ـ[أبوأيوب]ــــــــ[01 - 09 - 2009, 02:53 م]ـ
وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد، وسلاحه، ورأس مال معاشه!
فطوَّلهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه!
وعرَّض الكف؛ ليتمكن به من القبض والبسط! وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين!
ووضع الأصابع الأربعة في جانب، والإبهام في جانب؛ لتدور الإبهام على الجميع!
فجاءت على أحسن وضع صلحت به للقبض والبسط، ومباشرة الأعمال. ولو اجتمع الأولون، والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعا آخر للأصابع سوى ما وُضِعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا. فتبارك من لو شاء لسواها، وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة، فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحه، وأنواع تصرفاته، ودقيق الصنائع والخط، وغير ذلك!
فإن بَسَط أصابعه كانت طبقا يضع عليه ما يريد، وإن ضَمَّها وقبضها كانت دبوسا وآلة للضرب، وإن جعلها بين الضم والبسط كانت مِغْرَفة له يتناول بها، وتمسك فيها ما يتناوله!
وركَّب الأظفار على رؤوسها زينة لها، وعمادا، ووقاية؛ وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع!
وجعلها سلاحا لغيره من الحيوان والطير، وآلة لمعاشه، ولِيَحُكَّ الإنسان بها بدنه عند الحاجة.
فالظِّفر الذي هو أقل الأشياء، وأحقرها لو عَدِمه الإنسان، ثم ظهرت به حكة لاشتدت حاجته إليه، ولم يقم مقامه شيء في حَكِّ بدنه، ثم هَدى اليَدَ إلى موضع الحك حتى تمتد إليه، ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب ومشقة! ثم انظر إلى الحكمة البالغة في جعل عظام أسفل البدن غليظة قوية؛ لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها في الثخانة والصلابة؛ لأنها محمولة!
ثم انظر كيف جعل الرقبة مَرْكَباً للرأس! وركبها من سبع خَرَزات مجوفات مستديرات، ثم طبق بعضها على بعض، وركب كل خرزة تركيبا محكما متقنا حتى صارت كأنها خرزة واحدة، ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر!
ثم ركب الظهر من أعلاه إلى منتهى عَظْمِ العَجُز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض!
هي مجمع أضلاعه والتي تمسكها أن تنحل وتنفصل، ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض، فوصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكف والأصابع!
وانظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها!
وكسا العظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين.
فالإنسان مركب على ثلاثمائة وستين عظما. مئتان وثمانية وأربعون مفاصل، وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل، فلو زادت عظما واحدا لكان مضرة على الإنسان!
يحتاج إلى قلعه، ولو نقصت عظما واحدا كان نقصانا يحتاج إلى جبره! فالطبيب ينظر في هذه العظام، وكيفية تركيبها؛ ليعرف وجه العلاج في جبرها، والعارف ينظر فيها؛ ليستدل بها على عظمة باريها وخالقها، وحكمته، وعلمه، ولطفه. وكم بين النظرين!
ثم انه سبحانه ربط تلك الأعضاء ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[04 - 09 - 2009, 01:04 ص]ـ
ثم إنه سبحانه ربط تلك الأعضاء والأجزاء بالرباطات فشد بها أسرها، وجعلها كالأوتاد تمسكها وتحفظها!
حتى بلغ عددها إلى خمس مئة وتسعة وعشرين رباطا!
وهي مختلفة في الغلظ والدقة، والطول والقصر، والاستقامة والانحناء. بحسب اختلاف مواضعها ومحالها!
فجعل منها أربعة وعشرين رباطا آلة لتحريك العين، وفتحها، وضمها وإبصارها لو نقضت منهن رباطا واحدا اختل أمر العين!
وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات هن له كالآلات التي بها يتحرك، ويتصرف، ويفعل!
كل ذلك صنع الرب الحكيم، وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مهين. فويل للمكذبين وبعدا للجاحدين!
ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن نافذا بعضها إلى بعض: خزانة في مقدمه، وخزانة في وسطه، وخزانة في آخره!
وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعها من الذكر والفكر والتعقل!
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن عجائب خلقه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب، والكبد، والطحال، والرئة، والأمعاء، والمثانة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة، والقوى المتعددة المختلفة المنافع!
فأما القلب، فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن، والمستخدم لها! فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني، والحرارة الغريزية!
وهو معدن العقل، والعلم، والحلم، والشجاعة، والكرم، والصبر، والاحتمال، والحب، والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال!
فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، وقواها إنما هي جند من أجناد القلب!
فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات، فإن رأت شيئا أدته إليه!
ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه، إذا استقر فيه شيء ظهر فيها، فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه!
كما أن اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه، ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ".
وقوله تعالى: " وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ".
وقوله تعالى: " صم بكم عمي ".
وقد تقدم ذلك وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله تعالى: " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ".
وقوله تعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: " ما كذب الفؤاد ما رأى " ثم قال: " ما زاغ البصر وما طغى ".
وكذلك الأذن هي رسوله المؤدى إليه، وكذلك اللسان ترجمانه.
وبالجملة فسائر الأعضاء خدمه وجنوده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ".
وقال أبو هريرة رضي الله: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فان طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وانظر كيف جعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما؛ لأنه أشد الأعضاء حرارة. بل هو منبع الحرارة.
وأما الدماغ وهو المخ، فإنه جعل باردا واختلف في حكمة ذاك. فقالت طائفة إنما كان الدماغ باردا؛ لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردها عن الإفراط إلى الاعتدال. وردت طائفة هذا وقالت لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدا عن القلب بل كان ينبغي أن يحيط به كالرئة أو يكون قريبا منه في الصدر؛ ليكسر حرارته. قالت الفرقة الأولى بعد الدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها، فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان، وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرئة فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته.
وتوسطت فرقة أخرى وقالت: بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة، وفيه تبريد بالخاصية. فإنه مبدأ للذهن، ولهذا كان الذهن يحتاج إلى موضع ساكن قار صاف عن الأقذار والكدر خال من الجلبة والزجل.
ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر واستخراج الصواب عند سكون البدن، وفتور حركاته، وقلة شواغله ومزعجاته. ولذلك لم يصلح لها القلب، وكان الدماغ معتدلا في ذلك صالحا له. ولذلك تجود هذه الأفعال في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهم الشديد، ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية.
وهذا بحث متصل بقاعدة أخرى، وهي أن الحواس والعقل هل مبدؤها القلب والدماغ؟
وفي هذا المقام يطول الكلام، ويكثر الخصام والله اعلم بالصواب، وبه التوفيق.
والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان والأمر أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجرى فيه المقال.
وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله، ومستقره، ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب! كيف جعلت له آلة يتناول بها! ثم باب يدخل منه! ثم آلة تقطعه صغارا! ثم طاحون يطحنه! ثم أُعين بماء يعجنه! ثم جعل له مجرى وطريقا إلى جانب النَّفَس ينزل هذا، ويصعد هذا، فلا يلتقيان مع غاية القرب! ثم جعل له حوايا، وطرقا توصله إلى المعدة. فهي خزانته، وموضع اجتماعه!
ولها بابان:
باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه تفله!
(يُتْبَعُ)
(/)
والباب الأعلى أوسع من الأسفل إذ الأعلى مدخل للحاصل، والأسفل مصرف للضار منه، والأسفل منطبق دائما؛ ليستقر الطعام في موضعه. فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع!
ويسمى البواب لذلك، والأعلى يسمى فم المعدة. والطعام ينزل إلى المعدة متكيمسا، فإذا استقر فيها انماع، وذاب!
ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية. بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها، كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به!
ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصا وغيره حتى يتركه مائعا، فإذا أذابته علا صفوه إلى فوق، ورسا كدره إلى أسفل!
ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضو، وقوامه بحسب استعداه وقبوله، فيبعث أشرف ما في ذلك، وألطفه، وأخفه إلى الأرواح!
فيبعث إلى البصر بصرا، وإلى السمع سمعا، وإلى الشم شما، وإلى كل حاسة بحسبها!
فهذا ألطف ما يتولد عن الغذاء، ثم ينبعث منه إلى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال، ثم ينبعث من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها!
وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظفار ما يغذيها، ويحفظها. فيكون الغذاء داخلا إلى المعدة من طرق ومجار، وخارجا منها إلى الأعضاء من طرق ومجار.
هذا وارد إليها، وهذا صادر عنها!
حكمة بالغة ونعمة سابغة!
ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال دما، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وبلغما، اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفا ينصب إليه، ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله!
فوضع المرارة مصبا للمرة الصفراء!
ووضع الطحال مقرا للمرة السوداء!
والكبد تمتص أشرف ما في ذلك، وهو الدم، ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة!
يوصل إلى كل واحد من الشعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه!
ثم إذا نظرت إلى ما فيه من القوى الباطنة، والظاهرة المختلفة في أنفسها، ومنافعها رأيت العجب العجاب!
كقوة سمعه، وبصره، وشمه، وذوقه، ولمسه، وحبه، وبغضه، ورضاه، وغضبه، وغير ذلك من القوى المتعلقة بالإدراك والإرادة! وكذلك القوى المتصرفة في غذائه، كالقوة المنضجة له، وكالقوة الماسكة له، والدافعة له إلى الأعضاء، والقوة الهاضمة له بعد أخذ الأعضاء حاجتها منه. إلى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة.
فارجع الآن إلى النطفة، وتأمل حالها أولا ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[08 - 09 - 2009, 03:18 ص]ـ
فصل فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا
وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا.
بل عظما واحدا من أصغر عظامها. بل عرقا من أدق عروقها. بل شعرة واحدة، لعجزوا عن ذلك!
بل ذلك كله آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين، فمن هذا صنعه في قطرة ماء، فكيف صنعه في ملكوت السموات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها، وحسن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها!
فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة. بل هي أحكم خلقا، وأتقن صنعا، وأجمع العجائب من بدن الإنسان. بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات!
قال الله تعالى: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ".
وقال تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " إلى قوله: " لآيات لقوم يعقلون ". فبدأ بذكر خلق السموات!
وقال تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ".
وهذا كثير في القرآن، فالأرض والبحار والهواء، وكل ما تحت السموات، بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر!
(يُتْبَعُ)
(/)
ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها. إما إخبارا عن عظمها وسعتها، وإما إقساما بها، وإما دعاء إلى النظر فيها، وإما إرشادا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالا منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالا منه بحسنها، واستوائها، والتئام أجزائها، وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته!
وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر، والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها.
فكم من قسم في القرآن بها!
كقوله تعالى: " والسماء ذات البروج "، "والسماء والطارق "، " والسماء وما بناها "، " والسماء ذات الرجع "، " والشمس وضحاها "، " والنجم إذا هوى "، " والنجم الثاقب "، " فلا أقسم بالخنس " وهي الكواكب التي تكون خنسا عند طلوعها، جوارٍ في مجراها ومسيرها، كنسا عند غروبها. فأقسم بها في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء، والنجوم، والشمس، والقمر!
وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه.
وكلما كان أعظم آية، وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به أكثر من غيره!
ولهذا يعظم هذا القسم كقوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم "
وأظهر القولين أنه قسم بمواقع هذه النجوم التي في السماء، فإن اسم النجوم عند الإطلاق إنما ينصرف إليها، وأيضا فإنه لم تجر عادته سبحانه باستعمال النجوم في آيات القرآن، ولا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الآية، وجرت عادته باستعمال النجوم في الكواكب في جميع القرآن، وأيضا فإن نظير الإقسام بمواقعها هنا إقسامه بهوي النجم في قوله تعالى: " والنجم إذا هوى ".
وأيضا فإن هذا قول جمهور أهل التفسير، وأيضا فإنه سبحانه يقسم بالقرآن نفسه لا بوصوله إلى عباده. هذه طريقة القرآن.
قال الله تعالى: " ص والقرآن ذي الذكر "، " يس والقرآن الحكيم "، " ق والقرآن المجيد "، " حم والكتاب المبين "، ونظائره.
والمقصود أنه سبحانه إنما يقسم من مخلوقاته بما هو من آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته.
وقد أثنى سبحانه في كتابه على المتفكرين في خلق السموات والأرض، وذم المعرضين عن ذلك، فقال تعالى: " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ".
وتأمل خلق هذا السقف الأعظم مع صلابته وشدته، ووثاقته من دخان، وهو بخار الماء!
قال الله تعالى: " وبنينا فوقكم سبعا شدادا "!
وقال تعالى: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها "! وقال تعالى: " وجعلنا السماء سقفا محفوظا "!
فانظر إلى هذا البناء العظيم الشديد الواسع الذي رفع سمكه أعظم ارتفاع، وزينه بأحسن زينة، وأودعه العجائب، والآيات، وكيف ابتدأ خلقه من بخار ارتفع من الماء وهو الدخان!
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
لقد تعرف إلى خلقه بأنواع التعرفات، ونصب لهم الدلالات، وأوضح لهم الآيات البينات؛ ليهلك من هلك عن بينة؛ ويحيا من حيي بينة، وان الله لسميع عليم.
فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[10 - 09 - 2009, 06:03 ص]ـ
فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها، وفي كواكبها، ودورانها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها، ولا تغير في سيرها!
بل تجري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر، لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها وبديعها قال الله تعالى: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب "!
ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة!
هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها، لا تتعداه ولا تقصر عنه!
ولولا طلوعها وغروبها لما عُرِف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء، ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة!
(يُتْبَعُ)
(/)
وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين، أحدهما: سفرها صاعدة إلى أوجها، والثاني: سفرها هابطة إلى حضيضها تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة حتى تبلغ غايتها منه!
فأحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع، فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء!
وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ!
وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة، واختلفت بسببها الأقوات وأحوال النبات وألوانه ومنافع الحيوان والأغذية وغيرها!
وانظر إلى القمر وعجائب آياته!
كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره، ويتكامل شيئا فشيئا كل ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم!
فتميزت به الأشهر والسنون، وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والآيات والعبر التي لا يحصيها إلا الله!
ثم إنه سبحانه أمسك السموات مع عظمها وعظم ما فيها وثبتها من غير علاقة من فوقها ولا عمد من تحتها!
قال الله تعالى: " الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ".
والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان:
أحدهما: نظر إليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر.
الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها، وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها، من جبر كسر، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة الملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف العدوان!
فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها!
ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عانٍ لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد!
فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه!
وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فياله من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته!
سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب.
تأمل العبرة في موضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 12:09 ص]ـ
تأمل العبرة في موضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام!
وأدلة على كمال قدرة خالقه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال لطفه.
فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه!
فالسماء سقفه المرفوع عليه!
والأرض مهاد وبساط وفراش، ومستقر للساكن!
(يُتْبَعُ)
(/)
والشمس والقمر سرجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار!
والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له!
وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه، فمنها الركوب، ومنها الحلوب، ومنها الغذاء، ومنها اللباس والأمتعة والآلات!
ومنها الحرس الذي وكل بحرس الإنسان يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لإهلاكه وأذاه!
فلولا ما سلط عليه من ضده لم يَقرّ للإنسان قرار بينهم!
وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه المتصرف بفعله وأمره!
ففي هذا أعظم دلالة وأوضحها على أن العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم قدره أحسن تقدير ونظمه أحسن نظام!
وأن الخالق له يستحيل أن يكون اثنين بل الإله واحد. لا إله إلا هو تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وأنه لو كان في السموات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما!
وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان، ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان أن يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في أوائل العقول، وبداية الفطر، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون!
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون!
فهذان برهانان يعجز الأولون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدح صحيح.
أو يأتوا بأحسن منهما، ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما.
وتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة!
كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار، ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها!
بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها، ولا فطر، ولا شق، ولا أمت ولا عوج!
ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له!
حتى أن من أصابه شيء أضر ببصره يؤمر بإدمان النظر إلى الخضرة، وما قرب منها إلى السواد.
وقال الأطباء: إنّ مَنْ كَلّ بصرُه فإنه من دوائه أن يديم الاطلاع إلى إجانة خضراء مملوءة ماء!
فتأمل كيف جعل أديم السماء بهذا اللون؛ ليمسك الأبصار المتقلبة فيه، ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له. هذا بعض فوائد هذا اللون والحكمة فيه أضعاف ذلك.
ثم تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار!
ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم!
وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور!
ثم تأمل الحكمة في غروبهما. فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار! مع فرط الحاجة إلى السبات، وجموم الحواس، وانبعاث القوى الباطنة، وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام، وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء!
ثم لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس، واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات!
فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت؛ ليقضوا حوائجهم، ثم تغيب عنهم مثل ذلك؛ ليقروا ويهدؤوا.
وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين. بهما تمام مصالح العالم، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز وجل: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون "!
خص سبحانه النهار بذكر البصر؛ لأنه محله وفيه سلطان البصر، وتصرفه! وخص الليل بذكر السمع؛ لأن سلطان السمع يكون بالليل، وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار؛ لأنه وقت هدوء الأصوات، وخمود الحركات!
وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر، والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع.
فقوله: " أفلا تسمعون " راجع إلى قوله: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ".
وقوله: " أفلا تبصرون " راجع إلى قوله: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ".
وقال الله تعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ".
فذكر تعالى خلق الليل والنهار، وأنهما خِلْفَة أي: يخلف أحدهما الآخر. لا يجتمع معه، ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما!
وهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار. كون كل واحد منهما يخلف الآخر لا يجامعه، ولا يحاذيه. بل يغشى أحدهما صاحبه، فيطلبه حثيثا حتى يزيله عن سلطانه!
ثم يجيء الآخر عقيبه، فيطلبه حثيثا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه، فهما دائما يتطالبان، ولا يدرك أحدهما صاحبه!
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.(/)
نورت يا رمضان:)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 01:52 ص]ـ
http://www.hawahome.info/uploaded/460/1157974104.jpg
قد دنا وقت الرّحيل
إنّ الزرعَ قدْ دنا حصادُهُ، هكذا إذا مضى يومٌ على الإنسانِ عليهِ أنْ يتذكّرَ أنّ الأجلَ قدْ دنا ..
وشمسُ العمرِ إلى مغيبٍ ..
.
.
.
تتوالى الأيامُ , يومٌ تلوَ الآخرِ وبينهُما أقوالٌ وأعمالٌ قدْ سُجلتْ على العبادِ في صحائفِ الحسناتِ أوِ السيّئاتِ ..
ونسألُ اللهَ حُسنَ الختامِ ..
قبلَ أنْ نُكثرَ الآهاتِ والحسراتِ في يومٍ ترى فيه المجرمينَ مشفقينَ ممّا كسبوا ..
" وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف49
وحينَ تمرُّ السّنون، نحتاجُ إلى وقفةٍ للنظرِ فيما مضى للاستعدادِ لِمَا بقي ..
فكما قالَ الحسنُ البصريُّ: " ما مِنْ يومٍ ينشقُّ فجرُهُ، إلا وينادي: يا ابنَ آدمَ، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزوّدْ منّي، فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ"
ولتكنْ منَ الرّابِحينَ فيما بقيَ منَ الأيامِ ..
عليكَ بِهَجرِ كلِّ ما نهى اللهُ عنهُ ..
فإنَّ المعاصي تزيلُ النّعمَ، وما استُجلِبتِ النعمُ إلا بطاعةِ المُنعمِ جلّ جلالُه ..
ولْتكُن منَ الرّابحينَ ..
اعرفْ مكامنَ الإحسانِ في طاقتِكَ، وأحسِنِ استغلالَها؛ حتى لا تكونَ مِنَ:
"الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" [الكهف:104]
ولتكنْ منَ الرّابحينَ،،
لتكنْ همتُكَ لأمّتِكَ، ورفعِ ما حلّ بها من الضَّيمِ والظلمِ ..
فهلْ لكَ بإغاثةِ ملهوفٍ، ومداواةِ جريحٍ، وفكِّ أسيرٍ، وإرشادِ حائرٍ؟!
فما أجملَ أنْ تتركَ مِن بعدِكَ جميلَ الأثرِ، حتى وإنْ لمْ يعرِفْكَ النّاسُ ..
وما يضرُّكَ فربُّ الناسِ يعرفُكَ ..
فها هيَ صحيفتُكَ تطلُّ عليكَ فانظرْ فيها وأمعِنِ النظرَ ..
فقدْ دنا وقتُ الرّحيلِ
لعله يكون آخر رمضان فلنشحذ الهمم
http://up.arab-x.com/July09/iTL58164.gif
نورت يارمضان
أهلا يا أغلى مُنية
يانجمة فى سما الأزمان
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 01:48 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزاااااك الله خيراً .... ونفع بك الأمة .... وأسأل الله أن يكتبها في موازين حسناتك .... اللهم آمين
عبارات حقاً رائعة .... تستوجب منا وقفة .. !
ـ[رحمة]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:06 م]ـ
جزاك الله خيرا اختي الكريم
و أحب أن أهنيء الجميع بحلول شهر رمضان الكريم
كل عام و انتم الي الله أقرب و علي طاعته أدوم(/)
مبارك لنا ولكم شهررمضان
ـ[أبو العباس المقدسي]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:30 م]ـ
السلام عليكم
قد لا أستطيع إخوتي أن أراسل جميع إخواني
ولذلك اسمحوا لي أن أقدّم لكم التهنئة بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك
إداريين ومشرفين وأعضاء كرام وأعزّاء
تقبّل الله منا ومنكم الطاعات
وجعله الله شهر خير وبركة
وجعلنا الله فيه من المرحومين
نعوذ به أن نكون من المحرومين
كل عام وأنتم بخير
ـ[العوضي]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 03:11 م]ـ
تهنئه خالصه من القلب بشهر رمضان المبارك للأخوه الكرام أعضاء منتدي الفصيح العزيز والساده المشرفين والمراقبين والادارييين
شكرا لك أخانا الفاضل أبو العباس المقدسي كل عام وحضرتكم بكل الخير
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 03:27 م]ـ
تقبل الله من الجميع وغفر لنا من الذنوب ماتقدم.
و
كل عام وأنتم بخير
ـ[جلمود]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 03:31 م]ـ
كل عام وأنتم بخير!
ورمضان كريم!
ـ[رحمة]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 03:37 م]ـ
كل عام و انتم بخير أستاذنا الفاضل و كل أعضاء المنتدى الكرام
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 04:27 م]ـ
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
تقبل الله تعالى منا ومنكم , وسلمنا لرمضان ,وتسلمه منا ,وسلمه لنا ,وأعاننا
على حسن صيامه وقيامه , وأعتق رقابنا فيه من النيران ,وغفر لنا ما تقدم من
ذنبنا , ونسأل الله تعالى أن يرحم أموات المسلمين ,وأن يدخلهم فسيح جناته ,
وهنا أشير إلى لطيفة فقهية سريعًا شملها كلام أخي
كل عام وأنتم بخير!
ورمضان كريم!
وهي: هل يجوز أن نقول "رمضان " بدون إضافته إلى كلمة شهر؟
فهل يجوز أن نقول: جاء رمضان, ودخل رمضان, وخرج رمضان ,
كثرت مصاريف رمضان , ورمضان كريم .... ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم: طرفان ووسط ,
الأول: يجوز مطلقًا , لعدم دليل المنع , والأصل في هذه الأشياء الإباحة إلاّ
لدليل ,ولا دليل يمنع.
الثاني: لا يجوز مطلقًا , ودليلهم:
حديث أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا رمضان ,فإن رمضان
اسم من أسماء الله ... ,
الثالث: يجوز بشرط وجود قرينة تصرف الكلمة إلى الشهر , مثل:
صمنا رمضان , قمنا رمضان ,
فقولنا: صمنا وقمنا قرائن صرفت عموم كلمة رمضان إلى الشهر ,
وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ,
والقول الأول أقرب من جهة الدليل ,
والقول الثاني لا يصح دليله , فالحديث ضعيف ,
والقول الثالث أقرب من جهة التعليل.
والله الموفق.
ـ[أمة الله الواحد]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 04:29 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخي المفضال أبا العباس ,
كل عام وأنتم بألف خير وعافية، وأعاده الله عليكم بالخير والبركة أعواما عديدة إن شاء الله، ونصركم بنصره وأيّدكم بجنود ٍ لا ترونها من لدنّه إن شاء الله، وأعانكم وثبّتكم على الحق.
مبارك علينا الشهر وكل عام و الجميع بخير وصحة.
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:11 م]ـ
كل عام ونحن إلى الله أقرب كل عام ونحن على طاعة أدوم كل عام والأمة الإسلامية بخير وعزة.
شكراً لك أستاذ أبو العباس المقدسى.
ـ[السراج]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 10:15 م]ـ
وتهنئة خاصة بحلول الشهر الفضيل
كل عام وأنتم أيها الفصحاء بخير وسعادة ..
ـ[أبو طارق]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 10:50 م]ـ
نسأل الله أن يعيينا على ذكره وشكره وحسن عبادته
وجعل الله الشهر الفضيل شهر عز ونصر للإسلام والمسلمين
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 11:05 م]ـ
كل عاااام وأنتم إلى الله أقرب ..
وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ..
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(1).gif
ـ[أنوار]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 11:10 م]ـ
كل عام والجميع بخير ..
تقبل الله الصيام والقيام ..
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 11:34 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
مبارك علينا وعليكم شهر الرحمة والغفران
وكل عام وأنتم إلى الرحمن أقرب
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال .... آمين
ـ[بل الصدى]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 01:04 ص]ـ
كل عام و أنتم بخير
و كل رمضان و أنتم إلى الله أقرب
أعاننا الله و إياكم فيه على الصيام و القيام و جعلنا من المقبولين
و أعاده علينا و على الأمة الإسلامية في أحسن حال.
ـ[حروف الحب]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 01:16 ص]ـ
الحمد لله أن بلغنا رمضان وكل عام وشبكة الفصيح وأعضاءها بألف خير
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 02:24 ص]ـ
كل عام وأنتم بخير جميعا
نسأل الله العون على الطاعة، ونسأله قبولها.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:06 ص]ـ
وكل عام والجميع بخير
وجعلنا الله من خير إلى خير ومن صحة إلى صحة ومن طاعة إلى طاعة.
ـ[حسانين أبو عمرو]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:24 ص]ـ
مبارك حلول شهر رمضان
أسأل الله عز وجل أن يبارك لنا فيه , وأن يرزقنا الإخلاص في صيامه وقيامه , وألا ينتهي هذا الشهر المبارك إلا وقد تحققت للأمة الإسلامية وحدتها ونهضتها.
اللهم بحق هذا الشهر المبارك وبحق كتابك الذي أنزلته فيه أسألك أن ترزقنا الإخلاص في القول والعمل , وأن تذلّلَ لنا كل َّصعب , وأن تحقق لنا كلَّ رجاء.
اللهم آمين.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[تيما]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 10:04 ص]ـ
اللهم تقبل منا الصيام والقيام
واغفر لنا الذنوب يا رب العالمين
كل عام وأنتم بخير
.
.
ـ[السلفي1]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 02:31 م]ـ
[ QUOTE= حسانين أبو عمرو;365105] [/ size]
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك أستاذي الكريم ,وربارك فيك ربك الكريم.
هذه فتوى للجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية بخصوص ما توسلت به:
السؤال الأول من الفتوى رقم (6384):
س1: هل يمكن التوسل بالقرآن والأيام كأن يقول العبد: (أدعوك ربي بحق يوم عرفة وما شابهه)؟
ج1: يجوز التوسل بالقرآن؛ لأنه كلام الله لفظا ومعنى، وكلامه تعالى صفة من
صفاته، فالتوسل به توسل إلى الله بصفة من صفاته، وهذا لا ينافي التوحيد
وليس ذريعة من ذرائع الشرك.
وأما التوسل بيوم من الأيام كالمثال الذي ذكرته فلا يجوز؛ لأنه توسل بمخلوق
فهو ذريعة إلى الشرك، ولأن ذلك مخالف للأدلة الشرعية، مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أخرجه مسلم في صحيحه
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو، عضو، نائب رئيس اللجنة،
عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي،
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز , انتهى النقل.
قلتُ: ولقد حصر أهل السنة والجماعة التوسل المشروع في:
أولاً: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته.
ثانيًا: التوسل بالأعمال الصالحة ,
, وليس إلاّ , وذلك للنصوص الواردة , لأن التوسل عبادة ,والعبادة توقيفية ,
ولا يجوز منها إلا ما جاء به الشرع ,
فالأصل عند العلماء: الأصل في العبادات المنع والتحريم إلا لدليل ,
وقالوا: " وليس مشروعًا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور ".
وليعلم الجميع أن الدكتور حسانين من محافظتي ,وهي الشرقية , ولقد أنارت به
وزدانت , ورفرف في سمائها علمًا.
أبو عبد الرحمن البلبيسي الزقازيقي الشرقي المصري السلفي.
والله الموفق.
ـ[حسانين أبو عمرو]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:31 م]ـ
[ quote= حسانين أبو عمرو;365105] [/ size]
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك أستاذي الكريم ,وربارك فيك ربك الكريم.
هذه فتوى للجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية بخصوص ما توسلت به:
السؤال الأول من الفتوى رقم (6384):
س1: هل يمكن التوسل بالقرآن والأيام كأن يقول العبد: (أدعوك ربي بحق يوم عرفة وما شابهه)؟
ج1: يجوز التوسل بالقرآن؛ لأنه كلام الله لفظا ومعنى، وكلامه تعالى صفة من
صفاته، فالتوسل به توسل إلى الله بصفة من صفاته، وهذا لا ينافي التوحيد
وليس ذريعة من ذرائع الشرك.
وأما التوسل بيوم من الأيام كالمثال الذي ذكرته فلا يجوز؛ لأنه توسل بمخلوق
فهو ذريعة إلى الشرك، ولأن ذلك مخالف للأدلة الشرعية، مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أخرجه مسلم في صحيحه
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو، عضو، نائب رئيس اللجنة،
عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي،
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز , انتهى النقل.
قلتُ: ولقد حصر أهل السنة والجماعة التوسل المشروع في:
أولاً: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته.
ثانيًا: التوسل بالأعمال الصالحة ,
, وليس إلاّ , وذلك للنصوص الواردة , لأن التوسل عبادة ,والعبادة توقيفية ,
ولا يجوز منها إلا ما جاء به الشرع ,
فالأصل عند العلماء: الأصل في العبادات المنع والتحريم إلا لدليل ,
وقالوا: " وليس مشروعًا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور ".
وليعلم الجميع أن الدكتور حسانين من محافظتي ,وهي الشرقية , ولقد أنارت به
وزدانت , ورفرف في سمائها علمًا.
أبو عبد الرحمن البلبيسي الزقازيقي الشرقي المصري السلفي.
والله الموفق.
السلام عليكم
بارك الله فيكم وأكرمكم بالفردوس نزلا
شكرا جزيلا على هذه هذه الدرر الثمينة. رزقكم الله الحكمة وفصل الخطاب وأنار لكم بصركم وبصيرتكم وزادكم تقى وصلاحا اللهم آمين.
ما أنا إلا طالب ُعلم - إن كنت حقا كذلك - أتتلمذ على يد العلماء العاملين من أمثالكم.
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه اللهم آمين.
ـ[عين الحنان]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 11:17 م]ـ
http://www.moeforum.net/vb1/uploaded/407585_01250971880.jpg(/)
دليل التغذية السليمة في شهر الصيام
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:46 م]ـ
مقالة أقتبسها من جريدة الأهرام المصرية
و قد احتوت على نصائح مفيدة و جيدة .. و رمضان كريم:)
كتبت: عبلة الساعاتي
بعد صيام نحو خمس عشرة ساعة يوميا .. كيف يكون اختيارنا للغذاء الصحي المناسب خلال شهر رمضان الذي يهل علينا في غضون ساعات قليلة وفي ظل طقس حار , ورطوبة عالية , وتعرق بغزارة يفقدنا الكثير من السوائل والأملاح الحيوية؟؟
** الدكتورة نيبال عبدالرحمن أبوالعلا الأستاذ بالمعهد القومي للتغذية تجيب عن هذا التساؤل قائلة: لابد أن نعلم أن الطقس يؤثر علي حياة الإنسان وصحته بما فيها عملية التغذية والهضم والامتصاص , لذلك فإن لكل فصل من فصول السنة نوعية من الطعام التي تلائمه .. وحتي نحافظ علي صحتنا في شهر الصيام الذي يأتي مواكبا لفصل الصيف , وحتي نتجنب أيضا زيادة الوزن فيه , ولا نتعرض للإنهاك الحراري الذي يضرنا ويشكل خطورة علي صحة أجسامنا بسبب فقداننا السوائل والأملاح المعدنية نتيجة التعرق بغزارة
فمن الضروري أن نبتعد عن ممارسة العادات الغذائية الخاطئة في رمضان , كالإسراف في تناول الطعام , والتركيز علي أنواع محددة من الأطعمة معظمها عالية السعرات الحرارية , وغنية بالدهون المشبعة وبذلك يفقد الصيام فوائده الصحية التي تقيه العديد من الأمراض , حيث يقوم الصوم بتجديد أنشطة جميع أجهزة الجسم والأعضاء , ويخلص الجسم من الفضلات المتراكمة , ويحسن مستوي دهون الدم مما يؤدي إلي الشعور بالراحة النفسية والطمأنينة ويوفر له ارتقاء روحيا ونفسيا , وتوازنا فسيولوجيا متكاملا.
ومن أجل تحقيق ذلك تنصح د. نيبال باتباع الآتي:
* عدم الأكل حتي الشعور بالشبع التام في وجبتني الإفطار والسحور لتجنب الإصابة بالتخمة والتأني أثناء تناول الطعام ومضغه بشكل جيد , لتنشيط عملية الهضم وتحقيق شبع حقيقي وهضم صحي .. لأن المضغ الجيد يشعر بالشبع ويحقق الإستفادة من افرازات الغدد اللعابية.
* الإكثار من تناول السوائل التي تعوض الجفاف الذي يحدث نتيجة فقدها بسبب التعرق , وتعالج معاناة الإمساك الشائعة في الصيف لنفس السبب. ولكن يراعي أن تكون السوائل بدون سكر , لأن شرب السوائل التي تحتوي علي السكر يزيد من عطشنا مساء وفي اليوم التالي , مثله مثل الاكثار من الملح علي المائدة .. ويحتاج الشخص العادي من 2 إلي 3 لترات ماء يوميا متضمنة السوائل مثل العصائر والألبان , ولا تتضمن الشاي والقهوة وأي مشروبات بها كافيين حيث إنها مدرة للبول , وتساعد علي فقد الماء من الجسم , وكذلك الأملاح مما يضر بتوازن الأملاح والماء في الجسم.
* الاهتمام بتناول الفاكهة والخضراوات الطازجة لاحتوائها علي نسبة عالية من الماء والأملاح والفيتامينات بشرط الاهتمام بغسلها جيدا للتخلص من الميكروبات التي تكثر وتزداد مع الحر.
** الإقلال من تناول الأطعمة الدهنية والدسمة أثناء الحر لاحتوائها علي كميات عالية من الطاقة والسعرات الحرارية التي تزيد من معاناة افراز العرق بكثرة , وتشكل عبئا ثقيلا علي الجهاز الهضمي الذي تخف عصارته الهاضمة بسبب كثرة شرب الماء والسوائل.
* مراعاة اختيار الحلوي التي تحتوي علي سعرات حراريةأقل , حسب مكوناتها , فيفضل مثلا تناول طبق سلطة الفواكه بدلا من قطعة كنافة أو بقلاوة , أو حلوي قمر الدين المطبوخة بدلا من البسبوسة ويمكن الاكتفاء بثلاث تمرات.
* تجنب تناول المشروبات الغازية مع وجبتي الافطار والسحور لأنها تحد من كفاءة الهضم وتملأ المعدة بالسكر , إضافة إلي ضعف القيمة الغذائية لهذه الأنواع من المشروبات وتأثيرها علي زيادة الوزن.
* وعند تناول وجبة الافطار في رمضان .. تذكرنا د. نيبال بضرورة التلطف بالمعدة , والتدرج معها في الطعام والشراب , والفصل بين بداية الفطور وتناول الوجبة الرئيسية .. وأفضل ما يبدأ به الصائم افطاره هو التمر , لأن السكريات الموجودة فيه سهلة الامتصاص وسريعة الوصول إلي الدورة الدموية .. وهذا ما نحتاجه بعد ساعات طويلة من الامتناع عن الطعام , حيث ينشط في إفراز الأنزيمات الهاضمة لتستقبل الطعام الذي سيتناوله الصائم
(يُتْبَعُ)
(/)
بالإضافة إلي تناول قليل من الماء الذي يجب ألا يكون مثلجا , حتي لا يسبب انقباض الشعيرات الدموية بالمعدة , ويؤدي إلي ضعف الهضم وبعدها يمكنها تناول كوبا من الشوربة الدافئة لتنشيط الخلايا , وتعويض سريع للماء المفقود .. كما يفضل أخذ فترة راحة بعد تناول البلح , بأداء صلاة المغرب , لإتاحة الفرصة لامتصاص السكريات والسوائل بسرعة .. السلاطة الخضراء لامداد الجسم بالفيتامينات والمعادن والألياف التي تساعد الصائم علي الإحساس بالشبع , وتنشط عملية الهضم , وتقي من الإمساك. ثم الخضار المطبوخ الذي يحتوي علي أنواع مهمة من البروتينات مع الحرص دائما علي احكام اقفال غطاء وعاء الطهو جيدا خلال انضاجه للمحافظة علي هذه البروتينات.
أما بالنسبة للطبق الرئيسي الذي يمثل الوجبة الصحية المتوازنة التي تتكون من أصناف مختلفة من الأغذية لكل منها فائدة خاصة , وبكميات معتدلة وهذا الطبق يحتوي علي لحوم أو أسماك أو دواجن , ويمكن الاستعاضة بالبدائل كالعدس والفول والفاصوليا البيضاء أو اللوبيا وكذلك صنف من النشويات كالأرز أو الخبز , أو المكرونة أو البطاطس , بالإضافة إلي الألبان أو مشتقاتها سلطة زبادي مثلا , بالإضافة إلي الخضر والفاكهة.
** وعند تناول وجبة السحور .. تذكرنا د. نيبال باتباع الآتي: أن يتم تأخير تناوله بقدر الإمكان , لأن السحور يفيد في منع حدوث الإعياء أو الإصابة بالصداع أثناء صيام نهار رمضان , ويخفف من الشعور بالعطش الشديد وتجنب تناول الأطعمة المالحة مثل المخللات , أو الزيتون المالح , والجبن المالحة , وكذلك الأطعمة الحريفة , أو استخدام التوابل والبهارات عند تجهيز أطعمة السحور كالفول مثلا , والابتعاد عن تناول الأغذية المحفوظة والوجبات سريعة التحضير .. وذلك لتقلل من الشعور بالعطش في فترة الصيام , مع الحرص علي شرب كمية كافية من الماء. وأن يحتوي طعام السحور علي أغذية سهلة الهضم كالألبان ومنتجاتها مثل الجبن والزبادي , بالإضافة إلي الخضراوات الطازجة أو الفاكهة أو الخبز أو القمح , لما تحتويه من فيتامينات ومعادن وكمية عالية من الوسائل التي تحد من الشعور بالعطش. وأن يتم تناول وجبة أو وجبتين خفيفتين بين الافطار والسحور مثل الفاكهة , الزبادي بالفاكهة , البليلة , البطاطا , حمص الشام , وقليل من المكسرات إن أمكن.
نصيحة أخيرة: شهر رمضان طبيب تخسيس مجاني , وهو فرصة عظيمة لذوي الوزن الزائد بشرط الالتزام بشروط شهر رمضان الصحية كالاعتدال في تناول الطعام , والاقلال من النوم والكسل , وممارسة نوع من النشاط الحركي بعد الافطار بساعة للمساعدة علي الهضم ولمنع تراكم المواد الضارة في الجسم .. والتي من أبسطها المشي وأداء صلاة التراويح.
وكل سنة وأنتم طيبون ورمضان كريم
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 07:57 م]ـ
جزاك الله كل خير دكتور مصطفى وبارك الله فيك وتقبل الله من الجميع صالح الأعمال.
ـ[السراج]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 10:09 م]ـ
معلومات طبية قيمة
بقى علينا أن نتقيد بها - بإذن الله - لما فيها من الفائدة ..
نشكرك يا أبا دجانة
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 01:00 ص]ـ
و أشكركما على مروركما الكريم:)(/)
آن الأوان يا رب
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:51 م]ـ
لقد انتشر موت الفجأة بصورة مُخيفة هذه الأيام وبالأخص بين الشباب .. حوادث سيارت .. سكتات قلبية .. أو من يدخل لينام وهو في أتم صحة وعافية، ثم لا يستيقظ مرة أخرى لإنه قد مات ..
وهذا مصداقًا لقول النبي "من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة" [رواه الطبراني وحسنه الألباني] ..
وقد كان من دعائه"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك" [صحيح الجامع رقم (1291)]
يا تُرى كيف ستكون خاتمتى وخاتمتك؟ ..
هل ستُوفق لقول لا إله إلا الله
أم ستظل الدنيا في قلبك وتُشغِل تفكيرك حتى عند الموت؟
لابد أن نتدارك أنفسنا قبل أن يفوت الآوان ..
فالله سبحانه وتعالى يُرسل لك الرسائل وإن لم تستجيب ويتحرك قلبك لهذه الرسائل ولذكر الموت، ستُبتلى بعقوبة ما أشدها وأصعبها وهي انتكاسة القلب فيصير قلبك قاسي وغافل .. عفانا الله وإياكم من فتنة المحيا والممات،،
تأمل عتاب ربك لك، حين قال جل فى علاه .. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]
ما أصعبه من عتاب على القلوب .. ألم يأن الآوان؟؟ لماذا لا تريد أن ترجع إلى ربك؟؟ ألم تأتك النُذر بعد النُذر؟؟ ألا تخاف من الوقوف بين يدي ربك وليس بينك وبينه حجاب؟؟ .. ووقتها لن ينفعك شيء سوى عملك الصالح ..
بلى، قد آن الأوان يا رب. فوالله الذى لا إله إلا هو، سعادتك لن تكون إلا فى طريق ربك .. ولتكن لك وقفة بينك وبين نفسك، تعترف فيها بكل تقصيرك لربك .. وربك غفور تواب رحيم، لن يردك أبدًا مادمت صادقًا .. وترجم هذه الرغبة بداخلك إلى أفعال، لأنه لو دخل قلبك الإيمان حقاً سيُصدقه عمل ..
وابدأ خطوة تلو الأخرى حتى تصل .. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" [صحيح الجامع رقم (2246)]
وأبشرك أن الطريق مفتوح لن يُغلق أمامك، إلا إذا كنت لا تريد التغيير ..
وعليكم فى بداية الطريق بهذه الخطوات ..
1) غيّر صُحبتك .. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم"مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة" [متفق عليه] .. ابدأ فى تغيير الصُحبة وابحث عمن يُذكرك بالله، الذي حين تتكلم معه لا يجعلك تقع فى ذنوب ومعاصي بل يحثُك على الخير دائمًا
2) حي على الصلاة .. ابدأ من اليوم بالحفاظ على الصلوات الخمس في أول وقتها .. فالصلاة هي عماد دينك، وهي الصلة التي بينك وبين الله ... وحافظ على صلاة الفجر وسنتها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيها "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" [رواه مسلم] .. ثم تدرج في السُنن والنوافل.
3) تجديد التوبة .. مهما بلغت ذنوبك، جدد التوبة .. فإن الله لا يمل حتى تملوا.
4) كثرة الاستغفار والذكر .. قال النبي صلى الله عليه وسلم"من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف" [رواه الترمذي وصححه الألباني] ..
والفرار من الزحف من الكبائر .. فاحرص على هذه الصيغة من الاستغفار لتكون سببًا إن شاء الله فى غفران الذنوب الثقيلة، واكثِر من الاستغفار ليكون سببًا فى بناء العلاقة بينك وبين الله.
5) جلسة الشروق .. قال صلى الله عليه وسلم "من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" [السلسلة الصحيحة رقم (3403)] .. اجلس من الفجر حتى الشروق فى المسجد، تقرأ أثنائها في المُصحف وتقول أذكار الصباح .. وبعد الشروق بثلث الساعة صلّ ركعتين، فتكون سببًا في تثبيت دينك.
(يُتْبَعُ)
(/)
6) عوّد عينك على المصحف .. عينك التى أدمنت النظر إلى الحرام ولسانك الذى لا يفتر عن الغيبة والنميمة والسباب والقيل والقال، استبدل كل هذا بالأذكار وقراءة القرآن .. والنبى صلى الله عليه وسلم يقول "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف " [حسنه الألباني، صحيح الجامع (6289)]
7) عليكم بالصدقة .. إذا كنت قد أسرفت على نفسك بالذنوب والمعاصي، استدفع غضب ربك عليك بالصدقة وخاصة صدقات السر .. فإن "صدقة السر تطفئ غضب الرب" [صحيح الجامع رقم (3759)]
8) ركعتان فى جوف الليل .. لأن النبى صلى الله عليه وسلمقال "عليكم بقيام الليل فإنه دأب
الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم" [رواه الترمذي وحسنه الألباني] ... فيكون سببًا في إقلاعك عن الذنوب.
9) الدعاء .. اخلو بربك واسجد واقترب .. "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء" [رواه مسلم] .. وأقرب مايكون العبد من الله فى جوف الليل الآخر، فاسجد لله في هذا الوقت وادعوه وصرح له بكل ما صدرك واستغفره واطلب العفو والعون منه.
10) الصيام ..
نحن فى رمضان
أما بعد رمضان
ابدأ بصيام الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر" قال "صوم ثلاثة أيام من كل شهر" [رواه النسائي وصححه الألباني] .. ووحر الصدر أي الوساوس وهى مشكلة المشاكل، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم"إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" [متفق عليه] .. فعندما تصوم تُغلِق عليه هذه المنافذ.
وهكذا أمام كل سيئة فعلتها، قدِم حسنة لتمحُها ..
صيام، قيام، أذكار، دعاء واستغفار فى الأسحار .. يُمهد طريقك إلى الله تعالى ..
فمن سوف يُلبى نداء الله؟ .. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ .. } [الحديد: 16]
هذه هي لحظة التغيير فى حياتنا كلها .. اغرس هذه المعاني في قلبك وتعايشها واصرخ من داخلك وقل: آن الأوان يا رب ..
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُثبتنا على طريقه وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال
لعله آخر رمضان نشهده فنقول آن الأوااااااااااااان يارب لنعود إليك
ـ[السراج]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 09:55 م]ـ
بارك الله فيكِ يا (ياحامل القرآن) ..
ورمضان فرصة لتدارك المرء ومراجعة حساباته فالحسنات فيه تُضاعف ..(/)
حلمك الإيماني في رمضان
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:59 م]ـ
لقد كان سلفنا الصالح يحيوا بطموح يُحركهم فى الطريق إلى الله، ولم يعيشوا هكذا سدىً .. فقد كان لكل واحدٍ منهم هدف إيماني، يسعى جاهدًا لتحقيقه .. هيا بنا نرى بعضًا من هذه الأحلام لعلها تُعلي همتنا في رمضان هذه العام، فنُبلغ فيه مالم نبُلغ من قبل ..
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال"ما مات عمر رضي الله عنه حتى سرد الصوم" .. لقد كان حلم عمر رضي الله عنه أن لا يموت إلا وقد صام السنة كلها إلاالأيام المحرمة، ولم يمت إلا بعد تحقيق أمنيته.
وقال رجل لحاتم الأصم: ما تشتهي؟ قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل قلت له: أليست الأيام كلها عافية؟ قال: إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه ... ونحن نتمنى رمضان بلا ذنوب، فلا نفعل فيه أي مُخالفة أو أي شيء يُغضب الله ..
نتمنى أن نمضي أيامنا في طاعة الرحمن فقط.
قال صالح المري: قلت لعطاء السليمي ما تشتهي فبكى فقال أشتهي والله يا أبا بشر أن أكون رمادا لا يجتمع منه سفة أبدا في الدنيا ولا في الآخرة قال صالح فأبكاني والله وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر يوم الحساب .. ونحن نرجو الله أن نُكتب عنده من أهل الجنة الذين يدخلونها من غير حساب ولا سابقة عذاب.
وهذا طلق بن حبيب كان لا يركع إذا افتتح القراءة من البقرة حتى يبلغ العنكبوت وكان يقول إني أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي .. قال أبو عبد الله الأنطاكي: ما أغبط أحدا إلا من عرف مولاه، وأشتهي أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذين يستحيونه لا معرفة التصديق ... وأنت بحاجة لأن تعرف ربك حق المعرفة، معرفة تُوجب الحياء منه .. عندما تشعر بمدى فضله عليك وكم أنت مقصر في حقه.
قال مالك بن دينار: وددت أنَّ الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لي يا مالك فأقول لبيك فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة فأعرف أنه قد رضي عني فيقول: يا مالك كن اليوم ترابا ... لو قلبك يسجد سجدة لا يقوم بعدها أبدًا ويمُنّ الله عليك بحُسن الخاتمة.
قيل لعطاء السليمي: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر على أن أبكي، فكان يبكي الليل والنهار وكانت دموعه سائلة على وجهه ... وما أحوجنا لهذه الأمنية، مع قسوة قلوبنا وجفاف عيوننا .. فاللهم ارزقنا البكاء من خشيتك وارزقنا عينًا من خشيتك مدرارة.
هذه كانت أحلام السلف الصالح .. وأنت ما حلمك الإيماني؟؟
تعالوا نضع أحلامنا الإيمانية لرمضان هذا العام .. عسى الله أن يُبلغنا بصدق نيتنا، ما لا تستطيع جوارحنا ولا أنفسنا أن تُبلغه ..
قال الحسن "تمنوا وتمنوا فلما فاتهم جدوا"، أي إن الإنسان يتمنى ولكن لا يستطيع أن يُحقق أمنيته إلا بالاجتهاد .. فيدفعك ذلك للجد والاجتهاد في العمل في رمضان ..
1) العتق من النار .. قال النبي "إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة" [صحيح الجامع (2169)] .. وقال "إن لله عند كل فطر عتقاء وذلك في كل ليلة" [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني] .. فلتُكثر من الدعاء بأن يعتقك الله من النيران وبالأخص عند الافطار.
2) المغفرة .. وأمامك ثلاث فرص لتحقيق هذه الأمنية، الصيام والقيام والعشر الأواخر من رمضان .. قال "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه]
3) أن تخرج من رمضان بجبال من الحسنات .. قال تعالى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] .. فعليك أن تجتهد أشد الاجتهاد في الليالي الوترية، ومن الممكن أن تُكتب لك ليلة القدر هذا العام بألف عام.
4) أن تخرج من رمضان بقلب سليم .. بلا غش أو غل أو حقد أو بغضاء ولا أي من هذه الآفات.
5) أن نُبلغ حُسن الخاتمة .. مع كثرة الفتن في زماننا التي تُضيق عليك الحياة، نُكثر من سؤال الله حُسن الخاتمة .. فاللهم إن أردت بقومٍ فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين.
6) أن ألقى ربي بعمل فذ كأعمال السلف .. أعمل بعملهم من حبي لهم، والمرء مع من أحب .. قال سعيد بن المسيب: ماتركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين وكان الأسود يقوم حتى يخضر ويصفر وحج ثمانين حجة .. وقيل لعمرو بن هانيء: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا ما تخطيء الأصابع.
7) أن أكون أكثر حبًا لله .. أتمنى من كل قلبي أن أُبلغ منزلة المحبة عنده وأصير "حبيب الرحمن"،فسأتحبب له بأي شيء يحبه ..
قال رسول الله "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" [متفق عليه]، فتبدأ من الآن بالمداومة على عمل وإن كان قليلاً .. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال "الصلاة على وقتها" [متفق عليه]، فتهُب للصف الأول في الصلاة فور سماع النداء .. قال رسول الله "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" [متفق عليه]، فلا يُفارق هذا الذكر لسانك، بنية أن يُحبك الله عز وجل.
8) أن أكون أكثر شوقًا، أكثر إخلاصًا،أكثر توكلًا،أكثر صدقًا وإيماناً ..
فعليك أن تصُوم صيام مُحب .. أن تُصلى صلاة مُشتاق .. تقرأ قراءة مُحتسب مُتحبب .. تدعو دعاء مُستحي .. تتوب توبة تقية .. تجتهد اجتهادًا صادقًا .. تُداوي قلبك ببلسم الرضا .. تسجد وتقترب بما يُحِب، فتُحَب
تتصدق بِصدقة مُوقِن.
اللهم بَلِغنا مما يُرضيك آمالنا ..
اللهم بلغنا رمضان وارزقنا فيه حُسن الصيام وحُسن القيام وحُسن العمل الصالح الذي يُرضيك عنا يارحيم يا رحمن،،
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 06:03 م]ـ
جدول لختم القرآن كل ثلاث ايام بقراءة 10 اجزاء يوميا ....
http://www.m0dy.net/vb/uploaded/342390/m0dy.net-01249386010.jpg
جدول ختم القرآن في 5 ايام
http://www.m0dy.net/vb/uploaded/342390/m0dy.net-01249385595.jpg
جدول ختم القران في 10 ايام
http://www.m0dy.net/vb/uploaded/342390/m0dy.net-11249385595.jpg
وطبعا اذا قرأت 5 اجزاء تختم في 6 ايام ......
واذا قرأت جزاين من القرآن الكريم تختم في 15 يوم ....
http://www.m0dy.net/vb/uploaded/342390/m0dy.net-21249385595.jpg
__________________
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 06:45 م]ـ
الثوابت هي:
(1) الصلاة في أول الوقت، وللرجال الصلاة في المسجد يدرك تكبيرة الإحرام، لا محال للتفريط أبدا، ومع كل صلاة ادع الله أن يبلغك الصلاة التالية تدرك التكبيرة، حتى تنجح في اختبار 150 صلاة هذا العام بجدارة.
(2) 12 ركعة نوافل (ليبني لك بيت في الجنة).
(3) قراءة جزئين من القرآن.
(4) تدبر ولو آية، لتفتح أقفال قلبك " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "
(5) المحافظة الشديدة على أذكار الصباح والمساء.
(6) الاستغفار، والصلاة على النبي المختار، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير (الباقيات الصالحات) وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (بحد أدنى 100 مرة).
(7) الدعاء لا سيما قبل الفطر، ووقت السحر، وفي أوقات الإجابة المختلفة (ولو عشر دقائق في كل وقت)
(8) حفظ اللسان، بقلة الكلام " فمن صمت نجا " وهذا صيام اللسان، وحفظ العين عن الالتفات وهذا صيام العين، وحفظ القلب من التشتت والابتعاد عن سماع اللغو والرفث وهذا صيام الأذن والقلب، وهذا باب مجاهدة عظيم، فحاسب نفسك على الكلمة وعلى النظرة، وعلى الخاطرة، ليستقيم لك دينك.
(9) صدقة يومية ولو بربع جنيه، لابد من ذلك لأن الصدقة برهان الإيمام.
(10) تفطبير صائم، ولو بتمرة كل يوم.
(11) اشتر مصحفًا وأعطه لمن تتوسم فيه الخير ليقرأ فيه في رمضان ويختم فيه ختمة لتزيد رصيدك.
(12) لا تكتفٍ بصلاة القيام في المسجد، لابد من التهجد، فصلَّ وحدك أحيانا أو مع أهلك، أو في مسجد يتهجد فيه، واجتهد في ذلك.
(13) لابد من عمل دعوي تقوم به، من شراء شريط أو مطوية أو كتيب ونشره وتوزيعه، أو نشر مقال أو محاضرة على المنتديات، اسع في إيصال الخير للناس في وقت النداء (يا باغي الخير أقبل)
ـ[محمد أبو النصر]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 07:39 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكِ سيدتي
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 03:26 ص]ـ
جزاك الله خيرا(/)
وجدت سكوتي متجرا فلزمته
ـ[حمادي الموقت]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 01:29 ص]ـ
وجدت سكوتي متجرا فلزمته
جمعها و رتبها: حمادي الموقت
…. يقال: "إن الصمتَ أبلغ لغات الكلام ... "و "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، ... وقال أحد الصامتين: "إذا كان في مقدوري أن أتكلم، فليس في مقدور الصمت أن يزعج الذاكرة ... " قيل الكثير والكثير عن الصمت ... لكن الكثير منا يعاني منه ... فهل الصمت في المرء قوة أم ضعف؟؟
نُقل عن أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى أنه قال: "السكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال". ومما يستفاد من كلام الشيخ أن الصمت والكلام شيئان متلازمان ومتساويان في القيمة، فإذا سكتت في وقت السكوت كانت فيك خصلة من خصال الرجال، معناه أن الرجل ليس هو الذي يُكثر في الكلام ويُقلّ من الصمت، أو العكس، بل الرجل من أصاب الصواب حال نطقه، أو صمُت صمتا حال كلام غيره، دون إفراط ودون تفريط.
وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ – يوما - بلسانه وخاطبه قائلا:" يا لسان!! قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا ابن آدم من لسانه"". رواه الطبراني. ومن هذه الخطايا الكفر والكبائر. فالرجل يتكلم الكلمة من سخط الله لايُلقي لها بالا تهوي به في نار جهنم سبعين خريفا، ويتكلم الكلمة من رضى الله لايلقي لها بالا ترفعه الدرجات العلا.
ومن ثم على العاقل أن يفكر في قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (سورة ق) فإنّ من فكر في ذلك علم أنّ كل ما يتكلم به من الجد والهزل والغضب يسجله الملكان. فهل يسرُّ العاقل أن يرى في كتابه حين يُعرض عليه يوم القيامة هذه الكلمات الخبيثة؟ بل يسوؤه ذلك ويحزنه حين لا ينفع الندم. فليعتن بحفظ لسانه من الكلام مما قد يسوؤه إذا عُرِضَ عليه في الآخرة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصْل يحفظه من جلس إليه. وكان كثيرا ما يُعيد الكلام ثلاثا ليُعقل عنه، وكان إذا سلم يسلّم ثلاثا. وكان طويل السكوت لايتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان لايتكلم فيما لايعنيه، و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كره الشيء عُرف في وجهه، ولم يكن فاحشا و لا متفحشا، و لا صخابا. وكان جل ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجده". ص66 - 67 من كتاب زاد المعاد لابن القيم الجوزية، دار ابن حزم، ط1 1420 - 1999.
والشاهد في قول عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي المثال والنموذج للعالمين في كلامه وصمته. فلم يكن يتكلم إلا بما يفيد، كلاما بينا فصلا يحفظه من جلس إليه، ويعيده ثلاثا حتى يُعقل عنه. بل كان صلى الله عليه وسلم طويل الصمت لايتكلم أبدا في غير حاجة، أو في غير نفع، ويتكلم بجوامع الكلم وفيما يعنيه فقط.
فهذا الإمام الشافعي رحمة الله عليه يبرر سكوته ويجعل من الصمت تجارة رابحة تفوق وتعلو كل تجارة فيقول:
1. وجدت سكوتي متجرا فلزمته إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر
2. وما الصمت إلا في الرجال متاجر وتاجره يعلو على كل تاجر
إذا كان الصمت والسكوت بهذا المعنى؛ فإنه سيكون بخلافه إن وافقتَ هوى الصمت حين يتوجب عليك الكلام، أو توافق هوى اللسان حين يتوجب عليك الصمت. مما يعني أنه يُفترض بك – حينا – التكلم حال الرغبة في السكوت، ويفترض بك أيضا السكوت حال الرغبة في الكلام. فقط من باب الأثر القائل" مخالفة النفس طاعة". وبلغة أخرى، أقول تكلم حين تشتهي نفسك السكوت، واسكت حين تشتهي نفسك الكلام، كل ذلك مخافة أن يصيبك نوع من الغرور أو الرياء أو العُجب بما ستقول، أو الازدراء والاستهزاء والسخرية مما يُقال، ""وكبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"".
ومن حكم أبي العتاهية في السياق ذاته ما قوله:
1 - الصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه
2 - لاخير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيونه
3 - كل امرئ في نفسه أعلى وأشرف من قرينه
(يُتْبَعُ)
(/)
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دعا إلى هذا المعنى وغيره في حديث متفق عليه يقول فيه: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" رواه البخاري ومسلم. فقد علق الشافعي رحمة الله عليه على معنى الحديث قائلا: إنه إذا أراد (المرء) أن يتكلم فليفكر ... فإن ظهر أن لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر أن فيه ضرر أو شك أمسك عنه. والأعظم أن يكون الصمت في وقته من دلائل الإيمان. ف" من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه".
وقد سئل بعض الصامتين: "" لم لزمت السكوت؟ قال: لأني لم أندم على السكوت قط وقد ندمت على الكلام مرارا.
إن الدعوة إلى الصمت تأتي من باب الاحتراز وأخذ الحذر حتى لايوقع بك لسانك في المحظور، المحظور من الكلام و المحرم و البذيء ... إلا أن تجاهد بكلمة حق، فهو عين الصواب والأوْلَى.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" العافية في عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله عز وجل"". نعم إلا في ذكر الله، وفي قول الحق. ومن سكت عن قول الحق فهو شيطان أخرس، و" من فقه الرجل قلة كلامه فيما لايعنيه"". فجرح اللسان كجرح اليد.
ومما قاله الناظم في هذا الشأن مشيدا بفلاح الصامت:
1 - قد أفلح الساكت الصموت كلامه قد يعد قوت
2 - ما كل نطق له جواب جواب ما يكره السكوت
3 - واعجبا لامرئ ظلوم مستيقن أنه يموت
وإذا كان الصمت بالمعنى الذي أدرجته آنفا؛ فإن نعمته لاتنتهي بالتعود على قول الخير، وعدم الندم ... إنما نعمته قد تصل إلى حد أن تنال رضى الرحمان فيكون سببا يُدخلك إلى جنانه، أو كلاما تقوله يخرجك من منها فيهوي بك في نار جهنم والعياذ بالله. فقد روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لاتشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون. ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سَنامه؟ قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال كُف عليك هذا قلت يانبي الله!! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال تكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟؟ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
الشاهد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: كف عليك هذا. إذ إطلاق العنان للسان سيمشي – لامحالة - بين الناس بالغيبة والنميمة وشهادة الزور وربما يقع في أعراضهم ويسترسل في المعاصي وإيذاء الآخرين في الوقت الذي يُفترض فيه الحث على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي كل ما يعود على الناس بالنفع والخير" وقولوا للناس حسنا".
وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أنشد قائلا:
1 - يموت الفتى من عثرة من لسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
2 - فعثرته من فِيه ترمي برأسه وعثرته بالرجل تبرى على مهل
وفي الختام أزف إلي وإليك هذه النصيحة من لسان ابن حِبَّان ناصحا: "يا ابن آدم أنصف لسانك من أذنيك واعلم إنما جعل لك لسان وأذنان لتسمع أكثر مما تقول".
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 02:20 ص]ـ
بارك الله فيك أخي حمادي الموقت على هذا الجمع الطيب
وما من شيء هو أربح للمرء من الصمت
ورب كلمة قالت لصاحبها دعني
وما من عضو أحق بطول حبس من لسان
ما إن ندمت على سكوتي مرة .... ولقد ندمت على الكلام مرارا
بوركت أخي حمادي وكل عام وأنت بخير.
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 03:25 ص]ـ
بارك الله فيك
ـ[أبو سارة]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 09:41 ص]ـ
سلمت أناملك أخي حمادي على هذا الموضوع الماتع.
وفي هذا السياق يحضرني تعليق قرأته لأحد العلماء - أظنه النووي في الأذكار - على الحديث الذي ذكرتَه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت) بأن هذا الحديث دليل على أن الصمت هو الأصل فلا يكون الكلام إلا لضرورة.
دمت مسددا
ـ[حمادي الموقت]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 02:39 م]ـ
إخواني الفصحاء ولست بفصيح بينكم
طبتم وطاب سعيكم وممشاكم وتبوأتم من الفصاحة منزلة
وبعد
فأرجو أن أكون واحدا ممن يركب معكم سفينة الفصاحة، وليس بثقيل عليكم، أفيد وأستفيد
حتى إن لم أجد ما أقوله ارتكنت إلى الصمت الذي لطالما كان صديقا عزيزا، وعند البعض عليّ لوما وعتابا
مع تحيات: أبو ريحانة
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 09:22 م]ـ
1. وجدت سكوتي متجرا فلزمته إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر
الشافعي أفضل من أجاد في وصف الصمت
أبا سارة
سلمت أناملك أخي حمادي على هذا الموضوع الماتع.
وفي هذا السياق يحضرني تعليق قرأته لأحد العلماء - أظنه النووي في الأذكار - على الحديث الذي ذكرتَه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت) بأن هذا الحديث دليل على أن الصمت هو الأصل فلا يكون الكلام إلا لضرورة.
دمت مسددا
استنتاج رائع(/)
كلمة للشيخ ابن عثيمين عن صيام شهر رمضان
ـ[محب العلم]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 02:37 ص]ـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من محمد الصالح العثيمين (رحمه الله) إلى من يبلغه من عباد الله المؤمنين، سلك الله بنا وبهم طريق الهداية والصواب آمين.
فإنه بمناسبة استقبال شهر رمضان أقدم لإخواني هذه الكلمة راجياً من الله تعالى أن يجعل عملنا جميعاً خالصاً لوجهه، وتابعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول مستعينين بالله:
1 ـ لا شك أن من نعمة الله على عباده أن منَّ عليهم بهذا الشهر الكريم، الذي جعله موسماً للخيرات، ومغتنماً لاكتساب الأعمال الصالحات، وأنعم عليهم فيه بنعم سابقة، ونعم مستمرة دائمة، ففي هذا الشهر أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
وفي هذا الشهر حصلت غزوة بدر الكبرى التي أعز الله فيها الإسلام وأهله، وخذل فيها الشرك وأهله، وسمي يومها يوم الفرقان.
وفي هذا الشهر حصل الفتح الأعظم الذي طهر الله فيه البيت الحرام من الأوثان، ودخل الناس بعده في دين الله أفواجاً.
وفي هذا الشهر أعطيت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزيين الله كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله".
ومن صام هذا الشهر إيماناً بالله واحتساباً لما عند الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
2 ـ هذه التراويح التي نصليها من قيام رمضان وفي قيام رمضان إيماناً واحتساباً ما سبق من الأجر، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، وهذه نعمة كبرى لا ينبغي للمؤمن أن يتركها، بل ينبغي له أن يثابر عليها، ويحافظ على التراويح مع الإمام من أولها إلى آخرها، وكثير من الناس يضيعون قيامهم مع الإمام بالتجول في المساجد، فيصلون في هذا المسجد تسليمة أو تسليمتين، وفي المسجد الثاني كذلك، فيفوتهم القيام مع الإمام حتى ينصرف، ويحرمون أنفسهم هذا الخير الكثير وهو قيام الليلة، والأولى للإنسان إذا كان يحب أن يتخير من المساجد أن يذهب إلى المسجد الذي يريد من أول الأمر، ويبقى فيه حتى ينصرف الإمام.
3 ـ كثير من إخواننا أئمة المساجد يسرعون في التراويح في الركوع والسجود إسراعاً عظيماً، يخل بالصلاة ويشق على الضعفاء من المأمومين، وربما أسرع بعضهم إسراعاً يخل بالطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة، ولا صلاة بلا طمأنينة، وإذا لم يخل بالطمأنينة فإنه يخل بمتابعة المأمومين، إذ لا يمكنهم المتابعة التامة مع هذه السرعة، وقد قال أهل العلم رحمهم الله: "إنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن"، فكيف وهي قد تمنعه فعل ما يجب؟!
فنصيحتي لهؤلاء الأئمة أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفيمن خلفهم من المسلمين، وأن يؤدوا تراويحهم بطمأنينة، وأن يعلموا أنهم في صلاتهم بين يدي مولاهم يتقربون إليه بتلاوة كلامه، وتكبيره وتعظيمه والثناء عليه ودعائه بما يحبون من خيري الدنيا والا?خرة، وهم على خير إذا زاد الوقت عليهم ربع ساعة أو نحوها، والأمر يسير ولله الحمد.
4 ـ أوجب الله الصيام أداء على كل مسلم مكلف قادر مقيم، فأما الصغير الذي لم يبلغ فإن الصيام لا يجب عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة"، وذكر: "الصبي حتى يبلغ"، ولكن يجب على وليه أن يأمره بالصيام إذا بلغ حدًّا يطيق الصيام فيه، لأن ذلك من تأديبه وتمرينه على فعل أركان الإسلام، ونرى بعض الناس ربما يترك أولاده فلا يأمرهم بصلاة ولا صوم وهذا غلط، فإنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله تبارك وتعالى، وهم يزعمون أنهم لا يُصَوِّمون أولادهم شفقة عليهم ورحمة بهم، والحقيقة أن الشفيق على أولاده والراحم لهم هو من يمرنهم على خصال الخير وفعل
(يُتْبَعُ)
(/)
البر، لا من يترك تأديبهم وتربيتهم تربية نافعة.
وأما المجنون ومن زال عقله بهرم أو نحوه فإنهم لا صيام عليهم ولا إطعام لعدم العقل عندهم.
وأما العاجز عن الصيام فإن كان يرجو زوال عجزه كالمريض الذي يرجو الشفاء، فإنه ينتظر حتى يعافيه الله، ثم يقضي ما فاته، لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وأما العاجز الذي لا يرجو زوال عجزه: كالكبير والمريض الا?يس من البرء، فهذا ليس عليه صيام، وإنما الواجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، وهو بالخيار: إن شاء صنع طعاماً ودعا إليه فقراء بعدد أيام الشهر، وإن شاء أعطى كل فقير خمس صاع من البر.
والمرأة الحائض والنفساء لا تصوم، وتقضي بعد الطهر بعدد الأيام التي أفطرت.
وإذا حصل الحيض أو النفاس في أثناء يوم الصيام بطل الصوم، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم الذي حدث فيه الحيض أو النفاس، كما أنه إذا انقطع الدم في أثناء نهار رمضان وجب عليها أن تمسك بقية يومها، ولا تحتسب به، بل تقضي بدله.
والمسافر مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، إلا أن يشق عليه الصيام، فإنه يفطر، ويكره له الصيام، لأن في ذلك رغبة عن رخصة الرحيم الكريم وزهداً فيها، وإن كان الصيام لا يشق عليه ولا يفوت حاجته، فالصوم أفضل لما في الصحيحين من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة.
5 ـ المفطرات هي:1 ـ الأكل والشرب: من أي نوع كان المأكول أو المشروب، وبمعنى الأكل والشرب الحقن، أي الإبر التي يكون فيها تغذية للجسم أو تكسبه ما يكسبه الطعام من القوة، فهذه تفطر، ولا يجوز استعمالها للمريض، إلا حيث يجوز له الفطر، مثل أن يضطر إلى استعمالها نهاراً، فهذا يجوز له استعمالها ويفطر، ويقضي بدل الأيام التي استعملها فيها.
وأما الإبر التي ليست كذلك مثل إبر البنسلين فهذه لا تفطر، لأنها ليست طعاماً ولا شراباً، لا لفظاً ولا معنى لكن على كل حال الأحوط للإنسان تركها في الصيام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
2 ـ الجماع: وهو من كبائر الذنوب للصائم في نهار رمضان، وفيه الكفارة المغلظة: عتق رقبة، فإن لم يجد رقبة بأن كان ليس له مال، أو له مال ولكن لا يوجد رقيق بوجه شرعي، فإنه يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع وجب عليه إطعام ستين مسكيناً (وتقدم كيفية الإطعام).
3 ـ الإنزال: أي إنزال المني بفعل الصائم، مثل أن يقبّل زوجته فيمني فإنه يفسد صومه، وأما إذا كان الإنزال بغير فعله مثل أن يحتلم فينزل: فإن صيامه لا يبطل؛ لأن ذلك بغير اختياره، ويحرم على الصائم أن يباشر مباشرة يخشى من فساد صومه بها، فلا يجوز أن يقبِّل زوجته أو يلمسها مثلاً، إذا كان يظن أن ينزل منيه بسبب ذلك، لأن فيه تعريضاً لصيامه للفساد.
4 ـ الحجامة: فيفطر الحاجم والمحجوم لحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" (رواه الترمذي وأحمد وقال: هو أصح شيء في هذا الباب، وصححه ابن حبان والحاكم)، وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس مثله. فأما خروج الدم بالجرح، أو قلع الضرس، أو الرعاف أو نحوه فإنه لا يفطر الصائم.
5 ـ القيء: إذا استقاء فقاء، فأما إن غلبه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر.
ولا يفطر الصائم إن فعل شيئاً من هذه المفطرات جاهلاً أو ناسياً؛ قول لله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـ?كِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}، وقال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـ?فِرِينَ نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـ?فِرِينَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وقال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه"، وثبت في صحيح البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء، ومثل ذلك إذا أكل يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه طالع، فصومه صحيح، ولا قضاء عليه.
ويجوز للصائم أن يتطيب بما شاء من الطيب من بخور أو غيره، ولا يفطر بذلك.
ويجوز للصائم أيضاً أن يداوي عينه بما شاء من قطور أو ذرور، ولا يفطر بذلك، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد التاسع عشر - كتاب الصيام
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 03:21 ص]ـ
جزاك الله خيرا
وجعلة في موازين حسناتك ..(/)
أبارك لكم
ـ[قصي علي الدليمي]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 10:02 ص]ـ
:::
أباركم لكم شهر الصيام، وادعو لكم بسعادة الأيام
قصي علي الدليمي
ـ[تيما]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 10:18 ص]ـ
مبارك علينا وعليكم أخي قصي
تقبل الله منا ومنكم الطاعات
وشكرا لك
.
.
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 09:23 م]ـ
تقبل الله منا ومنكم
أهلا بقصي
كيف أحوالك؟
لم نعد نسمعك في هتاف
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:23 ص]ـ
مبارك الشهر الكريم، ويسر الله لكم حسن القيام والصيام.(/)
العادات الغذائية الصحية والسيئة في رمضان
ـ[بنتصحراء]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 11:29 ص]ـ
التبكير بالإفطار يعد من العادات الصحيحة طبقا للسنة النبوية، وتأخير السحور يتيح الفرصة لإتمام عملية الهضم الكامل لطعام الإفطار ويتيح الفرصة لتقليل وجبة الإفطار في اليوم التاليمن أهم فوائد الصيام أنه يعمل على تجديد وتنشيط قدرة الجسم على الاستجابة للتغيرات الفسيولوجية المختلفة خلال هذا الشهر الكريم، كما أن فترة الصيام يمكن أن تساعد في إنقاص الوزن الزائد إذا راعى الشخص الصائم خلالها اتباع عادات غذائية صحيحة والابتعاد عن العادات السيئة التي تكون السبب الرئيسي في سمنة 99 % من الشرقيين، خاصة في رمضان.
لذا، نقدم إليك أفضل العادات الغذائية الصحيحة التي يجب اتباعها خلال شهر رمضان للحفاظ على رشاقة الجسم ولياقته أو على الأقل ضبطه دون زيادة أو نقصان، بالإضافة إلى العادات السيئة التي يجب الابتعاد عنها نهائيا. ونشير أولا إلي العادات الغذائية الصحية، وهي كما يلي:
تناول الطعام بهدوء ومضغه جيدا
يعد تناول الطعام بهدوء ومضغه جيدا لتسهيل عملية الهضم من العادات الجيدة التي يجب أن يحرص عليها الكثيرون في شهر رمضان. فمضغ الطعام جيدا يعد وسيلة من وسائل التغذية الصحيحة التي يمكن بها إنقاص الوزن الزائد دون الحاجة لنظم الريجيم القاسية بل وتقسيم وجبتي الإفطار والسحور إلى أربع وجبات حتى يتم الهضم الجيد للطعام وضمان عدم تركيزه في شكل شحوم زائدة للجسم.
علما إن التبكير بالإفطار يعد من العادات الصحيحة طبقا للسنة النبوية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتشير الدكتورة سمر إلى أن تأخير السحور يتيح الفرصة لإتمام عملية الهضم الكامل لطعام الإفطار ويتيح الفرصة لتقليل وجبة الإفطار في اليوم التالي.
ممارسة الرياضة بعد الإفطار
ومن جانبه بشير الدكتور حمدي سامي ناصر إلى أنه من ضمن العادات الصحيحة خلال شهر رمضان ممارسة الرياضة بعد الإفطار بساعة وعدم النوم مباشرة ذلك لأن النوم مباشرة يتسبب في تحويل الطعام الزائد عن حاجة الجسم إلى دهون. لذا يجب ممارسة الرياضة لحرق مزيد من السعرات الحرارية الزائدة عن حاجة الجسم والمساعدة في إنقاص الوزن.
الصلاة بعد تناول التمر وقبل إكمال الإفطار
ويقول الدكتور حمدي إن من العادات الصحيحة، خاصة خلال شهر رمضان الصلاة بعد تناول التمر وقبل إكمال الإفطار، مشيرا إلى أن فترة الصلاة التي تعقب شرب العصير أو التمر مدتها خمس دقائق وهذه الفترة كافية للمعدة والأمعاء الخاوية لامتصاص الماء والسكر، بحيث تسمح بارتفاع نسبة السكر في الدم وتمد الجسم بكمية معقولة من الماء والتي تروى الظمأ وتزيل الشعور بالجوع.
وفى المقابل يشير الدكتور رفعت قمر، استشاري التغذية بالقصر العيني، أنه بجانب العادات الغذائية الصحيحة في رمضان هناك مجموعة من العادات الغذائية السيئة التي يجب الابتعاد عنها نهائيا ولعل أهمها ما يلي:
تناول كميات كبيرة من الأطعمة
تناول كميات كبيرة من الأطعمة الشهية بمجرد أن ينطلق مدفع الإفطار وغالباً ما تكون هذه الأطعمة مكونة من السكريات والكربوهيدرات والدهون. وفى أقل من ساعة تكون المعدة قد امتلأت بعد فترة صيام تام مع الجوع لفترة لا تقل عن "13 إلى 17 ساعة" فيؤدى ذلك إلى ارتخاء في عضلات المعدة وتصاب المعدة بالتلبك. وهذا أمر طبيعي لأن المواد الدهنية عسرة الهضم والكربوهيدرات تملأ المعدة، خاصة إذا ما أضيف إليها ماء فيتبع ذلك انتفاخ البطن وشعور الشخص بضيق في التنفس بعد حوالي ساعة من الأكل.
تناول العرقسوس بكثرة
تناول العرقسوس بكثرة يعد أيضاً من العادات الغذائية السيئة التي يقوم باتباعها الكثيرون، فنجد أن العرقسوس ذو سعرات حرارية قليلة لكنه يؤدى في حالة الإكثار من تناوله إلى ارتفاع ضغط الدم.
شرب الشاي بعد الإفطار مباشرة
شرب الشاي بعد الإفطار مباشرة يعد من العادات الغذائية السيئة التي يتبعها الكثيرون. وتؤكد الدكتورة إيمان سلطان أن شرب الشاي بعد تناول وجبة الإفطار مباشرة يؤدى إلى امتصاص الكالسيوم والحديد ومن ثم يصبح ما تناولناه من طعام غير ذي جدوى، لذا ننصح بتناول الشاي بعد الإفطار بساعة على الأقل.
التهام الطعام بشراهة
التهام الطعام بشراهة بعد الجوع الشديد يؤدى إلى زيادة كمية الأكل عن الحاجة المطلوبة.
تناول الحلويات عقب الإفطار مباشر
الإكثار من الحلويات وتناولها عقب الإفطار مباشرة يعد من العادات الغذائية السيئة التي ينتج عنها ارتفاع في مستوى السكر في الدم، وحدوث ارتفاع في الضغط بجانب حدوث السمنة. لذا ينصح الخبراء في حالة الرغبة في تناول الحلويات بتناولها فى يومين متباعدين كأن يكون يوم في أول الأسبوع ويوم في آخره ويفضل أن تكون قطعة صغيرة جداً في حجم علبة الكبريت، يتم تناولها بعد الإفطار بثلاث ساعات بعد أن يتم هضم طعام الإفطار جيدا.
الإكثار من البروتينيات الحيوانية
الإكثار من البروتينيات الحيوانية كاللحوم والدواجن يؤدى إلى عسر الهضم وزيادة التعرض للإمساك ويزيد من أعراض مرض النقرس بالنسبة للمصابين به.
للأمانة هذا الموضوع منقول من موقع أسنانكا
....
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أم زينب]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:02 م]ـ
شكرا لك
ومتّعك الله بالصحة في رمضان وبعد رمضان
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:13 م]ـ
جزيت خيرا(/)
أيهم قلبك
ـ[رقية القلب]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 01:52 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده، و على آله و صحبه وسلم وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو خالق النفس وملهمها التقوى والفجور فمن اختار طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم عما سواهما فقد زكى نفسه وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ومن زكى نفسه فقد أفلح في الدنيا والآخرة فتكون نفسه راضية في الدنيا ومطمئنة عند الموت ومرضية في الآخرة فقد قال الله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر 27:29
وأما من اختار لنفسه الفجور وذلك بمعصية الله ورسوله فقد خاب ودسَّ نفسه أي أهلكها وخسر دنياه و آخرته فقد قال تعالى " ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" الشمس 7:10
وقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا " مسلم وصححه الألباني 1286في الصحيحة.
ولكن ما أنواع القلوب؟
القلب الحي (السليم) ...
و هو قلب ينبض بالإيمان، قد أشرقت فيه أنوار اليقين و الإخلاص، و امتلأ بمحبة الله و محبة ما يحبه و يرضاه، و هو قلب المؤمن.
القلب الميت ...
و هو قلب مظلم موحش خال من الإيمان ... كالبيت الخرب تسكنه الشياطين، قد امتلأ بالكفر و الفسوق و العصيان، و هو قلب الكافر.
القلب المنكوس ...
و هو قلب فارغ كالإناء المنكوس مهما وضعت فيه من شيء لا يستقر بداخله، لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا، إلا من أشرب هواه، و هو قلب المنافق.
نتائج مرض القلوب وموتها
أن يقفل عليها ...
كما قال تعالى: (أم على قلوب أقفالها) محمد 24
الران ..
قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين 14
التغليف ..
كما قال تعالى: (و قالوا قلوبنا غلف) البقرة 88
عدم الفقه ..
كما قال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) الأعراف 179
الطبع و الزيغ ...
كما قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5
العمى ...
قال تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج 46
مفسدات القلوب ..
كثرة الخلطة
الشبع
كثرة النوم
التعلق بغير الله
التمني
حياة القلوب لها أعمال و لها صفات و أحوال
و الأعمال القلبية كثيرة جدا منها:
الوجل ..
كما في قوله تعالى (و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) المؤمنون 60
المحبة ...
المؤمنون هم الذين يحبون الله و رسوله صلى الله عليه وسلم، و يحبون المؤمنين و الصالحين، و كل ما من شأنه أن يقربهم إلى الله عز وجل، و إلى محبته و رضاه.
يقول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله و الذين أمنوا أشد حبا لله) البقرة 165
الإخلاص ...
و به يكون الفارق بين المؤمنين و المنافقين، قال تعالى: (و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة) البينة 5
الإخبات ..
الخضوع الكامل و المطلق، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله فهو كما قال الله تعالى: (فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما) النساء 65
التسليم ...
و هو الذي لا يخطر على البال معه أدنى اعتراض، قال الله تعالى: (ويسلموا تسليما) النساء 65
الإنابة ...
أن يعود الإنسان و يرجع إلى الله رجوعا كليا متجردا خالصا لله، فيرجع عن كل ما لديه من أهواء، و شهوات، و دوافع، و نوازغ، و يجعل همه هو رضا الله.
قال تعالى: (و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له) الزمر 54
الخشية ...
مدح الله و أثنى على الذين يخشونه، كما قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر 28، و لا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله.
الخشوع ..
أن يكون القلب خاضعا و ذليلا للعزيز الجبار المتكبر الذي خلقه فسواه فعدله، و افترض عليه ما افترض، و شرع له ما شرع، و تعبده بما تعبد.
التوكل ...
التوكل يدخل في الإستعانة، و الله بين في سورة الفاتحة، يقول الله تعالى: (إياك نعبد و إياك نستعين) الفاتحة 5، و قال الله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به و عليه توكلنا) الملك 29
و صلى الله على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين ...
ـ[أبو طارق]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 12:29 ص]ـ
جزاكِ الله خيرًا على موضوعكِ الطيب
ونسأل الله أن نكون من ذوي القلوب السليمة يوم نلقاه(/)
وظائف رمضان
ـ[أبو سهيل]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 03:41 م]ـ
لطائف المعارف
فيما لمواسم العام من الوظائف
تأليف: الإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي (736 - 795هـ)
وظائف شهر رمضان المعظم
وفيه مجالس ـ المجلس الأول: في فضل الصيام
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)
وفي رواية: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي)
وفي رواية للبخاري: (لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا الذي أجزي به) وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه: (كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به).
فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ولهذا ورد عن النبي r: ( أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر) وفي حديث آخر عنه rقال: (الصوم نصف الصبر) خرجه الترمذي.
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وفي حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان: (وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة) وفي الطبراني عن ابن عمر مرفوعا: (الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز وجل) وروي مرسلا وهو أصح.
واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:
منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي rقال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) وفي رواية: (فإنه أفضل) وكذلك روي: (أن الصيام يضاعف بالحرم). وفي سنن ابن ماجة بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: (من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه) وذكر له ثوابا كثيرا.
ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان: (من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه) وفي الترمذي عن أنس: سئل النبي rأي الصدقة أفضل؟ قال: (صدقة في رمضان) وفي الصحيحين عن النبي rقال: (عمرة في رمضان تعدل بحجة) أو قال: (حجة معي) وورد في حديث آخر: (أن عمل الصائم مضاعف) وذكر أبوبكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره. قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها، وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر، منها:
شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم، وأعطوا كفلين من الأجر.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما على الرواية الثانية: فاستثناء الصيام من بين الأعمال، يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده وأضاف إليه، وسيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى.
وأما على الرواية الثالثة: فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في معنى ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة) خرجه البيهقي في شعب الإيمان وغيره. وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله عز وجل، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام، بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر، فإنه روي: (أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة) قاله سعيد بن جبير وغيره، وفيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا، فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها، بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها.
وأما قوله: (فإنه لي) فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال، وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم، وذكروا فيه وجوها كثيرة، ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان:
أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول، فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع، وكان ابن الزبير يفعله في صلاته وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فقد هذه الشهوات، وتشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله. ولهذا روي: (أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف) وقد كان رسول الله rيصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه، كما قال أبوالدرداء: كنا مع النبي rفي رمضان في سفر، وأحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله rوعبد الله بن رواحة. وفي الموطأ: إنه r كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أوالحر، فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله. كان ذلك دليلا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفا من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك: (إنه إنما ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي) قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه، فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله عليه، وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب، ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل، لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره، فتصير لذته فيما يرضى مولاه، وإن كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكره مولاه، وإن كان موافقا لهواه، وإذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق: كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق وسفك
(يُتْبَعُ)
(/)
الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال وفي كل زمان ومكان، فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب، ولهذا جعل النبي rمن علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار.
وقال يوسف عليه السلام: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه).
سئل ذوالنون المصري: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمرّ عندك من الصبر. وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك. وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان، ومن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله منه، وينفر منه وإن كان ملائما للنفوس. كما قيل:
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني
وقال آخر:
عذابه فيك عذاب ... وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب
الوجه الثاني: إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة. وقيل: إنه ليس فيه رياء. كذا قاله الإمام أحمد وغيره. وفيه حديث مرفوع مرسل، وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره، وقد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه دل على صحة إيمانه، والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة. وقال بعضهم: لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات. المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.
وقوله: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي): فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأن الصائم تقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتعميه، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، ويخليه للذكر والفكر.
ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي r ( الصوم وجاء) لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه، بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي r: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) خرجه البخاري وفي حديث آخر: (ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث). قال الحافظ أبوموسى المديني: على شرط مسلم. قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وقال النبي r: ( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) وسر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به. هذا هو قول جمهور العلماء.
وفي مسند الإمام أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد النبي r فكادتا أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي r فأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، فقال النبي r: ( إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس).
ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان، بخلاف الطعام والشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات.
يتابع ...
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبو عمار]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 04:11 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهجزاك الله خيرا وبارك الله فيك
نسأل الله العظيم أن يعيننا على صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.(/)
مسابقات نتسلّى وننتفع بها في صيامنا
ـ[أم زينب]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:14 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ما رأيكم أن تشاركوني في الإجابة عن هذه الأسئلة؟
1. ميتة يجوز أكلها دون اضطرار ولا إكراه؟
2. عبادة إذا فعلتها في وقت لم يفعلها في الوقت نفسه أحد على وجه الأرض غيرك، فإذا انتهيتَ من فعلها صحَّ أن يفعلَها شخص آخر بعدك، فإذا فعلها هو أيضاً لم يفعلها أحد غيره على وجه الأرض حتى ينتهي منها .. وهكذا. فما هي؟
3. شيء طاهر يجوز أكله وإهداؤه ولا يجوز بيعه؟
4. طائر يُنهى عن قتله في الحل والحرم. ما هو؟
5. ثلاثة رجال مسلمين ماتوا، فكان حكم الأول أن لا يغسل ولا يصلى عليه، أما الثاني فيصلي عليه ولا يغسل، والثالث يغسل ويصلى عليه؟
6. ما هي السور التي تبدأ بالحمد؟
7. ما هي السور التي تبدأ بـ قُل؟
8. ما هي الآيات التسع التي أُيد بها موسى عليه السلام؟
9. ما هي الآية التي جمعت بين أمرين ونهيين وبشارتين؟
10. من هي المرأة التي أُوحي إليها، وما ذُكر أنها من الصدّيقات؟
11. رتّب الكلمات التالية الدالّة على درجات النوم: الإغفاء - الهجوع - الرقاد - الوسن - النعاس
12. من أخرج الحديث التالي: "إذا دخل رمضان فُتّحت أبواب الجنّة، وغُلّقت أبواب جهنّم، وسلسلت الشياطين"؟
13. ما معنى الأسماء التالية: رامة - أروى - أُملودة - خديجة - شيماء
14. سمكة طول رأسها (5) سم وطول ذيلها يساوي طول رأسها مضافًا إليه نصف طول بدنها، وكان طول بدنها يساوي طول رأسها زائد طول ذيلها، فما هو الطول الكلّي للسمكة؟
15. من هو: غسيل الملائكة - أمير الشعراء - العُمَران - بنت الشاطئ -ذو البجادين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ـ[عربي356]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:22 م]ـ
إجابتي على أول سؤال: (الجراد).
ـ[أنوار]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 07:46 م]ـ
فكرة رائعة أم زينب .. وكل عام وأنتِ بخير ..
وإليكِ محاولة ..
بسم الله الرحمن الرحيم
ما رأيكم أن تشاركوني في الإجابة عن هذه الأسئلة؟
1. ميتة يجوز أكلها دون اضطرار ولا إكراه؟
طعام البحر .. كـ السمك
2. عبادة إذا فعلتها في وقت لم يفعلها في الوقت نفسه أحد على وجه الأرض غيرك، فإذا انتهيتَ من فعلها صحَّ أن يفعلَها شخص آخر بعدك، فإذا فعلها هو أيضاً لم يفعلها أحد غيره على وجه الأرض حتى ينتهي منها .. وهكذا. فما هي؟
التسليم على الحجر الأسود ..
8. ما هي الآيات التسع التي أُيد بها موسى عليه السلام؟
آيات موسى التسع هي:
يده و العصى و السنين و نقص الثمرات و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم ..
جزاكِ الله خيراً أختي الكريمة ..
ـ[أم زينب]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 09:02 م]ـ
بارك الله فيك أختي أنوار إجاباتك كلها صحيحة
ويُضاف إلى إجابتك الأولى طبعًا (الجراد) كما ذكر الأخ عربي356 جزاه الله خيرا
لنتابع .....
ـ[أنوار]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 04:48 ص]ـ
6. ما هي السور التي تبدأ بالحمد؟
سورة الفاتحة .. الأنعام .. الكهف .. سبأ .. فاطر ..
والله أعلم
7. ما هي السور التي تبدأ بـ قُل؟
سورة الجن .. الكافرون .. الإخلاص .. الفلق .. الناس ..
9. ما هي الآية التي جمعت بين أمرين ونهيين وبشارتين؟
قوله تعالى: " و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عيه فألقيه في اليم و لا تخافي و لا تحزني إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين "
جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين
فالأمران هما: " أرضعيه، و ألقيه في اليم "
و النهيان هما " لا تخافي "، و " لا تحزني ".
و الخبران هما " أوحينا " و " خفت "
و البشارتان هما " أنا رادوه إليك " و " جاعلوه من المرسلين "
والله أعلم ..
ـ[أم زينب]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 01:37 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[نوراليقين]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 01:57 م]ـ
10. من هي المرأة التي أُوحي إليها، وما ذُكر أنها من الصدّيقات؟
مريم -رضي الله عنها-
12. من أخرج الحديث التالي: "إذا دخل رمضان فُتّحت أبواب الجنّة، وغُلّقت أبواب جهنّم، وسلسلت الشياطين"؟
رواه مسلم
15.امير الشعراء
امرؤ القيس
والله اعلم
بارك الله فيك اختي على الاسئلة
ـ[أم زينب]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 02:18 م]ـ
جيد أختي نور اليقين
12. الحديث رواه الشيخان والإمام أحمد في مسنده (على اختلاف في اللفظ).
ـ[أنوار]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 04:50 ص]ـ
أختي الكريمة أم زينب ..
10. من هي المرأة التي أُوحي إليها، وما ذُكر أنها من الصدّيقات؟
مريم -رضي الله عنها-
ألم تكن مريم من الصديقات " وأمه صديقة "
أظنها أم موسى .. " وأوحينا إلى أم موسى أن اقذفيه "
15.امير الشعراء
امرؤ القيس
أحمد شوقي
ـ[أم زينب]ــــــــ[01 - 09 - 2009, 05:46 ص]ـ
شكرا على تصويباتك ..
أنرت المنتدى بأنوارك ... ادعي لي بتنوير قلبي بالقرآن ...(/)
طرائف رمضانية
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 08:26 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
كل عام وأنتم بخير ..
أنعم به من صيام!!
الإنسان على ما جُبل عليه، وهذا ما حدث فعلا لأحد الشباب، حيث قرّر أن يصوم يوماً تطوّعاً في الصيف، فأمسك عن الطعام والشراب بطبيعة الحال، وما لبث أن غابت قضية الصيام عن ذهنه، فلما أتى وقت الغداء تناول وجبة دسمة من الأرز واللحم وغير ذلك من أطايب الطعام، كل ذلك وهو ناسٍ أنّه صائم، بل إنه أتبع طعامه بالكثير من الفواكه الطازجة، وبعد انتهائه من غدائه الدسم تذكّر أنه صائم، ثم ذهب إلى صلاة العصر، ونسي مرة أخرى أنه صائم، فشرب كوبين من الشاي الثقيل، ثم تذكر مرة أخرى أنه صائم، ولا يزال هذا الشاب يتساءل حتى يومنا هذا: يا ترى، هل صيامي صحيح؟!.
خوفاً من الشايب!!
في أحد المساجد، كان هناك رجل كبير في السن له مكانة عند أهل الحيّ، وقد تميّز بشخصيةٍ كاسحةٍ لا يقف أمامها أحد، لذا لم يكن مؤذن المسجد يستطيع أن يقيم الصلاة قبل أن يحضر ذلك الرجل ويأذن له بإقامة الصلاة، حتى كان ذلك اليوم حين تأخّر الرجل عن الحضور إلى الصلاة، فانتظره الناس كثيرا دون أن يأتي، فما كان من المؤذن إلا أن أقام الصلاة وصلّى بالناس، وبعد الانتهاء من الصلاة حضر ذلك الرجل متوكأً على عصاه وهو يتميّز من الغيظ ويقول للمؤذن بصوت يتقاطر غضباً: إذا فقد تجرّأتَ على إقامة الصلاة وأنا غير موجود، أليس كذلك؟. فارتعدت فرائص المؤذن المسكين وغابت الدماء من وجهه هلعاً، وقال: لا لا، إننا لم نصلّ بعد ... الله أكبر الله أكبر ..... وشرع في إقامة الصلاة مرّة أخرى!!.
الشيطان في المسجد
كان أحد الإئمة يقيم الصفوف للصلاة، والمعلوم من حال كبار السن وجود بعض التهاون في سد الفرجات في الصف – إلا من رحم الله -، فطلب منهم الإمام المرة تلو الأخرى أن يسدّوا الفرجة في الصف وألا يدعوا فرجةً للشيطان، ولكنهم لم يحرّكوا ساكنا ً، فلما أكثر عليهم الإمام صرخ أحدهم غاضباً: إن كان الشيطان سيأتي في الفرجة فدعه يصلي معنا!، هذا شيء طيّب!!.
يا سعيد!!
تتميّز صلاة التهجّد بطول الركوع والسجود، كما أنها تُقام في آخر الليل الذي هو مظنّة الإرهاق والتعب لمن لم ينم جيّداً قبلها، وفي يوم كان أحد المصلين في صلاة التهجّد، ويبدو أن النعاس قد تمكّن منه في سجوده، وغاص في عالم الأحلام!، وبعد قليلٍ فوجيء الناس به وهو يصيح في سجوده: يا سعيد!!.
غزل عفيف!!
يقول زين القضاة السكندري في القطائف:
لله در قطائف محشوة ... من فستق دعت النواظر واليدا
شبهتها لما بدت في صحنها ... بحقاق عاج قد حشين زبرجدا
ويقول الشاعر سد الدين بن عربي في القطائف والكنافة:
وقطائف مقرونة بكنافة ... من فوقهن السكر المذرور
هاتيك تطربني بنظم رائق ... ويروقني من هذه المنثور
ويقول الشاعر الليبي عبد ربة الغاني في ذكر حلوى رمضان:
الليل فيك مؤرخ بضيائه****ضخب وزينات وعز مقام
هذي زلابية وتلك كنافة****وحلاوة من كل صنف شام
نور الله على عمر قبره:
مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المساجد في رمضان وفيها القناديل والناس يصلون التراويح، فقال: نوّر الله على عمر في قبره كما نوَّر علينا في مساجدنا.
من عجائب تعبير الرؤى
رأى رجل رؤيا بأنه يختم على أفواه الرجال والنساء وفروجهم، فسأل ابن سيرين أشهر المعبرين من التابعين عن ذلك، فقال له ابن سيرين: إنك مؤذن أذنت في رمضان قبل طلوع الفجر .. وكان كذلك.
بين الحجاج وأعرابي صائم
خرج الحجاج ذات يوم قائظ فأحضر له الغذاء فقال: اطلبوا من يتغذى معنا، فطلبوا، فلم يجدوا إلا أعرابيًّا، فأتوا به فدار بين الحجاج والأعرابي هذا الحوار:
الحجاج: هلم أيها الأعرابي لنتناول طعام الغذاء.
الأعرابي: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته.
الحجاج: من هو؟
الأعرابي: الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام فأنا صائم.
الحجاج: تصومُ في مثل هذا اليوم على حره.
الأعرابي: صمت ليوم أشد منه حرًا.
الحجاج: أفطر اليوم وصم غدًا.
الأعرابي: أوَ يضمن الأمير أن أعيش إلى الغد.
الحجاج: ليس ذلك إليَّ، فعلم ذلك عند الله.
الأعرابي: فكيف تسألني عاجلاً بآجل ليس إليه من سبيل.
الحجاج: إنه طعام طيب.
الأعرابي: والله ما طيبه خبازك وطباخك ولكن طيبته العافية.
الحجاج: بالله ما رأيت مثل هذا .. جزاك الله خيرًا أيها الأعرابي، وأمر له بجائزة.
البخلاء والصوم
دخل شاعر على رجل بخيل فامتقع وجه البخيل وظهر عليه القلق والاضطراب، ووضع في نفسه إن أكل الشاعر من طعامه فإنه سيهجوه .. غير أن الشاعر انتبه إلى ما أصاب الرجل فترفق بحاله ولم يطعم من طعامه .. ومضى عنه وهو يقول:
تغير إذ دخلت عليه حتى .. .. فطنت .. فقلت في عرض المقال
عليَّ اليوم نذر من صيام .. .. فاشرق وجهه مثل الهلال
ومن الأشعار الجميلة التي قيلت في ذم البخلاء الصائمين قول الشاعر:
أتيت عمرًا سحرًا .. .. فقال: إني صائمٌ
فقلت: إني قاعدٌ .. .. فقال: إني قائمٌ
فقلت: آتيك غدًا .. .. فقال: صومي دائمٌ
ومن ذلك ما قال أبو نواس يهجو الفضل قائلاً:
رأيت الفضل مكتئبًا .. .. يناغي الخبز والسمكا
فأسبل دمعة لما .. .. رآني قادمًا وبكى
فلما أن حلفت له .. .. بأني صائم ضحكا
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السراج]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 10:02 م]ـ
متميز أخي ناجي
أضحك الله سنك، والطرفة التي حملت عنوانها - الشيطان في المسجد - تظهر عفوية غريبة ..
ودعني أشارك بهذه الطرفة:
أهدى أحد الأدباء في شهر رمضان صديقاً له نوعاً من الحلوى قد فسد مذاقها لقدمها , وبعث معها بطاقة كتب فيها: إني اخترت لهذه الحلوى السكر المدائني والزعفران الأصفهاني , فأجابه صديقه بعد أن ذاق طعمها: والله ماأظن حلواك هذه صنعت إلا قبل أن تفتح المدائن وتبنى أصفهان.
ـ[رحمة]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 11:41 م]ـ
أضحك الله سنك أخي الكريم
طرائف جميله
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 02:53 م]ـ
ودعني أشارك بهذه الطرفة:
أهدى أحد الأدباء في شهر رمضان صديقاً له نوعاً من الحلوى قد فسد مذاقها لقدمها , وبعث معها بطاقة كتب فيها: إني اخترت لهذه الحلوى السكر المدائني والزعفران الأصفهاني , فأجابه صديقه بعد أن ذاق طعمها: والله ماأظن حلواك هذه صنعت إلا قبل أن تفتح المدائن وتبنى أصفهان.
جزيت خيراً أخى الحبيب السراج ...
أضحك الله سنك أخي الكريم
طرائف جميله
بوركتِ أختنا الكريمة.
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 03:09 م]ـ
تغير إذ دخلت عليه حتى .. .. فطنت .. فقلت في عرض المقال
عليَّ اليوم نذر من صيام .. .. فاشرق وجهه مثل الهلال
أضحك الله سنّك أخي ناجي و بارك فيك:):)(/)
دورة في مفطرات الصيام دراسة تحليلية مقارنة
ـ[عبد الرحمن الظاهري]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 04:51 ص]ـ
مع مطلع شهر رمضان المبارك لعام 1430هـ تنعقد أول دروس دورة: مفطرات الصيام، دراسة تحليلية مقارنة، بحسب قواعد الفقهاء، وتناول المعاصرين
للشيخ/ فؤاد يحيى هاشم
نائب المشرف العام لملتقى المذاهب الفقهية والدراسات العلمية
ونهيب بطلاب العلم المشاركة، وإثراء الدورة، علماً بأنها تنتهي على منتصف شهر رمضان
تابع الدورة على هذا الرابط
http://www.mmf-4.com/vb/showthread.php/-3485.html
ـ[عبد الرحمن الظاهري]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 09:31 م]ـ
يرفع ... ونرجو من الإخوة إثراء الدورة بالمداخلات والمشاركات .. وبارك الله فيكم.
ـ[عبد الرحمن الظاهري]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 04:19 م]ـ
يرفع ...(/)
لم وضعت الصلاة على أربعة أركان؟
ـ[خالد جوابرة]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 12:32 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
فرض الله تعالى الصلاة على اربعة اركان وهي (القيام والقعود والركوع والسجود) الجواب هو لان الله تعالى خلق اربعة اصناف وهي
1_ قائم مثل الاشجار
2_قاعد مثل الاحجار
3_راكع مثل الانعام
4_ ساجد مثل الهوام
فاذا اراد الانسان ان يوافق جميع خلق في احوالهم فعليه ان يشاكل (يشابه) كل واحد منهم و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ـ[طارق يسن الطاهر]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 02:16 م]ـ
بورك جهدك أخي
وكل عام وأنت بخير
ـ[راجي مغفرة ربه]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 02:47 م]ـ
بارك الله فيك يا خالد، وفتح عليك.
ولكن الكلام في تعليل أمور الشرع لا يكون إلا بدليل من كتاب أو سنة. لأنهما بوحي من الله، وقد نستحسن شيئا ونقول به فيكون قولا بغير علم.
وأركان الصلاة في اصطلاح الفقهاء أربعة عشر لا أربعة أما ما ذكرت فربما صدقت عليها تسمية أوضاع لا أركان.
بارك الله فيك وزادك فقها في الدين.
ـ[أبو طارق]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 04:54 م]ـ
بارك الله فيك يا خالد، وفتح عليك.
ولكن الكلام في تعليل أمور الشرع لا يكون إلا بدليل من كتاب أو سنة. لأنهما بوحي من الله، وقد نستحسن شيئا ونقول به فيكون قولا بغير علم.
وأركان الصلاة في اصطلاح الفقهاء أربعة عشر لا أربعة أما ما ذكرت فربما صدقت عليها تسمية أوضاع لا أركان.
بارك الله فيك وزادك فقها في الدين.
أحسنت
ـ[حمادي الموقت]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 06:06 م]ـ
إضافة لطيفة
ما رأيكم إخوتي، لو قلت لكم إن هذه الأركان الأربعة تكوّن إسم أحمد صلى الله عليه وسلم في مجموع حركاتها
القيام: الألف (أ)
الركوع: الحاء (حـ)
السجود: الميم (ـمـ)
القعود من السجود: الدال (ـد)(/)
من حرمة القرآن
ـ[وليد]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 05:47 م]ـ
من حرمة القرآن:
1 - ألا يمسه الإنسان إلا طاهرا.
2 - ومن حرمته أن يقرأه وهو على طهارة.
3 - ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فيطيب فاه إذ هو طريقه. قال يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم.
4 - ومن حرمته أن يتلبس كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج.
5 - ومن حرمته أن يستقبل القبلة لقراءته وكان أبو العالية إذا قرأ اعتم ولبس وارتدى واستقبل القبلة.
6 - ومن حرمته أن يتمضمض كلما تنخع. روى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس: أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر وكان كلما تنخع مضمض.
7 - ومن حرمته إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان. قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيما حتى يذهب تثاؤبك. وقاله عكرمة. يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقرآن.
8 - ومن حرمته أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم.
9 - ومن حرمته إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة.
10 - ومن حرمته أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء.
11 - ومن حرمته أن يقرأه على تؤدة وترسيل وترتيل.
12 - ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به.
13 - ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه.
14 - ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها.
15 - ومن حرمته أن يلتمس غرائبه.
16 - ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما فإن له بكل حرف عشر حسنات.
17 - ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ويشهد بالبلاغ لرسوله صلى الله عليه وسلم ويشهد على ذلك أنه حق فيقول: صدقت ربنا وبلغت رسلك ونحن على ذلك من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ثم يدعو بدعوات.
18 - ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض
19 - ومن حرمته ألا يخلى يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة. ومن حرمته أن يعطي عينيه حظهما منه فإن العين تؤدي إلى النفس وبين النفس والصدر حجاب والقرآن في الصدر فإذا قرأه عن ظهر قلب فإنما يسمع أذنه فتؤدي إلى النفس فإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء وكان قد أخذت العين حظها كالأذن.
20 - ومن حرمته ألا يماري ولا يجادل فيه في القراءات ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا هو ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن فيكون قد جحد كتاب الله.
21 - ومن حرمته ألا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم {إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} هذا لمروره بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء.
22 - ومن حرمته ألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله.
23 - ومن حرمته ألا يصغر المصحف.
24 - ومن حرمته ألا يخلط فيه ما ليس منه.
25 - ومن حرمته ألا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنيا
روي عن ابن عباس وقد رأى مصحفا زين بفضة: تغرون به السارق وزينته في جوفه.
26 - ومن حرمته أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس أو يحفر حفيرة في موضع طاهر حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يكبسها أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري.
27 - ومن حرمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور.
(منقول من تفسير القرطبي)
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 10:12 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[وليد]ــــــــ[30 - 11 - 2009, 11:35 ص]ـ
وجزاك الله خيرا مثله أختي الكريمة.(/)
أسئلة عن الصيام ليس من داع لها
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 09:55 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من المعروف شرعا أن ما سكت عنه فهو جائز , لكننا نقرأ في الصحف ونسمع في الإذاعة ونشاهد على التلفاز برامج الفتوى ونسمع أسئلة عبارة عن مضيعة للوقت.
مثلا: بلع الريق هل يجوز؟ وحكة الرقبة هل هي مكروهة للصائم؟:)
تذكرنا بالشعبي وما أظرفه
جاء رجل إليه وسأله:
أيجوز أن أحك جلدي وأنا محرم؟
فقال الشعبي: نعم
فقال الرجل: مقدار كم؟
فقال الشعبي: حتى يبدو العظم:)
أغرب سؤال سمعته من امرأة في الراديو قبل سنتين أو أكثر وهو عن لبس المرأة للبنطال في نهار رمضان!!!!
ـ[رحمة]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 11:47 م]ـ
لا حول و لا قوة الا بالله
كثرت الأسئله في كل شيء و هي لا حاجه لنا بها
جزاك الله خيرا أخي الكريم
ـ[سهى الجزائرية]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 02:09 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
فعلا موضوعك أستاذ في محله، فعلا في الكثير من الأحيان مثل هذه المواضيع.
ولكن السؤال الذي أطرحه بصورة ملحة ... لا بل ربما نجده هو الذي يطرح نفسه .... هل الأسئلة التي من المفروض أن تطرح والتي تفيد المسلم في
- شهر رمضان خاصة -في الحياة اليومية انتهت؟ يعني أن المسلم على دراية بكافة جزئيات دينه حتى يلتفت الى مثل هذه الامور التي كما قلت مسكوت عنها من قبل الشرع .... وهل التطرق اليها يعني أنهم قد التزمزا بكافة قضاي دينهم؟
انه من الأمر المخزي الالفات الى مثل هذه الأمور ... انه كان من الأمر الجدير أن ينتبه الى الأشياء التي يقوم بها سلوكه.والتي ترفع له من قيمه الدينيه وفي الوقت نفسه تجعله انسانا تقيا بأتم معنى الكلمة عارفا بشؤون دينه ودنياه.
وجهة نظر .............. طابت لأوقاتكم
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:41 ص]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أرى أنّ ما ذكرت أخي ظاهرة صحية، فجميلٌ عندما ترى الناس يسألون عن دقائق الأمور لتسلم لهم عبادتهم على الوجه الأكمل قدر المستطاع.
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 11:23 ص]ـ
ظاهرة صحية!!!
هذه وسوسة أخي اللبيب:)
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 08:29 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أرى أنّ ما ذكرت أخي ظاهرة صحية، فجميلٌ عندما ترى الناس يسألون عن دقائق الأمور لتسلم لهم عبادتهم على الوجه الأكمل قدر المستطاع.
اليوم عصرا كنت أصلح لعبة لابنتي وفي اللعبة سلك نحاسي قوي قليلا يجب أن أضعه بين اضراسي لأثنيه , وضعته فسال بعض الدم من فمي
السؤال: هل أفطر؟ وما الحكم لو كان السلك حديديا وبه بعض الصدأ؟ وما الحكم لو دخل حلقى شيء من الصدأ؟:) , وهل .................. ؟
وعندي سؤال آخر سأضعه لك في الخاص: rolleyes:
ـ[أبو طارق]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 09:57 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أرى أنّ ما ذكرت أخي ظاهرة صحية، فجميلٌ عندما ترى الناس يسألون عن دقائق الأمور لتسلم لهم عبادتهم على الوجه الأكمل قدر المستطاع.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يا أخي ليتهم يسألون لحرصهم على سلامة صيامهم, ولكني قد رأيت في بعض الأسئلة السخرية من قبل البعض
ولا أراها إلا كما قال أبو دجانة: هي وسوسة
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 10:59 م]ـ
ظاهرة صحية!!!
هذه وسوسة أخي اللبيب
صدقني أراها مفيدة أخي، ومن يسأل أهل العلم لن يُعدم فائدة هو أو غيره.
اليوم عصرا كنت أصلح لعبة لابنتي وفي اللعبة سلك نحاسي قوي قليلا يجب أن أضعه بين اضراسي لأثنيه , وضعته فسال بعض الدم من فمي
السؤال: هل أفطر؟ وما الحكم لو كان السلك حديديا وبه بعض الصدأ؟ وما الحكم لو دخل حلقى شيء من الصدأ؟ , وهل .................. ؟
وعندي سؤال آخر سأضعه لك في الخاص
في الدم تفصيل، فإن كان مما يفحش في النفس ... وإن كان لا يفحش في النفس ...
فكيف سنعرف جواب ما ذكرت إن لم نسأل أو يسأل أحدهم!
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يا أخي ليتهم يسألون لحرصهم على سلامة صيامهم, ولكني قد رأيت في بعض الأسئلة السخرية من قبل البعض
ولا أراها إلا كما قال أبو دجانة: هي وسوسة
إن كان السائل صاحب سخرية في سؤاله فكم من المشاهدين سيستفيد من سؤاله.
أسعد الله الجميع.
ـ[ضاد]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 07:21 م]ـ
ذكرتموني شيخا عندنا قال: "لو كان اهتمام الناس بسائر العبادات كاهتمامهم بالصوم لما كانت الأمة على هذه الحال" وذلك من الأسئلة التي تطرح عليه في كل عام: يا شيخ هل يبطل الغبار الصيام؟ يا شيخ هل يجوز للصائم بلع ريقه؟ يا شيخ هل يجوز للصائم الاستحمام؟ ومنها كثير جدا.
ـ[ضاد]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 07:38 م]ـ
والشاهد في قصة الحكة هو انتشار الجهل بالدين لدى الناس وتركهم العظائم والاهتمام بالمسكوتات عنها نوعا من الهلوسة التي ترافق الجاهل. وأروي لكم واقعا عشته هنا في ألمانيا بداية استقراري فيها حيث لم أكن أعرف الجيلاتين وأخواته, حتى عرفني بهم أحد الإخوة, وزاد في التعريف قائمة بمواد تستعمل في المطعومات طويلة جدا كلها exxx وعوض الـ xxx بما شئت من الأرقام, وقيل لي أن أحفظها أو أحملها معي عند كل ذهاب إلى السوق, فأصبح التسوق كاجتياز امتحان سياقة, لا أجد في المحل ما أشتريه من كثرة الـ exxx ـات إن جاز التعبير, حتى قررت وثلة من أصحابي ترك هذه القائمة لأنها كلها مبنية على تخمينات وما من دليل عليها غير المنتشر بين الناس ووكالة "قالوا وقيل", وقلنا أن ما ثبت خنزيريته أو خمريته نتركه, وما كان احتمالا فسنأكله حتى نؤتى بالدليل, لأن الأصل في الطعام الحلة حتى يثبت العكس, وفي اللحوم الأصل الحرمة حتى يثبت العكس. والشاهد في قصتي أن ممن أعرفهم من لا يصلون أصلا ولكنهم يهتمون بهذه الأرقام, وهذا خلل كبير في تقييم الضرر إن جاز التعبير. والله المستعان ونسأله أن يهدي الأمة إلى الرشاد.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبو طارق]ــــــــ[02 - 09 - 2009, 04:54 م]ـ
أعيد موضوعك أبا وسن
على أن نلتزم بالموضوع من غير تشتت أو أمور لا فائدة من ورائها
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[02 - 09 - 2009, 09:31 م]ـ
أعيد موضوعك أبا وسن
على أن نلتزم بالموضوع من غير تشتت أو أمور لا فائدة من ورائها
سلمت يمناك(/)
القاعدة!
ـ[سلطانة]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 12:36 ص]ـ
ينتشر لدينا ما يسمى بتدريس القاعده الحلبية والنوارنية
هل تعرفون عنها شيء؟ هل من اصل لها؟
ـ[السراج]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 10:30 ص]ـ
القاعدة الحلبية:
اسم كتاب حديث ألفه فراس محمد وليد الأويسي الحلبي
واسم الكتاب بالكامل (القاعدة الحلبية في القراءة العربية القرآنية)
طبعاً يُعنى بتعليم الأطفال القراءة والكتابة في مراحل عُمرية أولى.
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 11:28 ص]ـ
و كذلك النورانية .. و قد أصبحت طريقة معروفة و مشهورة في العالم الإسلامي كله
ـ[سلطانة]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 02:43 ص]ـ
القاعدة الحلبية:
اسم كتاب حديث ألفه فراس محمد وليد الأويسي الحلبي
واسم الكتاب بالكامل (القاعدة الحلبية في القراءة العربية القرآنية)
طبعاً يُعنى بتعليم الأطفال القراءة والكتابة في مراحل عُمرية أولى.
شكرا لك
هل للكتاب موقع على النت؟
ـ[سلطانة]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 02:43 ص]ـ
و كذلك النورانية .. و قد أصبحت طريقة معروفة و مشهورة في العالم الإسلامي كله
فعلا
اشتهرت لدينا بقوة
ـ[سلطانة]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 02:44 ص]ـ
قمت بادخال البنت في هذه القاعده
ولاحظت فائدة عظيمة لها في تعليم البنت القراءة بصورة جيدة
وهي في الرابعه من العمر
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 03:48 م]ـ
قمت بادخال البنت في هذه القاعده
ولاحظت فائدة عظيمة لها في تعليم البنت القراءة بصورة جيدة
وهي في الرابعه من العمر
بارك الله لك فيها، و أنبتها نباتا حسنا و جعلها من أهل القرآن
اللهم أمين
ـ[السراج]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 10:44 ص]ـ
شكرا لك
هل للكتاب موقع على النت؟
وجدت الرابط في النت لكنه غير فعال(/)
*رمضان كريم لجميع الأساتذة والأعضاء الكرام ... *
ـ[سهى الجزائرية]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 02:35 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بمناسبة حلول شهرمضان الكريم أتقدم الى العائلة الكريمة بالفصيح؛ فردا فرا
وفي مقدمتها هيئة الادارة وبالخصوص الأستاذ المؤسس محمد التويجري حفظه الله، كل المشرفين والمراقبين من دون استثناء، والأحبة الأعضاء أدام الله عطاءاتهم في المنتدى ...... لخدمة الضاد.
بكل صيغ التهاني والمباركة .. وأن يطيل الله في أيام حياتنا حتى نحصل أكبر قدر من الثواب ليوم لا ريب فيه.
وأن يعيده علينا ونحن في أتم الصحة والعافية.
http://www.dawah.ws/bg/0187.jpg
ـ[أبو لين]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 02:46 ص]ـ
رمضان كريم أختي الكريمة وكل عام وأنتِ بخير , سائلين المولى أن يتقبل صيامنا وقيامنا.
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 03:56 ص]ـ
تقبل الله منّا ومنكم جميعاً أختنا الكريمة ونسأل الله أن يقبلنا من عباده الأتقياء المخلصين فى هذا الشهرالفضيل وحمداً لله على عودتكِ ونتمنى دوام مشاركتكِ معنا كما كنتِ سالفاً.
ـ[أنوار]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 04:11 ص]ـ
كل عام وأنتِ بخير وعافية ..
رزقنا الله وإياكِ الرحمة والغفران والعتق من النار ..
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:21 ص]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وكل عام وأنت في خير وعافية.
ـ[خلود عبد المجيد]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 01:35 ص]ـ
رمضان كريم ومبارك لجميع المسلمين والمسلمات، رزق الله كل اْهل الفصيح فيه حسنات عدد كل شيء خلقه.
ـ[نعيم الحداوي]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 07:30 ص]ـ
نسأل الله أن يتقبل صيامنا وقيامنا وهاهو يودعنا(/)
وفاة إمام في صلاة التراويح بجامع بالأحساء
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:52 ص]ـ
الأحساء – الوئام – محمد المظفري:
توفي إمام جامع عمر بن الخطاب بالكلابية منصور بن أحمد الغنام أول أمس السبت أثناء أدائه لصلاة التراويح حيث تعرض لنوبة قلبية سقط على أثرها وتمت الصلاة عليه بمسجد مغسل الكلابية وتم دفن جثمانه بمقبرة الكلابية عصر أمس الأحد وسط جموع من المشيعين الذين قدموا للمشاركة في دفنه وتقديم واجب العزاء لذوي المتوفى
----------------------------
خاتمة حسنة في شهر فضيل، وفعلٍ عظيم ...
اللهم اغفر له وارحمه ...
ـ[سهى الجزائرية]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:57 ص]ـ
ان لله وان اليه راجعون .. الله أكبر رحم الله موتانا.وألهم ذويهم كبير الصبر والسلوان
تعازينا الخالصة الى عائلة الفقيد ... أسكنه الله فسيح جنانه وأثقل ميزان حسناته بالأجر والثواب .. خاصة وأنه مات في موقف وهو على اتصال بربه.
ـ[أنوار]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 07:51 ص]ـ
إنا لله وإنا إليه راجعون .. ألهم الله أهله وذويه الصبر والسلون ..
كلنا إلى هناك سائرون .. فهنيئاً له هذه الخاتمة ..
ـ[السراج]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 10:13 ص]ـ
أدخله الله بواسع رحمته، وأنار قبره ..
ونعم الخاتمة ..
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 09:52 م]ـ
رحمه الله
ـ[أبو طارق]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 10:09 م]ـ
غفر الله له, ولجميع موتى المسلمين
ـ[رحمة]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 11:01 م]ـ
انا لله و انا اليه راجعون
رحمه الله و رحم جميه موتي المسلمين و أحسن خاتمتنا جميعا باذن الله تعالي
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 09:01 ص]ـ
بارك الله فيكم
ورحمة الله عليه، وارحمنا إذا صرنا لما صار إليه.
ـ[أبو سارة]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 04:53 م]ـ
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر له ذنبه كله، دقه وجله، علانيته وسره، وأن ينزله في عليين مع الأنبياء والصالحين.
شكرا لك أخي الأديب، فإن هذا من التذكير بتفاهة الدنيا
ـ[فصيح البادية]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 05:19 م]ـ
قال الله تعالى: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ "
ندعو الله - سبحانه وتعالى - أن يرحمه رحمة واسعة من عنده وأن يتقبل عمله آمين
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 01:21 م]ـ
خاتمة حسنة في شهر فضيل، وفعلٍ عظيم ...
اللهم اغفر له وارحمه ...
ومكان عظيم
بارك الله فيك
ـ[طارق يسن الطاهر]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 02:32 م]ـ
كلنا صائرون إلى ربنا
لكن
مَن مِنا يظفر بخاتمة كهذه؟!
اللهم ارحم ذلك الإمام
وارحم موتى المسلمين
اللهم ارزقنا حسن الخاتمة
ـ[ابن القاضي]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 03:54 م]ـ
اللهم اغفرله وارحمه، خاتمة حسنة، نرجوا له الجنة.
ـ[النابغة الحضرمي]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 07:28 م]ـ
اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله ووسع مدخله
إنك على كل شيء قدير ..
إنا لله وإنا إليه راجعون.
ـ[أبو الطيب النجدي]ــــــــ[11 - 10 - 2009, 03:20 م]ـ
نرجوا له الخير
اللهم لا تمتني إلا ساجدا لك و أنت راض عني و ما لأحد عندي مظلمة!(/)
من طريق الهجرتين
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 07:51 ص]ـ
لمحات من ذلك السفر النفيس على حد تذكير النفس وتذكير الإخوان في تلك الأيام الطيبات:
وبداية مع قول ابن القيم، رحمه الله، في خطبة كتابه:
"فله، (أي: العبد)، في كل وقت هجرتان:
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإ والافتقار في كل نفس إِليه.
وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبى صلى الله عليه وسلم، فإِن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: "وَعِزَّتِى وَجَلالِى لَوْ أَتُونِى مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، لَمَا فَتَحتُ لَهُمْ حَتَّى يَدخُلُوا خَلْفَكَ". وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس.
ولما كانت السعادة دائرة - نفياً وإِثباتا ً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون". اهـ
"طريق الهجرتين"، ص19.
فقد تعرض ابن القيم، رحمه الله، في خطبة كتابه إلى مسألة صيرها المحققون من أهل العلم: قطب رحى هذه الملة، وخطة النجاة لكل سالك طريق الديانة، ألا وهي مسألة: النبوات.
فالنجاة لا تكون إلا بهجرتين أشار إليهما ابن القيم، رحمه الله، في عنوان كتابه: "طريق الهجرتين":
الهجرة إلى الله عز وجل: باستحضار معاني الفقر الذاتي إليه، كما سيذكر في أول فصول كتابه، فالعبد مفتقر إلى مدده: روحا وبدنا، فالروح مفتقرة إلى عنايته بما ينزل من السماء من طيب أغذية القلوب من الأخبار المصدقات والشرائع المحكمات، والبدن مفتقر إلى عنايته بما يخرج من الأرض من أغذية البدن من المأكول الطيب المريء، والمشروب العذب الهنيء، فهو الرب الذي يرب الأرواح والأبدان بما يصلحها، الرب الذي يملك الأعيان بمُلكِه، ويقدر الأفعال بمِلكه، فلا شريك له في ربوبيته: لا في أعيان المخلوقات ولا في أنواع المقدورات، فكل ذرات الكون من خلقه، فهي لأمره خاضعة، لم يحتج إلى شريك، ولم يفتقر إلى معاون أو ظهير فله الحمد في الأولى والآخرة: حمد من كملت أوصافه أزلا، فاستحق كل ثناء، وإن لم يصل إلى غيره من آثار محامده شيء، فكيف ونعمه تترى، فالكل في قيد إنعامه أسرى؟!، قد أنعم بالإيجاد بكلماته الكونية وأعد القلوب لتلقي كلماته الشرعية، فهي على التوحيد قد فطرت، وللسمع والطاعة قد خلقت، وتلك مجملات قد فصلتها أخبار النبوات وشرائعها المحكمات فتلك الهجرة الثانية:
الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: باقتفاء آثاره الشرعية لا بشد الرحال إلى بدنه الشريف، غلوا فيه بلا مستند، ووقوعا فيما نهى وعنه وزجر على حد حديث عمر، رضي الله عنه، مرفوعا: (لا تطروني)، فالنبوة هي الطريق الممهد إلى مراد الرب، جل وعلا، فبها تشرق أرض القلب بنور الوحي المصدق، فمن هجرها فله من الحيرة بقدر هجرانه، ومن أعرض عنها فله من ضنك العيش بقدر إعراضه، فكل من أحس في نفسه استغناء عنها، فهو بضدها قد تشبع، فاستعاض عن الهداية الربانية بالضلالة الشيطانية، ضلالة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، فأتي من نقص معلومه الشرعي، ففسد تصوره العلمي، لفساد استمداده، فأنتجت تلك المقدمات الباطلة: أحكاما وأعمالا فاسدة، فهو في بطلان من القول وفساد من العمل كبير، وحال الأمم خير شاهد على ذلك، فما من أمة أعرضت عن الوحي، وحقرت من شأن الرسل والرسالات إلا ابتليت بصنوف الضيق في المعايش والأرزاق، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وإلا نال أفرادها من صنوف الهموم ما تنوء بحمله الجبال وإن كانت الصور الظاهرة ضاحكة منعمة، فالحقائق الباطنة كئيبة معذبة، وتلك سنة كونية جارية، فإن من تولى عن السنن الشرعية فله من العقوبات الكونية بقدر توليه، وما ذلك لربه، عز وجل، بضائر، بل هو التالف الخاسر، فالله، عز وجل، هو القائل: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، فهو الغني عن كدح عباده في أمر المعاش، فـ: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، وهو الغني عن كدحهم في أمر المعاد: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أنوار]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 09:20 ص]ـ
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ..
مقال قيّم وفوائد ثمينة ..
ـ[بنفسي فخرت لا بجدودي]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 09:27 ص]ـ
جزيت خيرا استاذي الفاضل
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 07:20 ص]ـ
جزاكما الله خيرا أيها الكريمان على المرور والتعليق.
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة غنى الرب، جل وعلا، الذاتي المطلق، في مقابل فقر العبد الذاتي المطلق، فقال:
"فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهى أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهى أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب فى مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله عز وجل أَمر ذاتى لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر". اهـ
"طريق الهجرتين"، ص21.
فحاجة العبد إلى ربه موجودة، وحاجة الرب، جل وعلا، إلى عبده، مفقودة، والذاتي لا يعلل كما يقول أهل العلم، فإن الذاتي لا ينفك عن الذات، فلا يفتقر إلى تعليل، وإنما تعلل الأحكام والأفعال، لأنها لا تلازم الذات، وإنما تقوم بها قيام الاختيار أو الإكراه، وتصور معنى الإكراه في حق الرب، جل وعلا، محال ذاتي، إذ ذلك من أوصاف النقص، ومن لوازم الفقر، فإن المكره مفتقر إلى من يدفع عنه أذى مكرِهِه، سواء أكان الدافع ذاتيا أو غيريا، والله، عز وجل، له من كمال القدرة الذاتية ما يحال معه تصور أن يكرهه من سواه، أو يوجب عليه بقياس عقله ما يجوز في حق البشر المخلوق ولا يجوز في حق الرب المعبود كما هو مسلك المشبهة في الصفات والأفعال، الذين قاسوا الله، عز وجل، على خلقه، فما حسن في حقهم أصلا حسن في حقه فرعا، وما قبح في حقهم أصلا، قبح في حقه فرعا، وما وجب عليهم بقياس العقل وجب عليه، فصيروه فردا من جنس خلقه، يجري عليه ما يجري عليهم، وهل ذلك إلا عين الظلم إذ سووا بين منصب الربوبية ومنصب العبودية وبينهما من البون ما لا يخفى؟!، وهل ذلك إلا عين القدح في الرب، جل وعلا، بنسبة أوصاف النقص والعجز والفقر إليه التي تنافي ما لزم ذاته القدسية أزلا من أوصاف الكمال والقدرة والغنى؟!، فلا يوجب عليه أحد شيئا، وإنما يوجب هو على نفسه ما شاء بمقتضى حكمته البالغة ورحمته الواسعة، فيثيب الطائع فضلا لا جبرا، ويعاقب المذنب عدلا، فتجري أفعال قدرته على مقتضى حكمته، فله الحمد بنفاذ القدرة وكمال الحكمة وإحاطة العلم، فهو الظاهر والباطن، قد أحاط بأحوال عباده علما فلا يخفى عليه ما ظهر منهم ولا ما بطن، فعلمه قد تعلق بكل موجود بل بكل جائز أو محال معدوم، فإذا ثبت له من أوصاف الكمال الذاتي ما تقدم، صار البحث في عللها عبثا، إذ هي، كما تقدم، قائمة بالذات لا تنفك عنها، بخلاف ما يتعلق بالمشيئة من الأفعال الربانية: إذ منها ما يعلل كالمحبة في نحو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فتعليق الحكم على اسم الوصف: "المحسنين": مؤذن بعلية ما منه اشتق، وهو وصف الإحسان الذي صحت إناطة حكم المحبة به.
وفي المقابل: فقر العبد ذاتي لا يعلل، فهو كالأوصاف الطردية في باب الأحكام العملية: لا يتعلق بها ثواب أو عقاب، فلا تصلح مناطات تناط بها الأحكام على جهة التعليل، فلا يوجد حكم في الشرع علته: الطول أو القصر أو البياض أو السواد ......... إلخ، فليس من المعهود في خطاب الشارع اعتبار تلك الأوصاف غير المؤثرة، وفي التنزيل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فوصف التقوى مما تصح إناطة الأحكام به، وعلى هذا فقس في كل الأوصاف اعتبارا للمؤثر وإلغاء لغير المؤثر في باب الأحكام، وهو من أجل مباحث باب القياس في علم الأصول، ومداره: إدراك وصف مؤثر في الفعل تصح إناطة حكمه به: إما
(يُتْبَعُ)
(/)
نصا، وإما استنباطا، ومن ذلك انتشر الخلاف بين أهل العلم في تعليل بعض الأحكام، تبعا لتفاوت الأنظار في استنباط ما لم يرد الدليل صراحة على اعتباره، فقد يعتبر عالم ما لا يعتبره آخر.
الشاهد أن الفقر وصف ذاتي في العبد: فلا يعلل، إذ حاله شاهد، على فقره الذي لا ينفك عنه من لحظة الإيجاد إلى لحظة الإعدام، فهو فقير إلى ربه كونا ليقيم بدنه: آلة التكليف، فقير إلى ربه شرعا ليقيم قلبه: مناط التكليف، فعقل الإدراك والانتفاع في القلب، على حد قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا).
وأما كل ما سوى ذلك من افتقار المحدَث إلى محدِث، والممكن إلى موجب، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، كل ذلك من أدلة الفقر والحاجة، أو من صور الفقر والحاجة، فليسا عين العلة وإنما هما من أدلتها، فالأصل الذي تتفرع عنه كل أوصاف الاحتياج إلى الرب، جل وعلا، هو: الفقر الذاتي غير المعلل في العبد، فلا ينفك عن حاجة إلى قوة عليا تدبر أمره بقدرة نافذة وحكمة بالغة، وليس ذينك الوصفين إلا لله، عز وجل، فهو وحده القادر على كل الممكنات، العليم بكل المآلات، الحكيم في كل المقدورات، فمهما أظهر العبد من وصف الغنى طغيانا، فإن حاله شاهد عليه بطلانا.
يقول ابن القيم، رحمه الله، حاكيا طرفا من أحوال ذلك العبد المستغني وهو بعين الفقر موصوف:
"فلما أَسبغ عليه نعمته، (أي: الرب جل وعلا على ذلك العبد)، وأَفاض عليه رحمته وساق إِليه أَسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وخلع عليه ملابس إِنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأَقدره وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بنى جنسه، وسخر له الخيل والإِبل، وسلطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، حفر الأَنهار، وغرس الأَشجار، وشق الأَرض، وتعلية البناءِ، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أَن له نصيباً من الملك، وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأُولى، ونسى ما كان فيه من حالة الإِعدام والفقر والحاجة، حتى كأَنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأَن ذلك شخصاً آخر غيره كما روى الإِمام أَحمد فى مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً فى كفه فوضع عليها إِصبعه ثم قال: (قال اللهُ تعالى: يَا ابن آدمَ أَنَّى تُعْجِزُنِى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنَ وَللأَرْضِ مِنْكَ وَئِيد، فَجَمَعْتَ وَمَنْعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّراقى، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ) ". اهـ
"طريق الهجرتين"، ص22.
فهو مستغن بعارية مستردة ليس له من ملكها إلا الانتفاع على جهة التأقيت لا التأبيد، فملكه لها: استخلاف على جهة الابتلاء، لا نيابة على جهة الإطلاق.
وذلك بخلاف:
"من عرف ربه بالغنى المطلق فعرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أَخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء ألبتة، فكان فقره فى تلك الحال إلى ما به كما له أَمراً مشهوداً محسوساً لكل أَحد، ومعلوم أَن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إِلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إِلى بارئه وفاطره". اهـ بتصرف.
"طريق الهجرتين"، ص22.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 07:45 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك"، وكان يدعو: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك". يعلم صلى الله عليه وسلم أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} ". اهـ
ص23.
فأكمل الخلق عبودية أعظمهم شهودا لفقره وضرورته، فلا يستغني عنه في أمر الدنيا على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك"، فالعموم يشمل أمر الدنيا على جهة التضمن، فهو متضمن لأمر الدين والدنيا معا، فلا تكلني إلى نفسي في تحصيل أسباب صلاحها من الشرع والكون، ولا تكلني إلى أحد من خلقك، فإن الإحالة عليه: إحالة على مفلس فأنى يقضي الدين؟! ولا يستغني عنه في أمر الروح على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك"، فالدلالة على أمر الدين في هذا السياق: دلالة مطابقة فلم يشرك معه غيره من أمر الدنيا، لعظم أمره وخطر شأنه فهو أهل لأن يفرد بالدعاء، إذ هو معقد النجاة، فلا صلاح إلا به، إذ هو مادة كل صلاح في المعاش والمآل، وضده من الكفر بالإنكار أو الظلم بالإشراك مادة كل فساد باطن وظاهر، إذ لا يرجى لبناء قيام على أصل فاسد، فإنه فرع عنه، وللفرع حكم الأصل بداهة فذلك جار على وزان قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، فلم يغن صلاح الفرع شيئا إذ فسد أصله.
فالعاقل لا يرى لنفسه فضلا، إن أجرى الله، عز وجل، عليه نعمة كونية فله الحمد والمنة، وإن أجرى عليه نعمة شرعية فوفقه إلى طاعة لم يدل عليه بطاعته، بل زاده ذلك شكرا وعرفانا، فاستعان بمدد الرب الكوني على إقامة أمر الإله الشرعي، فإنه لولا أن من عليه، جل وعلا، بأن اصطفاه لطاعته فخلق في قلبه: إرادة الخير، وصحح له آلات فعله، فخلق فيه القدرة قبل الفعل، ووفقه إلى إيجاد الفعل بأن خلق فيه الاستطاعة حال مباشرته، فيسر له الأسباب وذلل له العوائق، وخلق ذات الفعل، فقام بالفاعل المخلوق: قيام الفعل بفاعله، وصحت نسبته إلى الرب، جل وعلا، نسبة مخلوق إلى خالق، فله الحمد في الأولى والآخرة: خلق الطاعة فضلا ثم أثاب عليها وهي محض منة منه ابتداء، فأي كرم أعظم من ذلك، وأي غنى أكمل من ذلك، ومن الذي له ذلك غيره تبارك وتعالى؟!.
وللأنبياء عليهم السلام من تلك المنقبة أعظم نصيب فهم أعظم الخلق فقرا وتألها للرب، جل وعلا، فوصف يوسف الصديق، عليه السلام، في أشرف مقامات الدفع لهم المعصية بقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، فعلة صرف ذلك السوء: أنه من عبادنا المخلصين على حد عبودية الرسل الخاصة: عبودية الاستسلام ظاهرا وباطنا، عبودية الانقياد بأجناس الطاعات القلبية واللسانية والبدنية، لا العبودية العامة التي تشترك فيها كل الكائنات، فليس فيها مزيد فضل إذ يستوي فيها العاقل والبهيم، بل والشجر والجماد فـ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا).
ولذلك حسن الفصل فلم يأت العاطف بين شطري الآية، لشبه كمال الاتصال بين العلة المصدرة بـ: "إن": "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" ومعلولها الذي صدرت به الآية: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ".
(يُتْبَعُ)
(/)
ووصف إمام الموحدين الخليل، عليه السلام، وذريته بقوله تعالى: "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ"، فاذكرهم على حد التأسي بهم في كمال عبوديتهم، فهم عبادنا على حد إضافة التشريف إلى معبودهم، جل وعلا، ومن أحق منهم بذلك، إذ هم، كما تقدم، صفوة الخلق فرعا عن كونهم أفقر البرية إلى الحق.
ووصف خير البرية، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بوصف العبودية في أشرف المقامات: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).
وفي أشرف مقامات الأنبياء: مقام الدعوة: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا). فالإضافة هنا، أيضا، على حد: التشريف، على ما اطرد من كون الإضافة في هذا الباب على وجهين:
الأول: إضافة ما لا يقوم بنفسه من الأوصاف إلى موصوفه، فهو من إضافة الوصف إلى موصوفه، على حد: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، فالكلام لا يستقل بذاته، ولا يقوم بذات غير المتكلم به، على حد زعم النصارى من قيام الكلمة بذات المسيح عليه السلام، وزعم المعتزلة قيام الكلام بالشجرة فهي التي كلمت موسى عليه السلام!. فقيام الوصف في محل آخر مع بقائه وصفا للمحل الأول: أمر غير متصور عقلا، وعزل الوحي عن منصب الولاية على العقل مظنة صدور تلك الأقوال التي يكفي في إبطالها حكايتها، والحمد لله على نعمة النبوة الصحيحة والعقول الصريحة التي لا صلاح لها إلا بالسير على جادة الرسالة فقد استوفت أجناس الاستدلال العقلي الصريح بألفاظ موجزة المبنى بينة المعنى.
والثاني: إضافة ما يقوم بنفسه إلى الرب، جل وعلا، فذلك مما نحن فيه من إضافة التشريف، فالعبودية في هذه الآيات جارية على حد هذه الإضافة التشريفية إلى رب البرية فرعا عن الوقوف على حد العبودية: افتقارا وتذللا، وبقدر الافتقار والذل يكون: الغنى والعز، على حد قوله تعالى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، فالأمر للإيجاب والإرشاد إلى طريق العزة: تمام الذلة لمن بيده الملك على حد قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فتعز من تشاء فضلا، فيذل ويخشع لك على حد الفقر الاختياري المحمود: فقر العابد المطيع. وتذل من تشاء عدلا، إذ ما ابتغى أحد العز عند غيرك إلا وأصابه من ضد ما فر منه من الذل ما أصابه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 08:04 ص]ـ
جزيت خيرا أستاذنا الفاضل
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 01:18 م]ـ
بوركت، مقال نفيس
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 08:06 ص]ـ
جزاكما الله خيرا أيها الكريمان على المرور والتعليق وبارك فيكما.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فتأَمل قوله تعالى فى الآية: {أَنْتُمُ الفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ} [فاطر: 15]، فعلق الفقر إليه باسمه دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعى الفقر، فإِنه كما تقدم نوعان:
فقر إِلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأَسرها، وفقر إِلى أُلوهيته وهو فقر أَنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع والذى يشير إِليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إِليه هو الفقر الخاص لا العام". اهـ
ص24
فالفقر فقران:
فقر إلى ربوبيته إقامة للأبدان: فالخلق كلهم مفتقرون إللى وصف ربوبيته العامة: إيجادا وإعدادا وإمدادا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفقر إلى ألوهيته إقامة للأرواح: وهو فقر الرسل والصديقين، الفقر إلى الوحي قائدا متبوعا في رحلة الهجرة المرضية إلى رب البرية، جل وعلا، فيكون الوحي هو الحاكم الآمر الناهي في كل شأن فمنه يستمد علومه وأحكامه وأحواله وأذواقه وسياساته ........... إلخ، فلا غنى له عنه طرفة عين إذ لا صلاح لمعاشه الحالي أو معاده المآلي إلا به، فالغفلة عنه: غفلة عن سبب الحياة العليا، بمنزلة من حجب عن رئته الهواء، فإن ذلك مظنة هلاك بدنه، فكذلك من حجب عن قلبه نور الوحي الهادي فإن ذلك مظنة خرابه وموته، فالفقر الأول: عام، والفقر الثاني خاص، والفقر الأول مما يستمد سببه من الكون، بخلاف الثاني فلا مستند له إلا الوحي، فالأبدان مفطورة على الحاجة إلى غذاء الأرض النابت، والقلوب مفطورة على الحاجة إلى غذاء السماء النازل، فتلك يحفظ بها روح البدن، وهذه يحفظ بها روح القلب، والملة الخاتمة هي الملة الأكمل في هذا الباب الذي ضل فيه فئام من البشر، فالغالب على بني آدم الطمع في الظاهر المعجل، والزهد في الغائب المؤجل، فغذاء الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح هو الغاية التي تفنى في تحصيلها الأعمار، ثم هي، مع دنو منزلتها إذا ما قورنت بالنعيم الباقي في دار الخلد لا تخلو من المنغصات، فلا يخلو المأكول والمشروب من مادة فساد، تكدر على الآكل أو الشراب صفو لذته، لا سيما في الأعصار المتأخرة التي أصبح الصيام فيها فضيلة شرعية، وفضيلة صحية على طريقة من يصوم حمية ليقي بدنه آثار الأسمدة والمبيدات والهرمونات ........ إلخ التي تعالج بها الأطعمة، تحسينا، زعموا، وهي عين التقبيح والعبث في الفطرة الأولى التي وجدت عليها الأرزاق، وكأن بني آدم لم يكتفوا بتبديل الفطرة الدينية بما أحدثوه من بدع علمية وعملية، والفطرة البشرية، فعبثوا بأجسادهم، كما هو حال أرباب الموضات في زماننا، ثم انتقلوا بعد الفساد اللازم في أنفسهم إلى الفساد المتعدي في غيرهم فتعدوا على فطرة الحيوان الحساس، وذلك مما أمرهم به الشيطان المريد على حد قوله تعالى: (وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ)، ثم تعدوا على فطرة النبات بما أحدثوه من معالجات جعلت السلامة في كثير من الأحيان اجتناب تناوله!، فلم يسلم من إفسادهم بر ولا بحر، بل لم يسلم منه جو السماء بما أطلقه البشر من أجرام صناعية لا تبث غالبا إلا ما يفسد الأديان والأبدان فضلا عما تحدثه موجاتها الكهرومغناطيسية من فساد لطبقات الغلاف الجوي. وفي التنزيل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ولا يخلو الملبوس من مادة بلاء، وتأمل حال من يكسى حلة جديدة، فهو بها فرح جذلان، وبعد عام أو عامين تصير خرقة بالية، ربما استعملها هو نفسه بعد ذلك في خسائس الأمور.
ولا يخلو المنكوح من مادة عجز وهرم، فالشباب والجمال والصحة: عَوَارٍ مستردة، وتأمل حال من اتخذ أهلا في أول أمره فهو مسرور بما طرأ عليه من نعمة الزوج، وإن لم يكن ذلك غالبا لا سيما في أعصار النكد الحالية! التي صار فيها الزواج مادة للحرب والمنافسة بين الأسر المسلمة لا مادة تراحم وتواد فكل طرف يتفنن في إرهاق الطرف الآخر لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وكأنها صفقة لبيع نعجة أو شراء خروف!، وبمرور الأيام يقل هذا السرور شيئا فشيئا، حتي يصير عادة بعد أن كان في أوله أمرا خارجا عن العادة يستحق الاحتفاء، وهكذا كل لذة فانية تفقد حلاوتها شيئا فشيئا، بل ربما صارت مرة لا تستساغ بعد أن كانت حلوة تشتهيها النفوس.
