فهمت الكنيسة من هذا القول أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع وتحكمه باسم المسيح، وبما أن المسيح بطرس – كما تقول الكنيسة – مات في رومة فإن رومة هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله "البابا" المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره الكنيسة هذه هو عين الصواب، إذ إن المسيح بواسطة الروح القدس هو الذي يملي عليها تصرفاتها، وما دام أنها تعمل باسم الله وتحل وتبرم حسب مشيئته – بل هو يحل ويبرم حسب مشيئتها تعالى الله على ذلك علواً كبيراً فطاعتها واجبة وقراراتها إلزامية لكل المؤمنين بالمسيح وليس على الأتباع إلا الطاعة العمياء والانقياد الذي لا يعرف جدلاً أو نقاشاً، والذنب الذي لا يغتفر هو أن تصادم أوامر الله، التي هي أوامر الكنيسة، بواسطة العقل البشرى أيا كان صاحبه، والخارج على سلطة الكنيسة أو الناقد لقرارات مجامعها كافر "مهرطق" تحل عليه اللعنة والحرمان من دخول الملكوت مهما بلغت وجاهة رأيه بل مهما كانت سوابقه وخدماته للمسيحية وللكنيسة نفسها.
أما إذا كان المتمرد على الكنيسة وسلطتها حاكماً أو شعباً، فإن الجيوش المقدسة ستسحقه بأقدامها، إرضاء للمسيح ". اهـ
ويقول في موضع تال:
"تفتقر المسيحية المحرفة في كثير من تعاليمها إلى الإقناع العقلي والبرهان المنطقي لإثباتها نظراً لتنافيها مع الفطرة وبدائه التفكير لذلك اضطرت الكنيسة إلى تعويض نقص بضاعتها من الأدلة بادعاء الخوارق والمعجزات قاصدة التمويه على العقول الضعيفة واستغفال النفوس الساذجة، وكانت خوارق الكنيسة وشعوذتها تتراوح بين الرؤى المنامية ذات التهويل البالغ وبين التهكن المتكلف بالمغيبات وحوادث المستقبل، وبين تحمل الأساليب واستجداء شتى الوسائل لشفاء الأمراض المستعصية يتبع ذلك أمور أخرى كتعليق التمائم والرقى والتمتمات ..... واستعمال إشارة الصليب وتعليق صور القديسين، ومحاربة الشياطين وطرد الأرواح الشريرة وصد الكوارث والأوبئة واستنزال النصر في الحروب وغير ذلك.
وكان من السهل على العقلية الأوربية الهمجية أن تتقبل هذه السخافات وتصدق الكنيسة في كل شيء بفضل الإرث الوثني الذي ظل متغلغلاً في أعماقها.
وفي القرون الأولى للمسيحية كان معظم المعجزات يدور حول شخصية المسيح وأمه ومنها للرسل والتلاميذ، لكن الكنيسة لم تقتصر على المعجزات الربانية الحقة بل نسج خيالها خوارق أخرى هي أخلاط وأوهام يغلب عليها عنصر التهويل وتتسم بطابع الأساطير الوثنية القديمة التي تخيلها شعراء اليونان وغيرهم". اهـ بتصرف
فقد صيروا أنفسهم آله تعبد، وصيروا قديسيهم رسلا يوحى إليها، وصيروا الخوارق، ولو شيطانية: معجزات تدل على صحة مقالتهم، ولو نقضت مقالة من ينتسبون إليه زورا فما جاء إلا بدين إخوانه من الأنبياء عليهم السلام فهو على التوحيد والإسلام العام، وهو مع ذلك مبشر بصاحب الرسالة الخاتمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي نسخ بشريعته كل شريعة ماضية فجاء بالإسلام الخاص الذي لا يقبل الله، عز وجل، سواه، فقد سدت الأبواب بمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا باب الشريعة الخاتمة فلا نجاة بالخروج عنها بتكذيبها صراحا، أو الابتداع فيها بزيادة أو نقصان، فهي المحكم الذي يرد إليه متشابه القول والفعل، فلا يحكم عليها بغيرها، وإنما هي الحكم على غيرها لمكان العصمة، فالرسالة معصومة، وأهواء وأذواق البشر غير معصومة، فقياس العقل الصريح رد الثاني إلى الأول: رد المتشابه إلى محكمه، فتقضي النبوة القطعية على ما سواها من الأدلة العقلية والذوقية فغايتها أن تكون ظنية إن لم تكن وهمية!.
(يُتْبَعُ)
(/)
والابتداع في المقالة والتعصب لها وامتحان الناس بها، كما تقدم، أمر ظاهر في مسلك من بدل دين المسيح عليه السلام من التوحيد إلى نقيضه، وهو أمر قد سرى إلى أصحاب المقالات الحادثة فإنه ما من مبتدع إلا وقد عقد لواء الولاء لمن يوافقه والبراء ممن يخالفه بلا مستند صحيح من نقل أو عقل، فيمتحن هو الآخر غيره بمقالته، والجهل والابتداع والغلو والتعصب والبطش بالمخالف بلا وجه حق، كل أولئك من السمات العامة التي يشترك فيها أصحاب المقالات في سائر الديانات فهو مسلك أممي عام لا اختصاص لدين دون دين به، وإن كان حال أهل القبلة فيه خيرا من حال غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فلا يستوي مبتدع من أهل التوحيد في الجملة، ومبتدع من أهل التثليث أو التشريك .... إلخ، وبعض الشر أهون من بعض.
والرب، جل وعلا، كما يقول بعض أهل العلم، لا يتعبد خلقه بالوقائع وإنما يتعبدهم بالشرائع، فلا تصلح واقعة فردية، وإن كان صاحبها صادقا وإن وجد لها أثرا صالحا، لا تصلح شرعا عاما للجماعة وإلا تعددت الشرائع بتعدد التجارب الشخصية كما هو حال كثير من أهل الطريق الذين خاضوا تجارب وجدانية وضعوا لها قواعد في السلوك فلا يصل المريد إلى ما وصلوا إليه إلا بالسير عليها، فتعددت المسالك، وليس لدين الإسلام إلا مسلك واحد.
والشاهد أن ذلك من كمال عناية الرب، جل وعلا، بذينك الأبوين المؤمنين فوصف الإيمان معتبر فهو الوصف المؤثر في حصول تلك العناية الربانية بفعل ظاهره المحنة وباطنه المنحة، فنجي الصغير إذ مات قبل جريان قلم التكليف، ونجي الأبوان من الكفر باتباعه على ضلاله، وذلك، كما تقدم، لا يكون إلا بوحي رباني.
ومن كمال أدب الخضر عليه السلام أن نسب الإرادة في فعل القتل إليه، فذلك الشر في الفعل البشري المخلوق، وإن كان نسبيا باعتبار ما يتولد منه من الخير الآجل، ولكن لما لحقه وصف الشر، ولو من وجه تأدب الخضر عليه السلام مع ربه، عز وجل، فنسب ما ظاهره الشر إليه قطعا لاحتمال نسبة الشر إلى الرب، جل وعلا، على جهة الفعل، ولو احتمالا مرجوحا، فالاحتياط في مثل تلك المواضع: حتم لازم، فلا ينسب الشر إلى الرب، جل وعلا، إلا على جهة الخلق، فالشر ليس إليه فعلا، وإن كان منه خلقا، ونسب فعل الخير المحض إلى الرب جل وعلا، مع أنه، تبارك وتعالى، خالق كلا الفعلين، فنسبة الخير إلى الرب، جل وعلا، من وصف الكمال المطلق الذي لا يلزم له ما يلزم من نسبة فعل الشر إليه، تبارك وتعالى، فإنه، كما تقدم، لا يكون إلا بقيد: الخلق لا الفعل، فهو خالق الفعل بمشيئته، وإن لم يفعله أو يرده شرعا، فأراده تكوينا ولم يرده تشريعا، ومشيئته، عز وجل، له، مع ذلك، لا تخلو من الخير باعتبار مآله كما تقدم بيانه.
ثم ظهرت أبلغ وجوه العناية الربانية في تأويل الفعل الثالث الذي أشكل على الكليم عليه السلام:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا: فصلاح الأب قد حفظ الذرية، فشملتها العناية الربانية الخاصة فبعث عليه السلام ليحفظ لهما المال بإقامة الجدار، وكان من معهود أدبه أن نسب الفعل هذه المرة برمته إلى الرب، جل وعلا، فهو من الخير المحض الذي لا يتطرق إليه الشر من وجه فصحت بل وجبت نسبته إلى الرب، جل وعلا، فقد اجتمعت فيه الإرادتان فهو مما أراده الرب، جل وعلا، كونا فأوجده، وأراده شرعا فأحبه ويسر لنبيه، عليه السلام أسباب فعله. فتلك: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: نكرت تعظيما وأضيفت إلى الرب، جل وعلا، فذلك أليق بمقام العناية فالنعم الكونية والشرعية من ربوبيته، عز وجل، لخلقه، بإجراء أسباب صلاح الدين والدنيا عليهم، فذلك من الرزق الذي يجريه، عز وجل، على من شاء من عباده فضلا، ويقطعه عمن شاء منهم عدلا.
ثم احترس بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا: من أن يظن بأنه المستقل بإرادة تلك الأفعال التي لا تصح، كما تقدم، إلا فرعا عن وحي معصوم، فهي من الغيب الذي لا تدركه العقول بقياسها ليصح لها فيه اجتهاد بفعل أو ترك.
وتلك الصور وإن كانت خاصة من وجه إلا أن فيها وجه لطيفا للعناية العامة، فهي مما يصح وقوعه لكل من اتقى الرب، جل وعلا، فيجعل له من أمره يسرا، فقد يعطب الملك، كما عطبت السفينة، ويكون صلاح الحال في ذلك باعتبار المآل لا الحال، وقد يسلب الإنسان نعمة من ولد أو زوج أو مال، ويكون الصلاح كل الصلاح له في ذلك، وأما صلاح الآباء فهو مما يثمر في الأبناء فتظهر بركة الطاعة في الولد كما يظهر شؤم المعصية فيه وهو أمر ظاهر في زماننا وقد عظم شؤم الولد وظهرت صور من العقوق لم يسلم منها أحد تقريبا إذ لم يسلم بيت من بيوت المسلمين إلا ما رحم الرب، جل وعلا، من شؤم المعاصي.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 03 - 2010, 08:24 ص]ـ
ومن سورة مريم:
ومن قوله تعالى: (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)
فصدرت الآيات بدليل من أدلة الرحمة والعناية الخاصة بزكريا عليه السلام، فهو نبي كريم من أنبياء بني إسرائيل، والأنبياء عليهم السلام أحق الناس بالعناية الربانية فهذا: ذكر رحمة ربك، على ما اطرد في لسان العرب من حذف المسند إليه في صدر الكلام لدلالة السياق عليه، فاغتفر في مثل هذا الموضع حذف صدر الكلام أو ابتدائه، مع أنه عمدة، والأصل في العمدة أن لا تحذف بخلاف الفضلة كالمفعول والحال، وجاء الخبر مرفوعا، على ما اطرد في لسان العرب من رفع الخبر، وأشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إلى وجه آخر تعظم فيه المنة الربانية بدوام ذكرها، إذ الذكر في الأصل منصوب على المصدرية من عامل محذوف مقدر من جنسه فـ: اذكر ذكرا، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لدوام الذكر، فذلك آكد في تقرير عنايته، عز وجل، بعبده، زكريا، عليه السلام، فضلا عما في هبته الولد وقد تقدم به العمر، من دلالة على قدرته، عز وجل، على الإيجاد المعجز، فالآية قد دلت على كلا الأمرين: الإيجاد المعجز بخلق يحيى عليه السلام من أب قد تقدم به العمر، وأم عاقر لا تلد فضلا عن تقدمها في العمر فهي عجوز عقيم، فذلك من جنس الآية الكونية بهبة زكريا وزوجه، عليهما السلام، يحيى، عليه السلام، فمعنى الإعجاز فيه ظاهر إذ المحل غير قابل، فأصلحه الرب، جل وعلا، فذلك مئنة من قدرته النافذة، فصار أهلا لمباشرة سبب الاستيلاد بمقتضى السنة الكونية بالتقاء النطف وخلق العلق والمضغ، فذلك مئنة من حكمته البالغة، إذ أقام، تبارك وتعالى، الكون على أسباب تجري وفق سنن كونية مطردة، فاطراد السنة الكونية مئنة من انفراد الرب، جل وعلا، بالوحدانية، فلو كان للكون آلهة معه، لتعددت السنن بتعدد الآلهة، كما نرى في حال ممالك الأرض، فتتعدد الدساتير الأرضية بتعدد المتملكة والمتأمرة، فلكل قانونه الذي يحمل رعيته عليه، ولو جبرا بحد السيف، إلا من أقام ملكه على رسم النبوة، فقليل ما هم، وإن شئت فقل: فعديم ما هم في زماننا، فلما كان هذا الكون بمتملكته ومتأمرته ورعيته، وناطقيه وأعجمييه، وحيه وجماده، خاضعا لسنة كونية مطردة فلا يملك عنها خروجا، فهو خاضع لها خضوع المربوب للرب الخالق المدبر، فلا يسع ذرة من هذا الكون الخروج عن مشيئته العامة، وإن خرج كثير من المكلفين عن إرادة الشرع الحاكم، فكذبوا الرسالة، أو خالفوا عن أمرها، أو عطلوا أحكامها، فما كان ذلك إلا بالإرادة الكونية النافذة التي لا يملك أحد، أيا كان اسمه أو رسمه، الخروج عنها، فلما كان على هذا الوصف، فأمره في انتظام، ومدبره، جل وعلا، كل يوم هو في شأن، لا يغفل عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فهو المحيط بجميع الكائنات، بعلمه الأول في الغيب، وعلمه الثاني في الشهادة، فيمد كلا بما يصلح شأنه، فمن كان على رسم التكليف، أمده بأسباب الدين: رسالات وشرائع يصلح بها أمر الروح الباطن، وأسباب الدنيا: أقواتا نازلة من السماء ونابتة من الأرض يصلح بها أمر الجسد الظاهر، فلما كان على هذا الوصف من إحاطة العلم وكمال القدرة وبلوغ الحكمة وسعة الرحمة، فرحمته الكونية قد وسعت كل شيء ورحمته الشرعية قد وسعت من اصطفاه فهداه وسدده إلى الإيمان بالرسالات، وعظيم المنة، فمنته الشرعية، كما تقدم، سابغة بإمداد الروح اللطيف بأسباب حياته من الروح النازل على قلوب الأنبياء، فهو للروح: روح تحييه، كما يحيى الجسد الكثيف بتخلل الروح أركانه، فإن نزعت منه فسد، فكذلك الروح إن نزع منه الإيمان وانقطع عنه مدد الرسالات، فهو إلى فساد صائر، ومنته الكونية قد اشتركت فيها كل الخلائق فهي مما يستوي فيها الإنسان الناطق والحيوان الأعجمي والنبت النامي بل والجماد فله سنته في الإيجاد والإعدام، وحال الصخور التي تنشأ من حملان الريح لذراتها من مكان إلى آخر، على ذلك خير شاهد.
ودلالة العناية الخاصة بأوليائه في هذا الخبر ظاهرة، فقد خرقت السنة الكونية إكراما لزكريا، عليه السلام، بالولد.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 03 - 2010, 08:28 ص]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا):
فرحمة الرب، جل وعلا، وهي وصف من أوصافه، أو أثر من آثارها المخلوقة، وهو إجابة دعائه فذلك جار على ما تقدم من دلالة العناية الخاصة بالنبي الكريم: زكريا عليه السلام، فـ: "إذ": ظرف الرحمة الربانية، أو هو بدل مبين لإجمال رحمة الرب، جل وعلا، فرحمته، هي إجابة ذلك النداء الخفي الذي سمعه الرب، جل وعلا، فلا تخفى عليه أصوات الداعين، فذلك من سمعه، عز وجل، سمع الإجابة، وهو أشرف أنواع وصف السمع الرباني، ثم جاء بيان هذا النداء مطنبا فذلك مما يقتضيه سياق الدعاء فبسط العبارة في إظهار الذل والفقر والفاقة والضراعة مما يناسب حال الداعي، وكلما ازدادت عبوديته ازداد إظهاره لضعفه وتبريه من حوله وطوله، والأنبياء، عليهم السلام، كزكريا، عليه السلام، أولى الناس بهذا الوصف، فهم أعبد الناس لربهم لكونهم أعلم الناس به، فعندهم من العلم بأوصاف الرب، جل وعلا، جمالا ما يحملهم على الرغبة فيما عنده، وهو ما كان من زكريا عليه السلام فلم يستبعد وقوع تلك الخارقة الكونية فذلك على الله، عز وجل، يسير، فهو القدير على الإيجاد من العدم، ذو الفضل الكبير، يهب من شاء بفضله، ويمنع من شاء بعدله، وعندهم من أوصاف جلاله ما يحملهم على الرهبة فهم أتقى الناس له، جل وعلا، وأشدهم خشية من عذابه، فأطنب عليه السلام بقوله: رَبِّ: فمقام طلب الولد يناسبه تصدير الدعاء بوصف الربوبية، فالرب، جل وعلا، هو الذي يهب ويمنع، ففعل الربوبية في هبة الولد خلقا في الرحم وخروجا إلى الدنيا وغذاء للبدن والروح، كل أولئك من فعله، عز وجل، وربوبيته، عز وجل، إنما تظهر آثارها في أفعاله في خلقه، بكلماته الكونيات، إيجادا بالإحياء أو إهلاكا بالإماتة، فهو الرب المحيي المميت، المنشئ من العدم، المفني للأعيان فتصير إلى تحلل وزوال، فلكل فعل كلماته، ولكل خلق تقديره في الأزل، والسعيد من استدعى مقدور الخير بالمداومة على الطاعة، وسؤال الرب، جل وعلا، خير الدين والدنيا، واستدفع مقدور الشر بسؤال الله، عز وجل، السلامة حيث تكون سلامة حقيقية للدين والدنيا لا سلامة متوهمة لبدن يحيى صاحبه برسم الذل فحياته من جنس الحياة الحيوانية، فلا يغضب إلا لاحتياجاته الغريزية من مأكل ومشرب ومنكح، ولكل همته، ولكل عمل قد يسر له فمن الناس من يسر للدفاع عن المقدسات ومنهم من يسر للجلوس على الطرقات.
فأطنب، عليه السلام، كما تقدم، في وصف الضعف في معرض التضرع طلبا للولد: فـ: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي: فـ: "أل" في: "العظم"، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جنسية استغراقية فقد عم الوهن عظامه كلها، وذلك أبلغ في بيان ضعفه، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا: فخص المحل وهو الرأس بفعل الاشتعال، وإنما المشتعل الشيب على سبيل الاستعارة المكنية التبعية في الفعل: "اشتعل" إذ شبه سريانه في الرأس باشتعال النار، فذلك مئنة من سرعة الانتشار وعمومه، ثم حذف المشبه به وهو النار، وكنى عنه بوصف من أوصافه هو محط الفائدة وهو: الاشتعال فهو، كما تقدم، مئنة من الانتشار، أو يقال بأن الاستعارة أصلية في الفعل: "اشتعل" الذي استعير لمعنى السريان أو الانتشار، فذلك، كما تقدم أبلغ في بيان عموم الفعل للمحل، فضلا عما تقدم من إسناد الفعل إلى الرأس: محل الشعر، وليس إلى الشعر نفسه، فهو آكد في بيان عموم الشيب للرأس، ولازم ذلك التقدم في العمر الذي يصاحب وهن العظم، فالإطناب بذكر أوصاف الكبر أليق، كما تقدم، في مقام التضرع والطلب، فأصل الكلام قبل التحويل: واشتعل شيب الرأس، فالتمييز محول عن الفاعل، فيكون إسناد الفعل إليه من باب المجاز العقلي، عند من يقول بالمجاز، ومن ينكر المجاز فإنه يقول: إن التشبيه، والاستعارة من صوره فهي تشبيه قيد بحذف أحد طرفيه، حقيقة في طرفيه، على الراجح من أقوال البلاغيين، فاشتعال النار حقيقة فيها، وسريان الشيب في الرأس حقيقة فيها، وإسناد فعل الاشتعال إلى المحل يدل لزوما على اشتعال الحال فيه وهو الشعر، فالمعنى قد تحقق في الذهن دون حاجة إلى وسائط عقلية من علائق وقرائن مجازية، فالمراد وهو عموم الشيب للشعر
(يُتْبَعُ)
(/)
ولازمه من الكبر وضعف القوى فلا يرجو من تلك حاله الولد، قد حصل في ذهن المخاطب أو القارئ ابتداء، فيكون حقيقة من ذلك الوجه، فتلك حجة مطردة في كلام منكر المجاز، فنظره دوما إلى المعهود من اللسان، وإلى قرائن السياق التي تقيد الدلالة المعجمية المطلقة للفظ، والشاهد أن المعنى المراد: بيان شدة ضعفه، عليه السلام، التي أطنب في إظهارها ثم ذيل بالرجاء والطمع في عطايا من لا تنفد عطاياه الكونية، فهي ككلماته الكونية التي يهب بها ويمنع، فلا نفاد لها فـ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)، فـ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا: فأطنب بتكرار وصف الربوبية إحسانا للظن بالباري، عز وجل، فلم يعهد من ربه، جل وعلا، عدم إجابة، فهو الكريم الذي لا يرد من طرق بابه بدعاء أو توبة، وإنما يعجل الداعي، أو يقوم به المانع من الإجابة، فالعيب فيه لا فيمن دعاه، فهو، جل وعلا، المنزه عن وصف البخل، وإنما يربي عباده بالعطاء تارة والمنع أخرى، ولا يخلو فعله في كلا الحالين من حكمة ورحمة وعطاء، ولو مدخر، لمن لم يستجب له، فيرد بدعائه عنه مصيبة أعظم، أو يدخر له ثوابه عنده، فالبشر قد طبعوا على العجلة، و: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي: فخاف ألا يحفظ بنو إسرائيل ما أوتيه من العلم، فطلب وليا من لدن الرب، جل وعلا، لا ليرث ماله، فلم يكن ذا ثروة وجاه، بل كان، عليه السلام، نجارا يأكل من عمل يده، والأنبياء لا يورثون فذلك أبلغ في نفي الشبهة عنهم، فلسان مقالة الأنبياء عليهم السلام: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ"، و: "وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ"، فلو ورثوا مالا أو سلطانا لشنع عليهم أصحاب الشبهات بأنهم أسسوا ملكا بزعم النبوة، كما رمى بها أحد زنادقة العصر: النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فادعى أنه مؤسس الملك الهاشمي أو القرشي برسم النبوة، والتاريخ يكذبه فإنه لم يعهد بخلافته لأحد على الراجح من أقوال أهل العلم، وعلى القول الآخر نص نصا ظاهرا أو خفيا، على خلافة الصديق، رضي الله عنه، وليس من عشيرته الأقربين بل هو من بطن ضعيف من بطون قريش لا حظوة له كبني هاشم أو بني أمية، فالأنبياء، عليهم السلام، منزهون عن توريث الحكم!، كما يجري في زماننا، بل إن خلفاءهم برسم الرشد لم يفعلوا ذلك، فاختار الصديق عمرَ، رضي الله عنه، وليس تيميا مثله، وجعلها عمر، رضي الله عنه، في ستة ليس منهم عدوي مثله، فأخرج ابنه عبد الله، رضي الله عنه، وابن عمه: سعيد بن زيد، رضي الله عنه، مع أنه من العشرة، ولم يجعلها عثمان، رضي الله عنه، لأموي، ولم يوص بها علي، رضي الله عنه، لأحد، كما أثر عنه، وإنما ولى الناس بعده الحسن، رضي الله عنه، لعظم نصحه للجماعة لا لوصية من أبيه، فتولاها راشدا، وتنازل عنها لمعاوية، رضي الله عنه، مختارا، فكان السيد الهمام الذي بشر بصنيعه في حقن دماء أهل الإسلام خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويقبح، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" في معرض الرد على من استدل بآية إرث سليمان داودَ عليهما السلام على إرث الإمامة وليس الإرث كما تقدم لملك أو مال بل هو إرث النبوة، يقبح في حق آحاد البشر أن يكون همه من الولد أن يحجب به بقية الورثة!، فلا يبغي بالولد إلا النكاية في إخوته وعشيرته، فكيف تتعلق همة نبي بغرض كهذا، فيكون همه من الولد: وريثا يرث ماله لئلا يظفر به من ليس من نسله!.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم أطنب في بيان ضعف زوجه عن الإنجاب بعد أن أبان عن ضعفه بوهن العظم وشيب الرأس فـ: كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا، والإتيان بالماضي: "كان" مئنة من لزوم الوصف لها، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذلك جار على ما تقدم من الإطناب في وصف المانع من الولد، فلا يطلبه بعد ذلك إلا من حسن ظنه بالله، عز وجل، وقوي يقينه به، فيدعوه تحقيقا لا تجريبا، كما يقع من كثير منا فقد صار الدعاء إما عبادة محضة، وهو كذلك بالفعل ولكنه لا يخلو من معنى الرجاء في المدعو، واليقين من إجابته دعاء الداعي له برسم الجزم، وإما أداء واجب فهو من قبيل تعليق الأمر على المشيئة تبركا، فأنى يستجاب دعاء هذا وصفه؟!، ثم ذيل بالطلب بعد هذا الإطناب:
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا: وقدم: "لي" لكونه محط الفائدة فغرض الداعي حظ نفسه، وإن كان شرعيا، ثم جاء الإطناب في بيان وصف الولد بجملة: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ: على ما تقدم من معنى الوراثة، وقرأ بعض القراء بالجزم في: "يرثني"، فمعنى السببية في السياق ظاهر، فهب لي على جهة الدعاء، ومن ثم جزم الأمر في جوابه فهو جواب الشرط المحذوف الذي دل عليه الأمر، وجواب الشرط مئنة من المسبَّبِية فهو محط الفائدة الذي تولد من سببه الذي هو الشرط المحذوف، فعلة طلبه ما تقدم، ومعنى العلية مستفاد من كلا الوجهين، سواء بالجزم في جواب الطلب، أو بالوصف، فإن الوصف تخصيص للموصوف بمعنى بعينه وذلك مئنة من كونه محط الفائدة إذ لم يعلق الحكم على الموصوف مطلقا، وإنما على الموصوف بقيد وصفه، فهو العلة الباعثة على السؤال حقيقة، فليست علة السؤال مجرد طلب الولد وإن كان فاسدا، وإنما طلب وريثا لعلوم النبوات، ثم ذيل بالدعاء: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، أي مرضيا عندك بالقول والفعل، وتوسيط وصف الرب بين مفعولي: "اجعل"، جار على ما تقدم، من استدعاء الجواب بالتوسل بأسماء وأوصاف الربوبية اللائقة بهذا المقام، ففيه مزيد عناية من الداعي، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله. وتلك من علو همته، عليه السلام، فهمته في الطلب ليست كهمة آحاد البشر ممن يلتمسون الولد، ولو كان طالحا، فمرادهم منه التفاخر والزينة، وليس لهم فيه نية صالحة، كما هو حال أغلب الآباء في الأعصار المتأخرة، فلا يريد الولد إلا شهوة، ولذلك ظهر في الأعصار المتأخرة، لا سيما في عصرنا، من صور العقوق ما ظهر، فعومل الآباء بنقيض مقصودهم حتى تمنى كثير منهم هلاك الولد الذي كانوا يتمنونه بالأمس ليستريحوا من شؤمه وسوء أخلاقه!. وما ذلك إلا لفساد التصور لمعنى الذرية، فهي وسيلة وليست غاية، فبها يعمر الكون وتقام الدنيا برسم الدين، فكيف إن لم يكن للأب عناية بالدين ابتداء، أنى يرجو صلاحا من نسله؟!، ولم يبذل السبب ويبذر البذر النافع، وإنما بذر النطفة كما يبذر البهيم نطفته في رحم أنثاه، فجاء الولد الذي اعتنى باحتياجاته المادية برسم الخدمة التي يشترك فيها الإنسان والبهيم، لا التربية التي يختص بها جنس الآدميين!. وقد يخرج الصالح من الطالح، ولكن الرب، جل وعلا، قد أقام هذا الكون على سنن كوني محكم، فأنى يرجو من لم يبذل الجهد في تنمية الثمر: أنى يرجو ثمرا صالحا سالما من الآفات؟!. ثم جاءت البشرى على تقدير قول محذوف كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فقلنا: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا: فذلك جار على ما تقدم من دلالة الإيجاد المعجز فكل أسباب التناسل قد فقدت، فالأب شيخ والأم عاقر لا تلد، ومع ذلك امتن الرب، جل وعلا، على عبده زكريا، عليه السلام، بالولد، فتلك من عنايته الخاصة بأنبيائه، عليهم السلام، كما تقدم، ولا يخلو المعنى من عموم يشمل غيرهم فكم من شيخ قد دعا الله، عز وجل، فجاءه الولد على الكبر، والرب القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فيصور الأجنة في الأرحام كيف يشاء.
(يُتْبَعُ)
(/)
فبشره بغلام وأمره بتسميته يحيى، فالخبر جار مجرى الإنشاء، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وجعل له من السمات ما لم يكن لمولود قبله، ولا يلزم من ذلك أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام، فالأفضلية من وجه أو وجوه لا تعني الأفضلية من كل الوجوه، فقد يكون المفضول فاضلا في خصلة من خصاله من هو أعلى منه منزلة، فيكون فاضلا من هذا الوجه خصوصا، لا من كل وجه عموما، فليس يحيى، عليه السلام، بأفضل من أولي العزم عليهم السلام، بداهة، وإن كان له من بعض خصال الفضل ما ليس لهم، فلم يؤت أحد منهم النبوة صبيا، فذلك مما امتاز به عنهم، ولم يلزم من ذلك أنه مقدم عليهم في الرتبة، بل هم أفضل منه وأعلى منزلة بالإجماع دون أن يلزم من ذلك قدح في المفضول على ما اطرد من كلام أهل العلم في مسألة التفاضل بين الأنبياء عليهم السلام.
فتعجب زكريا عليه السلام من هذه الآية الكونية الباهرة الدالة على عظم قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد، وإن لم تكن ثم أسباب ظاهرة، بل الظاهر المحض شاهد بضد ذلك لمن تعلق بالأسباب وغفل عن ربها إيجادا وإجراء، فتعجب بقوله:
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ: فوصف الربوبية قد اطرد في دعائه، من أول السياق إلى منتهاه، وهو أليق بمقام التعجب على جهة التعظيم، للرب القدير، جل وعلا، فكيف يكون لي ولد، أو من أين، أو متى، على ما اطرد من دلالة: "أنى" في كلام البلاغيين، وكلها معان صحيحة في هذا السياق، فدلالة التعجب من كمال القدرة الإلهية في جميعها ظاهرة، وذلك جار على ما سبقت الإشارة إليه في مواضع أخر، من حمل اللفظ الواحد على معان متعددة ما لم يوجد المانع من قرينة سياق أو حال، فذلك مئنة من ثراء الكتاب العزيز بسعة معانيه مع وجازة مبانيه.
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: فالرب، جل وعلا، قدير على كل ممكن، لا يعجزه خلق، فـ: قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا: فيكون خلق يحيى، عليه السلام، جائزا من باب أولى، فذلك جار مجرى قياس الأولى، إن نظر إلى أصل خلقة الإنسان، فمن خلق ابتداء من العدم قادر على الخلق من أب وأم من باب أولى، وجار مجرى القياس المساوي إن نظر إلى خلق زكريا، عليه السلام، بعينه، فقد خلق من أب وأم، ولم يك شيئا، فكذلك يحيى، فاشتركا في الأصل العدمي فمن أوجد الأول قادر على إيجاد الثاني، وفي السياق رد على الفلاسفة الذين قالوا بقدم الجواهر وتوالي الأعراض عليها فمادة الكون عندهم قديمة لا يحدث الرب، جل وعلا، فيها خلقا بعد خلق، على أصلهم في اقتران المعلول بعلته، إذ جعلوا علة صدور هذا العالم هو ذات الرب، جل وعلا، لا أوصافه الفاعلة التي تصدر عنها كلماته الكونية النافذة، كما تقدم في أكثر من موضع، فقالوا بقدم جواهر العالم وإنما تتوالى الأعراض عليها، فكأن المادة واحدة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، وإنما الخلق هو مجرد تشكيل لها لتصير زيدا أو عمرا أو حجرا أو شجرا، وذلك أمر ينكره الشرع والعقل والحس الذي يدرك من آثار إيجاد الرب، جل وعلا، للكائنات من العدم ما يدرك، فتلك من أقوى الأدلة في عالم الشهادة على كمال ربوبيته، عز وجل، إيجادا وتدبيرا لخلقه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 03 - 2010, 08:28 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا):
فطلب الآية الكونية ليطمئن قلبه فهي من جنس آية الخليل عليه السلام، ونكرت الآية تعظيما، باعتبار صدورها من الرب القدير، جل وعلا، فلا يقدر على الآيات الكونية في معرض التكريم والتثبيت والتأييد لرسله عليهم السلام إلا هو، فهي داخلة في حد دلالة الإيجاد المعجز، وفي الآية دليل لمن نفى اقتصار الآيات الكونية التي يجريها الرب، جل وعلا، على أيدي رسله، عليهم السلام، على التحدي، فقد تكون تثبيتا ببث الطمأنينة في قلب النبي، كما في هذه الآية، وقد تكون إعانة للنبي والمؤمنين معه، كما في آية تكثير الطعام يوم الخندق، فقد كانت رحمة بالجيش الذي حقق شرط الإيمان المنجي فتوالت عليه رحمات الرب المنعم جل وعلا فحفظ بهذه الآية من الهلاك بسبب الجوع، ثم جاء التأييد
(يُتْبَعُ)
(/)
الكوني بريح الصبا، فارتحل العدو عن المدينة، وسلم الله، عز وجل، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والذين آمنوا معه، فكانت تلك، أيضا، من أدلة العناية الخاصة بالمؤمنين بنصرهم على عدوهم، فهو على ذلك قدير، فأرسل جنده الكوني، و: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، على أعدائه فهزموهم بإذن الله، وألقي الرعب في قلوبهم وقلعت الريح خيامهم، فالآيات الكونية التي تجري على أيدي الرسل، عليهم السلام، لا تقتصر، كما تقدم، على نوع دون آخر، وإن كان أكثرها وقوعا ما يقع في معرض التحدي للمكذبين كناقة صالح وعصا الكليم وخلق المسيح للطير ونفخه فيه الحياة بإذن الرب جل وعلا وشق القمر للأمين عليهم الصلاة والسلام جميعا.
فجاء الجواب عقيب طلب زكريا عليه السلام، وتلك أيضا، من دلائل الربوبية عموما، فإجابة دعاء الداعين من أظهر أدلة الحس على وجود الرب، جل وعلا، فهو القريب يجيب دعوة الداعي، برسم الإيمان فـ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، ورسم الانتصار للمظلوم من ظالمه فـ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ"، بل ورسم إجابة المضطر ولو كان كافرا: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)، فـ: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال مجتمعة، أو حال كونك سويا سالما من الآفات فليس امتناعك عن الكلام لعلة، وإنما آية كونية فيمسك اللسان حال الكلام، ويطلق حال التسبيح، و: "سوي"، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الذكر والأنثى، ويستوي فيه المفرد والجمع، فذلك جار على ما تقدم مرارا من وقوع مجاز التعلق الاشتقاقي بتبادل الصيغ وحلول بعضها محل بعض إما بأصل الوضع اللغوي، وإما لنكتة معنوية كزيادة في معنى فرعا عن زيادة في مبنى، وذلك الغالب في صيغ المبالغة، فهي من اسمها تدل على المبالغة في المعنى الذي صيغت منه. فقد يقال هنا بأن الحال قد وردت مؤكدة لسلامته عليه السلام من الآفات فإمساك لسانه: آية كونية لا عاهة بدنية، والحال إذا كانت فضلة فهي جارية مجرى الوصف الكاشف للمعنى، وفيه هنا احتراس من إصابته عليه السلام بعلة مانعة من الكلام في موضع يظن فيه ذلك فناسب ذلك التوكيد بصيغة المبالغة على حصول السلامة وانتفاء ضدها من العلة. ومنكر المجاز على أصله المطرد بأن حصول المعنى المراد في الذهن ابتداء دون حاجة إلى علائق وقرائن كاف في الحكم على استعمال الكلمة على جهة الحقيقة فهي مما اشتهر في لسان العرب ولو على خلاف دلالتها المعجمية، والاشتهار ينزل المجاز المشتهر منزلة الحقيقة العرفية، فعرف اللسان قد صير ما استعمل على غير دلالته المعجمية، قد صيره: حقيقة فيما استعمل له.
ومثله: استعمال: "فعيل" بمعنى فاعل فيما يستوي فيه المفرد والجمع من قبيل قوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)، أي: مظاهر معاضد، والسياق أيضا: سياق عناية خاصة بالانتصار للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أزواجه، رضي الله عنهن، اللاتي تظاهرن عليه فيما يقع بين النساء من أمور الغيرة، فناسب ذلك في معرض مدافعة الأذى عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو بذلك الأمر المعتاد بين النساء، ناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فغار الرب، جل وعلا، على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يمس بأذى، ولو خفيفا، ولم يَغَرْ كثير منا وقد نيل من شخصه الكريم وعرضه الطاهر، في هذا العصر، فنال أهل البدع المغلظة من عرض نسائه، رضي الله عنهن، ونال الكفار الأصليون من شخصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا): فأشار إليهم، إشارة جاء بيانها مصدرا بـ: "أن" التفسيرية، فجاء البيان عقيب الإجمال بالأمر بالتسيبح ليلا ونهارا، فذلك مئنة من الفلاح في أمر الدين والدنيا، فمداومة الذكر صلاح للدين، فانشراح صدر، وادخار أجر، وصلاح للدنيا فـ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، والاستغفار نوع من الذكر فهو سابق التسبيح سَبْقَ التخلي للتحلي، فتخلية للمحل بالاستغفار من الذنوب، وتحلية له بالتسبيح ثناء على الرب، جل وعلا، وذلك أمر مطرد في الذكر: فالنفي لوصف النقص إجمالا، وذلك من التخلية سابق لإثبات وصف الكمال مفصلا، فذلك من التحلية، فنفي مجمل يأتي عقيبه إثبات مفصل، بل الشهادة التي يصير بها الإنسان مسلما قد صدرت بالنفي المجمل فـ: لا إله، فذلك مئنة من العموم إذ نفي الجنس من صيغ العموم، فالنكرة في سياق النفي: تخلية عامة بإبطال أحقية غيره، جل وعلا، بالألوهية والعبادة، فلا إله معبود بحق، ثم جاء الإثبات عقيب أداة الاستثناء، فالاستثناء عقيب النفي مئنة من الإثبات، بل من الحصر، فتلك تحلية خاصة بالرب، جل وعلا، فهو المعبود بحق لا سواه، إذ هو الرب الخالق المدبر فلا رب موجد بقدرة نافذة، مدبر بحكمة بالغة إلا هو.
