الكنائس التي شاهدتها هي في برشلونة وساجوسا (سرقسطة) وبرجس ودير الاسكوريال الشهير بضواحي مدريد الذي فيه بانتيون ملوك إسبانيا وعظماء رجالها وسوف يأتي الكلام عن ذلك. وأما عموم هذه الكنائس فهي أشبه بقلاع متينة ومعارض ومتاحف عظيمة لكثرة ما تحويه من التماثيل والصور البديعة وعواميد الذهب الضخمة والآنية الفاخرة والآثار التاريخية الجليلة. وأما الأندلس ففيها من الجوامع والآثار العربية العظيمة ما سوف نأتي على ذكره بعد.
مدريد: عاصمة الإسبان مدينة جميلة أيضاً تمتاز خصوصاً بمعرض(2/301)
التصوير العظيم الموجود فيها، ويحتوي على أبدع ما خطته ورسمته أيدي البارعين في هذا الفن الجميل. وأكبر البنايات التي شاهدتها بعد قصر جلالة الملك هي البنك الإسباني الملوكي والمتحف ودار الكتب الوطنية. وهما بناية واحدة وقد زرتها وسررت كثيراً بما شاهدته في الكتبخانة الوطنية من الكتب العربية القديمة. وأما مكتبة دير الاسكوريال فهي أهم من مكتبة مدريد وقد عثرت أثناء مطالعتي فيها على الأبيات الآتية التي انقلها لقراء الزهور من باب التفكهة:
أحن إلى عتابك غير أني ... أجلك عن عتاب في كتاب
ونحن إذا التقينا قبل موتٍ ... شفيت عليك قلبي بالعتاب
وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من عاتبٍ تحت التراب
كتبت ولو قدرت هوىً وشوقاً ... إليك لكنت سطراً في الجواب
غيره:
يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ ... ولم يكن فرجٌ من طول جفوته
فاشف السقام الذي في طرف مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته
غيره:
أغار عليها من أبيها وأمها ... ومن كل من يرنو إليها ويبصر
ومن حملها المرآة يوماً بكفها ... إذا نظرت فيها الذي أنا أنظر
غيره:
حملت مقلتاها مقلتي من الكرى ... فعيني لما ألقاه لم تعرف الغمضا
سهرت وأجفاني صحاح فلم أنم ... ونامت ولم تسهر وأجفانها مرضى
غيره:
بديعة حسنٍ تخجل البدر بهجةٍ ... وتسبي قلوب العالمين بلحظها(2/302)
تصاممت قصداً كي يطول حديثها ... فيطرب سمعي عند تكرار لفظها
غيره:
وظبية أسى الورى طرفها ... وحسنها قد حير الناظرين
قد كتب الحسن على خدها ... إنا فتحنا لك فتحاً مبين
تخاطب الناس على رفعةٍ ... كأنها موسى على طور سين
يا قلب إن ملت إلى غيرها ... ما أنت إلا في ضلال مبين
غيره:
ثلاث هن في البطيخ فخرٌ ... وفي الإنسان منقصة وذله
خشونة جلده والثقل فيه ... وصفرة لونه من غير عله
وكثير من هذا القبيل مما لا محل لذكره الآن.
وأما القصر الملوكي فهو أكثر جمالاً وعظمةً داخلاً وخارجاً من سراي عابدين بمصر. وقد زرت ذلك القصر الجميل بتصريح خصوصي في صحبة نجل الجنرال ميلانس دلبوش قائد فرقة الخيالة والصديق الحميم لجلالة الملك. وهو قائم على رأس رابية في الحد الغربي من المدينة. وعلى الجانب القبلي توجد الاصطبلات والعربخانات الملوكية، وقد زرتها
أيضاً ودهشت كثيراً لما فيها من العظمة والغنى. فإن في الاصطبل الملكي 154 حصاناً من جياد الخيل بعضها للحفلات الرسمية وبعضها للأيام العادية والبعض الآخر للحاشية الخاصة، وقسمٌ كبير من الخيل مهدى إلى جلالة الملك من الجمهورية الفضية وملك إنكلترا وبعض الأمراء. وأما العربات فهي على جانب كبير من العظمة، أغلبها محلى بالذهب ومكسو بالحرير الغالي والبرونز الثمين، والعربات الليلية مصفحة داخلاً بالحديد(2/303)
حذراً من طوارئ الفوضويين حتى أن الديناميت لا يكاد يؤثر فيها.