(يُتْبَعُ)
(/)
فتلك لذة الدنيا: لذة عابرة من الفناء وإلى الفناء، وبينهما من الكدر ما لا تصفو فيه لصاحبها، وإن استعار لذلك من المحسنات ما استعار، فهكذا طبعت، فرقانا بين اللذة الباقية، لذة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)، لذة: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، واللذة الفانية لذة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ)، لذة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
يقول ابن القيم رحمه الله في معرض تقسيم الغني إلى سافل وعال:
"والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال.
فالغنى السافل: الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذى هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذى فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر.
وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره". اهـ
ص47.
وفي عصرنا الحاضر، لا يكاد يسلم قلب من الخوف: من الفقر، من الخوف: من الغد وما فيه، لا سيما وقد سلبنا نعمة الأمان، جزاء وفاقا على قعودنا عن نصرة إخواننا المستضعفين الذين أخيفوا في ذات الله، عز وجل، على حد قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فلما ابتغينا الأمن ولو بمخالفة الأمر الشرعي، فقعدنا عن الواجب استرضاء لمن لا يرضى من اليهود والنصارى وأهل البدع المغلظة والعلمانيين والملاحدة .......... إلخ من أجناس الضُلاَّل، عوقبنا بضد مرادنا، فلم يزدهم استرضاؤنا إلا سخطا، ولم يزدهم ضعفنا إلا قوة، ولم يزدهم كفنا عن طلبهم إلا طمعا في غزونا بالشبهات والشهوات، والأسنة والرماح، فغزوهم قد عم الأديان إفسادا والأبدان إهلاكا. ولكل سلاحه الفتاك.
فالدول تخشى أن تجتاح وقد صار ذلك عادة مطردة في بلاد المسلمين في السنوات الأخيرة كما جرى لبلاد الأفغان فالبلقان فالعراق فغزة أخيرا، وقد كانت النازلة الغزية صفعة مدوية على الوجوه التي آثرت السلامة: على حد الإهانة لا الكرامة.
والأفراد يخشون الفقر في زمن ساءت فيه الظنون بالرزاق، تبارك وتعالى، فشحت بالدرهم والدينار، فصار جمع الأموال مقدما على جمع الحسنات، على طريقة: عصفور في اليد!. وذلك من فساد التصور لأمر الغيب، الذي ولد فسادا في الحكم فضعف إيماننا بالغيب، وهو من أخص أوصاف أهل الإيمان المنجي، على حد قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). فضلا عن فساد التصور لأسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، فلم نعرفها ابتداء، أو عرفناها ترفا علميا لا عمل يصدقه، فلو علمنا غنى الرب، جل وعلا، وقدرته على إغناء كل الخلق عموما، وأهل التقوى خصوصا على حد قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، ولا تكون إلا مشفوعة بحكمته الباهرة، فله في العطاء حكمة وله في المنع حكمة، لو تصورنا ذلك تصورا علميا صحيحا، ما بقي للخوف من المستقبل في قلوبنا مكان، إذ الخوف من الخالق يذهب أي خوف آخر.
ولا يعني ذلك تمني الفقر، فهو بئس الضجيع، وهو مظنة تشتت الأذهان وفساد الأمزجة فلا تلتفت إلى إقامة أمر الدين إذ كيف يخشع الجائع أو الخائف؟! والأصل في ذلك حديث أبي بكرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"، وقيس عليه الحاقن أو الحاقب إذ ذلك مظنة تشتت الذهن، وإذا قرب الطعام وأقيمت الصلاة فالفقه البدء بالطعام ما لم تصر تلك هي العادة على جهة التعمد!، وقيس عليه التائق إلى لذة كجماع أو نحوه، إذ لا تتفرغ النفس إلى العبادة إلا بعد استيفاء حاجتها.
ولا يعني ذلك: التعرض إلى البلاء على حد التهور، فلا يعدل العاقل بالسلامة في الدين والدنيا شيئا.
ولا يعني ذلك: ترك الاستعداد لما هو آت من مستقبل الأيام، فذلك من العجز لا الكيس، وإنما الكيس: بذل السبب مع تمام التوكل.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 07:47 ص]ـ
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى تعريف الفقر الذي ذكره شيخ الإسلام الهروي، رحمه الله، صاحب "منازل السائرين" بقوله:
"فقوله، (أي: الهروي رحمه الله): "الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة" يعنى أَن الفقير هو الذى يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلي فليس لك فى نفسك ولا فى كسبك شيء.
فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة فى يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: (والله إِنى لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت) ". اهـ
فهو براءة من رؤية ملك الأعيان أو الأفعال، فإنه لا يستقل بملك شيء منها،
فما كان من أعيان تحت سلطانه، بادي الرأي، بما فيها:
بدنه الذي استخلف فيه إقامة له على حد الحلال المريء الذي لا تبعة في تعاطيه. وفي التنزيل: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
فالبدن آلة التكليف التي بها تكون الأفعال، متعلق الثواب والعقاب، ولا عمل صحيح بآلة أصابها العطب، ولذلك يرتفع التكليف الشرعي بورود المقدور الكوني من علة أو موت، إذ القدرة الكونية مناط التكليف الشرعي، فالاستطاعة السابقة للفعل سبب التكليف الشرعي، فبها خوطب المكلفون أجمعون بالتكليف على حد الوجوب والإلزام، فذلك قدر مشترك بين عامة البشر، وإنما امتاز المسددون بمعاضدة الاستطاعة الكونية المقارنة للفعل بالاستطاعة المتقدمة عليه، فتوافقت الإرادتان: الشرعية والكونية، في محل واحد، فما أسعده بتلك النعمة السابغة التي لا تعادلها نعمة: نعمة معرفة الحق ابتداء، فالعلم صحيح نافع، ونعمة امتثاله فالعمل صالح، ولا يكون ذلك ابتداء من فقير لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل ليس ذلك التوفيق إلا محض عطية ربانية يهبها الباري، عز وجل، لمن شاء من عباده بمقتضى حكمته البالغة، فهو الأعلم بمحال الهدى والضلال، فلا يضع الهدى في محل فاسد لا يقبل غراس النبوات فأرضه ملساء جرداء لا تقبل بذرا ولا تخرج ثمرا، ولا يضع الضلال في محل صالح فذلك من السفه الذي تنزع عنه آحاد الحكماء فكيف بمن له منها وصف الكمال الذي لا تحيط المدارك به وإن تصورت معناه كليا مجردا.
وروحه التي استخلف فيها بإقامتها على أمر الوحي، لا يملكها، إذ هي عارية بيد المستعير متى أراد المعير استرجاعها فليس لإرادته معارض، إذ ذلك من القضاء الكوني المحتوم.
فالحاصل أنه عري عن الملكة، ليس له منها إلا ملكة مقيدة يسير فيها بما حده له صاحب الملك المطلق، جل وعلا، فللبدن أحكام من يوم الميلاد إلى يوم الميعاد، وللروح أحكام من يوم النفخ إلى يوم النزع، فهو كما يقول ابن القيم رحمه الله:
"متصرف فى تلك الخزائن بالأَمر المحض تصرف العبد المحض الذى وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم فى البذل والإِمساك". اهـ
ص25.
(يُتْبَعُ)
(/)
فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، ورضي لما يرضي الله، وسخط لما يسخط الله، فكان بالله، ولله، فهو العبد الذي اصطفاه بارئه، فخلع عليه نعمة الافتقار إليه، فهو الغني عما سواه من الأسباب، لا يباشرها إلا على حد الشرع، إذ تعطيلها بالفناء في معاني الربوبية، حتى يفنى الناظر عن ملاحظة الأسباب، كما جرى لكثير من العارفين المخلصين، ذلك الفناء الشهودي عن ملاحظة السبب الحاضر: ليس مراد الرب، عز وجل، الشرعي، إذ توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله، مرقاة إلى المراد لذاته، مرقاة إلى درجة: توحيد الله، عز وجل، بأفعال العبد على حد الاستسلام القلبي والانقياد العملي، فهو التصور العلمي الأول: الذي لا يتلقى إلا من خبر النبوات الصحيحات، فيرد على العقل الصريح فيزكيه بما يورده عليه من أسماء وأوصاف وأفعال الرب، جل وعلا، الكاملات، فإذا استحضر ما له من معاني الكمال المطلق على حد ما قررت الرسالات دون خوض في الكيفيات، إذ ذلك فوق المدركات البشرية في الدار الأولى، فليس لهم من كمال الوصف ما يجعلهم أهلا لرؤية الرب، جل وعلا، فإذا استقر بهم المقام في دار النعيم كمَّل الله، عز وجل، لهم المدارك، فصاروا أهلا، لأعظم نعمة، إذ ليس فوق جنس اللذات العلمية لذة، وأعلاها: لذة العلم بالله، عز وجل، على حد الرؤية البصرية بلا إدراك إذ لا يدرك المخلوق عظمة الخالق، عز وجل، وإن بلغ من الكمال البدني والعقلي ما بلغ، فذلك مما اختص الباري، عز وجل، به نفسه، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وإن أعطى بعض عباده من المحامد ما لم يعطه غيرهم، على حد قول صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "آتي تحت العرش وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع"، وإن أعطاهم ذلك على حد الاختصاص المشعر بالاصطفاء بتلك المنة وأعظم بها من منة: إلا أنه لم يعطهم إلا قبسا من مشكاة كمالاته التي لا منتهى لها، فلا منتهى لكلماته، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وتلك من أوصافه، والقول في بعض أوصافه كالقول في بعض فلا منتهى لكمال أوصافه سواء أكانت: معنوية أم خبرية، ذاتية أم فعلية، والقول في صفاته فرع القول في ذاته، فكمال صفاته العلية فرع كمال ذاته القدسية، فله الكمال الأزلي الأبدي ذاتا وصفاتا، فأي لذة علمية أعظم من لذة رؤية من ذلك وصفه؟!، وأي علم أصح وأنفع للمكلف في الدارين من علم الرسالات التي فصلت القول في تلك المعاني الجليلات، فجاءت بما يشهد العقل الصريح والفطرة النقية بصحته، فصادف خبر الوحي محلا صحيحا قابلا، فأنبت في القلب شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها من صالح الأعمال، كل حين، إذ صلاح العمل، كما تقدم مرارا، فرع صلاح العلم، وبتلك القوتين يقيم المكلف أمر دينه، فإنه لا بد من علم نافع متقدم وعمل صالح مصدق، وإلا كانت دعوى بلا برهان، ولذلك كان الإيمان: قولا وعملا، فقول بالقلب اعتقادا، وقول باللسان تلفظا، وعمل بالقلب تخشعا وتذللا، وعمل باللسان: استغفارا وتسبيحا، وعمل بالجوارح صلاة وصياما وحجا وجهادا، بل وإتلافا للنفس إن كان في ذلك حفظ الدين من الدروس أو التبديل.
ويشير ابن القيم، رحمه الله، إلى الباعث على انتحال وصف العبودية الاختيارية بقوله:
"وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة فى ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء.
(يُتْبَعُ)
(/)
وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن فى صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ". اهـ
ص25
باعث: الرغبة في الثواب، والرهبة من العقاب، باعث: (اللهم إني أسألك الجنة)، فحولها دندن الأنبياء، عليهم السلام، إذ كانت أشرف المطالب العلية التي لا تسموا إلى تحصيلها إلا الهمم العلية، فالعلي بالعلي أليق، والدني بالدني أليق، وكل يعمل على شاكلته، فروح، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، تطوف حول العرش، وروح لما تزل حبيسة الحش، و: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، فيخلق بقدرته النافذة: البر والفاجر، الشريف والوضيع، النفيس والخسيس، ولكنه لا يختار لدرجات الجنان إلا أصحاب الرتب العلية، فذلك من كمال حكمته وفضله، كما تقدم من حد الحكمة فهي: وضع الشيء في محله القابل، ولا يختار لدركات النيران إلا أصحاب الرتب الدنية، فذلك من تمام حكمته وعدله، فالأولون بفضله مقربون، والآخرون بعدله مبعدون، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فما حاجته إليهم ليظلمهم، وهل يظلم إلا الفقير الذي يطمع في ملك المظلوم فيقهره عليه لشدة فاقته واحتياجه إليه، فكيف صح قول أخبث يهود: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فنسبوا تمام الملكة على حد الاستقلال بالتصرف إلى ذواتهم الفقيرة، ونزعوه في المقابل عن الرب، جل وعلا، الذي له من المِلك والمُلك كماله، فهو مالك الأعيان بمُلكه، المتصرف في الأحوال بمِلكه. وعند التحقيق، لا يخلو أي معبود عبد من دون الله، عز وجل، من ذلك الوصف، سواء ادعاه أو ادعي له.
فلسان حاله إن كان طاغوتا قد رضي بذلك: أنا الغني الذي يفتقر الخلق إلى ما في خزائني، ويخشون بطشي وسطوتي فيتقربون إلي على حد الرغبة فيما عندي، والرهبة من سيفي وسوطي، فذلك الطغيان العملي.
ولسان حاله إن كان طاغوتا يدعو الناس إلى تحكيم نحاتة ذهنه، ونبذ الكتاب المنزل: أنا العليم علم الإحاطة بالمآلات، الحكيم فلا تخفى عليه العاقبات، فذلك الطغيان العلمي.
ولسان حال من غلا في متبوعه غلو النصارى في المسيح، عليه السلام، وغلو المبتدعة في الآل، عليهم وعلى الصحب الرضوان، وغلو أهل الطريق في الشيوخ والفقراء، فأقاموا لهم المشاهد المزخرفة، ليروج باطلهم القبيح على مريدي الخلاص بدخول ملكوت المسيح عليه السلام، أو شفاعة الإمام أو الشيخ، فهو طريق المريد إلى الله، بل هو الله، بلسان المقال أو الحال!، وعززوا ذلك بالتخشع والتأوه والبكاء، فصيروا الملة: قلبا بلا عقل، عملا بلا علم، وذلك مظنة الضلال، على حد دعاء السبع المثاني: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، فاهدنا الصراط المستقيم بعلم نافع صحيح، وعمل صالح رشيد لا غلو فيه ولا تقصير، فمن طلب العلم بلا عمل فقد أشبه المغضوب عليهم، وذلك حال من فسد حاله من علماء الملة الخاتمة، ومن طلب العمل بلا علم فقد أشبه الضالين وذلك حال من فسد حاله من عباد الملة الخاتمة، لسان حال أولئك: إن من ندعوا إلى عبادته له من أوصاف الكمال والغنى ما صيره أهلا لأن يتصرف في أحوال الكون على جهة الاستقلال فهو الإله بعينه، أو هو نائبه المتنفذ!. ولا عزاء للمغفلين.
وكل أولئك: قطاع طريق محترفون، قد ابتكروا من وسائل الغواية ما صير الشيطان المَريد دونهم رتبة فهو من فنون غوايتهم يقتبس!
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وقوله: "البراءَة من رؤية الملكة". ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له فى الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذى الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، عليهم الصلاة والسلام وكذلك أَغنياءُ الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة فى الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما فى أَيديهم لله عارية ووديعة فى أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم، فوجود المال في يد الفقير ليس يقدح فى فقره، إِنما يقدح فى فقره رؤيته لملكته، فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأَوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذى ينفذ أَوامره فى ماله، فهذا لو كان بيده من المال مثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أَكبر همه ومبلغ علمه، إِن أعطى رضي، وإِن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموماً ويمسى كذلك فيبيت مضاجعاً له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأَسف إِذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إِذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر، والأَول مستغن بمولاه المالك الحق الذى بيده خزائن السموات والأَرض، وإِذا أَصاب المال الذى فى يده نائبة رَأَى أَن المالك الحق هو الذى أَصاب مال نفسه". اهـ
ص27.
فليست البراءة من رؤية الملكة: خلع الثياب وارتداء الأسمال، والاجتزاء بخشن الطعام تعذيبا للبدن وقهرا للنفس، والسياحة في الفلوات هربا من تبعات الحياة، فقد يفعل الإنسان ذلك ويبقى في قلبه من طلب الجاه والرياسة ما يفسد حاله، فيكون قد تجرد من شهوة البدن الظاهرة، ولكنه لم يتجرد من شهوة القلب الخفية، فالنفوس قد جبلت على حب الترأس للأتباع، وسماع التعظيم والثناء منهم ولو زورا وبهتانا كحال متملكة الأديان والبلاد الذين أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم تحصيلا لمكاسبهم ورياساتهم الزائلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 08 - 2009, 08:29 ص]ـ
ثم يقول رحمه الله:
"فما للعبد وما للجزع والهلع، وإِنما تصرف مالك المال فى ملكه الذى هو وديعة فى يد مملوكه، فله الحكم فى ماله: إِن شاءَ أَبقاه، وإِن شاءَ ذهب به وأَفناه، فلا يتهم مولاه فى تصرفه فى ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إِلى المالك الحق، فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إِليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية فى سورة الليل بل قال: {وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} وهذا - والله أَعلم لأَنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر فى سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته، فعل المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بداً من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهى التى وعد بها أَهل الإِحسان بقوله: {لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ} ". اهـ
ص27، 28.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالملكة موجبة للطغيان، أو بعبارة أدق: رؤية الملكة على حد الاستقلال بالتدبير بمنأى عن حكم الرسالات، فالبعد عنها مظنة كل شؤم، إذ يفسد تصور صاحب المال، فيصير قاروني المسلك، فرعوني المنهج، فينسب الخير إلى نفسه على حد الاستقلال، وإذا أصيب في ماله أو ولده، نظر إلى السماء نظر المعترض لا المسلم، على حد قوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، فأهل النعيم والسعة على جهة المحادة للنبوة، وهذا حال أغلب المترفين، لهم من فساد التصور وفساد العمل في باب القضاء والقدر قسط وافر، فإن غلظ حجاب الترف يحجب نور الإيمان بالقضاء والقدر عن قلوبهم، فهم من أجزع الناس حال الابتلاء فرعا عن كونهم من أفقر الناس، مع ادعائهم الغنى على حد الطغيان حال السعة، فحالهم إذا وقعت المصيبة في المال أو الولد شاهدة بضد ما ادعوه لأنفسهم من الاستغناء بخلاق الدنيا الفاني، فلو كانوا أغنياء حقا، كما ادعوا، لردوا عن أنفسهم القضاء المبرم، وذلك: محال بداهة، إذ ليس المصاب الكوني النافذ مما يرد لتعلقه بقدرة الرب، جل وعلا، على حد الجزم والحتم، فلا راد لقضائه الكوني، على حد قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)، فأبلغناه ذلك على حد النفاذ فلا راد له، فأسر بأهلك لئلا ينالك من ذلك القضاء النافذ شيء، ولا راد لأمره الكوني، على حد قوله تعالى: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)، فلا راد لعذابه المأمور الذي يكون بأمره الكوني النافذ، فالأمر يحتمل المصدر باعتبار السبب وهو الأمر الكوني النافذ، أو اسم المفعول: المأمور باعتبار العقاب الرباني النافذ، وعلى كلا القولين: فالأمر قد قضي وفرغ منه، فاقتضت قدرة الله، عز وجل، النافذة، وحكمته الباهرة ألا يؤمن أولئك، فيسروا إلى ضد الإيمان والانقياد من: الكفران والعناد، ولا مبدل لجعله الكوني، على حد قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا)، فجعل الذكر ذكرا فلا مؤنِّث له، وجعل الأنثى أنثى فلا مذكِّر لها إلا على حد العبث والخروج عن مقتضى الفطرة الكونية، كما هو مشاهد في عصرنا الحاضر، ولا يكون ذلك، عند التحقيق، إلا بقضاء كوني آخر، فهم حال الرضا أو السخط: تحت المشيئة الربانية، وذلك عين الفقر الذي ادعوا ضده، فليس لهم من أمر إيجاد الأبدان أو جريان الأسباب شيء، إذ تدبيرهم مقيد بأمر الشرع، فلا يكون التدبير الكوني العام بإنفاذ المقدورات أو منعها، بتعمير البلدان أو خرابها ......... إلخ إلا للرب، جل وعلا، والأدهى من ذلك أنهم: أظهروا الاستغناء عن التأله للرب المعبود، جل وعلا، وذلك أمر بدهي، إذ فسد تصورهم في باب الربانيات، فظنوا اسنغناءهم عن تدبير الرب، جل وعلا، فما حاجتهم إليه ليتألهوا له، إذا كانوا قد استغنوا عنه؟!، فالغني لا يمد يده إلى غيره على حد التذلل، والغني، ولو اسما بلا وصف، كما هو حالهم، لا يمد يده إلى رب لم يستحضر معاني كماله في قلبه، ولذلك كان نفاة الصفات أفسد الناس علما وعملا في هذا الباب، إذ أنزلوا الرب، جل وعلا، منزلة العدم، ووصفه من وصفه من المشبهة بأوصاف الخلق، بل وصفه فئام من البشر ليس لهم من العقل إلا الاسم والجرم الكائن في الدماغ، بأوصاف يتنزه عنها آحاد القادرين من البشر، فضلا عن رب البشر، فهو عاجز عن دفع الضر عن نفسه، فإسرائيل يصرعه لينال منه صك ملكية الأرض المقدسة ليهود، وهو فقير يستقرض من عباده.
وهو مصلوب قد أسلم ناسوته لأعدائه الذين فعلوا به من الشناعات ما فعلوا، فرعا عن عجزه عن غفران ذنوب عباده وتخليصهم من سجن أعدى أعدائه، فلن يكون ذلك إلا بإهانة ناسوته على ذلك النحو المفجع!.
تعالى الملك السلام من كل وصف قادح.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولكل من أولئك: نصيب من الفساد العلمي فمن مقل ومن مكثر، وبقدر ذلك يكون فساد الإرادات والأقوال والأعمال، فيظهر الجاهل بوصف ربه عز وجل من الغنى الذاتي، الجاهل بوصف نفسه من الفقر الذاتي، ما ليس له من وصف الغنى المطلق، فرعا عن رؤية ملكة ناقصة لعين فانية استخلف في تدبيرها على حد مراد مالكها الذي استخلفه لا على حد مراده، فظن أن له من الملك نصيبا، ولو كان ذلك حقا ما أعطى غيره قطميرا، فـ: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا): فأكد الحكم بورود الاسم بعد: "لو"، والأصل فيها أن يليها الفعل الماضي، فورود الاسم بعدها مظنة التوكيد والاختصاص، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فضلا عن دخول: "إذن" على الجواب إمعانا في التوكيد ثم ذيل بعلة ذلك: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، مئنة من استمرار اتصافه بذلك الوصف، فهو جبلة فيه فرعا عن فقره الذاتي الأصيل، فإن الفقير هو الذي يضن بما في يده، وهذا حاله، فكيف ادعى لنفسه تمام الملكة؟!: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)، فالاستفهام على حد الإنكار الإبطالي، فلو كان ذلك لهم لمنعوا الناس القطمير فكيف يما يجري الرب، جل وعلا، من المكاسب والأرزاق، فذلك فرقان بين غنى الرب، جل وعلا، فهو من الهدى المشفوع بالبينة، فحال البشر خير شاهد على تمام غنى الرب، جل وعلا، وكمال قيوميته، فإنه لا قبل لبشر بإجراء ما يجريه الرب، جل وعلا، من النعم، ولو كان مالكا لأعيانها، وذلك من المحال، ما وسعه إجرائها على ذلك النحو الباهر الدال على حكمة الرب البالغة، فإعطاء بقدر، ومنع بقدر، فيبسط فضلا، ويقبض عدلا، ويوسع على من شاء لئلا يفسد حاله بالفقر إن كان صالحا، وليستدرجه إن كان طالحا، ويضيق على من شاء عدلا، فيحجب عن أصحاب الديانة ما يفسد عليهم أحوالهم الكاملة من متاع دنياهم الزائل، ويلجم الفساق بحجب عطائه، إذ لو وسع عليهم لبغوا وطغوا، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
فهو بأحوال عباده: خَبِيرٌ بَصِيرٌ، يعلم دقائق نفوسهم وما جبلوا عليه من طلب الاستعلاء طغيانا، فلو مد لهم من أسبابه لفسد حالهم، فبغوا في الأرض إفسادا، فله من القدرة النافذة ما ينزل به ما يشاء من الأرزاق: وفرة أو ندرة، حلالا بلا تبعة، أو حراما على صاحبه التبعة .......... إلخ، وتلك القدرة، كما تقدم في أكثر من موضع، لا تكون إلا مقترنة بحكمة وعلم محيط، فلا عطاء ولا منع إلا بقدرة وحكمة، ولذلك ذيل الآية باسمي: (خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، فهو خبير بالعلوم الباطنة بصير بالأعمال الظاهرة.
والشاهد أن ذلك الفساد في التصور هو الذي ولد ذلك الاستغناء بتلك الملكة الزائلة، فهو عرض ظاهر من أعراض فساد الباطن.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان أول درجات الفقر وهو: "فقر الزهاد"، فقال:
"وهو، (والكلام لشيخ الإسلام الهروي رحمه الله)، نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه.
فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً فهو لا يضبط يده مع وجودها شحاً وضناً بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وإِلحافاً وحرصاً. فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب، إِذ لو كان لها فى القلب منزلة لكان الأَمر بضد ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إِليها.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأَيضاً من أَقسام الفراغ إِسكات اللسان عنها ذماً ومدحاً لأَن من اهتم بأَمر وكان له فى قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أَمره مدحاً أَو ذماً، فإنه إن حصلت له مدحها، وإِن فاتته ذمها. ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها فى القلب، لأَن الشيء إِنما يذم على قدر الاهتمام به، والاعتناءُ شفاءُ الغيظ منه بالذم.
وكذلك تعظيم الزهد فيها إِنما هو على قدر خطرها فى القلب، إِذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإِن من أَحب شيئاً أَكثر من ذكره". اهـ بتصرف
ص28.
فاللسان ترجمان القلب، وفي عالم الشهادة: قد تفسد شدة التعلق بمخلوق سواء أكان عاقلا متحركا، كمن يعشق صورة فانية، أم عرضا ساكنا كمن تعلق قلبه بمال منقول أو عقار موقوف ........ إلخ، قد يفسد ذلك تصور صاحبه، فيرى القبيح مليحا، ويرى الفاني الزائل باقيا، وحال العشاق في الغلو في معشوقيهم خير شاهد على ذلك، فهم أفسد الناس تصورا لمحبوبيهم، فرعا عن فساد عقولهم بالاختبال والوله!، فيرون عين النقصان كمالا، ويغضون الطرف عن مظاهر الفساد الظاهرة في صور محبوبيهم، فالنقص لكل كائن مخلوق وصف لازم، ولكن عين الرضا عن كل عيب كليلة، ولولا ذلك الفساد العلمي بالتعلق بغير الله، عز وجل، على حد الركون إليه والاستغناء به عن الغني الباقي جل وعلا، لولا ذلك الفساد ما انطلقت الألسنة: مدحا وذما، فمن أفرط في الحب والمدح غلوا، أفرط في البغض والذم جفاء، فهو دائم الذكر لغير الله، عز وجل، مادحا إن كان وصل، قادحا إن كان هجر، فهو عبد بلسان الحال لمن أحب، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدِّرْهَم وعبد الخَميصة، إن أُعْطِيَ رضي، وإن لم يُعْطَ سَخِط، تَعس وانتكَسَ، وإذا شيك فلا انْتَقَش)، فهو عبد ذليل في صورة سيد عزيز، ومملوك أسير في صورة مالك حر طليق.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان أنواع الظلمة فقال:
"والظلمات الثلاث هى: ظلمة النفس، وظلمة الطبع، وظلمة الهوى. فلا بد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين: إِنكم لن تلجوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين. ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم أَباً للمؤمنين كما فى قراءَة أُبِى: "النبى أَولى بالمؤمنين من أَنفسهم وهو أَب لهم"، (وهي قراءة منسوخة إذ كان أبي، رضي الله عنه، ممن يثبت كل حرف نازل، وإن ورد عليه الناسخ، ولذلك عدل المسلمون عن مصحفه، وإن كان من أعلم الناس بالتنزيل، كما في أثر عمر، رضي الله عنه، فتجري مجرى حديث الآحاد، فمنه المحكم ومنه المنسوخ فلا إشكال في ذلك، أو تجري مجرى القراءة التفسيرية، إن لم ينسبها صاحبها إلى التنزيل)، ولهذا تفرع على هذه الأبوة أَن جعلت أَزواجه أُمهاتهم، فإن أَرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أُخرى غير ولادة الأُمهات، فإِنه أَخرج أَرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغى إِلى نور العلم والإِيمان وفضاءِ المعرفة والتوحيد، فشاهدت حقائق أُخر وأُموراً لم يكن لها بها شعور قبله، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ} [إبراهيم: 1]، وقال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [الجمعة: 2] وقال: {لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ} ". اهـ بتصرف
ص29، 30.
(يُتْبَعُ)
(/)
فأبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته خصوصا، وأبوة الرسل عليهم السلام لأممهم عموما: أبوة روحية، إذ تعاهدوا أرواحهم بالتربية والعناية، كما يتعاهد الآباء أجساد أبنائهم بالغذاء والدواء والملبس ........ إلخ، وشتان الرعايتين: رعاية الأرواح الباقية، ورعاية الأبدان الفانية، فقد أخرجت الرسالات قلوب العباد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، فاستعارة الظلمات المجموعة لطرائق الشرك المتشعبة، واستعارة النور المفرد لطريق التوحيد المتفرد، مئنة من لزوم اتباع السبيل الواحد: سبيل النبوة الهادية لئلا تتشعب المسالك بالسالك فيضل في أودية الشرك على حد قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فتلك الوصاية: وقاية من تعلق القلب بغير الله على التعبد تصريحا أو تلميحا، إذ لكل من تعلق بغير الله، على حد الافتقار، من وصف العبودية نصيب، فمن مقل ومن مكثر.
ثم شرع، رحمه الله، في بيان أنواع القلوب فهي على ثلاثة أنحاء:
"والمقصود أَن القلوب فى هذه الولادة ثلاثة:
قلب لم يولد ولم يأْن له بل هو جنين فى بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.
وقلب قد ولد وخرج إِلى فضاءِ التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأَنست بقربه الأَرواح، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأَن بالله، وسكن إِليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إِلى الرفيق الأَعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إِلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ومحبته وقوته، لا يجد من الله عوضاً أبدا.
فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جدب قلبه عن الله: "وإِن كان القريب المصافيا". ووليه من رده إِلى الله وجمع قلبه عليه: "وإن كان البعيد المناويا"، فهذان قلبان متباينان غاية التباين.
وقلب ثالث فى البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أَصبح على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أَشعة التوحيد، تأْبى غلبات الحب والشوق إِلا تقرباً إِلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ فى طاعته وحبه، وتأْبى غلبات الطباع إِلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الدّاعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.
والمقصود أَن صاحب هذا المقام إِذا تحقق به ظاهراً وباطناً، وسلم عن نظر نفسه إِلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي، ليس فيه قادح من القوادح التى تحطه عن درجة الفقر". اهـ
ص30.
فقلوب لم تخرج عن حد الحيوانية، وإن كان لأصحابها هيئات آدمية، فليس لهم من شرف الإنسانية إلا ظاهر الأجساد المنتصبة، بخلاف القلوب المنتكسة التي صيرت أصحابها أحط من البهائم، على حد قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، فالأنعام على فطرة التوحيد، وإن لم تكن على حد التكليف، وأولئك قد بدلوا الفطرة الأولى، فلطخوها بأدران الشرك والشهوات المحرمة من عشق صور، ومأكل سحت ............. إلخ.
وقلوب قد تحررت من رق عبودية المخلوق، فانطلقت في فضاء التوحيد، فلا ترجوا إلا الله، عز وجل، على حد الرغبة، ولا تخاف إلا منه على حد الرهبة، ولا توالي ولا تعادي إلا له، ولا تحب ولا تبغض إلا فيه، فهو وليها الأوحد على حد قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، على حد القصر بتعريف الجزأين فضلا عن التصدير بالتوكيد الذي دل عليه الناسخ: "إن"، فهو الذي نزل الكتاب بالحق هاديا للقلوب إلى نافع العلوم، وهاديا للألسنة إلى صحيح الأقوال، وهاديا للجوارح إلى صالح الأعمال، فله من البينات ما يدل على حد الجزم على صحة ولايته الكونية والشرعية على القلوب والأبدان.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي المقابل: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، وشتان رب يسمع ويبصر ويجيب الدعاء، ورب لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب دعاء، ولا يملك لنفسه فضلا عن غيره: ضرا ولا نفعا.
وقلب: يتردد بين الوصفين، فإذا زاد الذكر زاد الإيمان، فتيسرت الولادة، وإذا فتر نقص الإيمان فتعسرت الولادة. والله، عز وجل، يتجاوز عن الغفلات التي لا يسلم منها مكلف إلا من عصمه الله، عز وجل، على رسم النبوات.
وهذا حال أغلب السالكين إلى الله، عز وجل، فنوبة إفاقة ونوبات غيبوبة، فلم تضع الحرب، كما يقول ابن القيم في موضع تال، أوزارها بين الروح والبدن، فكل يثخن في الأخر، وإنما النصر صبر ساعة، فمن صبر واحتسب، أفلت ونجا، والله، عز وجل، يغفر ساعات الغقلة، ويبارك ويثمِّر ساعة الصحوة.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان مواضع ذم الدنيا إذ لا تذم على الإطلاق فهي المطية إلى دار البقاء، والمطية إن لم تكن صحيحة كلت ولم تبلغ بصاحبها مراده.
قال رحمه الله:
"واعلم أَنه يحسن إِعمال اللسان فى ذم الدنيا فى موضعين:
أَحدهما: موضع التزهيد فيها للراغب.
والثاني: عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إِلى طلبها ولا يأْمن من إِجابة الداعي، فيستحضر فى نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد". اهـ
ص30.
فإذا رأيت راغبا فيها على حد الافتقار، فهو يرضى ويغضب لها، وإن انتهكت حرمات الملك، عز وجل، فتحقير شأنها في عينه أليق، كتزهيد الغني فيها على حد الترقيق ليخرج حق ما تحت يده مما استخلف فيه، وكترهيب الشاب الجلد إذ الشباب مظنة الغفلة وقسوة القلب.
وإذا رأيت معرضا عنها على حد الزهد الغالي، فلا يلتفت إلى تحصيل السبب المشروع، ولا يتعاطي طيب المأكل والمشرب والمنكح، ديانة، وليس ترك المباح مما يتدين به في ملتنا الحنيفية، إذا رأيت من ذلك حاله فرغبه فيها على حد الاعتدال، كترغيب الشيخ الفاني فيما عند الله، عز وجل، من النعيم الباقي، فحاله أليق بالترغيب، فالترهيب قد يوقعه في اليأس والقنوط وإساءة الظن بالله، عز وجل، الغفور الرحيم، فيهلك بذلك.
وإذا رأيت نفسك مقبلة على الدنيا إقبال الطامع الراغب فألجمها بلجام: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 07:43 ص]ـ
ثم عقد ابن القيم، رحمه الله، فصلا في: "تفسير الفقر ودرجاته" أشار في أوله إلى تنازع الشرع والهوى: ملك الجوارح: القلب فقال:
"والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإِرادة وحب يخرج منه هم وإِرادة وحب يقابله، فهو إِناءٌ واحد والأَشربة متعددة، فأَى شراب ملأَه لم يبق فيه موضع لغيره، وإِنما يمتلئ الإناءُ بأَعلى الأَشربة إِذا صادفه خالياً، فأَما إِذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أَتانى هواها قبل أَن أَعرف الهوى ******* فصادف قلباً خالياً فتمكنا
(ولذلك كان من فضل الله، عز وجل، على الشاب المتنسك أن يوفق في أول أمره إلى صاحب سنة، كما أثر ذلك عن بعض السلف، إذ لا تنفك القلوب غالبا عن نوع انتصار للشيخ أو المعلم الأول).
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إِنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأَن كل شراب فمسكر ولا بد، و: "ما أَسكر كثيره فقليله حرام"، وأَين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسنيم - الذي هو أَعلى أَشربة المحبين- في إِناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأَجنحة الشوق إِلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكين بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأَخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أى حظ أَضاع إِذا فاز المحبون، وخسر المبطلون". اهـ بتصرف.
ص32.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالشرع والهوى لا يجتمعان في موضع إلا تدافعا، فذلك من السنن الكونية الجارية، فمتى تمكن نور الوحي من القلب ضعف بل اضمحل سلطان الهوى، على حد قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، و: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، ومتى تسلل الهوى من ثغور القلب إذا غفلت جنوده الشرعية، تولد من ذلك فساد بقدر تلك الغفلة، إذ أحدث الهوى في حائط الصد الإيماني: ثلمة: تسللت منها أجناده لتعثوا في أرض القلب مفسدة، فإن لم يتدارك القلب ذلك النقصان، بعلوم وأعمال تزيد الإيمان فتسد تلك الثغرة وتجبر تلك الكسرة: إن لم يتداركه بذلك: اتسع الثلم اتساع الخرق على الراتق، فاستباحت الشبهات والشهوات محلة القلب: ففسد الملك وبفساده تفسد بقية الأجناد، فيتولد من ذلك الفساد الأول في التصورات القلبية العلمية فساد عريض في أحكام البدن العملية، على ما اطرد من تلازم العلم والعمل صحة وفسادا.
وسنة التدافع، كما تقدم، سنة مطردة: فتدافع المقالات والديانات في القلوب وعلى الألسنة: أصل يصدر عنه التدافع البدني في ساحات الوغى، فما حمل السيف انتصارا عمليا للملة أو النحلة، ولو باطلة شوهاء، إلا فرعا عن علم القلب الأول، فإن صح المعلوم الذهني صح المعمول الخارجي، والعكس صحيح، فلا يقع التعدي بإزهاق الأرواح وانتهاك الحرمات إلا فرعا عن التعدي في علوم وأعمال القلب، فمن تعدى في البغض الباطن، تعدى في الانتصار الظاهر بظلم خصمه، ولذلك جاء التحذير: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
وجهاد عباد الرحمن في مقابل عدوان عباد الصلبان والأوثان فرقان في تلك المسألة الجليلة: مسألة العدل في الأسماء والأحكام على المخالفين من أعداء الدين، والتاريخ شاهد عدل على صحة أحكامنا علما وعملا، أحكام: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فهو أعظم صور الظلم في العلوم، فلزم رفعه بـ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، و: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"، فذلك أعظم صور العدل في الأحكام، ومع ذلك: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، و: "انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا تَغُلُّوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". كما عند أبي داود، رحمه الله، في "السنن" من حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا.
وثبت نحوه عن الصديق، رضي الله عنه، عند عبد الرزاق في المصنف وفيه وصاية الصديق رضي الله عنها لقادة جيوش الفتح: "ولا تقتلوا شيخا كبيرا ولا صبيا ولا صغيرا ولا امرأة". اهـ
فالعدل في الشدة فلا تعدٍ بسفك أو انتهاك، والعدل في اللين بلا ميوعة أو إعطاء للدنية في الدين هي مئنة من برودة دم صاحبها إذ انطفئت جذوة الولاء والبراء في قلبه أو كادت فهي باهتة لا تكاد تضيء.
(يُتْبَعُ)
(/)
والتلوث بالأعراض الدنيوية، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، قيد يقيد القلب عن سفره في هجرة الفرار من الله، عز وجل، إليه، الهجرة من أعراض الدنيا الفانية إلى أعيان الآخرة الباقية، فإذا أثقل القلب بهم الفاني، فصار هو محبوبه ومطلوبه، قعد عن طلب الباقي الذي تعلقت به الهمم العلية، والعاقل بربأ بنفسه عن منازل الدون، فلا يُسْكِن بدنه الحشوش، فما باله قد رضي لقلبه من المراتب الدنية ما لم يرضه لبدنه، مع أن مناط نجاته: ما وقر في قلبه لا ما تعلق ببدنه من متاع زائل، هو عارية مستردة يقتات بها من الجوع، ويتقي بها من البرد، فلا يضر القلب إذا سلم من المحذورات الشرعية: ما يصيب البدن من المقدورات الكونية، وليس ذلك دعوى إلى إتلاف الأبدان بلا مصلحة راجحة، فذلك مما ينقض الضرورة الشرعية الثانية، فحفظ الأبدان من مرادات الشرع إذ هي مطايا الرحلة فإذا عطبت، انقطع السير بصاحبها، كما تقدم في موضع سابق، وإذا ضعف البدن بالتفريط في حظه من طيبيات المأكل والمشرب والملبس والمنكح .......... إلخ، لم يقو على تكليفات القلب، فالقائد، وإن كان كامل الفكرة، لا يستقل بالتنفيذ دون جنده، بل لا بد له من جند صحيح الآلات ليحمل عدة القتال، فيباشر الضراب والطعان، فأنى لبدن معطوب أن يقوم بالتكليف المشروع؟!.
ولذلك كان تقصد المشقة في شرعتنا السمحة تنطعا خارجا عن حد المشروع، فالمشقة في الحنيفية السمحة تعرض للفعل فليست جزءا منه، بل هي وافد من الخارج عليه، فمن وجد الماء الساخن في اليوم البارد فعدل عن الوضوء به إلى الوضوء بالماء البارد، فقد تكلف ما يشق على نفسه، وذلك ذريعة إلى بغض المشروع، إذ هو على هذا النحو: قرين المشقة، فمجرد تصوره: تصور لما تبغضه النفس جبلة، فأي صد للقلب عن سبيل الله، أعظم من ذلك، وإن باشره صاحبه على حد الديانة، وتلك من مزالق الشيطان الخفية، إذ يحمل العبد على التزام ما لا يلزم لنشاط آني يجده في نفسه، فإذا دوام على تقصد المشاق: فترت همته وضعف بدنه فترك العمل جملة بعد أن كان قد التزمه جملة بل زاد عليه ما ليس منه إمعانا في التدين، وذلك حد البدعة الشرعية، إذ ما وقع فيه هو عينها.
يقول الشاطبي رحمه الله:
"فمن ذلك، (أي: من صور الابتداع الحقيقي أو الإضافي)، أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة: أحدهما سهل والآخر صعب وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس كالذى يجد للطهارة ماءين: ساخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ويترك الآخر فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد فالشارع لم يرض بشرعية مثله وقد قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فصار متبعا لهواه ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات
إسباغ الوضوء عند الكريهات ......... الحديث.
من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها لأنا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ففيه أمر زائد كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده ساخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد". اهـ
"الاعتصام"، ص326، 327.
وإنما وجب البيان هنا لخفاء الفارق بين الزهدين: المشروع وغير المشروع فقل أن يسلم أحد من: الإفراط أو التفريط، والحق وسط بينهما.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 08 - 2009, 07:58 ص]ـ
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى فضل الله، عز وجل، على العبد الموفق إذ اصطفاه لطاعته، فقال:
"فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأَقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته
(يُتْبَعُ)
(/)
وكان سبحانه هو الأَول فى ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر فى كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهراً وباطناً فعبوديته باسمه الأَول تقتضى التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتديء بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَى وسيلة كانت هناك، وإِنما هو عدم محض، وقد أَتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى. فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة وعبوديته باسمه الآخر تقتضى أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تعدم لا محالة وتنقضى بالآخرية، ويبقى الدائم الباقى بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحى الذى لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أَن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إِليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، فكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر حيث تنتهى الأَسباب والوسائل فهو أَول كل شيء وآخره، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته وحده ونهايته ومقصوده". اهـ
ص33، 34.
فهو الأول: له الأولية في ذاته وله الأولية في صفاته، على حد الإطلاق، فذاته القدسية أزلية قد قامت بها أوصاف الكمال الربانية: جلالا وجمالا على حد القدم، فليس قبل ذاته ذات، وليس قبل وصف كماله وصف، لم يكتسب كمالا كان عنه عريا، بل له وصف الكمال أزليا أبديا، ولا يعرض له نقص كان منه بريا، بل هو السلام من كل أوصاف السوء، القدوس المنزه عن كل ما يسوء، فله الكمال بالإثبات تفصيلا والنفي إجمالا على ما اطرد في التنزيل والوحي، فمن كان ذلك وصفه في الأولية: فهو بإفاضة العطايا الكونية والشرعية على عباده جدير، فكما أن له أولية وصف الذات، فإن له أولية وصف الفعل، ففضله على عبده سابق، فهو الذي تفضل عليه ابتداء بلا سابق يد استحقاق بالإيجاد، فقد كان معدوما فصار بالكلمة التكوينية موجودا، وكان ضعيفا لا يقدر على السير فصار بسنة الرب، جل وعلا، قويا قادرا على المشي بل السعي بل الركض!، ثم رد إلى سابق الضعف إمعانا في بيان عجز العبد في مقابل قدرة الرب، جل وعلا، فكان في أحسن التقويم ثم رد إلى أسفل السافلين، وكان فقيرا فصار بأسباب الرزق التي يسرها الله، عز وجل، له، غنيا مليا، ثم إذا شاء الرب، جل وعلا، فارقه وصف الغنى فرد فقيرا، أو فارق هو أسباب الغنى فمضى إلى بارئه عريا عن الأسباب لا مغيث له من وصف جلال الرب إن كان مسيئا، ولا غنى له عن وصف جمال الرب إن كان محسنا، فإن العمل سبب كبقية الأسباب، لا يستقل بالتأثير حتى يقبل، فإذا قبله الكريم على ما فيه من دخل، فنماه وثمره لعبده، صار ذريعة إلى النجاة بالفوز برضا الرب، جل وعلا، وثوابه في دار النعيم الأبدي.
فتفضل على عبده بأولية الإيجاد والإعداد، ثم ابتدره بالإمداد الكوني بأجناس الغذاء الأرضي، والإمداد الشرعي بأجناس الغذاء السماوي الذي لا يستحصد إلا من أرض النبوات البكر التي تؤتي من أكل الوحي ما تصح به القلوب المريضة والأرواح العليلة، فهي الروح الشرعي الذي يسري في القلوب سريان الروح الكوني في الأبدان، فببقائه يكون الصلاح وبمفارقته يكون الفساد.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو الآخر الباقي بعد زوال الأسباب، فمن تعلق بها على حد الافتقار إليها واعتقاد تمام التأثير بالضر أو النفع في أعيانها، فقد تعلق بالفاني، ومن تعلق به، جل وعلا، فقد تعلق بالصمد، فهو الباقي بعد فناء خلقه من الأعيان والأسباب، فأين من تعلق بالفاني الذي يعتريه الفساد والعدم، ممن تعلق بالباقي الذي له وصف الكمال من الأزل إلى الأبد.
فالتعبد لله، عز وجل، بمقتضى هذين الاسمين يقتضي دوام الافتقار إلى الرب، جل وعلا، فهو الحي فمنه أسباب التكوين، وهو القيوم فمنه أسباب التدبير، يقول قوام السنة رحمه الله:
"القيوم: القائم الدائم في ديمومة أفعاله وصفاته". اهـ
"الحجة في بيان المحجة"، (1/ 129).
فهو المتصف بديمومة الفعل على حد الكمال الذي لم يسبق بعدم، فلم يكن، جل وعلا، معطلا عن وصف الكمال أزلا، ولا يزول عنه أبدا، فوصف الكمال لذاته القدسية لازم.
فلا غنى للعبد عنه ابتداء وانتهاء، فابتداء أمر العبد كلمته التكوينية بالإيجاد، وصلاح حال العبد تتابع كلماته التكوينية بالرزق والتدبير، وانتهاء أمره كلمته التكوينية بالإعدام، ليمتاز وصف الرب الأول الآخر في وجوده وكماله عن وصف العبد الحادث ذاتا وصفاتا بعد أن لم يكن، فالذات حادثة بالكلمة التكوينية، كما تقدم، والكمال طارئ فالفعل له سابق، بخلاف فعل الرب، جل وعلا، فهو، كما تقدم في أكثر من موضع، صادر عن كمال وصفه الأول.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يقصد ويعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ". اهـ
وعلى ما اطرد من تلازم الربوبية تقريرا علميا، والألوهية تقريرا عمليا بأفعال العبد يصدق العلم بأوصاف الرب وأفعاله:
"فكما كان واحداً فى إِيجادك فاجعله واحداً فى تأَلهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإِرادتك وتأَلهك إِليه لتصح لك عبوديته باسمه الأَول والآخر، وأَكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأَول، وإِنما الشأْن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأَتباعهم، فهو رب العالمين وإِله المرسلين سبحانه وبحمده". اهـ
فهو الإله المعبود فرعا عن كونه الرب الموجد، والصانع بصنعته أولى، فله ملك العين ونماؤها، فمن أتلفها فعليه ضمانها، ومن اغتصبها فعبدها لغير بارئها فعليه ضمانها وضمان منفعتها، إذ بُذِلت لغير مستحقعا، فالمالك، بداهة، بقياس العقل الصريح أولى بخراج مملوكه، فكيف صح في الأذهان أن يصرف العبد خراجه لغير مالكه، فيصرف من أجناس التأله لغير الرب، جل وعلا، ما لا يصح صرفه إلا له، فذلك عين الظلم، بل هو أعظمه، فلا يغفره الرب، جل وعلا، مع عظم عفوه ورحمته.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 09 - 2009, 09:05 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء".
فإِذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه ليس فوقه شيء ألبتة، وأَنه قاهر فوق عباده يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، صار لقلبه أَملاً يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه. بخلاف من لا يدري أَين ربه فإِنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إِليه قصده. وصاحب هذه الحال إِذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إِلهاً يسكن إِليه ويتوجه إِليه، وقد اعتقد أَنه ليس فوق العرش شيء إِلا العدم، وأَنه ليس فوق العالم إِله يعبد ويصلى له ويسجد، وأَنه ليس على العرش من يصعد إِليه الكلم الطيب ولا يرفع إِليه العمل الصالح، جال قلبه فى الوجود جميعهُ فوقع في الاتحاد ولا بد، (وهذا من شؤم نفي الصفات وعدم إجرائها على ما جاءت به النبوات من الإثبات اللائق بجلال الرب جل وعلا)، وتعلق قلبه بالوجود المطلق السارى فى المعينات، فاتخذ إِلهه من دون الإِله الحق وظن أَنه قد وصل إِلى عين الحقيقة، وإِنما تأَله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيال نحته
(يُتْبَعُ)
(/)
بفكره واتخذه إِلهاً من دون الله سبحانه، وإِله الرسل وراءَ ذلك كله: {إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 3 - 4] وقال تعالى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 4 - 9].
فقد تعرف سبحانه إِلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إِلا من أَنكره سبحانه، وإِن زعم أَنه مقربه. والمقصود أَن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إِليه فى حوائجه وملجأً يلجأُ إِليه فإِذا استقر ذلك فى قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأُ إِليه ويهرب إِليه ويفر كل وقت إِليه". اهـ بتصرف
ص34، 35.
وفي نفس السياق يقول قوام السنة، رحمه الله، في كلمات جامعات:
"ومن أسماء الله تعالى: الأول والآخر والظاهر والباطن وهي صفة معرفة ذاته. قال أهل العلم:
معنى الأول: هو الأول بالأولية، وهو خالق أول الأشياء.
ومعنى الآخر: هو الآخر الذي لا يزال آخرا دائما باقيا الوارث لكل شيء بديمومته وبقائه.
ومعنى الظاهر: ظاهر بحكمته وخلقه وصنائعه وجميع نعمه الذي أنعم به.
ومعنى الباطن: المحتجب عن ذوي الألباب كنه ذاته وكنه صفاته". اهـ
"الحجة في بيان المحجة"، (1/ 130).
فالله، عز وجل، هو: الأول والآخر والظاهر والباطن: وقد فسرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: (اللهمّ أنتَ الأول فليسَ قبلكَ شيءٌ، وأنت الآخِرُ فَليَسً بعدك شيءٌ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيءٌ، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيءٌ).
ففسر الأول: بلازمه من نفي قبلية شيء عليه، فلا شيء تقدمه، فهو الأول ذاتا وصفاتا، كما تقدم في أكثر من موضع.
وفسر الآخر: بلازمه من نفي بعدية شيء له، فآخريته ذاتية مطلقة، وإن كانت آخرية غيره بعد فصل القضاء: أزلية في دار النعيم أو دار العذاب، فإن أزليتها منه مستمدة، فهو، المبقي لمن شاء من خلقه بإمداده بأسباب البقاء سواء أكان بقاء إلى فناء: كبقاء الدار الأولى، فمتى انقطع سبب البقاء: جاء الأجل ففني البدن، أم كان بقاء إلى غير فناء: كبقاء الدار الآخرة بقاء: (يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ).
وهو الظاهر: ظهور ذات وشأن وقهر، فظهوره: علوه، وعلوه ثابت على الوجه اللائق بجلاله: علو ذات وعلو صفات.
وهو الباطن: قد أحاط بكل شيء علما، فبطونه: علمي، فهو الخبير: الذي علم الدقائق والدخائل، فذلك من وصف البطون اللائق بجلاله، فهو أقرب بعلمه إلى الإنسان من حبل الوريد، على حد قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وهو أقرب إلى الداعي بسمع إجابته على حد قوله تعالى: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)، وعليه حمل القرب في حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، مرفوعا: (أيها الناس، اربَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون
(يُتْبَعُ)
(/)
سميعًا قريبًا وهو معكم). فالسياق قرينة في إرادة قرب الإجابة، إذ له من كمال السمع على الوجه اللائق بجلاله ما يسمع به أصوات عبيده عموما، مؤمنهم وكافرهم، فذلك من وصف ذاته، وله من كمال السمع ما يجيب به دعاء عابديه خصوصا، فذلك من وصف أفعاله إذ ليس له من العموم ما لسمع الإحاطة.
فله، تبارك وتعالى، من وصف السمع أكمله: سواء أكان ذاتيا عاما أم فعليا خاصا، فنوع الصفة الأعلى ثابت له على حد الكمال المطلق، وأفرادها المندرجة تحته من: سمع الإحاطة أو سمع التأييد أو إجابة دعاء المضطرين ثابتة له على ذات الحد من الكمال المطلق، وهذا أصل في هذا النوع من الأوصاف الذي تتعدد صور كماله الذاتية والفعلية.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان أثر التعبد بالاسم الباطن:
"وأَما تعبده باسمه الباطن فأَمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإِشارة إِليه وتجفو العبارة عنه، فإِنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقاً صحيحاً سليماً من أَذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت فى هذا المقام أَقدام وضلت فيه أَفهام، وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق، فاشتبه فيه إِخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبو الأَفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما فى الذهن بما فى الخارج إِلا على من رزقه الله بصيرة فى الحق، ونوراً يميز به بين الهدى والضلال، وفرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعاً على أَسباب الخطأْ وتفرق الطرق ومثار الغلط، فكان له بصيرة في الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم". اهـ
ص35، 36.
فالخلط في هذا الباب إنما يقع، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، في موضع تال، فرعا عن الخلط بين الحقيقة الخارجية والمثال العلمي، بمنزلة من قال لحبيبه: أنت في قلبي، فاعتقد السامع أنه حال بذاته في قلب محبوبه!، فإن الأول ما أراد إلا المثال العلمي، بينما شطح الثاني لضعف عقله فاعتقد صحة وقوع ذلك خارج الذهن على حد الحقيقة لا الكناية عن شدة المحبة.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض الرد على خلط النصارى بين المثال العلمي والحقيقة الخارجية:
"إن ادعيتم ظهوره، (أي: الرب جل وعلا)، في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وذلك بظهور نوره ومعرفته وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا، (وهذا هو المثال العلمي الذي خلطوا بينه وبين الحقيقة الخارجية فنقلوه إلى خارج الذهن بحذافيره وهو مجرد مثل مضروب على حد ما تقدم من حلول الحبيب في قلب محبوبه كناية عن شدة تعلقه به)، وهذا أيضا قد يسمى حلولا وعندهم أن الله يحل في الصالحين وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه: (وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون وتحل فيهم ويفتخرون) فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به وليس المراد بهذا باتفاقهم واتفاق المسلمين أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد والماء واللبن ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته ومحبته وذكره وعبادته ونوره وهداه.
وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}، {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن هذا الباب ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: "يقول الله أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "عبدي مرضت فلم تعدني فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده".
فقال: "لوجدتني عنده" ولم يقل لوجدتني إياه وهو عنده أي في قلبه والذي في قلبه المثال العلمي.
وقال تعالى: "عبدي جعت فلم تطعمني فيقول وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي" ولم يقل لوجدتني قد أكلته.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها".
وفي رواية: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته".
وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك كأشباه النصارى.
والحديث حجة على الفريقين فإنه قال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" فأثبت ثلاثة: وليا له وعدوا يعادي وليه وميز بين نفسه وبين وليه وعدو وليه فقال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه بأنه معاد لله.
ثم قال تعالى: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" ففرق بين العبد المتقرب والرب المتقرب إليه ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.
ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره وهو كل شيء أو في كل شيء قبل التقرب وبعده وعند الخاص وأهل الحلول صار هو وهو كالنار والحديد والماء واللبن لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.
ثم قال تعالى: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" وعلى قول هؤلاء الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي والرسول إنما قال: "فبي" ثم قال: "ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه" فجعل العبد سائلا مستعيذا والرب مسؤولا مستعاذا به وهذا يناقض الاتحاد وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه يريد به المثال العلمي.
وقول الله: "فيكون الله في قلبه" أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته وهو المثل العلمي فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي وما زلت بين عيني ومنه قول القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ******* ومثواك في قلبي فأين تغيب ....................... ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو وله وجود في المعلوم والأذهان ووجود في اللفظ واللسان ووجود في الخط والبيان ووجود عيني شخصي وعلمي ولفظي ورسمي وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها وهي الشمس التي في السماء ثم يتصور بالقلب الشمس ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس ويكتب بالقلم الشمس". اهـ بتصرف
"الجواب الصحيح"، (2/ 198_202).
فوجب التفريق بين أنواع الوجود: الحقيقي الخارجي، والعلمي الذهني، واللفظي اللساني، والخطي البياني، فلو وجد الإنسان ورقة قد كتب عليها لفظ الجلالة: "الله"، فأشار إليه قائلا: أنا أعبد هذا، هل يتصور عاقل أنه أراد أنه يعبد وجوده الخطي؟!، فيعبد الورق والمداد والحروف المكتوبة به أو أنه أراد أنه يعبد الوجود الحقيقي الذي يدل عليه ذلك الاسم المكتوب، وهو الله، عز وجل، المسمى بذلك الاسم الدال على الذات القدسية التي قامت بها أوصاف الكمال العلية.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن: إثبات وصف العلو في هذا الموضع حتم لازم لئلا يختلط الأمر على من ضعف علمه أو قل عقله، فغلا في إثبات قرب الله، عز وجل، فحمله على قرب الذات الموجب للاختلاط بذوات المخلوقين الفانية بحلول أو اتحاد، كما هو حال من غلط في هذا الباب من النصارى وإخوانهم من الحلولية والاتحادية، فقد اختلطت عليهم الأمثال العلمية بالحقائق الخارجية، فجردوا ألفاظ المعية في نحو قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته"، جردوها من القرائن اللفظية بنزعها من سياقها، فهي مادة تفيد مطلق المصاحبة، فتقيد بالسياق الذي يرجح المصاحبة الذاتية تارة، والمصاحبة المعنوية على حد الإحاطة العلمية تارة أخرى، والمصاحبة المعنوية على حد استجابة الدعاء تارة ثالثة، والمصاحبة المعنوية على حد النصرة والتأييد تارة رابعة ........ إلخ.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان معنى القرب المذكور في القرآن والسنة:
"وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذاناً بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"، و: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ"، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البطون، (إذ القرينة شاهدة على كونه قربا خاصا متعلقا بمشيئة الله، عز وجل، على حد المعية في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، فليست معية علمية عامة ولكنها معية تأييدية خاصة لمن اتصف بوصف الإحسان فهو مظنة الثناء والتأييد الرباني فرعا عن التزام الأمر الإلهي فهو استوجب لصاحبه وصف الإحسان الشرعي، فلا يظن دلالة هذا اللفظ على قرب الذات القدسية الموجب للاختلاط والاتحاد بذوات المخلوقات الأرضية، إلا من ضعف قلبه عن تصور تلك الحقيقة الربانية، وضعف عقله فصرف ظاهر النص إلى محال، وفسد استدلاله لقلة بضاعته في علوم اللسان العربي الذي نزل الوحي به، إذ بتر اللفظ من سياقه، فحمله على دلالته المطلقة، ولا تعرف العرب لفظا مجردا عن السياق الذي يرد فيه فهو بمنزلة الهذيان، إذ لا بد من سياق ولو مقدر في نحو قولك في معرض إجابة السائل: من القادم؟: محمد، فلفظ محمد إنما أفاد بالنظر إلى السياق المقدر الذي دل عليه السؤال المتقدم، فتقدير الكلام بداهة: القادم محمد، أو: محمد القادم، وهذا أصل في معرفة مراد المتكلم بأي لسان عموما، وباللسان العربي خصوصا الذي امتاز بالبراعة في الإيجاز بحذف ما دلت القرائن اللفظية أو الحالية عليه).
ويواصل ابن القيم، رحمه الله، فيقول:
"وفي الصحيح من حديث أَبي موسى أَنهم كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ فإنكم لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ".
(يُتْبَعُ)
(/)
فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى فأي حاجة بكم إِلى رفع الأَصوات وهو لقربه يسمعها وإِن خفضت، كما يسمعها إِذا رفعت، فإِنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أَعظم كان القرب أَكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له و يستحيل عليه وإِلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفى مثل هذه الحال يقول: سبحاني، أَو: ما فى الجبة إِلا الله. ونحو هذا من الشطحات التى نهايتها أَن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه فى تلك الحال". اهـ بتصرف
ص36، 37.
فذلك إنما أتي من قبل ضعف المحل الذي وردت عليه تلك المعاني الجليلات، فلم يتصور منها إلا أوصاف الحلول والاتحاد، كحال كثير من أتباع الديانات الوثنية التي لا تؤمن إلا بإله تراه!، فله صورة أرضية ناسوتية أو حتى حيوانية!، تحل فيها الصورة الإلهية، فهي الواسطة بين الرب والعبد، فلا حاجة إلى النبوة على هذا الحد!، إذ الرب قد خاطب العبد مباشرة بلا واسطة، على طريقة غلاة المشايخ من أهل الطريق!، ولكل أمة صورة يحل فيها المعبود، ولا ضير من تكرار حلوله فيستبدل الصورة الأرضية الفانية بثانية، والثانية بثالثة، على حد التناسخ، وذلك ضلال في العمل عظيم إنما نشأ عن ضلال التصور العلمي الأول، إذ لم تحتمل تلك القلوب والعقول تلك المعاني الربانية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فأصيب أصحابها بنوع من الوله أو الخبل!. فذلك أقصى ما يعتذر به عنهم، ولك أن تتخيل فساد مقالة لا ينجو صاحبها من تبعتها إلا إذا كان مجنونا فاقد العقل، فوصف الجنون في حقه قد صار: وصف مدح إذ به يعتذر عنه!.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح" في معرض بيان غلط أولئك:
"ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم وبين حلول ذاته وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته وبمحبوبه عن محبته وبمشهوده عن شهادته وبمعروفه عن معرفته فيفنى من لم يكن عن شهود العبد لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي: سبحاني أو ما في الجبة إلا الله وفي هذا تذكر حكاية وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله فظن أنه هو نفس المحبوب وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 200، 201).
وذلك فرقان مبين بين الصدر الأول، رضي الله عنهم، ومن أتى بعدهم من المتزهدة والمتعبدة على غير رسم النبوة، فالأولون كان عندهم من وارد المحبة والإرادة العملية ما تطير به قلوبهم شوقا إلى الله، عز وجل، وكان عندهم من قيد كمال العقل والعلم ما تثبت به أقدامهم على أرض التوحيد الخالص: توحيد النبوات الصحيح لا توحيد أهل الحلول والاتحاد الذين جعلوا التوحيد: وحدة أعيان، وفرع عنها من فرع من الغلاة: وحدة الأديان، فلما صار المعبود واحدا عند الكل مع اختلاف الحقائق الخارجية، فليس سواء إله المسلمين الموصوف في كتابهم بنعوت الجلال والجمال، وإله أهل الكتاب الموصوف بالصلب والموتان، وإله الهندوس الحال في بقرة عجماء ....... إلخ، لما صار المعبود واحدا إذ الكل من عين واحدة!، لم تبق حاجة إلى الإنكار على أصحاب الملل والنحل، ولو كانت ناقضة لتوحيد الرسل نقضا، فلكل طريقته في التأله للمعبود العالمي! الذي حل في كل موجود، وليس لضلال بني آدم، كما يقول بعض الفضلاء حد!.
(يُتْبَعُ)
(/)
فأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبعد الناس عن هذا الشطح فلم تظهر تلك الدعاوي في زمانهم، ولم ينتشر الصعق والهذيان في صفوفهم، بل كان لهم من الرسوخ القلبي والرسوخ البدني فرعا عن الرسوخ العلمي والرسوخ العملي ما جعلهم غزاة فاتحين بالنهار، عبادا خاشعين بالليل، ولكل مقام مقال، فهم كما قال عنهم ابن مسعود رضي الله عنه: "أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ".
فقطع النظر عن القرائن المحتفة، وهي جزء من دلالة الظاهر على معناه، إذ يصير له من الدلالة التركيبية ما ليس للفظ المفرد، قطع النظر عنها والوقوف عند حد دلالة اللفظ المطلق على أصل المعنى مجردا من أي قيد: مظنة الخطأ في الفهم، بل قد يؤدي إلى تحميل الألفاظ الصحيحة من المعاني الباطلة ما الله به عليم، وهو ما وقع للنصارى الذين حَمَّلوا متشابهات ألفاظ ما عندهم من كتب ما لا تحتمل من معان باطلة هي الكفر الصراح الذي ينكره نقل النبوات الصحيح وعقل البشر الصريح، فتأويلاتهم: من جنس تأويلات الباطنية التي لا قانون مطرد لها حتى عند أصحابها، فلا نقل يشهد، ولا عقل يقبل، إلا من فسد قياس عقله بتقليد فاسد، على حد التسليم المطلق لأرباب الباطل الذين صيروا نصوص الأديان الواضحة أسرار كهنة غامضة، فلا يعلمها إلا الكهنة الخواص، وما على الأتباع العوام إلا السير على طريقتهم وإن أنكرتها بقية فطرة سوية أو عقل صريح، فتلك أمور لا تخضع لقياس عقل، فيجوز لله، عز وجل، أن يبتلي عباده بتصديق المحالات، ولو بلغت حد القدح في ذاته القدسية وصفاته العلية!، فلا يقبلها إلا من هذا حال عقله، أو من خرج عن حد العقلاء فانتفى عنه وصف العقل جملة وتفصيلا، فعدل أولئك عن المحكمات ابتداء، إلى المتشابهات انتهاء، فأولوها على حد ما تقدم من جنس تأويلات أهل الباطن، وهذا حال كل من أعرض عن الحق الصريح فإنه إلى الباطل صائر لا محالة، فإن الإناء، كما تقدم من كلام ابن القيم، رحمه الله، لا يتسع لشراب الأنبياء الطيب، وشراب كهان المقالات الخبيث، فيوسع صاحب المقالة دائرة استدلاله بأدلة لا تدل على مدلولاته، بل هي عند التحقيق ناقضة لها.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وهذا كمن يريد أن يثبت حل جميع الملاهي لكل أحد والتقرب بها إلى الله تعالى بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد مع كون وجهه كان مصروفا إلى الحائط لا إليهما.
أو يحتج على استماع كل قول بقوله تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، (فتكون هذه الآية دليلا على حل الغناء بصفته المعاصرة إذا كانت الكلمات هادفة!).
ولا يدري أن القول هنا هو القرآن كما في قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين).
ولا نسلم أن يسوغ استماع كل قول وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس مع الخائضين في آياته وخوضهم نوع من القول فقال تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) الآية
وقال تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم).
وقال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما).
وقال تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم) ". اهـ بتصرف يسير.
"الرد على البكري"، ص385.
فانظر إلى المتشبث بأهداب نصوص لا تدل على صحة مقالته أو طريقته، فليست نصوصا في محل النزاع، بل هي، كما تقدم، بعد النظر والتأمل: ناقضة لمقالته نقضا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 09 - 2009, 08:31 ص]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الثمرة الإيمانية من معرفة وتدبر تلك الأسماء المتقابلة: الأول والآخر، و: الظاهر والباطن، فإن العقول قد تباينت في مسألة: التعبد بأسماء الله، عز وجل، تباينا عظيما تبعا لتباينها في معرفة خبر الرسالات وتلقيها إياه بالرضا والقبول، فالتعبد بأسماء الله، عز وجل، عند الفلاسفة: التشبه بالخالق، عز وجل، ما أمكن، مع أنهم يصفونه بالوجود المطلق بشرط الإطلاق عن أي وصف، وذلك عين العدم، فأي وصف ثبوتي يتشبهون به؟، وهو عند بعض أهل العلم: التخلق بالأوصاف التي دلت عليها تلك الأسماء على حد الإطلاق دون تقييد، فيحسن في حق العبد الاتصاف بأي وصف اتصف به الرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، ولو كان ذلك الوصف مما لا يليق اتصاف العبد به، كصفات الجلال من: كبرياء وعظمة ......... إلخ، أو أوصاف الكمال المطلق التي هي فرقان بين العبد والرب، جل وعلا، كوصف الغنى المطلق فإنه في حق الله عز وجل: واجب، وفي حق العبد: ممتنع، إذ هو مظنة فساد حاله فضلا عن كون الواقع شاهدا باستحالة اتصافه بذلك فالفقر كما تقدم مرارا وصف ذاتي لازم لذاته لا ينفك عنها فهو أحد خصائصها الأصيلة من لدن إيجاده وإلى يوم إعدامه، فالجهة منفكة، إذ هو كمال في حق الرب، جل وعلا، نقصان في حق العبد، فإطلاق اتصاف العبد بأوصاف الرب، جل وعلا، في باب التعبد لا يخلو من نظر، إذ لازمه اتصاف العبد بما لا يليق به وذلك مظنة فساد حاله، كما تقدم، ولم تشرع العبادة إلا لإصلاح القلوب وعمران الجوارح بالصالحات المنجيات لا المفسدات المهلكات.
وهو عند بعض أهل العلم: التعبد بمقتضاها، فيتعبد بمقتضى أوصاف الجمال رغبا، ويتعبد بمقتضى أوصاف الجلال رهبا، فإذا علم دلالة اسم الغفور على صفة المغفرة تضمنا: تاقت نفسه إلى مغفرة الله، عز وجل، فأحدث بعد كل ذنب توبة، وإن علم دلالة اسم الجبار على صفة الجبروت تضمنا انكفت نفسه عن المعصية ابتداء خشية جبروته.
وهو عند فريق رابع، وهم أسعد الناس في هذا الباب، إذ استدلوا بخبر الرسالة المعصوم فكفوا مؤنة البحث، هو عندهم: الدعاء بها: دعاء ثناء ودعاء مسألة، فذلك مما جاء به التنزيل على حد قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، فالفاء قد أشربت معنى السببية، فلا ينفك عنها أبدا، وإن لم تكن نصا فيه، فليست كل فاء نصا في السببية، وإنما حدها النحاة بحدود مذكورة في كتبهم، ومع ذلك لا تنفك الفاء التعقيبية، عن معنى سببية لا سيما وقد جاء بعدها أمر هو فرع عن الخبر السابق لها، فله الأسماء الحسنى، على حد الاختصاص والاستحقاق، فهي الجامعة لأوصاف الحسن المطلق فلا يعتريها النقصان على أي وجه صرفت، وبأي لسان تليت، فلازم ذلك إفراده بعبادة الدعاء خوفا ورجاء.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهي: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هي أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ في معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.
واعلم أَن لك أَنت أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بل كل شيء فله أَول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأَدنى من ذلك وأكثر.
فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأَوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون.
(يُتْبَعُ)
(/)
فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة على الإحاطة وهى إحاطتان زمانية ومكانية فأحاطت أَوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته وكل آخر انتهى إِلى آخريته فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إِلا والله دونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده فالأَول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأَوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنا بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، فهو الأَول فى آخريته والآخر فى أَوليته، والظاهر فى بطونه والباطن فى ظهوره، لم يزل أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً". اهـ
بتصرف من: ص38.
فأولية الله، عز وجل، مطلقة، إذ له الكمال المطلق، فلا تحد صفاته بحد عقلي جامع، إذ كيف يحيط عقل المخلوق الناقص بوصف الرب الكامل، بخلاف أولية العبد فإنها مقيدة فهو تال لأوائل سبقته وكل أول منها قد سبق بأول ........ إلخ، حتى ترجع جميعها إلى أول مطلق لم يتقدمه شيء، فعن كلماته التكوينيات صدرت صدور: (كُنْ فَيَكُونُ)، إذ التسلسل في المؤثرين ممتنع، فوجب رجوع الأوائل المقيدة إلى أول مطلق هو الله عز وجل.
ومن حهة أخرى: أولية العبد مسبوقة بعدم، فلم يكن في الخارج شيئا مذكورا، وإن كان في الأزل عند الله، عز وجل، مكتوبا، فقد علم الله، عز وجل، كينونة ذاته وكينونة صفاته وكينونة أفعاله، قبل أن يوجده، فقدر له السعادة أو الشقاء أزلا، بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة، فمن وفقه فبفضله، ومن خذله فبعدله، والحكمة في الحالين متحققة، فهداية صديق الأمة، رضي الله عنه، إلى تصديق الرسالة، وهداية فرعون الأمة إلى تكذيبها على حد قوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)، فالهداية في سياق الضلال من باب الاستعارة التهكمية، هدايتهما إلى ذلك: عين الحكمة، إذ الله، عز وجل، بمحال الهداية والضلال أعلم، فمن النفوس ما تقبل الهداية فيكون إضلالها: على غير سنن الحكمة، إذ يلزم منه انتفاء العلم بأوصافها الطيبة التي تليق بها الهداية، ومن النفوس ما تقبل الضلالة فتكون هدايتها: على غير سنن الحكمة، إذ يلزم منه انتفاء العلم بأوصافها الخبيثة التي تليق بها الضلالة.
فالحكمة والعلم متلازمان، إذ لا تكون الحكمة إلا بعد العلم بالشيء، ذاتا وصفاتا، فيأتي الحكم موافقا ملائما لحال ذلك المعلوم، ولله المثل الأعلى.
وأما آخريته:
فهي آخرية مطلقة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فكل آخرية منه مستمدة، فهو الذي أمد من شاء في قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، بالنجاة من الصعق، وهو الذي أمد سكان الدارين بأسباب البقاء، على حد قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ): فالمشيئة احترازا من خروج شيء من كونه عن حد قدرته، فهو الفعال لما يريد على حد الديمومة والإطلاق فلم يكن عن فعل كماله ابتداء معطلا فتلك أوليته، ولا يصير عنه في الأبد مجردا فتلك آخريته، أو هي في حق عصاة الموحدين: بشرى نجاة، فإذا شاء الرب، جل وعلا، أخرجهم بمشيئته من حر النيران إلى برد الجنان، فعطاؤهم: غير مجذوذ، فلا آخرية له إذ هو من الآخر صادر، وعذاب الآخرين: عذاب الخلد، فلا انقطاع له، أيضا، ما دامت السماوات والأرض، على ما اطرد في كلام العرب من تعليق بقاء الشيء على حد التأبيد مبالغة ببقاء السماوات والأرض، أو هي سماوات وأرض أخرى،
(يُتْبَعُ)
(/)
على حد قوله تعالى: (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، فلا تفنى.
فمعنى الآخرية المطلقة ثابت له، جل وعلا، على جميع الأقوال، ومعنى الآخرية لتلك الكائنات ثابت على وجه الاستمداد منه.
فتقدمه على خلقه: تقدم مطلق بذاته وصفاته، فالأولية للذات: إذ كان الله ولم يكن قبله شيء، والأولية للصفات: إذ لها من الكمال المطلق ما ليس لغيرها، فحكمته قبل كل حكمة، ورحمته قبل كل رحمة .......... إلخ، فهذا وصف مطرد في كل أوصاف كماله، عز وجل، ويلتحق بالأولية صفات كالعظمة والسعة، فهو العظيم ذاتا وأوصافا، وهو الواسع: ذاتا وأوصافا، فلا يحد ذاته عقل أو بصر، وإن رأته الأبصار على حد التنعم، فتلك رؤية لا إدراك فيها للمرئي، وهو الواسع أوصافا: فرحمته وسعت كل شيء، وحكمته وسعت كل أمر وعلى هذا فَسِرْ في وصف الرب، جل وعلا، فأثبت له الكمال المطلق على كيف لا يحده العقل، وقدر يخرج عن نطاق الحس.
وظهوره جل وعلا:
ظهور مطلق فيلزم منه، كما تقدم، العلو بجميع أنواعه: علو الذات وعلو الصفات، علو الذات والشأن والقهر، يقول ابن الأثير، رحمه الله، في "النهاية في غريب الأثر":
" [الظاهِرُ] هو الذي ظَهَر فوقَ كلِّ شيء وعَلاَ عليه. وقيل: هو الذي عُرِف بطُرُق الاسْتِدْلال العَقْلي بما ظَهَر لهم من آثارِ أفعاله وأوصافهِ "
فهو ظاهر بذاته، ظاهر بما أقامه من الأدلة الكونية على كمال ربوبيته المقتضية لكمال ألوهيته، وهو المظهر المعين لغيره، فذلك من أوصاف فعله.
فيعين المؤمن والكافر بإعانته الكونية، إذ يسر أسباب البقاء لكليهما، على حد قوله تعالى: (من الثمرات).
ويختص المؤمن بإعانته الشرعية، فضلا منه وامتنانا، لسبق علمه بصلاح قلبه لقبول آثار رحمة الوحي الشرعي، فاختص، كما تقدم، أبا بكر، رضي الله عنه، بمعونة خاصة حجبها عن أبي جهل إذ ليس لها بأهل.
لمزيد بيان راجع: "أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة"، ص309 وما بعدها.
وهو الباطن: قد احتجبت ذاته القدسية عن أبصار عباده، فلا تراه في دار الابتلاء، ولا تحده في دار النعيم، وهو الباطن قد أحاط بخلقه علما، بل هو الخبير الذي أحاط بدقائق أعيان وأفعال خلقه، فلا يحيطون به، وهو بهم محيط.
وعن التعبد بهذه الأسماء يقول ابن القيم رحمه الله:
"والتعبد بهذه الأَسماءِ رتبتان:
الرتبة الأولى: أَن تشهد الأَولية منه تعالى فى كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أَقرب إِلى الخلق منه.
والمرتبة الثانية: من التعبد أَن يعامل كل اسم بمقتضاه". اهـ بتصرف
ص38.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 09 - 2009, 09:10 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى الكلام عن مقام: "الحي القيوم ":
فالفقر إليه: فقر ربوبية، إذ هو الحي القيوم، فله كمال الحياة فذلك من: وصف الذات، وله كمال الإحياء فأوجد وأعد وأمد على أكمل وصف، فذلك من: وصف الفعل.
وهو القيوم: القائم بنفسه فلا يفتقر إلى الأسباب، فذلك من: وصف الذات، وهو المقيم لغيره بأسباب الإيجاد والبقاء فذلك من: وصف الفعل.
فالحياة: أصل صفات الذات الربانية، وأصل إيجاد الكائنات العلوية والسفلية، إذ بكلمة الإحياء التكوينية خرجوا من العدم إلى الوجود.
والقيومية: أصل صفات الأفعال الربانية، وأصل بقاء الكائنات العلوية والسفلية، إذ بإجراء أسباب البقاء، ولا يكون ذلك إلا بالقدرة والحكمة والعلم السابق في الأزل، بإجراء تلك الأسباب قامت ذواتهم وصلحت أحوالهم، فقضاء الله، عز وجل، فيهم نافذ، وهو خير وإن كان المقدور شرا باعتبار حاله، فمآله لمن اتقى وصبر: الفرج العاجل والثواب الآجل، على حد قول يوسف الصديق عليه السلام: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
(يُتْبَعُ)
(/)
وكم استخرج من جنس الطاعة بمقارفة جنس المعصية، وكم أحدثت معاص في النفوس من الذلة والانكسار إلى الرب، جل وعلا، ما كان سببا في نجاة صاحبها مآلا، وإن كان من المخلطين حالا.
وهو الذي امتن عليهم بأسباب قيام الأرواح، فأنزل الوحي الشرعي، حفظا للقلوب، كما أنبت الغذاء حفظا للأبدان.
فإذا تقرر ذلك الفقر الكوني اللازم: فهو على الفقر الشرعي دليل جازم، فالعباد مفتقرون إليه: ربا خالقا رازقا، ومفتقرون إليه: إلها معبودا شارعا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وربما ذهل صاحب هذا المشهد، (أي: مشهد الربوبية، وهو ما عرف بـ: "فناء الشهود"، كما يأتي إن شاء الله، وهو الذي غلب على كثير من خيار أهل الطريق الذين فنوا بمشاهدة المسبِّب، جل وعلا، عن مشاهدة السبب، وذلك ذريعة إلى تعطيل الأسباب التي ابتلي العباد بها، إذ الشرع عليها قد قام)، عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحي القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.
وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، (إذ بضدها تتميز الأشياء فبملاحظة غنى الخالق، عز وجل، المطلق، يتميز مقابله من فقر المخلوق المطلق)، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغني بلا مال القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد. قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. (ومن لا ترنو نفسه إلى تلك الأوصاف التي تفنى الأعمار طلبا للتخلق بها ولو على حد الاكتساب مع ما فيه من تكلف وحمل للنفس على غير مراداتها وحظوظها)، ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد:
أَصبحت منفعلاً لما يختاره ******* مني، ففعلي كله طاعات
وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا الموضع، وفي هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهي بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح، (شهود الألوهية أمرا ونهيا)، إِلى شهود الاضطرار فى حركاته وسكناته، (شهود الربوبية خلقا وتدبيرا)، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون مشيئته، وأن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه". اهـ
بتصرف من: ص41، 42.
فإن شهود الحقيقة الكونية، شهود مشيئة الرب، عز وجل، النافذة، شهود ربوبيته دون نظر إلى شرعه وألوهيته مظنة الجبر، إذ فيه: اعتبار لجانب القدرة الإلهية، وإهمال لجانب الحكمة الإلهية، فيصير الشرع عبثا، إذ قد أمر الله، عز وجل، بما لم يرده، والعارف هو الذي يتتبع مراد الله، عز وجل، أيا كان!، وتلك دعوى مجملة تفتقر إلى البيان، إذ الله، عز وجل، لا يأمر شرعا بما لا يحبه، فلا يأمر بالفحشاء شرعا، وإن أمر بوقوعها كونا، فاقتضت حكمته الإلهية وقوعها، مع كونها مفسدة يلزم المكلفين بذل السبب الشرعي في رفعها أو تخفيفها، فالناظر بعين القدر: يؤمن
(يُتْبَعُ)
(/)
بأنها من عند الله، على حد قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فلا تعارض بينها وبين قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، فهي: منك إذ قصرت في التزام القدر الشرعي، وأنا كتبتها عليك، بالقدر الكوني، فالجهة منفكة بين نوعي الأمر: الكوني النافذ المتعلق بقدرة الرب، جل وعلا، والشرعي الحاكم المتعلق بحكمة الرب، جل وعلا، فذلك مما يتصور عدم وقوعه، فإذا فعله العبد بإرادته التي ركبها الله، عز وجل، فيه على حد الاختيار الذي لا يخرج عن دائرة الإرادة الكونية العامة، إذا فعله بتلك الإرادة مختارا غير مجبور، فقد وافق الأمرين: الشرعي الذي به أنيط التكليف: متعلق الثواب والعقاب، و: الكوني، إذ قد علم الله، عز وجل، أزلا، فكتب عنده في أم الكتاب أن زيدا من البشر، أهل لامتثال الأمر الشرعي، فهو محل قابل لآثار الوحي، فاقتضت الحكمة الإلهية، الشطر الثاني من هذه المتلازمة العقلية: متلازمة القدر والشرع، اقتضت أن يسدده، فيوفقه إلى فعل الطاعة بتيسير أسبابها فضلا منه، جل وعلا، وامتنانا، على حد قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، وإذا خالفه بتلك الإرادة البشرية المخلوقة للرب، جل وعلا، الذي له الإرادة الربانية الخالقة لأعيان المكلفين وإراداتهم وقوى الفعل فيهم وأفعالهم خيرها وشرها فهي، كما تقدم، إرادة عامة لا تخرج عن حدها ذرة من ذرات هذا الكون، إذا خالف العبد الأمر الشرعي الحاكم بتلك الإرادة: فقد خالف القدر الشرعي الحاكم، ووافق الأمر الكوني النافذ، فلا خروج له عنه في كل حال سواء أكان مطيعا أم عاصيا، فهو على النقيض من الأول: إذ قد علم الله، عز وجل، أزلا، فكتب عنده في أم الكتاب أنه ليس أهلا لامتثال الأمر الشرعي، فمحله غير قابل لآثار الوحي، فاقتضت الحكمة الإلهية ألا يسدده، فخذل بحجب أسباب الطاعة وتيسير أسباب المعصية عدلا منه، جل وعلا، وحكمة، على حد قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، إذ لا يحسن بالحكيم أن يضع الشيء في غير محله، فيهب أسباب الهداية الكونية لأبي جهل!، وإن كان داخلا تحت خطاب التكليف بالهداية الشرعية على حد الإلزام، فإذا كان وضع الشيء في غير محله، وهبة الفضل لغير أهله، وبذل المعروف لمن لا يستحفه، إذا كان ذلك في حق المخلوق: سفها يتنزه عنه آحاد الحكماء من البشر، مع ما يعتريهم من نقص وخطأ، أفلا يكون الباري، عز وجل، وله كمال الحكمة البالغة على حد الإطلاق فلا يعتريه ما يعتري البشر من عوارض النقص، أفلا يكون أولى بذلك التنزيه، على حد قياس الأولى، فهو في هذا الموضع: قياس صحيح بل واجب، إذ وصف الحكمة كمال مطلق: قد ورد به التنزيل، فإذا ثبت في حق البشر الناقص فثبوته في حق الخالق الكامل كائن من أولي، على حد قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
فمناط المسألة: شهود الحقيقتين: الكونية التي بها تقع المقدورات الكونية، والشرعية التي بها تكون التكليفات الشرعية، فالتسوية بينهما ذريعة إلى القول بالجبر، فيصير الأمر الكوني بمفسدة شاء الله، عز وجل، وقوعها، لحكمة تربو على مفسدة وجودها، فهو من المراد لغيره إذ به تستخرج عبوديات ومحاب للرب، جل وعلا، تفوقه، يصير: أمرا شرعيا بمحبوب مرادٍ لله، عز وجل، لذاته!، فالكفر والإيمان على هذا النظر الفاسد: يستويان!، إذ كلاهما للرب جل وعلا مراد.
(يُتْبَعُ)
(/)
فمن شهد الحقيقة الكونية فهو من الجبرية الغالية في الإثبات، فالمحبة عنده ترادف الإرادة، وجانب القدرة النافذة عنده أرجح من جانب الحكمة البالغة، فكل ما أراده الله، عز وجل، فهو من محبوباته الشرعية، ولو كان عين ما نهى عنه من الشرك والكفران!، وذلك مسقط للتكليف بل مسقط للملة بأكملها، إذ كل أفعال العباد مرضية للرب، جل وعلا، وذلك مبطل للنبوات، إذ ما الحاجة إليها، وكل ناج، بموافقة الإرادة المرادفة للمحبة، بزعمهم، ولذلك كان أولئك من أبطل الناس في باب الأمر والنهي، فليس لهم من معرفة المعروف وإنكار المنكر نصيب، على حد قول ابن سينا: "العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله، تعالى، في القدر". اهـ
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "شفاء العليل"، في معرض التعليق على هذا القول المبطل للشرائع:
"وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل وأعرف خلق الله به رسله وأنبياؤه وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصره بالأمر والقدر فإن الأمر يوجب عليه الإنكار والقدر يعينه عليه وينفذه له فيقوم في مقام: (إياك نعبد وإياك نستعين) وفي مقام: (فاعبده وتوكل عليه)، فنعبده بأمره وقدره ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره فهذا حقيقة المعرفة وصاحب هذا المقام هو العارف بالله وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم". اهـ
وليس لهم من عقد الولاء والبراء الذي يؤرق مضاجع أعداء الرسالات نصيب، إذ كل قد استوى، فلم يعد هناك ولي يوالى وعدو يعادى، فوحدة الأكوان عينا ذريعة إلى وحدة الأديان عقدا، كما تقدم في موضع سابق، والأفعال كلها على حد واحد هو: الرضا لمجرد وقوعها على وفاق الأمر الكوني، ولو كانت على خلاف الأمر الشرعي، بل ولو كانت عين الضد له كما تقدم.
فوحدة في الأفعال عند أهل الجبر، ووحدة في الأعيان عند أهل الاتحاد، ووحدة في الأديان عند أهل الزندقة والانحلال، وكل من ذات العين يستقي، وكثيرا ما تجتمع تلك المخازي في محل واحد إذ هي إلى التلازم العقلي أقرب، فالمنشأ واحد والمعنى الكلي الجامع لها واحد.
وهي كلها، عند النظر والتدبر، على الضد مما جاءت به الرسالات النازلة وقررته النبوات الهادية.
وأصحاب هذا القول: نفاة لحكمة الرب، جل وعلا، إذ يحب وقوع الفساد لمجرد تعلقه بإرادته الكونية النافذة: تعلق الموجود بموجِده، نفاة لعدله، إذ جبر العاصي على معصيته، فقدرها عليه ثم عاقبه عليها، فلازم مذهبهم: وصف الباري عز وجل، بالسفه والظلم، تعالى الحكم العدل عن ذلك علوا كبيرا.
ومن شهد الحقيقة الشرعية فهو من القدرية الغالية في النفي، فجانب الحكمة الشرعية عنده أرجح من جانب القدرة الكونية، فالعباد هم الموجدون لأفعالهم على حد الاستقلال، ومن توسط منهم فقد جعل الخير فقط من مقدوراته الكونية وجعل الشر من مقدورات عباده فلا يريد الشر ولا يخلقه، ولا يرزق الحرام ولا يطعمه، فلازم مذهبه: وصف الباري بالعجز، فيعصى قهرا، إذ: يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، ولو قيد ذلك بقيد: "شرعا" لانحل الإشكال وارتفع الإجمال، فـ: يريد شرعا ما لا يكون كونا، ويكون كونا ما لا يريد شرعا، فيخلق الشر بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادته الشرعية، ويرزق الحرام ويطعمه بمقتضى إرادته الكونية، وإن تعلق الذم بآكله بمقتضى إرادته الشرعية.
وأما أهل الحق فقد نظروا بكلا العينين: عين القدر النافذ، وعين الشرع الحاكم، فقبلوا ما عند الفريقين من الحق، فأخذوا نفاذ القدرة الكونية من الفريق الأول، وأخذوا كمال الحكمة الشرعية من الفريق الثاني، وردوا ما عندهما من الباطل، فردوا الإثبات القادح في الحكمة الشرعية عند الفريق الأول: فريق الجبرية، وردوا النفي القادح في القدرة الكونية عند الفريق الثاني: فريق القدرية.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة خلق الأسباب والمسببات، فقال:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وهو خالق السبب المقتضي وخالق السبب خالق للمسبَّب، فخالق الإِرادة الجازمة التي هي سبب الحركة والفعل الاختياري خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان بإرادته فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ} ". اهـ
ص42.
فقد خلق آلة الفعل، وخلق طاقة الفعل، وخلق إرادة الفعل في قلب الفاعل، فالاستطاعة الموجبة للتكليف بصحة الآلات وانتفاء الموانع الشرعية: منه، والاستطاعة الموقعة للفعل بمباشرته فيصير حقيقة في الخارج وانتفاء الموانع الكونية: منه، فالأولى: عامة لكل المكلفين إذ القدرة مناط التكليف وصحة الآلات وانتفاء الأعذار داخلة في حدها، والثانية: خاصة بعباده المؤمنين، فوحدهم المسددون المعانون على إيقاع الفعل التكليفي على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فالأسباب كلها راجعة إلى مسبِّب واحد لا مؤثر وراءه إذ التسلسل في المؤثرين ممتنع، فمرد الأسباب إلى السبب الأول الذي صدرت عنه صدور المقدور من مقدره، والمخلوق من خالقه، فبكلماته التكوينيات النافذات كان الخلق، فوقع المعلول عقب علته، على حد قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فدلالة التعقيب في الفاء تبطل قول الفلاسفة الذين جعلوا المعلول مقارنا لعلته، فالمخلوق مقارن لخالقه!، وذلك من الفساد بمكان إذ التسوية بين الخالق، عز وجل، والمخلوق، في الذات أو الوصف: تسوية بين أعظم متباينين وذلك بقياس العقل الصريح: ظاهر البطلان، وتبطل قول من عطل الباري، عز وجل، عن وصف كماله، في الأزل، فلم يكن خالقا حتى أراد الخلق فأحدث المخلوق على حد التراخي لا الفور فصار بذلك خالقا!، وجماع القول في هذا الشأن: أن الرب، جل وعلا، متصف بأوصاف الكمال الذاتية والفعلية على الوجه اللائق بجلاله: أزلا وأبدا، فلا يكتسب كمالا كان عنه عريا، ولا يلحقه نقص كان منه بريا.
وإذا استحضر العبد ذلك المقام الرباني القاهر: تولد عنده من الفقر الاختياري النافع ما يجعله يتوجه إلى خالق الأفعال: خيرها وشرها، والأعيان: طيبها وخبيثها، خالق العزائم والإرادات: صالحها وفاسدها، بدعاء الفقير المضطر إلى الغني القادر: (رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ)، فهو الذي بيده أمر القلوب يقلبها بإرادته الكونية، فيقيم ما أقام منها فضلا، ويزيغ ما أزاغ منها عدلا، وهو الذي بيده أمر القلوب يزكيها بإرادته الشرعية، فبعث النبيين بتلاوة الآيات وتزكية القلوب على حد قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فالآيات آلة التزكية، والقلوب: محالها، فإذا وافقت الآلة محلا صالحا للحرث، بذرت فيه بذور الحكمة الإلهية، فأثمرت طيبات من العلم والعمل، فصحت قوى العبد: العلمية الباطنة والعملية الظاهرة، فعقد القلب سليم، وقول اللسان وعمل البدن سديد. فاستقام الظاهر والباطن كما أُمِر العابد، فاجتمعت فيه الإرادتان: الكونية فهي فضل الله إذ أعانه على فعل الطاعة، والشرعية وهي أيضا فضله إذ شرع له بها الشرائع، وأنزل له بها الكتب، وبعث بها إليه الرسل عليهم السلام، فالفضل له أولا وآخرا: خلق وبرأ على أكمل صورة، ثم شرع وأمر بكل خصلة محمودة، فلم يترك عباده هملا، بل دلهم بما ركب فيهم من قوى العقل والفطرة على أسباب الصلاح الكونية، ودلهم بما أنزل لهم من الكنب على أسباب الصلاح الشرعية، فكل أفعاله خير، وكل أحكامه عدل، فاستحضار مقام ربوبيتة القدرية وألوهيته الشرعية: مناط السعادة، مطلوب كل العقلاء، في الدارين، فله الحمد والمنة على ما قدر وشرع.
فإذا أطاع: تواضع إذ ما كان له أن يطيع لولا أن قدر الرب، جل وعلا، ذلك فضلا. فذلك من مقام ربوبية الإنعام بوصف جماله، وإذا عصى: بادر بالتوبة فاستحضر مقام ربوبية القهر بوصف جلاله، فما كان له أن يرد قضاء الرب الكوني.
روى الخلال، رحمه الله، بإسناده إلى محمد بن المبارك الصوري قال: قال رجل لسفيان بن عيينة وقد وعظ الناس عظة رقت منها قلوبهم، فقام إليه، فقال: يا أبا محمد، ما تقول، إن قمت إلى هذا المنبر، فعاهدت الله أن لا أعصيه بعد يومي هذا؟ قال: فقال له سفيان: «ومن أعظم منك جرما إن تأليت على الله عز وجل أن لا يمضي فيك حكمه».
"السنة"، (3/ 561).
وما كان له أن يحتج به لإبطال أمره الشرعي، فاستحضر المقامين: مقام القدر القاهر فحمد الله على ما قضى وقدر، ومقام الشرع الحاكم فبادر بامتثاله توبة واستغفارا، فصح احتجاجه بالقدر الكوني على وقوع المحظور الشرعي، إذ الاحتجاج بالقدر على وقوع المعصية بعد امتثال أمر الشرع بالتوبة منها: جائز، بخلاف من احتج به ولما يتب فهو على المعصية مقيم، وبالقدر عليها محتج فاللوم له لاحق، إذ قوله من جنس قول المشركية: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، فاحتجوا بالقدر على معارضة أمر الشرع.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل.
فمن تاب وأناب فقد ارتفع في حقه اللوم فصح احتجاجه بالقدر، ومن عصى وأقام على المعصية فاللوم في حقه كائن، فبطل احتجاجه بالقدر.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 09 - 2009, 07:48 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان معنى دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وأعوذ بك منك)، فقال:
"ومن عرف قوله صلى الله عليه وسلم: "وأَعُوذ بك منك"، وقام بهذه المعرفة شهوداً وذوقاً، وأَعطاها حقها من العبودية، فهو الفقير حقاً، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن زرق فهم سر هذا فهم سر الفقر المحمدي، فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأَمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وما شاءَ لم يستطع أَن يصرفه إِلا مشيئته، وما لم يشأْ لم يمكن أَن يجلبه إِلا مشيئته". اهـ
ص43.
فالعاقل من رد القدر بالقدر، فاستعان بأسباب الكون على دفع عوارض فقر الأبدان، فدفع الجوع بالطعام، ودفع الظمأ بالشراب .............. إلخ.
واستعان بأسباب الشرع على دفع عوارض فقر الأديان، فدفع شؤم المعصية بالتوبة، ودفع عدوان أعداء الرسالات، برفع رايات التوحيد: حجة وبرهانا في ساحات عراك الأديان، وسيفا وسنانا في ساحات عراك الأبدان، ولكل مقام مقال.
فأعوذ بقدرك الشرعي: توبة وطاعة تفضلت بهما علي فذلك من تمام إحسانك، لدفع قدرك الكوني: معصية اكتسبتها بما قدمت يداي فذلك من إساءتي، فظني بك خير نازل وإن كان شري إليك صاعد. وإحسان الظن بالرب، جل وعلا، مظنة سعة الأرزاق الكونية والشرعية.
ويقول رحمه في موضع تال:
"فلا يأتي بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو، ولا يهدي لأَحسن الأَعمال والأَخلاق إِلا هو، ولا يصرف سيئها إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ". اهـ
ص43.
فلا يأتي بالحسنات إلا أنت سواء أكانت شرعية، وهي أشرفها، فلا حول عن المعصية إلى الطاعة، عن البطالة إلى العمالة، ولا قوة على فعل الطاعة والإقلاع عن المعصية إلا بك، أم كونية، فكل حسنة كونية من رزق أو ولد أو جاه ....... إلخ منك، فذينك الجنسين من الحسنات من عندك تفضلا وعناية، فلا راد لفضلك، ولو اجتمع أهل الأرض على دفعه، إذ قدرك فيهم نافذ، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، سواء أكانت شرعية فتذهبها بالتوبة، إذ يسرت أسبابها، أم كونية توقعها عدلا، فتطهر بها من الرجس، وترفعها فضلا، فهي خير للعبد حال وقوعها الحالي، خير له حال رفعها الآتي، ولا محالة، إذ الشدة بتراء لا دوام لها، فكم عافيت فوجبت لك عبودية الشكر على وصف جمالك، فأردت أن تبتلي لتظهر حكمتك الكونية، بتباين الأحوال: صحة ومرضا، غنى وفقرا، فذلك من أثر ربوبيتك العامة، فبالبلاء استخرجت عبودية الصبر على وصف جلالك، فوجب لك من معاني الربوبية: طلاقة القدرة بتنويع أقدارك في عبادك، ووجب لك من أوصافها: وصف الجمال الذي تكون به النعمة فضلا فلك الشكر على نعمائك، ووصف الجلال الذي يكون به الابتلاء عدلا فلك الحمد على ابتلائك.
والأصل في ذلك آيتا النساء: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)
(يُتْبَعُ)
(/)
فالحسنات والسيئات منك خلقا، فصحت العندية في: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فعموم الخلق لا مخصص له فكل ما سوى الله، عز وجل، من الأعيان والأوصاف مخلوق، فلا ينسب الشر إليك نسبة: ابتداء الغاية، إذ لا شر منك وصفا أو فعلا، تعاليت عن وصف أو فعل السوء، وإنما الشر في المفعول المقدور، مع كونه شرا باعتبار الحال فلا ينفك عن خير أعظم في المآل فما أصابك من حسنة فمن الله، إيجادا، وإعدادا للمحل إذ قبل آثار الوحي النافع، وإمدادا بأسبابها، فيسرها لك، بلا سابق فضل، بل هو الذي اصطفاك لطاعته واستعملك في مراضيه، ولو شاء أبعدك وابتلاك بمساخطه، وما أصابك من سيئة فبما كسبت يداك، فمن معاصيك: ابتداء الغاية، على جهة السبب المؤدي إلى مسبَّبه، ومن الله، عز وجل، ابتداء الغاية على جهة الخلق، إذ بالكلمة التكوينية تكون كل المقدورات: خيرا أو شرا، فصدور الكلمات من الله، عز وجل، صدور وصف من موصوفه، به كانت المقدورات التي صدرت منه: صدور مخلوق من خالقه، فالجهة منفكة بين وصفه الأزلي وخلقه الحادث، والجهة منفكة بين فعل الرب وفعل العبد، ففعل الرب: خلق بمشيئة عامة غير مخلوقة هي فرع عن موصوفها الأزلي الواجب، وفعل العبد: اكتساب بقدرة خاصة مخلوقة فهي فرع عن موصوفها العدمي الممكن.
فالجهات كما تقدم منفكة:
فهي من الله خلقا، ومن العبد فعلا، فابتداء غاية الخلق من الخالق بالكلمة التكوينية، وابتداء غاية الفعل من الفاعل بإرادة مختارة مخلوقة لا تخرج عن حد الإرادة الكونية العامة.
وهي من الله تفضلا وإحسانا إن كانت خيرا محضا، ومن عنده تقديرا وخلقا إن كانت شرا، مع كون الشر فيها نسبي، ولكن نسبتها إليه بلا واسطة عندية: نسبة موهمة نعارض النفي في: (والشرّ ليس إليك)، فليس إليك شرعا، وإن كان لك خلقا.
و: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ):
فعموم النكرتين الواردتين في سياق الشرط: "ضر" ومطابقه: "خير": عموم محفوظ، وجاء بالإرادة لا المس في الخير في مقابل المس بالضر، فالقياس: وإن يمسسك بخير على جهة الطباق، جاء بالإرادة، إذ الآيات في سياق نفي تأثير غير الله، عز وجل، في وقوع المقدورات الكونية على جهة الاستقلال، فناسب ذلك الإتيان بلفظ الإرادة إمعانا في نفي قدرة غير الله، عز وجل، عن معارضة أمره الكوني بإيصال الخير، فمجرد إرادته لذلك، وإن لم يقع الفعل بعد، كاف في نفي المعارض، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالسياق: قيد في معرفة مراد المتكلم وفهم عبارته والوقوف على سر اختيار لفظ دون آخر، وللتنزيل من ذلك أوفر نصيب، ففي سياق نفي القدرة عن غير الله، عز وجل، على التفصيل المتقدم، جاء لفظ الإرادة، وفي سياق تقرير القدرة الإلهية دون التطرق إلى المعارض، جاء لفظ المس في آية الأنعام: (وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير).
ويواصل ابن القيم، رحمه الله، في بيان أعراض ذلك الفقر الاختياري النافع: فقر العابد إلى معبوده على جهة الاضطرار فلا غنى لقلبه عن شرعه ولا غنى لبدنه عن قدره، يواصل في بيان ذلك فيقول:
"والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أَعماله وأَحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إِلى دعوى ما ليس له. وكيف يدعى مع الله حالاً أَو ملكة أَو مقاماً من قلبه وإِرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئاً، وإِنما هى بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإِيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى انحل من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به. ولا يطاع إِلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى". اهـ
ص43، 44.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، فلا يطاع الله، عز وجل، إلا بإذنه إكراما للطائع إذ يسر له أسباب الهداية الشرعية: هداية البيان، والهداية الكونية: هداية الانقياد، فاجتمع في المكرَم: نوعا الهداية كما اجتمع فيه نوعا الأمر: الشرعي والكوني، كما تقدم، ولا يعصى إلا بإذنه الكوني، إهانة للعاصي إذ أقام عليه الحجة الرسالية بالبيان الشرعي، وحجب عنه هداية الانقياد، إذ ليس لها بأهل، فهو محل غير صالح لقبول آثار الرسالات النافعة، فانفرد المهان بجريان أمر الكون فيه، فلا خروج لطائع أو عاص عنه، وتَخَلُّف أمر الشرع على جهة الامتثال وإن وقع له من البيان ما قامت به الحجة عليه على حد قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). فذلك من العموم المحفوظ، إذ إقامة الحجة الرسالية المبطلة لكل حجة، الداحضة لكل شبهة، شرط في استحقاق الكافر بالرسالة: العذاب، فذلك من رحمة الله، عز وجل، وعدله، فلو كان الأمر جبرا، لكان بعث الرسل، عليهم السلام، بالحجج والبراهين المؤيدة بالآيات الشرعية والعقلية والكونية: عبثا.
ومع ذلك امتن على بعض عباده بما لم يمتن به على آخرين لعلمه بصلاح محالهم لتلك العطايا، فلو رفعها عن محل صالح ووضعها في محل فاسد لكان ذلك سفها يتنزه عنه آحاد الحكماء فكيف بأحكم الحاكمين، تبارك وتعالى، فانتفاء ذلك عنه مع إثبات كمال ضده من الحكمة الباهرة ثابت من باب أولى.
وفي عالم الشهادة: لو تفضل حكيم عليم على جماعة من البشر ببيان أسباب النجاة حضا عليها، وأسباب الهلاك زجرا عنها، ثم اختص بعضهم بالمعونة على امتثال الأولى واجتناب الثانية ما توجه إليه لوم، بل هو بالثناء أجدر، إذ قد دلهم ابتداء، بلا سابق فضل أو استحقاق لهم عليه، على ما فيه صلاح أمرهم، ولله المثل الأعلى، فإنه بكل ثناء أولى، وعن كل قدح أنزه وأبعد.
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة تفاضل الإيمان زيادة ونقصانا في القلوب مع كون صور العبادات الظاهرة واحدة فقال:
"فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون في إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ". اهـ
فالإيمان كما تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة: قول وعمل: قول بالقلب عقدا مؤسسا، وقول باللسان: لفظا مصححا، فذلك مطلق الإيمان أساس بنيان الإيمان المنجي، فإذا انضم إلى ذلك عمل الجوارح، صار صاحبه من أهل الإسلام، فإذا ترقى في درجات الأعمال القلبية من خوف وتوكل ورجاء، والأعمال اللسانية من ذكر وتسبيح، والأعمال البدنية من صلاة وحج وجهاد، إذا ترقى في تلك الدرجات العلى، صار له من وصف الإيمان المطلق المنجي بحسب ما قام بقلبه من أثر تلك الأعمال الشرعية، فمن مقل ومن كثر، والتفاوت في ذلك: عظيم لا يحصيه إلا مصرف القلوب، جل وعلا، فالصورة الظاهرة، كما تقدم، واحدة، ولكن الصور الباطنة متعددة، ولذلك كان نظر الله، عز وجل، إلى القلوب لا الصور، إلى الحقائق القلبية لا الأعراض البدنية، وإن كان عمل البدن من الإيمان، فالإيمان يتضمنه تضمن الكل للجزء.
فالزيادة والنقصان فيه حاصلة إذ المركب من أجزاء، يزيد بوجودها، وينقص بعدمها، فيزيد حتى يصل إلى درجة الإطلاق، وينقص حتى يذهب فلا يبقى منه شيء على الإطلاق، فيخرج العبد من حده إذا أتى بناقض قلبي أو قولي أو عملي له، فلا يجتمع المنقوض وناقضه في محل واحد بداهة، فلا صلاة مع حدث إذ الحدث ناقض لشرطها، ولا صيام مع أكل، إذ الأكل ناقض لأحد ركنيه، فكذلك شأن الإيمان، إذ وجود الناقض رافع له، فهما مما لا يجتمع ولا يرتفع، فلا يجتمع أصل الإيمان وناقضه في قلب واحد، وإن اجتمع أصل الإيمان وناقض كماله المستحب أو الواجب، فالكبيرة تنقصه ولا تبطله إلا إذا ارتكبت على حد الاستحلال، بخلاف الكفر فإنه يأتي على أصله بالإبطال.
قال ابن عبد البر رحمه الله:
"أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ"
وبوب الترمذي رحمه الله:
بَاب مَا جَاءَ فِي اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ.
وبوب: بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ. فتلك خصلة عملية يتفاوت فيها أصحابها زيادة ونقصانا.
وفي "السنة" للخلال:
"أخبرني عبد الملك، قال: سمعت الزبيري أبا عثمان صاحب مالك، قال: كان مالك يقول: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص» "
(3/ 582).
و: "أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله، (أي: الإمام أحمد رحمه الله)، يقول: قال الله عز وجل: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) وقال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وقال: هذا من الإيمان، ثم قال أبو عبد الله: «فالإيمان قول وعمل، وقال: الزيادة في العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق» ". اهـ
(3/ 589).
و: "أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أن إسحاق بن منصور حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، حتى لا يبقى منه شيء» ". اهـ
(3/ 593).
وقال صاحب "معارج القبول" رحمه الله:
"وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم وأن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وإذا كان ينقص بالفترة عن الذكر فلأن ينقص بفعل المعاصي من باب أولى". اهـ
فمجرد الاشتغال بفضول المباحات ينقص الإيمان في القلب، وهذا أمره يجد كل مكلف في نفسه، فكيف بمقارفة المعاصي؟!.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 09 - 2009, 08:15 ص]ـ
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى خطأ بعض السائرين من أهل الطريق إذ وقفوا على حد الحقيقة الكونية ولم يشهدوا الحقيقة الشرعية، فكان فناؤهم: شهوديا، لا شرعيا، وشط بعضهم فكان فناؤه: وجوديا، أوقعه في الحلول والاتحاد، على طريقة ضلال الأمم من متزهدة الهند ورهبان النصارى وغلاة المنتسبين إلى القبلة وزنادقة المقالات الحادثة كمقالة البهائية التي أطلت برأسها في الآونة الأخيرة، فهي على وزان مقالة النصارى في المسيح عليه السلام، مع اختلاف العين التي حل فيها الإله، فالنصارى قالوا بحلوله في المسيح عليه السلام، والبهائية أحلوه في المدعو زورا بـ: "البهاء"، وهو بأوصاف القبح أليق.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقد ظن كثير من الصوفية أَن التوحيد الخاص أَن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته، ويشهد نفسه شبحاً فانياً يجرى على تصاريف المشيئة، كمن غرق فى البحر فأَمواجه ترفعه طوراً وتخفضه طوراً، فهو غائب بها عن ملاحظة حركته فى نفسه، بل قد اندرجت حركته في ضمن حركة الموج وكأَنه لا حركة له بالحقيقة، وهذا وإِن ظنه كثير من القوم غاية، وظنه بعضهم لازماً من لوازم التوحيد فالصواب أَن من ورائه ما هو أَجل منه، وغاية هذا الفناءِ فى توحيد الربوبية، وهو أَن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إِلا الله، وهذا هو الحق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفى في النجاة فضلاً عن أَن يكون شهوده والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التى لا غاية وراءَها ولا نهاية بعدها الفناءُ في توحيد الإلهية وهو أَن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتأَلهه عن تأَله ما سواه، وبالشوق إِليه وإِلى لقائه عن الشوق إِلى ما سواه، وبالذل والفقر له والفقر إِليه من جهة كونه معبوده وإِلهه ومحبوبه عن الذل إِلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أَنه ليس فى الوجود ما يصلح له ذلك إِلا الله، ثم يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه". اهـ
ص44، 45.
فالفناء المراد شرعا: فناء الألوهية، فيفنى بالطاعات مراد الرب، جل وعلا، عن المعاصي مراد نفسه الأمارة بالسوء.
وفناء بعض خيار أهل الطريق كان وقوفا على حقيقة الربوبية التي فنوا فيها، فأوقعهم ذلك في نوع جفاء في حق الأسباب المشهودة إذ شغلوا عنها بمطالعة مقام مسبِّبها ومجريها، جل وعلا، وفق سننه الكونية المحكمة، فلم يعطوا سننه الشرعية حقها، مع أن الفناء في تحصيلها، وهو الفناء الديني الشرعي: فناء الألوهية، هو المراد لذاته، بخلاف فناء الربوبية بمطالعة السنن الكونية فهو غير مراد لذاته، وإنما قد يعرض للسالك، فلا يمدح بذلك، إذ لم يكن ذلك من طريقة الرسل عليهم السلام أصحاب الشرائع التي قامت على الأسباب: شرعية كانت أو كونية.
وأما فناء أهل الاتحاد فهو شعبة من اتحاد النصارى، بل هو أفحش، إذ غابت عقولهم، فغلوا في الحقيقة الكونية وجفوا في الحقيقة الشرعية، حتى أسقطوا الأسباب، وأبطلوا الشرائع، وجعلوا الخالق عين المخلوق، فهو حال أو متحد بكل كائن، وإن سفل، فتلك وحدتهم في مقابل توحيد الرسل عليهم السلام، وتلك شرعتهم الإباحية في مقابل شرائع الرسل الإلهية.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى":
"وَالْفَنَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى. فَالْأَوَّلُ: هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمَلَاحِدَةِ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ كَلَامَ الْحَلَّاجِ - وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْوُجُودَ وُجُودًا وَاحِدًا -.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى - فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَقَامُ الِاصْطِلَامِ وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ؛ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ فَأَلْقَى الْمَحْبُوبُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَهَذَا حَالُ مَنْ عَجَزَ عَنْ شُهُودِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِنْ السَّالِكِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا مِنْ السُّلُوكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ غَايَةَ السُّلُوكِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ غَلِطُوا فِيهِ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ شُهُودِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ طَلَبَ رَفْعَ إنيته بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى - فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَنْ اتِّبَاعِ هَوَاهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ". اهـ
وكل سائر على غير طريق النبوة فهو مظنة العدول عن الحق، بل له من ذلك نصيب ولا شك، بقدر عدوله عن الوحي المنزل، فإن الحق دائر مع النبوات أينما دارت، فهي الحكم العدل الذي قامت البراهين القطعية على عدالته بل عصمته فلا خطأ في بلاغها، فحملتها: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، ولا قدح في علومها وأعمالها، فعلومها أنفع العلوم وأعمالها أصلح الأعمال، وذلك جماع كل خير. فمن مقل ومن مكثر، فمن مقل قد زهد في علوم النبوات حتى خرج عن اتباعها بالكلية كالفلاسفة ومن على طريقتهم من غلاة أهل الطريق، إذ زعموا حصول النجاة من غير طريق الرسل، عليهم السلام، فانسخلوا من شرائعهم، إذ هي بمنزلة السياسات الأرضية التي يحكم بها المتملكة والمتأمرة، فغايتها أن تكون أعدل النواميس، إذ أصحابها أذكى الناس عقولا وأصحهم فهوما، وأوسعهم خيالا فعندهم من قوى التخييل ما يتلقون منه الوحي!، وأقواهم تأثيرا فعندهم من قوى التأثير الباطنة وفصاحة اللسان الظاهرة ما يحمل المستمع على تصديقهم واتباع طريقتهم، فهي، كما تقدم، أكمل الطرائق الأرضية!، وكل ذلك قدح صريح في النبوات بتسويتها بغيرها من الشرائع والسياسات الأرضية، وإنما غايتها أن تكون أكمل وأن يكون صاحبها أعلم وأحكم، دون أن يختص بطور زائد على طور العقل البشري، وهو طور الوحي الذي جعلوه محض خيالات وأوهام!.
(يُتْبَعُ)
(/)
فغاية المائل عن طريقة النبوات إن كان من أهل الفضل، كخيار أهل الطريق الذي وقعوا في فناء الشهود بملاحظة القدر الكوني دون القدر الشرعي، غايته أن يعتذر عنه إذ له من محكم القول ما يرد إليه متشابهه، وله من صالح العمل ما يغتفر معه في حقه ما زل فيه، وإن لم يسلم له به، إذ الحق لا يعرف بأقوال أو أعمال الرجال، وإنما هو الحكم على أقوالهم وأعمالهم.
ويكاد الغلو في هذا الشأن يطرد:
فإن من غلا في العبادة والزهد على غير طريقة الرسل عليهم السلام فخرج عن حد الاعتدال، فإنه قد يظن في نفسه طهارة محل تسوغ حلول الرب فيه، إذ قد فني في المعبود، جل وعلا، على حد فناء أهل الاتحاد، فلم ير حدا بينه وبين محبوبه، وكل ذلك من غلو أهل الطريق الذين تجاوزوا الحد المشروع في المحبة، فأطلقوا عبارات العاشقين في حق رب العالمين!، فوقع في قولهم وعملهم ما أخرج فئاما منهم عن الدين جملة وتفصيلا، وذلك من شؤم الغلو في المقالات أو الأعمال، إذ مؤداه: الانقطاع عن طريق النبوات، بل الانتقال إلى ما يناقضها من طرائق أهل الزيغ والإلحاد، والنبوة حد جامع مانع لكل طرائق التزكية الشرعية: قولية كانت أو عملية، فلا يفتقر السائر على منهاجها إلى ما سواها من الطرائق البدعية في الأحوال القلبية أو الأقوال اللفظية أو الأعمال البدنية. وإنما عدل من عدل عنها لنقص في العلم، أو غلبة للهوى، فله، كما تقدم، من العدول عنها بقدر ذلك، فالجهل نقيض العلم، والهوى نقيض العدل، فالأول: فساد في التصور العلمي، والثاني: فساد في الحكم العملي، وهما متلازمان تلازم العلة والمعلول، ففساد القول علة فساد العمل، وفي التنزيل: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فأمره بالحكم بالحق، ولا يكون حق إلا بعلم راسخ، ونهاه عن اتباع الهوى فهو لازم نقيض الحق من الجهل. فدل ذلك على التلازم الوثيق بين: العلم والعدل من جهة، و: الجهل والهوى من جهة أخرى، فالعلم الصالح ذريعة إلى العمل الصالح، وفي المقابل: العلم الفاسد ذريعة إلى العمل الفاسد.
وقل مثل ذلك فيمن غلا في التعبد والتزهد، طلبا لرتبة النبوة، وهي رتبة وهبية لا تكتسب بمباشرة أسباب، فليست على حد الصنائع البشرية: شريفة كانت أو وضيعة، فقوله من جنس قول أهل الاتحاد، وإن لم يبلغ ما بلغوه من الخطل، إذ بتصفية المحل وتنقيته يصير قابلا لتلقي آثار الوحي، وذلك صحيح لو كان صاحبه قد زكى المحل بعلوم وأعمال النبوات، لا رياضات الرهبان والزهاد الخارجة عن حد الاعتدال إلى حد الغلو والشطط، وذلك صحيح لو أراد صاحبه تلقي آثار الوحي من العلم النافع والعمل الصالح لا تلقي الوحي الذي لا يستجلب بأسباب، وإنما هو محض هبة ربانية كما تقدم.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض نقد مقالة أصحاب فناء الشهود:
"فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار.
وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله، ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضًا لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية. (لأنه قائم على ملاحظة الأسباب، فيدفع الأعراض الكونية بما شرع الله، عز وجل من الأسباب الشرعية وبما سخر من الأسباب الكونية، فقدر غزو البلاد مدفوع بجهاد الأعداء، وقدر الجوع مدفوع بتناول الحلال ......... إلخ).
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائمًا، فقد افترى وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه، فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة، وما يسره أخرى.
فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية: قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا، لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز ........... وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، أو أن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك، فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل. ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل". اهـ بتصرف.
فقولهم إلى الجبر أقرب، وفيه من تعطيل السنن الشرعية والسنن الكونية ما فيه، إذ هو ذريعة إلى القدح في الشرع بتعطيل الأسباب، وذلك ذريعة إلى تعطيل الأمر والنهي، وهو عين ما وقع فيه من أوغل منهم في الفناء والتجريد حتى بلغ حد الحلول أو الاتحاد منتهى الضلال في هذا الباب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبِّب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل وصاحبه ضال، وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده"
ص46.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الرسالة التدمرية":
"فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله.
ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين، ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالا مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك". اهـ
وذلك أصل في رد كل بدعة حادثة، إذ لسان حال المبتدع: طريقتي أصح من طريقة الرسل، ولسان حال المستدرك عليه: لو كان خيرا لسبقونا إليه، فالرسل عليهم السلام وأتباعهم أصح الناس أفهاما وأذواقا فتلك قوتهم العلمية النافعة، وأصح الناس ألسنة وإرادات وأعمالا فتلك قوتهم العملية الصالحة، فهم أعظم الناس حظا في باب: العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 09 - 2009, 07:54 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الفاقة والضرورة التامة الملحة للقلب الطالب لمعبوده حبا وتألها، فقال:
"وفى القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إِلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى إِن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإِن فاته فاته كل شيء. فكما أَنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره أَلبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، (وتأمل حال المحبين الذين تعلقت نفوسهم بالصور الفانية كيف عذبوا بها جزاء وفاقا، فلما شغلوا بالصورة عن مصورها لحقهم من العذاب بها ما يكافئ ذلك)، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان". اهـ بتصرف
ص49.
(يُتْبَعُ)
(/)
فقد أجمع العقلاء، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، على أن في القلب فاقة عظيمة طلبا للصلاح بأسباب التأله الشرعية، كما أن في البدن فاقة عظيمة طلبا للصلاح بأسباب المطعم والمشرب والملبس والمنكح الكونية، بل إن فاقة الروح إلى مادة بقائها وصلاحها أعظم من فاقة الجسد إلى مادة بقائه وصلاحه، فمادة الشرع أشرف من مادة الكون، وإن كان كلاهما شريفا، فهما من هبات الرب الحميد المجيد، جل وعلا، وشرف العطية من شرف معطيها، فالهبة الربانية فرع عن أوصاف جمال الرب، جل وعلا، كما أن الهبة في عالم الشهادة: قدرا ووصفا فرع عن أوصاف واهبها، فلكل هبة قدر هو من قدر واهبها مستمد، ولله المثل الأعلى، فإنه أعظم من وهب وأكرم من أعطى، فهباته قد عمت كل الخلائق، فمن مستمتع بهباته الكونية، وإن لم يكن له حظ في هباته الشرعية التي أنزل بها كتبه وبعث بها رسله، عليهم السلام، فتلك همته الطينية إذ لم يتعد انتفاعه انتفاع بدنه من الخارج من تربة الأرض، فاستمتع بها بطنه وحرم من النظر فيها عقله، فنظره نظر الشهوة لا نظر العقل الذي دعت إليه النبوات، نظر: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ).
ومن مستمتع بهباته الشرعية قد أخذ من النبوات قسطا وافرا فاستقام باطنه وظاهره، على منهاج النبوة، فحصل له من كمال اللذة العقلية بالتدبر، وكمال اللذة الروحية بالتعبد، وكمال اللذة الجسدية بتناول المباح تناولا لا تبعة فيه على رسم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
فأتباع الأنبياء عليهم السلام: هم أسعد الناس بنعم الرب، جل وعلا، فهم في عيشة راضية في دار الابتلاء، وإن لحقهم من آلامها ما تتأذى منه الأبدان، إذ الأرواح صحيحة، بخلاف من اعتلت روحه فإن تنعم بدنه وسلامته من الآلام ليس بمغن عنه شيئا، إذ نفسه مضطربة لم تهتد إلى مادة الوحي المنزل: سبب سكونها ورضاها، فنعيم الأبدان الطينية لا تنتفع به الأرواح النورانية الباقية بعد فناء أجسادها، إذ لكلٍ غذاء به يتقوت، ولكل دواء به يصح، فمن أطعم الروح غذاء البدن، فتلهى بشهوات الجسد الحسية عن مطالب الروح العلية، فإنه كمن أطعم الرضيع لحما غليظا لا تقوى على هضمه أمعاء كثير من البالغين!، وذلك مظنة هلاكه وفساد حاله، فكذلك الروح اللطيفة إن قدمت لها مادة البدن الكثيفة.
وأشار ابن القيم، رحمه الله، إلى نكتة لطيفة في تقديم شيخ الإسلام الهروي، رحمه الله، غنى القلب على غنى النفس، فقال:
"وإِنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأَن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إِلى درجة الطمأْنينة لا يكون إِلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أَولى بالتقديم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سِائِرُ الْجَسَدِ، أَلا وَهِي القلب"، والقلب إِذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعاً تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإِخبات، فأَدت الحقوق سماحة لا كظماً بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغري الظاهر، (بالقوة العملية الصالحة)، والباطن، (بالقوة العلمية
(يُتْبَعُ)
(/)
النافعة)، فرض متعين مدة أَنفاس الحياة.
وتنقضي الحرب محموداً عواقبها ******* للصابرين، وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار فى النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد فى معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش فى الطاعات أَين كانت بقوة وأَيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل فى هذه الخلع ويجر لها فى الناس أَذيالاً وأَردانا"
بتصرف من: ص49، ص50.
فهما متلازمان عقلا، إذ صلاح الظاهر مئنة من صلاح الباطن، مع أن الظاهر قد تبدو عليه أمارات الصلاح نفاقا أو رياء، ولكن مآل المتشبع بما لم يعطه إلى افتضاح، ومكنون القلب يظهر في فلتات اللسان، على حد قوله تعالى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).
وصلاح الباطن مئنة من صلاح الظاهر، فذلك أقوى دلالة، إذ دلالة الظاهر على الباطن: دلالة مسبَّب على سببه، ودلالة الباطن على الظاهر: دلالة سبب على مسبَّبه، ودلالة السبب على مسبَّبه: دلالة أصل منشيء على فرع ناشئ، وذلك أقوى في الاستدلال بداهة.
والشاهد أن التلازم بينهما وثيق، ولكن صلاح القلب: صلاح للملك، فإذا صلح الآمر صلح المأمور، فصار وزير صدق بسلطان القهر والانقياد، فليست وزارته على حد الولاء المطلق، بل هو ناصح ما كان للقلب هيبة تردعه، فإذا ضعف سلطان القلب على الجوارح، انتفضت ورفعت راية العصيان والخروج، فطاعتها دائرة مع قوة سلطان القلب وجودا وعدما، وقوة سلطان الباطن على الظاهر لا تكون إلا بتعاطيه أسباب التزكية من العلوم النافعة والأعمال القلبية الصالحة المصلحة للمحل، فيكون العقد الأول: صحيحا، فهو مصدق مقر بما جاءت به النبوات من الأخبار السمعية سواء أكانت: إلهيات أم خبريات مغيبة من أحوال دار البرزخ والدار الآخرة وعوالم الملائكة والجان، وأخبار الأمم البائدة، والأمم القادمة .......... إلخ، ويكون العمل الباطن صالحا، فتوكله ورجاؤه واستعانته .... إلخ على الرب، جل وعلا، إذ قد أثبت له من الكمالات المطلقة: جلالا وجمالا، قدرة وحكمة، ما جعله أهلا لأن يعبد ويسأل، فهو أحق معبود وأصدق مسئول، فإذا صلحت الصورة الباطنة: محط نظر الرب، جل وعلا، صلحت الصورة الظاهرة، فجرى الإقرار على اللسان بداهة، ولهج بالذكر الواجب والمستحب، وغضت العين الطرف عن المحارم، فلا تنظر إلا تأملا، على حد قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فيذكرون باللسان، ويتفكرون: نظرا بالعين على حد الجمع والاستقراء، ونظرا بالعقل على حد التحليل والاستنتاج، فيستدلون بأدلة الربوبية المبثوثة في الكون على قضايا الألوهية التي ورد بها الشرع، وأما السمع فهو لا يستمع قصدا إلا للحق، وإن سمع عرضا الباطل، فسمعه: سمع الانتفاع لا سمع الإدراك، فذلك مما يستوي فيه عامة البشر، بل يشركهم فيه كثير من الطير والوحش!، بخلاف سمع الانتفاع فلا يكون إلا للمسددين. ولا تبطش يده إلا انتصارا للنبوات فليس له حظ في نفسه، ولا تخطو قدمه إلا على آثار الأنبياء عليهم السلام، فخطاه إلى محاريب الصلاة وميادين العراك إقامة لشعار الدين، وقل مثل ذلك في كل جارحة وخاطرة إلا ما زل فيه إظهارا لمكان الأنبياء من العصمة، فالحكمة الربانية قد اقتضت العصمة لهم، والخطأ لغيرهم فيستحضر العبد به مقام الجلال إذ قدر الله، عز وجل، عليه تلك الخطيئة بقدرته النافذة، ويستحضر مقام الجمال إذ شرع الله، عز وجل، له أسباب التوية بحكمته البالغة ورحمته الواسعة.
وأما خلعة المهابة، فهي خلعة الأنبياء والصديقين، وانظر إلى هيبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع كونه الرحمة المهداة، في حديث أبي مسعود، رضي الله عنه، عند ابن ماجه، رحمه الله، في "سننه"، ولفظه: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ.
فكان قريبا إلى قلوب أصحابه فله من جمال الوصف ما يؤلف به القلوب، مهابا في قلوبهم فله من جلال الوصف ما ينتظم به أمر الجماعة المسلمة إذ القائد لا ينفك عن هيبة في قلوب أصحابه لئلا ينفرط العقد، فله جمال: "إنما أنا لكم كالوالد لولده أعلمكم"، وله جلال: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"، فله جمال يقف به مع المرأة العجوز وتأخذ به الجارية الصغيرة بيده حتى يقضي حاجتها، وله جلال جعل عمرو بن العاص، رضي الله عنه، لا يطيق وصفه إذ ما امتلأت عيناه من محياه هيبة منه.
فهو الضحوك في وجوه المؤمنين القتال لأعداء الرسالات بسيف الشرع الحاسم، بلا قهر أو استبداد.
والجمع بين الأوصاف المتضادة على حد التكامل لا التناقض، خلق أصيل في عظماء البشر من الأنبياء وأتباعهم، إذ تتباين الأحوال بتباين الأوقات، فالحزم له مواضع، واللين له مواضع، والخلط بينهما مظنة اختلال الأمر وانفراط العقد.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 09 - 2009, 08:09 ص]ـ
ويقول، رحمه الله، في معرض التعليق على تعريف الهروي، رحمه الله، غنى القلب بأنه: "سلامته من الأسباب":
"قوله في الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: "إِنَّهُ سلامته من السبب" أَي من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني، لأَنه فقير إِلى الوسائط، (على جهة الاعتماد عليها والركون إليها إن كان فقره مذموما)، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة - أَي بالانقياد لحكمه - حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله عز وجل لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل". اهـ
بتصرف من: ص51.
فليس المراد: سلامته منه على حد تعطيله بادعاء التوكل، إذ التوكل: تَفََعُّل يدل على اكتساب الوصف الممدوح، ولا يكون ذلك إلا بعد بذل السبب المشروع على حد الاستغناء بمسبِّبه ومجريه وفق سننه الكونية المحكمة، فيبذل السبب مع انقطاع علائق القلب به، إذ هو بتلمس مراضي الرب، جل وعلا، مشغول، فله في كل حركة وسكنة نية، فنية في العبادات التوقيفية، ونية في العادات الجبلية، ومنها الأسباب الكونية التي أودع الرب، عز وجل، فيها قوى التأثير، فلا تؤدي إلى نتائجها إلا بإذن ربها وخالقها، فالجمع بين مقام الربوبية بالتوكل وذلك عمل القلب، ومقام الألوهية بمباشرة السبب وذلك عمل الجوارح، هو مقام المسددين من العالمين الذين استغنوا بالرب عن المربوب، وبالمسبب عن السبب، ولم يحملهم ذلك على تعطيل شرعه بمعارضته بقدره.
فمن عطل السبب بدعوى الغنى فهو فقير ناقص العقل، إذ طلب ما لم تجر به السنة الكونية من حصول المطلوب بلا مباشرة لسببه، فلا يتصور شبع بلا طعام، وري بلا ماء، إذ الخلقة البشرية تباين الخلقة الملائكية، فعوارض النقص للأولى لازمة، فلغوب وجوع وعطش ومرض ونوم وكلل وهرم وموت ......... إلخ، فكيف يدعي الغنى من هذا وصفه، فضلا عن فقره إلى مغفرة ربه، جل وعلا، ورضوانه، فهو فقير ببدنه إلى أسباب الكون، فقير بروحه إلى أسباب الشرع، فقير لما يدفع به جيوش العدو المتربص: من شهوات وشبهات وهموم وأحزان ........ إلخ فتلك جنود العدو الإبليسي الخفي، فضلا عن جنود العدو الإنسي الظاهر الذي يكيد له ليل نهار بمقتضى سنة التدافع الكونية، فكتائبه متتالية، من أسنة تسفك الدماء، ومقالات تهدم الأديان، فصور الغزو متباينة: فغزو عسكري، وآخر عقلي، وثالث اقتصادي ............. إلخ، و: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)، ولكنه شاء ذلك وأراده إظهارا لقدرته بنصرة أوليائه وحكمته في تسلط أعدائه على أوليائه حينا يحصل به التمايز والتمحيص والعاقبة للمتقين، ففي ذلك الصراع المرير يظهر من كمالات الرب، جل وعلا، ما تقر به أعين الموحدين، فأسعد الناس بذلك من فقه معاني أسماء الرب، جل وعلا، فحصل له من العلم بأوصاف جماله وجلاله ما يطمئن به قلبه في أزمنة الفتن التي تطيش فيها العقول وتضطرب فيها الأفئدة لاستبطاء النصر، ولا نصر إلا باستكمال عدده وأسبابه، فذلك، أيضا، من السنن الكونية الجارية، التي يظهر من إحكامها وإتقانها وصفا، واطرادها وقوعا، ما يحمد به الرب العليم الحكيم تبارك وتعالى.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولذلك كان مسلك رهبان الأمم الذين أظهروا خلاف ما جرت به السنن الكونية من لزوم تعاطي أسباب البقاء من مطعوم ومشروب ... إلخ، خروجا عن حد الاعتدال، بل خروجا عن أمر الله، عز وجل، الشرعي، بحفظ العقول والأبدان، فلسان حالهم: الغنى عن الأسباب وليس ذلك من جبلة البشر في شيء بما فيهم الأنبياء، عليهم السلام، صفوة الخلق وأحقهم بوصف الكمال، وفي التنزيل: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، ففعل أولئك: نوع تشبه بالرب، جل وعلا، في وصف الغنى المطلق عن الأسباب، وذلك من أخص أوصاف ربوبيته، فصنيعهم هذا خروج عن حد البشرية طلبا لما ليس لبني آدم من وصف الكمال فجبلته شاهدة بضده، فذلك عند التحقيق: معارضة للقضاء الكوني بما لم يشرع من الأسباب، فإن القضاء الكوني إن كان مما يعارض، كما سيأتي إن شاء الله، فإنما يعارض بقضاء كوني مشروع، فتظهر حكمة الرب، جل وعلا، في تدافع قوى الأسباب الرافعة والعوارض النازلة، وتظهر عبودية الفاعل: كونا إذ هو فقير إلى السبب استبقاء واستصلاحا لروحه وبدنه، وشرعا: إن كان من المسددين، فاستحضر نية صالحة في مباشرة السبب فانقلبت عادته عبادة كما سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك.
وعلى النقيض: من جعل السبب معتمده، فباشره على حد الغفلة عن قدرة مجري السبب، فغلظ حجابه فلم ير إلا القوة الكامنة في السبب فجعلها مستقلة بالتأثير دون نظر إلى خالقها ومودعها في السبب ومجريها بمقتضى إرادته الكونية النافذة، فهو فقير إلى السبب، وذلك الفقر المذموم، إذ شغل بالسبب عن مسبِّبه، وبالمخلوق عن خالقه، فله من العذاب بقدر تعلقه بالمخلوق وله من وصف الفقر ما يبطل دعواه الغنى بالأسباب إذ قد عدل عن الفقر إلى الرب، جل وعلا، الذي يكمل به حال المخلوق إلى الفقر إلى المربوب من مال أو جاه أو رياسة، الذي ينقص به حاله ويفسد به نظامه.
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى وجه آخر من أوجه افتقار الإنسان الذي لا يستغني بربه، جل وعلا، فيرضى بحكمه القدري ويمتثل قدره الشرعي: رفعا للمقدور المكروه بما شرع من الأسباب، أو صبرا عليه، فقال:
"فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ - يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه - لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله عز وجل ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى استفتاح صلاة الليل: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنبت، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ"، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط"، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك فى نفس الأَمر"
ص51_53.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهذا أمر لم ولن يسلم منه أحد منا في بعض شأنه، وربما في كل شأنه، فمن مقل ومن مكثر، فإن للنفس حظا من المدح والوجاهة وحب الرياسة، ربما فاق حظها من الملاذ الحسية من مطعم ومشرب بل ومنكح، إذ هو أعظم ملاذ البدن، ومع ذلك تتضاءل تلك اللذة الجسدية المحسوسة أمام اللذة الروحية الموهومة: لذة الوجاهة والرياسة، وهي لذة غير محصورة في مرحلة معينة من مراحل العمر، كملاذ الطفولة من لعب وإقبال على مطعومات ومشروبات بعينها فيها من الحلاوة ما تباشر قوى الإحساس فتلتذ بها النفس تبعا لالتذاذ الحواس الظاهرة بها، وملاذ الشباب وأظهرها لذة المنكح فهي على حد أي شهوة حسية، وإن كانت أعظمها، تظهر آثارها على الجسد ابتداء، فلتذ الروح بها تبعا، فلذة النفس في حب المحمدة والثناء لا تحصر في زمن بعينه فإنها ملازمة للإنسان في جميع مراحل عمره، فإن الطفل الصغير، وإن غلب على نفسه الميل إلى شهوات البدن تبعا لنقصان عقله وإدراكه إلا أنه لا ينفك عن نوع حب للظهور والوجاهة، وهو ما قد يحمله على فعل أمور مشينة، طلبا للظهور ورغبة في اجتذاب أنظار والديه، إن أهملاه، لانشغالهما بأخ أو أخت له، أو لظنهما أنه غير كامل الإدراك فلا يتأثر بإهمالهما، ولذلك كان التمييز بين الأبناء سببا رئيسا في تدمير شخصية الطفل، وجنوحه إلى السلوك العدواني مع إخوته، ومع مجتمعه، فيميل إلى انتهاك الأعراف والنواميس، فهمه تحصيل ما افتقده من العناية والاهتمام، ولو جلب له ذلك من الذم والعقاب ما جلب!.
وكذلك الشاب، وهو أعظم الناس حظا من تلك اللذة الموهومة، فمنتهى أمله: التفوق على أقرانه، واستجلاب أسباب المدح واستدفاع أسباب الذم، ولو تشبع بما لم يعط زورا، فيدعي لنفسه من الكمال ما يرفع به المذمة، ولكل جماعة قياسها، ففي الأزمنة الفاضلة يكون القياس بمعالي الأمور من علم وحسن خلق ......... إلخ، فيتشبع فاقدها بها طلبا للمدح الذي تلتذ به نفسه، ولو كذبا وزورا. ومن مأثور أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه".
فيدعيه من ليس من أهله، اسما بلا مسمى، طلبا لسعادة موهومة ودفعا لضيق يورثه الجهل، فإنه سبب رئيس في ضيق الصدور بخلاف العلم الذي تشرح به الصدور، على حد قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، فمن يرد الله، عز وجل، به خيرا، فضلا منه وامتنانا، يشرح صدره بأشراف أجناس العلوم: علم التوحيد على حد ما جاءت به الرسل، عليهم السلام، أصح الناس فهوما وعلوما، ومن يرد أن يضله، عدلا منه وحكمة، يحجب عنه ذلك العلم الإلهي الشريف فيضل قلبه في أودية التشريك والتثليث فيورثه ذلك من ضيق الصدر ما الله به عليم، ولذلك تجد من هذا حاله أتعس الناس باطنا، وإن كان أسعدهم ظاهرا، إذ يتلهى بصور المتع الظاهرة عن آلام النفس الباطنة، وحال المشركين والملحدين لمن اطلع على دقائق معايشهم خير شاهد على ذلك، فقلق وخوف دائمان لا ينقطعان، وإن أظهروا خلافهما، على حد ما تقدم من التشبع بما لم يعطوا، كذبا وزورا.
وكذلك الشيخ، فإنه كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، قد فنيت شهواته الجسدية، فلم يعد له في المأكل أو المنكح، حاجة، ولم يعد له على السفر والترحال قدرة، فقد فنيت قواه الجسدية، ولكن حظ نفسه لم ينضب، فلا يزال، على الجبلة الأولى، جبلة حب الرياسة والتعظيم، بل هو عليها أحرص، لمكانه من الخبرة والتجربة، فصاحبها مظنة التصدر والرياسة، فضلا عن كونه لا يملك عمليا! ما يلتذ به إلا تلك الشهوة النفسية الكامنة، ولكل نفس حظها، فلم ينج منه إلا أكابر أهل الفضل من العلماء الربانيين، فرأينا في تاريخ أمة الإسلام خلاف الأقران، الذي يحمل القرين على القدح في قرينه من طرف خفي أو ظاهر، وربما كان ذلك برسم الإخلاص والتجرد، وربما شابه حظ نفس لا يسلم منه أحد إلا من عصم الله، عز وجل، من خيار المتجردين الذين بذلوا أعراضهم
(يُتْبَعُ)
(/)
لإخوانهم، فتجردوا من حظوظ النفس لحظ الدين، فلا ينتصرون إلا له، ولا تتحرك نفوسهم إلا ذبا عنه، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب الطريقة المثلى في هذا الباب، شأنه في ذلك شأنه في كل أبواب الخير، فهو أعلم الناس بها وأحرصهم على تحصيلها وأقدرهم على أدائها بما آتاه الله، عز وجل، من عظم الخُلق وكرم النفس، على رسم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فاستعارة الاستعلاء الحسي للاستعلاء المعنوي مئنة من تمكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك الوصف فليس تصنعا أو تخلقا، وإنما هو جبلة راسخة، لمكان الاصطفاء والعصمة فلا يختار الله، عز وجل، لحمل رسالاته إلا أعظم البشر قدرا وأرفعهم شأنا: الأنبياء عليهم السلام، ولا يختار، جل وعلا، بمقتضى قدرته وحكمته، لحمل رسالته الخاتمة التي نسخت الرسالات السابقة، إلا أفضل أولئك الأخيار، فهو خيار من خيار: قد اجتمع معهم في أصل النبوة وافترق عنهم فيما اختص به من الرسالة الخاتمة.
وأما في الأزمنة المفضولة: فإن القياس: قياس آخر!، إذ أسباب الوجاهة التي تحصل بها تلك اللذة الموهومة هي: المال أو جمال الخلقة الظاهرة ........ إلخ، وتلك أمور ظاهرة تعكس تعلق أصحابها بالصور الظاهرة، وإن كانت الحقائق الباطنة زائفة، ولكل زمان قياسه!.
والشاهد أن ذلك الافتقار إلى تلك اللذة الموهومة: أمر جبلي قد فطرت عليه القلوب، كما فطرت الأبدان على الافتقار إلى أسباب البقاء، فجنس الافتقار واحد، ولكن فقر النفوس أعظم، فإذا طلب صاحبه الاستغناء بالمدح، ولو زورا، فكان مدح العباد أو ذمهم محط نظره ومنتهى أمله فهو في مدحهم راغب، ومن ذمهم راهب، فذلك عين ما فر منه، إذ ذلك هو الفقر إلى ما بأيدي العباد من حظوظ النفس العاجلة، وليس ذلك من طريقة أهل الإخلاص في شيء، وبقدر تعلق النفس بحظها من غير الله، عز وجل، يكون الفقر المذموم الذي يفسد حال القلب بالقدح في إخلاصه: مادة حياته.
ولذات الدار الفانية فرع عنها فهي فانية إلا ما كان من لذة العلم بالله، عز وجل، أشرف معلوم، فإنها تحصل بتصحيح النية والعمل، فيصيران على طريقة النبوة، وذلك مظنة صلاح القلب بورود العلم النافع المزكي عليه، ومع ذلك فإن تلك اللذة لا تعدل لذة النظر إلى وجه الله، عز وجل، في دار النعيم فتلك أشرف اللذات المعنوية لتعلقها بأقدس ذات: ذات الرب، جل وعلا، القدسية التي قامت بها صفاته العلية. فاللذة العلمية: أشرف أجناس اللذات، ولذة النظر إلى وجه الله، عز وجل، أشرف أفرادها. وليس سواء: علم اليقين في الدنيا وعين اليقين في الآخرة.
وأما اللذة الوهمية بالتوقير والتبجيل والثناء، فإنها إلى زوال سواء أكان صاحبها مستحقا أم غير مستحق.
وأما اللذة الجسدية فهي أنقص تلك الأجناس، ومع ذلك فإن في الجنة أكمل صورها وصفا، وأعظمها قدرا.
فليس في الآخرة من أجناس اللذات إلا الأسماء، فالمسميات أشرف وأعظم تبعا لعظم الدار الباقية فهي فرع عنها كما أن أجناس اللذات العابرة في الدنيا فرع عنها، ولكل أصل فروعه.