ومادة الوحي، مادة كلية تدل على الإعلام بخفاء، وقد وردت في التنزيل على معان جزئية تؤول إلى هذا المعنى الكلي، فالوحي المعهود: إعلام من الرسول الملكي إلى الرسول البشري، والوحي أمر من الرب، جل وعلا، إلى جنده، فـ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا)، والوحي إلهام للعاقل فـ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، ولغير العاقل: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا)، والوحي: وسوسة شيطان لا تخلو من معنى الإعلام ولو بالسوء فـ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). وهذا أمر قد اطرد في الكتاب العزيز كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخر، فإن المادة الكلية تقبل الانقسام إلى معان جزئية يعينها السياق، وذلك مئنة من سعة لسان العرب بتعدد دلالات ألفاظه تبعا للسياقات التي ترد فيها.
ثم انتقلت الآية إلى بيان ضرب آخر من ضروب العناية الخاصة بنبي آخر، هو يحيى عليه السلام:
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا:
فأمر، ولما يبلغ الحلم، أن يأخذ العلم من التوراة بقوة، فـ: "أل" في: "الكتاب": عهدية تشير إلى كتاب بني إسرائيل الجامع، فالتوراة عمدة نبوات بني إسرائيل، فما من نبي من أنبياء بني إسرائيل إلا وأخذ بالتوراة، فهو مجدد لما اندرس من آثارها التي أدمن أحبار السوء تحريفها، فكتبوا بأيديهم ما لم ينزل به الروح الأمين على قلب الكليم عليه السلام، لا سيما زمن السبي، ليشتروا به ثمنا قليلا، وحتى المسيح عليه السلام مع كونه صاحب كتاب منزل، فإنه أحال على التوراة في مواضع كثيرة، فنسخ بعض أحكامها برسم التخفيف عن بني إسرائيل كما في قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). وقيد الأخذ بالقوة، وهو مئنة من الاعتناء فاستعير للفهم والتدبر، فصاحبه له آخذ عن أهل العلم قد تحمله فكابد في سبيل ذلك مشاقا جمة، فحري به أن يأخذه بقوة، فلذلك صار الحال هنا عمدة من جهة المعنى وإن كان فضلة من جهة اللفظ فالجملة قد اكتملت أركانها بالفعل والفاعل المستكن فيه: خُذِ، والمفعول: "الْكِتَابَ"، إذ ليس المراد أي أخذ، فكم من أحبار ورهبان وعلماء سوء وما أكثرهم في زماننا قد أخذوا الكتاب، ولكن
(يُتْبَعُ)
(/)
لتحصيل رياسة أو جاه، أو مطعم سحت فتأكل بما أوتي من العلم، فهو والكلب سواء: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)، فلهاثه طلبا للحطام الفاني لا ينقطع.
ثم جاء التذييل بالمنة التي اختص بها يحيى عليه السلام، على ما تقدم بيانه من تفاضل الأنبياء باعتبار مجموع الخصال لا جميعها فقد يؤتى المفضول خصلة ليست للفاضل، ومع ذلك لا يكون أفضل منه، بل هو دونه، لا على جهة القدح، وإنما الأمر دائر بين الكامل والأكمل.
والحكم قد ورد استعماله في مواضع من التنزيل للدلالة على معنى النبوة، كما في قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً)، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ثم أشار إلى وجه آخر يكون فيه الحكم على دلالته المعجمية الأولى فهو: الحكمة ودقة الفهم فتكون: "أل" في الوجه الأول: عهدية تشير إلى جنس بعينه من الحكمة، هو أشرف أجناسها، وهو: حكمة النبوة ولا حكمة تدانيها لمكان العصمة فكل حكمة دونها تحتمل الصواب والخطأ، بخلاف الحكمة المؤيدة بالوحي المعصوم فعصمتها من عصمة الوحي النازل بها، فهو من عند الرب، جل وعلا، العليم الذي قد أحاط بكل شيء علما، الحكيم الذي أنزل من النبوة بقدر ما تحتمل أودية القلوب، فسالت قلوب الأنبياء عليهم السلام بصنوف المعارف الإلهية والأحكام الشرعية بقدرها، فلكل أمة كتاب يلائم حالها، ولكل أمة شريعة تستقيم بها أمورها الدينية والدنيوية، وذلك مئنة من إحكام الوحي وحكمة الموحي إذ لم يسو بين الأمم في الشرائع مع اختلافها في الطبائع، فالحكيم، في عالم الشهادة، لا يسوي بين المتباينين، ولا يفرق بين المتماثلين، ولله المثل الأعلى فإنه أحكم الحاكمين فوصف الحكمة البالغة ثابت له من باب أولى.
وتكون: "أل" في الوجه الثاني: جنسية دالة على ماهية الحكمة، وإن كانت كما تقدم أشرف أنواعها. واختار من رجح هذا القول أن يكون يحيى قد أوتي النبوة مبكرا، ولكن ليس حال الصبا وهو لما يكلف بعد ببلوغ الحلم، فتكون حكمته من جنس دقة الفهم وسداد الرأي على نحو غير مألوف فذلك من إرهاصات نبوته عليه السلام، كما كانت حال النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد طبع على أكمل الخلائق بما اختصه الرب، جل وعلا، به من خصال الكمال، بمقتضى اصطفاء المحل وتهيئته لقبول آثار أعظم الرسالات، فجاءت الرسالة الخاتمة لتقر في أشرف المحال البشرية فازداد كمالا على كماله الأول، وظهر أثر ذلك في الكون الذي جدد الرب، جل وعلا، معاني التوحيد فيه برسالة خاتم أنبيائه عليهم السلام، بعد أن اندثرت أو كادت فـ: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".
وإمعانا في بيان عناية الرب، جل وعلا، بعبده يحيى عليه السلام، بصناعته على أكمل الأخلاق:
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا: فكان شفوقا عظيم الشفقة، فالتنكير مئنة من التعظيم وصدور الوصف من الرب، جل وعلا، جار مجرى صدور المخلوق من خالقه، فالرب، جل وعلا، هو الذي طبع عبده يحيى عليه السلام على هذه الخصال الشريفة فخلقها فيه جبلة، ثم ثنى بوصف زكاة النفس ونقائها من الخبائث، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والتقوى على جهة المبالغة بالتنكير المشعر بالتعظيم، كما تقدم، وبالصيغة الدالة على المبالغة من فعل التقوى، فـ: "تقي" على وزان: "فعيل"، وهي كما تقدم، من صيغ المبالغة القياسية كما قرر ذلك الصرفيون والنحاة.
ثم أطنب بالخصلة المفقودة في زماننا، فكل إليها يفتقر، ولو كان صالح الظاهر، إلا من رحم الرب، جل وعلا، فذكرها جار مجرى الخصوص بعد العموم إطنابا في الثناء فذلك موضع يلائمه بسط العبارة بذكر أوصاف الممدوح تفصيلا فذلك آكد في بيان المنة والعناية الربانية به بطبعه على أكمل الصفات النفسانية، فـ: بَرًّا بِوَالِدَيْهِ: فالتنكير جار على ما تقدم من دلالة التعظيم، فبره بهما عظيم، وقد رزقاه بعد بلوغ الشيخوخة وفناء الشبيبة، وذلك وقت يفتقر فيه الآباء والأمهات إلى البر أكثر من أي وقت، فمن كمال النعمة أن يظهر بر الولد بوالديه حال
(يُتْبَعُ)
(/)
كبرهما، ولذلك جاء النص على ذلك: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، فعم ثم خص الكبر بالذكر لكونه مظنة الضعف الذي يقتضي كمال العناية بالأبوين، وبعد الإطناب بإثباب خلال الكمال، جاء النفي لخلال النقص مجملا، فذلك أليق بمقام الثناء كما اطرد في باب الصفات الإلهية، فالرب، جل وعلا، أولى بذلك من العبد بداهة، فـ: لَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا.
فلم يكن جبارا في وصفه فذلك مما اختص به الرب، جل وعلا، فمنازعته إياه مئنة من النقصان الذي تنزه عنه آحاد الصالحين فكيف بخيرة الخلق من الرسل والنبيين، ولم يكن عصيا في فعله.
ثم جاء الدعاء له بالسلام، خبرا أريد به الإنشاء، فذلك أبلغ في الدعاء بالسلامة والنجاة في تلك المواضع الثلاثة، وهي مظنة الضعف والافتقار الذي تعظم فيه منة الرب، جل وعلا، على العبد بالعناية به فيها، وإن كانت منة الرب، تبارك وتعالى، بعنايته بالروح والبدن متصلة في كل وقت، ولكن تخصيص هذه المواضع بالدعاء مئنة من كمال العناية، فسلام عليه حال الولادة وحال الموت وحال البعث، وهو في كلها ضعيف منزوع الإرادة، فلم يأت للحياة باختياره، وإنما قضى الرب، جل وعلا، ما قدره أزلا بخروجه إلى عالم الشهادة في وقت بعينه، وقضى بموته في وقت بعينه، وقد جاء بصيغة المضارعة باعتباره مستقبلا لما يقع آنذاك، وإن وقع زمان نزول الآيات، فالعبرة بحال صاحب الحكاية، واستحضارا لتلك الصورة التي يعظم فيها افتقار العبد إلى رحمات الرب، جل وعلا، ولن يبعث باختياره، وإنما سيبعث إذا شاء الرب، جل وعلا، نشره من قبره فيقوم الناس لرب العالمين يوم العرض الأكبر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 03 - 2010, 07:56 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)
فاذكر نبأ مريم، عليها السلام، فإن الذكر، كما يقول أبو السعود، رحمه الله، لا يتعلق بالذوات المحسوسة وإنما يتعلق بالمعاني المعقولة، فجاء الذكر مجملا، ثم بين ببدل الاشتمال، فاذكر في الكتاب انتباذها من أهلها مكانا شرقيا، والانتباذ، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مطاوع "نبذ" ثم أطلق على الفعل ابتداء دون سبق فاعل له، فمريم، عليها السلام، اعتزلت أهلها اختيارا فلم ينبذها أحد، فبقيت صورة اللفظ مطاوعة، ومعناه: فعل اختياري وقع ابتداء بلا سبق فاعل له، فليس مطاوعة لفعل الغير، وهذا باب واسع في علم الصرف، فإن الفعل قد يأتي على صيغة تفيد معنى بعينه، ولا يدل عليه، فيكون البناء اللفظي واحدا، ويقع الاختلاف في المعنى، بخروج الفعل عن الأصل في معنى هذه الصيغة لقرينة لفظية أو حالية تمنع حمل الفعل عليها، كالمفاعلة على سبيل المثال، فإنها لا تكون إلا من اثنين، ومع ذلك جاءت بعض الأفعال على صيغة المفاعلة، ولم تدل على وقوع الفعل من اثنين، كـ: عالج فلان الأمر، فإن معالجته للأمر واقعة منه وحده، فتلك قرينة حالية دلت على على إرادة
(يُتْبَعُ)
(/)
الانفراد لا المفاعلة الواقعة من اثنين، فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا لا لعلة بعينها، وإنما موافقة حال، فلا معنى للتعبد فيها، فجاء من جاء بعدها، على طريقة أهل البدع في اعتبار ما لم يعتبره الشارع، عز وجل، فاتخذوا المشرق قبلة للصلاة تعظيما لصورة الفعل دون نظر في معناه، إذ هو من قبيل العادة أو موافقة الحال، فلا معنى للتعبد به ليتخذ شعارا للملة النصرانية، ولكن أهل الإحداث في الديانات، على أصلهم في توسيع دائرة الاستدلال، وتحميل الأقوال والأفعال ما لا تحتمل انتصارا لمقالة حادثة، أو مبالغة في التعبد بالمماثلة في الصورة الظاهرة دون النية الباطنة، وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة وأن يستلم الحجر الأسود وأن يصلي خلف المقام وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصدا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه - فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب؛ كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعروف بن سويد قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب. وهذا هو الأصل فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعلها استحبابا أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك. (ثم ذكر أمثلة لذلك وقال بعدها): ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع؛ وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه ولا يكون في الدين واجبا إلا ما أوجبه ولا حراما إلا ما حرمه ولا مستحبا إلا ما استحبه ولا مكروها إلا ما كرهه ولا مباحا إلا ما أباحه، (وذكر أمثلة أخرى ثم عقب بقوله): وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول ونظائر هذا كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم". اهـ بتصرف من: "مجموع الفتاوى".
وقال في موضع آخر:
"إنَّمَا تَكُونُ الْمُتَابَعَةُ إذَا قَصَدْنَا مَا قَصَدَ وَأَمَّا الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَلَا تَكُونُ مُتَابَعَةً. فَمَا فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ؛ بَلْ مُخَالَفَةٌ". اهـ
وحال المبتدع في الديانة كما يقول، الشاطبي، رحمه الله، في موضع تال:
"إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام". اهـ
"الاعتصام"، (1/ 55).
(يُتْبَعُ)
(/)
وتأمل ما يجري الآن في بيت المقدس، وما كل ذلك إلا فرع عن نبوءة الحاخام البولندي: إيليا بن شلومو زلمان، فذلك مستندهم العلمي في تلك الأحداث الهائلة، فليس لهم مستند، ولو من توراتهم المحرفة، فهي محض وسواس شيطاني لا أصل له! كما صرح بذلك أحد الحاخامات الأمريكيين، وكما أكدت منظمة: "يهود ضد الصهيونية"، فـ: (شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا)، وكعادة أهل الكتاب فإن من عمدهم في الاستدلال لمسائل الديانة: الكشوف والمنامات والنبوءات ..... إلخ من الوساوس والهواجس!، وهم مع ذلك ماضون في تأويلها في عالم الشهادة بهمة عجيبة وأصحاب الوحي المحفوظ: قاعدون عن إقامة الديانة الصحيحة، فلسان حالهم التكذيب أو الشك فيما بين أيديهم من الحق. وذلك من عجز وتخاذل الثقة في مقابل جلد وهمة الفاجر.
وحال المحدث في الديانة في التصرف في النصوص بإخراجها عن مناطها إلى مناط يلائم هوى المستدل، حاله:
"تحريف الأدلة عن مواضعها: بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله.
ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحا إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعا". اهـ
"الاعتصام"، (1/ 239).
فينبغي أن يكون الفعل مقصودا لذاته على جهة الديانة لا العادة، فلا يتعبد بالعادة لذاتها، وإنما غايتها أن تكون وسيلة إلى مقصد شرعي فتلحق به تبعا، فليس فيها ابتداء: معنى تعبدي يصلح مناطا للثواب والعقاب، وإنما يتعلق الثواب والعقاب بها من خارج، بورود النية التي تجعل المباح واجبا أو مندوبا يتعلق به الثواب، أو محرما يتعلق به العقاب، مع كون الفعل في نفسه واحدا، فليس النظر إلى حاله، وإنما إلى مآله، وما يترتب عليه من المصالح أو المفاسد، وذلك معنى دقيق أشار إليه المحققون من أهل المقاصد، كالشاطبي، رحمه الله، في معرض حكاية طرف من حال أهل الصفة، فقال:
"فكانوا في أثناء ذلك ما بين طالب للقرآن والسنة كأبي هريرة فإنه قصر نفسه على ذلك، ألا ترى إلى قوله في الحديث: وكنت ألزم رسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا.
وكان منهم من يتفرغ إلى ذكر الله وعبادته وقراءة القرآن فإذا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا معه وإذا أقام أقام معه حتى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين فصاروا إلى ما صار الناس إليه غيرهم ممن كان ذا أهل ومال وطلب للمعاش واتخاذ المسكن لأن العذر الذي حبسهم في الصفة قد زال فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض.
فالذي تحصل أن القعود في الصفة لم يكن مقصودا لنفسه ولا بناء الصفة للفقراء مقصودا بحيث يقال إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه، ولا هي شرعية تطلب بحيث يقال إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصفة وهي الرتبة العليا لأنها تشبه بأهل صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وصفهم الله تعالى في القرآن بقوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) - وقوله - (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء بل كان على ما تقدم". اهـ
"الاعتصام"، (1/ 199، 200).
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا:
فاتخذت، من دونهم حجابا، لتمتشط أو تغتسل، كما قال بعض أهل السير، فأرسل الله، عز وجل، لها روحه القدس، وتلك آية كونية باهرة، فناسب عظمها إسناد فعل الإرسال إلى ضمير الجمع، فهو إرسال كوني لمادة الطهر، روح القدس، عليه السلام، إلى البتول عليها السلام، فتمثل لها بشرا سويا، كما تمثل للأنبياء عليهم السلام، كما في حديث جبريل، عليه السلام، فالملائكة تتجسد في صور آدمية، دون سائر الصور الحيوانية، كما قرر ذلك أهل العلم، بخلاف من قال بتجسدها في صور حيوانية، وذلك من جملة مزاعم النصارى، فبطل به الحد الفاصل بين عالم الملائكة وعالم الجان، فالجان يتجسد في الصور الإنسية والصور الحيوانية، فتمثل
(يُتْبَعُ)
(/)
لها بشرا سويا لئلا تفزع من صورته الملائكية، فلا يقدر على رؤيتها إلا الأنبياء عليهم السلام، كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ رأى الروح الأمين على هيئته التي خلقه الله، عز وجل، عليها مرتين كما في حديث عائشة رضي الله عنها.
فاستعاذت بالله، عز وجل، لما وجدته من ميل طبيعي لصورة الملك الحسنة، وذلك مما لا تلام عليه، فهو أمر كائن بمقتضى الجبلة الآدمية، وإنما يلام الإنسان إذا استرسل في ذلك، ولذلك كانت النظرة الأولى للناظر على جهة الإباحة فهو مأمور بصرف البصر متى تيقن أو غلب على ظنه رؤية محرم، وليس عليه أن يتكلف غض البصر بلا حاجة، فذلك من الحرج المرفوع شرعا، لا سيما في الأعصار والأمصار التي يقع فيها الاختلاط المذموم، فيصبح غض البصر عن المحارم بالكلية أمرا محالا!، فيتحرى الإنسان ما استطاع، فإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، و: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، فذلك من أظهر أدلة تلك القاعدة الكلية الجامعة، فمتى كان حرج معتبر شرعا لا متوهم، ككثير من صور الحرج المعاصرة!، متى كان الحرج المعتبر كان التيسير من الرب الرحيم الحكيم تبارك وتعالى فذلك من أدلة عنايته بالمكلفين بمراعاة أحوالهم فلا يكلف إلا بالمقدور المستطاع.
وفي الإتيان بلفظ الروح، إشارة لطيفة إلى المعجزة الكونية في خلق المسيح عليه السلام بلا أب، فالروح مادة الحياة، وتلك حياة معجزة في المنشأ، فكان من أوجه الملاءمة بين اللفظ والمعنى الإتيان باللفظ الدال على مادة الحياة دون بقية الألفاظ كالملك والرسول أو اسم الروح القدس العلم: جبرائيل عليه السلام.
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا:
فهو الرسول المبعوث من ربها، عز وجل، فربوبيته لها ربوبية عناية خاصة، إذ اصطفاها الرب، جل وعلا، بتلك الآية الكونية الباهرة فـ: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، و: (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، فبعث الروح القدس إليها: بعث الرسول بالكلمة التكوينية النافذة، لا بعث الرسول بالكلمة الشرعية الآمرة، فليست البتول عليها السلام نبية، فلا نبوة في النساء على الراجح من أقوال أهل العلم، بخلاف ما ذهب إليه ابن حزم ومال إليه القرطبي، رحم الله الجميع، فبعث إليها ليهبها بالكلمة التكوينية النافذة: غلاما زكيا، بل هو من أزكى الأرواح المخلوقة، فروحه روح من أرواح صفوة الصفوة فهو خيار من خيار، فالرسل، عليهم السلام، قد اصطفوا ابتداء، وأولوا العزم قد اصطفوا انتهاء، فالتنكير في "غلاما": يناسبه الحمل على التعظيم ووصف التزكية، قد جاء، أيضا، على جهة التنكير مئنة من التعظيم.
والقصر في الآية: قصر إضافي على جهة المبالغة، وهو محمول من جهة أخرى على القلب، إن كانت قد ظنت فيه الشر، فيكون ذلك أبلغ في العناية بها في موضع يضطرب فيه الفؤاد برؤية غريب في موضع خلوة فذلك مظنة الريبة والخوف، فدفع عن نفسه التهمة، وأذهب ما في نفسها من الخوف.
ففي الآية: إشارة إلى دلالة الإيجاد المعجز بخلق المسيح عليه السلام من نفخة الملك، فهي صورة السبب، فكان المسيح، عليه السلام، بالكلمة التكوينية النافذة من أنثى بلا ذكر.
وإشارة إلى وجه من أوجه العناية بالروح الأمين، عليه السلام، إذ ألهم دفع التهمة عن نفسه بذلك القصر المزدوج فقصر بـ: "إنما"، وقصر بتعريف الجزأين: "أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ"، فذلك أبلغ في تقرير معنى البراءة من وصف السوء وفعل الشر، ووجه آخر فيه العناية بالبتول عليها السلام ببث الطمأنينة في نفسها لئلا تفزع من رؤية ذلك الزائر الغريب.
(يُتْبَعُ)
(/)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا: فاستفهمت عن تلك الآية الكونية تعجبا، على وجه، فمن أين يكون لي غلام، أو كيف يكون لي غلام تعجبا من الكيفية التي يكون بها ذلك، وسؤالا عن الكيفية من وجه آخر، فلم تكن متعجبة لكمال إيمانها وإنما تساءلت عن كيفية وقوع ذلك من باب بيان المجمل، لا سيما مع غرابته وخروجه عن السنن الكوني المعتاد، ولا يقدح تعجبها على الوجه الأول في كمال إيمانها، فالتعجب من الخارقة الكونية، ولو كانت على جهة التكريم باختصاصها بحمل المسيح عليه السلام أمر غير مستغرب، فقوى البشر لا تقدر على ذلك ليبطل العجب منه، فالإنسان لا يتعجب من المعتاد الذي يقدر عليه بمقتضى ما ركز فيه الرب، جل وعلا، من القوى الفاعلة، وإنما يتعجب مما خرج عن حد هذه القوى من الخوارق التي لا يقدر عليها إلا رب البشر، جل وعلا، فالتعجب رد فعل طبيعي في مثل تلك المواضع، فلا قدح في إيمان البتول عليها السلام على كل وجه، وقيد التعجب بصورة بعينها دل عليها قوله تعالى: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فذلك من كمال عفتها وسمو خطاب التنزيل بالتكنية عما يستقبح ذكره صراحة، وذلك من صور تعظيم الرسالة الخاتمة للرسالة السابقة فهي المصدقة لها بشهادة الرسول السابق للرسول الخاتم، فالرسالة الخاتمة قد وفت البتول والمسيح عليهما السلام حقهما من التعظيم والتبجيل فجاءت بلفظ الكناية في المواضع التي لا يليق فيها التصريح لا سيما من المرأة الصالحة، فكيف بأم رسول من أولي العزم، والرواية النصرانية، كما يحكي الشيخ ديدات رحمه الله، لا تصمد للرواية الإسلامية لا من الناحية الإسنادية ولا من الناحية الأخلاقية ففيها من نسبة النقص والعيب إلى الرب، جل وعلا، ما لا يليق بآحاد البشر، فضلا عن الألفاظ الصريحة إلى حد الفحش في مواضع عديدة من الكتاب المحرف، تدل الناظر فيها يقينا عن عبث أيدي البشر في نصوص الوحي، والإسفاف الذي تحويه مئنة من كون تلك اليد يهودية، فهم أرباب إفساد أديان وأخلاق وأبدان من سواهم فرعا عن عنصريتهم البغيضة، فهم الشعب المختار، ومن سواهم دواب في مسالخ البشر، ولا يهتم صاحب الدابة عادة بدين أو أخلاق دابته، فهي حيوان مسخر له، والحيوان لا يكلف بداهة بدين أو خلق!.
ثم ذيلت استيفاء للقسمة العقلية من وجه فطريق الولد في عالم الشهادة: الزواج المشروع وما يكون فيه من المسيس الذي ينتج منه الولد أو ما يكون على خلافه من المحظور، ودفعا للتهمة من وجه آخر فذلك أبلغ في تقرير براءتها من وصف السوء الذي رماها به يهود، وجاء الإيجاز بحذف نون: "أك" توصلا إلى الفائدة، وهي نفي وصف السوء عنها بأقصر لفظ، فذلك، جار على ما تقدم، من تبرئتها على جهة الفور عناية بها وصيانة لها من كل وصف سوء يشينها.
فجاء جواب الملك:
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: فذلك مئنة من كمال قدرته، عز وجل، فذلك الإيجاد المعجز هين على الرب القدير تبارك وتعالى.
وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ: فتنكير الآية جار مجرى التعظيم فهو آية كونية باهرة في معرض تقرير كمال ربوبيته، عز وجل، توصلا إلى الغاية فهو: الرحمة: التي بعثت، بالآيات الشرعية الحاكمة فبها يفرد العباد ربهم بالألوهية، فذلك من التلازم المطرد في آي التنزيل بين أفعال الربوبية: خلقا من العدم معتادا كان أو معجزا، كخلق المسيح عليه السلام، وأحكام الألوهية التي لا تعرف إلا من طريق النبوات: الرحمات الربانية المرسلة إلى النوع الإنساني بمادة صلاح الحال والمآل، فبأحكامها يصلح الدين فذلك من صلاح المآل، وتصلح الدنيا فذلك من صلاح الحال، وحال الأمم والممالك في كل عصر ومصر شاهد عدل على ذلك، فإن الأمم التي عرفت النبوة، ولو رسوما دارسة خير وأحسن حالا من الأمم التي لم تعرفها، فكيف بأمة فيها النبوة الخاتمة السالمة من المعارضة والمداخلة، وهي مع ذلك معرضة عنها تلتمس الصلاح في غيرها من شرائع أهل الأرض المحدثة؟!.
(يُتْبَعُ)
(/)
فتنكير: (رَحْمَةً): مئنة من التعظيم فضلا عن صدورها من الرب، تبارك وتعالى، فـ: "من" لابتداء الغاية، فهو تبارك وتعالى الذي ابتدأ خلق الرسول في رحم البتول، وهو الذي ابتدأ وحي الرسالة إليه، فمنه، تبارك وتعالى، صدرت الكلمة التكوينية التي خلق بها الرسول، ومنه، تبارك وتعالى، صدرت كلمات النبوة الشرعية التي بعث بها المسيح عليه السلام مصدقا لكلمات موسى عليه السلام، وناسخا لجملة منها ومبشرا بكلمات محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخاتمة.
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا: فذلك من الأمر الكوني النافذ مئنة من كمال قدرة الرب جل وعلا. فقضاؤه نافذ لا راد له وحكمه جار لا معقب له.
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا:
فالفاء فصيحة، كما ذكر الألوسي، رحمه الله، على تقدير: فكان ما كان من طمأنته لها فدنا منها في قول، ولم يدن في آخر، فنفخ في جيب درعها فسرت النفخة إلى الرحم، فتحققت صورة السبب، فحملت بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ بالمسيح عليه السلام.
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ: على تعدية فعل المجيء اللازم بهمزة التعدية فضمن معنى الإلجاء فذلك من عظم الابتلاء، فعلى قدر الإيمان والولاية يكون تمحيص القلوب بصنوف الشدة التي بلغت ذروتها فقالت عليها السلام: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي: فعقيب الشدة الفرج، فناداها الملك لئلا تحزن، فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بها، وأشار أبو حيان، رحمه الله، إلى وجه آخر تكون الفاء فيه فصيحة والضمير راجعا إلى المسيح عليه السلام، على تقدير: فولدته فناداها من تحتها: فتلك آية أخرى ثبتت جنانها، ثم توالت النعم الكونية عناية بها بعد الوضع فـ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا: تشربين منه، أو سيدا عظيما، من السرو بمعنى الرفعة كما نقل الألوسي عن الراغب، فذلك على وزان قول الشاعر:
سراة بني أبي بكر تسامى ******* على كان المسومة العراب
ومعنى المنة الربانية في كليهما كائن، فامتن عليها جل وعلا، بوضع سيد عظيم القدر، من المصطفين أولي العزم عليهم السلام، وامتن عليها بماء الحياة لتروي ظمأها، فالجمع بينهما غير متعذر، بل هو أبلغ في تقرير عناية الرب، جل وعلا، بالبتول عليها السلام في ذلك الظرف الحرج.
واكتملت المنة بتيسير أسباب الطعام بعد أسباب الشراب، فـ: هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ: أخذا بالسبب، وزيدت الباء في المفعول على جهة التوكيد، وجاء جواب الأمر: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا: فنكرت الرطب تعظيما للوصف أو تكثيرا للقدر، وجاء الوصف بطيب المأكل وصلاحه إمعانا في تقرير عنايته، عز وجل، بأمته مريم عليها السلام.
ثم جاء الأمر على جهة الامتنان: فكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا: فأطنب بذكر المسبَّب عقيب سببه توكيدا فالشبع والري مظنة قرار العين، ثم جاء التكليف الشرعي، على ما اطرد من التلازم بين ربوبية الإنعام والامتنان من الرب، وما تستوجبه من ألوهية الشكر بامتثال الأمر:
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا: فذلك من المجمل الذي بينه ما بعده: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)، فالقرينة السياقية قد صرفت لفظ الصوم من المعنى المتبادر إلى الذهن وهو الإمساك عن المطعوم والمشروب إلى المعنى المرجوح من الإمساك عن الملفوظ وكان ذلك معهودا في شريعتهم بخلاف شريعتنا فذلك من المنسوخ كما في أثر أبي بكر، رضي الله عنه، لما أمر المرأة الساكتة على جهة التعبد أن تتكلم فليس ذلك من شريعة الإسلام، الشريعة الحنيفية السمحة، في شيء، وإن كان في الشرائع السابقة.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا:
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلك من ابتلاء الله، عز وجل، لها، عليها السلام، لتعلو منزلتها، بالمعجزة الإلهية بإنطاق الوليد تبرئة لها وله مما سيفتريه الغلاة في شأنه، فكانت محنة للبتول عليها السلام بما رماها به قومها، تولدت منها المنحة الربانية فهي من أدلة العناية الخاصة بمريم عليها السلام: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا: فذلك منهم على وجه التعجب، فجاء الرد قاطعا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا: فتلك من أدلة العناية بالمسيح عليه السلام، فآتاه الإنجيل فـ: "أل" فيه عهدية، تشير إلى كتاب بعينه هو الإنجيل المتمم للتوراة، فنسخ جملة من أحكامها برسم التخفيف، وجاء بجملة أخرى من المواعظ برسم الترقيق، فبعث المسيح، عليه السلام، كما بعث سائر الرسل الكرام، عليهم السلام، بالكلمات الشرعية الحاكمة، فبها تحكم الأمم، برسم النبوات، فالخالق أول أزلي، والمخلوق تال عدمي، والنبوة هي الواسطة بينهما، فيرسل، جل وعلا، من شاء من رسله، عليهم السلام، إلى أمم الأرض بالنبوات التي تهدي المكلفين إلى طريق الحق المبين، فهي تأمر بإفراده بالعبادة فرعا عن انفراده بالخلق والتدبير.
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا: وذلك مئنة من عبوديته إذ كلف كما كلف بقية العباد بأحكام الشريعة.
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا: فتلك من جنس العناية بيحيى عليه السلام.
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ: فذلك عيسى ابن مريم الذي خص بالذكر بالنصب اختصاصا مئنة من علو شأنه، فما كان لله، على جهة النفي جحودا مئنة من المبالغة في إنكار هذا القول الشنيع، فتنزه عن الصاحبة والولد وعن لوازم ذلك من الحاجة والنقص، بل كل ما سواه مربوب مخلوق بكلماته الكونية النافذة فـ:
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ: فذلك من التوكيد على عبوديته بإثبات الربوبية لخالقه على هذا النحو المعجز، فأثبت له الربوبية الخاصة والعامة وفرع عنها لازمها من إفراده بالألوهية فذلك الصراط المستقيم الذي اطرد التنبيه عليه في محكم التنزيل.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 03 - 2010, 08:15 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)
(يُتْبَعُ)
(/)
فاذكر بعد ذكر يحيى والمسيح، عليهما السلام، الخليل أبا الأنبياء، عليه السلام، و: "أل" في: "الكتاب": عهدية تشير إلى معهود بعينه هو الكتاب العزيز، أو هي من العام الذي أريد به الخاص، فيكون مجازا من هذا الوجه، إذ أطلق عموم الكتاب وأراد به خصوص سورة مريم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، فيؤول الكلام إلى: واذكر في سورة مريم خبر الخليل عليه السلام، فهو من باب الكل الذي أريد به الجزء، ولا يلزم من ذلك إثبات مجاز إذ يصدق على كل آية في الكتاب العزيز أنها قرآن، فيقال للمخاطب: هل معك من القرآن شيء؟، وفي حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه، في الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن". فأطلق على ما معه قرآنا، وإن لم يكن كل القرآن المسطور بين الدفتين، فلم يكن القرآن قد اكتمل نزوله آنذاك، ولم يكن ذلك الخاطب حافظا لكل ما نزل، ومع ذلك سمي ما معه قرآنا، دون الحاجة إلى القول بأن في الكلام مجازا، إذ أراد أن معه بعضه، وقد فهم المخاطب ذلك بداهة دون حاجة إلى القول بعلاقة أو قرينة تصرف العموم إلى الخصوص، أو الكل إلى الجزء، فزوجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما معه من جنس القرآن، فيصدق ذلك على ما يحفظه، وإن لم يكن كل ما نزل آنذاك، كما تقدم، فتكون: "من": بيانية جنسية، أو زوجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببعض القرآن وهو ما يحفظه منه، فلا تخلو: "من" في هذا السياق من معنى التبعيض، وتوارد المعنيين على: "من" لا يمتنع فهي مئنة من التبعيض، والبعض لا يكون إلا من جنس الشيء المبعض، وهذا دليل لمن قال بأن كلام الله، عز وجل، يتبعض، فليس معنى واحدا قائما بذاته، عز وجل، كما ذهب إلى ذلك المتكلمون الذين غلبوا جانب المعنى على جانب اللفظ في الكلام، والصحيح أنه معنى ولفظ معا، متعلقا بمشيئة الله، عز وجل، فتكلم بما شاء متى شاء، ولازم ذلك تعدد كلامه بتعدد مشيئته، جل وعلا، إحداث آحاده، فتكلم بنصوص التوراة، ثم تكلم بنصوص الإنجيل، فذلك كلام ثان غير الأول، يباينه معنى ولفظا، ثم تكلم بالكتاب العزيز، فسمعه الروح الأمين، من رب العالمين، ثم نزل به على قلب خاتم المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتعدد كلامه، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، بتعدد نزول الملك بالوحي، فكان ينزل بالسورة، تارة، وبالآيات أخرى، وربما نزل بآية، بل ربما نزل ببعض آية، كما نزل بقوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)، كما في حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، فذلك مئنة من تبعضه، وتعدد معانيه وألفاظه، فليس معنى التوراة هو معنى الإنجيل، وليس معنى كليهما هو معنى الكتاب العزيز، بل معاني الكتاب العزيز تتعدد فليس الخبر كالإنشاء، وليس الخبر في نفسه واحدا بل منه ما هو خبر عن الرب، جل وعلا، فهو أشرف أجناس الأخبار، ومنه ما هو خبر عن عباده سواء أكانوا من حزب الرسالات، ففيه خبر الأنبياء، عليهم السلام، وخبر أتباعهم، وما كان من الله، عز وجل، من نصرتهم وإعلاء كلمتهم فأعزهم باتباع الوحي، أم كانوا من حزب أعداء الرسالات ففيه خبر المكذبين والجاحدين، وما كان، منه، عز وجل، من دحرهم وإذلالهم وإهانتهم بمخالفة الوحي، وتلك أعظم إهانة لو تدبروا فـ: (مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)، فلا عز إلا في اتباع الرسالات تصديقا وامتثالا، ومنه ما هو خبر عما هو آت سواء من الأحداث الأرضية كأشراط الساعة، أو الأحداث الأخروية كأمور البعث والحشر والعرض والصراط والميزان والجنة والنار .... إلخ من الغيبيات السمعية التي لا تتلقى بالقبول إلا من طريق النبوات، والإنشاء كذلك يتعدد فمنه الأمر ومنه النهي، بل تتعدد دلالاتهما من إيجاب أو نهي، أو ندب أو كراهة، كما قرر البلاغيون والأصوليون، وفيه الاستفهام، وأغراضه أيضا تتعدد فمن إنكار بتوبيخ أو إبطال، ونفي، وتعجب، وأمر ...... إلخ، وفيه الوعد متعلق صفات جمال الرب، جل وعلا، والوعيد متعلق صفات جلاله ..... إلخ.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن تعدد معاني الكتاب العزيز وتعدد الألفاظ الدلة عليها فاللفظ قالب المعنى مئنة من تبعض الكتاب العزيز إلى سور وآيات تتباين معانيها وألفاظها، فلكل سياق معنى ولفظ دال عليه، ولكل سياق قرائن تعين المراد منه، وتبعضه يلزم منه، كما تقدم، تباينه، فكان متفاضلا من هذا الوجه، فهو باعتبار من تكلم به: مستو في الفضل فقد تكلم به الرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فلا يتصور التفاضل من هذا الوجه، إذ يصح ذلك لو تعدد المتكلمون، وإنما ينسب الكلام إلى من نطق به، فنسبته إليه: نسبة إنشاء، بخلاف نسبته إلى جبريل والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهي نسبة إبلاغ، فالقول، كما تقدم، إنما ينسب إلى أول من تكلم به، والقرآن أول ما بدا: بدا من الرب، جل وعلا، بدو الصفة من الموصوف على وجه يليق بذات الرب المعبود، جل وعلا، فهو قد بلغ الغاية من الفضل والشرف من هذا الوجه فلا يتفاضل من هذا الوجه، وأما باعتبار معانيه التي تدل عليها مبانيه، فكل كلام يتفاضل من هذا الوجه، فكل يدرك الفارق بين المدح والذم، فجنس الأول محبوب لكل سامع، وجنس الثاني مذموم، فكذلك كلام الرب، جل وعلا، وله المثل الأعلى، فليس الكلام عن ذاته القدسية وصفاته العلية كالكلام عن آحاد خلقه، ولو كانوا أشرف البشر من الرسل عليهم السلام، فالأول أفضل باعتبار المعنى، وليس الكلام عن الرسل، عليهم السلام، وهم أفضل البرية، كالكلام عن أعدائهم، فالأول، أيضا، أفضل باعتبار المعنى، بل التفاضل كائن في الكلام عن الرسل عليهم السلام مع اشتراكهم في وصف الرسالة الذي به نالوا تلك الرتبة العلية، فليس الكلام عن سائر الرسل كالكلام عن أولي العزم، عليهم السلام، وليس الكلام عنهم كالكلام عن خاتمهم وأشرفهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو أشرف مخلوق، والكلام عنه أشرف كلام تعلق بمخلوق فلا يدانيه في الفضل أي كلام عن مخلوق آخر، وإن بلغ من الفضل والشرف ما بلغ، فليس يعلوه في الشرف إلا الكلام عن الخالق، عز وجل، فذلك جنس آخر، لا يصل إليه أي مخلوق مهما بلغ من الشرف، وإنما أوصل الغلاة في أهل الفضل من أصحاب الرتبة العلية من نبوة وإمامة وولاية، أوصلوا من غلوا فيه إلى تلك الرتبة زورا وبهتانا، فغلوا في حق المخلوق وجفوا في حق الخالق، عز وجل، وعطلوا الرب، جل وعلا، عن كماله بنسبته إلى غيره، وعطلوا الرسل عليهم السلام عن مرتبة العبودية أشرف المراتب البشرية، ونسبوا إليهم ما لا يليق في حق البشر، بل هو لو تدبروا، عين النقص، بل أفحشه، فليس أفحش في حق المخلوق من ادعاء ما ليس له من صفات الخالق، عز وجل، وبذلك نال فرعون ما نال من الذم إذ ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية فالألوهية لزوما، فكيف صح ادعاء محبة الرسل عليهم السلام مع إنزالهم بلازم الغلو فيهم منزلة فرعون؟!، وهل ذلك إلا من قلة العقل، وعظم التعصب والجهل، وهي سمات أساسية في كل محدث في الديانة غال في أهل الفضل بالإطراء بالكذب والزور الذي لا مستند له من نقل أو عقل.