وهناك عربات ملوكية من نحو أربعمئة سنة، وهي كأنها مصنوعة حديثاً لكثرة الاعتناء بها، وأجمل عربة هي عربة مصنوعة كلها من الأبنوس الجميل ومشهورة باسم عربة التي فقدت شعورها حزناً على زوجها ويقال إن حكومة إنجلترا دفعت لحكومة إسبانيا مئة مليون فرنك لتبيعها هذه العربة حرصاً على تاريخها وقدميتها فرفضت. وأما الرياش الجميلة المتنوعة الأشكال والألوان والعدد والأسلحة التابعة للاصطبل فحدث عنها ولا حرج فهي على جانب عظيم من الأهمية.
وفي صدر السلم الأول من الاصطبل يوجد صورة كبيرة تمثل جلالة الملك راكباً على جواده، والقواد والأمراء يحيطون به وجواده مكسو بالشراريب العربية كأنه أمير من أمراء العرب الأقدمين.
وفي آخر المدينة من الجهة القبلية أنشأت الحكومة حديثاً حديقة كبيرة مترامية الأطراف جميلة التنسيق شوارعها أشبه شيء بملتوياتها بشوارع التي حلت محل القصر العالي بمصر الآن وهو ما يسمونه
وهذه الحديقة الغناء كثيرة المرتفعات والمنخفضات تكسوها الخضرة الجميلة وتعلوها الأشجار الباسقة وتتخللها جداول كثيرة من الماء في غاية التنسيق والإبداع.
والمقاعد كثيرة لأنها محل نزهة مشهور يقصدها أغلب العائلات(2/304)
وخصوصاً الأولاد. وعلى جانبي هذه الحديقة شارعان كبيران تسير فيهما المركبات والسيارات. وفي أغلب المواقف ترى تماثيل لطيفة لبعض مشاهير رجال الإسبان. وفي الآخر تقريباً قامت قبة جميلة الصنع تحيط بها من الجهات الأربع عواميد الرخام العظيمة، وفي أعلاها الكرة الأرضية وفوقها غادة حسناء حاملةً إكليلاً من الغار ولوحةً منقوشة مكتوباً عليها الوطن بأحرف
ذهبية كبيرة.
ويتراءى في هذه الحديقة الغناء وما هي عليه من الكبر مع كثرة منخفضاتها ومرتفعاتها وتكاثف أشجارها وكثرة جداولها واخضرار أرضها أنه في جبال كامبو اللطيفة الشهيرة في فرنسا وهي موطن الشاعر الشهير ادمون روستان. وقد زرته أخيراً في قصره الجميل فقابلني بمزيد الإكرام وأهدى إلي بعض مؤلفاته وكتب عليها تذكاراً جميلاً. وقصر ذلك الشاعر الطائر الصيت قائم على رأس جبل عالٍ تحيط به أشجار كثيفة في حديقة غناء بديعة الإتقان كثيرة الأزهار، وفي وسطها بحيرة كبيرة تحيط بها التماثيل الجميلة، وعلى الجانبين مساكن الطيور المختلفة الأجناس والطاووس بريشه الجميل يسرح بين تلك الأزاهر. ولا بدع إن خطت يد ذلك النابغة أبدع الأشعار وجادت قريحته بأحسن الأفكار لأن الجالس في مكتبة الفاخر يشاهد من جمال المناظر الطبيعية ما يعجز عن وصفه أبلغ الأقلام.
ويظهر أن لمدام روستان فضلاً عظيماً في مساعدة زوجها في مؤلفاته الجميلة ولها أيضاً عدة مؤلفات شخصية تشهد لها بطول الباع وعظم(2/305)
الاقتدار في النظم والكتابة.