فيا معشر الصابرين المرابطين على ثغور الدين:
عما قريب يحط الموحدون رحالهم في دار النعيم، فلهم فيها أكمل اللذات فإلى الرحمن ينظرون، ولعبارات التوقير والثناء من أفواه الحور العين يستمعون، وهو أمر قد حرم أغلب الأزواج منه في دار الابتلاء!، ولشتى أجناس اللذات يباشرون، وإن هو إلا صبر ساعة على التكليف الشرعي، وحسن خاتمة لمن سدده الله، عز وجل، في السكرات، تعقبها لذات لا تنقطع في جنات عدن التي وعد الرحمن.
فهنيئا لمن اصطفاه الله، عز وجل، فاصطبر لعبادته، ورزقه حسن الخاتمة، فهو أسعد الناس حياة في كل الدور.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 09 - 2009, 07:56 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان أنواع الأحكام، وسبق نقل كلامه على هذا الرابط في المداخلة الأولى تحديدا:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=49020
(يُتْبَعُ)
(/)
فالحكم الشرعي هو محط التكليف، فبه يتميز المنقاد المطيع من المستكبر العاصي، ولا يوافق تلك الإرادة إلا المسددون الذين لا يشهدون لأنفسهم حظوظا إذا جاء أمر الشرع، فهمتهم قد سمت إلى التصديق والامتثال، فليس الشأن عندهم: لم قال؟، وإنما الشأن عندهم: ماذا قال ليصدق إن كان خبرا، ويمتثل إن كان طلبا بالفعل أو الكف، ومن نقل هذا الخبر إن كان مما تتفاوت فيه الأنظار قبولا أو ردا مما لم يبلغ حد التواتر القطعي، فإذا ثبتت صحة الدليل فهم أسرع الناس إلى العمل بمدلوله، فلا يردون أخبار الشرع الآحادية بدعوى أنها لا تفيد إلا الظنية، إذ ما ثبتت صحته فقد احتفت به من القرائن ما أوجب التدين به، تصديقا للخبر فبه يصلح القلب، وامتثالا للأمر فبه يصلح البدن، وذلك مراد الشارع، عز وجل، من عباده، فإن صلاح قلوبهم وأبدانهم، لو فقهوا، إنما يكون في اتباع الوحي المعصوم، فهو العاصم للقلوب من الشبهات، والعاصم للأبدان من الشهوات، والعاصم للأذواق من الشطحات، والعاصم للجماعات من جور السياسات، فالشرع منة ربانية في صورة ابتلاء بالشرعة الإلهية، فإن العاقل هو الذي يسلم لمن هو أعلم منه بأحوال القلوب والأبدان، ولو كان عدوا له، فالحكمة ضالته، ولو لم يعط نظير ذلك ثوابا عاجلا أو مؤجلا، فإن مجرد الظفر بوجه المصلحة كاف في اتباع الدال عليها، فكيف ومن شرع هو العليم بما ينفع ويضر المكلف في دينه ودنياه، وكيف وهو الرحيم به، فهو الذي تفضل عليه بالإيجاد والإعداد والإمداد، فليس عدوه بل هو ربه الذي رباه بأجناس النعم الشرعية والكونية، وهذا قدر فارق بين دين الإسلام وبقية الأديان الأخرى التي افترض واضعوها أو محرفوها إن كانت سماوية الأصل: أن العلاقة بين الرب والعبد: علاقة قهر وتجهيل، فالرب حريص على حجب أسباب الهداية عن عبده، فقد حظر على آدم الأكل من شجرة المعرفة، كما في سفر التكوين، وعاقبه بالطرد من الجنة والوصم بالخطيئة عقابا له على تطلعه إلى المعرفة! فصلاحه أن يظل جاهلا إذ لو تعلم لتمرد وخرج عن حكم الرب، كما حجبت آلهة الأوليمب سر النار، وهي رمز الحضارة، عن الإنسان لئلا يتفوق عليها!، فتلك علاقة الرب بالعبد عندهم، وأما علاقة الرب بالعبد عندنا، أهل الإسلام والتوحيد الخالص، فهي: (قوله تعالى في بعض الآثار: أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي. وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي. وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي. وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ. أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب)، ودلائل العناية بالإنسان قد تواترت نقلا وحسا، فإن الله، عز وجل، لم يخلقنا ليقيدنا بالآصار والأغلال، وإنما ابتلانا بالشرع استصلاحا للقلوب والأبدان، فخلق وكرم بالقدر الكوني: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، وزكى وطهر بالقدر الشرعي: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وابتلى كونا بالمرض والموت وسائر الآلام، ليعافي فضلا، فتظهر آثار نعمته الكونية العاجلة في دار التكليف، ويرفع درجة عبده في دار الجزاء فتلك آثار نعمته الشرعية الآجلة.
(يُتْبَعُ)
(/)
والرسل، عليهم السلام، إنما بعثوا بأشرف أجناس العلوم تقريرا وتفصيلا، فالعلم الإلهي، ولا يكون إلا نافعا، والعلم الكوني النافع: مراد شرعي، فأول كلمات الشرع المنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، وذلك بخلاف أديان الكهنوت الباطلة، وشرائع الطاغوت الجائرة، فإن تجهيل الأتباع فيها مراد شرعي!، فلا يملك التابع مراجعة المتبوع ولو أمره بما يناقض المعقول، فإن أمر الديانة لا يتلقى إلا على حد التسليم المطلق، ولو كان محالا ذاتيا يناقض ما قررته النبوات الصحيحة والعقول الصريحة من التوحيد الخالص، والعلم النافع: مراد فطري فالإنسان بطبيعته، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، قد جبل على حب المعرفة، وكشف ما حجب عنه من أسرار الكون، والبحث عما وراء هذا العالم من الغيب المطلق، وتلك نهمة لا تشبعها إلا النبوات التي جاءت بأخبار ما بعد هذه الدار على حد التفصيل الرافع لكل إجمال، ففصلت القول في أحوال دار البرزخ ودار البقاء وأوصاف أهل دار النعيم، وأوصاف أهل دار العذاب ..... إلخ، فضلا عن تفصيلها القول في أعظم وأجل الغيوب: أسماء الرب، جل وعلا، الحسنى وصفاته العلى، فذلك أعظم معلوم يراد لذاته، فما كان هذا الكون، وخلق هذا الخلق إلا لتظهر آثار أسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، فتظهر آثار أوصاف جماله رحمة بأوليائه، وآثار أوصاف جلاله إهلاكا وتعذيبا لأعدائه.
وكيف وقد وعد الله، عز وجل، عباده الثواب إذا امتثلوا أمرا هو عين صلاحهم، وهو عنهم وعن طاعاتهم غني؟، فهو الذي وهب الأنفس ثم اشتراها وهي ملكه بجنة الخلد التي خلقها إكراما لأوليائه، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، وهو الذي وهب الأموال ووعد من أدى زكاتها بالطهر والنماء، فيربي للمتصدق صدقته حتى تكون مثل جبل أحد؟!.
وأما الحكم الكوني فإن منه ما يدفع بمباشرة الأسباب، فقد أقام الرب، جل وعلا، كونه على سنن ونواميس مطردة، فيدفع القدر الكوني بقدر كوني، فقدر الجوع يدفع بقدر الشبع بمباشرة سببه، وسبب الشبع بداهة: تناول المطعوم، فلو دفع الجائع جوعه بمطالعة كتاب أو إجراء حساب، لعد ذلك فسادا في الرأي والعقل، إذ جعل ما لم يجعله الرب، جل وعلا، بمقتضى حكمته الكونية سببا، جعله: سببا، فإن المطالعة من جنس العلم الذي يرفع به الجهل لا من جنس المطعوم الذي يرفع به الجوع، ففاعل ذلك قد اعتبر ما لم يعتبره الكون أو الشرع، فإن الجبلة الكونية قاضية بوجوب تناول المطعوم درءا لمفسدة الجوع، وكذلك الطريقة الشرعية، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، و: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، فالاستسلام لقدر الجوع، أو رفعه بما لا يرتفع به، قتل بطيء للنفس.
والقتال قد وضع كونا وشرعا لردِ المعتدي، وبدءِ الطواغيت بالقتال استنزالا لهم من على عروشهم لتكون كلمة الشرع هي العليا، فإذا داهم العدو محلة المسلمين، فانشغل العباد بقراءة كتاب الجامع الصحيح في أروقة المساجد، كما وقع في مصر لما داهمتها الحملة الفرنسية، فإن ذلك من جنس رفع القدر الكوني بغير سببه الذي وضع له شرعا وكونا، فإن الله، عز وجل، قد وضع العلم، كما تقدم، سببا لرفع الجهل، لا لرد العدو الصائل، فالعدو الصائل على الأبدان إنما يدفع بحد السيف، كما أن العدو الصائل على الأديان إنما يدفع بحد الحجة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة، ولكل ميدان سلاحه وأسبابه.
والعبد المسدد الذي فقه أمر القدر هو الذي يباشر السبب على حد التوكل على ربه ومجريه، لا على حد التوكل على القوى المودعة فيه، فيباشره تعبدا لا تعلقا به.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما الحكم الكوني الذي لا راد له من الأسباب المقدورة، فإنه مما يتلقى بالرضا والصبر، أو الصبر إن لم تبلغ النفس مقام الرضا، فهو مقام شريف القدر رفيع الدرجة لا يناله إلا آحاد المخلصين. ولا ينفك عن عبوديات دقيقة من مطالعة الحكمة الربانية في ذلك الحكم الكوني النافذ، فهو ذريعة إلى خير أعظم من الشر الكائن في المقدور النازل، وغالبا، ما يذهل العقل والقلب عن تلك العبوديات اللطيفة في أزمنة العافية، فكيف بهما في أزمنة الابتلاء؟!. والله المستعان على الصبر حال نزول البلاء، فهو المستعان في الصبر عليه، وهو المستعان في رفعه إن كان مما يرفع، وهو المستعان على تمام التسليم إن لم يكن للعبد حيلة في رفعه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 09 - 2009, 07:41 ص]ـ
ويقول، رحمه الله، في تعريف الهروي، رحمه الله، غنى النفس بأنه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة". اهـ
يقول:
"يريد استقامتها على الأمر الديني الذى يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التى يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا يه، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق". اهـ
ص56.
فإن الاستقامة على الأمر: لفظ مجمل، لانقسام معنى الأمر إلى: شرعي وكوني، فالاستقامة على الأمر الشرعي هي مراد الرب، جل وعلا، على حد المحبة والرضا، بخلاف الأمر الكوني فإنه على حد القدرة النافذة التي بها تقع كل المقدورات: خيرها وشرها، فالرب، جل وعلا، يحب بعضها وهو ما وافق أمره الشرعي، ويبغض بعضها وهو ما خالف أمره الشرعي، وإنما أراد وقوعه لحكمة تفوق مفسدته فذلك مئنة من حكمته البالغة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة، فذلك الانقسام هو الذي أوقع الإشكال، إذ قد صار ذلك ذريعة لأهل الزندقة والانحلال، فكل مقدورات الرب، جل وعلا، الكونية، ولو كانت شرورا وآثاما، مرادة له شرعا، إذ لو لم يردها شرعا على حد المحبة ما شاء وقوعها، فسوى أولئك بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فجنس الإرادة عندهم واحد فكل ما أراده فقد أحبه، وكل ما شاء تكوينه فقد أراد تشريعه، ولازم هذا القول الجائر: نسبة الفواحش إلى الشرع، وذلك عين الطعن في حكمة الرب، جل وعلا، بزعم إثبات كمال قدرته، فكل ما يقع في الكون إنما يقع بقدره النافذ، وذلك حق، ولكن متعلق القدرة: كل الممكنات، فليس مقصورا على جنس المحبوبات الشرعية لتصح مقالتهم، بل هو شامل لجنس المحبوبات الشرعية وجنس المبغوضات التي تقع بالمشيئة الكونية.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في: "العبودية":
"وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته ........... ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم وأكمل هذه الأمة فى ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل فأين هذا من قوم يدعون المحبة.
وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق فى القلب ما سوى مراد المحبوب وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان ولا يمكن أحدا أن يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه وببغض ما ينافيه ويضره ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة زاعمين أن هذا من محبة الله ومن محبة الله بغض ما ببغضه الله ورسوله وجهاد أهله بالنفس والمال وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله وهذا معنى صحيح فإن من تمام الحب أن لا يحب إلا ما يحبه الله فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة
(يُتْبَعُ)
(/)
ناقصة وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له بل محبا لما يبغضه فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرا من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه حتى كذلك عندهم أعظم وصايا الناموس.
ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة وأن ما هم فيه أصل الزهد والعبادة ........... وهم برآء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم وهو سبحانه يحب من يحبه لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له وإن كان جزاء الله لعبده أعظم كما فى الحديث الصحيح الإلهى عن الله تعالى أنه قال: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.
وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب كما في الحديث الصحيح: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به الحديث.
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخا فى الزهد والعبادة وقعوا فى بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون في الدين الذى يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التى لا يعرف صدق قائلها فيجعلون قول متبوعيهم لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهانهم شارعين لهم دينا ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعي النصارى فى المسيح ويثبتون للخاصة من المشاركة فى الله من جنس ما تثبته النصارى فى المسيح وأمه إلى أنواع أخر ......... وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك وكل محبة لا تكون لله فهى باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله وهو الواجب والمستحب كما قال: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) ". اهـ بتصرف
وتلك الاستقامة لا تكون محمودة إلا على حد: المتابعة، كما تقدم، والإخلاص، فيتجرد السائر في طريق الهجرتين من حظوظ نفسه، فإذا أعطي رضي، وإذا منع رضي، وإن مدح لم يقعد غرورا، وإذ ذم لم يقعد تخاذلا، فذلك طريق وعر لا يسلكه إلا آحاد البشر، فإن لم يكن للسائر حظ من الإخلاص، وحظ من الأنس بالرب، جل وعلا، يستغني به عن أنس ما سواه، فإنه منقطع لا محالة، إذ كل العلائق بما سواه واهية لا يحصل بها كمال الأنس، وإن حصل نوع لذة عارضة، فسرعان ما تخيم الوحشة عليه بزوال ذلك العارض المؤقت.
ومن طلب الجاه من غير ذي الجاه والسلطان التام، وكل إلى من طلب منه حظ نفسه، وذلك عين الفقر الذي فر منه فوقع فيه! لنقص علمه بأسباب الغنى الحقيقي وفساد إرادته العملية، فنقص العلم ذريعة إلى نقص العمل، كما تقدم مرارا، فلو تضلع من علوم النبوات لاستغنى بأوصاف كمال الرب، جل وعلا، عن أوصاف نقص المربوب الذي يشاركه ماهية الذات والوصف فكلاهما مخلوق حادث، مربوب عائل، الفقر له وصف لازم.
وحصول تلك المعاني الجليلة رافع لحقيقة الفقر ومجازه!، فلا يخشى من تلبس بها فقر البدن، إذ قد تحقق لقلبه تمام الغنى بمن بيده مقاليد الكون إجراء، ومقاليد الشرع إنزالا.
ويقول، رحمه الله، في كلمة جامعة:
"بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى: {إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} ". اهـ
ص57.
فبقدر تلبس القلب والبدن بالأمر الشرعي على حد الاغتذاء والاستغناء فلا يجمع بين: الشرع الإلهي النافع وما عداه من الأغذية الخبيثة، إذ قد نهى الحكماء عن إدخال الطعام على الطعام ولو كان كلاهما طيبا فكيف وأحدهما خبيث ضار! بقدر دفع جيوش الشهوات عنه، إذ قد ضيق عليها المجاري، فألزم نفسه الحمية، فصام قلبه عن الشبهات العلمية وصام بدنه عن الشهوات العملية، فلا يفطر إلا على طيب العلوم والأعمال، ولا يكون ذلك إلا من مشكاة الرسل عليهم السلام. فلا ألذ ولا أنفع من غذاء النبوات.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 09 - 2009, 07:33 ص]ـ
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الدرجة الثالثة من الغنى، وهي: الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهي درجة شريفة رفيعة لا تنال بالدعاوى، بل إن أكثر من ادعاها ليس له من صدق الدعوى نصيب، فدعواه تفتقر إلى البرهان، لا سيما في أوقات النوازل التي تبلى فيها السرائر، ففي أزمنة الرخاء يدعي كل الكرم فإذا جاءت الشدة ظهر الكريم من الشحيح، وفي أزمنة الأمن يدعي كل الشجاعة، فإذا جاء الخوف ظهر الشجاع المقدام من الجبان المحجام، وسؤال الستر، كما تقدم مرارا، أمر لا غنى عنه، فإن الله، عز وجل، هو القادر وحده على أن يمتن على عبده بالثبات فضلا، أو ينزع منه الهداية القلبية فيزيغ ويزل عدلا، فمن رزق شكرا في العافية فليستمسك به ليكون له عونا على الصبر في النازلة، ومن بخل بدنياه فلم يبذلها انتصارا لدينه، بذلها انتصارا لحظ نفس أو شهوة عارضة أو بلية نازلة، فحظه المغرم بلا مغنم، بل ليته نجا منها كفافا، بل هو مبتلى مؤاخذ، فاجتمعت في حقه: مصيبة الدين إذ أحجم عن نصرته، ومصيبة الدنيا إذ ناله منها ما يكره، فهو باذل نفسه في تحصيلها، وهي معرضة عنه، فحظه منها شهوة يدفع بها عن قلبه ألم الوحشة يعقبها أضعاف تلك اللذة الموهومة من المرارة التي تفسد عليه عاجلته فضلا عما فسد من أمر آجلته.
وشتان همة من بذل الدنيا تحصيلا للدين، وهمة من بذل الدين والدنيا تحصيلا لعرض دنيا زائل، وكم رأينا في تاريخ هذه الأمة وحاضرها المشهود: أناسا آتاهم الله، عز وجل، رفيع الدرجات العلمية، فلهم من قوة التصور ما يبصرون به الحق بدليله، ولكنهم خذلوا بدخائل نفوسهم وجريان قدر الرب، جل وعلا، الكوني، فيهم بمقتضى عدله وحكمته، فليس لهم من صالح الأعمال نصيب، إذ ركنوا إلى الدنيا على حد الاستغناء، فعوقبوا بنقيض ذلك من فقر وفاقة إلى غير الله، عز وجل، لا ينقطعان، فإن تحمل عليهم يلهثوا أو تتركهم يلهثوا.
ولكل منا حظ نفس إن لم يتداركه بقيد الشرع استفحل فصار معقد ولاء وبراء القلب، فله يغضب وينتصر، وإن زين له سوء عمله فظنه حسنا، فرأى أنه ينتصر لأمر رفيع، وغايته، لو دقق النظر، أنه ينتصر لأمر وضيع.
وذلك من الأمور التي لا يجدي فيها كثير مقال إن لم يصطف الله، عز وجل، فيسدد ويوفق إلى واجب الوقت: شكرا في النعمة وصبرا في النقمة.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في بيان أول هذه الدرجة:
"فأَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً ألبتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذي أَهلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذي ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها فى قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذى ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بتقربين منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده". اهـ
ص57، 58.
فليستحضر العبد، إن كان على رسم التوحيد، تلك الكرامة التي حرم منها فئام من البشر، فإن استقامة أمر الباطن على منهاج التوحيد، واستقامة أمر الظاهر على منهاج الشريعة: أعظم كرامة امتن الله، عز وجل، بها على عبد من عباده، فلا تعدلها نعمة دنيوية، فشرف جنس نعمة الدين على جنس نعمة الدنيا، كشرف جنس الروح على جنس البدن.
(يُتْبَعُ)
(/)
فقرب العبد من الرب، تبارك وتعالى، محفوف بقربين منه، جل وعلا، كما أن توبته محفوفة بتوبتين: فقد تاب الله، عز وجل، عليه قبل أن يتوب، فهيأ له أسباب التوبة ابتداء، ثم خلق فيه إرادة التوبة، وفعل التوبة، ثم امتن بقبولها انتهاء، فمنه، جل وعلا، الفضل أولا وآخرا، فهو الذي أعطى قوى الخير، وهو الذي أثاب عليها، ولو شاء لحجبها بمقتضى عدله وحكمته، فمن: "وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"، فمن وجد خيرا فليحمد الله، عز وجل، ومن وجد غير ذلك، وقد كنى عنه كراهة ذكره صراحة فهو قسيم الخير بداهة، فلا يلومن إلا نفسه، فقد قدر الله، عز وجل، عليه ذلك، جزاء وفاقا، إذ المحل غير صالح لقبول آثار الوحي النافع، فقبل ضده من آثار الوسواس الإنسي والجني، إذ المحل غير قابل للضدين، والمحل غير قابل لأفعال التروك، إذ هو بأفعال الإيجاب مشغوف، فهو، كما تقدم مرارا، متحرك حساس يفتقر إلى الوحي الشرعي فهو المكمل لقواه العلمية، وإلى القدر الكوني فهو المكمل لقواه العملية.
فلا حول للعبد ولا قوة إلا بربه، جل وعلا، الذي خلقه وخلق فيه قوى الفعل، ولا تحول له عن الغي إلى الهدى إلا بوحي إلهه الشارع، فهو مفتقر إلى مقام الربوبية ليتحرك مطلقا، وهو مفتقر إلى مقام الألوهية: مقام الرسل عليهم السلام ليتحرك بقيد الشرع الذي أتى بتشريع كل طيب من الأقوال والأفعال والأعيان، وتحريم كل خبيث منها.
ويقول، رحمه الله، في معرض بيان نوعي الذكر:
"والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،
ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك فى كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغني الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك". اهـ
ص58.
فما أكرمك إله العالمين: تحببت إلى عبادك بالنعم الكونية والشرعية، مع عظم جفائهم في حقك، وحربهم لدينك ورسلك وأتباعهم، فهم القلة المستضعفة في كل عصر ومصر، سنة كونية جارية بابتلاء أهل الخير وأهل الشر: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، فالاستفهام قد ضمن معنى الأمر، فعلة تلك الفتنة الكونية: إقامة الأمر الشرعي بالصبر، فيصبر أهل الخير على أذى أهل الشر، ويصبر أهل الشر عن شرهم، فالظالم إذا استحضر قدرة الرب، عز وجل، كف عن ظلمه، فصبر عن شهوة إيصال الأذى إلى المظلوم، فإن غرور القوة شهوة نفسانية لا حد لها، فلا يقيد إطلاقها إلا بقيد الشرع الآمر الناهي، والمظلوم إذا استحضر حكمة الرب، جل وعلا، سعى في رفع الظلم بالأسباب المشروعة، فإن عجز صبر احتسابا، فعجزه بعد بذل السبب المقدور: عجز لا يلام عليه، وإلا صح توجه اللوم إلى من أُمِر بالطيران فعجز عنه!.
ثم ذكر، رحمه الله، فوائد الذكر:
"من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده .......... والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم". اهـ
بتصرف من: ص59.
فقد استدرجوا بأسباب الغنى الظاهر فهم بوصف الفقر الذي فروا منه متلبسون، إذ استغنوا بسبب فان يفتقر إلى من يربه، كسائر المربوبات الحادثات، فزين لهم العدول عن الرب، جل وعلا، إلى المربوب، ولو باشروا السبب مباشرة المتوكلين ما استحقوا الذم، وإنما استحقوه لقيام موجبه بهم إذ استغنوا بالفاني عن الباقي، فاستغنى صاحب الجاه بمنصب زائل، واستغنى صاحب المال بمال فان، واستغنى صاحب الجمال ببدن تالف، ولكل مستنده!، ولا يصلح حال فقير وكل إلى فقير مثله بداهة، فالافتقار إلى الأسباب على حد اعتقاد استقلال التأثير سواء كانت تلك الأسباب موضوعة لمسبباتها كالمال الذي وضع سببا لسد فاقة الأبدان، أو كانت غير موضوعة كما يقع من عمار المشاهد والأضرحة من اعتقاد تأثير المقبور في أحداث الكون المشهود على جهة الاستقلال أو المشاركة في التأثير لعظم جاهه، بزعمهم!، ذلك الافتقار هو الذريعة العظمى إلى انصراف القلب عن السجود لربه على حد الخضوع الكوني والانقياد الشرعي، وإن سجد البدن صورة ظاهرة، فالله، عز وجل، لا ينظر إلى الصور الظاهرة، وإنما ينظر إلى الحقائق الباطنة.
وذلك أيضا: أمر لم يسلم منه أحد في زماننا، فلكل نصيبه من الفقر، إذ قد تعلق قلبه نوع تعلق بالأسباب المشهودة على جهة الاستقلال، فليس الذم، كما تقدم، لاحقا من باشر السبب على حد التوكل، فإن إهمال السبب على هذا الوجه بزعم شهود مقام الربوبية: قدح في الشرع ونقص في العقل.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 07:54 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان شهود العبد لبعض أوصاف الرب تبارك وتعالى شهودا قلبيا له من الأثر الإيماني العلمي والعملي ما تسموا إليه نفوس أصحاب الهمم الملوكية التي لا ترضى الدون، فليس لها من معالي الرتب الشريفة عوض، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فمن كانت همته أسماء وأوصاف الرب الباقي، جل وعلا، جمع الله، عز وجل، عليه شتات قلبه، فبقي في صلاح حال من العلم والعمل فلا يعتريه فساد، إذ بمادة الصلاح يغتذي، فبقاؤه من بقاء ربه، فهو الباقي في ذاته المبقي لغيره بما قدر من أسباب الكون، وسن من أسباب الشرع، فيبقي الأبدان، كما تقدم مرارا، بخراج الأرض النابت، ويبقي الأرواح بوحي السماء النازل، ومن كانت همته أسماء وأوصاف المربوب الفاني: ضل في بيداء حب ليلى وسلمى، فقلبه معلق بصورة فانية، فمادة إفنائه في تعلقه بها إذ عشق الصور الفانية أعظم أدواء القلوب الحائرة، فهو مادة الفساد في مقابل مادة البقاء التي يستمدها القلب من أسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، و: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، فالقلب الأجرد لا يشخب فيه إلا ميزاب التوحيد، والقلب الأغلف: لا يشخب فيه إلا ميزاب التعلق بغير الله، عز وجل، على حد التشريك والتنديد، والقلب المصفح المخلط يشخب فيه الميزابان فهو لأيهما غلب، إذ يجتمع فيه الإيمان والكفر اجتماع أصلٍ وشعبٍ، فلا يتصور في المشروع أو المعقول أو المحسوس اجتماع أصلي: الإيمان والكفران، فهما على حد التناقض فلا يجتمعان ولا يرتفعان، وإنما يتصور اجتماع أحدهما وشعب من الآخر على حد: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر). فلم ينتف عنه وصف الإيمان بتلبسه بخصلة من خصال النفاق.
فمما ذكره ابن القيم، رحمه الله، في هذا الباب الجليل: باب شهود أوصاف الرب العلي الكبير:
قوله رحمه الله:
"الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ: دوام شهود أَوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أَرباب السلوك أَعلى مما قبله، والغنى به أَتم من الغنى المذكور، لأَنه من مبادئ الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل فى أَسمائه وصفاته، الغني عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد فى الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذى قيام كل شيء به، ولا حاجة به فى قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه". اهـ
ص59، 60.
فهو سبحانه: الأول في وصفه: أولية مطلقة، فلم يطرأ عليه، كما تقدم مرارا، وصف كمال كان عنه عريا، فهو المحمود بأوصاف الجمال، الممجد بأوصاف الجلال: أزلا، فخالق قادر على الخلق وليس ثم خلق، فذلك حد قولهم: خالق بالقوة الفاعلة، فدوام اتصافه بالفاعلية الاختيارية فلا مكره له ولا ملجئ تعالى ربنا عن وصف الاضطرار والإلجاء، ذلك الدوام أزلا وأبدا: من كمال وصف ذاته العلية، إذ الفاعل أكمل من غير الفاعل، ولله المثل الأعلى، فهو الفعال لما يريد، ومع تلك الطلاقة في القدرة على الإيجاد والتكوين: هو الخبير بدقائق صنعته الحكيم فلا يكون فعله جاريا إلا على سنن الحكمة الربانية العظمى، التي لا تحيط العقول بها دركا، فهي فرع عن ذاته القدسية، فكمالها من كمال الذات، وعجز قوى الإدراك: حسا ومعنى عن إدراك كنهها فرع عن عجزها عن إدراك كنه ذات الباري، عز وجل، وهو مع ذلك: خالق بعد أن خلق بداهة فذلك محل إجماع على حد قولهم: خالق بالفعل، وإنما وقع الخلاف في أولية الوصف الأزلي قبل حصول المقدور في عالم الشهادة، فعطله، جل وعلا، فئامٌ من أهل الاعتزال ومن سار على طريقتهم من أهل الكلام عن وصف ذاته الأزلي، فرارا من القول بقدم العالم المشهود، وليس ذلك بلازم لمن قال بجواز
(يُتْبَعُ)
(/)
تسلسل المفعولات في الأزل، إذ ما أراد إلا إثبات أزلية صفات الأفعال الاختيارية تنزيها للرب، جل وعلا، عن حدوث وصف الكمال له بعد العدم، وعن تعطل ذاته من صفات الكمال حتى شاء الاتصاف بها، فهي على حد: قدم النوع وحدوث الأفراد، فنوع الصفة: قديم أزلي بأزلية ذات الباري، عز وجل، فهو فرع عنها، كما تقدم، فذلك اتصاف الله، عز وجل، بها: قوة فاعلة غير معطلة أزلا وأبدا، فلم يزل ربنا، عز وجل، ولا يزال، وسيزال إلى أبد الآبدين على كل شيء قدير، وبكل وصف كمال ذاتي ونعت كمال فعلي متصفا، وآحادها حادثة متعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فإذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل، فليس في وصفه بصفات الأفعال الاختيارية ما يلزم منه إثبات كمال بعد نقص، إذ ذلك إنما يكون في عالم الشهادة التي تكتسب فيه الكمالات فرعا عن الأفعال، فالفعل في حق المربوب للوصف سابق، فيفعل ويستفيد كمالا كان عنه عريا، كأصحاب الصناعات التي يترقى الصناع في درجات الحذق بها بطول المعالجة وديمومة الممارسة، وأما في عالم الغيب الإلهي: فالوصف سابق للفعل، فالكمال أول أزلي، فلا يتصور فعل صادر عنه إلا على حد كمال القدرة وتمام الحكمة، فالله، عز وجل، قادر على أن يخلق غير هذا الكون أكوانا وأكوانا ولكن مقتضى حكمته أن يكون الخلق الحادث على أبدع وأحكم ما يكون، كما أشار إلى طرف من ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في: "جامع الرسائل".
فلم يخلق ربنا خلقه على حد التجربة ليعلم من حاله ما كان عنه خافيا، فيندم على خلقه، كما تزعم يهود، ومن سار على طريقتهم من أصحاب البداء الذين يصفون الرب العليم بضد وصف كمال علمه المحيط من الجهل بالمآلات، فيبدو له ما لم يكن بالحسبان، ويظهر له ما كان عنه خافيا!. بل خلقه وقد علم أزلا، وكتب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ما هو كائن منه، فلا يعزب عن علمه المحيط بكل كلي وجزئي، لا يعزب عن ذلك العلم مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
فكيف يقاس من هذا وصفه من الكمال بمن ذلك وصفه من النقصان، فيعطل وصف الرب قياسا على وصف العبد؟!. فذلك من أعجب القياس صورة وأفسدة نتيجة.
وبقدر ظهور أوصاف كمال الرب، جل وعلا، للعبد، يكون استغناؤه بها، فله من ذلك الرزق الشرعي النافع حظ كما لبدنه من الرزق الكوني النافع حظ، فمن مقل ومن مكثر، ومن طلب رزقا فليسع في تحصيل أسبابه، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة لمن سعى في تحصيل أرزاق الأبدان، ولا تمطر علوما وأعمالا ينتفع بها القلب ويصلح لمن سعى في تحصيل أرزاق الأديان، فلا يستطاع هذا العلم براحة الجسد، وشتان ثم شتان بين الجنسين: فالتباين بينهما على حد التبيان بين الروح العلوي الذي يغتذي على الوحي السماوي، والجسد السفلي الذي يغتذي على النبت الأرضي.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدى الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحيي أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك". اهـ
ص60.
فمشهد العلو من المشاهد التي فطرت عليها الخلائق: مكلفها وغير مكلفها، فالأبصار بالسماء معلقة، على حد الطلب والرجاء، والقلوب إلى الصمد عارجة على حد الذل والافتقار، فإن العمل إليه، عز وجل، صاعد، ولا يدري الفاعل أيقبل فيكون من الناجين مع ما فيه من دخل وتخليط لا يسلم منه إلا الصديقون الذين تجردوا من الحظوظ العاجلة، وقليل ما هم، فالمفتونون برسومهم وأعمالهم أضعاف أضعافهم، والله، عز وجل، رحيم بكل مؤمن رحمن بكل موجود، يغفر الذنب ويقبل التوب، فيتجاوز عن التخليط السابق إن شفعه الفاعل بالتخليص اللاحق، فيصير من أهل: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فمن كان ذلك وصف جماله فحري
(يُتْبَعُ)
(/)
بك أن تحسن الظن به، فإنه ما خلقك ليعذبك بالآصار ويقيدك بالأغلال، وإنما خلقك ليبتليك بالتكليف فيستخرج به خبث فؤادك، فهو الكير الناصح لمادة الإخلاص والإنابة، بناره تزول شوائب الشبهات والشهوات، فتصلح مادة القلب العلمية تصورا صحيحا لكمالات الرب، جل وعلا، الذاتية والفعلية، وكمالات حججه الرسالية التي بعث بها أفضل البرية مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس بين يديه حجة، فهو الحكم العدل الذي قطع بحججه الباهرات كل المعاذير، وأقام على المكلفين شهودا من ذواتهم، فلا يظلم أحدا، ولا يبخس حقا لكمال غناه، جل وعلا، فالفقير، كما تقدم، هو الذي يضطر إلى ظلم غيره استكمالا لأسباب الغنى ولو بقهر غيره عليها ظلما وعدوانا، فما حاجة من بيده أسباب الكون إلى أن يظلم خلقا هو الذي أوجدهم ولو شاء لأعدمهم، وأعطاهم ولو شاء لمنعهم، فلا يدري الفاعل أيقبل أم يرد بمقتضى عدله، عز وجل، فيطرح في وجه الفاعل إذ الرب، جل وعلا، أغنى الشركاء. فمحط الفائدة: أن توحده في ربوبيته فذلك فعله وأن توحده في ألوهيته فذلك فعلك، فتوحيده بالعلم بذاته وأوصافه وأفعاله ذريعة إلى توحيده بالعمل بقلبك ولسانك وجوارحك.
ومن مشاهد العلو:
" أن يشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف - من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس- إِلى غير ذلك من التصرف في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ: {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به". اهـ
ص60.
فمن مشاهده: شهود نزول الأمر الكوني بالتصريف والأمر الإلهي بالتشريع: فالعلو: علو ذات وأوصاف وأفعال، والنزول: نزول أقدار وأحكام، فحظك منها: التأله بالعلم النازل، والتأله بالعمل الصاعد، فما جاءك من خبر الوحي النازل فصدقه، وما جاءك من التكليف فامتثله فلا يصعد منك إليه ما يرضاه كونا، وإن نزل بك من مقاديره ما لا ترضاه طبعا، فارض، فإن فاتك مقام الرضا، فلا يفوتنك مقام الصبر، وما أعسر وأمر بدايته، وما أيسر وألذ نهايته، فمع كل بلاء صبر، ومع كل عسر يسر، وإنما الشأن: أن يلهم العبد: صبرا ساعة نزول المقدور فلا ينطق اللسان بالهجر ولا يتشح القلب بالسخط، ولا يلهم ذلك المقام الشريف إلا من اصطفاه الله، عز وجل، بشرف الوقوف عند حدود التكليف، فلكل حدث طاعة، فحدث النعمة: شكر، وحدث النقمة صبر، و: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 07:45 ص]ـ
ومن تلك المشاهد الشريفة:
شهود علم الرب، جل وعلا، المحيط، الذي وسع كل المعلومات علما سواء أكانت ممكنات يتصور العقل وقوعها على حد الجواز أم محالات يفرضها العقل فرضا، فالعلم قد تعلق بكل الاحتمالات، بخلاف القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكنات، والعلم قد تعلق بكل الموجودات: كلية كانت أو جزئية، فعلمه قد عم كل موجود على حد التفصيل لجواهر الذات وأعراض الصفات: فعلمه بالأعيان والأفعال: علم كوني محيط، فعنه تصدر كلماته الكونيات النافذات، وعلمه بالشرائع والأحكام: علم شرعي محكم، فعنه تصدر كلماته الشرعيات الآمرات، فعن علمه الكوني صدر وحيه الكوني: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا)، و: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن علمه الشرعي صدر وحيه الشرعي: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء". اهـ
ص60، 61.
فقوله رحمه الله: "ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره": إشارة لطيفة إلى مناط الانتفاع بذلك العلم، فالعلم، وإن كان مرادا لذاته، فتحصيله في حد ذاته عبادة، إلا أنه مقدمة تصورية لا بد لها من نتيجة عملية، وإلا صارت محض ترف عقلي جدلي، على حد حكمة أمة اليونان العقيمة، التي أهملت الجانب العملي الاستقرائي في الطبيعيات، وأعملت الجانب النظري الاستنباطي، فصارت أحكامها محض ظنون لا مستند لها من الواقع المشهود، فلما استقرت عندهم تلك المفاهيم العقيمة في الطبيعيات عدوها بالقياس العقلي الفاسد إلى الإلهيات، فكان الفساد أعظم، إذ شأن الإلهيات أعظم، والطرق إلى تحصيلها مسدودة إلا طريق النبوات، فهي من الخبريات التي لا تسنبط إذ لا يدركها العقل إلا بتوقيف من الشرع، كسائر الأخبار الدينية التوقيفية، بل الدنيوية، فكل غيب سواء أكان دينيا أم دنيويا لا يتلقى بالقبول إلا إذا جاء من طريق رجاله ثقات عدول مأمونون على نقل الأخبار، فكيف بأعظم الأخبار التي هي مراد كل العقلاء، وحاجة كل ذوي الألباب، فحاجة كل الأمم إلى معرفة أسماء وأوصاف المعبود، وإن كان باطلا: أعظم الحاجات العلمية، فإما أن تصح علومهم وإراداتهم في معرفة طريق الهداية والسير عليه: سير الراسخين في العلم وإما أن تفسد فتضطرب الصورة العلمية وبقدر الفساد في التلقي في هذا الباب بفساد المصادر التي لا تكون غالبا إلا نقلا باطلا أو عقلا فاسدا يكون فساد الصورة العلمية والعكس صحيح، فالأمر مطرد منعكس.
فالنبوة هي الطريق الوحيد المأمون الذي يمكن السير عليه في هذا الباب، فلا أصح من علوم الأنبياء عليهم السلام أعلم الناس بالرب، عز وجل، فعليهم نزل الوحي الشارح لأوصاف كماله ونعوت جلاله، وأوفرهم نصيبا من ذلك الباب الجليل: خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو أكملهم مقالا وحالا، فعليه نزل من الوحي المفصل ما أزال إجمال ما تقدم من الرسالات، وإن كان الأصل التوحيدي واحدا، فذلك دين الرسل عليهم السلام الجامع.
وحاجتهم إلى معرفة شرع يتألهون به إلى المعبود: أعظم الحاجات العملية، فتلك ثمرة العلم الأول، فحاجة القلب الحساس المتحرك إلى العمل لا تقل عن حاجته إلى العلم الأول، بل هي أعظم، فالناظر في عالم الشهادة يرى فئاما من البشر يعملون ويتالهون بلا علم، فلسان حالهم: سد فاقة القلب وضرورته ولو بغذاء فاسد لا يزيده إلا ضعفا ومرضا بل هو سبب رئيس في موته وإن كان جسد صاحبه معدودا في الأحياء، فالقلب إناء ينضح على الجوارح، وكل إناء بما فيه ينضح، فإن صحت علومه وأعماله، فوحد المعبود بأسمائه وصفاته، وآمن بالملائكة المرسلين بالوحي الشرعي إلى الأنبياء المبلغين، فذلك حد الإيمان بالرسالة، وآمن بالكتب الهاديات أخبارا وأحكاما، وآمن بالقدر النازل بمقتضى الكلمات الكونيات النافذة، ثم شيد على ذلك الأساس العلمي المتين: صرحا عمليا شامخا من أعمال القلوب الخفية التي بها يظهر التفاوت بين أقدار العباد، فلا يعرف البشر أقدارها وإن ظهرت لهم من أماراتها ما يعرف به صدق الدعوى من كذبها، لا سيما في النوازل والشدائد، التي تبلى فيها السرائر، وإنما يعرف ذلك: رب البشر الذي أحاط بكل شيء علما: قدرا ووصفا.
ثم نضح ذلك الباطن على الظاهر: صحيح الأعمال على رسم الرسالات، مصدر التلقي الوحيد له في العلميات والعمليات، فلا إحداث لمقالة علمية ولا ابتداع لعبادة عملية. فإذا تحقق له من صالح العمل الظاهر ما يكافئ صحيح العلم الباطن، فقد استكمل صناعة الفلك المنجي له من موج كالجبال من الشبهات والشهوات، فقد حصن باطنه من الشبهات بالعلم النافع، وحصن ظاهره من الشهوات بالعمل الصالح.
(يُتْبَعُ)
(/)
والعلم الإلهي المحيط يحمل العبد على حراسة خواطره فضلا عن ظواهره، فإن الخواطر سيالة لا وكاء لها إلا مراقبة الرب، جل وعلا، وهذا أمر يجده كلٌ في نفسه فله من الأماني وأحلام اليقظة مشروعة كانت أو غير مشروعة ما يبدد قواه الذهنية بلا طائل، فتلك، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، بضاعة المفلسين. فإذا استحضر العبد مراقبة الرب، جل وعلا، لباطنه وظاهره، على حد الإحاطة بالدقائق واللطائف، وعلم واجب وقته من دين أو دنيا، فاستعان بالرب، جل وعلا، على أدائه، فاستمد من أوصاف كماله ما يحمله على بذل المجهود إرضاء للمحبوب، رغبا في ثوابه ورهبا من عقابه.
ومن تلك المشاهد أيضا:
شهود مقام السمع:
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وكذلك إِذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أَسرّ ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هى عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة". اهـ
ص61.
فالسمع من لوازم العلم، فكماله من كمال العلم المحيط، فكلاهما وصف كمال مطلق إذ من يعلم خير ممن لا يعلم، ومن يسمع خير ممن لا يسمع، فإذا صح إطلاقهما على العبد على حد المدح، فالرب، جل وعلا، أحق بذلك من باب أولى، إذ الرب أكمل من العبد ذاتا وصفات: بداهة، وهو، من جهة أخرى، خالق ذلك الكمال في عبده، فاتصافه به أيضا: ثابت من باب أولى، إذ واهب الكمال تقضلا متصف به على حد الإطلاق أزلا وأبدا كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
وسمعه، عز وجل، قد تعلق بذاته القدسية: تعلق وصف الذات بالذات في مقام العموم، فيسمع كل الأصوات، فلا يشغله قول عن قول، ولا يخفى عليه سر أو جهر. وذلك بمقام التهديد في نحو قوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ): أليق.
وهو من جهة أخرى قد تعلق بالمشيئته الربانية النافذة: تعلق وصف الفعل بالفاعل في مقام الخصوص، فسمع التأييد:على حد قوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، لا يكون إلا لخيار الموحدين من النبيين والصديقين.
وسمع الإجابة لدعاء المتضرعين والمضطرين: على حد سمع التأييد فهو من أوصاف الأفعال من جهة تعلقه بمشيئته الكونية النافذة، فيجيب من يجيب فضلا، ويرد من يرد عدلا.
ومن تلك المشاهد أيضا:
شهود مقام البصر:
"وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذى يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها فى ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء.
وكذلك إِذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية"
ص61.
فبصره: بصر بالذوات و: بصر بالأعمال على حد قوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
وبصره: بصر حفظ ورعاية على حد قوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).
وبصر تهديد ونكاية على حد قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)
(يُتْبَعُ)
(/)
فكمال الاتصاف بالسمع والبصر من لوازم قيوميته الجامعة لأوصاف الأفعال، فهو الفعال لما يريد على حد الكمال: قدرة وحكمة، وذلك لا يكون بداهة إلا بعلم محيط، والعلم كما تقدم ملزوم السمع والبصر، فلا يتصور عالم أصم أو أعمى، فذلك مما يقدح في علمه، فلا يصلح من هذا وصفه من العجز لتولي منصب الربوبية وما يتفرع عنه من منصب الألوهية، فكمال ألوهيته فرع من كمال ربوبيته، ولذلك عاب الخليل، عليه السلام، على أبيه عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، فهو عن وصف الكمال عري، فليس ربا فرعا عن كونه ليس كاملا، كما أن الله، عز وجل، هو الرب فرعا عن كونه كامل الذات والأوصاف على حد الإطلاق ذاتا وصفاتا، فالقياس هنا أيضا: مطرد منعكس.
فإذا تحقق للعبد شهود مقام الربوبية فرعا عما تقدم من مشاهد أوصاف الكمال الذاتية والفعلية، ترقى من تلك المنزلة إلى منزلة أعظم قدرا وأرفع شأنا إذ هي، كما تقدم مرارا، المراد لذاته، فما تقدم من رتبتي شهود توحيد الذات والصفات، وتوحيد الأفعال، مرقاة إلى توحيد العبادة: أشرف المناصب الآدمية، فهو وصف الرسل اللازم، فلا ينفك الرسل وتابعوهم عن وصف الافتقار إلى ربهم: افتقار المختار المنقاد للأمر الشرعي، الخاضع مع غيره من الكائنات للأمر الكوني فاجتمعت فيه الإرادتان: الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأعلى منه مشهد الإلهية الذى هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر وفاقة، وكل عِزِّ بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذى انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر". اهـ
ص61، 62.
فالتلازم بين الربوبية والألوهية: تلازم وثيق، والتمانع في الألوهية فرع عن التمانع في الربوبية، فكما أنه، جل وعلا، لا رب سواه يخلق الذوات ويدبر الأحوال، فكذلك لا إله معبود مطاع على حد الإطلاق والاختيار إلا هو، فلا إله إلا هو يعبد فرع عن لا رب سواه يدبر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 09 - 2009, 07:20 ص]ـ
ويقول ابن القيم رحمه الله في معرض بيان معنى الإله:
"فإن الإله على الحقيقة هو الغنى الصمد الكامل فى أسمائه وصفاته الذى حاجة كل أحدٍ إليه ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل فى الوجود اثنان كذلك". اهـ
ص62.
فغناه وصمديته متلازمان، بل لو فسر الصمد بالغني عن غيره فلا يأكل ولا يشرب، ولا جوف له يفتقر إلى ما يملؤه، لو فسر بذلك، فإن شَفْعَ ذكر الغني بالصمد يكون على حد: ذكر الخاص بعد العام توكيدا، فغناه عام، واستغناؤه عن أسباب البقاء من مطعوم ومشروب: خاص، فهو فرد من أفراد العموم المتقدم، فهو الباقي أزلا وأبدا، كما تقدم في بيان معنى أوليته وآخريته، جل وعلا، على حد الإطلاق فليس قبله شيء وليس بعده شيء، فلا يفتقر إلى أسباب البقاء بل هو المجري لها المبقي لمن شاء من الخلق بها، فكل بقاء فمن إبقائه الفعلي، ولا يكون ذلك إلا فرعا عن بقائه الذاتي، فالبقاء ذاتي، والغنى ذاتي، وكل وصف كمال له ذاتي لا ينفك عن ذاته القدسية، وليس غناه محصورا بداهة في صورة الصمدية، بل هو الغني بعلمه عن علوم خلقه، الغني بسمعه عن سماع غيره ........... إلخ، فذلك وجه اندراج وصف الصمدية الذاتية تحت وصف الغنى الذاتي: اندراج الخاص تحت العام فهو فرد من أفراده.
(يُتْبَعُ)
(/)
وكذلك التلازم بين القيومية والغنى فهو: تلازم وثيق، فلا يتصور غني يفتقر إلى ما يقيم ذاته من الأسباب: افتقار الأبدان إلى ما يقيمها من أسباب المطعوم والمشروب، فالغني: قيوم بذاته، ووصف القيومية أعم من وصف الغنى، كما أن وصف الغنى أعم من وصف الصمدية، على التفصيل المتقدم، إذ الغنى بالذات عن الأسباب: قيومية ذات، كما تقدم، وذلك أحد شقي القيومية، فعمت القيومية من جهة شمولها: قيومية الذات بالغنى، وقيومية الأفعال فذلك قدر زائد على الغنى اللازم هو: الإغناء المتعدي، فهو قائم غني بذاته، مقيم مغن لغيره، وليس ذلك كما يقول ابن القيم، رحمه الله، لأحد سوى الله عز وجل. فإذا ثبت له الكمال الذاتي والوصفي المطلق على حد الانفراد فلا شريك له في كماله ثبت له كمال التأله المطلق على حد الانفراد، فلا شريك له في ألوهيته، فذلك من التمانع المتقدم الذكر، فيستحيل أن يكون لهذا العالم إلهان معبودان كما يستحيل أن يكون له ربان مدبران، فتفرد جنس الألوهية من تفرد جنس الربوبية، فإنه لا قيوم بذاته وأفعاله إلا واحد، وكذلك: لا معبود مألوه بأفعال عباده إلا واحد، وإن زعم أهل الشرك في الربوبية له من الأنداد المستقلة بالتأثير في أحداث الكون ما زعموا، وإن زعم أهل الشرك في الألوهية له من الشركاء في ألوهيته ما زعموا. فالعبد المضطر كونا لا يليق به إن كان كامل العقل صحيح القياس إلا أن يكون عابدا مختارا شرعا. فتتوافق في حقه كلتا الإرادتين: الكونية النافذة والشرعية الحاكمة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ولو كان فى الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما أنه يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافى استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وكذلك وقع الاحتجاج به فى القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية". اهـ
ص62.
فتعدد الآلهة مظنة فساد نظام الكون بتعدد الأوامر الشرعية، فلكل إله ناموسه، فإذا تعارضت الإرادات وقع النزاع بداهة، وذلك أمر يفسد معه نظام الكون، وانتظام أمره على هذا النسق البديع أعظم دليل في عالم الشهادة على بطلان تعدد الآلهة، وإن زعم المتألهون لمعبوداتهم من الكمال ما زعموا.
ومدار هذا الأمر على آيتين:
الأولى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ):
إذ تفسد المملكة أو الإمارة في عالم الشهادة بتعدد الملوك والأمراء، ولله المثل الأعلى، إذ له من الحكمة والقدرة ما ليس لغيره، فهو أحق موجود بوصف المُلك قدرة والمِلك حكمة وتدبيرا.
والعالم المشهود كما تقدم: خير دليل على وحدة الرب المعبود، جل وعلا، فلذلك جاء التعقيب بتنزيهه، عز وجل، عن مشاركة تلك الآلهة الباطلة، وجاء الوصف بربوبية العرش مؤكدا لذلك، إذ الإضافة فيه على حد: إضافة الرب إلى مربوبه، والعرش أعظم المخلوقات، فإذا كان مع عظمه مربوبا لله، عز وجل، أفلا تكون تلك الآلهة مع نقص أعيانها وأوصافها مربوبة له، جل وعلا، من باب أولى؟!، فذلك من القياس الأولوي الصحيح الذي يلح على العقول الصريحة لتوحد الإله بأفعال التكليف فرعا عن توحده بأفعال التدبير والتكوين. وحذف ما يدل على إبطال ألوهية تلك المعبودات لدلالة السياق عليه اقتضاء، فالشرع والعقل والحس شاهد بذلك: فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، ولكن لم توجد تلك الآلهة فصلح أمر الدين والدنيا بوحدة الرب الخالق والإله الشارع.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم ذيل بما يؤكد كمال قدرته الربانية في معرض إبطال ألوهية غيره، فلا يسأل عما يفعل لتمام قدرته وحكمته، فأفعاله لا يعتريها العجز أو السفه، وهم يسألون على حد طباق السلب، فلهم ضد الحكم باتصافهم بضد الوصف، فلا يسأل لقدرته وحكمته وهم يسألون لكونهم مربوبين تجري عليهم أحكام التكليف، ويعتريهم من العجز ما يرفع الحرج، وذلك معنى لا يتصور في حق الرب القدير، جل وعلا، ويعتريهم من السفه ما هو جبلة لا يؤاخذ به العبد إلا على قدر ما معه من عقل، أو معصية فتجري أفعالهم على غير سنن الحكمة الشرعية فيلحقهم التفريط الموجب للسؤال، وذلك أيضا، مما لا يتصور في حق الرب جل وعلا.
فالمسألة قد تجري على حد الطرد والعكس: فمن اتصف بكمال القدرة والحكمة فله وصف الألوهية الصحيحة طردا، ومن اتصف بنقصهما فليس له منها نصيب عكسا، فالحكم مطرد منعكس دائر مع علته: القدرة النافذة والحكمة البالغة طردا وعكسا.
والثانية: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ):
فلم يتخذ ولدا لتمام غناه عن الأنيس أو العاضد، فاستخلافه للبشر: استخلاف ابتلاء فهو الرب غير الغائب أو الآفل عن خلقه، فبكلماته الكونية يدبرهم، وبكلماته الشرعية يبتليهم.
وما كان معه من إله، إذ تعدد الآلهة مظنة فساد الكون على التفصيل المتقدم، فلو كان ذلك كائنا، من باب الفرض الذهني لمحال ذاتي تنزلا مع الخصم في معرض الحجاج العقلي، لاكتفى كل ملك بمملكته، فتتعدد النواميس بتعدد الآلهة، وذلك، كما تقدم، مظنة الفساد، أو لاشتعل الصراع بينهم، على ما اطرد من سنة التدافع، فظهر من ذلك أيضا: فساد عظيم، فالضعيف يقهره القوي، والقوي يقهره الأقوى ............. إلخ، وذلك تسلسل ممتنع شرعا وعقلا وحسا، فلا بد من قوي له من كمال القوة والغلبة ما يصير كل قوي لقوته مقهورا، ولأمره منقادا مأمورا، وهو الاحتمال الثالث الذي حذف لدلالة المذكور عليه، فهو من العلم البدهي الضروري الذي لا ينكره إلا من فسدت فطرته أو إرادته فجحد الرب المعبود جل وعلا، وحاله من الفقر والاضطرار شاهد بضد دعواه، فلا بد له من غني مختار تام الإرادة يرب أمره ويدبر شأنه، وبضدها تتميز الأشياء فبالنقص والفقر البشري يدرك الكمال والغنى الرباني.
ومع تلك القدرة القاهرة لكل ملوك الأرض: علم محيط فهو: عالم الغيب والشهادة، والعلم دليل الحكمة لزوما، على ما اطرد مرارا من تلازم القدرة والحكمة في هذا الباب الجليل، فحسن أن يذيل بالتنزيه والتسبيح، فتعالى عما يشركون من آلهة الباطل التي ليس لها من أوصاف الربوبية ما يؤهلها لمنصب الألوهية ولو على حد المشاركة أو المعاونة.
ويقول رحمه الله في معرض الكلام على إنكار المشركين لمقام الألوهية مع إقرارهم بمقام الربوبية:
"وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً} [ص: 5]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسماوات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما فى فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه". اهـ
ص62.
فبعث الرسل لإحياء ما اندرس من فطرة التوحيد في القلوب، فلو رجعوا إلى قياس العقل الصريح ومقتضى الفطرة الأولى لعلموا أنه هو الإله الشارع فرعا عن كونه الرب الخالق.
ثم شرع، رحمه الله، في بيان مشهد الألوهية فقال:
"فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ". اهـ
ص62.
فبقدر العلم بأسماء الرب، عز وجل، وأوصافه، علم الانتفاع العملي لا الترف العقلي، بقدره يكون صلاح العبد باطنا بالعلوم الإلهية النافعة، وظاهرا بالتكليفات الشرعية الصالحة.
فقلبه صحيح العلم أصلا، صحيح العمل فرعا، فإراداته توافق إرادة الشرع الحاكم، فلا يريد إلا ما أراده الرب، جل وعلا، شرعا، قد استسلم لبارئه على حد: الحب رغبة والذل رهبة، فذلك صلاح القلب بالعلم والعمل.
وجوارحه قد استقامت على أمر الشرع فرعا عن استقامة باطنه، فهي بوظائف العبودية مشغولة، وبمقتضى التكليف معمورة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذى هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم ******* وإِن الغنى العالي عن الشيء لا به
فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي فى المنام الذي يأتى به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم". اهـ
فمن قطع طمعه في الموجودات استغنى عنها بموجِدها، عز وجل، فله منه خير عوض عن عرض فانٍ، وإنما يصح ذلك بصحة التصور الذهني لحقيقة هذه الدنيا، فهي لا تعدو كونها دار ابتلاء قد جرت أحداثها وفق سنن كونية محكمة، فابتلي العباد بإقامة سنن الشرع الحاكم فيها.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[14 - 09 - 2009, 07:52 ص]ـ
وأما الدرجة الثالثة من درجات الغنى فهي:
"الفوز بوجوده جل وعلا".
وتلك أيضا من الصور العلمية الرفيعة الشأن فلا يفوز بها إلا من تطهر قلبه من أدناس الحلول والاتحاد فليس الفوز بوجود الله، عز وجل، هو حلوله في ذات الفائز، أو اتحاده بناسوته الفاني، فإن ذلك قدح في ذات وصفات المألوه المحبوب، جل وعلا، وما أتي من أتي في هذا الباب، إلا لتجاوزٍ وسوءِ أدبٍ مع الباري، عز وجل، إذ غاب عنه أنه مرهوب كما أنه محبوب، فلو وحده بصفات جلاله، لعلم أنه ليس كمثله شيء، فهو المتصف بأجناس العلو: الذاتي والوصفي، فهو العلي شأنا، العلي قهرا، فذلك فجر التوحيد الذي يطلع في سماء القلب برسم النبوة: نبوة: الرب المعبود والعبد المربوب، فبينهما من القدر الفارق ما بين الباقي والفاني، فلا يتصور اختلاطهما إلا مختلط!، إذ فيه تسوية بين مفترقين، بل بين أعظم مفترقين، كما تقدم في أكثر من مناسبة، فالرب، جل وعلا، قد اتصف بكماله الأزلي الأبدي، والعبد قد اتصف بضد ذلك من النقص الذاتي، فهو من العدم آت وإلى البِلى راحل، ومن أعراض النقص غير سالم، فآلام وأمراض، وموتة صغرى تذكر صاحبها بالموتة الكبرى، ولغوب يذكر صاحبه بكمال الرب، جل وعلا، فلا يمسه اللغوب وإن شاء فعل أعظم الأمور، فبأوامره التكوينية النافذة تكون أمور كونه الباهرات فما هي إلا: كن، فيكون الكائن على حد التعقيب بلا تراخ، كما سبق في العلم الأزلي الأول، فيأتي المقدور على قدر ما كتب في اللوح المحفوظ. فشتان الرب والعبد، وإن وسع القلب الصورة العلمية على حد التقريب، فإنه لا يتصور أن يسع الحقيقة الإلهية على حد التحقيق، فليس له من العلم الإلهي إلا المعاني الذهنية، لا الحقائق الخارجية، فكنه كمال ذات الباري، عز وجل، وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا تحيط به المدارك البشرية، فليس ذلك داخلا تحت حد قدرته ليكلف بتحصيله، إذ القدرة مناط التكليف، والشرع والعقل يشهدان بأن إحاطة المخلوق المربوب ناقص الآلات والمدارك بأوصاف الرب، جل وعلا، التي قد بلغت منتهى الكمال، تلك الإحاطة: أمر محال لذاته. وإنما حظ العباد من ذلك الباب الجليل: إدراك معاني الكمال دون حقائق الذات والصفات، كما تقدم، فذلك ما امتن به الرب، جل وعلا، على عباده في دار الابتلاء، فحكمته قد اقتضت أن يغيب عن عباده، فهو أعظم وأجل الغيوب، دون أن يغيبوا عنه، فهو الحافظ لهم في كل شأن، فتتوالى كلماته الكونيات إيجادا وعناية بهم فذلك من جماله، وتتوالى كلماته الكونيات إعداما وابتلاء لهم فذلك من جلاله، فيعافي بجماله ويبتلي بجلاله، يهب الولد إذا شاء فهو واهب النعم، وينزعه إذا شاء فهو قابض العواري ومسترد الودائع، ركب الروح في الجسد بكلمات الملَك المأمور، فجاء المولود وفق ما شاء الملِك الآمر، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: هداية الكون فبها تقوم الأبدان بتحصيل أسباب الصلاح والبقاء، وهداية الشرع فبها تقوم الأرواح، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولو شاء لترك العباد حيارى ضالين، ولكنه رجح جانب الوجود في إمكان بعث الرسل على جانب العدم، فهو الموجب، جل وعلا، فلا يوجب أحد شيئا عليه، وإنما هو الذي كتب ذلك على نفسه بمقتضى قدرته وحكمته ورحمته، فبعثهم بأكمل العلوم الإلهية والأعمال التكليفية لتغتذي الأرواح على طيب الشرائع، كما تغتذى الأبدان على طيب المطاعم، فالرسل، عليهم السلام، معدن كل طيب، فـ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، فكلوا من الطيبات لتصح الأبدان واعملوا صالحا لتصح الأرواح، فذلك لازم النعمة الكونية، فكما رزق العباد طيب المطعم فذلك لهم على حد التفضل والامتنان، فعليهم تحصيل العلم المصحح للعقود والعمل المصلح للجوارح على حد التكليف، فإزاء كل منة ربانية: تكليف إلهي. فبالأول قامت الأبدان، وبالثاني: قامت الأرواح، فخالق البدن هو المستحق لتمام تأله الروح، فليس من خلق فبرأ فصور كمن لم يخلق شيئا بل هو على النقيض من ذلك: مخلوق مربوب، فهو عبد أسير بقيد التكليف فليس له شيء من الخلق والتدبير ليصح في الأذهان صرف جنس التأله له،
(يُتْبَعُ)
(/)
فليس ذلك إلا للرب الخالق المتصف بكل كمال، الموجِد بقدرته المدبر بحكمته، فلا شريك له في ألوهيته فرعا عن انتفاء الشراكة له في ربوبيته. فذلك القياس العقلي الصريح ذريعة إلى العمل القلبي الصحيح، فتنتفع به الروح فلا يصير محض قياس عقلي رياضي جامد لا حياة فيه تبعث الهمم إلى تحصيل معالي الأمور: علوما وأعمالا.
ويستنهض ابن القيم، رحمه الله، الهمم فيقول:
"فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون.
وقد جاءَ فى أثر إلهي يقول الله عَزَّ وجَلَّ: (ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فَإِن وجدتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ كُل شَيءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ". اهـ
ص63.
فتوكل على القدير، وإياك أن تكل الأمر إلى قواك وإن عظمت، واسأله المعونة والتيسير، فـ: رب أعن ويسر، لينهض القلب بالعلم الإلهي النافع، فتعمر الجوارح بالعمل الصالح، على حد التعبد الاختياري للرب عز وجل، وليس ذلك إلا لمن ترفع عن شوائب الدنيا، فوفاؤها قليل والشريك فيها خسيس تورثك شراكته: شحا ودنوا في الهمة، إذ الدنيا ضئيلة القدر فالمشاحة في امتلاكها أمر كائن لا محالة، بخلاف الآخرة فإنها قد اتسعت لكل السائرين، فالتنافس في تحصيلها عين المحمدة، فمن غار على نفسه أن يفنيها في تحصيل مال أو جاه زائل، فشغلها بادخار الباقي عن جمع الفاني، فهي له منقادة مقهورة، قد ألزمها أحكام الملة، وجمرها على ثغور النحلة، فهي في رباط إلى يوم اللقاء، فمن طاعة إلى طاعة، تترقى في معاريج الكمال العلمي والعملي بما وهب الرب الكريم العلي، فمن رُزِق جنس ذلك، ولو كان مخلطا مقصرا، قوالا غير فعال، فلا ييأس من رحمة الله، عز وجل، فعسى أن يرزقه نية تجعل القول المنطوق فعلا موجودا، وعسى الله أن يرزقه مستمعا ينتفع بكلماته فيصير له من وصف: (أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس): نصيب. فلا يحقرن العاقل نفسه فإن لكل امرئ أمورا اختصه الله، عز وجل، بها، لا يحسنها إلا هو، وإن خفيت عليه، فليفتش عنها، وليجعلها دليله الهادي إلى رضا الرب العالي، فمن الناس من اختص بصلاة، ومنهم من اختص بإنفاق، ومنهم من اختص بصيام، ومنهم من غلبت قوته العلمية قوته العملية، ومنهم من غلبت قوته العملية قوته العلمية ومنهم ومنهم فتفاوت قواهم ومداركهم العقلية والبدنية أمر لا يحصيه إلا الباري، عز وجل، الذي خلقهم فهو بجواهر ذواتهم ودقائق أحوالهم أعلم.
ومن طرق الباب، على حد الدوام، فهو إلى الدخول أقرب، فينخلع القلب وينطرح بين يدي سيده، اعترافا بالمنة إذ خصه بالاصطفاء والتقريب، ولو شاء لأبعده وطرده فلا ولي له ولا شفيع.
فالكيسَ الكيسَ بالبحث في مكنونات النفس عن سبب تنجو به من علم يصلح القلب أو عمل يعمر الجوارح أو خبيئة صالحة تنفع صاحبها يوم تبلى السرائر.
و: "من طلب الله بصدق وجده، ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً فى غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه". اهـ
فبتمام الغنى بالله، عز وجل، تحصل المحبة والهيبة في قلوب البشر، إذ قد ترفع صاحبه عما بأيديهم من سقط المتاع، فلا حاجة له في دنياهم، بل هم إلى ما عنده أحوج، فمهابته من مهابة سيده، فهو الغني بلا مال، الوجيه بلا سلطان، المهاب بلا سيف قاهر فليس له من وصف الظلم والعدوان ما يجعله كسائر الطغاة المعظمين على حد التقية لا المهابة النقية: مهابة المحبوب الذي تألفه القلوب وتهابه، فبألفته تجتمع القلوب وبهيبته تحد الحدود فلا يتجاوز أحد حده بزعم المحبة أو غلبة الوجد فإن ذلك من سوء الأدب، وذلك أمر يجب في حق الرب، جل وعلا، من باب أولى.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، ومَنْ أَصْبَحَ وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِى رَاغِمَةٌ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِليهِ أَسْرَعُ"، فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإِذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أَكبر همه فكيف من كان الله عز وجل أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأَولى". اهـ
ص64.
فالله، عز وجل، هو وحده المراد لذاته، فهو أعظم المرادات، وبقدر تلبس العبد بتلك الغاية الشريف، فهو بمراضي ربه عن مساخطه مشغول، بقدر ذلك: يتحقق له الغنى الحقيقي لا غنى الأعراض الوهمي الذي تنعم به الصور الظاهرة وتعذب فيه الحقائق الباطنة بإعراضها عمن بيده أسباب الفرح والحزن، الأنس والوحشة، فالمقبل عليه في فرح عارم وأنس شديد، والمعرض عنه، على النقيض من ذلك فحزن دائم وإن وجد أسباب السعادة الظاهرة، ووحشة دائمة إذ كيف يأنس بالمخلوق الفاني من أعرض عن الرب الباقي؟!. فذلك مما لا يشهد له نقل أو عقل أو حس.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 09 - 2009, 09:44 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى:
فقال:
"قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأَسباب كلها. قلت: يريد عدمها فى الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدماً بالنسبة إِلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأَزلية". اهـ
ص64.
فليس المراد تعطيل الأسباب على نحو يقدح في الشرع المنزل والعقل المحقق، على نحو ما ذهب إليه أهل الجبر المعيب الذي شنع به العقلاء عليهم، وشنع به المغرضون على دين الإسلام بإبراز تلك الصورة الشوهاء على أنها دين الإسلام، فهو دين: غير واقعي يهمل الأسباب المشهودة ويعلق القلوب بالمعجزات والكرامات والخوارق، مع أنها استثناء لا تؤصل عليه القواعد الكلية، وذلك ما وقعت فيه الديانات السابقة التي جعلت الخوارق والكرامات والفراسات الرياضية دليلا على صحة المقالة وإن لم يكن لها مستند من شرع منزل، وربما من العقل أو الحس فهي حديث خرافة يروج له برسم السر الكهنوتي، فهو أمر لا يدركه إلا خواص أهل الملة، مع كونه الحجة القائمة على العباد، والحجة إنما تقام بأمر بين لا إجمال فيه، فضلا عن أن يكون سرا لا تدركه العقول لخروجه عن قانون العقل الصريح فهو من المحال الذاتي الذي لا تأتي به نبوة، إذ النبوة مكملة للعقل لا ناقضة لأصوله التي تدرك بها شرائع الأنبياء، فكيف تأتي الشريعة بما ينقض المحل القابل لها، وبأي شيء تتعلق إن أبطلت آداة التكليف؟!.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وسئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إِلى الله تعالى والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر.
قلت، (أي: ابن القيم رحمه الله): الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى: "غنى" بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و: "فقراً" بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله عز وجل، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول". اهـ
ص64، 65.
فذلك معنى لطيف شريف، لا يدرك شرفه إلا من باشره، ولو في أمر دقيق، فكثيرا ما يضطر المكلف فتنقطع به الأسباب، ولو في أمر يسير، فيجد قلبه قد توجه بغير اختيار منه إلى قوة عليا قادرة على رفع إشكاله إذ لم يبلغ درجة الابتلاء بمعناه المعهود، فالعبد مفتقر إلى ربه، عز وجل، في دق أمره وجله، مفتقر إليه في جلب مصالحه، مفتقر إليه في دفع المفاسد، مفتقر إليه حتى في تحصيل مرغوباته، مفتقر إليه ليطعمه ويسقيه ويُنْكِحَه ما يشتهي من طيب تلك الملذوذات، مفتقر إليه في تفريج الكربة وكشف الغمة من باب أولى، مفتقر إليه ليثبت عند الصدمة الأولى، فكم من قلوب حوت من علم القدر ما حوت، فإذا جاء وقت العمل: نكلت وانقلبت على الأعقاب جزاء وفاقا، إذ اطلع الله، عز وجل، على مكنونها، فعلم فيها دخلا، فابتلاها عدلا بالجزع كما تفضل على قلوب أخرى بالثبات، فالخلق، كما تقدم مرارا، يتقلبون في أحكام فضله وعدله، فلا حول ولا قوة إلا بالله في أزمنة الرخاء والسعة لتحصيل الطيبات، فلن يباشرها العبد ولن تنتفع به قوى حسه إلا إذا شاء الله، عز وجل، ذلك فخلق فيها طاقة الحس والانتفاع، فلا تكفي مباشرة السبب لحصول المسبَّب، بل إن لم يشأ رب الأسباب الذي تفتقر كل الأسباب إليه إيجادا وإجراء وفق سننه الكونية النافذة، إن لم يشأ حصول المسبَّب مع استيفاء شروطه وانتفاء موانعه، فلن يقع، وإن اجتمع أهل الأرض على إيقاعه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو، من جهة أخرى، مفتقر إليه في أزمنة الرخاء والسعة ليؤدي شكر تلك الطيبات، فإن النعمة الشرعية كالنعمة الكونية: كلاهما رزق وعطية من رب البرية، جل وعلا، فكم أعطي بشر سعة في الدنيا، ولم يعطوا سعة في الدين الذي يسوس الدنيا فلا يطغى صاحبها، إذ النعمة الكونية بمعزل عن الشرع الحاكم مظنة الفجور والطغيان بتجاوز حدود الشرع، حدود: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، فالعبد في حال النعمة مفتقر إلى مقامي: رب أعن ويسر. فأعن بالأسباب وسعة الأرزاق، ويسر من العلم بأحكام الشرع والعمل بمقتضاه، فأوجد في القلوب إرادة الخير، وأوجد في النفوس سخاوة تذهب الشح لتجود النفس، وأوجد في الجوارح صالح الطاعات التي تشفي تلك النفوس المعتلة من أدواء البخل والحرص والتكالب على خسيس الفانية والإعراض عن نفيس الباقية، ويسر بتقريب سبل الخير، فكم أوتي بشر من أسباب الخير من غنى وسعة رزق، وأوتوا إرادات صالحة، ولم تتيسر لهم أسباب الخير، إذ شاء الرب، جل وعلا، بحكمته الباهرة، أن يوصد أبواب الخير دونهم، لتظهر قدرته النافذة، فلن يطيع الطائع وإن كان له من الأسباب الكونية والأخلاق الشرعية ما يوجب وقوع الطاعة، إلا بإذنه، وذلك مما يظهر به قهر الجبار، عز وجل، فالأسباب بيده، والقلوب بين أصبعيه، والسبل موصدة إلا إذا شاء تذليلها للسائرين إليه، فلن يسير إليه إلا من اصطفاه بعلمه وحكمته، وأمده بأسباب السير بمقتضى قدرته، فإراداتنا لإرادته تابعة، وقدرتنا من قدرته صادرة، بكلمته التكوينية تنهض الهمم والأبدان إلى تحصيل الطاعات فليس لنا منها إلا التعبد بمباشرة الأسباب، والله يغفر دخل النفوس ويتخاوز عن مكنون الصدور من حظوظ النفوس الخفية التي قطعت طريق من قطعت من السائرين إلى الله، عز وجل، وإحسان الظن بالكريم، عز وجل، ولو كان العبد مخلطا، طالما كان بسبب من الطاعة آخذا، إحسان الظن به على تلك الحال هو الباعث على تحمل آلام هذه الحياة، ولك أن تتخيل حال من خفيت عليه تلك المعاني الشريفات التي لا تتلقى، كسائر أحكام القلوب والجوارح، إلا من مشكاة النبوات، كيف تكون حياته إذ تقلب به الدهر، بل ولو استقام!، وليس ذلك بواقع فهو عين المحال إذ العباد مبتلون بالشرع والقدر شاءوا أو أبوا، وإنما الأمر من باب الفرض العقلي المحض، فلو فرض جدلا أن زيدا من البشر قد استقام حاله فلم يبتل من مبدئه إلى منتهاه إلا بالنعمة!، وهو مع ذلك معرض عن الشرع غافل عن الوحي، ليس له من علوم وأعمال النبوات نصيب، كيف يكون حال من هذا وصفه؟!، فكيف والبلاء واقع لا محالة، ولو بالموت في آخر أمره، والشاهد المحسوس دليل قطعي ونص في محل النزاع، فـ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فالعموم محفوظ غير مخصوص، ولو كان صاحبه أنعم أهل الأرض، فغم عاجل وعذاب آجل، لإعراضه عن ذكر الرحمن: مادة حياة القلوب، فهو المعين في النوازل، المثبت في الشدائد التي لا يخلو منها أمر عبد من العباد ولو كان أعظم الملوك وأسمى الأمراء، فمن طلب الانفكاك عن هذه السنة الكونية، فهو ممن يصدق فيه قول القائل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ******* صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ******* متطلب في الماء جذوة نار
فلو جرب ما جرب فلن تنخرق السنة الكونية من أجله، فناره مطفأة، فلن يسلم أحد من الابتلاء، وإن توخى الحذر، واجتهد في تحصيل السلامة، فاستفرغ الجهد وبذل من الأسباب ما بذل، فذلك الناموس الكوني الذي قهر به الرب، جل وعلا، عباده، ليعلموا أنهم له مربوبون مقهورون، ولأمره الكوني النافذ خاضعون، فظهر بذلك القدر الفارق بين الرب القاهر والعبد المقهور، فذلك من أسمى غايات وقوع الآلام، وليستخرج الرب بها من عباده ما به عنهم يرضى، ولهم يدخر من أجناس التذلل والخشوع، فيجتهد الطائع ويرجع العاصي، فقدره، جل وعلا، كله خير، وإن كان في المقدور شر عاجل، فالمآل لمن صبر واحتسب: فرج قريب، وذلك أمر، كما تقرر في أكثر من مناسبة، لا تظهر حقيقته إلا حال وقوع الابتلاء،
(يُتْبَعُ)
(/)
فليس لنا في أزمنة السلامة إلا التقرير والتذكير، لعل مبتلى يطالعه، فيورثه صبرا على مصيبته، وإذا كان الابتلاء كأسا كل منه شارب، فإن العاقل لا يتطلبه ولا يستجلب أسبابه، بل يدفعه بما سن الله، عز وجل، من أسباب الشرغ والكون، فالكون قد أقيم على سنة التدافع، فيدافع القدر بالقدر، فقدر الصدقة الشرعي من أعظم ما يدفع به قدر الابتلاء الكوني، والإنفاق في أوجه الخير، مما يصلح به أمر القلب والبدن، على حد: (امسح بيدك على رأس اليتيم، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك)، فذلك شفاء الصدور، وحد: (دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ)، فذلك شفاء الأبدان، ولن يجد العقلاء، وإن كانوا كفارا على غير رسم التوحيد، دواء للهموم أنجع من بذل المال والجاه والوقت والبدن، ولنا أهلَ الإسلام، مزيد فضل في ذلك، كما اطرد من حالنا في كل شأن، فالمسلمون بما صح من عقود قلوبهم وأعمال جوارحهم أسعد الناس حظا بأجناس الخير التي قررها الوحي على ألسنة الرسل، عليهم السلام، فكل خير في غيرهم فهو فيهم أعظم وكل شر فيهم فهو في غيرهم أعظم فهم آمن الناس جانبا فخيرهم ظاهر وشرهم باطن وإن ظهر عظيما في أزمنة احتجاب شمس النبوات كما هو حالنا في هذا الزمان إلا أنه إجمالا أهون من الشر الظاهر في الأمم التي لا حظ لها من التوحيد بل هي بضده متلبسة ففساد ظاهرها العريض فرع عن فساد باطنها، وذلك أمر، كما تقدم في أكثر من مناسبة، مطرد، ففساد الباطن ذريعة فساد الظاهر، والشاهد أن لنا أهل الإسلام من ذلك الدواء الناجع أوفر نصيب، إذ أعمالنا لو خلصت فصدرت برسم التوحيد فهي جامعة بين خير: العاجل بزوال الهموم وشرح الصدور، والآجل بثواب يدخره الله، عز وجل، بمقتضى فضله وكرمه، فنعمته الكونية على عباده سابغة، فتلك مما تفضل به على المؤمن والكافر، ونعمته الشرعية على عابديه سابغة، فهم الذين فقهوا أمر القدر، فعلموا خير فعل الرب، وإن كان في المفعول شر، فالشر ليس إليه، ولن يحصل ذلك، كما تقدم مرارا، إلا بالعلم ابتداء، والعمل بأسبابه حال النوازل انتهاء فذلك منتهى السؤل وغاية الأمل فهو المراد لذاته، فما ندب العباد إلى العلم الإلهي إلا ليتوصلوا به إلى العمل بمقتضى الشريعة الخاتمة.
والشاهد أن: عين الافتقار إلى الله، عز وجل، هو عين الاستغناء به، إذ انقطاع الأمل ممن سواه يلجئ صاحبه إلجاء إلى طرق بابه، فاليأس مما في أيدي عباده من العواري المستردة، يجعل العاقل يتوجه إلى معيرها فهو المالك الأصلي، الذي أذن للمستعير في الانتفاع بها وفق ما سنه من الشرائع المحكمات، فلا يعدل إلى الفرع مع وجود الأصل إلا من فسد قياس عقله، وذلك، أيضا، مما لم يسلم منه أحد لا سيما في أعصار الحضارة المادية المتأخرة التي علقت القلوب بالأسباب، فصار الأمر معادلات وأرقاما لا تخضع في نظر صاحبها إلا للقياس العقلي المحض، فهو يباشرها برسم الاعتماد على قواها التأثيرية لا برسم التعبد بمباشرة الأسباب وإظهار الافتقار إلى القدرة الربانية التي بها تتولد المسبَّبات من أسبابها.
وكمال ذلك الاستغناء بإظهار كمال الافتقار له وكمال الاستغناء عن غيره يستلزم كمال التعبد له، فقد شهد القلب مقام اسمه المهيمن، فهو المهيمن بقدره الكوني، المهيمن بكتابه الشرعي، فله كمال الهيمنة على القلوب والأبدان، وشهوده لهذا المقام يستلزم تمام الخضوع لمن هذا وصف جلاله، وهو مع ذلك قد رَبَّ عباده بوصف جماله، فظهر بذلك كماله الذاتي والفعلي كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة.
وعلى النقيض: عين الاستغناء بغير الله، عز وجل، هو عين الفقر، فالقلب معلق دوما بالسبب، فيسعد لجريانه، ولو كان فيه هلاكه، ويحزن لفواته، ولو كانت عين مصلحته الآجلة، التي هو عنها غافل، لو كانت عينها في فوات محبوبه الآني، فالنظر إلى الأسباب وقطع النظر عن مجريها يحرم صاحبه من الرضا بالأقدار، فلا يرى إلا المفسدة الجزئية بفوات مراده، ولا يستحضر مقام قدرة الرب، جل وعلا، إذ شاء عدم وقوع المراد مع استيفاء شروطه وانتفاء موانعه، ومقام حكمته إذ المصلحة، ولو كانت آجلة، في حجب ذلك المراد، فبحجبه تستدفع مفسدة أعظم، كمن حرم مالا كان سيطغيه، فحجبه عين مصلحته
(يُتْبَعُ)
(/)
وإن ظن المفسدة فيه، أو يدخر له في دار الجزاء إن صبر ورضي بالحرمان، مع استفراغه أسباب الشرع والكون في كل حال، فلا يعطل الشرع بالقدر، ولا يعلق الأمر على محض السبب، فهو الجامع بين: الإيمان بالقدر والعمل بالشرع، تلك الثنائية التي يصلح بها أمر الدارين.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 09 - 2009, 08:38 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل رويم عن الفقر فقال: إِرسال النفس فى أَحكام الله تعالى. قلت، (أي: ابن القيم رحمه الله): إِن أَراد الحكم الديني فصحيح، أو إِن أَراد الحكم الكوني القدري فلا يصح هذا الإِطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإِرسال النفس في أَحكامه التي يسخطها ويبغضها، وإِرسالها فى أَحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأَحكامه خروج عن العبودية"
ص65.
فإرسال النفس في أحكام الله، لفظ مجمل، على حد قول القائل: لا أريد إلا ما أراد، أو: إرادتي تابعة لإرادته فما أراده فهو مرادي، فإن ذلك الإطلاق، كما تقدم في أكثر من مناسبة، يفتح الباب للاحتجاج بالقدر الكوني على مخالفة القدر الشرعي، فقائله قد يريد به: أن إرادته تبع لإرادة الرب، جل وعلا، الشرعية، التي تتعلق بها مراضيه ومحبوباته من أجناس الطاعة، وقد يريد: أن إرادته تبع لإرادة الرب، جل وعلا، الكونية، والكون كله مراده بما فيه من المعاصي والآثام فأي شيء يكره من ذلك وهو من مرادات الرب، جل وعلا؟!، ومراده، عند هؤلاء، لا يكون إلا محبوبا مرضيا، فمجرد وقوعه دليل كونه محبوبا، وذلك من جراء عدم التفريق بين إرادة الشرع التي يتعلق بها التكليف، وإرادة الكون التي يتعلق بها جنس المفعولات عامة سواء أكانت محبوبة مرضية، أم مكروهة مسخوطة.
وإرسال النفس في أحكام الكون بلا تمييز بين ما يجب التسليم له، من الأقدار النافذة على حد المصائب التي لا يملك العبد لها رفعا، فهي مما أبرم من الأزل، وما يجب مدافعته من القدر الكوني الذي شرعت له أسباب ترفعه، وما يجب التزامه من الأحكام الشرعية على حد الابتلاء بالتكليف، إرسال النفس في هذه الأحكام دون تمييز لواجب الوقت في كلٍ، تسوية بين مختلفات، فليس سواء محبوب الرب، جل وعلا، ومكروهه، وإلا بطل التكليف الدائر على أحكام متباينة تبعا لتباين الأفعال، فمنها: محرم ومكروه فذلك مطلوب الترك لكونه مبغوضا شرعا وإن وقع جنسه كونا لحكمة كونية تفوق مفسدة وقوعه فبه ينتهك أمر الشرع، وذلك مفسدة تجب مدافعتها قدر الاستطاعة، إن كانت مما يدفع، ولذلك شرع الجهاد بأمر شرعي رافع لأثر الأمر الكوني باستباحة دار الإسلام، فاستخرج بذلك من حِكَم سنة المدافعة وعبوديات المنافحة عن الملة ما يفوق مفسدة استباحة المحلة، فليس الخير فيه خالصا كالحكم الشرعي، إذ هو منطو على مفاسد عاجلة لا ترفع إلا بالتزام السنة الشرعية فالاستسلام له مع القدرة على رفعه بحجة إرسال النفس في أحكام الرب، جل وعلا، نقص في العقل وقدح في الشرع، ولقائله أن يمتنع عن مباشرة سبب الطعام والشراب إذا أصابه الجوع أو العطش، إذ هو في حكم الله، عز وجل، مرسل، لا إرادة له يوقع بها أفعاله على حد الاختيار فذلك قول مناف للشرع والعقل، كما تقدم، بل هو مناف للحس الذي يشهد بوقوع الأفعال على حد الاختيار، وإن لم تخرج عن دائرة إرادة الرب، جل وعلا، الكونية، فالتزامه مؤد إلى إسقاط التكليف، بالتسوية بين كل المفعولات فكلها على حد الرضا شرعا فرعا عن كونها على حد الإيجاد والخلق بالمشيئة التي لا ينقسم معناها إلى كوني وشرعي، فاتسعت دائرة الرضا التي لا تشمل إلا المراد الشرعي، اتسعت لتشمل المراد الكوني والمراد الشرعي، فسوى قائل تلك المقالة بين صفتي: الرضا والمشيئة، وهذا ما وقع فيه غلاة أهل الجبر الذين عطلوا التكليف، فكل ما شاءه فقد رضيه وإن كان كفرا أو عصيانا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومنها: واجب ومندوب فذلك مطلوب الفعل لكونه محبوبا شرعا، وإن لم يقع جنسه كونا، إذ شاء الرب، جل وعلا، بالمشيئة النافذة: عدم وقوعه، فالمصلحة الآجلة في ذلك، وإن كان مكروها شرعا مطلوب الرفع أو المدافعة بمباشرة الأسباب المشروعة لذلك وإلا لزم ما تقدم من بطلان التكليف، وإبطال سنة المكافحة والمنافحة عن الملة والشرع، وذلك ما روج له المحتل لبلاد المسلمين إذ قعد المسلمون عن مدافعة الغازي المحتل فتركوا الأسباب الشرعية من: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، فذلك أمر شرعي، ترك عند أولئك استنادا إلى الأمر الكوني الذي نزل به البلاء، وإنما يصح الاحتجاج بالقدر في المصائب التي لا يمكن رفعها، كمن عجز عن المدافعة ابتداء فلا سبب في يده يدفع به، فمقام الصبر على الابتلاء به أليق، أو كمن بذل ما بوسعه من الأسباب المشروعة على حد التوكل على مجريها فلم تؤت ثمرة إذ شاء الله، عز وجل، بقدرته وحكمته، عدم وقوع مسبَّباتها، فذلك أيضا: يصح له الاحتجاج بالقدر.
وبينها: واسطة المباح.
ولكل حكم عبوديته، ولكل وقت واجبه، كما تقدم في أكثر من مناسبة، فللرخاء عبودية، وللشدة عبودية، والموفق من عرف واجب وقته فالتزمه، ولم ينظر إلى ما ليس في مقدوره، أو ما لم يكلف به، فالتكليف يتفاوت تبعا لتفاوت المكلفين حالا، فمن مكلف ابتلي بسعة المال ليقيم عبودية الإنفاق، فليس على الفقير ما عليه من التكليف ليشغل نفسه بتحصيله، ولذلك قال أهل الأصول: ما لا يتم الواجب المعلق إلا به فليس بواجب، فلا يكلف الفقير بادخار نصاب الزكاة ليؤديها، ولا يكلف بادخار نفقة الحج ليحج، ومن مبتلى بأسر أو مرض أو ........... إلخ فعليه من عبودية الصبر ما ليس على الحر أو الصحيح، وعليهما ما ليس عليه من عبودية الشكر.
ويقول، رحمه الله، في بيان نعت الفقير:
"وقيل: نعت الفقير ثلاثة أَشياءَ: حفظ سره، وَأَداءُ فرضه وصيانة فقره. قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأَغيار، وغيرة عليه أَن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وَأَداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأَغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع". اهـ
ص65.
فنص على أداء الفرض، فهو مفتقر إلى الإله الذي يتأله قلبه ولسانه وجوارحه له على حد الخضوع والذل اختيارا، فذلك، كما تقدم، عين استغنائه به عن غيره، فمن أسقط التكليف بحجة بلوغ درجة الاستغناء، فقد صدق، إذ هو من أهل: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فقد استغنى عن الشرع بما يدعيه من الأحوال!، والاستغناء المحمود هو الاستغناء بالشرع لا الاستغناء عنه، فهو مادة الغنى الحقيقي التي تعمر القلب بالأحوال الإيمانية فبها يبصر حكمة الرب، جل وعلا، الذي أعطى لحكمة، ومنع لحكمة، وأصح لحكمة، وأمرض لحكمة، وبقدر عمران القلب بتلك الأحوال يترقى العبد في معراج الإيمان بالقدر، فتهون مصيبة الدنيا، فكل مصيبة بعد مصيبة الدين وإن عظمت: هينة، وليس لتحصيل تلك الأحوال أسباب مادية على حد الأسباب التي تحصل بها الحاجات الكونية من مأكل ومشرب، ولو كان ذلك، لهان الأمر، فاشتراها من له مال، فلو أوتي من المال ما أوتي، ولم يؤت معه توفيقا وسدادا من الرب، جل وعلا، بهدايته سبيل الحق بيانا وامتثالا، فلا حظ له في ذلك الغنى الباطن وإن كان له من الغنى الظاهر ما يخطف البصر ويشغل القلب الفارغ من التأله للغني فهو بالتأله لتلك الأعراض الزائلة مشغول، وذلك حال من قال: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وليس المراد الانخلاع من حظ النفس في مراداتها التي طبعت على حبها والميل إليها، بل المراد سياسة تلك الأعراض برسم الوحي الشارع، فيصير الكتاب مهيمنا على أحوال المكلف الباطنة والظاهرة، فيسوس العلم الإلهي باطنه، ويسوس العمل الشرعي ظاهره، وذلك، كما تقدم
(يُتْبَعُ)
(/)
مرارا، لا يتلقى إلا من أخبار وأحكام النبوات، فهي أنفع الأدوية في علاج النفوس، إذ هي على رسم الصدق الذي يشفي الصدور من الشبهات، والعدل الذي يشفي الجوارح من الشهوات، وإذا صلح الباطن إخلاصا وتجريدا، وصلح الظاهر: عملا ومتابعة لسنن الشرع: قدرا ووصفا، فلا يتعدى العبد على توقيف الشارع، عز وجل، الذي يعلم ما يصلح حال المكلف من العلوم النافعة والأعمال الصالحة، إذا صلح الباطن والظاهر على ذلك الحد: حصل الفلاح في الدارين يقينا، والأمر عسير لا سيما مع تطاول أمد الصراع بين العبد من جهة، ونفسه وشهوات الدنيا ووساوس الشيطان من جهة أخرى، فلا قبل له بتلك الجيوش الجرارة من الشبهات والشهوات إلا إذا أمده الله، عز وجل، بمدد الوحي فبه يدفع كتائب البغي، فيظهر عليهم بسيف حجة الشرع الماضي.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر". اهـ
ص65.
فمن أعرض عن الدنيا أتته صاغرة، ومن أقبل عليها تمنعت وهي الراغبة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ". اهـ
وانظر إلى حالنا تعرف مدى فقرنا على ذلك الحد الوجيز البليغ، فكلٌ قد خاف، فمن خائف من ضيق الرزق فهو بكنز الأموال مشغول، ومن خائف من المرض فهو لأسباب الحمية محصل، ولأصناف الدواء متعاط، فبهما قد أنيط رجاؤه وأمله، ومن خائف من جور السلاطين والأمراء فهو عن دعاء الخلق إلى الهدى ناكل والفرق بين الحذر والجبن دقيق فلا يكاد يعرفه إلا من رزق حدة في البصيرة يرجح بها بين المصالح والمفاسد فذلك من أجل علوم الرسالات السماوية التي جاءت لتحصيل أعظم المصالح ودفع أعظم المفاسد، ومن خائف من اجتياح جيوش الأمم المتكالبة فهو لما يملى عليه خاضع على حد ما نراه من حال كثير من ملوك الطوائف قديما وحديثا!، ومن خائف من البشر، فهو لمراضيهم فاعل، ولو خالفت مراضي الرب الخالق، عز وجل، ولمساخطهم حاذر، ولو كانت عين ما أمر به الشارع عز وجل. وتلك قمة الخذلان إذ تعلقت الهمة الدنية برضا البرية التي لا ترضى بالكثير فهي طامعة في المزيد لعظم افتقارها إلى حظوظها، فشغلت عن رضا رب البرية الذي يرضى من عباده بالقليل، لكمال غناه عنهم، فلا يحتاج إلى ما بأيديهم، فهو واهبه، ولا تناله طاعاتهم بالنفع أو معاصيهم بالضر فهو مقدرها عليهم بمقتضى قدرته وحكمته، فامتن على من شاء بلزوم جادة الشرع: علما وعملا، فذلك من فضله، وابتلى من شاء بالعدول عنها فذلك من عدله.
والخوف قد هزم نفوسا قبل أن تقاتل جيوش الشبهات والشهوات، وهزم أبدانا قبل أن تقاتل جيوش الأعداء من الإنس والجان. وما أيسره من نصر!، فليس فيه خسائر على الإطلاق!.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغي أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه". اهـ
فلكلٍ ما يصلح شأنه، فذلك من تمام ربوبية الباري، عز وجل، فقد نوع في أحوال عباده، فمنهم من يحتمل الفقر بل هو عين صلاحه، ومن من يفسده الفقر، فلا صبر له عليه، ومنهم من يحتمل الغنى على حد القيام بحق الرب، عز وجل، فيه، فهو من هذا الوجه: ابتلاء كالفقر، وإن اختلفت عبودية صاحبه عن عبودية صاحب الفقر، فكلاهما في وصف الافتقار إلى الرب، عز وجل، في إقامة شرعه فيما قدر كونا، كلاهما فيه سواء: فالغني فقير إلى مقام: "إياك نستعين" ليحقق مقام: "إياك نعبد" بإنفاق ما تحت يده مما استخلف فيه من الأعراض والأموال على حد الشرع فلا تقتير ولا تبذير، والفقير مفتقر إلى مقام: "إياك نستعين" ليحقق مقام: "إياك نعبد"، بالصبر على مرارة الفقر وكف النفس عن التطلع إلى ما متع به غيره من زينة الحياة الدنيا، على حد التكليف بالنهي في قوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
(يُتْبَعُ)
(/)
ولكل ما يصلحه من القدر الكوني والقدر الشرعي، فقد نوع الباري، عز وجل، بين العباد في أرزاق الشرع والكون فظهر بذلك من آثار حكمته ما استحق به وصف كمال الربوبية: قدرة وحكمة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 09 - 2009, 08:16 ص]ـ
وقال بشر بن الحارث: "أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر". اهـ
فلا ينفك العبد عن افتقار إلى الرب، جل وعلا، من يوم الميلاد إلى يوم الممات.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت، (أي: ابن القيم رحمه الله): معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم". اهـ
ص65.
فقد حقق ما لم يحققه أكثر الناس، فحظ النفس مما عم وطم فلم يسلم منه إلا آحاد الصديقين، فليس له في زماننا وجود تقريبا، إلا من اصطفى الله عز وجل، فالخروج من حظ النفس والانخلاع من شهوة التقديم والتصدير برسم الرياسة والإمامة أمر لم يسلم منه إلا المخلصون الذين فازوا، كالعادة، بالقدح المعلى من كل العلوم والأعمال، فقلوبهم قد امتلأت بعلوم النبوة، فتصورهم لعظمة الرب المعبود، جل وعلا، أصح تصور، فصدر عنه، كما تقدم مرارا، أصح الأحوال القلبية والأقوال اللسانية والأعمال البدنية.
فإذا بقي له حظ نفس، فقد انتقص من عبوديته للملك، جل وعلا، بقدر ذلك، فهو مملوك لا محالة، لنفسه الأمارة أو لربه الجليل، الذي لا يقبل الشركة في الحال أو القول أو العمل، فمن عمل ليحصل حظ نفسه من الوجاهة والثناء فعمله لمن صدره وقدمه وأثنى عليه، وذلك من أدلة غنى الرب، جل وعلا، فالغني لا يفتقر إلى شريك في ملكه أو فعله، فلا يعجز عن تدبير كونه حتى يستعين بغيره على حد المشاركة أو المعاونة، فهو الغني في ربوبيته، الغني في ألوهيته فلا يقبل عمل من أشرك معه غيره، فالتمانع في الشراكة في الربوبية لازمه التمانع في الشراكة في الألوهية، فكما أنه الرب الغني بأفعاله، فهو الإله الغني عن أفعال عباده إذا وقعت على حد التشريك والتنديد فلا يقبل إلا ما كان خالصا ناصحا له. فالإنسان عبد قد فطر على التأله والافتقار إلى المعبود على حد اللجوء والخضوع، فإن لم يتأله للمعبود الحق، ضل قلبه في أودية المعبودات الأرضية، فهمته قد توزعت، وقواه الباطنة قد تشتتت، بخلاف من وحد الوجهة القلبية، فاجتمعت قواه لنيل أعز مطلوب: تحقيق عبودية الرب المعبود بحق جل وعلا.
وقوله: "وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره". اهـ
فالفقير لا يفتقر إلا لمن بيده غناه، فقلبه قد خضع لرب الأسباب، فليس له في الأسباب حاجة قلبية، وإن بذلها على حد امتثال السنة الشرعية، فالكون، كما تقدم في أكثر من موضع، تجري أحداثه وفق نواميس كونية مطردة، لا يهملها إلا ناقص العقل معطل للشرع.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أَبو حفص: أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال". اهـ
فيصلح باطنه بدوام الافتقار، ويصلح ظاهره بمتابعة السنن، فالباطن لا يصلحه إلا دوام الاحتياج إلى الرب، جل وعلا، فمنه يستمد مادة حياته، فمتى أحس بالاستغناء عن العلم الإلهي، فسد قلبه، بانقطاع مادة صلاحه، فالعلم الإلهي يصوب تصوره، فتقوى قوته العلمية على مجابهة الشبهات، وتولد من القوى العملية الباطنة ما يدفع به الشهوات، ثم يأتي الشرع ليصحح أعمال الظاهر فيتوافق باطن العبد وظاهره على حد الوحي، فصلاح ظاهره فرع عن صلاح باطنه كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.
وأكل اليسير من الحلال بلا سرف أو تقتير: مظنة صلاح القلب وخفة النفس في سيرها إلى الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وقال بعضهم: ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته. قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأَنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأَيضاً يشير إلى قصر أَمله، وأَن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأَيضاً يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأَوقات". اهـ
فحفظ الوقت من الضياع هو حفظ النفس من التلف، فالعبد أيام ينقضي منه قدرُ ما ينقضي منها، كما أثر عن الحسن، رحمه الله، فكل يوم يمضي هو شوط من سفر الهجرة إلى الله، عز وجل، سواء أكان السائر قد فقه سنن الشرع فجاء سفره حجا إلى الرب، جل وعلا، قد تجرد فيه القلب من ثياب الشبهات والشهوات فلم يقارف شيئا من محظورات الإحرام فأدى مناسك التأله في خضوع العابد الشرعي، أم كان سائرا بمقتضى الإرادة الكونية، فخضوعه خضوع العبد الكوني، وإن لم يكن على سنن الشرع مستقيما، فهو سائر إلى الله، عز وجل، في ذلك الطريق شاء أم أبى، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، وإنما امتاز من امتاز من العابدين المسددين بموافقته الإرادة الشرعية الحاكمة متعلق رضا الرب، جل وعلا، والإرادة الكونية متعلق قدرته، فهو على مراد ربه كائن، وعن دائرة مشيئته غير خارج، فلا تملك ذرة من ذرات الكون المشهود أو المغيب الخروج عن أمر الله، عز وجل، التكويني النافذ، فقدره، عز وجل، في الكائنات: ماض، شاء من شاء وأبى من أبى، فطوبى لمن سلم قلبه للقدر الكوني: دفعا للمقدور بالمقدور وصبرا على ما لا قدرة للعبد على دفعه أو بذل سبب ممكن لرفعه، والقدر الشرعي: بامتثال المأمور.
فمن علم ذلك: شح بوقته فهو أشح من البخيل الحريص على دراهمه، فللأول ساعاته ودقائقه، وللثاني: دنانيره ودراهمه، ولكل همته، ولكل غايته، وبتباين المبادي تتباين المناهي فـ: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فلا يستوي العاقل الحريص على صالحه المقبل على شأنه، فواجب وقته بين عينيه ماثل، ولسان حاله ومقاله: طلب الحق بدليله علما وامتثاله والسير على سننه عملا، لا يستوي من هذا حاله، ومن هو لاه مفرط قد بلغ حد السفه في إنفاق عمره، فحري بوليه أن يحجر عليه، حتى يقيه شر نفسه، فلو كان الحجر ممكنا على الأوقات إمكانه على الأبدان والأموال لاستعار العقلاء قيودا يكبلون بها الدقائق والساعات لئلا تضيع هدرا، ولو كانت الأعمار مما يباع ويشترى لدفع فيها العقلاء المئات بل الآلاف، كما أثر عن الشيخ المسدد المبارك العمر على قصره: الشيخ جمال الدين القاسمي، رحمه الله، علامة الشام في أوائل القرن الماضي، صاحب التصانيف الكثيرة العدد الغزيرة النفع، فما كان لأمثاله أن يبلغوا ما بلغوا من علو الشأن ونباهة الذكر لولا ما اختصهم بهم الملك، عز وجل، من الإخلاص، فهو كلمة السر، ومستودع الحفظ والفهم، ولولا ما جبلوا عليه من الشح بالأوقات فنوادرهم في ذلك تفوق نوادر البخلاء بأموالهم، حتى أثر عن بعض الفضلاء المعاصرين من أهل العلم استقباله لضيوفه حال قراءته، فينظر لهم بعين، ولما يطالعه من الكتب بعين!، فصارت نهمتهم تحصيل الفضائل العلمية أو العملية، فلكل همته، فلا تجد السائر إلى الله، عز وجل، إلا متلبسا بطاعة: طالبا لعلم في حلقة، قارئا في أخرى، كاتبا في ثالثة، متأملا في رابعة إن كان ممن غلبت قوته العلمية قوته العملية، عاملا على سنن الشرع: نافعا لنفسه ولمن حوله، لا يكل على بذل جاهه وماله، قد تصدق بعمره على طالبي الحوائج، فسعي على الأرامل والأيتام، وشفاعة بالجاه عند ذوي السلطان، فله في كل شعب الإيمان العملية نصيب، إن كان ممن غلبت قوته العملية قوته العلمية، فإن استوت القوتان عنده، فهو بكليهما متصف، فذلك الرباني الذي عز وجوده فلا يصطفي الله، عز وجل، لذلك المقام الرفيع إلا أصحاب الهمم الملوكية، ومن رحمة الله، عز وجل، بنا، أنه لم يكلفنا بما كلف به أولياءه المقربين، إذ لا طاقة لآحاد السالكين بسير السابقين، فغايتنا أن نستفرغ الجهد لنكون من أصحاب اليمين، من أصحاب: "سَدِّدوا وقاربوا".
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن عقلاء الأمم قد أجمعوا على مدح من كان ذلك حاله في إنفاق أوقاته، فلا ينفقها إلا فيما هو نافع سواء أكان من أهل الإيمان، فهو نائل بذلك: الخيرَ عاجلا وآجلا، أم كان من أهل الكفران فهو نائل بذلك الخير العاجل، فلا حظ له في الخير الآجل، إذ قصرت همته عن دركه، لفساد تصوره العلمي، فلا تجدي الخلال الكريمة شيئا باقيا إلا إذا تعلق قلب صاحبها بالآخر الباقي عز وجل.
ومن وصف أمير المؤمنين المسدد الراشد بل الرشيد: عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي أنفق سني خلافته في صون الملة وسياسة الدنيا بالدين، من وصفه: "وكان قليل الضحك، لا يمازح أحدا، مقبلا على شأنه". اهـ
ومن غير أبي حفص يكون على ذلك الوصف؟!، فليس عنده من الفراغ والبطالة ما يجعله ملجأ المتسكعين من السائرين، فلا وقت عنده إلا لأرباب الجد الذي أقض المضاجع وأقل الضحك فلا يعرف صاحبه المزاح إلا لمما، ولا يجلس على جانب الطريق إلا ليستريح لحظات يعاود بعدها السير، فإن السفر طويل، والزاد قليل فسنوات العمر معدودة، و: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"، و: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى، فما هي إلا لحظات يسيرات وتظهر أعلام الدار الباقية، فيهون في سبيل سكناها ما أنفق من الأوقات والأموال في الدار الفانية، فالنعيم في الدار الأولى: عارض، تستجم به نفوس السائرين لحطات سرعان ما تنقضي، والنعيم في الدار الآخرة: دائم سرمدي تحياه النفوس على حد الخلود، وهو مع ذلك ناصح خالص لا كدر فيه ولا شوب، بخلاف نعيم الدنيا الذي يشوبه ما يشوبه من الآلام، فمجرد تحصيله أمر يستدعي بذل الجهد على حد الاستفراغ، فيجتهد صاحبه في تحصيل ثمنه وشراء عينه، فلا ينفك عن نصب حتى حال تناوله، وحق للعقلاء أن يزهدوا في نعيم هذا وصفه فهو إلى المشقة واللغوب أقرب.
فيا أصحاب الأعمار التي اتنصفت أو كادت: مضى شطر الطريق اليسير، وأقبل شطره العسير، فليس بعد اليوم إلا نقص في العقل والبدن، وليس ثم بعد قوة الشبيبة إلا ضعف المشيب، فشحا بالأوقات ألا تنفق في غير مراضي الرب، وحذرا قبل ذلك من الركون إلى الأسباب، ولو حال الطاعة، فمن وكل إلى نفسه، فظن استغناءه عن تسديد الرب، جل وعلا، له بقدرته الكونية النافذة، وهذا حال كثير من السائرين ممن شهدوا مقام: "إياك نعبد" وغابوا عن مقام: "إياك نستعين"، من كان هذا حاله فهو مخذول وإن أراد الخير، فكيف بمن كانت همته ابتداء شرا محضا؟!. فالعبد مفتقر إلى ربه، عز وجل، ليهديه سنن طريق الحق، فيعلمه على حد اليقين العلمي الراسخ، وهو مع ذلك الافتقار العلمي: مفتقر إلى تسديد الرب، جل وعلا، بخلق إرادة امتثال الأمر والنهي فيه، وخلق فعل الطاعة في جوارحه فلا يستعملها إلا في مراضي الرب، جل وعلا، فذلك الافتقار العملي، فهو مفتقر له، جل وعلا، في التصور العلمي والحكم العملي، فلا غنى له عن الوحي الذي تصح به عقود القلوب الباطنة وأعمال الجوارح الظاهرة، فالتكليف منه، جل وعلا، والتشريف بامتثال أمره ونهيه، منه، أيضا، تبارك وتعالى، فلا غنى للمسدد عن ربه ليشهده مقامي: "إياك نعبد"، و: "إياك نستعين" فلن نعبدك إلا إذا أعنتنا، ولن نطيعك إلا إذا سددتنا، ولن نحيى في دار الابتلاء إلا إذا أبقيتنا، ولن ننجو في دار الجزاء إلا إذا اصطفيتنا، فلك وحدك: تسيير أسباب الكون وسن أسباب الشرع، ولا حول ولا قوة إلا بك في مباشرتها على الوجه الذي يرضيك عنا، وكم أوتي بشر من أسباب الكون وحرموا من أسباب الشرع، فهم أذكياء بلا زكاء، وكم أوتي آخرون من أسباب الشرع وحرموا من أسباب الكون، فحالهم أحسن، إذ تبلغ بهم نواياهم الشرعية ما قصرت عنه أسبابهم الكونية، وخير أجناس البشر من أوتي الأمرين: فله من أسباب الشرع ما يصلح به قلبه، وله من أسباب الكون ما يعف به نفسه عن سؤال غير الباري، عز وجل، على حد ما تقدم من تعريف حقيقة الفقر بأنها: "حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 09 - 2009, 08:58 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وقيل: أقل ما يلزم الفقير أربعة أشياء: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه". اهـ
ص66.
فلا بد من العلم فهو الحاكم المهيمن على الأقوال والأفعال يسوسها بناموس التشريع، ويلجمها بلجام التحليل والتحريم، وتقدم في أكثر من مناسبة، وجه تقديم العلم في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فالعلم بألوهيته، جل وعلا، على حد الإفراد والتنزيه عن التشريك والتنديد، ذلك العلم الشريف: طريق الاستغفار، وسائر أعمال القلب واللسان والجوارح، فبصحة الأصول العلمية تصح الفروع العملية، فلا ينظر إلى الفرع بعين العناية، والأصل فاسد، إذ لا جدوى من فرع قد فسد أصله، فأعمال المشركين، وإن كانت صالحة في نفسها، قد صارت هباء منثورا لفساد الأصل الذي عليه انبنت، فما بني على باطل فهو باطل.
والورع يحول بين النفس والمحارم: فإن مقارفة المحارم مئنة من نقص العلم بالله، عز وجل، فما عصاه العاصون إلا جهلا بقدره، فلو شهدوا مقام علمه الذي أحاط بكل معلوم، وسمعه الذي أحاط بكل مسموع، وبصره الذي أحاط بكل مبصر، لو شهدوا تلك المقامات الرفيعة ما استباحوا محارمه، ولانكفوا عن مساخطه لشهوده ذلك، بل لسبق قضائه الكوني به، فاستحضار ذلك المقام الرفيع يحمل العبد على الحذر من مكره، جل وعلا، أن يستخرج خبء القلب ودخيلته بقضائه الكوني النافذ فيبتلي العبد بما يظهر به عواره، فإن الطاعة بقدر هو من فضله، والمعصية بقدر هو من عدله، فالعبد غير مظلوم على كل الأحوال فهو إما ممنوح بمقتضى الفضل أو ممنوع ما ليس له بمقتضى العدل إذ لم يمنعه الله، عز وجل، شيئا هو له حق، فلا حق للعباد على ربهم الجليل، تبارك وتعالى، وإنما هو فضله آتاه من شاء ومنعه من شاء بمقتضى قدرته وحكمته.
فالورع من الملكات النفسية التي تصدر عن التصور العلمي الصحيح لأسماء الرب الحميد المجيد، جل وعلا، وصفاته وأفعاله في خلقه الجارية على سنن الحكمة الكاملة. فالورع في القول والفعل فرع عن الورع في القلب بتنزيه الرب، جل وعلا، عن أوصاف النقص، فذلك توحيده في ذاته بأوصاف كماله، وتوحيده بأفعال القلب، وذلك، كما تقدم مرارا، أعسر أركان الإيمان، فقول القلب يلائم الفطرة التوحيدية الأولى فلا يجد العبد عسرا في قبول مقالة الحق فهي على حد ما جاءت به النبوات الصحيحات، وما أيدته العقول الصريحات، وما قررته الفطر السويات التي جبلت على معرفة الرب بوصف كماله إجمالا في العلم، وتوحيده بفعل عباده إجمالا في العمل، فمقالة كهذه كيف يجد القلب والعقل عسرا في قبولها، وقول اللسان يجري على اللسان بلا كلفة سواء أكان القائل: مؤمنا أم منافقا، وعمل الجوارح، وإن كان شاقا، إلا أن كثيرا من المكلفين يوقعه على حد العادة، فلا يجد عسرا في الإتيان بالصور الظاهرة، وإنما الشأن كل الشأن: الذي شمرت له سواعد الموحدين وأنيطت به همم المخلصين: الشأن كل الشأن: عمل القلب، الذي لا يجري ذكره على اللسان إلا على حد التذكير بمعان جليلة لا تدرك بلسان أو جارحة، وإنما يظهر أثرها عليهما، فتجد اللسان لاهجا والجوارح عامرة بكل صالح قد جلله صاحبه بثوب الإخلاص الباطن، فعمله القلبي قد أثمر في ظاهره ثمارا من القول والعمل جعلته على الطريق مستقيما، وما بقي إلا الصبر على بعد الشقة، فعما قريب تظهر مضارب الأحبة، فيرتاح المهاجر في ديار لا صخب فيها ولا نصب، فلا قطاع طريق من شياطين الإنس والجن، كالذين آذوه بضجيجهم في سفره، فأثاروا الشبهات وهيجوا الشهوات، ونصبوا الكمائن ليوقعوا به، فجعلوا الطريق موحشا مخوفا، والرحلة صعبة شاقة، فأحجمت نفوس كثيرة عن السير فيه، وإن كانت تعلم أن عين النجاة في سلوكه، فامتاز أصحاب الهمم العلية من أصحاب الهمم الدنية، وبقي من بقي من الموحدين في أسر الشياطين، فهم في القيد يرسفون، فساعة يقاومون وساعة يستسلمون، فالله يغفر لنا التخليط في النوايا والأعمال، فيحررنا من ذلك القيد الثقيل الذي قعد بالنفوس عن نصرة الدين، ومن رحمته، جل وعلا، أن جعل القدرة مناط التكليف، فلكل ابتلاؤه، ولكل ميدان عراكه، وعلى قدر الهمة تكون قوة العدو المنازل، فكلما ازدادت القوة القلبية:
(يُتْبَعُ)
(/)
علما وعملا، زادت قوة وشراسة الخصم المقابل، ويبتلى كل على قدر دينه، والحمد لله الرب المجيد الحميد الذي أظهر من آثار قدرته ذلك التفاوت العجيب في الصور الظاهرة والصور الباطنة، فلا يعلم مراتب المكلفين على حد التفصيل إلا الرب، جل وعلا، و: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)، فمنا من له مقام الملوك فهمته لا ترضى إلا بالمعالي، ومنا من همته همة الأمراء فهي دونها، ومنا من همته همة الرعية، ومنا من همته همة الصعاليك فهي بالدنايا والمخازي قانعة، فبقدره الكوني اصطفى كلا لمنزلته، وبقدره الشرعي ابتلى كلا ليظهر في عالم الشهادة مكانته.
وأما اليقين فهو الباعث على العمل والحامل على تحمل مشاق السفر، فلا قدرة لشاك على سلوكه، إذ هو مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وفساد الرأي من التردد والشك المنافي لليقين، و:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ******* فإن فساد الرأي أن تترددا
فكم علمت نفوس الحق ولكنها ترددت في قبوله فعوقبت بحرمانه، فلا يتردد أحد في قبوله إيثارا لعاجلة من ملك أو جاه أو مال ............... إلخ إلا سلبه جزاء وفاقا، وانظر إلى حال هرقل لما علم صدق رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أبى الانقياد لها ضنا بملك زائل، فإن الحق عزيز الشأن لا تقبله إلا أرض عزاز، فمن كانت أرضه بورا لم تنبت فيها بذرة هداية الدلالة لتثمر هداية التوفيق إلى صالح القول والعمل، فليس من الحكمة في شيء أن تغرس بذرة طيبة في أرض خبيثة، فذلك من السفه الذي يتنزه عنه آحاد الحكماء فكيف بأحكمهم جل وعلا؟!، فلا يصطفي لرسالاته بلاغا وحملا وعلما وعملا إلا من علم طيب تربة قلبه، فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فتلك: حكمته، و: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) فتلك: قدرته، فيختار بقدرته النافذة وحكمته البالغة لمنصب ولايته آحادا من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا مطمع في درك رتبة النبوة فتلك اصطفاء محض، فلا ينال بكسب أو فتوة، فإن فاتت تلك الرتبة فلا تفوتنك بقية الرتب على حد:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ******* إن التشبه بالكرام فلاح
ولا أقل من الصحبة الصحبة يا أهل الحق، وإن لم نكن لصحبتكم أهلا، فليكن لنا من رفقتكم نصيب فقد حسن أولئك رفيقا.
.
وأما الذكر فهو المؤنس الذي يذهب وحشة القلب، فيقوى على السير في طريق: الوحشة رسمه لقلة سالكيه، وعظم مشقته، ولكلٍ حبيب يأنس بذكره، وذلك، أيضا، مما تتفاوت فيه أقدار المحبين، تبعا لتفاوت هممهم، فالكامل في علمه وعمله لا يحب إلا الكامل في ذاته ووصفه، فذلك مئنة علو قدره، ونفاسة نفسه، والناقص لا يحب إلا ناقصا، ولا يتعلق قلبه إلا بصورة أرضية ناقصة على حد التأله، وإن لم يكن مشركا الشرك الأكبر، فشركه من النوع الدقيق المعنى، الظاهر الأثر، من نوع: (تَعِس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القَطِيفة)، فكل من أحب غير الله، عز وجل، من الصور الفانية والعرض الزائل فله من العذاب بقدر ما لذلك المحبوب من شعب قلبه، فبقدر استيلاء المحبوب على شعب القلب يكون الأثر الظاهر فقلب قد استولى الله، عز وجل، عليه، فلا مكان فيه لسواه، على حد المثال العلمي، فظاهره قد ملئ انقيادا عمليا، كما ملئ باطنه استسلاما علميا، وقلب على النقيض قد استولى العدو عليه فهو سبيه، وعلى قلبه وجوارحه قيده، فصيره له عبدا لا يملك من أمر نفسه شيئا فهو وما اكتسبه لسيده، إذا رضي عنه رضي ولو كان ذلك بسخط ربه، جل وعلا، وإن سخط عليه جزع وإن كان ذلك برضى الرب، تبارك وتعالى، فبئست حال من كان مولى قلبه غير الرب المالك الملك، جل وعلا، وقلب قد اجتمعت فيه المادتان: مادة العبودية الشريفة، ومادة العبودية الخسيسة، فكل قد استولى على شعب من القلب، والصراع بينهما لا زال محتدما، فتارة تظهر جنود الحق فيكاد قلبه يتحرر بأكمله، وتارة تظهر جنود الباطل فيكاد قلبه يسترق بأكمله، ولكل ساعة من ساعات النزال: بيان عسكري!، فالتفاوت في الغلبة والظهور يكون بتفاوت أحوال القلب زيادة في الإيمان ونقصانا، وذلك تفاوت، هو الآخر، لا يحصيه إلا مصرف القلوب جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 09 - 2009, 09:20 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أَبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أَشار أَبو سهل إِلى البداية ومنصور إِلى الغاية". اهـ
ص66.
فهو فقر وذل للنفس، ولكنه ذل هو عين العز، فأي عز أعظم من الذل للرب الجبار، تبارك وتعالى، فإن العاقل لا يخضع على حد الاختيار إلا لقوة عليا قادرة حكيمة، فبقدرتها يأمن السائل من عدم تحقق مراده، وبحكمتها يأمن السائل من وقوع مراده على غير سنن الرشد، فكم من سائل قد سأل ما فيه عين هلاكه، فاقتضت حكمة الرب، جل وعلا، أن يحجبه عنه، وإن كان قادرا على منحه، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فالخاضع لأمر الله، عز وجل، الشرعي على حد الاختيار، والخاضع لأمره الكوني النافذ على حد التسليم لما لا يمكن دفعه أو رفعه، قد أمن في دينه ودنياه، فلا يعرف الجزع إلى قلبه سبيلا، إذ قد استغنت روحه بغذاء القدر الشرعي، واطمئن بدنه بالقدر الكوني، فيمتثل المأمور الشرعي الذي به صلاح روحه، ويصبر على المقدور الكوني وإن كان فيه عطب بدنه، فالشر في المقدور الكائن لا في القدر المُكَوِّن، والإلحاح في طلب السلامة: مطلوب كل العقلاء فلا يتطلب عاقل الفتنة في الدين أو الدنيا، إذ ذلك من الشدة التي لا يصبر عليها إلا آحاد الشرفاء، والابتلاء: سنة كونية جارية، فلن يسلم منه مؤمن أو كافر، بر أو فاجر، وإنما الشأن: من يصبر على حد الاختيار الإنساني لا الاضطرار الذي تشترك فيه كل الكائنات الحساسة.
وهو فقر وغنى باعتبار المآل، فبقدر الذل يكون العز، وبقدر الافتقار إليه يكون الاستغناء به، وبقدر السجود بين يديه يكون الاقتراب منه على حد قوله تعالى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، فهو قريب منا بعلمه، قد أحاط بكل المعلومات حقيقة وكنهاً، وليس الشأن تحصيل هذا القرب فهو قرب عام لكل الكائنات، وإنما الشأن في القرب الخاص: قرب العابد المختار الذي آوى إلى كنف وستر الرب، جل وعلا،، فصرف إليه أجناس الطاعة، فحظي بقرب النصرة والتأييد، فهو مسدد في كل خطاه، قد صنع على عين مولاه، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش على حد التأييد، لا الحلول والاتحاد بالذات، كما توهم أصحاب الفهوم السقيمة التي أصابتها أدواء مقالات الإفك القديمة التي نشأت في أمم قاصية لم تعرف نور النبوة الهادي فانقطعت بها الطريق في بيداء الأقيسة والأذواق والسياسات الأرضية، وليس سواء من: كان بنور النبوة مسترشدا فهو الدليل بين يديه، ومن كان عنه بمعزل فلا قائد لعقله المعزول عن ولاية إدراك المغيبات والحكميات إلا نحاتات أذهان فلان وفلان من الفلاسفة أو الزهاد أو الملوك والأمراء.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال الجنيد: إِذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أَبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إِذا كان صادقاً فى فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص فى النار". اهـ
ص66.
وهو لفظ مشكل، قد يفهم منه الإعراض عن تلقي العلم الإلهي من أهله المتبحرين في مسائله المحققين لدقائقه، ممن تحملوا ميراث النبوة: تحمل الثقات وأدوه أداء الحفاظ، وهو أمر قد فشا في متأخري أهل الطريق الذين أحدثوا فجوة مصطنعة بين العلم والسلوك: فصار العلم: مسائل مسرودة لا حلاوة فيها محسوسة، على رسم طرائق المتكلمين في تقرير مسائل الإلهيات: أشرف المسائل العلمية التي يفترض أن تحدث في القلب من الأحوال والإرادات ما فيه حياته، فهو الحساس المتحرك بشتى الإرادات، فإن لم يتحرك على منهاج الوحي فتكون قواه في الحق والخير فاعلة، تحرك على منهاج الهوى، فتولد من ذلك فساد في العلم والعمل تتعذى به النفس وإن كان فيه هلاكها، فلا بد لها مما يسد رمقها، فإما غذاء الحق المستحصد من أرض النبوات الطيبة، وإما غذاء الهوى النابت في غيرها من الأراضي الخبيثة، فالطيب واحد لوحدة مصدره، والخبيث متعدد لتعدد مصادره، فالنور قد جاء على حد الإفراد والظلمات قد جاءت على حد الجمع.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالشاهد أنهم أحدثوا تلك الفجوة فصار العلم على الوصف المتقدم، وقد مكن لهم المتكلمون بما نقلوه من علوم اليونان العقيمة التي لا تصحح عقلا ولا تزكي نفسا، فلا قياسها صريح ولا أحوالها مريئة يحصل للنفس بتناولها كمال الانتفاع، فلا نقل من نبوة، ولا قياس من عقل، وإن ادعوا أنهم أربابه، ولا حال إذ هم أبعد الناس بعلومهم الجافة عن أي حال قلبي يولد إرادة عملية نافعة.
وصار في مقابله: السلوك على رسم هجر العلم إذ ظنوا أنه لا علم إلا ما قرره المتكلمون فلم يهتدوا إلى علم النبوات الصحيح الذي لا تخلو منه الأرض، فهو حجة الله القائمة، وإنما الشأن: أن يسدد الرب، جل وعلا، السالك، فيكون سيره على منهاج النبوة، فمنها يستمد العلم، وبمقتضى أحكامها يوقع العمل، فعلومه وأعماله على رسمها حاصلة.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ بَلْ يَنْظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَمِنْهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنْظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ فَهَذَا أَصْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَجْعَلُونَ اعْتِمَادَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الرَّسُولِ؛ بَلْ عَلَى مَا رَأَوْهُ أَوْ ذَاقُوهُ ثُمَّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعْرَضُوا عَنْهَا تَفْوِيضًا أَوْ حَرَّفُوهَا تَأْوِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْفُرْقَانُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ لَكِنَّ فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَلَوْ عَلِمُوا لَمَا قَالُوهُ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ نَاقِصِي الْإِيمَانِ مُبْتَدِعِينَ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصُوا بِهِ". اهـ
فبقدر الترسم برسم النبوة على جهة الافتقار إلى علومها وأعمالها يكون الإيمان متحققا.
وبهذا اقتحم من اقتحم من المحققين العقبة، فاجتازوا فلاة الابتلاء إلى جنة الرحمن، فمن صبر ساعة التكليف على المقدور الكوني النافذ والمقدور الشرعي الحاكم، فاستحضر آثار صفات الجلال كفا للنفس عن المهلكات وحملا لها على ما لم تعتده من الأسباب المنجيات من غضب الرب الجبار، عز وجل، من كان ذلك حاله حظي بآثار صفات الجمال، فهو في دار النعيم المقيم برحمة الرحيم الخاصة، قد استأثر برؤية وجه الجبار: رؤية تنعم خاصة، فمقامه: مقام الخواص، بخلاف مقامات العموم التي يستمتع بآثارها كل موجود، فرحمة الرحمن قد عمت كل الكائنات وإن كانت على غير سنن الهدى ماضية.
والشأن كل الشأن في هذا المقام الجليل الذي لا ينال بكثرة الأعمال الظاهرة إن لم تصدر عن أحوال قلبية صادقة، الشأن كل الشأن: الترسم برسم الإخلاص باطنا فيتولد منه من صلاح الظاهر ما ينشرح به صدر السالك في طريق الأصل فيه: الوحشة، فللإخلاص في النوايا والإصلاح في الأعمال: أثر عجيب في شرح الصدور وإذهاب الهموم، فصاحبه قد نال شعبة من شعب: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
(يُتْبَعُ)
(/)
وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)، فاشتاقت نفسه إلى الكل لما ذاق حلاوة الجزء، فاكتفى بالأنموذج ليوقع الصفقة، فيكفيه ملء الكف أنموذجا، ليتم البيع، على حد قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فاشترى الأنفس إتلافا في ساحات الوغى، واشترى الأوقات إنفاقا في تحصيل علوم النبوات وتقريرها وذب شبهات المبطلين عنها، واشترى الأموال إنفاقا في للحقوق المشروعة على حد الإيجاب، حقوق: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، ولكن أولئك السادة ليسوا ممن يرضى برتب العامة، فلا تقنع أنفسهم بالزكوات على حد الإيجاب حتى تردف بالصدقات على حد الندب، فليسوا على سنن الابتداع بفرض ما لم يفرضه الله، عز وجل، فعندهم من العلم ما يحجزهم عن الإحداث في الدين الكامل زيادة أو نقصانا، فلا تكون الزيادة منهم على حد الغلو بفرض ما لم يفرضه الله، عز وجل، مما أحدثه الشركاء على حد قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وهو أمر قد وقع فيه كثير من أهل الطريق الذين سلكوا مسالك الزهاد على غير رسم العلماء، فشددوا على أنفسهم وعلى أتباعهم من المريدين، فوقعوا في أنواع من الحرج قد رفعها الله، عز وجل، عن العباد الذين ساروا في طريق الهجرتين برسم الوحيين: الكتاب الهادي والسنة الشارحة.
والشاهد أن ذلك الفصام النكد بين: الأحوال القلبية والمسائل العلمية قد صرف همم كثير من السالكين عن طلب العلم العاصم من مزالق الشيطان الذي رضي من العباد: بالإفراط على حد الغلو والابتداع، أو التفريط على حد التقصير والجفاء.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض إشارة إلى طرف من هذا الفصام النكد بين أرباب الكلام وأرباب الأحوال:
"ومما يعتبر به أن النساك وأهل العبادة والإرادة توسعوا في السمع والبصر وتوسع العلماء وأهل الكلام والنظر في الكلام والنظر بالقلب حتى صار لهؤلاء الكلام المحدث ولهؤلاء السماع المحدث هؤلاء في الحروف وهؤلاء في الصوت وتجد أهل السماع كثيري الإنكار على أهل الكلام كما صنف الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي مصنفا في ذم الكلام وأهله وهما من أئمة أهل السماع ونجد أهل العلم والكلام مبالغين في ذم أهل السماع كما نجده في كلام أبي بكر بن فورك وكلام المتكلمين في ذم السماع وأهله والصوفية ما لا يحصى كثرة، وذلك أن هؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف اليهود أهل العلم والكلام وهؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف النصارى أهل العبادة والإرادة.
وقد قال الله في الطائفتين: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).
ولهذا تجد تنافرا بين الفقهاء والصوفية وبين العلماء والفقراء من هذا الوجه.
والصواب: أن يحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويجتهد المسلم في تحقيق قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون) ". اهـ
"الاستقامة"، ص170، 171.
وكل انحراف في هذه الأمة في العلم إنما هو: فرع عن انحراف اليهود، وكل انحراف فيها في العمل إنما هو: فرع عن انحراف النصارى.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو من جنس الفصام النكد الذي نعيشه في هذه الأعصار بين: العلم والدين، قياسا على التناقض بين علوم الكنيسة البالية والعلوم التجريبية الحادثة، وهو قياس فاسد، إذ لا يستوي الوحي المعصوم الذي هيمن على كل أجناس العلوم الإلهية والتجريبية، والواقع العملي شاهد على مطابقة سنن الشرع النازل لسنن الكون الجاري، فذلك من إعجاز كلام الباري، عز وجل، لا يستوي هذا الوحي، ووحي الكنيسة الشيطاني الذي صير البشر أربابا تشرع على حد النيابة عن المخلص: المسيح عليه السلام!. على حد قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
فعلم النبوات ليس كعلم فلاسفة اليونان، فهو علم شريف: يصحح قياس العقل ويزكي ذوق ووجدان النفس، فلا تحب إلا ما أحبه الشارع، عز وجل، فهي لأحكامه منقادة، وعلى مراضيه منهالة، فليس لها حظ نفس يستحسن ما لم يستحسنه الشرع من الذوقيات، أو يعتبر ما ألغاه الوحي من العلميات والعمليات والسياسات، فظاهره وباطنه، وعلمه وعمله، وذوقه وسلوكه، وحكمه، على وفق مراد محبوبه الشرعي: فعلى ثغور الأمر والنهي قد جمر قلبه ولسانه وجوارحه فلا يزال على رباطه حتى يرجع إلى أهله في دار الرضوان فيلبي نداء الرجوع إلى منازله الأولى، نداء: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي)، نداء قد صاغه روحاني الإسلام ابن القيم، رحمه الله، في كلمات بديعة يطير بها القلب شوقا إلى لقاء بارئه فعنده السكنى برسم: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)، فمن ضمن تلك الكلمات:
فحي على جنات عدن فإِنها ******* منازلك الأُولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو، فهل ترى ******* نعود إِلى أَوطاننا ونسلم
وحي على روضاتها وخيامها ******* وحي على عيش بها ليس يسأم
ص69.
فحي على دار البقاء ببذل أسباب دار الفناء، حي على دار البقاء بإتلاف ما لا بد من تلفه من الأنفس والقوى والأموال، فإن لم يتلف في موافقة القدر الشرعي على حد الاختيار، تلف بموافقة القدر الكوني على حد الاضطرار، فـ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، و: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا).
ومن دعي إلى طاعة فنكل، ومن دعي إلى إنفاق فبخل، ومن دعي إلى ملء ثغر من ثغور الملة فولى العدو دبره، فقد تعرض إلى سلب نعمة التوفيق إلى نافع العلم وصالح العمل، ومن ذاق حلاوة الطاعة وتحلى بالشجاعة في رد العدو المتربص بالديانة، ثم زهد في تلك المناصب الشريفة فلا يحزن إن ولاه الله، عز وجل، بمقتضى عدله، مناصب لا يرضى بها إلا أصحاب الهمم الخسيسة، فمن شؤم ترك الطاعة: تعسر أسبابها، والتلبس بضدها، فبعد مواسم الطاعات يخلع كثير من المقاتلين لأمة الحرب، ولم يخلعها جيش الأبالسة من الجان والإنس، فكيف إذا صبحه العدو، فنزل بساحته، فساء صباح المنذرين الذين صبحتهم كتائب العدو الزاحفة تحت جنح ظلمة الغفلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 09 - 2009, 08:56 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو المظفر القرميسيني: الفقير هو الذي لا يكون له إِلى الله حاجة. قال أَبو القاسم القشيري: وهذا اللفظ فيه أَدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإِنما أَشار قائله إِلى سقوط المطالبات، وانتفاءِ الاختيار، والرضى بما يجريه الحق سبحانه.
(يُتْبَعُ)
(/)
قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأ فإِن حاجات هذا العبد إِلى الله بعدد الأَنفاس إِذ حاجته ليست كحاجات غيره من أَصحاب الحظوظ والأَقسام، بل حاجات هؤلاءِ فى حاجة هذا العبد كتفلة فى بحر، فإِن حاجته إِلى الله في كل طرفة عين أَن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه فى مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأَوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأَي حاجات أَكثر وأَعظم من هذه؟ فالصواب أَن يقال: الفقير هو الذي حاجاته إِلى الله بعدد أَنفاسه أَو أَكثر، فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إِلى الله لا يشعر بكثير منها، فأَفقر الناس إِلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها. وإِن كان لا بد من إِطلاق تلك العبارة على أَن منها كل بد فيقال: هو الذي لا حاجة له إِلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إِلى منزلة الاستغناء، وأَما أَن يقال لا حاجة له إِلى الله فشطح قبيح". اهـ
ص66.
فحاجات العبد إلى ربه: كونا وشرعا، لا تنقطع، فهو مفتقر إلى مدده الكوني ليحفظ البدن، ومفتقر إلى مدده الشرعي ليحفظ الروح، وتلك ثنائية انفردت بها الملة الخاتمة: ملة التوسط والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط.
وهل بلا نبوة كان البشر يعرفون ما عليهم من التكليف الشرعي، وما أعد لهم من الثواب إذا وفوا، وما أعد لهم من العقاب إذا قصروا، فالنبوة هي التي دلت البشر على مواضع رضا الرب، جل وعلا لتلتزم، ومواضع سخطه لتجتنب، وهي التي دلت البشر على ما فيه صلاح الأولى والآخرة، فجاءت الأحكام موائمة للفطر، مصلحة لشأن الباطن بأجناس من الأغذية النافعة: علوما وأعمالا، مصلحة لشأن الظاهر بأحكام وسياسات عادلة، عارضها من عارضها من أرباب الجور الذين حادوا عن الوحي، فدافعوا علومه بأقيسة عقولهم الفاسدة، ودافعوا أعماله بأعمال وأحوال حادثة، ودافعوا نواميسه العادلة بشرائع أرضية جائرة، وجاءت الأحكام مخلصة للنوايا محكمة للأعمال محسنة قبل ذلك، الظن برب الأرباب، عز وجل، وذلك عين أسباب النجاة في الدار الآخرة، فالناظر، على حد التأمل، لكل ما يقع في هذا الكون المشهود من حوادث، ولكل ما يسن فيه من الشرائع على ألسنة الرسل، عليهم السلام، يجد التلاؤم بين القدر الشرعي الحاكم، والقدر الكوني النافذ، تلاؤما بديعا، يجري في قناة الخير الذي أراده الله، عز وجل، بالمكلفين: عاجلا كان أو آجلا، فله في كل قدر كوني حكمة، ولو كان المقدور شرا عاجلا تتأذى منه النفس أو البدن، فيسدد فيه من اصطفاه لتحصيل مصالح شرعية تفوق مفسدته الكونية الآنية، وله في كل قدر شرعي حكمة، ولو كان في المقدور الشرعي نوع مشقة، إذ لا ينفك أي فعل آدمي عن نوع مشقة، ولو كان تحصيلا لشهوة خالصة، فالمشقة من العوارض المطردة في كل فعل، فمن نفرت نفسه من المشقة الشرعية حصل له من المشقة الكونية ما يتأذى منه، فلا يغني التحرر من قيد التكليف عنه شيئا، إذ هو ممتحن بأنواع من المحن والبلايا الكونية شاء أو أبى، فليكن الابتلاء: ابتلاء كرام ممتثلين لأمر الشرع الحاكم، لا: ابتلاء بهائم منقادين لأمر الكون النافذ الذي لا يخرج عن حكمه طائع أو عاصٍ.
وإنما تصح هذه العبارة المجملة بقيد: التجرد من حاجة النفس التي تعارض حكم الشرع على حد قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فلا حاجة له إلى ما يسخط الرب، جل وعلا، إذ هو من الحظوظ النفسانية متجرد، ولا حاجة له إلى التلبس بأوصاف الطغيان بإظهار الاستغناء عن الرب، جل وعلا، فتلك دعوى تدل على عظم الجهل بقدر النفس، وعظم الفقر بالاشتغال بأسباب الغنى عن المغني، وعظم حظ النفس التي تبغي الرياسة والوجاهة ولو من طريق الزهادة!، فأغلب من غلا من أهل الطريق حتى بلغ بعضهم حد الخروج عن حد الشرع الحاكم، أغلب أولئك: طواغيت ينازعون الرب، جل وعلا، وصف غناه المطلق، بما أحدثوه من الطرائق الرياضية الغالية، فيمتنعون عن المطعوم والمشروب والمنكوح الحلال: زهدا، زعموا، مع
(يُتْبَعُ)
(/)
استيلاء حظوظ النفس على قلوبهم، فهم بضد ما أظهروه متلبسون، فغايتهم تحصيل الوجاهة عند الأتباع، وليس لهم من الإخلاص الموجب لتمام الافتقار إلى الله، عز وجل، نصيب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأَما حمل أَبِي القاسم لكلامه على إِسقاط المطالبات وانتفاءِ الاختيار والرضى بمجاري الأَقدار فإنما يحسن في بعض الحالات، وهو في القدر الذي يجري عليه، بغير اختياره ولا يكون مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم. وأَما إِذا كان مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر هو أَحب إِلى الله منه - وهو مأْمور به أَمر إِيجاب أَو استحباب - فإِسقاط المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعي: عين العجز، والله تعالى يلوم على العجز". اهـ
ص67.
فمن القدر ما يدافع بالأسباب المشروعة، فيكون الكيس في مدافعته، ومن القدر ما لا يقدر المكلف على دفعه، إذ قد أبرم من الأزل بمقتضى القدرة والحكمة، فمدافعة ذلك: عين العجز، فصاحبه ممن يصدق فيهم قول القائل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ******* فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن خفيف:
الفقر عدم الأملاك، والخروج عن أحكام الصفات، قلت: يريد عدم إضافة شيء إِليه إِضافة ملك، وأَن يخرج عن أَحكام صفات نفسه ويبدلها بأَحكام صفات مالكه وسيده مثاله أَن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التى توجب له دعوى الملك والتصرف والإِضافات ويبقى بأَحكام صفة القدرة الأَزلية التي توجب له العجز والفقر والفاقة، كما فى دعاءِ الاستخارة". اهـ
ص67.
فإضافة الأملاك إلى العبد إنما تصح على جهة الملك المقيد بحكم مالك الملك، جل وعلا، الذي استخلفه فيما تحت يده من مال أو رعية، فهو عنها مسئول، فليس ملكه، جل وعلا، لها ملكا مقيدا، بل هو على رسم: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، إذ ذلك من أخص أوصاف الربوبية الجامعة للقدرة والحكمة كما تقدم في أكثر من موضع، فالعبد المسدد من خرج من حوله وقوته، وملكه وقدرته، إلى حول وقوة العلي الكبير، وملك وقدرة العظيم القدير، فليس له في نفسه أو في ملكه حظ، بل هو فيه سائر على منهاج الوحي، فما أوجبه امتثله، وما ندب إليه سارع إليه، فذلك مما يحببه إلى مولاه، وما أباحه تناوله على حد الاعتدال ليستعين به على التكليف الشرعي، فهو صيانة للبدن من الأعطاب، فبالمطعوم والمشروب والمنكوح الحلال الطيب تنهض آلة التكليف بمقتضى ما أودع الله، عز وجل، فيها من قوى وأسباب، فلو تركت تلك الأسباب الحافظة جملة ً، كما وقع من غلاة أهل الرياضة، لفسدت الأدمغة، واختلطت الأمزجة، وضعفت آلات الفعل، فكيف لمن ذلك وصفه: القيام بوظيفة الخلافة؟!، وقد علم أن سلامة العقل والحواس من شروط الإمامة؟!، وكلٌ إمام في رعيته.
وما كرهه جل وعلا: تنزه عنه فلا يقارف ما عفا الله، عز وجل، عنه وإن كان يكرهه: رفعا للحرج، فليس ذلك المقام وإن لم يستوجب صاحبه الذم: مقام المقربين، بل غايته أن يكون مقام المقتصدين المخلطين، وأصحاب الهمم الملوكية لا يرضون إلا بمقامات الملوك، فلكلٌ ما يلائمه، وذلك، كما تقدم في مواضع عدة، من التنويع في الهمم والأقدار والمقامات الذي تظهر به آثار الربوبية العامة، فقدرته، عز وجل، قد استوعبت كل الممكنات.
ودعاء الاستخارة مما تردده الألسنة على حد التعبد باللفظ، فليس لكثير منا منه إلا اللفظ القائم باللسان دون الحال القائم بالقلب: حال الانخلاع من علم المخلوق إلى علم الخالق، ومن قدرة المخلوق إلى قدرة الخالق، فصاحبه قد أثبت لربه ما نفاه عن نفسه نفي العموم بتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل على حد طباق السلب في: "تعلم"، و: "لا أَعلم" فذلك: آكد في إظهار الافتقار والعجز في مقابل الغنى والقدرة، فإن فقر العبد وعجزه فرع عن جهله بالمآلات، فليس له من العلم إلا ما علمه الله، عز وجل، من سنن الكون، أو أطلع عليه رسله من سنن الشرع أخبارا أو أحكاما، فليس لبشر علم مطلق بالغيب الآتي ليصح استغناؤه عن تدبير الرب العليم، جل وعلا، له، فإن تدبيره لعباده فرع عن علمه المحيط بالحال والمآل، فليس لعقل، ولو بلغ ما بلغ من الكمال: تدبير كامل يدرك المصلحة على وجه التحقيق، وإنما غايته أن
(يُتْبَعُ)
(/)
يتلمسها فيبذل سببها المشروع مع إظهار الافتقار إلى المدبر، جل وعلا، واستحضار مقام التوكل على الوكيل، تبارك وتعالى، فذلك حظه من التدبير: بذل الأسباب المشروعة: كونية كانت أو شرعية على جهة التعبد، دون علم بالمآلات فليس ذلك، كما تقدم، إلا للرب جل وعلا.
فتمام تدبير الرب، جل وعلا، من تمام علمه، ونقصان تدبير العبد من نقصان علمه، وذلك من الأوجه الفارقة بين الرب، جل وعلا، والعبد، فبه يظهر كمال الرب المطلق في مقابل نقصان العبد المطلق، وهو أمر مطرد في كل الأوصاف المشتركة بينهما من: حكمة وقدرة ........ إلخ، فللرب، جل وعلا، منها ما يليق بجلاله، فله منها أشرف أجناس المعنى الذي تدركه العقول، والكيف الذي لا تطيق دركه، فذلك مما استأثر بعلمه الرب، جل وعلا، وللعبد منها ما يليق بذاته الأرضية الناقصة.
وذيل الدعاء بقوله: "وأنت علام الغيوب": فذلك بمنزلة التعليل لما تقدم من طلب الخيرة، فهو فرع عن كونه، جل وعلا، علام الغيوب، على حد المبالغة، فذلك وصف جليل يصح تعليق الحكم عليه، ففي عالم الشهادة لا يستشار إلا الخبير، ولله المثل الأعلى، وقد عرف الجزءان على حد القصر الحقيقي، فلا يعلم الغيب على حد الإطلاق إلا الله، عز وجل، وغاية من سواه: تلمس الغيب النسبي بأسباب مشهودة، أو ادعاء علم الغيب المطلق زورا، أو الإخبار ببعض المغيبات على حد الإعجاز في معرض تقرير النبوات، على حد قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو حفص: لا يصح لأَحد الفقر حتى يكون العطاءُ أَحب إِليه من الأَخذ وليس السخاءُ أَن يعطى الواجدُ المعدمَ، وإِنما السخاءُ أَن يعطى المعدمُ الواجدَ". اهـ
ص67.
فالسخاء إنما يكون من القلة لا من السعة، ولا يعني ذلك ذم من يعطي ويبذل في السعة، وإن قصرت همته عن البذ حال القلة، فذلك مقام محمود، ولكنه لا يرقى إلى مقام السخاء، وليس كل البشر في ذلك سواء، وإنما تكون تلك الرتبة العلية لمن بذل أسباب الوصول إليها فزكى باطنه بالإخلاص والتوكل، وليس لعامة النفوس منهما كبير حظ، فهما مما يوهب ابتداء، ويكتسب إذا كان المحل قابلا، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق واصطفاء من الرب، جل وعلا، فكثير قد يريد ذلك، ولكنه لا يقدر عليه، إذ لم يصطفه الباري، عز وجل، بتهيئة المحل، فاطلع على قلبه فعلم ما فيه من الدغل، فاقتضت حكمته ألا يهب من لا يستحق ما لا يستحق، وإلى الله الشكوى من فقرنا من تلك الأوصاف الشريفة التي سبق بها أمثال الصديق، رضي الله عنه، وإن لم يكن له ما لغيره من عباد الصحابة من الصلاة والصوم، فما سبقهم إلا بشيء وقر في قلبه صيره الصديق الأعظم، فعنده من علوم وأعمال القلوب ما صيره سيد الأولياء وخير الخلق بعد الأنبياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء بمقتضى قدرته وحكمته.