والشاهد أن كلامه، عز وجل، يتبعض ويتفاضل من هذا الوجه، مع كونه كله، كتابا وقرآنا، فيكون ذكر إبراهيم عليه السلام إما في الكتاب العزيز، أو في سورة من سوره، يكون ذكره، على كلا الوجهين حقيقة، فالسورة من الكتاب، فهي كتاب بهذا الاعتبار، ولو لم تكن كل آيات الكتاب كما تقدم.
ولفظ الكتاب من وجه آخر: يجري مجرى المشترك اللفظي، لتعدد دلالاته على كتب متباينة، فتكون: "أل" فيه عهدية، فمادة الكتب مادة كلية تدل على مطلق الجمع فكتب الحروف جمعها لتصير كلمات، وكتب الآيات جمعها لتصير سورا، وكتب السور جمعها لتصير قرآنا، وكتب الأبدان جمعها لتصير كتائب ...... إلخ، فذلك المعنى الكلي المطلق الذي يقيد في الخارج فتتعدد دلالاته فيأتي ويراد به:
الكتاب العزيز كما في هذا السياق.
(يُتْبَعُ)
(/)
أو الإنجيل، فهو الكتاب الثاني، ولذلك أطلق لفظ: "أهل الكتاب" على النصارى من جهة كونهم أصحاب رسالة لها كتاب هو الإنجيل على جهة التعيين، فذلك وجه العهد في: "أل" في: "الكتاب" إن حمل على الإنجيل لقرينة سياق أو حال كما في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، فقرينة السياق بذكر الغلاة في المسيح عليه السلام مئنة من إرادة النصارى دون غيرهم فلم يغل في المسيح، عليه السلام، إلا هم، وكتابهم هو الإنجيل.
أو التوراة، كما في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).
فقرينة سبب النزول دالة على إرادة يهود، وكتابهم: "التوارة" فتكون: "أل" عهدية تشير إليه دون سائر الكتب المنزلة لقرينة السمع المرجحة، فأسباب النزول مما لا يعرف إلا بالنقل.
أو اللوح المحفوظ، كما قيل في قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ): فهو إما أن يحمل، كما أشار إلى ذلك القرطبي رحمه الله، على الكتاب العزيز فيكون المراد ما فرطنا فيه من الأخبار والأحكام الشرعية مما به صلاح الدين والدنيا من شيء، وإما أن يحمل على اللوح المحفوظ فيكون المراد ما فرطنا فيه من شيء من الأحداث الكونية فقد علمها الرب، جل وعلا، أزلا، ثم سطرها على جهة الجزم والإبرام في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
ومثله ما قيل في نحو قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)، فإما أن ينالهم، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، نصيبهم من الوعيد المسطور في الكتاب العزيز في الدنيا بالإهلاك وفي الآخرة بأشد العذاب، وإما أن ينالهم نصيبهم من العذاب، أيضا، ولكن على ما قد علم الرب، جل وعلا، أزلا، وسطر، كما تقدم في اللوح المحفوظ، فلا راد لحكمه الكوني ولا معقب لكلماته النافذة، فيكون الكتاب هو الكتاب الذي سطر فيه القدر الكوني وهو: اللوح المحفوظ.
وإما أن يراد به فعل الكتابة نفسه، وهو ما امتن به الرب، جل وعلا، على المسيح عليه السلام بقوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)، فعلى أحد الأوجه، كما أشار إلى ذلك بعض أهل العلم كأبي السعود والألوسي رحمهما الله، يحمل ذلك على جنس الكتب المنزلة، فقد علم المسيح عليه السلام ما فيها، من معاني التوحيد والنبوة، ثم خصت التوراة والإنجيل بالذكر فذلك من الخصوص بعد العموم، إطنابا في تقرير المنة في معرض بيان عناية الرب، جل وعلا، برسله عليهم السلام، فالملك في عالم الشهادة يعتني بتعليم وتثقيف أولاده، ولله المثل الأعلى، فلا ولد له، وإنما يصنع، عز وجل، رسله، عليهم السلام، على عينه، فيعلمهم من أجناس الحكمة ما ينزل به الروح الأمين من الوحي المعصوم على قلوبهم فهو أشرف وأجل العلوم، فتكون المنة بتعليمه أعظم وأظهر، فلا علم يداني علوم النبوات، بل كل العلوم في الشرف بعدها آتية، وفي النبوات أصول العلوم الشرعية والعقلية والكونية وإن لم تفصل دقائق المسائل إلا في مواضع، فعنايتها بتقرير الكليات في أمور الأخبار والأحكام الشرعية لا دقائق علوم الكون التي تعلم بالتجربة والبحث.
وعلى وجه آخر يحمل على فعل الخط والكتابة، وقد حكاه بعض المفسرين بصيغة التضعيف: "وقيل"، إذ فيه وجه منة، ولكن لا خصوص للأنبياء عليهم السلام، به، فكثير غيرهم قد تعلم الخط، بل كان خاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب، وما شانه ذلك، بلا زانه، فهو من أظهر الأدلة على صدق رسالته، فقد أتى بأجناس من العلوم الشرعية والكونية لا زالت العقول إلى يوم الناس هذا تدرك منها أشياء كانت عنها خفية. (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ
(يُتْبَعُ)
(/)
آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)
وقد يحمل الكتاب على عموم الكتب المنزلة فتكون: "أل" فيه جنسية استغراقية، كما في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
فالمعنى عام يشمل كل كاتم أو مبدل في أي رسالة سماوية فلا يختص ببعض دون بعض، فإن كان سببه خاصا بيهود، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين كالبغوي رحمه الله، فلفظه عام فيهم وفي غيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيتناولهم تناولا قطعيا لكونهم سبب ورود العام، ويتناول غيرهم ممن تحققت فيه علة الحكم وهي: الكتمان، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وقد يحتمل الكتاب أكثر من معنى فيتكرر في سياق واحد بأكثر من معنى فيحتمل العهد تارة والجنس الاستغراقي أخرى، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)، فالكتاب الأول هو كتاب معهود بعينه وهو: القرآن الكريم فـ: "أل" فيه عهدية، والكتاب الثاني هو جنس الكتب المنزلة قبله، فـ: "أل" فيه جنسية استغراقية.
والكتابة من وجه آخر تحتمل معنى الفرض اللازم، كما في قوله تعالى: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، فهو مصدر ناب عن عامله، على تقدير: كتب الله ذلك عليكم أي فرضه.
والشاهد أن الأمر بذكر الخليل عليه السلام في هذا الموضع نوع تكريم وعناية به، فأفرد بالذكر تنبيها على فضله وشرفه، وذيلت الآية بعلة ذلك فـ: "إِنَّهُ" على ما اطرد من تصدير العلة بالمؤكد فذلك آكد في تقرير معنى العلية، فيقدر، كما تقدم في أكثر من موضع، سؤال محذوف دل عليه السياق اقتضاء، وما علة إفراده عليه السلام بالذكر؟، فيأتي الجواب: إنه كان صديقا نبيا.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا:
فاحتج على أبيه في إبطال ألوهية معبوداته بأنها معطلة عن أوصاف الكمال من السمع والبصر، فمن لا يسمع ولا يبصر كيف يكون إلها؟!، ولذلك أنكر، عز وجل، على من اتخذ معبودات أرضية فدعا من دونه من لا يسمع ولا يبصر ولا يمشي ولا يبطش ..... إلخ،: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، فهم أموات غير أحياء لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم ضرا ولا نفعا، فدل دليل خطاب الخليل عليه السلام لأبيه على أن ربه، عز وجل، متصف بكمال ما نفاه عن آلهة آزر، فهو متصف بكمال السمع والبصر، على الوجه اللائق بجلاله، وذلك وجه لطيف رد به المحققون من أهل العلم على نفاة الصفات الإلهية، فلو كان الرب، عز وجل، كما ادعوا، لا يسمع ولا يبصر حقيقة، بل تلك مجازات!، لو كان، عز وجل، كما ادعوا، لاحتج آزر على الخليل بذلك فقال: وربك، أيضا، لا يسمع ولا يبصر، فما الفارق بين ربي وربك؟!.
وإلى طرف من ذلك أشار إمام الأئمة ابن خزيمة، رحمه الله، بقوله:
"قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل، (في موضع سابق لهذا الكلام)، أن لله وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى الهلاك عنه، وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى، فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون صلوات الله عليهما: (إنني معكما أسمع وأرى)، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان.
(يُتْبَعُ)
(/)
ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلوات الله عليه أباه: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا)؟ أفلا يعقل - يا ذوي الحجا - من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلوات الله عليه وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلوات الله عليه لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ ". اهـ بتصرف
"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل"، ص31.
وابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى" بقوله:
"وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْغَنِيَّ أَكْمَلُ وَأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ مِنْ وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِسَلْبِ "صِفَاتِ الْكَمَالِ" كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْفِعْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ مُنْتَقِصٌ مَعِيبٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُسْلَبُ إلَّا عَنْ نَاقِصٍ مَعِيبٍ. وَأَمَّا " رَبُّ الْخَلْقِ " الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا؛ وَهُوَ يَذْكُرُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ فِي الْعَادَةِ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ". اهـ
فنفى الخليل عليه السلام عن آلهة آزر وصف الكمال الذاتي: فلا تسمع ولا تبصر، ووصف الكمال الفعلي: فلا تغني عن عابدها شيئا إذ لا تملك، كما تقدم، لنفسها فضلا عن غيرها ضرا أو نفعا، فقرا أو غنى. فلمنطوق النفي مفهوم: إثبات كمال الوصف الذاتي والفعلي لرب الخليل عليه السلام، فأفاد الكلام بمنطوقه نفي الكمال عن آلهتهم، فذلك: يكافئ النفي في الشهادة: لا إله، وأفاد الكلام بمفهومه إثبات الكمال للرب، جل وعلا، وذلك: يكافئ الإثبات في الشهادة: إلا الله.
ويلحق بذلك كل من وصف الرب، جل وعلا، بوصف النقص، فوصفه بوصف البشر أو الشجر أو الحجر، فادعى حلوله أو اتحاده بذوات مخلوقاته الحادثة، فذلك حط من مقام الربوبية بنسبتها إلى ما لا يليق بها من أوصاف العبودية، فمقام الربوبية: مقام كمال، ومقام العبودية: مقام نقصان، بل كلما أمعن العبد في إظهار نقصه وافتقاره إلى الرب، جل وعلا، علت منزلته، ولذلك كان الأنبياء أكمل الخلق إذ كانوا أعبدهم للرب، جل وعلا.
ويلحق بذلك سائر المعبودات مادية كانت أو معنوية، فكلها لا تسمع ولا تبصر، فمن استبدل شرائع العقل بشرائع الوحي، فقد عبد عقلا لا يسمع ولا يبصر الحق فهو محدود القوى لا يدرك من المصالح إلا ظاهرا، فـ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، فلا يدرك المآلات، بل لا يدرك من الأحوال إلا ما يوافق هواه، فذلك نوع عبادة لما لا يسمع ولا يبصر من الهوى العقلاني أو الوجداني، ولذلك جاء الإنكار والتوبيخ لمن اتخذ إلهه هواه في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).
ويلحق بذلك سائر المذاهب الفكرية الأرضية التي أنكرت بلسان مقالها وحالها وجود رب متصف بكمال السمع والبصر والعلم والحكمة .... ، فصيرت الدين السماوي كبقية الأديان: مذهبا أرضيا موضوعا جرى له ما جرى لبقية المذاهب الوضعية من التطور، كما ذكر ذلك بعض أصحاب نظريات التطور الفكري كأوجستين كومت الذي قال بالتطور من الخرافة إلى الدين إلى الوضعية المادية، فكأن الدين مرحلة انتقالية بين الخرافة والعقل!، وذلك جار على أصول غلاة العقلانيين ممن نصبوا العقل وعزلوا الوحي، فصارت النبوة في أحسن أحوالها جسرا إلى العقل الذي اتخذ إلها يحكم على النبوة بالقبول أو
(يُتْبَعُ)
(/)
الرد، فيخضع الوحي المطرد لقياسه المضطرب، فما استحسنه قبله، وما استقبحه رده، وليس ذلك مذهب أهل الحق الذين خضعت عقولهم وقلوبهم للوحي فلا يعارضونه برأي فلسفي أو ذوق وجداني.
فمناط النجاة في هذا الشأن: النبوات الحاكمة على العقول برسم الوحي المعصوم، فالسلامة في اتباعه والتسليم لخبره تصديقا وحكمه امتثالا، فلا أصدق من خبره ولا أعدل من حكمه.
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا: فتلطف مع أبيه مع عظم جرمه، وذلك ما نفتقده في حياتنا الآن، فقد جاءه من علم النبوات ما لم يأت أبيه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فجاءه من خبر وصف الرب ذي الجلال والإكرام، وجاءه من أحكامه ما يستقيم به أمر البرية في الحال والمآل، فالإنصاف يقتضي النظر في ذلك، لعله خير مما هو عليه، وذلك ما تحلى به أسيد بن حضير، رضي الله عنه، فأسلم، كما في قصة إسلامه المعروفة، وفيها سيره إلى أسعد بن زرارة ومصعب، رضي الله عنهما، برسم التهديد، فـ: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّفنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركّز حرته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فما بلغنا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام، قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله.
فإذ كان الأمر كذلك: فاتبعني، فإن تتبعني أهدك، فانتقل إلى محط الفائدة بحذف الشرط المقدر فذلك أبلغ في تعيين المراد دون تطويل لا حاجة له، بل مقام الدعوة يقتضي الإيجاز في غير خلل.
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا: فكل من عبد غير الله، عز وجل، فقد أطاع الشيطان في أعظم مسألة: مسألة الألوهية: محل النزاع بين إبليس وقبيله وآدم وذريته، وطاعته عبادة له، فتلك حقيقة العبادة، فلا يلزم من ذلك العبادة الصريحة كما وقع في زماننا! فتلك صورة لم تكن من أعداء النبوات، وكانت في زماننا ممن نشأ في أمصار قد ظهر فيها خبر النبوات عموما والنبوة الخاتمة خصوصا!.
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا: فكرر النداء في معرض التلطف، وتنكير العذاب جار مجرى التعظيم في مقام الإرشاد والتحذير، وصدور العذاب من الرحمن، آكد في الزجر، بالتذكير برحماته، عز وجل، الكونية العامة: رحمات الرحمن، تبارك وتعالى، فكيف يكفر به من يتنعم برحماته ليل نهار؟!، فذلك كما تقدم توبيخ للجاحد للحق مع تمتعه بآثاره كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، ففيه من إظهار شناعة هذا الجرم ما فيه.
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا:
فاقتضى السياق سؤالا مقدرا، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، فـ: ماذا كان من آزر؟
فقال مستفهما في معرض الزجر بالإنكار والتوبيخ وذلك مئنة من عظم الإعراض عن الحق: أراغب أنت ........
ثم توعد مؤكدا بالقسم المحذوف: لئن لم تنته لأرجمنك: بالقتل أو الشتم، كما قال بعض أهل العلم، فلم يرد الرجم بمعنى الشتم والقذف إلا في هذا الموضع من الكتاب العزيز، ثم أمره على حد الزجر: واهجرني مليا.
فقال الخليل عليه السلام في معرض المفاصلة: سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا: وذلك ما نسخ في حق الخليل عليه السلام وحق من جاء بعده من المؤمنين كما دل على ذلك قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، فجاء النص على الحكم عاما في حق النبي والذين آمنوا معه، ثم خص الخليل، عليه السلام، بالذكر احترازا من
(يُتْبَعُ)
(/)
الاعتراض بتلك الموعدة التي تبرأ منها الخليل، عليه السلام، لما تبينت له عداوة آزر للباري عز وجل.
وذيل بالعلة الدالة على كمال عنايته، عز وجل، بخليله، عليه السلام، فربه، جل وعلا، به حفي أي بليغ في البِرّ والإلطاف، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، فذلك آكد في إجابة الدعاء، ومع ذلك لم يستجب الرب، جل وعلا، دعاء الخليل عليه السلام، فحق الرب، جل وعلا، مقدم على كل حق، فهو مخصص لكل منة، ولذلك نهي عن الصلاة في المقابر حفظا لجناب التوحيد، أعظم حقوق الرب، جل وعلا، على العبيد، وإن كان ذلك مخصصا لعموم منة: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا".
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا: فذلك على رسم اعتزال المنكر إن لم يستطع الإنسان إزالته، فاعتزل دعاءهم إلى دعاء الرب، جل وعلا، فخلى المحل من الشرك بدعوة آلهتهم، ثم حلاه بإفراده، جل وعلا، بالدعاء.
فلما تركهم عوضه الله، عز وجل، خيرا منهم، فمن ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه، ومعناه عند أحمد، رحمه الله، بلفظ: "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله إلا أعطاك خيرا منه" كما ذكر ذلك صاحب "الدرر المنتثرة" رحمه الله، فاعتزلهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، فحصل له من الأنس به ما حصل، ثم زيد في الثواب، فذلك من أعظم صور المنة الربانية على المنفرد عن المشركين بإفراد الرب، جل وعلا، بالإلهية:
فعوض من صحبة المشركين: ذرية من النبيين، فكل نبوة بعده قد صدرت من ابنيه: الذبيح وإسحاق عليهما السلام، وإمعانا في تقرير المنة: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا: فلم تكن الهبة: ذرية فقط، بل ذرية رسمها أعظم صور الرحمات التي أضيفت إلى الضمير الدال على الفاعلين مئنة من التعظيم، فالنسبة إلى ضمير الجمع آكد في تقرير معنى التعظيم، ألا وهي: رحمة النبوات، ومن كمال العناية بهم: إبقاء ذكرهم، فذكرهم بالثناء مشتهر بين سائر أتباع الشرائع السماوية إلى يوم الناس هذا.
وما ثبت لهم من رفعة الذكر فهو ثابت لغيرهم من الأنبياء عليهم السلام بدلالة القياس المساوي وللنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقياس الأولى، فهو خير المرسلين وخاتمهم، فبرسالته ختم الوحي واستقر الدين المقبول عند الرب، جل وعلا، ولعامة المؤمنين بقياس الأدنى، فلكل مؤمن من رفعة الذكر نصيب بقدر اتباعه للنبوات تصديقا وامتثالا، فما نيل مدح إلا باتباعها، وما استحق ذم إلا بمخالفتها، فهي معيار التفاضل بين البشر، فأتباع الأنبياء، عليهم السلام، ظاهرون في الأولى والآخرة، وإن ظهر عليهم عدوهم فتمحيصا، وإن ظهروا فتمكينا، وأعداؤهم مخذولون، فإن ظهروا حينا فاستدراجا وإملاء، وإن دحروا فعقابا وإهلاكا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 03 - 2010, 08:05 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا: فذلك جار على ما اطرد من العناية بذكر طرف من أنباء الرسل عليهم السلام، فاذكر موسى الكليم، عليه السلام، فرسمه الإخلاص، وهو محمول هنا على الرسالة لقرينة السياق، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد عطف على وصف الإخلاص، وصف الرسالة والنبوة، فكان العطف، على هذا التأويل من باب عطف المبين على المجمل، فالإخلاص معنى كلي عام خص منه وصف الرسالة، على التفصيل المتقدم، فجنس الرسالة معدن الإخلاص، فإن نسبة الخبر إلى الرب، جل وعلا، لا تكون إلا من أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين فلا يشتبه أمرهما على أحد، فالكليم عليه السلام من أولي العزم الذين لا يتصور في حقهم الكذب على آحاد البشر فكيف برب البشر، وذلك مما استدل به هرقل على نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلم يكن صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليدع الكذب على البشر ويكذب على رب البشر عز وجل.
يقول شارح الطحاوية رحمه الله:
"فَمَنْ عَرَفَ الرَّسُولَ وَصِدْقَهُ وَوَفَاءَهُ وَمُطَابَقَةَ قَوْلِهِ لِعَمَلِهِ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَلَا كَاهِنٍ.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى فِي الْمُدَّعِي لِلصِّنَاعَاتِ وَالْمَقَالَاتِ، كَمَنْ يَدَّعِي الْفِلَاحَةَ وَالنِّسَاجَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَعِلْمَ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْفِقْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالنُّبُوَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّسُولُ بِهَا، وَهِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُ الْأَعْمَالِ. فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ الصَّادِقُ فِيهَا بِالْكَاذِبِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ: قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ رِضَى الرَّجُلِ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَفَرَحَهُ وَحُزْنَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ، بِأُمُورٍ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ، قَدْ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وَقَدْ قِيلَ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.
فَإِذَا كَانَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَكَذِبُهُ يُعْلَمُ بِمَا يَقْتَرِنُ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، كَيْفَ يَخْفَى صِدْقُ هَذَا مِنْ كَذِبِهِ؟ وَكَيْفَ لَا يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَاذِبِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ؟ ". اهـ
"شرح الطحاوية"، ص108.
ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في "شرح الأصفهانية":
"ثم إن النبي لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عما علمه بالضرورة كإخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة.
وأيضا فالمتنبئ الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم مما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه؟.
ومن لوازم النبي التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأه الله تعالى به فإن من لم يخبر عن غيب لا يكون نبيا فإذا أخبرهم المتنبىء عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل.
فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.
وأما النبي الصادق المصدوق فهو فيما يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة إما ثلاثين سنة وإما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذابا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف فالصادقون يدوم أمرهم والكذابون ينقطع أمرهم هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا". اهـ
"شرح العقيدة الأصفهانية"، ص364_366.
فهذا أمر جار في آحاد الصناعات الأرضية فكيف بمنصب النبوة التي يحكم بها صاحبها بمقتضى الشرعة السماوية؟.
والشاهد أنه أطنب في معرض الثناء عليه فهو مخلص، وهو رسول نبي، فأكد بالأدنى عقيب الأعلى، فالرسالة مرتبة أخص من النبوة، فهي أعم من جهة معناها وأخص من جهة أفرادها، وذلك جار على ما تقدم من الإطناب في معرض الثناء.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا: فناداه، عز وجل، من بُعْد، فـ: "من" لابتداء الغاية، فابتداء غاية النداء من جانب الطور، وذلك دليل على إثبات الكلام بالصوت، فالنداء لا يكون إلا بالصوت، فهو ما سمعه الكليم، عليه السلام، فقد تكلم، جل وعلا، بصوت وحرف، فكلم موسى عليه السلام بكلام ذي مبان لفظية لها معان يدركها السامع بصوت يدركه، أيضا، فسمع موسى عليه السلام كلام ربه، جل وعلا، بلغته العبرانية، فقد تكلم الله، عز وجل، بها، كما تكلم بالإنجيل بلغة المسيح عليه السلام وهي العبرانية، أيضا، وكما تكلم بالكتاب العزيز بلغة النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي العربية، ثم قربه في مقام المناجاة، وكلام الرب لموسى عليه السلام مما أجمل في مواضع من التنزيل وبين في مواضع أخر:
فأجمل في نحو قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
ثم جاء البيان في هذا الموضع بإثبات الصوت.
ثم جاء البيان في موضع آخر بإثبات الحرف فقال له الرب جل وعلا: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فكن من الشاكرين على هذه النعمة الشرعية العظمى: نعمة النبوة، فذلك جار على ما تقرر من عظم عناية الرب، جل وعلا، برسله عليهم السلام، وبمن بعثوا إليهم من الأمم، فلولا الرسل، عليهم السلام، ما عرف أولئك الحق من الباطل، ولولا الرسل، عليهم السلام، ما حصل لهم البيان الذي به تظهر طريق النجاة فيسلكها المسدد ويعدل عنها المخذول.
فحصل البيان من أكثر من وجه، كما أشار إلى ذلك ابن خزيمة، رحمه الله، في معرض إثبات صفة الكلام للرب، جل وعلا، بقوله:
"قال الله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله» .......... الآية فأجمل الله تعالى ذكر من كلمه الله في هذه الآية، فلم يذكره باسم ولا نسب، ولا صفة، فيعرف المخاطب بهذه الآية التالي لها أو سامعها من غيره: أي الرسل الذي كلمه الله من بين الرسل، وكذلك أجمل الله أيضا في هذه الآية الجهات التي كلم الله عليها من علم أنه كلمهم من الرسل، فبين في قوله: «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»، الجهات التي كلم الله عليها بعض البشر، فأعلم: أنه كلم بعضهم وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وبين في قوله: «وكلم الله موسى تكليما» أن موسى صلى الله عليه وسلم كلمه تكليما، فبين لعباده المؤمنين في هذه الآية ما كان أجمله في قوله: «منهم من كلم الله»، فسمى في هذه الآية كليمه، وأعلم أنه موسى، الذي خصه الله بكلامه، وكذلك قوله تعالى: «ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه» مفسر للآية الأولى، سمى الله في هذه الآية كليمه، وأعلم أنه موسى الذي خصه الله بالتسمية من بين جميع الرسل صلوات الله عليهم، وأعلم جل ثناؤه أن ربه الذي كلمه، وأعلم الله تعالى أنه اصطفى موسى برسالته وبكلامه، فقال عز وجل: «يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين» ففي الآية: زيادة بيان، وهي: إعلام الله في هذه الآية بعض ما به كلم موسى ألا تسمع قوله: «إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي»، إلى قوله: «وكن من الشاكرين»، وبين في آي أخر بعض ما كلمه الله عز وجل به، فقال في سورة طه: «فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري» إلى آخر القصة، وقال في سورة النمل: «إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر» إلى قوله: «فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها» إلى قوله: «يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم» وقال في سورة القصص: «فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين» إلى آخر القصة، فبين الله في الآي الثلاث: بعض ما كلم الله به موسى". اهـ
"التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل"، ص117، 118.
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلك من الجمع البديع بين آيات الكتاب العزيز بحمل مجملها على مبينها، وهو ما اطرد في صنيع ابن خزيمة، رحمه الله، في الجمع بين النصوص، فهو إمام في هذا الشأن، وهو جار، على ما سبقت الإشارة إليه مرارا، من تفسير آيات الكتاب العزيز بآياته، فذلك أول ما يلجأ إليه المفسر فالمتكلم أعلم بمراده، فتفسير كلامه بكلامه أولى من تفسير كلامه بكلام غيره.
فكلمه، عز وجل، بالعبرية، كما تقدم، وحكى مقالته بلغة التنزيل الذي تكلم بها بآيات التنزيل الخاتم، وهو مما استدل به أهل العلم على جواز رواية الحديث بالمعنى، فقد ذكرت الآيات معنى الكلام دون لفظه، فلفظه كما تقدم غير عربي.
وتعدد مواضع الكلام: نداء من بعد، ومناجاة من قرب: أبلغ في تقرير المنة الربانية فعنايته، عز وجل، بالكليم قد تعددت صورها، ومن ذلك:
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا: فأضيف فعل الهبة إلى ضمير الجمع في سياق الامتنان، فالتعظيم يلائم هذا السياق، وكذلك الحال في الإضافة في: "رحمتنا"، وهي محمولة على النبوة بقرينة التذييل بنبوة هارون عليه السلام فهي من أعظم صور العناية بالكليم عليه السلام إذ امتن الرب، جل وعلا، عليه ببعث أخيه معه عضدا له يشد من أزره ويشركه في أمره.
فأضيفت الرحمة إلى الرب، جل وعلا، باعتبار أثرها المخلوق لا الوصف القائم بذات الرب المعبود، جل وعلا، فتلك رحمة النبوة، فرحمة النبوة إذا نظر إليها من جهة شخص النبي، فهي مخلوقة من هذا الوجه، فإن ذاته مخلوقة، وعلمه القائم بها مخلوق، فهو مخلوق كله: ذاتا وصفات، وإن نظر إليها باعتبار نصوص الوحي التي تكلم بها الرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فنزل بها الرسول الملكي على قلب الرسول البشري، فهي من هذا الوجه: غير مخلوقة فكلمات الرب، جل وعلا، الشرعية، غير مخلوقة، إذ هي وصف من أوصاف ذاته القدسية، والصفة تتبع موصوفها كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة.
فتكون الإضافة هنا من النوع الذي يحتمل بتعدد جهة الإضافة: تعدد المعنى، فيكون مخلوقا إن نظر إلى أثره في عالم الشهادة، ويكون غير مخلوق إن نظر إلى كونه قائما بذات الرب، جل وعلا، فهو الصفة التي صدر عنها الأثر المخلوق في عالم الشهادة.
وفي الإتيان بلفظ: "الأخ" قبل النبوة مزيد عناية بالكليم عليه السلام فقد حصل له التأييد باعتبار أخوة النسب، وأخوة الرسالة، فاجتمعت في حقه الأخوة العامة أخوة: "الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ"، والأخوة الخاصة: أخوة النسب.
ومجيء الرحمة بمعنى النبوة قد ورد في مواضع من التنزيل، وبه استدل على نبوة الخضر عليه السلام، بحمل الرحمة في قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) على: رحمة النبوة، كما أشار إلى ذلك صاحب "الأضواء"، رحمه الله، بقوله: "اعلم .... - أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن .............. فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في «الزخرف»: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 31 - 32] الآية. أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين. وقوله تعالى في سورة «الدخان»: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 5 - 6] الآية، وقوله تعالى في آخر «القصص» {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [القصص: 86] الآية". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فتلك صورة من صور رحمة الرب، جل وعلا، بل هي أعظم صورها، إذ بها يكون صلاح الحال والمآل، فالنبوة سبب النجاة في الدارين، وبها يكون النصر والتأييد في الدنيا والآخرة، فليس وصفها بأنها رحمة الرب، جل وعلا، بمخصص لعموم الإضافة في: "رحمة ربك"، بل ذلك جار مجرى ما تقدمت الإشارة إليه مرارا، من بيان العام بذكر فرد من أفراده، وهو جار مجرى تعظيم المنة بالنبوة بإيراد وصف الرحمة في سياق عموم يقتضي الشمول للدلالة على رحمة النبوة بعينها فهي لعظمها قد نزلت منزلة العموم، فرحمة النبوة عامة تشمل كل المكلفين، لا سيما الرسالة الخاتمة التي نزلت برسم العالمية، رسم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فتنكير الرحمة جار مجرى التعظيم، فالرسالة الخاتمة أعظم رحمة امتن بها الرب، جل وعلا، على البرية.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا:
فخص إسماعيل، عليه السلام، بالذكر بعد الخليل وإسحاق عليهما السلام، اعتناء بشأنه، فهو الابن البكر لإبراهيم، عليه السلام، وهو الذي جاء من نسله النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم الرحمات المهداة إلى النوع الإنساني.
ثم عقب بعلة ذكره: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)، وأعظم صور ذلك صدقه إذ قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فتبرأ من حوله وقوته، فأيده الرب، جل وعلا، بروح منه فصدق الوعد، وفداه، تبارك وتعالى، بالذبح العظيم فكانت تلك من أعظم صور العناية بالخليل وابنه الذبيح عليهما السلام.
و: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا:
فذلك مئنة من المداومة، فكان يأمر، على حد المضارعة فهي مظنة التجدد في الحاضر والمستقبل بالنسبة لزمن الأمر لا نزول الآيات فالآيات قد نزلت بعد انقضاء ذلك الأمر بداهة، وذلك من تمام الفقه، فقد أصلح الله، عز وجل، له نفسه، بما امتن به عليه من الرسالة والنبوة التي ذيلت بها الآية السابقة، فوجب عليه البلاغ، فكان أولى الناس بذلك أهله، فذلك من قبيل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معرض الإنذار الخاص: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فكان ذلك قبل ورود الإنذار العام: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا).
ثم جاء ذكر إدريس عليه السلام:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا: فأثنى عليه، عز وجل، بوصف الصديقية والنبوة، ثم رفعه مكانا عليا، فذلك من رفعة المنزلة، وهو أمر عام في كل نبي، وإنما خص به عليه السلام تنويها بذكره، فلا يمنع إسناد الوصف إليه إسناده إلى غيره من الأنبياء عليهم السلام، بل هو ثابت له ولغيره، وأشار البغوي، رحمه الله، إلى قول ثان يكون الرفع فيه هو: الرفع إلى الجنة، وذلك، أيضا، مما عم غيره فقد رفع الأنبياء بل ومن دونهم من الشهداء إلى الجنة، كما في حديث رفع قادة جيش مؤتة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الجنة، وأشار إلى وجه ثالث مشتهر، وهو رفعه بجسده إلى السماء الرابعة كما رفع المسيح عليه السلام، ووقع الخلاف هل هو حي كالمسيح أو قبض، وجمع بعض أهل العلم بين القولين فقال: رفع ابتداء بجسده ثم قبض في السماء فلا حي فيها إلى الآن إلا مسيح الهدى عليه السلام إذ سينزل آخر الزمان لقتل مسيح الضلالة. وعلى كل الأوجه فالمنة بالتخصيص بالذكر والعناية برفع المنزلة والقدر ثابتة لإدريس عليه السلام.
وبعد التفصيل جاء الإجمال فذلك من صور الإطناب بذكر العموم بعد الخصوص، فخص جملة من الأنبياء عليهم السلام بالذكر لشرفهم وعلو قدرهم ثم عم بقوله تعالى:
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا:
فتلك النعمة العظمى هي نعمة النبوة: أعظم نعم الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، كما تقدم مرارا، فأنعم عليهم وعلى من اتبعهم ممن هدى عز وجل، واجتبى من الصديقين والشهداء والصالحين، فإذا تتلى عليهم الآيات الشرعية خروا سجدا وبكيا مئنة من كمال الخشوع والخضوع لوحي الرب الشارع عز وجل، فخشعت القلوب وسجدت الأبدان على ما اطرد بيانه من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، فإذا سجد القلب بين يدي المليك، عز وجل، سجدت الجوارح لزوما.
وقد صدرت الآية بالإشارة إلى البعيد في مقام الثناء بعلو المرتبة لقرينة سياق المدح، وذيلت بمدح صورة سجودهم فهو أكمل سجود إذ هم أعبد الناس للرب، جل وعلا، وأشدهم تحريا لأخباره بالتصديق، ولأحكامه بالتنفيذ، فمدحت تلك الصورة المثلى: حضا لغيرهم على الاقتداء بهم كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 03 - 2010, 08:49 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ):
فتلك أيضا من صور العناية الخاصة بالأنبياء عليهم السلام وبواحد منهم على وجه الخصوص هو يوسف الصديق عليه السلام.
فاستعمل الاستفهام في معنى التوبيخ والتقريع، على تقديره بـ: "قد" التحقيقية التي تفيد تحقق وقوع ما بعدها، وذلك أليق بمقام اللوم، إذ فيه تقرير الجاني بجنايته، فقد علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، و: "إذ" ظرفية، فذلك فعلكم زمن جهلكم، وفيه نوع اعتذار عنهم، فما فعلوه إلا حال جهل، فكل من عصى الله فهو جاهل، كما أثر عن أبي العالية، رحمه الله، وهو مظنة الغفلة فوسوس لهم الشيطان فهو لا يأتي الإنسان إلا إذا غفل عن ذكر الرحمن، فـ: (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، والجهل مع ذلك مظنة ظلم الإنسان نفسه وغيره، فقد ظلموا أنفسهم بالمعصية، وظلموا يوسف وبنيامين، وإن نال يوسف عليه السلام من ظلمهم ما لم ينل بنيامين، وذلك من الحسد الذي يحمل الحاسد على ظلم المحسود لا محالة، فإما أن يظلمه بتمني زوال النعمة عنه، فيناله منه الأذى وإن لم يظهر ذلك بقول أو فعل، وقلما يكون ذلك، إذ الباطن لا بد أن يرى أثره على الظاهر ولو على فلتات اللسان وخلجات الأركان كما أثر ذلك عن عثمان رضي الله عنه، فالغالب أن الحاسد يحتال لإيصال الأذي القولي أو الفعلي إلى المحسود، كما احتال إخوة يوسف حتى أخرجوه وألقوه في الجب، وكل ذلك من الظلم بمكان، وتحتمل معنى التعليل، فقد فعلوا ما فعلوا لأنهم جاهلون، فـ: "إذ" تأتي للتعليل، كما أشار إلى ذلك صاحب "مغني اللبيب" رحمه الله، بقوله: "والثالث، (أي من استعمالات "إذ"): أن تكون للتعليل، نحو: (ولن ينفعكم اليومَ إذْ ظلمتُم أنكم في العذابِ مُشتركون) أي: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأجل ظلمكم في الدنيا". اهـ
ولا مانع من الجمع بين القولين فالسياق يحتملهما ولا يعارض أحدهما الآخر، فقد فعلوه زمن غفلة، لأنهم جهلوا عاقبة الذنب، وجهلوا قدر الرب، جل وعلا، وإن استحضروا نية التوبة قبل مباشرة الذنب، فغفلوا عن مقام المراقبة للرب، جل وعلا، فلو استحضروا معيته بعلمه المحيط ما أقدموا على الذنب، وذلك أمر يعم كل عاص، فإن المعصية، لا سيما معصية السر، لا تكون إلا حال غفلة عن مقام الإحسان، فلا يستحضر العبد اطلاع الرب، جل وعلا، عليه، فهو يراه ظاهرا، بل ويعلم ما جال في باطنه من الخواطر فيعلم الجهر وما يخفى.
قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ: فذلك مقام تعجب يلائمه التوكيد بإن واللام وضمير الفصل، فأجاب الصديق عليه السلام: قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي: فذلك، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تعجب آخر استعمل فيه عليه السلام الخبر: هذا أخي، فتعجب كيف جمع الله، عز وجل، بينهما بعد طول الفرقة، فجاء بيان هذا التعجب الذي أجمل في الخبر، بقوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا: فذلك من أظهر أدلة عنايته، عز وجل، برسله عليهم السلام، فخبر يوسف عليه السلام وإخوته، وما كان من محنة عظيمة عالج فيها يوسف عليه السلام صنوفا من الاضطهاد والابتلاء فمن الجب إلى السجن، ثم جاءت المنحة بالتمكين في الأرض، فعقيب المحنة لمن صبر: المنحة، فما يلقاها إلا الذين صبروا، فامتن الله، عز وجل، عليه بإظهار براءته وخروجه من السجن سالم العرض نقي الثوب، بل وصيره على خزائن مصر، وكانت آنذاك أغنى دولة في العالم!، بل وقاد إليه إخوته، فكان ما كان من لقائه بهم، ثم إرساله لأبيه وأمه، ثم سجودهم له سجود التكريم لشخصه الكريم فذلك تأويل رؤياه قد جعلها ربه، عز وجل،
(يُتْبَعُ)
(/)
حقا، فحصل له من صور العناية الخاصة: معقولة كانت أو محسوسة ما ظهرت به آثار قدرة الرب، جل وعلا، وحكمته في سوق المقادير على هذا النحو العجيب، فمن رحم الآلام تتولد اللذات، و: (عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، ثم جاء التعليل لما تقدم من المنة الربانية فـ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ: فجاء التعليل بالإيماء إلى المعنى الذي اشتقت منه جملة الصلة وما عطف عليها: التقوى والصبر، فلا تنفع تقوى بلا صبر بالمداومة عليها فذلك من ضعف الثقة، ولا ينفع صبر بلا تقوى فهو من جلد الفاجر، وقد استعاذ المحدث العمري، رضي الله عنه، من كليهما فلا ينفع الثقة إن كان جزعا، ولا ينفع القوي الجلد الصابر إن كان فاجرا غير تقي، وإنما ينفع من اتقى وصبر، وهو ما علق يوسف عليه السلام الحكم عليه في قوله: فـ: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"، فصيغة الموصول من جهة العموم كصيغة الشرط، ففي الموصولية معنى التعليل الكائن في الشرطية، فيعلق حكم على وصف، أو مشروط على شرط، فأشربت: "من" الموصولة معنى: "من" الشرطية ولذلك جاز على قول بعض النحاة جزم المعطوف على صلتها: "يصبر"، فرفع عامل جملة الصلة: "يتقي" بضمة مقدرة، وإنما حذفت الياء لرسم المصحف، فرفعه باعتبار لفظ: "من" بحملها على الموصولية، وجزم المعطوف عليها: "يصبر" بالنظر إلى معنى العموم فيها مع تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه صلتها فذلك من جنس تعليق المشروط على الشرط، فأشبهت الشرطية الجازمة من هذا الوجه فجاز بالنظر إلى معناها وقوع الجزم في حيزها، فمن يتقي ويصبر: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، على جهة التوكيد فذلك من الخبر الذي لا يحتمل كذبا، فلا أصدق من خبر الأنبياء، عليهم السلام، فصح توكيده من هذا الوجه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وإنما أظهر الاسم: "المحسنين" وحقه الإضمار على تقدير: فإن الله لا يضيع أجرهم، إمعانا في تقرير المعنى، فاعتنى بذكر الوصف الذي علق عليه الحكم، ثم بذكر الاسم الجامع له، فالإحسان يتضمن التقوى والصبر لزوما، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فضلا عن كونه من التذييل الذي يجري مجرى المثل القرآني السائر فناسبه التعميم بذكر وصف الإحسان الجامع لخصال الخير، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن تصدير الكلام بالموصول وتذييله بوصف الإحسان الجامع، مئنة من عموم الحكم، وإن كان سببه في هذا السياق خاصا بتقوى وصبر يوسف وبنيامين عليهما السلام، فكل من اتقى وصبر فإن الله، عز وجل، لا يضيع أجره، وذلك من عنايته، عز وجل، بعباده، فهو الشكور الذي يقبل قليلهم فينميه لهم، فلا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بل يزيد فيه بتثميره لصاحبه مع غناه عن خلقه أجمعين، ولكنه، تبارك وتعالى، كريم ودود، يتودد إلى خلقه بشتى أجناس النعم الشرعية والكونية مع غناه عنهم وافتقارهم إليه فلا صلاح لأديانهم أو ابدانهم إلا بمدده الشرعي الخاص لأوليائه، ومدده الكوني العام لسائر خلقه.
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ: فأكدوا المنة الربانية بالقسم، واللام، وقد، فذلك أبلغ في تقرير عناية الرب، بيوسف عليه السلام، فقد آثره الله، عز وجل، عليهم، بالعطية الشرعية والكونية، فاصطفاه بالنبوة، وإن نالهم منها نصيب، على القول بنبوتهم، فهم الأسباط، إلا أن يوسف، عليه السلام، خير منهم بالإجماع، والأنبياء، كما تقدم في مواضع سابقة، يتفاضلون، وإن لم يلزم من ذلك تنقيص المفضول، ولا يقدح في نبوتهم الذنب الذي وقع منهم، فإنهم لما تابوا: تاب الله، عز وجل، عليهم، فـ: لا تثريب عليهم، فالنكرة في حيز النفي بـ: "لا" النافية للجنس مئنة من نفي جنس التثريب، فلا تقريع ولا توبيخ ولا لوم بعد التوبة من الذنب فإذا حصلت التوبة ارتفعت الملامة، بل صار المذنب في حال أحسن، فتكون المحنة بالذنب منحة له، من هذا الوجه، فلا تمتنع نبوتهم إذ قد صاروا بالتوبة أهلا لها، فارتفعت منزلتهم بعد مباشرة
(يُتْبَعُ)
(/)
الذنب والتوبة الصادقة منه فلم يكتفوا بقول يوسف، عليه السلام، بل طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم، فوعدهم بذلك، ولم يجبهم فورا، لما وجده في نفسه عليهم، فذلك الظهور الشرعي له عليهم فهو، كما تقدم، أفضل منهم وإن اشتركوا جميعا في مرتبة النبوة، وأما ظهوره الكوني عليهم، فهو ما مكن له، عز وجل، في أرض مصر، فجاءوه معتذرين، فظهر عليهم بعد أن كانوا عليه ظاهرين يوم ألقوه في غيابة الجب.
ومن كمال عنايته، عز وجل، بيعقوب عليه السلام، بعث يوسف، عليه السلام، بقميصه إلى أبيه، فوقعت الكرامة برد بصره، فالكرامة الكونية مما يؤيد به، جل وعلا، عباده المؤمنين، فالكرامة قد تقع تثبيتا أو تأييدا ولو في غير معرض التحدي، وهي هنا من باب التأييد بأمر كوني نافذ عناية بالنبي يعقوب عليه السلام بعد ما ناله من الابتلاء بفقد ولديه: يوسف وبنيامين، فبعد الشدة فرج آت، برد الأولاد ورد البصر معا، فذلك من تمام المنة على أبي الأسباط عليه السلام.
ثم: دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، عليه السلام، فقرب إليه أبويه، وقد خرج إليهم بقرينة: "ادخلوا" مبالغة في الاحتفاء بهم، فحصل الاجتماع بعد الافتراق، و:
وَقَد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعد ما ******* يَظُنان كُل الظنّ ألا تَلاقَيا
وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ: فذلك من تمام المنة بدخول مصر برسم الأمان بعدما دخلوها سابقا برسم الحاجة فشتان الحالان!.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ: فوقع تأويل الرؤيا في عالم الشهادة، فالتأويل هنا بمعنى وقوع المخبر به سلفا، فأخبر يوسف عليه السلام أباه بالرؤيا كما في أول السورة ثم وقع تأويلها في عالم الشهادة كما في آخر السورة وبينهما من الابتلاء بالإلقاء في الجب ودخول السجن ثم الظهور والتمكين في الأرض ما بينهما فهو عبرة جليلة وفيه من المواساة لأصحاب البلاء وإن طال ما هم فيه، وإنما تذهل العقول عن تلك المعاني الجليلة ساعة وقوع البلاء إلا من امتن الله، عز وجل، عليه بثبات الجنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالبدار البدار يا أصحاب العافية قبل نزول البلاء، فإنه نازل لا محالة، بمقتضى السنة الكونية النافذة، فمن عرف الرب، جل وعلا، في الرخاء، نظر إليه الرب، جل وعلا، بعين الرأفة والعناية في الشدة.
فخروا له سجدا: سجود التكريم، وذلك مما نسخ في شريعتنا سدا لذريعة تعظيم المخلوق والغلو فيه.
ثم أطنب عليه السلام في بيان منة الرب، جل وعلا، السابغة عليه:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي: فلطف به الرب، جل وعلا، على تضمين فعل الإحسان معنى اللطف، ثم ثنى بذكر صور الإحسان: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، وعلة ذلك: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ: فاللطف يدل على نوع تدبير للملائم على جهة الخفاء فليس كالتدبير الظاهر، بل فيه من الخفاء ما يدل على عظم علم وحكمة الرب، جل وعلا، ولذلك ذيل بوصفي العلم والحكمة: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
ثم ختم مقالته بدعاء الثناء والشكر للرب جل وعلا:
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ: فذلك من أدلة الربوبية الخاصة فذلك مما امتن به الرب، جل وعلا، على يوسف عليه السلام دون غيره من الأنبياء.
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: فذلك من أدلة الربوبية العامة، فهو المنشئ لهذا الكون على هذا النحو البديع، فلا مثال سابق له، وإنما خُلق بقدرة وحكمة الرب الخلاق العليم تبارك وتعالى.
(يُتْبَعُ)
(/)
أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ: على جهة القصر بتعريف الجزأين فتلك من الولاية الخاصة، وهو محمول على الخبر بالنظر إلى أمر الدنيا، ويحتمل الإنشاء على تقدير: كن وليي في الدنيا والآخرة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فيكون ذلك أليق باعتبار ما تلاه من الإنشاء الصريح بالدعاء فالأصل أن يجري الكلام على سياق واحد كما أن الأصل في التعاطف التماثل، فيتبع الخبر بالخبر، والإنشاء بالإنشاء، كما يعطف كلٌ على مثيله، وهذا الدعاء من وجه آخر يجري مجرى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)، على تأويله بالأمر بالمداومة، فكذلك يوسف الصديق، عليه السلام، فهو ولي للرب، جل وعلا، بداهة، فيكون دعاؤه من طلب الدوام على هذا الوصف المحمود حتى يلقى الله، عز وجل، عليه ويرجحه التعقيب بالدعاء بالوفاة على الإسلام العام: دين الرسل عليهم السلام، ومع كونه معصوما بالرسالة إلا أنه لكمال علمه بجلال الرب، جل وعلا، يدعو بدوام الولاية وذلك دال لزوما على طلب السلامة مما يعارضها من محبطات الأعمال، مع أنه، كما تقدم، معصوم منها، فيكون ذلك من جنس الاستغفار الوقائي الذي دوام النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه، كما في حديث الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"، فيحترز من الذنب وإن لم يقع بدفعه وإن كان خاطرة لم تصر هما فضلا عن صيروتها قولا أو فعلا وجوديا يتعلق به الثواب أو العقاب.
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ: فذلك دعاء المسألة عقيب دعاء الثناء، فأثنى على الرب، جل وعلا، بما هو أهله من أوصاف الربوبية الخاصة له بالعناية به إذ آتاه الملك، وآتاه العلم بتأويل الرؤى، ثم ثنى بدعاء المسألة: توفني مسلما، فالحال هنا: مؤسسة فهي عمدة لا يستغنى عنها لبيان المعنى وإن تم اللفظ بدونها، فليس الشأن: شأن الوفاة، فكل ميت، وإنما الشأن حسن الخاتمة بالموافاة على الإسلام والإلحاق بالصالحين. فقدم بأوصاف الربوبية ثناء ثم ثنى بذكر لازمها من إفراده، عز وجل، بالتأله بطلب الاستسلام والخضوع له، وحده، فذلك جار على ما تقدم مرارا من التلازم الوثيق بين الربوبية بفعل الرب، جل وعلا، والألوهية بفعل العبد.
والشاهد أن هذه الآيات هي تتبع لما اطرد في آي الكتاب العزيز من تمام العناية بالرسل عليهم السلام، فهم أولى الناس بصور التأييد والعناية الربانية، لعظم شأنهم وعموم مقالهم فهو دين تنتحله الألوف بل الأمم ذوات العدد، فاقتضت حكمته، عز وجل، أن ينصرهم ويبقي آثارهم في الأرض، فلا تستقيم الحياة إلا بها، فلولاهم ما عبد الرب، جل وعلا، ولولاهم ما صلح الكون، ولولاهم ما عرف الخلق باريهم، جل وعلا، ولولاهم ما نجا ناج يوم العرض، فهم، كما تقدم، مرارا، أعظم رزق أرسله الرب، جل وعلا، إلى أهل الأرض، فرسالاتهم معدن الأمن. وانتحال التوحيد، جوهر رسالتهم هو معدن السلامة في الأولى والآخرة: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 03 - 2010, 07:56 ص]ـ
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): فنادى في مقام الدعاء انتصارا لنفسه بالإنجاء، وجاء بيانه في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ}، ففاء التعقيب مئنة من الفورية فجاءت الإجابة عقيب الدعاء وذلك مئنة من كمال العناية بنوح، عليه السلام، فجاء فتح أبواب السماء، بماء المطر المنهمر، وأضيف الفعل في معرض الانتصار للرسل عليهم السلام من أقوامهم، إلى ضمير الفاعلين فذلك أليق بموضع الإنجاء للرسل عليهم السلام والإهلاك لأقوامهم فهو موضع جمال بالنسبة للرسل فناسبه التعظيم فهو مئنة، كما تقدم، من كمال
(يُتْبَعُ)
(/)
العناية بهم، وهو في نفس الوقت: موضع جلال بإهلاك أعداء الرسالات، فذلك، أيضا، مما يناسبه التعظيم، وكذلك القول في آية الأنبياء فمقام الاستجابة والإنجاء، من مقامات العناية بالرسل، فيناسبها، أيضا، التعظيم، وقد جاء فعل الإنجاء مضعفا فزيادة مبناه مئنة من زيادة معناه كما اطرد في مثل هذه المواضع، كقوله تعالى في مقام الامتنان على بني إسرائيل: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)، فجاء الفعل مضعفا إشارة إلى ما جرى لهم تحت سلطان فرعون من العذاب الذي تكرر طيلة سنين الاستعباد، بخلاف إنجاءهم في آخر المطاف كرامة للكليم عليه السلام: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، فإن إنجاءهم بإغراق فرعون قد وقع مرة واحدة لا غير فناسبه من جهة التكرار: المبنى الأقل إشارة إلى المعنى الأقل من جهة تكراره وإلا فهو أعظم معنى من جهة إعجازه فهو من الآيات الكونيات الباهرة التي نصر الله، عز وجل، بها كليمه عليه السلام.
فما تقدم بيان ندائه عليه السلام في معرض الانتصار لنفسه، وأما بيان ندائه في معرض الانتصار من قومه فقد جاء في نحو قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26 - 27]، فهذان بيانان لمجمل النداء في آية الأنبياء، كما أشار إلى ذلك صاحب "الأضواء" رحمه الله، على ما اطرد من طريقته البديعة في بيان مجمل التنزيل بالتنزيل كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا فهو مئنة من كمال استقراء المصنف، رحمه الله، للكتاب العزيز، واستحضاره لآياته ومعانيها على وجه حصل به ذلك الفضل الكبير من الرب، جل وعلا، عليه بتصنيف هذا السفر العظيم.
واكتملت المنة الربانية بإنجاء أهله معه، فالمضاف إلى الضمير من صيغ العموم فنجوا جميعا، إلا ابنه الذي آوى إلى الجبل لما فسد تصوره بعناده فظن أن الجبل المخلوق يعصمه من عذاب الخالق، عز وجل، فـ: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)، فلا معصوم على القول بتبادل الصيغ، كما ذكر البلاغيون في هذا الموضع، فنفي العاصم نفي للمعصوم من باب أولى، فنفى السبب المنجي إمعانا في نفي المسبَّب، وهو من يباشر سبب النجاة لينجو، فإذا كان لا سبب منج فلا ناج بداهة، وعلى هذا القول يستند نافي مجاز التعلق الاشتقاقي في هذا الموضع، إذ نفي السبب وإرادة انتفاء ما يترتب عليه مما استعملته العرب في لسانها فلا حاجة إلى تكلف المجاز، وذلك جار على ما تقدم مرارا من استناد من نفى المجاز على هذا المستند فيرد كل تركيب إلى لسان العرب دون نظر إلى دلالات الألفاظ المعجمية فما تكلمت به العرب وجرت به ألسنتها فهو حقيقة وإن جاء على خلاف الدلالات المعجمية للألفاظ المفردة فإنه يستفاد من التركيب ما لا يستفاد من الإفراد، فقد تستعمل الألفاظ في غير ما وضعت له معجميا، قد تستعمل في تركيب تكون دلالته على معناه بمقتضى لسان العرب: دلالة حقيقية لا مجازية، والشاهد أن ذلك آكد في بيان عموم ونفاذ الأمر الكوني بالعذاب، فالأمر في الآية كوني بداهة بقرينة عدم التخلف، فإن الأمر الكوني نافذ لا محالة فلا يتخلف ولا يتبدل بخلاف الأمر الشرعي الذي يقبل المعارضة والتحريف ولا يكون ذلك، كما تقدم مرارا، إلا بالأمر الكوني، فما أطاع طائع إلا بأمره الكوني، جل وعلا، فذلك من فضله، وما عصى عاص إلا بأمره الكوني، جل وعلا، أيضا، فذلك من عدله، فالعباد دائرون بين الفضل والعدل.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن هذا العموم قد خص بالنفي في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، فذلك من التخصيص المنفصل، كما قرر الأصوليون، فجاء التخصيص في موضع آخر من التنزيل، فهو، أيضا، بمنزلة البيان لمجمل العموم في هذه الآية، فدلالة العموم ظنية ورد عليها المخصص فدلالته قطعية، والقطعي يقضي على الظني، كما اطرد في كلام الأصوليين، فهو، أيضا، جار على طريقة صاحب "الأضواء" رحمه الله في تفسير مجمل القرآن بمبينه.
فانقطع نسب الدم واتصل نسب الإيمان، فنجا مع نوح عليه السلام، أهله في الإيمان، وهلك ابنه في الدم، كما نجا بلال وسلمان، رضي الله عنهما، وهلك أبو لهب، مع عظم صلة الدم بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا نسب بين الله، عز وجل، وعباده إلا نسب الطاعة، فمن أطاع نجا وإن لم يكن شريفا بقياس أهل الدنيا فهو بطاعته شريف عند الرب، جل وعلا، ومن عصى هلك وإن كان شريفا بقياس أهل الدنيا فهو بمعصيته وضيع عند الرب، جل وعلا، ولا يرد على ذلك أن المنة لا تكتمل إلا بالعموم، فتخصيصها نوع تنغيص لا يلائم سياق العناية بالرسل، عليهم السلام، فإن المنة، كما تقدم في أكثر من موضع، تخصص لحق الرب، جل وعلا، ولا أعظم من حق التوحيد، فهو أعظم حقوق الرب، جل وعلا، على العبيد، فلما أشرك ابنه، خص من عموم المنة بالإنجاء وهلك مع من هلك، فالسنة الكونية والشرعية مطردة فلا نجاة إلا للرسل عليهم السلام وأتباعهم من المؤمنين، وإن لم يكونوا أقرباءهم، ولا هلاك إلا لأعداء الرسالات وإن كانوا أبناء الرسل، عليهم السلام، وأزواجهم، فإن زوج نوح قد استثنيت هي الأخرى من هذا العموم، كما في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)، فذلك مخصص منفصل ثان ورد على العام المخصوص أولا بإهلاك ابنه، فخرج هذان الفردان من العموم لتخلف الوصف المنجي فيهما وهو وصف الإيمان، وبقي العموم في شأن غيرهما محفوظا. فحق الرب، جل وعلا، كما تقدم، عظيم، فلا مجاملة فيه ولو لنبي كريم من أولي العزم عليهم السلام.
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ:
فذلك إطناب في صور العناية بنوح، عليه السلام، وذلك آكد في تقرير المنة الربانية عليه، فنصر، وذلك موعود الرب، جل وعلا، كما تقدم مرارا من قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فالفعل قد استتر فيه ضمير الفاعلين تعظيما يقتضيه السياق وأضيف الرسل إلى باعثهم، عز وجل، عناية بشأنهم، وعطف عليهم الذين آمنوا، فعله إنجاءهم معنى الإيمان، ولذلك جاء التعريف بالموصول تنبيها على علة الحكم، كما تقدم من انقطاع الأنساب إلا نسب الطاعة لرب الأرباب، جل وعلا، واستوعب التذييل ظرفي: الدنيا والآخرة، فذلك، أيضا، آكد في بيان المنة بعموم النصرة في الدارين، فضلا عن كونه احترازا مما قد يظن من ظهور أعداء الرسالات على أتباعها، في الحياة الدنيا، كما يظهر في زمن الهزائم، كزماننا، فيظن المقهور في لحظات الانكسار أن الرسالة قد دحرت، مع أن ظهور أعدائها عليها ظهور مؤقت لتمحيص قلوب أتباعها، ولكن الشدة مظنة ضعف النفس وسوء الظن بالرب، جل وعلا، وما أتي أتباع الرسالات، لو تدبروا إلا من قبل أنفسهم فسلط الله، عز وجل، عليهم أعدائهم، كما سلط أحقر البشر على الأمة الخاتمة في بيت المقدس خصوصا، وفي سائر أرجاء الأرض عموما، فهم يكيدون للموحدين ليل نهار في كل الأعصار والأمصار، لا سيما في زماننا، فجماعات الضغط الصهيونية تلعب دورا كبيرا في تأليب قوى النصارى الظاهرة في زماننا، فتحرضهم على غزو ديار الإسلام، كما جرى في العراق، فإن غزوها أخذ لثأر قديم من أهلها الذين سبوا بني إسرائيل زمن ملوك بابل، فتؤلب القوى الظالمة لا سيما القوة الأمريكية
(يُتْبَعُ)
(/)
الغاشمة التي تمارس حق القوة في قهر من يخالفها: دينا أو فكرا أو سياسة، فهي تسعى إلى فرض تصورها المشوه الذي لا يستند إلى نبوة صحيحة، بل لا يستند إلى نبوة ابتداء، ففيه من الظلم الذي هو الكفر، فهو أعظم شعبه فيروج للردة الصريحة في بلاد المسلمين بمباركة وحماية غربية فكثير من المرتدين والكفار الأصليين الذين ينعتهم المتخاذلون بالإخوة في الوطن!، وهم خونة بكل المقاييس شرعية كانت أو وضعية، فكثير من أولئك قد فروا إلى بلاد الغرب ليتخذوها قواعد لضرب الإسلام وأهله، فسب وطعن في الملة ونبيها صلى الله عليه وسلم، وتحريض لأولئك على غزو ديار الإسلام لتحريرها من الأصولية الإسلامية فهي الخطر الأعظم الآن على السلم العالمي، الذي ظهرت أعلامه في أرض الرافدين بعد معركة التحرير الأخيرة! فذلك هو السلم المنشود، وفيه من الظلم للمجتمعات بإفساد أخلاقها بإشاعة الفواحش ما يظهر أثره في السلوكيات الشاذة التي تحظى بدعم وتأييد جماعات الضغط من الشواذ في أمم قد فقدت جزءا كبيرا من إنسانيتها بل من حيوانيتها، فكثير من الحيوانات أصح مسلكا بمقتضى فطرتها الأولى من أولئك، وفيه من الظلم بممارسة القهر السياسي على بلاد المسلمين لإخضاع قرارها ومصادرته لمصلحة الدولة اللقيطة رأس الحربة المتقدم لطعن وتمزيق العالم الإسلامي بشقيه الشرقي والغربي، فزرع ذلك الميكروب الفاتك بينهما، وفيه من الظلم بسرقة ثروات الغير، ولو كانوا غير مسلمين كما يجري في دول القارة السمراء، فمنها دول غير إسلامية تنهب كما تنهب سائر ديار الإسلام، ودولة الكونغو الديمقراطية أو "زائير" سابقا خير شاهد على ذلك فهي من أكبر دول القارة مساحة وثروات فتكاد تشكل لمن تأمل خريطة إفريقية: مركز القارة الذي يربط شمالها بجنوبها وهي مع ذلك من أقل الدول الإفريقية من جهة عدد المسلمين، ولم يشفع لأهلها كونهم على النصرانية عند القوى العظمى العالمية التي تناوبت الاحتلال وتنصيب العملاء عليها فمن عميل للرأسمالية زمن الستينات دفن بعد ذلك طريدا شريدا في المغرب بعد أن انتهى دوره، إلى عميل جديد قتله وزير دفاعه مؤخرا، والغرب يتدثر بالنصرانية عند مواجهته للإسلام، ليجتذب ضعاف العقول برسم الحرب المقدسة، وهو في حقيقته علماني ملحد لا يعرف الدين إلا عند تجييش الجيوش لظلم البشر عموما والمسلمين خصوصا، وساسته ورجال دينه المتسلطون على عقول أتباعهم بالخرافات سواء في الغرب أو الشرق، كما هو الحال عندنا في مصر، لا يعنيهم إلا الحفاظ على مكاسبهم ورياساتهم ولو بإضلال أمم بأكملها، فالنصرانية رداء ممزق لمن تأمله يستر به القوم عوراتهم الفكرية القبيحة، والشاهد أنه تصور ظالم من كل وجه، فلا يرجو منه عاقل ما يرجو من عدل النبوات، فشتان المصدر والمنهج.
والشاهد أن الرب، جل وعلا، قد نصرهم، على جهة التعظيم، مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا: فالانتصار منهم أبلغ من الانتصار عليهم، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فضمن فعل الانتصار معنى: المنعة والحماية، فاجتمعت له الدلالتان: الدلالة الوضعية التي تفيد المدافعة والمبالغة، والدلالة الإضافية التي ضمنها الفعل بتعديته بـ: "من"، فهي تفيد كمال العناية والحماية لهم، فهو معنى زائد على مجرد المدافعة.
ثم جاء التذييل بعلة ذلك الانتصار والظهور على ما اطرد من التذييل المصدر بالتوكيد على جهة الفصل فلا وصل بعاطف لعلاقة شبه كمال الاتصال بين المعلول وعلته، وهي علاقة وثيقة تغني عن الوصل بعاطف، فعله ذلك:
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ: فوصفوا بالمصدر مبالغة في بيان جرمهم الذي استحقوا به عقوبة الإغراق التي عطفت بالفاء فهي مئنة من الفورية، وإن تأخر العذاب، فالفورية لا تستلزم وقوع الفعل حالا، وإنما ذلك من قبيل: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، فمهما طال زمان السلامة للكافر فإنه ساعة نزول العقوبة المستأصلة يذهل عن أزمنة السلامة المتطاولة التي أمهلها عله يرجع، بمقتضى سنة الإمهال الربانية، فتصير العقوبة وكأنها قد نزلت فور صدور التكذيب منه بلا أي زمان فاصل، وهي أيضا مئنة من السببية، فلا تخلو فاء عاطفة من ذلك، وإن لم تكن نصا فيه كفاء السببية القياسية التي حد النحاة شروطها وعملها بالنصب عقيب الطلب بنهي أو استفهام ...... إلخ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ: فجاء فعل العقوبة، أيضا، كما اطرد في السياق مسندا إلى ضمير الفاعلين فهو من مواضع الجلال بإهلاك أعداء الرسالات فناسبه التعظيم إمعانا في بيان عظم قدر صفات الجلال الربانية، وجاء التعميم فهو، جار، أيضا، مجرى التعظيم والترهيب من مصيرهم، فالخطاب قد توجه لقريش، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، في معرض الوعيد، والوعيد معنى عام قد علق على أسباب بمقتضى السنن الكونية والشرعية المحكمة، فمن تحققت فيه أسبابه، كقوم نوح، تحقق فيه الوعيد وإن اختلفت أنواعه، فالعذاب الرباني قد تنوع تبعا لحال الأمم المكذبة، فذلك، أيضا، مئنة من نفاذ القدرة وعظم الحكمة الربانية فلكل أمة شرع يلائمها، ولكل أمة عقاب، يلائمها، أيضا، إن سلكت غير سبيل الجادة: جادة النبوات المنجية لسالكها في الدارين. فوجب على قريش في كل عصر أن تحذر من تكذيب خبر الرسالة، فإن الاستئصال في الدنيا والعذاب المؤبد في الآخرة مصير كل مكذب للنبوة، سواء أكان كافرا أصليا أو مرتدا أو منافقا مستترا كحال كثير من العلمانيين في زماننا والله أعلم بالسرائر التي صار كثير منها علنا فلا حياء عند كثير منهم في إظهار الطعن في الإسلام ونبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورموزه من الصدر الأول، رضي الله عنهم، العلماء والقادة والعباد ..... إلخ.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 03 - 2010, 08:04 ص]ـ
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ):
فذلك من أوجه العناية بداود وابنه سليمان، عليهما السلام، فأفردا بالذكر، فهما ممن أوتي النبوة والملك معا، فكان ملكهما ملك الرحمة، برسم النبوة، لا الجور، فإن النبوة معدن العدل فلا تجتمع مع الجور بداهة، وكذلك الشأن فيمن سار على منهاجها، فخلافة النبوة أعدل خلافة، ولذلك كانت خلافة الأربعة، رضي الله عنهم، أعدل خلافة في الدنيا، فقد كانوا على منهاج النبوة سائرين بل مقتفين متحرين، فاستحقوا التخصيص بسنة تقارن السنة النبوية في حجيتها، بنص كلام صاحب السنة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"، فسنتهم من سنته، وذلك أصل في الاستدلال، كما بينه أهل الاصطلاح والفقه، فتلحق سنتهم بسنته للنص على ذلك، فمستند حجيتها من سنته القولية، إذ نص على وجوب اتباع سنتهم على جهة الوجوب بقرينة ورود الأمر باسم الفعل الدال على اللزوم والالتصاق، فعليكم: على تقدير الزموا والتصقوا مئنة من كمال التحري لها، وذلك بخلاف سنن الجور التي فشت في ممالك الدنيا التي تسير على غير منهاج النبوة، وإن انتسبت إليها، كحال كثير من ممالك الشرق المسلم في زماننا، فهي عن أحكام النبوة معرضة، ولها جافية، مع ادعائها اتباع النبي الخاتم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتلك دعوى برهانها: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فصدق الاتباع يلزم منه كمال التسليم والانقياد لخبر النبوة تصديقا ولحكمها امتثالا، وإلا كانت دعوى قولية بلا برهان عملي، والأعمال شاهد العدل للأقوال.
فخص الملكان النبيان، عليهما السلام، الممكنان برسم الوحي نبوة والسيف ملكا، فذلك أكمل أحوال الممالك فوحي يهدي وسيف يحمي ويردع، فالحق، كما ذكر المحققون من أهل العلم، لا يكون إلا بالكتاب الهادي استدلالا، والسيف الناصر، فبه يذب عن الحق دفعا، وبه يبث في الأمم طلبا، ولكل زمان فقهه، فالنبوة قد استغرقت سائر أحوال المكلفين من استضعاف أو تمكين، من خفاء أو ظهور، والرشاد إنما يكون بمعرفة واجب الوقت، فلكل وقت حكمه، ولكل نازلة نظر شرعي، ولا يكون ذلك إلا بترسيخ القدم في طريق طلب علم النبوات، فهو العاصم من الفتن لا سيما في زمن الانحسار الذي تذهل فيه العقول عن حقائق الديانة فتتزلزل أركان الإيمان في القلب بتتابع النوازل الكونية، وهو العاصم من الظلم والبغي في زمن الانتشار، إذ يكون سيف الشريعة هو الظاهر، فإن لم تلجم النفس، والبغي والعدوان جبلة فيها، إن لم تلجم بلجام الشرع بغت وظلمت، ولذلك كان من كمال وصف الصدر الأول، رضي الله عنهم، أنهم غُلبوا فما جزعوا وغَلبوا فما بطروا، فكانوا عدولا في الشدة وفي الرخاء، لم تذهلهم النوائب، ولم يطغهم الظهور على عدوهم، فأمن جانبهم حال الضعف وحال القوة، فصبر عن الجزع حال الضعف فـ: "نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ
(يُتْبَعُ)
(/)
وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، وصبر عن الظلم والبغي حال القوة فـ: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء". وتلك هي النبوة وكفى!، فلا وصف ثناء في حق البشر يفوقها، فأشرف ما وصف به بشر: وصف النبي فهو اسم جامع لأجناس العبودية والانقياد لرب العباد جل وعلا، ولذلك كانوا جميعا على رسم العبودية الاختيارية: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)، و: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، و: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).
وخص ذكرهما بالظرفية الماضية التي دلت عليها: "إذ"، ولا تخلو من معنى تعليل، إذ ناسب ذكرهم في معرض الثناء وقوع تلك الحادثة الغريبة التي ظهرت فيها حكمتهم في فصل الخطاب، فذلك سبب وجيه لإفرادهما بالذكر عناية بشأنهما إذ كان حكمهما من السداد بمكان فهو حكم قضاة برسم النبوة، فأنى يجانبهم الصواب؟!.
وذيلت الآية بمزيد عناية بشهود الرب، جل وعلا، بعلمه المحيط لحكمهما، فذلك مئنة من كمال التسديد.
وبهذه الآية، وهي كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، أصل في باب الاجتهاد الذي أفرده الأصوليون بالتبويب، بهذه الآية استدل على جواز اجتهاد النبي فيما لم يوح إليه في أمره شيء، فإن اجتهاد النبي معصوم إذ لا يقره الوحي على خلاف الأولى، كما تقدم بيان طرف منه في واقعة أسرى بدر، وهي، أيضا، أصل في هذا الشأن، فيجتهد النبي فإن أقره الوحي نصا أو سكوتا فذلك دليل إصابة الأولى، فالسكوت في موضع البيان: بيان، كما قرر الأصوليون، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان الحكم خلاف الأولى لنبه الوحي على ذلك لقرينة عصمة الأنبياء عليهم السلام، وذلك أمر مطرد في كل النبوات السابقة، ويزيد عليه في نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم قرينة عصمة أمته من الإجماع على باطل فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فلو اجتمعت على ضلالة، ودينها الدين الخاتم فلا رسالة بعده لتبين الحق إن درست آثاره، فلو اجتمعت على باطل والحال كذلك، لبطلت الحجة الرسالية على عموم البرية من لدن بعث صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإلى أن تقوم الساعة، وتلك حجة عقلية دامغة على صدق نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه لو كان كذابا أو مدعيا لما لم يوح به إليه، حاشاه عليه الصلاة والسلام، لافتضح أمره وانكشف، ولو بعد حين، كما وقع لسائر الكذابين، فأمرهم إلى افتضاح، وإن ذاع صيتهم حينا، فما ذلك إلا ابتلاء وتمحيص لقلوب أتباع الرسالة الخاتمة فمنهم من في قلبه مادة كفر ونفاق تظهر من القوة إلى الفعل بتلك الفتن، فـ: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، وهذا أصل في كل بلاء ينزل بالأمة الخاتمة من لدن بدأ ظهور الفتن بانكسار قفلها: المحدث الملهم: عمر الفاروق، رضي الله عنه، فلما انهار السد المانع من الفتن الحاجز لها بتقدير الرب، جل وعلا، تكالب أعداء الرسالة الخاتمة على هدمه، لما انهار بمقتل الفاروق شهيدا على يد أبي لؤلؤة الفارسي المجوسي الحاقد على مطفئ نيران آبائه بسيل التوحيد الجارف، لما انهار ذلك السد المنيع بدأ ظهور الفتن على استحياء في آخر خلافة عثمان، رضي الله عنه، ثم أطلت برأسها فظهرت أول فتنة عظيمة بقتل الراشد الثالث، رضي الله عنه، ثم توالت الفتن إلى يومنا هذا، فمن فتنة إلى أخرى حتى يخرج الدجال آخر الفتن وأعظمها، والشاهد أن ظهور أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ودحض حجته لكل شبهة فلا زالت رسالة الإسلام إلى يومنا وإلى أن يرث الله، عز وجل، الأرض ومن عليها: لا زالت سالمة من المعارضة فهي ظاهرة برسم الحجة الدامغة والبرهان القاطع، وإن ظهر عليها عدوها حينا بالسيف والسنان، فهو ظهور مؤقت مآله إلى الزوال ولو بعد حين، وذلك من عناية الرب، جل وعلا، بالأمة الخاتمة، فلا يسلمها إلى عدوها ليستبيح بيضتها وإن استباح فئاما منها، فذلك لازم التربية الشرعية بتوالي النوازل الكونية تمحيصا
(يُتْبَعُ)
(/)
وتطهيرا للقلوب بنفي خبثها بكير الابتلاء، فكل ذلك مئنة من صدق رسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل ما ساد أتباعها إلا بالتزام أحكامها، فمتى أقاموا النبوة أقاموا الملك، فهما قرينان متلازمان من جنس التلازم بين نبوة وملك داود وسليمان، عليهما السلام، ومتى أعرضوا عنها انهدم ملكهم فصاروا شراذم مستضعفين، بل سلط الله، عز وجل، عليهم، كما في زماننا، أخس العالمين، يهود، معدن الذلة والمسكنة، فصاروا عليهم أعزة، فمتى راجعوا النبوة عادت إليهم العزة المفقودة فـ: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". فكيف لا تكون نبوة صادقة، ولها من البراهين العقلية والحسية هذا القدر، والتاريخ شاهد عدل فإنه متى قامت هذه النبوة ساد الأمن برحمتها، فأمن البلاد والعباد إنما يكون بقدر ما فيها من النبوة، فالمصر الذي يكون فيه ظهور النبوة أكبر، يكون الاستقرار والأمن فيه أكبر، والعكس صحيح، فالأمر مطرد منعكس، وذلك، كما تقدم، مئنة من صدق هذه الرسالة التي بعث صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم برسم الرحمة فـ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وفي الآية أيضا دليل على تفاوت المجتهدين، فقد يفهم أحدهم ما لا يفهمه غيره، وإن كان غيره أفضل منه، فداود، عليه السلام، أفضل من ابنه، ومع ذلك، فَهَّمَ، الله، عز وجل، الابن، بصيغة التضعيف الدالة على الزيادة في المبنى بنسبة أصل الفعل إلى سليمان عليه السلام على سبيل المبالغة، في معرض الترجيج بين حكمه وحكم أبيه، فحكمه أسد، وإن كان لحكم أبيه، قدر من السداد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ففهم سليمان ما لم يفهمه داود، وفي ذلك، أيضا، دليل لأصل الترجيح بين الأدلة المتعارضة، فإن الدليلين قد يكون كلاهما صحيحا، ولكن لأحدهما قدرا زائدا من الصحة يرجحه على الآخر، وأوجه الصحة، كما قرر الأصوليون، تتفاوت إسنادا ومتنا، وهذا مبحث جليل الوصف والقدر أفرده بعض أهل العلم بالتصنيف، وكتب الترجيح بين مختلف الحديث بيان عملي لهذا العلم الجليل.
وفي الآية، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، دليل على عذر المجتهد، إذا اجتهد فأخطأ، أو أصاب خلاف الأولى، كما في هذه الواقعة، فكلاهما قد أصاب، لكن حكم سليمان، عليه السلام، كان، كما تقدم: أصوب.
ثم جاء التذييل في معرض الاحتراز مما قد يرد على الأذهان من خطأ داود، عليه السلام، في الحكم، وهو النبي المعصوم، فـ: كُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا: فامتن الله، عز وجل، عليهما بالنبوة فهي الحكم، والعلم فبه يقضون بين الناس، وعطفه على النبوة من باب عطف التلازم، فالعلم لازم النبوة بداهة، فلا نبوة بلا علم، بل إن العلم بأشرف أجناس العلم: علم التوحيد هو خلاصتها فـ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
ثم جاء الإطناب بذكر أوجه من العناية الكونية بداود، عليه السلام، ابتداء: فـ: سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ: فأسند فعل التسخير إلى ضمير الفاعلين، على ما تكرر مرارا في مثل هذه المواضع من مناسبتها للتعظيم فهي آيات كونية خارقة امتن بها الرب، جل وعلا، على أنبيائه، عليهم السلام، تكريما، كما في هذه الآية، أو تثبيتا، في معرض التحدي لمنكري النبوات.
فسخر جنس الجبال، وذلك آكد في بيان عموم المنة، ولذلك قد يحسن إعراب الجملة بعدها: صفة لا حالا بالنظر إلى معنى الجنسية فهو مظنة الشيوع الذي تدل عليه النكرة، فيكون ذلك من قبيل ما قال النحاة في نحو:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ******* فمضيت عنه وقلت لا يعنيني.