ويوجد تشابه كبير أيضاً بين أخلاق أهالي تلك الجبال المعروفة بجبال الباسك وأخلاق أهالي إسبانيا عموماً. فإن لكلا الشعبين ورعاً شديداً في الدين وشغفاً عظيماً بكل ما فيه إجهاد القوى البدنية وفنون الفروسية. وأعظم ما يشتهيه الرجل والمرأة والفتى والفتاة هو أن لا يفوتهم مشهد من مشاهد مصارعة الثيران التي يحتفل بها في كل مدن إسبانيا تقريباً وجبال الباسك أيضاً مرة أو مرتين في الأسبوع.
ولهذه الحفلات بنايات خاصة من أفخم البنايات الموجودة في هذه البلاد. ففي سان سبستيان مثلاً بناية أنشئت حديثاً لمصارعة الثيران من أبدع البنايات وهي تفوق بكثير كل التياترات ومحلات اللهو الموجودة وتعد بعد الكازينو الكبير وقصر ميرامار الشهير أحسن بناية هناك. وقد حضرت تلك الحفلة مراراً ولا أبالغ إذا قلت أنه في كل مرة لم يكن هناك أقل من عشرة آلاف نفس أو أكثر بالرغم من علو أسعار الدخول التي تتفاوت بين 3 و25 فرنكاً للشخص الواحد ومئتي فرنك اللوجات، ما عدا الجند فإن له محلات مخصوصة بسعر فرنك ونصف فقط.
وقد شاهدت بعيني في حفلة واحدة قتلة ستة من فحول الثيران بعد عراك عظيم ومحاولات مؤثرة مع المصارعين. وقد شقت بطون اثني عشر حصاناً بقرون الثيران، ووقعت أشلاؤها على الأرض وكان الفارس يضرب الثور برمحه ويغرسه في ظهره والدماء تسيل منه بكثرة، والصياح والابتهاج، والتصفيق من الرجال والنساء يتصاعد كل مرة كان الثور يرفع(2/306)
بقرنه الحصان وفارسه فيقع الحصان صريعاً والفارس منجلاً على الأرض. وكذلك حينما يتمكن أحد المصارعين من أن يغرس في ظهر الثور أو في رأسه حربته فيجندله قتيلاً كان الشعب يحيي ذلك المصارع الشجاع بالتهليل ويرميه بالقبعات والمناديل. وهناك خدمة مخصوصون لإرجاع كل ذلك لأصحابه. وحينما كان الثور يهاجم المصارعين فيهربون ويقفزون من فوق أسوار الخشب كان الشعب يقابلهم بالصفير وأصوات الخزي والعار.
ولقد سبق واعترض كثيرون على هذه الألعاب شفقة على الخيل كي لا يعرضوها للقتل بمثل تلك الطريقة الشنعاء، ولكن يظهر أنه لا بد من هذه التضحية لأن المصارعين لا يقدرون أن يكون نطح بقرنه الحصان مرتين أو ثلاث ورفعه بفارسه عن الأرض، فعند ذلك تخور عزيمته وتضعف قوى رأسه خصوصاً ويسهل على الفارس صرعه من غير خوف تقريباً.
وأما لعبة البلوت باسك التي يعرفها المصريون فهي في إسبانيا وخصوصاً في برشلونة مثل بورصة الإسكندرية وبورصة مصر أيام عزها القديم. فإنهم يعتنون كثيراً بالمراهنات فيها وبطريقة رسمية كأنهم في بورصة تجارية قانونية ورسم الدخول إليها ثلاثة أو أربعة فرنكات.
ومن غريب ما سمعته عن هذه البلاد هو أنه يوجد بعض أديرة للرهبان تتعهد بأن تضع تلميذاً في إحدى المدارس الداخلية أو شيخاً في أحد ملاجئ العجزة مقابل مليون ورقة من ورقات الترامواي المستعملة(2/307)
أو خمسمائة ألف ورقة من ورقات الإعلانات المنتشرة وأربعمائة ألف عود كبريت من العيدان المستعملة وهلم جراً على حسب أهمية الأشياء التي يقدمونها لها. ولذلك ترى كثيراً من النساء والبنات والأولاد يجمعون مثل هذه الأشياء لتقديمها لتلك الأديرة طمعاً بعمل الإحسان أو للاسفتادة شخصياً.