وزكى ظاهره بأعمال الجوارح، فإن صلاحها من صلاح الباطن، فهو الدعوى وهي الدليل، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر، فليست رخيصة أو قبيحة لتعافها النفوس فلا تطيب بمهرها، فلا تخطب إلا بدماء الشهداء وأموال المنفقين وأوقات العلماء، فهي شريفة لا تقبل ضرة وإن لم تصرح، إذ لم يجر العرف بذلك، والمشروط عرفا كالمشروط لفظا، فكيف وقد جاء التصريح: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، فجعل الدنيا والآخرة على حد الشقاق، فكل في شق، على جهة المقارنة بين المتقابلات، على ما اطرد في آي التنزيل، فللدنيا خُطَّاب، وللآخرة خُطَّاب، وتباين الهمم فرع عن تباين الغايات.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولذلك كان الإنفاق حال الصحة وهي مظنة الغفلة والحرص، والشح خوف الفقر، كان ذلك النوع من الإنفاق: أشرف أجناس الإنفاق فأسباب الإمساك حاضرة، وأسباب البذل غائبة، ومع ذلك كافح أولئك الصناديد جيوش الوساوس النفسانية وجيوش الوسواس الشيطانية، فاستعلوا على مراداتهم الآنية، طلبا لما هو آت، فصدقوا الوعد، وامتثلوا الأمر، وبذلوا من ضيق، خوفا من اليوم العبوس القمطرير.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال بعضهم: الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إِلى شيء من الأَشياء سوى ربه تبارك وتعالى". اهـ
ص67.
فقد استعلى هو الآخر، عن حظوظه النفسانية، وتلك أعلى مراتب الزهد، فإن الاستعلاء على حظوظ الجسد قد يدركه كثير من أهل الرياضة، ولو كانوا على غير رسم التوحيد، بخلاف الاستعلاء على حظوظ النفس من الوجاهة والرياسة التي لم يسلم منها إلا آحاد المخلصين، فذلك أمر، كما تقدم مرارا، لا يجدي فيه كثير كلام أو كبير مقال، فحسب القائل الإشارة، والله حيي ستير، قد ستر من العيوب ما لو كانت له رائحة لأزكمت الأنوف.
فذلك عبد قد انقطعت حاجاته إلى غير ربه، فليس له فيما أيدي العباد من عرض، أو فيما على ألسنتهم من ثناء، ليس له في ذلك حاجة، وإنما حاجته أن يذكره الرب، جل وعلا، في الملأ الأعلى.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذى لا يَملك ولا يُملك". اهـ
ص67.
فيملك الدنيا في يده، ولا تملك هي قلبه، فليس السخاء حالة جيبية، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين عندنا في مصر، وإنما السخاء حالة نفسانية، فقد يكون العبد فقيرا لا يملك شيئا ولكنه شحيح يبخل بكل شيء!، إذ قد ملكت الدنيا قلبه وإن لم يحصل في يده من أسبابها شيء فصفقته أخسر صفقة، وحسرته على ما فاته من أسبابها مع ما جبل عليه من الحرص والشح أعظم حسرة، وفي المقابل: قد يكون غنيا يملك كل شيء في يده، ولكن قلبه قد استعصى على حظوظ النفس ووساوس الشيطان أن تأسره، فهو حر طليق، شريف الوصف، عظيم القدر، علي الهمة، نبيل الغاية، لا يرضى إلا بأشرف المقامات العلية فرعا عن تحليه بأشرف الملكات النفسانية.
وفي ذلك رد على غلاة أهل الطريق الذين حصروا الزهد في التجرد من أعراض الدنيا تجردا جعل كثيرا من المريدين: متسولين!، وليس ذلك من الزهد في شيء، إذ الزهد، كما تقدم، حالة نفسانية علية لا حالة جسدية دنية، فإهانة الجسد والحط من شأنه، بزعم الانتصار للنفس منه!، ليس من دين الرسل عليهم السلام في شيء.
ويقول رحمه الله:
"قال ذو النون: دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب". اهـ
ص67.
فإن الطاعة مع الكبر مظنة حبوط العمل، فضلا عن حصول الهلكة بوكل العبد إلى نفسه، والمعصية، وإن لم تكن مرادة شرعا، إلا أن لها من المآلات الآجلة ما يفوق مفسدة وقوعها، ولعل من أبرز تلك المآلات: كسر صولة النفس، بظهور عجزها عن مدافعة جيوش الشبهات والشهوات بقواتها، فلا غنى لها عن المدد الرباني في تلك الحرب الضروس، فيقبل العاصي على ربه إقبال المستنجد المستغيث، فأين ذلك المقام الشريف من مقام الاستعلاء بالطاعة، وليس ذلك قدحا في أهل الطاعة، فإن الطاعة مع الذل خير وأشرف من المعصية مع الذل، فالأولى مرادة شرعا، والثانية غير مرادة شرعا وإن كانت واقعة كونا. ولو لم يذنب العباد بمقتضى ما جبلوا عليه من الضعف والغفلة، لذهب الله، عز وجل، بهم، وأتى بأقوام يذنبون فيستغفرون لتظهر آثار صفات جماله من الرحمة والمغفرة فيهم، كما ظهرت آثار صفات جلاله فيهم بكتب المعصية عليهم كونا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 09 - 2009, 08:44 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل سهل بن عبد الله، (التستري وهو من أئمة الزهاد المتقدمين): متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذى هو فيه". اهـ
ص67.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالفقير يضع نصب عينيه واجب الوقت، فليس ثم وقت يهدر، فإن الرحلة طويلة، وظرف الزمان ضيق، فلا يتسع لغير المسير إلى الله، عز وجل، فهو من الواجب المضيق، الذي لا يتسع ظرفه لسواه، فالبدار البدار يا أصحاب القلوب الحساسة المتحركة، ويا أصحاب العقول المسددة، فإنه قد تعرض الحاجة، وتفسد الآلة، فما كان اليوم في الإمكان، قد يصير غدا من المحال، وما عقد اليوم من إرادة الطاعة جزما، قد يفسخ غدا بشؤم المعصية حتما، فإن من شؤمها ضعف القلب وقعوده عن الإرادات النافعة، وضعف البدن وقعوده عن الأعمال الصالحة. ولكل وقت واجبه، فهو العمر الذي لن يعيش الإنسان بعده، فليكن في عمله كله مودعا، فذلك أدعى إلى أن يكون له متقنا. ولن يتأتى فعل أي طاعة إلا بإعانة الرب، جل وعلا، فمهما أوتي الإنسان من إرادة خير، وجودة فهم وتدبير، فإن تدبيره ليس إلا أخذا بالأسباب لا إجراء لها على حد التأثير، فغايته منها، كما تقرر مرارا، التعبد ببذلها، دون الجزم بوقوع مسبَّباتها، فذلك مما ليس له أو لكائن حادث، بل هو مما اختص به الرب الخالق، جل وعلا، فإجراء الأسباب على حد الاستقلال بالتأثير بما أودع الخالق من القوى المؤثرة في الأسباب: إجراء الأسباب على هذا الحد: من أخص أوصاف الرب، جل وعلا، فهو الذي خلق القوى المؤثرة، وهو الذي خلق الإرادات الجازمة، وهو الذي خلق آلات التكليف الفاعلة، فالفعل والفاعل من خلقه، والإرادات كلها تبع لإرادته، فإذا لم يستعن المكلف على واجب وقته بمن هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة، فبمن يستعين؟!، فتدبيره للعبد أنفع للعبد من تدبيره لنفسه، وصنعه له خير من صنع نفسه لنفسه، فلسان حال السالك: اللهم دبرني فإني لا أحسن التدبير، اللهم اصنع لي فإني أخرق، فلا يستغني عن الرب الحكيم المدبر إلا من سفه نفسه، إذ ظن بها الكمال العلمي والعملي، وهو بوصف الجهل والعجز أليق، إلا أن يتداركها الرب، جل وعلا، بمقتضى فضله، فيزكيها بعلم نافع تصح به إراداتها وعمل صالح تعمر به آلاتها، فـ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)، فقد أفلح من زكى باطنه بالعلم النافع، وزكى لسانه بذكر الرب الخالق، وزكى جوارحه بالصلاة للإله الكامل، فإيمانه: عقد قلب وقول لسان وعمل جارحة، فهو على منهاج السنة سالك، وما بقي إلا أن يحط رحاله في دار القرار فيرتاح من وعثاء سفر الهجرة إلى الرحمن جل وعلا.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أَن لا يكون له رغبة، وإِن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته". اهـ
ص67.
فزاده من أسباب الكون: الكفاف، فلا إسراف ولا تقتير، فطعامه الحلال اليسير، دون تكلف فلا بشم، وشرابه زلال فلا امتلاء، ونكاحه: طيب فلا تتوق نفسه إلى خبيث، فتلك رغبته التي تسد فاقته.
وأما زاده من أسباب الشرع فهو: زاد التوسع في تناول الطيبيات، فلا يكل القلب واللسان والبدن عن التأله، على حد الرفق في الإيغال، لئلا ينقطع السالك قبل بلوغ الغاية، فذلك من تلبيس إبليس الذي رضي من ابن آدم بالجفاء أو الغلو.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى فصل في: تحقيق نعت الفقير: فقال:
"فجملة نعت الفقير حقاً أَنه المتخلِّي من الدنيا تطرفاً والمتجافي عنها تعففاً. لا يستغني بها تكثراً، ولا يستكثر منها تملكاً، وإِن كان مالكاً لها بهذا الشرط لم تضره، بل هو فقير غناه فى فقره، وغنى فقره فى غناه .. ومن نعته أَيضاً أَن يكون فقيراً من حاله وهو خروجه عن الحال تبرياً، وترك الالتفات إِليه تسلياً، وترك مساكنة الأَحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغني بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فالأسباب لا تتجاوز يده لتتسلل إلى قلبه: تسلل اللصوص إلى البيت العامر في لحظات الغفلة التي تغادر فيها جند القلب الثغور، فيسهل على العدو اختراقها، وذلك أمر لا يسلم منه بشر، إلا من كان على رسم العصمة بالوحي، فإذا انتبه الملك من غفلته سارعت الجنود إلى طرد فلول العدو الذي يخنس عند ورود مدد الذكر على القلب واللسان، فلا يدعي الفقير لنفسه حالا يرد به جيوش الشبهة والشهوة، فهو يضعف عن المكافحة، إلا أن يستمد من القوي، جل وعلا، أسباب الدفع بسلاح الذكر الماضي، والرفع بسلاح الاستغفار الماحي، فهو بريء من حوله فلا حول له إلا بالرب، جل وعلا، فهو الذي يملك ناصية عدوه فإن شاء منعه منه بمقتضى فضله، وإن شاء أرسله عليه بمقتضى عدله، فهو فقير إلى الرب، تبارك وتعالى، ليستعصم به، فقير إلى الشرع ليستمسك به، فهو الذريعة إلى الدخول في جوار الرب، جل وعلا، فلا يستطيع الشيطان إيذاءه، فإذا خرج من جوار الملك، فادعى لنفسه ما ليس لها من الأحوال الشريفة، وُكِل إليها، فاستحق الطرد والإبعاد، ففي نفسه كبر واستغناء أشبه كبر إبليس الذي أبى السجود فاستحق اللعنة والطرد، فإذا راجع واستغفر، دخل في جوار الكريم، جل وعلا، الذي لا يرد الخارج عن أمره الشرعي، وإن تكرر خروجه، فبابه مفتوح لمن أراد الانطراح بين يديه ساجدا مستغفرا، فـ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فناداهم بوصف العبودية المضاف إلى ضميره تأليفا لقلوبهم وتهدئة لخواطرهم، فـ: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)، فاليأس من روحه ذريعة إلى الكفران، ثم ذيل بالإطناب في معرض بيان مغفرته الذنوب، وإن عمت، فيغفر في دار التكليف كل ذنب: فذلك عموم لا مخصص له، بخلاف دار الجزاء فوصفها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)، فلا يغفر الله، عز وجل، الشرك إذ هو أعظم الظلم فالتجاوز عن فاعله: قدح في العدالة الإلهية، وذلك من المحال بداهة. ومع مغفرته العامة: يرحم برحمته الخاصة، فيتجاوز ابتداء، فذلك من تخلية المحل، ثم ترد التحلية بالرحمة الخاصة للمسرفين، فتقديم المغفرة تهدئة لخواطر المذنبين بدرء المفسدة بالمغفرة قبل جلب المصلحة بالرحمة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله والصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه في أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه". اهـ
ص68.
فليس له من نفسه حظ، بل مراده مراد ربه الشرعي، وليس في قلبه شعبة لغير المحبوب لذاته لكمال أوصافه، جل وعلا، فهو على حد الإخلاص والنصح، قد خلص باطنه من آفات النوايا الفاسدة، وخلص ظاهره من آفات الأعمال الحادثة على غير رسم الوحي الشارع.
وله من الفناء أصح أنواعه: فهو فان في حب الله، عز وجل، امتثالا وتصديقا، لا سفها وتخليطا، كحال أهل الحلول والاتحاد.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان حال السالك:
"هو في واد والناس في واد، خاضع متواضع سليم القلب، سلس القياد للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه". اهـ
ص68.
(يُتْبَعُ)
(/)
فله من الوحشة من غير الله، عز وجل، ما يعدل الأنس به، جل وعلا، فقد بلغ الغاية في الاستغناء عن غيره ببلوغ الغاية في الافتقار إليه وحده، فهما أمران متلازمان شرعا وعقلا، فـ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ): فذلك تمام الاستغناء عن الغير، و: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ): فذلك تمام الافتقار إلى الرب جل وعلا.
والقلب إناء: فإذا امتلأ بشراب التوحيد على حد الافتقار إلى الواحد المألوه بحق، جل وعلا، لم يعد فيه محل لأشربة التثليث والتشريك فهو عنها غني بقدر افتقاره إلى الغني تبارك وتعالى. فالاستغناء به مئنة من الاستغناء عن كل ما سواه من الأغيار، ومن ذاق حلاوة التوحيد شقت عليه مكابدة تجرع مرارة التشريك.
ويواصل ابن القيم، رحمه الله، فيقول:
"قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه". اهـ
ص68.
فقد كفى غيره مؤنته، فلا تمتد يده بالسؤال إلا إلى بارئه، ولا يوقع غيره في الحرج بتكرار السؤال، وهو مع ذلك قد احتمل أذى الناس، فذلك ابتلاء عام لم يسلم منه أحد، ولو سلم منه بشر لسلم الأنبياء عليهم السلام فهم أشد الناس احتمالا لأذى البشر، وأكفهم للأذى عنهم فـ: (لا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله، عز وجل).
فلا يعاتب إذ كثرة العتاب تفسد الود، وهي مظنة حظ النفس، إذ يرى لها حقا قد قصر المعاتَب في أدائه.
فالفقير السالك: لا يرى لنفسه حقا أو فضلا على إخوانه، على حد قول يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير"، فأحمد قد ملئ: عملا وعملا، أدبا وفضلا، فزاده ذلك تواضعا لربه، جل وعلا، على حد الذل والافتقار، وتواضعا لإخوانه: مع تمام الصيانة فلا يذل الشريف إلا لخالقه، عز وجل، وبقدر علم العبد بكمال ربه ونقصان حاله تعظم في عينه المنة الربانية، أن اختصه الله، عز وجل، بنعمة الإسلام وخلع عليه خلعة الإيمان فذلك حاله مع مولاه.
وأما حاله مع إخوانه فهو: رؤية القليل منهم كثيرا، فتعظم في عينه صنائعهم له، وتحقر فيها صنائعه لهم، فهي لهم عليه حق واجب، فذلك من كمال إكرامهم، ومع ذلك لا يسعى إلا فيما ينفعه، فهو من أبخل الناس بزمانه، فرسمه الشح في إنفاق رأس ماله، فلا يضع دنانيره ودراهمه إلا في صفقة رابحة، فاجتمع فيه الضدان على نحو عجيب: فهو كريم من وجه، بخيل من آخر، إذ الجهة منفكة، فكريم حيث يحسن الكرم ببذل المال والوقت مواساة للإخوان، وبخيل حيث يحسن البخل بالوقت بصيانته من الإهدار فيما لا ينفع من فضول المجالس والمحافل، فتلك من قطاع طريق القلب، فهي مظنة انفساخ الهمم ووهن العزائم، إذ الخلطة تشتت جيوش القلب بتعدد الأغيار، والعزلة تجمعها فيصير الجيش على قلب رجل واحد، قد اتحد مطلوبه فهو:
"مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعي الاشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادي المحبة إِذ دعاه حي على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح". اهـ
ففي نهاية السفر: يحمد السائر السرى، فلو لم تحترق نفسه ابتداء بكير الابتلاء الشرعي بالتكليف بالشرائع، وكير الابتلاء الكوني بالتقدير للمصائب، ما أشرقت انتهاء بنور ربها، وعلى قدر المشقة يكون الأجر، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 09 - 2009, 08:32 ص]ـ
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى قاعدة شريفة عظيمة القدر فقال:
"قاعدة شريفة عظيمة القدر:
حاجة العبد إِليها أَعظم من حاجته إِلى الطعام والشراب والنفس بل وإِلى الروح التي بين جنبيه.
(يُتْبَعُ)
(/)
اعلم أَن كل حي سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلا بد من أَمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذى ينتفع به ويتلذذ به، والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.
فها هنا أَربعة أَشياء: أَمر محبوب مطلوب.
والثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إِلى حصول المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها". اهـ
ص73.
فلا بد من غاية تتحرك إليها النفس الحساسة المتحركة، فإنها لا تنفك عن مطلوب مراد لذاته يلائم قدرها، فمنها نفوس لا يلائمها إلا الغايات الشريفة، فهي لا ترضى بالمآلات الدنية، فأحوالها: ابتغاء وسائل شرعية طلبا لرضا رب البرية، تبارك وتعالى، المألوه المراد لذاته، فرعا عن كمال أسمائه وصفاته، فهي على رسم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فاتقوا الله، باجتناب المساخط سلبا، وابتغوا إليه الوسيلة، بمباشرة المراضي إيجابا، فتخلية تعقبها تحلية، ولا تنفك الوسيلة عن جهاد للنفس والشيطان والعدو الإنسي الظاهر، فهي مع الشبهات العلمية والشهوات العملية في كفاح قلبي دائم، ومع العدو الظاهر في كفاح بدني تراق فيه دماء الموحدين برسم الانتصار لدين رب العالمين. وعلة مباشرة تلك الأعمال الجليلة: طلب الفلاح في الدارين: فعيش هني وموت سوي، وبعث إلى الجنان بفضل الرب العلي.
فالنفوس قد أجمعت على جلب المباهج النفسانية إيجابا، فيحصل من يحصل من الأسباب ما يراه وسيلة لذلك، فذانك: الأولان: معرفة المحبوب المراد، وتحصيل الوسيلة الجالبة له، وقد أجمعت، أيضا، على دفع الهموم بتحصيل الأسباب الدافعة لها، فجيوش الهموم تغزو كل قلب، فذلك من الابتلاء الذي لم يسلم منه أحد، ولكنها لا تظهر إلا على القلوب الضعيفة التي عطلت: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، فلم تعد العدة الإيمانية ولم ترابط على ثغور الطاعات، ولم تبعث سرايا الاستعاذة والاستغفار، لإرهاب العدو ولما يقع القتال، فالدفع أولى من الرفع، والهجوم خير وسيلة للدفاع، فذانك الآخران: معرفة المكروه، وتحصيل الوسيلة الدافعة له.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5]، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذى يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذى يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه". اهـ
ص73.
فالباري، عز وجل، هو المراد لذاته، المحبوب على حد التأله، المعبود على حد الانفراد، فهو الإله الشارع، الذي تخضع له القلوب والأبدان كونا، ولا معين لها على الخضوع الشرعي بملازمة الأمر والنهي إلا هو، فيستعين السالك بقدره الكوني الذي خضعت له كل الكائنات، على امتثال قدره الشرعي الذي قامت به الأنفس الشريفات على حد التأله رغبة ورهبة للمعبود بحق جل وعلا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك مقام: "إياك نعبد وإياك نستعين" كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فـ: "إياك نعبد": على حد التصدير بالعلة الغائية، فهي غاية كل العقلاء المسددين، والغاية وإن كانت متأخرة في الوجود الخارجي إلا أنها مقدمة في التصور الذهني فلا تنهض النفس إلى مباشرة الفعل إلا بعد تصور نتائجه، فإن لكل مقدمة نتيجة، فذلك من البرهان العقلي الصريح، فالمقدمة: بداية، والنتيجة: نهاية، فـ: إياك نعبد: نهاية المأمول، و: "إياك نستعين": السبب المبذول، فمهما أوتينا من صحة التصورات الباطنة والآلات الظاهرة فلا تحول لنا عن السكون والخمول إلى فعل المأمور، ولا قوة لنا على مباشرة سببه بعقد الهمم على حد الاستيثاق، فلا يعتريها الانفساخ، لا حول ولا قوة لنا على ذلك إلا بالله، العلي العظيم، فذلك من أوصاف جلاله، إذ قهر القلوب والأبدان بما قدر لها من الإرادات والأفعال، فمن شاء أقام قلبه على الطريقة العلمية، وأقام بدنه على الطريقة العملية، فالاستطاعة الكونية التي يكون بها الفعل وجوديا خارجيا بعد كمال تصوره عدميا ذهنيا، لا تكون إلا بمشيئة الله، عز وجل، فهي من جنس هداية التوفيق والإلهام التي يصطفي لها الرب، جل وعلا، من شاء من عباده فضلا، بمقتضى قدرته على خلق فعل الطاعة وحكمته في اختيار بعضٍٍ دون بعضٍ له، فليس البشر على حد سواء، وليست المحال كلها قابلة لنور الوحي النازل والشرع الكامل. فالقلوب أوعية، كما تقدم مرارا، منها الشريف الذي يحوي علوم الرسالات وجوامع كلم النبوات، والجوارح أوعية منها ما يحوي الأعمال الصالحة التي يتذرع بها إلى تزكية محال التكليف، فهل يخطر ببال عاقل فضلا عن مؤمن، أن تلك الروح التي تستولي عليها الأعراض النفسانية من أجناس الهموم والأحزان، وذلك البدن الذي تستولي عليه الأعراض الجسدية من أجناس الأمراض والأسقام، هل يخطر ببال أحد أن ذينك الضعيفين يقدران على القيام بمهام التكليف الإلهي دون معونة الرب القدير جل وعلا؟!، فالعاقل يدرك تمام الإدراك أنه: لا إله إلا الله على حد التأله الاختياري إلا فرعا عن: لا رب سواه على حد الاضطرار القهري، فقلوبنا بين إصبعين من أصابعه، وأبداننا لقدره الكوني خاضعة، فيجري عليها من الأعراض الكونية ما علمه الرب، جل وعلا، أزلا، فجرى به القلم في اللوح المحفوظ، فلا استقلال لنا بخلق أفعالنا وإن كان لنا فيها الاختيار الذي يصح به التكليف، ففقرنا إليه مزدوج: فقر إلى ربوبيته إقامة للقلوب والأبدان على حد الصحة فلا تعتل بما يرد عليها من الآفات النفسانية والجسدية، وفقر إلى ألوهيته، بما شرع على ألسنة رسله، عليهم السلام، فبها تحصل التزكية والصيانة لتلك الآلات التي وهبها الرب، جل وعلا، لنا، بمقتضى فضله ومنته. فهو الذي تفضل وامتن بعطايا الربوبية، وهو الذي سن وشرع أحكام الألوهية.
فـ: "إياك نعبد": متعلق ألوهيته، فهي المرادة لذاتها، إذ هي التوحيد العملي الظاهر الذي يصدر عن التوحيد العلمي الباطن، فذلك جار على ما تقدم من التصدير بالعلة الغائية، إذ العمل: غاية، والعلم: وسيلة، فليس كمال النفس في علم نظري مجرد، كما زعم من زعم من الفلاسفة اليونانيين والإسلاميين، و: "إياك نستعين": متعلق ربوبيته، فهي الوسيلة، المرادة لغيرها، فتأخرت عن الغاية، على التفصيل المتقدم، فإياك أستعين باستمداد آثار صفات قدرتك وجلالك، لأفردك بالعبادة استجلابا لآثار صفات جمالك من مغفرة ساترة، ورحمة سابغة.
و: "إياك نعبد": حق الإله، و: "إياك نستعين": مطلوب العباد، وحق الإله الواجب أشرف بداهة من مطلوب العباد، فذلك وجه آخر لتقديم العبادة على الاستعانة.
وقوله رحمه الله:
"والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه". اهـ
ص73.
فعناية الرب، جل وعلا، بعبده: عناية خلق كوني، وإلهام شرعي، على حد قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى): فأعطى كل شيء خلقه كونا ثم هداه إلى أسباب البقاء الكونية وأسباب الزكاة الشرعية.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} [الفاتحة: 5]، الثاني: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] [الشورى: 10]، الثالث: قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، الرابع: قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4]، الخامس: قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، السادس: قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب} [الرعد: 30]، السابع: قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ". اهـ
ص73، 74.
فـ: إياك أعبد ألوهية وإياك أستعين ربوبية.
و: عليك توكلت ربوبية وإليك أنيب ألوهية.
و: اعبده: ألوهية، وتوكل عليه ربوبية.
و: توكل على الحي: ربوبية، فحياته جامعة لأوصاف كماله التي تستمد منها عطايا القلوب والأبدان، وسبح بحمده: ألوهية.
و: رب المشرق والمغرب: ربوبية، و: لا إله إلا هو: ألوهية.
فله تمام الألوهية، كما تقدم مرارا، بأفعال عباده، فرعا عن تمام ربوبيته بأفعاله.
وتتبع ذلك الباب الجليل في كلام الرسل عليهم السلام أمر تفنى في تحصيله الأعمار، فبه قامت السماوات والأرض، فما أقيمت إلا بأمره الكوني: أمر الربوبية: إيجادا وعناية، وما أقيمت إلا لتوحيده بمقتضى أمره الشرعي: أمر الألوهية: استسلاما وديانة.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 09 - 2009, 02:49 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"إن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إِليهم من النظر إِليه، ولا شيء يعطيهم فى الدنيا أَحب إِليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به، وحاجتهم إِليه فى عبادتهم له وتأَلههم له كحاجتهم إِليه بل أَعظم فى خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإِن ذلك هو الغاية المقصودة التى بها سعادتهم وفوزهم، وبها ولأَجلها يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال، فمن أَعرض عن ذكر ربه فإِن له معيشة ضنكاً، ويحشره يوم القيامة أَعمى". اهـ
بتصرف يسير من: ص74.
فحاجة العباد إلى ألوهية القلوب أعظم من حاجتهم إلى ربوبية الأبدان، فغاية انقطاع أسباب بقاء الأبدان: فسادها، وذلك ضرر يزال وحرج يرفع بلا إشكال، ولكن مفسدته لا تعادل مفسدة انقطاع أسباب صلاح القلوب، فإن فساد القلوب فساد للمآل، بخلاف فساد البدن الذي غايته فساد الحال، وهو كائن لا محالة، وإن طال الزمان ن بخلاف الروح التي خلقت لتبقى، بإبقاء الله، عز وجل، لها، فمادة حياة الباقي أشرف بداهة من مادة حياة الفاني، فلا يستوي غذاء القلوب من العلوم والأعمال، وغذاء الأبدان من الزروع والثمار.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئاً ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ، ولهذا كانت: "لا إِله إِلا الله" أفضل الحسنات. وكان توحيد الإِلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأْس الأَمر، فأَما توحيد الربوبية الذى أَقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده، وإِن كان لا بد منه، وهو حجة على من أَنكر توحيد الأُلوهية". اهـ
ص74.
فتوحيد الربوبية مما أجمع العقلاء على الإقرار به، بخلاف توحيد الألوهية الذي أعرض عنه أكثر الناس مع ما وضعه الله، عز وجل، من الآيات الكونية الدالة عليه، وما أنزله من الآيات الشرعية الدالة عليه، فبراهينه: نقلية عقلية فطرية حسية: سواء أكانت نفسانية أم آفاقية.
فتوحيد الألوهية هو الدعوى، وتوحيد الربوبية هو: البرهان، فالعلم بالربوبية مما يتذرع به إلى العمل بالألوهية، فالربوبية مرادة لغيرها يتوصل بأخبارها إلى العمل بأحكام المراد لذاته: توحيد الألوهية.
قال ابن القيم رحمه الله:
"فحق الله على العباد أَن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إِذا فعلوا ذلك أَن لا يعذبهم، وأَن يكرمهم إِذا قدموا عليه، وهذا كما أَنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أَيضاً محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذى يرضى به". اهـ
ص74.
فحقه عليهم: واجب شرعي، وحقهم عليه: محض عطاء رباني، كتبه على نفسه بمقتضى عدله وحكمته، فهو على سنن الثواب على الفعل والعقاب على الترك جارٍ، وتلك سنن ربانية محكمة أقيم عليها الكون ونزل بها الشرع، على حد قوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التى عليها طعامه وشرابه فى أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها، وهذا أعظم فرح يكون". اهـ
ص74.
فيفرح بذلك مع تمام استغنائه عن عباده: أعيانا وأفعالا، فليس لأبدانهم مفتقرا على حد المشاركة، وليس لأفعالهم مفتقرا على حد المظاهرة، فليس له من خلقه: شريك أو مظاهر، بل هو الواحد بكمال ذاته القدسية التي لا ند لها، وهو الأحد بكمال صفاته العلية التي لا مثل لها، وإن وقعت الشراكة في ألفاظها ومعانيها الكلية الذهنية المجردة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 09 - 2009, 03:48 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومن عبد غيره وأَحبه - وإِن حصل له نوع من اللَّذة والمودَّة والسكون إِليه والفرح والسرور بوجوده - ففساده به ومضرته وعطبه أَعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذب فى مبدئه عذاب فى نهايته كما قال القائل:
(يُتْبَعُ)
(/)
مآرب كانت فى الشباب لأهلها ******* عذاباً فصارت فى المشيب عَذَاباً". اهـ
ص75.
فاللذة الحاصلة بحب وعبادة غير الله، عز وجل، لذة آنية من جهة القدر، وهمية من جهة الكيف، فسرعان ما تنقضي فيعقبها من الآلام النفسانية ما يذهب أثرها المخدر، فيلجأ مدمن اللذات الوهمية إلى تناول جرعات جديدة، يحصل بها لحظات أخرى من النشوة، فإذا أفاق عاودته الحسرة، فيتناول جرعة ثالثة فرابعة ............. إلخ، إلى أن يفسد قلبه، الذي شراه بثمن بخس لحظات معدودة من اللذة الموهومة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
" {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمى له ولا مثل له، فلو تأَلهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأَله الإله الحق كما أَنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أَن تستند فى وجودها إِلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أَن تستند فى بقائها وصلاحها إِلى إِلهين متساويين". اهـ
ص75.
وهذا ما اصطلح أهل العلم على تسميته بـ: دليل التمانع، فالتمانع في الربوبية الكونية ذريعة إلى التمانع في الألوهية الشرعية، فلا إلهين اثنين فرعا عن لا ربين اثنين، فوحدة الأمر الكوني مئنة من وحدة الأمر الشرعي.
فكما يفسد الكون بتعدد الآلهة لتعارض إراداتها: تفسد النفس بتعدد الآلهة التي لحكمها تخضع ولها تتأله حبا وعبادة.
فتوحيد المعبود: صلاح للدنيا والدين، فالكون بسنته الكونية قائم، والعبد بسنته الشرعية آله، فما ثم إلا آله على حد الذلة ومألوه على حد العزة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"إِذا عرف هذا فاعلم أَن حاجة العبد إِلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أَعظم من حاجة الجسد إِلى روحه والعين إِلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به". اهـ
ص75.
فذلك جار على ما تقدم من حاجة القلب إلى الشرع، وحاجة البدن إلى الكون، ومتعلق القلوب أشرف بداهة من متعلق الأبدان، فصلاح القلب: صلاح عاجل يستقيم به أمر المكلف في تحصيل أسباب الشرع فهو مادة صلاح العالم علويه وسفليه، وتناول أسباب الكون حفظا لآلات التكليف من التلف لتنهض بما كلفت به، فحفظها ليس مرادا لذاته، كما ظن أهل الترف، الذين بذلوا في تحصيل أسباب صلاحها ما شغلهم عن الغاية العظمى من خلقها، فحفظ الدين مقدم على حفظ البدن إذ هو الضرورة الأولى، بل إن ما يليه من الضرورات له تابع وفي جدوله نازل، فأولئك قد صيروا الوسيلة الفانية: غاية شريفة، وليس تناول الحلال الطيب مما يلحق النفس به ذم، بل هو مما أمر به المرسلون على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، فكلوا من الطيبيات لصيانة آلات التكليف، وعمروها بصالح الأعمال، فذلك المراد لذاته، و: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)، فلهم من المطاعم والمشارب والمناكح أطيبها، ولمن سار على طريقتهم منها ذلك، وبقدر السير على السنة الشرعية يحصل تمام الانتفاع بالسنة الكونية، إذ الشرع يزكي الروح والبدن، فيحصل لتابعه كمال اللذة والاستمتاع بعلوم الشرع النازلة، وأسباب الكون النافعة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فإِن حقيقة العبد: روحه وقلبه ولا صلاح لها إِلا بإلهها الذي لا إِله إِلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إِلا بذكره وهى كادحة إِليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إِلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإِكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك. بل ينتقل من نوع إِلى نوع ومن شخص إِلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يتعذب به ولا بد في وقت آخر، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك.
وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأَظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد فى ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له فى حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وأَلم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأَمرين ويؤثر أَرجحهما وأَنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة كما له النعمة السابغة. والمقصود أَن إِله العبد الذي لا بد له منه فى كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين فهو الإِله الحق الذي كل ما سواه باطل، والذي أَينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إِليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأَعظم من كل حاجة، ولهذا قال إِمام الحنفاء: {لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ} [الأنعام:76] والله أعلم". اهـ
ص75، 76.
فنقل فؤادك حيث شئت من الهوى: فما الحب إلا للحبيب الأكمل، وأكمل محبوب، هو الرب المعبود، جل وعلا، فهو الذي تحبب إلينا بآثار صفات جماله مع كمال استغنائه عنا، فلا ينفعه صلاحنا ولا يضره فسادنا، فعجبا لمن استبدل حب الفاني بحب الباقي، مع عظم مضرة التعلق بالفاني، فحسبك من ذلك: ذهاب النفس عليه حسرات بفقده، وذلك أمر كائن لا محالة، بخلاف من علق قلبه بالباقي الذي لا يزول، وبذلك احتج إمام الموحدين على قومه فقال: (لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ)، فلا أحب غائبا مآله الفناء، وإنما تعلق قلبي بالشهيد الذي وصفه البقاء فلا يعتريه فناء أو نقصان.
ومهما أحببت من مخلوق فإنه غائب عنك في بعض الأحوال، مفارق لك باعتبار المآل، بخلاف الآخر، عز وجل، الذي له الآخرية الأبدية المطلقة فلا يفنى ولا يبيد.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 09 - 2009, 04:09 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فصل: فى بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم:
وهذا مبنى على أصلين:
أحدهما: أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما فى إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل". اهـ
ص76.
فالإيمان هو الغذاء النافع الذي به يقوم القلب، فليس الابتلاء به محض مشيئة ربانية نافذة يصير فيها التكليف مشقة مرادة لذاتها، بل المشقة عليه طارئة، فهي غير مرادة لذاتها، فليس الابتلاء به على حد الوصف المتقدم، بل هو جار على مقتضى المشيئة والحكمة، فبالمشيئة يظهر جلال الرب، جل وعلا، وبالحكمة يظهر جماله، وهو الأليق بمقام بيان أوجه انتفاع القلب بالشرع، فله من صلاح الأحوال الباطنة وعظم اللذات النفسانية بمباشرة أسباب التزكية العلمية والعملية ما يفوق مفسدة وقوع نوع مشقة في تحصيل أسبابها، فلا ينفك أي فعل بشري، ولو كان لذة محضة، لا ينفك عن نوع مشقة.
فالعمل مراد لذاته: فهو سبب مؤثر في حصول الأجر، لا سبب كاشف لتعلق الأجر بالمأجور إذا فعل المأمور واجتنب المحظور، كما يقول منكرو الحكمة والتعليل، الذين ردوا الأمر إلى محض المشيئة دون نظر إلى الحكمة، على الضد مما وقع من نفاة القدر الذين غلوا في جانب الحكمة وجفوا في جانب القدرة.
أو وسيلة لتحصيل مراتب نفسانية علية يحصل فيها للنفس كمال اللذة العلمية على حد ما قرره الفلاسفة الذين غلوا في جانب العلم فصيروه المراد لذاته، وجفوا في حق العمل الذي يتذرع إليه بوسيلة تحصيل نافع العلوم سواء أكان ذلك: في الأصول أم في الفروع.
فالعلم، وإن كان شريفا في ذاته إلا أنه لا يتحقق به كمال المنفعة إن لم يشفع بالعمل المصدق له، فهو دعوى بينتها العمل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب فى الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذَلِكَ وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم". اهـ
ص76.
فقرة العين في امتثال أمر الشرع، وإن شق على النفس، فتجد ألمه ابتداء على حد الابتلاء والتمحيص، فإذا صبر على ألم معالجة ما لم تألف نفسه: انقلب الألم لذة، والحزن فرحا بكمال التأله إلى الرب المعبود جل وعلا.
وتأمل حال من اعتاد الإحسان إلى الناس كيف يكون انشراح صدره: لذة عاجلة في دار الابتلاء فهي على رسم عاجل البشرى، وهي طرف من اللذة الآجلة الدائمة في دار القرار، فمن وجدها في الدنيا يكاد بها يستكفي، فكيف إذا ذاق لذة القرب من الله، عز وجل، في دار النعيم السرمدي فلا نصب ولا لغوب؟!.
ويواصل، رحمه الله، في بيان تلك الحال الشريفة:
"ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأَمل إِقدام القوم على قتل آبائهم وأَبنائهم وأَحبابهم ومفارقة أَوطانهم وبذل نحورهم لأَعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم على البقاءِ وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أَمر يذوقه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللَّذة والسرور والنعيم أَعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله فى موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقة به:
فيا منكراً هذا تأَخر فإِنه ******* حرام على الخفاش أَن يبصر الشمسا
(يُتْبَعُ)
(/)
فمن كان مراده وحبه الله، وحياته فى معرفته ومحبته فى التوجه إليه وذكره، وطمأنينته به وسكونه إليه وحده عرف هذا وأقر به". اهـ
فما خط قلم، ولا خطت قدم، ولا أريق دم، ولا أتلف بدن، إلا فرعا عن محبة تحمل المحب على بذل أسباب رضا المحبوب، ولو أضر ذلك بحاله وماله، وانظر إلى حال العشاق الذين تعلقوا بصور أرضية فانية، كيف ذابت نفوسهم ونحلت أبدانهم وأنفقت أموالهم طلبا لوصالٍ قد تكون عين الهلكة فيه، لا سيما إن كان على غير حد الشرع المنزل، فكيف بمن علق قلبه بالباقي الذي لا يزول، المراد لذاته، فرعا عن كمال أوصافه، الذي يتودد إلى عباده، وهو عنهم غني، بخلاف المحبوب الأرضي الذي يترفع عن محبه وهو إليه فقير، على حد: "يتمنعن وهن الراغبات"، فلا ينفك المحبوب الأرضي عن حاجة إلى ثناء وإعجاب بل وفناء المحب أحيانا في حبه الزائل بزوال صورته التي يطرأ عليها التغير والفساد!، فحقيقته: استنزاف قوى محبه النفسانية فلا يرضى بما جبل عليه من الطغيان إلا بالاستواء على عرش قلبه ولو كان في ذلك فساد حال محبه الذي بذل له من ضروب المحبة ما بذل فلم يقنع بها لعظم افتقاره، وإن أظهر من الترفع والاستغناء ما أظهر، فهمه تحصيل حظه من محبوبه ولو قضى عليه، فهو، عند التحقيق، يريده لنفسه، يريده ليسد فاقة الـ: "أنا" التي تتغذى على ثناء البشر ومدحهم، وإن كان محض زيف، فتلك من الشهوات النفسانية التي تفوق حدتها الشهوات الجسدية فأين ذلك من حب الله، عز وجل، الذي به صلاح القلب، فهو الغني عنك، التي تودد إليك مع عظم إعراضك عنه، فهو، كما يقول ابن القيم رحمه الله في موضع تال: يريدك لنفسك، لا له كالمحبوب الأرضي الفقير، يريدك ليقربك ويسبغ عليك نعمه الشرعية بوحي يتغذى به قلبك، ونعمه الكونية بأسباب يقوم بها جسدك، يريدك له في الأولى عبدا عابدا مختارا منقادا، ليدخلك في رحمته ورضوانه في الدار الآخرة بمقتضى حكمته التي تأبى التسوية بين الأبرار والفجار، فلا يستوي العابد المختار المنقاد للأمر الشرعي مع خضوعه للأمر الكوني، لا يستوي هو والعبد المذلل الخاضع للأمر الكوني المعرض عن الأمر الشرعي.
فكيف وسع ذلك المحب الغافل! أن يفنى في محبة صورة مخلوقة، ولم يسعه أن يفنى في طاعة الخالق، عز وجل، فناء شرعيا ممدوحا على حد التأله القلبي والاستسلام البدني؟!.
والماضي والحاضر شاهد بأن أعظم صور الحرب شراسة: حروب الأديان، فشراستها فرع عن اصطلاء القلب بنار المحبة الصادرة عن عقد الإيمان الذي ينتحله، فهو يحب مألوهه ويتعصب له، ولو كان مألوها أرضيا باطلا، فشراسة الظاهر مئنة من حرارة الإيمان الباطن، ولو كان على غير رسم التوحيد الذي بعث به الأنبياء عليهم السلام.
وقلوب لا تعرف التأله الذي فطرت عليه: قلوب ميتة وإن جرت فيها دماء الحياة الحيوانية، وقلوب لم تستنر بتوحيد المرسلين: قلوب مظلمة قد صارت لكل الهوام مأوى، فتارة تنتحل ألوهية المسيح عليه السلام، وتارة تنتحل ألوهية فلان أو فلان من الأحبار أو الرهبان أو الأئمة أو الأولياء .............. إلخ فلكل مألوه باطل فرعا عن ضلاله عن المألوه بحق، تبارك وتعالى، إله الرسل عليهم السلام، فحالهم مع معبوداتهم: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وحال معبوداتهم معهم: (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 09 - 2009, 05:49 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"الأصل الثاني: كمال النعيم فى الدار الآخرة أيضا به سبحانه وتعالى: برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم وأعظم ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وفى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، فى غير ضراء مضرة، وفتنة مضلة) ". اهـ
ص77.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالأصل الثاني هو: كمال ذلك النعيم الذي أدرك المؤمنون منه طرفا في دار الابتلاء على حد قول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء)، فذاقوا أشرف اللذات: لذة العلم بالمعبود، جل وعلا، على حد إدراك المعنى دون خوض في الكيف الذي عجزت العقول عن دركه، ليصح التكليف في دار الشهادة بالإيمان بغيب مطلق قد أخبرت به الرسل عليهم السلام وقامت البينات الواضحات الموضحات على صحته، فامتاز المؤمن من الكافر، بما وافق العلم الأزلي الأول الذي سطر في اللوح المحفوظ، وظهر معلوم الرب، جل وعلا، في عباده، ليصح تعلق الثواب والعقاب به، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولن يشاء مؤمن الإيمان إلا إذا شاءه الله، عز وجل، له فضلا، ولن يشاء كافر الكفر إلا إذا شاءه الله، عز وجل، له عدلا.
وذاقوا لذة الجسد العارضة بما باشرته قوى الإحساس الظاهر من استمتاع بالمطعوم والمشروب والمنكوح. وذاقوا لذة الوجاهة الموهومة فخلعت عليهم ألقاب الفخامة والجلالة والإمارة الفانية!.
فذلك حال المكلفين في دار الفناء، فلذاتهم من جنسها وعلى وصفها: زائلة فانية إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية، فذلك ميدان تنافس المسددين من المكلفين، على حد قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، ففي ذلك النعيم السرمدي الدائم فليتنافس المتنافسون، والتنافس فيها إنما يكون بتحصيل أسبابها من نافع العلم الإلهي وصالح العمل الشرعي في دار الابتلاء. فمن نافسك في النعيم الفاني فألقه له فهو خسيس لا قدر له لتبذل له همتك على حد المنافسة، ومن نافسك في النعيم الباقي فنازعه، فهو شريف عالي الهمة، ترتفع بمنازلته الهمم، فيبذل كل متنافس جهده في تحصيل قصب السبق، فيقع من مرادات الرب، جل وعلا، الشرعية، ما تظهر به حكمته، كما يقع من أفعال الشر بمقتضى إرادته الكونية ما تظهر به قدرته، فيظهر من ذلك من كمال الرب، جل وعلا، ما يستوجب وقوع الغاية العظمى من إيجاد هذا الكون المشهود: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فما خلقتهم إلا ليظهر فيهم وصف الكمال الرباني بالاستغناء عنهم، وتمام الإنعام عليهم بأسباب الكون والشرع، فيؤديهم ذلك إلى صرف أجناس التأله له على حد الانفراد والكمال، فكمال ألوهيتهم فرع عن كمال ربوبيته جل وعلا.
وأما حالهم في دار البقاء فحال أخرى:
حال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ): فلهم كمال اللذة العلمية: أشرف أجناس اللذات برؤيته عز وجل وسماع كلامه وقربه ورضوانه، فـ: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فالتنكير للتقليل، فأقل رضوان منه أكبر من كل النعيم الأخروي المحسوس، وإن كان ذلك النعيم شريفا، فليس في دار النعيم لذة وضيعة. فمقابل نقصان لذات الدنيا يجد المؤمن في الآخرة كمالها: فلذة العلم قد تحققت برؤية أعظم وأشرف معلوم: الرب، جل وعلا، فوجد العبد من آثار أوصاف جماله ما لا يحده عقل، ولا يتصوره خيال، فكل ما ورد بالخاطر من صور الكمال، فكمال الرب، جل وعلا، يخلافه، إذ قد بلغ، تبارك وتعالى، من الكمال: المنتهى، وذلك مما يتصور علما لا كيفا، فالعقل يحده على جهة التفكر في المعنى لا التحقق، فيتفكر العبد في كمال ذاته وصفاته، جل وعلا، دون طمع في تحقق ذلك تحقق البصر لكيف المبصر، والسمع لكيف المسموع، فذلك، كما تقدم، مما لا طاقة لمخلوق في دار الابتلاء به، بل لا طاقة لهم على إدراك ذلك على جهة الإحاطة في دار النعيم، على حد قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وفي المقابل:
فاحتجابه عن أعدائه، فلا يرونه أبدا، أو لا يرونه رؤية التنعم، أو لا يراه الكافرون ابتداء، ويراه المؤمنون والمنافقون أولا، ثم يحجب المنافقون، على خلاف بين أهل العلم، فذلك الاحتجاب أشد أنواع العذاب ألما.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى ثبوت الأصلين السابقين في القرآن والسنة فقال:
"وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أهل السنة والجماعة، وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس والأمثال تارة". اهـ
ص77.
فإن حياة القلوب في دار التكليف بأغذية العلم النافع والعمل الصالح، مما تواتر في نصوص الوحيين: الكتاب والسنة، فالقلب لا يطمئن إلا بذكر خالقه، فهو مادة قراره وسكونه: سكون الخاشع الحي، الذي سكن مع اضطرامه بأجناس العلوم والأعمال، فليس سكونه سكون الخاوي، وإنما سكونه سكون الحاوي لكل خير، فيتحرك لكل إرادة صالحة مع تمام سكونه واطمئنانه بالرب، جل وعلا، فليس سكونه موتا، ولا حركته طيشا، بل حاله:
من لي بمثل سيرك المدلل ******* تمشي رويدا وتجيء في الأول
وذلك من آثار رحمة ربك الذي أفاض على القلوب من بركات اتباع الشرع ما جعل القليل كثيرا، فيربيه الرب، جل وعلا، لعبده كما يربي أحدكم فلوه، حتى يصير مثل جبل أحد، وهو من تمام نعمة الرب، جل وعلا، على البرية أن أرسل فيهم المرسلين وأجرى على ألسنتهم التنزيل فعلم الحق بدليله، فاكتملت للعباد القوى العلمية، وامتن الله، عز وجل، على من شاء من عباده بالقوة العملية، فليس كل من عرف الحق بدليله مسددا، بل المسدد من أيده الله، عز وجل، بالاستطاعة الكونية فصدر العمل منه مصدقا للعلم: تصديق البينة للدعوى.
وكذلك ما يلقاه العبد في دار النعيم من أجناس اللذات المتقدمة الذكر فهو أيضا مما تواتر في نصوص الوحيين، بل هو أحد أجناس الخبر، فخبر التنزيل إما: خبر عن الله، عز وجل، ذاتا وأسماء وصفات، فهو أشرف الأخبار، أو خبر عن دار القرار: نعيما وعذابا، أو خبر عن الأمم السابقة فهو غيب منقض، أو خبر عن الملاحم القادمة فهو غيب آت لما يقع في دار الابتلاء.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 09 - 2009, 03:12 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومما يوضح ذلك ويزيده تقريراً أَن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأَسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إِليه بالمعاصى مع فقره إِليه، فإِذا مسه الله بضر فلا كاشف له إِلا هو، وإِذا أَصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ} [يونس: 107]، و: {مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] ". اهـ
ص77، 78.
فالنفع والضر بيد الله، عز وجل، فذلك من متعلقات كلماته التكوينيات النافذة، فمن شاء إيصال النفع إليه من نعمة فلا راد لفضله، ومن شاء إيصال الضر إليه من نقمة بمقتضى عدله فلا حاجب له، فـ: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ)، فالعموم في الآية محفوظ: فأي ضر شاء الله، عز وجل، إيصاله إلى العبد، فلا كاشف له: فذلك عموم آخر دخله التخصيص بالاستثناء المتصل: (إلا هو)، فهو، وحده، الذي يكشف الضر، على حد قوله تعالى: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، فالاستفهام: إنكاري إبطالي إذ لا يجيب دعاء المضطر فيكشف السوء عنه إلا الله، عز وجل، فلا يكشف الضر مخلوق، فذلك من أخص أوصاف ربوبية الخالق عز وجل. ولذلك استحق تمام التأله بشتى أجناس الطاعات، فذيلت الآية باستفهام إنكاري إبطالي آخر: فلا إله إلا هو، فرعا عن لا رب إلا هو.
(يُتْبَعُ)
(/)
و: (مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ): فالسياق على حد المقابلة استيفاء لأوجه القسمة العقلية إمعانا في بيان طلاقة القدرة الإلهية فهو الممسك المرسل، فيمسك الرحمة عمن شاء عدلا، ويرسلها على من شاء فضلا، فذلك من إرساله الكوني النافذ على حد قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، و: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).
وإرساله وإمساكه ليس لمجرد الفعل بلا حكمة، على حد من نفى حكمة الباري، عز وجل، بدعوى أن أفعاله لا تعلل بالأغراض، وهو لفظ مجمل إذ الغرض يحتمل: إثبات الحكم الباهرة في حق الخالق عز وجل وحصول المصالح العظيمة في حق المخلوق، فذلك مما تصح بل تجب نسبته إلى الله، عز وجل، فهو مما جاء به الرسل عليهم السلام، فوصف الحكمة من أوصاف الجمال التي تواتر التنزيل بإثباتها، ويحتمل: الحاجة كما يقع في عالم الشهادة فيفعل المكلف الفعل لتحصيل حاجة يفتقر إليها، فذلك مما لا تصح نسبته إلى الله، عز وجل، لتمام غناه عن خلقه، بل هو المغني لهم، فوصف الغنى، كما تقدم في أكثر من موضع، لازم في نفسه متعد إلى غيره، فهو الخالق للأسباب بقدرته المجري لها بحكمته، فوصفه بالحاجة إلى سبب أو غرض: قدح في كمال وصفه بالغنى، بل هو نعت له بضده من الفقر الذي يناقض وصف الربوبية، فالرب المهيمن بقدره النافذ لا يكون إلا غنيا عن مربوبيه، فلن يبلغوا نفعه بسبب شرعي من طاعة أو سبب كوني من مال أو جاه فينفعوه، ولن يبلغوا ضره بمعصية فيضروه، على حد ما جاء في حديث أبي ذر، رضي الله عنه، مرفوعا، وفيه: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)، ففعله فعل: العزيز ذي القدرة النافذة، الحكيم ذي الحكمة البالغة، فالأول من جلاله، والثاني من جماله، وكلاهما مئنة من كماله.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين". اهـ
ص78.
فليس العبد إلا سببا، فمن علق قلبه بالسبب على حد التوكل عليه: وكل إليه، ومن وكله الله، عز وجل، إلى غيره، فصار مستنده خلقا يفتقر هو الآخر إلى ما يقيمه من أسباب الكون: من علق قلبه بالسبب على الحد المذكور: فهو هالك بفساد إراداته الباطنة وأفعاله الظاهرة، إذ لا ينفك من هذا وصفه عن نوع افتقار باطن وظاهر لمن وكل إليه من الخلق.
وأما التوكل على الله، عز وجل، فهو باب آخر، لم يطرقه إلا آحاد المصطفين من عباد الله المخلصين الذين طهروا قلوبهم من مادة التعلق بغير الله، عز وجل، مادة فساد الحال والمآل، فاستئثار غير الله، عز وجل، بشعبة من القلب، شغل للمحل بما يفسده، فلا يجتمع مع ما ينفعه من التوكل على الله، عز وجل، على حد الإفراد، ولذلك ابتلي الخليل عليه السلام بالبلاء العظيم بإضجاع الذبيح عليه السلام وإمرار السكين على نحره استخراجا لمادة التعلق بالولد من قلبه فمرتبة الخلة لا تقبل الشراكة، بخلاف مرتبة المحبة، ولذلك أحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصديق، رضي الله عنه، ولم يتخذه خليلا إذ المحل مشغول بخلة أغنى الشركاء عن الشرك، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولى الناس بوصف التوحيد فلا يتصور وقوع الشرك من الأنبياء عليهم السلام، وإن افترضه المجادل في معرض جدال الخصم افتراضا عقليا محضا، على حد قوله تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فذلك من قياس الأولى، كما تقرر في أكثر من موضع، فإذا كان الشرك محبطا لأعمال الأنبياء، عليهم السلام، إن افترض صدوره منهم، فهو محبط لعمل من دونهم من باب أولى، فالنص في معرض البيان العام لمقادير الأعمال على حد
(يُتْبَعُ)
(/)
: من فعل كذا فله كذا وعدا إن كان الفعل ممدوحا أو عليه كذا إن كان الفعل مذموما.
يقول ابن أبي العز، رحمه الله، في معرض بيان درجة الخلة:
"ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه به بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثارا لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة". اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"والقرآن مملوء من ذكر حاجة العبيد إِلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إِحسانه". اهـ
ص78.
فتلك الحاجة الاضطرارية في كل شأن سواء تعلق بالأديان أو الأبدان مما يستوجب تمام التوكل عليه، إذ لا يقضي حاجات العباد كونا أو شرعا إلا هو، فصلاح الدين بأمره الشرعي، فهو الذي أنزل الكتب بعلوم الوحي النافعة وأعماله الصالحة وأحكامه القاطعة، وسياساته العادلة، وأخلاقه الزاكية، فلم يدع لمحدث في الديانة: علما أو عملا، سياسة أو ذوقا، لم يدع له حجة، إذ قد اكتملت فصول الديانة، بنزول آخر الرسالات بأكمل العلوم والأعمال على حد قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فهي للعالمين كافة، فلا حاجة لهم بعدها إلى رسالة أخرى، ولا أرب لهم بعدها في قول محدث يستحسنه عقل فلان أو فلان من المبتدعة في الإلهيات أو المتشرعة في الحكميات الذين نازعوا رب العالمين وصف ربوبية الحكم، وليس لهم من وصف الحكمة شيء، فحكمه، جل وعلا، قد صدر من حكمة بالغة، وعلم بالحال والمآل، وحكم غيره قد صدر من عقول يطرأ عليها ما يطرأ من عوارض التغير والفساد، فضلا عن قصور علمها فلا ترى إلا المصلحة الحالية، وإن أدركت شيئا من المصالح التالية فعلى جهة التوقع لا التحقق، فضلا عن عجزها عن إدراك ما بعد الموت من أحكام دار البرزخ ودار البقاء. فذلك مما استأثر الرب، جل وعلا، بعلمه. فعلمه وحكمته على حد الكمال، وعلم وحكمة من سواه على حد النقصان، فلزم من له أدنى مسكة من عقل أن يرضى به حكما في كل أمر، فهو الحكم العدل الذي يفتقر الجاهل إلى علمه، ويفتقر العاجز إلى مدده، فلا حول ولا قوة إلا به، لتصح عقود قلوبنا الباطنة بصحيح علوم الرسالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله لتصح أعمال جوارجنا الظاهرة بصحيح أعمالها.
وصلاح الدنيا بأمره الكوني إيجادا للأعيان وإمدادا لها بأسباب صلاحها.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهكذا من نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أَو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إِليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإِيمان به والإِنابة إِليه وما هو أَحب إِليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أَولا حتى يطلبه ويشتاق إِليه فعرفه إِياه بما أَقامه له من الأَسباب التى أَوصلته إِليه". اهـ
ص78.
فتلك من منح الابتلاء: إذ يستخرج الله، عز وجل، به من منح التأله والمناجاة ما تطيب به القلوب، فتلتذ بذوق: يا حي قيوم، فرجاؤها قد علق بمن له كمال أوصاف الذات فله من الحياة أكمل وصف، ومن له كمال أوصاف الأفعال فله من القيومية أكمل وصف، فيا حي يا قيوم: اكشف السوء، فلا يكشفه سواك، وفرج الكرب فلا يفرجه إلا أنت، فلك وحدك وصف الكشف والتفريج، فهو من صفات أفعالك الحكيمات، ومن صفات جمالك فبها تستنزل الرحمات، على حد التوسل والدعاء، فلك الحمد على قضيت، ولك الشكر على ما أوليت من منح في ثنايا محنك، فاصطفيت من اصطفيت من آحاد المخلصين لينال تلك الرتبة السنية: رتبة الرضا عن رب البرية، والصبر على ابتلاءاته الكونية.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 09 - 2009, 05:24 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومما يوضح ذلك ويقويه أَن فى تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة". اهـ
ص78.يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومما يوضح ذلك ويقويه أَن فى تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة". اهـ
ص78.
فمن أفرط في تناول الأسباب فأخذ منها قدرا زائدا على الحاجة التي يستقيم بها أمره ويعتدل بها سيره إلى الله، عز وجل، فأفرط في مطعوم أو منكوح أو ........... إلخ، فصيره مرادا لذاته، فاشتغل بالسبب عن مجريه، وبالخلق عن خالقه، فلم يجعل حبه في الله، عز وجل، بل جعله معه على حد التشريك والتنديد، فذلك مما يضره إذ تستولي الأسباب على شعب من قلبه، فتتشتت قواه، وتنتشر كتائبه وسراياه على حد الخلل والاضطراب، فيسهل على العدو إفناؤها، وبقدر تعدد الشواغل والصوارف عن الله، عز وجل، يكون فساد الباطن فيظهر أثر ذلك على أفعال الظاهر، فالنوايا مدخولة، والخشوع مفقود، وحظ النفس مراد مطلوب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء أَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75].
وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته". اهـ
ص78، 79.
فمن أحب غير الله: عذب به، وإن حصل له نوع تنعم عارض به، فلا يعدل ذلك ألم التعلق بغير الله، عز وجل، على حد الاشتغال بالمخلوق الفاني عن الخالق الباقي.
ولذلك وجب التحرز من حظ النفس في باب: الحب، ولو كان خالصا ناصحا في ذات الباري، عز وجل، فإن النوايا قلب، فقد تتبدل فيطرأ عليها ما يفسدها، فيحدث للنفس منها حظ تغضب إذا منعته بعد أن كانت خالصة لا يغضب صاحبها لنفسه، وإنما ينظر بعين الاحتساب إذا بدر من المحبوب في الله، جفاء أو تقصير، على حد قول يَحْيَى بْن مُعَاذ رحمه الله: حَقِيقَة الْحُبّ فِي اللَّه أَنْ لَا يَزِيد بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُص بِالْجَفَاءِ.
فمن يطيق هذا الشرط؟!.
وقوله: "ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته": أمر مطرد منعكس، فكمال الصلاح دينا ودنيا في تعليق القلب بالخالق، عز وجل، فذلك الطرد، وعظم فسادهما في تعليق القلب بالمخلوق فذلك العكس.
فوصف الرب جل وعلا:
(يُتْبَعُ)
(/)
"ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك". اهـ
ص79.
فأوصاف كماله، تبارك وتعالى، ذاتية لا يتصور انفكاكها عنه، إذ طروء النقص: سلب لوصف الكمال لزوما وذلك: أمر محال لذاته، ولذلك لا تتعلق أوصاف الذات بالمشيئة، فهي أزلية لا يحدث منها شيء، بخلاف صفات الأفعال التي يحدث الله، عز وجل، من آحادها ما شاء كيف شاء متى شاء، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". فأنواعها على ذات الحد من الأولية، وآحادها حادثة متعلقة بالمشيئة الربانية.
ومن كان ذلك وصفه فلا يخشى فقرا بعد غنى لبيخل كما يبخل أغنياء البشر خوفا من طروء وصف الفقر بعد الغنى، فهو، جل وعلا، الغني في ذاته، المغني لغيره، فليس له حاجة إليك ليتودد إليك بإحسانه على حد التزلف طمعا في غرض طارئ، كما يقع من البشر الذين يتوددون إلى بعضهم تحصيلا لحظوظ أنفسهم، ولو كانت حظوظا شريفة، كمن يحسن إلى غيره طمعا في الثواب الأخروي، فذلك، عند التحقيق، حظ نفس يفتقر إليه، فإحسانه ليس لذات من أحسن إليه، بل هو لنفسه، على حد قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، فلا يراد لذاته إلا الرب، جل وعلا، وكل من سواه فإنما يراد لغيره تحصيلا لغرض شريف أو دنيء.
وأما وصف العبد:
"وأَما العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم لا يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة". اهـ
ص79.
فكل محبة لغير الله، عز وجل، لا بد فيها من حظ للنفس، فلن يحبك أحد لذاتك إلا إذا اتخذك معبودا!، وإنما يحبك بقدر ما يصله من نفعك سواء أكان في دينه أم دنياه، فالإحسان إلى الناس ذريعة إلى استئلاف قلوبهم.
ولكل همته: فمن علت همته وعظمت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه الديني، فيحب الأنبياء عليهم السلام لما وصله منهم من خبر الوحي الصادق وحكمه العادل، ويحب العالِم لما يستفيده من علمه من جليل المسائل ودقيقها، ويحب العابد لما يجده في قربه من أنس وانشراح صدر.
ومن سفلت همته وصغرت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه العاجل من شهوة فرج أو بطن أو مال أو جاه موهوم يزول بزوال الرياسة الدنيوية، بخلاف الرياسة الدينية فهي ولاية لا عزل عنها كما أثر عن أبي الوليد الباجي رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
فمن أفرط في تناول الأسباب فأخذ منها قدرا زائدا على الحاجة التي يستقيم بها أمره ويعتدل بها سيره إلى الله، عز وجل، فأفرط في مطعوم أو منكوح أو ........... إلخ، فصيره مرادا لذاته، فاشتغل بالسبب عن مجريه، وبالخلق عن خالقه، فلم يجعل حبه في الله، عز وجل، بل جعله معه على حد التشريك والتنديد، فذلك مما يضره إذ تستولي الأسباب على شعب من قلبه، فتتشتت قواه، وتنتشر كتائبه وسراياه على حد الخلل والاضطراب، فيسهل على العدو إفناؤها، وبقدر تعدد الشواغل والصوارف عن الله، عز وجل، يكون فساد الباطن فيظهر أثر ذلك على أفعال الظاهر، فالنوايا مدخولة، والخشوع مفقود، وحظ النفس مراد مطلوب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء أَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75].
وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته". اهـ
ص78، 79.
فمن أحب غير الله: عذب به، وإن حصل له نوع تنعم عارض به، فلا يعدل ذلك ألم التعلق بغير الله، عز وجل، على حد الاشتغال بالمخلوق الفاني عن الخالق الباقي.
ولذلك وجب التحرز من حظ النفس في باب: الحب، ولو كان خالصا ناصحا في ذات الباري، عز وجل، فإن النوايا قلب، فقد تتبدل فيطرأ عليها ما يفسدها، فيحدث للنفس منها حظ تغضب إذا منعته بعد أن كانت خالصة لا يغضب صاحبها لنفسه، وإنما ينظر بعين الاحتساب إذا بدر من المحبوب في الله، جفاء أو تقصير، على حد قول يَحْيَى بْن مُعَاذ رحمه الله: حَقِيقَة الْحُبّ فِي اللَّه أَنْ لَا يَزِيد بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُص بِالْجَفَاءِ.
فمن يطيق هذا الشرط؟!.
وقوله: "ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته": أمر مطرد منعكس، فكمال الصلاح دينا ودنيا في تعليق القلب بالخالق، عز وجل، فذلك الطرد، وعظم فسادهما في تعليق القلب بالمخلوق فذلك العكس.
فوصف الرب جل وعلا:
"ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك". اهـ
ص79.
فأوصاف كماله، تبارك وتعالى، ذاتية لا يتصور انفكاكها عنه، إذ طروء النقص: سلب لوصف الكمال لزوما وذلك: أمر محال لذاته، ولذلك لا تتعلق أوصاف الذات بالمشيئة، فهي أزلية لا يحدث منها شيء، بخلاف صفات الأفعال التي يحدث الله، عز وجل، من آحادها ما شاء كيف شاء متى شاء، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". فأنواعها على ذات الحد من الأولية، وآحادها حادثة متعلقة بالمشيئة الربانية.
ومن كان ذلك وصفه فلا يخشى فقرا بعد غنى لبيخل كما يبخل أغنياء البشر خوفا من طروء وصف الفقر بعد الغنى، فهو، جل وعلا، الغني في ذاته، المغني لغيره، فليس له حاجة إليك ليتودد إليك بإحسانه على حد التزلف طمعا في غرض طارئ، كما يقع من البشر الذين يتوددون إلى بعضهم تحصيلا لحظوظ أنفسهم، ولو كانت حظوظا شريفة، كمن يحسن إلى غيره طمعا في الثواب الأخروي، فذلك، عند التحقيق، حظ نفس يفتقر إليه، فإحسانه ليس لذات من أحسن إليه، بل هو لنفسه، على حد قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، فلا يراد لذاته إلا الرب، جل وعلا، وكل من سواه فإنما يراد لغيره تحصيلا لغرض شريف أو دنيء.
وأما وصف العبد:
"وأَما العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم لا يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة". اهـ
ص79.
فكل محبة لغير الله، عز وجل، لا بد فيها من حظ للنفس، فلن يحبك أحد لذاتك إلا إذا اتخذك معبودا!، وإنما يحبك بقدر ما يصله من نفعك سواء أكان في دينه أم دنياه، فالإحسان إلى الناس ذريعة إلى استئلاف قلوبهم.
ولكل همته: فمن علت همته وعظمت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه الديني، فيحب الأنبياء عليهم السلام لما وصله منهم من خبر الوحي الصادق وحكمه العادل، ويحب العالِم لما يستفيده من علمه من جليل المسائل ودقيقها، ويحب العابد لما يجده في قربه من أنس وانشراح صدر.
ومن سفلت همته وصغرت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه العاجل من شهوة فرج أو بطن أو مال أو جاه موهوم يزول بزوال الرياسة الدنيوية، بخلاف الرياسة الدينية فهي ولاية لا عزل عنها كما أثر عن أبي الوليد الباجي رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 10 - 2009, 06:14 م]ـ
وأما الرب جل وعلا فهو كما يقول ابن القيم رحمه الله:
"يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظته تمنعك أَن ترجو المخلوق أَو تطلب منه منفعته لك فإِنه لا يريد ذلك ألبتة بالقصد الأَول، بل إِنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أَو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأَمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْساً من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم وفتحاً لباب عبودية الله وحده".
ص80.
فاليأس من المخلوقين: باب واسع لإخلاص العبودية لله، عز وجل، دخل منه من دخل من آحاد المخلصين، وبقدر الياس من غير الله، عز وجل، يكون الطمع فيه، وبقدر الاستغناء عنهم، يكون الاستغناء به، وبقدر تحرر النفس من قيد البرية يكون التحرر بقيد التكاليف الشرعية، فالحر على التحقيق: من ألزم نفسه قيد العبودية، فذلك أشرف قيد، وبه تتحرر النفس من كل أسر، فتتحرر من أسر الشبهات التي تكبل العقول المعزولة عن علوم الوحي النافعة، وتتحرر من أسر الشهوات التي تكبل النفوس المعزولة عن أعمال الوحي الصالحة، فبقدر توثق قيد التكليف من معصم المكلف يكون التحرر من قيد العبودية لسوى الله، عز وجل، تعلقا أو تألها.
وفي مقام الإطناب احتراسا:
"فما أَعظم حظ من عرف هذه المسأَلة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإِحسان إِليهم واحتمال أَذاهم، بل أَحسن إِليهم لله لا لرجائهم فكما لا تخافهم فلا ترجوهم، ومما يبين ذلك أَن غالب الخلق يطلبون إِدراك حاجتهم بك وإِن كان ذلك ضرراً عليك، فإِن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إِذا أَدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك". اهـ
ص80
فلا يعني ذلك حجب النفع عن الإخوان، فذلك من البخل الذي يمقته الله، عز وجل، وإنما الكمال في هذا الشأن: بذل النفع لمن أراده رجاء رضا الخالق، عز وجل، لا رضا المخلوق، فلا يملك نفعا ولا ضرا ليرجى أو يخشى لذاته، وإنما يرجى لذاته على حد الرغبة، ويخشى لذاته على حد الرهبة: الرب القدير الحكيم جل وعلا، فله من صفات الجمال ما يصح تعليق الرجاء بها، وله من صفات الجلال ما يصح تعليق الخشية بها، فلا ترج سواه، ولا تخش سواه، واجعل عملك على رسم قوله تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، فيعمل حذرا من باب دفع المفسدة ابتداء، ورجاء من باب جلب المصلحة بعد أمن المفسدة، فيخلي المحل من أوصاف السوء التي تستوجب العقاب المحذور، ويحليه بعد ذلك بأجناس الطاعات التي تستوجب الثواب المأمول، تصديقا للوعد الإلهي، فوجوبه من إيجاب الرب، جل وعلا، له على نفسه، على حد قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، لا لكونه حقا مفروضا للعباد على ربهم عز وجل.
وفي معرض الذم لمن باع حق الرب، جل وعلا، من نفسه، بأطماع غيره منه، فكل يريد نصيبه منك، ولا أحد يرشدك إلى نصيب الرب، جل وعلا منك، فصار همهم إصلاح دنياهم ولو بإفساد آخرتك، في معرض الذم لمن هذا حاله يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهذا إِذا تدبره العاقل علم أَنه عداوة فى صورة صداقة، وأَنه لا أَعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أَضلاعك فى نفعهم ومصالحهم، بل لو أَبيح لهم أَكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسراً ومعبراً لهم إِلى أَوطارهم وأَنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأَنت لا تعلم، وربما علمت. وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين، وكم فَوَّتُوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إِلى منازلك الأُولى ودارك التي دعيت إِليها وقالوا: نحن أَحبابك وخدمك، وشيعتك وأَعوانك، والساعون فى مصالحك. وكذبوا والله إِنهم لأَعداءٌ فى صورة أَولياءَ وحرب فى صورة مسالمين، وقطاع طريق فى صورة أَعوان. فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذى يغيث ولا يغاث:
(يُتْبَعُ)
(/)
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ". اهـ
ص80.
ومع كل ما تبذله من نفسك لهم: لا يرضون عنك، إذ ذلك غاية لا تدرك، بخلاف إرضاء الرب، جل وعلا، فهو أولى بصرف الجهد والوقت في تحصيله، إذ مراد الرب منك واحد يجمع قواك الظاهرة والباطنة بخلاف مرادات البشر منك فإنها تتنوع بتنوع أغراضهم وأهوائهم، فتتشتت قواك الظاهرة والباطنة إرضاء لهم، وما أنت بقادر وماهم براضين ولو بذلت لكل ما يحب!، ومراد الرب منك صلاح لك، فليس له فيك حاجة فهو الغني ذاتا وصفاتا، بل هو المغني لك ولغيرك فعلا متعديا إلى الغير على حد التفضل والامتنان، بخلاف مرادهم منك فإنه صلاح لهم ولو بإفساد حالك، إذ حاجتهم إلى الأسباب، وأنت منها، ذاتية أصيلة، فأيهما أولى ببذل الجهد وإنفاق الوقت: من إرضاؤه ممكن مع كونه عين الصلاح لك أو من إرضاؤه محال مع كونه غالبا عين الإفساد لك؟!.
يقول الشافعي رحمه الله:
"رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه. فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور". اهـ
ومع ذلك لا تكسل عن إيصال النفع إليهم فذلك من مراضي الرب، جل وعلا، بل نوافل النفع المتعدي خير من النوافل اللازمة لذات المتنفل، فطلب العلم خير من صلاة النافلة، إذ نفعه متعد إلى الغير، ونفع نافلة الصلاة لازم، ولذلك قال أهل العلم بجواز صرف زكاة المال إلى من تفرغ لطلب العلم ولم يجوزوا ذلك لمن تفرغ للعبادة، إذ الأول ممن يرجى نفعه لعموم الأمة بخلاف الثاني الذي لا يتعدى نفعه خصوص نفسه.
فعاملهم في الله محتسبا طالبا لمدحه الباقي، ولا تعامل الله فيهم مرائيا متصنعا طالبا لمدحهم الفاني، فإن لم توفق إلى نية صالحة في إسداء المعروف إليهم، فادخر جهدك لئلا تجتمع عليك خسارة الدين بفساد النية وخسارة الدنيا بإنفاق الجهد والمال والوقت بلا طائل، فإنهم بمدحهم لن ينفعوك، بل أكثرهم لفضلك سينكرون!. واستحضار النية في تلك المضائق من أعسر أعمال القلوب إلا على من يسره الله، عز وجل، عليه، فوفقه إلى استحضار نية صالحة في كل أحواله.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأَرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم فى الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم فى الله، وأَمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأَحيى حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذي يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحاً، بشرط أَن يصبر على أَذاهم ويتخذه مغنماً لا مغرماً وربحاً لا خسراناً.
ومما يوضح الأَمر أَن الخلق لا يقدر أَحد منهم أَن يدفع عنك مضرة ألبتة إِلا بإِذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو فى الحقيقة الذى لا يأْتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، قال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَليقَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يضروك لم يضروكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ"، وإِذا كانت هذه حال الخليقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع. والله أعلم". اهـ
ص81.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك كلام قد استوفى قائله، رحمه الله، المراد، فلا مزيد بيان عليه، وهو كسائر الأحوال القلبية: أمر لا يقاس بالحس الظاهر، وإنما يدرك بالحس الباطن، وتفاوت القلوب فيه أمر لا يدركه إلا الباري عز وجل. فالكلام: إشارة للحال لا مباشرة له، فالمباشرة لا تكون باللسان، فلو كانت تلك الأحوال مما يحصل بقول اللسان ما كفت الألسنة عن ترديدها، ولله في قلوب عباده شئون، فقلوب قد بلغت الغاية في التوحيد والتجريد، وقلوب قد هوت في دركات التشريك والتنديد.
وقلوب تتردد بين المنزلتين، فهي في بعض أحوالها موحدة قد جردت جيوش القلب لتحقيق مراد الرب، جل وعلا، وفي بعض أحوالها مشركة قد جردت ذات الجيوش لتحصيل مراد النفس من حظ عاجل، أو مراد الغير على حد: إرضاء من لا يرضى ولو بذلت له نفسك!، فإرضاؤه، كما تقدم من كلام الشافعي رحمه الله، غير مقدرو وغير مأمور به، إذ هو من المحال الذي لا يقع التكليف به.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 10 - 2009, 03:18 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وجماع هذا أَنك إِذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغى فغيرك أَولى أَن لا يكون عالماً بمصلحتك ولا قادراً عليها ولا مريداً لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك ولا لتعززَّ بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإِنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إِليك واستغناه بحيث إِذا أَخرجه أَثر ذلك فى غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاءَ والإِحسان أَعظم مما تحب أَنت الأَخذ والانتفاع بما سأَلته". اهـ
ص81، 82.
فالعبد مفتقر إلى تدبير الرب العليم الحكيم، جل وعلا، أبدا، فذلك من صور فقره الذاتي المتصل، فلا غنى له عن تدبير رب العالمين الشرعي فبه صلاح قلبه، ولا غنى له عن تدبير رب العالمين الكوني فبه صلاح بدنه، فهو غير عالم بمصالحه، ولذلك بعثت إليه الرسل، عليهم السلام، فتلك أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، إذ حصل ببيانهم: صلاح الدين بتقرير التوحيد، دين المرسلين الجامع، مادة صلاح الروح اللطيف، وصلاح الدنيا فقد أرشدوا إلى كل طيب وحذروا من كل خبيث، على حد قوله تعالى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، فأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر: صلاح لأديانهم، وتحليل الطيب وتحريم الخبيث: صلاح لأبدانهم، فافتقارهم الشرعي والكوني لا ينقطع، ومن عظم رحمة الله، عز وجل، بعباده، أن الشيء إذا عظمت حاجة البشر إليه: توفرت أسبابه على حد تندفع به تلك الحاجة، فلما كانت حاجتهم إلى النبوات أعظم حاجة إذ بها تحصل النجاة في دار البقاء، تواترت النبوات فيهم، وأقيمت الدلائل القاطعات على صحتها، فجنسها ثابت في الأمم ثبوتا متواترا يفيد علما ضروريا بصحة دعوى من ادعاها من الرسل، عليهم السلام، فأخبارهم أصدق الأخبار، وأحكامهم أعدل الأحكام، فالناظر فيها بعين الإنصاف يعلم يقينا أنها مادة صلاح البشر: روحا وبدنا، وتواطؤها على تقرير التوحيد، أصل كل صلاح ظاهر أو باطن، وأصول الأحكام والأخلاق: مئنة من وحدة المصدر، وذلك مما يؤكد صحتها إذ اطراد الأقوال وعدم وقوع التعارض بينها مئنة من صحتها في نفس الأمر، وأما آحادها فهي مما يثبت بالنظر في دعوى النبوة: شخصا ونوعا، فبالمسلك الشخصي يعرف صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نفسه، وبالمسلك النوعي يعرف صدق الرسالة في نفسها، ولما كانت حاجتهم إلى أسباب الكون من مطعوم ومشروب عظيمة، تيسرت أسباب الحلال الطيب على وجه تندفع به حاجة الأبدان، وإن وقع التضييق فيها في بعض الأعصار أو الأمصار، فذلك عارض مستثنى من الأصل المطرد، به تظهر أوصاف ربوبية الجلال، بتنوع الأقدار ابتلاء أو عقوبة، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
(يُتْبَعُ)
(/)
فإذا كان هذا حال العبد في نفسه، مع كونه أحرص الناس على استيفاء مصالحه، فكيف يرجو نفعا أو تدبيرا من سواه من المربوبين الذين يشاركونه وصف الفقر الذاتي والجهل بالحكم الشرعية والمآلات الكونية، فلا استقلال لعقولهم بدرك ذلك، فلزم مما تقدم: وجوب الرجوع إلى الباري، عز وجل، على حد الافتقار التام فلا شرع إلا ما أنزله، ولا كون إلا ما قدره.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فإِن الله سبحانه فيما قضى قضى به أَن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوِّقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك ثم سلبك النعمة فإِنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإِنما أَنت المسبب فى سلبها عنك، فإِن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]، فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته:
إِذا كُنْتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ******* فَإِنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَم
فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت في الحقيقة الذي بالغت فى عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك، كما قيل:
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ******* مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسهِ". اهـ
ص82.
فإنهم بشؤم معاصيهم قد حرموا: الرزق الشرعي فقصرت أفهامهم عن درك مرامي الشرع وحكمه، والرزق الكوني، فضاقت المعايش، وفسدت أسبابها، كما هو الحال في عصرنا الحاضر، فالناس بين: ضيق يحجب عنهم الأسباب، أو: سعة مع فساد في الأسباب بما طرأ عليها من التغير، على حد قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، ففساد أديانهم قد طال شؤمه أبدانهم، وفساد ذممهم قد أدخل على ديار الإسلام من أسباب الفساد الشرعية والكونية ما أدخل، ففسدت الأخلاق بما تروج له وسائل الإعلام من بضاعة هابطة، واعتلت الأجساد بما يروج في الأسواق من أغذية فاسدة!، وذلك من شؤم مخالفة أمر النبوات الذي به يصلح أمر الدين والدنيا فيستقيم أمر الفرد في نفسه، وتستقيم أمور الجماعة، فلا صلاح لدين أو دنيا، لفرد أو جماعة، إلا بالاحتكام إلى شرائع النبوة الخاتمة في كل دقيق وجليل، فأحكامها قد استوفت عموم أحوال المكلفين أفرادا كانوا أو جماعات.
فحال من حجب نعم الرب، عز وجل، عنه، بما اقترفت يداه من مخالفة أمره الشرعي، حاله: عجب، إليه أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:
"ومن العجب أَن هذا شأْنك مع نفسك وأَنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أَقداره وتعاتبها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك وفرطت فى حظك، وعجز رأَيك عن معرفة أَسباب سعادتك وإِرادتها، ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال، فأَنت المعني بقول القائل:
وعاجز الرأَى مضياع لفرصته ******* حتى إِذا فات أَمر عاتب القدرا
ولو شعرت برأْيك، وعلمت من أَين دهيت ومن أَين أُصبت، لأَمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأَطفأ الهوى مصابيح العلم والإِيمان منه فأَعرضت عمن هو أَصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إِحسان دقيق أَو جليل وصل إِليك منه فإِذا شكوته إِلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين- وقد رأَى رجلاً يشكو إِلى آخر ما أَصابه ونزل به - فقال: يا هذا تشكو من يرحمك، إِلى من لا يرحمك.
وإِذا أَتَتْكَ مصيبة فاصبر ******* لها صبر الكريم فإِنه بك أَرحم
وإِذا شكوت إِلى ابن آدم إِنما ******* تشكو الرحيم إِلى الذي لا يرحم
(يُتْبَعُ)
(/)
وإِذا علم العبد حقيقة الأَمر، وعرف من أَين أُتي ومن أَي الطرق أُغير على سرحه ومن أَي ثغرة سرق متاعه وسلب استحى من نفسه - إِن لم يستح من الله - أَن يشكو أَحداً من خلقه أَو يتظلمهم أَو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ} [النساء: 79] ". اهـ
ص82، 83.
وقد اقتضت حكمته عز وجل: ألا تستجلب نعمه الكونية إلا بالتزام طريقته الشرعية، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ فَإِنّ مَا عِنْدَ اللّهِ لَا يُنَالُ إلّا بِطَاعَتِهِ".
فذلك من تمام ابتلائه لعباده بتوارد النعم الكونية عليهم: استدراجا أو تكريما، فلكل سنته، لئلا يقال: فلان من البشر قد أوتي من أسباب الكون ما أوتي مع كونه من أشد الناس إعراضا عن أسباب الشرع، فإن السعة في حقه مع إقامته على المعصية: عرض طارئ لا دوام له، فهو محض ابتلاء يعقبه الأخذ الرباني، فسرعان ما يبتلى بما يفسد عليه حاله: تذكيرا له عله ينزجر، أو استئصالا له إن سبق في علم الرب، جل وعلا، عدم انكفافه، كحال كثير من الطواغيت الذين قُصِموا بكلمات الرب العزيز الغالب.
وأما من حجب عنه حظه الكوني لمخالفة الأمر الشرعي، فإنه لو دقق النظر أحسن حالا من ذلك المفتون، إذ له من انقطاع أسباب الكون نذير يحمله على الرجوع إلى الرب، جل وعلا، على حد ما يقع لكثير من المبتلين في أنفسهم أو أموالهم.
فالشاهد أن حكمته، جل وعلا، قد اقتضت تعليق جريان أسباب الكون بالسعة على التزام أسباب الشرع، على حد ما تقدم من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ومع ذلك ليحذر الممتثل لأمر الشرع أن يكون من أهل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فإن حصول النعمة الكونية نافلة بعد فريضة حصول رضا الرب، جل وعلا، مراد كل العقلاء من أتباع الديانات، بغض النظر عن المحق من المبطل، فالغاية واحدة وإن فسدت وسائل كثير من المريدين الذين ساروا على غير نهج النبوة في:
العلوم الإلهية، فوقعوا في ضروب من البدع العلمية بلغت حد الإشراك والكفران في بعض الأحيان.
أو: الأعمال الشرعية، فوقعوا في ضروب من البدع العملية بلغت حد إبطال العمل، إذ: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 10 - 2009, 03:06 م]ـ
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى حكاية طرف من أدلة القدر، إذ به يحتج من وقع في المعصية، وذلك من الإجمال بمكان، إذ الاحتجاج بالقدر يصح في مواضع ولا يصح في مواضع أخرى، فـ:
إذا احتج به عاص ولما يتب، فذلك من الفساد بمكان، إذ هو من قبيل قول المشركية: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)، فالقدر لا يحتج به في المعائب، إذ ذلك فتح لباب الإباحية التي وقع فيها غلاة الجبرية ممن سووا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فجعلوا كل الكائنات: مرادة للرب، جل وعلا، شرعا، وإن كانت شرا محضا في نفسها، لمجرد أنه أراد وقوعها كونا، فإن الشر ليس إلى الله،
(يُتْبَعُ)
(/)
عز وجل، شرعا، وليس إليه وصفا، بل الشر كائن في المقدور الكائن لا القدر المكوِّن، فقدر الله، عز وجل، كله خير، فما كان من شر في خلقه فهو جزئي باعتبار من قام به لا من أراد وقوعه بمقتضى حكمته الباهرة استخراجا لحكم ومصالح أعظم من مفسدة وقوع ذلك الشر الجزئي، وإن بدا عظيما باعتبار الحال، فهو بالنظر إلى مآله، لمن رزق فهما وتدبرا وإحسان ظن بالرب، جل وعلا، بالنظر إلى ذلك المآل: خير، ولكن ليس ذلك بنائل إلا من نظر في مبدأ الأمر: نظر الصابر الراضي لا الجازع الساخط.
وإذا احتج به عاص قد تاب، فذلك من الصحة بمكان، وأسوته في ذلك آدم عليه السلام الذي حج الكليم عليه السلام، فاحتج بالكتاب الأول على المصيبة الكونية التي جرت عليه وعلى ذريته بإخراجه من الجنة، فـ: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)، فاحتجاجه إنما كان على المصيبة لا المعصية فقد تاب منها وأناب، فـ: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فزال جرمها وبقي أثرها ابتلاء لآدم عليه السلام وذريته بمعالجة أسباب الابتلاء في دار التكليف بشتى أجناسه: فمنه الابتلاء الكوني بالمصائب التي لا يملك العبد لها دفعا، ومنه الابتلاء الشرعي بالتكليف: تصديقا وحكما، علما وعملا، أمرا ونهيا، فالصبر على المأمور امتثالا، والمحظور اجتنابا من أشد أنواع الصبر على النفوس التي فطرت على الغفلة والنسيان، فهي ضعيفة بحكم الجبلة إلا أن تستمد أسباب القوة من الرب، جل وعلا، الذي يقيم من أقام فضلا ويزيغ من أزاغ عدلا.
وإذا احتج به من نزلت به مصيبة كونية يملك لها ردا بمعالجة الأسباب الرافعة لها بمقتضى ما أودع في الأسباب الكونية من قوى دافعة للمكاره رافعة للنوازل، إذا احتج به من ذلك وصفه فقعد عن مباشرة السبب عجزا وتواكلا متذرعا بالقدر إلى إبطال مباشرة السبب على حد التعبد، فذلك، أيضا، من الفساد بمكان، إذ فيه تعطيل لما سنه الله، عز وجل، في كونه، بمقتضى قدرته النافذة التي خلق بها القوى المؤثرة في الأسباب، وحكمته البالغة التي سير بها تلك القوى لتنتج معلولاتها على حد يظهر به إتقانه، جل وعلا، في إبداع كونه إيجادا وإجرائه وفق ما سبق في الكتاب الأول، فذلك من القضاء المبرم فلا مبدل لكلمات ربك الكونية النافذة الجارية على سنن الحكمة علم ذلك من علم ممن أوتي بصيرة فنظر في المقدورات: نظر التدبر، وجهله من جهل ممن نظر بادي الرأي فلم يدرك من المقدور الكوني إلا الظاهر الحالي.
وإذا احتج به من نزلت به مصيبة كونية لا يملك لها ردا فلا سبب شرعي أو كوني قد وضع لرفعها، فهي مما لا يملك المكلف إلا الصبر عليه احتسابا، أو الرضا به إن بلغ مقام الرضا، فاحتجاجه صحيح، فقدر الله وما شاء فعل كونا، وإن لم يكن على مراد العبد، فجماع الأمر: أن يكون العبد على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي حيث يستطيع، وأن يكون على مراده الكوني حيث لا يستطيع، فهو إما قادر على مباشرة السبب على جهة التعبد بما أودع فيه من الاستطاعة الشرعية الموجبة للتكليف التي يناط بها مقام: "إياك نعبد" على حد الابتلاء الشرعي بالتكليف، وما وفق إليه من الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل في عالم الشهادة فتلك الاستطاعة التي يناط بها مقام: "إياك نستعين".
فبقدرك الكوني النافذ نستعين على امتثال قدرك الشرعي الحاكم.
ومما ذكره ابن القيم، رحمه الله، في هذا الشأن الجليل الذي زلت فيه أفهام كثير من الأذكياء ذوي القوى العلمية وكثير من الأولياء ذوي القوى العملية، مما ذكره في هذا الشأن من السنن والآثار:
قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من قلب إِلا وهو بين إِصبعين من أَصابع الرحمن، إِن شاءَ أَن يقيمه أَقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه".
فذلك عموم لا مخصص له جاء التوكيد عليه بدخول: "من" التي تفيد التنصيص على العموم، فضلا عن ورود النكرة: "قلب" في سياق النفي فذلك في حد ذاته: نص في العموم، فجاء التوكيد بـ: "من" إمعانا في تقرير قطعيته وجزمه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وبعد تقرير العموم على حد الإجمال، جاء التفصيل المستوفي لأجناس القلوب على حد يحاكي التوشيح، لو أجري النص مجرى: القلوب ضربان: ضرب أقامه الله، عز وجل، وضرب أزاغه.
فإذا شاء الرب، جل وعلا، بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة إقامة القلب على حد الشرع، فذلك من فضله، ولا راد لفضله فهو الذي يختص به من شاء من عباده، بسبق علمه بصلاح قلوبهم، فهي محال قابلة لنور الوحي الهادي. فذلك الوجه الأول من القسمة العقلية.
وإذا شاء إزاغة القلب عن الشرع، فذلك من عدله، ولا راد لكلماته الكونية النافذة في عباده: هداية إو إضلالا، فهو الذي يحجب عمن شاء من عباده نور الوحي الهادي الذي امتن به على الصنف الأول لسبق علمه، أيضا، ولكن بفساد قلوبهم فهي محال غير قابلة للوحي الزكي المزكي لما يرد عليه من المحال المصطفاة لا المحال المستثناة.
وكل ذلك جار، كما تقدم مرارا، على سنن القدرة النافذة والحكمة الباهرة، فليس الإيتاء والمنع بقدرة قاهرة لا حكمة فيها، بل هي قدرة بوصف الحكمة مشفوعة، فلا يعطى الهدى، على حد الإلهام، إلا من يستحقه لما اختصه به من مزيد فضل ومنة أن هيأ قلبه لقبول أسباب الهداية علما والانتفاع بها عملا، ولا يمنعه، إلا من لا يستحقه لجريان عدله فيه فلم يختصه بما اختص به الأول من الفضل والمنة، وإن كان الكل على حد سواء في حصول البيان ببعث الرسل عليهم السلام، فهداية الإرشاد في حقهم كائنة، وذلك مما يقطع حجة الكفار والعصاة بسبق قدر الله، عز وجل، فيهم.
وجاء بالمصدر المؤول: "أن يقيمه" و: "أن يزيغه": إذ هو أبلغ في تقرير قدرته، عز وجل، على القلوب، هداية أو إضلالا، فضلا عن تمحض مدخول: "أن": للاستقبال فهو مئنة من تجدد ذلك الوصف وحدوثه على سبيل الدوام، وذلك، أيضا، مما يزيد المعنى تقريرا، فـ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، فمن جملة ذلك: إقامته، عز وجل، لقلوب على حد الطاعة، وإزاغته لأخرى على حد الغواية، وما ظلم، جل وعلا، أحدا فـ: (مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، إذ الكل خلقه، فأكرم منهم من أكرم بالهداية، وحجبها عمن أبعد من أهل الغواية، فليس لكليهما عليه حق سابق، فقد دل الكل على سبيل الهداية ثم تفضل بمعونة بعض دون بعض ممن حكم عليهم بالخذلان. فلو صح أن لهم عنده حقا مستقرا لقيل بأنه قد ظلم من أضله، تعالى الملك عز وجل عن وصف الظلم علوا كبيرا، ولا يظلم إلا المفتقر إلى ما بيد المظلوم، والرب، جل وعلا، هو الغني على حد الإطلاق، فلا يفتقر إلى سبب لينتزعه من أيدي عباده، بل هو الممتن عليهم بسائر أسباب الكون المقيمة لأبدانهم وأسباب الشرع المقيمة لقلوبهم. فذلك أصل جليل في رد شبه من احتج بالقدر على الشرع، أو قاس أفعال الرب، جل وعلا، الصادرة عن كمال أوصافه على أفعال العباد، فجعل ذلك من الظلم، وإنما يصح ذلك في عالم الشهادة، إذ لا يتصور فيه أن يحمل أحد أحدا على فعل ثم يجازيه عليه على حد التأثير المباشر في إيقاعه، وليس كل ما صح في عالم الشهادة يصح في عالم الغيب، فقياس الغائب على الشاهد: قياس فاسد لوجود الفارق، وأي فارق أعظم من الفارق بين ذات الرب، جل وعلا، وأسمائه وصفاته وأفعاله والقدر منها من جهة، وذات وأسماء وصفات وأفعال المخلوقين من جهة أخرى، فالأولى صادرة عن كمال أوصاف الذات القدسية من القدرة والحكمة والعلم والغنى، والثانية صادرة عن ضد ذلك مما جبل عليه البشر من أوصاف النقص الذاتي، فكيف يقاس من كماله ذاتي على حد الإطلاق على من نقصانه ذاتي على حد الإطلاق؟!.
ومما ذكره أيضا:
قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اللَّهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".
فصدر الدعاء بالتوسل بوصف من أوصاف أفعال الرب، جل وعلا، الدالة على جلاله، فتقليب القلوب: هداية وإضلالا، مئنة من كمال قهره، جل وعلا، لعباده بأوصاف جلاله القاهرة، وفي مقام التضرع يكون الثناء على المدعو بأوصاف القدرة والقهر أليق، فيا من ذلك وصفه من الجلال فالقلوب خاضعة لأمره الكوني: ثبت القلوب على أمرك الشرعي بمقتضى فضلك ومنتك فذلك من أوصاف الجمال التي أنت لها أهل، فمن غيرك يمتن على العباد بعطايا الكون والشرع؟! فتوسلي إليك بوصف جلالك لينالني أثر من آثار صفات جمالك.
وقال بعض السلف: "مثل القلب مثل الريشة فى أَرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن".
فذلك أيضا، جار على ما تقدم من نفاذ قدرته الكونية القاهرة في عباده، فالقلوب زائغة إلا أن يقيمها، ضالة إلا أن يهديها، تتقلب في فلوات الابتلاء بمقتضى كلماته الكونيات النافذات، فلا غنى لها عن امتثال مقتضى كلماته الشرعيات الحاكمات لتعتصم بها من جيوش الشبهة والشهوة المسلطة عليها بالقدر الكوني تحقيقا لمعنى الابتلاء الرباني، إذ بمدافعة تلك الجيوش الجرارة تستخرج عبوديات القلب والبدن على حد يحصل به مراد الرب، جل وعلا، الشرعي من عباده، مراد: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
والتشبيه جار مجرى التشبيه المرسل المفصل إذ ذكر وجه الشبه: "تقلبها الرياح ظهراً لبطن" وذلك أبلغ في بيان مراد المتكلم، إذ الإطناب في البيان مظنة ارتفاع الإشكال أو الالتباس في الفهم.
وهو من جهة أخرى: تشبيه تمثيلي، إذ انتزع صورة مركبة لريشة في أرض فلاة تقلبها الريح، لصورة قلب بيد مقلبه، جل وعلا، فهو أيضا، يتقلب في أقداره الكونية وأقداره الشرعية.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 10 - 2009, 05:33 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وروى عن عبد العزيز ابن أبى حازم عن أَبيه عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عَزَّ وجَلَّ: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24]، وغلام جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى والله يا رسول الله، إِن عليها لأَقفالها، ولا يفتحها إِلا الذي أَقفلها. فلما ولَى عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال: (لم يقل ذلك إِلا من عقل) ". اهـ
ص84.
فـ: "أم" للإضراب الانتقالي إذ انتقل من المعلول إلى علته فبعد التوبيخ بالاستفهام الإنكاري، جاء التذييل بالعلة إذ على القلوب أقفال بمقتضى كلمات الرب، جل وعلا، الكونية، التي حجب بها الهدى عن تلك القلوب المقفلة بمقتضى عدله وحكمته، ولو شاء لامتن عليها بالاستقامة بمقتضى فضله، ولكنه، جل وعلا، اختص من شاء من عباده بمزيد فضل إذ قد علم أزلا، كما تقدم مرارا، أن ذلك المحل صالح بحكم الجبلة لقبول آثار الرسالة، فلو بذر تلك البذرة الطيبة في أرض خبيثة لكان سفها يتنزه عنه آحاد الحكماء إذ بذل المعروف لغير أهله: مئنة من الغفلة ونقصان العلم والحكمة، وذلك منتف في حق الباري، عز وجل، بداهة، إذ هو نقص مطلق يتنزه عنه البشر فتنزيه رب البشر، جل وعلا، عنه، ثابت من باب أولى، فالقلوب مقفلة حتى يشاء الله، عز وجل، فتحها، فليس سمع البيان والإرشاد بنافع حتى يشفع بسمع التدبر والامتثال، فالأول: وظيفة الرسل عليهم السلام ومن بعدهم من ورثة علومهم على حد البلاغ فذلك متعلق كلمات الرب، جل وعلا، الشرعيات الهاديات: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، والثاني: فعل الرب، جل وعلا، في القلوب هداية وإضلالا فذلك متعلق كلماته الكونيات النافذات: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا).
فلا يهدي إلى الطريق إلا الرسل عليهم السلام، ولا يهدي إلى السير على الطريق والثبات عليه إلا رب القلوب وجبارها تبارك وتعالى.
&&&&&
وقال طاووس: "أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر". اهـ
ص84.
فذلك من العموم الذي لا مخصص له، فكل شيء، طاعة أو معصية، خير أو شر، كيس أو عجز، غنى أو فقر، حياة أو موت، حركة أو سكنة، كل شيء يقع في هذا الكون إنما صدر عن قدر نافذ وقضاء مبرم بمقتضى كلمات الرب، جل وعلا، الكونيات، ولو علمنا ذلك على حد اليقين، وعملت قلوبنا به عمل المؤمنين، ما طعن أحد بلسان مقاله أو حاله في حكمة الرب، جل وعلا، في تنويع مقاديره، إظهارا لأوصاف كماله، واستصلاحا لعباده بما ظاهره الفساد العاجل، وما باطنه لمن صبر واحتسب: الصلاح الآجل في دار التكليف فسرعان ما ينقضي الهم فيتبعه الفرح فتلك سنة كونية جارية لا مبدل لها إذ لا مبدل لكلمات ربك الكونيات النافذة، وكم ابتلي بشر فطال ابتلاؤهم حتى ظنوا الهلكة، فأنقذهم الرب، جل وعلا، من الغرق في بحور الضيق بطوق نجاة السعة، فجاءهم المدد بالتفريج وارتفع عنهم داعي التيئيس، وإذا أراد ربك الابتلاء عدلا، فلا راد لقضاءه، وإذا أراد المعافاة فضلا فلا راد لقضائه، فلا تهمل واجب وقتك من شكر على نعم تترى لا تنقطع حتى في ثنايا الابتلاءات فذلك الأصل المطرد، ولا تهمل واجب وقتك من حمد على ابتلاء تمحص به القلوب وتطهر به النفوس فتظهر البراءة من كل حول وقوة إلا حول وقوة الرب المعبود، جل وعلا، فتخضع وتذل له برسم العبودية الاختيارية، فتلك من أعظم منح الابتلاء، وهو مع ذلك عارض لا يدوم، فطالما أنعم الرب، جل وعلا، وقلما ابتلى إذ هو بضعف قلوبنا وأبداننا أعلم، ومن كان ذلك حاله من الضعف الباطن والظاهر، فلا يكلن الفضل إلى نفسه على حد الاستقلال، ولا يركنن إلى همة سرعان ما تنفسخ عند أول ضائقة إن لم يكتب الله،
(يُتْبَعُ)
(/)
عز وجل، لصاحبها الثبات، فإن الخذلان، كل الخذلان، هو الركون إلى النفس اعتمادا، والعدول عن التبري من حولها إلى حول موجِدها، جل وعلا، فهو الذي يملك وحده إقامتها حال الشدة فضلا، وهو الذي يملك وحده إزاغتها عدلا، فانصراف القلب عنه حال السعة تلهيا، وانصرافه عنه حال الضيق جزعا وتسخطا، ذلك الانصراف: من الأدواء المهلكة المؤذنة بفساد الدين والدنيا، فلا يطيب له عيش في دنيا، ولا يكون له نصيب في آخرة، فأي خسران أعظم من ذلك. وسؤال الله، عز وجل، السلامة والعافية في الأديان والأبدان، كما تقدم مرارا، أصل جليل في هذا الباب، فإن دفع النوازل بالمشروع من الدعاء وصالح العمل أولى من رفعها بعد وقوعها فقد يعجز الإنسان عن ذلك، والعاقل لا يعدل بالسلامة ابتداء شيئا.
&&&&&
وقال أيوب رحمه الله: "أَدركت الناس وما كلامهم إِلا: إِن قضى، إِن قدر". اهـ
فقوله: "أدركت الناس": له حكم الوقف على من أدركهم، وهم الصحابة، رضي الله عنهم، فهو حكاية لإجماعهم، إذ ذلك من الأصول التي لم يقع فيها خلاف بين صدر الأمة، كسائر أصول الدين العلمية والعملية، فإنه لم يقع بينهم، ولله الحمد والمنة، خلاف في أصل كلي جامع: علمي ومنه أصل القدر: الأصل السادس من أصول الإيمان، أو عملي كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة.
فتنزل: "أل" في: "الناس": منزلة العهد الذهني إذا أراد قائلها: أناسا بأعينهم هم: الصحابة، رضي الله عنهم، أعلم فئام هذه الأمة بمباني الوحي ومعانيه، فلإجماعهم من المنزلة العالية في الدين ما ليس لإجماع غيرهم، إذ هم أقرب إلى الصواب، بل هم على الصواب يقينا باعتبار مجموعهم، في كل مسائل الدين فلا يخرج الحق عن مجموعهم وإن لم يعم جميعهم، فليست أقوال آحادهم على حد العصمة، مهما بلغوا من الرتب العلية في خير أديان البرية، فلا معصوم بعد النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما تثبت العصمة لمجموعهم، وهذا، وإن كان قدرا مشتركا بين كل طباق الأمة إلا أن لهم منه، كما تقدم، القدح المعلى.
ولو قيل بأن "أل": للعهد الذهني إذا أريد بها: أهل العلم، إذ هم الناس، عند التحقيق، على حد:
هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
لو قيل هذا، لكان له وجه، فيريد بذلك حكاية إجماع أهل العلم الذين أدركهم من الصحابة والتابعين.
وعلى كل التقديرات: فإن حكاية الإجماع على إثبات القدر مئنة من قدم أصول الحق، فليس حادثا لا أصل له كسائر المقالات التي حدثت بعد انقضاء القرن الأول، ومقالة القدر على وجه الخصوص: من المقالات التي حدثت أواخر عهد الصحابة، كما في حديث يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن مع ابن عمر، رضي الله عنهما، فقد كان ذلك في النصف الثاني من المائة الأولى بعد الهجرة، فأيوب، رحمه الله، ممن أدرك الأمر الأول القديم، إذ كانت الأمة مجمعة على إثبات القدر على حد التكليف لا الجبر المسقط للتكليف، ثم أدرك الأمر التالي الحادث على يد معبد الجهني ومن بعده غيلان الدمشقي، فحمل معبد تلك المقالة عن نصراني يدعى: "سسويه" أو: "سنسويه"، أو: "سوسن" كما ذكر ذلك الخلال، رحمه الله، في "السنة" بإسناده من قول علي بن سعيد النسوي:
"أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، وسسلوا رجل من الأساورة". اهـ
"السنة"، (3/ 526).
وهو عند الآجري، رحمه الله، في "الشريعة" من قول عبد العزيز العطار، رحمه الله، بلفظ:
"لا أعلم يومئذ أحدا يتكلم في القدر غير معبد، ورجل من الأساورة يقال له شيشنويه".
وعند اللالكائي، رحمه الله، في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" من قول الأوزاعي رحمه الله:
"أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد". اهـ
وغيلان هو: غيلان الدمشقي الذي ناظره عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، فأظهر التوبة ثم عاد إلى الخوض في مسألة القدر زمن الخليفة هشام بن عبد الملك فصلبه الأخير.
وعنده، أيضا، من قول يونس بن عبيد رحمه الله:
"أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة"
(يُتْبَعُ)
(/)
وكل ذلك على ما اطرد من كون أصول المقالات الإسلامية الحادثة: أجنبية لا تمت للوحي المنزل بصلة فهي إما فلسفات ومقالات يونانية أو فارسية أو هندية، وإما مقالات نسبت إلى الكتاب الأول، وهي، أيضا، عند التحقيق، مما أدخل في صلب الرسالات السماوية التي طالتها يد التبديل والتحريف، فالمقالة منتحلة من الأمم الأولى التي لم تعرف النبوة، انتحلها فئام من أهل الكتاب الأول الذين غيروا وبدلوا: هوى أو جهلا، إذ لا يقع الابتداع في الدين من راسخ في العلم، كما ذكر ذلك الشاطبي رحمه الله في "الاعتصام"، فذلك أصل مطرد في حال كل محدث في الدين النازل ما ليس منه، فمقالة نفي القدر وثيقة الصلة بدين النصارى بعد وقوع التبديل والتحريف فيه، حتى وسمها من وسمها من السلف بـ: "قول النصارى"، فهي علامة على دينهم المبدل.
على حد قول أصحاب مسلم بن يسار رحمه الله:
كان مسلم يقعد إلى هذه السارية، فقال: إن معبدا يقول بقول النصارى: يعني معبدا الجهني.
"السنة"، (3/ 528).
وقد كان ظهورها على حد جحد العلم الأول، فلسان مقالهم: لا قدر إنما الأمر أنف!، وأولئك ممن حكم السلف بكفرهم قولا واحدا، كما أثر عن الإمام أحمد، رحمه الله، في حد القدري:
القدري الذي يقول: "إن الله لم يعلم الشيء حتى يكون، هذا كافر".
"السنة"، (3/ 529).
وقد انقرض هذا القول كما أشار إلى ذلك القرطبي، شارح مسلم، رحمه الله.
ثم ظهرت مقالة: إثبات العلم وإنكار الكتابة والمشيئة والخلق، فلم يكتب الله، عز وجل، على العباد أعمالهم، إذ ذلك جبر لهم، بزعم نفاة الكتابة الكونية، الذين وصفوا الله، عز وجل، بالعجز فرار من وصفه بالظلم، وليس ذلك بلازم إذ الكتابة ليست على جهة الفعل أو القهر، وإنما هي على جهة خلق فعل العباد، فالرب، جل وعلا، خالق أعيانهم وأفعالهم، وهم الفاعلون لأفعالهم بإرادة مختارة لا على حد القهر، وإن كانت مخلوقة للرب، جل وعلا، فلا تخرج عن دائرة إرادته الكونية العامة.
وظهر من أنكر عموم خلق الله، عز وجل، الشر، بمقتضى إرادته الكونية النافذة، فالخير منه خلقا، والشر من العبد خلقا، فقولهم شعبة من قول المجوس الثنوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، فللخير خالق، وللشر خالق، بل قد زادوا عليهم فأثبتوا خالقِين للشر بعدد مرتكبيه، وذلك من الفساد بمكان، إذ جهة الخلق عن جهة الفعل منفكة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فالرب، جل وعلا، هو الخالق لعموم الأعيان والأفعال، والعباد هم الفاعلون للخير الذي ينسب إليه شرعا وكونا إذ هو كائن بمقتضى قدره الكوني على حد قدره الشرعي، وللشر الذي ينسب إليه كونا لا شرعا، فهو خالقه بمقتضى قدره الكوني على حد الضد من قدره الشرعي، فلا ينسب إليه تأدبا، فهو خالقه كونا وإن لم يرده شرعا فبه، كما تقدم مرارا، استخرجت من الحكم الربانية والمصالح البشرية ما يفوق مفسده وقوعه في عالم الشهادة.
ولم يكفر السلف أولئك، كما روى الخلال، رحمه الله من طريق: أبي بكر المروذي، قال: سألت أبا عبد الله عن القدري، فلم يكفره إذا أقر بالعلم.
"السنة"، (3/ 532).
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ. وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ
(يُتْبَعُ)
(/)
فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ. وَقَالَ أَحْمَد: لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ "مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ" مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ". اهـ
وذلك من رحمة أهل العلم الذين فرقوا بين الداعي إلى البدعة، والمنتحل لها على حد الاعتقاد الباطن دون أن يظهره أو يدعو إليه أو ينافح عنه، كما يقع من رءوس البدع علمية كانت أو عملية.
وأيوب، رحمه الله، من أهل البصرة، الذين ظهرت فيهم مقالة القدر ابتداء، فجاء قوله: شاهد عيان على حدوث تلك المقالة الردية، وقد كانت البصرة قريبة عهد بمقالات المجوس من أهل فارس، فضلا عما نال عبادها من أثر الطرائق الرياضية للأمم السابقة، فظهر الغلو في الزهد والعبادة فكانت تلك بذرة التصوف الذي نما وتشعب بعد ذلك فبلغ من المروق ما بلغ، وإن كان كثير من أهل الطريق، لا سيما المتقدمين، على رسم السنة علما وعملا.
وذلك مما يؤكد على ما تقدم من الأصول الأجنبية للمقالات الحادثة، فلم تظهر تلك المقالات في أرض الحجاز، إذ هي معدن الرسالة ومأرز السنة، بخلاف البصرة والكوفة ونحوهما من الأمصار النائية التي فشا الجهل والجفاء في أهلها لقربها من أمم حديثة عهد بكفر، فعندها من الموروث العقدي المنحرف ما عندها فضلا عن دخول بعضها الإسلام على حد النفاق للكيد له وحربه فكريا بعد أن قهرهم سيفه عسكريا، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون رحمه الله.
ولما أراد ابن سبأ إشعال الفتنة لم يجد لها وقودا إلا رجال تلك الأمصار من أصحاب الأجساد العريضة والأحلام السفيهة! فَجَيَّش فرقهم من مصر والبصرة والكوفة، إذ قد حاول في أرض الحجاز ففشل، فهي عن مكره بمعزل، ففيها بقية الصحب الكرام، رضي الله عنهم، حملة هذا الوحي وعسكره المرابط على ثغوره.
والعلم الشرعي الصحيح الصريح عصمة لحامله من الشبهات العلمية والشهوات العملية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 10 - 2009, 02:58 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال عطاءُ عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الجاثية: 29]، قال: كتب الله أَعمال بني آدم وما هم عاملون إِلى يوم القيامة. قال: والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم فذلك قوله: {إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وفي الآية قول آخر: إِن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أَن يعملوه وقد يقال وهو الأَظهر: إِن الآية تعم الأَمرين، فيأْمر الله ملائكته فتستنسخ من أُم الكتاب أَعمال بني آدم ثم يكتبونها عليهم إِذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أُم الكتاب ذرة ولا تنقصها". اهـ
ص84.
فالنسخ يطلق على: الإزالة وهو معناه اللغوي، كما في قوله تعالى: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فالمعنى: فيرفع الله ما يلقي الشيطان ويزيله، ثم يحكم آياته، ولقائل أن يقول: الآية نص في النسخ الشرعي المعهود، إذ المحكم، الذي دل عليه قوله تعالى: (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ)، لا يقبل النسخ ولو في زمن الرسالة، فمقابله: المتشابه وهو المنسوخ في قول جماعة من أهل العلم، فيكون المحكم هو: ناسخه، إذ قد استقر إلى آخر هذه الدار.
ويطلق على النسخ الشرعي: رفع السابق بلاحق، كما في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(يُتْبَعُ)
(/)
ويطلق على النقل كما في هذه الآية فإما أن يقال بأن الملائكة تستنسخ أعمال بني آدم يوما بيوم على حد القضاء المعلق، بخلاف القضاء المبرم المسطور في اللوح المحفوظ، فصحائف الملائكة مما يغير السبب من دعاء ونحوه المسطور فيها لمن بلغ إيمانه حد اليقين، فتيقن الإجابة ولم يتعجلها.
وإما أن يقال بأنها تستنسخ أعمالهم على حد الإحصاء فيكون الاستنساخ من عالم الشهادة المنظور إلى عالم الغيب المحجوب، فالملائكة والكتبة منهم: مما لا تدركه الحواس الظاهرة، وإن وجدت من تأييدهم وروحهم الناصر ما تلمس آثاره توفيقا وسدادا في الدنيا والآخرة، فضلا عما يعاينه المهاجر في آخر سفر الهجرة من تنزل الملائكة بالبشرى على حد قوله تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ).
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال علي بن أَبي طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة". اهـ
ص84.
فالله، عز وجل، هو خالق الخير والشر، على حد التقدير في عالم الغيب، والإيجاد في عالم الشهادة فكلاهما يطلق عليه وصف: الخلق.
فيطلق على فعل الإيجاد على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ).
ويطلق على المخلوق الموجود بفعل الخلق والإيجاد، على حد قوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
ويطلق على التقدير الأزلي السابق للخلق الإيجادي على حد قول زهير:
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْضُ ******* القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
أي: وبعض الخلق يقدر الشيء ولا يقدر على فعله، بخلاف ممدوحه الذي يقدر وينفذ ما قدره.
وتفسير القدر بالخلق هو من باب: تفسير الكل بالبعض، إذ مرتبة الخلق هي المرتبة الرابعة من مراتب القدر فالخلق آخر مراتب القدر إذ قبله: العلم والكتابة والمشيئة، فبه يظهر المقدر فيصير وجوديا في عالم الشهادة بعد أن كان عدميا في علم الله، عز وجل، الأول فلم تتعلق به أحكام في هذه الدار إذ العين أو الفعل لا يتعلق بهما حكم شرعي حتي يصيرا محلا له، ولا يكون ذلك بداهة إلا بعد وجودهما في عالم الشهادة، فمن رحمة الله، عز وجل، أنه لم يؤاخذ عباده بسابق علمه فيهم، ولما يكونوا شيئا، فلا يقع التكليف إلا إذا وجد محله من المكلف المستوفي لشرائطه من عقل وبلوغ وصحة آلات ........ إلخ، ولا يقع الثواب أو العقاب على الفعل إلا إذا وقع في عالم الشهادة، فصح تعلق الثواب أو العقاب به، وعليه حمل نحو قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، فذلك علم ثان غير العلم الأول الأزلي، فقد علم الله، عز وجل، أزلا ما هم فاعلون، وعلم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان أو النفاق، وذلك، كما تقدم، مما لا يتعلق به مدح أو ذم، لكونه عدما محضا، فلما وقع في عالم الشهادة تعلق به علم الله، عز وجل، تعلقا ثانيا، هو: التعلق الوجودي المتجدد بتجدد ظهور معلومات الرب، جل وعلا، في عالم الشهادة، فكلما أحدث العباد فعلا وجوديا في عالم الشهادة أحدث الرب، جل وعلا، له تعلقا بعلمه المحيط على حد الإحصاء لا الاستئناف كما زعم القدرية نفاة العلم الأول، فالعلم الأول: ثابت أزلا، فلا يتبدل ولا يتغير، والعلم الثاني: حادث من جهة تعلقه بآحاد المعلومات الكائنة في عالم الشهادة على ما قدره أزلا من وجودها على هيئات وأقدار محددة، فجاء العلم الثاني موافقا للعلم الأول، وجاءت الشهادة مصدقة للغيب الأول، فوجودها على حد ما قدر لها أزلا وهي آنذاك: عدم لما يوجد.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد يقال بأن تفسير القدر بالخلق هو تفسير له بأثره المشهود، فيكون من باب إطلاق المسبَّب وإرادة سببه، فالقدر الأول ذريعة إلى وقوع الخلق المشهود على الحد المقدر أزلا، إذ قد مر كل كائن حادث مخلوق بمراتب القدر الأربعة، فكان معلومة في علم الله، عز وجل، الأزلي، ثم كتب في اللوح المحفوظ على حد الإبرام، ثم شاء الله، عز وجل، خلقه، ثم كان الخلق الذي أخرج ذلك المعلوم العدمي إلى عالم الشهادة الوجودي.
فالقلم جار على العبد:
جريانا كونيا: إذ قد جرى القلم بكل المقدورات حال الكتابة في اللوح المحفوظ، وجرى حال خلق آدم بمقدورات ذريته من: الخير والشر وسائر المقدورات، وجرى حال بعث الملك لنفخ الروح.
ثم جرى عليه جريانا شرعيا: ببعث الرسل عليهم السلام بالكلمات الشرعيات الحاكمة التي كتب الله، عز وجل، منها: ألواح الكليم، عليه السلام، على حد قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
ثم جرى عليه جريان الإحصاء فالملائكة الكتبة تحصي أعماله: خيرا أو شرا، على حد قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وذلك عموم يرجح قول من قال بأن الكتبة تكتب كل ما يلفظ به العبد وإن كان مما لا يتعلق به مدح يستوجب الثواب، أو ذم يستوجب العقاب.
وخير الخير: السعادة: فالنجاة في دار الحساب: خير ما قدر لمهتد مسدد، وإن لاقى في دار التكليف من أجناس الابتلاء بالآلام ما لاقى.
وشر الشر: الشقاوة: فالهلاك في دار الحساب: شر ما قدر لضال مخذول، وإن باشر في دار التكليف من أجناس النعيم ما باشر.
يقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ):
"أي: كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.
وقال قتادة: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ} كأن لم تنعم.
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا. ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا". اهـ
قال ابن القيم رحمه الله: "وفى صحيح مسلم عن أَبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أَرأَيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أَشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أَو فيما يستقبلون مما أَتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال: قلت: لا، بل فيما قضى عليهم ومضى قال: أَفيكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت: إِنه ليس شيء إِلا خلقه وملكه: {وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فقال: سددك الله إِنما سَألتك لأُحرز عقلك". اهـ
ص84، 85.
فقول أبي الأسود، رحمه الله، جار على ما تقدم، من تفسير الظلم بأنه: التصرف في ملك الغير، بخلاف تصرف المالك في ملكه، فإنه ليس من الظلم في شيء، فكيف إذا كان المتصرف هو: القدير فلا يعجزه شيء، الحكيم فلا يعتري فعله ما يعتري أفعال غيره من السفه أو النقص الذي لا يسلم منه فعل أحد فله كمال التدبير لعباده فرعا عن كمال حكمته في إجراء المقدورات على الحد الذي به يكون صلاح العباد حالا ومآلا وإن ظهر في مبادئه من الآلام ما يستخرج به من الملذات الآجلة ما تصلح به المآلات، فكمال النهايات من نقصان البدايات، العليم فحكمته فرع عن علمه الأزلي الأول، فقد أحاط بكل المعلومات على حد التفصيل، على حد قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، ولا تكون حكمة في تدبير الشيء إلا فرعا عن علم بكل أحواله على حد التدقيق كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة. فكيف إذا كان المتصرف على هذا الحد من الكمال المطلق؟!.
فـ: (وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ): فذلك الطباق بالسلب، أو المقابلة بين النفي والإثبات مئنة من كمال قدرته وحكمته، فلا يسأل عن أفعاله على القول بأن: "ما" مصدرية على تأويل: لا يسأل عن فعله، أو عن مفعولاته على القول بأن: "ما" موصولة قد حذف عائد صلتها تخفيفا على ما اطرد في التنزيل على تأويل: لا يسأل عن الذي يفعله، وليس ذلك فرعا عن قدرة بلا حكمة كما يقع من الجبابرة في عالم الشهادة فلا يسألون لكمال قدرتهم وإن كانوا أسفه الخلق عقولا، فذلك معنى منتف بداهة في حق الباري، عز وجل، فله من معاني الثناء: الكمال المطلق ذاتا وصفاتا، فقدرته أعظم قدرة على الإطلاق، وحكمته أعظم حكمة على الإطلاق .............. إلخ، وكل ذلك فرع عن كون ذاته القدسية أعظم الذوات على الإطلاق.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبو طارق]ــــــــ[05 - 10 - 2009, 03:06 م]ـ
أجزل الله لك العطاء أستاذنا الفاضل
ولا أراك الله في نفسك, ولا في من تحب سوءًا
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 10 - 2009, 03:17 م]ـ
وأجزل لك أيها الحبيب، وجعل لك من دعائك أوفر نصيب، وشكر مرورك وتعليقك الكريم.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"إن رجلاً من مزينة - أَو جهينة - أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أَرأَيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما أَتاهم به نبيهم؟ قال: فيما قضي عليهم ومضى. فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان خلقه الله لإِحدى المنزلتين فسيستعمله لها) ". اهـ
ص85.
فليس العلم الأول بحجة لعاص، إذ لا يحتج أحد بما لا يعلم، وإنما يصح الاحتجاج بما قد علم، والعبد لا يعلم الفعل إلا بعد وقوعه فيصير محلا وجوديا قابلا لتعلق الثواب والعقاب به، وسنة الله، عز وجل، قد اقتضت ألا يتوصل إلى المنازل المقدرة عنده أزلا: سواء أكانت على حد المدح أم الذم إلا بالعمل، فهو السبب المؤثر في استحقاق العباد الثواب أو العقاب، فمن خلق للسعادة أزلا فإن الله، عز وجل، سيستعمله في الأسباب الموصلة لها فضلا، ومن خلق للشقاوة أزلا فإن الله، عز وجل، سيستعمله في الأسباب الموصلة لها عدلا، فالخلق، كما تقدم مرارا، في مأمن من ظلمه، لكمال غناه الذاتي، فلا يفتقر إلى ما عند خلقه ليظلمهم فيقدر عليهم المعصية جبرا ثم يؤاخذهم عليها، فذلك مما تبطل به الحجة الرسالية، فيصير بعث الرسل، عليهم السلام، على هذا التصور الفاسد: عبثا يتنزه عنه الباري عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وتصديق ذلك فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ". اهـ
ص85.
فألهم النفس أسباب الفجور وأسباب التقوى بمقتضى كلماته الكونيات النافذات، فبكلماته الشرعيات عرف الخير من الشر على حد البيان الرافع للإجمال المصحح للحجة الرسالية، وبكلماته الكونيات النافذات: استعمل من استعمل من المسددين في مباشرة أسباب التقوى، واستعمل من استعمل من المخذولين في مباشرة أسباب الفجور، وذلك جار على حد الحكمة البالغة التي تحصل بها أعظم المصالح للعباد إحسانا من الرب، جل وعلا، إليهم مع كمال استغنائه عنهم، فليس استعمال البعض في مباشرة أسباب النجاة، واستعمال البعض الآخر في مباشرة أسباب الهلاك، ليس ذلك على حد الفعل لمجرد الفعل إظهارا للقدرة بلا حكمة، بل هو جار، على ما تقدم مرارا، من سنن القدرة النافذة والحكمة البالغة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال مجاهد فى قوله تعالى: {إِنَنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} [البقرة: 30]، قال: علم إِبليس المعصية وخلقه لها. وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} ". اهـ
ص85.
فالطباق بالسلب بين: "أَعْلَمُ" إيجابا، و: "لا تَعْلَمُون" نفيا: فرقان بين علم الرب، جل وعلا إثباتا، وعلمهم نفيا، فعلم من إبليس المعصية فخلق آدم عليه السلام ابتلاء له واستخراجا لمكنون صدره لتقام عليه الحجة من نفسه، ولتتحقق حكمة الرب، جل وعلا، في تسليط إبليس وذريته على آدم عليه السلام وذريته، فتقام سوق الجهاد بين الحزبين، وتستخرج بمقتضى الكلمات الكونيات التي بها أخرج آدم من الجنة وأهبط إلى الأرض: كلمات شرعيات هي مما يرضاه الرب، جل وعلا، فـ: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فتلك كلمات التوبة ثم تلقى هو ومن بعده من الأنبياء من ذريته: كلمات الوحي التي بها صلاح الدنيا والدين، فتلك عبوديات جليلة تتحقق بها حكم بالغة، ومصالح عظيمة للبشر في الدارين، فبها تصلح الدنيا بصلاح العباد فيؤمن شرهم ويرجى خيرهم، وبها تصلح الآخرة بما يلقاه المؤمنون من جزيل الثواب.
وكل ذلك أعظم قدرا من مفسدة خلق إبليس مادة الشر فاغتفر ضرر خلقه في مقابل ما تولد من ذلك من الحكم والمصالح العظمية على التفصيل المتقدم.
(يُتْبَعُ)
(/)
والخلق يترددون بين: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ): ففريقا هدى هداية الإلهام، وفريقا حقت عليهم الضلالة، بمقتضى العلم الأول، فليسوا بأهل للتسديد وإن خوطبوا بالتكليف على حد البيان، وقد ذيل ذلك الحكم في حقهم بعلته: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، فحسن الفصل على ما اطرد مرارا من الارتباط الوثيق بين العلة ومعلولها، فعندهم من فساد التصور ما حملهم على استحسان اتخاذ الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بكل ما فيه فساد العلم والعمل، على استحسان اتخاذهم أولياء على حد الطاعة والمتابعة والانتصار لهم كما يتداعى أهل الباطل لنصرة باطلهم، فذلك الفساد الحكمي إنما نشأ من فساد تصور سابق له، فهم مع كل ما هم فيه من الفساد الحالي ومع ما ينتظرهم من الفساد المآلي: (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، بل يرمون المهتدين بعين ما تلبسوا به من وصف الضلال، على حد قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ).
قال ابن القيم رحمه الله:
"قال ابن عباس: إِن الله سبحانه بدأَ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً ثم قال: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأَ خلقهم مؤمن وكافر". اهـ
ص85.
فهو الذي خلقكم: تقديرا في عالم الغيب، وإيجادا في عالم الشهادة، فمنكم على حد القسمة الثنائية المستوفية لشطري القسمة العقلية في باب الأسماء والأحكام، فمنكم: مؤمن، ومنكم: كافر، على ما اطرد مرارا من عموم ربوبية الباري، عز وجل، إذ له من القدرة والحكمة ما نوع به أجناس وأوصاف خلقه، فمنهم، على القول بأن: "من" بيانية جنسية، أو بعضهم على القول بأنها تبعيضية، أو منهم على حد ابتداء غاية الخلق، فقد ابتدأ الله، عز وجل، خلقهم على حد: الإيمان لمن امتن عليه بالهداية، فاهتدى فضلا، والكفران لمن حجب عنه الهداية، فأضله عدلا، ولا مانع من الجمع بين كل تلك المعاني، إذ: "من" تدل عليها جميعا، والسياق يحتملها على حد توارد المعاني على لفظ واحد من باب الاشتراك اللفظي عند من يقول بجواز دلالة المشترك على كل معانيه دفعة واحدة لا على سبيل البدل، أو هو من باب: الاشتراك المعنوي إذ لا تخلو كل تلك المعاني من معنى كلي جامع هو ابتداء الغاية كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "المغني".
والشاهد أن العباد على حد الإيمان فضلا، أو الكفران عدلا.
وأورد على ذلك نقص الاستقراء: فمنهم: مؤمن، ومنهم: كافر، ومنهم: فاسق، ومنهم: ظالم ....... إلخ، فانخرم الاستقراء، وقد كان ذلك الاستقراء عمدة الخوارج الذين كفروا الجماعة المسلمة، فأحدثوا، كأي مبتدع، مقالة لا مسنتد لها من نص محكم أو عقل مُحْكِم للأصول العقلية الصحيحة فلا تعدو كونها شبهة مستندها نص باطل، أو نص صحيح غير صريح حملوه على تأويل بعيد يصب في قناتهم فهمهم البحث عن دليل لمدلول أصلوه ابتداء فنظرهم في نصوص الوحي لا على جهة الافتقار إليها لحصول الهداية وإنما على جهة البحث عن لفظ مشتبه فيها ينتصرون به لمقالتهم، فجعلوا تلك المقالة: محنة صيرت الجماعة فرقتين: مؤمنون خلص على رسم ما أحدثوه، وكفار خلص على رسم المخالفة لهم، وذلك من شؤم البدعة التي تشتت شمل الجماعة المسلمة فتصيرها شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون. إذ لا يجتمع عندهم الإيمان وبعض شعب الكفر أو النفاق التي تقدح في إيمان صاحبها دون أن تأتي على أصله بالبطلان من قبيل الكذب والخيانة، كما في حديث آية المنافق، والصحيح اجتماع أصل الإيمان مع بعض شعب الكفر في قلب واحد، فلا يجتمع الأصلان: أصل الإيمان وأصل الكفران في قلب واحد، ولا يجتمع أصل الإيمان مع شعبة ناقضة له من شعب الكفر سواء أكانت اعتقادية أم قولية أم عملية، على التفصيل الذي قرره أهل العلم في مبحث نواقض الإسلام أو الإيمان، وإنما يجتمع أصل كل منهما مع شعب من الآخر لا تنقضه، فقد تجد مؤمنا ناقص الإيمان لقيام شعبة من الكفر أو النفاق به، وقد تجد كافرا قد قام به من خلال الإيمان من الحياء أو الصدق أو ......... إلخ، ما لا يكفي لإخراجه من حد الكفر، وإن استحق الثناء من جهة ما قام به من شعب الإيمان، لا سيما إن كان تخلقه بها تدينا، وكثيرا ما يوفق أمثال من تلك حاله إلى أصل الإيمان المصحح لتلك الأعمال فتصير على حد القبول، بعد أن كانت على حد: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
فالمحققون من أهل العلم قد أجابوا عن ذلك الاستدلال بنقص ذلك الاستقراء إذ هو كامل في سياقه الذي جاء لبيان أحوال الناس في الدار الآخرة على جهة العموم المجمل، فهم: إجمالا: مؤمن، وكافر على ضده، وتفصيلا: منهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الكفر الأصغر دون الكفر الأكبر الناقض لأصل الإيمان، ومنهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الفسق دون أن يخرج عن حد الإيمان، ومنهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الظلم دون أن يخرج عن حد الإيمان، فمن الكفر: أكبر وأصغر، ومن الفسق: أكبر وأصغر، ومن الظلم: أكبر وأصغر، فهي ألفاظ تنقسم معانيها تبعا للسياق الذي ترد فيه.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 10 - 2009, 05:30 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن والكفر ومعاصي الله، ويجول بين الكافر والإِيمان وطاعة الله". اهـ
ص85.
فاعلموا على حد اليقين المؤكد بـ: "أن" التي سدت مع ما دخلت عليه مسد مفعولي: "علم" على حد: واعلموا حولان الله، عز وجل، بين المرء وقلبه كائنا، فيحول بين المؤمن والكفر والمعاصي على حد الفضل، إذ قد طيب محله جبلة، وبذر فيه بذور الخير، فقامت بقلبه ولسانه وجوارحه أجناس الطاعات، وما كان له ذلك لو وكل إلى نفسه، ولكن الله، عز وجل، تولى أمره فحول قلبه عن الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لمن تدبر معناها، فلا تحول عن الكفر إلى ضده من الإيمان ولا قوة تقوم بالعبد على حد الاستطاعة الشرعية الأولى بصحة الآلات التي بها يتوجه خطاب التكليف بإيقاع الطاعات على حد الإيجاب أو الندب والكف عن المنهيات على حد التحريم أو الكراهة، والاستطاعة الكونية التالية بتصحيح الإرادات وشد معاقد الهمم الشريفات ثم إيقاع الأفعال في عالم الشهادة، لا شيء من ذلك إلا بالله، عز وجل، الذي يمن به على من شاء فضلا ويحجبه عمن شاء عدلا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السَلَف فى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119]، قالوا: خلق أَهل الرحمة للرحمة، وأَهل الاختلاف للاختلاف". اهـ
ص85.
فخلق أهل الرحمة للرحمة، فضلا بمقتضى كلماته الكونيات بموافقتهم كلماته الشرعيات، فاجتمعت فيهم الإرادتان: الكونية الخالقة والشارعة الحاكمة، وخلق أهل الاختلاف للاختلاف كونا، فوافقوا الإرادة الكونية النافذة وخالفوا الإرادة الشرعية الحاكمة، فلا خروج لكلٍ عن الأمر الكوني متعلق الربوبية العامة: ربوبية قهر النفوس وجبل القلوب على الطاعة أو المعصية موافقة لمعلوم الرب، جل وعلا، الأول، فعلم أزلا: محال الهداية فوهبها لأصحابها فضلا، وعلم أزلا محال الضلالة فحجب الهداية عنهم عدلا، وذلك عين الحكمة الإلهية، فلكل مقام مقال فلا تستوي أرض طيبة تقبل آثار الرحمات الإلهية وأرض بوار لا تقبل إلا ما وافق هواها.
وقال بعض أهل العلم: الإشارة عائدة إلى أقرب مذكور: وهو الرحمة فللرحمة خلقهم بمقتضى الأمر الشرعي فأبوا إلا الاختلاف فوقع بمقتضى الأمر الكوني.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] أَى نصيبهم مما كتب لهم". اهـ
ص85.
فـ: "أل" في الكتاب: عهدية ذهنية تشير إلى كتاب بعينه وهو: الكتاب المسطور الذي رقمت فيه مقادير العباد وأعمالهم على حد الإبرام فلا مبدل لكلمات الله، عز وجل، الكونيات، فذلك مما قد حكم الله، عز وجل، بنفاذه.
أو هو بمعنى الفعل فيكون مصدرا قد ناب عن عامله على تقدير: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200]، قال الحسن وغيره: الشرك والتكذيب". اهـ
ص85.
فسلك الشرك والتكذيب في قلوب المشركين والمكذبين، فهو في حقهم: حتم لازم، وإن خوطبوا بالتكليف الشرعي، فذلك جار على حد ما قرر أهل العلم في حد المحال لتعلقه بعلم الله، عز وجل، لا لكونه محالا ذاتيا في نفسه، فخطاب أمثال أبي لهب بالإيمان: جائز، إذ وقوع الإيمان منه في حد ذاته: ممكن مقدور، والتكليف لا يكون إلا بمقدور، كما قرر أهل الأصول، فلما تعلق ذلك بعلم الله، عز وجل، الأزلي الأول، بعدم وقوع الإيمان منه لحكمة الرب، جل وعلا، إذ حجب هدايته عن محل غير قابل، لما تعلق ذلك الممكن بنفسه بذلك العلم الأول الذي قضي على حد الإبرام فلا يتبدل ولا يتغير صار: محالا لغيره لا لذاته، فسلك الله، عز وجل، في قلبه الكفر، بمقتضى إرادته الكونية النافذة، وإن كان على خلاف إرادته الشرعية
(يُتْبَعُ)
(/)
الحاكمة، فأراده، جل وعلا، منه كونا، ولم يرده شرعا، لحكم ومصالح عظيمة تخفى على من نظر إلى ظاهر المفسدة الحالي دون ما يترتب عليها من حكم ومصالح تالية تظهر لمن صبر وتدبر ابتداء وتظهر للساخط بعد انقضاء الأمر وذهاب الصابرين بالأجر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّين} [المطففين: 7]، قال محمد بن كعب القرظي: رقم الله سبحانه كتاب الفجار في أَسفل الأَرض، فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلكَ الكتاب ورقم كتاب الأَبرار فجعله في عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب". اهـ
ص85، 86.
فأعمالهم الكائنة في عالم الشهادة واقعة على حد المكتوب في الكتاب الأول: سعادة أو شقاوة.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1]، بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً} [يس: 9]، قال: عن الحق. وفي قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46]، قال: فالجعبة فيها السهام". اهـ
ص86.
فوقع ضلال أبي لهب على حد ما جرى به القلم الأول في اللوح المحفوظ، فلو اجتمع أهل الأرض لهدايته كونا ما وقع ذلك، إذ المعلوم الأول قد قضي على حد الجزم، فلا يبدل القول لدى الرب، جل وعلا، وما هو بظلام للعبيد، إذ أقام عليه الحجة، فأرسل إليه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكلماته الشرعيات الملزمات، بل هو من أقرب الناس إليه فحظه من دعوته أعظم لداعي القرابة لا على حد المحاباة وإنما على حد تقديم الأولويات، فأهل الداعي أحق الناس ببركة دعوته، وهم من جهة أخرى: أولى الناس باتباعه فقد لزمهم من الحجة الملزمة ما لم يلزم غيرهم، ولذلك أفردوا بالذكر ابتداء في قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، لئلا يتوهموا أنهم بمنأى عن الوعيد لمكانهم من صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم جاء الأمر العام: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وإلى ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته.
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم: "لا أغني عنكم من الله شيئاً"، وأن فيه تعريضاً بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصَوْه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفَى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح؛ فهذا مما يدخل في النذارة، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابتَه مؤمنين وكافرين". اهـ
فأرسل إليه الكلمات الشرعيات على الحد المتقدم الذكر، وأصح له آلات التكليف فالاستطاعة الشرعية في حقه كائنة، ولكنه شاء كونا، لحكم ومصالح تفوق مفسدة كفره الذي هو شر في نفسه لا في مُقَدِّره جل وعلا، شاء ألا يهتدي هداية الإلهام والانقياد لأمر الشرع، وإن وقعت له هداية البيان، بل قد جاء النص على كفره، فما استطاع مخالفته، ولو ظاهرا ليقدح في التنزيل الذي جاء مواطئا لما في الكتاب الأول، فتبت يده أزلا في عالم الغيب، ثم تبت في عالم الشهادة الوجودي ليصح تعلق العقاب بفعله فذلك من عدل الرب، جل وعلا، ورحمته بعباده، ولو كانوا كفارا على غير دينه وشرعه، فلا ثواب ولا عقاب إلا على مقدر كائن بإرادة العبد الاختيارية إيقاعه، مع كونها لا تخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية العامة فلا خروج لعين أو فعل قائم بها عن مشيئته النافذة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما السد عن الحق فهو، أيضا، جار على مقتضى الإرادة الكونية، فالجعل كوني على حد الجزم، فلا مبدل له، وإحاطته بهم عامة، فقد أغلق دونهم أبواب الهداية الخاصة، فأقام من أمامهم ومن خلفهم السدود التي حجبت عن قلوبهم الهدى، وإن لم يحرمهم، بمقتضى عدله: بيان الحق بأدلة نقلية وعقلية قاطعة، مع صحة توجه التكليف إليهم فالعقل كائن، وآلات السمع والبصر صحيحة، ولكنها، كما تقدم، محجوبة عن إدراك الانتفاع، وإن لم تحجب عن إدراك الفهم والبيان، وليس كل من سمع وفهم بممتثل، فخلق إرادة الامتثال في القلب ليست لأحد إلا لله، عز وجل، الذي يصرف القلوب بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة، فمن شاء أقام قلبه فضلا، ومن شاء أزاغ قلبه عدلا.
وكذلك الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة): فهو جعل كوني لساتر، نكر تعظيما، حجب عن قلوبهم أشعة الهدى، وإن لم يحجب عنها أدلة الحق على وجه قامت به الحجة عليهم. ونسبة الجعل إليه، جل وعلا، على حد الجمع الذي دلت عليه: "نا" مئنة من وصف جلاله القاهر لقلوب عباده التي حكم عليها بالضلال عدلا، فلو كانت محالا صالحة للهدى لألهمها أسبابه على حد الامتثال.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {وأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23]، قال: أَضله فى سابق علمه". اهـ
ص86.
فأضله على علم سابق بأنه أهل للضلال، فذلك من العلم الأول الذي لا يتبدل، كما تقدم مرارا، فمرد الأمر إلى: العلم السابق بحاله، والقدرة النافذة على خلق الهدى أو الضلال، والحكمة الصادرة عن العلم، إذ لا حكمة إلا بعلم سابق فذلك من التلازم العقلي بمكان، الحكمة في خلق كليهما: كلٌ في المحل المناسب له القابل لآثاره، أو: أضله بعد بلوغ الحجة، فضلاله عن علم قُطِعَ به عذره، فلم يضله ابتداء إذ ذلك من الظلم الذي حرمه الله، عز وجل، على نفسه، وإنما أقام عليه الحجة الصحيحة الصريحة، فسندها: متواتر يفيد العلم ضرورة بصحة صدورها من قائلها، ومبناها اللفظي: على حد الإيجاز والإيضاح فلا غموض في ألفاظها باستعمال وحشي الألفاظ أو غريب الكنايات والاستعارات كما يقع من أصحاب الطرائق الإشارية الذين أقاموا طرئقهم على أقوال رمزية لا يدرك كنهها عموم المكلفين، ومعناها: على حد البيان الرافع لكل إجمال. فتلك حجة الله، عز وجل، على خلقه، وتأمل حجة الدين الخاتم البالغة التي لا يجد أي عقل صحيح كلفة أو مشقة في تصورها في مقابل حجج أصحاب الملل والنحل التي يتعسف أصحابها في معرض الانتصار لها إلى حد إخراج الألفاظ عن معانيها الوضعية وسياقاتها اللفظية، فحججهم إما: نقل باطل أو مجرد دعوى تفتقر إلى دليل فلا دليل عليها أصلا، بل الدليل الصحيح الصريح شاهد عليها بالبطلان، أو: عقل فاسد يتلقف المتشابه فيصيره محكما يضرب به المحكم الحقيقي على طريقة أهل الزيغ في تتبع المتشابه، ومعارضة المحكم به.
وإلى المعنيين السابقين أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
"وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين:
أحدها: وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك.
والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس". اهـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال في قوله تعالى حكاية عن عدوه إِبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الأعراف: 16]، قال: أَضللتني". اهـ
ص86.
فأضله الله، عز وجل، كونا، إذ أمره بالسجود لآدم استخراجا لمكنون صدره لتقام الحجة عليه من لفظه، ولما كانت له حسنات سابقات اقتضى عدل الرب، جل وعلا، إمهاله، فتحقق بذلك من كمال عدله وحكمته ما فاق مفسدة عصيان إبليس لأمره الشرعي، فبه عرف مقابله: الروح القدس، عليه السلام، فهو: معدن الخير الملائكي، في مقابل معدن الشر الإبليسي، وبضدها تتميز الأشياء، وبتدافع الضدين على حد تنتظم به أمور الكون، ظهر من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما ظهر، وبتسلطه على آدم عليه السلام وذريته بمقتضى الأمر الكوني النافذ، ظهر من فضائل بني آدم الذين حملوا لواء مجاهدته ومجاهدة أوليائه من الإنس والجان ما ظهر، فخلقه، وإن كان شرا في نفسه، إلا أن فيه من الخير ما استقام به أمر دار التكليف على هذا النسق البديع.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال فى قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162 - 163]، قال: من قضيت له أَنه صال الجحيم. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أَراد الله أن لا يعصى لم يخلق إِبليس، وقد فصل لكم وبين لكم ما أَنتم عليه بفاتنين إِلا من قدَّر أَن يصلى الجحيم". اهـ
ص86.
فلا يملكون إلا فتنة من قضى الله، عز وجل، بمقتضى مشيئته النافذة، فتنته، على حد قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، فتلك الفتنة الكونية بخلاف الفتنة الشرعية التي بها يقع الابتلاء بالتكليف لعموم العباد.
فغاية ما يملكون مع العبد الكافر المخذول: إضلاله، وغاية ما يملكون مع العبد المؤمن المسدد: الوسوسة له على حد حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وفيه: "جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ".
والإرادة في قول أمير المؤمنين الملهم المسدد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، هي: الإرادة الكونية، إذ لم يرد، جل وعلا، بخلق إبليس معصيته على حد الإرادة الشرعية المستلزمة للرضا والمحبة، فيكون الكون كله مرادا له على حد الشرع، كما قال ذلك من قال من زنادقة الإباحية، وإنما أراد منهم الطاعة شرعا، وأراد منهم المعصية كونا لحكمة تربو على مفسدة وقوعها كما تقدم مرارا.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 10 - 2009, 06:21 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال وهيب بن خالد: أَنبأنا خالد قال: قلت للحسن: أَلهذه خلق آدم - يعني السماءَ - أَم للأَرض؟ فقال:لا بل للأَرض.
قال: قلت أَرأَيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها، أَكان ترك فى الجنة؟ قال: سبحانه الله أَكَان له بد من أَن يعملها؟ ". اهـ
ص86.