فأعربت جملة: "يسبني": صفة للمعرف بـ: "أل" الجنسية لمظنة الشيوع الذي ينزل منزلة النكرة فليس المراد به لئيما بعينه، بل المراد جنس اللئام فهو نكرة من هذا الوجه والجملة بعد النكرات: صفات، كما قرر النحاة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وكذلك سخر جنس الطير ليسبح مع الجبال، فكان الرب، جل وعلا، بمشيئته العامة، فاعلا لهذا التسخير فالتذييل بذلك من باب التوكيد على تمام عنايته بداود، عليه السلام، فشاء إكرامه بهذه الآية الكونية الباهرة. فذلك من الإكرام بالسبب غير المعتاد.
وفي معرض العناية بالسبب المعتاد: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ، على ما اطرد من دلالة التعظيم على تمام العناية به، فعلمناه صنعة لبوس لكم، فذلك من الامتنان على المخاطبين، إذ توارثت الأمم هذه الصنعة التي تقي المقاتل ضربات العدو، فاللبوس، قد صار حقيقة عرفية مشتهرة في لأمة الحرب دون غيرها من جنس اللبوس، وإن كانت حقيقتها اللغوية باعتبار دلالتها المعجمية المطلقة تدل على عموم أجناس اللبوس التي يرتديها الإنسان، والحقيقة العرفية المقيدة مقدمة على الحقيقة اللغوية المطلقة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة.
فذلك من الامتنان بعطاء التعليم، وهو من عطاء الربوبية فناسب ذلك التذييل بلازم ذلك من الشكر، فهو واجب الألوهية: شكرا لعطاء الربوبية، على ما تقدم مرارا.
وجاء الأمر بالشكر بصيغة الاستفهام، ففيه مزيد حض لا يوجد في الأمر المجرد، ودخول "هل" على الجملة الاسمية، والأصل فيها دخولها على الفعلية لدلالتها التصديقية والغالب فيها نسبة الفعل إلى الفاعل إثباتا أو نفيا، فذلك التصديق الذي يسبق التصور كما في: هل جاء زيد، فلم يثبت الفعل ابتداء لينتقل الذهن إلى مرحلة التصور التالية للتصديق، فلما جاء السياق بخلاف الأصل فتلا الاسم "هل" كان ذلك مئنة من التوكيد لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والاستمرار، كما قرر ذلك، صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وأشار إليه صاحب "جواهر البلاغة" رحمه الله، في معرض بيان أغراض الاستفهام بـ: "هل" فهو يفيد التوكيد على الأمر بإيراده مورد الحض على تأويل: اشكروا الله، عز وجل، بإفراده بالألوهية على تلك النعمة فهي من نعم الربوبية السابغة، وذلك من جنس الاستفهام في نحو قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، فتقديره: انتهوا.
ثم جاءت صور العناية بسليمان عليه السلام فمن كراماته:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ:
فسخر الرب، جل وعلا، الريح لسليمان عليه السلام فجريانها بأمره الذي لا يخرج عن الأمر الكوني النافذ، ولا عن الأمر الشرعي الحاكم، في هذا الموضع بعينه، فأمره، كما تقدم، أمر نبوة، والنبوة لا تأمر إلا برسم الحق والعدل لمكان العصمة.
وقد بين إجمال تلك الريح بوصفها بالقوة في هذا الموضع، وزيد في البيان في مواضع أخر من التنزيل كقوله تعالى: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر}، فبين الإجمال في الزمان، و: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب}، فوصفها باللين، فهي قوية حينا لينة حينا لاختلاف الأحوال كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهو جار على ما تقدم مرارا من استقراء آي التنزيل وتتبع موارد البيان لما أجمل في موضع سواء أكان الإجمال كليا أم جزئيا كما في هذا الموضع، فقد وقع البيان الجزئي بوصفها بالقوة، وزيد فيه في موضع بذكر الزمان، وفي ثالث بذكر وصف آخر يضاد القوة وهو اللين لتعدد الأغراض فتارة يكون اللين هو الأنسب، كسير الفلك في البحر، وتارة تكون القوة هي الأنسب، كجلب الأرزاق ونحوه.
ثم أطنب في بيان معجزة أخرى انفرد بها سليمان عليه السلام، فهي من بيان إجمال الملك في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
(يُتْبَعُ)
(/)
فكان من تمام هذا الملك تسخير الشياطين له، مع ما قد علم من عصيانها وتمردها، فيغوصون له فذلك بيان إجمال تسخيرهم له، فهو خاص أتبع بالعموم: (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ)، فالعطف في هذا الموضع من: عطف العام على الخاص، والعام، كما قرر الأصوليون: مجمل فجاء بيانه في موضع آخر من التنزيل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، هو قوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات}.
وزيد في المنة بالتذييل بقوله تعالى: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)، فيحتمل الحفظ معنيين: حفظهم من التفلت والعصيان فذلك من تمام تسخيرهم له، وحفظ الناس من أذاهم، ولا مانع من الجمع بين المعنيين لعدم التعارض، بل الجمع بينهما آكد في تقرير معنى العناية به عليه السلام.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 03 - 2010, 08:22 ص]ـ
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)
فأيوب، عليه السلام، قد صار مضرب المثل في الصبر، فأفرد بالذكر تكريما له على ما كان منه من صبر وجلد برسم الاحتساب فكان صابرا مختارا برسم الآدمية بل النبوة أشرف المنازل الآدمية، لا صابرا مضطرا برسم الحيوانية التي يظهر صاحبها السخط والضجر فصبره كلا صبر، بل هو عين ضده من الجزع، والمسدد من ألهم السير على طريقة أيوب، عليه السلام، حال نزول المصيبة الكونية، ولا يكون ذلك إلا بتسديد الرب، جل وعلا، فيسدد العبد إلى استحضار معاني الشكر حال السعة، مع توطين النفس على الصبر حال نزول الشدة، مع سؤال الله، عز وجل، السلامة منها ابتداء، فإن الهمم تتفاوت حلا وعقدا، فما أدرى الإنسان إن تقصد التعرض إلى الابتلاء برسم من وكل إلى نفسه لإظهاره، ولو بلسان الحال، الاستغناء عن تسديد وتثبيت الرب، جل وعلا، فذلك مئنة من العجب والركون إلى النفس، ومن ركن إليها فلم يسأل الرب، جل وعلا، المدد لها بالتثبيت حال الشدة، فظن أنه ناج بنفسه، فهو هالك لا محالة، فإنه لا غنى لأحد عن المدد الشرعي فبه الأمر والنهي المصلح لأمر الدين والدنيا، ولا غنى له عن المدد الكوني فبه يرزق في السعة ويثبت في الشدة إن كان مسددا ألهم الصبر فلم يجزع، فالعبد مفتقر إلى ربه، جل وعلا، في كل شأن ديني ودنيوي، وإنما يظهر الافتقار أبلغ ما يظهر، ساعة وقوع النوازل الكونية لا سيما النوازل العامة التي يجد كل منا أثرها في حياته، ولو جزئيا، وما أكثرها في زماننا، فنوازل محلية في الأمصار، من تضييق في أمر الديانة، وضيق في أمر الدنيا والمعاش هو العقوبة الكونية العادلة للتفريط في أمر الدين، فمن فرط في دينه، بل احتقره بلسان الحال، وربما بلسان المقال في أحيان كثيرة، حتى صار تسفيه أمر الديانة والحط من شأن أهلها، والسعي في إيذائهم .... إلخ من صور الحرب لله ورسوله، حتى صار ذلك تصورا عاما، فالعقوبة الكونية بالتضييق في أمر الدنيا نازلة لا محالة، فتلك سنة كونية جارية، فمتى بدل العباد بدل رب العباد، جل وعلا، فـ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وذلك أمر مطرد منعكس، فإن غيروا إلى الأسوأ غير الله، عز وجل، فضيق عليهم جزاء وفاقا، بل إن ذلك عند التدبر والنظر من صور إنعامه عليهم أن ذكرهم بالشدة به، ليرجعوا إلى الجادة ولو شاء لجعلهم من أهل: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)، وإن غيروا إلى الأحسن، غير الله، عز وجل، بالسعة والتمكين، فـ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
(يُتْبَعُ)
(/)
ونوازل عامة كاستباحة بيضة الإسلام في بعض الأمصار، وكانتهاك المقدسات والتربص بها، كما يجري الآن في بيت المقدس، فتسلط أحقر الخلق على البيت المقدس عقوبة عامة بالذل والمهانة للجماعة المسلمة التي فرطت في أمر الديانة، وهو، أيضا، من وجه آخر، خير إن كان باعثا على الرجوع إلى الجادة فتلك أعظم ثمار النوازل العامة.
والشاهد أن أيوب، عليه السلام، قد أفرد بالذكر في حال النداء أو بسببه، كما تقدم من دلالة: "إذ" في مثل هذا الموضع، وكلاهما صحيح فذكر في أكمل أحواله في معرض الثناء عليه، وسبب إفراده بالذكر ما كان منه من صبر ورضا، رفع الله، عز وجل، به ذكره، وأعلى من شأنه، فصار، كما تقدم، مضرب المثل في الصبر.
وجاء النداء مجملا عقب ببيانه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وفي إتيانه بلفظ المس، وهو مئنة من الخفة، تأدب مع الرب، جل وعلا، هو اللائق بكمال حال الأنبياء، عليهم السلام، فالنبوة تعصم صاحبها من سوء الأدب، مع الرب، جل وعلا، فذلك أمر غير متصور من آحاد الصالحين فكيف بخير خلق الله من الرسل والنبيين عليهم السلام، فأين ذلك مما أقحمته يهود: وهم أعرق الأمم تحريفا للوحي، أين ذلك مما كتبته أيديهم الآثمة من أقوال وأفعال للأنبياء عليهم السلام فيها من سوء الأدب مع الله، عز وجل، ما لا يكاد يصدر من أكفر وأفجر الخلق، فضلا عن أعظمهم إيمانا وأتقاهم للرب، جل وعلا، فشأنهم في ذلك ما اعتيد منهم من التحقير من شأن النبوة بنسبة الأنبياء عليهم السلام إلى فاحش القول والفعل الذي يتنزه عنه آحاد البشر، ولو لم يكن مؤمنا بالنبوة، فهي فواحش تنبوا عن ذكرها الأسماع، وعن فعلها الفطر السليمة، ولو كان أصحابها على غير دين التوحيد، فمن في قلبه بقية أثر من الفطرة الأولى، ولو طرأ عليها من التبديل ما طرأ، لا بد أن تشمئز نفسه من نسبة تلك الأفعال إلى من يفترض فيهم أنهم صفوة البشر، بل هم كذلك بالفعل، حتى عند مخالفيهم، فما أنكروا عليهم خُلُقا، بل كانوا أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة قبل مبعثهم، فنعت صالح بقولهم: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا)، على قول ذكره البغوي رحمه الله في تفسيره، ونعت صلى الله عليه وعلى آله وسلم بـ: "الصادق الأمين"، وأقر أبو جهل في إنصاف عجيب يفتقر إليه كثير من أهل زماننا من أعداء النبوات!، أقر بصدق النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأقر به أبو سفيان، رضي الله عنه، وهو لما يؤمن، كما في حديث هرقل، بل وأقر به هرقل نفسه، فما كان لنبي أن يدع الكذب على العباد ليكذب على رب العباد، فذلك باطل بقياس الأولى، فإن من تورع عن الأدنى قبحا صيانة لنفسه من دنس النقائص تورع عن الأعلى بداهة، وإنما صد من صد عن اتباع الأنبياء عليهم السلام لحظ نفس عارض تمكن من قلوبهم فصدهم عن اتباع الحق الذي سلبهم إياه، فالنبوة تسلب من أصحاب السلطان سلطانهم لترد الأمر إلى رب الأرباب، جل وعلا، فلا يكون الملك فيها إلا على رسم الإيمان لا على رسم الطغيان الذي يمارسه أعداء النبوات في كل زمان، ففسد تصورهم العلمي بتقديم العاجل الفاني، وهو حقير، على الآجل الباقي، وهو عظيم، بل لهم منه أثر عاجل في الدنيا لو تمهلوا فلم يستعجلوا حظ النفس، فإن اتباع النبوة مئنة من السعة في الأولى والآخرة، وإن كان ثم تضييق في أول الأمر فهو من التمحيص العارض فمآله إلى الزوال، ولو بعد حين، ليأتي الفرج عقيب الكرب، والسعة عقيب الضيق، فينسى المرء ما قد لحقه من الألم، كما ينسى أتعس أهل الأرض من أهل الجنة ما مسه من الآلام في دار الابتلاء إذا غمس غمسة واحدة في النعيم، فلذلك نظير في الدنيا يجده من ابتلي فصبر حتى جاء الفرج، فهذه من تلك، وإن اختلف القدر، فلا يعادل قدر السعة في الدنيا قدرها في الآخرة بداهة إذ الدنيا دار قد طبعت على الكدر فلا تخلو من الهم والنصب، بخلاف الدار الآخرة فهي دار النعيم الخالص من الأكدار السالم من الأغيار، فنعيم مقيم لا ينقطع قد بلغ الغاية في الوصف والقدر.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن أيوب عليه السلام قد نادى بالتعريض دون التصريح تأدبا مع الرب الجليل، تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فـ: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، و: "أل" في الضر جنسية لبيان الماهية، فمسه الضر وهو في النفس بالمرض وفي الأهل بالهلاك وفي المال بالتلف، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالعموم فيه معتبر من جهة شموله معاني الضر فقد ناله الضر في النفس والأهل والمال، وإن لم يكن استغراقيا من جهة شموله سائر صور الضرر الأخرى فلم ينزل به، عليه السلام، كل ضر في هذا الكون بداهة!، وقد تحمل: "أل" فيه على العهدية فقد مسه ضر معهود هو الضر الذي نزل به بعينه، فلسان ندائه: مسني الضر الذي أنت به أعلم وأنت أرحم الراحمين، فذلك من التذييل بفحوى الدعاء دون لفظه، فالثناء على الكريم في معرض الطلب مغن عن الطلب فالكريم يعطي من يتعرض لسؤاله وإن لم يصرح، وذلك في مقام طلب رفع الابتلاء الكوني أبلغ، ففيه نوع احتراز مما قد يتوهم من الجزع وقلة الصبر، فهو دعاء برسم الرضا والتسليم لقدر الرب الرحيم جل وعلا.
ثم جاء جواب النداء من الرب السميع تبارك وتعالى، فسمع دعاء عبده أيوب، عليه السلام، سماع الرعاية والعناية، بذلك الصابر المرابط على ثغر الرضا طيلة سنوات الابتلاء، فأجيب على الفور الذي دلت عليه الفاء التعقيبية التي لا تخلو، كما تقدم في أكثر من موضع، من معنى السببية فالدعاء سبب الإجابة، فلا إجابة لغير دعاء بداهة، بل تستنزل الرحمات وتستدفع النقمات بالدعاء فهو سبب كل خير في الدين والدنيا، وهو من أعظم الأسباب الشرعية، فإن استفرغ المكلف وسعه في تحصيل الأسباب الكونية برسم التوكل، في أمر دين كجهاد، أو أمر دنيا كسعي في طلب المعاش، وشفع ذلك بالسبب الأعظم لحصول المرجو من الدعاء المشروع، كان ذلك آكد في حصول المرغوب على الوجه الذي يرضي الرب المعبود جل وعلا.
وزيد في مبنى الفعل: "فَاسْتَجَبْنَا"، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مئنة من كمال العناية بأيوب عليه السلام، فضلا عن إضافته إلى ضمير الفاعلين في سياق يقتضي التعظيم مئنة من كمال العناية به، عليه السلام، كما تقدم، وجاء بيان مجمل تلك الإجابة الربانية في المعطوف عليها فهو من عطف المبين على المجمل: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، فكشف الرب، جل وعلا، ما به من ضر، وذلك من وصف فعله، فهو الكاشف، على جهة الإخبار لا التسمية، لما يمس العباد من ضر في دين أو دنيا، فيكشف السوء عن العاصي بالتوبة، ويكشف السوء عن المبتلى بالعافية: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، فجاء التذكير بربوبيته، عز وجل، ربوبية الاعتناء بالمضطرين، ولو لم يكونوا مؤمنين، بكشف السوء عنهم، ثم جاء الأمر بلازم ذلك من وجوب إفراده بالألوهية لازم الربوبية، فالاستفهام يحمل معاني الإنكار والتوبيخ للمشركين لإتخاذهم إلها مع الله، عز وجل، وصور الآلة لا تنتهي ولذلك جاءت النكرة في سياق الاستفهام مئنة من العموم، كما قرر الأصوليون، ففيه الإنكار على كل من اتخذ مع الله، عز وجل، إلها سواء أكان بشرا أو حجرا أو شجرا، محسوسا كالآلهة المنحوتة أو معقولا كالأهواء والشرائع الموضوعة لمنازعة حكم الملك، جل وعلا، فيستفاد من ذلك التوبيخ الأمر بضد سببه لئلا ينال العبد منه نصيب، فسببه الشرك فيكون السياق دالا بمفهومه على الأمر بضد الشرك من كمال التوحيد العملي بقول العبد وفعله، وذلك، كما تقدم، يعم سائر أحواله من شعائر تعبدية وأحكام شرعية وسياسات ملوكية وأخلاق إنسانية ....... إلخ فالتوحيد معنى جامع لأجناس شتى من الطاعات التي قررتها النبوات بأبلغ وأوفى بيان فلم تدع لمستدل حاجة إلى ما سواها من أهواء أو أذواق البشر.
فكشف عز وجل، ما به من الضر في نفسه، والموصول: "ما" بإبهامه مئنة من عظم البلاء الذي نزل به، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مع صبره وتلطفه في السؤال حتى استحى أن يذكره بفعل الإصابة فاكتفى بفعل المس، كما تقدم، فجاء الموصول مبهما ثم عقب بـ: "من" البيانية الجنسية التي دخلت على الضر منكرا: "ضرا" فذلك، كما تقدم مئنة من عظمه، ونظيره في التنزيل قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، فسياق الامتنان بالنعمة يناسبه الإبهام ثم البيان عقيبه بـ: "من" البيانية التي دخلت على النكرة، وهي مظنة العموم، وذلك مئنة من عظم النعمة، وذلك، كما تقدم، مما يلائم سياق الامتنان والعناية بورود النعمة الربانية العظيمة، فكذلك الشأن هنا فالمنة والعناية تزداد بيانا بإيراد الضر المكشوف مورد التنكير فهو، كما تقدم، مظنة التعظيم، فتعظم المنة برفع البلاء العظيم، كما تعظم بحلول النعمة العظيمة.
والكشف قد ورد في هذا السياق مجملا، فبيانه في محل آخر من التنزيل: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، فعم الدواء ظاهره بالاغتسال وباطنه بالاحتساء، فحصل له من تمام العافية ما عم سائر أجزاء بدنه، وذلك، أيضا، من صور العناية الربانية الخاصة به عليه السلام.
وجاء الإطناب بالامتنان برد الأهل ومثلهم معه فذلك رحمة من الرب، جل وعلا، نكرت تعظيما، وهي مع ذلك: ذكرى، نكرت، أيضا، على جهة التعظيم للعابدين المنقادين برسم العبودية الاختيارية لرب الأرباب جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 03 - 2010, 08:29 ص]ـ
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ):
فعطف ذكر أولئك الثلاثة، عليهم السلام، على ذكر أيوب، عليه السلام، لجامع الصبر الذي تحلى به الكل، فكل من الصابرين على أمر الله، عز وجل، الشرعي بأداء ما كلفوا به، والكوني بما ينزل بهم من صور الابتلاء لرفع أقدارهم، فذكرهم من كمال العناية بهم، وما ألهموا من الصبر على القضاء الشرعي والكوني، من صور العناية بهم، أيضا، بل هو أعظم صور العناية بأي مكلف، فإلهام العبد طريق الخير، وتسديده وتثبيته بالمدد الكوني من الصبر الذي لا تطيق مرارته إلا النفوس الكبيرة التي جبلت على طلب المراتب العليا، والأنفة من المراتب الدنيا، فلن يهتدي إلى الطريق ابتداء إلا بهداية الرب، جل وعلا، ببعث الرسل عليهم السلام، فتلك هداية الإرشاد والبيان، ولن يهتدي إلى امتثال الوحي تصديقا وامتثالا إلا بهداية الرب، جل وعلا، بإلهامه السير على هذه الطريق، فتلك هداية التوفيق والإلهام، ولن يصبر على مكابدة المشاق التي تعرض لسالك هذا الطريق إلا بتصبير الرب، جل وعلا، له، فيلهمه من أسباب الصبر ما يعينه على احتمال المكروه، ولعظم شأن الأنبياء عليهم السلام ولعظم ما كلفوا به، ولعظم ما يلقونه من المشاق ابتلاء لهم، فهم أشد الناس ابتلاء، كما في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا قُلْتُ إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ"، ولعظم ما يقابلون به من الجحود والتكذيب وسائر صنوف الأذى المادي والمعنوي، لكل ذلك، كان تيسير أسباب الصبر لهم، من آكد صور العناية الربانية بهم، ولكل من سار على طريقهم من تلك العناية نصيب، فهم أولى الناس بها لمكان النبوة، فهي منصب، كما تقدم، جليل، فكان من جلال قدره أن تعظم تبعاته، فعلى: قدر أهل العزم تأتي العزائم، وإذا عظمت التبعة عظمت المنة بما يعين صاحبها على احتمالها والقيام بها على الوجه المشروع الذي يرضي الرب، جل وعلا، والأنبياء، عليهم السلام، كما تقدم في أكثر من موضع، أطوع الناس للأمر الشرعي الحاكم، فاقتضى ذلك لزوما أن يكونوا أصبر الناس على تبعاته، واختصاصهم بالدرجة العليا من هذا الوصف لا يمنع دخول غيرهم فيه، فإن كل سائر على طريق النبوة على رسم الاقتداء من صديق أو إمام أو صالح أو شهيد، لا بد له من التحلي بالصبر على تبعات لزوم هذه الطريق الوعرة، فهي محرقة البداية مشرقة النهاية، فمن صبر على ألم البداية عالج من لذة النهاية ما ينسيه الألم العارض الذي لا يسلم منه مكلف بمقتضى السنة الكونية الجارية فـ: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)، فتخصيص الأنبياء بالذكر لا يعني انتفاء الحكم في حق غيرهم فمنصب الصبر على رسم الامتثال للأمر الشرعي الحاكم، والاحتساب لما يجري على العبد من الأمر الكوني النافذ هو من المناصب التي تقبل الشركة، وإن اختص الرسل، عليهم السلام، بأرفع درجاته، فذكرهم، كما تقدم، ليس مخصصا لعموم الوصف، فذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، كما تقدم في أكثر من موضع، بل ذكروا تمثيلا للعام بأشرف أفراده فهم القدوة في كل ما جاز الاقتداء بهم فيه من الأحكام العامة بخلاف ما اختصوا به من الدرجات وأعظمها: درجة النبوة فهي وهبية من الرب الوهاب، جل وعلا، يضعها في المحال التي يشاء، بمقتضى حكمته البالغة، فيصطفي أشرف النفوس بالخلق والصناعة على عينه، ليضع فيها معدن الهداية البشرية: النبوة الهادية التي لا يكون صلاح لدين أو دنيا، لعاجل أو آجل إلا بها. فليست كسبية تكتسب برياضة أو فكر، فمجاهدة النفوس لا تصنع النبوة، فهي منحة ربانية لا صناعة أرضية تحصل أسبابها كما تحصل أسباب سائر الصنائع البشرية.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذكرهم من وجه آخر: تنويه بشأنهم، فهم كما تقدم، أشرف أفراد العام، فمادة الصبر قد اشترك فيها فئام من البشر أصدقهم تخلقا به، فذلك من صدق الإرادة، وأعظمهم تحليا به، فهو من كمال الوصف: الأنبياء عليهم السلام، فهم أصدق البشر إرادات وأصحهم أعمالا، فخص أيوب عليه السلام ابتداء إذ قد صار، كما تقدم، مضرب المثل في الصبر، ثم جاء ذكر الثلاثة عليهم السلام فلهم من هذه الدرجة الرفيعة نصيب عظيم فـ:
إسماعيل عليه السلام من الموسومين بالصبر، على جهة الإجمال في هذا السياق، وقد جاء بيانه في مواضع أخر، فجاء في نحو قوله تعالى: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فصبر على الابتلاء بالذبح، وقوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)، وصدق الوعد لازمه الصبر على إنجاز الموعود، و: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، فاحتمل من الآلام والمشاق مع أمه، عليها السلام، ما احتمل، امتثالا لأمر الرب، جل وعلا، للخليل عليه السلام بأن يسكن من ذريته بواد غير ذي زرع، فجاء بيان الإجمال في هذا الموضع في أكثر من موضع آخر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك جار على ما تقدم مرارا من بيان آي التنزيل بالتنزيل.
وأما إدريس عليه السلام، فقد ذكر من صبره: صبره على الجوع والعطش طلبا للعلم والحكمة، وذلك أمر قد اختص الأنبياء عليهم السلام بما لم يختص به غيرهم، فـ: "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"، فلهم من القدرة على تحمل الجوع والعطش ما ليس لغيرهم، فليس كل ما يحسن في حقهم من العزائم يحسن في حق غيرهم، ولذلك نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الوصال في الصيام إلا إلى السحر لمن أراد مع كون التعجيل بالفطر أولى، فـ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"، وذلك ما خالف فيه بعض أهل البدع: أهلَ السنة فيتقصدون تأخير الفطر مخالفة للسنة وأهلها، والشاهد أن الإقلال من الطعام والشراب: أمر مجمل، فقد يحسن إن كان على رسم الصيام والاعتدال فلا تكون حكمة مع شبع وامتلاء، كما أثر عن أحمد، رحمه الله، فالبطنة تذهب الفطنة، وحد الاعتدال في هذا الشأن كما ذكر بعض أهل العلم: أن تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه وترفعها وأنت تشتهيه، فلا تفريط في حق النفس بالإقلال من المطعم على وجه يحصل به الضعف والخلل في العقل والبدن، كما وقع لغلاة المتعبدة من سائر الملل، فأقلوا الغذاء على غير الوجه المعتاد الذي يحصل به اعتدال المزاج، فذلك الوجه المشروع، فأقلوا الغذاء على غير هذا الوجه، وخرجوا إلى وجوه شاذة صيرتهم مضرب المثل في الغلو والتنطع، وذلك مما ذمته الشريعة الخاتمة: فـ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"، فحصل لهم الضعف والخلل في عقولهم فيرون خيالات هي من الشيطان زكتها في نفوسهم آلام الجوع!، فذلك الوحي الشيطاني الذي به أرسلوا عقوبة كونية على من صدقهم وتابعهم على خرفهم، فغاية الأمر أنهم يعانون سوء تغذية حاد!، فلو أطعموا لردت إليهم عقولهم الذاهلة لما أصابها من أثر الجوع الشديد الخارج عن حدود المشروع والمعقول، فلا شرع ولا عقل يشهد لطريقتهم في تعذيب الأبدان بقطع مادة الحياة الكونية عنها بحجة الاستكثار من مادة الحياة الشرعية، فالفصام النكد بين الدين والدنيا سمة بارزة في الملل والنحل الباطلة، وكلما خفيت آثار النبوة في أرض ظهر من تلك الخرافات والهلاوس ما ظهر، إذ عدد الجائعين من المتعبدة والمتنسكة في ازدياد، فرهبان الهنادكة والفرس لانقطاع مادة النبوة من أرضهم: أعظم الناس شأنا في هذا الباب، ورهبان النصارى لدروس آثار النبوة الصحيحة من دينهم التثليثي المخترع: أعظم شأنا من متنسكة أهل القبلة من غلاة أهل الطريق، فلهم من النبوة الصحيحة حظ ليس لمن قبلهم، وإن وقع لكثير منهم انحراف جلل عن طريق النبوة خرج بغلاتهم عن حد الملة الجامع فمرقوا منها بالكلية، ولكنهم إجمالا أحسن حالا
(يُتْبَعُ)
(/)
من بقية جوعى الأمم!.
ووقع لهم أيضا ضعف في أبدانهم أقعدهم عن الطاعة، ففرطوا في الواجبات طلبا لرتب متوهمة من الكمال، وليس ذلك، كما تقدم، مسلك الأنبياء عليهم السلام، فـ: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"، فإن جاعوا فاضطرارا كما وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الخندق، أو اختيارا برسم الاعتدال فصيام يزكي النفس والعقل، فلا يأتي على الأصل بالإبطال والإفساد، فإن الشرائع ما نزلت إلا لحفظ الأديان والأبدان، فمتى أتلفت الأبدان برسم الانتصار للأديان منها، فمن يقوم بأمر الشريعة؟!.
والتوسط في كل شأن ديني أو دنيوي هو مسلك النبوات التي توصل السالك إلى بر الأمان، فينجو من لوثة الغلو، وجفوة التفريط. فالحق وسط بين طرفي الإفراط تشديدا والتفريط تمييعا.
وأما ذو الكفل عليه السلام فقد سمي بذلك لأنه صبر على ما تكفل به من الطاعات فهو على رسم: (إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، فحذف المفعول مئنة من العموم فقد وفى بكل ما وكل به من أمر الدين والدنيا، وذلك من فضل الرب، جل وعلا، عليه، أن اصطفاه لهذا المنصب وأعانه على القيام بأعبائه.
ثم جاء التذييل بما ادخر لهم عند الرب، جل وعلا، من الكرامة جزاء وفاقا لصبرهم وحبس أنفسهم في قيد التكليف فـ:
أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ: فجاء الفعل على جهة التعظيم بإسناده إلى ضمير الفاعلين فذلك آكد في بيان عظم المنحة بعظم المانح لها، عز وجل، وجاءت الرحمة، أيضا، معظمة، بنسبتها إلى ضمير الفاعلين، وذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه إن أريد بالرحمة: الجنة، فهي الرحمة المخلوقة، فـ: "أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي"، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف إن أريد بها وصف الرب، جل وعلا، فهو الرحيم برحمته الخاصة: عباده المؤمنين، وهو الرحمن برحمته العامة: لسائر خلقه، فـ: "في": تحتمل الظرفية الحسية إن أريد بالإدخال: الإدخال في الرحمة المخلوقة، وتحتمل الظرفية المعنوية إن أريد به الإدخال في الوصف، فالداخل في صفة الرحمة يتنعم بآثارها الشرعية، والنبوة أعظم آثار الرحمة الشرعية فـ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، والداخل فيها يتنعم بآثارها الكونية من رزق وخصب ونماء، وأشار أبو السعود، رحمه الله، إلى وجه ثالث تحمل فيه الرحمة على النبوة فهي داخلة في جملة الرحمات الشرعية فهي أعظمها، كما تقدم، فخصها ابو السعود، رحمه الله، بالذكر لمقامها الرفيع، فهي أعظم صور الرحمات الربانية النازلة، ولا مانع من الجمع بين تلك المعاني لعدم تعارضها، بل إن التلازم الوثيق بين الرحمة المخلوقة والرحمة غير المخلوقة، فالرحمة المخلوقة هي أثر الرحمة غير المخلوقة، فضلا إثراء المعنى بزيادة أوجه العناية بهم بكلا الرحمتين، كل ذلك مما يحسن معه الجمع بينهما، ثم جاء التذييل بعلة ذلك: "إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ"، فصدرت العلة بالمؤكد وذيلت بالوصف الذي علق عليه الحكم وهو الصلاح، وهو وصف عام يصدق في غيرهم، وإن كانوا أعظم الناس اتصافا به، فهم، كما تقدم، أمكن الناس في هذا الباب وفي كل أبواب الخير. ويحتمل الصلاح العهد بحملة على خصوص النبوة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فهم من جملة الأنبياء، عليهم السلام، ووجه وصف النبوة بالصلاح أنها معدنه، فلا صلاح، كما تقدم، إلا بإقامة أحكامها.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 03 - 2010, 08:21 ص]ـ
ومنه قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
(يُتْبَعُ)
(/)
فذكر ذو النون، عليه السلام، بالحدث الأعظم في سيرته، وهو النون الذي التقمه في معرض التربية الربانية للعبد الذي اجتهد فخرج بلا إذن شرعي، مغاضبا لقومه في ذات الله، عز وجل، فما خرج لحظ نفسه، وإنما خرج انتصارا لربه، جل وعلا، ولكنه اجتهد في ذلك، على ما تقرر من جواز اجتهاد الأنبياء عليهم السلام، فإن أصابوا الحق، أقرهم الوحي، وإن فاتهم الأولى ففعلوا خلافه، لم يقرهم الوحي الصانع لهم على عين الرب، جل وعلا، فذلك من كمال عنايته، عز وجل، برسله، عليهم السلام، فيعصمهم، ولو ابتلاهم، فلا يقرهم على مرجوح، وإن كان قصدهم خيرا، بل لا بد أن يكون ذلك لسمو نفوسهم وكمال أوصافهم، ولكن ذلك لا يعني إقرارهم على المفضول، فلا يليق بكمالهم إلا الفاضل من الحق المطلق، فلكل قدره، والنفوس الكبيرة لا يليق بها إلا المراتب الرفيعة والمنازل الشريفة، فما كان في حق غيرهم جائزا كفوات الأرجح في معرض الاجتهاد، لا يكون جائزا في حقهم لمكان العصمة، فجاءت التربية الربانية لذي النون عليه السلام بالتقام الحوت له، فذلك دليل عدوله عن الأولى، فكانت المنحة بالعناية تصحيحا للاجتهاد وإن كان ظاهرها المحنة، فذلك لازم التمحيص والتصفية، فلا بد من ابتلاء يزول به أثر المخالفة، ولو صدرت من نبي معصوم، فقد عاتب الرب، جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما اجتهد فرأى المصلحة الشرعية في الإعراض عن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، والالتفات إلى سادات قريش في موضع بعينه، كادوا فيه أن يميلوا إلى دعوته، فلما جاء فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خلاف الأولى نزل الوحي بآيات العتاب عناية به صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإرشاده إلى أكمل الأحوال، فإنه أحق الناس بأرفع درجات الكمال البشري، فهو صفوة الصفوة من الأنبياء وأولي العزم، عليهم السلام، فلا أحد يتقدمه من الخلق، بل كل تال له في الفضل، فمن كان ذلك وصفه، فلا بد أن تكون عناية الرب، جل وعلا، به عظيمة، فلا يرضى الحبيب لحبيبه، أو الخليل لخليله، إلا أشرف المراتب وأكمل الأحوال، فما جرى لذي النون، عليه السلام، من كمال العناية بكمال التربية والصناعة الربانية، قد جرى أعظم منه للنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه لم يبتل أحد ابتلاءه في معرض تنقيته وتخليص جوهره النفيس من أي شائبة تعكر صفوه وبريقه، فهو أشد الناس ابتلاء حتى في مرضه، كما في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، وهو الذي ابتلي بفقد الزوجة والولد، وقتل الأصحاب، وجراحات الحرب، فمسه ممس المؤمنين القرح يوم أحد، وهو الذي ابتلي بالفقر فصبر، وابتلي بالغنى فأعطى وشكر، فكان عطاؤه عطاء من لا يخشى الفاقة فـ: "إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ"، فليس بباخل، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فظهر فما بطر، وكُسِر فما جزع، فلسان مقاله وحاله: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي"، في شدة أو رخاء، في ضيق أو سعة، فمراده الأعظم رضا الرب الأعز الأكرم، تبارك وتعالى، ولكل حال ما يلائمه من أجناس العبودية، والأنبياء عليهم السلام هم المقدمون في هذا الوصف فعبوديتهم أكمل العبوديات، ولذلك فطن ذو النون عليه السلام إلى سر المسألة، فعلم ما كان منه من فوات الراجح إذ خرج بلا إذن شرعي فـ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا، فظن أن لن يضيق الرب، جل وعلا، عليه، إذ خرج مغاضبا في ذاته لا لحظ نفسه، كما تقدم، أو ظن أن لن يحكم الرب، جل وعلا، عليه بالمحنة، فذلك وجه آخر أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فخروجه كان انتصارا لدينه ويأسا من قومه، فربما كان اجتهاده من رسم اجتهاد الخليل عليه السلام: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، ولكن الأمر لم يخل من نظر مرجوح لعدم صدور الإذن الإلهي بالخروج، فلا يخرج النبي إلا بإذن، فإن هودا وصالحا ولوطا لم يخرجوا إلا بإذن، لما شاء الرب، جل وعلا، بما علم وقدر من الأزل إصرار أقوامهم على الجحود وعنادهم فلا يؤمنون، فكان خروجهم الخروج الأكمل، وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لم يخرج من مكة مهاجرا إلا بإذن ربه، جل وعلا، فالنبي لا
(يُتْبَعُ)
(/)
يفصل في أمر كهذا إلا بوحي من الرب، جل وعلا، فظن ذو النون، عليه السلام، أن الأمر مما يسوغ فيه الاجتهاد، فاجتهد، وهو أهل لذلك بداهة، فعلوم الأنبياء، عليهم السلام، أكمل العلوم، وعقولهم أكمل العقول، ومعهم من التأييد الرباني ما ليس مع غيرهم، وإن بلغ من الكمال ما بلغ، فأصاب باجتهاده، كما تقدم خلاف الأولى، فجرى ما جرى من ركوب السفينة والقرعة التي ألقت به في اليم والتقام الحوت له، وسكونه في الظلمات: ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، أو الظلمة المتكاثفة الشديدة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فنزلت منزلة الظلمات المجموعة التي دخلت عليها: "أل" الجنسية الاستغراقية، فأفادت العموم إمعانا في بيان الشدة التي لاقاها ذو النون، عليه السلام، في معرض العناية الربانية به، عليه السلام، بتمحيص قلبه مما علق به من شوب المخالفة، ولو برسم الاجتهاد، فذلك، كما تقدم، من كمال عنايته، عز وجل، برسله وأنبيائه، عليهم السلام، بل وبعامة أوليائه من الصديقين والشهداء والصالحين، فيبتلى كل على قدر إيمانه، بل ذلك أمر لا يسلم منه أحد بمقتضى السنة الكونية النافذة، فيطال الابتلاء المؤمن فيكون تمحيصا له، ويطال الكافر فيكون تذكيرا له، فهو عناية به، لو تدبر هذا الوجه، فبه يتذكر قدرة الرب، جل وعلا، وبه يقع التمايز بين مقام الربوبية: مقام الجلال والقوة، ومقام العبودية: مقام الذل والضعف، فكل ذلك قد دلت عليه الفاء الفصيحة في معرض الإيجاز الذي امتاز به البيان القرآني المعجز، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فتقدير الكلام: فكان ما كان من ركوبه السفينة ...... إلخ حتى استقراره في بطن الحوت فـ: فَنَادَى، بعد أن استقر فِي الظُّلُمَاتِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ: فكان الابتلاء الكوني سببا في استخراج تلك الكلمات الطيبيات برسم التوبة والأوبة منه عليه السلام، وتلك، كما تقدم، مصلحة عظمى، فاقت كل مفسدة تقدمتها، فبها حصلت العظة الربانية، وبها نال ذو النون، عليه السلام، درجة ما كان لينالها لولا ما وقع له من الابتلاء، بل إن أجناس العناية الربانية، كانت تحيط به في أحلك ساعات الظلمة، فصدرت الكلمات الكونيات للحوت ألا يهضم بدنه الرقيق وهو الذي يهضم أضعاف أضعافه من الكائنات، ثم جاء التعقيب بالفاء فهي مئنة من التعقيب فدلالتها على الفورية مئنة من كمال العناية الربانية بذي النون، عليه السلام، فضلا عن دلالتها السببية فإن ما كان بعدها من الاستجابة كان بداهة بمقتضى ما قبلها من الدعاء فالاستجابة فرع الدعاء، وذلك من التلازم العقلي بمكان، فعلة هي الدعاء يعقبها معلولها من الاستجابة التي جاءت مزيدة في المبنى بالألف والسين والتاء مئنة من زيادة المعنى، فذلك أبلغ في معرض بيان صور العناية الربانية التي تحتف بالأنبياء، عليهم السلام، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقرائن الإجابة في حقهم أكثر عددا وأعظم وصفا من غيرهم، ولذلك قال أهل العلم في دعاء ذي النون، عليه السلام، وهو مظنة تفريج الكروب، أن لكل داع منه نصيب، وإنما تتفاوت سرعة الإجابة تبعا لتفاوت القرائن التي تحتف بكل دعاء، فليس كل المكروبين سواء في صفاء محالهم، بل منهم مشركون يدعون برسم الاضطرار فيستجيب الرب، جل وعلا، برسم الإنعام العام على سائر الخلق ولو كانوا كفارا مشركين، وأحيانا تكون المصلحة في تأجيل الإجابة، أو حتى منعها، إذ لو أجيب العبد إلى ما طلب لكان سببا في فساد أعظم يناله، فكانت رحمة الرب، جل وعلا، به، أن أخر الإجابة أو منعها، صيانة له مما يظنه صلاحا وهو في حقه باعتبار مآله: عين الفساد، ولذلك نهينا عن التعدي في الدعاء، فإنه لا أحد منا يعلم وجه المصلحة الشرعية أو الكونية على وجه الكمال والتحديد، فذلك مما استأثر به الرب العليم الحكيم، تبارك وتعالى، والشاهد أن الاستجابة لدعاء المبتلى تتفاوت، فقد يتأخر تمحيصا، وقد يعجل تكريما، ولكل حظه من عطاء الرب، جل وعلا، من المنح الربانية التي ترد في ثنايا المحن الكونية، وأسندت الاستجابة إلى ضمير الفاعلين، على ما تكرر مرارا، في
(يُتْبَعُ)
(/)
هذا السياق، فذلك آكد في بيان كمال عنايته، عز وجل، بأنبيائه، فعظم المنة من عظم من امتن بها على خاصة أصفيائه، ثم جاء الإطناب في معرض بيان تلك الاستجابة الربانية: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ: فجاء الفعل مضعفا، مع كون الإنجاء قد وقع مرة واحدة بنبذ الحوت له، فذلك فعل واحد لم يتكرر، ولكنه لعظم قدره استحق المبالغة في المبنى الدال عليه، فهو من الآيات الكونية الباهرة التي لا تكون على هذا القدر والوصف إلا للأنبياء عليهم السلام، فكرامات الأولياء لا تعادلها، على ما تقرر في مباحث النبوات من القدر الفارق بين الآية والكرامة، وإن كان جنس خرق السنة الكونية المعتادة في كليهما حاصلا، ولكن لا يستوي خرق العادة لنبي، وخرقها لولي، فخرقها للنبي أعظم بداهة، لعظم قدر النبي فلا يلحق كل الأولياء بخيرية نبي واحد، فتكون صورة العناية الربانية في هذا الباب فرعا عن عظم قدر المعتنى به، وشتان النبوات وما تلاها من مراتب الصديقية والولاية والإمامة في الدين والشهادة والصلاح وما شئت من أوصاف الخير فكلها مهما بلغ صاحبها من الفضل لا تعدل مقام نبي واحد، وإذا كان أفضل من جاء بعد الصدر الأول لا يلحق بمنزلة الصحبة التي اختص بها خير طباق الأمة، رضي الله عنهم، لمجرد أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآمنوا به وسمعوا منه فكيف بمقام النبي نفسه إذا كان ذلك مقام أصحابه؟!. فمقامهم الرفيع ما هو إلا شعبة من أصل مقامه الرفيع صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك كان سبهم والطعن فيهم، كما يقع من أهل البدع ومن سار على طرائقهم من كل مبتغ القدحَ في هذا الدين من زنديق أو مرتد أو علماني مارق من الديانة أو كافر أصلي حاقد على من نشروا التوحيد في مصره فأبطلوا رسم ديانته الباطلة، كان ذلك السب الفاحش انتقاصا من قدره فالطعن في الفرع طعن في أصله بداهة، إذ لو صلح الأصل لصلح الفرع، فإن فروع النبي لا تكون إلا صالحة، بل إن ابن نوح لما كفر خص من أهله فخرج عنهم بمانع الكفر فليس أهل النبي إلا المؤمنون، فمن قدح فيهم فقد قدح فيه، فسبهم ما هو إلا ذريعة للطعن الخفي ثم الجلي في صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد يقال من جهة أخرى بأن الزيادة في مبنى الفعل إنما هي فرع عن تعداد صور العناية في الإنجاء، وإن كان الفعل في نفسه واحدا، فتكون الزيادة بتعدد حروف الفعل، مئنة من تعدد صور العناية به، عليه السلام، فعناية به إذ لم يهضمه الحوت، وعناية به بإنبات شجرة اليقطين عليه لتقي جسده من الهوام، وعناية به إذ آمن قومه بعد ذلك، مع قيام موجب العذاب من التكذيب: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، وتلك عند التأمل، أعظم عناية بالرسول، أن يرى ثمرة رسالته في حياته، مع أنه قد نجح في مهمته، وإن لم يؤمن به أحد، فمجرد إبلاغه الرسالة: منة من الرب، جل وعلا، أن أقدره على ما كلفه به، فكيف إذا آمن قومه، فـ: (أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)؟!، فأي عناية أعظم من ذلك، وهي من جنس عناية أعظم وقعت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الفتح فـ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فللنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما اطرد في هذا الباب، من صور العناية العامة بكل الرسل، عليهم السلام، له منها أعظم قدر ووصف، فإن اشتركوا في الأصل، فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد باينهم بقدر فارق ظهر به فضله على فضلهم، وإن كان الكل فاضلا في نفسه، ولكن التفاضل حاصل بينهم وإن اشتركوا في أصله، وهو وصف النبوة فـ: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، فذلك من جنس ما باينوا به من دونهم من الصديقين والأولياء، فإنهم يشاركونهم خصال الخير، ولكنهم لا يرقون إلى منزلتهم فـ: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ
(يُتْبَعُ)
(/)
مَعْلُومٌ)، وذلك التنوع في الدرجات تبعا للتنوع في الأوصاف مئنة من حكمة الرب، جل وعلا، في وضع كل في موضعه، فالحكم كمالا أو نقصانا فرع عن الوصف الجالب له المؤثر فيه.