ولم أجد بلاداً في أوروبا يجلس بها القسوس في القهوات ويغازل الجند النساء مثل إسبانيا فإني في كل المحلات العمومية التي قصدتها كنت أجد عشرات من الجند برفقة حليلاتهم أو خليلاتهم يغازلنهن علناً بكل احتشام.
مدريد 15 أغسطس 1911
نجيب زلزل
أين أريد بيتي
أريد بيتي هناك عند منحر الرابية، تحت الأشجار المخضلة، مثل عش العصفور المبني في وسط غيضة من الزعرور الملتف فلا أحوطه بالفنادق الكبيرة ولا بالبساتين الواسعة بل بالزهور، تلك العطية السماوية الجميلة تكون منشورة في كل جوانبه، والكرمة البتول تبسط عليه في الربيع ستاراً أخضر واسعاً لترد عنه حرارة الشمس.
أما بيتي هذا فلا أريده يتراءى في مياه نهر كبير، بل يكفيني غدير صغير صاف ينساب فوق سرير لؤلؤ من الحصى، ويمر تحت نوافذي، فأقعد ساعات طويلة أسمع أنينه اللطيف وأصغي إلى الأصوات الخفيفة المسلية التي تصعد من المياه غير خائف أن تنقطع سلسلة تأملاتي أو أن(2/308)
ألهو بحركة غريبة. وأما أفقي فأرضاه عليقة تأتي الأولاد فتقطف ثمارها.
فإذا كان بيتي كذلك فحدث ولا حرج عمن يقاسمني وحدتي من الطيور التي تلذ معاشرتها، فتأتي السنونو في الربيع فتسلم على بيتي وزقزقتها المفرحة وتطلب فيه منزلاً فتحل فيه على الرحب والسعة وكون أحسن جليس وخير أنيس، ثم يفد البلبل الغرد ويلتجي إلى غباضتي المنفردة في عشيات الصيف الجميلة ويقيم طويلاً مترنماً بنغماته الشجية الملائكية فلا أضيع منها نغمة واحدة.
فهناك - إذا تم لي ذلك - في وسط تلك الوحدة اللذيذة التي يؤنسها حفيف الأشجار وتغريد الأطيار وخرير الأنهار، هناك هناك في وسط تلك الطبيعة الساكنة البعيدة عن شر الإنسان أقضي حياتي بهدوء مسامراً العصافير ومغازلاً جمال الطبيعة وممجداً الخالق العظيم ومنتظراً ملاك الموت.
فيليب الجميل
في رياض الشعر
أبناء الحكماء
أتقضي معي إن حان حيني تجاربي ... وما نلتها إلا بطول عناء
ويحزنني أن لا أرى لي حيلة ... لإعطائها من يستحق عطائي
إذا ورث المثرون أبناءهم غنى ... وجاهاً فما أشقى بني الحكماء
حنفي ناصف(2/309)
قومندان فسم أورطة السكة الحديدية في حلفا (السودان)(2/310)
نبغ في الجيش المصري أدباء أعلام خدموا في آن واحد دولتي السيف والقلم فأعادوا لنا عهد الفرسان الشعراء نذكر منهم الآن حافظ إبراهيم ومحمد فاضل وعبد الحليم المصري وصاحب هذا الرسم. وقد عرفهم كلهم قراء الزهور مما نشروا في هذه المجلة. وسنعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في عدد آت.