فلم يكن لآدم بد من الوقوع فيها، وليس ذلك ما احتج به على الكليم عليه السلام، إذ كان الحِجَاج بينهما بعد توبة آدم، عليه السلام، فصح احتجاجه بالقدر إذ صارت المعصية بعد الإقلاع عنها والتوبة منها: مصيبة كونية كسائر المصائب الجارية على حد القضاء المبرم النافذ، فلا يملك العبد حيلة في رفعها بعد وقوعها فقد صارت وجودية كائنة بعد أن كانت عدمية مقدرة، وإنما يملك الحيلة في رفع أثرها بإحداث التوبة، فلذلك جاء التكليف بما يقدر عليه من رفع أثرها بالتوبة، ولم يجيء بما لا يقدر عليه من رفعها، إذ ما كان لا يرفع، فذلك من المحال الذي لا يكلف الله، عز وجل، به عباده، ويقال من جهة أخرى بأن محل الحجاج بينهما لم يكن: المعصية، وإنما كان أثرها وهو مصيبة الإخراج من الجنة، فهي، كما تقدم، من المصائب التي لا يملك العبد رفعها بعد وقوعها، فغايته أن يدفع أثرها بما سن الله، عز وجل، من أسباب الشرع والكون على حد التعبد، وهو ما فعله آدم عليه السلام بعد تلقي الكلمات إذ دعا بهن مع زوجه فقالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). فكان ذلك رافعا لشؤمها، وبقي من آثارها إنزاله إلى دار التكليف على ما قضى الله، عز وجل، أزلا، لتظهر آثار قدرته وحكمته في الصراع الدائر بين القبيلين: آدم وذريته، وإبليس وذريته وأوليائه من الإنس من لدن أهبط آدم وإلى قيام الساعة.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ):
فالجعل كوني إذ النبوة منصب لا يكتسب برياضة أو فتوة، بل الله، عز وجل، أعلم حيث يجعل رسالته بمقتضى إرادته الكونية النافذة إذ اطلع على قلوب العباد أزلا، وعلم المحال الصالحة لحمل رسالات السماء، فاقتضت حكمته البالغة إنزال الكتاب العزيز على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما اختصه به من الفضيلة، دون قلوب غيره من العباد سواء أكان لهم من الخير نصيب، بل لو كان غيره أعظم الناس إيمانا بعد الأنبياء والمرسلين: أبا بكر، رضي الله عنه، فقد اصطفي لمنصب الصديقية لا لمنصب النبوة، وذلك، أيضا، جار على مقتضى الحكمة الربانية البالغة، فلا يصلح الصديق، رضي الله عنه، لمنصب النبوة، إذ ليس على حدها، وإن كان له من الفضيلة ما له، ولكن الأمر، كما تقدم، جعل كوني، لا اختيار للبشر فيه لينصبوا فلانا دون فلان نبيا، أو كان لهم من ضده من الشر أعظم نصيب، فأولئك أولى بالحجب عن منصب النبوة، إذ لم يختصهم الله، عز وجل، بما اختص به الأنبياء والصديقين، بل وعامة المؤمنين من الهداية الخاصة، فذلك فضله يؤتيه من يشاء فضلا، ويحجبه عمن يشاء عدلا: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ):
فقالوا ذلك على سبيل الاقتراح الذي يدل على نوع تحكم، بل هو أعظم صور التحكم، فالحض في: "لولا" التي دخلت على الفعل: "نزل": فيه سوء أدب برد قضاء الله، عز وجل، الكوني، الذي اصطفى النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحمل آخر الرسالات، وهذا حال المترفين في كل عصر ومصر، على حد قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، فهو أعلم على حد التقرير بالشاكرين الذين اختصهم بتلك النعمة الشرعية فصاروا أهلا لقبول آثار
(يُتْبَعُ)
(/)
الهداية الربانية الخاصة، وإن لم يكن لهم من النعم الكونية من مطاعم ومشارب ومناكح كبير نصيب، فسعة الدنيا ليست مئنة من سعة الدين، بل هي على الضد من ذلك، مظنة رقة الدين، وإن وجد من أهل اليسار الكوني، من امتن الله، عز وجل، عليهم باليسار الشرعي، وذلك فضل الله، عز وجل، يهبه لمن يشاء بمقتضى حكمته الباهرة، فمن الناس من اختص بكلتا النعمتين: الشرعية والكونية، ومنهم من اختصه الله، عز وجل، بنعمة الشرع دون نعمة الكون، فهذان على حد المدح، على خلاف في المفاضلة بين: الغني الشاكر والفقير الصابر، إذ مع الأول من الديانة ما يشكر به النعمة، ومع الثاني منها ما يصبر به على النقمة. ومنهم من أعطاه الله، عز وجل، نعمة الكون دون نعمة الشرع، على حد العدل بتوفيته نصيبه في دار الفناء، أو الاستدراج كما يقع لكثير من المغرورين بنعمة الدنيا الزائلة فهي باعتبار الحال: على حد الفساد، وباعتبار المآل: على حد الفناء، ومنهم من حجبت عنه كلتا النعمتين، فهو أسوأهم حالا. وذلك التقسيم جار على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ قَالَ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ قَالَ وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا قَالَ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ قَالَ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ قَالَ وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ قَالَ وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ قَالَ هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ"، فعم ثم خص على حد التوشيح إمعانا في التشويق.
والشاهد مما تقدم أنهم لغفلتهم عن معاني القدرة الكونية والحكمة الربانية اقترحوا وضع النبوة في غير الموضع الذي وضعها الله، عز وجل، فيه، فطعنوا بلسان الحال والمقال في حكمة الرب، جل وعلا، إذ وضع النبوة، بزعمهم، في غير أهلها، ولذلك جاء الاستفهام الإنكاري الإبطالي الذي لا يخلو من التوبيخ: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)، فذلك معنى باطل منتف بداهة، فجاء الشطر الثاني من الآية: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، على حد إثبات المنفي عنهم لله، عز وجل، على حد التوكيد بتكرار الفاعل: معنويا: "نحن" إذ: المبتدأ: المسند إليه على حد الفاعل، فكلاهما قد أسند إليه معنى، فالمبتدأ قد أسند إليه الوصف الذي اشتق منه الخبر الذي يليه، والفاعل قد أسند إليه الوصف الذي اشتق منه الفعل الذي يسبقه، فهو، وحده، جل وعلا، الذي قسم الأرزاق الدينية من: نبوة وصديقية وصلاح وشهادة .............. إلخ من الدرجات الرفيعة والمراتب الشريفة فذلك من فضله إذ أعطى أصحاب تلك المراتب من الفضل والطاعة ما صاروا به أهلا لنيلها، ففضله على الطائع قبل أن يطيع، إذ قدر له ذلك أزلا، وأعانه: إعانة خاصة، على إيقاع الطاعة في عالم الشهادة فجاءت موافقة لما سطر في الكتاب الأول، ومن ضدها من: الكفران والتكذيب والفسق والعصيان ............. إلخ من الدركات الوضيعة والمراتب الحقيرة فذلك من عدله، إذ قدر على أصحاب تلك المراتب من الكفر والعصيان ما صاروا به أهلا لها، فعدله فيهم كائن من لدن كتبها عليهم في الأزل، وقضى بوقوعها منهم في عالم الشهادة فجاءت موافقة للكتابة الكونية الأولى فليسوا أهلا للهداية الشرعية على حد الإلهام وإن قامت عليهم الحجة على حد البيان، وهو وحده، جل وعلا، الذي قسم الأرزاق الدنيوية من أمور المعاش، فأمر الدين والدنيا له وحده، يهدي من شاء فضلا، ويضل من شاء عدلا، ويوسع على من شاء فضلا أو
(يُتْبَعُ)
(/)
استدراجا، ويضيق على من يشاء عدلا أو ابتلاء ليمحص قلب المبتلى ويرقيه بأجناس الابتلاء إلى مراتب علية لم يكن ليبلغها لولا ذلك الابتلاء، فهو عند التحقيق لمن تدبر فرضي ندبا أو صبر وجوبا: نعمة خالصة باعتبار المآل، وإن كان مصيبة باعتبار الحال.
فقوله تعالى: (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ): مئنة من انفراده، عز وجل، بقسمة الأرزاق الشرعية، فهي: رحمات قد دل عليها عموم المضاف: "رحمة ربك"، يعطيها من شاء بمقتضى الفضل، ويحجبها عمن شاء بمقتضى العدل، كما تقدم مرارا.
وقوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): مئنة من انفراده، عز وجل، بقسمة الأرزاق الكونية.
والشاهد من كل ما تقدم أن الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ): جعل كوني إذ لا حيلة في النبوة على حد: لا حيلة في الرزق، بل الرزق منه ما يكتسب بمعالجة أسبابه، بخلاف النبوة فهي اصطفاء رباني خالص لا يكتسب بمعالجة سبب من رياضة أو علم أو فراسة ........... إلخ من الطرائق التي باشرها غلاة أهل الطريق والفلاسفة المنتسبون إلى الملة الخاتمة، فهي عندهم: صناعة تحترف! إن كان للسالك من قوى التأثير والتخييل ما يؤهله لذلك.
فربك يرزق من يشاء بغير حساب، لكمال قدرته وغناه وعلمه وحكمته، فتلك الصفات، عند التحقيق، أخص صفات الربوبية في باب: الإعطاء فضلا أو الحرمان عدلا.
وقد يقال بأن الجعل شرعي، بالنظر إلى ما ذيلت به الآية من تعليل ذلك المنصب الشريف: منصب الإمامة في الدين بالصبر واليقين، فالصبر مئنة من اكتمال القوى العملية، واليقين مئنة من كمال القوى العلمية، وبكمال هاتين القوتين، وللأنبياء عليهم السلام منهما أعظم قدر وأوفر قسط، بكمالهما: يترقى صاحبهما في معاريج الكمال فيصير عابدا مختارا للأمر الشرعي مع كونه عبدا منقادا للأمر الكوني.
وهذان الوصفان لا يختصان بالأنبياء، عليهم السلام، وإن كان لهم منهما أعظم قدر كما تقدم آنفا، فيكون الجعل على هذا الحد: شرعيا، فكل من قام به وصف الصبر عملا واليقين علما فهو أهل للإمامة في الدين ولا يلزم من ذلك أن يكون نبيا، فتلك منزلة لا تكتسب، كما تقدم مرارا، وإنما الإمامة درجات، أعلاها النبوة التي لا تحصل بالأسباب، ودونها الإمامة التي وضع الرب، جل وعلا، لها بمقتضى سنته الكونية المحكمة أسبابا: من صبر ويقين بهما تحصل الرياسة في الدين على حد الكمال المرضي لا الصور الزائفة التي يدعيها من ليس من أهلها، وإن حصل من مسائل العلم ورسوم الرياسة ما جعله أهلا لقول الرب جل وعلا: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فذلك حال كثير من أصحاب العمم الملفقة الذين ابتلينا بهم لتقصيرنا في تحصيل أسباب الدين وتعظيم أهله فسلط الله، عز وجل، على أدياننا كلابا تنهشها بمقالات فاسدة، كما سلط على أبداننا كلابا تنهشها بالأغذية الفاسدة، ففساد أسباب الشرع، بظهور الأئمة المضلين، وفساد أسباب الكون بظهور التجار والزراع والصناع الخائنين جار على حد قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فبما كسبت أيدينا فهم أخس من أن ينالوا منا ما نكره إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، ذلك عقوبة عادلة لنا إذ فرطنا في الكتاب، وهجرنا سنة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فتكون العبرة إذا استثنينا مقام النبوة بعموم اللفظ، إذ تَحققُ علتي الحكم من: الصبر واليقين مئنة من وقوعه فتنال الإمامة في الدين على غير رسم النبوة فلا مطمع في دركها، كما تقدم ذلك مرارا، فهو فرقان عظيم القدر بين: طريقة أهل الإسلام عموما وأهل السنة وخصوصا، وطرائق المتهوكين الحيارى الذين جعلوا عمد أدلتهم رؤى رهبان ومشايخ، فجفوا في حق النبوات بإحداث مصادر أخرى للتشريع من قبيل: أقوال الرجال الذين وسموا بالعصمة بلسان المقال أو الحال، فساووا الأنبياء في أخص أوصافهم فهم أنبياء لزوما لا تصريحا!.
ومن قبيل منامات الرهبان والزهاد الذين كبدوا أنفسهم مشقة الجوع والسهر طلبا لمنازل موهومة لو كان فيها ما يستحق المدح ما حجبت عن الأنبياء، عليهم السلام، وأتباعهم من خواص أصحابهم.
ومن قبيل الأذواق والمواجيد فهي محض هوى متبع وإن خالف دين التوحيد الجامع، وشرائع الأنبياء المحكمة.
ولكلٍ نبيه الذي يأخذ عنه دينه!، ولكل مصادره التي يتلقى عنها الأحكام والشرائع.
وفي مقابل أولئك على حد الطباق أو المقابلة بين الأضداد، وإن كانت الآية واردة في سياق آخر في سورة أخرى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ).
فذلك جعل كوني قولا واحدا، جار على حد ما قضى به الرب، جل وعلا، عليهم من الضلال في أنفسهم والإضلال لغيرهم بمقتضى كلماته الكونيات النافذة.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 10 - 2009, 05:26 م]ـ
ومن النصوص التي ذكرها ابن القيم، رحمه الله، في هذا السياق:
ومن قوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
فكما لم يؤمنوا بالآيات الأول، عوقبوا بالإعراض عن الآيات الأخر، كما أثر ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وإليه أشار البغوي، رحمه الله، بقوله:
" {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال ابن عباس: يعني ونحول بينهم وبين الإيمان، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي: كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره، وقيل: كما لم يؤمنوا به أول مرة، يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: (أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل)، وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة". اهـ
والمضلرع: "نقلب": مئنة من التجدد والاستمرار، فذلك من القدر الكوني المتتابع، فالقلوب بيد مصرفها، جل وعلا، فيهدي فلانا فضلا، إذ قد أصلح قلبه، فزالت منه مادة الفساد المانعة من الصلاح والهداية بالانتفاع بعلوم وأعمال الشرع المصححة لعقود القلوب العلمية، المزكية لمحال التكليف العملية من قلب باطن، ولسان ناطق، وجارحة ظاهرة.
ويضل فلانا عدلا، وإن كان مبدؤه صالحا، إذ قد علم في قلبه مادة فساد لم يهتم بإصلاحها، اغترارا بفضل الرب، جل وعلا، وحلمه، فاتسعت تلك البؤرة حتى هلك من هلك وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وزاغ من زاغ وإن كان له حظ من العلم على حد الحفظ والتلقين، وانتكس من انتكس بذنوب الخلوات، فقام بقلبه ذنوب خفيات من كبر وعجب ورياء ....... إلخ، فتلك من جنس ما قام بقلب إبليس الذي نازع الرب، جل وعلا، حكمه الشرعي النافذ، بقياسه العقلي الفاسد، على حد من يضع لنفسه ولغيره نواميس وسياسات، فيلتزم بها في نفسه، ويلزم بها غيره، على حد القهر، إن كان ذا سيف أو سلطان، ولو كانت على خلاف الشرع المنزل، فهو مبتغ للتأله والتجبر في الأرض، منازع للرب، جل وعلا، وصفا من أخص أوصاف ربوبيته، فمنطوق التنزيل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، فجعل الأمر الشرعي فرعا عن انفراده بالحكم على حد القصر الحقيقي بأقوى أساليبه، فالحكم لله، عز وجل، وحده لا لغيره فذلك النفي مفهوم التنزيل، و: "أل" في الحكم جنسية تعم كل أجناس الحكم الذي اختص به الرب، جل وعلا، فله، وحده على حد الإفراد وجوبا عقليا، وشرعيا باعتبار تعلق الأمر بإفراده بذلك بأفعال المكلفين، له وحده: الحكم الكوني: إحياء وإماتة، نفعا وضرا، إعطاء ومنعا .......... إلخ، وله وحده فرعا عن انفراده بذلك الوصف الرباني، له وحده: الحكم الشرعي بمقتضى ما أنزل على رسله من الكتب، وما شرع على ألسنتهم من السنن، فلازم ذلك بداهة: إفراده بأفعال المكلفين على حد التأله والديانة، إذ هو المنفرد بأوصاف وأفعال الربوبية على حد الكمال: جلالا قاهرا وجمالا راحما، فانفراده بأفعال الرب ذريعة إلى إفراده بأفعال العبد، فذلك: وصف ربوبيته، وهذا وصف ألوهيته على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين ربوبيته وألوهيته، جل وعلا، فلا ينفك منازع للرب، جل وعلا، في أحكامه الشرعية، معارض لها بقياس عقله أو وجدان ذوقه أو نخالة أذهان متشرعي الأمم من لدن ياسق جنكيز إلى ياسق العصر الحديث، لا ينفك من هذا وصفه عن منازعة للرب، جل وعلا، وصف حكمته في التشريع وربوبيته في التقدير، بل هو منازع للرب، جل وعلا، في أوصاف كثيرة، من حيث لا يشعر جهلا، أو يشعر عنادا واستكبارا، فهو منازع له في علمه، إذ لسان حاله: ادعاء علم ما لم يعلمه الله، عز وجل، بعلمه الأزلي المحيط، من مصالح العباد الدينية والدنيوية.
فقياس عقله في مسائل الإلهيات الغيبية مقدم على محكم النصوص الشرعية.
(يُتْبَعُ)
(/)
ووجدان ذوقه وما يعرض له من خيالات وشطحات مقدم على الآيات البينات الناقضات لما يدعيه من الأحوال العلمية والعملية الباطلة، فلا ينفك البطلان في العلم عن بطلان في العمل، كما تقدم مرارا، إذ فساد الحكم الظاهر مئنة من فساد التصور الباطن.
وما يعرض له من المصالح الآنية العاجلة مقدم على ما يعلمه الرب، جل وعلا، من المصالح العظمى الآجلة التي ادخرها لعباده، إن التزموا حكم الشريعة النازلة، وإن بدا لعقولهم القاصرة أن المصلحة فيما حظره الشارع، عز وجل، كحال من يبيح الربا تحصيلا لفائدة عاجلة تعود على أصل المال بالإتلاف، كما يقع في الأزمات المالية العالمية كالأزمة التي يعيشها العالم الآن، وقد صار الربا شعاره ودثاره فلا يكاد يسلم منه أحد فمن لم يصبه بجرمه، أصابه بأثره وغباره.
وقل مثل ذلك في كل الأحكام الشرعية: خاصة كانت أو عامة، فأحكام الأسرة من زواج وطلاق ....... إلخ، إن لم تكن على رسم الشريعة، انحلت عرى اللبنة الأولى في المجتمع، كما هو مشاهد الآن في واقعنا المعاصر، إذ أحسن أصحاب الهوى استغلال الأوضاع الاجتماعية المتردية من جراء هوان الشريعة على أهلها، فكانت العقوبة الربانية بتسليط أولئك المفسدين لشريعة رب العالمين، فراموا تحريفها بل حجبها عن أهلها الذين هم عنها لاهون، وبغيرها من أمور المعاش مشتغلون، والحق عزيز، لا يبذله الله، عز وجل، على حد الامتنان، إذ هو أعظم المنن الربانية لمن تدبر وتأمل نعم الباري عز وجل الشرعية والكونية، لا يبذله إلا لمن هو له أهل من المعظمين لمقام الربوبية الملتزمين بأحكام الألوهية، فإذا راجع الناس دينهم أصلح الله أحوال المتولين عليهم، وإن نبذوه ابتلاهم الله، عز وجل، عدلا، بمن يضلهم، فيريهم الباطل حقا واجب الاتباع، ويريهم الحق باطلا واجب الاجتناب، أو مباحا، على أدنى الأحوال!، فلا ضير في تركه، بل تركه هو الأولى بأصحاب العقول الكاملات، و: "كما تكونوا يولَّ عليكم"، وإن كان الحديث ضعيفا فمعناه صحيح، فذلك عام في كل الولايات: سواء أكانت سياسية أم دينية، فحال المترأسين في السياسات والأحكام من جنس المرءوسين، فأولئك بمنزلة الرأس للجسد، فإن صلح الجسد صلحوا، ولو اضطرارا، وإن فسد، فسدوا كما هو حال كثير من جماعات المسلمين في العصر الحاضر، إذ رءوس الدنيا قد تغلبوا بحد السيف، وءوس الشريعة قد أذلوا أنفسهم للسلطان، فعطاء بيت ماله لا يكون إلا لمن وافقه وأظهر ولاءه، ولو كان على الباطل المحض.
والشاهد أن ذلك الفساد منتشر لا يختص بباب دون باب، بل هو: عام يشمل كل أبواب الديانة: علوما كما وقع من المتكلمين الذين خاضوا في الإلهيات بأقيسة العقل، وأعمالا كما وقع من أصحاب الأهواء المتسترين برداء الحضارة والمدنية ابتغاء تحريف بل إزالة الشرعة الإلهية، وسياسات كما يقع من المتملكة والمتأمرة برسم القهر فالانقياد لأمر الشرع إبطال لولاياتهم وذهاب بحظوظهم وشهواتهم العاجلة: حسية كانت أو معنوية، فالشرع مزيل لوجاهاتهم النفسية ومتعهم الجسدية، فلا ينفك مكلف عن ميل إلى ذينك الجنسين من الحظوظ العاجلة: حظ النفس الوهمي بالتعظيم والتوقير ولو زورا ونفاقا، وحظ الجسد الحسي ولو كان حراما، وأخلاقا وسلوكا كما يقع من أهل الطريق الذين أحدثوا من طرائق الزهد والتربية ما خرجوا به عن حد الاعتدال الذي جاءت برسمه الشريعة الحنيفية السمحة فوقعوا في أجناس من الغلو في العلوم والأعمال أخرج فئاما منهم عن حد الديانة بالكلية، فوقعوا، لجهلهم، في ضد ما أرادوه بعملهم. وعمل بلا علم جار على حد قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
(يُتْبَعُ)
(/)
والمفسد لا يقر له قرارا، ولا يهدأ له بال، حتى يوقع غيره فيما وقع فيه من فساد في العلم أو العمل، على حد قول القائل: ودت الزانية لو أن كل النساء زواني!، فيزين لغيره الفساد على حد الترغيب، ويحمله عليه بحد السيف على حد الترهيب، كما وقع من أصحاب المقالات الأولى لما انتحل السلطان طريقتهم، فامتحنوا عموم الأمة بمقالتهم، وكما يقع في واقعنا المعاصر من سن لقوانين ملزمة على حد القهر تقيد أهل الحق والفضل، فذلك من جنس السيف، وإن لم يكن حديدا يقطع الأبدان، فمن السيف: ما يقطع الأرزاق، بقدر الرب جل وعلا الكوني، ومنه ما يضيق دائرة الحلال فيضطر الناس إلى الحرام اضطرارا، ومنه ما يضيق على أهل العفة ويمكن لأهل المجون والخلاعة ......... إلخ من صور القهر التي يسنها أصحاب السلطان للتضييق على أهل الإيمان.
فمن شؤم المعصية أن تستجلب بها أخرى، فذلك من عدل الله عز وجل، كما أن من بركة الطاعة أن تستجلب بها أخرى، فذلك من فضل الله عز وجل، فكما لم يؤمنوا أول مرة لفساد قلوبهم التي لفظت الإيمان فلم تقبله، إذ الطيب لا يلتئم إلا مع طيب، لم يؤمنوا في المرة الثانية فزادت النكتة السوداء في قلوبهم انتشارا، ثم لم يؤمنوا ثالثة فرابعة حتى عم السواد قلوبهم، على حد قول علي رضي الله عنه: "إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة في القلب، فكلما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك سوادا، فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله، وايم الله، لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود"، على كلام في إسناده، فالمقابلة بين أثر الإيمان وأثر الكفران انتشارا بتوالي الطاعات أو المعاصي تزيد المعنى بيانا على حد الترغيب في الأول والترهيب في الثاني.
ومما ذكره ابن القيم، رحمه الله، أيضا:
وفي الآية التالية: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ):
فـ: "لو": هنا: وصلية على حد المبالغة، فلو قدر وقوع ذلك مع ما فيه من دلائل قاطعة على وحدانية الرب جل وعلا تصير الغيب شهادة فلا ينكره إلا من بلغ من فساد العقل غايته، لو قدر وقوع ذلك ما آمن إلا من قدر الله، عز وجل، له الإيمان أزلا، فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فالمعنى ثابت من باب أولى في حق من لم تنزل عليه الملائكة وتكلمه الموتى ويحشر عليه كل شيء قبلا، فلن يؤمن إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، له الإيمان، فذلك من هداية الإلهام التي لا يملكها إلا رب القلوب ومصرفها، تبارك وتعالى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
وقد أكد المعنى بلام الجحود المسبوقة بالكون المنفي: "ما كانوا"، فذلك آكد في معرض النفي.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 10 - 2009, 07:15 م]ـ
ومما ذكره ابن القيم، رحمه الله، أيضا:
"وقال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كمال قال أَهل الجنة ولا كما قال أَهل النار ولا كما قال أَخوهم إِبليس، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُون إِلا أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30] [التكوير: 29]، وقالت الملائكة: {لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ} [الأعراف: 89]، وقال أَهل الجنة: {الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ} [الأعراف: 43]، وقال أَهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، وقال أَخوهم إِبليس: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فمشيئتهم في قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُون إِلا أَن يَشَاءَ الله) متعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فإن شاءوا الهدى ولم يشأه الله، عز وجل، لهم، فلن يوفقوا إليه وإن بذلوا من الأسباب ما بذلوا، فإن الأبواب قد أوصدت دونهم، وكثيرا ما نجد عصاة يريدون فعلا الإقلاع عن المعصية، ولكنهم لا يقدرون على ذلك لتمكن المعصية من قلوبهم تمكن المخدر القوي من جسد المدمن، فأرادوا، ولكن إرادتهم غير جازمة إذ قد حل القدر الكوني عراها بمقتضى عدل الله، عز وجل، ولو شاء لعقدها فضلا، ولو أرادوا الهداية على حد الجزم، فتلك الإرادة للرب، جل وعلا، مخلوقة، فهي لإرادته تابعة، ولو تحقق الجزم الباطن ما وقع الفعل الظاهر إلا أن يشاء الله، عز وجل، وقوعه في عالم الشهادة بتصحيح الآلات أولا، فتلك الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف بالمقدورات، وتحريكها لمباشرة أسباب الفعل ثانيا، فتقع الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل، فالأولى: لدى كل مكلف صح تعلق الأمر والنهي بفعله، والثانية: لا تكون إلا للملهم المسدد الذي وافقت إرادته: إرادة الشرع الحاكم فهو مريد للهداية متوجه إليها بقلبه على حد الجزم القاطع، وإرادة الكون النافذة فخلق الله، عز وجل، فيه طاقة الفعل التي يتعلق بها التكليف، وخلق فيه ذات الفعل على حد الإيجاد في عالم الشهادة، فكان عدما في عالم الغيب ثم صار ببرء الباري، عز وجل، له: حقيقة في عالم الشهادة أوقعها العبد على حد الفعل بإرادة مخلوقة مؤثرة، وأوجدها الرب، جل وعلا، على حد الخلق بإرادة كونية نافذة. فالجهة منفكة: جهة الخلق من الرب، وجهة الفعل من العبد، فذلك حد التوسط بين قول أهل الاعتزال الذين نظروا إلى الشطر الأول: (وَمَا تَشَاءُون)، وأهل الجبر الذين نظروا إلى الشطر الثاني: (إلا أَن يَشَاءَ الله).
وأما الملائكة فقد ردت العلم إلى الله، عز وجل، في قوله تعالى: (لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا)، على حد القصر بأقوى أسالبيه: النفي والاستثناء، وهو حصر حقيقي، إذ لا علم لهم إلا ما علمهم الرب، جل وعلا، ولذلك صدروا الآية بالتسبيح والتنزيه، فذلك مقام لا يقبل الشريك كسائر أوصاف الرب، جل وعلا، فالاشتراك فيها مع المخلوق ممنوع إلا في المعاني الكلية المجردة، التي توجد في الأذهان مطلقة، فلا توجد في الخارج إلا مقيدة بمن قامت به: قيام الصفة بالموصوف، فهي لموصوفها تابعة، فوصف الرب، جل وعلا، فرع عن ذاته القدسية الكاملة، ووصف العبد فرع عن ذاته الأرضية الناقصة، فليس كالرب، جل وعلا، شيء، ذاتا وصفاتا، فليس كعلمه علم فهو العلم الأزلي المحيط بكل الكائنات على حد الإجمال والتفصيل، فعلمه قد عم الكليات والجزئيات، فكل علمه من علمه صادر، فلا علم لهم إلا ما علمهم، ولا علم للرسل إلا ما علمهم، ولا علم لنا من السنن الشرعية والسنن الكونية إلا ما علمنا، إذ أنزل على الرسل، عليهم السلام، الكتب بالأخبار والشرائع، فبلغوها على حد الكمال الذي أقيمت به الحجة، وجاءت الرسالة الخاتمة ناسخة جامعة لعلوم وأعمال الأولين، فحملها الأصحاب إلى سائر الأمم، فأسانيدها متصلة، وأصولها منضبطة، فتلك أعظم نعمة ربانية على البرية كما تقدم مرارا، فذلك علم السنن الشرعية.
ويسر لنا من أسباب المدنية ما حصل به فئام من البشر أجناسا شتى من العلوم الكونية، فعلوم الشرع والكون شعبة من علمه الأول المحيط. ثم ذيلوا الآية بعلة الخبر المتقدم على حد الفصل للتلازم الوثيق بين العلة والمعلول، فعلة قصر العلم على ما تفضل به الرب، جل وعلا، من المعلومات الشرعية والكونية، علته: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، على حد التوكيد بالناسخ المؤكد: "إن"، وضمير الفصل، وتعريف الجزأين، وجاء التذييل بوصفي العلم وما يترتب عليه من الحكمة، ملائما لسياق انفراد الرب، جل وعلا، بالعلم المحيط، فحكمته فرع عن علمه، إذ الحكمة أخص من العلم، فلا تكون حكمة بلا علم، فذكرها بعد العلم من باب الترقي في أوصاف الكمال، وكل أوصاف ربنا، جل وعلا، قد بلغت حد الكمال المطلق، وإنما ذلك جار على ما تعارف عليه البشر من تضمن الحكمة للعلم على حد اللزوم، ولا عكس، فقد يوجد في عالم الشهادة
(يُتْبَعُ)
(/)
من عنده علم، ولكنه يفتقر إلى الحكمة فيكون علمه عليه وبالا، كعلم المدنية الغربية الحديثة التي تفتقر إلى نور الوحي الهادي، فقد كفرت بكهنوت الكنيسة البالي، ولم تهتد إلى دين التوحيد الباقي، فانتقلت من عبادة الكنيسة برسم الخلاص من شؤم الخطيئة الأولى إلى عبادة نفسها برسم الخلاص، ولكن من الكنيسة هذه المرة!، ولسان حالهم: إلحاد يعطي العقل حريته ولو على حد الانفلات خير من تدين يلغي العقل إذ يأمره بانتحال نقل باطل يخالف قياس العقل الصريح إذ هو محال لا يتصوره العقل إلا على حد الفرض الجدلي، وذلك من جنس ما توسوس به الشياطين لا ما يبعث الله، عز وجل، به النبيين.
وما أوتي من أوتي في باب القدر إلا لقياسه علم الرب، جل وعلا، وحكمته على علم العبد وحكمته اللذين لا يدركان إلا المعلوم الآني، ولا يستحسنان إلا المصلحة العاجلة، ولو تولد منها ما تولد من المفاسد الآجلة، فالمعترض على القدر الكوني يرى المصيبة غير جارية على سنن الحكمة!، وإنما أراد حكمته البشرية القاصرة التي تسعى في تحصيل المرادات العاجلة ولو فات بتحصيلها من المصالح الآجلة ما عظم وصفا وقدرا، وأين قدر الدنيا الزائلة من الآخرة الباقية؟!، ولكن عقول العباد، إلا من رحم رب العباد، تزيغ من هول الصدمة الأولى فتعترض بلسان المقال أو الحال طاعنة في حكمة الرب المتعال، عز وجل، وقل مثل ذلك في المعترض على القدر الشرعي، فلا يرى إلا ما يستحسنه عقله سواء أكان ذلك في الأخبار الغيبية أم في الأحكام الشرعية، فالأول: طريقة المتكلمين الماضين ومن تأثر بهم من الخلف المحجوبين عن طريقة السلف المثلى في الإلهيات والسمعيات، والثاني: طريقة المتشرعين الحاليين ومن سار على طريقتهم في منازعة الرب، جل وعلا، حكمه الشرعي الذي هو من أخص أوصاف ربوبيته، فلا ينازعه فيه إلا طاغوت قد جاوز حد العبودية فرام نيل مرتبة الألوهية على حد المقالة الفرعونية: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، فلم يرد ربوبية الخلق، إذ لو ادعاها لضحك منه العقلاء والسفهاء، وإنما أراد ربوبية التدبير بالأحكام النافذة على حد الأمر والنهي الملزم، ولو على خلاف الشرع المنزل، فذلك حال كل ناكل عن طريقة المرسلين إلى طرائق الشياطين، على حد قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
فهو: العليم الحكيم على حد المبالغة فضلا عن دلالة: "أل" على استغراق معاني العلم والحكمة، وقد يقال بأنها: عهدية ذهنية إذ ينصرف الاسم العلم بداهة إلى الرب، جل وعلا، فهو المسمى بالعليم الحكيم على حد التعريف.
وقول شعيب عليه السلام: (وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ): فنفى عودتهم في ملة الإشراك، ولا يلزم من ذلك أن يكون شعيب داخلا معهم، فالأنبياء، عليهم السلام، منزهون عن الشرك، فلا يتعلق بهم إلا على حد الفرض العقلي المحض في معرض الجدال أو بيان مقادير الأعمال على حد ما تقرر مرارا في قوله تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فيكون سياق الآية جار مجرى العموم الذي أريد به الخصوص، فما يكون للجماعة المؤمنة على سبيل التغليب، إذ منها من لم يشرك ابتداء، ليصح القول بجواز عودته إلى ملة الإشراك، ما يكون لها الرجوع إلا أن يشاء الله، عز وجل، ذلك، فقول شعيب، عليه السلام، تجرد من الحول والقوة باستحضار مقام الجلال بتصريف قلوب العباد فلا يأمن مؤمن طائع الوقوعَ في الكفر أو النفاق، إذ القلوب بيد مصرفها على حد القدر الكوني النافذ، فلو شاء لأزاغ القلب القائم باستخراج مادة فساد فيه، قد خفيت على صاحبها حتى أهلكته من حيث لا يدري بمقتضى المكر الإلهي، مكر: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، فما ربك بظلام للعبيد ليسلب العبد نعمة منحه إياها إلا أن يبدل العبد، فيبدل الرب، جل وعلا، على حد قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون على حد قوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ
(يُتْبَعُ)
(/)
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
ومن بديع كلام الحسن، رحمه الله، في هذا الشأن الجليل ما رواه الخلال في "السنة" من طريق: أبي عبد الله، (وهو: أحمد بن حنبل رحمه الله)، قال: ثنا عفان، قال: ثنا أبو الأشهب، قال: ثنا طريف بن شهاب، قال: قلت للحسن: إن أقواما يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق. فقال الحسن: «والله، لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق، أحب إلى من طلاع الأرض ذهبا». قال أبو علي: لك طلاع الأرض: ملؤها
"السنة"، (5/ 77).
وقول أهل الجنة: (الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ): جار على ما تقدم من التسليم لحول الرب، جل وعلا، وقوته، فما كانت هداية الإلهام لتقع لولا أن قدر الله، عز وجل، بفضله، وقوعها، فليست، كما تقدم مرارا، لملك مقرب أو نبي مرسل، فغاية المخلوق من المخلوق في هذا الباب: بذل أسباب هداية الدلالة والإرشاد برسم النبوة أو الدعوة التي تنوب عن النبوة في مقام بيان الشرع على حد التبع لا الاستقلال، فلا يملك أحد الخروج عن شرائع النبيين، فهي القيد الملزم لكل مكلف في دار الابتلاء، فلا نجاة في الآخرة إلا بالسير على طريقتهم التوحيدية المثلى عموما، وطريقة الرسالة الخاتمة خصوصا فهي الجامعة، كما تقدم مرارا، لزبدة ما تقدمها من الرسالات: علوما وأعمالا، أخبارا وأحكاما.
وقول أهل النار: (غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا): جار على حد القدر الكوني النافذ فغلبت علينا شقوتنا من الأزل، إذ كتب الله، عز وجل، عليهم الضلالة عدلا، بكلماته الكونيات النافذات، فلو اجتمع أهل الأرض لهدايتهم ما اهتدوا، وإنما غايتهم، كما تقدم، بذل أسباب الهداية: دلالة وإرشادا لهم.
والاستدلال بقول إبليس: (رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي): مجمل يحتاج نوع بيان فإنه إن كان في معرض تقرير القدر الكوني النافذ، فهو استدلال صحيح فقد شاء الله، عز وجل، غوايته كونا، إذ اطلع بعلمه الأزلي الأول على فساد حاله فصار بذل الهدى له غير جار على سنن الحكمة فلا يليق به إلا قدر الغواية عدلا، ولو شاء الله، عز وجل، لقدر له الهداية فضلا، ولكنه حكم عليه بضدها ليظهر من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما يفوق مفسدة وقوعها.
وإن كان في معرض الاحتجاج بالقدر الكوني على مخالفة الأمر الشرعي فهو قول المشركية من الجبرية الذين قالوا: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)، و: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، و: (أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ): على حد الإنكار المؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع، والإنكار عليهم أولى، والتوبيخ لحالهم أليق.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في موضع تال:
"وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [يس: 47]، فهذه أربعة مواضع فى القرآن بين
(يُتْبَعُ)
(/)
سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 10 - 2009, 02:49 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال مجاهد فى قوله: {وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، قال: مكتوب فى عنقه شقي أَو سعيد". اهـ
ص87.
فالطائر هو: الطائر الكوني، فلا محيد عنه إذ قد قضي أزلا، وقد جاء على حد التوكيد بتقدير عامل محذوف: وألزمنا كل إنسان، على ما تقرر في باب الاشتغال، وفعل الإلزام مشعر بالإيجاب الكوني النافذ. فضلا عن إفراده بالذكر بعد عموم: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)، فعم بذكر تدبيره الكوني العام، ثم خص بذكر أمر السعادة والشقاوة مئنة من عظم شأنها، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهي متعلق آمال المكلفين، فالنجاة في دار البقاء الأبدي: مطمح كل العقلاء من سائر الأمم.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس فى قوله: {وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} [المائدة: 41] يقول: ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً". اهـ
ص87.
فمن أراد، جل وعلا، فتنته كونا، فلن تملك له شيئا، فذلك عموم لا مخصص له، إذ فتن فئام من البشر كان مبدؤهم خيرا، وفتن فئام من البشر مع بلوغهم مراتب عليا في تحصيل مسائل العلم على حد الحفظ والاستظهار، بل قد صاروا فتنة لغيرهم، كما هو حال علماء السوء في كل الأعصار والأمصار، فهم كما وصفهم ابن القيم رحمه الله: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم , فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمّوا: قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له , فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق". اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعدٍ عن سوار بن مصعب عن أبي حمزة عن مقسم عن ابن عباس: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله وأَثنى عليه، ثم بسط يده اليمنى فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله الرحمن الرحيم لأَهل الجنة بأَسمائهم، وأَسماءِ آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، فجمل أولهم على آخرهم، لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم، فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاءِ حتى يقال لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم. فرغ ربكم. وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة، وقد يسلك بأهل الشقاءِ طريق السعادة حتى يقال كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم، فيردهم ما سبق لهم من الله، فيعمل بعمل أَهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة، فصاحب الجنة مختوم له بعمل أَهل الجنة وإِن عمل عمل أَهل النار، وصاحب النار مختوم له بعمل أَهل النار وإِن عمل بعمل أَهل الجنة، ثم قال رسول الله: (الأَعمال بخواتيمها) ". اهـ
ص87.
والحديث متكلم في إسناده ففيه: سوار بن مصعب. قال في ترجمته في "ميزان الاعتدال":
"قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي وغيره: متروك. وقال أبو داود: ليس بثقة". اهـ
فالكتاب الأول قد جمل الأولين والآخرين، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، وإن زيد ونقص في صحف الملائكة فالقضاء فيها معلق بالأسباب، فمن بذل أسباب الهداية بعد الضلال، كتب في صحفهم مهديا بعد أن كان ضالا غويا، ولكنه في الكتاب الأول: مهدي انتهاء، وإن كان ضالا ابتداء، فهدايته أمر قد أبرم على حد الجزم والنفاذ، مع كونه حال ضلاله: مسخوطا عليه، غير مرضي عن حاله، فلما بدل، تبدل السخط رضا، وذلك معنى مطرد منعكس، فلو بذل أسباب الضلال بعد الهداية كحال من انتكس مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، على تصريف القلوب هداية وضلالا، لو بذلها، لكتب في صحفهم ضالا بعد أن كان مهديا، مع كونه في الكتاب الأول ضالا انتهاء، فالمعنى، كما تقدم، مطرد منعكس، على حد السنة الجارية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فمن غير من ضلال إلى هدى غير الله، عز وجل، حكمه من السخط إلى الرضا والعكس صحيح.
و: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ثم قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الأعمال بخواتيمها": فذلك قد صار جاريا مجرى الأمثال، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالأعمال بخواتيمها: صحة أو بطلانا، ثوابا أو عقابا، وذلك مما يستوجب سؤال الله، عز وجل، الهداية: ليل نهار، وسؤاله الثبات على طريقها، وسؤاله الموافاة عليها بأن يقبض السالك حال سيره على طريقها.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 10 - 2009, 06:18 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وفي قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ} [الأنعام: 35]، وفي قوله: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأَنعام: 125]، وفي قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111]، وفي قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} [يس: 8]، وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، ونحو هذا من القرآن، إِن رسول الله كان يحرص أَن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأَخبره الله أَنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة فى الذكر الأَول، ثم قال لنبيه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، ويقول: {إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، ثم قال: {مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} [آل عمران: 128] ". اهـ
ص87، 88.
فقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ):
فسواء عليهم الإنذار وعدمه فالهمزة: همزة الاستفهام التي تدخل على المصدر المؤول من: "أنذرتهم"، ولا يعني ذلك أن تبليغ الحجة الرسالية في حقهم عبث، بل هو وظيفة الرسل الأولى، فلا يؤمنون، لتعلق ذلك بعلم الله الأزلي، الذي لا يجوز الاحتجاج به، إذ لا يحتج عاقل بما لا يعلم، وإنما يتحرى الحق المؤيد بالبرهان النقلي والعقلي ليعمل به لا ليعارضه بالقدر الكوني النافذ، فإن لازم ذلك ألا يعمل صالح أو طالح، فقد عرفت مصائرهم ابتداء، فعلام العمل؟!، وهو السؤال الذي أجاب عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، فإيمانهم، كما تقدم، ممكن مقدور، والممكن المقدور يصح توجه التكليف به، فليس محالا في ذاته، ليمتنع التكليف به، وإنما صار محالا في هذا السياق لغيره، إذ سَبْق العلم الأزلي فيهم بعدم الإيمان، قد أحال وقوع الإيمان منهم كونا، وإن أمكن وقوعه شرعا، وليس كل ممكن يقع، فالله، عز وجل، على كل شيء قدير، وليس كل ما يقدر عليه يفعله، بل قد شاء عدم وقوع بعض ما يقدر عليه من الأفعال، فلا تقع، ولو كانت خيرا، إذ بفواتها تظهر حكم جليلة وتستجلب مصالح عظيمة للبشر كما تقدم ذلك مرارا.
فالختم على قلوبهم: كوني، لا شرعي، إذ لا يريد الله، عز وجل، من عباده المعصية شرعا وإن قضى بها عليهم كونا.
ومن قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى):
ولكنه لم يشأ فلم يجمعوا، إذ اقتضت مشيئته الكونية، ولا تكون المشيئة إلا كونية كما تقدم مرارا، اقتضت ضلالهم، فالله، عز وجل، أضلهم بسابق علمه الأزلي فيهم مع توجه خطاب الهدى إليهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، فالتكليف الشرعي متوجه إليهم، وإن كان القدر الكوني نافذا فيهم، فهو، كما تقدم، غيب تالي لا يحتج به على إبطال خطاب التكليف الحالي، فواجب الوقت: الإيمان، وآلات الاستطاعة الشرعية صحيحة، فكيف يعتذر من ذلك حاله من الإمكان على سبق علم الله، عز وجل، فيه بأنه ضال، مع كونه لا يعلم الغيب ليحتج به، ولقائل أن يقول: بل قد سبق في علمه أنك مهتد فاهتد، فدعوى مقابل دعواك، فهذا من باب الإلزام العقلي لا أكثر، إذ لا يعلم الغيب في كلا الحالين إلا الله، عز وجل، فالمسألة جارية مجرى:
(يُتْبَعُ)
(/)
رد الدعوى الباطلة بدعوى من جنسها على سبيل التنزل في الجدال لا الاعتقاد والانتحال في نفس الأمر، إذ لا ينتحل مؤمن ادعاء علم الغيب.
ومن قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ):
فهذا من المقابلة المستوفية لشطري القسمة العقلية في معرض تقرير عموم قدرة الرب، جل وعلا، على كل الممكنات، فمن يرد كونا هدايته يسر له أسباب الهدى فـ: "يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ"، وفي المقابل: من يرد كونا ضلاله، أضله بتضييق صدره وحجب الهداية عنه، وإن لم تحجب عنه حجتها، فقد تفضل الرب، جل وعلا، ببيان الحجة، فذلك فضل أول لا يستحقه مؤمن ولا كافر، على جهة الوجوب على الرب القاهر، جل وعلا، فلا موجب عليه إلا نفسه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك مرارا، فبانت الحجة واختص الرب، جل وعلا، بعض عباده، بمقتضى علمه الأول فيهم وحكمته البالغة في إعطائهم وحرمان غيرهم، اختصهم بهداية الإلهام فهي أخص من هداية البيان، فليس كل من علم عمل، ولا عكس، فكل من عمل فقد علم ابتداء، فذلك من اللزوم العقلي بمكان، إذ العمل، كما تقدم مرارا، فرع عن العلم، فلا يتصور حكم عملي ظاهر إلا بعد تصور علمي باطن، والملك له، جل وعلا، مشفوعا بالحكمة التي لا يضع صاحبها الشيء إلا في موضعه، فوضع هدايته وتوفيقه في فئام من عباده حتى بلغوا حد النبوة اصطفاء والصديقية امتثالا، ورفعها عن فئام ليسوا لها بأهل، بل هم بضدها أحق، فلم يظلمهم ما هو لهم، بل حجب عنهم ما هو له، فلا يلام، جل وعلا، إذ منعهم ما ليس لهم، فالمانع إنما يلحقه الذم إذا منع غيره ما هو له، كحال الظالم الذي يقهر المظلوم حقه، وذلك معنى منتف في حق الله، عز وجل، بداهة، فإذا كان بعث الرسل ابتداء غير واجب عليه، عز وجل، بل هو من الممكن الجائز، فكيف يجب عليه ما هو أخص من: وجوب هداية الناس على حد الإلهام والانقياد؟!. ومنشأ الزلل كما تقدم مرارا: قياس فعل الرب، جل وعلا، على فعل العبد في تسوية جائرة، لا يشهد لها نقل صحيح أو عقل صريح، إذ قد علم بداهة مباينة الرب، جل وعلا، لخلقه: ذاتا وأسماء وصفات وأفعالا.
وقد ذيلت الآية بقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ): فذلك من الجعل الكوني فرعا عن عدم الامتثال الشرعي، فوصف عدم الإيمان الذي اشتقت منه الصلة علة وقوع ذلك الجعل الكوني النافذ عليهم بالرجس المعنوي والعذاب الحسي، فأفادت الآية بمفهومها ارتفاع الحكم بارتفاع الوصف الجالب له، إذ الأحكام، كما اطرد مرارا، تدور مع عللها وجودا وعدما.
ومن قوله تعالى: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ):
فالنفي قد تسلط على حد الجحود إمعانا في تقرير انتفاء الإيمان عنهم كونا، إلا أن يشاء الله، عز وجل، بقدره الكوني النافذ وقوعه منهم.
ومن قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا):
ولكنه، عز وجل، كما تقدم مرارا، لم يشأ ذلك، وإن خاطبهم بخطاب الإيمان على حد الإلزام على ألسنة الرسل الكرام عليهم السلام، فحكمته قد اقتضت حجب مادة الإيمان عن قلوبهم، فخرجوا من دائرة فضله إلى دائرة عدله.
وكذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا):
فدخلت اللام على: "لآمن": توكيدا وتقريرا، وأكد الفاعل بمؤكدين لفظيين: "كُلُّهُمْ جَمِيعًا"، مئنة من عموم قدرة الرب، جل وعلا، على الهداية الإيمانية فضلا، فإذا لم يشأ الرب، جل وعلا، ذلك مع كمال قدرته، فكيف تصح مشيئة العبد له، على حد الإلزام مع عجزه، ولو كان نبيا مرسلا بل لو كان خاتم المرسلين وأفضلهم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عجزه عن هداية آحاد البشر على حد قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
(يُتْبَعُ)
(/)
والأغلال في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا): أغلال كونية قيدت قلوبهم فلم تتحرك تحصيلا لأنوار الهداية الربانية.
والإغفال في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا): متعد بالهمزة، فالباري، عز وجل، هو المنبه لقلوب من شاء من عباده فضلا فتستيقظ من سباتها وتنهض إلى تحصيل أسباب الشرع التي توجب لصاحبها الفلاح في كلا الدارين وهو في المقابل: المُغْفِل، اسم فاعل من "أغفل" بضم الميم وكسر الفاء، المغفل لقلوب من شاء من عباده عدلا فتنصرف قلوبهم عن تحصيل أسباب النجاة إلى الولوغ في أضدادها من أسباب الهلاك، وذلك جار على ما تقدم من استيفاء للقسمة العقلية فهي مئنة من نفاذ قدرنه الكونية في عباده، ووصفه، جل وعلا، بـ: "المنبه" إنما يجري مجرى الإخبار عن الرب تبارك وتعالى لا التسمية فإنها توقيفية أو الوصف إذ لم يأت بذلك نص بل ذلك جار، كما تقدم، مجرى الإخبار عنه باسم القديم واسم الأزلي فهو مئنة من أوليته المطلقة التي دل عليها اسمه الأول، فكذلك الإخبارعنه بوصف التنبيه مئنة من ثبوت وصف تصريف القلوب الثابت له في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ".
ثم أنزل الله، عز وجل، على نبيه، كما يقول ابن عباس، رضي الله عنهما، آيات من قبيل:
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ): في معرض العتاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليترفق بنفسه إذ ما قضى الله، عز وجل، كائن، فلا يكلف نفسه ما لم يكلف به من هداية من قضى الله، عز وجل، بضلالهم، فحسبه أن يقوم بما أنيط باستطاعته الشرعية من العمل بأحكام الرسالة في نفسه، وتبليغها إلى غيره. على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وإنما يصح الاحتجاج بعذه الآية بعد أداء واجب البلاغ ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا، فلا يحتج بها على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر الاستطاعة، كما أثر عن الصديق رضي الله عنه، فالتبليغ: درجات متفاوتة فليس الواجب منه على النبي المرسل كالواجب على العالم، وليس الواجب على العالم كالواجب على آحاد المؤمنين. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليس الواجب منه على القوي كالواجب على الضعيف، وليس الواجب على الإمام القادر كالواجب على آحاد الرعية ممن لا يقدرون على إزالة المنكرات العامة، وليس أصحاب الولاية الخاصة كالآباء والأزواج كمن لا ولاية له ألبتة كالأبناء والإخوة فأولئك، إن أحسنوا القول والعمل، لا تتعدى ولايتهم: ولاية النصح والإرشاد على سبيل الترفق، ولكل مقام مقال، فللجلال مقال وللجمال مقال، ولا يصلح أحدهما في موضع الآخر.
و: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ): فنكرت الآية في معرض بيان قدرة الله، عز وجل، الكونية النافذة، نكرت تعظيما، فلو شاء الله، عز وجل، لآمنوا ولو لم تنزل عليهم آية تحمل الناظر فيها على القبول والإذعان، فكيف إذا نزلت آية كتلك الآية، فمرد الأمر في كلا الحالين إلى قدرته، عز وجل، الكونية، على تقليب القلوب من الضلال إلى الهدى، وإنزال الايات في معرض الانتصار لرسله عليهم السلام.
و: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ): فذلك جار، أيضا، مجرى استيفاء القسمة العقلية على حد المقابلة، فأي جنس من أجناس الرحمة، دلت عليه: "من" الجنسية البيانية، أي رحمة دينية أو دنيوية، إذ قد وردت منكرة في سياق شرط فذلك من العموم كما اطرد في الأصول، أي رحمة هذا وصفها شاء الرب، جل وعلا، إرسالها إلى عباده بمقتضى فضله وكرمه، فلا ممسك لها إذ لا راد لقضائه الكوني النافذ، وفي المقابل: أي رحمة حجبها الله، عز وجل، عن عباده، بمقتضى عدله فلا مرسل لها، ففي الآية من العمومات ما يقطع بانفراد رب البريات، جل وعلا، بتقدير المقدورات: كونية كانت أو شرعية، فلا ينازعه في ذلك إلا من بلغ حد
(يُتْبَعُ)
(/)
الطغيان فرام منازعة الرب، جل وعلا، قضاءه الكوني، وإنما القضاء الكوني مما يدافع بالأسباب المشروعة: دينية كانت أو دنيوية، فلا يدعي عاقل فضلا عن مؤمن استقلاله بتدبير أمره الكوني: إحياء أو إماتة، فرحا أو غما، فحاله شاهدة على دعواه بالبطلان إذ ليس له من أمر نفسه شيء إلا ما أقدره الله، عز وجل، عليه، على حد التفضل والامتنان، من تحصيل أسباب الشرع والكون النافعة.
أو رام منازعته فضاءه الشرعي فنصب نفسه بلسان الحال إلها شارعا للأحكام، فهو، كما تقدم في أكثر من موضع، لابس ثوبي الزور إذ قد تشبع بما ليس فيه من أوصاف الكمال من علم محيط وحكمة في التدبير وقدرة على التنفيذ ......... إلخ، بل حاله على الضد منها، فالنقصان وصف ملازم له، والافتقار إلى الأسباب حكم نافذ فيه، فكيف صحت متابعة من ذلك وصفه من النقصان، ومخالفة الرب العلي، جل وعلا، الذي له من أوصاف الكمال ما بلغ حد الإطلاق.
و: (ليس لك من الأمر شيء): فذلك أيضا: من العموم، إذ قد تسلط النفي على النكرة: "شيء"، و: "أل" في الأمر: ذهنية عهدية تنصرف إلى الأمر الكوني بالهداية والإضلال، إذ له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولمن قام مقامه في بيان الشرع من العلماء الربانيين، لهم من الأمر الشرعي نصيب، فأعلى الأنصبة: أنصبة الرسل المصطفين عليهم السلام، فقد هيأهم، جل وعلا، بما جبلهم عليه من كريم الخلال وكمال الأوصاف، لحمل الرسالة التي بورودها تقام الحجة، وباتباعها تكون النجاة، وبعدهم من اصطفاهم الله، عز وجل، لحمل الشرع إلى سائر المكلفين من العلماء والمجاهدين، فالأولون فرسان ميادين العقول، والآخرون: فرسان ميادين الأبدان، فالدين: حجة ماضية تقطع كل حجة وسيف ماض يقطع كل عدو للرسالة، فتلك ثنائية: الكتاب الهادي والحديد الناصر، وقد سبقت الإشارة إليها في أكثر من موضع.
فلهم وليس لهم: لهم امتثال أحكام الرسالة في أنفسهم وبيانها لغيرهم وإزالة كل عائق يحول بينهم وبينها من سائر صور الطغيان والقهر الفكري والجسدي، فالحجة الرسالية، كما تقدم، رافعة للقهر الفكري الذي يمارسه الطواغيت المتنفذون باسم الدين من أحبار ورهبان وباباوات وشيوخ ليس لهم من رسم الفضيلة نصيب، أو لهم منها نصيب بل ربما بلغوا الذروة منها، ولكن السدنة من المنتفعين بحظوتهم عند الناس قد غلوا فيهم ليترأسوا على أتباعهم برسم الديانة المهيمنة على قلوب عموم المكلفين بمقتضى ما جبلوا عليه من الفقر الذاتي إلى إله يعبدونه على حد الرغبة والرهبة، فالقهر الفكري وسيف النجاة أو الهلكة المسلط على رقاب الأتباع، فلا سؤال عن حجة تطمئن بها النفس وينشرح لها الصدر إذ ذلك مما لا يصح للعوام الخوض فيه ولو كان أصل الديانة الذي يستوي فيه العام والخاص، القهر الفكري الذي يمارسه الرهبان على أتباعهم والمراجع على مقلديهم والشيوخ على مريديهم: جنس واحد.
والسيف رافع للقهر الجسدي الذي يمارسه الطواغيت من القياصرة والأكاسرة ومن على شاكلتهم إذ بظهور الحق زوال رياساتهم ومآكلهم، فالشرع ينزع منهم السلطان المطلق ليرده إلى الرب، جل وعلا، فيصير سلطانهم في الأرض على حد الابتلاء بالاستخلاف لا على حد الهيمنة المطلقة التي لا تخضع للنبوة، فهما متضادان بل متحادان قد وقع الشقاق والنزاع بينهما، فجرد أتباع النبوات، ممن أمروا بالجهاد، سيوفهم لنشر الملة الخاتمة حسما لهذا النزاع، كما فعل الصحب الكرام، رضي الله عنهم، الذين أدخلوا أمم الشرق المسلم في دين التوحيد بفضل الحميد، وقدرة المجيد تبارك وتعالى.
وللسيف أحكام يضيق المجال عن ذكرها إذ ليس سله أمرا ارتجاليا يوكل إلى آحاد الناس ليتولد من ذلك من المفاسد ما الله به عليم، والفقهاء قد استوفوا بيان أحكام جهاد الدفع والطلب فلا كلام بعد كلامهم.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك مصداق قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ): فظهوره حاصل إما بكليهما في أزمنة العافية، وإما بالحجة في أزمنة الابتلاء، كزماننا الذي اشتد فيه البلاء وعظمت فيه المحنة، فلا كاشف لها إلا الله، عز وجل، بقدره الكوني إذا راجعنا ديننا وامتثلنا قدره الشرعي، فتلك سنة مطردة لا تجامل أو تحابي أحدا ولو كان من أتباع الأنبياء عليهم السلام.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[14 - 10 - 2009, 05:47 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم عن طاووس: أَدركت ناساً من أَصحاب رسول الله يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) ". اهـ
ص88.
فذلك من العموم المحفوظ الذي ذيل بذكر أحوال العبد الإرادية من العجز إذا لم يخلق الله، عز وجل، له الإرادة، وضده من الكيس إن قدر الله، عز وجل، له الفعل، فيخلق فيه الإرادة التي بها يكون الفعل، ويخلق فيه طاقته، ويخلق فيه عين الفعل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم أيضاً عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلق قبل أَن يخلق السماوات والأَرض بخمسين أَلف سنة وعرشه على الماءِ) ".
ص88.
فتلك الكتابة بخلاف العلم فهو أزلي أولي بأولية الباري، عز وجل، الأولية المطلقة، فلا مبدأ له، عز وجل، ولا مبدأ لصفاته إذ لم يكن مجردا عنها ثم عرضت له كما يعرض الوصف لآحاد المخلوقين كمالا بعد نقصان أو ضده، بل هو، عز وجل، الكامل ذاتا وأسماء وصفات وأفعالا أزلا وأبدا، ولا بعتري كمالَه النقصانُ أيا كان.
وفي الحديث دليل على تقدم خلق العرش، ولا يعني ذلك أنه أول المخلوقات مطلقا، بل ذلك منتهى علمنا، فلا نعلم ما قبل العرش من المخلوقات على قول المحققين من أهل السنة بـ: جواز التسلسل في الأزل، إذ لم يزل ربنا، جل وعلا، خالقا متصفا بالخلق وإن لم يكن ثم مخلوق، فهو خالق بالقوة قبل أن يخلق، خالق بالفعل بعد أن خلق. فأوصاف كماله أزلية لا تنفك عن ذاته القدسية، فأزلية الصفات من أزلية الذات، كما أن حقيقة الصفات فرع عن حقيقة الذات، فكما لا يدرك العقل حقيقة الذات وإن أدرك معناها، فكذلك الصفات يدرك معانيها ويجهل حقائقها التي استأثر الله، عز وجل، بعلمها.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيحه أَيضاً عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأَحب إِلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإِن أصابك شيء فلا تقل: لو أَني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاءَ الله فعل. فإِن لو تفتح عمل الشيطان".
ص88.
فالمؤمن القوي قد قام بقلبه من التوكل وسائر أعمال القلوب التي يتفاوت الناس فيها بتفاوت أعيانهم، قد قام بقلبه من تلك الأعمال الجليلات التي تتولد من التضلع بصحيح علوم النبوات الهاديات، قد قام بقلبه من تلك الأعمال التي لا تقوم بالظاهر قيام الأعمال بالجوارح بل هي أدق وأخفى وأعسر في التحصيل وإن كان لكل منهما قدر عظيم في الشريعة الجامعة بين الروح والبدن، قد قام بقلبه منها ما لم يقم بقلب المؤمن الضعيف، فقوي قلبه بمباشرة النعمة شكرا، والنقمة صبرا، ومعالجة الإيمان بالقدر الذي يولد في النفس شجاعة وكرما، فهما قرينان لا يفترقان ولا يجتمعان إلا في قلب قوي جريء، فندر أن يتصف أحد بأحدهما دون الآخر.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وفي كل خير": احتراس لئلا ييأس أصحاب القلوب الضعيفة، فإن القدرة مناط التكليف، وما لا يدرك كله لا يترك كله، فلا بد أن يوجد الخير في المؤمن، وإن قل، فهو بتحقيق أصل الإيمان الباطن وأعمال الإسلام الظاهر، ناج وإن كان مخلطا، إما ابتداء بفضل من الله، عز وجل، ومنة، وإما انتهاء بعد أن يفتن في النار فتنة الذهب فتخلص نفسه من شوائبها خلوص الذهب من شوائبه.
ثم أرشد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا:
(يُتْبَعُ)
(/)
فـ: "احرص على ما ينفعك": فعموم "ما": يشمل سائر المصالح الدينية والدنيوية المعتبرة فإن الشرائع الإلهية ما جاءت إلا لتحصيل أعظم قدر من المصالح المعتبرة لا المتوهمة، ودرء أعظم قدر من المفاسد المعتبرة لا المتوهمة أيضا. والعقل، وإن كان يدرك وجه المصالح والمفاسد إجمالا، إلا أنه لا يستقل بدركها على جهة التفصيل، فلا بد من بيان الرسالات لأحكام الباطن العلمية وأحكام الظاهر العملية، فالعقل يدرك أمر الغيب إجمالا: فيدرك بفطرته وحسه وقياس عقله وجود قوة إلهية عليا تدبر الشأن الكوني العام، وتدبر شأنه الفردي الخاص، ويدرك وجود حياة أخرى بعد هذه الحياة، فتلك، كما تقدم في مواضع سابقة، ضرورة شرعية وعقلية، فللعقل في إدراكها مدخل، وللفطرة في إدراكها مدخل، وللحس الذي يعالج الموتة الصغرى يوميا ويشاهد إعادة الخلق بعد إفنائه في جسده الذي تستهلك منه يوميا آلاف الخلايا فتستبدل الجديدة الفتية بالقديمة المسنة، وذلك يحدث أثناء النوم الذي تجري فيه عملية صيانة دورية للجسد، فيتم التخلص من التالف وإحلال السالم ولا يكون ذلك إلا في نوم الليل الذي جعله الله، عز وجل، لباسا، فموافقة السنة الكونية مظنة صلاح البدن، كما أن موافقة السنة الشرعية مظنة صلاح الروح، ويشاهد إحياء الأرض الموات بنزول المطر عليها، فكل تلك الأدلة شاهدة على جواز بل وجوب بعث الأجساد ونشورها يوم الحشر الآخر.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فلا تقل": إرشاد إلى ما ينبغي على العبد فعله إذا فاته مراد كان يسعى في تحصيله، وذلك، أيضا، مما يفوت كثيرا منا في أمور يسيرة، فلسان الحال فيها مع يسرها، التسخط والتبرم، وربما تعدى ذلك إلى لسان المقال، فيفارق العبد مرتبة الصبر، ومرتبة الرضا من باب أولى، فيكون ذلك ذريعة إلى سقوطه من عين الرب، جل وعلا، إذ قد فارق الرضا عنه، فكيف يرضى الله، عز وجل، عنه؟!
فـ: "لو": موضع ذم في هذا السياق إذ قد انقضى الأمر، فسار اجتراره مظنة الجزع وقلة الصبر والطعن في حكمة الرب، جل وعلا، تصريحا أو تلميحا، بخلاف: "لو" في نحو قولك: لو آمنت لنجوت، فذلك تعليق وقوع مشروط مستقبل على وقوع شرطه، فليس فيه سخط على أمر ماض قد انقضى لتصير "لو" فيه: على حد "لو" الشيطانية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 10 - 2009, 05:34 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفى صحيحه أَيضاً عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ النّذْرَ لا يُقَدِّرُ لابن آدمَ شَيئاً لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ وَلَكِنِ النَّذْرُ يُوافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ ذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ) ".
فالنذر على جهة المعاوضة: مكروه، إذ الله، عز وجل، ليس بفقير إلى العوض، فتصور التبادل بينه وبين المخلوق المربوب الفقير: تصور فاسد، إذ ليس المربوب ندا للرب، جل وعلا، ليعاوضه معاوضة: بيع وشراء، أو ثمن ومثمن، فالله، عز وجل، غني عن العالمين ذاتا بل مغنٍ لهم فعلا، كما تقرر في مواضع سابقة، فلا يفتقر إلى ما ينذره العبد، فغاية الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فَيُخْرِجُ ذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ"، فيوافق القدر إذ ليس سببا مؤثرا في استجلاب منفعة أو استدفاع مفسدة، فليس كالدعاء الذي يرد القضاء، إذ هو من القدر الذي يستدفع به القدر، فهو سبب شرعي تستدفع به النوازل الكونية، وتتبدل به الأقدار المسطورة في صحف الملائكة بما يوافق المسطور على حد الإبرام في اللوح المحفوظ.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان قال: (الإِيمانُ أَنْ تُؤمنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) "
ص88.
فعرف الإيمان بأركانه، فهو جار مجرى تعريف الشيء بذكر أجزائه.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وفي الصحيحين حديث ابن مسعود فى التخليق وفيه: (فوالذي لا إِله غيره إِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهل النار فيدخل النار، وإِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها) "
ص89.
فيسبق عليه الكتاب الأول بالسعادة فييسر لعمل أهل السعادة، ولو في آخر حياته، فذلك من فضل الله عز وجل.
ويسبق على الآخر الكتاب أيضا فييسر لعمل أهل الشقاوة، ولو في آخر حياته، فذلك من عدل الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر الطبري الحسن بن علي الطوسي أَنبأَنا محمد بن يزيد الأَسفاطي البصري محدِّث البصرة قال: رأَيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق - أَعني حديث القدر - فقال: إي والله الذي لا إِله إِلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله حيث حدث به، ورحم الله الأَعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأَعمش، ورحم الله من يحدث به بعد الأَعمش". اهـ
ص89.
فتلك من الرؤى التي يستأنس بها إذ الحديث ثابت بإسناده ابتداء، فليس المعول عليه في باب التصحيح والتضعيف: منامات غير الأنبياء عليهم السلام ممن لم تثبت بل انتفت عصمتهم، فليس كل ما نطق به غير الأنبياء عليهم السلام في أمر الديانة: صوابا، إذ ذلك لا يكون لغير المعصوم الموسوم بسمة الرسالة، فكل يؤخذ من كلامه وأحلامه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا فرقان في باب مصادر التلقي فإن الرؤى قد صارت عند فئام من البشر مصادر تشريعية مؤسسة أو ناسخة، فراهب يأتيه هاتف شيطاني في منامه بإباحة سائر المطعومات، ولو خبثت، فيصير دينا ملزما للأتباع، وشيخ يرى في المنام أضغاث أحلام فتصير رسم الطريقة الناجية!.
وما ذلك إلا لفقرهم من المنقول الصحيح، فهم من أجهل الناس به، فاستعاضوا عنه بمصادر تكميلية للشرائع المنقوصة، بزعمهم، فقد أتت عقولهم بما لا تأت به الأنبياء عليهم السلام من أحكام الحلال والحرام، والعمدة في ذلك: خارقة كونية تجري على يد القديس أو الشيخ، فيصير على حد العصمة، فما نطق به أو رآه هو الصواب المحض، إذ لا تجري الخارقة إلا على أيدي الخواص!، مع أن الثابت أن الخارقة قد جرت على أيدي كثير من المارقين، على حد فتنتهم في أنفسهم وفتنتهم لغيرهم.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: (الشقي من شقي فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره) ".
ص89.
فالحديث جار مجرى التعريف المبين لمعرف مجمل فذلك آكد في التشويق، وقدم الشقي على السعيد، تخلية قبل التحلية، إذ النذير في هذا المقام أولى بالتقديم من البشير، فدرء المفاسد التي تتولد من الشقاوة مقدم على جلب المصالح التي تتولد من السعادة.
فالشقي هو من شقي على حد الجناس الاشتقاقي الذي يزيد المعنى بيانا، هو من شقي في بطن أمه بجريان قلم التكوين عليه بالقضاء الكوني النافذ بالشقاء، وليس ذلك بحائل بينه وبين تبعة التكليف إذ ذلك مما لا يعلمه ابتداء ليحتج به، بل هو لما خلق ميسر، فجرى القلم بما هو كائن، وأنزلت الكتب على الرسل، عليهم السلام، بالحجاج القاطع لأعذار أعداء الديانة، فالقدر كائن بما أراد الله، عز وجل، من الأزل، فالله، عز وجل، قد علم السعداء والأشقياء من الأزل فليس علمه بهم كائنا وقت كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، بل هو كذاته القدسية: أول، فليس قبله، عز وجل، شيء: ذاتا أو صفاتا، والعلم من أوصافه الذاتية، فأزليته من أزلية الذات، وأوصاف الأفعال ذاتية من جهة نوعها، فأزليتها من أزلية الذات، وإن كانت آحادها حادثة وفق المشيئة الربانية النافذة.
والسعيد من وعظ بغيره: فذلك الشطر الثاني من القسمة العقلية، فتعريف الشقي في نفسه، وتعريف السعيد في الاتعاظ بغيره. ولن يكون ذلك إلا بمشيئة الله، عز وجل، له السعادة، فييسر له أسبابها، إذ لا يتوصل إلى الدرجات والدركات إلا بالعمل الذي ييسر الله، عز وجل، أسبابه: خيرا أو شرا.
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا يظنن ظان أنه ناج بعمله مكتف بحوله وقوته، إذ ذلك وصف الخذلان، فلم يوكل أحد إلى حوله وقوته إلا عجز وهلك، إذ هو من الضعف بمكان، وأعداؤه من شياطين الإنس والجان من القوة والقدرة بمكان، فضلا عن نفسه الأمارة، وما يعرض له من النوازل المذهلة للعقول، والعوارض المذهبة للقوى العقلية والبدنية من مرض وعجز وهرم، فذلك مما يحل عرى الهمم البشرية التي يصيبها الضعف والكلال، فإن لم تلتجئ إلى الرب، عز وجل، على حد الافتقار والخروج من الحول والقوة، وكلت إلى قواها الذاتية، وهي كما تقدم، قوى من الضعف والنقص بمكان.
ومن كلام أئمة أهل الطريق المحققين في هذا الشأن الجليل:
كلام أبي سعيد الخراز رحمه الله: "من ظن أنه ببذل الجهد يصل فمتعنٍ ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمنٍ". اهـ
قال ابن تيمية رحمه الله:
"وهذا كلام حسن كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان.
وقال: لن يدخل أحدا عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته". اهـ
"الاستقامة"، ص139.
فليس الجهد كافيا، إذ هو منقوص مدخول معارض بما يصعب حصره من العوارض والصوارف، فإن لم يكلله الباري، عز وجل، بالسداد والقبول، فيربيه، مع حقره في مقابل نعم الرب الكريم جل وعلا، فيربيه لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى يصير كأحد جرما ووزنا في ميزان الأعمال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إن لم يكلله الله، عز وجل، بالسداد والقبول على الحد المتقدم فصاحبه هالك لا محالة.
وليس الوصول إلى المراتب العلية بالأماني القلبية الجارية مجرى الوساوس النفسية، فتلك بضاعة المفلسين، بل لا بد من استجلاب قدر النجاة الكوني بما سنه الله، عز وجل، من أسباب الشرع، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له".
وهو الحديث التلي الذكر في كلام ابن القيم رحمه الله:
"وفي الصحيحين حديث على عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له: أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسري} [الليل: 5 - 10] ". اهـ
ص89.
فقد علم أهل الجنة وأهل النار على حد القطع الجازم، فلا يتبدل القضاء النافذ، فقد أبرم وسطر في اللوح المحفوظ، وقضي الأمر، ولكن ذلك الأمر، كما تقدم، لا يستجلب إلا بسببه الذي يباشره العبد في عالم الشهادة فيصح تعلق العلم الثاني به، فهو الذي قد أنيط به قدر الثواب والعقاب الكوني، فلا ثواب ولا عقاب على مسطور غير كائن، حتى يصير مفعولا كائنا بإرادة العبد الاختيارية التي توافق مشيئة الرب الكونية حتما، وإن خالفت إرادته الشرعية حال العصيان، فيكون فعل الطاعة مستجلبا لقدر النجاة المسطور في الكتاب الأول، فلا بد من العمل إذ هو متعلق الثواب والعقاب، وكل ميسر، فإن النفوس قد خلقت للعمل لا للبطالة، فإن لم تستعمل في الطاعات، ولا يكون ذلك إلا بتيسير الرب، جل وعلا، لأسبابها فضلا وامتنانا، فيوجد في فاعلها استطاعة كونية يباشر بها الأسباب ويوقع بها الفعل على حد التأثير في إيقاعه لا الاقتران به كما قال أصحاب نظرية الكسب، وهي في تأثيرها لا تستقل عن الإرادة الكونية العامة فهي داخلة تحتها ضرورة، وإن صح تعلق التكليف بها إذ ليس الفاعل مكرها كونا، بل لو كان مكرها على حد ما قررته الشرائع من أحكام المكره فإنه لا يؤاخذ على أفعاله، على تفصيل في ذلك. فإن لم تستعمل تلك النفس في الطاعات: استعملت في ضدها من المعاصي والآثام، على ذات الحد من الاختيار الذي لا يخرج عن الإرادة الكونية العامة، فييسر الله، عز وجل، للعاصي، أسباب المعصية، عدلا إذ قضى عليه بالخذلان فهو له أهل، وإن توجه إليه خطاب التكليف
(يُتْبَعُ)
(/)
بضده، وذلك مما يسقط حجج أهل الجبر الذين يحتجون بالقدر الكوني على إبطال الأمر الشرعي، إذ يقال لهم: إن للسعادة أسبابا وللشقاء أسبابا، فكما باشرتم أسباب الشقاوة المهلكة، باشروا، على حد التكليف الشرعي، أسباب السعادة المنجية، وفي كلا الحالين لن تخرجوا عن حد المشيئة الكونية النافذة، فما أطاع طائع ولا عصى عاص إلا بقدر كوني نافذ.
وذلك الحديث لمن تأمله: حامل على الفعل لا على الترك اتكالا على الكتاب الأول، إذ في ذلك إبطال لسنن الشرع، بل ولسنن الكون القاضية بتولد المسبَّب من سببه، فالطاعة سبب النجاة، وذلك مما توجه التكليف الشرعي بامتثاله، والمعصية سبب الهلاك، وذلك مما توجه التكليف الشرعي باجتنابه، وكلاهما كائن بقدر كوني نافذ، فيستجلب المسبَّب بمباشرة سببه، كما اطرد من السنة الكونية الجارية فذلك أمر جار في الديانات وفي العادات، فإن الشبع لا يحصل إلا بمباشرة سببه من تناول المطعوم، فكذلك النجاة لا تحصل إلا بمباشرة أسبابها، فمن رام النجاة بلا عمل، فهو على حد من رام الشبع بلا طعام، وذلك مما يلزم أهل الجبر، ويدل على فساد طريقتهم في هذا الباب، فالقدر الكوني لا يعارض القدر الشرعي، بل القدر الشرعي إذا كان فبالقدر الكوني، وإذا لم يكن فبالقدر الكوني أيضا، فالأحرى التزام القدر الشرعي لتتوافق الإرادتان: الشرعية والكونية في العبد، بخلاف من عارض تلك بتلك فلم يحظ إلا بموافقة القدر الكوني الذي يستوي فيه البر والفاجر.
والحديث التالي على حد هذا الحديث السابق:
"وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم"، قيل له: ففيم يعمل العالمون؟ قال: (نعم، كل ميسر لما خلق له) ". اهـ
ص89، 90.
فذلك العلم الأول الذي لم يطلع الله، عز وجل، عليه أحدا، فلا يعلم المسطور في اللوح المحفوظ إلا الباري، عز وجل، ولذلك كان القول بأن جبريل عليه السلام قد أخذ القرآن من اللوح قولا على غير حد الصواب، وإن قال به أئمة أجلة كرام، فالقرآن قد تلقاه الروح الأمين من رب العالمين فمنه بدا بدو الوصف من موصوفه، فسمعه جبريل من الرب الجليل حروفا وكلمات وآيات نزل بها على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قرر المحققون من أهل السنة ذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال أَبو الحسن بن عبيد الحافظ: سمعت أَبا عبد الله بن أَبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرت من سرَّ من رأَى إِلى بغداد في حاجة لي فبينما أَنا أَمشي في بعض الطريق إِذا بجمجمة قد نحرت فأَخذتها، فإِذا على الجبهة مكتوب: "شقي" والياءُ مكسورة إِلى خلف. وهؤلاءِ كلهم أَئمة حفاظ، ذكره الطبري في السنة". اهـ
ص89.
فلعل ذلك من آثار القلم الكوني ااذي يجري على الجنين في رحم أمه، بل قد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين في معرض بيان أوجه الإعجاز العلمي في الكتاب العزيز في علم الأجنة أن خطوطا عجيبة الشكل قد شوهدت على جمجمة الجنين في مراحله الأولى، فلعلها، أيضا، من آثار تلك الكتابة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 10 - 2009, 05:54 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى جنازة غلام من الأَنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله، قال: (أَو غير ذلك، إن الله تعالى خلق للجنة أَهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم وخلق للنار أَهلا خلقهم لها وهم فى أَصلاب آبائهم) ". اهـ
ص90.
فذلك من القدر الكوني النافذ، فقد تقدم في الأزل نجاتهم، فهم من أهل الجنة، ولما يوجدوا، فإذا وجدوا يسر الله، عز وجل، بمقتضى حكمته، أسبابا يحصلون بها تلك المنزلة إجراء لسنن الكون وأحكام الشرع، فلا ينال مطلوب ديني أو دنيوي إلا ببذل أسبابه شرعية كانت أو كونية.
ويقول رحمه الله:
"وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو عاش لأَرهق أَبويه طغياناً وكفراً) ". اهـ
ص90.
(يُتْبَعُ)
(/)
فطبع كونا على الكفر فكانت المصلحة في قتله بوحي لا بمنام أو وهم!، فلا يكون ذلك إلا لنبي، وهو ما يرجح كون الخضر عليه السلام نبيا، إذ الوحي الإلهامي لا يكفي في قتل الغلام، وإلا جاز لكل صاحب كشف أن يقتل من شاء الصبيان استدفاعا لفساد منهم محتمل، وذلك ما احتج به ابن عباس، رضي الله عنهما، على نجدة الحروري في مسألة قتل أطفال المشركين فـ: "إنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ".
فلا بد من وحي رحماني على رسم النبوة ليصح وقوع ذلك المقدور الكوني الذي ظاهره: الفساد، وباطنه: الصلاح، إذ قتله آنذاك بمنزلة دفع الصائل على الأديان فهو أشد فتكا من الصائل على الأبدان.
فلو عاش لفسد وأفسد فكان قتله راحة له وإراحة منه.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى":
"وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْغُلَامِ كَانَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى أَبَوَيْهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْتِنُهُمَا عَنْ دِينِهِمَا وَقَتْلُ الصِّبْيَانِ يَجُوزُ إذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِدَفْعِ الصَّوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ". اهـ
ولكن، كما تقدم، من يعلم من ابنه أنه سيكون سبب كفرانه ليجهز عليه قبل أن يضله!، فلو صح ذلك لزين الشيطان لكثير من الآباء قتل أولادهم لا سيما في الأعصار المتأخرة التي كثر فيها فساد وعقوق الأبناء، فهم من أهل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِى ظُلْمَةٍ ثم ألقى عليهم من نوره وفى لفظ فجعلهم في وَاحِدَةٍ، فَأَخَذَ مِنْ نُورِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى تِلْكَ الظُّلْمَةِ، فَمَنْ أَصَابَهُ النُّورُ اهْتَدَى، ومَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ:جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْم الله) ".
ص90.
ولا يظنن ظان، كما قال بعض المحققين من أهل العلم المعاصرين، لا يظنن أن ذلك كان خبط عشواء فمن صادفه النور نجا ومن صادفته الظلمة هلك لمجرد إرادة الرب، جل وعلا، ذلك، على حد النفاذ، فإن في ذلك طعنا في حكمة الرب، جل وعلا، بتغليب جانب المشيئة على جانب الحكمة، أو بتغليب وصف الجلال على وصف الجمال، على حد من علل النفي في قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ): بنفاذ القدرة دون النظر إلى كمال الحكمة بهداية من يستحق الهداية فضلا، وغواية من يستحق الغواية عدلا، فلا يضع الهدى في محل فاسد، ولا يضع الغواية في محل صالح، وذلك مئنة من كمال حكمته، جل وعلا، إذ مقتضاها: وضع الشيء في موضعه الذي يلائمه، فللهدى محال قابلة له، وللضلال محال قابلة له، وبوضع كل في محله يظهر من آثار الحكمة الإلهية بوقوع التدافع بين الفريقين ما يظهر.
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال، وهلا سوى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله: لم يتفضل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجرا أجرا، «قال: "هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء». وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد، حتى أبصر جزءا يسيرا من حكمته في خلقه، وأمره وثوابه وعقابه، وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محال ذلك - استدل بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص، قالوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
(يُتْبَعُ)
(/)
بَيْنِنَا}؟ قال تعالى مجيبا لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. فتأمل هذا الجواب، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ". اهـ
"شرح الطحاوية"، ص435، 436.
فكذلك إلقاء النور والظلمة في الأزل: فإنه قد تقدم في العلم الأزلي المحيط صلاح محال ألقي النور عليها، وفساد محال حجب عنها، فاقتضت الحكمة الإلهية: هداية الأولين فضلا، وإضلال الآخرين عدلا، ثم ظهرت تلك المقدورات في عالم الشهادة بقدرته الكونية النافذة، فاجتمع فيها وصف الجلالا: القدرة، و: وصف الجمال: العلم والحكمة.
ومثله يقال في حديث:
"راشد بن سعد عن أبي عبد الرحمن السلمي أن أَبا قتادة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَأَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ ظهْرِهِ فَقَالَ: هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي، وَهَؤُلاءِ فِى النَّارِ وَلا أُبَالِي"، قال: قيل: على ما نعمل؟ قال: (عَلَى مَوَاقعِ الْقَدَر) ". اهـ
ص90.
فهؤلاء في الجنة لسبق العلم الأزلي فيهم بصلاح محالهم لقبول آثار الطاعات التي يتوسل بها إلى ابتغاء دار النعيم، فاقتضت الحكمة الإلهية تيسير أسباب الطاعة لهم فوقعت منهم في عالم الشهادة بإقدار الله، عز وجل، لهم على إيقاعها بإراداتهم التابعة لإرادته الكونية النافذة فذلك فضله، وفي المقابل: هؤلاء في النار لسبق العلم الأزلي فيهم بفساد محالهم فلا تقبل آثار الوحي النافعة، فاقتضت الحكمة الإلهية تيسير أسباب المعصية لهم فوقعت منهم في عالم الشهادة بإقدار الله، عز وجل، لهم على إيقاعها بإراداتهم التابعة لإرادته الكونية النافذة فذلك عدله، والخلق كما تقرر مرارا: بين فضل منه وعدل، فلا يظلم ربك أحدا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر أبو داود فى كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود أَنه مر على رجل فقالوا: هذا هذا .. ونالوا منه، فقال عبد الله: أَرأَيتم لو قطعتم يده، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يداً؟ قالوا: لا. قال: فلو قطع رجله أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلاً؟ قالوا: لا. قال: فلو قطع رأْسه، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأَساً؟ قالوا: لا، قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أَن تغيروا خُلقه، إِن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكاً فكتب أَجله وعمله ورزقه وشقي أَو سعيد". اهـ
ص90، 91.
وليس ذلك من الاحتجاج بالقدر الكوني على مخالفة الأمر الشرعي بالتخلق بما لا يليق من الأخلاق الردية، وإنما هو مما يتذرع به إلى الصبر في حق من ابتلي بمعاشرة أو معاملة من ذلك وصفه، والاحتجاج بالقدر الكوني النافذ في المصائب الكائنة مما يخفف وطأتها ويذهب حدتها، فإن الصبر والرضا إذا امتزجا بالمصيبة لان قوامها الغليظ، فتهون على النفس مكابدتها، وأي مصيبة أعظم من أن يبتلى المرء بعشير ذي أخلاق ردية؟!.
والأخلاق، وإن كان قدر منها يحصل بالاكتساب على حد حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ" إلا أن منشأها جبلي قد فطرت النفوس عليه حسنا كان أو قبيحا على وزان حديث أشج عبد القيس. وفيه: " «إن فيك لخلقين يحبهما الله». قلت: ما هما يا رسول الله؟ قال: «الحلم والحياء - أو الحلم والأناة». قلت: أقديما كانا في أو حديثا؟ قال: «بل قديم». قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما". اهـ
وهذه رواية أبي يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 10 - 2009, 02:56 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعاً: (إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَان: الْهَدْى وَالْكَلام فَأَحْسَنُ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْى هَدْى مُحَمَّد، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحَدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتِ قَرِيب وَإِنَّ الشَّقِى مَنْ شَقِى فِى بَطْن أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ) ". اهـ
ص91.
فالكلام: هو المسلك العلمي، والهدي: هو المسلك العملي، فخير الكلام: كلام الله، عز وجل، فقد جاء بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام على حد الإجمال، وأحسن الهدي: هو هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المبين لما أجمل في التنزيل، فذلك لازم الشهادتين: شهادة التوحيد للمرسِل، جل وعلا، وشهادة التوحيد للرسول المرسَل صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد عم كل العلوم والأعمال والسياسات والأخلاق والأحوال، فسيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على حد الإعجاز، حتى صح عدها من دلائل النبوة، بل لو لم يكن للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المعجزات إلا سيرته لكفته دليلا دامغا على صدق رسالته، كما ذكر ذلك ابن حزم، رحمه الله، فإن سيرته ليست بسيرة كذاب، كما أن وجهه ليس بوجه كذاب، كما قال ابن سلام رضي الله عنه، ولم يطرد من سنة الباري، عز وجل، تأييد الكذاب على حد الدوام بالبراهين النقلية والعقلية الساطعة كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
وفي مقابل هذه الطريقة المثلى الذي استندت إلى النبوات: علما بالإلهيات والغيبيات، وعملا بالحكميات، بعدها جاء التنبيه على الضد:
وشر الأمور محدثاتها: وذلك منصرف بقرينة السياق إلى: الأمور الشرعية، فـ: "أل" في "الأمور": عهدية ذهنية، فليست المحدث في أمر الدنيا: محبوبا أو مكروها لذاته، بل هو على حد المباح ما لم تكن عينه ضارة، فإن كان على حد الإباحة لم يتعلق به مدح أو ذم شرعي لذاته، إذ لا يجوز التعبد بالمباح ابتداء، فلا معنى للقربة فيه، وإنما يتعلق به الثواب أو العقاب لغيره، فقد يتذرع به إلى خير، فيصير مندوبا أو واجبا، وقد يتذرع به إلى شر فيصير مكروها أو محرما، فتلك القسمة العقلية للأحكام التكليفية الشرعية، وأمر الدنيا، وإن وجب على العباد سياسته بالدين المنزل، إلا أنه لا يدخل، كما تقدم، في حد ما اعتبره الشرع: إيجابا أو ندبا، أو ألغاه: تحريما أو كراهة، فهو على حد الإرسال الذي لم يشهد له الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، فينظر إلى وجه المصلحة والمفسدة فيه، بمقتضى كليات الشريعة الجامعة، فإن ترجحت المصلحة صار على حد الاعتبار عند جمع من العلماء، وإن ترجحت المفسدة صار على حد الإلغاء، وذلك، كما تقدم في أكثر من موضع، خلاصة علم النبوات، فإن التمييز بين المصلحة المحضة والمفسدة المحضة أمر يسير على كثير من أصحاب العقول الراجحة، ولكن التمييز بينهما حال الشوب والاختلاط، فيعتبر أحدهما ويلغى الآخر: أمر قد ورثه الأنبياء عليهم السلام لحملة تركاتهم العلمية المستمدة من الوحي المعصوم.
وذلك بخلاف المحدث في أمر الدين فإنه لا يكون إلا على حد الذم، إذ لسان حال محدثه: الاستدراك على الشرع.
ثم أطنب بكلية لا مخصص لها بقرينة السياق:
وإن كل بدعة ضلالة: فذلك عموم محفوظ لا مخصص له، فكل حادث في الديانة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضلالة سواء أورد النص عليه، كبدعة الخوارج الذين بشر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاتلهم بعظم الأجر، أم لم يرد كسائر البدع العلمية والعملية التي ظهرت بعد انقضاء القرن الأول، خير طباق هذه الأمة، الذين كانوا سيفا يزع كل مارق من الديانة.
فكل بدعة دينية: ضلالة وإن تكلف لها المتأولون ما تكلفوا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وإن كل ما هو آت قريب: وإن ظنه المبتلى بالنقمة، أو المغرور بالنعمة بعيدا، فإن كليهما إلى زوال، وإن طال الزمان، والمبتلى، إن كان على حد الصبر والرضا، أو الصبر إن لم يبلغ مرتبة الرضا، فأمره إلى عافية في الدنيا والآخرة، وإن طال زمن الابتلاء، فالشدة بتراء لا دوام لها، والمعافى، إن كان على حد الشكر، فأمره، أيضا، إلى عافية في الدنيا والآخرة، فهو بالنعمة الكونية مستمتع، ولأحكام نعمة الوحي الشرعية ممتثل، فيسوس نعمة الكون بنعمة الشرع: سياسة الأنبياء والصديقين، ومآل نعمته كمآل نقمة المبتلى: إلى الزوال، وإن طال الزمان، وله فيما ادخره الله، عز وجل، له في دار المقامة، إن وافاه الأجل على الطاعة، له فيه خير عزاء عما سيفقده من متاع الدنيا لا محالة، فتلك سنة كونية جارية على كل العباد: مؤمنهم وكافرهم. ومن دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ).
فأنت الحي على حد القصر الحقيقي بتعريف الجزأين، إن حمل وصف الحياة على الحياة الكاملة التي لا يعتريها نقص بعجز أو مرض أو هرم أو موت، وأنت الحي: على حد القصر الإضافي مبالغة في إثبات كمال حياته في مقابل نقصان حياة عباده وإن اشترك كلاهما في وصف الحياة الكلي، فذلك مما يصح وقوع الشركة فيه على حد التصور الذهني، فلا يلزم منه تشبيه لعدم وقوعه في الخارج المشهود، فلك كمال الحياة فرعا عن كمال الذات القدسية، وقد ذيل على حد الإطناب في بيان كمال تلك الحياة بنفي نقيضها في معرض بيان الفارق بينها وبين حياة المخلوقين الفانية، فلا يموت، جل وعلا، إذ الموت نقص مطلق لا يصح، بل يحال عقلا اتصافه به، فليس شيئا لتتعلق قدرة الرب، جل وعلا، به، وفي المقابلة على حد طباق السلب بين: "أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ": نفيا، و: "وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ": إيجابا، في المقابلة على ذلك الحد: مزيد بيان للفارق بين الخالق الأول الآخر والمخلوق العدمي الفاني.
والجن والإنس يموتون: فذلك عموم لا مخصص له، إن قيل بعدم دخول من خلقهم الله، عز وجل، من الحور والولدان في الجنان، في حد "الإنس"، فيكون العموم باعتبار المكلفين في دار الابتلاء فأولئك لا يدخل فيهم الحور والولدان بداهة، إذ الأولون: مبتلون بالتكليف، والآخرون: لا يتوجه إليهم خطابه فليست دارهم بدار ابتلاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن وهب: أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن عبد الرحمن ابن هنيدة حدثه أَن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَاد اللهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّسَمَة قَالَ مَلَكُ الأَرْحَام تَعْرُّفاً: يَا رَبّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِى اللهُ أَمْرَهُ ثم يقول: يا رب أشقى أم سعيد؟ فيقضى الله أمره، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا) ".
فذلك القلم الكوني القاضي بأمر السعادة والشقاوة، وأمر العافية بالنعمة والنكبة بالنقمة، فقد قضي الأمر من الأزل، وإنما سطر الملك بين عينيه ما سطره القلم الأول في اللوح من قدر كل مكلف تفصيلا، وقد يقال بأن المكتوب على حد التعليق، فهو في صحف الملائكة معلق بالأسباب، وإن كان في اللوح المحفوظ مبرما واجب النفاذ، فيستدفع المكتوب في صحف الملائكة بالأسباب الشرعية، ليوافق ما سطر في اللوح المحفوظ من علم الرب الأزلي بمقادير عباده على حد الإجمال والتفصيل، فلا بد من بذل الأسباب على كل حال: فالسعيد بأسباب النجاة عامل، فهو لها ميسر، والشقي على الضد فهو: بأسباب الهلاك عامل، فهو لها ميسر، أيضا، ليظهر معلوم الرب، جل وعلا، الأزلي، في كليهما، فيصح تعلق الثواب والعقاب بهما، إذ لا يتعلقان إلا بأمر وجودي في عالم الشهادة لا عدمي في عالم الغيب، فبذل الأسباب المشروعة ذريعة إلى تحصيل الأنصبة المقدورة، فمن له نصيب في دار السعادة فإنه آخذ بالسنن الشرعية على حد الامتثال، فقد سهلت له، بمقتضى فضل الرب الرحيم، تبارك وتعالى، ومن له نصيب في دار الندامة فإنه معرض عن الأسباب الشرعية المنجية والغ في ضدها من المهلكات، فقد سهلت له، أيضا، بمقتضى عدل الرب الجليل عز وجل.
فكل ميسر لما خلق له، وكلٌ عامل بما قدر له، على حد الاختيار، فلا يكره الرب، عز وجل، عباده، بل يخلق فيهم الإرادات المختارة والأفعال التي تقع بها في عالم الشهادة، بمقتضى ما علمه أزلا، وكتبه في اللوح جزما، وشاءه وخلقه كونا، فإراداتهم خيرا أو شرا لا تخرج عن إرادته الكونية النافذة، وبتيسير من علم أزلا صلاحه إلى أسباب النجاة، ومن علم أزلا فساده إلى أسباب الهلاك، تظهر آثار حكمة الرب، جل وعلا، بجريان سنة التدافع بين الحزبين.
فهو الغني على حد الإطلاق، ومن لوازم الغنى: عدم الافتقار إلى ما بيد المظلوم أو المكره كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فتسهيل أسباب المعصية للعاصي جار على حد العدل، إذ ليست هدايته واجبة على الرب، جل وعلا، فلا واجب للعبيد عليه إلا ما أوجبه على نفسه بمقتضى فضله ومنته.
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم، عاد السؤال وكان منعهم منه ظلما، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالما بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطائه". اهـ
"شرح العقيدة الطحاوية"، ص435.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبو طارق]ــــــــ[19 - 10 - 2009, 05:18 م]ـ
جزاك الله خير الجزاء
ولا أراك الله سوءًا أستاذنا الفاضل
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 10 - 2009, 02:56 م]ـ
جزاك الله خيرا أبا طارق، أيها الكريم، وشكر لك مرورك وتعليقك ودعاءك الطيب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر أَبو داود أيضاً عن عائشة يرفعه: (إِن الله حين يريد أَن يخلق الْخلق يبعث ملكاً فيدخل على الرحم فيقول: أَي رب ماذا؟ فيقول: غلام، أَو جارية، أَو ما شاءَ الله أَن يخلق في الرحم. فيقول: أَي رب، أَشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد. فيقول: أي رب، ما أجله، فيقول كذا وكذا. فيقول أي رب، ما خلقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فيقول: يا رب، ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فمَا من شيء إِلا وهو يخلق معه في الرحم) ". اهـ
ص91.
ففي هذا الحديث بيان زائد لا يعارض ما تقدم في حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فقد ذكر نوع الولد ذكرا أو أنثى في كليهما فجاء في الحديث الأول بلفظ: "يا رب، أذكر أم أنثى"، وفي الحديث الثاني بلفظ: "غلام أو جارية"، بخلاف بقية الأوامر الكونية التي جاءت في الحديث الأول على حد الإجمال الذي دل عليه قوله: "فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها"، فعموم المضاف إلى ضمير الغائب في: "أمره" قد فصله قوله في هذا الحديث: "فيقول: أَي رب، أَشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد ............. "، فهذا الأمر المجمل هو أمر الشقاوة أو السعادة والخُلُق والخَلْق والأجل، فذلك تفصيل جزئي، إذ ينظر في بقية الروايات على حد الاستقراء لبقية الكلمات الكونيات المكتوبة مما لم يذكر في هذا السياق من: العمل، في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ويكتب عمله وأثره"، وقد يقال بأن ذلك داخل في عموم: "خُلُقه"، فإن الأعمال: حسنا أو قبحا إنما تكون على حد الأخلاق: حسنا أو قبحا، فكل إناء بما فيه ينضح، فمن حسن خلقه حسن عمله لزوما، ومن ساء خلقه ساء عمله لزوما، وذلك إنما يكون بقيد: الديانة، فإن الأخلاق المعتبرة في هذا المقام هي: الأخلاق الشرعية، أخلاق: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، لا الأخلاق النفعية التي يحصل بها صاحبها مكاسب دنيوية عاجلة، من ثناء أو مقابلة بجنس ما يتحلى به، فهو يطلب نصيبه العاجل ممن ينتفعون بأخلاقه، على حد ما يقع في المبادلات التجارية من لباقة مصطنعة ينتقي صاحبها أجود الألفاظ استئلافا لقلب العميل!، فإذا انتهت المعاملة انتهى كل شيء، فما بدأ إلا لغرض دنيوي عاجل، بنهايته تنتهي العلائق، ولكل غاية هو مبتغيها، ووجهة هو موليها، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
والشاهد أن الواجب في هذا الباب: جمع الروايات، كما صنع ابن القيم، رحمه الله، إذ بجمعها تزول إشكالات كثيرة، في تعيين أجناس المكتوب، كما تقدم، وفي أوقات كتابتها، وأوقات اكتمال التصوير ونفخ الروح، وهل يكون ذلك قبل كتب الكلمات أو بعدها، ومتى يقدر التصوير، ومتى يقع ............. إلخ من الإشكالات التي يأتي بيان جمع أهل العلم بينها، إن شاء الله، إذ لا تعارض بينها عند النظر والتأمل، إذ لا يتصور تعارض بين روايات صحيحة، قد تساوت درجة صحتها، إلا على حد النسخ، والنسخ لا يكون في باب خبري كباب القدر، إذ تجويز ذلك: تجويز لوقوع الكذب في خبر الشارع، عز وجل، بخلاف الأحكام فإن النسخ يطرأ عليها لتبدل أحوال الأمم وتباينها، بل لتبدل أحوال الأمة الواحدة في مبدئها ومنتهاها، فإذا انتفى ذلك التعارض، إلا على حد الترجيح بين الروايات إن تعذر الجمع بينها وذلك آخر ما يلجأ إليه الناظر في نصوص الشرع المنزل، إذا انتفى ذلك: وجب حمل الروايات على حد: المجمل ومبينه، فما أجمل في موضع بين في آخر، وما ذكر في موضع لم يذكر في الآخر، ففي كل زيادة لا توجد في الآخر، فتلتئم الروايات، وتكتمل صورة الاستدلال، وهذا مسلك الراسخين في العلم، ممن يؤلفون بين نصوص الباب، بخلاف أهل الزيغ الذين يعارضون المحكم بالمتشابه، والواجب حمل المتشابه سواء
(يُتْبَعُ)
(/)
أكان متشابها جزئيا كالمجمل وغريب اللفظ، أو كليا، الواجب حمله على محكمه، فيرد المجمل إلى مبينه ويرد الغريب إلى مفسره، ويجمع بينهما على حد التعاضد لا التناقض الذي يتوهمه الناظر لقلة علم أو سوء طوية.
وقد ذيل الحديث بالعموم: "فما من شيء إلا وهو يخلق معه" بعد الخصوص فذلك آكد في تقرير معنى الكتابة الذي ذكرت أفراد منه على حد التخصيص: الشقاوة أو السعادة والخُلُق والخَلْق والأجل، فذلك من صور الإطناب بالعموم بعد الخصوص كما قرر البلاغيون في مبحث الإطناب والإيجاز، والغرض منه: التذييل بالتوكيد العام على ما تقدم ذكره الخاص، إذ هو داخل في هذا العموم تضمنا، فبعد ذكره باللفظ الخاص الدال عليه: مطابقة، جاء ذكره باللفظ العام الذي دل عليه: تضمنا، فاجتمعت له الدلالتان: دلالة الخاص القطعي عليه مطابقة، فتلك الدلالة الأعلى، ودلالة العام الظني عليه فتلك: الدلالة الأدنى، فيكون السياق جاريا على حد التدرج من الأعلى إلى الأدنى: من الخاص القطعي إلى العام الظني، وهو مع ذلك لا يخلو من معنى التوكيد، إذ التكرار في حد ذاته: توكيد، وإن كان بالأضعف دلالة، فضلا عن كون ذلك العموم الذي ذيل به الحديث: عموما مؤكدا هو الآخر بـ:
القصر على حد النفي والاستثناء فهو أقوى أساليب القصر كما تقرر في أكثر من موضع.
و دخول: "من" التي تفيد التنصيص على عموم النفي.
فالنكرة: "شيء" قد وردت في سياق نفي أفاد عموم الكائنات الحادثة، فكلها مخلوقة مقدرة في الرحم، وقد أكد ذلك العموم: دخول: "من" كما قرر أهل المعاني، فازداد ذلك العموم قوة إلى قوته، فهو عموم محفوظ لا مخصص له، إذ كل ما قد قدره الله، عز وجل، على الجنين من الأقدار الكونية الجارية على حد النفاذ، قد كتب ولما ينزل بعد إلى دار التكليف، وذلك مما يحمل الناظر فيه إلى سؤال الباري، عز وجل، الثبات، إن كان محسنا، والمغفرة والتوبة، إن كان مسيئا، إذ المكتوب في صحف الملائكة من ذلك: إنما كتب على حد التعليق، لا الإبرام، فهو يقبل المدافعة بالأسباب الشرعية التي سنها الله، عز وجل، فيدافع قدر المعصية بقدر الاستغفار والتوبة، فيصح الاحتجاج بالقدر حينئذ على المعصية، إذ قد أقلع عنها وتاب، فصارت في حقه: مصيبة، والمصائب مما يصح الاحتجاج بالقدر على وقوعها. وهو بتلك المدافعة لن يخرج عن القدر الكوني المبرم، الذي سطره الله، عز وجل، في اللوح المحفوظ، فهو على حد القطع الجازم فلا ناسخ له ولا مبدل، على حد قوله: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
فالقدر المكتوب في صحف الملائكة على حد التعليق هو: متعلق ما يباشره العبد من أسباب الكون والشرع على حد التكليف، فقد سطر في تلك الصحف التي بأيدي الملائكة الحفظة أن زيدا لو وصل رحمه، فسيزيد عمره إلى السبعين، وإن قطعه فسيعيش إلى الستين، فإن باشر زيد سبب الزيادة، وهو مما خوطب به ديانة، زِيد في عمره، وإن لم يباشره تقصيرا وتقاعسا عن القيام به، فلن يزاد في عمره، فذلك تعليق في صحف الملائكة يقابله إبرام ونفاذ في صحف اللوح، إذ قد علم الرب، جل وعلا، منه أزلا، أنه سيصل رحمه فكتب عمره في اللوح المحفوظ سبعين قولا واحدا، فلا تتعلق مباشرة الأسباب بالمقضي أزلا في اللوح، إلا على حد إخراج ذلك المكتوب النافذ قطعا من حيز الغيب العدمي إلى حيز الشهادة الوجودي ليصح تعلق المدح أو الذم الشرعي به.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وَالْأَجَلُ أَجَلَانِ "أَجَلٌ مُطْلَقٌ" يَعْلَمُهُ اللَّهُ "وَأَجَلٌ مُقَيَّدٌ" وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ أَجَلًا وَقَالَ: "إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِدْتُهُ كَذَا وَكَذَا" وَالْمَلَكُ لَا يَعْلَمُ أَيَزْدَادُ أَمْ لَا؛ لَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ"
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد جمع قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ): بين النوعين:
فقول: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ): هو القدر المعلق الذي يقبل المحو والإثبات. وقيل هو: القدر الشرعي بالأحكام فتقبل الرفع والإثبات، ولو جمع بين المعنيين لعدم وقوع التعارض بينهما لكان له وجه، إذ عموم: "ما" على حد التعليق بالمشيئة، ولا تكون إلا نفاذة، يلائمه عموم الرفع والإزالة لسائر الأحكام التي تقبل ذلك، وهي: الأحكام الكونية المعلقة، والأحكام الشرعية المنزلة.
وقوله: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ): هو القدر المبرم الذي يقع على حد النفاذ فلا مبدل له ولا مؤخر.
قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتابٌ سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبتُ، وأم الكتاب الذي لا يُغيّر منه شيء.
وقال البغوي، رحمه الله، في تفسير هذه الآية:
"واختلفوا في معنى الآية:
فقال سعيد بن جبير، وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه، (فتلك هي الأحكام الشرعية المنزلة التي تقبل النسخ على حد ما قرره أهل الأصول).
وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وروينا عن حذيفة بن أُسَيْد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يدخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَةِ بعدما تستقرُّ في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أَشَقِي أم سعيد؟ فَيُكْتَبَانِ، فيقول: أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ فَيُكْتَبَانِ، ويُكْتَبُ عملُه وأثرُه وأجلُه ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ".
وعن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أنهما قالا: يمحو السعادةَ والشقاوةَ أيضاً، ويمحو الرِزق والأجلَ ويثبتُ ما يشاء.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومثله عن ابن مسعود، (فتلك هي الأحكام الكونية المعلقة التي تقبل التغيير بمباشرة أسباب الكون والشرع).
وقيل: معنى الآية: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم، فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثوابٌ ولا عقاب، مثل قوله: أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحوها من كلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، هذا قول الضحاك والكلبي.
وعن سعيد بن جبير قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها". اهـ بتصرف.
والخلق في قوله: "فما من شيء إلا وهو يخلق معه ": محمول على التقدير، على وزان ما تقدم في بيان معنى الخلق في قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، إذ لا يتصور حمله على معنى الإيجاد، فكثير من المقدورات الكونية التي تقع للجنين إنما تقع بعد خروجه إلى فضاء الدنيا الواسع.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 10 - 2009, 06:06 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أَبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن المني إِذا مكث فى الرحم أربعين ليلة أَتاه ملك النفوس فعرج به إِلى الرب تعالى فى راحته فيقول: يا رب عبدك ذكر أم أُنثى؟ فيقضى الله ما هو قاض. أَشقي أَم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق بين عينية. قال أَبو تميم: وقرأ أَبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات". اهـ
ص91، 92.
ففي هذا الحديث بيان أن الكتابة إنما تكون بين عيني المولود، وفي حديث حذيفة بن أسيد، رضي الله عنه، مرفوعا: "ويكتب عمله وأثره ورزقه، ثم تطوى الصحف": بيان أنها تكون في الصحف، والجمع بينهما يكون بحمل أمر الكتابة على التكرار، كما ذكر ذلك ابن رجب، رحمه الله، في "جامع العلوم والحكم".
(يُتْبَعُ)
(/)
قال رحمه الله: "وقد ورد أنَّ هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين، ففي "مسند البزار" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خلَقَ الله النسمةَ، قال مَلَكُ الأرحام: أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ قالَ: فيقْضِي الله إليه أمره، ثُمَّ يقول: أي ربِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقضي الله إليه أمره، ثُمَّ يكتب بَيْنَ عينيه ما هوَ لاقٍ حتَّى النَّكبة يُنكَبُها".
وقد رُوي موقوفاً على ابن عمر غير مرفوع، وحديثُ حذيفةَ بن أسيد المتقدم صريحٌ في أنَّ الملك يكتبُ ذلك في صحيفةٍ، ولعلَّه يكتب في صحيفة، ويكتب بين عيني الولد". اهـ
وقد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين ممن لهم نوع اهتمام بمسائل الإعجاز العلمي في نصوص الشريعة: كتابا وسنة، أن كتابة على هيئة تعاريج غريبة الشكل قد سجلتها الأشعة التليفزيونية على جبين الجنين، فلعلها أثر تلك الكتابة الكونية بين عينيه.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن وهب: أَخبرنى ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبد الله بن عمرو بن العاص أَنه قال: إِذا مكثت النطفة فى رحم المرأَة أَربعين يوماً جاءَها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فقال: اخلق يا أَحسن الخالقين. فيقضى الله فيها بما يشاءُ من أَمره، ثم يدفع إِلى الملك، فيسأَل الملك عن ذلك فيقول: يا رب، سقط أَم تم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب واحد أَو توأَم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب ذكر أَم أُنثى؟ فيبين له، فيقول: يا رب، أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له ذلك، ثم يقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب، اقطع رزقه مع خلقه، فيهبط بهما جميعاً. فوالذي نفسى بيده ما ينال من الدنيا إِلا ما قسم له، فإِذا أَكل رزقه قبض". اهـ
ص92.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما ينال من الدنيا إِلا ما قسم له"
جار على ما تقدم بيانه من القصر بأقوى أساليبه فذلك آكد في تقرير عموم الخبر، على تقدير نكرة في سياق النفي: ما ينال من الدنيا شيئا إلا ما قسم له. وهذا العموم أيضا: محفوظ، إن أريد به الرزق المبرم في اللوح المحفوظ، بخلاف الرزق المعلق في صحف الملائكة، فتلك إحدى صور القضاء المبرم والمعلق، فما يجري على النوع من الإبرام أو القضاء يجري على أفراده: أجلا أو رزقا ........... إلخ.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"الرِّزْقُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْزُقُهُ فَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ.
وَالثَّانِي: مَا كَتَبَهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ فَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ رِزْقًا وَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ. وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ}. وَكَذَلِكَ عُمْرُ داود زَادَ سِتِّينَ سَنَةً فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرْبَعِينَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عُمَرَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ الْعَبْدَ بِسَعْيِهِ وَاكْتِسَابِهِ أَلْهَمَهُ السَّعْيَ وَالِاكْتِسَابَ وَذَلِكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاكْتِسَابِ وَمَا قَدَّرَهُ لَهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ كَمَوْتِ مَوْرُوثِهِ يَأْتِيهِ بِهِ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَالسَّعْيُ سعيان: سَعْيٌ فِيمَا نُصِبَ لِلرِّزْقِ؛ كَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ. وَسَعْيٌ بِالدُّعَاءِ
(يُتْبَعُ)
(/)
وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم: عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يدخُلُ الْمَلَكُ على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أَذكر أَم أُنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأَثره ورزقه، ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيها ولا ينقص". اهـ
ص92.
فقوله: فلا يزاد فيها ولا ينقص: محمول على ما تقدم من كون القضاء معلقا فيها، ومبرما في اللوح المحفوظ، فلا يزاد فيها ولا ينقص على حد التعليق، فزيد، إن وصل فعمره سبعين، وإن قطع فعمره ستين، فلا زيادة عن ذلك إذ قد استوفيت أجزاء القسمة العقلية: فعلا أو تركا، فلا يزاد فيه ولا ينقص، وإن لم يكن مبرما، بخلاف القضاء المسطور في اللوح المحفوظ، فلا يزاد فيه ولا ينقص، أيضا، ولكن على حد الإبرام والنفاذ الجازم فلا يحتمل قسمة عقلية تثبت أو تنفي، بل هو كائن قولا واحدا، بالزيادة أو النقصان.
ولهذا الحديث رواية أخرى عند مسلم، رحمه الله، بلفظ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَجَلُهُ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُص".
يقول النووي رحمه الله: "قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: لَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَلَا يَصِحّ حَمْله عَلَى ظَاهِره، بَلْ الْمُرَاد بِتَصْوِيرِهَا وَخَلْق سَمْعهَا إِلَى آخِره أَنَّهُ يَكْتُب ذَلِكَ، ثُمَّ يَفْعَلهُ فِي وَقْت آخَر؛ لِأَنَّ التَّصْوِير عَقِب الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى غَيْر مَوْجُود فِي الْعَادَة، وَإِنَّمَا يَقَع فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَة، وَهِيَ مُدَّة الْمُضْغَة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين ثُمَّ خَلْقنَا النُّطْفَة عَلَقَة فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة مُضْغَة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَام لَحْمًا} ثُمَّ يَكُون لِلْمَلَكِ فِيهِ تَصْوِير آخَر، وَهُوَ وَقْت نَفْخ الرُّوح عَقِب الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَة حِين يَكْمُل لَهُ أَرْبَعَة أَشْهُر". اهـ
فلا إشكال في ذلك إذ المراد بالتصوير في هذا السياق تقديره وكتابته لا وقوعه، فلا يقع التصوير إلا في الأربعين الثالثة: طور المضغة، وباكتماله في آخرها ينفخ فيه الروح، فيكون نفخ الروح الذي به تسري الحياة في جسد الجنين فيتحرك بعد أن جامدا ساكنا، يكون هذا النفخ بعد مائة وعشرين يوما من الحمل.
وأشار ابن رجب، رحمه الله، إلى وجه آخر بقوله:
"وظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنَّ تصويرَ الجنين وخلقَ سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أوَّل الأربعين الثانية، فيلزمُ من ذلك أنَّ يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً.
وقد تأوَّل بعضهم ذلك على أنَّ المَلَك يقسِمُ النُّطفةَ إذا صارت علقةً إلى
أجزاء، فيجعلُ بعضَها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدِّر ذلك كلَّه قبل وجوده. (وذلك الوجه هو الذي أشار إليه النووي، رحمه الله، في كلامه السابق، الذي نقله عن القاضي عياض رحمه الله)، وهذا خلافُ ظاهر الحديث، بل ظاهرُه أنَّه يصوِّرها ويخلُق هذه الأجزاء كلها، وقد يكونُ خلقُ ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وُجودِ اللحم والعظام، وقد يكون هذا في بعض الأجِنَّةِ دُونَ بعض"
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا يلزم من التصوير: اكتمال الخلق، بل التصوير نوع تقدير، كما قيل في تقدم خلق الأرواح على الأجساد، فإن من أهل العلم من رجح ذلك على حد الجزم، كابن حزم، رحمه الله، الذي قال بخلقها وجمعها في مستقر معلوم، فإذا شاء الرب، جل وعلا، خروج صاحبها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة خلق جسده في رحم أمه ثم أرسل الروح إليه بعد تمام مائة وعشرين يوما، واستدل لذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، ومنهم من قال بأنه لا يلزم من ذلك الأخذ خلق الأرواح على حد الكمال، بل يكفي تصويرها ليؤخذ عليها الميثاق، وليس التصوير كالخلق الكامل، فلا تخلق الروح إلا مع الجسد إذا شاء الرب، جل وعلا، نفخها فيه.
وإلى طرف من ذلك أشار ابن أبي العز، رحمه الله، بقوله:
"وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ سَبْقًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، وَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ بَارِئَهَا وَفَاطِرَهَا سُبْحَانَهُ صَوَّرَ النَّسَمَةَ وَقَدَّرَ خَلْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا، وَاسْتَخْرَجَ تِلْكَ الصُّوَرَ مِنْ مَادَّتِهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا، وَقَدَّرَ خُرُوجَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَاسْتَمَرَّتْ مَوْجُودَةً نَاطِقَةً كُلُّهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ مِنْهَا إِلَى الْأَبْدَانِ جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. فَهَذَا لَا تَدُلُّ الْآثَارُ عَلَيْهِ، نَعَمِ، الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنْهَا جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ أَوَّلًا، فَيَجِيءُ الْخَلْقُ الْخَارِجِيُّ مُطَابِقًا لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ، كَشَأْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَدَّرَ لَهَا أَقْدَارًا وَآجَالًا، وَصِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ، ثُمَّ أَبْرَزَهَا إِلَى الْوُجُودِ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ". اهـ
"شرح العقيدة الطحاوية"، ص216، 217.
والحاصل أن للجنين ثلاثة أطوار قبل نفخ الروح فيه، مقدار كل منها أربعون يوما فـ:
الأربعون الأولى: طور النطفة وبنهايتها تصير النطفة علقة.
والأربعون الثانية: طور العلقة وفي مبدئها يقع تقدير التصوير للسمع والبصر والعظم واللحم والجلد، ولا يقع ذلك التصوير إلا في الأربعين الثالثة، ولا يكتمل إلا بعد تمامها.
والأربعون الثالثة: طور المضغة وفيها يصور الجنين، وباكتمالها ينفخ الروح في الجنين.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"الجمع بين هذه الروايات أَن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة فى أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه فى أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، وذلك بعد الأربعين الأُولى فى أول الطور الثانى. ولهذا - والله أعلم - وقعت الإشارة إليه فى أول سورة أنزلها على رسوله: {إقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذى خَلَقَ خلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1 - 2] إذ خلقه من علقة هو أول مبدء الإِنسانية، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرُّف آخر في وقت آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأُنوثيته وهذا إنما يكون فى الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره. فها هنا تقديران وكتابان: التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق فى النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت فى طور العلقة. ولهذا فى إحدى الروايات: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة". والتقدير الثاني الكتابة الثانية إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكراً أو أنثى. فالتقدير الأول تقدير لما يكون
(يُتْبَعُ)
(/)
للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثانى تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره". اهـ
ص93.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 10 - 2009, 05:37 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفى الصحيحين عن أَنس بن مالك - ورفع الحديث - قال: (إِنَّ اللهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكاً فَيَقُولُ: أَي رَبِ نُطْفَة، أَي رَب عَلَقَة، أَي رَب مُضْغَة، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِي خَلْقاً قَالَ الْمَلَكُ: أَي رب ذكر أَو أُنثى؟ شقي أَو سعيد، فما الرزق، فما الأَجل؟ فيكتب ذلك فب بطن أُمِّه) ".
ص92.
ففي هذا الحديث مزيد بيان بتفصيل أطوار الجنين الخلقية المشاهدة، وأحواله القدرية المغيبة التي لا يعلمها إلا الله، عز وجل، على حد الإبرام، والملائكة الموكلون بالأرحام على حد التعليق كما قد أثبت في صحفهم.
وقوله: "فيكتب ذلك في بطن أمه": مطلق جاء تقييده في السياقين المتقدمين فقيدت الكتابة بما بين العينين في حديث أبي ذر، رضي الله عنه، وقيدت بصحف الملائكة في حديث حذيفية بن أسيد رضي الله عنه.
فذلك جار على حد ما تقدم من جمع أدلة الباب، إذ بجمعها تكتمل صورة الاستدلال فما ورد مجملا في موضع قد بين في آخر، وما ورد عاما في موضع قد خص في آخر، وما ورد مطلقا في موضع قد قيد في آخر، والبيان قد يكون من وجه دون وجه، فيكون المبين جزئيا لا كليا فيطلب تمامه في موضع آخر، كما في أحاديث زكاة الزروع، فقد وردت فيها جملة أحاديث في: أجناسها، وأنصبتها، ومقدارها، فكل في نفسه: مبين، وفي غيره: مجمل، فما ورد في الأجناس قد بينها على حد التمام، ولكنه مجمل في النصاب والمقدار، وما ورد في الأنصبة قد بينها على حد التمام ولكنه مجمل في الجنس والمقدار، وما ورد في المقدار قد بينه على حد التمام ولكنه مجمل في الجنس والنصاب، فلزم جمع الكل ليكون البيان على حد التمام الرافع لكل أوجه الإجمال.
وقد يرد البيان بأكثر من نص على حد يقع فيه التغاير، فيجمع بين النصوص، إن أمكن الجمع، كما في هذا الحديث الذي أطلقت فيه الكتابة عن القيد، ثم ورد عليها القيد بموضعين، فيجمع بينهما بالتكرار، إذ لا تعارض بينهما، فالجمع: إعمال لكليهما، والإعمال أولى من الإهمال كما قرر ذلك أهل الأصول، فلا يصار إلى الترجيح الذي يلزم منه إهمال أحد المتراجحين إلا إذا تعذر الجمع بينهما.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إِليه الملك فيؤمر بأَربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أَو سعيد) ".
ص92.
فقوله: "يجمع خلقه": مجمل قد ورد بيانه في نص آخر عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أيضا، فروي عنه أنه قال: "إنَّ النطفةَ إذا وقعت في الرحمِ، طارت في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتمكثُ أربعين يوماً، ثم تنحدِرُ في الرَّحم، فتكونُ علقةً. قال: فذلك جمعُها "
واعترض ابن حجر، رحمه الله، على نسبة قوله: "فذلك جمعها" إلى ابن مسعود، رضي الله عنه، فجعله من كلام الخطابي، رحمه الله، شارح "سنن أبي داود" في "معالم السنن"، أو من الإدراج في المتن، إذ هو من كلام بعض رواة الحديث، ورجح أنه الأعمش رحمه الله، على ما اطرد من طريقة الرواة المتقدمين، لا سيما الزهري رحمه الله الذي كان من المكثرين من الإدراج في متون مروياته، على ما اطرد من طريقتهم في إدراج بعض كلامهم في مروياتهم، لا سيما في آخرها فهو المطرد من فعلهم فيكون الإدراج بعد تمام السياق، بيانا لمجمل أو لفظ مستغرب.
قال الحافظ رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"قِيلَ إِنَّ اِبْن مَسْعُود فَسَّرَهُ بِأَنَّ النُّطْفَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِم فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي جَسَد الْمَرْأَة تَحْتَ كُلّ ظُفُرٍ وَشَعْر ثُمَّ تَمْكُث أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِم فَذَلِكَ جَمْعُهَا. قُلْت: هَذَا التَّفْسِير ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فِي التَّفْسِير مِنْ رِوَايَة الْأَعْمَش أَيْضًا عَنْ خَيْثَمَةَ بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ اِبْن مَسْعُود، وَقَوْله: "فَذَلِكَ جَمْعُهَا" كَلَامُ الْخَطَّابِيّ أَوْ تَفْسِير بَعْض رُوَاة حَدِيث الْبَاب وَأَظُنُّهُ الْأَعْمَش، فَظَنَّ اِبْن الْأَثِير أَنَّهُ تَتِمَّةَ كَلَامِ اِبْن مَسْعُود فَأَدْرَجَهُ فِيهِ". اهـ
وقال بعض أهل العلم بورود بيان الجمع في حديث آخر عن مالك بن الحويرث، رضي الله عنه، مرفوعا: "إنَّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ، طار ماؤهُ في كلِّ عرقٍ وعضوٍ منها، فإذا كانَ يومُ السابع جمعه الله، ثم أحضره كلّ عرق له دونَ آدم: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} "
قال ابن رجب رحمه الله:
"وروي تفسير الجمع مرفوعاً بمعنى آخر، فخرَّج الطبراني وابنُ منده في
كتاب "التوحيد" من حديث مالك بن الحويرث: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ، طار ماؤهُ في كلِّ عرقٍ وعضوٍ منها، فإذا كانَ يومُ السابع جمعه الله، ثم أحضره كلّ عرق له دونَ آدم: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}، وقال ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنَّسائي وغيرهما". اهـ
وقد ضعفه بعض أهل المعاصرين.
يراجع في ذلك: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، للإمام اللالكائي رحمه الله، حاشية: (4/ 300).
وقد ورد في هذا الحديث: وقوع الكتابة بعد نفخ الروح باكتمال الأربعين الثالثة: أربعين المضغة، وورد في ذلك أحاديث أخرى فيها تقدم الكتابة على النفخ. وإلى ذلك التعارض أشار ابن رجب، رحمه الله، بقوله:
"واختلفت ألفاظُ روايات هذا الحديثِ في ترتيب الكتابة والنفخ، ففي رواية البخاري في "صحيحه": "ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ، ثم ينفخ فيه الروح" ففي هذه الرواية تصريحٌ بتأخُّر نفخ الرُّوح عن الكتابة، وفي رواية خرّجها البيهقي في كتاب "القدر": "ثم يُبعث الملكُ، فينفخ فيه الروحَ، ثُمَّ يُؤْمرُ بأربع كلمات"، وهذه الرواية تصرِّحُ بتقدم النفخ على الكتابة، فإما أنْ يكون هذا مِنْ تصرُّف الرُّواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإمَّا أنْ يكون المرادُ ترتيب الإخبار فقط، لا ترتيبَ ما أخبر به". اهـ
وقد يقال بأن رواية البخاري، رحمه الله، أقوى من رواية البيهقي، رحمه الله، إذ لم يشترط البيهقي، رحمه الله، في كتاب: "القدر" ما اشترطه البخاري، رحمه الله، في كتاب: "الصحيح"، فيكون ذلك من باب الترجيح لأمر يرجع إلى الإسناد.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 10 - 2009, 03:06 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه فى تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثاني، والثاني أخص من الأول ونظير هذا أيضاً أن الله سبحانه قدر مقادير الخلائق قبل أَن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر كل سنة فى ليلة القدر ما يكون فى ذلك العام". اهـ
ص93، 94.
فذلك هو التقدير السنوي أو الحولي الذي ينسخ فيه من أم الكتاب إلى صحف الملائكة ما سيجري في هذا العام من حوادث كائنة، من أجل وعمل ورزق ............... إلخ.
قال البغوي رحمه الله:
"وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج، يقال: يحج فلان ويحج فلان. قال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة". اهـ
وقال في "فتح القدير":
(يُتْبَعُ)
(/)
"وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدّل، ولا يغير. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى". اهـ
وقال القرطبي رحمه الله:
"قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل.
وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد.
وروى عثمان بن المغيرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى) ". اهـ
وذلك تأويل: قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)
ففيها يفرق كل أمر حكيم، وهو المأمور الكوني المحكم، فـ: "فعيل" على حد اسم المفعول فذلك من تبادل الصيغ، فالمبالغة في: "حكيم" مئنة من تمام إحكامه الواقع على حد النفاذ، فلا يتبدل ولا يتغير، بل هو ماض مبرم وفق ما علمه الرب، جل وعلا، أزلا، فكتبه على حد الإبرام في اللوح المحفوظ، فنسخ في تلك الليلة من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة.
وكل مأمور كائن فهو من أمر كوني صادر، فعلة صدور الكائنات الحادثة: كلمات الرب جل وعلا التكوينيات النافذة، وكلماته الكونيات من صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته، فتلك علة صدور هذا العالم، فبصفاته الفاعلة كان هذا الكون البديع على غير مثال سابق، فأمر بالتكوين فكان على حد التعقيب، كما في قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ)، فليست علة صدور هذا العالم ذات مجردة عن الأوصاف هي وجود مطلق لا وجود له في الأعيان، وإنما محض وهم تتصوره الأذهان!، كما قرر ذلك الفلاسفة القائلون بقدم مادة هذا العالم، إذ جعلوه معلولا لعلة هي: الذات الإلهية على حد الاقتران فلا ينفك عنها، فلزمهم القول بقدمه، إذ هو فرع عنها، وهي قديمة أزلية، وللفرع حكم أصله بداهة!، وهو ما التزموه بل قرروه ونافحوا عنه.
وما ذلك إلا من شؤم نفي الصفات الربانية، إذ لم يكن لكثير منهم علم بالنبوات التي قررت هذا الباب الجليل تقريرا مفصلا، إذ هو، عند التحقيق، أشرف أبواب الدين، فبقدر العلم بصفات الرب، جل وعلا، ذاتا وفعلا، جلالا وجمالا، بقدر العلم بها يكون رسوخ القدم في الديانة، فإن العلم بها على حد ما نزل به الوحي على قلوب الرسل عليهم السلام: يصحح التصور العلمي الأول، فيصدر عنه الحكم العملي صحيحا موافقا لمراد الرب، عز وجل، الشرعي، في كل شأن، فيصح الحكم التكليفي، ويصح الحكم الوجداني، ويصح الحكم السياسي ........ إلخ، فكل خلل في أحكام البشر، مرده عند التأمل والنظر، إلى خلل علمي سابق إذ لم يتصور المربوب ربه، جل وعلا، تصورا علميا صحيحا، ليصح تألهه، بل دخل الفساد على الأصل العلمي فسرى إلى الفرع العملي لزوما، وبقدر الخلل تعطيلا أو تأويلا أو تكييفا أو تمثيلا يكون الخلل في المقالة، ولذلك كانت مقالة الفلاسفة من أفحش المقالات وأظهرها بطلانا، إذ ليس لهم من آثار الأنبياء عليهم السلام نصيب، كما تقدم آنفا، فمقالتهم هي عين التعطيل، إذ الوجود المطلق بشرط الإطلاق هو: عين العدم في الخارج وإن فرضه الذهن، فليس كل تصور أو فرض عقلي يصح وجوده في عالم الشهادة الخارجي، فنفي الصفات جملة وتفصيلا، ومنها صفة الكلام: كونيا كان أو شرعيا ذريعة إلى نفي القدر الكوني النافذ والأمر الشرعي الحاكم، فإن كلمات الرب جل وعلا: كلمات كونية بها تقع المقدورات الحادثة في عالم الشهادة، فهي علة صدورها، كما تقدم، وكلمات شرعية بها يكون الابتلاء بالتكليف الشرعي، فالأول: من لوازم ربوبيته الخالقة، والثاني: من لوازم ألوهيته الحاكمة، فإذا نفى المعطل هذه الصفة خصوصا، وبقية الصفات عموما، من علم محيط وقدرة نافذة ............. إلخ، لزمه نفي ربوبية وألوهية الباري،
(يُتْبَعُ)
(/)
عز وجل، بل لو غلا في النفي، للزمه نفي وجود الرب، جل وعلا، إذ قد صيره عدما بسلب أوصاف كماله، أو وصفه بالسلوب على حد التفصيل فليس بكذا وليس بكذا ........... على ما قرره أهل التجهم والاعتزال ومن تأثر بمقالتهم من المتكلمين، وإن لم يكونوا على ذات الحد من الغلو في النفي والتجريد.
فهذا فرقان ما بين طريقة الأنبياء وطريقة الفلاسفة، ظهر أثر منه في باب القدر، إذ نفي صفة الكلام: نفي للقدر، فهو كائن بالكلمات التكوينية على ما تقدم بيانه مفصلا، وهو سار في كل أبواب الدين: أصولا وفروعا، فلا يكون عمل صحيح إلا بتصور علمي صحيح المبنى صريح المعنى يوافق ما جاء به الرسل، عليهم السلام، من أخبار محكمات في الإلهيات والشرعيات، فالإلهيات: غيب مطلق لا يجدي قياس فلسفي في إدراكه، وإن أصاب فيه شيئا من الحق: فإصابة ظان متخرص لا راسخ متيقن، فالرسوخ واليقين لا يكون إلا من مشكاة النبيين عليهم السلام.
فَيَفْرِقُ المأمور الكوني المُحكَم بالأمر الكوني المُحكِم.
فالمصدر في الآيتين: جار على حد استعمال المبنى الواحد في الدلالة على أكثر من معنى في ذات السياق، فهو في الآية الأولى: مفعول مقدر من الأزل منسوخ من اللوح إلى الصحف في ليلة القدر أو النصف من شعبان على خلاف في ذلك، كائن في عالم الشهادة إذا أراد الله، عز وجل، وقوعه، فتأويله يكون بالتقدير اليومي الذي يصير الغيب فيه شهادة، فيقع كما قدر الباري، عز وجل، أزلا، على الحد الذي قدره فلا يزيد ولا ينقص، وذلك مئنة من: كمال القدرة على إيقاع المقدورات، وكمال الحكمة في إيقاعها على صفات ومقادير معينة بها يحصل من الحكم والمصالح ما تعجز عقول البشر عن حده، وإن وفق الله، عز وجل، من وفق من المسددين إلى إدراك طرف منها.
وهو في الآية الثانية: الأمر الذي به يكون المأمور، فهو المكوِّن له، فعنه قد صدر صدور المسبَّب عن سببه، فكل الأسباب الكونية راجعة إلى السبب الأول الذي لا سبب بعده: كلمات الرب، جل وعلا، الكونيات النافذات، التي هي من صفاته، وصفاته: غير مخلوقة، فليس لها علل تسبقها لتصدر عنها صدور المخلوق من خالقه، فهي صفات الرب الفاعلة التي بها تقع المفعولات الحادثة، فكيف تكون مفعولة لغيرها؟!، فذلك من البطلان بمكان.
فلا يستقيم أمر الكون والشرع إلا بإثبات صفات الرب المعبود، جل وعلا، على حد ما نزل به الوحي ونطق به الرسل عليهم السلام. بل لا يستقيم أمر الخليقة إلا بالامتثال التام لأمر الملك، عز وجل، تصورا وحكما، عقدا باطنا وشرعا ظاهرا، علما وعملا.
ومن فروع هذه المسألة:
بيان أنواع المقادير التي تندرج تحت المرتبة الثانية من مراتب القدر: مرتبة الكتابة الكونية النافذة:
فإن التقدير على خمسة أنحاء:
التقدير الأزلي: وهو ما كتبه الله، عز وجل، بالقلم الكوني الأول، الذي سطر في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة مقادير العباد التي علمها الرب، جل وعلا، أزلا، فجاء المكتوب المقدور على حد المعلوم أزلا.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ): فجاءت الكتابة الشرعية في الكتب المنزلة مؤكدة للكتابة الكونية المسطورة في اللوح المحفوظ للسنة الكونية النافذة في وراثة الأرض لأتباع الرسل عليهم السلام. فإن قلم التشريع لا يعارض قلم التكوين، إذ الكلمات الكونيات والكلمات الشرعيات صادرة من الرب الواحد، عز وجل، فتناقضها أمر محال بداهة، لاتحاد الأصل الذي صدرت منه صدور الوصف من الموصوف كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ):
فجمعت الآية بين الكتابة الحادثة والكتابة الأزلية:
فكتابة الملائكة: كتابة حادثة تتعلق بالعلم الثاني: علم الظهور والانكشاف، علم: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)، فتأتي مواطئة للمسطور أزلا في الكتاب الأول.
(يُتْبَعُ)
(/)
وكتابة القلم قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة: كتابة سابقة في الإمام المبين، على حد ما ذيلت به الآية: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ): فذلك عموم محفوظ لا مخصص له، فكل الكلمات الكونيات والشرعيات قد أثبتت في اللوح المحفوظ، فالكلمات الشرعيات قد سطرت فيه على حد قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)، والكلمات الكونيات قد سطرت فيه على حد قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
والتقدير لأمر السعادة والشقاوة وأخذ الميثاق:
على حد قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ): سواء قيل بأن الأخذ كان بلسان المقال وهو قول جمهور العلماء، أو بلسان الحال، فتلك هي الفطرة التوحيدية الأولى التي فُطِرَ الناس عليها مصداق قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) فلا يلزم من ذلك الإيجاد على حد الكمال، كما قرر ذلك بعض المحققين من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم وابن أبي العز رحمهم الله. وجمع بعض أهل العلم بين القولين فأثبت الميثاق الأول الذي يبقى أثره مجملا في القلب، فهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه"، فلم يقل: أو يسلمانه، إذ هو مسلم بمقتضى الميثاق الأول ولازمه من الفطرة التوحيدية الأولى، فلو ترك لتوجه بمقتضاها إلى عبادة إله واحد، ولكنه يفتقر للرسالات المذكرة بتلك الفطرة، المبينة لمجملها بما تضمنته من أخبار إلهية وأحكام شرعية، فتثبت الحجة على البشر بالرسالة لا بالميثاق الأول، فإن الميثاق الأول لا ينفع إلا من مات قبل جريان قلم التكليف عليه، فهو من الموحدين، وإن كان من أبناء المشركين، إذ لم يخاطب بميثاق الرسالة الخاتمة المؤكد للميثاق الأول، فهو جار على حد التكليف الشرعي: تصديقا بأخبار الرسالة وعملا بأحكامها، ولا تكليف لغير البالغ كما قرر أهل الأصول.
والفطرة الأولى لا تكفي لحصول النجاة لمن جرى عليه قلم التكليف حتى يجددها بالتزام ميثاق الرسالة، فإن المحل قابل لها على حد التكليف الشرعي، إذ الفطرة الأولى في أصلها: نقية لم تشبها شائبة شرك، وإنما عرض لها ذلك بمؤثر خارجي حرفها عن التوحيد، فصار المكلف واحدا من ثلاثة:
إما مسلم لم تنحرف فطرته فتأتي الرسالة مؤكدة لها مفصلة لمجملها مقررة لأحكامها.
وإما كافر قد عرض لفطرته ما حرفها، فتأتي الرسالة لتقوم عوجها، فلا يكفي الميثاق الأول حينئذ، إذ قد طرأ عليه ما أفسده، فلزم تجديد التذكير بخبر الرسالة.
وإما رجل من أهل الفترة فهو على حد قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فذلك مخصص لقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، فلم يأته النذير فهو من أهل الفترة المبتلين في الدار الآخرة، لإظهار سابق علم الله، عز وجل، فيهم بالسعادة فضلا أو الشقاوة عدلا، فلا يظلم ربك أحدا، فظهرت حكمة الرب، جل وعلا، في إرسال الرسل عليهم السلام على حد التفضل والامتنان على البشر، تذكيرا بالميثاق الأول، وتفصيلا لمجمل التوحيد في قلوبهم، وتقويما لما طرأ عليها من اعوجاج وانحراف.
والتقدير العمري:
على حد ما تقدم في أحاديث كتابة الكلمات وتصوير الأجساد ونفخ الأرواح فيها في الأرحام.
والتقدير السنوي:
وسبقت الإشارة إليه تفصيلا.
والتقدير اليومي:
فهو تأويل ما تقدم من التقادير الكونية المجملة، إذ به تخرج إلى عالم الشهادة مفصلة على حد قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).
قال البغوي رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"قال المفسرون: من شأنه أن يحيي ويميت، ويرزق، ويعز قومًا، ويذل قومًا، ويشفي مريضًا، ويفك عانيًا ويفرج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلا ويغفر ذنبًا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء". اهـ
فعلم أزلي تليه الكتابة بأنواعها المتقدمة، فمشيئة كونية نافذة لإخراج هذه المقدورات من العدم الغيبي إلى الوجود الشهودي فخلق لهذه المرادات الكونية على حد الإيجاد في عالم الشهادة يواطئ ما تقدم من الخلق الأزلي على حد التقدير الأزلي. فتلك مراتب القدر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 10 - 2009, 05:41 م]ـ
ومما يتعلق بهذه المسألة:
بيان أنواع الأقلام التي بها تكتب المقدورات الكونية والمقدورات الشرعية:
فالأقلام إما:
شرعية: تكتب بها الرسالات النازلة: أخبارا وأحكاما. فذلك قلم يجوز تخلف مسطوره فهو فرع عن القدر الشرعي، والقدر الشرعي يجوز تخلفه، بل ذلك المطرد من حال المكلفين، على حد قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، و: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، فما يتبعون إلا الظن على حد القصر الادعائي إمعانا في بيان ضلالهم الذي لزمهم في أنفسهم وتعدى إلى غيرهم، فهو علة ما تقدمه، ولذلك حسن الفصل، للتلازم الوثيق بين المعلول وعلته، فكأن الخبر الأول قد تولد عنه سؤال ضروري: ولم يضل من أطاعهم؟!، فجاء الجواب: ما يتبعون إلا الظن المذموم، فلا يولد يقينا أو رجحانا، كالظن الاصطلاحي المعهود في كلام المتأخرين من الأصوليين، فهم متحيرون متهوكون في أنفسهم فكيف يهدي من ذلك وصفه غيرَه؟!.
أو: كونية: تكتب به المقادير الكونية النازلة، فتلك أقلام نافذة المسطور، فما سطر بها كائن لا محالة، فقد قضي من الأزل على حد الإبرام فلا مبدل لكلمات ربك الكونية.
وهي تتنوع إلى أربعة أقلام أشار إليها ابن أبي العز، رحمه الله، بقوله:
"والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة ................ :
القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.
القلم الثاني: حين خلق آدم، وهو قلم عام أيضا، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم، عقيب خلق أبيهم.
القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: «رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة". اهـ
"شرح العقيدة الطحاوية"، ص244.
فالقلم الرابع يسجل ما يقع من المقدورات الكونية عى حد ما سطر أزلا في اللوح المحفوظ فيوافق المكتوب في الصحف المكتوب في اللوح إذ كان عدميا لا يتعلق به ثواب أو عقاب فصار وجوديا في صحف الكتبة إمعانا في الإثبات فصار محلا قابلا لتعلق الثواب والعقاب.
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة تناظر تعدد التقديرات، وهي مسألة تعدد عرض الأعمال، فالأعمال تعرض:
عرضا يوميا في آخر كل يوم وليلة.
وعرضا أسبوعيا في يومي الاثنين والخميس.
وعرضا سنويا في شعبان.
وعرضا كليا إذا انقضى الأجل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ونظير هذا أيضاً رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: "فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ"، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة فى آخرها كما فى حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل"، فهذا الرفع والعرض اليومى أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض فى شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهذه المسائل العظيمة القدر من أَهم مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم". اهـ
ص94.
فالشقاوة والسعادة أمر قد أبرم أزلا فما كتب على ابن آدم من الطاعة أو المعصية كائن لا محالة، ولكنه لا يخرج إلى عالم الشهادة إلا بمباشرة أسبابه، ومباشرة الأسباب لا تكون إلا بإرادات مختارة لا مجبرة على الفعل، إذ لا يكلف مكره بشرع، وإنما تجري عليه أحكام الكون، جريانها على حركاته غير الاختيارية، فلا يستوي ما يوقعه المكلف مختارا من الأفعال التي تجري عليها الأحكام التكليفية الخمسة، وما يقع له على حد الاضطرار فلا يملك له دفعا أو رفعا كسائر النوازل الكونية، فالأول يتعلق به المدح والذم والثواب والعقاب، إذ للعبد فيه اختيار، والثاني لا يتعلق به لعدم الاختيار.
فله إرادة تتلقف لمة الملك بالخير، أو لمة الشيطان بالشر، فتولد منها طاقة فعل، يتولد منها هي الأخرى: فعل وجودي في عالم الشهادة يلائم التصور الأول: خير أو شرا، فالنفس كالرحى تطحن ما يلقى فيها من الخطرات، فإن كان حبا نافعا أنتج دقيقا صالحا للاغتذاء، فيحصل له بذلك من كمال الانتفاع بقواه العلمية والإرادية والعملية ما يتعلق به المدح المستوجب للثواب الأخروي والنجاة من العذاب الناري.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ مَحْفُوظٌ عَنْهُ وَرُبَّمَا رَفَعَهُ بَعْضُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ مِنْ شُعُورٍ وَإِرَادَةٍ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُوَّةُ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْحَرَكَةِ وَإِحْدَاهُمَا أَصْلُ الثَّانِيَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا. وَالثَّانِيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُولَى وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا. فَهُوَ بِالْأُولَى يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ وَبِالثَّانِيَةِ يُحِبُّ النَّافِعَ الْمُلَائِمَ لَهُ؛ وَيُبْغِضُ الضَّارَّ الْمُنَافِيَ لَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ الضَّارِّ الْمُنَافِي وَالْبُغْضُ لَهُ بِالْفِطْرَةِ. فَمَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا صَدَّقَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ وَمَا كَانَ حَقًّا نَافِعًا عَرَفَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَحَبَّتْهُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَمَا كَانَ بَاطِلًا مَعْدُومًا كَذَّبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ فَأَبْغَضَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَنْكَرَتْهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وَالْإِنْسَانُ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} " فَهُوَ دَائِمًا يَهُمُّ وَيَعْمَلُ لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا مَا يَرْجُو نَفْعَهُ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّتِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الرَّجَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ إمَّا فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ: فَلَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا ضَارًّا وَإِمَّا فِي الْوَسِيلَةِ: فَلَا تَكُونُ طَرِيقًا إلَيْهِ. وَهَذَا جَهْلٌ. وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَضُرُّهُ وَيَفْعَلُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَيَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ عَارَضَهُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ لَذَّةٍ أُخْرَى أَوْ دَفْعِ أَلَمٍ آخَرَ جَاهِلًا ظَالِمًا حَيْثُ قَدَّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا ينفك الإنسان عن قوة علمية بها يكون التصور الذي ينتج الإرادات الجازمة على إيقاع المفعولات في عالم الشهادة، فإن صحت آلات الفعل، وقدر الباري، عز وجل، خلق الإرادة على حد الجزم المتقدم، وخلق طاقة الفعل التي بها يباشر العبد أسباب إيجاده في عالم الشهادة، إذا حصل كل ذلك فهو السابق لكل فعل نراه في عالم الشهادة، فإن الفعل كائن لا محالة، بقدرة الرب، جل وعلا، النافذة، وإرادة العبد الجازمة المؤثرة، ويبقى الإشكال في التصور فإنه إن صدر من الوحي المعصوم أفاد إرادات وأعمال صالحة ينتفع بها العبد وإن وقع له منها ألم عارض لا ينفك عنه أي فعل ولو كان مباشرة لذة، فإنه لا تخلص لذة في هذه الدنيا من ألم لتحصيل أسبابها، وألم حال مباشرتها، وثقل أو فتور بعد مباشرتها. وإن صدر التصور من غير الوحي أنتج إرادات وأعمال فاسدة وإن ظنها الفاعل صحيحة فيستجلب بها لذات عاجلة ومصالح طارئة تفوت عليه لذات ومصالح خيرا وأبقى.