فيكون في الآية نوع إجمال ورد بيانه في مواضع أخر، على ما اطرد في التنزيل وسبقت الإشارة إليه مرارا، من وقوع الإجمال في مواضع وورود بيانه في مواضع أخر، فصور العناية قد ذكرت تفصيلا في نحو قوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) في سورة يونس، وفي نحو قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) في سورة الصافات فبجمع أدلة الباب تكتمل صورته ويجري الاستدلال على أكمل الوجوه، وهذا أصل جليل يطرد في كل مسائل الديانة: أخبار كانت أو أحكاما.
ثم جاء التذييل بالعبرة العامة فتلك سنة كونية مطردة، فلأتباع الرسالات منها قدر، يكون بقدر التزامهم بالرسالات تصديقا وامتثالا، فـ: (كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، فعلق الحكم على الوصف، وبالإمعان في الوصف يكون ظهور الحكم، فالوصف علته فيدور معه وجودا وعدما، كما تقدم مرارا، فإن كان ثم إيمان فثم نجاة، والإيمان لا بد له من برهان في عالم الشهادة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، فليس مجرد تصديق بالقلب أو دعوى باللسان، بل لا بد له من برهان عملي، فإن لم يكن ثم إلا الدعوى أو الانتساب العام إلى الرسالات دون تحقيق لمعانيها فليس ثم نصر، وإن أظهر أتباع الرسالات من الدعاوى والحجج الباهتة ما أظهروا، فلا حجة في هذا الباب إلا تعظيم الديانة بتصديق أخبارها وامتثال أحكامها، والانتصار لها في كل ميدان، والدفاع عن حرماتها التي باتت تنتهك على الدوام فلا تمضي نازلة حتى تحل أخرى جزاء وفاقا لما كسبت أيدينا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 03 - 2010, 08:22 ص]ـ
ومنه قوله تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)
فذلك جار على ما تقدم من العناية الربانية المطردة بأنبياء الله، عليهم السلام، فهذا نبي كريم سأل الولد ليرث علوم النبوة، فالميراث هو ميراث الوحي: أشرف أجناس المواريث، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فالأنبياء لا يورثون دنيا، تنزيها لهم عن احتمال الشبهة التي يثيرها من جعل النبوة من جنس الملك، فجعل دول الأنبياء، عليهم السلام، من جنس الممالك الأرضية الموروثة برسم الجور، كما هو الحال في زماننا، فصار الهم الأعظم، نقل ملكية الأمم من ذمة جائر إلى آخر، فليت وراثتهم كانت من جنس وراثة الخلافات الأموية والعباسية ثم العثمانية، آخر العهد بممالك الشريعة، التي لا أثر لها في الأرض الآن، فلا خلافة كاملة على منهاج النبوة، ولا ملك ورحمة، كملك معاوية، رضي الله عنه، ولا حتى ملك جبري كملك من جاء بعده، يظلم فيه أفراد، والظلم محرم في كل شريعة إلهية بل ووضعية محرم، وتنصر أمة تخضع لها بقية أمم الأرض برسم الشريعة التي حملت الكتاب الهادي وسلت السيف الناصر، فيدفع ملوك الصين في أقصى الشرق الجزية، وتطأ فيه أقدام الفاتحين شبه الجزيرة الأيبيرية في أقصى الغرب، فيصير العالم القديم في قبضة الموحدين، وإن كان ثم انحراف عن خلافة النبوة الأولى، فقد كان انحرافا جزئيا ظهرت آثاره في بعض أركان الخلافة، ولكنه لم يبلغ حد زلزلة تلك الأركان الراسخة، فقد كان الماء كثيرا قد بلغ القلتين بل قلالا فلم يحمل خبثا قليلا، زاد شيئا فشيئا، وقل الماء، فحمل الخبث لاحقا بتغير أوصافه، فجرت السنة الكونية بتبديل الحكم من الطهر إلى الدنس، لما تغير الوصف، فكثر الخبث، كما أخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو مظنة هلاك الصالح والطالح، فالعقوبة الكونية، ومنها أجناس النوازل التي نعيشها الآن، والتي تضرب
(يُتْبَعُ)
(/)
فئاما منا بسيف الظلم، كحال الموحدين المرابطين في بيت المقدس، وتضرب آخرين بسيف الذل والمرارة، وإن كان ثم صلاح على مستوى الأفراد، فإنه لا يبلغ بمقتضى السنة الكونية المطردة، حد رفع العقوبة العامة، فالعقوبة العامة لا ترفع إلا بالرجوع العام إلى الديانة تعظيما بالتصديق والامتثال، لا مجرد التعظيم باللسان، فإذا دعيت الأركان إلى الله ورسوله رأيتها تصد عن أحكام الشريعة صدودا، فصار الدين محض ترف فكري بتناول ما يروق من التكاليف الشرعية، والمسائل العلمية، وترك ما يثقل على النفس، ولكل مسلم في زماننا من ذلك نصيب، قل أو كثر، وذلك من أسباب تخلف الحكم بالظهور على سائر الأديان، فإنه لا ظهور له إلا بعباد يحملونه كله فلا يفرقونه فيكونوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، فيأخذ كل ما يروق له، وبذلك اعتذر صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبني شيبان، لما قبلوا دعوته برسم الإجابة والانقياد الصادق، فلم يكونوا كبني عامر بن صعصعة الذين أرادوا الأمر لهم من بعده، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، والحرص على الإمارة مئنة من قلة التقوى، إلا من كان لها أهلا في زمان عم فيه الفساد، وقل أن يوجد ذلك الأمير الصالح، فليس ثم أحد من السادة المسئولين في زماننا! كيوسف الصديق عليه السلام، والشاهد أن بني شيبان أجابوا إلى الكل إلا جزءا وهو حرب فارس، فاشترطوا منعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كل الأمم إلا الفرس، وهم لذلك كفؤ، فهم أهل حرب وقتل، وقد ظهر من ذلك ما ظهر يوم ذي قار وكانت أول نازلة تحل بالفرس على يد العرب، ثم ظهر منه أثر أعظم في فتوحات العراق فكان فتى بني شيبان: المثنى بن حارثة من أبرز قادة الفتح، ومع ذلك لم يشفع لهم كل ذلك في قبول هذا الشرط، فإن هذا الأمر لا يقوم به إلا من حمله كله فلم يستثن منه جزءا، ولو يسيرا، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آنذاك في أمس الحاجة إلى من يمنعه من قومه، ومع ذلك لم يقبل هذا العرض الصادق، فإنه لا يستقيم على سنن الشرع، فإما أن ينصر الإنسان الدين نصرا عاما، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فيكون الظهور العام على سائر الأمم، وإما أن ينتقص من ديانته، فيظهر ظهورا أقل من ظهور النبوة على سائر أعدائها، كما وقع للجماعة المسلمة بعد ارتفاع النبوة والخلافة الراشدة، فكان الظهور في زمن بني أمية وبني العباس وبني عثمان، وإن اتسعت رقعة الدولة، كان ظهور الإسلام في تلك الممالك أقل من ظهوره في عصر النبوة والخلافة الراشدة، فلم يظهر الإسلام الذي نزل به الوحي ظهوره زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وخلفائه الأربعة، رضي الله عنهم، فتلك بحق، ألمع فترات الديانة، حتى في زمن الاستضعاف في العهد المكي، فقد حمل الصدر الأول، رضي الله عنهم، الإسلام كله، بواجباته وسننه، بسرائه وضرائه، فابتلوا بالشدة والاستضعاف في مكة فصبروا على حكم الديانة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ)، وذلك أصعب شيء على نفس العربي الأبي، أن يصبر على الظلم مختارا، فيصبر نفسه الثائرة التي لا ترضى الضيم تحت حكم الرسالة، فما جزعوا وما نقصوا، وإن تعجل بعضهم النصر استباقا لسنة كونية مطردة، فجاء بيان النبوة شافيا لما اعتمل في صدورهم من ألم القهر والظلم: "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون"، ثم ابتلوا بالسعة والظهور في المدينة، فأقاموا حكم الوحي في حمل الشرع والذب عنه فـ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، ثم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، ثم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا
(يُتْبَعُ)
(/)
أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فما بطروا وما ظلموا، بل كان سيفهم، بشهادة أعدائهم، أعدل السيوف، فهو سيف ناصر لحكم الكتاب الهادي، فلا يسل ولا يغمد إلا برسم الشريعة المنزلة، فالأهواء معزولة، فلا حظ للنفوس إلا في حمل الرسالة وإزالة ممالك الظلم والطغيان التي تحول بين الأمم وبين نور القرآن، فتزال لتقام الممالك على رسم النبوة، فهي أعدل الممالك باستقراء تاريخ البشر، فحيث كانت النبوة كان العدل والأمن، وحيث لا نبوة فليس ثم إلا ما نراه في زماننا من الظلم والقهر، فالنبوة، كما تقدم، مادة صلاح الدارين، ولذلك اعتنى الرب، جل وعلا، بأصحابها تلك العناية العظيمة المطردة، فذلك من رحمته بالبشر، أن أظهر حملة رسالاته، فكلهم ظاهر منصور، وإن تسلط عليهم شذاذ الأمم، كيهود قتلة الأنبياء، ومنهم زكرياء ويحيى، عليهما السلام، فلم يكن ذلك خذلانا للنبوة فهي ظاهرة، وإن كره أعداؤها، وإنما اصطفى الرب، جل وعلا، النبيين الصادقين لمرتبة الشهادة بعد أن اصطفاهما لمرتبة النبوة، وضرب الذل على قتلتهم، فلا يظهرون إلا عقوبة لأتباع الرسالة، كما هو الحال في زماننا، فتكون مرارة العقوبة: تسلط أذل الأمم على أمة لديها معدن العزة والخيرية، آخر الرسالات السماوية، فـ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، فرسم الخيرية قد علق على اتباع الوحي، أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، فذلك خصوص، وإيمانا بالله، عز وجل، فذلك عموم لا مخصص له، فالإيمان بالله، كما تقدم، إيمان بالرسالة كلها، فلا تجرى أحكام وتعطل أخرى تبعا للأهواء والأذواق.
وفي المقابل: بقدر انتقاص الجماعة المسلمة من الديانة يكون الظهور باهتا، إلى أن تعمل السنة الكونية عملها في زلزلة أركان الملك، فتلك سنة كونية استغرقت من الزمان سنين بل قرونا، فنخر سوس المعصية أركان الديانة في نفوس الأفراد والجماعات، نخرا بطيئا غير ظاهر ولكنه عظيم الأثر، فهو كالسرطان يصيب خلية واحدة في أوله فلا يشعر المريض بأثره ثم يزداد انتشارا في صمت حتى يفاجأ المريض بأثره بعد سنين، فأحدث السوس في نفوسنا ما نحن فيه الآن من ضعف يعجب كثير منا، ممن لم يستقرئ السنة الكونية بتأن، يعجب منه عجب المريض بالسرطان، عافى الله مرضى المسلمين، أين كان منه وهو يلتهم خلايا جسده فلم يشعر به إلا في طوره الآخر وقد كان في الإمكان الشفاء منه في أول أمره، فكان التراجع في الأعصار التالية لعصر النبوة والخلافة الراشدة، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، كان تراجعا جزئيا له أثر ولكنه غير ظاهر، فكان الطهر هو الغالب، فلم يحمل الخبث القليل، فظهر الدين الخاتم على سائر الأديان، ثم لم يزل الخبث يزداد حتى صار هو الغالب، فتغير الحكم، كما تقدم، لتغير الوصف، فبعد العز: ذل، وبعد الظهور: دروس وخفاء، والسنة الكونية مطردة منعكسة فما فقد في قرون متطاولة لا يستعاد بغضبة واحدة، ولو كانت صادقة، فهي أولى خطوات الطريق الطويل لاستعادة منصب القيادة برسم النبوة الخاتمة، وذلك طريق طويل، ولكنه بمقتضى السنة الربانية: الطريق الوحيد، فلا طريق إلا طريق النبوة، فبه مكن الصدر الأول، فوقع الابتلاء تمحيصا وتصفية، ثم جاء الظهور بعد كمال التربية، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وتلك سنة جارية في كل الأمم، ولو كانت على غير رسم النبوة، فكيان يهود اللقيط الذي نكتوي الآن بناره، لم يظهر إلى الوجود في يوم وليلة!، فذلك لا يكون أبدا، وإنما استغرق الأمر زمنا طويلا لم يظهر لنا منه إلا نحو خمسين عاما: من مؤتمرهم الأول سنة: 1897 م إلى سنة: 1948 م، فتلك الخاتمة لا أكثر.
فعلى أتباع الرسالة أن يقتدوا بأمثال جولدا مائير وبيجين في صبرهم وعزمهم، إن لم يكن بهم طاقة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقرنه المفضل!.
(يُتْبَعُ)
(/)
وسنة الرب، جل وعلا، في الهدم والبناء، سنة: جارية مطردة، فلن يستيقظ المسلمون غدا ليروا الأقصى وقد تحرر وهم لما يزالوا نائمين، فكما استغرق الهدم أجيالا، فكذلك البناء يستغرق أجيالا تبتلى وتمحص لينتفي خبثها، فتصير أهلا لحمل الرسالة.
فنادى زكريا عليه السلام ربه جل وعلا: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا: فقدم وصف الربوبية في مقام الطلب، فذلك من الثناء قبل المسألة، فتوسل بالوصف الأمثل في مقام طلب عطية الولد الصالح، ثم ذيل بوصف ثناء آخر يلائم السياق، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله: فأنت خير الوارثين، فهبني من لدنك وارثا لعلوم النبوة، فذلك نوع مشاكلة بطلب الوارث البشري من الرب الوارث للكون، فهو، تبارك وتعالى، الصمد الباقي بعد فناء خلقه.
وقد اطرد في دعاء الصالحين، والأنبياء، عليهم السلام، أشرف أجناس الصالحين، اطرد في دعائهم: اختيار الوصف الأمثل في مقام الدعاء بالرحمة أو الطلب أو العذاب لأعداء الديانة ....... إلخ، فذيل أيوب عليه السلام دعاءه بالرحمة: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فذلك أليق بحاله، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذيل زكريا، عليه السلام، دعاءه بما يلائم حاله من طلب الوارث الصالح من الرب الوارث، جل وعلا، وحسن تذييل أوصاف الدعاء على أهل البغي والعدوان بصفات الجلال من العزة والجبروت والكبرياء، ولكل مقام مقال، ولكل دعاء ما يناسبه من أوصاف كمال ربنا، جل وعلا، فلدعاء المسألة ما يناسبه من الثناء بوصف الجمال، ولدعاء الانتصار من الأعداء ما يناسبه من الثناء بوصف الجلال.
فجاءت الاستجابة الفورية، كما وقع لذي النون، عليه السلام، على حد التعظيم بإسناد الفعل المزيد في مبناه بالألف والسين والتاء مئنة من زيادة معناه، إلى ضمير الفاعلين فذلك أليق في مقام الثناء على الرب الواهب فهو الكريم الرحمن، فرحمته قد عمت سائر الخلائق، ومن أظهر صورها: استجابة الدعاء، لا سيما دعاء الأنبياء، عليهم السلام، ومن سار على طريقتهم من الصالحين والشهداء: فـ: اسْتَجَبْنَا لَهُ، فذلك إجمال جاء البيان عقيبه فـ: وَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ، إذ كانت عاقرا، كما دل على ذلك قوله تعالى: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، فذلك، جار، أيضا، على ما اطرد من البيان لمجمل التنزيل بالتنزيل، فوجه الإصلاح مجمل قد عينه بيان وجه النقص فيها، فهي عاقر لا تلد، فإصلاحها في مقام الامتنان بهبة الذرية هو: إصلاح بدنها لتصير أهلا للحمل والولادة، فعطف إصلاح المحل لقبول الولد على الامتنان بهبته: عطف لازم على ملزومه، فلازم هبة الولد منها: إصلاح بدنها لتصير، كما تقدم، أهلا لذلك، فذلك من التلازم العقلي الوثيق.
فالإطناب في تعداد وجوه المنة أليق، كما تقدم، بمقام العناية بالرسل عليهم السلام.
ثم جاء التذييل بالعلة المصدرة بالمؤكد، فاستجاب لهم الرب بوصف ربوبية الإنعام لامتثالهم أمر الألوهية بالدعاء: رغبا في وصف الجمال، ورهبا من وصف الجلال، فذلك الباعث على المسارعة من الخيرات، فجاء المبنى مزيدا على حد المفاعلة التي تدل على نوع:
مسابقة: فـ: (اسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وبه استدل أهل الأصول على وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر فالأمر على الراجح من أقوالهم مئنة من الفور.
ومنافسة: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، فالتصور الصحيح لأسماء وصفات الرب الجميل الجليل هو الباعث على عمل الخير، فالظاهر، كما اطرد مرارا، مرآة الباطن، فالتلازم بينهما: إيجابا أو سلبا: تلازم وثيق، فبقدر صحة التصور ولا يكون ذلك إلا من طريق النبوات لمكان العصمة والتأييد بالوحي: تكون صحة الحكم بأعمال الجوارح فهي المصدقة لما قام بالقلب من العلوم والإرادات.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 03 - 2010, 08:14 ص]ـ
ومنه قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ)
(يُتْبَعُ)
(/)
فهو من الإطناب في بيان حال المصطفين من العباد برسم الرسالة أولا، فقدم ذكر الرجال لشرف جنسهم على جنس النساء، وإن لم يلزم من ذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، فضل جميع الرجال على جميع النساء، بل هو تفضيل مجموع باعتبار الجنس على مجموع آخر، فالتفضيل من جهة الكل لا الجزء، أو العام لا الفرد، وقدم ذكرهم من وجه آخر، لاختصاصهم بالنبوة، فهي من وظائف الرجال، فأخر ذكر مريم، عليها السلام، من هذا الوجه، وإن قال بعض أهل العلم بنبوتها لنزول الروح القدس، عليه السلام، عليها، لما نفخ فيها، فحملت بالمسيح عليه السلام، والقول بنبوة النساء اختيار ابن حزم والقرطبي، رحمهما الله، استدلالا بنحو قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)، وقد حمله جمهور أهل العلم على الوحي الإلهامي فهو من قبيل قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا)، وقد أيد صاحب "التحرير والتنوير"، رحم الله الجميع، القول بنبوة البتول، عليها السلام، في هذا الموضع، والجمهور على خلاف ذلك فإن الروح القدس، عليه السلام، لم ينزل على مريم، عليها السلام، برسالة، وإنما نزل بآية كونية باهرة، وذكر مريم عليها السلام من جهة أخرى: استيفاء لشطري القسمة العقلية، فجنس الصلاح ليس حكرا على الرجال، بل للنساء منه نصيب عظيم فكم من صالحات فقن في صلاحهن أمما من الرجال، فيكون الاستيفاء لذكر الزوجين في هذا السياق، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جار مجرى آيات من قبيل:
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
و: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
و: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فاستوفى في كلٍ شطري القسمة العقلية، وذلك مئنة من كمال عدله، جل وعلا، إذ قدم الفاضل من الرجال على المفضول من النساء، فالعدل إعطاء كل ذي حق حقه، لا المساواة في الحكم مع التباين في الوصف والخَلق والخُلُق، فذلك هو الجور بعينه، وإن روج له من روج من دعاة إفساد النساء وزلزلة أركان البيوت التي انهدم كثير منها لما خرج كل جنس عن وصفه إلى وصف نظيره، فحصل الفساد بخروج كلٍ عن الفطرة الأولى، فذلك خروج عن ناموس الكون المطرد، وذلك بداهة، ذريعة إلى فساد الحال، فإن مادة صلاح هذا الكون: موافقة الحكم الكوني فلا يخرج الإنسان عن فطرته الخَلقية، وموافقة الحكم الشرعي فلا يخرج الإنسان عن حكم النبوات التي جاءت لتكمل فطرته الدينية والخُلُقية، فمتى خرج الإنسان عن مقتضى فطرة الكون أو الشرع فهو إلى فساد لا محالة، ولا يخلو الخروج عن سنة الكون من خروج عن سنة الشرع الذي جاء مكملا لسنة الكون، فلم يأمر بغير المألوف، ولم يكلف بغير المقدور، فإذا خرج كل جنس عن وصفه فأخذ حكم الجنس الآخر فتذكر المؤنث وتأنث المذكر، كما هو الحال في كثير من أهل زماننا، حتى وصل الأمر إلى حد الخروج عن الفطرة بارتكاب فواحش تشمئز النفوس من ذكرها، فقد بها كثير من البشر آدميتهم لخروجهم عن مقتضى سنة الكون، ففسد الكون بتبديل الشرع وإهمال أحكامه في الأفراد والجماعات واستعلن من استعلن بقبحه لما أمن حر سيف الشرع الحاسم لمادة فساد الدين والدنيا.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجاء وصفها، عليها السلام، بالموصول تنبيها على الوصف الذي اشتقت منه جملة الصلة، تنويها بعفافها، فذلك من آكد صور العناية بها، عليها السلام، بإعلاء ذكرها، وتبرئتها مما رماها به يهود، وهم معدن الفواحش، فظنوا البتول، عليها السلام، على شاكلتهم القبيحة، وهي الصديقة البريئة من كل عيب، السالمة من كل سوء وقدح، فاستحقت الذكر في مواضع من التنزيل، بل باسمها قد نزلت إحدى سور الكتاب العزيز.
وتحصينها لنفسها الكريمة من الفواحش: التزام بأمر الشرع الحاكم، تفرع عنه المنة بأمر الكون النافذ، فالفاء في: "فَنَفَخْنَا": سببية إذ عطية الربوبية بالإكرام بالآيات الكونية الباهرة فرع عن التزام أحكام الألوهية، على ما اطرد من التلازم الوثيق بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، فلازم امتثال الشرع: العناية الكونية فلصاحبه الأمن بمقتضى نص التنزيل: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وهو أمن في الدنيا بطمأنينة القلب وإن خوف البدن أو قهر، وأمن في الآخرة قد بلغ غاية الكمال في سكنى جنان الرحمن تبارك وتعالى.
وقد جاء في آية التحريم صور أخرى من كمال التزامها عليها السلام بكلمات الرب، جل وعلا، الشرعية الحاكمة فقد: (صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، فصدقت بكلماته الشرعيات التي عطف عليها مبينها فهي الكتب المنزلة، وكانت من القانتين الطائعين، فصدقت الخبر المسطور، وامتثلت الحكم بفعل المأمور وترك المحظور، وبذلك استحقت درجة الصديقية، وذلك جار على ما اطرد مرارا من جمع أدلة الباب، فيظهر في كل دليل، وجه جديد يكتمل به الاستدلال، وذلك مئنة من بلاغة الكتاب العزيز الذي تلتئم آياته فتتعاضد ولا تتناقض، فبعضها يصدق بعض و: (لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
وهي من جهة أخرى قد تحمل معنى الفاء الفصيحة، على تقدير: فنزل عليها الملك فكلمته وكلمها ..... فنفخنا، فيكون هذا الموضع مجملا قد بينه سياق سورة مريم، كما تقدم في مواضع سابقة، فذلك جار، كما تقدم مرارا، مجرى تفسير آي الكتاب المجمل بآيه المفصل.
وجاء النفخ، كما اطرد في هذا السياق: منسوبا إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، فنفخ فيها الرب، جل وعلا، من:
الروح القدس الذي أضيف إلى الرب، جل وعلا، تشريفا، فذلك من تمام التنويه بذكره، عليه السلام، وفيه تنويه بذكرها، عليها السلام، فالنفخة التي سرت في جيب درعها قد صدرت من معدن القدس: الروح الأمين، فتكون: "من" على هذا الوجه لابتداء الغاية، فابتداء غاية صدور النفخة كان منه عليه السلام، فتحققت صورة السبب وخلق المسيح عليه السلام بالكلمة التكوينية النافذة.
أو من: روح المسيح عليه السلام، فالإضافة أيضا: إضافة مخلوق إلى خالقه في معرض التنويه بذكره، عليه السلام، فذلك، أيضا، من تمام العناية به وبأمه عليهما السلام، فهو روح من جملة الأرواح المخلوقة، التي صدرت من الرب، جل وعلا، صدور المخلوق من الخالق بالكلمة التكوينية النافذة، فبيان ذلك آية النساء وفيها: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، وإنما خص بالذكر، لما تقدم من العناية بشأنه، فليست روحه الشريفة المخلوقة على هذه الطريقة العجيبة كبقية أرواح البرية. فـ: "من" هنا، أيضا، لابتداء الغاية، ولكنها ابتداء غاية الخلق لا النفخ كما في الوجه الأول، فدلالة: "من" واحدة وإنما اختلف المعنى تبعا لاختلاف المورد فمورد النفخ غير مورد الخلق.
والآية تحتمل المعنيين بلا إشكال، بل في كليهما من صور العناية بالبتول وابنها، عليهما السلام، ما يزيد المعنى بيانا وتقريرا.
ثم ذيلت الآية بمنة أخرة وهي صيروتها وابنها آية للعالمين:
وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ:
(يُتْبَعُ)
(/)
فالجعل هنا بمعنى التصيير بقرينة تعديه إلى مفعولين، وجاء معظما فذلك مئنة من عظم قدرة الرب، جل وعلا، البارئ لهذه الآية الكونية الباهرة في معرض التحدي لبني إسرائيل ولسائر الخلائق، فظهر بها من كمال قدرته على الخلق ما اكتملت به قسمة الخلق الرباعية: فآدم بلا أب أو أم، وحواء من أب بلا أم، والمسيح من أم بلا أب، وسائر الخلائق من أب وأم، فذلك آكد في بيان قدرته، جل وعلا، على الإيجاد، وحكمته في وضع الأسباب المنتجة لمسبَّباتها، فسنة النكاح الكونية هي الذريعة إلى استيلاد الذرية، فإذا شاء خرقها في معرض الإبداع كما في خلق آدم وحواء، أو الإعجاز، كما في خلق المسيح عليه السلام، فلا راد لمشيئته العامة النافذة.
وإلى طرف من هذا المعنى أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله في معرض بيان لوازم ربوبيته، جل وعلا، من خلق الأضداد على وجه يظهر به كمال قدرته وحكمته، إلى طرف من هذا أشار بقوله:
"ولهذا سبحانه خلق النوع الإِنساني أَربعة أَقسام:
أَحدها: لا من ذكر ولا أُنثى وهو خلق أَبيهم وأَصلهم آدم.
الثاني: خلقه من ذكر بلا أُنثى كخلق أَمهم حواءَ من ضلع من أَضلاع آدم من غير أَن تحمل بها أُنثى أَو يشتمل عليها بطن.
الثالث: خلقه من أُنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
الرابع: خلق سائر النوع الإِنساني من ذكر وأُنثى.
وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأَن الأَمر ليس كما يظنه أَعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أَن ذلك أَمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأَنه ليس للنوع أَب ولا أم وأَنه ليس إِلا أَرحام تدفع وأَرض تبلع وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاءِ الجهال الضلال أَن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إِلى حامل لها، وأَنها من أَدل الدلائل على وجود أَمره فى طبعها وخلقها، وأَودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأَسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيده مسخرة لأَمره تعالى منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وإِمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأَنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف فى ذاتها ونفسها، فضلاً عن إِسناد الكائنات إِليها". اهـ
"طريق الهجرتين"، ص145، 146.
ففي ذلك رد دامغ على الملاحدة في الماضي وفي الحاضر، وفي كل عصر، فالأفكار واحدة، وإنما تعاد صياغتها في قوالب عصرية، إن صح التعبير، ولكل زمان منظروه، فليس "ماركس" ورفاقه ببدع من الرفاق!، بل قد سبقهم رفاق كثيرون نظروا للمذهب الإلحادي، ونسبوا كل الحوادث إلى الطبيعة الشاهدة بعجزها وفقرها على كونها حادثة مخلوقة فكيف خلقت، وهي المخلوقة، فلا يهب الفقير لفقير مثله شيئا، وإنما يرجع الاثنان في صدروهما إلى رب غني قادر فاعل بالإرادة والاختيار، خلق الكون بكلماته التكوينية النافذة، وشرع من الكلمات الشرعية الحاكمة ناموسا هو أكمل النواميس به تحفظ المقادير، فيصلح أمر الدنيا والدين، وذلك هو ناموس النبوات الحاكمة فهي، كما تقدم مرارا، أبرز صور عناية الرب جل وعلا بسائر الخلائق فهي الرحمة للموافق والمخالف.
وجاء وصفهما جميعا بالآية، لأن كل منهما صار آية بالآخر، كما أشار إلى ذلك الراغب الأصفهاني، رحمه الله، في "مفرداته"، وتابعه عليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك آكد في بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، وكمال اصطفائه لهما بجعلهما آية: نكرت تعظيما، فهي آية عظيمة للعالمين، فذلك مئنة من عموم هذه الرسالة دون غيرها من الرسالات، فإنه لا كتاب في الأرض الآن يشير إلى هذه الآية على النحو الصحيح بلا تحريف بغلو كغلو النصارى، أو جفاء كجفاء يهود، الطاعنين في النبوة، المتسلطين على أصحابها بالقول والفعل، لا كتاب في الأرض يشير إليها على الوجه الأصح والأليق بمقام النبوة المعصومة لعيسى عليه السلام والصديقية المحمودة للبتول عليها السلام: إلا الكتاب العزيز الذي جاءت به خاتمة الرسالات السماوية.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهي أيضا: آية شرعية تتلى آناء الليل وأطراف النهار، فذلك وجه عناية أخرى بهما، أن أبقى الله، عز وجل، ذكرهما، ورفعه بين العالمين فلا يذكران في الكتاب العزيز إلا في سياق الثناء الجميل بالطهر والعفاف والاصطفاء للأم، عليها السلام، وكمال العبودية والاصطفاء بآخر رسالات بني إسرائيل للابن عليه السلام.
وفي ختام السياق جاء التنويه العام بسير أولئك السادة:
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ:
فالأنبياء عليهم السلام: أمة واحدة دينهم الجامع الإسلام، وإن تباينت الشرائع، تبعا لتباين أحوال الأمم، فلكل ما يلائمه، وذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، مئنة من عظم حكمة الرب، جل وعلا، بأن أعطى كل خلق ما يلائمة من الأحكام الكونية والشرعية، فأمم لا تصلحها إلا الشدة، وأمم لا يصلحها إلا اللين، وأمم قد اكتملت شريعتها فهي الجامعة للترغيب باللين والترهيب بالشدة، وتلك هي الأمة الخاتمة فلها أعظم نصيب من كمال وصف الرب، جل وعلا، فتفعل المأمور رغبة في آثار أوصاف جماله جل وعلا، من الرحمة والغفران والإكرام، وتجتنب المحظور رهبة من أوصاف جلاله جل وعلا، من البطش والمكر والانتقام.
ومع هذا الاختلاف فإن أصول الشرائع واحدة وذلك مئنة من كون الشارع، جل وعلا، واحدا.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأهل الكتاب معهم حق في الخبريات والطلبيات ومعهم باطل وهو ما بدلوه في الخبريات سواء كان المبدل هو اللفظ أو معناه وما ابتدعوه أو ما نسخ من العمليات والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل فإن الذي اتفقت عليه هو الذي لا بد للخلق منه في كل زمان ومكان وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ". اهـ
"الجواب الصحيح"، (3/ 71).
بل الشريعة الواحدة تتفاوت أحكامها، فمواضع لا يصلح فيها إلا الشدة، وأخرى لا يصلح فيها إلا اللين، وأزمان لا يصلح فيها إلا الحكم الشديد، فإذا زالت العلة والحكمة من تشريعه نسخ بالتخفيف، فذلك، أيضا، من كمال حكمته، عز وجل، في تربية الجماعة فيلائمها الجلال حينا ويلائمها الجمال حينا آخر، ولكل مقام مقال.