شيخ يعاقر الخمر
لولا الهوى وبواعث الأشجان ... لجفوت بعد الشيب بنت الحان
لكنني دنف الفؤاد معذبٌ ... بلحاظ ساقٍ فاتر الأجفان
لولا المدام يكفه لأرقتها ... وسقيته من أدمعي وسقاني
فلقد ضنيت من المدام وشربها ... وحكيت ناحل جسمها وحكاني
في الكأس بعد الكأس ضاعت ليلتي ... والليل بعد الليل ضاع زماني
ألقت علي الخمر في شرخ الصبا ... من شيبتي كفناً من الكتان
كم تحسبون سني حياةٍ عشتها ... كم في فمي باق من الأسنان
أنا ما بلغت الأربعين وإنما ... إدمانها لم يبق غير لساني
أتلفت فيها ضيعتي وأضعت من ... زل أسرتي ورضيت سكنى الحان
وصرفت أيامي على ندماتها ... والعمر خير ذخيرة الإنسان
مقبورة في الدن نتن ريحها ... ممقوتة في العقل والأديان
فترى الوقور إذا تناول كأسها ... متغني متمايل الأركان
ويكاد يحسب أمه عرساً له ... ويرى الصلاح عبادة الأوثان
إن قيل أرقصت الحزين مسرة ... فاسلم بعقلك ذاك من الجان
أو قيل حمرة كأسها فلأنها ... ملئت دماً من مهجة السكران(2/311)
وأقول والساقي يدور بكأسها ... كم يفتك الإنسان بالإنسان
عجباً لبائعها بنفس مريدها ... ولمشتريها كيف يتفقان
حلفا
محمد توفيق علي ضابط بالجيش
زهير وهند
أو الغيرة تجدد الحب
رآها بعد أن صدت وصدا ... وجدّت في مغاضبةٍ وجدّا
فهمّ بأن يطارحها سلاماً ... ولكن الإباء له تصدّى
وهمّت أن تناجيه ولكن ... أصابت من رصانتها مردّا
تذكر ما مضى وتذكرته ... فلم يجدا من الصعداء بدّا
وذكرى ما يسر تهيج عطفاً ... وذكرى ما يسوء تهيج صدّا
وتبرم تلك عهد هوى قديم ... وتنقض هذه للحب عهدا
فطوراً يرفعان الطرف حباً ... وطوراً يغضبان الطرف حقدا
وحيناً يطلب القلبان قرباً ... وحيناً تبتغي النفسان بعدا
* * *
وحانت نظرة منه إليها ... فلم ير مثلها عيناً وخدا
وخال الصبح ينسج من ضياء ... لها بأنامل النسمات بردا
وخال الروض يلثمها غراماً ... ويترك في مكان اللثم وردا
وظن فؤاده شطرين أضحى ... كلا الشطرين للحسناء نهدا
وحانت نظرة منها إليه ... فلم تر مثله وجهاً وقدّا
* * *(2/312)
وحيّت غادة حضرت زهيراً ... وحيا هند ذو غيدٍ تبدّى
فغارت هند ممن زاحمتها ... وغار زهير ممن ود هندا
فقال هي الحبيبة لا سواها ... وقالت إنه بالروح يُفدى
* * *
وحين خلا المكان رأى زهير ... حبيبته تكاد تذوب وجدا
ولم تمهله إن عطفت عليه ... تطوّق جيده الوضاح زندا
فقبّل نحرها فاحمر حتى ... كأن من العقيق عليه عقدا
وقالا ليس فوق الأرض حرٌّ ... إذا هو لم يكن للحب عبدا
أمين ناصر الدين
ملحق بالشوقيات
أهدى إلينا شاعر من أصدقاء الزهور وعشراء شوي في عهد الصبا الأبيات الآتية وكان قد نظمها شاعر الأمير في مدح المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق. ولم نعثر لها على أثر في الشوقيات بل وجدنا هنا أبياتاً من وزنها وقافيتها، أما الأبيات المفقودة فهي:
مضنى وليس به حراك ... لكن يخف إذا رآك
ويميل من طرب إذا ... ما ملت يا غصن الأراك
إن الجمال كساك من ... ورق المحاسن ما كساك
فنبت بين جوانحي ... والقلب من دمه سقاك
ليت اعتدالك كان لي ... منه نصيب في هواك
يا ليت شعري ما أما ... لك عن هواي وما ثناك
ما همت في روض الحمى ... إلا وأسكرني شذاك(2/313)
والقلب مخفوض الجنا ... ح يهيم فيه على جناك
يا يوسفاً في الحسن عط ... فاً بالعزيز على فتاك
يا أيها المولى العظي ... م حباك ربك ما حباك