وبقدر تضلعك من علم النبوات يصح تصورك فينتج أعمالها على حد الصلاح في نفس الأمر لا في تصور الفاعل الذي يظن القبح عين الحسن، والضرر عين النفع إن لم يزن أحواله وأفعاله بميزان النبوة الدقيق.
فالسلسلة كما فصل ابن القيم، رحمه الله، حلقاتها في "الفوائد" بقوله:
"واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به , ومساكنته له , وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال:"أوقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم قال:"ذاك صريح الإيمان" وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) ". اهـ
وقد حمل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ذاك صريح الإيمان": على وقوع نفس الوسواس في قول فإن اللص لا يطمع في بيت خرب فكذلك الشيطان لا يطمع في قلب خرب.
أو على مدافعته فمدافعته هي صريح الإيمان.
وتلك القوى لا ينفك عنها أي حي حساس متحرك، ولو كان بهيمة عجماء، فإنها تتحرك إلى ما ينفعها، وإن قصرت آلة الإدراك فيها، فليس لها من ذلك إلا إدراك المنفعة العاجلة دون نظر في المآلات، فذلك مما اختص به العقلاء، فلو قدمت لها طعاما مسموما فإنها ستأكله، ولو كان فيه هلاكها، لأن آلة الفهم عندها تعجز عن إدراك الضرر الآجل من تناول هذا الطعام وإن حصلت به لذة عاجلة، فهكذا الإنسان الذي يقدم اللذة العاجلة على اللذة الآجلة، فيعمل أسباب الدنيا الفانية، ويهمل أسباب الآخرة الباقية، مع خسة الأولى ونفاسة الثانية، فلو كانت الأولى، على حد الفرض العقلي، أنفس، لكان وصف الفناء الملازم لها مما يزهد النفس فيها، فالعاقل يقدم الباقي على الفاني، ولو كان أنقص، فكيف إذا كان المقدم على حد الخسة والفناء، والمؤخر على حد النفاسة والبقاء، ألا يكون ذلك انحطاطا إلى مرتبة البهائم التي تأكل كل ما يلقى إليها وإن كان فيه هلاكها؟!، فمثل ذلك كالرحى التي يطحن صاحبها كل ما يلقى فيها فلا يميز الخبيث من الطيب، فإن ألقي إليه حب طحنه فأنتج دقيقا صالحا يغتذي به البدن ويصلح، وإن ألقي فيه تراب أو حصى طحنه فأنتج ما لا ينتفع به فلو اغتذى به البدن لهلك!.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته , وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها , فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت تعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه". اهـ
سوف ترى إذا انجلى الغبار ******* أفرس تحتك أم حمار
(يُتْبَعُ)
(/)
والطاحن في كلا الحالين: واحد، إذ لا تصور علمي صحيح عند صاحب الرحى يميز به بين النافع والضار، فذلك مما لا يتلقى إلا من الرسل عليهم السلام، فالنبوات هي التي تزكي تلك المحال، وتصحح تلك الإرادات، وتوجه تلك القوى العاملة إلى تحصيل ما ينفعها من المصالح الدينية والدنيوية المعتبرة، فإنها قوى فاعلة لا محالة، فإن لم تفعل على حد الخطرات الملكية التي أبانت عنها الطرائق النبوية على حد التفصيل الرافع لكل إجمال، إن لم تفعل على ذلك الحد: فعلت على حد الخطرات الشيطانية التي تعارض الوحي المنزل، فهي على النقيض منه، فلا يجتمعان ولا يرتفعان، فالحارث الهمام لا يكف عن الهم بمقتضى ما عنده من القوى العلمية ولا يكف لزوما عن الحرث الصادر عن تلك التصورات الأولى، فهم علمي سابق يتبعه حرث عملي لاحق، فلا يجتمع الضربان من الخواطر وإن كان المحل القابل لأيهما واحد، فهو: قلب المكلف: ميدان الصراع الدائر بين الوحي الرحماني والوحي الشيطاني فهو للغالب منهما، والغلبة إنما تكون للأقوى سلطانا، فمن باشر علوم النبوات وأعمالها فهو إلى النجاة أقرب، ومن هجرها فهو إلى الهلاك أقرب، والمكلفون في ذلك الصراع على مراتب يعجز العادون عن عدها فهي متعددة بتعدد القلوب التي تدور فيها تلك المعركة المستمرة من لدن عصى آدم عليه السلام فأنزل إلى دار التكليف إلى قيام الساعة: خاصة على حد ما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإسناد فيه كلام وإن كان معناه صحيحا: "إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته"، أو عامة على حد قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)
فإما هذا وإما ذاك، فلا يتصور وجود نفس بلا حراك علمي في الذهن، وحراك عملي في الخارج، إذ من لا حراك له فهو ميت قد نزعت منه التصورات العلمية والإرادات العملية، وإذ كان الأمر كذلك، فإنه لا أحق من الخواطر بالعناية، وهو ما أشار إليه ابن القيم، رحمه الله، في موضع تال من "طريق الهجرتين"، وفصل القول فيه في "الفوائد" فقال:
"فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده وإن قبلته صار فكرا جوّالا فاستخدم الإرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذّر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتوجه هو إلى جهة المراد ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل وتداركه أسهل من قطع العوائد فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر في ما لا يعني باب كل شر , ومن فكّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر, والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من النفس فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. وإياك أن تمكّن الشيطان من بيت أفكارك وإراداتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه , ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيّد الحبوب , فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته , فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكّنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك , وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه , وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته وعند العارفين أن تمنّى الخيانة واشتغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده. وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها , وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله فإذا اطّلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه , وقابله بما يستحقّه وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمنّي الخيانة ومحبتها والحرص عليها فالأوّل يتركها عجزا واشتغالا بما هو فيه وقلبه ممتلئ بها والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها , فهذا أحسن حالا وأسلم عاقبة من الأول.
وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها فإن ألقيت فيها حبا دارت به , وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى وبعرا دارت به والله سبحانه هو قيّم تلك الرحى ومالكها ومصرّفها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور به , وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به فالملك يلم به مرة والشيطان يلم بها مرة فالحب الذي يلقيه الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} أي على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله". اهـ
وحراسة الخواطر من أعظم الأعمال نفعا وأشقها على النفوس إذ بمجرد غفلة الطاحن ولو لحظات يلقي الشيطان في رحاه مواد فاسدة من خطرات أو أماني فإن لم يتدارك نفسه كثرت تلك المواد في رحاه، والحكم للأغلب، فمن غلب على عقله الخواطر الملكية صح تصوره إجمالا فتولد عنه عمل نافع، ومن غلب على عقله الخواطر الشيطانية فسد تصوره فتولد عنه عمل فاسد. والمعصوم من عصمه الله عز وجل.
فمهما حرص الإنسان على تصحيح خواطره فأقام على قلبه وجوارحه الجند، فلا بد من غفلة ولو يسيرة يتسلل فيها العدو إلى حصونه فإن سارع بطرده زال أثره، وإن طالت الغفلة أثخن العدو في أرضه، فعاد بالغنائم والأسلاب وربما حدثته نفسه بالبقاء.
ولذلك كان قول المحققين من أهل العلم من لدن السلف إلى يوم الناس هذا: أن الإيمان قول وعمل، قول قلبي ولساني هو اللبنة الأولى فيصح التصور بتصديق علوم الرسالات الخبرية، وعمل قلبي ولساني وبدني يصح به العمل الذي هو اللبنة الثانية بموافقة أحكام الرسالات العملية. فلا غنى عن الرسالات في قول أو عمل، في عقد باطن أو حكم ظاهر.
اللهم أصلح فساد القلوب بالعلم النافع الذي به يصح التصور العلمي وأصلح فساد الجوارح بالأعمال الصالحة التي بها يصح الحكم العملي.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 10 - 2009, 02:43 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا، فأسكنه الجنة أو النار وهو في بطن أمه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ" الحديث". اهـ
ص96.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالكتابة هنا على حد الكتابة الكونية، فإن الله، عز وجل، لا يكتب الزنا أو مبادئه على العبد شرعا، إذ ذلك من المحال بمكان، بل يأمر بضد ذلك على حد التشريع، على وزان قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فإن أمر بما هو شر في نفسه، باعتبار الشر الكائن في المقدور الكوني الجاري على خلاف المراد الشرعي، إن أمر به، فعلى حد الأمر الكوني النافذ الذي يشمل المحبوبات المرادة لذاتها، والمكروهات المرادة لغيرها، إذ بها تستجلب حكم ومصالح أعظم، كما تقدم مرارا، فهو على حد الأمر في قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، فأمرناهم كونا بالفسق، وإن نهوا عنه شرعا، لحكم إلهية ومصالح آدمية تستنبط بتلك المفسدة الجزئية، وتلك عين الحكمة الإلهية إذ السنة الكونية التي أقيم عليها الكون قد اقتضت ندرة بل ربما انعدام المصلحة الخالصة، إذ الدار: دار ابتلاء، فلا يناسبها خلوص أجناس النعيم من الآلام فليس ذلك إلا في دار النعيم الأزلي حيث المصالح الخالصة والنعم الكاملة فلا منغص لها، وأعظمها: رؤية الباري، عز وجل، على حد التنعم، فلا تكون إلا لأصحاب دار السعادة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
فلا تنفك أي مصلحة دنيوية عن ألم ومشقة حال تحصيلها وحال مباشرتها، بل لو أفرط في تناولها، ولو كانت على حد الإباحة المطلقة، لآذته، وربما صارت على حد الكراهة أو التحريم لو أدت إلى وقوع التقصير في تحصيل ما هو أولى من المندوبات أو الواجبات.
فلا راحة في دار الابتلاء إلا على جسر من التعب، وهي، مع ذلك، راحة صغرى يعقبها التعب والكلال لا محالة، فتلك السنة الكونية المطردة، فالإعياء يلحق القلوب والأبدان، فالهموم تغزوا كل قلب، وإن كان أشجع قلب، فقد أصابت قلوب الأنبياء والصديقين، فذلك من الفدر الكوني النافذ، فصبروا عليها وجالدوها بمقتضى القدر الشرعي الحاكم فهم أولى الناس به مسارعة في رضا الرب جل وعلا، والآلام تغزو الأبدان، وإن كانت أقوى الأبدان، فبعد الصحة اعتلال، وبعد القوة ضعف، وبعد النشاط كلال، فتلك، أيضا، سنة كونية جارية، على حد قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، وذلك أمر لم بسلم منه بشر، وإن كان على حد النبوة أو الصديقية أو الولاية، فهو من أعراض النقص الجبلي في بني آدم، إظهارا لكمال الرب، جل وعلا، الغني بذاته، فلا يفتقر إلى سبب إبقاء، بل هو الباقي، تبارك وتعالى، على حد الأولية والآخرية المطلقة، فذلك وصف ذاتي لازم له، عز وجل، بل هو المبقي لغيره، فإبقاء ما سواه فرع عن إبقائه الذي هو وصف فعله المتعلق بمشيئته، فكل بقاء من إبقائه صادر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِى وَلا اسْتَخْلَفَ مَنْ خَلِيفة إِلا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُوم مَنْ عَصَمَهُ اللهُ". اهـ
ص96.
فبطانة الخير على حد ما تقدم من لمة الملك، فهي من جنسها تأمره بالخير على حد النصح الخالص، وبطانة السوء تأمره بالشر المحض على حد الوسوسة والتزيين، على حد ما نرى في عالم الشهادة، من تحسين المنتفعين من بطانة السوء لأصحاب العروش كل صور القبح العادي والشرعي، فيرونه بأعينهم: عين المصلحة، وهو محض مفسدة، فذلك من التزيين الإبليسي، فهو إمامهم في تزيين الباطل لأتباعه، على حد قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)، وما ذلك إلا لمنافع آنية أنانية تهدر فيها المصالح الكلية العامة تحصيلا لمنافع جزئية خاصة، فذلك على الضد من
(يُتْبَعُ)
(/)
مراد الشرع الذي جاء بتحصيل المصالح الكلية ولو بإهدار المصالح الجزئية، فإن إهدار الجزئي مغتفر في مقابل تحصيل الكلي، فقلب الأمر إلى إهدار الكلي تحصيلا للجزئي من الفساد الشرعي والعقلي والعادي بمكان، ولكنها الأهواء عندما تتحكم في المصائر بما قدر الله، عز وجل، لأصحابها من الهيمنة والتسلط الكوني، ولو على خلاف الأمر الشرعي ابتلاء أو عقوبة لأمم الأرض، بترأس الطواغيت الذين يقهرون أتباعهم بضرب رقابهم وجلد أبشارهم ومصادرة أموالهم.
والمعصوم من عصمه الله: على حد الجناس الاشتقاقي فذلك آكد في تقرير المعنى، فلا عصمة بالتزام الأمر الشرعي إلا فرعا عن أمر كوني يسدد صاحبه بتيسير أسباب العصمة الشرعية له، فلن يطيع طائع إلا بقدر الله، عز وجل، الكوني، فيقوم به القدر الشرعي على حد امتثال الأمر، والقدر الكوني على حد إيجاد المأمور، ولن يعصي عاص إلا بقدر الله، عز وجل، الكوني، فيتخلف في حقه القدر الشرعي بمقتضى الأمر الكوني، فكلاهما، كما تقدم في أكثر من موضع، لا يخرج عن حد القضاء الكوني المبرم، وإن خرج عن حد القضاء الشرعي الملزم.
وإلى طرف من ذلك أشار اللالكائي، رحمه الله، في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" بقوله:
"من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريدٌ لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، لم يؤمن أحد به إلا بمشيئته، ولم يكفر أحد إلا بمشيئته ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [سورة يونس، الآية: 99]، ولو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس، فكُفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإلحاد الملحدين وتوحيد الموحدين وطاعة المطيعين ومعصية العاصين كلها بقضائه سبحانه وتعالى وقدره وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه، ويرضى الإيمان والطاعة ويسخط الكفر والمعصية ولا يرضاها، قال الله عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر، الآية: 7]) ". اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنه قال: أَتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا عدِي أَسْلِمْ تَسْلَم" قلت: وما الإسلام؟ قال: (تَشْهَدُ أَنَّ لا إلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللهِ، وَتُؤْمِنُ بِالأَقْدَارِ كُلِّهَا خَيْرِها وَشَرِّهَا وَحُلْوَهَا وَمُرِّهَا) ".
ص96.
وهو حديث ضعيف. قال البوصيري، رحمه الله، في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى، وله شاهد من حديث جابر رواه الترمذي في جامعه.
وقد أطنب في معرض توكيد ذلك الإيمان، فأكد بالمؤكد اللفظي: "كلها"، ثم ذيل بشطريها: الخير والشر، ولازم كل منهما فـ: الحلاوة لازم الخير، والمرارة لازم الشر المقدور فليس الشر في القدر فهو من وصف الرب، جل وعلا، وهو على حد الكمال المطلق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، وذكر اللازمين بعد ملزوميهما جار على حد اللف والنشر المرتب فـ: الحلاوة في مقابل الخير، والمرارة في مقابل الشر.
ولا ينفي ذلك ما ذكر في حديث جبريل، عليه السلام، إذ ذكر بقية الأركان فيه من باب الزيادة التي لا تنافي المزيد عليه في هذا الحديث، فالإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر، لا ينافي الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقدر خيره وشره.
فأدلة الباب متعاضدة غير متعارضة، فيطلب البيان من جميعها، فما ذكر في سياق مجملا قد جاء في سياق آخر مفصلا، وما أضمر في سياق قد أظهر في آخر.
فالإيمان بالأقدار الشرعية يكون بالامتثال، والإيمان بالأقدار الكونية يكون بالصبر والاحتساب.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 10 - 2009, 02:45 م]ـ
ومن قوله تعالى:
(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ):
(يُتْبَعُ)
(/)
فتلك حجتهم الباهتة، إذ فيها من سوء الظن بالباري، عز وجل، ما فيها، فإن التزام الهدى مظنة تمكينهم لا إسلامهم إلى أعدائهم، وإن ابتلي حزب الإيمان بالتضييق والاستئصال الجزئي، فإن العاقبة والدولة لهم، وإن ظهر عليهم أعداء الرسالة في جولة أو جولات.
وجاء الفعل على حد الزيادة في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى الذي يتذرع به أولئك إلى الإقامة على ما هم فيه من الضلال، على حد: الضرورات تبيح المحظورات!.
وتلك حجة من البطلان بمكان، ولذلك جاء التعقيب بتذكيرهم بدلائل العناية بهم من الأمن وسعة الأرزاق، و: "كل" بحسب السياق الذي ترد فيه إذ العموم هنا مخصوص بما يجبى إلى مكة من الثمار فليست ثمار كل شيء بداهة، وإنما جاء العموم تقريرا لعظم المنة الربانية عليهم.
وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"و {كل شيء} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كل} في معنى الكثرة". اهـ
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ: فذلك من الاستفهام التقريري للنعمة الكونية السابغة: نعمة الأمن التي لا تطيب نعمة إلا بها، فلو جمعت لك كل النعم مع افتقارك إلى الأمن فأنت في خوف ينغص عليك لذات تلك النعم، ولا يدرك ذلك إلا من ابتلي بالخوف على النفس أو المال أو العرض أو الولد، فمن عافاه الله، عز وجل، من ذلك الابتلاء العظيم فليسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه ودنياه، وليدم الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وليلتزم الطاعة ويجتنب المعصية صيانة لتلك النعمة إذ بذهابها يصير الحي في عداد الأموات فانتفاعه بحياته قد زال أو كاد.
وهو من جهة أخرى توبيخي لهم في معرض تذكيرهم بدليل العناية بهم مع توليهم عن أداء شكرها، بل تلبسهم بضده من الجحود والكفران، فناسب ذلك تقدير معطوف يزيد معنى التوبيخ شدة على وزان: أتركناهم ولم نمكن ........ ، ووصف الحرم بالأمن، فذلك أساس كل نعمة، كما تقدم، ثم جاء الوصف بجملة: "يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" على حد المضارعة إمعانا في تقرير تلك العناية. أو هو بمنزلة الحال من النكرة: "حرما" إذ أكسبها الوصف: "آمنا": نوع تخصيص جوز وقوع الحال منها.
ثم جاء الإطناب في معرض تقرير هذه النعمة الربانية بحال أخرى: "رزقا" من: "ثمرات".
وقوله: "من لدنا": مئنة من عظم وشرف هذا الرزق، فشرفه من شرف من صدر عنه صدور المخلوق من خالقه، على ما اطرد من دلالة: "من" على ابتداء الغاية فابتداء غاية كل نعمة شرعية وكونية من رب البرية جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 10 - 2009, 05:58 م]ـ
عذرا فالمشاركة الأخيرة ليست متعلقة بسياق الكلام في هذه المداخلات.
وعودة إلى سياق كلام ابن القيم:
يقول رحمه الله:
"وفي صحيح البخاري من حديث الحسن عن عمرو بن تغلب قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم مال، فأعطى قوماً ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا، فقال: "إِنِي أَعْطِي الرَّجُل وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَي مِنَ الَّذِي أَعْطِي، أَعْطِي أَقْوَاماً لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالهَلَع، وَأَكِلُ أَقْوَاماً إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْخَيْرِ الحديث".
ص96، 97.
فمن جزع وهلع فهو على حد ما جبل عليه الإنسان بمقتضى السنة الكونية النافذة سنة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، فذلك وصفهم الكوني الذي يدافعه أهل الإيمان من: (الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، فيكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقواما إلى ما قام بهم من أوصاف القناعة والخير بمقتضى ما التزموه من القدر الشرعي، فقد هذب ما جبلوا عليه من الأخلاق الكونية الجبلية التي لا يلام الإنسان عليها، وإنما يلام على عدم مدافعته لها بالأقدار الشرعية التي لا تتلقى إلا من النبوات، فهي، كما تقدم مرارا، قد أتت بأصدق الأخبار العلمية التي صححت التصورات العقلية، وأعدل الأحكام العملية التي صادفت محالا
(يُتْبَعُ)
(/)
قابلة قد صحت تصوراتها الباطنة فصحت لزوما أعمالها الظاهرة، فالنبوة تفصل مجمل فطرة الخير التوحيدية وتنفي خبث فطرة الأخلاق الجبلية من شح وهلع .......... إلخ، وتصحح ما انحرف من العلوم والأعمال، فلا غنى عنها، كما تقدم مرارا، لتصحيح المفاهيم التي تحصل بها السعادة في المعاش والنجاة في المعاد.
فليس عطاء الكون مئنة من موافقة الشرع، بل قد يعطي الله، عز وجل، من لا يحبه من عطاء الدنيا العاجل على حد العدل بتوفيته عمله في دار الابتلاء فلا خلاق له في دار الجزاء كما في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، أو الاستدراج على حد قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
وقد يعطي النبي استئلافا للقلوب، بل قد اطرد ذلك من سيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسيرة الخلفاء من بعده، بل هو أحد مصارف الزكاة، التي يفزع إليها في أزمنة القلة والاستضعاف، فإذا قويت شوكة الجماعة المسلمة جاز للإمام تعليقه لا إبطاله، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، فهو على حد الحكم الدائر مع علته، فيدور معها وجودا وعدما.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءِ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَخَلقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَكَتَبَ فِى الذَكْرِ كُلَّ شَيءٍ". اهـ
ص97.
فهو الأول، جل وعلا، أولية ذات وأسماء وصفات وأفعال مطلقة، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجارية على سنن الحكمة البالغة، له ذلك أزلا وأبدا فلم يكن، جل وعلا، معطلا عن اسم أو وصف أو فعل، ثم أحدثه، فطرأ عليه كمال كان عنه عريا، بل كماله: كمال أوصاف أزلي تصدر عنه أفعاله، فلا يكون فيها ما في أفعال البشر من نقص يزول بالتكرار على حد الترقي من النقصان إلى الكمال، فلا يتصور ذلك في حق من أبدع هذا الكون على هذا النحو المتقن، فآياته الكونية شاهدة بإحكام صنعته، فلا بد أن يكون صانعه قد بلغ من وصف العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة النافذة حد الكمال، فعن تلك الصفات الكاملة صدرت الكلمات التكوينية النافذة فكان الكون على هذه الصورة الباهرة.
وقد تقدم عرشه الكائنات في هذا العلم المشهود، فهو أول خلق نعلمه، ولا ندري، لقصور عقولنا وخلو الباب من دليل سمعي إذ لا يعتد في هذا الباب الغيبي إلا بدليل نقلي صحيح الإسناد، لا ندري أسبق العرش خلق أم لم يسبقه، إذ لم يكن الرب، جل وعلا، معطلا عن وصف الخلق قبل خلقه، فلم يزل خالقا فاعلا، فيجوز عقلا أن يخلق قبل العرش خلقا لا نعلمه، إذ الوصف الذي يكون به الخلق لازم له أزلا، فالأمر جار على حد الممكن العقلي، فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود النص المثبت أو النافي بل يبقى على حد الجواز العقلي، ولذلك كان قول المحققين في مسألة: تسلسل المفعولات في الأزل: أنه من الممكن، فلا يجب كالتسلسل في المفعولات في الأبد لورود النص على ذلك في نحو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)، فذلك أمر يتجدد بنضوج الجلود إلى ما لا نهاية في حق المخلدين في العذاب أبدا، وتجدد نعيم الجنة واستمراره، ولا يمتنع كالتسلسل في المؤثرين، إذ الأسباب كلها راجعة إلى مسبِّب واحد عنه صدرت صدور المخلوق من خالقه، فبكلماته الكونية النافذة تخلق الأسباب الفاعلة ويظهر أثرها في الحوادث الكائنة في عالم الشهادة.
وقد كتب في الذكر كل شيء، ففي اللوح المحفوظ، كما تقدم مرارا، قد سطرت كل الأحداث الكونية على حد الإبرام والنفاذ فلا مبدل لكلمات ربك الكونية.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشجّ عبد القيس: "إِنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" قال: يا رسول الله خلقين تخلقت بهما، أم جبلت عليهما؟ قال: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا" قال: الْحمد لله الَّذى جبلني على خلقين يحبهما اللهُ". اهـ
ص97.
فذلك مما جبل عليه الأشج، رضي الله عنه، بمقتضى الفطرة التكوينية التي اختص بها، كما جبل الصديق، رضي الله عنه، على الرحمة، التي فطر عليها كونا، وكما جبل عمر، رضي الله عنه، على الشدة، وكما جبل عثمان، رضي الله عنه، على الحلم والكرم، وكما جبل علي، رضي الله عنه، على الشجاعة والبأس ........ إلخ، وعلى هذا الوجه يصح إطلاق لفظ الجبر في حق الرب، جل وعلا، فهو الجبار الذي جبر عباده على ما قدره أزلا من الأخلاق حسنة كانت أو ردية، وإليه أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي فِي اسْمِ اللَّهِ "الْجَبَّارِ" قَالَ: هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ وَكَذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَبَارِيَ الْمَسْمُوكَاتِ جَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا وَالْجَبْرُ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَجْبُرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقْهَرُهُمْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ الَّذِي يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَمِنْ جَبْرِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاءُ مِنْهُمْ إمَّا مُخْتَارِينَ لَهُ طَوْعًا وَإِمَّا مُرِيدِينَ لَهُ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَيَجْعَلُهُمْ فَاعِلِينَ لَهُ وَهَذَا الْجَبْرُ الَّذِي هُوَ قَهْرُهُ بِقُدْرَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ هُوَ كَإِجْبَارِ غَيْرِهِ وَإِكْرَاهِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا أَنَّ مَا سِوَاهُ عَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاؤُهُ وَلَا فَاعِلِينَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُجْبِرُ الْغَيْرَ وَيُكْرِهُهُ إكْرَاهًا يَكُونُ ظَالِمًا بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْصِدُ حِكْمَةً تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ صَادِرَةٌ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ". اهـ
ولكل رزقه الكوني من الأديان والأخلاق، على وزان رزقه الكوني الذي به تقوم الأبدان، فمن الناس من وسع الله، عز وجل، عليه في الديانة، فله منها الوصف المتين، ومن الناس من وسع الله، عز وجل، في الأخلاق، فله منه الوصف القويم، ومنهم من وسع الله، عز وجل، عليه في رزق البدن فله منه الوصف الكثير العميم، فذلك فضل الرب الغني يؤتيه من يشاء، ومنهم من قدر عليه رزقه الديني، فديانته على حد الرقة على وزان قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، و: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) ومنهم من ضيق عليه رزقه الأخلاقي، فهو سريع الغضب، حاد الطبع، سيئ الخلق، لا يأمن الناس بوائقه، فإيمانه قد انتقص من كماله الواجب، بنص حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، مرفوعا وفيه: "والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه"، إذ النفي قد تسلط على القدر الواجب المنجي من الوعيد، فلا يكفر المرء بإيذاء المسلمين إلا إن كان ذلك
(يُتْبَعُ)
(/)
فرعا عن بغضه لدينهم، فإن ذلك ناقض لعقد الإيمان في القلب على تفصيل ليس هذا موضعه.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ" رواه البخارى تعليقاً". اهـ
ص97.
فجف القلم الكوني بما يلاقيه العبد، فذلك أمر قد أبرم من الأزل ولما يصر للعبد أو فعله وجود بعد، فمصيره قد حسم قطعا ولما يزل عدما، وإنما اقتضت حكمة الرب أن يوجده ويوجد فعله، فيقع بإرادة مؤثرة، على حد يعجز العقل عن تصوره في عالم الشهادة فلا يقاس وصف الرب الغيبي على وصف العبد الشهودي، بل لكل وصفه، فإذا وقع في عالم الشهادة صار ذا وجود تصح إناطة الثواب أو العقاب به، فيسيل قلم الحفظة بمداد الإحصاء لما يفعله العبد طاعة أو معصية، ديانة أو عادة، فذلك آكد في تقرير ما سطر في الكتاب الأول، إذ لا يكون إلا على وفقه، فهو نسخة منه بها تزداد الحجة ثبوتا، فتعدد محال الكتابة آكد في إثبات المكتوب، كما قيل في تعدد محال الكتاب العزيز، في اللوح والمحفوظ وفي بيت العزة وفي قلب الرسول البشري صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي قلوب أصحابه، رضي الله عنهم، وفي صحفهم مفرق السور مجتمع الآيات، وفي مصحف أبي بكر، رضي الله عنه، بسائر الأحرف على حد الرخصة، وفي مصحف عثمان، رضي الله عنه، على حرف قريش على حد العزيمة حسما لمادة الفتنة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر البخاري أيضاً عن ابن عباس فى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] قال: سبقت لهم السعادة ". اهـ
ص97.
فهم لها سابقون بما كان في الكتاب الأول فيسارعون إلى أفعالهم الكائنة في عالم الشهادة الوجودي لتقع على وفق المقدور المكتوب في عالم الغيب العدمي.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 10 - 2009, 04:47 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت: (أَن الله لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً فى سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقْدَر، وتعلم أَن ما أَصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأَك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلتَ النار) ". اهـ
ص97.
وليس ذلك جار على ما قرره المتكلمون من كون الظلم هو الممتنع لذاته، فنفوا قدرة الله، عز وجل، على الظلم، إذ الممتنع لذاته لا يصح تعلقه بالقدرة على حد الإمكان الخارجي، وإن صح تعلقه بالأذهان على حد الفرض العقلي، فلا مدح في نفي أمر محال لذاته لا وجود له أصلا، وإنما يكون المدح بالنفي مع إثبات كمال ضده، كما تقدم من طريقة أهل الإثبات في باب الصفات الإلهية، فقوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ): لا يتضمن مدحا إلا إذا كان الظلم أمرا وجوديا، وكان الله، عز وجل، قادرا عليه، ولكنه تنزه عنه بمقتضى حكمته البالغة وغناه التام عن خلقه فلا يفتقر إلى ما بأيديهم من الأسباب أو النعم ليظلمهم بسلبهم إياها قهرا على حد ما يقع من الظالمين في عالم الشهادة، بل هو الخالق للملاك وأملاكهم، المجري لأسباب النعم التي بين أيديهم فكيف يتصور افتقاره إليها، وهو أمر تقدمت الإشارة إليه مرارا.
وهو، مع ذلك، لو عذبهم، ما كان لهم ظالما باعتبار عجزهم، ولو اجتهدوا ما اجتهدوا في عبادته وشكر نعمه، عن أداء شكر نعمة واحدة، فالمعنى على هذا التقرير صحيح بخلاف ما قرره المتكلمون من تجويز تعذيبه لأوليائه من أنبيائه عليهم السلام والصديقين والشهداء والصالحين، وتنعيمه لأعدائه من الأبالسة والكفار والملاحدة والمشركين، لطلاقة قدرته النافذة دون نظر منهم إلى عظم حكمته البالغة، إذ تعذيب المؤمن وتنعيم الكافر غير جار على سننها، ولكنهم لغلوهم في إثبات القدرة الإلهية على حد أوقعهم في صور من الجبر من قبيل نظرية الكسب التي مؤداها إثبات قدرة اقترانية غير مؤثرة في إيجاد الفعل تأثير السبب في إيجاد مسبَّبه دون نفي للقدر الكوني النافذ الذي به أدى ذلك السبب إلى مسبَّبه كما هو مذهب أهل الحق في باب القدر فالقدرة التي
(يُتْبَعُ)
(/)
أثبتوها: قدرة كلا قدرة!، ومن قبيل نفي تأثير الأسباب الكونية مطلقا، فأنكروا العلل في باب الإلهيات وإن قرروها في باب الشرعيات، فنظرهم إلى جانب القدرة غلوا وإلى جانب الحكمة جفاء وعليه خرجوا هذا الحديث فقرروا تلك المقالة المستهجنة شرعا وعقلا إذ فيها من التنقص ما يتنزه عنه الباري عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله في "شفاء العليل":
"وهذا الحديث حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه وله شأن عظيم وهو دال على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضى المقدر الذي لا بد للعبد من فعله ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا فسلك الجبرية وادي الجبر وطريق المشيئة المحضة الذي يرجح مثلا على مثل من غير اعتبار علة ولا غاية ولا حكمة قالوا: وكل ممكن عدل والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لكان متصرفا في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه وذلك مستحيل عليه سبحانه قالوا ولما كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببا للنجاة فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيرا من أعمالهم وهؤلاء راعوا جانب الملك وعطلوا جانب الحمد والله سبحانه له الملك وله الحمد.
وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة ولم يوفوه حقه وعطلوا جانب التوحيد وحاروا في هذا الحديث ولم يدروا ما وجهه وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والرد له وأن الرسول لم يقل ذلك قالوا وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه ولم يعصه طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما ولا يقال أن حقه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه فلو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوا بغيره فكيف يعذبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السماوات والأرض ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم قالوا: فلا وجه لهذ ا الحديث إلا رده أو تأويله وحمله على معنى يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه لا يقبل من العبد عملا حتى يؤمن بالقدر والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها.
ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر والثواب والعقاب فتارة يغلب عليهم شهود القدر فيغيبون به عن الأمر وتارة يغلب عليهم شهود الأمر فيغيبون عن القدر وتارة يبقون في حيرة وعمى وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي بنوا عليها ولو جمعوا بين الملك والحمد والربوبية والإلهية والحكمة والقدرة وأثبتوا له الكمال المطلق ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود لعلموا حقيقة الأمر وزالت عنهم الحيرة ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله وأن ما خالفه ظنون كاذبة وأوهام باطلة تولدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله: الرب تبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه فإيجادهم نعمة منه وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا
(يُتْبَعُ)
(/)
سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه ويكفي أن النفس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعدونها وهو أربعة وعشرون ألف نفس في كل يوم وليلة فلله على العبد في النفس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه فإذا وزعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يخرج قسط كل نعمة منها إلا جزءا يسيرا جدا لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه.
قال أنس بن مالك: ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه ذنوبه وديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله ثم تقول أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيرا قال ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فما بيني وبينك. وفي صحيح الحاكم حديث صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلاته فسأل ربه وقت الأجل آن يقبضه ساجدا وان لا يجعل للأرض عليه سبيلا حتى يبعث وهو ساجد فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الرب فيقول تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الرب جل جلاله: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول: أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي: رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول: ردوه فيوقف بين يديه فيقول: يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئا فيقول: أنت يا رب فيقول: من قواك على عبادة خمسمائة سنة فيقول: أنت يا رب فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول: أنت يا رب فيقول الله: فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لن ينجو أحد منكم بعمله وفي لفظ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجي أحدا عمله من الأولين ولا من الآخرين إلا أن يرحمه ربه سبحانه فتكون رحمته خير له من عمله لأن رحمته تنجيه وعمله لا ينجيه فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم ومما يوضحه أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقه عليه وكان ما يطالب به من الشكر أكثر مما يطالب من دونه فيكون حق الله عليه أعظم وأعماله لا تفي بحقه عليه وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف الله وعرف نفسه هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به شيئا وأن يذكره ولا ينساه وأن يشكره ولا يكفره وأن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا". اهـ
ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى":
" وَمِنْهَا، (أي: الفروق بين الخالق عز وجل والمخلوق)، أَنَّ نِعَمَهُ عَلَى عِبَادِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ جَزَاءُ النِّعْمَةِ لَمْ تَقُمْ الْعِبَادَةُ بِشُكْرِ قَلِيلٍ مِنْهَا فَكَيْفَ وَالْعِبَادَةُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَيْضًا.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَزَالُونَ مُقَصِّرِينَ مُحْتَاجِينَ إلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَلَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهَا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ} لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَمَا يُقَالُ بِعْت هَذَا بِهَذَا وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَغْفِرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَفْوِهِ فَهُوَ ضَالٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَرُوِيَ بِمَغْفِرَتِهِ} وَمِنْ هَذَا أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ. وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ} الْحَدِيثَ". اهـ
ويقول ابن أبي العز رحمه الله:
"وروى أبو داود، والحاكم في المستدرك، من حديث ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " «لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم».
وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل!!
وأسعد الناس به أهل السنة، الذين قابلوه بالتصديق، وعلموا من عظمة الله تعالى وجلاله، قدر نعم الله على خلقه، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم، إما عجزا، وإما جهلا، وإما تفريطا وإضاعة، وإما تقصيرا في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه. فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وتكون قوة الحب والإنابة، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء -: جميعها متوجهة إليه، ومتعلقة به، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه، بل على إفراده بذلك، واللسان محبوسا على ذكره، والجوارح وقفا على طاعته ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس تشح به، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى. وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟ ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له، ولو في وقت من الأوقات؟ فلو وضع سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه، لعذبهم بعدله، ولم يكن ظالما لهم وغاية ما يقدر، توبة العبد من ذلك واعترافه، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها. لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل الجنة، كما قال أطوع الناس لربه، وأفضلهم عملا، وأشدهم تعظيما لربه وإجلالا: «لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» فإذا كان هذا حال الصديق، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه، الذي يتضمن معرفة ربه، وحقه وعظمته، وما ينبغي له، وما يستحقه على عبده، ومعرفة تقصيره. فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية!! فإن لم يتسع فهمك لهذا، فانزل إلى وطأة النعم، وما
(يُتْبَعُ)
(/)
عليها من الحقوق، ووازن من شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم". اهـ
فهذا التقرير البديع من أولئك الأئمة، رحمهم الله، فرقان مبين في باب القدر بين طرائق:
الغلاة في نفي القدر وإثبات الأسباب من المعتزلة ومن تأثر بهم ممن جاء بعدهم من أصحاب المقالات، فهم مثبتون للحكمة على حد الحكمة المدركة في عالم الشهادة، فأثبتوا للخالق، عز وجل، حكمة من جنس الحكمة الثابتة للمخلوق، فشبهوا الرب، جل وعلا، بالعبد في صفاته وأفعاله، على حد قياس التمثيل أو الشمول الباطل.
والغلاة في إثبات القدر ونفي الأسباب من أهل الجبر ومن تأثر بهم ممن جاء بعدهم من المتكلمين، فأثبتوا قدرة بلا حكمة، فهم على نقيض ما عليه أصحاب الطريقة الأولى.
وأهل السنة الذين توسطوا فأثبتوا ما عند الفريقين من الحق، فالله، عز وجل، حكيم، كما أثبت الفريق الأول، قدير كما أثبت الفريق الثاني، فأفعاله في عباده جارية على سنن القدرة النافذة التي بها يخلق الأعيان والأفعال، والحكمة البالغة في ربط المسبَّبات بأسبابها، فهي مؤثرة في إيجادها، بخلاف ما ذهب إليه أهل الجبر الذين عطلوا الأسباب ونفوا العلل، وهي مع ذلك لا تستقل بالتأثير والإيجاد لمسبَّباتها كما قرر أهل النفي من القدرية.
والحق وسط بين طرفي: الغلو والجفاء، وذلك أمر يطرد في طريقة اهل الإسلام بين الملل، وطريقة أهل الستة بين النحل.
وقوله: "حتى تؤمن بالقدر":
فالإيمان بالقدر حتم لازم كما في حديث جبريل عليه السلام، والإيمان به، عند التحقيق، داخل في حد الإيمان بأوصاف وأفعال الرب، جل وعلا، فالقدر: تقدير سابق بمقتضى العلم والحكمة، فهذا من وصف فعله، عز وجل، وقدرة نافذة في إيقاع المقدور على الحد الذي قدره الله، عز وجل، أزلا، فكتبه في اللوح المحفوظ، فذلك من وصف ذاته القدسية تبارك وتعالى، فالتقدير: وصف فعل، و: القدرة: وصف ذات.
وقوله: "وتعلم أَن ما أَصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأَك لم يكن ليصيبك": جار على حد المقابلة استيفاء لأحوال المكلف فهو ما بين قدر أصابه فلا راد له، وقدر أخطأه، لا على حد عدم نفاذ قدرة الرب، جل وعلا، بوقوع المقدور الكائن لا محالة، وإنما على حد عدم تقديره أصلا، فلم يشأه الرب، جل وعلا، إذ لو شاءه لوقع حتما. فما شاءه الله كائن وما لم يشأه فلن يكون ولو اجتمع أهل الأرض لإيجاده، إذ لا راد لمشيئته، عز وجل، إيجادا أو إعداما، عطاء أومنعا.
وتلك عقيدة يلزم المكلف الإيمان بها على حد الجزم، فلا يكفي مجرد العلم الذي تقام به الحجة، بل يلزم الجزم القاطع لأي شك، إذ القدر من أوصاف الرب، جل وعلا، الفعلية، وهو عن أوصافه الذاتية من: علم وحكمة وقدرة صادر، فمن كفر به، فقد كفر بجملة من أوصاف كمال الرب، جل وعلا، الثابتة بنصوص قطعية متواترة تفيد العلم الضروري الجازم، وذلك أمر، كما تقدم مرارا، يسهل جريانه على الألسنة في أزمنة السعة، فإذا ابتلي المسلم وزلزل زلزالا شديدا بقدر كوني على غير مراده، أو ربما كان الأمر يسيرا، لكنه في خضم ما يكابده من أعباء الحياة يذهل عن ذلك المعنى كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، إذا ابتلي على هذا الحد: ظهر تأويل معلومه السابق في عالم الشهادة، فصدق العمل العلم أو كذبه، وسؤال الله، عز وجل، السلامة والعافية في الدين والدنيا والثبات إذا ما وقع الابتلاء، سؤاله ذلك في مثل هذه المضائق منطوق كل العقلاء، إذ ليس لنا قدرة على تحمل الابتلاء إلا أن يثبتنا الرب جل وعلا، وإن اغتر من اغتر في أزمنة العافية فظن أن بمقدوره اجتياز أي امتحان رباني بنقص من الأموال والأنفس والثمرات فإذا ولت العافية وأقبل الابتلاء انفسخت همته التي وكل إليها فكان يباهي بها زمن عافيته، فصدرت منه صور من الجزع يعجب الناظر فيها، بل يعجب صاحب المصيبة من نفسه بعد انقضائها كيف لم يصبر، وكيف بدر منه ما بدر من صور التسخط والجزع وهو الذي كان بالأمس يعتقد في نفسه قدرة على تحمل أي بلية، وحقيقة الأمر لو دقق النظر أنه أظهر بلسان حاله: الاستغناء بقدرته عن معونة الرب، جل وعلا، ومدده الكوني بالرسوخ الذي ينزله على أوليائه زمن المحن، فلما أظهر ذلك وكل إلى نفسه، وبئس الوكيل في أزمنة الرخاء أو الشدة، فهي فرحة بطرة في الرخاء جزعة في الشدة.
وإذا نظرت إلى جازع فانظر إليه بعين: الشرع، ففعله معصية قد تخرج صاحبها من الملة، وعين: القدر، فبها ترحمه وتدعو له بالهداية والثبات وزوال الجزع والرجوع إلى جادة الصواب، فهو مبتلى يستحق الشفقة والدعاء، وذلك امتحان عسير لا ينجح فيه إلا آحاد المخلصين، وحسب الكاتب أو القارئ أن يذكر ويتذكر لعل الله، عز وجل، أن يمن عليه بطرف من ذلك المدد الرباني إذا ما وقع الابتلاء بمقتضى السنن الكوني الجاري.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 10 - 2009, 05:30 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي سنن أبي داود عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْر هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى) ".
ص97، 98.
فلا تطيب حياة بلا إيمان بالقدر، ولن يجد الإنسان طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، على حد العلم الجازم الذي يولد تصورا صحيحا ينتج عملا قلبيا ولسانيا وبدنيا صحيحا، فذلك خير زاد في سفر الهجرة وأحصن درع يتقى بها من ضربات الوساوس الشيطانية حال نزول الابتلاءات الكونية.
فهذه رواية قيدت فيها الأولية بالظرفية، لا الأولية المطلقة، إذ ليس أول المخلوقات مطلقا: القلم، إلا إن حملت رواية الرفع على أنه أول ما خلق في هذا العالم المشهود، على خلاف بين أهل العلم هل خلق القلم أولا أو العرش.
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"واختلف العلماء: هل القلم أول المخلوقات، أو العرش؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمذاني، أصحهما: أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء».
فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، بحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله «أول ما خلق الله القلم»، إلخ - إما أن يكون جملة أو جملتين. فإن كان جملة، وهو الصحيح، كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: " اكتب ". كما في اللفظ: «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب» بنصب "أولَ" و "القلمَ". وإن كان جملتين، وهو مروي برفع "أولُ" و "القلمُ"، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب» ". اهـ
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من مات على غير هذا فليس مني": محمول على تكفير القدرية الأوائل الذين أنكروا علم الرب، جل وعلا، التقديري الأزلي، فهؤلاء كفار بالإجماع، فليسوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد البراءة الكلية للخروج عن دائرة الإيمان إلى دائرة الكفران، بخلاف من أثبت العلم ونفى الكتابة، فهؤلاء ليسوا بكفار، وإن غلظت بدعتهم، ومقالتهم هي الغالبة على سائر القدرية النفاة، فليسوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد البراءة الجزئية للخروج عن دائرة السنة إلى دائرة البدعة.
والإيمان بالقدر عند التحقيق هو آخر حلقات الإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام فترتيب الأركان فيه: ترتيب مراد للرب، جل وعلا، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فالإيمان أن تؤمن بالله ذاتا وصفات على حد الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل فعن صفاته الفاعلة كان هذا الكون بمقتضى كلماته الكونية النافذة، ومن خلقه الكائن بتلك الكلمات النافذات: رسله الملائكية التي نزلت بكتبه الشرعية على رسله البشرية بالإيمان باليوم الآخر وما فيه من بيان المآلات التي ينفذ فيها قدر الرب، جل وعلا، فهي تأويل المقدور أزلا، فبها تظهر قدرة الرب، جل وعلا، النافذة على إثابة الطائع وعقاب العاصي، وحكمته البالغة إذ لم يسو بينهما في الجزاء، فالتسوية بين مختلفين مما يناقض سنن الحكمة، ولله المثل الأعلى، إذ له منها أجل وصف وأعظم قدر على كيف لا تدركه عقول البشر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وفي الصحيحين عن على رضي الله عنه قال: كنا فى جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأْسه فقال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا من النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ". قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله أو لا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة؟ قال: "اعْمَلُوا، فَكُل مُيَسَّر، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَة فَيُيَسَّرُونَ لِلسَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِلشَّقَاوَةِ"، ثم قرأ نبي الله: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} [الليل: 5_10] ". اهـ
ص98.
فالاتكال إنما يكون على معلوم، والإنسان لا يعلم مصيره إلى جنة أو نار ليحتج به على ترك العمل، بل السنة الكونية قد اقتضت وقوع المسطور في اللوح المحفوظ وفق سنة كونية جارية يكون فيها المسبَّب في عالم الشهادة فرعا عن سببه، فلا بد من العمل لتأويل المعلوم الأول العدمي الذي علم أزلا وكتب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فتأويله في عالم الشهادة لا يكون إلا بمباشرة أسبابه، فلا يكون مسبَّب بلا سبب، فذلك من المسلمات العقلية التي لا يجادل في صحتها عامة العقلاء، فإذا وقع في عالم الشهادة صار وجوديا بعد أن كان عدميا فصح تعلق الأحكام به صحة أو فسادا، تحريما أو تحليلا.
فأهل السعادة لأسباب السعادة ميسرون، إذ يخلق الله، عز وجل، لهم من إرادات الخير الجازمة ما تقع به أفعالهم المخلوقة في عالم الشهادة على وفق إرادته الشرعية الحاكمة، فيواطئ الشرع القدر في حقهم، إذ لم يكن لهم أن يفعلوا ما فعلوا من الطاعات لولا أن مَنَّ الله، عز وجل، عليهم، بخلق الإرادات وصحة الآلات وإيجاد المقدورات على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فله الحمد في الأولى أن أوجد وأعد المحال لقبول أثر الطاعات، وله الحمد في الآخرة أن أمد وأقدر على إيقاع المفعولات على ما يحب ويرضى.
وأهل الشقاوة لأسباب الشقاوة ميسرون، إذ يخلق الله، عز وجل، لهم من إرادات الشر الجازمة ما تقع به أفعالهم المخلوقة في عالم الشهادة على ضد إرادته الشرعية الحاكمة، فيخالف القدر الكوني في حقهم القدر الشرعي، إذ لم يمتثلوا الشرع على ما قدر الله، عز وجل، في الكون، إذ لم يشأ معونتهم بهداية التوفيق والإلهام وإن أقام عليهم الحجة ببعث الرسل بهداية الدلالة والإرشاد.
والفريقان على سنن الحكمة الربانية يجريان: فبعث، عز وجل، الرسل، عليهم السلام، على حد البشارة والنذارة، فأقيمت الحجة الرسالية على كليهما، فذلك من فضله إذ لم يترك الخلق بلا دليل مرشد إلى طريق السعادة في الحال والمآل، بل بعثه بالبيان المفصل لأسباب النجاة العلمية مما أجمل من الفطرة التوحيدية وأسباب السعادة العملية بما شرعه من أحكام يكون بها صلاح الأفراد والجماعات، فعقيدة علمية محكمة، وشريعة عملية متقنة، ثم اقتضت حكمته أن يسر أسباب الامتثال لطائفة فضلا، ويسر أسباب العصيان لطائفة عدلا، فلم يمنع كليهما أمرا هو له، يل هما بين فضله وعدله يتراوحان، فلو منح الفضل لأهل العدل ما انتفعوا به لعدم قبول محالهم لآثاره، ولو منع الفضل أهله لعطل، جل وعلا، عن وصف حكمته، إذ لازمها وضع الشيء في محله، ومنع الشيء من موضعه الملائم له مما ينافيها، فبمقتضى ما علمه بعلمه التقديري الأزلي في عالم الغيب العدمي من حالهم الكائن في عالم الشهادة الوجودي، وضع الهداية فيمن هو لها أهل فذلك جار على حد الفضل، وحجبها عمن ليس لها بأهل فذلك حد العدل، فبالعلم الأول يكون تقدير المحال صلاحا أو فسادا، وبالحكمة البالغة يضع الرب، جل وعلا، الخير في المحال القابلة له، ويضع الشر في المحال القابلة له، وبالقدرة النافذة يكون تأويل ذلك في عالم الشهادة ليصير وجوديا بعد أن كان عدميا فيصح تعلق الثواب
(يُتْبَعُ)
(/)
والعقاب به.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 10 - 2009, 02:49 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرضِ، فجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُم الأَحْمَرُ وَالأَبْيَض وَالأسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْل والْحزْن وَالْخَبِيث وَالطَّيِّب". قال الترمذى: حديث حسن صحيح". اهـ
ص98، 99.
فذلك مئنة من عموم قدرته، عز وجل، على خلقه، إذ أخذ من جميع الأرض طرفا، وذلك أمر يدل على تمكن القابض من المقبوض والمقبوض منه، فالله، عز وجل، قادر على هذا الكون، قدرة الرب على المربوب، فهو الذي قدره أزلا، وأوجده فجاء على حد ما قدره لم يتخلف منه شيء، لكمال صنعته، عز وجل، وإتقانها، فالكون مبدع مفطور على غير مثال سابق، فمن أوجد ابتداء من العدم قادر على الإعادة انتهاء من باب أولى، وذلك أمر مدرك في عالم الشهادة، إذ الصانع لا يجد من المشقة في الإعادة ما يجده في الابتكار، وهو وجه قياسي عقلي اطرد في آي التنزيل في معرض الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، على حد قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، فهو قياس أولوي ورد النص به، فثبوته للعبد على جهة المدح المطلق مئنة من ثبوته للرب، جل وعلا، من باب أولى، على ما اطرد مرارا في باب القياس العقلي الجائز في باب الإلهيات.
وفيه أيضا مئنة من عموم ربوبيته، جل وعلا، من جهة تنوع صنعته: خَلقا وخُلقا، فمن الخَلق: الأحمر والأبيض والأسود، ومن الخُلق: السهل اللين والحزن الصلب، ومنهم من قد جمع بين الوصفين، فهو سهل على أولياء الرب، جل وعلا، حزن على أعدائه، على حد وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بـ: الضحوك فذلك من أوصاف جماله ولا تكون إلا لأهل الإيمان، القتَّال، فذلك من أوصاف جلاله ولا تكون إلا لأهل الكفران في مقام الانتصار للملة بالسيف والسنان، بخلاف مقام الانتصار لها بالحجة والبرهان، فذلك مما تستعمل فيه أخلاق الجمال مع عدم إعطاء الدنية في الدين، كما يقع كثيرا في هذه الأزمان من المتخاذلين المنهزمين نفسيا أمام طغيان الأمم التي استطالت على أمة الإسلام، وهو أمر لم يسلم منه أحد تقريبا إلا من رحم الرب، جل وعلا، فلكل منا منه نصيب، وإن قل، لما يعتري قلوبنا من شبهات وشهوات تضعف قوى القلب الفاعلة، فينكص على عقبيه عند أي مواجهة، فينكص البدن تبعا له، إذ هو جندي يأتمر بأمره، فمتى ثبت القائد ثبت الجند، ومتى نكص نكصوا، فلا تجدي قوى الأبدان والآلات شيئا إن كانت قلوب أصحابها بين أجنحة الطير.
وعلى حد وصف الصحب الكرام، رضي الله عنهم الذين حاربوا المرتدين، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، فتلك آية عمومها محفوظ، قد شمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحب الكرام رضي الله عنهم.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: "قد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القول أن الناس أصناف وطبقات وأنهم إلى تفاوت في الطباع والأخلاق: فمنهم الخير الفاضل والذي ينتفع بصحبته ومنهم الرديء الناقص الذي يتضرر بقربه وعشرته. كما أن الأرض مختلفة الأجزاء والتراب: فمنها العذاة الطيبة التي يطيب نباتها ويزكو ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بذرها ويبيد زرعها وما بين ذلك على حسب ما يوجد منها حسا ويشاهد عيانا". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فيتفاوت الناس بين الطيب والخبث تفاوتا لا يحصي مراتبه إلا الله، عز وجل، فهو على وزان التفاوت في الإيمان قوة وضعفا.
فالحديث قد استوفى شطري الخلقة الآدمية: الخَلق الظاهر والخُلق الباطن، البدن والروح، فالألوان للأبدان، والأخلاق للأرواح، وذلك، كما تقدم، مئنة من عموم ربوبيته، جل وعلا، إذ لو كان الخلق على صورة واحدة، لقال قائل: بالصدفة أو الآلية بلا قوة مدبرة فاعلة، ولتعطلت كثير من الحكم الربانية الجليلة التي تظهر باختلاف الأجناس والطبائع، ولتعطلت عبوديات المدافعة بين المتضادات، فالرب، جل وعلا، هو خالق: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد اقتضت سنته أن يغزو أحدهما الآخر، فالصدام بينهما حتم لازم، سواء أكان ذلك في ميادين الفكر أم الحرب، فإن لم يبادر أهل الإيمان، سبق أهل الكفران، فكانت الدولة لهم، وإن أعد أهل الإيمان العدة المعنوية من علوم نافعة وأعمال صالحة على حد التفوق المطلق، والعدة المادية على قدر الاستطاعة، فالنصر حليفهم، و: "الآن نغزوهم ولا يغزونا" وإنما ينصر الله، عز وجل، من خرج ذبا عن الدين أو بلاغا له، فتلك غاية الرب، جل وعلا، من شرع الجهاد، فلم يشرع لفتح البلاد بسيف الجور، وإنما شرع لفتح القلوب بسيف العدل، فهو سيف عدل، يزيل من حال بين أمم الأرض ورسالة السماء من الطواغيت المتنفذين الذين أبطل الشرع ولاياتهم فرد الأمر إلى مدبر الأمر، جل وعلا، على حد قول ربعي رضي الله عنه: "لكن الله ابتعثنا لنخرج العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سَعَة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام"، وهذا فرقان عظيم بين سيوف الموحدين وسيوف الملحدين.
وفي الحديث إثبات صفة القبض لله، عز وجل، فهي من أوصاف أفعاله المتعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فلما شاء خلق آدم قبض مادته من الأرض، وقد جاء القبض في التنزيل في معرض بيان الثواب في نحو قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وعممه البغوي، رحمه الله، على صور أخرى على حد اختلاف التنوع، فما ذكره من المتقابلات جار مجرى تفسير العام بذكر أفراد منه على حد التمثيل الذي يكون به تمام البيان.
قال رحمه الله:
"قيل: يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث: "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء" الحديث". اهـ
وذلك أولى من جهة عموم معناه، فذلك أصل مطرد في تفسير آي الكتاب العزيز به يزداد السياق ثراء بتوارد المعاني على سياق واحد، كما تقدم مرارا، ولعل تلك نكتة حذف مفعول: "يقبض" و: "يبسط"، فأطلقا عن التقييد بالمفعول مئنة من عموم المعنى صورا متعددة، فذلك من بلاغة التنزيل إيجازا بالحذف مئنة من عموم اللفظ.
والقبض من الصفات التي يلزم شفعها بمقابلها لئلا يتوهم من إفرادها بالذكر عجز الرب، جل وعلا، عن ضدها، على حد ما تقدم من عموم ربوبيته، جل وعلا، إذ ذلك أمر جار في أوصافه فمنها: أوصاف الجمال، والبسط منها فذلك من فضله الذي يرغب، ومنها أوصاف الجلال، والقبض منها، فذلك من عدله الذي يرهب، وجار في مفعولاته على حد ما تقدم من اختلاف الأجناس والأخلاق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن أجاز الاشتقاق في باب الأسماء: جعل القابض الباسط اسمين متقابلين له، جل وعلا، ومن منع، وهو الراجح لتوقيفية الباب، جعلهما من الأوصاف المتقابلة وقوفا على النص الذي جاء بإثبات الوصف دون الاسم، إذ ليس لكل وصف ورد النص به اسم يكافئه ورد النص به أيضا، فباب الصفات أوسع من باب الأسماء كما قرر أهل العلم في هذا الباب الجليل. فكل اسم يتضمن وصفا ولا عكس، إذ دلالة الاسم على الوصف الذي اشتق منه: دلالة تضمن، فهو دال على الوصف، باعتبار معناه، دال على المسمى به، عز وجل، باعتباره علما، فأسماؤه، عز وجل، أعلام على ذاته القدسية وأوصاف كاشفة عن كمالاته الأزلية الأبدية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 11 - 2009, 04:53 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله: "وذكر الطبري من حديث مالك بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "لا تكثر هَمُّكَ، ما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وَمَا تُرْزَق".
ص99.
فلا يكثر الهم إلا لضعف الإيمان بالقدر، فتحتمل النفس ما لا يحتمل من هم مستقبل آت، قد لا يبلغه المكلف، ولو كان على حد الكيس ما لحقه الذم، فلو كان الهم: هم دين أو دنيا نافعة على حد تحصيل الأسباب تعبدا، فحقق المهموم بعظائم الأمور، عبادة التوكل، ما لحقه ذم، بل هو أهل للمدح والثواب، إذ قد شغل نفسه بما يجدي، فلم يكن همه: هم الخائف الجزع، بل هم الذي يعد للأمر عدته، فشغل نفسه بواجب وقته امتثالا، وبواجب غده: استعدادا، لا حزنا وغما، فإن التوكل بمباشرة السبب اعتمادا على مسبِّبه، عز وجل، لا ركونا إليه، واطمئنانا به، ذلك التوكل لا يوجب هما أو حزنا، بل يولد فرحا وطمأنينة، إذ يباشر العبد السبب على حد: لا حول ولا قوة إلا بالله، فليس له حول أو طول يُدِّلُ به على ربه، عز وجل، كما يقع من المغرورين بأعمالهم، ولو كانت على حد الديانة، فأولئك أهل العمل بلا استعانة، فلهم من مقام: "إياك نعبد" نصيب، وليس لهم من مقام: "إيك نستعين" نصيب، فقد وكلوا إلى أنفسهم، وذلك عين الهلاك، فمن سلم من ذلك: سلم من الهم والحزن، فلا يحزن على فائت، ولا يهتم بآت، فليس له، كما تقدم، إلا واجب وقته، فتلك عبادته الحالية، فعلام الاشتغال بالتالي العدمي عن الحالي الوجودي؟!.
فلا يكثر همك، فـ: "ما يقدر يكن": فذلك على حد التذييل بالعلة أو السبب، فحسن الفصل، لما اطرد مرارا من شبه كمال الاتصال، فكأن المخاطَب قد تولد في ذهنه سؤال ضروري عن علة ذلك النهي الذي جمع دلالتي: التكليف على ما اطرد من الأمر والنهي الشرعي، والإرشاد، إذ معنى الرحمة بالمخاطب فيه ظاهر، ومن أرحم من النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأمته؟!، فهو الآخذ بحجزها، على حد: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"، وهو الوالد على حد: "إنما أنا لكم كالوالد لولده أعلمكم". فجاء الجواب مفصولا، للتلازم الوثيق بينه وبين المعلول الذي أثار السؤال.
والعموم في: "ما يقدر": عموم محفوظ لا مخصص له، ويرد على ذلك فوات قدر الله، عز وجل، الشرعي، في موضع بل مواضع!، فإن المعصية بل الكفران غالب على كثير من المكلفين، فيكون القدر مخصوصا بدلالة السياق بـ: القدر الكوني النافذ، فما يقدر الله، عز وجل، كونا يكن على حد الجزم، لزوم المشروط لشرطه، فهو دائر معه وجودا وعدما، فالكينونة: نافذة، فلا مبدل لكلمات الرب الكونية النافذة، تلك الكينونة نافذة فرعا عن نفاذ القدر السابق فهو بمنزلة التخطيط لمشروع آت، ولله المثل الأعلى، إذ يقدر الأمر على حد التفصيل الدقيق بعلمه التقديري أزلا، فلا يكون تخطيط للعبد إلا عن علم سابق، فللرب، جل وعلا، المثل الأعلى في تقديره، فلا يكون تقدير إلا عن علم رباني تقديري لكل دقائق المخلوقات، فقد أحصى، عز وجل، كل شيء عددا، وفي عالم الشهادة يكون إتقان المشروع فرعا عن العلم بتفاصيله،
(يُتْبَعُ)
(/)
فكلما كان المخطِّط أوسع علما وأدق ملاحظة فلا تفوته صغيرة أو كبيرة بقدر الاستطاعة البشرية، كان المخطط التنفيذي لمشروعه أجود، ولله المثل الأعلى، فهو الأعلم من كل البشر بداهة، فليس علمه مكتسبا كعلومهم فيكون كمال وصفهم من كمال فعلهم، فلا يتصدر لعظائم الأمور إلا أصحاب الخبرة ممن اكتسبوا علوما وتجارب تؤهلهم لذلك، بل علمه ذاتي أزلي، لا تطرأ عليه زيادة بالفعل، فلا يفعل كفعلهم ليكتسب علما كان عنه معطلا، بل فعله صادر عن كماله الذاتي، فتقديره بعلم قد بلغ حد الكمال بالكليات والجزئيات، هو من وصف ذاته الملازم له باعتبار نوعه، وله نوع تعلق بمشيئته النافذة، إذ يتعلق بالمعلوم إذ كان مسطورا في اللوح معدوما في الغيب، ويتعلق به إذ صار كائنا موجودا في عالم الشهادة، فيتعدد تعلقه بالموجودات إذ تتعدد هي الأخرى بتعدد المشيئات الربانية النافذة الموجدة لها في عالم الشهادة.
فمن قدح في علمه فقد قدح في قدره، إذ هو عنه صادر كمن ادعى من الفلاسفة علمه بالكليات دون الجزئيات، فذلك قدح في قدره المكون لأدق تفاصيل الكائنات، فإن لم يكن الرب، جل وعلا، عالما بها أزلا، لم يكن مقدرا موجدا لها في عالم الشهادة بداهة، إذ لا يخلق إلا من يعلم، فيأتي المعلوم المخلوق على حد ما علم وقدر خالقه، عز وجل، فيعلم ثم يثبت علمه كتابة ثم يشاء إيجاده ثم يخلقه، ولا يعلم على حد التفصيل الدقيق إلا من خلق على حد قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، إذ لا يتصور مشروع ضخم بلا تخطيط مسبق لأدق تفاصيله، ولله المثل الأعلى، فكيف يكون عالما بالكليات على حد العموم المجمل دون الجزئيات على حد الخصوص المفصل لذلك الإجمال، بل الصحيح أن علمه: إجمالي كلي، تفصيلي جزئي.
ويقال أيضا: لا يتصور بعد تخطيط مشروع ضخم على حد بالغ من الإتقان، لا يتصور تنفيذه بلا طاقات وقدرات تخرجه إلى الوجود على النحو الذي أراده مصمموه، ولله المثل الأعلى، فإنه بعد التقدير الأزلي يخرج المقدورات إلى عالم الشهادة بقدرة نافذة، فتجيء على وفق ما علم وقدر دون زيادة أو نقصان، وهذا وجه آخر يفترق فيه فعل الرب، جل وعلا، عن فعل العبد، إذ لا هامش خطأ في تنفيذ الرب، جل وعلا، فلا يجيء المقدور الوجودي إلا مطابقا للقدر الأزلي، بخلاف تنفيذ العبد، إذ لا يخلو البنيان من عيوب فنية، ولو دقيقة، مهما بلغت حنكة أطقم التنفيذ من مهندسين ومشرفين وعمال.
ويقال ثالثا: إن أي مشروع في عالم الشهادة لا بد له من عائد، ولذلك ينشئ الصانع قبل شروعه في الفعل: دراسة جدوى لما يعتزم صنعه، فكم سيكلف، وبكم سيباع ........ إلخ، وذلك يتطلب حكمة في تقدير المآلات، ولله المثل الأعلى، فإنه لم ينشيء هذا الكون عبثا، على حد قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ): فذلك استفهام إنكاري إبطالي لتلك المقالة الفاسدة، فلا يكون ذلك إلا عن سوء في الفهم وفساد في العقل، إذ كيف يكون هذا الكون على هذا الحد من الإتقان في الصنعة والاطراد في السنة، كيف يكون بذلك الوصف قد خلق عبثا؟!، ولم ينشئه، عز وجل، لمجرد إظهار قدرته النافذة، على حد ما قرره المتكلمون المتأثرون بمقالة أهل الجبر، بل أنشأه، عز وجل، لتظهر آثار علمه وحكمته وقدرته جميعا، فسننه الكونية النافذة، وسننه الشرعية الواجبة، وما يجري بينها من التدافع، وتنوع خلقه تبعا لذلك إلى مؤمن وكافر، بر وفاجر .............. إلخ، كما تقدم من حكمة خلق المتضادات كل ذلك مما يتذرع به إلى إظهار كمال حكمة الرب، جل وعلا، في الكون المشهود، فكيف بما خفي عنا من حقيقة هذه الحكمة، فلم ندرك إلا طرفا من آثارها؟!.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجاء جواب الشرط: "يكن": على حد المضارعة مئنة من التجدد والاستمرار إذ المقدورات في عالم الشهادة متكاثرة متتالية، فيخلق هذا بكلمة كونية، ويفني ذاك بكلمة ثانية، ويرزق ثالثا بكلمة ثالثة، ويمنع رابعا بكلمة رابعة ........ ، فخلقه بين فضل وعدل كلماته الكونية: كن فيكون، وفي قيد الابتلاء بكلماته الشرعية: افعل ولا تفعل، فالأولى مئنة من قدرته، والثانية مئنة من حكمته، وبهما تجتمع في حق الرب، جل وعلا، أوصاف الكمال: فنفاذ قدرته من جلاله، وبلوغ حكمته من جماله، وبالجلال والجمال يكون الكمال كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
وبعد بيان عموم المقادير: نص على أحد أفرادها على حد التخصيص: "وما ترزق يأتك"، فذلك من الخصوص بعد العموم، تنويها بشأنه، إذ هو شاغل معظم العباد عن ربهم، جل وعلا، فقد شغل معظم المكلفين بالقدر الكوني النافذ فيهم عن القدر الشرعي الواجب عليهم، فشغلوا بتحصيل أسباب الرزق عن الشغل بأسباب شكره، وإن كان الكون قد أقيم على سنن كونية مطردة، فلا يكون مسبَّب شرعي أو كوني إلا فرعا عن سببه، إلا أن تعليق القلب بالأسباب في كلا القدرين: الكوني والشرعي، يورث فاعله غرورا بل طغيانا، إذ وكل إلى نفسه، فأعجب بعمله، وظن أن له فيه الفضل الأول، فغفل عن أن الرب، جل وعلا، هو الذي قدره له، ويسر له أسبابه، وأعانه على مباشرتها بأن خلق فيه الهم والإرادة الجازمة، والطاقة الفاعلة، فكان الفعل على وفق ما قدر أزلا، فهو تأويل المقدور الأزلي في عالم الشهادة الوجودي، وهو مخلوق الرب العلي، ومفعول العبد بإرادته التي هي خلق الرب، جل وعلا، فهو خالق الفعل وفاعله، فكيف يكون لمسدد في أمر الدين أو الدنيا أن يعجب بعمله ويزهو بنفسه، وليس له من الأمر شيء إلا مباشرة السبب لتأويل قدر الرب، جل وعلا، في عالم الشهادة؟!، فما كان له أن يُحَصِّل ما حصل، ولو باشر من الأسباب ما باشر إلا أن يشاء الله، عز وجل، ذلك، وكم شاهدنا أناسا بذلوا من الأسباب لتحصيل فضيلة في الدين أو الدنيا، ولم يحصل لهم ما أرادوا إذ شاء الرب، جل وعلا، غير ما شاءوا، وليس معنى ذلك إهمال الأسباب إذ ذلك قدح في الشرع والعقل، وإنما هو نوع ترشيد لمباشرة المكلقين لها، فلا تتعلق بها قلوبهم على حد الاستقلال فيقعوا في الشرك، ولا يهملوها فيقعوا في صور مزرية من القدح في الشرع والنقص في العقل صارت محل تندر من حولهم بفساد أحوالهم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 11 - 2009, 03:00 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فسمع ناساً من أصحابه يذكرون القدر فقال: إِنَّكُمْ قَدْ أخَذْتُمْ فِى شُعْبَتَيْنِ بَعِيدَتِى الغَوْرِ، فِيهمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ"، ولقد أخرج يوماً كتاباً فقال: (هَذَا كِتَابٌ مِن الله الرَّحمن الرَّحيم فيه تَسْمِيَةُ أَهْل الجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وقَبَائِلهِمْ وَعَشائِرِهِمْ فَحَمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ: فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ) ". اهـ
ص99.
فإن هذا الباب مما ضل فيه الأولون فإشكالية القدر: إشكالية متأصلة في الديانة النصرانية، ومما أثر عن عمر، رضي الله عنه، أنه خطب بالجابية، والجاثليق، (وهي: رتبة من رتب النصارى)، ماثل بين يديه، والترجمان يترجم فقال عمر: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فقال الترجمان: لا شيء، ثم عاد في خطبته، فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فأخبره، فقال: كذبت يا عدو الله، ولولا عهدك لضربت عنقك، بل الله خلقك، والله أضلك، ثم الله يميتك، ثم يدخلك النار، إن شاء الله، ثم قال: «إن الله تعالى لما خلق آدم نثر ذريته، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وأهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه».
"الشريعة" للآجري، رحمه الله، ص173.
(يُتْبَعُ)
(/)
بل إن مقالة نفي القدر إنما سرت إلى القدرية والمعتزلة من نصارى زمانهم، وأول من أثرت عنه مقالة نفي القدر: معبد الجهني الذي أخذها من "سوسن" النصراني، على اختلاف في اسمه، الذي أسلم ثم تنصر كما ذكر ذلك الأوزاعي رحمه الله، والشاهد أنهم خاضوا معهم جدالا في أصول الدين غير مسترشدين بالوحي المنزل، كتابا وسنة، بل بمحض أقيستهم العقلية، فقاسوا أفعال الله، عز وجل، على أفعال عباده، قياس شمول فاسد، فإنه لا يتصور في عالم البشر أن يكتب أحدهم على الآخر شيئا، ثم يؤاخذه عليه، فتلك قاعدة قياسهم العقلي الذي أجروه على أفعال الله، عز وجل، فغلبوا جانب الحكمة في أفعاله على جانب القدرة، فأداهم ذلك إلى وصفه، عز وجل، بالجهل، فلا يعلم المقادير إلا بعد وقوعها، فيسجلها على عباده تسجيل المؤرخ الذي يدون الأحداث أولا بأول!، ومن قال بأنه يعلم قال بأنه لا يكتب، فمشيئة العباد لا تخضع لمشيئته الكونية النافذة، فيقع في كونه ما لا يريده كونا!، فلزمهم وصف الله، عز وجل، بالعجز!، وعلى النقيض: غلا الجبرية في الطرف الآخر: فغلبوا جانب القدرة على جانب الحكمة، فسلبوا العبد قدرته، أو جعلوها قدرة تقترن بالفعل اقتران العلامة بما تدل عليه، فأفعال العباد تقع عندها لا بها!، وهو قول أصحاب: "نظرية الكسب" التي لا يمكن، عند التحقيق، تصورها في الأذهان، فإما قدرة مؤثرة، وإما لا قدرة أصلا، فهي عند التحقيق محاولة غير ناجحة للتوسط بين مذهب أهل السنة ومذهب نفاة القدر أيا كانوا.
وأما أهل الإسلام من أهل السنة فلا إشكال عندهم في هذا الباب لأنهم يجمعون بين طرفي: القدرة والحكمة، فلا يغلبون طرفا على طرف، فالله، عز وجل، حكيم، يعطي الإيمان والطاعة للمؤمن فضلا، ويمنعهما الكافر والعاصي عدلا، لمصلحة ترجح مصلحة إيمانه أو طاعته، وهذا مقتضى حكمته، فإن كفر الكافر وعصيان العاصي، وإن كان غير مراد لله، عز وجل، شرعا، بدليل أمره بنقيضهما من الإيمان والطاعة وإن سبق في علم الله عز وجل أنه لا يؤمن ولا يطيع، إلا أنهما سبب لحصول مصلحة تفوق مصلحة إيمانه وطاعته، فمفسدة كفر إبليس ومعصية آدم، عليه السلام، وخروجه من الجنة، غير معتبرة في مقابل المصلحة التي حصلت بذلك، فلولا نقص الكفر ما عرف فضل الإيمان ولعطلت عبوديات التوبة والدعاء والصبر والجهاد .............. إلخ من المرادات الشرعية التي يحبها الله، عز وجل، فكان ذلك المكروه في مقابل تلك المحبوبات غير معتبر، وتلك عين الحكمة الإلهية. فلا تعارض حكمته بقدرته، فصفاته العلية لا تتعارض إلا في أذهان سقيمة لم تستضئ بنور الوحي.
وإخراج الكتاب في سياق كهذا محمول على معناه المجازي إذ لا يتصور أن يحمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتابين قد أجمل فيهما أهل الجنة وأهل النار جميعا من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة.
وقد يقال بأنه لا مجاز، على ما اطرد من كلام مانعي المجاز في نصوص الشرع، إذ قرينة السياق، وهي قرينة لفظية رافعة لاحتمال المجاز، إذ لو كان الكتاب على حد الحقيقة لعلم المجتمعون آنذاك مصائرهم، بل لورثوه لمن يأتي بعدهم، إذ يبعد ألا تتوافر الهمم لحفظ كتاب كهذا فيه مصاير كل البشر، ولازم ذلك بطلان التكليف وتعطيل الشرائع إذ قد ساغ لكل مؤمن أن يحتج بما علمه من الكتاب الأول على دخوله الجنة فاستغنى عن الامتثال لأحكام الشريعة، فقد صار العلم المفقود في حقه: موجودا، وساغ لكل كافر أن يحتج به، أيضا، فلا ينفعه التكليف إذ هو من أهل النار وإن آمن وعمل صالحا لسبق ذلك في الكتاب الأول، فذلك مما يصح للعباد أن يحتجوا به على ربهم، عز وجل، إذ سر الابتلاء: عدم العلم بالمآل، لئلا يحتج به أحد، فلو احتج به قيل له: احتجاجك مردود إذ هو احتجاج بمعدوم غير معلوم، فلما يأت تأويله بعد بدخول أهل الجنة: الجنة، ودخول أهل النار: النار، فالأولى الاشتغال بتحصيل أسباب النجاة جريا على السنة الكونية القاضية ببذل السبب استجلابا لمسبَّبه الصادر منه، فالعمل، على كل حال، ولو على خلاف الشرع المنزل في حق الكافر، حتم لازم لوقوع المعلوم الأزلي العدمي، فما علم أزلا وكتب في اللوح سلفا: أمر معدوم لا يأت تأويله إلا بمباشرة الأسباب في
(يُتْبَعُ)
(/)
عالم الشهادة، وذلك أمر مطرد في الشرعيات والكونيات، فلكل عبادة سبب وجوب، ولكل قدر كوني سبب وجود، وبمباشرتها تظهر الحكمة الإلهية في جريان الأقدار وفق ما أجرى، عز وجل، من السنن، وبمباشرتها يصح التكليف الذي يتعلق به الثواب والعقاب، وبمباشرتها يتوصل إلى تأويل ما قد قدر أزلا من دخول فئام الجنة بفضل الرب، جل وعلا، ودخول فئام أخرى النار بعدله، فتظهر قدرة الرب، جل وعلا، وحكمته، في إنفاذ مقدوره الأزلي على الوجه الذي يحصب به تمام حمده، فبعد فصل القضاء وسكنى أهل كل دار دارهم: (تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فيسبحون الرب، جل وعلا، أن ظهرت آثار قدرته وحكمته في عباده، فقضى بالحق بينهم، فحمده أهل الموقف جميعا مؤمنهم وكافرهم، ولذلك بني فعل القول لما لم يسم فاعله مئنة من العموم فلم تختص بالحمد طائفة دون أخرى، بل الكل حامد للرب، جل وعلا، أوصاف كماله التي أظهرها في قضائه فأثاب فضلا من وصف جماله، وعاقب عدلا من وصف جلاله، وقدر فنفذ المقدور كما شاء: جلالا، وكان على سنن الحكمة البالغة جاريا: جمالا، فاجتمع له، عز وجل، شقا الكمال: الجلال والجمال، فاستحق أن تسبح الملائكة بحمده، وأن يحمده أهل الموقف كلهم أجمعون، فالحمد لله أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا.
وإليه أشار الألوسي، رحمه الله، بقوله:
"وقيل: {قِيلَ} دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم؛ وكأنه أريد أن الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول: رب أرحني ولو إلى النار، وقيل: إنهم يحمدونه إظهاراً للرضا والتسليم وقال ابن عطية: هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} خاتمة المجالس في العلم، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين". اهـ
ومما يرجح أن ذينك الكتابين على غير الوجه المتبادر إلى الذهن لقرينة السياق أيضا:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ فَقُلْنَا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا فَقَالَ أَصْحَابُهُ فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَقَالَ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنْ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
فالنبذ باليد تمثيل أريد به تحقيق صورة الأمر في ذهن المخاطب فالأمر قد فرغ منه، كما يجري في عالم الشهادة من النبذ على حد النضح، أو تقليب الأكف كناية عن نهاية الأمر ونفاذه.
وقد ذكر الذهبي، رحمه الله، في ترجمة "عبد الوهاب بن همام الصنعاني" في "ميزان الاعتدال"، كما حشى بذلك بعض الفضلاء المعاصرين على "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (4/ 328، 329)، ذكر الذهبي في تلك الترجمة رواية له من طريق ابن عدي:
"قال ابن عدي: حدثنا محمد بن حمدون بن خالد، حدثني محمد بن علي بن سفيان النجار، حدثنا عبد الوهاب أخو عبد الرزاق، (وهو صاحب الترجمة: أخو: عبد الرزاق المحدث المعروف صاحب "المصنف")، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده كتابان بتسمية أهل الجنة وتسمية أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
تابعه عبد الله بن ميمون بن القداح، عن عبيد الله".
ثم ذيل بقوله: "قلت: هو حديث منكر جدا، ويقضي أن يكون زنة الكتابين عدة قناطير! ".
وتعقبه الحافظ، رحمه الله، في "لسان الميزان" قائلا:
"وليس ما قاله من زنة الكتابين بلازم بل هو معجزة عظيمة وقد أخرج الترمذي لهذا المتن شاهداً". اهـ
وقد يشهد لذلك أن الكتاب كما ورد في الحديث مجمل، ولك أن تقيسه على ما عرف في زماننا من الوسائط المدمجة كالأقراص الصلبة والمرنة، فإن القرص الصلب قد يكون بحجم كف اليد أو أصغر كما في الأجيال الجديدة، وهو مع ذلك يتسع لكم من البيانات يصعب حصره، فإذا كان المخلوق قد صنع ذلك بعلمه وقدرته، مع ما فيهما من النقص والقصور، أفلا يقدر الرب، جل وعلا، أن يجري مثل ذلك على يد نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم معجزة، ولكل قول وجه، ولكن القول الأول، والله أعلم، أرجح من جهة السياق ومن جهة القرينة العقلية المعتبرة.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 11 - 2009, 05:25 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله: "وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "يا غُلامُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ احْفَظ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظ الله تَجِدهُ أَمامَكَ، تَعَرَّف إِلَى الله فِى الرَّخاءِ يَعْرِفَكَ فِى الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأل الله، وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّت الصُحُف، لَوْ جَهِدت الأُمَّة عَلَى أَنْ يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفعُوكَ إِلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لك ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عَلَيْكَ، وَاعْلَم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَج مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً". وفي بعض روايات الحديث فى غير الترمذي: (فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَعْطُوكَ شَيئاً لَمْ يُعْطِهِ اللهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيئاً قَدَّرَهُ اللهُ لَكَ مَا اسْتَطاعُوا، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَ الصَّبْر عَلَى الْيَقِينِ) ". اهـ
ص99، 100.
فصدر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخطاب بالعرض بـ: "ألا": تشويقا وشحذا لذهن المخاطب، وهون الأمر بإيراد جمع القلة: "كلمات": فذلك مما يسهل على المخاطب حفظها والعمل بها، فهي كلمات يسيرات المبنى عظيمات المعنى.
ثم جاء البيان لما أجمل ابتداء:
احفظ الله يحفظك: على ما تقرر من الإيجاز بحذف الشرط الذي جزم به جواب الطلب انتقالا إلى محط الفائدة فذلك مما يحمل المخاطب على سرعة المبادرة إلى امتثال الشرط رجاء حصول المشروط.
والجزاء من جنس العمل، فبين الأمر والمضارع المجزوم في جوابه: جناس اشتقاقي، إذ كلاهما من مادة الحفظ قد اشتق، فاحفظ الله في أمره الشرعي: يحفظك بأمره الكوني من المهلكات للبدن والمال والولد، ويحفظك في أمر دينك، وذلك أعظم وأجل من الحفظ في أمر الدنيا، وإن كان كلاهما مرادا، فيحفظك من الشبهات العلمية المضللة والشهوات العملية المفسدة، كما قرر ذلك ابن رجب، رحمه الله، في "جامع العلوم والحكم"، فإطلاق فعل الجواب: "يحفظك" مئنة من العموم على ما اطرد من كلام البلاغيين في أغراض حذف المعمول، فحفظه، عز وجل، للعبد قد عم، كما تقدم، سائر أموره.
وفي سياق الحديث: "تَعَرَّف إِلَى الله فِى الرَّخاءِ يَعْرِفَكَ فِى الشِّدَّةِ": فذلك من طباق الإيجاب بين: "الرخاء"، و: "الشدة" الذي تكتمل به الصورة في ذهن المخاطب فتعرف إلى الله زمن السعة بالتزام أمره الشرعي يعرفك في زمن الشدة إذا وقع الابتلاء الكوني، فإن الرباط على ثغور الطريقة الشرعية مظنة النجاة من المهلكات الكونية.
ثم أرشده على حد الشرط المصدر بـ: "إذا" الدالة على كثرة وقوع شرطها، إذ ذلك مما ينبغي أن يمتثله المكلف في كل وقت: فـ: إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأل الله، وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، فعطف الاستعانة على السؤال وهو عبادة، على وزان العطف في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فهو أحد صوره، إذ صدر بالمراد لذاته من العبادة ثم ثنى بالمراد لغيره من الاستعانة التي لا تكون عبادة إلا بها، فإن وكل العبد إلى نفسه هلك بانتقاض عرى همته عقوبة له أن أظهر الاستغناء، ولو بلسان الحال، عن ربه، عز وجل، فهو مربوب له، مفتقر إليه، في كل شأنه الديني والدنيوي، فعطف الاستعانة على السؤال من باب عطف السبب على مسبَّبه، فالاستعانة بالله، عز وجل، كما تقدم، أصل كل حركة صالحة قلبية كانت أو لفظية أو فعلية، على ما اطرد من شمول معنى الإيمان للأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فلن يؤمن مؤمن إلا إذا أعانه الله، عز وجل، على ذلك، فصحح له الآلات التي تقبل الطاعة وضدها فصار من أصحاب الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف، ثم امتن عليه بشغل المحل بالطاعة، فخلقها له، فتحققت له الاستطاعة الكونية، التي لا تقبل الضدين، لاشتغالها بأحدهما، فمن اشتغل بالطاعة صرف عن المعصية فذلك من فضله، جل وعلا، ومن اشتغل بالمعصية صرف عن الطاعة فذلك من
(يُتْبَعُ)
(/)
عدله تبارك وتعالى.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
"رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّت الصُحُف": فجف قلم التقدير الأزلي، وإن لم تجف أقلام الكتبة بما يقع من تأويل المقدور الأزلي في عالم الشهادة، فيصير كائنا بعد أن لم يكن، فيشمله علم الإحاطة الثاني، فيستحق فاعله: الثواب فضلا أو العقاب عدلا، إذ قد فعله باختياره دون جبر أو إكراه، مع كونه جاريا على حد ما قدر الله، عز وجل، بإرادته الكونية، أزلا، فلا تخرج إرادة العبد عن إرادة الرب الكونية، وإن خرجت عن إرادته الشرعية لحكمة ربانية اقتضت تخلف ما يحب الله، عز وجل، من الإيمان والطاعة، وحصول ما يكره من الكفر والمعصية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
فجف القلم بعلم التقدير الأزلي: العلم الأول، ولم يجف بعلم الإحاطة: العلم الثاني، فللعلم، كما تقدم في مواضع سابقة، تعلق بالمعلوم وهو معدوم لما يصر كائنا بعد، وتعلق به وهو موجود قد كان في عالم الشهادة على وفق ما قدر في عالم الغيب، فالتعلق الأول: لا يتجدد ليقتضي تجدد وتكرار الكتابة، فقلمه قد جف، والتعلق الثاني: يتجدد بوقوع المقدورات الكونية من أفعال العباد الاختيارية، فاقتضى ذلك تجدد وتكرار الكتابة، فقلم الحفظة سيال يحصي ما يصدر من العباد من أقوال وأفعال، لتتحقق حكمة الرب، جل وعلا، في إقامة الحجة عليهم بما فعلوه باختيارهم، فله وجود يصح تعلق الثواب والعقاب به، بخلاف ما لو أقيمت الحجة عليهم بالعلم الأول ولما يأت تأويله في عالم الشهادة، فلهم أن يعترضوا، إذ لا تقام الحجة بأمر عدمي، ولو كان مآله الوقوع، وإنما تقام الحجة بأمر وجودي في عالم الشهادة يصح تعلق الثواب والعقاب به كما تقدم.
وجفاف القلم الأول كناية عن نفاذ المكتوب به فهو كائن لا محالة، والكناية، على ما اطرد من كلام البلاغيين لا تمنع إرادة المعنى الحقيقي، بخلاف المجاز، ولا مانع من نقل أو عقل يمنع من إرادة الحقيقة في هذا السياق، فإن إثبات القلم وإثبات المداد وإثبات الصحف في هذا السياق: إثبات معان كلية مطلقة، فلا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها بين الأقلام والصحف المشهودة من جهة، والأقلام والصحف المغيبة من جهة أخرى، ولا يلزم من ذلك قياس الغائب من القلم الكوني وصحف اللوح على الشاهد من الأقلام والصحف التي تدركها الحواس في عالم الشهادة، إذ المعنى الكلي، كما تقرر في أكثر من موضع، لا وجود له خارج الذهن، ليلزم من إثباته: تشبيه أو تمثيل، وهذا أمر مطرد في كل الغيبيات سواء أكانت إلهيات من أسماء وصفات أم سمعيات من أحوال الدار الآخرة وما جرى قبل خلق العالم المشهود من خلق العرش وجريان القلم الأول بمقادير الخلق ........... إلخ.
ثم جاء الإرشاد بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لَوْ جَهِدت الأُمَّة عَلَى أَنْ يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفعُوكَ إِلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لك ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عَلَيْكَ".
فذلك من العلم المغيب عن العبد، إذ لا يعلم ما يقع له من نفع أو ضر إلا حين وقوعه، فالأولى به أن يشتغل بما يعلم من حفظ الحدود والشرائع التي صدر الحديث بالأمر بحفظها: "احْفَظ الله يَحْفَظْكَ" فذلك العلم الموجود الذي أمر بتحصيله وامتثال أمره ونهيه، بخلاف العلم المفقود مما لم يصر له وجود بعد، فذلك مما لا يكلف العبد بتحصيله لعجزه عن ذلك، والتكليف إنما يكون بمقدور، بل إن بحثه وتنقيره عن ذلك العلم المفقود قد يكون سببا في هلاكه إذا عارض المنقول بالمعقول فإن القدر سر لا ينبغي لأحد من الخلق كشفه، ولا يجوز لأحد أن يحتج به في معرض التقصير، فالأولى، كما تقدم، تفريغ الهمم وبذل الجهد في تحصيل أسباب الشرع.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 11 - 2009, 06:02 م]ـ
ومما يتعلق بالأقلام:
ما سبقت الإشارة إليه من كلام ابن أبي العز، رحمه الله، إذ قسم الأقلام إلى أربعة أنواع:
(يُتْبَعُ)
(/)
القلم الأول: قلم التكوين العام، والقلم الثاني: القلم الخاص ببني آدم من أعمال وأرزاق ........ إلخ، والقلم الثالث: قلم التقدير العمري لكل جنين فيكتب به بعد نفخ الروح: رزق ذلك الجنين بعينه وأجله وعمله ومآله، والقلم الرابع: قلم الملائكة الذي يوضع على العبد عند بلوغه.
وما ذكر من القسمة الثنائية إلى:
قلم كوني: يعم الأنواع السابقة، وقلم شرعي: تسطر به الأحكام النازلة على قلوب الرسل، عليهم السلام، لسياسة الأبدان بما يحفظ الأديان.
فهاتان قسمتان، وإليهما أضاف ابن القيم، رحمه الله، قسمة ثالثة توسع فيها في بيان أنواع الأقلام على نحو بديع لم يسبق إليه، فقال في "التبيان في أقسام القرآن":
"والأقلام متفاوتة في الرتب فأعلاها وأجلها قدرا:
قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق: كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال: له اكتب قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة".
واختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش على قولين ذكرهما الحافظ أبي يعلى الهمداني أصحهما: أن العرش قبل القلم لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام وعرشه على الماء" فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة هذا.
ولا يخلو قوله: "إن أول ما خلق الله القلم" إلى آخره إما أن يكون جملة أو جملتين فإن كان جملة وهو الصحيح كان معناه أنه عند أول خلقه قال له اكتب كما في لفظ أولَ ما خلق الله القلمَ قال: له اكتب بنصب أول والقلم فإن كانا جملتين وهو مروي برفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ليتفق الحديثان إذ حديث عبد الله بن عمر صريح في أن العرش سابق على التقدير والتقدير مقارن لخلق القلم وفي اللفظ الآخر لما خلق الله القلم قال له اكتب.
(وهذا قول جمهور أهل العلم إذ ترتيب المخلوقات المشهودة عندهم: العرش فالقلم فالسماوات والأرض، وما قبل العرش لا يعلمه إلا الله، عز وجل، إذ التسلسل في المفعولات أزلا جائز لديمومة اتصاف الرب، جل وعلا، بالفعل، فيجوز نقلا وعقلا أن يكون قبل العرش مخلوقات لا نعلمها إذ توقف علمنا عند ما أخبرنا الله، عز وجل، به من أولية خلق العرش).
فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها وقد قال غير واحد من أهل التفسير أنه القلم الذي أقسم الله به.
(كما في قوله تعالى: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"، وهو اختيار الطبري، رحمه الله، وإليه أشار بقوله: "وأما القلم فهو القلم المعروف، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام: القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة"، والبغوي، رحمه الله، وجعل ابن كثير، رحمه الله، في قول: "أل" في "القلم": جنسية تعم سائر الأقلام تنبيها على شرف الكتابة وما يحفظ بها من أجناس العلوم، وأشار إلى قول الأولين بأنه القلم الذي كتب به الذكر.
قال رحمه الله: "وقوله: {والقلم} الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5]. فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: {وَمَا يَسْطُرُونَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون .................. وقال آخرون: بل المراد ها هنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة. وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم". اهـ بتصرف.
فهي على قول الأولين: عهدية ذهنية تشير إلى قلم معهود بعينه هو القلم الأول الذي سطرت به المقادير الكونية على حد النفاذ والإبرام فلا يتبدل مكتوبه ولا يتغير، فهو من المحكم الذي لا يقبل نسخا أو تخصيصا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهي على قوله ابن كثير، رحمه الله، الأول: جنسية استغراقية لعموم الأقلام، وقد يرجح هذا القول عمومه، إذ العموم مما يثري السياق بتوارد معان كثيرة على مبان قليلة، وذلك عين البلاغة التي اختص الكتاب العزيز بأرفع مراتبها، فضلا عن كونه لا يعارض القول الأول، بل يشمله ويشمل غيره، فيكون القول الأول بالنسبة إليه جاريا مجرى: التعريف للعام بذكر فرد من أفراده، وهو أشرف أفراده: القلم الأول، فلا يخصصه، وإنما ذكر ذلك الفرد تحديدا تنويها بشرفه، فذلك مظنة الإقسام به، فشرف المقسم به في كلا الحالين متعين، سواء أفرد بالذكر على حد التخصيص بأشرف الأقلام، أو ورد ذكره على حد التعميم فجنس القلم من الأجناس الشريفة إذ به تسطر المقادير الكونية والشرعية وفي عالم الشهادة تسطر به الآيات الشرعية والعلوم الكونية، وشرف الشيء من شرف وظيفته، ولا أشرف من وظيفة العلم إن كان نافعا، وهو في نفسه يتفاضل، إذ شرف العلم من شرف المعلوم، فأشرف أجناس العلوم الدينية: الإلهيات لتعلقها بذات وأسماء وأوصاف وأفعال رب البريات، عز وجل، وأشرف أجناس العلوم الدنيوية: طب الأبدان الذي أفرد له ابن القيم، قلما بعينه، كما سيأتي إن شاء الله).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الثاني: قلم الوحي وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم والعالم خدم لهم وإليهم الحل والعقد والأقلام كلها خدم لأقلامهم وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي.
(فذلك قلم تشريعي حاكم به تسطر الأحكام الجارية على سنن العدل، وهو قلم قد تعطل في سائر الأصقاع، إلا ما رحم الرب جل وعلا، بتغييب وإقصاء الوحي عن سدة الحكم، وتولية العقل بأحكامه المتفاوتة وأقيسته المتضاربة، فوسد الأمر إلى من ليس له بأهل فكان ما كان من فساد أمر الخلق كما هو كائن في عالم الشهادة المنظور).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله وهو قلم الفقهاء والمفتين وهذا القلم أيضا حاكم غير محكوم عليه فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام وأقلام العالم خدم لهذا القلم.
(وله ألف ابن القيم، رحمه الله، "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، فالمفتي موقع عن رب العالمين، توقيعه يعم أثره سلبا أو إيجابا جماعات بل أمما بأكملها تسير وفق فتاواه تقليدا له سواء أحسنت الظن به أو كان لها هوى في فتواه إن لم تكن على حد الشرع الحاكم، على حد ما يرى في فتاوى علماء الجماهير الذين يحتالون على الشرع لإرضاء العامة، أو علماء السلاطين الذين يحتالون على الشرع لإرضاء الخاصة، فهم في كلا الحالين قد التمسوا رضا المخلوق ولو بسخط الخالق، عز وجل، فسخط عليهم، جل وعلا، وأسخط عليهم من التمسوا رضاه جزاء وفاقا وعقوبة معجلة بفوات مقصودهم من رضا الخلق بل وقوع ضده من سخطهم، فهو قلم، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، حاكم مخدوم، واليوم قد صار: خادما محكوما بأهواء البشر فبه تزيف الفتاوى تحصيلا لمنافع متبادلة بين الموقِّع والموقَّع له).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الرابع: قلم طب الأبدان التي تحفظ بها صحتها الموجودة وترد إليها صحتها المفقودة وتدفع به عنها آفاتها وعوارضها المضادة لصحتها وهذا القلم أنفع الأقلام بعد قلم طب الأديان وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة.
(فقلم لحفظ الأديان، وقلم لحفظ الأبدان، إذ هما الضرورتان الأولى والثانية من الضرورات الخمس التي عليها تدور أحكام الشرع: الدين والنفس والعرض والمال والعقل، وذلك القلم قد اعتراه، أيضا، من الفساد ما اعتراه، فصار أصحابه تجارا حسابا، فبه تزيف التقارير والتحاليل وتسطر قائمة من الأدوية لا يحتاج إليها المريض، لتبادل المنفعة على حد ما يقع من التواطؤ بين الأطباء والصيادلة، أو الأطباء وشركات الأدوية التي تمتهن بيع الدواء فلا اعتبار اليوم لأي قيم دينية أو حتى أخلاقية في عالم المال والأعمال).
ثم ذكر رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
القلم الخامس: التوقيع عن الملوك ونوابهم وسياس الملك ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام والمشاركون للملوك في تدبير الدول فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم.
(وفساد هذا القلم أعظم فساد يعتري الأمم، إذ يعقبه ويلزم منه، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فساد كل ما يليه من المؤسسات التنفيذية: العسكرية والاقتصادية والتعليمية والطبية .......... إلخ فضلا عن انهيار البنية الاجتماعية والأخلاقية، بانعدام الأمن وشيوع الجرائم إذ لا سلطان حاكم يردع، ولعل ذلك من أبرز أسباب تخلف أمة الإسلام، وإن كان لها من الموارد البشرية والطبيعية ما يفوق موارد أمم أخرى أخذت بأسباب الكون، فسبقت بمراحل، وإن لم تنجح في الجانب الحضاري نجاحها في الجانب المدني إذ اهتمت بالأبدان والبنيان، وأهملت شان الأرواح والأديان).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم السادس: قلم الحساب وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها ومصروفها ومقاديرها وهو قلم الأرزاق وهو قلم الكم المتصل والمنفصل الذي تضبط به المقادير وما بينها من التفاوت والتناسب ومبناه على الصدق والعدل فإذا كذب هذ القلم وظلم فسد أمر المملكة.
(فالمال: عصب الحياة المادية، بدونه تفسد الأبدان فلا تصلح للقيام بالأرواح، فلا يمكن خطاب الجائع الذي لا يجد قوته بمعالي الأمور من النظر في أمور الدين والتأمل في معاني التنزيل ........ إلخ من الوظائف الدينية الشريفة، إذ غاية أمله أن يحصل قوته وقوت أولاده، وهو في ذلك غير ملوم، إن لم يقصر في فرائض الشرع العينية، إذ لا وقت لديه لينفقه في طلب الفروض الكفائية، فغايته أن يحصل الفرض العيني الديني، ويسعى في تحصيل الفرض العيني الدنيوي، فإذا صار هذا حال عموم المكلفين، تراجع أمر الدين وضعف، لانشغال العموم بهم البطون، وكثرة اللصوص الذين استباحوا مقدرات الأمم، وذلك أيضا، من لوازم فساد قلم السياسة، إذ يكثر المنتفعون المتحلقون حول العرش الذي يستألفهم بالعطايا والمناصب، وإن لم يكونوا لها أهلا، ليستعين بهم على تمكين سلطانه، فهي، أيضا، صفقة متبادلة تؤدي في النهاية إلى ظهور مراكز قوى تنازع السلطان حكمه الفعلي وإن أبقت على حكمه الاسمي، فهو ستار تعمل وراءه لتحصيل مصالحها الخاصة ولو بإهدار المصالح العامة، فتعتبر ما حقه الإهدار وتهدر ما حقه الاعتبار، ولا يملك السلطان لها زجرا أو كفا، إن لم يكن لها شريكا، إذ هي التي صدرته ونصبته، فلو خالف لأقصته وأسقطته، فقد وكله الله، عز وجل، إليهم، جزاء وفاقا أن أعرض عن شرعه).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا وتراق به الدماء وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية فترد إلى اليد المحقة ويثبت به الإنسان وتنقطع به الخصومات وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص فهذا له النفوذ واللزوم وذاك له العموم والشمول وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته وبالعدل فيما يمضيه وينفذه.
(وذلك قلم القضاء الذي إذا فسد ضاعت الحقوق، ولعل أبرز معالم فساده: فساد الشرع الذي يحكم بمقتضاه، وذلك كما تقدم غالب على كثير من الأمصار، فالشرع أرضي مهلهل يسهل اختراقه والتحايل عليه بقلب الحق باطلا، والباطل حقا، على حد ما يقع ممن احترف مهنة المحاماة، التي صارت مهنة: " لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فَلْيَحْملْهَا، أو ليذَرْها"، وكثير قد ارتضى حملها بل ذلك عين مطلوبه ومنتهى مراده.
فإذا انضم إلى ذلك فساد القضاة الحاكمين، لغياب الوازع الديني وضآلة المقابل الدنيوي، صارت البلية مزدوجة، فالفساد قد طال القوانين ومن يحكم بها).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الثامن: قلم الشهادة وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق وتصان به عن الإضاعة وتحول بين الفاجر وإنكاره ويصدق الصادق ويكذب الكاذب ويشهد للمحق بحقه وعلى المبطل بباطله وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد وباستقامته يستقيم أمر العالم ومبناه على العلم وعدم الكتمان.
(يُتْبَعُ)
(/)
(ومع خراب الذمم ورقة الأديان وضيق المعاش يسهل تجنيد جيوش من شهود الزور، بأبخس الأثمان، لطمس الحقائق وقلب الباطل حقا في أي قضية: عامة، على حد: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وذكر منهم: وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ"، أو خاصة على حد: "إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ").
ثم ذكر رحمه الله:
القلم التاسع: قلم التعبير وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أريد منه وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي كاشف له وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين وهو يعتمد طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته وتحريه للصدق والطرائق الحميدة والمناهج السديدة مع علم راسخ وصفاء باطن وحس مؤيد بالنور الإلهي ومعرفة بأحوال الخلق وهيآتهم وسيرهم وهو من ألطف الأقلام وأعمها جولانا وأوسعها تصرفا وأشدها تشبثا بسائر الموجودات علويها وسفليها وبالماضي والحال والمستقبل فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته وكرسي مملكته وسلطانه.
(وفساد هذا القلم يكون بظهور الدجاجلة ممن ينتحلون الصلاح ظاهرا لاصطياد بسطاء المسلمين برسم الولاية وكشف الحجب فتصير مناماتهم شرعا منزلا على حد رؤى الأنبياء، فالولي قد يكاشف بسائر أمور الديانة حتى الصحة والضعف في علوم الرواية!، كما قرر ذلك صاحب الفصوص، فلا حاجة إلى علوم الآلة أو حتى علوم الغاية إذ الشيخ قد صار مستودع العلوم الكونية والشرعية، فله اطلاع على المقدرات الكونية وهيمنة على المقدرات الشرعية بإحكام ونسخ ما شاء من الأوراد والهيئات والشرائع والأحكام).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم العاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه وهو القلم الذي تضبط به الحوادث وتنقل من أمة إلى أمة ومن قرن إلى قرن فيحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال وينقشه في النفس حتى كأن السامع يرى ذلك ويشهده فهو قلم المعاد الروحاني وهذا القلم قلم العجائب فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك وتشاهده ببصيرتك.
(فتضيف إلى عمرك القصير أعمار من سبقك من الأمم، كما قال بعض أهل العلم، وفساد هذا القلم يكون بتزييف ماضي الأمم فتسير على غير هدى إذ لا أساس لها من دين أو خلق تبني عليه حاضرها ومستقبلها فتاريخها: تاريخ مؤامرات سياسية، وصراعات دموية، وجوار ترقص في قصور السلاطين التنابلة، واحتلال للأمصار على حد: الاحتلال العثماني للولايات الإسلامية!، فصارت الخلافة الجامعة للأمة برسم الديانة احتلالا، وصار التشرذم في دويلات على غرار دويلات الطوائف الأندلسية: تحررا وتقدمية!).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الحادي عشر: قلم اللغة وتفاصيلها من شرح معاني ألفاظها ونحوها وتصريفها وأسرار تراكيبها وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها وأنواع دلالتها على المعاني وكيفية الدلالة وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها وأسهلها وأوضحها وهذا القلم واسع التصرف جدا بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها.
(وهو القلم الذي يحفظ به الوحي المنزل فمبانيه هي الأوعية الجامعة لمعاني التنزيل بلسان عربي مبين، فإذا فسد بفشو اللحن، وإهمال تقويم اللسان نطقا وكتابة، والتوفر على كتب اللغة نحوا وصرفا وبلاغة، ضاع الدين بضياع الآلة التي بها تدرك مراميه، ولذلك كان الصحب الكرام، رضي الله عنهم، أعلم الناس بهذا الدين إذ كانوا أصح طباق الأمة لسانا، فبلسانهم الجامع نزل الوحي الخاتم فعلموا من معانية وأسرار ألفاظه ما لم يعلمه من أتى بعدهم ممن خالط لسانه لسان العجم، وبقدر الجهل بلغة العرب يكون الجهل بدين الإسلام، ولذلك حرص أعداء الرسالة الخاتمة على حرب لغة العرب بتغييبها وتعقيدها وجعلها مثار السخرية ومظنة التخلف والرجعية في مقابل لغات العلم الحديثة التي يتهافت الناس على تعلمها والتحدث بها ولو بلا حاجة فهي شرط أساسي لنيل أي وظيفة ذات شأن!).
ثم ذكر رحمه الله:
القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين ورفع سنة المحقين وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل وعدو لكل مخالف للرسل فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن.
(فذلك قلم عسكر الرسالة، كما يسميهم بعض الفضلاء، ينفون عن الملة الخاتمة، تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فإرثهم أشرف إرث، وعلمهم أشرف علم، وبغيابهم تستبيح جيوش الكفار الأصليين وأذنابهم من المستغربين فضلا عن أهل البدع وما أكثر نحلهم وطرقهم، بغيابهم تستبيح تلك الجيوش: ثغور الإسلام العلمية).
ثم يقول، رحمه الله، في خاتمة هذا المبحث النفيس:
"فهذه الأقلام التي فيها انتظام مصالح العالم ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به وأن الله سبحانه أقسم به في كتابه وتعرف إلى غيره بأن علم بالقلم وإنما وصل إلينا ما بعث به نبينا بواسطة القلم". اهـ
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 11 - 2009, 05:31 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهنى أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَلَقَ الله آدَم ثُمَّ مَسَحَ ظهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهرَهُ فَاستخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّار، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ" قال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله تَعَالَى إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَملِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِن أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ".
ص98.
فالعمل، كما تقدم، هو السبب الذي يتوصل به إلى القدر المكتوب، وما دام المرء لا يعلم ما كتب له فلا مناص له من العمل فهو تأويل المسطور في اللوح المحفوظ، إذ الثواب والعقاب لا يتعلق بالعمل، وهو لما يزل معلومة عدمية في عالم الغيب، وإنما يحدث التعلق به بعد صيرورته كائنا موجودا في عالم الشهادة، فذلك جار على ما تقدم من تعلق العلم بالمقدور، فهو معلوم أزلا بالعلم الأول: علم التقدير، وهو معلوم حال وقوعه بالعلم الثاني: علم الإحاطة، فبعلم التقدير يستدل على كمال ربوبيته، عز وجل، إذ به يقدر الله، عز وجل، المقدورات من الأعيان والأفعال على حد الإتقان المحكم، فكمال وصفها من كمال وصف الصانع، فيكتب ذلك في اللوح المحفوظ فإذا شاء الرب، جل وعلا، وقوعه، خلقه في عالم الشهادة، فتعلق به علم الإحاطة الذي يستدل به على حكمته، جل وعلا، إذ لا يكون كائن في عالم الشهادة إلا دليلا على حكمته، ولو كان في نفسه شرا محضا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، وبعلم الإحاطة يستدل أيضا على ألوهيته، عز وجل، إذ هو إحصاء لأفعال العباد الواقعة في عالم الشهادة على حد ما قدر في عالم الغيب، وإحصاء الأعمال: مظنة التكليف، إذ لا يحصَى العمل إلا تثبيتا للعلم الأول، فإن كان خيرا كان سببا في النجاة، كما في الحديث: "حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةِ"، وإن كان شرا على سبيل المقابلة استيفاء لوجهي القسمة العقلية، كان سببا في الهلاك، كما في الحديث: "وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِن أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ"، وأسباب النجاة والهلاك لا تتلقى إلا من الوحي، ومن الشريعة الحاكمة تحديدا، والتعبد بها مباشرة لأسباب النجاة واجتنابا لأسباب الهلاك، هو توحيد الله، عز وجل، بأفعال عباده، وهو توحيد الألوهية الشطر الثاني من قسمة التوحيد الثنائية:
توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله، وعلم التقدير منه، كما في:
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ):
فارتبط العلم بالخلق المعجز الذي لا يكون إلا بقدرة نافذة في معرض إثبات ربوبية الله، عز وجل، ربوبية الإيجاد، وربوبية العناية بالخلق إذ السياق سياق امتنان بخلق ما في الأرض جميعا لهم، فاللام في: "لكم": لام الاختصاص، وبها استدل الأصوليون على أن الأصل في الأعيان بعد ورود الشرع: الإباحة العامة دون حاجة إلى دليل إباحة خاصة، فالمحرمات هي الاستثناء الذي بين الشرع أنواعه على حد التفصيل، على حد قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
(يُتْبَعُ)
(/)
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) تحرزا من الوقوع فيه، إذ قد قامت الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما قرر الأصوليون أيضا.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ): فالإيجاد والإعدام لا يكونان، أيضا، إلا بتقدير سابق وقدرة نافذة على إيجاد الموجود وإعدام المعدوم، فالتذييل جار على ما تقدم من التذييل بالعلة المؤكدة على حد الفصل لشبه كمال الاتصال.
وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)
فابتداء الخلق من الضعف الذي يؤول إلى القوة بمقتضى السنة الكونية المحكمة، ولا تكون سنة على هذا الحد من الإتقان إلا بعلم وقدرة، وقد جاء عموم: "يخلق ما يشاء" بعد خصوص خلق الإنسان، مئنة من التوكيد بالإطناب بذكر العام بعد الخاص، ففيه توكيد على علم الرب: علم التقدير لكل مخلوق، وقدرة الرب: قدرة التنفيذ بإيجاد المخلوق المقدر في عالم الغيب وفق ما قدره الرب، جل وعلا، فالخلق في: "يخلق": يصح حمله على التقدير فيكون من العلم، و: يصح حمله على التنفيذ فيكون من القدرة، ولذلك ذيل بوصفي العلم السابق والقدرة اللاحقة، إذ لفظ الخلق في: "يخلق" يحتملهما، على التفصيل المتقدم، فالآية قد سيقت في معرض الاستدلال لعموم ربوبية الله، عز وجل، ربوبية: الإيجاد للأجساد على حد الإطناب بذكر الأطوار التي تمر بها فمن ضعف إلى قوة إلى ضعف، وتلك سنة جارية، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ"، فيظهر بذلك إحكام الصنعة الإلهية من وجه، ويظهر كمال ذات ووصف الرب، جل وعلا، من وجه آخر، إذ لا يعتريه ما يعتري خلقه من الضعف والفناء، فهو الموصوف بكمال الذات والصفات أزلا وأبدا.
وعلم التقدير: وصف ذاتي لا تعلق له بالمشيئة من أي وجه، إذ هو أزلي بأزلية الذات.
وتوحيد الرب، جل وعلا، بأفعال العباد، وعلم الإحاطة محصٍ لها على حد التفصيل، كما في:
قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ):
فقد جاء ذلك في سياق ابتلاء الملائكة بعلم الأسماء الذي اختص به آدم عليه السلام، فنزه الملائكة الرب، جل وعلا، وأثبتوا له العلم المحيط والحكمة البالغة في اختصاص آدم عليه السلام بعلم تلك الأسماء، فناسب ذلك الابتلاء وصف الحكمة، إذ الابتلاء مظهر لآثار حكمة الرب، جل وعلا، في كونه.
وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
فذلك في معرض البيان الشرعي الذي يتعلق به التكليف، فهو من جنس الابتلاء بالشرع، على حد إفراده جل وعلا بالألوهية وصفا والعبودية فعلا، فهو الذي يتذرع به إلى إيقاع المقدور الأزلي: سعادة أو شقاوة، إذ بتيسير أسباب السعادة يكون العبد أهلا لنيل الثواب، وبتيسير أسباب ضدها من الشقاوة يكون العبد أهلا لتوقيع العقاب، على مقتضى سنة الباري، عز وجل، في كونه، بتحصيل المسبَّبات بمباشرة أسبابها، فمن باشر أسباب السعادة صار من أهلها، ومن باشر أسباب الشقاوة صار من أهلها، ولا يكون ذلك إلا بإقدار الرب، جل وعلا، العبد على مباشرتها، فلن يصدر عن العبد فعل أو ترك موافق أو مخالف للقدر الشرعي الحاكم الذي به يكون الابتلاء، إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، ذلك بمقتضى القدر الشرعي النافذ الذي به يكون الإيجاد.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي سورة النور تكرر التذييل بـ: " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " في ثلاثة مواضع:
في قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فقد جاء بعد تكليف شرعي بإحسان الظن بالمؤمنين لا سيما إن كانوا من أهل الفضل، فدلالة: "لولا" في هذا السياق: تحضيضية على حد الإيجاب، فناسب ذلك اقتران الحكمة بالابتلاء بالكلمات الشرعيات، اقترانها بالعلم المحيط بأفعال العباد، فإذا وقعت إظهارا لآثار حكمة الرب، جل وعلا، في ابتلاء المكلفين بالأمر والنهي، فجاءت على وفق ما قدر الرب، جل وعلا، في الأزل تعلق بها العلم الثاني المحيط.
وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
وهو أيضا سياق تكليف شرعي إظهارا للحكمة، فيحيط به العلم الثاني: علم الإحاطة على بعد تقديره بالعلم الأول.
وفي قوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ):
فتلك الآية، أيضا، في معرض بيان حكم شرعي يقع به الابتلاء، فناسب ذلك تعلقه بالحكمة فهو من علم الإحاطة بأفعال المكلفين التي يتعلق بها الثواب أو العقاب، فهو إحصاء لأفعال العباد التكليفية، وإن كان علم الله، عز وجل، يعم أفعالهم الشرعية وأفعاله الكونية فيهم بإحياء أو إماتة .......... إلخ، فهو، كما تقدم، علم الربوبية المختص بتقديراته الكونية الأزلية وأفعاله الكونية الوجودية الكائنة بمقتضى الأمر الكوني، بخلاف العلم بأفعال العباد، فهو علم الألوهية بأفعال العباد طاعة أو معصية للأمر الشرعي.
فعلم الإحاطة متعلق بخطاب التكليف المتعلق بالإرادة الشرعية الحاكمة، وعلم التقدير متعلق بخطاب التكوين المتعلق بالإرادة الكونية النافذة.
وقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)
فذلك أيضا في معرض الابتلاء، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا باتباع الوحي المنزل، فيكون علم التقدير قد سبق له بالحسنى، ويكون علم الإحاطة محصيا لعلمه الذي هو تأويل ما سبق له من المقدور الجاري على سنن الشرع، فيكون ذلك سببا مشهودا في بلوغه ما قدره الله، عز وجل، له من الكرامة، فهو عليم به أولا وآخرا، عليم به حال العدم، وحال الوجود، وهو حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه: كونا وشرعا، فحيث كان الابتلاء بالشرع كانت حكمته، جل، إذ أحكامه أعدل الأحكام وأنفعها للمكلفين فبها تظهر آثار حكمته، وبها تستجلب المصالح العظيمة للبشر، فالشرع رحمة لهم، لو تدبروا، إذ هو شرع من قد استغنى عنهم، فلا يشرع الأحكام ولا يسن القوانين على حد ما نراه في عالم الشهادة من سياسة الجور التي يتبعها الملوك والسلاطين، فإنهم لافتقارهم إلى الرياسة والوجاهة، يسنون من القوانين ما يحفظ الملك لهم ولمن يهمهم أمره من قريب أو حليف، ويعدلون في الدساتير الأرضية بما يلائم ذلك، فالتشريع الأرضي مئنة من افتقار صاحبه إليه، إذ لا يشرع إلا ما يسد فاقته، ويجبر نقصه الجبلي، بخلاف التشريع السماوي، فإنه من لدن الغني الحميد الذي لا أرب له فيما أيدي عباده ليسالهم إياه على حد الافتقار كما قال أخبث يهود: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فذلك فرقان عظيم في هذا الباب:
(يُتْبَعُ)
(/)
فوصف الخالق الحكيم في أقداره الكونية والشرعية، الغني عن عباده، فلا يشرع إلا ما تظهر به آثار علمه المحيط وحكمته الباهرة، ولا يشرع لهم إلا ما فيه نفعهم في الحال والمآل، فحيث كان شرع الباري عز وجل: كانت المصلحة الشرعية مراد الرب، جل وعلا، الأول، والمصلحة الدنيوية التي تأتي تبعا، ولا يتصور وقوع تعارض بين شرع ومصلحة دنيوية معتبرة، فخرج بقيد: معتبرة، ما تتوهمه العقول القاصرة مصلحة وهو عند التأمل: عين المفسدة، وإنما خفي على على العقل وجه المفسدة لقصوره عن إدراك المآلات فنظرته نظرة قاصرة تسعى إلى تحصيل المرادات العاجلة، ولو ترتب عليها بعد ذلك فساد أعظم، وذلك من فساد التصور الذي يجعل صاحبه يباشر أسباب تحصيل الملذات العاجلة، ولو كان فيها هلاكه آجلا.
وقوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فتلك الحجة الشرعية المتعلقة بالابتلاء الجاري على سنن الحكمة الشرعية فبها يكون الابتلاء الذي به يتعلق علم إحاطة الرب، عز وجل، بأفعال عباده امتثالا أو مخالفة لمقتضى تلك الحكمة، ومن جهة أخرى جرى قوله: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ): مجرى التعليل لما تقدمه، فحسن الفصل بينهما لشبه كمال الاتصال، فعلة رفع الأنبياء، عليهم السلام، وتأييدهم بالحجج النقلية والعقلية والكونية الدامغة، وعلة التفاضل بين البشر هو ما يصطفي به الرب، عز وجل، بعضا دون بعض، بمقتضى علمه الأزلي فيهم، فقد علم حال المحال: صلاحا أو فسادا، وحدها على تلك المقادير، فلكل عقل وقلب يباين عقل وقلب غيره، فجاء تأويل المقدور على وفق المسطور في اللوح المحفوظ، فهذا عقله صحيح القياس وقلبه صحيح الإرادة بمقتضى فضل الرب، جل وعلا، وذاك على خلاف ذلك فعقله وقلبه على حد الفساد، بمقتضى عدل الرب، جل وعلا، فاقتضت الحكمة ألا يسوي بين المحلين لتباينهما فللأول من التوفيق ما ليس للثاني، فلو سوى بينهما لكان ذلك من السفه والظلم الذي يتولد من نقص الحكمة، وذلك معنى منتف في حق عقلاء البشر، فتنزيه الباري، عز وجل، عنه ثابت من باب أولى، فالتذييل بوصفي العلم والحكمة جار مجرى الاحتراس لئلا يظن ظان أن الاصطفاء ورفع الدرجات كائن بمحض المشيئة والقدرة، فيصطفي من يشاء، وإن لم يكن أهلا للاصطفاء، ويضع الخير في شر المحال ...... إلخ مما جرى على ألسنة فئام من المتكلمين النافين للعلل والأسباب، فالأمر عندهم: محض قدرة نافذة، ولو جرت على غير سنن الحكمة، وذلك مدخل إلى مقالة أهل الجبر الذين غلوا في باب القدرة الكونية وجفوا في باب الحكمة الشرعية.
والصحيح أن كل أحداث هذا الكون صادرة من القدرة والحكمة الربانية بمقتضى الكلمات الكونية، فأفعاله، عز وجل، فرع عن صفاته الفاعلة، وصفاته على حد الكمال أزلا وأبدا فكذلك ما تفرع عنها من الأفعال، فتقع المفعولات في الكون بما تظهر به آثار علم وحكمة وقدرة الرب، جل وعلا، إذ تقع على وفق ما قدر فهي على حد الإتقان والإحكام، فلا يعتريه، جل وعلا، ما يعتري الصناع من البشر، فمهما بلغ إتقانهم فلا بد من هامش خطأ لا يسلم منه بشر، وتنفذ لا محالة إذا شاء الرب، جل وعلا، نفاذها، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوها.
وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)
فذلك من العموم المؤكد بـ: "من" التي تفيد التنصيص على العموم في سياق النفي، فتسلط النفي على النكرة: "دابة" فهي: نص في العموم ابتداء، ثم جاء التنصيص على العموم بـ: "من" إمعانا في التوكيد والتقرير، فـ: "ما من دابة" أي دابة: أرضية كانت أو جوية، زاحفة على البطون كانت أو سائرة على الأقدام أو طائرة بالأجنحة، إلا وسلك الأمة ينتظمها، فهي على هيئة الاجتماع، وإن لم يكن لها كمال الإدراك الذي يتعلق به التكليف، فيجري على كل أمة من السنن والأحكام ما يلائمها، وبقدر التعقيد في الخلق والرقي في العقل يكون التدقيق والإحكام في السنن التي تحكم الأمة فليست السنن الحاكمة للإنسان
(يُتْبَعُ)
(/)
أكمل المخلوقات الأرضية كالسنن الحاكمة للحيوان البهيم فما دونه من الحشرات والكائنات الدقيقة التي تعرف، ايضا، معنى الاجتماع على حد ما أطلق عليه علماء الحياة: المستعمرات، كمستعمرات الطحالب التي تتألف من أفراد تجتمع على هيئات مخصوصة كطحلب الفولفوكس، الذي يكون مستعمرة أطلق عليها: " Volvox Colony" ، تتبدى فيها دقة وإحكام الخلق الدال على وجود الرب، جل وعلا، وانفراده بالتدبير على حد التأثير في جريان المقدورات دقت أو جلت وفق ما علم وقدر أزلا، فلكل خلية في المستعمرة كيان مستقل يتكامل مع بقية أعضاء المستعمرة المتماثلة الأفراد على حد ينتظم به أمر المستعمرة انتظام المستعمرات البشرية التي يتكامل أفرادها باجتماعهم للنهوض بأعباء حياتهم، والتواصل بين أفراد المستعمرة يتم بواسطة مادة جيلاتينية تنتظمهم، فهم فيها يسبحون، وداخل المستعمرة الأم تتولد مستعمرات صغيرة: " Daughter Colonies" عن طريق انقسامات خلوية متكررة، بعد وقوع التكاثر لا جنسيا أو جنسيا، فكلا النوعين فيها كائن، ثم لا تلبث تلك البنيات الصغيرات أن تنفصل عن أمهن لتكون مستعمرات جديدة، على حد انفصال الجنين عن رحم أمه، فالسنة واحدة وإن اختلفت درجة التعقيد، وذلك مئنة من وحدة الصانع، عز وجل، في ذاته، وأحديته في صفاته التي عن كمالها تكون أفعاله بإيجاد تلك الكائنات على هذا الحد من الدقة والإتقان.
فسنة الاجتماع سنة فطرية جبلت عليها الكائنات دقت أو جلت، وكل ذلك قد سطر في الكتاب الأول، فـ: "أل" في: "الكتاب": عهدية ذهنية تشير إلى الكتاب الأول الذي كتب الله، عز وجل، فيه مقادير الخلائق: أعيانا وأوصافا وأعمارا وأرزاقا ......... إلخ، على حد التفصيل لأدق الجزئيات، فذلك علمه التقديري الأول، ثم بعد خروجه إلى عالم الشهادة بالقدرة الربانية النافذة، يحصيه الله، عز وجل، بعلم الإحاطة فتثبته الملائكة في الصحف وفق ما علم وقدر من الأزل، فيكون تأويل المقدور الحادث على وفق القدر الأزلي القديم، ثم يكون الحشر لـ: (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فتظهر آثار حكمة الرب، جل وعلا، في الفصل بين عباده، بل بين خلقه، ولو كان قصاصا للشَّاةُ الْجَمَّاءُ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ
وذكر القرطبي، رحمه الله، قولا آخر في تفسير: "الكتاب"، وهو حمله على: القرآن، فتكون: "أل" عهدية ذهنية، أيضا، ولكنها تشير إلى معهود آخر هو الكتاب العزيز آخر الكتب نزولا وأجمعها لزبدة علوم ما تقدمه من الكتب النازلة على قلوب الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
فيكون المعنى: ما فرطنا فيه من أحكام الشريعة من شيء فهو جامع لأحكامها: سواء نص عليها، أو أقر حجية ما سواه من أدلة الأحكام من سنة وإجماع وقياس مبناه الاجتهاد العقلي إذ لم يهمل الوحي آلة التكليف، بل قد نزل بما يزكيها، ليجتمع فيها الذكاء الفطري والزكاء الشرعي الذي يضبط قياس العقل ويصحح ما فسد منه، فليس كل قياس عقلي معتبر، وإنما يصير القياس صريحا إذا وافق نقلا صحيحا فلا تعارض بينهما كما قرر المحققون من أهل العلم.
يقول القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث.
وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب". اهـ
وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
(يُتْبَعُ)
(/)
فوضع الكتاب الذي سطرت فيه أفعال العباد بعد خروجها من حيز العدم إلى حيز الوجود، فـ: "أل" في: "الكتاب" عهدية ذهنية، أيضا، ولكنها تشير إلى الكتاب الذي تعلق بالعلم الثاني: علم الإحاطة، لا الكتاب الأول الذي تعلق بعلم التقدير الأزلي، فالسياق: سياق جزاء تظهر فيه آثار حكمة الرب، جل وعلا، بفصل القضاء، فيثيب الطائع فضلا، ويعاقب العاصي عدلا، ولا يسوي بينهما لكمال حكمته، إذ التسوية بين المختلفات قدح في الحكمة، يتنزه عنها حكماء البشر، فتنزيه الرب، جل وعلا، عنها، وهو أحكم الحاكمين، ثابت، بل واجب، من باب أولى، فلو كان الكتاب الموضوع هو الكتاب الأول ما أشفق المجرمون مما فيه، إذ لهم أن يحتجوا بعدم العلم بما هو مسطور فيه، فلا يعلم ما في اللوح من المقادير المبرمة إلا مقدرها وكاتبها، عز وجل، وإنما أقيمت الحجة عليهم بما يعلمونه مما اكتسبوا من الآثام في عالم الشهادة، وجاءت الكتابة في كتاب الأعمال مؤكدة لما في الكتاب الأول فهي على وفق ما فيه كائنة، ومحصية لما عملوا من الصغائر والكبائر على حد التفصيل الذي تكتمل به إقامة الحجة عليهم، وكل ذلك مما تظهر به آثار حكمة الرب، جل وعلا، ولذلك ذيل بالنفي تنزيها: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، مع إثبات كمال ضده على ما اطرد في باب الصفات، إذ المدح لا يكون بنفي محض، وإنما يكون بإثبات كمال ضد المنفي، فلا يظلم، جل وعلا، أحدا، لكمال حكمته، فالحكيم لا يسوي بين المختلفين كما تقدم فذلك من الظلم بمكان، ولا يظلم، جل وعلا، أحدا لكمال غناه عن خلقه، فالمفتقر إلى ما بيد غيره هو الذي يظلمه ويقهره عليه إن قدر على ذلك، والله، عز وجل، هو الغني على حد الإطلاق، فغناه ذاتي لازم، المغني لغيره، فإغناؤه فعلي متعد.
ومما ورد في تفسير الصغيرة والكبيرة، ما أشار إليه البغوي، رحمه الله، بقوله:
"قال ابن عباس: "الصغيرة": التبسم و: "الكبيرة": القهقهة وقال سعيد بن جبير: "الصغيرة": اللمم واللمس والقبلة و: "الكبيرة": الزنا". اهـ
فذلك جار مجرى ما سبقت الإشارة إليه في مواضع عدة من اختلاف التنوع في تفسير آي الكتاب العزيز، فكل قد ذكر للعام مثالا، فلا يخصصه، إذ الكل مندرج تحته، فعموم الصغيرة يشمل: التبسم والقبلة، وعموم الكبيرة يشمل: القهقهة والزنا، فلا يخصص العام بفرد من أفراده ذُكِر على حد التمثيل له، فذكره لا مفهوم له ليبطل دلالة العام على بقية الأفراد، بل العام، كما تقدم، يشمله ويشمل بقية الأفراد على حد سواء، وإن كان دخول الفرد الممثل به في العموم الممثل له أقوى من دخول بقية الأفراد للنص عليه دون غيره.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)
فخرج المعلوم العدمي إلى عالم الشهادة الوجودي، فاستمتع بعضهم ببعض، إذ استمتع الإنسي من الجني بما أعانه من الخوارق بإرادة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، فتنة له وابتلاء لمن حوله، أيصبرون على أذاه ويستعينون على رفعه بالأذكار والأوراد الشرعية أم يخضعون لطغيانه، فهو طاغوت قد سلط على الأبدان والأديان، فالساحر يضر بإذن الله، عز وجل، على حد قوله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، فتهابه القلوب بما فطرت عليه من الخوف الطبعي من كل مكروه، فإن صار ذلك الخوف كالخوف من الرب القدير، عز وجل، فاعتقد صاحبه استقلال ذلك الأثيم بالتأثير في الأكوان والأبدان بـ: المرض والشفاء، والإحياء والإماتة .......... إلخ، فقد وقع صاحبه في أسر ذلك الطاغوت فاسترق دينه قبل أن يسترق بدنه، ولا فكاك من ذلك القيد إلا باللجوء إلى الرب المجري لأحداث الكون بقدرته، المدبر لها بحكمته، فـ: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، فأعوذ بكلماته الكونيات
(يُتْبَعُ)
(/)
النافذة من شر ما ركب في خلقه من الشر، بمقتضى حكمته إظهارا لكمال قدرته بخلق الشيء وضده، فالشر فيها لا في فعله المكوِّن لها، إذ ما وجدت إلا لحكمة تفوق مفسدة ما فيها من شر.
واستمتع الجني بالإنسي بأن أخرجه عن حد الإيمان إلى حد الكفران، فذلك غاية ما يريد ذلك المَرِيد من ابن آدم عدوه اللدود الذي أخرج أباه من رحمة الرب، جل وعلا، فتسلط على آدم، عليه السلام، فأخرجه من الجنة، وتسلط على بنيه إظهارا لحكمة الرب، جل وعلا، بوقوع سنة التدافع بين القبيلين.
فلما ظهر ذلك المعلوم في عالم الشهادة، على وفق ما قدر الرب، جل وعلا، أزلا، صار متعلقا لثوابه وعقابه، فأحصاه بالعلم الثاني: إحاطة، لتظهر حكمته بتخليد تلك الفئام من الإنس والجان في عذاب النار، جزاء وفاقا، فلم يظلمهم، جل وعلا، إذ قد يبدو لبعض الأذهان، بادي الرأي، أن الله، عز وجل، قد أظهر فيهم وصف قدرته وقهره، فعذبهم، بلا حكمة، كما هو لازم كلام منكري الحكمة والتعليل في أفعال الرب العلي الكبير، جل وعلا، والصحيح أن تعذيبهم وتخليدهم في النار هو عين الحكمة التي تقترن بالقدرة، إذ بهما يظهر كمال الرب، جل وعلا، جلالا وجمالا، إذ لو سوى بينهم وبين أهل الإيمان والطاعة لعد ذلك خرقا لسنن القياس الصريح الذي يقضي بالتفريق بين المختلفات في الأحكام، فرعا عن اختلافها في الأوصاف، فلوصف الإيمان حكم الثواب، ولوصف الكفران حكم العقاب، فوضع لكل وصف ما يلائمه من الأحكام، وذلك عين الحكمة، إذ هي وضع الشيء في محله الملائم له.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)
فشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، عز وجل، ففرقوا بين المتماثلات في تحكم عجيب بأن أحلوا لبعض وحرموا على بعض، وسووا بينهما في حال ثالثة، فنازعوا الله، عز وجل، تشريع الأحكام، وهو من أخص أوصاف إلهيته، فحكمه أعدل الأحكام إذ قد صدر من كمال علمه وحكمته، فلما طعنوا في ألوهيته بذلك، أحصاه عليهم بعلمه المحيط لما بدر منهم في عالم الشهادة على وفق ما قدر في عالم الغيب، فجزاهم بعدله، ولم يظلمهم إذ لم يجبرهم على مخالفة أمره، فحسن التذييل أيضا بوصف الحكمة مقترنا بالعلم، فالحكمة تقتضي عقابهم، على حد ما تقرر من إعطاء كل وصف حكمه، وإنما قدر عليهم ذلك أزلا، إظهارا لآثار حكمته في خلقه، بتنوع الأحكام فرعا عن تنوع الأوصاف.
وقوله تعالى: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ):
فسبحوه، عز وجل، في معرض الابتلاء بـ: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فالأمر فيه جار مجرى التحدي المذيل بشرط يفيد الإلهاب والتهييج، فذلك آكد في التحدي المعجز، فلما فظهر به عجزهم، سبحوه على حد البراعة في الاستهلال بين يدي الاعتذار، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إذ: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، ثم جاء التذييل بوصفي العلم والحكمة، فالعلم هنا قد اقترن بالحكمة، لظهور أثر حكمته، عز وجل، بهذا الابتلاء، فعلمت الملائكة حكمة اصطفاء آدم عليه السلام لمنصب الخلافة تكليفا وتشريفا، فأنت العليم بكل المعلومات على حد الإحاطة العام فعلمك قد عم ما دق وجل، ومن معلومك الرباني: ما خص به آدم من علم الأسماء، فاستحق التفضيل الموجب لوقوع التكليف بالسجود له إظهارا للطائع من العاصي، فلما عصى إبليس استحق الطرد، ولما أطاعت الملائكة استحقت التشريف بأن وكلت بأمور الكون، على حد: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، لا على حد الاستقلال بالتأثير فهم: (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)، فلا خروج لهم عن وصف العبودية، وإنما خصوا بالعبودية الخاصة: عبودية العُبَّاد لا العبيد، فهم العابدون اختيارا العبيد انقيادا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
فهو الحكيم إذ وضع الإيمان في المحل الذي يليق به فهدى المؤمنين، فكان ذلك على وفاق العلم الأول، فلما وقع إيمانهم في عالم الشهادة صار وجوديا يتعلق به الثواب والعقاب، فذلك وجه آخر من أوجه حكمته إذ علق المسبَّبات من نجاة أو هلاك على أسبابها من طاعة أو معصية.
وقوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
فذلك جار مجرى ما تقدم مرارا من التذييل بالعلم والحكمة عقب التكليف الشرعي فهو مئنة من حكمته البالغة أن ابتلى عباده بما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، لو فقهوا، فذلك مما يهون مشقة التكليف على النفوس، وإن كانت محتملة، فمن رحمته وحكمته، عز وجل، أنه لم يكلف النفوس ما لا تطيق، بل كلفهم بما يطيقونه وما يطيقون أكثر منه، ولكن فضله، عز وجل، اقتضى التخفيف في: ورود التكليف مخففا ابتداء، أو وروده شاقا ثم طروء النسخ عليه، فينسخ إلى الأخف، أو ورود الرخصة التي لا تسقط حكم الأصل، وإنما تخص المترخص بحكم استثنائي. وموارد التخفيف في هذه الشريعة أمر يستحق الاستقراء والتقييد، والتذييل بالحكمة من جهة أخرى جار مجرى التوكيد اللفظي لـ: "يحكم بينكم"، فهو بمنزلة علة الحكم إذ يفصل، جل وعلا، الحكم بين خلائقه لكمال علمه التقديري بأفعالهم وكمال حكمته في جريان الثواب فضلا أو العقاب عدلا.
والشاهد أن هذا العلم قد تعلق بالابتلاء بالأمر والنهي، فذلك مقتضى الحكمة البالغة، كما تعلق العلم الأول بالخلق والإيجاد، فذلك مقتضى القدرة النافذة.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وَأَمَّا شُهُودُ الْقَدَرِ فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَالْقَدَرُ هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ - كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ نَعِيمٌ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ عَذَابٌ - فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ مِنْ جِهَةِ الْمَشِيئَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُورِ. لَكِنْ نُثْبِتُ فَرْقًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ وَنِهَايَةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ لَا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِلْإِنْسَانِ نَافِعٌ لَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ اللَّذَّةُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ ضَارٌّ لَهُ يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ فَرَجَعَ الْفَرْقُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ. وَأَسْبَابُ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ، وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْبَهَائِمِ. بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فَالْفَرْقُ يَرْجِعُ إلَى هَذَا. وَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مُلَائِمًا لِلْإِنْسَانِ وَبَعْضَهَا مُنَافِيًا لَهُ
(يُتْبَعُ)
(/)
إذَا قِيلَ: هَذَا حَسَنٌ وَهَذَا قَبِيحٌ. فهذا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ". اهـ
فحكم الشرع الصحيح موائم لحكم العقل الصريح كما تقدم مرارا.
وعلم الإحاطة يتعلق بالمعلومات تعلق الكائن الحادث بمشيئة الرب، عز وجل، النافذة، فهو المعلوم في عالم الشهادة بعد أن كان مقدورا في عالم الغيب، فعلم الرب، عز وجل، به قبل وقوعه: علم تقدير مؤثر في إيجاده على النحو الذي قدره الرب، جل وعلا، أزلا فذلك من وصف ذاته، كما تقدم، فلا تعلق له بالمشيئة من أي وجه، وعلم الرب، جل وعلا، به بعد وقوعه: علم إحاطة هو من وصف ذاته أيضا، ولكنه أيضا من وصف فعله من جهة تعلقه بآحاد المعلومات بعد حدوثها في عالم الشهادة وذلك أمر متجدد بتجدد مشيئته، عز وجل، إيقاعها على النحو الذي قدره أزلا كما تقدم بيانه.
فهو على حد وصف الكلام الإلهي الذي هو: وصف ذات باعتبار نوعه، ووصف فعل باعتبار آحاده الحادثة بمشيئة الرب، جل وعلا، فيتكلم بما شاء من كلماته الكونية النافذة أو كلماته الشرعية الحاكمة كيف شاء متى شاء، وإن كان موصوفا بالقدرة على الكلام في كل وقت على كيف لا يعلمه إلا هو، فذلك من وصف كماله عز وجل.
والشاهد أن علم التقدير هو متعلق الربوبية الخالقة التي بها يكون الإيجاد، وعلم الإحاطة هو متعلق الألوهية الحاكمة التي بها يكون الابتلاء.
وهذا تفصيل مقالة أهل السنة في علم الرب، جل وعلا، إذ تعلقه بالمعلوم تعلقان، على حد ما تقدم، بخلاف المتكلمين الذين جعلوا تعلقه بالمعلوم تعلقا واحدا في الأزل، وجعلوا وقوعه في عالم الشهادة: تأويلا للمقدور الأزلي في عالم الشهادة، وهذا حق، ولكنهم لم يثبتوا علم إحاطة ثان يتعلق بالمقدور حال وقوعه، إذ ذلك مما يتجدد بتجدد وقوع المقدور، وهم على أصلهم: ينفون الصفات التي تتعلق بالمشيئة الربانية، احترازا من قيام الحوادث بذات الباري، عز وجل، وهو لازم لا يلزم، إذ صفات الرب، جل وعلا، التي يصح تعلقها بمشيئته الكونية النافذة: أولية أزلية بأولية وأزلية ذاته القدسية، وإن حدثت أفرادها إذا شاء الرب، جل وعلا، الاتصاف بها على الوجه اللائق بجلاله، فهي كما يقول بعض أهل العلم: قديمة النوع بمعنى الأزلية فالله، عز وجل، متصف بها أزلا، حادثة الأفراد على حد تعلقها بمشيئته، عز وجل، على التفصيل المتقدم.
والحديث مما استدل به من أثبت الميثاق الأول، على ما تقدم بيانه، تفصيلا، وقد أجيب بتضعيف سنده من وجه، وبعدم دلالته على المطلوب على حد القطع من وجه آخر، فالميثاق: فطري لا لفظي عند المحققين من أهل العلم، وجمع بعض آخر فجعله لفظيا وفطريا.
والعلم من جهة أخرى ينقسم إلى:
علم الشريعة الموجود، وهو المأمور بتحصيله والعمل بمقتضاه فيصدق خبر الوحي ويمتثل حكمه أمرا أو نهيا.
وعلم القدر المعدوم: فهو مما استأثر به الله، عز وجل، إذ هو معدوم باعتبار: علم الرب، جل وعلا، به من الأزل إذ كان عدما فلما يصر له وجود في عالم الشهادة بعد، وهو من جهة أخرى معدوم باعتبار انعدام علم العباد به قبل وقوعه إلا ما خص به الله، عز وجل، بعض رسله ببعض غيبه على حد الإعجاز في معرض الاستدلال لصحة نبوتهم، والأصل في ذلك قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
وإلى ذينك النوعين من العلم أشار ابن أبي العز، رحمه الله، بقوله:
"قوله، (أي: الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته): (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود).
الإشارة بقوله: " فهذا " إلى ما تقدم ذكره، مما يجب اعتقاده والعمل به، مما جاءت به الشريعة، وقوله "وهي درجة الراسخين في العلم" أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلا، نفيا وإثباتا. ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه، ونهاهم عن مرامه. ويعني بالعلم الموجود، علم الشريعة، أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئا مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين. قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، الآية. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته. ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات، التي لا يعلم منها إلا المضرة - لم ينف أن يكون الله تعالى خالقا لها، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا، لأن عدم العلم لا يكون علما بالمعدوم". اهـ
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبو طارق]ــــــــ[08 - 11 - 2009, 06:47 م]ـ
نتابع أستاذنا الفاضل
وجزاك الله خير الجزاء
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 11 - 2009, 02:39 م]ـ
وبارك فيك أبا طارق وأجزل لك المثوبة وجزاك خيرا على المرور والتعليق المستمر. فكلماتك الطيبات توقع المُداخِل في الحرج!.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال علي بن الجعد: أَنبأَنا عبد الواحد بن سليم البصري عن عطاء بن أبي رباح قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يَا بني اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبت كيف لي أن أُؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَم فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ فَجَرَى تِلْكَ السَّاعَة بِمَا كَانَ وَما هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ) ". اهـ
ص100
فأجمل الوصية بالأمر بالتقوى، ثم ذكر أحد أفرادها على حد اللزوم:
فلن يحقق العبد تمام التقوى إلا إذا عبد ربه، عز وجل، على حد الإفراد بتوحيد الإلهية فرعا عن انفراده بأفعال الربوبية، ومن آكدها: القدر: تقديرا في عالم الغيب وتأويلا في عالم الشهادة، فكل ما كتبه الله، عز وجل، بمقتضى علمه الأزلي الأول، فتأويله واقع في عالم الشهادة ثانيا، فالإيمان بالقدر عند التحقيق: داخل في جملة الإيمان بالله، عز وجل، ذاتا وأسماء، فمن أسمائه: "القدير" و: "العليم" و: "الحكيم" وصفات تتضمنها هذه الأسماء إذ بالعلم والحكمة يكون التقدير والكتابة: المرتبتان الأولى والثانية من مراتب القدر، فإذا شاء الله، عز وجل، وقوع المقدور، فتلك المرتبة الثالثة، خلقه في عالم الشهادة بقدرته النافذة فتكلم بالكلمة التكوينية النافذة، فيجيء المخلوق في عالم الشهادة على وفق المقدور في عالم الغيب، فتلك المرتبة الرابعة.
فيلزم لتحقيق كمال الإيمان بالله، عز وجل، إفراده بأوصاف أفعاله المتعلقة بمشيئته، تقديرا وخلقا، فلا يقاس فعله على فعل عبده: شمولا أو تمثيلا، وما استعصى الإيمان بالقدر إلا على من أجرى قياس المنطق الفاسد في الغيبيات، فكلياته لا تصلح إلا في عالم الشهادة فهي صحيحة إذا أجريت على المخلوق، إذ هي من جنس أفعاله، بخلاف ما لو أجريت على الخالق، عز وجل، فهي باطلة ظاهرة البطلان، إذ لا يجري على الخالق، عز وجل، ما يجري على المخلوق بداهة، فقياس أفعال الرب على أفعال العبد: تشبيه في الأفعال بقياس غائب على شاهد، ولكل، كما تقدم مرارا، ما يليق بذاته، فللرب، جل وعلا، ما يليق بذاته من الأسماء والصفات والأفعال، وللعبد منها ما يليق بذاته، فإذا دخل الكل، مع وجود الفرق، تحت قاعدة كلية ظهر فساد هذا القياس، إذ هو غاية الظلم بالتسوية بين أعظم مختلفين، فلو أجري على مخلوقين: قوي وضعيف، لعد ذلك ظلما وقدحا في قياس العقل الصريح لوجود الفارق بينهما، فكيف إذا أجري بين الرب القدير، عز وجل، والعبد العاجز المفتقر إلى الرب، جل وعلا، في كل سكناته وحركاته.