ثم جاء القصر على جهة الحقيقة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فأنا ربكم لا رب لكم غيري، لكمال نعمه، جل وعلا، فهو الرب الخالق البارئ المصور الملك المدبر الرزاق ..... إلخ، فتلك بعض نعمه على خلقه، فهي أعظم وأكثر من أن تحد بوصف أو قدر، ولازم ذلك على ما اطرد من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية: "فاعبدون"، ولا تشركوا بي غيري، فالتمانع في الربوبية لازمه التمانع في الألوهية، فلا إله معبود بحق إلا هو إذ لا رب خالق إلا هو.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 03 - 2010, 07:49 ص]ـ
ومن سورة غافر:
ومن قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ):
فتعريف الجزأين مئنة من قصر هذا الوصف على الرب، جل وعلا، فالرزق، من أخص أوصاف الربوبية، والفعل الكوني بإنزال الماء من السماء فهو سبب الرزق والنماء، ذلك، أيضا، مما اختص به الرب، جل وعلا، فالسبب المغيب من سوق الملائك للمزن، والسبب المشهود من تلاقح السحب لإنزال المطر ..... إلخ مما دلت عليه العلوم الحديثة، كل ذلك لا يكون إلا بكلمة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة فهي العلة الأولى لكل فعل في الكون فينزل الماء بقدر، ويحجزه بقدر، ويجريه رحمة بقدر، وينزله عذابا بقدر، فكل حركة في هذا الكون بقدر رباني نافذ، فاختص الرب، جل وعلا، بالوصف والفعل الصادر عنه على جهة القصر، فدلالته حقيقية، فهو لا غيره الذي يؤثر في كونه بكلماته على جهة الاستقلال، فما عداها من الأسباب تتأثر بغيرها فلا بد للسبب المخلوق من شروط تستوفى وموانع تنتفي، بخلاف العلة الأولى: كلمة الرب، جل وعلا، الكونية، فهي، كما تقدم مرارا، العلة المؤثرة
(يُتْبَعُ)
(/)
في غيرها على جهة الاستقلال فتؤثر ولا تتأثر، ففعل الرب، جل وعلا، في كونه، فعل مريد قادر غني، فلا يعجزه شيء، ولا يفتقر إلى شريك يظاهر أو سبب يعاضد.
فـ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ: والمضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، فنزول المطر، وإن حبس القطر في زماننا لعظم الذنوب التي طال شؤمها الزرع والبهائم!، نزوله آية كونية باهرة، ترى بالأبصار الظاهرة، وتدرك بالبصائر الباطنة، فالرؤية في هذا السياق تحتمل الرؤية البصرية والرؤية العلمية القلبية، ولا تعارض بينهما، بل الجمع بينهما مما يثري السياق، على ما اطرد مرارا، من توارد المعاني على السياق الواحد على نحو لا يقع به تعارض، بل كل معنى للآخر معاضد، فالبصر منفذ إلى القلب، فترى العين ثم يدرك العقل، وذلك أمر حاصل في الرؤية المحمودة والرؤية المذمومة، فترى العين الصورة المحرمة فتنفذ إلى القلب فتأسره وتضعف قوى الخير فيه فتقوى نوازع النفس الأمارة وهواتف الشيطان، لركود رافد الخير، فإن كانت الرؤية على الوجه المشروع بالرؤى الصالحة للآيات الكونية الباهرة والآيات الشرعية الحاكمة التي ترى بالعين وتتلى باللسان، فيستفيد منها القلب مادة إيمان نافعة، فيجري رافد الحياة في القلب بماء الحياة، فيثمر في القلب ثمار الإيمان الطيبة فهي الغذاء النافع لللروح الباطن، فالآيات في هذا السياق: تنصرف إلى الآيات الكونية الباهرة، ومنها إنزال المطر الذي عطف على الآيات المجموعة المضافة إلى الضمير العائد على الرب، جل وعلا، "آياته"، فذلك مئنة من العموم كما قرر أهل الأصول، فعطف المطر عليها وهو فرد من أفرادها: عطف خاص على عام، إطنابا في بيان وصف ربوبيته، تبارك وتعالى، فالآيات الكونية هي أثر صفات ربوبيته إيجادا وإفناء، وعناية بالخلائق بتيسير أسباب الحياة، ومنها: إنزال المطر، فهو أظهر أسباب الحياة، فماهيته هي معدن الحياة، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، فذلك من ربوبية إيجاده فجعل من ماهية الماء النازل، على حد الجعل الكوني النافذ، جعل منها كل الأحياء، فالماء عنصر أصيل في تكوينها، فحاجتها إليه لا تنقطع، وتخلله مسالك الأبدان سبب في استبقاء المهج، فله دور كبير في سائر عمليات الهدم والبناء في الجسد الحي الحساس.
فعطف نزول الماء في معرض تقرير ربوبية العناية بالخلائق على حد المضارعة المزيدة: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ، فالتنزيل مئنة من التكرار، فاستحضرت الصورة في مقام الامتنان بصيغة المضارعة، وصيغة التضعيف مئنة من تكرار نزول الرزق من السماء، فـ: "من" لابتداء الغاية، إذ السحاب فيها كائن، فأطلق السماء وأراد الحال فيها، فذلك من مجاز المحلية عند من يثبت المجاز، ومن ينكره قد يحتج بدلالة لفظ: "السماء" على كل عال فهو فوق الأرض كائن، والسحاب مما يعلو الأرض بداهة، وقد دلت القرينة اللفظية في نحو حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ ............. "، على إطلاق السماء على المطر، فنزول المطر من السماء قرينة حسية تفيد المخاطب علما ضروريا بإرادة المطر في هذا السياق، وكذلك نزول المطر من السحاب قرينة حسية تفيد المخاطب، أيضا، علما ضروريا، بإرادة السحاب في سياق الآية، ونكر الرزق تعظيما، فذلك مما يناسب تذييل الآية السابقة باسمي الرب جل وعلا: (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فحصل التناسب بين وصفي العلو والكبر فهما مظنة رؤية الآيات الباهرة ونزول الأرزاق الوافرة، ووفرة الرزق يناسبها تنكيره تعظيما، على ما اطرد من أغراض التنكير في كلام البلاغيين، فهو جار مجرى المشترك اللفظي لتعدد أغراضه، بل مجرى الأضداد لتعارض بعضها، فيفيد التعظيم تارة، ويفيد التحقير أخرى، ويفيد التكثير تارة، ويفيد التقليل أخرى، والسياق هو الذي يعين مراد المتكلم، فهو القرينة الفاصلة في هذا النزاع، فقرينة الامتنان
(يُتْبَعُ)
(/)
على العباد والعناية بهم بتنزيل الأرزاق قرينة ترجح معاني التعظيم للرزق النازل فهو عظيم الوصف لعظم ما يحصل به من الانتفاع، والتكثير فهو وفير يحصل به نماء الزروع وسقي المهج ناطقة كانت أو عجماء لا تعقل، فالماء سبب الرزق، فأطلق الأثر الناتج وأريد السبب المنتِج، فذلك، أيضا، من المجاز المرسل، عند من يقول بالمجاز، فعلاقته: المسببية، ومن ينكر المجاز فإنه يجعل دلالة الماء على الرزق من قبيل الدلالات العقلية الضرورية، فدلالة السبب على المسبَّب دلالة ضرورية يدركها سائر العقلاء، ودلالة الحس، وهي من الدلالات الضرورية، شاهدة أيضا، للمراد من الرزق في هذا السياق، فالحس يدرك بداهة أن الماء هو سبب نماء الزروع وصلاح الأبدان، وقد يقال من جهة أخرى: الماء رزق باعتبار ما يتولد عنه من الزرع، فهو سببه، ورزق في نفسه، فبه، كما تقدم، تحفظ المهج، فيكون رزقا على جهة الحقيقة من هذا الوجه، وهذا مما قد يشهد لدلالة اللفظ على المعنى دون حاجة إلى حمله على المجاز، فالكلام على حقيقته إلا إن تعذر الحمل عليها فيحمل على المجاز لقرينة معتبرة، ولا تكون غالبا إلا لفظية، فيؤول الأمر إلى سياق الكلام، وهذا مما يضيق دائرة الخلاف بين مثبتي المجاز ومنكريه ويجعله في مواضع كثيرة محض خلاف لفظي، فالمعنى المراد متبادر إلى الذهن بداهة سواء أثبت المجاز أو نفي.
وعقيب التذكير بالآيات الكونية في معرض تقرير ربوبية العناية جاء التذييل بلازم ذلك من وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية، ومن صورها: الإنابة على جهة القصر الحقيقي أيضا: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)، فلا ينتفع برؤية تلك الآيات إلا من ينيب، والمضارعة على ما تقرر: دليل تجدد واستمرار فتلك عبادة قلبية لا يتصور انقطاعها منه، فهي من مواد حياته الضرورية.
ثم جاء التفريع على ما تقدم من آيات ربوبية العناية كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير رحمه الله: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: فذلك من اختصاصه، جل وعلا، بالتأله، فرعا عن اختصاصه بالربوبية، على ما تقدم مرارا، من التلازم العقلي الوثيق بين ربوبية الرب، جل وعلا، وألوهية العبد.
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ: فذلك من المبالغة، فـ "لو": "وصلية"، فاعبدوه ولو بلغ ذلك ما بلغ من كره الكافرين مع تسلطهم عليكم فذلك أقصى ما يتصور في مثل هذه الحال قلا يثنيكم ذلك عن إفراده، جل وعلا، بالعبادة فالعاقبة للموحدين ولو بعد حين.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 04 - 2010, 08:25 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ)
فذلك من أدلة العناية بالبشرية بإلقاء أخبار الوحي إلى الأنبياء، عليهم السلام، فهم صفوة الخلق الذين اختارهم الرب، جل وعلا، بمشيئته النافذة، ولما كان السياق سياق امتنان من الرب العلي، عز وجل، على عباده، ناسب ذلك تصدير الخطاب بوصف الرفعة، فذلك من الأسماء المقيدة للرب، جل وعلا، فليس من أسمائه الرفيع، وإن كان المعنى صحيحا، بل واجبا للرب، جل وعلا، فالرفعة من العلو، والعلو ثابت متواتر للرب، جل وعلا، بكل معانيه فله علو ورفعة الذات، والوصف، والقدر، والشأن،، ولكن الشأن في باب الأسماء والصفات: التوقيف، فما ورد مطلقا بقي على إطلاقه، وما قيد: فلا يطلق إلا مقيدا، كما هو الشأن في هذا الاسم: "رفيع الدرجات"، وما جاء وصفا فلا يشتق منه اسم، على الراجح من أقوال أهل العلم، وما جاء فعلا أثبت فعلا ولم يزد على ذلك باشتقاق، كما تقدم، وما أطلق خبرا كـ: الأزلي والقديم فلا يسمى به الرب، جل وعلا، ولا يوصف، إذ باب الإخبار أوسع من باب الوصف، وباب التسمية من باب أولى، فهو أضيقها، فهو، جل وعلا، رفيع الدرجات، فـ: "أل" في "الدرجات": جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه، فله جل وعلا الرفعة بكل معانيها، ذاتية كانت أو معنوية، ودرجات الرفعة على هذا الوجه لا تعد ولا تحصى، فلا يحصي ثناء على الرب، جل وعلا، إلا هو، فناسب ذلك إيراد الوصف على جهة العموم المستفاد من الإضافة إلى المحلى بـ: "أل" الجنسية
(يُتْبَعُ)
(/)
الاستغراقية على التفصيل السابق، ذُو الْعَرْشِ: فذلك خبر ثان يناسب ما تقدم من رفعة الدرجات فهو صاحب العرش الذي هو أعلى الكائنات وسقف المخلوقات قد استوى عليه استواء يليق بجلاله، فلا يفتقر إليه، بل العرش وما دونه إلى أسفل السافلين له مفتقر، وبمدده باق مستمر.
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: فذلك خبر ثالث، والإطناب في معرض الثناء على الرب، جل وعلا، بتعدد الأخبار، مقصد صحيح بل واجب، فله، جل وعلا، كما تقدم، من أوصاف الثناء ما لا يحصيه سياق، وإنما تعرف إلينا بما تطيقه عقولنا من أوصاف كماله التي أنزلها في كتابه وعلمها رسله، عليهم السلام، فلا يثبت خبر في هذا الشأن إلا بدليل من الكتاب أو السنة فهما مستند المستدل في كل مسألة دينية: علمية كانت أو عملية، ويتأكد ذلك أكثر في المسائل الخبرية التي لا يدركها العقل أو الحس، وأشرفها مسائل الإلهيات من الأسماء والصفات فتلك مما لا يثبت إلا بنص صحيح صريح. فيحمل على ظاهره المتبادر إلى الذهن، إذ من المحال أن يتعرف إلينا الرب، جل وعلا، بنصوص ظاهرها غير مراد، بل موهم قد يوقع في الضلال، فذلك من سوء الظن به، جل وعلا، بمكان.
فيلقي الروح، وإلقاءه الروح إما أن يكون من:
الملك الموكل بالنفخ في الأجنة، فذلك من إلقاءه الأمر الكوني النافذ بسريان الروح المخلوق في الجنين بواسطة الروح الملكي الموكل بالأرحام، فالروح يطلق على هذا الملك باعتبار تعلق أمر الروح: مادة حياة الأبدان، بأمر الرب، تبارك وتعالى، لذلك الملك بنفخ الأرواح وكتابة الأرزاق والآجال والمصاير.
فالعهد في "أل" على هذا التأويل يرجع إلى ملك الأرحام، فنفخته هي مادة حياة الأبدان.
وإما أن يكون من الروح القدس عليه السلام، فذلك من إلقاءه الأمر الشرعي في روع الرسول البشري بواسطة الرسول الملكي الموكل بأمر الرسالات، فيلقي الوحي، وهو مادة حياة الأرواح، من كلمات الرب، جل وعلا، الشرعية: أخبارا كانت أو أحكاما، في معرض الإنذار، وناسب ذكره هنا أن السورة مكية فالمخاطب آنذاك كفار مكة، وسياق الإنذار والتهديد بهم أليق، فيلقيه بواسطة الروح القدس عليه السلام.
فالعهد في "أل" على هذا التأويل يرجع إلى الروح القدس، عليه السلام، فنفثه في روع الأنبياء عليهم السلام هو مادة حياة الأرواح.
والسياق يرجح المعنى الثاني بقرينة انتهاء غاية الإلقاء إلى من يشاء الرب، جل وعلا، اصطفاءه من العباد، وهم الأنبياء عليهم السلام، فالروح الملقى هو: الوحي، وهو من أمر الرب، جل وعلا، لانقسام أمره إلى كوني وشرعي، والوحي النازل على قلوب الأنبياء عليهم السلام من القسم الثاني فلا ينزل الملك الموكل بالرسالات إلا بالأمر الشرعي، كما لا تنزل بقية الملائك المدبرات إلا بالأمر الكوني من إحياء وإماتة وقطر وعذاب ...... إلخ.
فمع صحة المعنيين إلا أن السياق قد رجح الثاني لما تقدم من القرينة اللفظية، فهو، كما اطرد مرارا، أصل في معرفة مراد المتكلم وحمله على الوجه الذي يريده إن احتمل أكثر من معنى.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 04 - 2010, 08:15 ص]ـ
ومن سورة الصافات، ومن سياق عناية آخر بالرسل عليهم السلام:
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ:
فذلك من دلالة العناية بالرسل عليهم السلام وهو أمر قد اطرد من قصصهم، فجرى مجرى التواتر، وقد أبقى الله، عز وجل، من ذكرهم وآثارهم وما وقع بالمكذبين بهم ما فيه عبرة لمن تدبر ونظر.
وصدر السياق بـ: "قد"، ولام القسم فهي دالة على قسم محذوف، وذلك جار على ما اطرد من إيجاز الحذف لدلالة المذكور على المقدر المحذوف، فذلك من بلاغة التنزيل بإيجاز المباني مع عدم الإخلال بدلالتها على المعاني، والقسم في معرض بيان فعل الرب، جل وعلا، بإجابة الدعاء: أبلغ في توكيد العناية بنوح عليه السلام، ونسب فعل النداء إلى ضمير الفاعلين على ما تقرر مرارا، من ملاءمة التعظيم لسياق الامتنان بإجابة الدعاء أو الإنجاء .... إلخ.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك النداء من المجمل الذي جاء بيانه في مواضع من التنزيل، كسورة نوح فإن فيها نداء واعتذارا، عما بدر من قومه، فقد دعاهم ليلا ونهارا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وتلك وظيفة الرسل، عليهم السلام، فهم الهداة إلى الحق على جهة البيان والإرشاد، فليس لهم من أمر هداية التوفيق والإلهام شيء.
فذلك جار على ما تقدم مرارا من بيان مجمل التنزيل بمبينه.
وتفرع عن ذلك النداء بالدعاء: المسارعة بالإجابة لدلالة الفاء على التعقيب، فهي تفيد هنا: التفريع عما تقدم من النداء، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلازمه الإجابة في معرض العناية، والتعقيب، فذلك آكد في بيان المنة بالمسارعة في الإجابة، كما تقدم، والسببية، وهي قريبة الشبه في المعنى من التفريعية، فما بعدها مسبَّب عما قبلها، وذلك من جنس قولك: ما بعدها فرع عما قبلها، فدلالة التلازم العقلية في كلا الوجهين حاصلة.
وصدر الجواب بلام الابتداء، فذلك من التوكيد بمكان، فتلك لام ثانية غير لام القسم الأولى، وحذف المخصوص بالمدح والثناء لدلالة السياق عليه فلا يجيب الدعاء إلا الله، عز وجل، فالإجابة هنا: إجابة مخصوصة لنداء نبي كريم، فاستحق التعظيم بإيراد صيغة الجمع: "الْمُجِيبُونَ"، وتقدير المخصوص بالمدح بضمير جماعة المتكلمين: "نحن"، فلنعم المجيبون نحن، وبعض النحاة يقدر لـ: "نحن" خبرا من قبيل: فلنعم المجيبون نحن الممدوحون بوصف الإجابة لدعاء الرسل عليهم السلام، فذلك، آكد في تقرير المعنى، ويرد عليه أن فيه تقديرا زائدا، والأصل في الكلام: عدم التقدير، فهو ضرورة لا يلجأ إليها إلا عند تعذر استقامة المعنى بدونها ولا ملجئ هنا، فجملة: "نعم المجيبون": خبر مقدم، و: "نحن": خبر مؤخر، فلا تقدير هنا إلا للمخصوص بالمدح، بخلاف التقدير السابق ففيه تقدير المبتدأ والخبر، فيكون السياق قد احتوى جملتين: جملة مذكورة، وأخرى محذوفة مقدرة، وذلك هو الموضع الثاني من مواضع حذف الكلام بجملته كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب" بقوله:
"الثاني: بعد نعم وبئس إذا حذف المخصوص وقيل: إن الكلام جملتان نحو: (إنا وجدناه صابراً نعمَ العبدُ) ". اهـ
فالجملة الأولى: نعم العبد، والجملة الثانية: أيوب الممدوح، أو: هو أيوب، فيكون ضمير الفصل من باب التوكيد على تعلق وصف المدح بأيوب عليه السلام.
ثم جاء بيان الإجابة عقيب إجمالها:
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: فعمت المنة التي جاءت معظمة مزيدة مئنة من زيادة المعنى، على ما اطرد من زيادة المبنى بالتضعيف: (ونجيناه)، وزيادة المنة بنسبة الفعل إلى ضمير الفاعلين، عمت تلك المنة العظيمة: مبنى ومعنى، نوحا وأهله، وعموم الأهل: عموم معهود لا يستغرق جميع أفراده، فليس المراد به أهله من جهة النسب، بل سياق الإنجاء دال على إرادة أهل الإيمان، فهو الوصف الذي علقت عليه النجاة، فهم أهله، دون غيرهم، وإن كانوا من خاصة أهله كالزوجة والولد، كما تقدم في مواضع أخر، فذلك من العام الذي أريد به خصوص معهود.
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ: فهو أبو البشر الثاني، وتلك منة عظيمة، إذ أهلك الرب، جل وعلا، البشر أجمعين انتصارا لنبيه نوح، عليه السلام، لما كذبوه وآذوه، فلآحاد المؤمنين كرامة عظيمة عند الرب، جل وعلا، فكيف بنبي كريم من أولي العزم من الرسل عليهم السلام؟!.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ: فيحتمل ترك الذكر بالثناء الجميل، فيكون من جنس لسان الصدق الذي سأله الخليلُ عليه السلام ربَّه جل وعلا، فـ: (اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ)، ويحتمل التضمين لمعنى الإنعام لقرينة التعدي بـ: "على" في سياق امتنان، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والسياق يحتمل كليهما فمعنى المنه فيهما حاصل، فالثناء الجميل من جملة الإنعام على صاحبه، بل ذلك من أعظم صوره، فهي نعمة باقية ما بقي في الأرض أثر للرسالات، فلا زالت الألسنة تلهج بالثناء الجميل بالصلاة والسلام على نوح وسائر النبيين: أعظم نعم الرب على الخليقة، فصلوات الله عليهم وسلامه أتم صلاة
(يُتْبَعُ)
(/)
وأطيب سلام.
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ: فذلك من الدعاء في معرض الثناء، فنكر السلام تعظيما، ولذلك جاز الابتداء به، مع كونه نكرة لتضمنه معنى الوصف بالعظمة فهو مخصص للنكرة، وذلك نوع تعريف لها يسوغ الابتداء بها، كما تقدم. والسلام معنى جامع للبراءة من العيوب والقوادح، والدعاء بذلك أبلغ ما يكون في الثناء بسلب أوصاف النقص وإثبات كمال ضدها لزوما كما قرر أهل العلم في هذا الباب الجليل، فالنفي مراد لغيره، والإثبات مراد لذاته.
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: فذلك مما اطرد بمقتضى السنة الربانية، فـ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، فذلك العموم محفوظ لا مخصص له، فيدخل فيه كل المحسنين، وأول الناس دخولا فيه: الأنبياء عليهم السلام فهم أشرف أجناس المحسنين، فمن بعدهم تبع لهم في ذلك، فلا يعادلهم غيرهم مهما بلغت مكانته، ولكل من ذلك الجزاء العظيم نصيب بقدر تحقق وصف الإحسان فيه، فهو العلة الجالبة للحكم، فمتى كان إحسان كان الجزاء بالإنجاء وإهلاك الأعداء، ومتى لم يكن الأول لم يكن الثاني، فذلك جار على ما تقدم مرارا من التلازم العقلي بين المعلول وعلته، وفي الخبر نوع تهييج وإلهاب لكل محسن لكي ينال من ذلك الجزاء نصيبه، فهو خبر بمعنى الإنشاء على ما اطرد من دلالة أخبار الوعد على الحث على ملازمة موجبه من الطاعات المنجية.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ: فذلك مزيد إطناب في الثناء عليه، وهو، أيضا، منزل منزلة التذييل بالعلة عقيب المعلول، فصدر بالتوكيد فإنه: مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، على جهة بيان الجنس والتبعيض معا، من عبادنا: فتلك العبودية الخاصة، عبودية العابد المنقاد اختيارا لا العبد المذلل اضطرارا، ولذلك ذيلت الآية بوصف الإيمان، فالعبودية الاضطرارية يشترك فيها كل الخلائق: مؤمنهم وكافرهم، فلا يتعلق بها مدح أو ذم لذاتها، بخلاف العبودية الاختيارية، فيتعلق بها الثناء لوقوعها من صاحبها اختيارا، وإن لم يخرج باختياره لها بامتثال الأمر الشرعي طواعية عن الأمر الكوني النافذ فلا تكون طاعة أو معصية، بل لا تكون حركة في الكون إلا بمشيئة الرب جل وعلا.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ: استكمالا للعناية به، فنجى وهلك أعداؤه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 04 - 2010, 09:14 ص]ـ
وعودة إلى سورة غافر:
ومن قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ):
فأكدت دلالة الإيجاد باللام، فهي إما أن تكون لام الابتداء على وزان قولك: لزيد قائم، والزيادة في المبنى باللام مئنة من الزيادة في المعنى، وإما أن تكون لام جواب قسم مؤكد، فذلك وجه توكيد آخر، فالتوكيد على كلا الوجهين حاصل، وهو مما يناسب المقام، إذ ذلك توطئة لما سيأتي بعد ذلك من الأمر بدعاء الرب، جل وعلا، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فذلك من صور التأله التي يجب على كل مكلف إفراد الرب، جل وعلا، بها، فلا يدعى سواه، ولا يرجى سواه، لكمال قدرته على إجابة الداعي دون من سواه، فإجابة الدعاء من تدبير أمر الكون فيعطي، عز وجل، من شاء من فضله، ويمنع من شاء بعدله، فله الحمد حال الإجابة وحال المنع، فيكون ذلك جاريا مجرى التلازم الوثيق بين الربوبية وإجابة الدعاء، كما تقدم، من صور ربوبية التدبير، والألوهية، فالألوهية لازمها الوثيق: شرعا وعقلا وفطرة وحسا، فتلك من الضروريات، إذ العقل يدرك بداهة أنه لا يستحق الذل والخضوع إلا من له كمال القدرة والإحاطة بخلقه، فيشملهم بفضله وعفوه فذلك من آثار صفات جماله، وتحيق بهم آثار صفات جلاله من الإهلاك والإغراق وسائر صور العقوبات إن هم خرجوا عن شريعته وأمره.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأضيف المصدر إلى المفعول على تقدير: لخلق اللهِ السماواتَ، كما أشار إلى ذلك الألوسي، رحمه الله، فالحذف في هذا الموضع شاهد لما تقدم من دلالة الشرع والعقل وسائر وسائل الإدراك على تفرد الرب، جل وعلا، بإيجاد هذا الكون العظيم، فهو ربه المنشئ له من العدم، المدبر له فلا يختل ناموسه، يل يجري وفق سنن كوني محكم، لو خرج عنه لفسد العالم وانهار بنيانه، فسيره على هذا النحو الدقيق المتقن مئنة من كمال ربوبية مُسَيِّره، تبارك وتعالى، ووحدانيته فلا أحد غيره ينازعه الأمر فيقع الفساد والاضطراب لتعدد الآلهة الآمرة، فذلك، كما اطرد في مواضع سابقة، مظنة الفساد، بل مئنة من الفساد حتما، وشاهد حال الممالك الأرضية مع صغرها، يؤكد ذلك، فلو تعدد الملوك لفسد أمر الممالك، بل في الأسرة الصغيرة، لو نازعت الزوجة زوجها منصب القوامة، لفسد حال الأسرة لتعدد الرؤساء فيها، وشاهد حال أغلب الأسر يؤكد ذلك، أيضا، فتلك مناصب لا تقبل الشركة في عالم الشهادة، مع انحسارها واختصاصها، فكيف بمنصب الأمر والنهي تكوينا وتدبيرا لهذا الخلق العظيم، فهذا التدبير الكوني النافذ، وما يتفرع عنه من الأمر تشريعا، فهذا التدبير الشرعي الحاكم، فلا ينازع الرب، جل وعلا، فيهما إلا طاغوت قد تجاوز حد العبودية فرام نيل مرتبة الربوبية، بلسان مقاله، كفرعون، أو بلسان حاله كسائر من يجحد ربوبية الله، عز وجل، فينسب ما يقع في الكون من أحداث لغيره على جهة الاستقلال بالتأثير، أو يجيز لنفسه أو لغيره التحاكم لغير الشريعة الإلهية المنزلة من سائر الشرائع الأرضية المحدثة، فضلا عن أن يحملهم عليها حملا، فيكرههم على النزول على حكمه وإن خالف حكم الرب، جل وعلا، فتلك من أغلظ صور منازعة الرب، جل وعلا، منصب ربوبيته وإن لم ينطق بها صاحبها نطق فرعون الذي تجرأ على مقام الرب، جل وعلا، فأعلنها صراحة!.
وجاء العطف: (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): مئنة من كمال الإحاطة، فالكون كله، بعلويه وسفليه، بسماءه المظلة وأرضه المقلة، كله خلق كائن بمشيئة الرب، جل وعلا، العامة، وهو، في معرض الاستدلال على وقوع البعث، أكبر من خلق الناس، فذلك جار مجرى الاستدلال بقياس الأولى، كما اطرد في ميزان القرآن العقلي الصريح الموافق لقياس العقل الصحيح، فإذا كان إبداع هذا الكون على هذا النحو من الإتقان بلا مثال سابق قد وقع، أفلا تكون إعادة الخلق، وقد سبق، فإعادته أهون، أفلا يكون ذلك جائزا من باب أولى، ففيه استدلال بالأعلى على الأدنى، فمن قدر على الأعلى فهو، من باب أولى، قادر على الأدنى، والبعث، عند التحقيق، كما تقدم في مواضع سابقة، ليس جائزا فحسب، بل هو واجب شرعي دلت عليه الرسالات، وواجب عقلي دلت عليه شواهد النظر الصحيح في آيات الكون المبثوثة في الآفاق، وشواهد النظر الصحيح في قيم كالعدل والاقتصاص للمظلوم من الظالم وتوفية كلٍ ما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر ..... إلخ، فتلك من القيم التي استحسنها سائر العقلاء، وإن لم يكونوا من أتباع الأنبياء عليهم السلام، وكثير قد خرج من هذه الدنيا دون أن يستوفي حقه من ظالمه، أو يقتص منه لمظلومه، فلزم من ذلك ضرورة عقلية لا يدفعها إلا جاحد مكابر، لزم من ذلك وجود دار أخرى يقع فيها ذلك.
ثم جاء التذييل بـ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فهو جار مجرى المثل السائر، ولذلك أظهر لفظ الناس وحقه الإضمار كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 04 - 2010, 09:38 ص]ـ
وعودة إلى سياق العناية الخاصة بالأنبياء عليهم السلام في سورة الصافات:
ومن قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلك من التنويه بشأن نوح عليه السلام إذ من شيعته الخليل عليه السلام، إمام الموحدين، وحسب نوح عليه السلام بذلك شرفا، وهو، أيضا، دليل عناية بالخليل عليه السلام إذ نسب إلى ذلك الأصل الشريف، فهي: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، وشاهد ذلك من التنزيل: اصطفاء آدم ونوح وآل إبرهيم وآل عمران في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فاصطفاهم الرب، جل وعلا، اصطفاء أكد بـ: "إن"، والفاعل المعنوي: المبتدأ المذكور: الاسم الكريم: "الله"، والفاعل اللفظي المحذوف وهو الضمير المستتر في الخبر: "اصطفى"، فاصطفاهم على العالمين جملة، واصطفى كلا منهم على عالمي زمانهم.
وجاء التوكيد بـ: "إن" وتقديم ما حقه التأخير واللام في: "لإبراهيم"، فكل ذلك من تقرير معنى العناية بالنبيين الكريمين عليهما السلام بالتنويه بذكرهما، وإبراهيم من شيعة نوح عليه السلام من جهة كونه من ذريته، فتلك نسبة عامة، يشترك فيها كل من جاء من نسل نوح، عليه السلام، فلا يظهر فيها وجه تفضيل، فهي كالنسبة العامة لآدم عليه السلام، فهو أبو البشر الأول، ونوح، عليه السلام، أبو البشر الثاني، كما تقدم من عناية الرب، جل وعلا، به أن أنجاه ومن معه، وأبقى نسله دونهم، فذلك رفع لذكره فلا يذكر البشر إلا ويذكر أبوهم الأول والثاني، فأبوة الأول: عامة، وأبوة الثاني: خاصة باعتبار ما فوقه، عامة باعتبار ما تحته من سائر الأجناس فمن نسله خرج العرب وخرج السودان وخرج القبط وخرج الرومان، فكل أعراق الآدميين عنه قد صدرت، فكان ذلك جزاء من جنس عمله، إذ بذل عمره في الدعوة إلى الله، عز وجل، فلما أوذي واضطهد، أهلك الله، عز وجل، عدوه بالطوفان وأنجاه وأبقى نسله إلى أن يرث الله، عز وجل، الأرض ومن عليها. وأما النسبة الخاصة التي يظهر فيها معنى التفضيل، فهي نسبة النبوة، وهو أمر قد شاطر إبراهيمُ نوحا عليه السلام فيه، فنوح أول أولي العزم، وإبراهيم ثانيهم، فذلك وجه مشايعته له، فهما قد اشتركا في الوصف العام: وصف النبوة، فذلك أيضا من المشايعة التي شارك من كان قبل إبراهيم من الأنبياء نوحا عليه السلام فيها، فقد بعث قبله هود وصالح، عليهما السلام، فهما كالخليل من شيعة نوح عليه السلام باعتبار عموم الذرية، فكل البشر مؤمنهم وكافرهم، من ذريته، وتلك، كما تقدم، نسبة عامة، وزادا على ذلك أن شاركاه في النسبة الأخص، وهي نسبة النبوة، فتلك محل تفضيل وتشريف، ثم شاركه الخليل دونهما النسبة الأخص: وهي نسبة النبوة بقيد العزم، فهي أخص من النسبة التي سبقت بورود قيد العزم على نبوته، فهو، كما تقدم، التالي لنوح عليه السلام في هذا الوصف فلا نبي من أولي العزم بينهما، ولذلك كانت النسبة بينهما وثيقة فقد اشتركا في مرتبة العموم الذي لا أعم منه، وهي نسبة البشر جميعهم إلى أبيهم الثاني نوح، عليه السلام، ومراتب الخصوص جميعها فكلاهما نبي: فهذا قيد أول خرج به كل الذرية بينهما ممن ليس بنبي، وكلاهما من أولي العزم: فهذا قيد ثان خرج به هود وصالح، عليهما السلام، فتمحضت النسبة الخاصة بينهما، فأفرد إبراهيم عليه السلام بالذكر دونهما، فذلك من قبيل القصر الإضافي لا الحقيقي، فليس اختصاصه بوصف المشايعة لنوح عليه السلام، بمانع من دخولهما في حده، فهما، أيضا، من شيعة نوح عليه السلام، فالأنبياء إخوة لعلات فالدين واحد وأصول الشرائع واحدة، على ما اطرد مرارا من كون المنسوخ في شرائع الأنبياء هو الأحكام الفرعية لا الأخبار العلمية فذلك مما لا يقع فيه نسخ أبدا وإلا أفضى إلى وقوع الكذب في أخبار الرسالات وذلك أمر محال عقلا إذ لو صح لبطلت الحجة الرسالية ولجاز تعدد الحق، وهو، بقياس العقل الصريح: واحد لا يتعدد، ولو في الأحكام العملية التي يسوغ فيها الاجتهاد، فكيف بالأخبار العلمية من إلهيات وسمعيات ونبوات، فتلك من باب أولى: لا يكون الحق فيها إلا واحدا قد أخبرت به النبوات وتواطأت على إثباته، وإن تفاوت تفصيل مجمله من نبوة إلى أخرى، حتى جمع الرب، جل وعلا، خلاصة علوم وأحكام النبوات في النبوة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم صلى
(يُتْبَعُ)
(/)
الله عليه وعلى آله وسلم برسم العالمية، فهي تلائم كل البشر لتضمنها كل علوم الرسل، عليهم السلام، فيجد فيها كل بغيته سواء أكان منتسبا إلى شريعة سماوية، أم كان بلا شريعة، فقد وجد فيها العرب والعجم ضالتهم المنشودة فبها تحصل الهداية المحمودة إلى الطريقة المثلى في العلم والعمل، فينجو من سار عليها في الأولى والآخرة، فصلاح الدنيا بها منوط، وصلاح الآخرة على الإيمان بأخبارها وامتثال أحكامها موقوف، ولا يكون نسخ أيضا، في أصول الأحكام والأخلاق والسياسات فتلك مما تواطأت العقول الصريحات على استحسانه واستقباح مخالفته، فجاء النقل الصحيح مصدقا لها مبينا لمجمل وجوه استحسانها، فما استحسنه العقل الصريح الذي يسلم للنقل الصحيح حال وروده لا يمكن أن يخالف ما جاءت به النبوات، فإن موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول أمر قد انفردت به النبوات التي يكمل الرب، جل وعلا، بها الفطرة، ويزكي العقل بالهدى العلمي وأدلته من البينات الفارقة بين الحق والباطل، فالنبوة، كما تقدم مرارا، هي أعظم منة ربانية على النوع الإنساني فلا دليل عناية بالبشر أعظم منها لتعلقها بالروح، مادة صلاح البدن في هذه الدار، ومناط التنعيم أو التعذيب في دار البرزخ فهي الأصل فيها والبدن لها تابع، وقسيمة البدن في النعيم الكامل أو العذاب الكامل في الدار الآخرة، بل هي الأصل من جهة كونها محط التصورات والإرادات التي يصدر عنها البدن صلاحا فيستحق النجاة، أو فسادا فيستحق الهلاك، فهي عند التحقيق سبب ما يكون في الدار الاخرة من نعيم أو عذاب، فهي المحرك بما يقوم بها من علوم وحركات باطنة يظهر أثرها لزوما على الظاهر، فعناية الرب، جل وعلا، بالنوع الإنساني ببعث الرسل عليهم السلام بمادة صلاح الروح أعظم من عنايته بإنزال وإخراج الأرزاق: مادة صلاح الأبدان، فلا يجدي صلاح البدن إن فسدت الروح، كما هو حال المترفين، ولا تنقطع حاجة الروح إلى غذائها في كل وقت لتوالي عرض الفتن على القلوب، فذلك أمر مشاهد في اليوم الواحد من: الاستيقاظ إلى المنام فخلاله يتقلب القلب مرات ومرات، وتهاجمه الشبهات تارة فإن لم يكن علم نافع تغتذي به الروح ضعفت وتمكنت منها الشبهة، وتهاجمه الشهوات تارة أخرى، فإن لم يكن عمل صالح: باطن وظاهر تغتذي به الروح والجوارح، إن لم يكن ذلك: ضعفت الروح وتمكنت منها الشهوة فظهرت آثار ذلك على البدن لزوما، فبينهما كما تقدم تلازم وثيق، فما قام بالروح ظهر على البدن وإن اجتهد صاحبه في إخفائه وستره.
وذلك بخلاف غذاء البدن فحاجته إليه منقطعة، فيكفيه مرة أو مرتين أو ثلاث، كما أثر عن أحمد رحمه الله، فأين ذلك من حاجة الروح التي لا تنقطع؟
والشاهد أن ذلك وجه نسبة وثيق بين كل الأنبياء، عليهم السلام، وهو ما حمل عليه أبو السعود، رحمه الله، مشايعة الخليل لنوح عليهما السلام، فهما يشتركان في الدين العام: دين التوحيد الخالص، وفي جملة من الشرائع، قد تزيد وقد تنقص فلو قيل بشرع من قبلنا فكان أصلا مطردا من أصول الأحكام في سائر الرسالات فذلك مما يقوي النسبة بينهما، وهذه النسبة، كما تقدم، ليست خاصة بإبرهيم عليه السلام، دون هود وصالح وسائر الأنبياء، عليهم السلام، وإنما اختص الخليل بالذكر في هذا الموضع بعينه، لما تقدم من وجوه النسبة الوثيقة: الخاصة والعامة، بينه وبين نوح عليه السلام، وجاء التعليل لذلك بـ: إذ جاء ربه، فقد حملها بعض المفسرين كأبي السعود، رحمه الله، على الظرفية فقدر عاملا محذوفا على ما اطرد في هذا الموضع وهو: اذكر، فيكون تقدير الكلام على الانفصال، فإن من شيعته لإبراهيم، فتم الكلام بذلك، ثم جاء الاستئناف: اذكر إذ جاء ربه بقلب سليم، أو: فاذكر إذ جاء ربه بقلب سليم، في معرض العناية به بالتنويه بكمال توحيده وخلوصه من الآفات، وحملها بعض آخر، كصاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، على التعليل، فيكون الكلام على الاتصال، فتقدير الكلام، وإن من شيعته لإبراهيم، وعلة ذلك: أنه جاء ربه بقلب سليم، فجامع نوحا عليه السلام في الحكم فهو من شيعته ولا يكون الرجل من شيعة الرجل إلا إذا كان على طريقته، فهو من شيعته بل من أخص شيعته، كما تقدم، لأنه قد شاركه الوصف وهو: سلامة القلب
(يُتْبَعُ)
(/)
، وقيد المجيء بالحال: "بقلب سليم"، على تقدير: إذ جاء ربه سالما قلبُه من الشرك، فالحال، وإن كانت فضلة من جهة الصناعة النحوية في هذا الموضع فأركان الجملة بدونها قد اكتملت، إلا أنها عمدة في بيان المعنى المراد، فهي محط الفائدة، إذ ليس المراد المجيء مطلقا، فذلك أمر يشترك فيه كل البشر، فكلهم آتي الرحمن عبدا، وإنما المراد مجيء بعينه، هو المجيء الكامل الذي يليق بحال الأنبياء، عليهم السلام، فهم: صفوة الخلق، الذين اصطفاهم الرب، جل وعلا، بأشرف المناصب الإنسانية، منصب البلاغ برسم النبوة، ولكل من سار على طريقتهم من هذا الثناء نصيب، وإن اختصوا دون غيرهم بمنصب النبوة فهو مما لا يقبل الاكتساب، وإنما هو محض اصطفاء، كما تقدم، من الرب العليم الحكيم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، والمجيء الكامل في هذا الباب هو: المجيء بقيد السلامة من الشرك، فكان الخليل عليه السلام على هذا الوصف، فهو إمام الموحدين، كما تقدم، فاختصاصه بسلامة القلب، جار، أيضا، مجرى التنويه بالذكر دون اختصاصه بذلك الوصف بل قد شركه فيه كل الأنبياء، عليهم السلام، وإن وقع التفاضل بينهم، بل يشركهم من وجه، وإن كان أدنى، الصديقون والشهداء والصالحون، فلكل منهم قدر عظيم من سلامة القلب من الشرك، على تفاوت بينهم في ذلك الوصف الجامع لا يعلمه إلا الرب الخالق البارئ لتلك القلوب، فيكون ذكره، أيضا، غير مخصص لعموم الثناء على بقية الموحدين، وإنما ذكر تنويها بتوحيده الذي قد بلغ الغاية من السلامة والنصح.