لك أرض مصر ونيلها ال ... وافي المشير إلى غناك
يجري بأمرك مثلما ... تجري يداك لنا نداك
ومنها:
يا قصر رأس التين ما ... أحلى سناءك في سناك
إنا رأينا للندى ... ظلاً يرف على ذراك
لم يلتق البحران وال ... قمران إلا في حماك
بدر الزمان وشمسه ... في الخدر تحجبها سماك
ومنها:
لما سعت لرحابك السا ... دات لاثمة ثراك
رفع الحجاب فقمت في ... نا تستجيب لمن دعاك
إن شئت منثوراً فمر ... أو شئت منظوماً فهاك
قل يا فتى الشعراء قل ... لا فضت الأيام فاك
النهود
بين صاحب اليتيمة والعازار والمطران
جاء في اليتيمة قوله:
في صدرها حقان خلتهما ... كافورتين علاهما ند(2/314)
وقال الشيخ إسكندر العازار:
حقاق من العاج قد ركبت ... على صحن صدر من المرمر
خشين السقوط فأثبتها ... بشبه مسامير من عنبر
وقال خليل مطران في قصيدة له عن فتاة حاربت في صفوف الرجال مخفية أنوثتها تحت بزة الفرسان وبعد أن أبلت البلاء الحسن قبض الأعداء عليها وهم يحسبونها فتى عنيداً ولشد ما كانت دهشتهم حين خلعت بزتها وأبرزت نهديها وهما على ما يصفهما الشاعر بقوله:
فأقصى الفتى عنه حراسه ... وشق عن الصدر ما يرتدي
وأبرز نهدي فتاةٍ كعاب ... بطرف حيي ووجه ندي
كحقي لجين بقفلي عقيق ... وكنزين في رصد مرصد
فكبر مما رآه الأمير ... وهلل كل من الشهد
وراعهم ذانك التوأمان ... وطوقاهما من دم الأكبد
ووثبهما عندما أطلقا ... إلى خارج الدرع والمجد
كوثب صغار المها الظامئات ... نفرن خفافاً إلى مورد
مدارس البنات
قد لفتت حالة فتيات مصر وما هن عليه بالنسبة إلى أخواتهن في البلاد الأوروبية انتباه المفكرين إلى ضرورة إنشاء المدارس لهن، وانتشرت جذوة هذه الفكرة بين طبقات الأمة، فبادر الجميع إلى تحقيقها، وأنشئ في وقت قصير بعض المدارس لهذه الغاية. ولذلك(2/315)
أحببت أن أجيء بهذه الأسطر مبينة بها حالة مدارسنا الحاضرة ليعمل مؤسسو المدارس على ملاقاة هذا الخلل، فيفوز بالغاية التي يرمون إليها من وراء إنشاء هذه المعاهد.
إن مدارس البنات في مصر ينقصها أشياء كثيرة، إن لم أقل إن ما ينقصها هو أهم ما وجدت لأجله. وذلك لأن المديرات سرن في تنظيم مدارسهن على طريقة لا تؤدي إلى الغاية المرموقة بل ربما كان القصد من إنشاء بعض مدارسنا الربح أو إنقاذ غاية أو لسبب آخر.
وجدت المدارس لتربية الأخلاق، وتثقيف العقول منذ الصغر إذ يسهل في ذلك العهد تكييفها بالكيفية التي يريدها من يتولون أمرها. فلذلك ليس الحمل الملقى على عاتق مديرات المدارس ومعلماتها بالحمل الخفيف بل هو عبء ثقيل كما لا يخفى على بصير.
تأتي الابنة للمدرسة تصحبها والدتها أو ولية أمرها، فتقابلها الرئيسة بوجهٍ باش مرحبة، مطنبة بوصف ما تبذله لتعليم تلميذاتها وتهذبهن، وهو وصف نظري جميل لو حققه العمل، تقول: مدرستي ليست كسائر المدارس، أنا أعلم تلميذاتي قبل كل شيء علم ترتيب المنزل والخياطة وباقي الأشغال اليدوية والقراءة والكتابة إلخ إلخ، وإن شاء الله في نهاية هذه السنة المدرسية سترين ابنتك قد اكتسبت الشيء الكثير وأمكنها في عطلة الصيف القادم أن تساعدك في تدبير أمور البيت.
فتخرج الأم والأمل ملء صدرها وقد طربت لهذا الوصف، وتدخل الابنة إلى المدرسة فتقضي فيها سنتها، ومتى جاءت عطلة الصيف(2/316)
ورجعت الابنة إلى منزل والديها، تكون قد نسيت ما اكتسبته من أمها أو إذا كان قد خصها الله بمواهب الذكاء النادر ترجع إلى البيت كما كانت.