فضلا عن استحالة تصور كيف صفات الرب، جل وعلا، على حد الحقيقة في دار الابتلاء، وعلى حد الإحاطة في دار الجزاء، فلا يرى في دار الجزاء ويرى لا على حد الإحاطة في دار النعيم، فإذا استحال تصورها كيف صح قياسها على صفات العبد المشهودة، فإذا جاء الكيف في هذا الباب: وجب التسليم للجهل بحقيقة الصفات، وإذا جاء المعنى الكلي المشترك الذي يدركه العقل ولا يلزم منه تشبيه أو تمثيل، فإعمال الفكر آنذاك تدبرا في معاني صفات الرب، جل وعلا، زاد نافع، بل هو خير زاد للعبد في رحلة التكليف، فبه يدرك العبد كمال وقدرة وغنى الرب، جل وعلا، في مقابل نقصانه وعجزه وفقره، فيتولد له بذلك من أعمال القلوب ما تصح به التصورات والإرادات، فتنبعث الجوارح إلى كل فعل صالح تعمر به الأديان والأكوان، وتنكف عن كل ما يفسد الدين والدنيا، فامتثال الشرع: صلاح للأولى والآخرة، به يسعد الموافق والمخالف، إذ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولا يسلمون
(يُتْبَعُ)
(/)
من أذاه إلا إذا كان عالما بإحاطة علم الرب، جل وعلا، به، ونفاذ قدرته فيه، فيحمله ذلك على الكف عن ظلم العباد وإذايتهم، إذ قد صح معلومه فصح معموله لزوما، فلا يتصور انفكاك العلم عن العمل، إذ لا بد للنفس من تصورات علمية سابقة: حسنة أو قبيحة بمقتضى ما جبلت عليه من الحركة والإرادة، وكل إناء بما فيه ينضح، فإن كان تصورها صحيحا كانت حركتها نافعة، والعكس، ولذلك لا تكون المعصية إلا عن جهل، إذ قد فسدت الصورة العلمية في الذهن، فتولد منها صورة عملية فاسدة في الخارج، فلما فسد الباطن الآمر فسد الظاهر المأمور لزوما. فمتى فسد تصور كمال الرب، جل وعلا، بإساءة الظن به، كما يقع غالبا في النوازل بلسان الحال أو المقال إلا من عصم الله عز وجل من تلك العقوبة فهي عند التحقيق أعظم إفسادا للحال من النازلة وإن عظمت، إذا فسد التصور: فسد العمل لزوما، فأي غفلة ترد على القلب حال اليقظة وجريان قلم التكليف: فرصة سانحة ينتهزها الشيطان للتلبيس على ابن آدم بصورة علمية فاسدة تعكر صفو القلب، سواء أكانت شبهة علمية تصيب القلب مباشرة، أم شهوة عملية يتذرع بها إلى إصابة القلب لاحقا على طريقة من ينتسف الزرع قبل اقتحام الحصن، إذ بانتسافه يقطع الميرة عن سكان الحصن فيستسلمون، ولو بعد حين، فليس شرطا أن يقع التسليم ابتداء بلا مدافعة، بل السنة الكونية على خلاف ذلك، فسقوط القلوب في براثن الكفر كسقوط الممالك في عالم الشهادة يستغرق وقتا في الإعداد والتجهيز ثم التنفيذ، ولن يسلم العبد، مع ضعف إيمانه، إلا بإمداد الرب، جل وعلا، له بالمؤن القلبية والعدد الإيمانية من أجناس الطاعات الظاهرة والباطنة التي يرمم بها حصونه فيسد ثغورها ويزيد في حرسها فلا يتمكن الشيطان من اقتحامها، وذلك أمر يلزم له دوام اللجأ إلى الباري، عز وجل، على حد الافتقار والتكرار بلا ملل أو كلل.
يقول الألوسي، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
"والجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى الله تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانياً". اهـ
فـ: "يا حى يا قيوم، برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين"، و: "ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام"، فألظوا بوصف بوصف الجلال ووصف الجمال، ألظوا بوصف الجلال في معرض المدافعة لكيد الشيطان بالاستعانة بمن له كمال التصرف في الأعيان والأفعال، وألظوا بوصف الجمال في معرض استنزال الرحمات التي يقي بها الرب، جل وعلا، من شاء من عباده، مصارع السوء، على حد قوله تعالى: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)، فلما أراد به النجاة: أمدهم بمؤن الخوف: "إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا"، والصبر: "بِمَا صَبَرُوا"، فاستعملوها في سد الثغور وشحنها بالمقاتلة، فعلى قلوبهم حراس أشداء من سائر أجناس الصالحات باطنا وظاهرا، وذلك صراع لا ينتهي إلا مع خروج الروح وانقطاع التكليف، قدره الله، عز وجل، كونا، ليظهر به من آثار حكمته، ما تعجز العقول عن دركه، فسنة المدافعة بين الحق والباطل، بين القدر الكوني والقدر الشرعي، سنة جارية على الأفراد والجماعات، فهي ملازمة لكل حي حساس، تتجاذب قلبه الإرادات، فيستقم تارة ويزيغ أخرى، فلا بد له من الاستعانة ليستقيم والاستغفار ليرجع إذا زاغ، وبقدر المسارعة يكون استدراك ما فات، ولن يكون ذلك إلا باستعانة وكيس، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قَدَّرُ الله وما شاء فعل".
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 11 - 2009, 09:10 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وذكر الطبري من حديث بقية أَنبأَنا أبو بكر العنسي عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع عن ابن عمر قال: قالت أُم سلمة: يا رسول الله، لا تزال نفسك في كل عام وجعة من تلك الشاة الْمسمومة التى أَكلتها؟، قال: (ما أَصابَنِى من شَيْء مِنْهَا إِلا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى وَآدَمُ فِى طِينَتِهِ) ".
ص100.
وهي الشاة التي قدمتها اليهودية إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأكل منها هو وبشر بن البراء بن معرور، رضي الله عنه، فمات منها بشر، رضي الله عنه، ونجا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو معصوم حال التبليغ، ولم تكن الرسالة آنذاك قد اكتملت، فالرسل عليهم السلام لا تقتل، كما قرر ذلك بعض المحققين من أهل العلم في معرض بيان الفرق بين الرسول والنبي، فإن النبي يحيل على رسالة من تقدمه، وهي كاملة، فقتله، وإن كان مصيبة، بل فاعلها كافر بالإجماع، إلا أنه أهون من قتل الرسول قبل تمام رسالة جديدة ناسخة لرسالة من قبله، فكيف بصاحب الرسالة الخاتمة التي نسخت كل الرسالات قبلها؟!، فحفظه حال البلاغ ثابت من باب أولى على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
فعفا عنها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على ما اطرد من خلقه إذ عفوه مع قدرته على الانتصار ممن ظلمه، ولكنه كان على حد ما وصف عائشة رضي الله عنها: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا" فلما مات بشر، رضي الله عنها، قتلها به، إذ ليس الحق حقه ليعفو، بل قد تعلق الحق بغيره، قال في "الروض الأنف":
"فَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي سَمّتْهُ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: صَفَحَ عَنْهَا ُ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنّهُ قَتَلَهَا ُ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ شَرَفِ الْمُصْطَفَى ُ أَنّهُ قَتَلَهَا وَصَلَبَهَا ُ وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ سَلَامٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهِيَ أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيّ ُ وَرَوَى أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ صَفَحَ عَنْهَا ُ أَوّلَ لِأَنّهُ كَانَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ فَلَمّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ قَتَلَهَا ُ وَذَلِكَ أَنّ بِشْرًا لَمْ يَزَلْ مُعْتَلّا مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ حَتّى مَاتَ مِنْهَا بَعْدَ حَوْلٍ". اهـ
فكان فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فضلا في أوله، عدلا في آخره، وذلك من تمام وعظم خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولم يحرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الشهادة على قول معتبر لأهل العلم لحديث عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ زَادَ فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ فَقَالَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الْأَنْصَارِيُّ فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ قَالَتْ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ ثُمَّ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَازِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي"
قال ابن هشام رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ، امْرَأَةُ سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ، شَاةً مَصْلِيّةً وَقَدْ سَأَلَتْ أَيّ عُضْوٍ مِنْ الشّاةِ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -؟ فَقِيلَ لَهَا: الذّرَاعُ فَأَكْثَرَتْ فِيهَا مِنْ السّمّ سَمّتْ سَائِرَ الشّاةِ ثُمّ جَاءَتْ بِهَا؛ فَلَمّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَنَاوَلَ الذّرَاعَ فَلَاكَ مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ يُسِغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -. فَأَمّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا؛ وَأَمّا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَفَظَهَا، ثُمّ قَالَ إنّ هَذَا الْعَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أَنّهُ مَسْمُومٌ ثُمّ دَعَا بِهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكِ؟ قَالَ بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك، فَقُلْت: إنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْتُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَبِيّا فَسَيُخْبَرُ قَالَ فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ أَكْلَتِهِ الّتِي أَكَلَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ وَدَخَلَتْ أُمّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ تَعُودُهُ يَا أُمّ بِشْرٍ إنّ هَذَا الْأَوَانَ وَجَدْتُ فِيهِ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ الْأَكْلَةِ الّتِي أَكَلْت مَعَ أَخِيك بِخَيْبَرِ قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَاتَ شَهِيدًا، مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ". اهـ
فاجتمع له الوصفان، إذ لم يقبض صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا والدين قد اكتمل، والرسالة قد بلغت على حد الكمال، فلم يكتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئا مما أمر بتبليغه، ولم يختص أحدا ببعض أخبارها وأحكامها دون بعض، على ما اطرد في كلام الباطنية الذين جعلوا النبوة كهنوتا موروثا وراثة أسرار السحرة والمشعوذين، ومع تلك المنة السابغة ببلاغ الرسالة الخاتمة جاء التكريم بالشهادة بعد الرسالة، وأشد الناس بلاء الأنبياء، عليهم السلام، وقد ابتلي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأجناس من البلاء عظيمة، فابتلي بفقد الأب والأم ولما يبلغ، وابتلي بتكذيب قومه وإذايتهم، وابتلي بفقد النصير، فمات عمه، وابتلي بفقد وزير الصدق زوجه أم المؤمنين: خديجة، رضي الله عنها، وابتلي بما صنعه معه سفهاء الطائف، وابتلي بتآمر قومه على قتله وإخراجه، وابتلي بفقد الأولاد والبنات، وابتلي بقتل العم والأصحاب، وابتلي بالشج والنزف يوم أحد، وابتلي بالطعن في فراشه الطاهر في حادثة الإفك فلم تزده تلك الابتلاءات إلا قربا من الرب، جل وعلا، ورفعة في المنزلة، فهي المنح التي لا: (يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وذلك من كمال إيمانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالقدر خيره وشره، فما شاءه، عز وجل، كونا، فهو كائن، فقد كتب وسطر ولما يخلق آدم عليه السلام، فالكتابة في هذا الحديث: كونية قدرية لدلالة السياق اللفظية، فهي في معرض الابتلاء بعارض كوني، لا يلام صاحبه، إذ ليس مكلفا بدفعه ابتداء أو رفعه إن لم يكن له بذلك طاقة، أو كان له فبذل السبب، ولكن لم يشأ الرب، جل وعلا، رفعه، بل اقتضت حكمته إيقاع المقدور بقدرته النافذة، فنال الصابر أجر بذل السبب توكلا، والصبر وعدم الجزع احتسابا، وغفران الذنوب ورفعة الدرجات فضلا وامتنانا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومادة الكتب: تفيد الجمع، فذلك معناها الكلي المشترك، وهو ينقسم في الخارج تبعا للقيد الذي يرد عليه، فمنه: الكتب المحسوس، ومنه قيل للفرقة المجتمعة من الجيش: كتيبة، لاجتماع أفرادها، فكتب الأبدان: جمعها، ومنه الكتب المعقول: فكتب الحروف جمعها لتصير كلمات، وكتب الكلمات جمعها لتصير جملا تفيد معان تدركها العقول، وكتب الآيات في التنزيل: جمعها لتصير سورا، وكتب السور جمعها لتصير قرآنا يتلى.
وهي مادة تفيد الحكم، فتنقسم إلى: شرعية وكونية، كما تقدم، أو هي من جهة دلالة اللفظ المكتوب على معناه المعقول: شرعيا كان أو كونيا تطلق ويراد به لازمها المعنوي من الحكم الذي تدل عليه، فالدليل الذي يدل على الحكم الشرعي، من قبيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): يدل على إيجاب الصيام إيجابا شرعيا، والدليل الذي يدل على الحكم الكوني، من قبيل: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ): يدل على إيجاب الغلبة لله ورسله إيجابا كونيا، وكلا القولين مؤداهما واحد سواء أقيل بأن مادة الكتابة تدل على الحكم بنفسها أم بلازمها: دلالة المكتوب المقروء على معناه المعقول.
والكتاب: إما أن يطلق ويراد به المصدر وهو فعل الخط كما حكى صاحب اللسان رحمه الله في مادة "كتب"، أو يراد به الكتاب الذي يحوي المكتوب، فيقال: هذا كتاب الأمير إلى نوابه، إشارة إلى ذات الرقعة أو الورقة التي يكتب فيها، أو يراد به المكتوب فيه، فيقال: جاءني كتاب من فلان أن افعل كذا وكذا، فتكون: "أن" تفسيرية لذلك الكتاب بما أورد فيه من كلمات مكتوبة تأويلها: تصديقها إن كانت أخبارا أو امتثالها إن كانت أحكاما.
وإنما أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا السياق كما تقدم: الكتابة الكونية، المرتبة الثانية من مراتب القدر، فما كتب عليه من العلم الأزلي بتناوله من تلك الذراع، فهو كائن لا محالة، وتأويله ما وقع بعد كتابته بمشيئة الرب، جل وعلا، وقوعه، فخلقه لتلك الشاة وذلك السم وتلك المرأة، وخلقه لإرادة الكيد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قلبها، وخلقه لفعلها إذ سمت الذراع، وخلقه لفعل التناول منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلقه لمفعول ذلك السم بما أودع الله، عز وجل، فيه من القوى المؤثرة، فشاء الرب، جل وعلا، ألا يجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجعها في حينها، وقد رده بعض الباحثين الأفاضل في الإعجاز الطبي في السنة النبوية إلى تناوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحبات العجوة تأويلا لقوله: "من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم أو سحر" وقد خص بتمر المدينة في رواية: "من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة على الريق لم يضره يومه ذلك سم ولا سحر وإن أكلها حين يمسي لم يضره حتى يصبح"، فقد ثبت أن التمر يعمل كمادة ماصة أو مستخلصة للسموم من أنسجة الجسم ويركزها في الطبقة التي تلى الجلد مباشرة فهي بمنزلة سلة المهملات التي تجتمع فيها مخلفات الجسم، ولذلك يوصي الأطباء بعدم تناول جلود الطيور كالدجاج والبط ونحوه، إذ ذلك الجلد مع كونه مشبعا بمواد دهنية رديئة تصيب الأوعية الدموية في مقتل: يحوي أيضا السموم التي يطردها جسم الطائر إلى تلك الطبقة، مع ما في طيور زماننا، لا سيما في الدول التي حققت الرفاهية الغذائية كمصر!، من آثار الهرمونات والمواد الفاسدة التي تحقن بها الطيور أو توضع لها في أعلافها، ثم شاء الرب، جل وعلا، أن يبقى في جسده الشريف صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها أثر، وجده بعد ذلك، كما تقدم في قوله لعائشة رضي الله عنها.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالله، عز وجل، هو الذي علم فكتب فشاء فخلق كل تلك الإرادات والأفعال، وذلك مئنة من نفاذ قدرته الكونية الصادرة من كتابته التي أرادها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله، فالسياق، وهو كما تقدم مرارا، أصل في معرفة مراد القائل، قد دل على إرادة الكتابة الكونية النافذة لا الشرعية الحاكمة، وإنما ساغ الاحتجاج بالكتابة الكونية في هذا الموضع لأنها مصيبة كونية لا يقع اللوم على المكلف لوقوعها، وإن وقع على مدبرها الذي سعى في إتلاف النفس إفسادا في الأرض وعدوانا، فكيف بمن سعى في إتلاف نفس الرسول الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 11 - 2009, 05:56 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وفى صحيح مسلم من حديث ابن عباس فى خطبة النبى صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) ". اهـ
ص100، 101.
فالحمد له على جهة الاستغراق قدرا ووصفا، والحمد مئنة من وصف جماله، عز وجل، ولا يكون إلا بالاستعانة به، فلن يحمده العبد بوصف جماله، إلا أذا استعان بوصف جلاله من إقداره على ذلك، فلا يطيع طائع ولا يعصي عاص، كما تقدم مرارا، إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، فيشاء كونا معصية العاصي فلا تتعلق بها محبته ليصح القول بأنها مشروعة فضلا عن كونها مستحبة أو واجبة فتكون داخلة في حد العبادة، فيتعبد المكلف ويتأله بمبارزة الرب، جل وعلا، بعين ما يكرهه ويسخطه، كما لزم ذلك الجبرية غلاة الإثبات في باب القدر، فقال قائلهم: المحبة نار .......... إلخ، كما حكى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في: "العبودية" بقوله:
"ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل فأين هذا من قوم يدعون المحبة وكلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان ولا يمكن لأحد أن يحب كل موجود بل يجب ما يلائمه وينفعه ويبغض ما ينافيه ويضره، (وإلا أحب الإنسان قاتله وسارقه لأنه من جملة هذا الكون المراد عندهم على حد واحد: حد الإرادة الدينية التي تستلزم المحبة مطلقا، ولو لما يبغضه الرب، جل وعلا، وينفر منه الطبع والعقل والحس).
ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرياسة وفضول المال والبدع المضلة زاعمين أن هذا من محبة الله.
ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله وجهاد أهله بالنفس والمال
وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله وهذا المعنى صحيح فإن قال من تمام الحب أن لا يحب إلا ما يحب الله ............ وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له بل محبا لما يبغضه.
فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعى محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرا من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك وهم برآء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم وهو سبحانه يحب من يحبه لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له وإن كان جزاء الله لعبده أعظم كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.
وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين بل هو يحب من فعل ما أمر الله به من واجب ومستحب كما في الحديث الصحيح: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به .......... الحديث
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياء في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها ولو صدق لم يكن قائلها معصوما فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح ويثبتون للخاصة من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه وإلى أنواع أخر يطول شرحها". اهـ
فجنس الغلو في الأشخاص والأحوال واحد إذ هو فرع عن تصور واحد يقدر فيه التابع المتبوع فوق قدره، فإذا استقر ذلك في وجدانه بني عليه من الأحكام العملية ما يظهر فساده بأدنى نظر، فضلا عن جفائه في حق الرب، جل وعلا، بقدر غلوه في غيره فالحكم مطرد منعكس.
فقد خلطوا بين المشيئة ولا تكون إلا كونية تتعلق بقدرته، والإرادة وتكون شرعية إذا تعلقت بمحابه ومراضيه جل وعلا، أو خلطوا بين نوعي الإرادة: الشرعية والكونية، إذ تجمعهما مادة الإرادة مطلقة في الذهن، فإذا ثبتت خارجه تعلقت بنوايا المريدين: فمن نوى خيرا ففعله جار على حد الإرادة الشرعية، ومن نوى شرا ففعله جار على حد الإرادة الكونية، فمعناها يقبل الانقسام بورود القيد اللفظي: الشرعي أو الكوني، فالتقييد بلفظ: "شرعي" يقصرها على محبوبات الرب، جل وعلا، ومراضيه، والتقييد بلفظ: "كوني" يشمل كل مرادات الرب، جل وعلا، سواء أكانت محبوبات أم مكروهات فالكل واقع بإرادة الرب، جل وعلا، وقوعه كونا.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "شفاء العليل":
"لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله: (فعال لما يريد) وقوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية) وقوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) ونظائر ذلك. وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله: (يريد الله بكم اليسر) وقوله: (والله يريد أن يتوب عليكم) فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني وكذلك إن قيل: هل هي واقعة بإذنه أم لا والإذن أيضا نوعان: كوني كقوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، و: ديني أمري كقوله الله: (أذن لكم) وقوله: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) ". اهـ
وورود القيد العيني: فإرادة زيد غير إرادة عمرو غير إرادة بكر ........... إلخ، وثبوت ذلك في حق المخلوق يلزم منه بقياس الأولى: الافتراق بين إرادة الرب، جل وعلا، وإرادة العبد، وإن جمعهما الكلي المشترك في الذهن إذ لا وجود له خارجه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فهو الأصل الذي قرره المحققون من أهل العلم لإزلة الالتباس في هذا الباب بين: وصف الرب، جل وعلا، ووصف العبد، فما ثبت مطلقا في الذهن لا يثبت إلا مقيدا خارجه إلا على مذهب المناطقة الذين أثبتوا المثل الكلية المجردة خارج الذهن في مكابرة ظاهرة يردها العقل والحس، مع أنهم يدعون العقلانية فهي مادنهم
(يُتْبَعُ)
(/)
الإعلامية الوحيدة لتسويق مقالاتهم.
وعطف الاستعانة على الحمد سواء أكان خبرا محضا أم أريد به إنشاؤه: من باب: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فالحمد من أجناس العبادة، فبه تتعلق الأفعال الوجودية التي يوقعها العبد على حد الرغبة الباعثة على العمل، كما أن الإجلال من أجناس العبادة، فبه تتعلق الأفعال التركية التي يتركها العبد على حد الرهبة الباعثة على الكف، وكلاهما، كما تقدم، لا يكون إلا باستعانة.
وقوله: "َمنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ": جار مجرى المقابلة استيفاء لأوجه القسمة العقلية في معرض التوكيد على عموم مشيئته، عز وجل، فهو من باب المدح بوصف الجلال، إذ تقليب القلوب: هداية أو إضلال، مئنة من قدرة مقلبها، فإرادات العباد تبع لمشيئته النافذة، فإن شاء هدى فضلا، وإن شاء أضل عدلا، فيكون هذا العطف بمنزلة التذييل بالجواب عن سؤال مقدر في الأذهان: ولم نستعين به جل وعلا؟، وجوابه: لأن الهداية والإضلال بيده، فـ: "َمنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ"، فذلك من عطف السبب على مسبَّبِه، وعطف ذلك على الاستعانة التي تتعلق بالمشيئة أو الإرادة الكونية النافذة مما يلائم السياق فكلٌ مئنة من وصف جماله وجلاله عز وجل فالاستعانة لا تكون إلا بقدير حكيم، يعين بقدرته فذلك وصف الجلال، ويدبر بحكمته فذلك وصف الجمال، والهداية والإضلال لا تكون إلا لقدير حكيم، يهدي ويضل بقدرته، ولا يكون ذلك إلا لحكمة بالغة.
ثم ذيل بالشهادتين: فبعد الثناء بأوصاف الربوبية: جاء التذييل بلازم ذلك من العبودية، وأول واجباتها بل الشرط الذي لا تصح إلا به، وهو إفراده جل وعلا بالإلهية والشهادة لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالرسالة، فالأول: توحيد المرسِل، والثاني: توحيد المرسَل.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 11 - 2009, 01:44 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفى صحيحه، (أي: صحيح مسلم)، أيضاً عن زيد بن أرقم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللَّهُمَ آت نَفْسِى تَقْوَاهَا، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا) ". اهـ
فآتها تقواها بإرشادها إلى أسباب الهداية، فتلك الهداية العامة، هداية إلهام التقوى في: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وقد تحمل على الهداية الخاصة لقرينة ذكر الفجور فتكون من الحكم الكوني على المتقي بالتقوى فضلا وعلى الفاجر بالفجور عدلا، وبتيسير أسباب الاستقامة والثبات عليها فتلك الهداية الخاصة، ففيه توسل بوصف الربوبية إلى لازمها من التأله له بمباشرة أسباب التقوى، فيسر لي أسباب الهدى، ويسر لي مباشرتها بإرادة لا تخرج عن خلقك، فإن شئت خُلقت في فضلا، وإن شئت عُدمت في عدلا، وفعل هو، أيضا، من خلقك، فمباشرة الأسباب: ألوهية والإقدار على ذلك: ربوبية.
وَزَكِّها: فليس الذكاء بمنج صاحبه حتى يتوج بالزكاء، والعقل وإن أدرك مجملات التوحيد، والتحسين والتقبيح ............ إلخ، إلا أنه عاجز عن تقريرها على حد التفصيل الذي لا يتلقى إلا من النبوات التي تزكي العقول بنورها، فلا تعارض صريح قياسها، بل تستوزره نصرة لمقرراتها، فالعقل الصريح وزير النقل الصحيح، يقيم من الحجج والبراهين على صحة ولايته ما يرسخ سلطانه على الأديان والأبدان، فلا تتلقى أحكام الأديان إلا من النقل، ولا يحكم على بدن بإبقاء أو إفناء إلا بحكم الشرع، فالأصل في الدماء: الحرمة، إلا ما نص الشارع على إهداره وفي التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، و: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
والتقوى تنصرف ابتداء إلى الكف متعلق وصف الجلال، إذ لا يترك العبد مكروهات الرب، جل وعلا، إلا إذا استحضر أوصاف الجلال فمنها يرهب.
والتزكية تنصرف ابتداء إلى الفعل متعلق وصف الجمال، إذ لا يفعل العبد محبوبات الرب، جل وعلا، إلا إذا استحضر أوصاف الجمال ففيها يرغب. فاستوفى السياق أحوال العبد كلها: الوجودية فعلا، والعدمية تركا.
وعلة ذلك: أنت وليها ومولاها: فلك عليها الولاية الكونية العامة، ولك منها الولاية الشرعية الخاصة، والقصر ادعائي إمعانا في تقرير الولاية الربانية، إذ قد ثبتت الولاية لغيره جل وعلا، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، وقد يقال بأنه حقيقي إذ لا تكون الولاية إلا له أو فيه، فلا تنفك ولاية الأنبياء والصديقين عن ولاية له، بل هي الباعثة على ذلك ابتداء، فإن العبد الكامل لا يعقد ولاءه وبراءه إلا تقريرا لذلك المعنى فيوالي في الله حبا، ويبرء فيه بغضا.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 11 - 2009, 01:02 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفى صحيحه أيضاً عن علي، رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى دعاءِ الاستفتاح: (اللهم اهْدِنِى لأحْسَنِ الأَخلاق، لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَ الأَخْلاقِ، لا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئهَا إِلا أَنْتَ) ". اهـ
ص101.
فذلك من علو همته صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يسأل ربه، عز وجل، إلا أرفع المنازل، فيسأله من الجنة فردوسها، ومن الأخلاق أحاسنها، والسياق على ما تقدم مرارا من المقابلة بين المتضادات استيفاء لأجزاء القسمة العقلية مئنة من كمال الربوبية، وكمال افتقار العبد إلى ربه، عز وجل، جلبا للنافع، أو دفعا للضار ابتداء أو رفعا له إن وقع فيستعين بالسبب المشروع على رفع المقدر المكتوب على حد التعليق فذلك مما يدفع، فتكون عاقبة أمره: تأويل المقدر المكتوب في اللوح المحفوظ على حد الجزم فلا يتغير ولا يتبدل.
فـ: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق": هداية خاصة، تزيد على ما تقرر مرارا، من هداية الإرشاد، وإن كانت في حد ذاتها نعمة تستحق الشكر، فكم من نفوس رغبت في الهداية فحجبت عنها أسبابها، أو خفيت عنها أعلامها، مع كمال الآلة العقلية والبدنية، فاقتضت الحكمة الربانية ذلك، ولو لم يكن في ذلك إلا ظهور آثار ربوبيته في عباده: هداية وإضلالا لكفى الناظر المتدبر، فيحمله ذلك، إن كان من أهل الديانة أن يجتهد في تحصيل أسباب الشرع مستعينا بأسباب الكون، ويحمله، إن كان من أهل الغواية أن يتوب ويرجع إلى جادة الفطرة التوحيدية والشريعة الإيمانية، فالعبد متقلب في مراضي الرب، عز وجل، ومساخطه، بمقتضى قدرته الكونية النافذة وحكمته الربانية الباهرة، فـ: "يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا"، كما نص الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته.
فَحَسَنُ الأخلاق قد جرى فيه قدر الرب، جل وعلا، فضلا، فأعطي من أسباب الخير ما يطمعه في وعد الرب، عز وجل، متعلق وصف جماله، وسيئ الأخلاق قد جرى فيه قدر الرب، جل وعلا، عدلا، فجبل على أسباب من الشر تجعله أهلا لوعيد الرب، جل وعلا، متعلق وصف جلاله، وتلك أصول مطردة في كل نصوص الوعد والوعيد:
فالأسباب كلها منه ايتداء، فهو خالقها، والعبد فاعلها.
وهي على ضربين:
أسباب خير من فضله، يصير مباشرها محلا قابلا للوعد متعلق وصف جمال الرب، جل وعلا، فذلك خبر عن حاله إنشاء للحض على سلوك طريقته.
و: أسباب شر تجري بمقتضى عدله، يصير مباشرها محلا قابلا للوعيد متعلق وصف جلال الرب، جل وعلا، إن كان فيها ما ينقض التكليف، فذلك خبر عن حاله إنشاء للحض على اجتناب طريقته.
والتذييل في كلا الشقين جاء بأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء، فضلا عن كونه مفصولا عن سابقه لشبه كمال الاتصال بينهما إذ قد نزل منزلة العلة لما قبله، أو الجواب عن سؤال مقدر حذف لدلالة السياق عليه: فما علة طلب الهداية من الله، عز وجل، فجاء الجواب: "لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ"، وهو من جهة أخرى: توسل بوصف الربوبية ذيل به دعاء الألوهية، فإن طالب الأخلاق الحسنة لا يطلبها إلا تألها، فناسب ذلك أن يتزلف إلى ربه، على طريقة: ليس لي رب سواك، فلا يقدر أحد على إجابة دعائي وتزكية أخلاقي إلا أنت، إذ ذلك شأن قلبي، لا سلطان فيه لإنسي أو جني، بل القلب قد علق بين أصبعيك، فإن شئت أقمته فضلا وإن شئت أزغته عدلا، فذلك جار على ما اطرد مرارا من التذييل بالربويبة على الألوهية: تذييل علة على معلولها، أو العكس، والغالب الأول، إذ يرد الأمر بالتأله، فتتشوف النفس إلى معرفة علته، فيجيء الجواب بوصف الربوبية المستلزم لكمال إفراده، عز وجل، بالألوهية.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي الترمذي والمسند، (وهو مسند أحمد رحمه الله)، من حديث عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم علم أباه هذا الدعاء: (اللُّهُمَّ أَلْهِمْنِى رُشْدِى، وَقِنِى شرّ نَفْسِي) ". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فألهمني رشدي: ليصير المحل قابلا لوعدك، فيتحقق في أثر وصف جمالك في الدنيا والآخرة، والإلهام مسبوق بالدلالة بداهة فهو متضمن لها وزبادة فاستغنى بذكر الغاية عن ذكر الوسيلة توصلا إلى المراد مباشرة، فذلك من جوامع كلمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ تلك الكلمات، عند التحقيق، مستودع أسباب الخير جميعها، فالرشد نقيض الضلال والغي، كما ذكر صاحب اللسان، رحمه الله، فهو مادة الصلاح تصورا وحكما، ورشد كل شيء بحسبه، كما يقول الفقهاء فالرشد في ولاية المال غير الرشد في ولاية النكاح ...... إلخ. ولا يكون رشد إلا في قيد التكليف الذي تنفر منه النفوس بحكم الجبلة، فلا تطيقه إلا نفوس مطمئنة بالعلم بالمآلات والعمل بأحكام النبوات.
قال صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله:
"والرشد الصلاح وفعل النافع، والمراد به: الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة.
والغي: الفساد والضلال، وهو ضد الرشد بهذا المعنى، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المآل، فالمعنى، (أي: معنى قوله تعالى: "وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا"): إن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به. لغلبة الهوى على قلوبهم، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى، فالعمل به حمل للنفس على كلفة، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مَرغوبها، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء، بخلاف الغي، فإنه ما ظهر في العالم إلاّ من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزيَن لها الظاهر العاجل، وتجهل عواقب السوء الآجلة، كما جاء في الحديث: {حفّت الجنة بالمكاره وُحفّت النار بالشهوات} ". اهـ بتصرف
وقني شر نفسي: تأدبا مع الله، عز وجل، في نسبة الشر إلى النفس وصفا، وإن كان من الله، عز وجل، خلقا، فالشر ليس إليك مرادا شرعيا، فلا تأمر بفحشاء، وإن كان إليك مرادا كونيا، فتقدر الشر على من شئت من عبادك بمقتضى مشيئتك النافذة وحكمتك الباهرة، فذلك متعلق عدلك، وتعافي من شئنت منها فذلك متعلق فضلك، فأنت أعلم حيث تجعل الهداية، وأعلم حيث تخلق الغواية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 11 - 2009, 03:35 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وروى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن عبد الله بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب بالجابية خطيباً فقال فى خطبته: "مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هَادِى لَهُ" وعنده الجاثليق، (وهي رتبة من رتب النصارى)، يسمع ما يقول، قال: فنفض ثوبه كهيئة المنكر، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أنَّ الله لا يضل أحداً، قال: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون قال: هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه". اهـ
ص101
فالجاثليق من النصارى، وهم في القدر على طريقة أهل الاعتزال في النفي، وإن شئت الدقة فقل إن المعتزلة هم الذين على طريقتهم في نفي القدر فالسابق لا يحمل عن اللاحق، وإنما الترتيب الزمني يقتضي حمل الخلف عن السلف، وبئس الخلف لبئس السلف فهو توارث للباطل على حد ما نرى في عصرنا من إحياء الجاهليات القديمة والمقالات الكاسدة، وهو الدور الذي لعبه المستشرقون، ولا زال أذنابهم من المستغربين والعلمانيين يلعبونه بنشاط وكفاءة، فيتفنن القوم في سرقة نحاتة أفكار الأولين ونسبتها إلى أنفسهم على حد التحقيق والتدقيق، وليس لدى أصحاب الشبهات جديد بل هي دورات متكررة لأقوال أشبعها أهل العلم ردا، فليس لهم من الذكاء ما يبتكرون به شبهة، بل محض تقليد في الباطل.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقول عمر رضي الله عنه: إعمال لما أهمله ذلك القدري من قدرة الله، عز وجل، فهو كسائر القدرية: أعور عين القدرة صحيح عين الحكمة، فلا يرى إلا جانب الحكمة وفق ما يدركه عقله من صور الحكمة الأرضية المشاهدة، على ما تقدم مرارا، من قياس المشبهة في الأفعال من القدرية النفاة: فعل الرب، جل وعلا، على فعل العبد، فما يحسن من العبد يحسن من الرب، وما يقبح منه يقبح من الرب، جل وعلا، وغالبا ما يكون الفساد في التصورات والإرادات من هذا الباب، بإساءة الظن بالرب، جل وعلا، بقياس فعله، وهو الغني، على فعل عبده، وهو الفقير، فتكون حكمة الرب، جل وعلا، المغيبة من جنس حكمة العباد المشاهدة، وأي إساءة أعظم من ذلك، وما عصي الباري، عز وجل، إلا فرعا عن ذلك، فالمغرور قد أساء الظن بأوصاف جلاله، فاجترأ على حرماته، واليائس القانط قد أساء الظن بأوصاف جماله، فقعد عن سؤاله، وإنما المسدد الموفق من حقق ركني العبودية الاختيارية: المحبة رغبة في آثار أوصاف جماله، والخشية رهبة من آثار أوصاف جلاله.
فالله خلق الجاثليق بقدرته، والله أضله بذات القدرة، ولم يخل الفعل من الحكمة، بل هو عينها، إذ قدر، عز وجل، عدم قبول ذلك المحل لآثار الخير، وذلك فضله يؤتيه من يشاء فلم يمنعه شيئا كان له لتصح له حجة عليه، فقطع مادة الخير عنه، ولو وضعها فيه لكان ذلك على خلاف الحكمة الربانية، فمقتضاها، كما تقرر مرارا، وضع الشيء في موضعه، فللهداية محال تليق بها وللغواية محال تليق بها، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
فـ: خلق الله، عز وجل، الأعيان الظاهرة، وخلق فيها قوى الهم والحرث، وخلق فيها الإرادات الباطنة، ويسر لكل نفس ما يلائمها من أسباب الخير أو الشر، وخلق فيها مباشرة تلك الأسباب وفق ما علمه أزلا وكتبه في علم الغيب عنده، ولما تصر تلك النفس موجودة بعد، فجاء الفعل: تأويلا للمقدور الأزلي في عالم الشهادة الوجودي، فلم يتخلف منه شيء، فالرب، جل وعلا، قد أتقنه بحكمته وخلقه بقدرته.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال: خلق الله الخلق فكانوا فى قبضته، فقال لمن فى يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأُخرى: ادخلوا النار ولا أُبالي، فذهبت إلى يوم القيامة". اهـ
ص101.
وذلك جار على ما تقرر مرارا من كون السعيد في يمينه، والشقي في الأخرى: فرعا عن حكمته فلم يكن الأمر خبط عشواء غير جار على سبيل الحكمة، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا، بل قد علم الله، عز وجل، وقدر أزلا، أن أصحاب اليد اليمنى أهل لطاعته، فيسر لهم أسبابها فضلا، وعلم وقدر أزلا أن أصحاب اليد الأخرى أهل لمعصيته، فيسر لهم أسبابها عدلا، فكلا الطرفين لم يظلم شيئا فبين الفضل والعدل يتقلبون.
يقول الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله، في "السلسلة الصحيحة":
"إن كثيرا من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث - ونحوها أحاديث كثيرة
- تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق بالجنة أو النار، وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ فمن وقع في القبضة اليمنى كان من أهل السعادة، ومن كان من القبضة الأخرى كان من أهل الشقاوة، فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله: (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا قبض قبضة فهي بعلمه وعدله وحكمته، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى، والعكس بالعكس، كيف والله عز وجل يقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون). ثم إن كلا من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم من إيمان يستلزم الجنة، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة، ولولا ذلك
(يُتْبَعُ)
(/)
لكان الثواب والعقاب عبثا، والله منزه عن ذلك". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 11 - 2009, 04:37 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عمر: جاءَ رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر الله؟ فقال: نعم. قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ قال: نعم يا ابن اللخناء ِ، أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أَن يجأَ أَنفك". اهص101، 102.
فإن ذلك الرجل قد سأل سؤالا بدل على عظم جهل أو سوء قصد، فهو من جنس مقالة المشركية المحتجين بالقدر على المعصية، على ما تقدم مرارا من دلالة قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ).
فقد قدره الله، عز وجل، على حد التقدير والخلق لا الجبر أو الفعل، فقدره عليه على حد العلم التقديري الأول فبه علم الله، عز وجل، ملائمة المحل لتلك الفاحشة فابتلاه بها عدلا، إذ الحكمة قد اقتضت وضع تلك الرزية في ذلك الموضع، كما توضع القاذورات والمخلفات في أماكن تجميعها، فلو وضعت في أماكن شريفة، لعد ذلك سفها، ولو وضع الجوهر الثمين في محل القذر لعد ذلك، أيضا، سفها، والرب، جل وعلا، منزه عن ذلك بداهة بل له الحكمة البالغة فيضع رسالته حيث علم المحل الملائم، وبضع الهداية حيث علم المحل الملائم، ويضع الغواية حيث علم المحل الملائم ............. إلخ، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فكل مخلوق له قد خلق لحكمة جليلة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فخلق الأضداد: دليل عموم الربوبية، وسبب جريان سنة التدافع الكونية التي يظهر فيها من آثار أوصاف الرب، جل وعلا، حكمة وقدرة، جمالا وجلالا، ذاتا وصفات، ما يفوق المفسدة الجزئية من وقوع الشرور الكونية، فالشر فيها لا في مبدعها، عز وجل، بل إن خلقه لها واستعمالها في مواضع بعينها، هو عين الخير الآجل، وإن ظهر للنفس، بادي الرأي، وجه مفسدة عاجل، فتلك الجزئية مهدرة في مقابل تلك الكلية الآجلة، فهي خير محض لا يتوصل إليه إلا بمباشرة سبب فيه من الآلام ما لا ينفك عنه سبب بشري بمقتضى ما أجرى الرب، جل وعلا، عليه كونه من السنن المطردة، فلا تدرك راحة إلا بتعب، ولا تدرك لذة إلا بألم، سواء أكان ذلك في الشرعيات أم في العاديات بل المحرمات، وتأمل همة أهل المعاصي وبذلهم من أوقاتهم وأموالهم وقواهم البدنية والنفسانية طلبا لمعصية اارب، عز وجل، تدرك أن النفس لا قرار لها حتى تنال مرادها، فإن كانت مسددة مؤيدة بعلم النبوات، حصلت اللذة الحقيقية، وإن تألمت في بادئ أمرها، وإن كانت على الضد نالت لذة عاجلة من جنس لذة آكل السم إن وضع له في طعام شهي فيستدرج بلذة المطعم العاجلة ويهلك بمفعول السم الآجل.
ولازم هذا: إبطال الشرائع، بل إبطال القوانين الأرضية، فكل يحتج بالقدر إذا أخطأ، فتكون كل أفعال العباد حسنة إذ هي جارية على وفق قوة قاهرة، إلهية ـ أو حتى طبيعية، على حد زعم ملاحدة الأمم، فالخير كل الخير في متابعتها!، ولو كان في ذلك فساد الفرد في نفسه، وفساد الجماعة باستباحة حرماتها برسم الجبر القاهر، فهو قول ينكره كل عقلاء الأمم، فلا يتصور أن يكون كل شيء في الكون محبوبا، لمجرد أنه مخلوق موجود فإن الحس الظاهر ينكر ذلك، بل حال المحتج بالقدر نفسه دليل على بطلان قوله، فإنه لا بد أن يكره أشياء يتأذى منها البشر لما أودع الله، عز وجل، فيها من قوى الضر، فيكره الأفاعي والعقارب والسباع، وإن أراد الرب، جل وعلا، خلقها، ويكره أن يعتدي عليه أحد ثم يحتج بالقدر، مع أنه يستبيح حرمات غيره بذات الحجة، فيستعملها إذا كانت له، وينكرها إذا كانت عليه، بل إن بعض النفوس تكره أو تأنف من مباحات، فتتركها، كراهة تجشم عناء تناولها، كمن لا يحب طعاما بعينه، ولو كان حلالا بل شهيا، ولكنه قد جبل على النفور منه، وربما كان محبوبا له، ولكنه يمتنع عنه بأمر الطبيب إذ لو طعمه لهلك بدنه، فلا ينفك عن أمر أو نهي ليصح بدنه، فيمتنع عن تناول السم صيانة له، فما باله لا يسير على ذات الطريقة في أمر دينه فيمتنع عن مباشرة المعاصي صيانة له؟!، فيكون أمره مطردا في الشرعيات اطراده في العاديات، فهو آخذ بالأسباب، شاء
(يُتْبَعُ)
(/)
أو أبى، فيباشر من مدافعة الأقدار، وهو لا يشعر أو يشعر وينكر مكابرة، يباشر من مدافعتها ما يقطع بفساد مقالته في كونه مجبورا لا اختيار له.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان وجوب الإيمان بالقدر والشرع معا ليستقيم أمر العبد:
"لَا بُدَّ مِنْ "الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ" فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ؛ وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَاتِ فَإِذَا كَانَ لَهُ إرَادَةٌ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُرِيدُهُ هَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُ أَوْ ضَارٌّ؟ وَهَلْ يُصْلِحُهُ أَوْ يُفْسِدُهُ؟ ". اهـ
وإنما زجره أبو بكر، رضي الله عنه، وأغلظ له بهذا اللفظ، لأن سؤاله مئنة من اللجاج لا الاسترشاد، فهو مبتغ لأمر يفسد به نظام الكون، كما تقدم، فلو كان سائلا للاسترشاد ما استحق الزجر، ولا بد أن للمجلس بساطا يظهر منه حال السائل، فقد ينقل اللفظ إلينا مجردا من القرائن الحالية إذ قد انقضت فلا نراها فيظن الظان أن في الفعل تعديا، وليس فيه تعد عند التحقيق بل هو من الزجر والتعزير فهو من جنس فعل أبي هريرة، رضي الله عنه، لما حصب من سأله: من خلق الله؟!، فلا يتصور أن يرد هذا السؤال على لسان مسترشد طالب للحق.
فأنواع السائلين:
مسترشد، ومعتقد، ومعاند.
فالمسترشد: طالب للحق ابتداء، والمعتقد: مخلص يرجى استصلاحه، والمعاند: ضال مضل يرجى بجداله بيان حاله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن فمن كان ظالما مستحقا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم سواء كان قصده الاسترشاد أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقا ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاء له بموجب عمله". اهـ
"الجواب الصحيح"، (1/ 136).
ويقول ابن القيم، رحمه الله، في "زاد المعاد" في معرض تخريج قول أبي بكر، رضي الله عنه، لعروة بن مسعود الثقفي، رضي الله عنه، وكان يومئذ على الشرك إذ أغلظ له القول في صلح الحديبية:
"وَفِي قَوْلِ الصّدّيقِ لِعُرْوَةَ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّات دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الْحَالُ كَمَا أَذِنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُصَرّحَ لِمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ بِهُنّ أَبِيهِ وَيُقَالُ لَهُ اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك وَلَا يُكَنّى لَهُ فَلِكُلّ مَقَامٍ مَقَالٌ". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 11 - 2009, 08:16 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وذكر عن علي رضى الله عنه أَنه ذكر عنده القدر يوماً فأَدخل إصبعيه السبابة والوسطى فى فيه فرقم بهما باطن يده فقال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا فى أُم الكتاب". اهـ
فكان فعله، رضي الله عنه، ترجمة عملية لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في هذا الفعل اليسير، إذ كان تأويلا لما سطر في اللوح المحفوظ، وما علمه الرب، عز وجل، أزلا، من الأفعال عموما، والاختيارية خصوصا، فهي محل الشبهة عند كثير ممن خاض في القدر، فتلك المرتبان الأوليان من مراتب القدر، ثم جاءت مشيئته، عز وجل، أن يدخل علي، رضي الله عنه، إصبعيه في فيه ليرقم بهما باطن يده، في تلك اللحظة بعينها، فلا تتقدم ولا تتأخر عما جرى به القلم الأول، ثم جاء خلقه لها، عز وجل، فخلق في علي، رضي الله عنه، إرادة الفعل، وطاقته، وصحح له آلته، ثم خلق الفعل فيه على حد ما قدر فلم يتخلف من مقدوره شيء، بل قد جاء الفعل، كما تقدم، تأويلا يطابق ما قد كان عدما في الغيب فصار وجودا في الشهادة. فهذا تقدير الرب، جل وعلا، وفعله.
وأما فعل العبد فقد أبان عنه بساط المجلس إذ أراد علي، رضي الله عنه، أن يزيل شبهة أهل الجبر ففعله كان على حد الاختيار بإرادته المخلوقة فلم يجبره القدر على أن يدخل إصبعيه في فمه!، فذلك أمر ينكره الحس قبل الشرع والعقل، وأراد أن يزيل شبهة نفاة القدر إذ فعله قد جاء تأويلا لمقدور سابق فلم يكن استئنافا لأمر لم يعلمه الرب، جل وعلا، ويقدره سلفا، فجمع، رضي الله عنه، ما في قول كل طائفة من الحق، فقدرته، عز وجل، قاضية بوقوع الفعل لا محالة، وحكمته قاضية بوقوعه باختيار فاعله لتقام عليه الحجة من نفسه، وهو مع ذلك لا يكون إلا كما قدر من الأزل، ولو كان معصية أو فحشا، فيقع حينئذ بمقتضى الإرادة الكونية النافذة استجلابا لمصلحة أعظم، أو استدفاعا لمفسدة أعظم، وذلك وجه آخر من أوجه حكمته عز وجل غير ما تقدم من إقامة الحجة بوقوع الفعل على حد الاختيار لا الإجبار الذي يلزم من أثبته إبطال التكليف وتسفيه الأنبياء عليهم السلام إذ جاءوا بالأمر والنهي المتعلقان باختيار العباد وهم مجبورون ابتداء لا اختيار لهم!.
وكلام السلف، رضي الله عنهم ورحمهم، قليل ولكنه: كثير النفع والبركة، وأمثلتهم العلمية بسيطة، ولكنها مفهمة لا إلغاز فيها ولا تكلف.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 11 - 2009, 08:14 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن مسعود: لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد فى يدى أحب إلي من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن". اهـ
ص102.
فليست دلالة أفعل التفضيل معتبرة في سياق كهذا، بل هي من باب المبالغة على حد:
قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا).
يقول ابن حزم رحمه الله:
"وقوله تعالى: (آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) فصح أن الله تعالى خير من الأوثان ولا شيء من الخير في الأوثان.
وقال تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) ولا خير في جهنم أصلا". اهـ
وقال في موضع آخر:
"قال الله تعالى: (آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) ولا خير أصلا فيما يشركون، وقال تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) وليس في القرار في النار خير أصلا ولا فيها من حسن المقيل لا كثير ولا قليل نعوذ بالله منها". اهـ
وقول نساء قريش لعمر رضي الله عنه: (نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
فلم يقصدن أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فظ غليظ، وعمر، رضي الله عنه، أفظ وأغلظ منه، وإنما أردن التوكيد على شدة عمر، رضي الله عنه، فـ: "أفظ وأغلظ" في هذا السياق بمعنى: فظ غليظ.
وقول شعبة رحمه الله: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس ولأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أدلس".
فذلك منه مبالغة في استقباح التدليس لا مئنة من تحسين أو استحلال الزنى أو شرب بول الحمير فلا رجحان فيهما من أي وجه!، مع كون التدليس، غير محرم، عند المحققين، إذ لا يعدو كونه إيهام سماع، والمذموم هو: ادعاء السماع، وهو الذي اصطلح على تسميته بـ: "سرقة الحديث".
(يُتْبَعُ)
(/)
وقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ******* بيتا دعائمه أعز وأطول
فمعنى قوله: أعز وأطول: عزيز وطويل.
وقال أرطأة بن المنذر رحمه الله: "لأن يكون ابني فاسقا من الفساق، أحب إلي من أن يكون صاحب هوى".
وقال أبو إسحاق الفزاري رحمه الله: "لأن أجلس إلى النصارى في بيعهم، أحب إلي من الجلوس في حلقة يتخاصم فيها الناس في دينهم".
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "لأن يصحب ابني فاسقا شاطرا سنيا، أحب إلي من أي صحب عابدا مبتدعا".
وقال أبي إدريس الخولاني رحمه الله: "لأن أرى في المسجد نارا تضطرم، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير".
فليس المقصود حب الخصال الأولى، وإنما المقصود المبالغة في ذم مجالسة أهل البدع والأهواء.
والشاهد أن ابن مسعود، رضي الله عنه، ضرب المثل بذلك، إمعانا في تنفير السامع، ولعله اختار القبض على الجمر لما يحدثه في النفس من ألم ولوعة، تماما كما يجد كل معترض على القدر في نفسه، ولو كان الأمر صغيرا لا يؤبه له، فإن جنس الاعتراض على القضاء والقدر فيما نزل من الأقدار النافذة، مادة توقد بها نيران الحسرات في القلوب كما توقد النيران في الجمر، فتجد النفس التي حوته ما تجد اليد التي حوت الجمر، فالصورة المحسوسة قد استعملت في بيان الصورة المعقولة لتقريب المعنى إلى الأذهان.
ولا يصلح ذلك شاهدا لمقالة الجبرية، لما قد علم من حال الصحابة رضي الله عنهم من استفراغ الوسع وبذل الجهد في تحصيل أسباب الشرع والكون، فليس ذلك استسلاما للقدر على طريقة أهل الجبر في القعود وعدم الأخذ بالأسباب الدافعة والرافعة للنوازل الشرعية والكونية، فيعطل الأمر الشرعي بالاحتجاج بالأمر الكوني، كما تقدم مرارا، وإنما الموفق من توكل على الله، عز وجل، أولا فلم يهمل شق الربوبية: شق: "إياك نستعين": فالتوكل يرجع في حقيقته إلى الاستعانة بالله، عز وجل، فصاحبه قد طلب المدد الرباني من صفات جلال الرب، تبارك وتعالى كقدرته، ليهبه قدرة مخلوقة فيه يباشر بها الأسباب فإنه لا حول ولا قوة له إلا به، ولا حراك لقلبه بأجناس الإرادات النافعة، أو بدنه بأجناس الأعمال الصالحة، لا حراك لهما إلا أن يشاء الله، عز وجل، حراكهما، بل لا تؤدي خلية واحدة في جسده وظائفها الحيوية إلا بكلمة كونية نافذة، فلو توفرت لها كل المواد النافعة بعد هضمها وخلقت فيها كل قوى البناء والهدم ما استطاعت التمثيل الغذائي إلا بإرادة الرب، جل وعلا، ذلك.
وذلك شق كما تقدم مرارا لا دخل للعبد فيه ليشغل نفسه به إذ ليس في مقدوره ليدخل في حد التكليف فعلمه بالمآلات أو كتابته لها أو مشيئته أو خلقه للأفعال، ولو فعله الذي يباشره، أمر غير متصور إلا عند من لم يقدر الرب، جل وعلا، قدره، فنفى علمه، أو مشيئته وخلقه، فجعله عاجزا، وجعل العبد هو القادر على خلق فعله لمجرد أنه قد شرع في مباشرة أسبابه، فخلط بين الفعلين وقد فصل بينهما التنزيل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وقدرة الرب، جل وعلا، في إنفاذ الأقدار، وحكمته في ترتب المسبَّبات على أسبابها أجل من أن يحيط بها عقل الإنسان القاصر الذي ركب ليفهم خطاب الشارع فيمتثله تصديقا لخبره وتأويلا لحكمه إن أمرا فبالفعل، وإن نهيا فبالترك. فالأجدر به أن يلتفت إلى ذلك فلا يهمل شق الألوهية الذي يتعلق به تكليفه: شق: "إياك نعبد": فيبذل السبب، والسبب في يده لا في قلبه، فيبذله والقلب قد تعلق بخالقه ومجريه على ما اقتضته سننه الكونية المحكمة، فلا يعلق قلبه بالسبب المخلوق، فإن من تعلق بشيء وكل إليه، وكم تعلق بشر ببشر برسم المحبة فكانوا لهم أرقاء وإن كان ظاهرهم السيادة والرياسة، وكم تعلق بشر ببشر فكان مستند كثير منهم في أي نازلة: قرابته لفلان أو فلان من المتنفذين ولو كان من أكابر المجرمين أو المترفين الذين فسقوا في قرى المسلمين فلم يسلم من شؤم معاصيهم صالح أو طالح، فهو عام لا مخصص له على رسم: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ".
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 11 - 2009, 09:19 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وذكر عنه، (أي: عن علي رضي الله عنه)، أيضاً أَنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أَخطأَه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله". اهـ
ص102.
فلن يخلص الإيمان إلى القلب في هذا الباب الجليل إلا إذا آمن العبد وتيقن يقينا غير ظن، فإن الظن سواء حمل على معناه القرآني الذي يرد غالبا في معرض الذم، باستثناء مواضع من قبيل: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) فإنه محمول على العلم اليقيني، وليس ذلك مراد علي رضي الله عنه في هذا الموضع، أو حمل على المعنى الاصطلاحي الحادث الذي يعني إدراك الطرف الراجح في مقابل الطرف المرجوح فيكون مقابلا للشك، فهو على الاصطلاح القرآني: مرادف للشك إلا في مواضع يراد به فيها العلم كما تقدم، وعلى الاصطلاح الأصولي الحادث: مقابل للشك الاصطلاحي الذي يراد به إدراك الطرف المرجوح في مقابل الطرف الراجح، وكلاهما لا يصلح به عقد إيمان يقيني في باب كباب القدر الذي هو أحد أركان الإيمان، فلا بد من التصديق والإقرار الجازم ولا ينفك هذا الإقرار عن أثر إيماني عملي يظهر في أعمال القلوب من صبر فهو أدنى الدرجات عند وقوع النوازل، ومن وفق إليه فقد وفق إلى خير عظيم فليحمد الله أن ألهمه الصبر فلم يجزع أو يتسخط عند وقوع النازلة بل حبس نفسه عما يغضب الرب، جل وعلا، بلسان مقاله أو حاله، فلا يعارض ذلك ما يجده الإنسان من الحزن عند وقوع النازلة فإن ذلك شعور إنساني جبلي لا ينفك عنه أي إنسان حساس متحرك، فالأمر المفرح يفرحه فيحس بخفة ونشاط، والأمر المحزن يحزنه فيحس بثقل وكسل، ولا يلام العبد على ما يرد عليه من ذلك بمقتضى الجبلة الأولى، فهو أمر كالغضب، يرد على الخاطر ورودا قهريا لا يستطيع المكلف رده، وما كان كذلك فلا يؤمر العبد بمنعه ابتداء، فهو بمنزلة من أمر بمنع الموت أو أي عارض كوني قهري نزل به، وذلك محال لا يَرِد التكليف به في الشريعة الحنيفية السمحة، وإنما يؤمر العبد بمدافعته إذا نزل فيحبس قلبه عن التسخط ولسانه عن النطق بما يغضب الرب، جل وعلا، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، والله يا إبراهيم، إنا بك لمحزونون"، وجوارحه عن اقتراف ما يغضبه جل وعلا من شق ثوب أو لطم رأس أو وجه أو حلق شعر .......... إلخ، فالبكاء باب والنياحة باب آخر، وهو مع ذلك مأمور بأن يستدفع ذلك العارض ببذل الأسباب الرافعة له، فما سبق من باب امتصاص الصدمة الأولى، إن صح التعبير، فيأتي بعدها تلقائيا محاولة رد العدوان وإزالة آثاره ببذل أسباب ذلك، فالمغضب يتحول عن مكانه، أو يغير هيئته من وقوف إلى جلوس، أو اضطجاع إن كان جالسا، ويتوضأ ليطفئ حرارة الغضب، ويذكر الرب، جل وعلا، حتى يزول الوسواس الآمر بالتمادي طلبا لزلة المغضب، ومن منا يفعل ذلك إذا أغضبه أحد؟!، ولا يمنع عدم الامتثال من تكرار التذكير توكيدا، فهو من إدمان طرق الباب لعل الله عز وجل أن يفتح لنا بابا من طاعته فيطفئ جذوة غضبنا عند اشتعالها، ويصبرنا عند ورود النازلة الكونية التي لا حيلة لنا في ردها، ويعيننا على بذل الأسباب الشرعية والكونية لرفعها إن كان لذلك سبيل والمسدد من سدده الله، عز وجل، والمثبت من ثبته، ولا يكون ذلك إلا بمباشرة أسباب السداد والتثبيت فإن الرب، جل وعلا، قد أقام كونه وشرعه على نواميس محكمة فلا ينال مطلوب شرعي أو كوني إلا ببذل سببه، فالأمر كما تقدم مرارا: إرادة رب خالقة، وإرادة عبد فاعلة، فلا يشغل العبد نفسه إلا بما يقدر عليه فإنه لا يقدر على رد النوازل إذ هي من قدر الرب جل وعلا الكوني النافذ فلا راد له، ولكنه يقدر على مباشرة ما أمر به مما يطيقه من التكليف الذي لا يكون إلا بممكن يقدر على إيقاعه فذلك من رحمة الرب الرحيم الكريم جل وعلا: رافع الآصار، فيباشر ما يقدر عليه من حبس النفس عن التسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن أفعال الجاهلية الأولى، فأثر الإيمان، كما تقدم، لا بد أن يعم القلب واللسان والبدن، فلا يوجد إيمان مجرد عن تكليف عملي، ولا يوجد مؤمن بالقدر قد صدق به، ثم هو قد نقض بحاله القلبي واللساني والبدني
(يُتْبَعُ)
(/)
: إقرارَه، فتلك معرفة لا إقرار جازم، إذ لو كان جازما فلا بد أن يتولد عنه أثر ظاهر، وذلك أمر معلوم بالحس والفطرة قبل النقل والعقل، فهو من العلم الضروري الذي يحسه كل منا في نفسه فلا يفتقر إلى استدلال نقلي أو نظر عقلي.
وبعد أن خص، رضي الله عنه، بقوله: "أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أَخطأَه لم يكن ليصيبه "، عم بقوله: "ويقر بالقدر كله"، فالقدر أعم من النازلة الكونية الخاصة فمنه مراتب يلزم العبد أن يؤمن بها إجمالا، ومنه قدرشرعي يلزم العبد امتثاله فليس كله كونيا متعلقا بفعل الرب، جل وعلا، بل منه الشرعي الذي يتعلق بفعل العبد، بل لا تنفك نازلة كونية خيرا كانت أو شرا عن تكليف شرعي، فللفرح أحكامه من شكر وحمد، وللحزن أحكامه من صبر ورضا إن كان العبد من أصحاب المراتب العالية فجاوز قنطرة الصبر إلى ضفة الرضا، بل لكل عارض كوني جبلي من جوع وعطش وحاجة إنسان ونوم .......... إلخ حكم شرعي فإن العبد لا يستطيع أن يحيى بلا شرع في نفسه يضبط به عاداته الجبلية بما يتواءم مع صريح المعقول وسوي المفطور، فذلك مما أجمع عقلاء الأمم على جملته، وإن اختلفوا في تفصيله، فقد أجمعوا، على سبيل المثال، إلا من فسدت فطرته على حسن الستر وقبح العري، فذلك أمر مجمل يتفاوتون في تقديره تبعا لما يضبط حياتهم من النواميس فمن كان ناموسه إلهيا، فهو آكد تلك النواميس ملائمة للفطرة الكاملة، فحاله من الستر أكمل حال إذ قد صادفت الفطرة الأولى التي تستقبح العري: وحيا إلهيا يزكيها فجاء فعل المكلف في نفسه أجمل فعل إذ لا أحسن ولا أكمل من الفعل الجاري على سنن الشرع الحاكم، ومن كان ناموسه أرضيا أو عرفيا بحكم المجتمع الذي يعيش فيه فإنه لا ينفك إن كان من جملة الآدميين!، عن استقباح للعري واستدفاع له بالتستر، ولكن تستره أنقص إذ ناموسه ليس على ذات القدر من كمال الناموس الإلهي، فالمرأة في المجتمعات الأقل تدينا تستبيح كشف ما لا تستبيحه المرأة في المجتمعات المتدينة، وبقدر القرب من الدين الصحيح يكون التستر وبقدر البعد عنه يكون التعري، حتى نصل إلى طرفين متقابلين: تستر إنساني كامل على منهاج النبوة، فهو أثر من آثار بركتها الظاهرة على الأبدان وذلك حال المجتعمات التي تقيم شرع الرب، جل وعلا عموما، والأفراد الذين يقيمون شرع الرب جل وعلا في أنفسهم وفيمن ولوا عليه من الزوجات والبنات والأخوات إن كان له عليهن ولاية بغياب الأب أو وفاته، فهذا طرف، وفي مقابله: تعري حيواني كامل على منهاج البهائم وإن كان صاحبه معدودا في جملة الآدميين من الناحية التشريحية!، وذلك أمر مشاهد في المجتمعات البدائية أو على شواطئ العراة التي يرتادها أبناء حضارات تزعم أن لها الريادة الإنسانية في العصر الحاضر لمجرد تحصيلها طرفا من المدنية والتكنولوجيا الحديثة وهي مع ذلك لو أنصفت مدينة بالفضل في ذلك لأصحاب الحضارة الإنسانية المتكاملة: دينا ودنيا، وهم المسلمون أيام عزهم بتمسكهم بالوحي المنزل لا المسلمون في الأعصار المتأخرة والحالية، والشاهد أنه كلما قوي الدين وظهرت أعلام النبوة في أرض زادت معالم الإنسانية فيها، وكلما ضعف وخفيت أعلام النبوة زادت معالم البدائية بل الحيوانية فيها فالدين قرين الإنسانية المتحضرة، والإلحاد قرين الهمجية المتخلفة، لا كما يزعم الملاحدة والعلمانيون بأن التدين مظهر من مظاهر التخلف والرجعية فهو، بزعمهم أدنى درجات السلم الإنساني.
وبين هذين الطرفين ما لا يحصيه إلا الله، عز وجل، من المراتب كمالا إذا اتجهنا إلى أعلى حيث ثم نبوة، ونقصانا إلى أسفل حيث ثم لا نبوة، وقس على ذلك كل سلوك إنساني، وذلك دليل فطري آخر من أدلة زيادة الإيمان كمالا بالاقتراب من النبوات ونقصانا بالبعد عنها.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 11 - 2009, 09:03 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"وقال الأعمش عن [خيثمة، (أبو نصر، كما ذكر محقق النسخة التي أنقل منها وقد نقل أيضا تليين الحافظ، رحمه الله، في "التقريب") عن] ابن مسعود: إنَّ العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر الله إليه من فوق سبع سمواتٍ فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار. قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دهيت؟ أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله [عز وجل] ". اهـ
فالله، عز وجل، أعلم بحال العبد، فإنه يبذل أسباب دين أو دنيا، وهو يظن أن نجاته فيها، فيصرفه الله، عز وجل، عنها، لأن عطبه فيها، فكم طلب العلم أناس لم يحرروا نواياهم فكان طلبهم لسبب النجاة هلكة لهم، لا لأن السبب في نفسه فاسد، ولكن لأن المحل غير قابل، وكذلك سبب الدنيا، ففيه الأمر أظهر، فإن النفوس غالبا ما تبذل في سبيل تحصيل أسباب الدنيا من علم نافع في أصله، فيصير بالانكباب عليه وجعله غاية لتحصيل عرض الدنيا سبب هلاك مع كونه، أيضا، في نفسه صالحا، ولكن المحل لم يتحل بالإخلاص الواجب الذي يصير كل عمل عبادة، ففسد حاله من حيث أراد صلاحه، وانظر إلى رجل سياسة بذل ما بذل ليعتلي العرش ثم هو يوم القيامة: في دركات مع أنهم رام درجات، ولكنه أتي من قبل جهله، ففساد قوته العلمية قد ضيع عليه دنياه فلم يهنأ برياسته وإن كان ظاهره العظمة وأبهة الملك، وانظر إلى أبي مسلم الخراساني وقد قتل 600000مسلم ليصل إلى غايته من الملك والرياسة، فسلط الله، عز وجل، عليه داهية بني العباس أبا جعفر المنصور فسفك دمه وبدد أمله الذي سفك ما سفك من الدم الحرام ليبلغه، وانظر إلى أبي عبد الله الشيعي: داهية العبيديين الذي أقام للمهدي العبيدي ملكه، فكان جزاؤه أيضا: أن سفك دمه، وانظر إلى من آتاه الله، عز وجل، طرفا من آياته فـ: (مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وذلك وإن كان خاصا باعتبار سبب نزوله إلا أنه عام باعتبار لفظه ومعناه، ولذلك عمم بعدها بقوله: (سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ)، كما أشار إلى ذلك البغوي، رحمه الله، فقد بذل سبب الدين طلبا للدنيا، وذلك عين السفه، إذ قد وضع الشيء في غير موضعه، فإن الدين لا يبذل سببه إلا طلبا للنجاة في دار الجزاء لا تحصيلا لعرض في دار الفناء، ولا يمنع ذلك من حصول عرض الدنيا: تبعا لا أصلا، فكم من العلماء قد جمع الله، عز وجل، لهم بين الدين والدنيا، فكانوا أتقياء أثرياء فهم من الصنف الأول في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف والنسائي وابن أبي زيد القيرواني وغيرهم كثير خير شاهد على ذلك.
وقصة فالوذج هارون الرشيد وأبي يوسف، رحمهما الله، خير شاهد على ذلك، كما أوردها صاحب "تاريخ بغداد"، رحمه الله، وفيها قول أبي يوسف:
"توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي فأسلمتني إلى قصار أخدمه فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار وكان أبو حنيفة يعني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك! هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء هذا هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك!. ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتي تقلدت القضاء وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون فالوذجه فقال لي هارون: يا يعقوب كل منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق فضحكت فقال لي: مم ضحكت؟ فقلت: خيراً أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني - وألح علي - فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا وترحم على
(يُتْبَعُ)
(/)
أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه". اهـ
وأبو حنيفة، رحمه الله، هو: أبو حنيفة!، رجل أحست استثمار ماله في مشاريع علمية من عيار أبي يوسف فذهب إلى ربه مرضيا، ولا نزكيه على ربه، وبقيت آثاره وآثار استثماره في البرية إلى يوم الناس هذا وإلى ما شاء جل وعلا.
فصدقت فراسة الإمام الأعظم، رحمه الله، في تلميذه الأقرب والأعلم، فهو المجتهد المطلق وإن نسب إلى الأصل الطيب الذي خرج منه، فنسبته نسبة المجتهد المطلق إلى إمامه، صدقت فراسه أبي حنيفة في أبي يوسف، فنال من الدنيا حظا وافرا، وهو مع ذلك من أهل الديانة الوافرة، وليس ذلك إلا في عصر يكون الخليفة فيه هارون، فاليوم لا هارون يحكم ولا أبا يوسف يقضي، فاعتزال السلاطين عصمة في الدنيا والدين، فحالهم قُلَّب، يرضون فيرفعون الرءوس، ويسخطون فيطيرونها، فهدا فساد دنيا من صحبهم وأمن غدرهم، وكثير منهم لصوص متنكرون يرومون سرقة دين العلماء بما يزينون لهم من المناصب والرياسات، فهذا فسادههم في الدين، فمن يأمن على نفسه مجالسة قوم هذا نعتهم بل هو وصفهم اللازم فلا ينفك عنهم إلا من رحم الرب، جل وعلا، وقليل ما هم!.
ولا يعني ذلك القعود عن تحصيل الأسباب كما يسول الشيطان لمن بذل سبب صلاح في دين أو دنيا، ليترك ما هو فيه من خير فيوسوس له بحبوط عمله، وما أدراه أن الله، عز وجل، سيحبط عمله، أطلع الغيب؟!، فليس له إلا أن يبذل السبب ويحسن الظن بربه، عز وجل، فإن الحجة لا تصير صحيحة إلا إذا كانت معلومة، فكيف يحتج مدع بما لا يعلمه؟!، ولو فعل ذلك أمام قاض من قضاة الدنيا لرد شهادته، بل ربما اتهمه في عقله إذ لا يدري ما يقول أصحيح هو أم باطل؟!، أكائن هو أم غير كائن، ولك أن تفرض: رجلا ادعى على رجل أنه سيقتله غدا فلا بد من القصاص منه اليوم على عمل لم يرتكبه بعد، فهذا حكم قاطع عليه بما لم تقترفه يده بعد!، فكذلك من حكم على عمله بالحبوط، فأساء الظن بربه، عز وجل، فهو يصدر حكما جازما على عمله، ولما يعمل بعد، فيتركه قبل أن يشرع فيه لتيقنه من حبوطه!، وليته أحسن الظن بربه، عز وجل، فتوكل عليه ابتداء على حد الاستعانة، ثم شرع في السبب على حد العبادة، فذلك حال المسددين ممن ثبت الله، عز وجل، أقدامهم على طريق الهداية.
والمصروف عن سبب هلاكه لا يدرك عظم المنة الربانية والعناية الإلهية التي استنقذته من تلك البلية، فتراه يتسخط على ما فاته، وما هو إلا فضل الله، عز وجل، أن صرف عنه سبب عطبه!، ثم لا يلبث أن يدرك بعد حين أن الله، عز وجل، قد صنع له سبب نجاة، ولكن بعد فوات الأوان، إذ قد حرم أجر المصيبة حال وقوعها، وإن لم يعدم منها خيرا لاحقا، وكم صبر من ابتلي بفقد حبيب، فكان بعد فقده خيرا من ذي قبل، بل كان ضالا فهداه الله، عز وجل، إذ ذكره بلقائه، فمضى الحبيب إلى ربه مرحوما، وبقي الصابر المتنبه من غفلته بما نزل به من بلية نادما على ما فات محسنا فيما هو آت، وصبر ساعة المصيبة: عز الدنيا والآخرة، ولكن من يقدر عليه فيحسن الظن بربه، عز وجل، في ساعة حالكة فتشرق في سماء قلبه شمس اليقين والرضا، فيبدله الله، عز وجل، من ألمه، راحة أبدية في دار السعادة الأبدية، فحده التأبيد: زمانا ومكانا، فلا يتحول عن دار المقامة، ولا ينقطع عنه مددها، فضلا عن عطاء الصبر العاجل، فحلاوته قد ذاقها من أيده الله، عز وجل، بالصبر حال الابتلاء.
وقد وقع لي طرف من ذلك في بداية دراستي الجامعية من نحو 13 سنة، فكان السخط آنذاك شعاري ودثاري لحداثة العمر وضحالة العلم وفساد العمل ثم مضت سنون ظهر لي بعد فوات أجر الصبر والاحتساب أن الخيرة فيما اختاره الله، عز وجل، بقدره الكوني النافذ، وهو أمر شائع في جيلنا إذ فساد التصور بجعل الأسباب غايات هو الذي أوقع كثيرا منا في التبرم والسخط فإن لم يحصل المراد ذهبت بنا الظنون بالباري، عز وجل، كل مذهب، وما ذاك، كما تقدم، إلا لضعف القوة العلمية وفساد القوة العملية، والله، عز وجل، يتجاوز عن الزلات، ويعفو عن السيئات، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وما ظنك برب ينظر من فوق سماواته في أمر عبد بعينه ليصرف أمره على ما فيه نجاته فيصنع له، ولو علمها أحدنا من ملك أو أمير، لطار قلبه فرحا، ثم استقر طمأنينة فحاجته مقضية، فكيف إذا كان الناظر رب البرية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 11 - 2009, 08:37 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضاً شديداً، وأغمي عليه وأفاق فقال: أغمي علي؟ قالوا نعم قال إنه أتانى رجلان غليظان فأخذا بيدى فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بى فتلقاهما رجل فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال: دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعاده وهو فى بطن أمه".
ص102، 103.
فتلك من الرؤى التي يعتضد بها فليست أصلا يحكم به على صاحبه فلولا ورود الخبر قبل ذلك من في المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنجاة عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، إذ هو من العشرة المقدمين في حزب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لولا ورود الخبر بنجاته ما جزم به، وإن كان من أهل العلم من وسع في الأمر فجعل ثناء العدول على المتوفى مئنة من نجاته في نفس الأمر، فهو على أقل تقدير، قرينة ترجح حسن الظن أيما رجحان، ومنهم من ضيق كما أثر عن محمد بن الحنفية، رحمه الله، إذ قصر ذلك على الأنبياء عليهم السلام لوصف العصمة الذي انفردوا به.
وقد اختار الرجلان وصفان للرب عز وجل: العزيز الأمين يجمعان على ما اطرد في سياق مدح الرب، جل وعلا، الجلال فالعزة مئنة منه، والجمال فالأمن مئنة منه، فهو عزيز ينتقم من عصاته فينفذ فيهم عدله، وذلك باعث للخوف في نفوس عباده فيرهبون من ذلك وصفه، فهو شديد العقاب لا يخشى العصاة ظلمه، فـ: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، فلا حاجة له فيهم ولا مطمع له فيما أيديهم، وإنما يخشى العقلاء العلماء عدله، إذ لو نفذ فيهم في دار الابتلاء: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، ولو نفذ فيهم في دار الجزاء ما نجا أحد فـ: "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ"، فلن يقدروا على أداء شكر نعمة واحدة فهم من هذا الوجه مقصرون، وإن بلغوا من الاجتهاد في الطاعة ما بلغوا فليس ذلك دليلا لمن قال بجواز فعل الظلم على الله، عز وجل، بل هو ممتنع عليه لا لعجزه عنه فهو القادر على كل شيء، وإنما لاتصافه بضده من كمال العدل، فالظلم كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: خلاف خبره وخلاف حكمه الذي كتبه على نفسه وخلاف موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلي، فلا تنافي قدرته عليه امتناعه عنه تنزها لا عجزا، فإن مدح القادر على إيقاع الظلم بامتناعه عنه تنزها أبلغ بداهة من مدح العاجز عن ذلك لكونه ممتنعا في ذاته ابتداء.
والأمين: فلا يظلم بل يعفو ويصفح ويزيد عباده الصالحين من فضله، فيحسنون الظن به إذ لا يسيء الظن إلا: من يخاف ظلم الحسيب، أو من أساء العمل فغفل عن معنى اسمه الرقيب، فإن أساء العبد الظن فمن نفسه قد أتي لا من ربه، عز وجل، فإنه لا يقنط عباده، ولا يرضى لهم الكفر شرعا وإن أراده كونا، ولا يحجب عنهم أسباب الهداية لمن طلبها، وإنما يحرمها من ليس أهلا لها ممن سبق في علمه الأزلي التقديري فساد محله، فلا توضع مادة الصلاح الرفيعة في محال فاسدة وضيعة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فحكمته قد اقتضت وقوع سنة التدافع من لدن كفر إبليس فأعلن الحرب على آدم عليه السلام فنظر الرب، جل وعلا، إلى ضعف أبي البشر فسلحه قبل استخلافه بشتى الدروع الشرعية من الكلمات النبوية ليصد تلك الهجمة الشيطانية التي تضعف آثارها في الأزمان الفاضلة، كأزمان بعثة الأنبياء عليهم السلام واستخلاف الصديقين كأبي بكر، رضي الله عنه، والشهداء كالثلاثة: أبي حفص وذي النورين وأبي الحسنين، رضي الله عنهم، فلا ملك ورياسة لإبليس في تلك
(يُتْبَعُ)
(/)
الأزمنة فغايته التحريش والوسوسة، بخلاف أزمنة المتأخرين التي تنازل فيها إبليس عن منصب التعليم لبعض شياطين الإنس فكم من إبليس إنسي قد فاق أستاذه الإبليس الجني!
ولا أثر له في الأماكن الطاهرة، فليست المساجد كالحانات، فهو في الأولى ذليل خانس، وفي الثانية عزيز ظاهر، ولا أثر له في معادن الطهر من قلوب أهل الفضل إلا نكات تزول بالاستغفار تخلية، والتسبيح والتحميد تحلية للمحل بعد تنقيته، فيزول أثر المعصية بها بعد زوال جرمها بالاستغفار، فذلك من كمال تطهير المحال.
وإنما يظهر أثره في قلوب قد صارت حشوشا جمعت فيها قاذورات الشبهات العلمية والشهوات العملية، فالهمم دنية والإرادات باطلة والشواغل تافهة ومن ثم يظهر أثر ذلك على الظاهر: فحشا في الأقوال وفسادا في الأعمال، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن أصلا والظاهر فرعا فلا يجنى العنب من الشوك ولا يلتمس اللؤلؤ في أجواف الخنازير.
فقد سبقت له السعادة في الكتاب الأول، فنسخ ذلك في صحف الملائكة، فكتب الملك الموكل بالرحم ذلك، ثم جاء فعل عبد الرحمن، رضي الله عنه، مقدم الشورى، جاء تأويلا للمعلوم الأزلي والمكتوب في اللوح، ولم ينله، رضي الله عنه، بالكتاب الأول فهو أمر عدمي، بل ناله بما باشره من الأسباب في عالم الشهادة الوجودي، فهو ممن أدرك مراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: "اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلقَ لَهُ"، فرأى من نفسه نشاطا في الحق وقعودا عن الباطل، فأحسن الظن بالرب، جل وعلا، إذ قد خلق فيه هذه الإرادة الصالحة، فاستعان بالرب، جل وعلا، وتوكل عليه في طلب أسباب مراضيه فأعانه الرب، جل وعلا، فضلا منه وامتنانا، فوقعت الأفعال على أكمل الأحوال واستحق، رضي الله عنه، أن يضم إلى تلك الثلة المقدمة: خيار القرن الأول الذي هو خيار هذه الأمة فهو خيار من خيار، رضي الله عنه، وعن سائر العشرة الكرام البررة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 12 - 2009, 08:48 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر". اهـ
ص103.
فالعجز والكيس كلاهما من الإرادات الباطنة التي تنضح على الجوارح كسلا وقعودا أو نشاطا ونهوضا، فهما من الله، على حد ابتداء الغاية، على وزان قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، أي: ابتداء غاية خلقها منه، فهو الذي خلق الأعيان الظاهرة، وخلق الإرادات الباطنة، فيوقع العبد بها مختارا ما قد كتب عليه ابتداء من خير أو شر، والعجز والكيس بسبب القدر، فالباء للسببية، وقرينة السياق تدل على أن القدر هو الكوني لا الشرعي، إذ لا يكون شيء في هذا الكون من الأعيان أو الأفعال إلا بقدر كوني، ففعل الرب، عز وجل، فيه، هو الإبداع ابتداء والخلق تكرارا والبعث انتهاء، فترتيبها على هذا النحو من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى فأعلى المراتب: الإبداع إذ هو على غير مثال سابق، ثم الخلق فتكرار الشيء الذي له مثال سابق أهون من إبداعه والكل هين على الرب، جل وعلا، على حد قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، ثم البعث فهو أيسر إذ النشأة الآخرة أهون من النشأة الأولى، والكل، أيضا، على الرب، جل وعلا، هين، وفي التنزيل: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، فذلك من دلالة الإيجاد المعجز على الربوبية من وجه فالنشأة الأولى من الدقة والإتقان بمكان بها تظهر آثار القدرة والحكمة، فيقع الخلق كما قد قدر أزلا على نحو غاية في الإتقان والإحكام، فتتوالى الكلمات الكونيات المؤولات للمقدور الأزلي في عالم الشهادة، فلا يستغرقها مداد، ولا يحويها كتاب: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فالكلمات الكونيات لا منتهى لها، فيعجز العاد عن عد حركاته وسكناته، وكلها بكلمات تكوينيات، يعجز عن ذلك في اليوم الواحد، وهو واحد من جملة مخلوقات
(يُتْبَعُ)
(/)
الرب، جل وعلا، ولكل فرد منها، حساس كان أو جامد، كلمات كونيات مثله بها يكون تدبير شأنه من وجود وفناء، من هدم وبناء، من سكون وحركة، من ميل إلى أليف أو ميل عن نكير فلكل ما يلائمه بمقتضى ما جبل عليه من الخَلق والخُلق فيميل الذكر إلى الأنثى فتلك فطرة الأبدان، ويميل المؤمن إلى المؤمن فتلك فطرة الأرواح .......... إلخ، فإذا كان عد كلمات الإيجاد والتدبير الكونية لفرد واحد مستعصيا فكيف بعدها للجنس البشري فضلا عن بقية الأجناس المرئية وغير المرئية، المعلومة وغير المعلومة: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، و: (يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وهي من وجه آخر من دلالة قياس الأولى فنبههم إلى الخلق الآخر بالخلق الأول: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)، فالنشأة الآخرة فرع عن النشأة الأولى بقياس الأولى، إذ من قدر على الأعلى قدر على الأدنى من باب أولى، و: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)، وكذلك الرزق فيرزقهم جميعا بكلماته الكونيات فلا يشغله رزق فلان عن رزق فلان، بل يرزق الجميع في نفس الآن، وكذلك الحساب فكما يرزق العباد جميعا فإنه يحاسبهم جميعا فله المثل الأعلى في كل كمال ذاتي أو وصفي أو فعلي.
ودلالة المراتب: (الإبداع فالخلق فالبعث) على بعضها: دلالة أولوية بملاحظة تدرجها: فمن أبدع فهو قادر على تكرار الخلق، ومن تكرر منه فعل الخلق فهو قادر على الإعادة انتهاء، وتلك أقدار تتكامل فيها أوصاف الرب، جل وعلا، على نحو دقيق محكم فصفات القدرة والحكمة والإحياء والإماتة والبعث ...... إلخ هي صفاته الفاعلة التي تصدر عنها كلماته النافذة التي هي علة صدور هذا العالم، فهي السبب الذي لا سبب وراءه، فكل الأسباب إليها منتهية، فعقيب الكلمة الكونية: تأويلها فلا تتخلف أو تتأخر، وإن بدا لنا ذلك في عالم الشهادة، إذ لا ندرك تتابعها الدقيق، وإنما نرى آثارها بعد حين، فتلك السنة الكونية المطردة في حقنا، فلا يبدل الله من حال إلى حال إلا مرورا بسلسلة من الأقدار الكونية، فلا يستطيع أحد منا أن يحصي نمو ولده في اليوم الواحد، وإن كان نمو الأطفال سريعا مطردا بل يحصيه بعد شهر أو شهرين فيرى أثر تلك الكلمات الكونيات دون أن يدرك تتابعها، فإذا شاء الرب، عز وجل، كسر السنة المطردة بآية أو خارقة، لئلا يظن الناس أن السنة مستقلة بالتدبير في نفسها، بل لو شاء الله، عز وجل، لأمضاها مئنة من حكمته في ترتب المسببات على أسبابها فذلك متعلق تكليفه بالأخذ بالأسباب توسلا بها إلى مسبَّباتها دون اعتقاد نفع أو ضر مستقل فيها، وإنما أودعت فيها القوى المؤثرة فلا تعمل إلا بإذن ربها، ولو شاء لأبطلها فنزع قوى التأثير منها مئنة من قدرته، فتتوافر كل الأسباب ويتخلف المسبَّب لئلا يوكل العباد إلى غير الله، عز وجل، في تدبير شئونهم وإنما الشأن كما تقدم: التوسل بالأسباب على حد التعبد بإجرائها وفق ما سن الله، عز وجل، من الكلمات الشرعية استجلابا للمسببات التي لا تكون إلا تأويلا للكلمات الكونية فيقع التوافق التام بين الشرع والقدر الذي به يستقيم أمر المكلف فلا يشعر بالتناقض الذي يشعر به من زل في باب القدر، أو من ليس له نصيب من النبوات من باب أولى فحاله أسوأ وسبيله أضل، وذلك أمر، كما تقدم في مواضع، مطرد، إذ بقدر البعد عن مصدر الوحي المنير تكون ظلمة القلوب وكآبة الصدور، والعكس صحيح.
والشاهد أن: فعل العبد في الخارج تأويل لإرادته في الباطن، فيستحيل التضاد بينهما إلا حال الجبر أو الإكراه، وهو حال غير معتبر في الشرع، فلا يعتد بفعل المكره، على تفصيل، فكيف يكلف الله، عز وجل، العباد بما لا قبل لهم بتحصيله، إذ قد كلفهم الإيمان وحكم عليهم بالكفر جبرا؟! فمؤدى هذا القول إبطال التكليف لعدم الجدوى منه لسبق العلم بهلاكهم، وإنما الصحيح أنه كلفهم بالإيمان شرعا وحكم على بعضهم بالكفر كونا لا جبرا، فليس هو الفاعل وإنما هم الفاعلون بإرادات مختارة هي له مخلوقة فلا تخرج عن حد إرادته الكونية النافذة، وإن جاز خروجها عن حد إرادته الشرعية الحاكمة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا
(يُتْبَعُ)
(/)
، فالرب، جل وعلا: خالق بإرادة كونية نافذة لكل الأعيان والأفعال، والعبد: فاعل بإرادة مؤثرة مختارة لا تخرج عن كونها مخلوقة منقادة، ففعل الرب، جل وعلا، ينظر فيه إلى جانب القدرة الربانية، وفعل العبد ينظر فيه إلى الحكمة الشرعية، حكمة التكليف: تصديقا وامتثالا، أمرا ونهيا.
وجانب العلم ينظر العبد فيه إلى ما قبل له بتحصيله من علم الشرع الموجود لا ما لا قبل له بتحصيله مما استأثر الرب، جل وعلا، به من علم الكون المفقود، فالأول: علم أفعال العبد على حد التكليف وذلك متعلق حكمة الرب، جل وعلا، الشرعية، والثاني: علم أفعال الرب، جل وعلا على حد التنفيذ وذلك متعلق قدرته، عز وجل، فكيف يترك العبد ما كلف به إلى ما لا يطيقه فلم يكلف به رحمة من الرب، جل وعلا، فأبى إلا البحث والتنقير عن سره، فشعل عما أريد منه بما أريد به! وذلك مئنة من الخذلان.
والحديث مروي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، بإسناد متكلم فيه بلفظ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ , حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ". وإنما خص العجز والكيس بالذكر لكونهما من أبرز ما يظهر فيه قدر الرب، جل وعلا، الكوني، فالإنسان يباشره ويحس به مرات ومرات في اليوم الواحد فتعلو الهمة تارة فينشط الإنسان، وتدنو تارات فيكسل، فإذا ذكر الله، عز وجل، على حد التوكل والاستعانة، نهض إلى شأنه، فإذا عجز بملل أو تعب قعد، فإذا استراح قام ثانية فثالثة، وهو في كل ذلك يدافع الوساوس النفسانية والشيطانية التي تقعده عن الخير وتستنهضه إلى الشر، فيكون اليوم الواحد سلسلة من المعارك الجزئية في ميدان جهاد الهوى والشيطان، فإذا استعان القلب بالمدد الرباني جمع الله، عز وجل، عليه شتات جنده، فصار أهلا لمقارعة الشبهات والشهوات التي تتوالى موجاتها على القلوب توالي موجات البحر، وتلك معركة لا قبل لمكلف بها إلا برسم: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ". فإن شاء الرب، جل وعلا، ثبت الجند فضلا، وإن شاء خذلهم فانكسروا وانتكسوا بعدله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 12 - 2009, 09:10 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إن ناسا يقولون في القدر، قال: يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه، إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه". اهـ
ص103.
ففيه دليل على ترتيب المخلوقات إلى آخر ما نعلمه منها وهو العرش أعظمها وأعلاها فهو سقفها عموما، وسقف أشرف مواضعها خصوصا: الفردوس الأعلى، فما قبل العرش لم يبلغنا خبره وليس مما يدرك بالاجتهاد ليصح الخوض فيه بقياس العقل، فهو من الغيب الذي استأثر به الله، عز وجل، عنده، فـ: "شيئا" في هذا السياق مقيدة بهذا العالم المخلوق.
فكان الله، عز وجل، على عرشه مستويا استواء يليق بجلاله، فهو الغني عنه وعما سواه بل كل ما سواه إليه مفتقر، فبقاء هذا العرش مع عظمته إنما هو بإبقاء من استوى عليه له، فلا بقاء له في ذاته، بل كل ما سوى الله، عز وجل، يجوز عليه الفناء، إلا أن بشاء الله، عز وجل، له البقاء، وهذا، كما تقدم في أكثر من موضع، أصل فارق بين الرب، جل وعلا، ذي الأولية المطلقة ذاتا وصفات على نحو قد بلغ الغاية المطلقة من الكمال فلا منتهى لكمالات الرب، جل وعلا، إذ لا تحيط بها عقول، بل إنها في باب القدر تحديدا تعجز عن إدراك وجه الحكمة لا سيما في أول الأمر، فتذهب الظنون بها كل مذهب بادي الرأي، وربما ظن أحدنا بلسان حاله في لحظات الفورة أو الغضب لانتهاك حرمة، أنه أغير من الرب، جل وعلا، على دينه، فساء ظنه بالله، عز وجل، وكأنه أرحم بالخلق من خالقهم، تبارك وتعالى، ولو شغل نفسه ببذل الأسباب المشروعة لنصرة الدين ورفع البلاء ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ونصرة المستضعفين وما أكثرهم في عصرنا، لكان خيرا وأبقى، وقد شاء ربنا أن نوجد في زمن انكسار، فلزمنا فقهه، كما شاء لمن سبقنا من صدر الأمة أن يوجدوا في زمن عز وتمكين، فلزمهم فقهه، بل إن المكلف الواحد يتقلب في أقدار الرب، جل وعلا، سعة وضيقا
(يُتْبَعُ)
(/)
، نصرة وهزيمة، تمددا وانحسارا، غنى وفقرا، صحة ومرضا، أنسا ووحشة ..... إلخ من المتضادات المتقابلة فيستعمل مع كل حال ما يلائمها من الشرائع، فتتنوع الأحكام بتنوع أعيان المكلفين، وتنوع الأحوال، وتنوع الأمصار، حتى قال بعض المحققين من أهل العلم بأن الفتوى الشرعية مع كون الحكم واحدا في نفسه تتأثر بحال المستفني وزمانه ومكانه وعرفه وعادته إن لم يصادما الشرع، فيكونا معتبرين فإن صادماه ككثير من أعراف وعادات زماننا الفاسدة فهما هدر لا اعتبار لهما، إذ لا تعارض الشرائع بالأعراف والعوائد، والشاهد أن لكل نازلة كونية حكما شرعيا، فلو وفق الرب، جل وعلا، العبد إلى اختيار الحكم الملائم للنازلة، فاستعمل الشدة في موضعها واللين في موضعه، وخضع في موضع الخضوع، وعز في موضع العزة، وبذل في موضع البذل، وأمسك في موضع الإمساك .......... إلخ فقد حقق مراد الرب، جل وعلا، منه بمدافعة القدر الكوني بما سن من أسباب الشرع والكون، فهو، عز وجل، قادر على أن ينصر دينه بكلمة كونية واخدة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ولكنه إظهارا لآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى ابتلى العباد فجعل بعضهم فتنة لبعض: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، ليظهر من تلك الفتنة الكونية ما يرضاه من صالح الأقوال والأعمال الشرعية، فلو شاء لانتصر لدينه ابتداء: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)، ولأقر أعين الموحدين بعلو دينهم ونجاة إخوانهم من المستضعفين، ولكنه لحكمته الباهرة التي تغفل عنها عقولنا في أوقات الشدة، أراد أن يطهر المبتلى في نفسه، إن كان مسددا، وأن يظهر مكنون صدره إن كان مخذولا، فما نزل به فضل أو عدل، لم يظلمه الرب، جل وعلا، وأراد أن يبتلي من لم ينزل به البلاء من إخوانه أيكون على رسم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فيتداعى له، ولو بالدعاء، وإن شئت الدقة، فقل: فيتداعى له أول ما يتداعى بأمضى أسلحة أهل الحق: دعاء الأسحار وسائر أوقات الإجابة، أم يكون على رسم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" على ضعف في إسناده، وهو أمر لم يسلم منه مكلف في هذا الزمان، إذ كل قد نزل به ما يشغله، فلا يخلو من نوع تقصير وغفلة عن حقوق إخوانه المستضعفين، بل منا من راح يلتمس الأعذار للعدو، فيحمل إخوانه المسئولية كاملة!، ومنا من بالغ في إظهار عجزه، فقعد حتى عن فعل ما يقدر عليه ولو كان ضئيلا، مع أن القليل إلى القليل كثير، ومنا من آثر السلامة مع صلاح في نفسه فلازم بيته لئلا يتعرض لبلاء لا يطيقه فذلك مما يصلح للأفراد لا للجماعات، ومنا من أفرط في الحماس فجاء فعله: رد فعل آني يفتقر إلى الحكمة والتروي والديمومة فهو عارض وقتي سرعان ما يزول، ومنا من صنع شيئا فظن أن له قدرا فراح يُدِل على ربه، عز وجل، به، وكأن الرب جل وعلا قد افتقر إليه لينصر دينه!، ولو تدبر ونظر لعلم أن ذلك فضل من الله، عز وجل، عليه إذ استعمله في طاعة ولو شاء لابتلاه بالمعصية وما ضره ذلك وما نقص من ملكه شيئا، ولو كفر أهل الأرض جميعا ما ضر الرب، جل وعلا، ذلك شيئا، فهم عباده برسم الخضوع والقهر، إن لم يكونوا عباده برسم الاختيار والشرع، فليس أمر الملة موكولا له ليفرح بطاعته، بل فرحه بها أن امتن الله، عز وجل، بها عليه، فهو فرح شكر لا فرح بطر: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، فلو لم يستعمله في ذلك لاستعمل غيره من آحاد المكلفين فهم كثير، وقلوبهم جميعا معلقة بين أصبعين من أصابع الرحمن، جل وعلا، فليس الباري، عز وجل، بمفتقر إلى طاعة طائع، وليس يناله من معصية العاصي ضرر، ومنا من بالغ في الاهتمام حتى شغل عن فروضه العينية، فهو مهموم على الدوام قد تمكن منه الهم عدو الهمم الأول، فحمل نفسه ما لا تطيق، وألزم نفسه بما لا يلزمها، ولكل قدرته، فلا يتعلق التكليف
(يُتْبَعُ)
(/)
إلا بالمقدور، فإذا بذل الإنسان ما يقدر عليه من أسباب الشرع والكون، فقد برئت ذمته، وليس عليه أن يدرك النجاح، وإنما ابتلي بمباشرة الأسباب لا بظهور النتائج، وكم قتيل في معركة هزم فيها أهل الحق، وما ضرته الهزيمة إذ قد امتثل الأمر وبذل السبب، وما بعد ذلك فليس في مقدوره ليتعلق به تكليفه فإن الرب، جل وعلا، هو المنفرد بتسيير الكون، بمشيئته النافذة، على وفق ما قدر أزلا بحكمته، وأظهر في عالم الشهادة بقدرته، وليس ذلك لأحد من خلقه بداهة، فهذه من المواضع التي يلزم فيها استحضار معاني أقسام التوحيد الثلاثة، فيشهد العبد مقام الأسماء والصفات التي عنها صدر هذا الكون، فهو من آثار صفاته الفاعلة، بما قاله من الكلمات التكوينية النافذة، فهو الذي شاء الكفر والشر كونا ليستخرج به من أجناس الإيمان والخير ما يدافعه، فتظهر آثار حكمته في تلك السنة الجارية فلا يخلو منها زمان أو مكان، بل لا يخلو منها مكلف فهو في مدافعة مع نفسه وشيطانه ما دام حيا حساسا لم يرفع عنه قلم التكليف الديني برسم الجهاد الشرعي للعدو: الخاص في نفسه، والعام فيما يعرض له من قطاع الطريق إلى الله، عز وجل، فبعضهم ينزجر بالكلمة، وبعضهم ينزجر باليد، وقد يبلغ الضعف منه مبلغا، فلا يقدر إلا على الإنكار بقلبه فتلك أدنى مراتب الجهاد، فلا يتصور إيمان وغِيرة بعدها، إذ لا يرضى القلب المؤمن، ولو بلغ غاية الضعف والتخاذل، بأن يعصى الرب، جل وعلا، إذ ذلك مما يسخط ربه، والعبد ملتمس دوما لمراضي الله عز وجل ليسعى في إيجادها، ولمساخطه ليسعى إلى إعدامها، فلو رضي بوجودها فلم يسع لرفعها ولو بقلبه فقد تلبس بشعبة عظيمة من الدياثة إذ أقر الفحش في ملك الرب، جل وعلا، فلم يغر لغيرة الملك أن تنتهك محارمه، ويشهد مقام الربوبية فهي تأويل صفاته العلية، فالملك والتدبير وهما أخص أوصاف الربوبية، وما يلزم منهما من خلق وتكوين ورزق ..... إلخ كلها من صفات الرب، جل وعلا، فربوبيته هي أثر صفات جلاله إذ خلق بقدرته، وصفات جماله إذ دبر بحكمته، ويشهد مقام الألوهية بأن يشرع في بذل أسباب مراضي الرب، جل وعلا، في نفسه وفي غيره، فهو في مدافعة مع نفسه، يدفعها وتدفعه، يرغبها ويرهبها، يلين لها القول ويغلظ، فلها في كل يوم شأن، بل في كل ساعة، فهي قُلَّب لا تقر على حال، فيلزم العبد سياستها سياسة شرعية حكيمة، لئلا تخرج عن طاعته إن لان لها، ولئلا تعجز عن طاعته إن أغلظ لها، فأمره معها دائر بين الترغيب تارة بإعطائها حظا تفرح به فتنشط بعده إلى التكليف، والترهيب إن وجد منها فتورا وتراخيا، وهو في مدافعة مع غيره، على قدر ما ولي من أمره، فليس أصحاب الولاية العامة كأصحاب الولايات الخاصة، فيزع الله، عز وجل، بذي الولاية العامة ما لا يزع بذي الولاية الخاصة، فسلطان الأول أعظم ولذلك كان تكليفه أشق وأخطر، وسلطان الثاني على قدر ما ولي، فللأب سلطان على زوجه وولده فله عليهما السمع والطاعة، أو هكذا يفترض!، فيحسن في هذا الموضع استعمال أخلاق الجلال، وللابن على أبويه وإخوته سلطان النصيحة بلا جبر فليس قيما عليهم، فيحسن في هذا الموضع، وهو ما لا يقع منا غالبا!، يحسن استعمال أخلاق الجمال، ولجهاد أعداء الملة، وهو الجهاد العام، أخلاقه، فلمن بارز بالسيف خلق الشدة والجلال، فإن استعمل معه اللين برسم التسامح، فهو عين الخذلان، إذ قد جهر بعداوته فلم تعد له ذمة أو عهد، فليس له إلا السيف، فمن لاينه فقد جرأه على الولوغ في حرمات الملة، كما هو الحال في زماننا، وليس هذا الأمر لآحاد الناس لئلا يقع من ذلك من الفتن ما لا تحمد عقباه، فلا يملك الحل والعقد إلا أهله سواء أكانوا أهلا له، أم كانوا متغلبين كسائر أئمة الجور، فالصبر عليهم أولى وأنفع والتاريخ خير شاهد على ذلك، إذ مغالبتهم مظنة وقوع فتنة أعم من فتنة تغلبهم فالانشغال عن سبهم بمداواة النفوس أفضل وإن كان كثير منهم أهلا لذلك!، ولمن بارز بالحجة والبرهان، أخلاق الجمال إن كان مسترشدا أو موقنا يذب عما يعتقد أنه حق فليس صاحب هوى، فإن كان معاندا فله أخلاق الجلال من غلظة في القول وهتك لأستار شبهاته كما هو حال أكثر الطاعنين في ملة الإسلام في زماننا.
ومدافعة الكون بالشرع: مدافعةَ الداء بالدواء، هي تأويل أمر الرب، جل وعلا، فذلك مراده منا، وإنما يكون السداد بامتنان الله، عز وجل، على العبد في اختيار الدواء الملائم للداء، فلا تستعمل أخلاق الجلال في مواضع الجمال كالدعوة إلى الله، عز وجل، فذلك لا يكون إلا بالحكمة والموعظة والحسنة على رسم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ولا تستعمل أخلاق الجمال في مواضع الجلال كالجهاد في سبيل الله، فذلك لا يكون إلا على رسم: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه: فليس ما تقدم من ذلك الصراع المستمر إلى قيام الساعة بين جند الحق وجند الباطل إلا تأويل ما قضى الرب، جل وعلا، أزلا، فكتبه في اللوح فأظهره في الخلق بتيسير أسبابه فمن كان من أهل السعادة يسر لأسبابها فضلا، ومن كان من أهل الشقاوة يسر لأسبابها عدلا، وما ربك بظلام للعبيد.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 12 - 2009, 09:05 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس أيضاً: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها". اهـ
ص103.
فهو السلك الذي تنتظم فيه حبات عقد التوحيد، فإن الإنسان لا يستطيع القيام بأمر التوحيد علما وعملا إلا إذا أقدره الله، عز وجل، على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كذب بالقدر فهو موكول إلى نفسه، معجب بعمله، فعقده إلى انتقاض إذ الموكول إلى نفسه هالك لا محالة، وكم وكل أناس إلى أنفسهم ولو في الطاعات فحجبوا لما ظنوا القدرة في أنفسهم والحكمة في غير ما اختاره الله، عز وحل، بخلاف المؤمن بالقضاء والقدر فإنه موحد لربه، عز وجل، لم ينسب إلى نفسه بلسان الحال أو المقال خلقا لعمله يضاهي به خلق الله، عز وجل، فلا شريك له، عز وجل، في خلقه، فهو الخالق للأعيان والأفعال جميعا، فخلق العين وخلق الأحداث التي تقوم بها، فله كمال الربوبية عموما، وكمال الخالقية خصوصا، وذلك ذريعة إفراده، عز وجل، بكمال الإلهية على ما اطرد من التلازم الوثيق بين معاني الربوبية ومعاني الألوهية.
وما ضاقت الصدور بفوات دين أو دنيا مشروعة، بعد بذل السبب، إلا لضعف الإيمان بالقضاء والقدر، وفساد التصور الأول الباعث على العمل فإن النية لو خلصت ابتداء مع تمام التوكل على الله، عز وجل، ما ضر صاحبها أن يفوته مراده، إذ قد بذل السبب، فهذا تكليفه الشرعي، فلا شأن له بالتديبر الكوني ليقترح على ربه، عز وجل، إنفاذ أمر قد شاء منعه، أو منع أمر قد شاء نفاذه، فليس بعد بذل السبب ما يوجب السخط إلا لمن ضعف إيمانه بالقضاء والقدر، وذلك أمر لم يسلم منه أحد في زماننا، إلا من رحم الرب جل وعلا، ولو كان الفائت طاعة، فلعل فيها شرا بفساد نية يسبقها أو عجب يعقبها فيكون فواتها، وإن كانت مصلحة في حد ذاتها، يكون فواتها في حق مكلف بعينه خيرا له، وهو لا يدري، فقد يورثه فواتها يقظة من الغفلة فيصحح النية، ويحمد الله، عز وجل، عقبها بلسان الشاكر المقر بفضل الرب جل وعلا، فيحذر بعد ذلك من تفويت أجر الطاعة بفساد سابق أو طارئ أو لاحق للعمل، وما أكثر مفسداته، فمن نية فاسدة تسبقه، إلى انفساخ همة وتغيير نية يقارنه، إلى عجب أو بطر يتبعه فلسان حال صاحبه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، والمعصوم من عصمه الرب، جل وعلا، من تلك المزالق، وفي المقابل قد تكون المعصية، مع كونها فسادا في حد ذاتها، قد تكون لفاعلها سبب نجاة فيتولد منها من أجناس الطاعة ما يرضي الرب، جل وعلا، فصاحبها من أهل: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فاستغفار وتوبة، وحسنات ماحيات، وانكسار في القلب هو مراد الرب، جل وعلا، من عباده، فلا زهو ولا علو، وإنما خضوع وذل يصلح قلب صاحبه للدخول على المليك، جل وعلا، فإن الدخول عليه لا يكون إلا برداء الذلة وإزار التصاغر، فالكبرياء رداؤه والعظمة إزاره فمن نازعه شيئا منهما ألقاه في النار ولا يبالي، فلا يستعمل في هذا الباب الجليل، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، إلا أخلاق الأطفال من إلحاح وبكاء فإن لم يكن فتباك حتى ينال الطفل مراده من أبيه، ولله المثل الأعلى، فإن ذلك قد يكون للطفل إفسادا باضطرار الأب إلى تنفيذ مراده تحت تهديد البكاء! فتصير له عادة، ولكنه في حق العبد مع ربه، عز وجل، إصلاح لحاله أيما إصلاح، إذ الرب، جل وعلا، لا يلجئه أحد من خلقه إلى ما لا يريد، فلا موجب عليه إلا هو، على حد قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فكتبها على نفسه بمشيئته النافذة إظهار لوصف جماله تفضلا على عباده مع غناه عنهم، فهو الغني الحميد، وهو يحب من عبده الذل والخضوع بخلاف الأب الذي يكره من ابنه البكاء والضجة، وذلك من المواضع التي يظهر فيها غنى الرب، جل وعلا، في مقابل: فقر العبد، فالعبد لفقره يمل بسرعة لو كان أبا مشفقا، فلا يتسع صدره لكل مطالب ابنه، وقد يتسع ولكنه يعجز عن تلبيتها لضيق ذات يده، بخلاف الرب، جل وعلا، فـ: " فإن الله لا يمل حتى تملوا "، فلا يمل من دعاء عباده: ثناء ومسألة، بل هو مراده الشرعي الذي خلق الدنيا لأجله وبعث الرسل لبسطه، إذ الدعاء هو العبادة فهو آكد صورها، فلا تنفك عبادة قلبية أو لسانية أو بدنية عن توجه إلى الله، عز وجل، برسم الرغبة أو الرهبة، فالطالب راغب، والتائب راهب، وكلاهما قد توجه بالدعاء إلى من عرشه بالسماء، فلا يجيب المضطر إلا هو، ولا يعطي السائل إلا هو.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 12 - 2009, 08:46 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال عطاء بن أبي رباح: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس، أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة وارداً، ألا تراه قد ظلمني؟ فقال: إن كان الهدى شيء كان لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك. قم فلا تجالسني". اهـ
ص103
فليس للعبد على ربه حق واجب ليصح احتجاجه بحجبه عنه، فإنه جل وعلا يعطي من شاء فضلا ويمنع من شاء عدلا، فله كمال القدرة في الإعطاء والمنع، وله كمال الحكمة في ذلك فلا يعطي إلا من هو أهل ولا يحجب إلا من ليس بأهل فمحله غير قابل لآثار الوحي، فإن بذر فيه فلن يثمر لفساد تربة قلبه، فالحكمة قاضية بقطع مادة الصلاح عنه ووضعها في محل آخر يقبلها فتثمر فيه من مراضي الرب، جل وعلا، ما يحصل به مراده من خلقه.
وفي قوله: "قم فلا تجالسني": زجر للمبندع، إذ كان السائل مشبها لا مستفسرا، أو هو محمول على التأديب، فإن الشدة تفيد أحيانا ما لا يفيد اللين، وذلك أمر يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فقد يكون الزمان زمان ظهور لأعلام الدين، والزاجر ذا أهلية للإنكار بل التعزير والانتصار، فيعزر السائل إن ظهر له فساد قصده، كما صنع عمر، رضي الله عنه، مع صبيغ، وقد يكون الزمان زمان انكسار، فيضطر صاحب الحق إلى دفع الباطل باللسان، وربما بالقلب إن ضعف الإنكار العام، حتى صار تغيير المنكر جريمة يعاقب عليها المجتمع الذي ارتضى بلسان حال سكوته: وقوع المنكر، فلا يكون الإنكار حينئذ ممكنا إلا على آحاد، على رسم ما تقدم من نجاة كل بنفسه حال غرق السفينة العام، فلا يلتفت الراكب حينئذ إلا إلى نفسه، وقد يكون السائل في كل مستبصرا فيشرع اللين معه تهدئة لنفسه المضطربة لئلا ينفر من الحق، فإن صاحب الشبهة إن لم يكن مغرضا: مريض يستحق العناية لا الإهمال، وكم ضل أناس بشبه يسيرة لم يجدوا من يجليها لهم برسم الرحمة، وعين القدر الراحمة تنفع حيث لا تنفع عين الشرع الحاكمة، وإن كانت الأحكام الشرعية ثابتة راسخة، وإنما تتنوع الفتيا حينا بحسب حال المستفتي، ويتنوع البيان حينا بحسب حال طالبه، ومن استعمل الرحمة فإنه لا يزيف الحق ليرضي السائل، ولكنه يتلطف معه إذ المقام يقتضي ذلك، وأكمل من حقق هذا الباب الدقيق هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد استعمل اللين في مواضع فظن بعض الناس أن اللين ينفع في كل وقت ومع كل أحد فأوقعه ذلك في نوع ذلة وخنوع، واستعمل الشدة في موضعها فظن بعض الناس أن الشدة تنفع في كل وقت فأوقعه ذلك في نوع قسوة وغلظة، والتوسط في الأخلاق قد أعيى الورى تحصيله فلا يمتن الله، عز وجل، به إلا على آحاد المسددين.
وقال عكرمة عن ابن عباس: كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له: فكيف ذاك؟ الهدهدد ينصب له الفخ عليه التراب فقال: أعضك الله بهن أبيك، إذا جاء القضاء ذهب البصر
ص103.
فقول ابن عباس، رضي الله عنهما، جار مجرى الزجر، فصرح فيه بما يستقبح ذكره إمعانا في ذلك، فذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا"، فمصلحة الزجر أعظم من مفسدة التصريح، فيقاس على ذلك زجر كل قائل أو قول خارج عن الشرع ولو كان صاحبه عكرمة، رحمه الله، فإن القائل أعظم منه مكانة، فيحتمل من ابن عباس، رضي الله عنهما، في مقام الزجر تربية ما لا يحتمل من غيره.
فإذا جاء القضاء ذهب البصر: إذ إرادة الله، عز وجل، الكونية، نافذة، فيشاء الرب، جل وعلا، ما لا يتوقعه العبد حال السلامة، وكم فعل الإنسان أمورا حال السكرة، ثم عض عليها أصابع الندم بعد مجيء الفكرة، فقد زال عقله وبصره ففسد قياسه وحسه، فبدر منه من المعائب ما يخجل من ذكره لغيره بل من تذكره في نفسه، فلا يسع من سلك طريق الرجوع إلى ربه، عز وجل، إلا أن يحمد ويسترجع، فإن ما قضى الله، عز وجل، بمشيئته الكونية نافذ، فإذا كان المقدور شرا فليس لفاعله أن يحتج بالقدر إلا أن يتوب فتصير المعصية في حقه مصيبة، فلن يملك لها رفعا ولو بذل ما بذل من الأسباب، فحاصل أمره: إجهاد ذهنه في اجترار فائت لن يرجع مرة أخرى، فالأولى به
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد عاد إليه بصره المفقود أن ينتفع به في النظر إلى ما هو آت من التكاليف الشرعية، فيجدد التوبة ويعقد لواء الهمة حربا للنفس والشيطان متأيدا بمدد الشرع، فيدافع آثار ما مضى فإن للمعصية آثار شؤم تعيق السالك إلى الله، عز وجل، فتقطعه أو تبطئ سيره، وذهاب البصر في هذا الباب على وجهين:
ذهاب له في المصائب الكونية: فلا يلام عليه إذ لم يكلف برفع ما قدره الله، عز وجل، عليه من الأعراض الكونية، وإنما تعلق التكليف ببذل السبب مدافعة سواء أكان شرعيا أم كونيا، وذلك أمر يظهر جليا في مدافعة أعداء الملة في ساحات الوغى فإن تسلطهم على المسلمين: مصيبة كونية، فلا يتوجه اللوم إليهم من هذا الوجه إذ هو فعل الرب، جل وعلا، والعبد لا يكلف بفعل غيره من آحاد البشر فكيف بفعل الرب، جل وعلا، فلا لوم عليهم من جهة الكون، وإنما يقع اللوم عليهم من جهة الشرع، إذ ما تسلط أولئك عليهم إلا لحدث أحدثوه في الديانة، فإن سنة التدافع قاضية بتسلط أهل الباطل على أهل الحق إن هم قعدوا عن القيام بأمره والانتصار له من أعدائه، فلو ترك أهل الحق آمنين مع كونهم مبدلين مفرطين لهان الحق، وهو عزيز، ولاستخف البشر بالديانة إذ هم قد هجروها فما ازدادوا إلا سعة!، وذلك قد يجري لآحادٍ استدراجا، أو لمجموع الأمم الكافرة كما وقع لأوروبا في العصر الحديث إذ فتحت عليهم بركات الكون مع هجرهم للديانة، أو لما أسمته الكنيسة ديانة!، فزيد لهم في الخلاق الدنيوي، إذ لا خلاق لهم أخروي، وسار على طريقتهم سقط متاع الشرق ممن لا قدر لهم في دين أو دنيا، وإن فرحوا بعلوم كونية غالبهم عند التحقيق ينتسب إليها برسم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"، فنسبهم إليها لا يتعدى الإلحاق على طريقة نكاح الجاهلية، فليسوا أبناء بررة لأمة الإسلام وليسوا أبناء شرعيين لأعدائها بل لقطاء يتسولون فتات الموائد الفكرية الشرقية والغربية في واحدة من أبرز السرقات العلمية في تاريخ البشرية، فليت منطوق ألسنتهم من بنات أفكارهم، وإنما سرقة حتى للباطل الذي تأنف النفوس الشريفة من انتحاله أو ادعائه.
فصار لزاما على من ابتلي بهذا القضاء أن يبذل ما يرفع عنه اللوم: باستغفار عما فات وتوبة لما هو آت، وبذل للسبب الكوني المقدور لرد العدوان.
والذهاب الثاني للبصر في هذا الباب هو: ذهاب البصر بسكرة الشهوة حال مباشرة المعصية فتحجب لذة المعصية العارضة رسل الشرع عن ملك الجوارح، فهي حاجب سوء يزين للملك الغي ويزهده في الرشاد، فلا ينظر في حال رعيته إلا بعين بطانة السوء من نفس لا تشبع وشيطان لا يفتر، فيصيب رعيته منه من أنواع المظالم ما يفسد حالها، وهو يظن أنه يصلح من شأنها، وإنما أراد تحصيل حظه فخرج عن حد الشرع المنزل، ولا ناصح ولا مرشد، إذ البطانة الفاسدة راضية مطمئنة بذلك، فلا يعنيها شأن ملك أو رعية، وإنما همها تحصيل حظوظها الآنية، فالنفس تستمتع باللذات الوهمية لفساد تصورها العلمي إذ قد نصبت العداء لرسل الشرع فأنى يكون لها هداية؟!، والشيطان يستمتع بإضلال عدوه اللدود تأويلا لقول الرب المعبود جل وعلا: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
وذلك العمى الشرعي، إن صح التعبير، مما يلام عليه العبد فلا يصح له الاحتجاج بالقدر عليه، فليس مصيبة كونية لا عمل له فيها، بل هو مصيبة شرعية بما كسبت يداه ويعفو الرب الرحيم، جل وعلا، عن كثير، فابتلي بالمعصية جزاء وفاقا على معصية سبقتها، وابتلى بالمعصية ابتداء جزاء وفاقا على انصراف قلبه عن تحصيل أسباب الطاعة فصار المحل خلوا لا جند فيه لتسد بهم ثغوره، فسهل على العدو اقتحام المحلة واسترقاق قوى القلب الفاعلة لتسخيرها في تحصيل مراده من إفساد للقلب والجوارج بأجناس التصورات والإرادات والأعمال الباطلة. فيلزم القلب لكي يدفع ذلك العدو، ويرفع آثار عدوانه الغاشم أن يستعين بالرب، جل وعلا، ويوحد
(يُتْبَعُ)
(/)
جبهته الداخلية فيجمع أشتات جنده معلنا التعبئة العامة لخوض تلك المعركة المصيرية ففيها نجاته أو هلاكه، وما النصر إلا من عند الله، والمعصوم من عصمه الرب، جل وعلا، والمسدد من سدده.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 12 - 2009, 09:08 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال الإمام أحمد: أنبأنا إسماعيل، أنبأنا أبو هارون الغنوي، أنبأنا أبو سليمان الأزدي عن أبي يحيى "مولى بني عفراء" قال أتيت ابن عباس، ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر - أو ينكرونه - فقلت: يا ابن عباس ما تقول في القدر؟ فإن هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنى وإن سرق وإن شرب فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال: يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به، والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم، إن زنى بقدر، وإن سرق بقدر وإن شرب الخمر فبقدر". اهـ
ص103، 104.
فذلك من حمية الحبر الجليل، رضي الله عنه، وغيرته الإيمانية، فقد كان في زمن يسع أمثاله من أولى العلم الراسخين الإنكار، بل المبالغة في النكير على أصحاب البدع، وذلك إنما يكون في الأزمان التي تظهر فيها أعلام النبوة، وابن عباس، رضي الله عنهما، من رجال الصدر الأول، أرسخ الناس أقداما في الديانة، علما وعملا، فهم أصحاب الأقوال والأعمال والأحوال الكاملة، فلم يعرف في عصورهم الزاهرة: الفصل بين العلم والعمل، بل كانت الشهود العملية على صحة الأحوال القلبية والدعاوى القولية: عدولا، فصدق العمل القول إذ قد وقر الإيمان في القلب فأثمر أجناسا من الإرادات الصالحة ظهرت آثارها على اللسان والجوارح وكل إناء بما فيه ينضح، وما ظنك بإناء قد حشي علما، ببركة دعاء النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والشيخ، رضي الله عنه، ممن حاز التزكيتين: فله تزكية عامة بدخوله في حد الصدر الأول أفضل طباق هذه الأمة، فهو من الذين سبقت لهم الحسنى، فـ: (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، وليس بعد تزكية الوحي تزكية، فالمحل كثير قد بلغ من الفضل قلالا، فلا يحمل خبثا إلا ما اقتضته الجبلة البشرية من اللمم الذي لا يسلم منه آحاد البشر لعدم العصمة، وله تزكية خاصة فهو حبر الأمة المقدم، فمن أحق منه بالإنكار على أصحاب المقالات الحادثة ذبا عن حياض الملة، وقد ظهرت مقالة نفي القدر في آخر عهد الصحابة، رضي الله عنهم، فردها من تبقى منهم كابن عمر وابن عباس، رضي الله عنهم، فذكر ابن عباس، رضي الله عنهما، أجناسا من المعاصي من باب التمثيل للعام بذكر بعض أفراده فلم يرد التخصيص بل كل أفعال العباد طاعة أو معصية، خير أو شرا، اختيارية يتعلق بها التكليف، أو غير اختيارية، تكاليف شرعية تتعلق بعلم الشرع الموجود أو تقادير كونية تتعلق بعلم القدر المفقود، كل أولئك أثر من آثار كلمات ربنا، عز وجل، الكونية، فبها خلقت الأعيان وما قام بها من الأفعال، وإنما ذكر المعاصي لقوة الشبهة فيها، فإن نفاة القدر قد أجمعوا على نفي خلق الله، عز وجل، للشر، تنزيها له، زعموا!، لعدم تفريقهم بين الإرادة الشرعية الآمرة، والإرادة الكونية النافذة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، ومنهم من زاد فنفى خلق الله، عز وجل، لعموم أفعال المكلفين: خيرا كانت أو شرا، ومنهم من زاد أكثر، وضلال بني آدم إن لم تستضيء عقولهم بنور الوحي لا منتهى له، ومنهم من زاد فنفى خلق الله، عز وجل، لأي فعل اختياري في الكون ولو كان المحل الذي قام به غير عاقل!، فالشاهد أن القدر المشترك الذي تعظم فيه الشبهة غالبا هو: أفعال الشر، فإن المنزه لله، عز وجل، يأنف من نسبة هذه الأفعال إلى الرب، جل وعلا، وذلك من النفي المجمل الذي يفتقر إلى البيان، فإن أراد نفي نسبتها إليه شرعا فلا تتعلق بإرادته الشرعية إذ هي لازم محبته، فلا يشرع طلبا بإيجاب أو ندب إلا ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، إن أراد ذلك فهو نفي صحيح، فلا يعارض إثبات ابن عباس، رضي الله عنهما، لوقوع مساخط الرب، جل وعلا، بقدر، إذ أراد القدر الكوني لا الشرعي، فالجهة منفكة، فإنه لا يلزم من تعلق الفعل بالإرادة الكونية تعلقه بالإرادة الشرعية بل قد يشاء الله، عز وجل، وقوع ما لا يرضاه شرعا، لحكمة تفوق مفسدة وقوعه، كما تقدم مرارا، ولا يلزم أيضا من تعلق الفعل بالإرادة الشرعية تعلقه بالإرادة الكونية بل قد يريد الله، عز وجل، شرعا ولا يقضي بالمراد الشرعي كونا، فتكون الحكمة الربانية في تخلفه، وإن كان التكليف الشرعي للعبد قاضيا بوجوب إيقاعه، فإن متعلق تكليف العبد هو الشرع لا الكون، فالشرع مما يدركه لمجيء النبوات به، بخلاف الكون فإنه لا يدركه ليزعم أنه إنما يسير على مواضع القدر!، فكل أفعاله خيرها وشرها بقدر، وهو مكلف بإعدام الشر تكليفه بإيجاد الخير، فإن لم يطرد الأمر في كليهما فقد تناقض كحال كثير ممن يصير على رسم القدر في الطاعة، فهو قدري عندها ينفي إرادة الرب، جل وعلا، لها، وعلى رسم الجبر في المعصية فما له حيلة إذ قد نفذ فيه المقدور الكوني وإن كان خلاف المراد الشرعي، فيجعل القدر الكوني حجة يعارض بها القدر الشرعي، كما تقدم مرارا من مسلك القدرية المشركية، فهو يتقلب بين المذاهب على حد التلفيق!، والصحيح اطراد الباب إذ كل الأفعال بقدر كوني، وليس هو متعلق رضا الرب جل وعلا ومحبته إلا إن وافق القدر الشرعي، فيلزمه الصبر على امتثال الشرع، والصبر على ما يقضي به الرب، جل وعلا، بقضاء الكون، فإن كان له حيلة في رفعه سواء أكان معصية فترفع بقدر التوبة الشرعي إذا شاء الرب، جل وعلا، وقوعها كونا فلن تكون توبة إلا بمشيئته، وإنما يتوكل العبد على ربه ويشرع في السبب، ولن يكون المسبب إلا إذا شاء الله، عز وجل، وقوعه، أم مصيبة كونية قد شرع لها من أسباب الكون ما يرفعها، فإن كان له حيلة في ذلك ببذل سبب شرعي أو كوني معتبر، لزمه ذلك برسم التعبد لله، عز وجل، ببذل السبب الظاهر بعد شهود مقام التوكل الباطن. وأطنب بالتكرار لما يقتضيه المقام من التوكيد.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 12 - 2009, 08:40 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال قتادة عن أبي السوار عن الحسن بن علي قال: قضي القضاء وجف القلم، وأمور بقضاء في كتاب قد خلا". اهـ
ص104.
فقضي القضاء قضاء كونيا مبرما لا رجوع فيه هو تأويل المسطور في الكتاب الأول فجاء المسطور في الكتاب الثاني الذي بأيدي الملائكة مطابقا له، فالأمر نافذ لا محالة سواء قيل بأن القضاء هو السابق والقدر هو تأويله اللاحق أو العكس، وهو الأقرب من جهة اللغة إذ يقدر الشيء أولا قبل وقوعه ثم يقضى في عالم الشهادة فيصير موجودا بعد أن كان معدوما.
فقد خلا في الكتاب الأول موت الحسن، رضي الله عنه، في سنة 49 هـ في شهر كذا في يوم كذا في ساعة كذا بل في لحظة كذا، بعلة أو سبب كذا، وآخر مطعومه ومشروبه في الدنيا هو كذا، وآخر منطوقه هو كذا، ومصيره في دار البرزخ كذا، ومرتبته في الجنة كذا، إذ هو ممن تواتر فضله على حد يقطع الناظر فيه بنجاته لا سيما على القول بأن ثناء المؤمنين مئنة من نجاة المثني عليه جزما، فكيف بمن أثنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه ووصفه بالسيادة، كما في حديث أبي بكرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"، فذلك بمنزلة القرينة التي تورث الناظر فيها علما ضروريا بنجاة الحسن، رضي الله عنه، فيصير الاستدلال لنجاة أمثاله من سادات المؤمنين عبثا، إذ العلم الضروري مما يجزم الإنسان بصحته دون توقف على استدلال نظري أو برهان عقلي، ولذلك كان الترضي عن صحابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يقول أهل العلم: تحقيقا لا تعليقا، فهو خبر أريد به إنشاء الثناء عليهم والدعاء لهم بما هو كائن لا محالة لإخبار الله، عز وجل، به، على حد التواتر المورث لعلم اليقين والقطع الرافع لأدنى درجات الشك والتردد، فهو بمنزلة طلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عقيب الأذان، فلا يقول عاقل بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يحجب عنها فيكون الدعاء طلبا لها، وإنما هي درجته صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطعا، وإنما أمر المؤمنون بطلبها له بيانا لدرجته وإثابة للداعي بصلاته ودعائه وثنائه على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلقائل أن يقول بأنه: دعاء ثناء وإن كانت صيغته صيغة دعاء المسألة. والشاهد أن الترضي عن رجالات ذلك القرن الفاضل: ترض محقق لا معلق، لتواتر الخبر بتعديلهم عدالة يصح بها نقلهم للشرع، فخبرهم مقبول لا يتوقف في قبوله على إثبات عدالة كخبر من بعدهم، إذ تعديلهم أمر قد نص عليه الشارع، عز وجل، في مواضع قد بلغت، كما تقدم، حد التواتر القطعي فلا ناقض لما قضاه الرب، جل وعلا، بخبره الصحيح القطعي من تعديلهم بل واصطفائهم لحمل الرسالة بعد نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أمم الدنيا، فهم خير طباق هذه الأمة، ومن حصل بعدهم فضلا فإنما اقتبس من فضلهم شعبة، فلا يرتفع قدر تال لهم في الوجود إلا إذا أرجع نفسه إليهم إرجاع الفرع إلى أصله، فلا يتقدم بين أيديهم، فإن الحق لا يخرج عن مجموعهم، وإن لم يعصم آحادهم، فالصغائر بل الكبائر جائزة في حقهم، مع كونها فيهم أقل من غيرهم، فهم لمن أتى بعدهم كأهل السنة لأهل الإسلام، وكأهل الإسلام لبقية الملل، فكل خير في غيرهم فهو فيهم أعظم، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أعظم، فهم أكثر الناس خيرا وأقلهم شرا، فلا يعدل عن تعديل آحادهم إلا بدليل قطعي فكيف بمقدميهم كالأربعة وسائر العشرة، رضي الله عنهم، وقد تواتر من شأنهم أنهم أسرع الناس رجوعا إلى الحق إن خرجوا عن طريقه، فتوفيقهم إلى التوبة أعظم من توفيق غيرهم، وتأمل حال ماعز، رضي الله عنه، وقد اقترف الكبيرة فلم يقر حتى تاب إلى الله، عز وجل، توبة نصوحا صارت مضرب المثل في بابها، وليس ذلك إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين صنعهم الوحي على عينه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما من بعدهم فإن الترضي عنه مهما بلغت مرتبته وإمامته في الدين لا يكون إلا تعليقا، ولذلك كان المشروع في حقه الترحم فيقال: أبو حنيفة رحمه الله، ومالك رحمه الله ..... إلخ، وإن ترضى المرء عن أولئك السادة فبرسم التعليق إحسانا للظن بهم، ومن أحق من أولئك به؟!، ورجاء من الله، عز وجل، بأوصاف جماله، أن يبلغهم أعلى الدرجات في دار الجزاء كما بلغهم درجة الإمامة في الدين في دار الابتلاء، فلا يقطع لهم بالنجاة، وإن رجي ذلك أيما رجاء فهم أحق الناس بإحسان الظن، بل قد حكم من علق الأمر بتواتر الثناء بنجاتهم يقينا، فقد أجمع من يعتد بإجماعه على عدالتهم، فهم شهداء الله، عز وجل، في أرضه، لتعديل الوحي لجملتهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، فمن شهدوا له بالخيرية فهو كذلك، ومن شهدوا له بضدها فشهادتهم فيه مقبولة إثباتا ونفيا، مدحا أو نفيا، تعديلا أو تجريحا، وهذا أصل مطرد في الحكم على الأعيان، وإن لم يعلم حالهم على وجه اليقين، فمن تواتر الثناء عليه من الرواة فعدله الأئمة فهو عدل، وإن خالف في تعديله أحدهم، فلا يقوى الواحد على معارضة الجماعة إلا إن علم من حاله ما لم يعلموه لاختصاصه به أو قربه منه أو كونه بلديه .......... إلخ، فجرحه مفسر وتعديلهم مجمل فيقدم المفسر على المجمل إلا إن أتى المعدل بما ينفي ما ادعاه المجرح أو يثبت توبة الراوي منه فيصير على حد العدالة بزوال سبب الجرح، على تفصيل في ذلك تناوله أهل هذا الفن، فقرينة العصمة إجمالا: مانعة من اجتماع هذه الأمة أو السواد الأعظم من أهل الحل والعقد فيها على ضلالة، فلا يحسنون الظن بإمام فيتواتر الثناء عليه وهو ليس بأهل له في نفس الأمر، فإن لازم ذلك انتفاء العصمة عن هذه الأمة لجواز إجماعها أو قبولها لخلاف الحق، سواء أكان ذلك في مسألة علمية أو عملية أو حكمية كالتي سبقت الإشارة إليها، وليس ذلك لغير هذه الأمة من سائر الأمم التي خفيت فيها أعلام الحق حتى اندرس أو كاد: (وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، فاندرس الحق قبل مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق من حملته إلا آحاد لا تقوم بهم على البشر حجة قد فروا إلى الخلوات والفلوات فرارا من بطش أهل الباطل الذين ظهروا عليهم بحد السيف القاهر، فبعث صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجددا لدين الخليل عليه السلام، فـ: (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)، فقامت به الحجة الرسالية، وثبت لأتباعها من العصمة العلمية والعملية ما لم يثبت لغيرهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهم مع ذلك أحرص الناس على هداية غيرهم فرسالتهم عالمية لا تختص بجنس أو لسان، فلسانها عربي، ودينها عالمي، لا يعقد أصحابه ولاء وبراء إلا برسم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
والشاهد أنه قد جاء تأويل تلك البشرى العظيمة التي هي من أعلام النبوة الخاتمة في عام الجماعة لما تنازل الحسن لمعاوية، رضي الله عنهما، عن إمرة المؤمنين. وكل كائنة تجري لأحدنا صغرت أو كبرت، إنما هي تأويل مقضي من الأزل قد أبرم وانتهى أمره، وإنما يتمايز المكلفون برد الفعل الشرعي للفعل الكوني، فإن جنس البلاء مما يشترك فيه كل المكلفين، فلن يسلم عبد من ابتلاء صغر أو كبر، فذلك من القضاء النافذ، وليس للعبد فيه حيلة أو حجة، فلا يكلف بتغييره إذ ليس ذلك في مقدوره، ولا يحتج به على تقصيره إذ ليس ذلك من معلومه، فإنه لا يعلم المسطور في اللوح ليحكم بمقتضاه، فإن ادعى أنه ضال هالك قيل له: وما أدراك أن الله لم يكتبك من المهتدين الناجين، وقد يُسرت لك أسباب الهداية فلك عقل ينظر وإرادة تختار مع كونها لا تخرج عن حد المشيئة الكونية، وإن ادعى أنه مهدي ناج، قيل له: وما أدراك لعل الله، عز وجل، قد اطلع على خبيئة سوء في صدرك فيسر لك أسباب الهداية استدراجا ثم أنفذ فيك قدره الكوني بالهلاك إظهار لآثار كيده المتين؟!، فلا هذا مطمئن ولا ذاك، وإنما تكون الراحة مع أول قدم يخطو بها المسدد في دار المقامة كما أثر ذلك عن احمد رحمه الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 12 - 2009, 09:30 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذا فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها".
ص104.
فتعجب عمرو، رضي الله عنه، إنما كان ممن يفر من القضاء الكوني النافذ، فيقعد عن امتثال القدر الشرعي، وكان حريا به أن يورثه الإيمان بالقضاء الكوني همة وعزما في بذل السبب الشرعي أو الكوني بنية المدافعة تعبدا، فإن من قعد عن جهاد الأعداء، وهو من أبرز الصور التي يظهر فيها خلل التصور في هذا الباب، بتقديم ضرورة على ضرورة آكد فيقدم حفظ بدنه على حفظ دينه، من ذلك حاله: فإنه يفر من القضاء الكوني بتعطيل القدر الشرعي، فيقعد عن تحصيل السبب مع قدرته على ذلك، فهو من أهل: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، وسؤال الله، عز وجل، السلامة ابتداء، آكد في هذا الباب الذي تفتضح فيه النفوس، فلا يسدد الله، عز وجل، فيه إلا آحادا، وغالبا ما تنفسخ همم أصحاب الدعاوى العريضة في أزمان العافية إذا ما وقع الابتلاء، فإن وقع الابتلاء ووجب القتال فلا محيص عن الصبر، فهو واجب الوقت، فمن شاء فليصبر، ومن شاء فليجزع، فما يقع لنا في أزمان الابتلاء هو تأويل ما قام بنفوسنا من التصورات والإرادات في أزمان العافية، فالرب، جل وعلا، لا ينظر إلى ظاهر الدعوى، وإنما يعلم باطن صاحبها، وما قام بنفسه من إخلاص يكون سببا في السداد، أو رياء يكون سببا في الخذلان، ولن يعدل عاقل بالسلامة شيئا في هذا الباب، إن لم تكن تلك السلامة: ندامة باعتبار مآلها كمن يقدم مصلحة صغرى عاجلة على مصلحة عظمى آجلة، فيفر صيانة لبدنه، وتلك ضرورة ثانية، ولو فسد دينه، وهو الأولى بالاعتبار في هذا الموضع، إذ هو الضرورة الأولى.
ويرى في أعين أخيه القذا فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها:
فهو ناقد حكيم لأفعال غيره، قد شغل نفسه بمراقبة الخلق فغفل عن مراقبة نفسه، وتلك علامة من علامات البطالة، فلو كان له شأن يغنيه من دين أو دنيا نافعة ما وجد زمانا يصرفه في ملاحظة الخلق بحثا وتنقيرا في أحوالهم.
ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها:
فكثير قد شغل بالوسيلة عن الغاية، فشغل بالدابة التي تحمله عن الوجهة التي يقصدها، فتراه قد بذل الجهد واستفرغ الوسع في تحصيل حظ البدن، وغفل عن نفسه، فلم يتعاهدها بأجناس العناية تزكية وتقويما، فليس لها من وقته نصيب، فهو في فلك بدنه الطيني دائر، وهو فلك سفلي، وأصحاب الهمم العلية لا يرضون إلا بالدوران في الأفلاك العلوية، فأجسادهم مطايا لأرواحهم، ودنياهم كالخلاء الذي تقضى فيه حوائج الإنسان، فلا تتعلق به همة عاقل بل هو من العارض الجبلي الذي لا انفكاك عنه، فلا يطيل فيه البقاء بل ينزله منزلة الضرورة التي تقدر بقدرها.
فمثل من شغل بالدنيا كمن شغل بتقديح طعام سحوره وتمليحه حتى أذن الفجر وحرم الأكل!، فذاك قد قدح دنياه وملحها فإذا ما هم بتناولها وافته المنية فحرمت عليه لذة ما عاش يحصله.
فلا يشغل المسافر المسدد نفسه في طريق هجرته بالعوارض الصارفة التي تستنفد جهده وتحرفه عن وجهته.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 12 - 2009, 08:39 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب". اهـ
ص104.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالصبر للحكم هو: صبر للحكم الكوني صبر الكرام على المقدورات الكونية، وصبر للحكم الشرعي امتثالا للأمر والنهي، فيستمد العبد أسباب المعونة الغيبية من رب البرية، جل وعلا، ليحفظه بملائكته من المكروه، فذلك سبب غيبي كوني، ويستعين بالأسباب الغيبية الشرعية من دعاء يرد به القضاء المعلق، فيستدفع بذلك المكروه الكوني، ويستعين بالأسباب المشهودة في أداء الواجب واجتناب المحرم والصبر على المقدور، فيحصل أسباب القيام بالواجب من شرائط وواجبات ....... إلخ، ويحصل أسباب اجتناب المحرم من البعد عن مواطن الريبة، وسد الذرائع إلى المحرمات: "فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ". ويحصل أسباب الصبر على المقدور من إدامة للذكر وتثبيت للنفس وللغير، وبعد عن مجالس الجزع التي تعقد برسم الجاهلية.
والرضا بالقدر: شرعا بقبول التكليف، فـ: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فمقابل الإسلام: التحكيم، ومقابل الإيمان: عدم وجدان الحرج في النفس من حكم الرب جل وعلا، ومقابل الإحسان: التسليم التام المؤكد بالمصدر، كما أشار إلى ذلك ابن القيم، رحمه الله، في "مدارج السالكين".
والإخلاص للتوكل: فلا يكون توكل صحيح ببذل السبب مع تعلق برب الأسباب، جل وعلا، وذلك من الدقة بمكان، إلا بإخلاص يحرر محل النزاع، فإن كثيرا من البشر يباشر التوكل اسما بلا مسمى، فهو متوكل بلسانه، قدري بحاله، يباشر السبب على حد الاستقلال بالتأثير، وإن لم يصرح بذلك، فلا يلتفت إلى مجريه، عز وجل، بل هو الفاعل، وذلك صحيح، ولكنه ما فعل إلا بعد أن شاء الله، عز وجل، ذلك، فخلق له طاقة بها يفعل، وإرادة بها يتحرك، وآلة بها يباشر، بل وخلق ذات الفعل، فقيامه به قيام المفعول بفاعله فليس له خالقا ليدعي لنفسه ما ليس لها من القوى، فإن الرب، جل وعلا، لو شاء لنقض بنيانه فقعد مع صحة الآلة إذ قد زال العزم من قلبه فانحلت عرى همته التي بها ينهض إلى مباشرة الفعل، وذلك، كما تقدم مرارا، من أعظم أدلة الربوبية القاهرة، فبها يقهر الرب، جل وعلا، عباده بإظهار كمال قدرته على الفعل في مقابل عجزهم، فإن أفعاله، عز وجل، صادرة عن كمال أوصافه، فبكلماته الكونية التي صدرت عن كمال صفاته العلية كان هذا الكون، ففعل به الرب، عز وجل، بآثار صفاته الفاعلة من الكلمات النافذة ما شاء، لكمال قدرته، وجاء فعله على أتم الوجوه، لكمال حكمته، فوجب التسليم له في كل أمر، بامتثال المأمور والصبر على المقدور ولو خفي وجه الحكمة، فإن ذلك مما لا تحيط به العقول وإن أدركت منه طرفا.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "شفاء العليل":
"إن العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم". اهـ
والاستسلام للرب: على حد ما تقدم من كمال التسليم لأمر الشرع بالامتثال، وأمر الكون بالصبر، إن لم يكن ثم سبب مقدور لرفعه، فإن من نوازل الكون ما شرعت له أسباب كونية وأخرى شرعي لرفعه، فإن قدر العبد على السبب الكوني فلم يبذله بزعم الرضا بالمقدور الكوني ولو كان مكروها مطلوب الرفع شرعا وعقلا وحسا، فهو آثم لتعطيله سنن الرب، جل وعلا، الكونية، فما وجدت الأسباب إلا لتتدافع على نحو يظهر به كمال حكمة الرب، جل وعلا، البالغة، فيرد السبب بسبب، وينازع القدر بقدر كما أثر عن الجيلاني رحمه الله، فإن قعد العبد برسم الرضا!، تعطلت عبوديات قلبية وبدنية جليلة، فلم يعد القلب ينكر المنكر إذ قد رضي بما يسخط الرب، جل وعلا، وأي خذلان أعظم من ذلك؟!، فهو الذريعة إلى إبطال الشريعة بزعم بلوغ الحقيقة، فلا جهاد بالقلب استنكارا، ولا باللسان زجرا، ولا باليد تغييرا لمن له سلطان وقدرة، فماذا بقي من رسوم الشريعة الظاهرة،
(يُتْبَعُ)
(/)
إن صح الرضا بما يسخط الرب، وقرب من لعنه وأبغضه من أصحاب الكبائر بل الكفار الأصليين، فالمحبة بعد أن كانت شرعية صيرها أولئك كونية، فشملت كل الأعيان ولو نجست، فرأينا منهم من يبالغ في تكريم الكلاب! على نحو تأنف منه النفوس السوية، فإن الإحسان إلى الحيوان شيء، وتعظيمه بزعم محبة كل مخلوق مراد للرب، جل وعلا، شيء آخر، وقد غفر الرب، جل وعلا، للبغي لما سقت الكلب، فغلا القوم حتى صيروا أنفسهم جسورا يمر عليها!، والحق وسط بين طرفين، فرحمة المخلوق الحي الحساس باب، والغلو في تكريمه شيء آخر، وهو من مظاهر الخلل العاطفي في المجتمعات الغربية التي صيرت الكلاب أصحابا وخلانا، فانحلت عرى العلائق البشرية بين أفراد المجتمع، وعقدت عرى المودة مع الكلاب والقطط، حتى اختص أحدهم كلبه بتركته بعد موته، فلم يجد من البشر أحدا يكافئه في المودة والوفاء!، وذلك حظه من البشر الذي ألجأه إلى صحبة الكلاب. ونوادرهم، وإن شئت الدقة فقل: مخازيهم، في تقديس الحيوان في مقابل الجفاء في حق الإنسان أكثر من أن تحصى، حتى أصدر البيت الأبيض بيانا ينعي فيه هرة ابنة الرئيس الأمريكي السابق، ولم يصدر بيانا لنعي مئات الآلاف من القتلى في بلاد الأفغان والعراق وغزة: حصيلة ولاية جورج بوش المشئومة.
وشملت كل الأفعال فرضي القوم بالكفر والفحش فهو مراد للرب، جل وعلا، لمجرد أنه شاء وقوعه بقدره الكوني النافذ، فلم يرده لذاته ليرضى به العبد، وإنما غايته أن يصبر ويرضى عن وقوعه إن عدم سببا كونيا أو شرعيا لرفعه، فينظر إلى حكمة الرب، جل وعلا، الكونية، بعد أن نفدت أسباب حكمته الشرعية، فما أراده إلا لمراد أسمى، ولا يعني ذلك أن يقعد العباد عن مدافعته، فإن ذلك إنما يكون، كما تقدم، بعد بذل الأسباب الشرعية والكونية المقدورة.
فالاستسلام للرب لا يكون إلا بامتثال أمره الشرعي ببذل الأسباب، فإن نفدت فليس ثم إلا الرضا فهو بعد بذل السبب: توكل صحيح، أو الصبر على المكروه إن لم يبلغ مرتبة الرضا فهي عزيزة المنال لا ينالها إلا آحاد العباد.