البروجرام الذي تلته الرئيسة جميل ولطيف وقد أفعم قلب الأم فرحاً. فما سبب عدم تقدم التلميذة؟ قد يجوز أن تكون السنة الأولى سنة إعدادية لا يعول عليها فعسى أن تجيء السنة الثانية بنتيجة أحسن.
تجيء السنة الثانية كالأولى والثالثة كالثانية، وتخرج الفتاة من المدرسة وهي لم تستفد إلا الشيء القليل الذي لا يكاد يذكر. فأين هي من ذلك البروجرام البديع! هل كان يا ترى حبراً على ورق أو علالة تعلل بها الأمهات؟ لم ننكر أن البروجرام كان جميلاً ولكن لم توفر المدرسة أسباب تنفيذه بإيجاد المعلمات ذوات الكفاءة لأن هم الرئيسة الأول كان إيجاد معلمة براتب طفيف. فلذلك نستنكر إنشاء المدارس للربح لأن المتاجرة بمعاهد التربية حرام، والغبن واقع على الفتاة أم المستقبل، فتخرج من المدرسة حيث قضت السنين الطوال ترتقي من صف إلى صف وقد اكتفت من العلوم بالقشور، فتعرف من النحو والصرف صعوبتهما، ومن الفلك والكيمياء اسمهما، ومن الطبيعيات غرابتها وقس على ذلك، هذه حالة معظم فتياتنا المتعلمات، وإن كان هناك فئة منها تنبغ في الدرس وتشرف المدرسة التي ربتها، على أن القليل لا يقاس عليه. وهذه حالة أكثر مدارسنا وإن كان هناك مدارس قد بلغت من التقدم شأواً بعيداً كبعض مدارس الراهبات والإنكليز.
هذه هي المسألة الخطيرة التي يجب على المفكرين وقادة الرأي العام(2/317)
أن يحلوها محل النظر، فيولوا مدارس البنات شطراً من الاهتمام الذي يوجهونه إلى مدارس البنين، فتسعد البلاد برجالها الصالحين ونسائها الفاضلات.
(مصر)
لويزا خوري
أحمد عرابي(2/318)
ثار عرابي ثورته سنة 1882. فكانت من أهم الحوادث شأناً في تاريخ مصر الحديث، بل من أعظمها تأثيراً في السياسة الأفريقية. وقد مر عليها ما يناهز الثلاثين سنة وهي لا تزال تبدي لنا نتائجها المختلفة. أما شهرتها في الشرق وخصوصاً في القطرين المصري والسوري فهي تفوق كل شهرة سواها، وقد اتخذها العامة للتأريخ فيقولون مات فلان أو ولد فلان أو حدث ذلك سنة عرابي.
في 21 من سبتمبر الماضي غادر هذه الحياة موقد نار تلك الثورة الذي يرى القارئ رسمه في هذه الصحيفة، وكان قد غادر حياة السياسة منذ بضع عشرة سنة. . . ولد أحمد عرابي في قرية هرية رزنة في مديرية الشرقية حوالي سنة 1248 هجرية من أبوين عربيين ودرس القراءة والكتابة على المعلم ميخائيل غطاس صراف تلك الناحية مدة خمس سنوات، ثم دخل المدرسة العسكرية وطرد منها بعد سنتين فالتحق بالأزهر حيث قضى أربع سنوات. وكان سعيد باشا والي مصر يبحث عن أولاد الفلاحين ليعلمهم ويوليهم الوظائف فدخل عرابي العسكرية ثانية وأظهر من الصفات ما مكنه من الوصول إلى رتبة بكباشي في سنين قلائل. وكان في هذه الرتبة على أول عهد إسماعيل باشا ولكنه اختلف مع رئيسه خسرو باشا فحكم عليه بالتوقيف 8 أيام، فلم يمتثل لأن الضباط الوطنيين كانوا قد تشعبوا بالكره للجراكسة والترك بحجة أنه ما كان واحد منهم يرقى إلى أكثر من رتبة أميرلاي. فانضم عرابي إلى جمعية سرية ألفها علي الروبي لمعاكسة الجراكسة. ولما أرسل إسماعيل باشا(2/319)