وعند ابن المبارك، رحمه الله، في "الزهد" زيادة: "ولولا ثلاث خلال صلح الناس: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
فالشح كما ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله أعلى البخل على وجه، فهو فرد من أفراده ورد عليه قيد الشدة، فحقيقة البخل فيه وزيادة، إذ هو: بخل فذلك قدر مشترك بينهما، و: شديد، فذلك فصل على طريقة المناطقة، قيد عموم المعنى الأصلى بصورة من صوره هي أعظم صور البخل، فاختص جنس البخل بعد ورود قيد الشدة عليه باسم دال عليه هو: "الشح" إذ قد صار نوعا مندرجا تحته فتحت جنس البخل ما لا يحصى من الأنواع: فبخل بالمال فذلك ضد الكرم، وبخل بالنفس فذلك ضد الشجاعة، وبخل بالوجاهة فلا يبذلها لطالبها في شفاعة مباحة ........... إلخ، ولا يقوم هذا الدين كما حرر ابن تيمية، رحمه الله، إلا على الكرم بالمال فذلك ضد البخل، والكرم بالبدن فتلك الشجاعة التي هي ضد الجبن فحقيقته البخل بالنفس في مواضع يحسن شرعا بذلها فيها، فليس بذل النفس محمودا في كل حال، بل لا يمدح ذلك إلا برسم الجهاد في سبيل الله على ما يعتريه من أحكام بالندب تارة كمن بذل أسباب جهاد الطلب حال القوة، وبالفرض أخرى كمن بذل أسباب جهاد الدفع حال الضعف، وبالمنع ثالثة كمن فرط في مراد أعظم للشارع عز وجل من رعاية أبوين إن كان جهاده ندبا فتقديم المندوب على الواجب مئنة من نقص في إدراك مقاصد الشرع الشريف، وبالعفو لمن رخص الله، عز وجل، له في الترك لمرض أو ضعف، فالكرم خلق جليل هو وسط بين البخل والسرف في الأموال، والجبن والتهور في الأبدان.
(يُتْبَعُ)
(/)
وعلى قول آخر حكاه صاحب اللسان، رحمه الله، بصيغة التضعيف: قيل: البخل بالمال والشح بالمال والمعروف، فيكون الشح أعم من هذا الوجه، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل بخل شح ولا عكس، وحبس المعروف أمر يعم كل أفراده، لدلالة: "أل" الجنسية على استغراق عموم ما دخلت عليه، فالمعروف: مال يبذل، ونفس تتلف في مظان رضا الرب جل وعلا، وشفاعة في معروف، وكلمة طيبة، ووجه طلق، وسعي في حاجة ضعيف وحمل لعاجز ............ إلخ، ومن حديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ"، فهو باب واسع قل أن يجمع مسائله إلا من امتن الرب، عز وجل، عليه، بسعة الصدر، وقد حرمنا لمانع التربية على الأثرة في البيت وفي المدرسة وفي الجامعة وحتى في الحياة الزوجية، حرمنا لذلك المانع من تحصيل كثير من تلك المسائل، فحفظها في الذهن شيء، وتأويلها خارجه شيء آخر، ولا يسدد في هذا الباب إلا آحاد قد امتن الله عليهم بما حرم منه جيلنا من رؤية شرعية في مسائل التربية، فرؤية غالب المجتمعات الإسلامية: رؤية اجتماعية عرفية تخضع للعادة برسم التقليد أكثر منها لحكم الشريعة برسم الديانة، فالكذب مستقبح لا محرم، والشره مذموم لا ممقوت شرعا ........ إلخ، والعادات قُلَّب تختلف من مجتمع إلى آخر، بل من حي إلى آخر، وربما من أسرة إلى أخرى، وتخضع للظروف الاقتصادية خضوعا مباشرا فليست أخلاق السعة كأخلاق الضيق، ففي السعة تجد النفوس من الطلاقة ما لا تجده النفوس المأسورة في قيد الضيق، فالظنون تسوء، والإحساس بالأمن يتضاءل بل يكاد يتلاشى في بعض الأمصار، وتلك روافد تصب في نهر الأثرة والأنانية فلا يلتفت أحد إلى جار أو حتى ذي رحم، فلكل امرئ منهم شأن يغنيه، ولا يملك الناظر بعين الإنصاف والرحمة إلا أن ينكر ذلك بمقتضى حكم الشرع، ويعتذر بمقتضى حكم الكون فإن الشدة مظنة الزلل، وليس المعافى كالمفتون في دين أو دنيا، والشاهد أن تقلب العادات أمر يؤدي إلى تعدد معايير الأخلاق، وعلى هذا بنت الفلسفات المادية صروحها فمعيار مادي بحت أصل أصوله ماركس وإنجلز، فجعل مستودع أسرار الإنسان: بطنه!، ومعيار اجتماعي أصل أصوله دوركاييم فجعل مناط ولاء وبراء الفرد ما تقره الجماعة من أحكام وتشريعات ولو على خلاف ما قررته النبوات، فالعقل الجمعي هو الحاكم، وليس للشرع عليه سلطان ملزم، بل الشرع خاضع له، في صورة عصرية من صور تقديم العقل على النقل، فقد قدمه الأوائل في الإلهيات، وقدمه المتأخرون في كل شيء: في الإلهيات والحكميات والعاديات والسياسات والأخلاق ......... إلخ، ومعيار غريزي أصل أصوله فرويد فجعل منتهى همة الإنسان ما يشترك فيه مع الحيوان من وقاع الزوج، ولو على خلاف الشرع، وهو أمر صادف علمانية متطرفة، إن صح أن منها ما هو على حد الاعتدال تجوزا، فلم تحفظ دينا أو خلقا، وإنما استباحت حرمات الأديان باسم المساواة، واستباحت حرمات الأبدان باسم الحرية الشخصية. وشح الإنسان وحرصه على تحصيل لذاته الآنية دون نظر إلى مآلاتها قد أورده موارد الزلل إلا من عصم الرب جل وعلا، والمسدد من سدده الله تبارك وتعالى، فلا يرتجى هدى إلا منه، ولا تكون راحة إلا في ظل شرعه في الأولى، وظله يوم لا ظل إلا ظله، وما يعقب ذلك من سكنى أوليائه لدار مقامته فتلك غاية كرامته.
وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه: وهما أمران متلازمان في ظل غياب الشرع الحاكم، فلا يتبع الهوى إلا بالإعراض عن الشريعة المنزلة، ولا يعجب الإنسان بمقالته إلا فرعا عن جهله بمقالة الشرع، فإن للشرع حكما في كل شأن من شئون الأفراد فلا يخلو عمل من أعمال البشر عن دخول في حد الحكم التكليفي، ولو كان مباحا، فالإباحة حكم شرعي، تستصحب فيه البراءة الأصلية لكل عين بالطهارة إلى أن تثبت نجاستها، ولكل معاملة بالإباحة إلى أن يثبت تحريمها، وغالب أفعال البشر من هذا النوع، فمعظم الأوقات تنفق في معالجة المباحات من أموال وصناعات ..... إلخ، فالمسدد من اقتنص في زحام الحياة المادية الجافة نية صالحة ترطب أجواءها، فينوي بالمباح خيرا من تقو على الطاعة أو إعفاف
(يُتْبَعُ)
(/)
نفس عن مباشرة المحرم ....... إلخ، وذلك ميدان يتفاوت فيه التجار مع الرب، جل وعلا، تبعا لتفاوت قلوبهم وإراداتهم وعلومهم وحنكتهم في تحصيل أعظم الأرباح بأقل التكاليف.
وقال سلمان، رضي الله عنه، أيضا: "إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منها ذراري إلى يوم القيامة، وكتب الآجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر".
ص104، 105.
فمسح على ظهره فأخرج الذرية ليأخذ غليها الميثاق لتصح خلافة آدم عليه السلام أصلا، وخلافتهم تبعا، ثم أنساهم الميثاق ليصح معنى الابتلاء، وإلا لو علم كلٌ مصيره لبطل التكليف وصار بعث الرسل عبثا، فإنهم ما بعثوا إلا تجديدا وتذكيرا بذلك الميثاق الأول، فإخفاؤه من جنس إخفاء التقدير الأزلي في اللوح المحفوظ، فإن الرب، جل وعلا، قد أخفاه بحكمته وأمضاه بقدرته.
وكتب الله، عز وجل، كل شيء عموما، والخير ومجالسه، والشر ومجالسه على حد الطباق استيفاء لأوجه القسمة العقلية إمعانا في عموم الكتابة الكونية لسائر المقدورات البشرية.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار".
والأثار فى ذلك أكثر من أن تذكر، وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة". اهـ
ص105.
فيعمل وقد أخفي عنه المقدور الأزلي في اللوح المحفوظ، فإن الله، عز وجل، قد سبق في علمه الأزلي ضلاله، لفساد باطن، أظهر الله، عز وجل شؤمه في آخر عمره، فذلك من مكره، جل وعلا، أن استخرج مكنونات الصدور، ففعل الرب، جل وعلا، به عدل، ولو شاء لفعل به بمقتضى فضله ولكنه شاء له سوء الخاتمة إمعانا في بيان قدرته، عز وجل، بتنوع المقادير، وتنوع المحال القابلة لآثار الوحي، فمنهم من يقبلها ظاهرا وباطنا فلا يزيغ، ومنهم من يزيغه الله، عز وجل، بمقتضى مشيئته فذلك وجه العدل، ومنهم من يردها ابتداء، ومنهم من يردها ويمعن في حربها ثم يشاء الرب، جل وعلا، هدايته فذلك وجه الفضل، فمشيئته عامة نافذة في خلقه فذلك من قدرته، وهو أعلم بالمحال فلا يضع الهداية أو الضلالة إلا في محل ملائم فذلك من حكمته.
وبذلك انتهى ابن القيم، رحمه الله، من حشد أدلة الباب في مسلك يشبه إلى حد كبير مسلك الإمام اللالكائي، رحمه الله، في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، فإنه سار على نفس الطريقة فحشد الآيات والأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة، فصدر بالصحيح وتلاه بما يستشهد به، وطريقتهما في ذلك ترجع إلى طريقة المحدثين في جمع أدلة الباب الواحد إمعانا في الاستدلال وإزالة لما قد يعرض من الخلاف، وقد انتهج الإمام البخاري في صحيحه ذات المسلك فذكر في صدر أبواب كتابه الآيات وما ليس على شرطه ثم أورد ما هو على شرطه مسندا من لدنه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذلك صنع مسلم في تقديمه أصح ما في الباب ثم التثنية بما هو أدنى صحة اعتبارا بعد أن حصل الاحتجاج بالمقدم ابتداء.
ويلي ذلك، إن شاء الله، عودة إلى مناقشة ابن القيم، رحمه الله، لمسائل هذا الباب الجليل بعد ما حشده من هذا الكم من الأدلة النقلية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 12 - 2009, 08:37 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالجواب: أن ها هنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بصاحبها إلى دار الشقاء.
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، وهذه الآثاركلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه، وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله". اهـ
ص105.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالإيمان بالقدر شعار التوحيد، إذ مرده عند التحقيق: الإيمان بالله، عز وجل، صفاتٍ فاعلة صدر عنها فعله، فبها فعل الرب، جل وعلا، ما شاء في كونه، على وفق علمه المحيط وحكمته البالغة فخرج هذا الكون على أبدع ما يكون مع قدرته، عز وجل على خلق عوالم أخرى غيره، فصدرت كلماته التكوينيات بالخلق والرزق ..... إلخ متباينة بتباين الصفات التي صدرت عنها فالكلمة الخالقة غير الكلمة الرازقة، بل الكلمة التي خلق بها المسيح عليه السلام غير الكلمة التي خلق بها غيره من آحاد البشر، فنسبتها إلى الرب، جل وعلا، نسبة صفة إلى موصوف، فكلمته من وصفه، وأثرها: خلق المسيح عليه السلام وإنما خصت بالذكر لشرف المكون بها فهو عبد الله ورسوله وروح منه خلقت بتلك الكلمة، فصدورها من الرب، عز وجل، صدور صفة من المتصف بها، وصدور المسيح عليه السلام المكون بها: صدور مخلوق من خالقه، وإنما خصت روحه بالذكر نسبة إلى الرب، عز وجل، لشرفها، فهو من أولي العزم المصطفين، وتلك أعلى مراتب النبوة كما أن النبوة أعلى مراتب البشرية فهم خيار من خيار، ومن أولى من أولئك بالنسبة إلى الرب، جل وعلا، تشريفا؟!.
ومرده، أي الإيمان بالقدر، عند التحقيق إلى الإيمان بالرسل إذ شرائعهم من الكلمات الشرعيات فلا تعارض بالكلمات الكونيات كما صنع المشركية.
ومرده أيضا إلى الإيمان بالملائكة فهي التي بأمر ربها الكوني تعمل، فيتلقى الملك الكلمة التكوينية بإحياء فلان أو إماتة فلان ........ إلخ، فيمتثل الجند النوراني أمر الرب العلي، ومنهم من ينزل على قلوب الرسل عليهم السلام بالكلمات الشرعية، فمن آمن بهم وعارض الشرع بالقدر فقد آمن ببعض ما نزلوا به من الكلمات وكفر ببعض فهو من أهل للإنكار والتوبيخ في قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، ولا ينفك صاحب البدعة عن إيمان ببعض الكتاب يزين بدعته، إذ هو حق يلبس به على غيره، وكفر ببعض يستره بزخرف من القول، فلا بد أن يفرق بين متماثلين كمن آمن بالقضاء الشرعي وكفر بالقضاء الكوني أو عكس الأمر فآمن بالقدر وكفر بالشرع، وكلاهما من جنس واحد، فهما نوعان مقيدان يندرجان تحت جنس كلي مطلق هو القضاء أو الكلام: الرباني، فمن جنس القضاء: نوع الكون ونوع الشرع، ومن جنس الكلام: نوع التكوين النافذ، ونوع التشريع الحاكم فـ: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
ومرده إلى الإيمان بالكتب فهي من الكلمات الشرعيات فمن كفر بالقدر فقد كفر بما أثبتته من قدر الله، عز وجل، النافذ، ومن عارضها بالكلمات الكونيات فهو على طريقة من تقدم من القدرية المشركية.
ومرده إلى الإيمان باليوم الآخر فهو تأويل ما أخبرت به الرسل عليهم السلام، وما سطر في اللوح المحفوظ من قدر السعادة والشقاوة النافذ.
فالإيمان بالقدر ينتظم كل أركان الإيمان فهو نظام التوحيد كما تقدم من كلام ابن عباس رضي الله عنهما.
وذلك من المحكم الذي اتفقت الرسالات عليه فلا يقبل النسخ أو التبديل إذ متعلقه وصف ربنا، عز وجل، ووصفه قد بلغ الغاية من الكمال: ذاتا وفعلا، فلا يزاد فيه ولا ينقص، ليصح نسخ وصف كمال كان له فلم يعد، أو زيادة في وصفه على قول من يقول بأن الزيادة: نسخ، وذلك إن كان جائزا في الأحكام الشرعية فهو غير جائز في الأخبار الإلهية بل في سائر الأخبار الكونية كأخبار الأمم الغابرة وأحوال الدار الآخرة، فالنسخ لا يجري في الأخبار وإنما يجري في الأحكام التي تقبل النسخ، فإن أصول الأحكام، أيضا، لا تقبل النسخ.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأما المقام الثانى: وهو مقام الهدى وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من إبليس، كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاق مغالبته ". اهـ
ص105.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالجبري يسيء الظن بربه، جل وعلا، إذ يعتقد أنه، تبارك وتعالى، يحب ضلال عباده ويرضى به، فييسر لهم أسباب الضلال بإرادة شرعية مريدة!، والصحيح أنه ييسرها بإرادة كونية محيطة قد عمت سائر الأعيان والأفعال تقديرا بالعلم في الأزل وكتابة في اللوح بالقلم وتأويلا في عالم الشهادة مشيئة وخلقا، فلم تتعلق بإرادته الشرعية الحاكمة: متعلق محبته، فلا يحب جل وعلا الضلال شرعا وإن أراده كونا، فقدر الكفر أو المعصية الكوني مما يستعان بالرب، جل وعلا، على دفعه أو رفع أثره إن وقع ببذل الأسباب الدافعة الرافعة له من الإيمان والطاعة، وجهاد أعداء الملة الباغين عليها بالشبهات والشهوات والسيوف المشهرات، فيرد عدوان كل بجنس سلاحه، فمن بغى بالشبهة قوتل بالحجة، ومن بغى بالسيف فلا يفل السيف إلا السيف!.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"يقول قائل هؤلاء:
ما حيلة العبد والأقدار جارية ******* عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له ******* إياك إياك أن تبتل بالماء". اهـ
ص105.
فالبيت الأول قد يصح بقيد: القضاء الكوني الذي لا يرد كالمصائب التي لا يملك العبد دفعها أو رفعها، فمن يملك دفع الموت أو رفعه بعد وقوعه؟!، فما حيلة العبد في جريان القضاء الكوني النافذ فهو جار عليه في كل وقت، فللرب، عز وجل، فيه كلمة تكوينية في كل أحواله، فلا يتكلم ولا يقوم ولا يقعد ولا يرقد ولا يأكل ولا يشرب ولا يواقع ولا يقضي حاجة الإنسان ولا يتنفس بل لا تتنفس أو تموت خلية من خلاياه إلا بكلمة تكوينية نافذة، فذلك من القضاء الكوني النافذ الذي لا يتعلق به ثواب أو عقاب في ذاته إلا إن تضمن فعلا للمكلف، كمن يتناول الخبيث فإنه يتلف بدنه، وإتلاف الأبدان مرده إلى جريان أسباب التلف بإذن الرب، جل وعلا، الكوني، فلا يلام الإنسان ابتداء على ما يلحق بدنه من عطب، ولكنه يلام إن باشر سبب ذلك بتناول مطعوم أو مشروب ضار، فيصير الثواب والعقاب آنذاك متعلقا بفعل العبد بمباشرة السبب لا بفعل الرب، جل وعلا، بإمضاء السبب، وهذا أصل مطرد في باب التكليف، فإن العبد لا يكلف بفعل غيره فكيف بفعل ربه، عز وجل، فلا يكلف بالشفاء إذ لا حيلة له فيه ليتعلق به التكليف، وإنما يكلف بمباشرة سبب الشفاء، وليس عليه نفاذ السبب فذلك متعلق فعل الرب، جل وعلا، إن شاء أنفذه فأصاب الدواء الداء بإذنه فشفي وبرئ فضلا، وإن شاء أبطله فلم يشفه ولو استوفى المريض الأسباب وانتفت في حقه الموانع وبالغ في الاحتياط على وزان ما يفعله كثير من المتوكلين بلسان الحال على الأسباب الكونية فيبالغون في التحصن من الآفات على حد يقدح في توكلهم، والآفة عارض كوني نازل بالعبد لا محالة فهو مما عمت به البلوى، وليس معنى ذلك أن يقعد العبد عن مباشرة أسباب رفعها، وإنما يستدفعها بالدعاء والتحرز من أسباب الآفات ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن وقعت سعى في رفعها بالأسباب الشرعية والكونية التي اعتبرها الرب، جل وعلا، فلا يرد القدر إلا الدعاء، و: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" كما عند مسلم، رحمه الله، من حديث حابر، رضي الله عنه، مرفوعا، فإذا بذل السبب بذلا صحيحا تولد منه المسبب بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ.
قال السيوطي، رحمه الله، في "الديباج على صحيح مسلم":
"قال المازري: نبه به على ما قد يعارض به قوله لكل داء دواء وهو أنه يوجد كثير من المرضى يداوون فلا يبرؤون فقال إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء". اهـ
فقد يخطئ الطبيب فيشاء الرب، جل وعلا، ألا يفطن إلى حقيقة الداء فيستعمل له دواء لا ينفع معه، وقد يفطن له ولا يفطن إلى الدواء الملائم، وقد يفطن لكليهما، فلا يشاء الرب، جل وعلا، قبول المحل لآثار الدواء النافع، فمرد الأمر في كل حال إلى إذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ، فإنك إن ذهبت تبحث عن علة الشيء أوصلتك إلى علة سابقة، فما علة نجاح المضاد الحيوي الفلاني في القضاء على البكتيريا الفلانية: علته أن مادة كذا وكذا توقف نمو البروتين الذي يدخل في تكوين الجرثوم، وما علة أن هذه المادة بالذات توقف نمو البروتين: علته أنها تحطم الروابط بين
(يُتْبَعُ)
(/)
جزيئاته، وما علة تحطيمها لتلك الروابط، علته: أنها تتفاعل معها تفاعلا كيميائيا يؤدي إلى تحللها، وما علة نجاح هذا التفاعل بين ذينك المتفاعلين تحديدا لما لا يتفاعل ذلك البروتين مع الماء مثلا فيذيبه الماء ويزيل أثره؟، علته: التناسب بين المتفاعلين بتكوين روابط كيمائية جديدة أكثر استقرارا، وذلك مطلوب كل ذرة كيميائية إذ تسعى إلى التشبه بالغازات الخاملة المستقرة التي كفيت مؤنة التفاعل لتصل إلى حال الاستقرار مطلوب كل الكائنات، وما علة هذا التناسب؟: لماذا تتناسب هذه الذرة مع تلك بالذات، علته: أن هذه الذرة تحتاج، على سبيل المثال، جسيما سالبا واحدا لتصل إلى حالة الاستقرار والأخرى تفقده لتصل إلى حالة الاستقرار فناسب أن تتنازل للأولى عنه، ومن الذي جعل هذه الذرة على هذا التركيب وتلك على ذلك التركيب؟ ولم لا تصل الذرة إلى حالة الاستقرار إلا بالوصول إلى الحالة الثمانية التي تمتلئ فيها مدارات بعينها بـ 8 إلكترونات تحديدا، لماذا لم يكن ذلك ببلوغها 10 أو 12 أو ........... إلخ، فلو قال: الطبيعة، فقد نسب، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، الأمر إلى غير عاقل لا يملك حتى دفع عدوان بني آدم عليه فهم يخربونه ليل نهار بما استحدثوا من وسائل الإفساد والتلويث بكل أنواعه، وإن رده إلى الرب، جل وعلا، فقد رده إلى إله قدير حكيم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فأعطى الذرة الفلانية تركيبا كيميائيا معينا يلائم التفاعل مع الذرة الفلانية ليتولد من تفاعلهما مركب نافع يقاوم الداء فيبرأ المريض بإذن الله، فهو الذي أودع في ذلك المركب قوة الشفاء، وهو الذي يسر له أسباب العمل بإتمام التفاعل ولو شاء لأوقفه بعارض أو مثبط كما يقع لكثير من التفاعلات الكيميائية التي تتوقف لعارض من محفز سام أو أي مثبط آخر، فمرد الأمر إلى حكمته وقدرته، فبالحكمة أعطى كل دواء خلقه ثم هداه إلى طريق الشفاء، وبقدرته أمضى قوى الشفاء الكامنة فيه فأصابت الداء فرفعته بإذنه الكوني النافذ.
وأما البيت الثاني ففيه من سوء الظن الصريح ما فيه، فصاحبه يعارض التكليف الشرعي بالقدر الكوني، فيرمي الرب، جل وعلا، بأنه قد كلف عباده بما لا يطيقون فقيدهم وألقاهم في اليم آمرا إياهم ألا يبتلوا بالماء، والتكليف بما لا يطاق غير واقع شرعا بالإجماع، وإن جوزه بعض أهل العلم عقلا، فالخلاف نظري لا أثر له في فعل المكلفين ليصح هذا الادعاء الجائر، بل قد ورد النص بنفي ذلك، كما في قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، بل إن الرب، جل وعلا، قد كلف عباده دون ما يطيقون رحمة بهم، فهم يطيقون ست صلوات أو سبعة أو ثمانية .......... إلخ، ولكنه لم يشأ ذلك رحمة بهم، فذلك تأويل دعائهم: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، وقد اختصت هذه الأمة دون سائر الأمم برفع الآصار التي كانت على من سبقها، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"وقوله، (أي: الإمام الطحاوي رحمه الله): "ولا يطيقون إلا ما كلفهم به"، إلى آخر كلامه - أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه. وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، و: "لا حول ولا قوة إلا بالله" - دليل على إثبات القدر ولكن في كلام الشيخ إشكال: فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قال: "لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم". وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد، ولا يصح ذلك، لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، ولكنه تفضل علينا ورحمنا، وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات". اهـ
فمن جهة الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف من صحة الآلات وتلاؤم التكليف معها، ويسر الشريعة في إسقاط بعض الأركان والواجبات عن العاجز عن أدائها: لم يكلفنا الله، عز وجل، ما لا نطيق، بل كلفنا، فضلا منه وامتنانا، أدنى مما نطيق، فآلاتنا تطيق من فعل الطاعات أكثر مما يجب علينا، وقد كانت الأمم قبلنا تكلف بأشق مما كلفنا به فلم تعجز عنه، ولكنه، جل وعلا، علم ضعف هذه الأمة وقصر أعمارها من وجه، وأكرمها وشرفها من وجه آخر، فاختصها بأيسر واشرف أجناس العبادات، ففعلها يسير وأجرها عظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والأمة هي أمة الإجابة سواء أكان المستجيب عربيا أم أعجميا أم أمريكيا أم صينيا أم إفريقيا ........... إلخ، فتلك دعوة عالمية بعث بها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسائر أجناس البرية.
ومن جهة الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل، وهي متعلق الإرادة الكونية النافذة لا يقدر العبد على أي فعل: طاعة كان أو معصية أو مباحا لا إثم في فعله أو تركه، لا يقدر على ذلك إلا بإقدار الله، عز وجل، له بمشيئته الكونية النافذة.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 12 - 2009, 09:03 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ويقول قائلهم:
دعانى وسد الباب دوني فهل إلى ******* دخولي سبيل؟ بينوا لي قصتي". اهـ
ص105.
فذلك من أبيات الكتابي التي نقضها شيخ الإسلام، رحمه الله، في تائيته المعروفة في القضاء والقدر، وهو كحال الجبرية والمشركية يعارض الشرع بالقدر، فيحتج بما لا يعلم من الكتاب الأول، وكأنه قد اطلع على اللوح المحفوظ فعلمه أنه هالك لا محالة، فصار تكليفه بالشرع عبثا، إذ قد سبق في علمه هو أنه هالك!، فيقال له: أعلمت علم الرب، جل وعلا، الأزلي فيك فأطلعك على اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره فرأيت اسمك في سجل الهالكين ليصح احتجاجك بالقدر على الشرع، فيكون تكليفك عبثا إذ قد سبق الكتاب بهلاكك؟، فإن قال: نعم فقد ادعى لنفسه ما لم يدعه الأنبياء عليهم السلام لأنفسهم: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)، فلا يدعي ذلك إلا كاذب أو مجنون قد اختل عقله فارتفع قلم التكليف عنه فلا يؤاخذ بهذيانه، وذلك حال كل من غلا في ممدوحه أو إمامه أو شيخه فادعى له ذلك كما وقع من أمثال صاحب "البردة" إذ يقول مطريا غاليا في وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ????? ومن علومك علم اللوح والقلم
وليس للنبي صلى الله عليه وعلى آله سلم بذلك الكذب حاجة، فهو أفضل الخلائق بلا ريب، ولكنه أيضا: ليس منازعا للرب، جل وعلا، صفات ربوبيته بل أخصها!، فالشطر الأول فيه غلو في الملك، إذ أثبت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ملك الدنيا والآخرة بل جعلهما بعض جوده!، فكيف بعموم ملكه؟!، وهو غلو ينقضه نحو قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)، فليس لك من أمر تقليب القلوب وتثبيتها شيء، فالقلوب بيد مقلبها، وإنما لك هداية البيان والإرشاد، والشطر الثاني غلو في العلم ولازمه التدبير، فاستوفى البيت أخص وصفي الربوبية: الخلق للأعيان فهو من تمام ملكها فالخالق هو المالك للعين، والتدبير وهو لازم العلم، فأي غلو أعظم من ذلك، وماذا بقي للرب، جل وعلا؟!، وذلك أمر لازمه الدعوة إلى عبادة الرسل عليهم السلام على حد ما وقع من النصارى الذين غلوا في المسيح عليه السلام فصيروه الإله المعبود، وهو نقيض ما دعاهم إليه من تجريد التوحيد لرب العبيد، عز وجل، وفي التنزيل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، فلم يأمر البشر بالغلو فيه وعبادته من دون الله، بل قد نهى عن ذلك كما في حديث عمر، رضي الله عنه، مرفوعا: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، فالمحبة لا تعني الغلو في المحبوب كذبا وزورا، فذلك شأن النصارى في المسيح عليه السلام إذ قد غطى سكر الغلو في محبته على عقولهم فأذهبت السكرة الفكرة، بل أذهبت العقل فصار الإيمان عندهم على رسم الجنون!، ولا تسال عن السر فذلك أمر قد حجب عن العقول فلا يخضع للمناقشة ولو كان عين المحال الذي لا ترد به رسالة، فالرسالة ما جاءت إلا لتزكي قياس العقل الصريح لا لتنقضه بزعم معارضة الإيمان القلبي للقياس العقلي.
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا تصدر هذه المقالة، كما تقدم، إلا من عقل قد أسكرته لذة الغلو في المحبوب وهو أمر لم يسلم منه كل غال، إذ قد جبل البشر على ذلك فقل أن يسلم منه إنسان، ولو كان على رسم الديانة، فهو مائل بقلبه إلى إمامه فيدعي فيه العصمة بلسان المقال وبنزله منزلة الناظر في اللوح المحفزظ بالباصرة فهو الذي يصدر الأوامر التي هي تأويل ما في اللوح فيتلقاها الباب أو النائب عنه إلى أن يرجع من غيبته فالولاية والعزل له، يولي من شاء ولو هزم في الاقتراع، ويحيط من شاء بالهالات النورانية ولو في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة!، ويخاطب من شاء ليزكي مرشحا دون آخر، وما يصدر في كل ذلك إلا عما قرأه في اللوح المحفوظ! وقل مثله فيمن يغلو في شيخه من غلاة أهل الطريق فقد ادعى الغلاة لشيوخهم بل لأنفسهم مراتب الربوبية تكوينا وتدبيرا، وجنس الآفة واحد: الغلو في الأفاضل إن كانوا أنبياء وأئمة مبجلين وشيوخ صالحين، أو الأسافل إن كانوا غير ذلك وخدع البسطاء فيهم بما أظهروه من الخوارق برسم الكرامة والولاية.
والشاهد أن المحتج بالقدر على الشرع يلزمه أن يقيم الدليل القاطع على كونه ممن سبق في علم الله، عز وجل هلاكهم، فصار التكليف في حقه عبثا، فإن نفى وقال: لا أعلمه، فقد بطلت حجته، فإذا كان لا يعلم صار التكليف في حقه جائزا بل واجبا لحصول النجاة، فيخاطب بالإيمان إن كان كافرا وبالطاعة إن كان عاصيا، فكما اختار الكفر بإرادته فلم يكرهه أحد عليه فليختر الإيمان، وهو لا بد مختار ولا بد فاعل بما جبل عليه من الهم والإرادة، فإن لم يتحرك طلبا للحق عدل عنه إلى الباطل لا محالة، فاشتغال المحل بجنس الإرادة حتم لازم، فذلك من لوازم حياته، إذ لا ينفك حي عن تصور علمي يولد في الخارج حكما عمليا يشهد للتصور، سواء أكان تصورا صحيحا أم باطلا، فالظاهر منتصر لا محالة للباطن، فإن لم يشغل المحل بإرادة صالحة، ولا تتلقى الإرادات الصالحة في أمر الديانة إلا من وحي الرسالة، فلا بد من النبوة لتضئ العقل فتزكي قياسه وتصحح تصوره، فيتولد من ذلك من أجناس الطاعات القلبية واللسانية والبدنية ما تحصل به النجاة في الدار الأخروية، إن لم يشغله بإرادة صالحة فهو لا محالة مشغول بإرادة طالحة، وذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة يسرت له أسبابها، ومن كان من أهل الشقاوة يسرت له أسبابها، فالعمل كائن لا محالة، والعامل لا يجد في نفسه أنه حال مباشرة العمل مجبور ليصح احتجاجه بالقدر من هذا الوجه، بل هو يتحرك في هذه الدار باختياره، بل إن حركاته الاضطرارية، كحركة الأحشاء في باطنه لا يؤاخذ عليها إذ لا يتعلق تكليف بها لخروجها عن حد إرادته، فالتكليف لا يتعدى دائرة المقدور، ولا قدرة لأحد على التحكم في أحشائه، فذلك مما يتعلق بالقدر الكوني الذي يخرج عن نطاق إرادة العبد فلا تتجاوز حد القدر الشرعي الذي جاء به تكليف النبوات، بل إنه إن أكره على فعل لم يؤاخذ به، على خلاف في القتل والزنى ذكره أهل الأصول في مبحث "عوارض الأهلية"، فالشاهد أنه يختار الكفر بإرادته التي لا تخرج عن حد الإرادة الكونية النافذة، فيباشر أعماله مباشرة الفاعل للمفعول بقوة مؤثرة، فلم لا يباشر الإيمان بنفس القوة؟!، وقد عرض عليه، ولِمَ يعرض عن النظر فيه لعله يكون حقا؟! وقد ادعى من جاء به أنه كذلك بل ادعى النبوة التي هي أعظم دعوى بشرية فلا بد أن يؤيده الرب جل وعلا إن كان صادقا ببراهين قاطعة تجعل الناظر فيها يجزم بصحة دعواه ولا بد في المقابل أن يخذله ويفضحه بكشف ستره إن كانت دعواه كاذبة وهل يستوي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومسيلمة؟!، ولم يختار ويدقق في أمر الدنيا ولا يفعل ذلك في أمر الدين، فلا حجة صحيحة له في ذلك لقصور علمه عن إدراك ما في اللوح المحفوظ، ولا حجة له صحيحة في عالم الشهادة فهو يختار أمر دينه ودنياه فإن أكره فلا اعتبار لإكراهه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فإذا كان ذلك الاستفهام الإنكاري الإبطالي لكون النبي صلى الله عليه وعلى
(يُتْبَعُ)
(/)
آله وسلم يكره أحدا على الإيمان وهو المؤيد بالوحي الشرعي والقدر الكوني على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ"، فقد سخر الباري، عز وجل، له أسباب الكون لما قام بأسباب الشرع أكمل قيام فلم يحقق مراد الرب، جل وعلا، الشرعي، أحد مثله، إذا كان ذلك الاستفهام الإنكاري واردا في حقه فكيف بمن دونه من أتباع الرسالة؟!، فـ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، والإنسان، كما تقدم، عامل لا محالة، بل حتى المحتج بالقدر على الشرع يعمل بخلاف الشرع بإرادة مختارة!، فلم لا يجعلها على مراد الشرع؟!، فالمحل قابل لكليهما إذ الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف قابلة لكليهما، فإذا شغلت بأحدهما انشغلت عن ضده فمن تلبس بالطاعة فقد شغل بها عن المعصية، ومن تلبس بالمعصية فقد شغل بها عن الطاعة فجاز من هذا الوجه أن يقال إن تكليف العاصي بالطاعة من باب التكليف بغير المقدور لا لعدم القدرة ابتداء فإن التكليف لا يكون بمحال، ولكن لاشتغال المحل بضد المراد الشرعي فلا يقبل المحل الواحد الضدين في نفي الوقت بل إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر لا محالة، فإذا وجدت الطاعة ارتفعت المعصية، وإذا وجدت المعصية ارتفعت الطاعة، كما أشار إلى ذلك ابن أبي العز، رحمه الله، في "شرح الطحاوية".
وبقي أن يقال بأن حجته باطلة أيضا من جهة احتجاجه بأنه لا ذنب له في معصية آدم عليه السلام فقد أهبط من الجنة وهو في صلب أبيه دون أن تقترف يداه شيئا، فقد أخذ عليه الميثاق فأقيمت عليه الحجة، ثم نسيه لئلا تبطل الحكمة في التكليف الشرعي فيصير بعث الرسل عليهم السلام عبثا، إذ لو علم كل مصيره، كما تقدم، ما صار للتكليف جدوى، فلما نسيه إلا أثرا مجملا من فطرة التوحيد المركوزة في كل مولود لما يتأثر بدين أبويه إن كانا مشركين، كان من رحمة الله، عز وجل، أن بعث إليه الرسل عليهم السلام لتذكره بذلك الميثاق الأول، فإن مات قبل البلوغ فالميثاق الأول بنفعه فهو ناج على الراجح من أقوال أهل العلم في أطفال المشركين الذبن ماتوا قبل البلوغ فلم يجر قلم التكليف الشرعي عليهم ليجازوا بإيمان أو كفر، وإن بلغ لزمه الميثاق الثاني: ميثاق النبوات المجدد للميثاق الأول المفصل لمجمله بما جاءت به النبوات من أخبار وأحكام، فإن التزمه فهو ناج في دار الجزاء , وإلا هلك، وقد علم الرب، جل وعلا، في كلا الحالين مقعده من الجنة أو النار، ولكنه، تبارك وتعالى، حجبه في دار الابتلاء إظهارا لحكمته ثم هو ينفذه في دار الجزاء إظهارا لقدرته فيدخل أهل الجنة الجنة بفضله، ويدخل أهل النار النار بعدله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 12 - 2009, 08:27 ص]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"ويقول الآخر:
وضعوا اللحم للبزاة ******* على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ ******* خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي ******* سَتروا وَجْهَك الحسن". اهـ
ص106.
فهو يرى أن مجرد تعرضه للفتنة كونا كاف في إقامة الحجة له على عشقه المحرم، فكل من عرضت له صورة حسنة فلا عليه أن يعشقها، ويسترسل في ذلك موافقة للقدر الكوني، فهو عندهم، كما تقدم، ملازم للرضا، فالرب، عز وجل، رضي منه أن يتقحم هذا الأمر ويتمادى فيه مع كونه مما يصرفه عن إقامة عبودية الظاهر والباطن، كما قد علم من حال عشاق الصور، فإنهم في فساد عريض، فظاهرهم عليل بإرسال الطرف الذي يولد في النفس حسرة ومرارة لفوات المحبوب، إذ لا يقدر أحد على نيل كل صورة تتشوف إليها نفسه، وإن كان له من الجاه والمال ما له، فصارت السلامة، كل السلامة، في غض الطرف عن الصور المحرمة، ولو كانت حسنة الشكل، موائمة للطبع، فإنه سينال منها حظ نفس عاجل، بسكر عقله، فتذهب فكرته، فلا همة له آنذاك إلا في تحصيل تلك اللذة الموهومة التي يعقبها من الآلام ما يفوق منفعتها العارضة، وذلك خلاف قياس العقل الذي غيبه، فإنه قاض باحتمال المفسدة الصغرى كالمرارة العارضة التي يجدها المريض من تناول الدواء
(يُتْبَعُ)
(/)
فإنها مما ينغص عليه ذوقه، ولكنه رجاء مصلحة أعظم من حصول الشفاء يصبر عليها، إذ هي الوسيلة التي يتذرع بها إلى العافية بما أودع الله، عز وجل، في الدواء من قوة يشفى بها المريض، بإذنه الكوني، إذا شاء، تبارك وتعالى، مباشرة الدواء لسبب الداء، والمبتلى بالعشق قد فسد قياسه بل انقلب فقدم حلاوة عارضة بتأمل محاسن صورة زائفة فيها من أعراض النقص ما فيها فهي لا محالة إلى تغير وفناء، قدم تلك الحلاوة العارضة على حلاوة الإيمان الدائمة التي يجدها من صبر عن المحارم فلم ينتهكها فناله من ذلك ألم وضغطة في قلبه هي من لوازم الابتلاء، ليعلم أصادق هو أم كاذب، فإذا صبر على ذلك جاءت رسل الرب، جل وعلا، بالبشرى، حلاوة دائمة في القلب بطاعة الرب، جل وعلا، وقهر النفس وكسر شوكتها، فضلا عما ادخر له في دار المقامة، وما كان ذلك إلا فرعا عن صحة في التصور امتن الله، عز وجل، بها على أتباع الرسل، عليهم السلام، الذين يعلمون أصول الترجيح عند التعارض، فلا يقدمون الأدنى على الأعلى، بخلاف من عدل عن طريقتهم فإن قياسه قد فسد بل انقلب!، فقدم اللذة العارضة على اللذة الراسخة، فأعقبه الله، عز وجل حسرة في قلبه إلى يوم يتوب، والرب، جل وعلا، كريم لا يرد من لجأ إليه، ولا يكون لجوء إليه إلا بمقتضى ما شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام، وهو عين ما نقضه ذلك المعارض للقدر الشرعي فلا يصون نفسه من تلف مباشرة الصورة المحرمة، إذ قد شاء الله، عز وجل، له الفتنة، فلا اختيار له في رفعها، ولا قدرة له على دفعها، وكأنها حركة اضطرارية لا يتعلق بها تكليف، وهو مؤدى قول أهل الجبر الذين يرومون إسقاط التكليف الشرعي بمعارضته بالتقدير الكوني، فإذا كان الله، عز وجل، قد شاء لك بقدرته أن تبتلى بتلك الصورة فقد أراد منك بحكمته أن تدافع ذلك القضاء الكوني بالقضاء الشرعي، فمن نظر بعين الشرع دون القدر مال إلى مقالة أهل القدر الذين ينفون قدرة الرب، جل وعلا، على خلق الأشياء، فيجعلون آحاد البشر أعظم قدرة منه، إذ قد خلقوا ما لم يخلق من أعمالهم!، ومن نظر بعين القدر دون عين الشرع أسقط التكليف، إذ صير فعله من فعل الرب، جل وعلا، والصحيح أنه تبارك وتعالى خالق أفعال العباد بقدرته لتظهر في أفعالهم آثار حكمته.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال بعضهم - وقد ذكر له ما يخاف من إفساده - فقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره! ". اهـ
ص106.
فذلك من لوازم مقالة القدرية الجبرية، إذ قد ساء ظنهم بالرب، جل وعلا، حتى ظنوا أنه يريد الفجور شرعا فيحبه ويرضاه فصاروا يخافون على بناتهم منه أن يفسدهن!، وذلك مؤد إلى إبطال النبوات التي دعت إلى العفة والطهارة، فالرب، عز وجل، يرسل رسله عليهم السلام بما يلائم الفطر السوية والعقول الصريحة التي أجمعت على استحسان الفضائل، واستقباح الرذائل، حتى قبل ورود الشرع بما ركز فيها من القوى الصحيحة النافعة، ثم هو مع ذلك يرضى ويحب ضد ما بعثهم به!، فلِمَ لم يبعثهم إذن بما يحب، إن كان مراده الشرعي في ضد الطهر والعفة، فيلزم أولئك تجويز بعث الرسل عليهم السلام بتقرير الفواحش، فهي من مراضي الرب، بل ذلك بلازم كلام غلاتهم هو الذي يقتضيه قياس العقل، فالرسل ما بعثت إلا لتقرير مراضي الرب، جل وعلا، وأصحاب العقول والفطر فضلا عن الديانة يعلمون بداهة أن مراده، جل وعلا، هو الطهر والعفة، والآخرون يجوزون على الرب، جل وعلا، بلازم مقالتهم: أن يقر الفواحش، بل ويأمر بها شرعا على ألسنة رسله عليهم السلام، وما ذلك إلا فرع عما اطرد من خلطهم بين الإرادة الكونية التي تتعلق بكل الأحداث الكائنة في عالم الشهادة ولو كانت على خلاف مراد الرب، جل وعلا، الشرعي، من شر وفجور يتعلق الذم فيه بالمقدور لا بفعل الرب، جل وعلا، فالشر ليس إليه، كما تقدم مرارا، والإرادة الشرعية التي تتعلق بمراضيه، جل وعلا، وهي التي بعث بأحكامها رسله عليهم السلام فلا يأمرون إلا بكل فضيلة ولا ينهون إلا عن كل رذيلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 12 - 2009, 09:01 ص]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد أصابت هذه اللوثة عقولا حتى أخرجتها عن حد العقل وأخرجت قلوبا عن حد الإحساس الآدمي فارتضوا من الفواحش في أنفسهم وأهليهم ما صيرهم أضحوكة، وما ذلك إلا لتعطيل الأمر الشرعي بمعارضته بالأمر الكوني، فإن من ذلك مؤد لا محالة إلى إضعاف بل إبطال شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كل من عند الله!، مع أن الذي خلق كلا بقدرته الكونية، أمر بحكمته الشرعية ألا يسوى بينهما، فلا يسوي عاقل فضلا عن مسلم بين المأمور به إيجابا أو ندبا، والمنهي عنه تحريما أو كراهة، فالأول: مراد للرب، عز وجل، وقوعه، قد شرعت الذرائع له، فلها حكمه حثا على إيقاعه، فهو مراد الرب الشرعي من عباده، فيحب فعله ويحب ويرضى عن فاعله، إذ تحرى محبوباته واستعان به على إيقاعها ببذل أسبابها: الشرعية والكونية، الغيبية والمشهودة، فسعى في محبة ربه، عز وجل، باتباع شرعه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المبلغ عنه مراده، فلم يعلق الرب، عز وجل، محبته على اتباع أمره الكوني، وإنما علقها على اتباع أمره الشرعي الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، على حد قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فلم يعلق محبته على مشيئته لتصح التسوية بينهما فيصير كل مقضي بمشيئته محبوبا له، بل منه ما أبغضه ونهى عنه ورتب العقوبة الشرعية المقدرة له في الدنيا، أو ادخرها لفاعله في الآخرة إلا أن يشاء المغفرة له، وحذر من فعله على لسان رسله وفي مسطور كتبه، فذمه صراحة: خبرا وإنشاء، وذم فاعله، بل لعن مرتكب بعض أنواعه، فالمنكر جنس قد تعلق به وصف الذم عموما، واختصت بعض أفراده بمزيد ذم ووعيد، فذلك مقتضى حكمته ألا يسوي بين جنس المعروف المأمور به، وجنس المنكر المنهي عنه، وألا يسوي بين أنواع المعروف فليست كلها على حد سواء، وإن جمعها جنس المعروف الأعلى، فهي تتفاوت في الأمر بها فمنها ما أمر به إيجابا، ومنها ما أمر به استحبابا، وفي الزجر والوعيد على تركها فمنها ما توعد تاركه ومنها ما يلحق صاحبه الملامة، فهو مخروم المروءة لا تقبل له شهادة، وإن لم يكن آثما كالأول، إذ ترك الطاعة، ولو مندوبة بلا عذر، مظنة انخرام المروءة، وألا يسوي بين أنواع المنكر فليست كلها على حد سواء في النهي، بل منها ما نهي عنه على حد التحريم، بل منها ما يوجب لفاعله التكفير، ومنها ما هو دون ذلك حتى يصل الأمر إلى المكروه تنزيها الذي لا يذم فاعله، وإن كان تقصده مظنة النقص في مروءة فاعله، فهو مئنة من استخفافه بالحرمات وإن لم يقع في حماها، إذ قد رتع حوله، وسنة الله، عز وجل، في خذلان المتقحم على حماه بارتكاب مكروهاته في خذلانه بالوقوع في محرماته: جارية كما أن عادته في خذلان من فرط في المستحبات بترك الواجبات: جارية، بل المباح قد يصير بنية فاعله ذريعة إلى طاعة فيأخذ حكمها تبعا كما يأخذ المكمِّل حكم المكمَّل، وقد يكون، أيضا، ذريعة إلى معصية فيأخذ حكمها، فلا يوجد فعل بشري مجرد عن تصور سابق يحمل فاعله على مباشرته، والمجموع المركب من التصور السابق والحكم الخارجي اللاحق الذي يوقعه المكلف فيكون تأويلا لما قام بنفسه من إرادة تولدت من ذلك التصور، ذلك المجموع المركب هو محط المدح أو الذم، إذ يعم سائر أحوال المكلف الاختيارية إلا ما هجم عليه من تصور فاسد لم يتقصده فدافعه قدر استطاعته، أو ما أكره عليه من فعل، فلا يؤاخذ عليه، على تفصيل سبقت الإشارة إليه في مواضع سابقة، فلا يستوي أفراد هذا التقسيم لأفعال المكلفين الاختيارية، بل تتفاوت الدرجات أو الدركات تبعا لجنس الفعل الأعلى: اختياري يتعلق به التكليف، أو اضطراري لا يتعلق به، وجنسه التالي: مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك، وجنسه التالي: واجب أو مندوب في المراد فعله، أو محرم ومكروه في المراد تركه، وجنسه التالي: إن كان واجبا فذلك جنس لجملة من أنواع الطاعات الواجبة، فهو نوع باعتبار ما فوقه، جنس باعتبار ما تحته، فتحته أنواع من: الصلوات والزكوات ..... إلخ من الطاعات الواجبة، بل النوع الواجب تتفاوت أقداره، فليس وجوب الصلوات المفروضة كوجوب
(يُتْبَعُ)
(/)
صلاة العيد عند من يقول بوجوبها، بل المفروضات تتفاوت فليس الفجر والعصر كباقي الصلوات إذ قد اختصتا بقدر زائد من الفضل كما في حديث: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، فذلك التنوع الذي يتعذر استقراء أفراده مع ما يقع من التباين في أدائها، فلا يستوي زيد وعمرو وبكر ..... إلخ في طاعة واحدة بل بين أفعالهم من التباين ما بين أعيانهم، ذلك التنوع في مراتب أفعال المكلفين ينقض قول الجبرية نقضا، إذ قد أثبت ما نفوه من الفارق بين الأعمال، فكلها عندهم على حد سواء باعتبار صدورها من الرب، جل وعلا، صدورا كونيا واحدا، فقد شاءها جميعا، فوقعت جميعا، بكلمات كونيات نافذة فذلك صحيح بملاحظة جانب المشيئة والقدرة، ولكن اعتبار هذا الجانب وإهمال جانب الإرادة والحكمة الذي به يقع ما تقدم من التمايز بين أجناس ومراتب الأفعال، ذريعة إلى إسقاط التكليف الشرعي، متعلق الابتلاء في هذه الدار، إذ كيف يتصور ابتلاء، وكل الأفعال: حسنها وقبيحها، واجبها ومحرمها، على حد سواء لاتحاد جهة التكوين؟!، فهي، وإن اتحدت من هذه الجهة على حد قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، إلا أنها متباينة من جهة التشريع فلا يستوي ما أحبه الرب، جل وعلا، ورضي عن فاعله، وما كرهه الرب، جل وعلا، وسخط على فاعله، وهل التسوية بينهما لعموم وصف الخلق لهما إلا نقض صريح لقياس العقل الصحيح بالتسوية بين متباينين، بل متضادين؟!، فيستوي الماء والخمر، والنكاح والسفاح، إذ جهة الخلق واحدة، مع تباين جهة الشرع، كما تقدم، فقد أهملها القوم، فصيرهم ذلك إلى دياثة ترضى المنكر، كما في بعض القصص التي ذكرها ابن القيم، رحمه الله، في هذا الموضع، وهي تستحق التدوين في كتب النوادر والفكاهات، فمنها قوله:
"وصعد رجل يوماً على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلى من كل شيء، أنت حر لوجه الله! ". اهـ
ص106.
فهذا فاجر يحتج بالقدر على الفاحشة، وذاك ساذج قد ألزمه خصمه الحجة!، فعطل شعيرة إنكار المنكر، إذ لا منكر على هذا القول إلا إنكار المنكر!، ولازم ذلك كما تقدم: إبطال النبوات التي جاءت بالأمر بالمعروف واعتبار أسبابه، والنهي عن المنكر وإلغاء أسبابه، فشهدت لمراضي الرب جل وعلا بالقبول، وشهدت لمساخطه بالرد، فلم تسو بين المتباينين إذ لا تعارض نبوة صحيحة عقولا صريحة، بل تزكيها وتؤيدها بالوحي المعصوم في نفسه، العاصم لأتباعه، فتلك الشعيرة عند التأمل هي لب الرسالات، فإن الأنبياء، عليهم السلام قد دعوا أقوامهم إلى ترك كل منكر يغضب الرب، جل وعلا، فبدءوا بأعظم المنكرات: الشرك، ثم جاء النهي متدرجا بتدرج مراتب المنكر، على ما تقدم بيانه، فلما خلي المحل من الدنس جاء الأمر بالمعروف تحلية له وأعظم صوره: الإيمان بالله عز وجل، ثم جاءت بقية أنواع المعروف على حد التدرج في الطلب تبعا للتباين في القدر، فلا يستوي واجب كبير وآخر صغير، وإن اشتركا في جنس الوجوب الكلي الذي يلحق المدح فاعله والذم تاركه وإن تباين قدر ذلك بتباين قدر الفعل، فإن تزاحم المعروف والمنكر، قدم أولاهما بالاعتبار، وإن كان الأصل: تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وإن تزاحمت أنواع المنكر دفع أعظمها ولو بتحمل أصغرها، ولو تزاحمت أنواع المعروف قدم أعظمها ولو بإهدار أصغرها، وذلك الميزان الدقيق هو ميزان العدل الذي تزن به الرسالة أعمال المكلفين، ولا يتصور مع التسوية بين كل الموضوعات في كفته أن يصير للرسالة فائدة في التمييز بين المكلفين، بتباين أقدارهم عند الرب، جل وعلا، تبعا لتباين أعمالهم، فيصير تفاوت مراتبهم في دار الجزاء تأويل تفاوت أعمالهم في دار الابتلاء لتتحقق بذلك أعظم صور الحكمة الإلهية بوضع الشيء في موضعه فلكل مكلف من النعيم أو العذاب ما يطابق عمله علوا أو دنوا، صحة أو فسادا، فلا يتصور كل ذلك: إذ قد صارت كل الأعمال الموزونة سواء لمجرد أن الرب، جل وعلا، قد شاء وقوعها!، فالتزام تلك الحجة الداحضة عند التأمل والنظر: إبطال صريح للنبوات.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهى تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت!.
ورأى آخر رجلاً آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره!. فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دعي به غضب". اهـ
ص106.
وذلك جار على حد ما تقدم من شيوع الدياثة في الجماعة التي يهمل أفرادها التواصي بالحق امتثالا والصبر على ما يلقاه أولئك من عسف وضيم، فلا بد أن تشيع الفواحش في الجماعات التي تهمل هذه الشعيرة، لغياب الوازع الجماعي الذي يردع آحاد المفسدين فإنهم لا ينزجرون إلا بالسلطان سواء أكان سلطان السيف أم سلطان الجماعة التي تأخذ على يد المفسد لئلا يتعدى إفساده إلى غيره فـ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"، فذلك من شؤم المعصية الذي يتعدى إلى الغير فليت العاصي جلب الضر لنفسه بل هو جالب له لغيره فيطال الصالحين من شؤمه ما يوجب هلاك الكل، على حد حديث: "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"، وهذا أمر مشاهد في كثير من النكبات العامة التي تحل بالمسلمين، لا سيما في الأعصار المتأخرة، فإنها نوازل كونية عامة لا تخص أفرادا دون آخرين، بل يهلك فيها الصالح والطالح، فتصير في حق الأول: ابتلاء، وفي حق الثاني: عقابا، ولكن الصورة الظاهرة في هذه الدار واحدة إذ كلٌ قد هلك بشؤم معصية الجزء التي طالت الكل، على حد قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، فلم يأمر الله، عز وجل، بأمره الكوني، إذ لا يأمر تبارك وتعالى بالفسق شرعا، لم يأمل أهل القرية جميعا، وإنما أمر الطبقة المترفة!، وهي سبب رئيس من أسباب وقوع النكبات في سائر الأمم إذ هي الأجرأ على المحارم، الأبعد عن الفضائل، إلا من رحم الرب جل وعلا، على حد مؤمن فرعون، فلكل زمان فرعون ولكل زمان مؤمن!، فلا تكتفي بفسادها في نفسها بل تروج له وربما قهرت غيرها عليه بحد سيف السلطان، ففساد في النفس وإفساد للغير، فسرت الجناية إلى بقية أعضاء الجسد فاستوجب التلف برسم العقوبة الكونية العامة: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
فوجود فئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا سيما إن كان ذلك برسم السلطان فينيب عنه من يقوم بها إذ هي من الفروض الكفائية التي تسقط بأداء البعض وإن خوطب بها الكل ابتداء بل ووجبت أجناس خاصة منها على كل مكلف في نفسه وسلطانه الخاص فضلا عن واجب النصرة لأصحاب السلطان العام في ذلك ولو بكف اللسان عنهم! وبذل النصح لهم إن وقع الخطأ الذي لا يسلم منه بشر إلا من عصم، وجود هذه الفئة مادة صلاح وصمام أمان للجماعة المسلمة: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)، فلولا تحضيضية على تأويل: فهلا وجدت هذه الطائفة التي بها تحصل النجاة للجماعة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك باب دقيق قد زلت فيه أفهام وأقدام فمن تفريط بترك كلٍ يفعل ما يشاء ولو كان للمكلف عليه ولاية، كما يقع من بعض الأزواج والآباء الذين أصابت المدنية الحديثة مروءتهم في مقتل، ومن إفراط بالتعدي في الإنكار بلا ولاية أو نيابة عن سلطان لا سيما في الأعصار والأمصار التي يكون السلطان نفسه سببا من أسباب الفساد!.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 12 - 2009, 09:27 ص]ـ
وقد تبلغ النفوس من الانتكاس والفطر من الفساد حد الاحتفاء بالمنكر، والترويج له ترويج صاحب كل مقالة باطلة لمقالته، فتستعمل الأسماء المزخرفة لستر قبح المقالة، فلن يروج مبتدع لبدعته أو داعر لطريقته باسمها الصريح فذلك مما يكنى عنه كراهة ذكره صراحة!، فمن هؤلاء من حكى ابن القيم، رحمه الله، طرفا من احتفائهم بالمنكرات بقوله:
"وقال بعض هؤلاء، (وهو يريد ابن سينا الفيلسوف الطبيب المعروف): العارف لا ينكر منكراً، لاستبصاره بسر الله فى القدر. ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلداً، فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم فى قدر الله؟!. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده، فأي شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت ولياً للمحبوب أو عدواً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً". اهـ
بتصرف يسير من: ص107.
فلم يفرق أولئك بين القدر الكوني: متعلق المشيئة، والقدر الشرعي: متعلق المحبة، فصار حد مادة القدر عندهم واحدا: فهو لازم المحبة وإن جاء على رسم مخالفة الشريعة الظاهرة، فكل فعل من فاعله مراد للرب، جل وعلا، على حد الرضا والمحبة فيحب الطاعة من المطيع والمعصية من العاصي، والإيمان من المؤمن، والكفر من الكافر!، وذلك نقض صريح لناموس الشريعة الظاهر: شريعة: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ). ولذلك التزم أولئك لتبرير مقالتهم مسالك باطنية أخرجت غلاتهم إلى حد الزندقة والانحلال، فبعضهم تخطى ذلك إلى القول بأن الكل من عين واحدة قد صدر، فوقع في مقالة الاتحاد اتي استبيحت بها كل المحارم، لاتحاد عين المخلوقات بالخالق، فما هي إلا مظاهر لصفات جلاله وجماله كما زعم صاحب "الفصوص"، فلا فرق بين مؤمن وكافر، أو خمر وماء، أو زوجة وأخت، وإنما يفرق بين الموجودات من غلظ حجابه وكثف طبعه فهو من أهل الشريعة التي جاوزها القوم إلى الحقيقة، فعرفوا أن الأنبياء قد حجروا واسعا إذ أمروا ونهوا، مع اتحاد العين، فوحدتهم في الأديان التي جعلوها بمنزلة المذاهب لشريعة واحدة فالكل ناج أيا كانت ملته، والأعيان التي جعلوها عينا واحدة فالكل منها صادر، فلا علة صحيحة للتفريق بين مظاهرها في الخارج!.
وبلغ الأمر ببعضهم إلى أن تدين بارتكاب الفاحشة أو بمباشرة مقدماتها، فلم يرتكبها، بل لم يستحلها، بل زاد على ذلك أن جعلها دينا يتعبد به فهي وسيلة لتصفية النفس وتجريدها من العلائق، فالعشق يصفي النفس ويهذب الطبع فيسهل على صاحبه سلوك طريق التأله!، كما ذكر ابن سينا في "إشاراته".
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأبلغ من ذلك تعبد طوائف من المتزهدة والمتعبدة بمعاشرة الأحداث المردان والنساء الأجانب والنظر إليهم والخلوة بهم والمحبة والهوى فيهم وبما قد يكون وقد لا يكون وراء ذلك من الفاحشة الكبرى.
وهذا ابتدأه المشركون من الصابئة وغير الصابئة الذين هم أولياء الشياطين الذين هم مشركون كما ذكر ابن سينا في إشاراته وزعم أنه مما يعين على السلوك والتأله: العشق العفيف واستماع الأصوات الملحنة كما ذكر أيضا الشرك بعبادة الصور ويذكر هو وطائفته عبادة الكواكب.
وهذا في النصارى أيضا منه جانب قوي وهم أيضا قد ابتدعوا شركا لم ينزل الله به سلطانا كما قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) ". اهـ
"الاستقامة"، ص433.
(يُتْبَعُ)
(/)
فمنشأ الضلال عند أصحاب الأهواء جميعا واحد، وهو تقديم قياسهم أو ذوقهم على نص الشارع، عز وجل، فما استحسنه العقل أو التذ به الذوق من علم أو عمل فهو المقدم، ولو كان على خلاف رسم النبوة، فلا يعارضها إلا قياس فاسد الاعتبار أو ذوق فاسد الشعور فلم يعد العقل بمخالفته الوحي صريحا بل عرض له الاختلاط، ولم يعد الذوق بمخالفته الوحي صحيحا بل عرض له فساد الطبع كمن اعتاد غذاء خبيثا مفسدا للبدن والمزاج فصارت لذته فيه لا فيما سواه من الأغذية الطيبة النافعة، فالعيب في حسه الفاسد لا في الطيب النافع.
ويقول في موضع تال:
"وأما التدين بذلك فهو أعظم من استحلاله وهؤلاء المتدينون ما يكادون يتدينون بنفس فعل الفاحشة الكبرى ولكن بمقدماتها من النظر والتلذذ به والمباشرة والعشق للنسوان الأجانب والصبيان ويزعمون أن ذلك يصفي نفوسهم وأرواحهم ويرقيهم إلى الدرجات العالية وفيهم من يزعم أنه يخاطب من تلك الصورة وتتنزل عليه أسرار ومعارف وفيهم من يترقى لغير ذلك فيقول إنه يتجلى له فيها الحقائق وربما زعم أن الله يحل فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقد يسجدون لها". اهـ
"الاستقامة"، ص443.
والعشق الحلال قد يكون وسيلة نافعة لتصفية النفس من العلائق المحرمة، فهو مما يرقق الطبع إن تعاطاه الإنسان على حد الاعتدال، فلا تفريط يصير صاحبه إلى غلظة وجفاء في الطبع برسم الحشمة والهيبة وذلك ما يصح استعماله مع الرجال لا مع الأهل والولد، فالرجل العاقل في بيته كالطفل مرحا ومودة فإذا خرج كان رجلا بين الرجال، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، نحوه، ولابن حزم، رحمه الله، إشارة لطيفة إلى مسالك أمراء بني أمية في دورهم الثاني في الجزيرة الأندلسية المفقودة، مع أهلهم وأولادهم فذلك مظنة الانبساط فإذا خرجوا للناس كانوا على رسم الهيبة والحشمة الملوكية فلكل مقام مقال، فلا يستعمل العاقل أخلاق الجلال في مواضع الجمال، ولا يستعمل أخلاق الجمال في مواضع الجلال، فذلك مظنة فساد الأحوال، ولك أن تتخيل رجلا يباشر وظائفه خارج البيت بأخلاق البيت، أو يعكس الأمر فيستعمل أخلاق الوظائف مع ما فيها من التحفظ والحشمة والقسوة في أحيان كثيرة، يستعملها في البيت!.
ولا إفراط يصير صاحبه إلى فساد واختلاط في العقل، وخلاعة في الطبع كما يغلب على من أفرط في العشق فإن عزيمته تنحل وهمته تنتقض فتصير على حد الدناءة طالبة للذة وهمية توالي وتعادي عليها فإذا نالتها رضيت وإن صرفها ذلك عما هو أنفع لها في أمر الدين أو الدنيا، وإن حرمتها سخطت ولو كان في ذلك صلاحها بالتفاتها إلى ما هو أولى بالمباشرة.
وفي زماننا بلغ الاحتفاء حد الترويج العلني للفواحش صراحة دون تكنية، بل عقدت بعض النساء لواء الجهاد في سبيل نشرها علنا في وسائل الإعلام فذلك منتهى أملها!، فلم يعد الأمر استتارا بفاحشة أو حتى استعلانا بها في النفس، بل صار دعوة عامة إلى ممارستها علانية، على حد ما تقدم من إفساد المترفين في قراهم فشؤمه يطال حتى عجائز المؤمنات في مساجد بيوتهن، وفي أزمنة الضعف يظهر من الزندقة والانحلال ما لا يظهر في أزمنة القوة التي تستخفي فيها الجرذان في جحورها. ولا دين يعصم ولا سيف سلطان يردع فأنى لأولئك الكف عن الإفساد؟!. بل إن إفسادهم هو تأويل سنة التدافع الكونية، فإن أهل الحق قد سكتوا مختارين أو أسكتوا مجبورين، فتنادى أهل الباطل وتداعوا لنصرة باطلهم على حد قوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ). والمحل لا يقبل الاشتغال بالضدين، فإن زال أحدهما أو ضعف، وجد الآخر أو قوي.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقاً الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساءوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقاً الذين جاء فيهم الحديث: (يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ) ". اهـ
ص108.
(يُتْبَعُ)
(/)
والحديث ضعيف كما في هامش النسخة التي أنقل منها فقد أعله المحقق بجهالة وضعف حبيب بن عمر كما قال ابن أبي حاتم، رحمه الله، في "الجرح والتعديل"، ونص كلامه: "حبيب بن عمر الأنصاري روى عن أبيه عن ابن عمر روى عن بقية. سمعت أبي يقول ذلك وسمعته يقول: هو ضعيف الحديث مجهول لم يرو عنه غير بقية". اهـ
فهو مجهول العين إذ لم يرو عنه إلا واحد هو بقية بن الوليد رحمه الله.
فقد نسبوا إليه، جل وعلا، الفحش فأساءوا الظن به، إذ قد أراد ضلال عباده وسعى فيه فهو من مراداته الشرعية!، ولذلك قال قائلهم كما تقدم: "لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره".
وقال القائل لما بكي وهو يودع أهله فأمر بأن يستودعهم ويستحفظهم الرب جل وعلا: "ما أخاف عليهم غيره! ".
فأين ذلك من قوله تعالى: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعاء السفر: (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ).
وهل يستخلف الإنسان في أهله إلا من قد أحسن الظن به؟!، فكيف ولكل مستخلف بشري، من أوصاف النقص ما له، ومع ذلك يحسن المستخلِف الظن به فيستأمنه على ماله وعرضه، فكيف لا يأمن من له الخلافة الكونية العامة، مع كمال وصفه وتمام استغنائه عن خلقه، فلا أرب له في عباده، بل قد أراد تكريمهم بتأويل أمره الشرعي: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لتظهر آثار حكمته ورحمته فيهم، فهو أهل لكل ظن حسن، والنفس الموسوسة أهل لكل ظن سيئ، فتحل عرى التكليف ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، تحصيلا لشهوة، أو تقحما لشبهة فلا حط لها من الاستقامة إلا أن يقيمها الله، عز وجل، على سنن ما شرع على ألسنة رسله عليهم السلام، فكيف يساء الظن بمن له كمال القدرة والحكمة، فنفاذ المقادير كائن بقدرته، وكمالها، وإن جهل العبد وجهه، كائن بحكمته، فلا يفتقر من هذا وصفه إلى ما بيد خلقه، ليسلبهم إياه فيصح نعته بالظلم، تعالى الملك الغني الحميد عن وصف السوء علوا كبيرا فـ: "لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
فلو أحسن العباد القيام بوظائف العبودية، وتركوا التنقير فيما لا قدرة لهم عليه فلم يكلفوا بتقصيه، ما أساءوا الظن بالرب، جل وعلا، فإنما أعطاهم ليكرمهم، ومنعهم ليؤدبهم فـ: (مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ)، فعطاؤه فضل ومنعه عدل، بل هو فضل في حق فئام من المحرومين لو أعطوا لفسد حالهم فكان حجب العطاء عنهم سبب نجاتهم في دار الجزاء، فالرضا بالمقدور الشرعي تأويلا بالامتثال في دار التكليف، والصبر على المقدور الكوني إن عدم العبد حيلة في رفعه، هما علامة إحسان الظن بالرب، جل وعلا، إذ شرع الطاعة ليزكي المحال القلبية ويطهر الجوارح مما علق بها من أدران مدافعة الأقدار اليومية، فالعبد يكابد التكليف فعلا وكفا من حين يستيقظ إلى حين ينام، فله في كل لحظة امتحان بأمر شرعي ملزم، ووساوس نفساني أو شيطاني مفسد، فإن ثبت للتكليف امتثالا، وثبت في وجه الوسواس احتمالا لكف النفس عن مراداتها الآنية التي فيها هلاكها الآجل، وإنما زينتها النفس لسوء طويتها وفساد تصورها فرامت اللذة العاجلة، ولو كانت حراما، إن ثبت على هذا الوجه لأمر الشرع امتثالا وأمر الكون احتسابا، فهو أهل لأن يحسن الظن بربه، إذ قد أحسن العمل، وإنما يسيئ الظن بالرب، جل وعلا، فيفر منه فرار عبد السوء، ويبغضه إلى خلقه من فرط في أمر الديانة، فلو أحسن الظن بالرب، جل وعلا، لأحسن العمل، ولتعلق قلبه به، جل وعلا، تعلق الحبيب بمحبوبه، فرام أن يشاركه العباد تعظيمه وتقدسيه لا أن ينفرهم منه فيبغضه جل وعلا لهم بإساءة ظنهم فيه، وهو أهل لكل محمدة شرعية، إذ له كمال القدرة والحكمة، فلا خالق سواه ولا مدبر غيره، قد أحسن كل شيء خلقه بقدرته، وهداه إلى ما يلائمه بحكمته.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهم خصماء الله، عز وجل، إذ قد عارضوا شرعه بقدره، ومثلهم الإبليسية الذين عارضوا القدر بقياس عقولهم، وكل فساد لبني آدم إنما يكون من الطغيان التي يعتري الطاعن أو المعارض فيظن في نفسه وقياسه الكمال ويظن في ربه وقدره النقصان فيقدم قياس عقله على حكم ربه، عز وجل، وتلك معضلة كل من أوتي ذكاء كونيا ولم يتأيد بزكاء الوحي الشرعي.
ومعطلة الأمر الشرعي سواء أكانوا إبليسية أم مشركية أسوأ حالا من معطلة الأمر الكوني من القدرية النفاة، فإن النفاة وإن جفوا في حق القدرة الربانية إلا أنهم لم يتحللوا من قيد الشرعة الإلهية محل التكليف بخلاف من تحلل من الشرع لغلوه في حق القدرة الربانية، وأكمل الطرائق: طريقة المرسلين الذين جمعوا بين نوعي الحكم: الكوني النافذ والشرعي الحاكم فاستعملوا لكل ما يلائمه، فردوا الكوني بالكوني أو الشرعي الرافع، فإن لم يكن رفع فصبر لحكم الرب، جل وعلا، على وزان قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا)، وإن كان عموم المضاف إلى المحلى بـ: "أل" يعم جنس الأحكام الربانية: الكونية والشرعية، فإن الصبر يستعمل لكل، فصبر على امتثال أمر الشرع، وصبر على احتمال أمر الكون، ولكل ما يلائمه من أجناس العبودية، فإن للتكليف صبرا به يوقع العبد مراد الرب، جل وعلا، منه، بإظهار الخضوع الشرعي الاختياري الذي يرتقي به من درجة الكائن المضطر إلى درجة العابد المختار، ولن يكون له اختيار يخالف ما قضى الرب، جل وعلا، أزلا فسطر في اللوح قولا واحدا لا يقبل المحو، ولأمر الكون من جنس الصبر ما يهون مرارته الآنية، بالنظر في مآلاته، فمن صبر ابتداء نبت انتهاء، ومن تحمل مر الدواء العاجل نال لذة الشفاء الآجل، فمرارة المبتدى ذريعة إلى حلاوة المنتهى وإنما الأمور بخواتيمها.
ومرد الأمر إلى إحسان الظن بالرب، جل وعلا، وهو من أدق العبادات القلبية، فلا نصيب لكثير منا فيها، إذ ترد الوساوس حال النوازل فتسكر العقل وتسد عليه منافذ الفهم فلا يبصر الحقائق كما هي، فيرى النازلة بعين الجزع فلا يدرك من حكم الرب، جل وعلا، منها ما يدركه بعد ارتفاعها، فكل المكلفين في أزمنة العافية فقهاء، ولا يصدق عمله قوله في أزمنة الابتلاء إلا قليل ممن امتن الباري، عز وجل، عليهم بالثبات، فعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحا قريبا فعما قريب تذهب الشدة وتبتل عروق الصبر واليقين ويثبت الأجر إن شاء الله، والباب: باب عمل لا قول، فإن العلم له مبتدى يصحح التصور لتعمل آلة القلب في تحصيل مراضي الرب، جل وعلا، فتباشر من أجناس العبودية أنواعا لطيفة دقيقة، لا يمكن للسان حدها وإن ظهرت آثارها عليه حمدا واسترجاعا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 12 - 2009, 09:41 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان فرق القدرية فقال:
"وسمعته، (أي: ابن تيمية رحمه الله)، يقول: القدرية المذمومون فى السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الحجر: 39]، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس". اهـ
ص108.
فالمجوسية: نفوا قدرة الرب، عز وجل، على خلق أفعال العباد، فشابهوا الثنوية من هذا الوجه بل زادوا عليهم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع عدة، فأثبتوا خالقين بعدد الفاعلين، والصحيح أنهم فاعلون قد خلق الله، عز وجل، أعيانهم وإراداتهم الباطنة وأفعالهم الظاهرة، فلا يعجزه شيء من ذلك، إذ كل خاضع لقضائه الكوني النافذ، وإن خرج من خرج عن قضائه الشرعي الحاكم، فما ظلم إلا نفسه، وما ضر ربه ولا قهره، بل لو شاء، عز وجل، لأكرمه بالطاعة فضلا، ولكنه شاء له الإهانة فابتلاه بالمعصية عدلا.
(يُتْبَعُ)
(/)
والمشركية: من احتج بالقضاء الكوني على القضاء الشرعي فعارض الشرع بالكون تذرعا بذلك إلى إبطال الأمر والنهي.
والإبليسية: من عارض الشرع بمعقوله فقاس في مقابل النص، وقدم معقوله على منطوق الوحي المنزل سواء أكان ذلك في خبر علمي أم حكم عملي.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب تعالي وتعظيماً له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه ألبتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوله ونحو ذلك.
كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى بطرّار، (أي: سارق يشق الأكمام أو الجيوب وهو ما يعرف في عصرنا بـ: "النشال")، أحول فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر - يعني سوطا ً- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطاً: خمسة عشر لطره، ومثلها لحوله. فقال الجبري: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبري". اهـ
ص108، 109.
فإن الجبري يلزمه أن يسوي بين القدر الكوني بالحول، والقدر الشرعي بارتكاب المحظور، فالأول لا يتعلق به ثواب أو عقاب لعدم تعلقه بفعل من قام به، فإنه مقدور كوني لا يتعلق بأفعال المكلفين، فلا يلام الإنسان شرعا لأنه قصير أو سمين أو أحول أو أعرج ............ إلخ من سائر الابتلاءات الكونية التي يبتلي بها الرب، جل وعلا، بعض عباده ليستخرج منهم عبودية الصبر، ويستخرج من غيرهم عبودية الشكر، وتظهر آثار قدرته وحكمته في عباده فتنويع المقدورات كما وكيفا، على حد يلائم حال كل مبتلى، وتظهر به من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما يفوق فساده في نفسه، فليس الفساد في فعل من أوجده، بل هو كائن فيه بقدرة من كَوَّنه فالشر في المقدور لا في القدر، فتظهر بذلك من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما به يتعرف العبيد على ربهم، عز وجل، بوصف حكمته البالغة، كما يظهر من قدرته على تنويع الإيجاد ما به يتعرف العبيد على ربهم، تبارك وتعالى، بوصف قدرته النافذة، فهما، كما تقدم مرارا، شقا الربوبية، فغيرهما لهما تابع، فالرب أول ما يوصف به: كمال الملك بالقدرة وكمال التدبير بالحكمة، فلا تصدر أفعاله إلا عنهما، خلاف من جفا في القدرة وغلا في الحكمة من نفاة القدر، فالرب، عندهم حكيم عاجز عن خلق أفعال عباده، لم يختص أحدا بمزيد هداية فضلا، وآخر بمزيد غواية عدلا، بل أعطى الصديق والزنديق، على حد سواء!، ثم تركهم وشأنهم فلا سلطان له عليهم بالتكوين النافذ، وإنما سلطانه عليهم الاقتراح بالتشريع الحاكم، فجعلوه كآحاد البشر، لا يملك هداية أو إضلالا، فلا يوفق ولا يلهم، وإنما يدل ويرشد كسائر الأنبياء عليهم السلام، والمصلحين من أهل النصح والديانة، وهل ذلك إلا عين التشبيه بالخلق، وهم ما زعموا النفي في باب الصفات إلا فرارا منه، فوقعوا في باب القدر في عين ما فروا منه في باب الصفات، فلم يثبتوا للرب جل وعلا: هداية الإلهام والتوفيق التي لا تكون إلا له على حد القصر الحقيقي، فلا ادعاء فيه إذ ذلك مما استأثر به، ففعل الرب بالتكوين والتدبير في كونه: أخص صفات ربوبيته كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وخلاف من جفا في الحكمة وغلا في القدرة، فجعل الأفعال الاختيارية والاضطرارية على حد سواء فـ: مرض ومات كونا، كصلى وصام شرعا، وتلك تسوية بين متباينين، فكما أن الأولين فرقوا بين متماثلين فنفوا في الصفات وشبهوا في الأفعال، إذ هم مشبهة الأفعال الإلهية بالأفعال البشرية، فإن هؤلاء قد عكسوا فسووا بين المختلفين في أفعال المكلفين فاستوى عندهم الكوني الاضطراري الذي لا يتعلق به تكليف، والشرعي الاختياري محط الابتلاء فيتعلق به التكليف، فكلٌ عندهم على حد التكوين النافذ، وهذا صحيح من وجه إذ لا يخرج شيء من أفعال العباد عن فعل الرب، جل وعلا، بالتكوين، ولكن العباد يؤثرون في إيجاد الفعل الشرعي بإرادة مؤثرة مخلوقة للرب المكون، جل وعلا، بكلماته الكونية التافذة، فهي له مخلوقة ولهم وصف مؤثر في إيجاد أفعالهم المقدورة، فيتعلق بها التكليف وما ينبني عليه من
(يُتْبَعُ)
(/)
ثواب أو عقاب، فالجهة من هذا الوجه التكليفي منفكة، فلا يسوى بين اختياري واضطراري، بخلاف جهة التكوين، فهي غير منفكة إذ كل قد خلق بالكلمات الكونية النافذة، وإذا سوي بين الاضطرار والاختيار: بطل الابتلاء فصار كل على حد سواء، وهو ما ألزم به ذلك الحاضر ذلك الجبري، إذ كيف يضرب على ابتلاء كوني، وهو عند الجبري غير مؤاخذ بالفعل الشرعي بالكف عن السرقة الذي يتعلق به التكليف فيصير فاعله أهلا للثواب أو العقاب؟!.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] ". اهـ
ص109.
وذلك أمر بدهي، إذ قد تساوى عندهم الأمران: الكوني النافذ والشرعي الحاكم، وزادوا على ذلك أن سووا بين الإرادة والمحبة فكل مراد كوني محبوب شرعي، ومن المرادات الكونية قبائخ ومعايب، وكلها عندهم مدائح ومحامد، إذ قد وافق العبد إرادة الرب، فأي توفيق أعظم من ذلك؟!، وهو، كما تقدم مرارا، إطلاق في موضع يلزم فيه التقييد، فالعبد لا يمدح إذا وافق الإرادة مطلقة، وإنما يمدح إذا وافق الإرادة الشرعية متعلق رضا الرب، جل وعلا، فهي التي شرعها على ألسنة رسله، عليهم السلام، فالحمد إنما يكون بداهة على أمر اختياري سعى المكلف في تحصيله، فاستحق الثواب على ذلك، فتلك مسلمة عقلية في كل أمر كوني أو شرعي، فالعامل إنما يستحق الأجر على ما يعمله، فيباشر من أسبابه ما ينجزه، بخلاف ما لا عمل له فيه، فإنه لا يستحق أجرا عليه، فإذا سقى الزرع: استحق أجر السقاية إذ له فيها أثر، بخلاف ما لو سقته السماء فلا أجر له، إذ لم يبذل سببا ولم يكابد مشقة يستحق بها العوض.
والشاهد أنهم لما سووا بين الأمرين: صارت كل أفعال المكلف عندهم اضطرارية من وجه، فذلك انسلاخ من الديانة باسقاط التكليف، محبوبة للرب، جل وعلا، إذ أراد وقوعها والإرادة والمحبة عندهم متلازمان، فيستوي الحسن والقبيح لتعلقهما بالإرادة الكونية من جهة واحدة، مع انفكاكها حال تعلقهما بالإرادة الشرعية، إذ الحسن مطلوب الفعل، والقبيح مطلوب الترك، فالتسوية بينهما تسوية بين متضادين، لازمها، إبطال الشرع، بل ذلك ما وقع بالفعل من كثير من متأخريهم، فصار شهود الحقيقة الكونية وإهمال الحقيقة الشرعية: علامة ولاية! فالولي يستبيح من المحارم ويترك من الواجبات بقدر ولايته وتراجمهم طافحة بتلك المخازي التي سطرت برسم الكرامة فكلما كانت المخالفة للشرع أعظم وأفحش كان الولي أمكن وأرسخ في باب الولاية بل لعله لا يرتكبها إلا ليري من حوله من آيات كرامته ما يخضعون له به فيسلمون بكمال ولايته!، وصار اعتبار الحقيقة الشرعية التي جاءت بها النبوات علامة حجب ونقصان فصاحبها بليد كثيف الطبع لا يلائمه إلا مقام العوام الذين يرزحون تحت نير التكليف بالشريعة الظاهرة فهم محجبون لبلادتهم عن الحقيقة الباطنة!، وتلك الشريعة التي حقروها فجعلوها دليل نقصان هي التي سار عليها الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من الصديقين والشهداء إلى الممات فما ترك نبي أو ولي الصلاة حتى قبضه الرب، جل وعلا، فهي آخر وصايا النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بها ختم رسالته الخاتمة، وهي ما أفزع عمر فنسي جرجه، وهي ما قتل علي، رضي الله عنه، وهو يوقظ الناس لها.
ثم هم على ما هم عليه من رسم الاستباحة العملية قد زلوا في باب الاعتقادات العلمية فلم تنشأ تلك الاستباحة إلا فرعا عن غلو في تناول فلسفة اليونان التي غلبت على فئام من أهل الطريق، فالرب، جل وعلا، والكون متلازمان، إذ الأول علة صدور الثاني على حد الإيجاب الذاتي الاضطراري، فلا إرادة للرب، جل وعلا، كان بها هذا الكون، ولا صفات فاعلة من الأزل قد صدرت عنها كلمات التقدير والإيجاد والتكوين والتدبير، وإنما علة مطلقة عن أي وصف، وذلك محض التعصيل لوصف الرب، جل وعلا، قد صدر عنها من الأزل هذا الكون فهو جزء منها قديم بقدمها، به تظهر آثارها، فالكون جزء من خالقه!، فمظاهر صفاته هي ما قام بخلقه من أوصاف جلال أو جمال، فيكون وصف المخلوق الفاني هو عين وصف الرب الباقي، كما أن ذات الكون هي عين ذات الرب، جل وعلا، وذلك منتهى ما وصل إليه العقل البشري من فحش مقال في الإلهيات، إذ صارت الأعيان وإن نجست، والأفعال وإن قبحت، كلها من الله، عز وجل، ذاتا وصفاتا، فهي بدعة عجيبة رسمها التسوية المطلقة بين كل الأعيان والأفعال والأحوال والأديان ....... إلخ، ولذلك تلقى رواجا في الغرب، فيكرم أساطينها فهم رسل المحبة التي لا تفرق بين مؤمن وكافر، فالكل من عين واحدة قد صدر!، وذلك أمر كان مبدؤه مستصغر شرر الغلو في شهود قدرة الرب، جل وعلا، في حقيقته الكونية، وجفاء شهود حكمته في حقيقته الشرعية، وللشيطان خطوات يستدرج بها المكلف حتى ينسلخ من الديانة إلا من عصم الرب جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 01 - 2010, 09:16 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"والقضاءُ والقدر عندهم أربع مراتب جاءَ بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية: كتابة ذلك فى الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض. الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء.
فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق، ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم فى كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هى التى اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك، وهى الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى". اهـ
ص112.
فعلمه سابق أزلي، فهو العلم الأول الذي يؤثر في الخلق، فهو علم تقديري للأفعال إحصائي لها، فعلم الله، عز وجل، يتعلق بفعل العبد تعلقات منها:
التعلق الأزلي فهو تعلق التقدير المبرم.
والتعلق حين الكتابة في اللوح المحفوظ وهو على حد الإبرام.
والتعلق حين الكتابة في صحف الملائكة، فهو مبرم في حق الرب، جل وعلا، معلق في حق الملك قد أخفاه الله، عز وجل، عن الملك، فقضى إليه القضاء المعلق بالأسباب ليتحقق معنى الابتلاء بمدافعة الأسباب فتظهر آثار حكمته عز وجل.
والتعلق حين وقوع الفعل في عالم الشهادة فهو متعلق بالمشيئة الربانية، فإذا شاء الرب، جل وعلا، تأويل معلومه الأزلي في عالم الشهادة الوجودي تجدد لهذا المقدور تعلق آخر بعلمه، عز وجل، الثاني: علم الظهور والانكشاف، الذي به تظهر معاني الحكمة في ترتب الثواب أو العقاب عليه، واستجلابه بالأسباب المؤدية إليه، فهو إحصاء للأفعال الواقعة في عالم الشهادة تأويلا للمقضي الأزلي في عالم الغيب، فكتب، عز وجل، في الذكر ما العباد فاعلون قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم أظهره في حينه المقدر في عالم الشهادة.
وليست حكمة الرب، جل وعلا، هي هذا التعلق المجرد بين العلم والمعلوم، بل هي قدر زائد على ذلك، فالحكمة وقوع الفعل لغاية جليلة يظهر بها من كمال الرب، جل وعلا، في تقديره وتنفيذه ما يظهر، كما أن العلم الثاني قدر زائد على العلم الأول فليس مجرد تأويل المعلوم الأزلي في: عالم الشهادة، بل له تعلق تجددي بالمشيئة النافذة من هذا الوجه، وإن كان أصله: صفة ذات لا تتعلق بالمشيئة الربانية، فهو على حد الصفات الأزلية النوع المتجددة الأفراد كالكلام.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة، فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة، ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما فى الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور ألبتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائناً ما كان". اهـ
ص112.
فالحكمة هي غاية خلق هذا الكون، فإنه ما خلق إلا لتظهر آثار أوصاف الرب العلية في عموم هذه البرية، فقد اتصف بصفات الذات أزلا، فكان بذاته، عز وجل، متصفا بأوصافه الذاتية: معنوية كانت أو خبرية، فجاء خبر الوحي الصادق بما يشهد له العقل من صفات المعاني الكاملات من: علم وإرادة وحكمة وسمع وبصر ..... إلخ، فالعقل يوجب تلك الأوصاف للرب، جل وعلا، بقياس الأولى على العبد، إذ هي فيه كمال مطلق، فخالقه أولى بالكمال المطلق منه، ومع ذلك لا تثبت إلا بعد ورود خبر النبوة الصادق، فهو مناط العصمة في هذا الباب الجليل خصوصا، وفي كل أبواب الغيب عموما، إذ العقل
(يُتْبَعُ)
(/)
لا يستقل بإدراك تفاصيلها، وإن أدرك جملتها، فهو، كما تقدم مرارا، يدرك اتصاف الرب، جل وعلا، بأوصاف الكمال إجمالا، فتلك الفطرة المجملة: أثر الميثاق الأول، فتأتي النبوات لتفصل الإجمال وترفع الإشكال بمحكم الوحي المعصوم، فلا بيان أصدق من بيانها العلمي بأصدق الأخبار والعملي بأعدل الأحكام، فما بلغ العبدَ من وصف ربه، فليقبض عليه، فإنه أشرف أجناس الرزق التي تتشوف إليها همم الشرفاء الذين فطنوا لحقيقة هذه الدار، فسعوا في تحصيل الرزق الباقي، وشغل غيرهم في تحصيل الحطام الفاني، فهم في شغل، والناس في شغل آخر، فأولئك على رسم سلطان العلماء لما شغب عليه بعض السفهاء، فأرادوه على تقبيل يد السلطان، فأبى سلطان العلماء أن يذل العلم لسلطان الأمراء فتلك رياسة نسبها ينتهي إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذه رياسة تنتهي بموت صاحبها، فبين العز بن عبد السلام والأشرف موسى من التفاوت في الشهرة بعد وفاتهما ما قد علم، فقد كتب الله، عز وجل، للعز حظه من: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، وكتب للأشرف حظه من رياسة الدنيا فنالها ثم مضى إلى ربه فهو يقصل بينه وبين العز فيما كانا فيه يختلفان، فمن شغل بتحصيل أشرف أجناس الرزق ناله منها أشرف أجناس اللذات العلمية في هذه الدار، إذ قد باشر قلبه العلم بأسماء الرب، جل وعلا، وأوصافه، فعلم منها وصف الجمال فرغب، وعلم منها وصف الجلال فرهب، فحمله الرجاء على الطاعة وزجره الخوف عن العصيان، فهو راج خائف، محب وجل، راغب راهب، تحمله المحبة على الفعل امتثالا، وتزجره الخشية عن المعصية انكفافا، يرجو ما رجا أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه: "وَاللَّهِ قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ"، ويخشى ما خشي الراشد العمري رضي الله عنه: "وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ"، فكلاهما قد بلغ الغاية في أشرف مقامات العبودية: مقام الرغبة وإحسان الظن بالرب، ومقام الرهبة وإساءة الظن بالنفس، وبهما حد المحققون من أهل العلم العبودية باعتبار فعل العبد فهي: كمال المحبة مع كمال الذل، والذل يكون إلا لمهاب تخشاه القلوب وتعظمه وإن كانت تحبه، وفي الحديث: "استحيي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك"، فالحياء من صالحي البشر يكف النفس عن خوارم المروءة، ولله المثل الأعلى، فإن الحياء منه أعظم، لعظم سلطانه، فيكف صاحبه عن خوارم الديانة، برسم مراقبة الرب، جل وعلا، في السر والعلن:
عليك منك إذا أخليت مرتقب ****** لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
وحراسة سماء الخواطر بشهب الاستعاذة من خطرات السوء التي يلقيها الشيطان في روع السالك إلى ربه طريق الهجرة برسم السنة، حتم لازم، فقد علم أن رقيب السماء قد أحاط بكل شيء علما، فرقيب الأرض يغفل أو يعطب أو يهلك، فليس لسلطانه عموم، بل هو مخصوص بأوقات دون أوقات، وأحوال دون أحوال، فلا سلطان له ليطلع على مكنون الصدور، فغايته أن يرصد الظاهر، وكم من ظواهر تخدع الرقيب عليها!
والشاهد أن القلب إذا حصل رزقه من هذا النوع من الصفات، واستزاد فحصل رزقه من صفات الذات الخبرية التي لا يحيلها العقل ولا يوجبها بل يجوزها حتى يرد المرجح المثبت لها من خبر الأنبياء عليهم السلام، فإذا ورد خبرهم بطل خبر أو قياس أو ذوق غيرهم، فيثبت ما أثبتوه وينفي ما نفوه، ويتوقف في غيره إثباتا أو نفيا، إن كان من الجائزات عقلا، فإن كان من المحالات لاستلزامه بقياس العقل الصريح لا بقياس الشمول أو التمثيل الذي ردت به النصوص الصحيحة بزعم أن ظواهرها توهم التشبيه فلزم تأويلها تنزيها!، إن كان من المحالات على هذا الرسم: نفاه بعموم: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، ولا ينسى نصيبه من إثبات صفات الأفعال الكاملات فهي محط الفائدة في هذا الباب الجليل: باب القضاء والتقدير، فيثبت تعلق أوصاف الكمال الفعلية بالمشيئة الربانية، فلجنسها من الأولية ما للذات
(يُتْبَعُ)
(/)
القدسية فالرب خالق وإن لم يكن ثم خلق، رازق وإن لم يكن ثم رزق، فيحدث الرب، جل وعلا، من آحادها ما شاء، فهي أثر صفات جماله وجلاله في عالم الشهادة، فبكلماته الكونيات يرزق العباد فذلك من أثر صفات جماله في كونه، فعن صفة الرَّزق صدر جنس الرِّزق، إذ المعنى الذي اشتقت منه الصفة ثابت للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فأسماؤه أعلام على ذاته أوصاف لها، وبكلماته الكونيات يهلك الطغاة فذلك من أثر صفات جلاله في كونه، فعن أوصاف الجبروت والانتقام، صدر جنس العقاب الذي حاق بأعداء الرسل عليهم السلام فغار الجبار، جل وعلا، لأشرف خلقه من الأكابر المقدمين من الرسل والنبيين، عليهم السلام، فأرسل عذابه الكوني على من كذب خبره وخالف حكمه الشرعي، فحقت كلماته على الذين فسقوا، فهي علة ما نزل بهم من العذاب، فصدورها من الرب، جل وعلا، صدور الكلمات الفاعلة عن الصفات الكاملة، فلكل وصف كلماته، فلوصف الخلق كلماته، ولوصف الرزق كلماته، فلو تساوت لتساوت دلالات الأسماء فكان الخلق كالرزق، وذلك مردود شرعا وعقلا، إذ فيه التسوية بين المختلفين، ولازمه نفي صفاته، عز وجل، بردها إلى وصف واحد، والصحيح أنها تتعدد بتعدد الأسماء الدالة عليها، فهي كما تقدم: أعلام وأوصاف، فالرب، جل وعلا، متصف بمعانيها على الوجه اللائق بجلاله، فدلالة أسمائه على معانب صفاته: دلالة تضمن لها ولدلالتها العلمية على الذات القدسية.
والشاهد أن الحكمة والقدرة من تلك الأوصاف الشريفة، فكان قضاء الرب، جل وعلا، وقدره، أثرها في دار الابتلاء، فبالحكمة كان التقدير الأول في عالم الغيب، والتدبير الثاني في عالم الشهادة، وبالقدرة كان تأويل المقدور في عالم الشهادة، فالفعل صدر من قدرة نافذة وحكمة بالغة، فليس فعلا بلا علة، لمجرد المشيئة النافذة، فإنه لا يتصور فعل بلا غاية، فالبشر تقوم بهم إرادات تسبق أفعالهم لتحقيق غاياتهم فلا يوقع أحد فعلا إلا وقد تذرع به إلى غاية قد تصورها ذهنه ابتداء، فهي العلة الغائية السابقة في التصور التالية في الوجود، وذلك مما يمدح به العبد، فلا يوقع الفعل بلا غاية إلا من لا عقل له، فلا يتصور عاقبة فعله، فيوقعه مجردا عن الغاية، وذلك مما يتنزه عنه حكماء البشر، فأحكم الحاكمين أحق بهذا التنزيه، ففعله بالقدرة وقع وعلى سنن الحكمة جرى، فله من السنن الكونية المحكمة ما يدل على كمال أوصافه الفاعلة المبدِعة، فقد أبدع الكون على غير مثال سابق وأجرى فيه من السنن ما به أثر إحكامه وإتقانه للمفعولات قد ظهر، فلا يتصور أن يكون ذلك بلا علم وحكمة وإرادة سابقة، فقدر الرب، جل وعلا، أزلا لحكمة إظهار كمالاته في مفعولاته ثم أراد وقوع ذلك في عالم الشهادة فكان ما أراده بإرادته الكونية النافذة، فصدرت الكلمات الكونيات بآثار أوصاف الجمال والجلال، فكان هذا الكون مئنة من كمال صانعه، فالأضداد تتلاقى لتظهر كمال قدرته في وجودها، وكمال حكمته في تدافعها، فهو الرب الواحد الأحد الذي إلى كلماته ترجع كل المعلولات الحادثة رجوع المسبب إلى سببه، فكل سبب يسبقه سبب حتى يصل العقل إلى السبب الأول الذي ليس وراءه سبب: كلمات الرب، جل وعلا، التي بها خلق وأوجد، وأمات وأحيا ..... إلخ من سائر المقدورات فهي من وصفه، فلها حكم ذاته من الأولية فليست مخلوقة، بل بها يكون المخلوق وبها تجري عليه سائر المقادير، وفي ذلك رد على من قال بخلق الكلمات الإلهية فلم يتصور ما نطق به لسانه إذ لو كانت مخلوقة للزم أن يكون الخالق للأسباب المخلوقة: مخلوقا!، فيلزمه خالق سابق، فتكون الكلمة قد سبقت بكلمة ...... إلخ وكلها على رسم الخلق فيقع التسلسل في المؤثرين وهو ممتنع عند العقلاء، إذ لا بد أن تنتهي المؤثرات إلى مؤثر أول لا يؤثر فيه غيره بل هو المؤثر في غيره بالخلق والإيجاد، وفيه رد على المثلثة عباد الصلبان الذين قالوا بانفصال أقنوم الكلمة أو العلم عن ذات الرب، جل وعلا، ليتجسد في ناسوت المسيح عليه السلام فيحل الوصف الإلهي الأزلي في ناسوت أرضي حادث، ليصلب فداء للنوع الإنساني!، فتفنى صفة من صفات الرب، جل وعلا، بفناء الناسوت الذي تجسدت فيه!، وهو أمر باطل نقلا وعقلا وفطرة وقل ما شئت من أدلة
(يُتْبَعُ)
(/)
البطلان إذ الكلمات غير مخلوقة، فلا تحل في مخلوق، إذ لا يحوي المتناهي غير المتناهي بداهة، فكلماته، عز وجل، لا منتهى لها: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ولو جاز الفناء على كلمة منها جاز على الباقي ففنيت صفته، عز وجل، فبطل وصفه بآخرية الصفات، بجعل صفاته على حد صفات البشر يعتريها ما يعتريها من النقصان الذي يعتري الناسوت الذي حلت فيه والفناء الذي قد آل إليه بزعم الساعين في قتل المسيح عيسى عليه السلام، و: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا). فطريقة أهل الإسلام عموما وأهل السنة خصوصا هي أمثل الطرق في هذا الباب الجليل فهي الموافقة للعقل الملائمة للفطرة، فضلا عن كونها خبرا واردا برسم العصمة، فدلائل نبوة مبلغه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد بلغت التواتر الذي يورث الناظر فيه علما يقينيا جازما بأنه رسول رب العالمين، النازل بآخر الرسالات فبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد ختمت النبوات.
ومن التزم ما جاءت به الرسل، عليهم السلام، فقد قال بالصدق، ولازم الحق: حق، فلو ألزمه من ينفي حكمة الرب، جل وعلا، بلازم إثبات الحاجة والافتقار إلى الأغراض، فإنه يسأل عن مراده من لفظ: "الغرض"، إذ قد أورد مجملا يفتقر إلى البيان فإن أراد الغرض الذي يفتقر إليه البشر فهو معنى باطل لا يلزم من أثبت لله، عز وجل، حكمة، إذ لم يثبت له حكمة من جنس حكمة البشر ليلزمه ذلك، بل أثبت له حكمة تليق بجلاله، فهي فرع عن ذاته القدسية، فليس لها مثيل من حكم البشر، كما أنه ليس لذاته مثيل من ذوات البشر، فالقول في الصفات، كما تقدم مرارا، فرع عن القول في الذات، وإنما يلزم هذا القول من أثبت له، عز وجل، بقياس الشمول أو التمثيل: حكمة كحكمة البشر الذين يفتقرون إلى الأغراض فيوقعون الأفعال تحصيلا لها، فذلك معنى منتف عن الرب، جل وعلا، بداهة إذ فيه قدح في كمال غناه الذاتي المطلق، وهو، من باب قلب الدليل، ما وقع فيه من نفى الحكمة فإنه قد تصور حكمة من جنس حكمة البشر المشهودة، فنفر عقله وذوقه من إثباتها للرب، جل وعلا، فنفاها تنزيها، وهذا نفور يدل على سلامة في العقل والذوق، ولكن من قال بأن اللازم الذي التزمه لازم ابتداء ليتفرع عنه النفي، بل الغلو فيه، تنزيها؟!، وذلك ما جرى عليه النفاة لأي صفة من صفات الرب، جل وعلا، التي تشترك مع صفات المخلوقين في المعنى الكلي المجرد في الذهن والاسم الدال عليها، فإنه جعلوا ذلك ذريعة إلى إثبات الاشتراك في الحقائق الخارجية فمثلوا صفات الرب، جل وعلا، بصفات خلقه، فنفروا من ذلك، ففروا منه بالنفي العام تنزيها فنفوا الباطل الذي أنتجه قياسهم ونفوا الحق وهو اتصاف الرب، جل وعلا، بها على الوجه اللائق بجلاله.
وقد آل الأمر إلى نفي بعض الفضلاء أصحاب القدم الراسخة في الديانة كابن حزم، رحمه الله، للقياس، لأنه نفى تعليل أحكام الله، عز وجل، بالحكمة، لما تقدم من لازم الافتقار إلى الغرض، وهو لازم لا يلزم، فيفعل، عز وجل، عندهم لمجرد المشيئة فلا وصف مؤثر في الفعل علق عليه الحكم تعليق المسبَّب على سببه، وذلك تعطيل لحكمته، جل وعلا، البالغة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 01 - 2010, 08:42 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له، ولم يكلف أحداً ما يقدر عليه بل كل تكليفه تكليف ما لا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه ألبتة ويجوز أن يعذب رجالاً إذ لم يكونوا نساءً ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالاً وسوداً حيث لم يكونوا بيضاً وبيضاً حيث لم يكونوا
(يُتْبَعُ)
(/)
سوداً، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولاً يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها". اهـ
ص113.
فقد اقترن بذلك نفي صفة الكلام عن الرب، جل وعلا، أو تأويله بالكلام النفسي، بلا صوت أو حرف، على ما اطرد من شبهة قياس الشمول أو التمثيل لصفة الخالق، جل وعلا، بصفة المخلوق، فنفوا الكلام وأثبتوا العبارة المخلوقة التي تدل على المعنى النفسي القائم بالذات قيام صفة الذات بالذات، فالكلام: صفة ذات، وذلك صحيح، ولكنه ليس ذاتيا من كل وجه: فليس ذاتيا من جهة أفراده، بل هو ذاتي من جهة نوعه، فالرب، جل وعلا، لم يزل متكلما من الأزل، وإن لم يشأ إحداث ما شاء من كلماته الكونيات أو الشرعيات، فإذا شاء التكلم بما قضى به من الأمر الكوني النافذ، وهو وحي الملائكة الكرام على حد قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ)، أو الشرعي الحاكم، وهو وحي الرسل عليهم السلام على حد قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)، فإنه يحدث ما شاء من آحاده متعلقا بمشيئته العامة. والكلام يعم اللفظ والمعنى: مطابقة، بخلاف من قصره على المعنى فقصر دلالة مطابقته على المعنى دون اللفظ، وفي مقابل من غلا في إثبات المعنى وجفا في إثبات اللفظ من المتكلمين، غلا المعتزلة في إثبات اللفظ، فالكلام عندهم: مخلوق من كل وجه: لفظا ومعنى، بخلاف الأولين الذين قالوا بخلق اللفظ الدال على المعنى دون المعنى القائم بالنفس، فغلو المعتزلة في مقالة: اللفظ المخلوق، صير دلالة الكلام على اللفظ: دلالة مطابقة فلا يدخل المعنى، وذلك في مقابل من قصر المطابقة على المعنى دون اللفظ، والصحيح التوسط بين الطرفين، وهو ما ذهب إليه أهل السنة فدلالة الكلام عندهم على الففظ والمعنى معا: دلالة مطابقة، فالكلام: لفظ مسموع ومعنى معقول، وهذا معنى قول النحاة: الكلام: قول مفيد، فالقول مئنة من اللفظ، والإفادة مئنة من المعنى وهي تقتضي التركيب ولو مقدرا والقصد.
ووجه مقارنة نفي الكلام اللفظي لنفي الحكمة عن أفعال الرب، جل وعلا، أنه يرجع إلى نفي الحكمة بالتسوية بين كل الكلمات الكونيات والشرعيات، فكلها تؤول إلى معنى واحد قائم بالذات وإنما ترد عليه عوارض اللفظ من أمر أو نهي، فهي ليست جزءا من حقيقته، بل هي عبارة مخلوقة يؤدى بها.
ووقعوا أيضا في أقوال ترجع كلها إلى ما تقدم من نفي الحكمة عن أفعال الله، عز وجل، فنفوا التحسين والتقبيح العقلي مطلقا، فليس في الأشياء حسن أو قبح ذاتي، وإنما الحسن والقبح أمر يعرض للشيء لتعلق خطاب الشارع، عز وجل، به، مدحا أو ذما، فيجوز بلازم هذا القول أن تكون الفواحش حسنة إذ ليس فيها معنى قبيح، وإنما عرض لها القبح لتعلق خطاب التقبيح الشرعي بها، فلو زال هذا التعلق، فحل محل خطاب التقبيح: خطاب التحسين لانقلب الفعل حسنا!، وإن كان فاحشا تأنف منه النفوس، فهو قبيح بأصل الوضع، كما يقول الأصوليون في المحرم لذاته، فلم يعرض له التحريم من خارج كالمحرم لغيره، وإنما الوصف للتحريم ثابت مستقر فيه فهو من خصائصه الذاتية التي لا تنفك عنه، وفي مقابلهم غلا المعتزلة في إثبات دور العقل في التحسين والتقبيح فردوا الأمر كله إليه وجعلوه صالحا لإناطة التكليف به، ولو قبل ورود الشرع، وتوسط أهل السنة بين من رد الأمر كله للشرع كالمتكلمين، ومن رده كله إلى العقل كالمعتزلة، فقالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، فإن في الأشياء أوصافا تستحسن وتستقبح لذاتها، وفي العقول قوى تدرك ذلك، ولكنها لا تصلح لإناطة التكليف بها قبل ورود الشرع، فلا تكليف إلا بشرع: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد أدى ذلك إلى ظهور مقالة الجبر، إذ نفي الحكمة، يلزم منه التسوية بين الأفعال حسنها وقبيحها، لانقطاع صلتها بالكلمات الشرعية التي هي متعلق الحكمة، إذ الأمر والنهي إنما يكونان لمعانٍ مؤثرة في الأفعال تصلح لتعليق أوصاف المدح والذم، وأحكام الوجوب والحرمة، فإذا استوت الأفعال بجفاء تعلقها بالكلمات الشرعيات والغلو في إثبات تعلقها بالكلمات الكونيات فتكون كلها محبوبة للرب، جل وعلا، لمجرد أنه شاء وقوعها، فالتسوية بين المحبة والإرادة مطلقا: تسوية مجملة، إذ الإرادة، كما تقدم، جنس تحته نوعان: الإرادة الشرعية وهي متعلق محاب الرب، جل وعلا، التي يلزم من فعلها رضاه، والإرادة الكونية التي تعم المحبوب والمكروه معا، فجهة تعلقها: جهة تكوين بالقدرة لا تشريع بالحكمة كما في الإرادة الشرعية.
فإذا التزم نافي الحكمة تلك التسوية فسوى بين المقدور الكوني والمأمور الشرعي فإنه واقع في الجبر لا محالة، إذ الكون كله مراد للرب، جل وعلا، مطلقا، دون تقييد لذلك بإرادة التكوين، فأي شيء منه قد صدر من الرب، جل وعلا، على حد النفاذ، فلا يملك العباد إلا قيام الأفعال بهم قيام الصفات الاضطرارية كالموت والمرض، لا الصفات الاختيارية التي يصح تعليق الثواب والعقاب بها، بوقوع الابتلاء بالأمر والنهي المتوجه إلى إرادة مختارة وإن كانت مخلوقة لا تخرج عن حد الإرادة الكونية النافذة.
وأدى ذلك أيضا بمن غلا في هذا الأمر إلى إسقاط التكليف الشرعي، إذ التكليف الشرعي، كما تقدم، إنما يتعلق بأوصاف الأفعال، فيتعلق بالحسن وجوبا أو ندبا فهما متعلق الوعد بالثواب، ويتعلق بالقبح تحريما أو كراهة، فالأول متعلق الوعيد بالعقاب، والثاني متعلق اللوم وإن لم يكن فاعله آثما شرعا، فإذا جفا المكلف في اعتبار أوصاف الحسن والقبح الذاتية في الأفعال فإنه سيبطل تلك المعاني المؤثرة في ترتب الأحكام على أوصاف الأفعال، فتستوي عنده كلها إذ لا معنى ذاتي فيها يدركه العقل ليحسن الفعل أو يقبحه، فالأفعال كلها على حد سواء، وإنما يرد التشريع بتعليق الحسن بأفعال، وتعليق القبح بأفعار أخر ترجيحا بلا مرجح إذ لا اعتبار للحكمة وإنما يكون الأمر بمحض المشيئة والقدرة.
وهم مع ذلك لم يلتزموا تلك اللوازم، ولله الحمد، في الأحكام العملية، إذ أثبتوا القياس الفقهي، ولا يكون ذلك إلا بملاحظة علل الأحكام، فوقع لهم تناقض بين، إذ تكلموا في أصول الدين بوجه، وفي أصول الفقه بوجه آخر، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، وهذا، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها، إذ لو طردوها في الأحكام لأبطلوا الشرائع كما فعلت الإباحية المشركية التي احتجت بالقدر الكوني لإبطال القدر الشرعي.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ............ والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر". اهـ
ص112، 113، 114.
(يُتْبَعُ)
(/)
فورثة الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس حظا من تركة النبوات، فقد ورثوا في هذا الباب: الإيمان بقدرة الرب، جل وعلا، النافذة، فأورثهم ذلك ذلا وافتقارا إلى الرب، جل وعلا، إذ مقاليد القلوب بيده، ما شاء منها أقام فضلا، وما شاء منها أزاغ عدلا، فذلك ذريعة إلى التحلل من الحول والقوة البشرية، إلى الحول والقوة الربانية، فمرد الأمر كله إلى الكلمات التكوينية النافذة الصادرة عن الإرادة الربانية القاهرة، فلا تحول لعبد من حال إلى حال إلا بكلمة كونية هي أثر القدرة النافذة في وقوع المقدور كما قضى الرب، جل وعلا، أزلا، فمن عرف ذلك لم يصب بالعجب، إذ ليس له من عمله شيء، فما هو إلا توفيق الرب، جل وعلا، أن يسر له سبب نجاة بعلم أو عمل، مع عظم التقصير وكثرة الصوارف، فمن وجد طريق الخير ميسرا فليسر فيه، وإن أضر بدنياه، فإنها دار لا يسلم منها كائن من ضرر يقع عليه سواء أكان من أهلها أم غريبا مرتحلا قد مر بها، فأرباب الدين قد أضرتهم، وأربابها لم يسلموا من أذاها مع كونهم خداما لها وحراسا على أبوابها، ولكنها هكذا طبعت، فلا يأمن لها إلا غافل، ولا يحسن الظن بها إلا ساذج، ولا يصرف الهم في تحصيلها إلا جاهل قد شغل بالسبب عن الغاية، لفساد في تصوره باحتجابه عن علوم النبوات المصححات للأفهام المزكيات للقلوب والأبدان بصالح الأحوال والأعمال، فمن قدم المصلحة الصغرى مع كونها ناقصة يعتريها من التغير ثم الفساد ما يعتريها على المصلحة العظمى السالمة من أسباب الفساد، الباقية بإبقاء رب العباد، الخالصة من الشوائب والأكدار، فلا يقدم تلك مع حقرها على هذه مع عظمها إلا مخذول قد أتي من قبل فساد النية والتصور، فالإرادة فاسدة لفساد النية، والحكم فاسد لفساد التصور، فلا منشأ صحيح للعمل، ولا منهج صحيح له، وإنما فساد في الباطن الإرادي والظاهر العملي، وما ذاك، كما تقدم، إلا فرع عن شؤم انقطاع مادة النبوة من القلب، فهي مادة الحياة التي بها يصحح علمه ويستجمع جيشه لينازل جيوش الشبهات والشهوات برسم التوحيد أمضى أسلحة القلب في معركته المصيرية للفوز برضا الرب، جل وعلا، أشرف ما جمعت له همة أو عقد له لواء، فما تحرك شيء في هذا الكون إلا برسم المحبة، صحيحة كانت أو فاسدة، وأشرف محبة: محبة من يحب لذاته لكمال صفاته وأفعاله: الرب العزيز جلالا، الكريم جمالا، من يأخذ فلا يفلت فأخذه أليم شديد، ومن يغفر ولا يبالي على ما كان من تقصير فهو الغفور الرحيم، فلا يستقيم القلب إلا إذا تعلق بأوصاف جلاله رهبة تبعث على الكف، وأوصاف جماله رغبة تبعث على الفعل، ولن يكون شيء من ذلك إلا إذا شاء تبارك وتعالى، فمرد الأمر، كما تقدم في أول الكلام إلى: قدرة الرب، جل وعلا، النافذة.
وهم مع ذلك قد آمنوا بالحكمة الشرعية والكونية، فلم يعطلوا أسباب الشرع الحاكم برسم إحسان الظن!، أو مضي القدر الكوني فيهم بالضلال فلا يهتدون، وما أدراهم لعلهم يرجعون فلم يطلعوا على اللوح المحفوظ ليعلموا قضاءهم المبرم بل لم يطلعوا على الكتاب الذي بأيدي الكتبة عليهم السلام ليعلموا قضاءهم المعلق فلا علم لهم بكليهما فاحتجاجهم بالكتاب الأول أو الثاني باطل، وإنما يوقعون أفعالهم الاختيارية في هذه الدار برسم التكليف لا التسيير، فتأتي على وفق ما قضى الرب، جل وعلا، أزلا، فلا تخرج عن إرادته النافذة، فهي تأويل الكتاب الأزلي في عالم الشهادة الوجودي لتظهر آثار صفات كمال ربنا، عز وجل، وليصح الثواب والعقاب بتعلقه بأفعال كائنة لا أفعال مقدرة لما تكن، فلا يتعلق الثواب والعقاب بمعدوم.
ولم يبطلوا سنن الكون برسم التوكل!، فهم ساعون في تحصيلها برسم التعبد فذلك ما امتازوا به عن سائر الخلق الذين يبذلون الجهد ويستفرغون الوسع في تحصيل أسباب الأبدان، ويغفلون بل يتغافلون عن تحصيل أسباب الأديان، فهم في الديانة: جبرية معطلة للأسباب يحتجون بالكون على إبطال الشرع، وفي الدنيا: قدرية نفاة لتأثير القدرة الإلهية في إيقاع المقدورات ملتفتون بالكلية إلى الأسباب المشهودة، منكرون بالكلية للأسباب المغيبة بل ربما لمجري الأسباب، جل وعلا، على رسم الإلحاد والزندقة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(يُتْبَعُ)
(/)
"واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها". اهـ
ص113.
فالجمع بين القدرة والحكمة شعار المتعبدين للرب، جل وعلا، بأوصاف جلاله وجماله، فلم يفرقوا بين وصف جلاله من القدرة، ووصف جماله من الحكمة، فمن نظر إلى الجلال دون الجمال غلا في شهود الحقيقة الكونية وجفا في شهود الحقيقة الشرعية فأصابه النقص في باب الحكمة إذ قد أهملها بردها إلى مسبِّبها، وذلك حق، ولكن مسبِّبها، جل وعلا، هو نفسه الذي أمر بتحصيلها وأودع فيها قوى التأثير الفاعلة، فتلك سنته في كونه، بل تلك سنته في شرعه فإن تحصيل الدرجات الرفيعة في الديانة والأحوال الكاملة والأحكام العادلة والعلوم النافعة .......... إلخ من ثمار النبوات اليانعة لا يكون إلا ببذر أصولها في القلب، والسهر عليها بالرعاية والسقي، لتنبت شجرة التوحيد ذات الفرع الشامخ والأصل الراسخ، فلا يتصور أن تنبت شجرة راسخة كشجرة الزيتون إلا بعد عشرات بل مئات السنين، فكم من جيل قد تعاهدها حتى صارت على تلك الهيئة العظيمة، فجذورها قد ضربت في الأرض وفروعها قد علت في السماء، فكذلك شجرة الإيمان لا يحصل لها الرسوخ في القلب إلا بتوالي أجناس الطاعات علوما وأحوالا وأعمالا عليها، فتؤثر مجموعها ما لا تؤثر بآحادها، وإنما السيل اجتماع النقط:
فاليومَ شيء وغدًا مثله ******* من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرءُ بها حكمة ******* وإنما السيل اجتماع النقط
والغالي في الحقيقة الكونية معطل للحكمة الإلهية لا محالة أو مؤول لها بمجرد مطابقة المعلوم الكائن في عالم الشهادة للمعلوم الأول المقضي في عالم الغيب، وذلك أمر بدهي، فالحكمة تعمه وتزيد عليه ما أوله من سلك هذا المسلك، فإنه ما لجأ إلى ذلك إلا لينفي الوصف المؤثر في السبب فيرد الأمر، كما تقدم، إلى قدرة المسبِّب، جل وعلا، دون نظر إلى حكمته التي أتقن بها الأسباب فأودع فيها بجميل وبديع صنعه القوى المؤثرة التي تستجلب بها مسبَّباتها، فلا يطلب الشبع بلا طعام أودعت فيه قوى الإشباع وإن لم تؤت أكلها إلا بإذن ربها فأثرها لا يظهر مع كونها فاعلة من جهة ترتب مسبَّبِها عليها، إلا بإذن ربها الذي خلقها وقدرها وهداها لتسلك في البدن مسالك دقيقة يحصل بها كمال الاغتذاء فتتحول في سلسلة من التفاعلات المحكمة المتوالية إلى طاقة تؤثر في الأعضاء حرارة وقوة تنهض بها لمباشرة وظائفها، فالخلية تنهض بجوار الخلية ليصح النسيج، والنسيج إلى النسيج عضو فاعل في جهاز حيوي، لتنهض الأجهزة بالبدن كله، فنظهر عليه أمارات الصحة والاكتفاء فتنقطع حاجته إلى الطعام حتى تستهلك القوى الكيميائية الحيوية في خلاياه وأنسجته فتتأثر مراكز الإحساس في المخ بما تنقله إليها الأعصاب من إنذار بقرب نفاد المؤن فيسارع الحس الظاهر إلى تحصيل أسبابها من الخارج لتمتلئ مخازن الطاقة من جديد إلى حين إشعار آخر بنفاد المؤن ....... فتتكرر تلك السلسلة من العمليات الحيوية الكيميائية في إتقان عجيب فقد أودع في كل تفاعل قواه المؤثرة، وهو مع ذلك محكوم بكلمة كونية مدبرة، فمن أغفل الأسباب بالكلية لم يلتفت إلى دقائق الحكمة الربانية في تلك العمليات الحيوية، فصار الأمر عنده مجرد حصول عند الطعام لا به!، فلا قوة في نفس الطعام يتولد منها من آثار بديع الصنع ما يدل على اسمه الحكيم الذي أحكم كل شيء صنعه، ووضع كل سبب في موضعه الملائم
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا يحصل الاغتذاء بالهواء، إذ ليست فيه القوى المودعة في الطعام، فجرمه اللطيف قد ناسب أن تودع فيه أسباب تحصيل الأوكسجين اللازم لإتمام التفاعلات الكيميائية، فلكل فعله المناسب لخلقه، وذلك من معاني الهداية الكونية في قوله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فأعطى الهواء خلقه من اللطافة ثم هداه إلى مباشرة خلايا التنفس، وأعطى الطعام خلقه من الكثافة ثم هداه إلى مباشرة خلايا الهضم. وكل ذلك من ربوبية التدبير: الشق الثاني الذي أغفله من نظر إلى ربوبية الملك والتكوين، فغلا في تقرير الحقيقة الكونية على حساب الحقيقة الشرعية.
ومثل ذلك يكون في الشرائع كما في الطبائع، فإن العمل سبب النجاة فمن عطله، أو قال بحصول النجاة عنده، كقول من قال بأن الصلاة تسقط عن المكلف عند أدائها لا بأدائها، وهو أثر كلامي سرى إلى مباحث الأصول، من صنع ذلك فقد غلا في شهود مقام الإرادة الكونية وجفا في شهود مقام الحكمة الشرعية، فالسنة مطردة في أمور الأديان وأمور الأبدان، فلا ينال مقدور كوني أو شرعي إلا بتحصيل سببه، ولا يكون ذلك إلا بإقدار الرب، جل وعلا، المكلف عليه، فإن شاء امتن بالقدرة والإرادة فضلا، وإن شاء حجبها عدلا.
وقد سار مؤول الحكمة على نفس المنوال في مسألة العلم الأول والثاني فقال بأن علم الرب، جل وعلا، أزلي، وهذا حق، فالعلم الثاني ليس إلا وقوع المعلوم على ما أراده الرب، جل وعلا، فلا يتجدد لعلمه تعلق بالمعلوم حال وقوعه، وذلك خلاف الحق، إذ علمه، عز وجل، أول أزلي باعتبار نوعه، ولا يعارض ذلك تعلقه بالمعلوم حال صدوره من العبد فيحصيه عليه بالعلم الثاني متعلق الثواب والعقاب، مظهر حكمة رب الأرباب، جل وعلا، في التفريق بين العباد في المآلات الأخروية، فرعا عن تفرقهم في الأحوال الدنيوية، فـ: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فأجمل الحكم بعدم الاستواء فذلك من الخبر الصحيح الموافق لقياس العقل الصريح بانتفاء التماثل في الحكم فرعا عن اتتفاء التماثل في الوصف ثم ذيل بالبيان، على حد الفصل لشبه كمال الاتصال بين المجمل ومبينه، ذيل بالبيان بذكر حكم أحد طرفي القسمة العقلية، وهم أصحاب الجنة لنباهة ذكرهم وعلو شأنهم فهم الأحق بالنص على مآلهم، فحصل بذلك تمام البيان إذ نص على حكم أهل الجنة منطوقا وأشار بدليل الخطاب إلى حكم أهل النار فلهم ضد حكم الفوز من الخسران لقيام ضد الوصف بهم، فذلك من قياس العكس الذي اطرد استعماله في الكتاب العزيز في سياق الوعد والوعيد، فالوعد دال بمفهومه على الوعيد بانتفاء علة الوعد وثبوت علة الوعيد، والوعيد دال بمفهومه على الوعد بانتفاء علة الوعيد وثبوت علة الوعد، فيستفاد من النص حكم المذكور منطوقا وحكم المسكوت عنه مفهوما، وذلك من صور الإيجاز البليغ في الكتاب العزيز بتضمين السياق أكبر قدر من المعاني في أوجز قدر من المباني فضلا عن كون الخبر دالا على الإنشاء من وجه، فالوعد مستلزم للفعل طلبا لتحققه، والوعيد مستلزم للترك حذرا من وقوعه، والشاهد أن ذلك: دليل نقلي على ميزان عقلي كلي، صدر من مشكاة النبوات، به يوزن المكلفون فيتراجحون بما قام بقلوبهم من الحقائق الشرعية، فذلك فرع عن الميزان الأخروي، فبطاقة التوحيد فيه قد رجحت، وليس ذلك لكل بطاقة، فإنها على لسان كل موحد وبين حقائقها في القلوب من التباين ما بين الأعيان كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.
فتعلق العلم الثاني بالمقدور إحصاء على العبد واستخراجا لسبب الثواب أو العقاب، ليؤدي السبب إلى مسبَّبه على ما اطرد من معاني الحكمة في إيداع القوى المؤثرة في الأسباب هو: من مقتضيات تلك الحكمة فمن نفاه فقد نفى مظهرا من مظاهرها الجلية. فالعلم والحكمة قرينان في النقل فلا يكاد يذكر العلم إلا مع الحكمة، قرينان في العقل فإنه لا حكمة بلا علم، فالحكمة أعلى مراتب العلم إذ قد بلغ العليم، جل وعلا، حد وضع كل شيء في موضعه الملائم له، ولا يكون ذلك إلا بكمال العلم بأحوال وطبائع المحال وما يلائمها من مواد الصلاح أو الفساد، فلا يوضع الصلاح في موضع فاسد، ولا يوضع الفساد في
(يُتْبَعُ)
(/)
موضع صالح، وإنما يوضع كل في موضعه، ليسير على وفق ما سنه الرب، جل وعلا، كونا وقضاه أزلا، فتظهر بذلك آثار حكمته كما تقدم مرارا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيراً كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ} [غافر: 1 - 2] وقال: في حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]
وذكر نظير هذا في الأنعام فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم فى خلقه عزيز فى خلقه وأمره". اهـ
ص114.
فمنهم الغلاة الذين كفرهم السلف إذ أنكروا علم الله، عز وجل، صراحة، ولذلك كان إلزام الإمام أحمد لمعتزلة زمانه بقوله: أكان الله ولا علم؟، لما سأله أحدهم: أكان الله ولا قرآن؟، كان إلزاما صحيحا، إذ جعل القرآن من العلم، ونفي العلم أمر ينكره القدرية القدرية المعتدلة، إن صح وصفهم بالاعتدال، إذ يلزم منه وصف الرب، جل وعلا، بالجهل، وذلك كفر صراح كما لا يخفى.
فطائفة غلت في إثبات الحكمة حتى نفت القدرة وعلم التقدير المؤثر الذي به قدر الله، عز وجل، الكائنات أزلا، وطائفة قابلتها فغلت في إثبات القدرة وجفت في إثبات الحكمة، فجعلت الرب، جل وعلا، فاعلا بالمشيئة المطلقة، فلا يسأل عندهم عن فعله وهم يسألون لكمال قدرته، وهذا حق، ولكنه مشفوع بتمام الحكمة، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون لكمال قدرته وحكمته، ولذلك كان الأمر والخلق لله، عز وجل، فالأمر من حكمته، وله وجه تعلق بالقدرة إذ منه الكوني النافذ، والخلق من قدرته، جل وعلا، وله وجه تعلق بالحكمة إذ منه خلق التقدير، ولا يكون إلا بعلم أزلي مؤثر، فالحكمة ملازمة له بداهة، فلا يقدر الشيء على أكمل الوجوه إلا حكيم متقن، ومنه خلق التكوين وذلك متعلق القدرة النافذة.
وقد أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى وجه اقتران هذه الأسماء الثلاثة: العليم، الحكيم، القدير، أو ما يدل على وصف القدرة لزوما كاسم: "العزيز"، فإن من معاني عزته، جل وعلا، عزة القدر، فالعلم محيط، والحكمة بها تقع المقدورات على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بقدرة، ولو ضم إليها الناظر، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين: صفة الغنى المطلق، لازداد المعنى كمالا وحسنا، فإن في عالم الشهادة: من قد علم، ولكنه لا يحسن التدبير ليوقع ما علمه في الخارج على نحو متقن، ومنهم من يعلم ولا يقدر على إيقاع المعلوم على وجه متقن فله من إحكام التدبير نصيب، ولكنه لا يملك قدرة على التنفيذ لضعف الإمكانيات، ومنهم من توفر له كل ذلك، ولكنه يفتقر إلى مساعد أمين، فكثير ممن حوله فقراء إلى حظوظ أنفسهم ليس لهم من الغنى المطلق ما للرب، جل وعلا، فيستأثرون بكثير من امتيازات أي مشروع، وغالبا ما يكون ذلك برسم السرقة أو الاختلاس، وهي من صور الافتقار الظاهرة، إذ كثير من كبار اللصوص لا يسرقون لحاجتهم إلى طعام أو شراب فقد تجاوزوا حد الاكتفاء الذاتي بدرجات كثر، وإنما يسرقون لضمان وجاهات ورياسات أعظم باتساع
(يُتْبَعُ)
(/)
ثرائهم ووفرة أرصدتهم، وذلك نوع افتقار، وإن غلب عليه الافتقار المعنوي، فهم، كما تقدم لا يسرقون ليأكلوا، فيصح إجراؤهم مجرى السارق عام الرمادة!، وإنما يسرقون ليستكثروا، فتلك شهوة نفسانية، تدل على عظم افتقارهم إلى أي وجاهة، ولو كانت زورا، ولو اشتروها بترغيب المال أو ترهيب السلطان والجاه، وهم مع ذلك مفتقرون كبقية البشر إلى متطلبات البدن المادية من طعام وشراب ........ إلخ، فقد جمع لهم الفقران: فقر البدن الجبلي، وفقر الروح إلى لذة رياسة أو وجاهة ولو كانت وهما، والروح قد جبلت كما جبل الجسد على الحاجة والافتقار، ولكنها تبلغ غاية الكمال إن صرفت تلك الغريزة المركوزة فيها في بذل أجناس التأله للرب، جل وعلا، وتبلغ غاية النقصان والاستفال إن بذلتها تألها لغيره من معبود أو محبوب.
وما تقدم من عوارض النقص التي تعرض للبشر حال مباشرتهم أمرا من أمورهم: معان منفية عن الله، عز وجل، بداهة، فإن غناه ذاتي فلا يفتقر إلى غيره ليسلبه حقه، وهو، عز وجل، العليم قد أحاط علمه بالكليات الجليلة والجزئيات الدقيقة، وهو الحكيم فلا تدبير أحكم من تدبيره، وهو القدير فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن عرف نفسه بفقره وعجزه في موضع كهذا، عرف ربه، بأضداد ذلك من أوصاف الكمال، وبضدها تتميز الأشياء.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهى تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن"، وفى الحديث: "إن من الشعر حكمة"، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما فى الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم". اهـ
ص114، 115.
إذ الحكمة من أوصاف الجمال متعلق الحمد.
فالشريعة قد أقيمت على الحكمة ولازمها من العدل فلا يخشى المستظل بظلها حر الظلم، فهي عدل كلها: في أخبارها وأحكامها، في علومها وأعمالها، فهي شريعة كاملة قد استغرقت أجناس العلوم النافعة والأعمال الصالحة، فهي مادة صلاح هذا الكون، إن ظهرت رسومها في أرض ظهر فيها من علامات الصحة ما يشرح الصدر ويطمئن القلب، وإن خفيت قي أرض ظهر فيها من علامات الفساد ما يزعج القلوب ويؤرق النفوس.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "إعلام الموقعين":
"فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
(يُتْبَعُ)
(/)
فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بِهَا الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، وَلَوْلَا رُسُومٌ قَدْ بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا وَطُوِيَ الْعَالَمُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ رُسُومِهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". اهـ
فإنكار الحكمة قدح في كمال وصف الرب، جل وعلا، وسوء ظن به، إذ لازم نفيها جواز إرادة الرب، جل، هلاك عباده على حد الرضا، وهو ما نفاه، جل وعلا في محكم التنزيل: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).
فلا يرضى لعباده الكفر بإرادته شرعا، وإن قضى به بإرادته كونا.
فالحمد لازم الحكمة إذ لا يُحْمَد إلا من قد بلغ فعله حد الغاية من الإتقان والإحكام، فأعطى كل شيء خلقه ثم يسر له الأسباب بفضله أو بعدله، فظهر من أمارات صلاح من ناله فضله فهداه، وفساد من ناله عدله فأضله بعد قيام حجة الرسالة عليه، وظهر من أمارات صلاح الكون بجريان سنة التدافع بين القبيلين على نحو قد بلغ الغاية من الإتقان وإن نال المؤمنين فيه من جنس المفاسد الكونية ما نالهم، ظهر من كل ذلك استحقاق الرب، جل، الحمد، مستغرقا أجناس المحامد وأقدارها، فله كمال الحمد وصفا وقدرا فرعا عن كمال حكمته.
وأعظم صور هذه الحكمة: استنباط المصالح الكلية من المفاسد الجزئية على نحو تعجز عقول البشر عن إدراكه لا سيما إذا اشتدت الخطوب وعظمت الكروب، فأصاب العقل الإغلاق والذهول، وسدت منافذ البصر بحجب المصيبة فلم تر ما وراءها من الحكمة البالغة والمصلحة العظمى، وسؤال الله، عز وجل، السلامة في الدين والدنيا، لا سيما في هذه الأعصار التي حرم كثير من المسلمين فيها من نعمة الأمن جزاء وفاقا على تفريطهم في أسبابه: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، و: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، سؤاله، عز وجل، تلك السلامة أمر، كما تقدم مرارا، لا يعدل به العاقل شيئا، فإن التعرض لأسباب البلاء برسم الاعتماد على الحول والقوة: نذير فسخ الهمم وانحلال عرى العزائم، فإن من وكل إلى نفسه فقد تكلف أسباب تلفها واستدعى رسل هلاكها، وليس الكلام في أزمنة العافية بمصدق حتى يمتحن صاحبه في أزمنة الشدة، فمن عوفي فليحمد الله وليحفظ أسباب العاقية بالمرابطة على ثغور الطاعة شكرا للمنعم، جل وعلا، ومن ابتلي فليستدعي أسباب الرضا فإن أبت فليستدع أسباب الصبر فهي أسرع في الإجابة، وإن كانت مرة لا تطيقها أغلب الأذواق. فإن سلم الله فبفضله وإن ثبت في الشدة فرحمة منه، وإن ابتلى فبعدله، وإن أزاغ في الشدة فعقاب منه، وفي كل تظهر آثار حكمته البالغة إذ لم يسو بين محلين مختلفين، فأعطى كل محل ما يليق به من الأوصاف، فاستحق الأول الثناء الشرعي لصبره على المقدور الكوني، واستحق الثاني الذم لجزعه وغفلته قبل ذلك في أزمنة السعة، فلو حشد أجناده، وملأ مخازنه بذخيرة الإيمان الحية، وصوامعه بأغذية القلوب النافعة من كلام النبوات المحكم، ما هزم من أول ضربة من ضربات الابتلاء.
(يُتْبَعُ)
(/)
وظهرت حكمته، جل وعلا، إذ خلق الأضداد، فالعبد يتقلب فيها، فمن سعة إلى ضيق، ومن فرح إلى حزن، ومن صحة إلى مرض، ومن حياة إلى موت، فظهرت آيات الرب، جل وعلا، في عباده، فمنهم آيات في الصبر، وأخر في الجزع، ولكلٍ مآله فرعا عن حاله، وذلك، كما تقدم، إنما يكون بالحكمة التي يضع صاحبها الشيء في موضعه فلا يسوي بين المختلفات ولا يفرق بين المتماثلات.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 01 - 2010, 09:36 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فصل: فى تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه:
وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة فى كل ما خلقه الله وأمر به
، وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فى دعاءِ الاستفتاح: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك"، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة". اهـ
ص116.
فجهة الإضافة متباينة: فالمقدور الكائن في عالم الشهادة إن أضيف إلى الرب، جل وعلا، فهو من باب: إضافة المخلوق إلى خالقه، فوصف الخلق فيه ظاهر، إذ الرب، جل وعلا، خالق الأعيان والأفعال، حسنها وقبيحها، بكلماته التكوينيات الخالقة، وإذا أضيف إلى العبد فهو من باب: إضافة الفعل إلى فاعله، فقد قام الفعل بالعبد قيام المريد للمراد بإرادة اختيارية لا تخرج عن إرادة رب البرية، فجهة الخلق الأولى تعم جهة الفعل الثانية، فالعلاقة بينهم على حد قول المناطقة: عموم وخصوص مطلق، إذ كل إرادة بشرية لا تخرج عن دائرة الإرادة الإلهية، فإن أراد العبد الطاعة ووفق لها فأداها فقد وافق الإرادة الكونية والشرعية معا، وذلك أكمل أحواله، وإن أراد المعصية ويسرت له أسبابها استدراجا فلن يخرج بإرادته أيضا عن حد الإرادة الكونية، وإن خرج عن مقتضى الإرادة الشرعية من التكليف، وهذا أنقص أحواله، فإرادته في جميع أحواله: إن أطاع فضلا، أو عصى عدلا، فرد مخلوق من جنس الإرادة البشرية المخلوقة التي لا تخرج أبدا عن عموم إرادة الرب، جل وعلا، الكونية، وهذا وجه العموم والخصوص المطلق بينهما.
فلا يضاف الشر إلى الرب، جل وعلا، إضافة شرع، أو إضافة فعل، فهو خالقه لا فاعله، فلا ينسب إليه وإنما ينسب إلى سببه، تأدبا مع الرب، جل وعلا، فيثبت وصف الفعل بالخلق، وتنفى الإرادة بمعنى الشرع الذي يحبه الله، عز وجل، ويرضى عن صاحبه، فإن الرب، جل وعلا، لا يحب الفساد ولا يرضى عن فاعله، وإن أراد وقوعه كونا فقد خلق الفاعل، ويسر له أسباب الفساد بمقتضى عدله وحكمته، وخلق فيه إرادة الشر لعدم قابلية المحل لإرادة الخير، وذلك، كما تقدم مرارا، مئنة من كمال حكمته إذ لم يضع الخير في محل طارد له، بل حجبه عن المحل الفاسد بعدله ووهبه المحل الصالح بفضله.
يقول اللالكائي رحمه الله:
"ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم إن الخير والشر من الله وبقضائه، لا يضاف إلى الله ما يتوهم منه نقص على الانفراد، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا والرب خالقه، وفي ذلك ورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: «تباركت وتعاليت، والخير في يديك، والشر ليس إليك» [أخرجه مسلم]، ومعناه - والله أعلم - والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصدا حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر أو يا مقدر الشر، وإن كان هو الخالق والمقدر لهما جميعا، ولذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه فقال فيما أخبر الله تعالى عنه في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [سورة الكهف، الآية: 79]، ولما ذكر الخير والبر والرحمة أضاف إرادتها إلى الله عز وجل فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
(يُتْبَعُ)
(/)
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [سورة الكهف، الآية: 82]، ولذلك قال مخبرا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سورة الشعراء، الآية: 80]، فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه، وإن كان الجميع منه جل جلاله". اهـ
وقال البيهقي، رحمه الله، في "معرفة السنن والآثار":
"وروينا عن النضر بن شميل، أنه قال في قوله: «والشر ليس إليك: تفسيره: الشر لا يتقرب به إليك» وقال المزني: مخرج هذه الكلمة صحيح، وهو موضع تعظيم، كما لا يقال: يا خالق العذرة، وكذلك لا يقال: يا خالق الخنزير، ولا ينبغي أن يضاف إليه التقصير". اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه، وتحقيق ذلك أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا"، فتضمن ذلك الاستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهى عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى "اللام" من باب إضافة المتغايرين، أو يقال: المراد السيئات من الأعمال، فعلى هذا الإضافة بمعنى: "من" وهى من باب إضافة النوع إلى جنسه، ويدل على الأول قوله تعالى: {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9].
قال شيخنا، (وهو ابن تيمية رحمه الله): وهذا أشبه أنه إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنما تكون من عقوباتها، إذ الواقع لا يمكن دفعه وإن استعاذه منها قبل وقوعها لئلا تقع فهذا هو الاستعاذة من شر النفس. وأيضاً فلا يقال في هذه التى لم توجد بعد سيئات أعمالنا فإنها لم تكن بعد أعمالاً فضلاً عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضى وجودها إذ ما لم يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التى إذا عملناها كانت سيئات.
ولمن رجح التقدير الثاني أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرمات منها، والأعمال أعم وحملها على المحرمات خاصة خلاف ظاهر اللفظ، بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى: "من" فتكون الأعمال على عمومها والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها". اهـ
فالشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، فهي شر في نفسها، شر باعتبار ما يتولد منها من شؤم العقوبة في الدنيا بآثار المعصية التي لا تخفى على أصحاب البصائر فلها شؤم في الوجه شؤم في الهمة النفسانية، شؤم في القوة البدنية، وشؤم العقوبة في الآخرة، تأويلا لما سطر في الكتاب الأول من إيجاب العقوبة على ذلك العاصي، فلا مبدل لكلمات الرب الكونية بهداية فلان فضلا أو إضلال فلان عدلا.
فتكون الإضافة في: "سيئات أعمالنا": على تقدير اللام: فهي سيئات لأعمالنا، أي: عقوبات لها نستعيذ من شؤمها في الدارين، فإنها مانعة من طاعة مستجلبة لمعصية أخرى زيادة في الشؤم إن لم يتدارك الرب، جل وعلا، بفضله، فيوفق إلى توبة ترفع أثرها فيطهر المحل ويصير أهلا للطاعة، فهي من الطهر بمكان فلا تقبل الحلول في محال القذر والنجاسة. فتضمن اللام معنى الاختصاص باعتبار العقوبات مختصة بالمعاصي، فالمعاصي سبب العقوبة العاجلة فشؤم المعاصي أمر يظهر أثره في الأبدان ضعفا وسوادا في الوجه وبغضا في قلوب الناس بل وجده بعض الصالحين في خلق المراة وسلوك الدابة، وهي سبب للعقوبة الشرعية الآجلة وهي أعظم خطرا وشؤما، فدوران الشؤم دينا ودنيا دائر مع المعصية وجودا وعدما فهي علته على حد ما قرر الأصوليون في مبحث العلة.
أو على معنى: "من": فتكون الإضافة بيانية جنسية، فيؤول المعنى إلى: السيئات من الأعمال، فالسيئات نوع من جنس ما أضيفت إليه، إذ العمل جنس كلي يندرج تحته: الحسن والسيئ والمباح الذي لا يوصف لذاته بحسن أو سوء، وتحت كل نوع أفراد لا تحصى، فأفعال العباد قد بلغت من التنوع تبعا لتنوع إراداتهم وأديانهم وأخلاقهم وأبدانهم ....... إلخ: ما الله به عليم.
ويشهد للوجه الأول قوله تعالى: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(يُتْبَعُ)
(/)
أي فقهم ما يتولد عن السيئات من العقوبة، فهو من إطلاق السبب وإرادة مسبَّبِه، أو على إرادة عموم السيئات لجنس ما دخلت عليه: "أل" من الأعمال والأقوال والأحوال، فتعم السبب والمسبَّب معا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسوءهم يوم القيامة بقولهم: {وَقِهِم السيئات} وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله: {فوقاه اللَّه سيئات ما مكروا} [غافر: 45] وقوله تعالى: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] ...... فالتعريف في {السَّيّئَاتِ} للجنس وهو صالح لإِفادة الاستغراق، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري
: ... يا أهلَ ذا المغنى وُقيتم ضُرا
وفي الحديث «اللهم أعط منفقاً خَلفاً، ومُمسكاً تلَفاً» أي كلّ منفق ومُمسك". اهـ
واقتصر أبو السعود، رحمه الله، على الوجه الأول فقال: " {وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ". اهـ
فالآية على هذا تحتمل كلا المعنيين، فلو حملت السيئات على الأحوال: فهي من الباب الأول، إذ حال فاعلها في دار الجزاء من السوء بمكان ولو حملت على الأفعال فهي من جنس الأعمال التي توعد فاعلها بالعقاب على ما اطرد من كلام أهل الأصول في تعريف المحرم، ولا يكون بداهة: إلا سيئة يكرهها الرب، جل وعلا، على حد قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا).
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ويترجح أيضاً أن الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشر العمل الخارج الذى سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفة التي فى النفس والثانى شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة، ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة، فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم، وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع كلمه البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان". اهـ
ص117.
فالشر في هذا الباب من ثلاثة أوجه:
الأول: من النفس فهي مصدر الإرادات صلاحا أو فسادا، فهي الباعث الأول على الفعل إذ الحكم مسبوق بتصور علمي وفعل قلبي إرادي قبل أن يظهر أثره في عالم الشهادة الوجودي، فيكون الإطلاق هنا من باب إطلاق المسبب وإرادة سببه الأول. فدلالة اللفظ في هذه الحالة: دلالة لازم وهو ما يتولد عن الإرادة الفاسدة على ملزومه وهو ذات الإرادة الباعثة على ارتكابه.
والثاني: الفعل نفسه فهو ذات السيئة فدلالة اللفظ عليه في هذه الحالة: دلالة مطابقة.
والثالث: ما يتولد عن الفعل من شؤم العقوبة في الدنيا والآخرة، فدلالة اللفظ في هذه الحالة: دلالة سبب على مسبَّبه، أو: دلالة ملزوم وهو السيئة على لازمه وهو العقوبة.
فاستوفى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل تلك المعاني في لفظين فقط: "سيئات أعمالنا"!، وذلك اللائق بمقامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو خير من بلغ عن ربه، عز وجل، فلم يؤخر بيانا عن وقت الحاجة بل بين لأمته كل ما ينفعها من خير لتلتزمه، وكل ما يضرها من شر لتجتنبه.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وإذا عرف هذا وأنه ليس فى الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، وكونها ذنوباً تأتى من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد، كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهى أمور ذاتية للرب تعالى وذات الرب تعالى مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل فصدر منه بوحيه من الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شراً أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه لذلك ظلماً منه تعالى، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به". اهـ
ص117.
فالخير ذاتي في الرب، جل وعلا، ليست له علة، فهو الغني بلا سبب غنى، بل هو خالق سبب الغنى في غيره، والشر في العبد ذاتي، على حد قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، فتأتي النبوات بالأخبار والأحكام لتحسم هذه المادة من نفوس المكلفين، وتغذي مادة الصلاح، فهو سبب خارج عن النفس تتلقاه من الوحي المزكي لها بأجناس الاعتقاد والقول والعمل.
فمن وفق إلى طاعة فبفضل الله فليفرح فهو خير مما يجمع، ومن ابتلي بدخيلة نفس فوقع في المعصية فذلك من عدل الرب، جل وعلا، فيه فلم يظلمه شيئا كان له، وإنما هي نعمته بالطاعة يهبها من يشاء فضلا، ونقمته بالمعصية يعاقب بها من بشاء عدلا، وفي كل له، جل وعلا، القدرة النافذة فلا راد لقضائه بفضل أو عدل، والحكمة البالغة فلا يضع مراضيه في محل قد استوجب سخطه، ولا يضع مساخطه في محل قد استوجب رضاه.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)