ومن صور هذا التوحيد الذي قام به على جهة اللزوم لقلبه فلا ينفك عنه ولو لحظة من عمره: من صور ذلك التوحيد اللازم: التوحيد المتعدي بالإنكار على قومه، غيرة لمعبوده الحق أن يشرك به غيره، فالموحد لا يكتفي بتوحيده الخاص بل غايته تحقيق التوحيد العام، بإقامة أركان الدين، ونشر علوم المرسلين، عليهم السلام، فلا يهنأ إلا إذا وافقت السنة الشرعية: السنة الكونية في الجريان، فينتظم أمر الكون بظهور حكم الشرع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فالنعمة الكونية لا تستجلب بمخالفة الطريقة الشرعية: فـ: "إن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته"، فأنكر الخليل عليه السلام على قومه:
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ: فذلك من الاستفهام الإنكاري التوبيخي على ما وقع منهم من الشرك، وقدم المفعول به: "إفكا"، والمفعول له: "آلهة"، على تقدير: أئفكا لأجل الألوهية لغير الله، عز وجل، تريدون؟!، فقدم المفعول به والمفعول له لكونه محط الفائدة في الإنكار عليهم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فليس المراد توبيخهم على فعل التأله، فهو فعل جبلي قد فطر عليه الإنسان، بل قد شاركه فيه سائر الخلائق: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، فالنفس طالبة لحظها من الغذاء بالتأله، كما يطلب البدن حظه من الغذاء، فلكل غذاؤه الذي يلائم ما ركز فيه من القوى، فإن لم تتأله للمعبود بحق، جل وعلا، تألهت لغيره من المعبودات الباطلة.
وإمعانا في التوبيخ، جاء الإنكار بالاستفهام: فما ظنكم برب العالمين، فالظن مادة كلية مجملة: تحتمل الظن المذموم كما في هذا الموضع وكما في قوله تعالى: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، وتحتمل علم اليقين كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وتحتمل الرجحان الموجب للامتثال كما اصطلح المتأخرون من أهل الفقه والأصول، فقرينة السياق هنا قد دلت على المعنى الأول، فأزالت الإجمال بتعيين المعنى المراد، فسياق الذم يوجب حمل الظن على الشك والتذبذب، فآل المعنى إلى التوبيخ ببيان سوء
(يُتْبَعُ)
(/)
ظنهم بالرب، جل وعلا، إذ صرفوا العبادة لغيره، وذلك فرع عن جهلهم بكمال ذاته وأسمائه وأوصافه وأفعاله، فلا يكون سوء ظن إلا فرعا عن جهل سابق له، فالناس أعداء ما جهلوا.
فما ظنكم برب العالمين: أظننتم عجزه فلا يقدر على تدبير الكون فاتخذ من الخلق شركاء يظاهرونه، أم ظننتم نقصا في حكمته فلا يسعكم حكمه، بل يوقعكم امتثاله في حرج لا فكاك منه إلا بعزله عن منصب الفصل في المنازعات وتولية غيره من الخلق ذوي العلوم الناقصة والأقيسة الفاسدة؟!.
وتعليق فعل الظن برب العالمين: إشارة إلى وجوه العناية بهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" فذلك آكد في توبيخهم، بتذكيرهم بوصف ربوبية الإنعام عليهم بالنعم الكونية السابغة، فكان قياس العقل الصريح قاض بمقابلتها بكمال إفراده، جل وعلا، بكل صور التأله الباطن والظاهر، فلا يخشى سواه، ولا يسجد لسواه، ولا يكون حكم إلا بما وافق رسالاته الشارعة دون ما خالفها من الشرائع الأرضية الحادثة، على ما اطرد مرارا من عموم معنى التأله لكل صور العبودية الظاهرة والباطنة، فالعبادة باعتبار مفعول العبد كما عرفها بعض المحققين من أهل العلم: اسم جامع لكل ما يحبه الله، عز وجل، ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، فقول القلب الباطن بالتصديق والإقرار من العبادة، وقول اللسان الظاهر بالشهادة من العبادة، وفعل القلب بالخشوع والخضوع ..... إلخ من العبادة، وفعل اللسان بالتهليل والتسبيح وسائر الأذكار من العبادة، وفعل الجوارح لسائر الطاعات الظاهرة من ركوع وسجود من العبادة، فهي جامعة لكل صور التأله الباطن والظاهر، فتشمل معلوم العابد ومفعوله.
وتعليق الظن بوصف الربوبية من وجه آخر أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله دال على نوع وعيد بإشارته إلى وصف تمام ملك الرب، جل وعلا، لكونه، أعيانا وأفعالا، فكيف يصرف شيء من العبادة لغير الملك، عز وجل، فذلك وصف جلاله القاهر، فاستوفى المعنيان: ربوبيته بالعناية بخلقه بأوصاف جماله، وربوبية ملكه وقهره لسائر الخلق فذلك من آثار صفات جلاله، فله كمال الوصف: جلالا وجمالا، وذلك يقتضي، كما تقدم، وجوب إفراده بكل صور الألوهية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 04 - 2010, 08:11 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)
فذلك من مجاراة القوم على سبيل التنزل إذ كانوا من الصابئة عباد الكواكب والنجوم، أو مما عرفته العرب من كلامها، فمن يقلب فكره في أمر من الأمور، يقال له: نظر في النجوم، فقلب فكره ليقترح حجة يتخلف بها عنهم فقال: إني سقيم فتولوا عنه فرارا من العدوى، فالحال: "مدبرين": مؤكدة مبينة لعاملها، فالإدبار مظنة الفرار على جهة الإسراع، فراغ، على سبيل الفور، وهو مظنة التحيل للتوصل إلى أصنامهم خفية، فضلا عن تضمين فعل الروغان معنى فعل الذهاب، فذلك وجه تعديه بـ: "إلى" كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ثم خاطبهم على سبيل التهكم، فالعرض بـ: "ألا" في مقام الحث على تناول الطعام، مظنة الإكرام في غير هذا السياق، فلما كان المخاطب جمادا لا يعقل انقلبت الدلالة من الإكرام إلى الإهانة بالتعريض بعجزهم عن الفعل، فصارت: "ألا" الاستفتاحية على هذا الوجه: مظنة الاشتراك اللفظي فهي بالنظر إلى معنيي: الإكرام والإهانة: من الأضداد، وإن كان الأظهر فيها: الحض في مقام الزجر، والعرض في مقام التلطف مع المخاطب، فلا تخلو من معنى الإهانة وإن لم يكن ظاهرا متبادرا إلى الذهن من دلالتها المعجمية، فالدلالة الحملية لها باقترانها بقرينة السياق الذي ترد فيه: صارف معتبر لها عن معناها الظاهر الراجح وهو الإكرام
(يُتْبَعُ)
(/)
إلى المعنى المرجوح وهو الإهانة، وذلك تأويل صحيح لصحة القرينة لفظا وعقلا، فخطاب الجماد بالإكرام في سياق التعريض بعجزه مئنة من الإهانة، فذلك أمر بدهي، لا سيما ممن قد كمل عقله كالخليل عليه السلام فلا يتصور في حقه فساد العقل بخطاب الجماد على جهة الحقيقة، وكمل دينه، فلا يتصور أنه على دين قومه يعبد آلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئا، بل قد أنكر على أبيه ذلك، كما في آيات مريم: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، فذلك أظهر دليل على بطلان ربوبيتهم، فالرب، لا يكون إلا فاعلا بإرادة ومشيئة، فدلالة الإيجاد تقتضي كونه الموجِد لغيره بكلمات كونية نافذة، على جهة الاختيار بالمشيئة العامة، فلم يوجد الكون اضطرارا مقترنا بذاته القدسية، كما يزعم الفلاسفة نفات صفات الأفعال الربانية، ففعل الرب، عندهم، من قبيل الفعل الاضطراري بالطبع، لا الفعل الاختياري بالمشيئة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فمنشأ الزلل في هذا الأمر الجليل: قصور النظر عن إدراك أوصاف كمال الرب، جل وعلا، الذاتية والفعلية، وذلك مما لا يتلقى بداهة إلا من مشكاة النبوات، فلا يقدر غير النبي على إزالة الإشكالات والإجابه عن كل الاعتراضات التي يوردها أصحاب الشبهات الجاحدين لوجود أو كمال الرب جل وعلا، فالنبوة هي معدن النجاة في هذه المسألة المصيرية.
فعجز تلك الآلهة وقصورها عن تولي منصب الربوبية ظاهر، فهي مما حدث بعد أن لم يكن، فأوجدها عبادها من العدم!، وليس لها من صفات الفعل المؤثر في أحداث الكون شيء، بل هي محض تماثيل وصور يجري عليها ما يجري على سائر الكائنات من الفساد والتلف، بل حال من يدعوها أكمل من حالها، فذلك من جنس ما يقع فيه الغلاة في الأنبياء والصالحين، كما في دين النصارى ومن شايعهم من الإسلاميين على غلوهم، فتجد الخشوع والبكاء، والنذر والطواف، والتوجه بالسؤال لصاحب القبر، فقديس النصارى، والإمام أو الصالح في طرائق الغلاة من الإسلاميين لديه من وظائف الربوبية ما خلعه عليه الرب، جل وعلا، عليه على جهة النيابة!، ففوض له الأمر، فذلك عندهم من قبيل: التكريم له!، فيقول للشيء كن فيكون، كما يتردد على ألسنة الغلاة أمام بعض المشاهد في مصر، وما أكثرها!، وكل ذلك إنما يقع تحت ستار التوسل بجاه الصالحين!، فمع كونه محظورا ابتداء على خلاف في التوسل بذات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والراجح عدم جوازه، مع كونه محظورا ابتداء، إلا أنه لو سلم لهم بجوازه فليس دليلا على ما هم عليه من الشرك الأكبر، وإن كان لا يحكم بالشرك الأكبر على جهة التعيين لفرد بعينه منهم إن كان من أهل الإسلام في الجملة لا سيما في الأمصار التي خفي فيها العلم وكثر فيها دعاة الشرك الرسميون ولو بالسكوت عن المنكر فكيف بالمشاركة فيه والمتطوعون فضلا عن المنتفعين بأكل السحت الذي تفيض به خزائن النذور لتلك المشاهد والأضرحة، فالشاهد أن التوسل لا يعني طلب الرزق والذرية .... إلخ من ميت قد زال تكليفه، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، فآلات الفعل عندهم معطلة، لا تتصرف بضر أو نفع، فلا تنفع نفسها ابتداء فضلا عن أن تنفع غيرها بجلب رزق أو وهب ذرية ..... إلخ من الأمور الكونية التي لا تكون بداهة إلا لرب البرية، جل وعلا، فكيف يصير إلها من ذلك وصفه من العجز، والرب لا يكون إلا ذا قدرة كاملة على الخلق والإيجاد، فهو الأول فلا موجد له: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)، وهو الموجد لخلقه البائن عن ذاته، فلا يحل في خلقه ولا يحل خلقه فيه بل خلقهم بإرادته الكونية النافذة، فصار لهم وجود بعد العدم، فباين المربوب المحدَث، الرب المحدِث له بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وذلك أمر يجري على كل من خلع وصفا من أوصاف الربوبية على
(يُتْبَعُ)
(/)
غير الله، عز وجل، فصرف له من الألوهية ما لا يصرف إلا لله، عز وجل، ولو لم تكن حسية بركوع أو سجود، فمن رضي حكم غيره فقدمه عليه فكان مرد النزاع عنده إلى غير ما جاء به رسله، عليهم السلام، من النبوات الحاكمة برسم الشريعة الملزمة فـ: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، من فعل ذلك فقد أشبه الأولين في شركهم بأن اتخذ ربا مشرعا من دون الرب الملك المدبر بقضائه الكوني النافذ وقضائه الشرعي الحاكم، والكلام، أيضا، على جهة العموم بتحرير مناط الزلل في هذا الخطب الجلل وهو: اعتقاد صفة من صفات الربوبية أيا كانت في غير الله، عز وجل، فيلزم من ذلك على جهة الجزم واليقين صرف ما يقابلها من صور الألوهية لذلك الغير فيقع الصارف في الشرك من هذا الوجه أيا كانت الصورة التي يصرفها: محسوسة كانت أو معقولة.
فصح تهكم الخليل عليه السلام من هذا الوجه، فدعاهم إلى فعل لا يقوم إلا بالأحياء، بل هو في حد ذاته، دال على نقص في الجبلة الآدمية، تنزه عنه رب البرية، عز وجل، فلا يأكل ولا يشرب لكمال غناه عن الأسباب فهو الموجد لها بقدرته المجري لها بمشيئته، فإذا كانوا عاجزين عن القيام بفعل من أفعال الأحياء المربوبين، فكيف يدعى لهم ما هو أعظم من ذلك من فعل الرب الحي القيوم الذي صدرت كل حياة عن مشيئته، فهو القائم على كل نفس بأسباب البقاء، فخلقها بكلماته الكونية النافذة ودبر أمرها بإجراء أسباب الحياة: فبقدره الكوني ركب فيها قوى الاغتذاء والنماء فأعد آلات البدن الفاعلة لقبول أسباب الحياة، وبقدره الشرعي أرسل لها الرسل عليهم السلام بكلماته الشرعية مادة حياة الأرواح، فتدبيره، كما تقدم مرارا، كوني للأبدان شرعي للأرواح فلا يشركه في هذا المنصب الرباني أحد ليصح إشراكه معه في منصب الإله المعبود الحق، فلا إله إلا هو، إذ لا رب إلا هو، فالتمانع في الربوبية بانفراده بأفعالها قاض بدلالة اللزوم العقلي الجازم بالتمانع في الألوهية، بانفراده، جل وعلا، بأفعال عباده على جهة التأله والعبودية.
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ: فذلك مزيد تهكم بهم بإبراز وصف نقص آخر فيهم، فلا ينطقون، والرب، لا يكون بداهة إلا متكلما فتلك من الصفات التي أجمع عليها أهل السنة والمتكلمون فهي صفة كمال ذاتية معنوية قد دل عليها الشرع والعقل، فاجتمعت لها الدلالتان: الخبرية الشرعية والقياسية العقلية، فالرب يتكلم بالكلمات الكونية تدبيرا لكونه، والكلمات الشرعية ابتلاء للعباد بتصديق أخبارها وامتثال أحكامها، فبكلماته الكونية يوجد عباده وبها يعتني بأبدانهم بتيسير أسباب الحياة لها، وبكلماته الشرعية يعتني بأرواحهم فأخبار الصدق وأحكام العدل خير غذاء للروح اللطيف الحال في البدن الكثيف فلكل ما يلائمه من أجناس الغذاء.
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ: فذلك جار على ما اطرد من بيان عجزهم الدال على بطلان ربوبيتهم وما يلزم منها من اتخاذهم آلهة ترجى وتخشى، فلا يملكون دفعا عن أنفسهم فضلا عن غيرهم، فلم يدفعوا عن أنفسهم ضرب الخليل عليه السلام، فهو ضرب يد موحدة شديدة الوطأة على كل صور الشرك فصاحبها قد كملت غيرته الإيمانية فلا يرضى إلا بإزالة كل صور الشرك المعقول والمحسوس من هذا الكون المشهود، فربه واحد وإلهه الحق واحد وإن جحد ذلك من جحد من أهل الإلحاد أو الإشراك لغيره معه في أوصافه الذاتية والفعلية من قدرة وعلم وحكمة ورزق وتدبير بالتكوين والتشريع ....... إلخ.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ: على جهة الإسراع انتصارا للباطل، كما ينافح أهل الباطل عن باطلهم في كل عصر ومصر، فحالهم: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).
(يُتْبَعُ)
(/)
فوبخهم الخليل عليه السلام بعد أن وبخ آلهتهم، فالاستفهام إنكاري توبيخي: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: فكنى بالموصول عن ذكرها صراحة تحقيرا من شأنها وإمعانا في بيان بطلان ألوهيتها بتعليق الحكم على وصف النحت فهو مئنة العجز والحدوث من العدم على هيئات لا يملكون لها تقديرا أو تغييرا فهي آلهة مجبرة حتى على أوصافها الذاتية!، فذلك أبلغ في بيان عجزها عن تدبير شأنها فضلا عن شأن غيرها، فكيف جاز عقلا إفرادها بصور العبودية التي لا تصرف بداهة إلا لرب قد كملت صفاته الذاتية والفعلية، فوصف ذاته جار على سنن الكمال، ووصف فعله جار على سنن الحكمة.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ: فذلك من المقابلة بين كمال وصفه، عز وجل، فهو الخالق لهم ولما يعملونه من الآلهة المنحوتة!، ونقصان وصف تلك الآلهة، وليس النحت مقصورا على النحت الحسي، بل كل من غلا في متبوع أو مطاع على جهة الطغيان، فقدم أمره على أمر الرب العليم الحكيم، المنفرد بالتكوين والتشريع، فقد نحت لنفسه من إلها ولو في عقله، فذلك النحت المعنوي، فمن ناحت لإله من الهوى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، ومن ناحت لإله بتحاكمه إلى الطاغوت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، ولكل مشرك إلهه المنحوت!.
وقدر بعض أهل العلم: "ما": مصدرية على تقدير: والله خلقكم وعملكم، وهو معنى يعم ما تقدم، فالآلهة التي نحتوها من جملة عملهم فالله، عز وجل، خالقهم على جهة التوكيد باسمية الجملة وتكرار الفاعل معنويا بالابتداء المذكور، ولفضيا بالضمير المستور في عامله: "خلقكم"، وخالق أفعالهم القائمة بذواتهم وخالق مفعولاتهم التي يحدثونها بإراداتهم المخلوقة التي لا تخرج عن مشيئة الرب، جل وعلا، العامة. فذلك جار على ما اطرد من دليل الإيجاد في معرض تقرير ربوبية الباري، عز وجل، توطئة لإثبات ألوهيته.
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ: فنكر البنيان تعظيما، فذلك جار على ما تقدم من انتصارهم لآلهتهم، ففسد العمل ووقع التعصب الأعمى فرعا عن الجهل المطبق، مع اعترافهم في مواضع أخر بسفه عقولهم وتسليمهم لقياس الخليل عليه السلام الصريح: (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، فقياس العقل: بطلان ألوهيتهم فرعا عن بطلان ربوبيتهم لخلوهم من أوصاف الكمال وأظهرها في هذا المقام: النطق، فلو كان كبيرهم يدرك ابتداء ولو بحواس مخلوقة لرأى الخليل عليه السلام وهو يحطم بقيتهم، فشهد عليه أنه هو الفاعل لذلك، فعلموا الحق، ولكن حملهم الهوى، وذلك مئنة من فساد علمهم، والتعصب له، وذلك مئنة من فساد عملهم، حملهم ذلك على الانتصار لآلهتهم الباطلة.
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ: فنكر الكيد على جهة التعظيم، أيضا، فذلك توطئة لكمال عناية الرب، جل وعلا، بالخليل عليه السلام، فأنجاه من ذلك البنيان العظيم وذلك الكيد العظيم وجعل أصحابه هم الأسفلين على جهة القصر بتعريف الجزأين قبل دخول فعل الجعل على المبتدأ والخبر فهم الأسفلون لا غيرهم، فذلك منطوق النص، فدل ذلك على علو منزلة الخليل عليه السلام بدلالة المفهوم، فهو على الضد منهم في الوصف، فلزم من ذلك عقلا الحكم عليه بضد ما حكم الرب، جل وعلا، عليهم من السفل الدنو فهو عال المنزلة والمكانة فرعا عن انتصاره للمعبود الحق، جل وعلا، فمن نصر دينه نصره ومن أعلا توحيده رفع له ذكره بين الخلائق، فهو من أهل: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 04 - 2010, 09:22 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ):
(يُتْبَعُ)
(/)
فهاجر الخليل من "أور"، وتعدى الفعل بـ: "إلى" إلى الاسم الدال على الرب، جل وعلا، فتعلق فعل العبد في مقام التأله باسم الرب، جل وعلا، على ما اطرد من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، فامتثل أمر ربه الشرعي الذي أنجاه بأمره الكوني فـ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، فالأمر هنا: تكويني تكلم به الرب العلي، جل وعلا، على وجه يليق بجلاله، بقرينة: (قلنا)، فجاء معظما بإسناده إلى ضمير الفاعلين فذلك مقام عناية بالخليل عليه السلام، بتأييده بآية كونية باهرة، دالة على كمال قدرة الرب، جل وعلا، بأن نزع من النار قوى الإحراق الذاتية، فأبطل بكلماته الكونية: أثر النار الملتهبة في التهام الأجساد، بل قد انقلب وصفها الذاتي إلى وصف ضدها من البرد والسلام، وهو أمر قد وقع بعد ذلك في ذبح إسماعيل عليه السلام فظهرت المنة الربانية بإبطال قوى القطع الذاتية في السكين، فذلك، أيضا، من صور العناية الكونية، بآية كونية من جنس آية إبطال قوى النار، فالأسباب تؤثر بالقوى الذاتية التي أودعها الرب، جل وعلا، فيها، وتلك القوى هي التي يتعلق بها التكليف الشرعي بتحصيلها واستعمالها فيما شرع الله، عز وجل، فقوى القطع في السكين قد تستعمل في ساحات الوغى لحسم وساوس صدور أعداء الرسالات، فذلك مما شرع الله، عز وجل، على جهة الإيجاب العيني دفعا أو الكفائي طلبا، وذلك أشرف ما تستعمل فيه السيوف المغمودة حاليا حتى إشعار آخر!، وقد تستعمل في ذبح الأنعام على جهة القربى، فمنها الواجب كهدي التمتع، والقران، والجبران لمن ارتكب محظورا من محظورات الإحرام، والنذر لمن نذره، والأضحية على قول من أوجبها كالأحناف، رحمهم الله، ومنها المندوب كالأضحية على قول الجمهور، ومنها المباح كتقطيع طعام أو ورق ... إلخ، ومنها المحرم كقتل النفس ظلما .... إلخ، فالآلة واحدة والفعل واحد، ومع ذلك تباينت الأحكام تبعا لتباين الاستعمال، فلكل وصف حكم يلائمه، والأسباب مع ذلك لا تؤثر إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، فلا ينفذ السبب، وإن اكتملت قواه الذاتية إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، نفاذه بإرادته الكونية، فذلك وجه الإعجاز في آية تصيير النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، وإمتناع السكين من قطع عنق إسماعيل عليه السلام، فقواها مكتملة، والمحل قابل لآثارها، ومع ذلك تعطلت تلك القوى فلم تنتج آثارها بالحرق والقطع، فقام السبب المشهود، وامتنع الأثر لتخلف السبب المغيب الذي إليه ترد كل الأسباب: كلمة الرب جل وعلا الكونية النافذة، فهو العلة الأولى التي لا علة وراءها، فكل علة بعده تفتقر إليه، فالعلة الناقصة لا تكتمل إلا باستيفاء شروط وانتفاء موانع، وأعظم الشروط: كلمة الرب جل وعلا بالإذن الكوني فتحرق النار وتقطع السكين بما أودع فيهما من القوى، وأعظم الموانع كلمة الرب جل وعلا بالمنع الكوني، فيبطل فعل النار والسكين وإن اكتملت قوى الحرق والقطع الذاتية فيهما، فلا تجدي الأسباب شيئا إن لم يقدر خالقها، جل وعلا، نفاذ تأثيرها وإنتاج مسبَّباتها.
فقال الخليل عليه السلام: إني ذاهب إلى ربي سيهدين، فجاء الحال: "سيهدين": على ما قرر بعض نحاة الكوفة من جواز تصدير الحال بالسين الدالة على الاستقبال كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جاء الحال في مقام التعليل فهاجر الخليل فرارا بدينه، فالتذييل بالحال مئنة من كمال ثقته بالرب، جل وعلا، فسيهديه جزما إلى الطريقة الشرعية المثلى، وسيهديه بقدره الكوني إلى ما فيه صلاح أمره بحفظه من كل خطر محدق به، فذلك من عصمته، جل وعلا، الكونية لرسله عليهم السلام فأنجى الخليل من النار، وشق الماء للكليم فضرب له طريقا في البحر يبسا، ورفع المسيح وطهره، ونصر الأمين وأظهره، فدخل البلد الحرام وقد خفض رأسه تواضعا وخضوعا لربه، جل وعلا، الذي مكن له في الأرض فجعله وأمته أئمة يهدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن أنكر تصدير الجملة الحالية بالسين وهو اختيار ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب"، (2/ 60)، فجعل ذلك فرقانا بين الجملة المعترضة فيجوز تصديرها بالسين، بخلاف الجملة الحالية، فإنه يقدر الاستئناف في هذا الموضع، والمعنى على كلا التقديرين: صحيح، فالهداية، كما تقدم، قد عمت الشرع بهداية الرسل بالوحي، والكون بحفظهم مما يحيق بهم من مكر أعدائهم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 04 - 2010, 09:16 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ):
فعلق طلب الهبة على وصف الربوبية، على ما تقدم من التناسب بين طلب العطية والهبة، ووصف الربوبية، فالرب، جل وعلا، هو المربي لعباده بما يجريه عليهم من النعم الشرعية والكونية شيئا فشيئا، فيربي الأرواح بالوحي النازل من السماء، فتوالي ورود الشرائع، فترد الأحكام ابتداء ويرد الناسخ على المنسوخ، توالي ذلك يهذب الروح شيئا فشيئا فلا تسأم ولا تمل بورود الشريعة جملة واحدة، فما يأتي جملة يذهب جملة، وتلك من أبرز حكم نزول الكتاب العزيز منجما، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ"، ويربي الأبدان بالرزق النازل من السماء، فماء الحياة قد أودع المزن فإن شاء الرب، جل وعلا، أجراه فضلا، وإن شاء منعه عدلا: "وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا"، والرزق النابت من الأرض، فهو من مادة البدن الطيني الكثيف فلا يلائمه إلا عذاء كثيف من جنسه، كما أن غذاء الروح اللطيف من جنس مادتها النورانية اللطيفة، فالكثيف للكثيف، واللطيف للطيف، فذلك التناسب البديع مئنة من إتقان صنع الرب الحكيم جل وعلا، فتعلق طلب الهبة بوصف الربوبية، وهي هنا من الربوبية الخاصة للرسل عليهم السلام ففيها قدر زائد من العناية، فربوبيته، جل وعلا، بالعناية والإنعام على عباده بالنعم الكونيات التي أرسلت على النوع الإنساني تترى، فذلك من إرساله الكوني الذي اكتملت به المنة، على ما تقدم في أكثر من موضع، بانقسام معاني العناية والإرسال ...... إلخ، إلى شرعية بالوحي وكونية بأجناس النعم المحسوسة، تلك الربوبية: عامة، بخلاف ربوبيته، عز وجل، للرسل، عليهم السلام، ففيها قدر زائد، كما تقدم، فإجابتهم أسرع من إجابة غيرهم، فإن دعاء الخليل عليه السلام قد استجيب لدلالة الفاء التفريعية التعقيبية: (فَبَشَّرْنَاهُ)، ودلالة التعقيب، كما تقدم، عرفية، فلم تأت الهبة مباشرة، بل أتت، بداهة، على وفق السنن الكوني المطرد في هبة الولد، فذلك التعقيب من جنس التعقيب في قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، فهو، كما تقدم، قدر زائد يدل على عظم عناية الرب، جل وعلا، برسله، عليهم السلام، عناية خاصة، فذلك من جنس المعية فمنها العام في نحو قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، ومنها الخاص بوصف كـ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، فتلك معية أخص، فهي من وصف فعله، عز وجل، بخلاف المعية العامة فإنها من
(يُتْبَعُ)
(/)
وصف ذاته القدسية فمعيته لكل الخلائق بعلمه المحيط لا تنفك عن ذاته القدسية فالعلم من صفاته الذاتية المعنوية، ومنها الأخص، وهو الذي خص به الرسل عليهم السلام: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، و: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فذلك مئنة من كمال عنايته، عز وجل، برسله، عليهم السلام، فلهم من أوصاف العناية والإحاطة أخصها، فيتعلق وصف العناية بأعيانهم بخلاف من سواهم، وإن كانوا على رسم الإيمان، فمعية الرب، جل وعلا، لهم، وعنايته بهم، معلقة بالأوصاف العامة من إيمان وصلاح وتقوى وإحسان وصديقية وشهادة .... إلخ، لا بالأعيان، كما هي حال الرسل عليهم السلام، فللرسل، عليهم السلام، أعلى درجات العناية، فسؤال الله، عز وجل، الولد َ، أمر عام يشترك فيه الخليل عليه السلام مع غيره من الرسل والبشر، فقد سأله زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، و: (رب لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، فالعبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فيجوز السؤال في حق غير الأنبياء فتلك من النعم الكونية التي يشترك فيها كل الخلائق، ومع ذلك اختص الرسل عليهم السلام، بالذكر في هذه المواضع، فذلك مما لا يخصص عموم الدعاء فيجوز في حق غير الخليل عليه السلام أن يسأل بـ: "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ"، ويجوز في حق غير زكريا عليه السلام أن يسأل بـ: "رب لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"، ومع ذلك اختصوا بالذكر، كما تقدم، فذلك من مزيد العناية بهم إذ وهبوا الولد على الكبر فذلك قدر زائد لا يحصل لكل أحد، فهو آية كونية في معرض التكريم للرسل، عليهم السلام، فالآيات قد ترد في معرض التحدي لمنكري الرسالات، وقد ترد في معرض التكريم للرسل عليهم السلام بالعطايا الكونية العظيمة، ومنها هبة الولد على الكبر، فذلك وجه اختصاصهم بالذكر مع عموم المعنى لغيرهم، فلا يخصص ذكرهم ذلك العموم، بل هو تنويه بشأنهم، وبيان لعظم درجاتهم.
فسأل الهبة، وحذف المفعول به، لدلالة السياق عليه فذلك من إيجاز الحذف، فقرينة: "من الصالحين" دالة على جنس الهبة، فهي هبة ولد صالح، وذلك مئنة من فقه الخليل، عليه السلام، فلم يسأل الولد مطلقا، وإنما قيد السؤال بوصف الصلاح، والهبة، كما نقل صاحب "التحرير والتنوير" عن صاحب "الكشاف" غفر الله له، تنصرف أول ما تنصرف إلى الذكر، ولم يسلم صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله بذلك، وقد يقال بأن فضل الذكر على الأنثى بمقتضى الجبلة الآدمية قرينة ترجح إرادة الولد، وإن لم يرد له ذِكْرٌ، فاللائق بحال الأنبياء عليهم السلام طلب الأعلى فذلك مئنة من علو الهمة وشرف الغاية، فما طلب الخليل الولد إلا ليكون عونا له على إقامة أمر الدين، فرفعا قواعد البيت وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وتلك من أشرف وظائف المرسلين فبهم يقام بنيان الملة التوحيدية وتظهر أعلام السنة النبوية.
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ: فذلك جار على ما تقدم من التعقيب بالبشرى مئنة من كمال العناية بالخليل عليه السلام، وقد جاء الفعل مسندا إلى ضمير الفاعلين على ما اطرد من عظم المنة بإسنادها إلى ضمير الجمع فهي صادرة عن الرب المتصف بجميع أوصاف الجمال فعنها تصدر نعمه وعطاياه فهي آثارها في الكون المشهود، فذلك وجه الجمع فهو جمع صفات قد بلغت الغاية في الحسن والكمال قامت بذات واحدة فليس الجمع جمع ذوات، فالرب، جل وعلا، واحد في ذاته، صمد لا ند له فيبقى بعد فناء سائر الموجودات، فهو المنفرد بالأولية والآخرية المطلقة.
فبشر الخليل عليه السلام في هذا الموضع بالغلام الحليم وهو الذبيح عليه السلام، وبشرت امرأته سارة، عليها السلام، بولد الولد في سياق آخر في سورة هود: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). فاكتملت المنة بالبشرى بالولد الصلبي، وولد الولد، فخرج من نسل الخليل عليه السلام كل من جاء بعده من الرسل والأنبياء عليهم السلام. فاكتملت صورة الاستدلال واجتمعت أطراف البشرى.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم انتقل السياق بالفاء الفصيحة، فذلك من إيجاز ما قد علم بداهة، فتقدير الكلام: فوهب الذبيح إسماعيل عليه السلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ: فذلك من عظم الابتلاء فاستحضر الخليل عليه السلام الرؤيا حال حكايتها لعظم شأنها، وجاء ورود التكليف بالذبح، وهو من العظم والشدة بمكان، جاء رؤيا عناية بالخليل عليه السلام من ورود هذا التكليف الشاق حال اليقظة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فحال المنام أهدأ للعقل والقلب فيكون ورود التكليف ولو شاقا أيسر على المكلف.
وقابل إسماعيل عليه السلام ذلك بالامتثال فيا: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، فحذف متعلق الفعل على طريقة الحذف والإيصال، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتقدير الكلام: افعل ما تؤمر به، وذلك آكد في الامتثال بتعليق الفعل على الأمر الذي اشتقت منه جملة الصلة: "تؤمر"، فذلك آكد في الامتثال فهو أمر رباني لا مندوحة عنه، ثم جاء كمال التسليم والانقياد مع البراءة من الحول والقوة: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وقوله: "من الصابرين" آكد في الاتصاف بالصبر من صابرا فهو من جملة من اتصفوا واشتهروا بالصبر كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: فتلك فاء فصيحة أخرى تدل على محذوف قد علم بداهة بدلالة السياق، فتقدير الكلام: فأخذه وأضجعه وأسلما للأمر التكليفي بالامتثال والمباشرة.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ: فجاء الإجمال في النداء ثم جاء عقيبه البيان بـ: "أن" التفسيرية: فجاء النداء مسندا إلى ضمير الجمع على ما اطرد من عظم المنة فقد جاء النسخ قبل وقوع الفعل عناية بالخليل عليه السلام فاستجابته قد محضت خلته للرب، جل وعلا، فخلص القلب ونصح من أي منازع، فسلمت شعبه من نزاع غير الرب، جل وعلا، ولو بالحب الفطري للولد، فالخليل لا يقبل مشاركة غيره له في قلب خليله، فجاءت العناية به برفع هذا التكليف الشاق على النفس بذبح الولد الذي رزقه بعد فناء الشبيبة وإقبال المشيب والتوغل فيه، فالمنة بالولد في هذه الحال تكون أعظم ونزعها يكون أعظم فكيف بأمر الأب بذبح الولد، فـ: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: فجاء التصديق بالعمل، فذلك شاهد لدخول العمل في حد التصديق فذلك من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ". فذلك مما يشهد لدخول الأعمال في مسمى الإيمان، ولو قيل بأنه التصديق، فالتصديق لا يكون بالقلب واللسان فقط، بل تصدق الجوارح ما قام بالقلوب من التصورات والإرادات.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ: فالبلاء يحتمل: الابتلاء المعهود، ويحتمل النعمة العظيمة بكشفه، كما أثر عن مقاتل، والسياق يحتمل كليهما، بل ذلك آكد في تقرير المنة، فالبلاء عظيم، فتكون المنة بكشفه عظيمة.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ: فذلك من الإطناب بذكر صفة المنة، فنكر الذبح تعظيما فذلك من الوصف المعنوي ثم جاء الوصف اللفظي توكيدا له.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111): فذلك من كمال التنويه بشأن الخليل عليه السلام على ما اطرد في شأن نوح عليه السلام، فالأنبياء على طريقة واحدة من التوحيد، فجنس الثناء عليهم واحد لاتحادهم في الوصف الجالب له، وإن وقع بينهم التفاضل فهو في القدر الفارق، لا في قدر النبوة المشترك بينهم جميعا.
ثم جاء الإطناب بذكر نعمة أخرى فذلك جار على ما تقدم من كمال العناية بالخليل عليه السلام:
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: فجاءت البشرى بإسحاق وجاءت الحال الأولى: "نبيا"، فالثانية: "من الصالحين": مئنة من عظم وصف ذلك النبي الكريم، عليه السلام، فذلك جار على ما اطرد من عظم النعمة بعظم أوصافها، فقد وصف بجملة من الخلال العظيمة وردت في مواضع من التنزيل، فجمعها يزيد المعنى بيانا على ما اطرد من طريقة الاستدلال المثلى بجمع أدلة الباب، فبها تكتمل الصورة، ويزول أي تشابه أو إجمال برده إلى محكمه ومبينه، فذلك مسلك أهل الحق لا أهل الضلال الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ويعرضون عن المبين الرافع لإشكال المجمل فبه تزول شبهتهم وتبطل حجتهم.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ:
فعلى تفيد الاستعلاء وهو مظنة الإحاطة وذلك أبلغ ما يكون في العناية كما قرر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 04 - 2010, 09:17 ص]ـ
ومن قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ: فجاءت المنة مؤكدة بالقسم المقدر الذي دلت عليه اللام فضلا عن دخول: "قد" على الماضي فأفادت التحقيق، فضلا عن إسناد المنة إلى ضمير الفاعلين مئنة من عظمها بعظم المسند إليه، على ما اطرد في هذا السياق، والاستعلاء الذي دلت عليه: "على": دال على تمام المنة فهو مظنة الإحاطة وخص موسى وهارون، عليهما السلام، بالذكر، لاختصاصهما بالمنة الشرعية: منة النبوة، فلم يشركهما غيرهما فيها، فذلك من جنس المعية الخاصة في نحو قوله تعالى: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فلم يشركه بنو إسرائيل فيها فليسوا لها بأهل وما وقع منهم من اتخاذ العجل في مقابل المنة الربانية بإنجائهم من فرعون وجنده خير شاهد على ذلك، ثم جاء الامتنان عليهما وعلى قومهما بالمنة الكونية التي شاركهما القوم فيها:
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: فخصوا بالذكر ابتداء مئنة من كمال العناية بهما، ثم عطف عليهما قومهما، فهما الأصل وغيرهم لهما تبع، فما كانت تلك المنة إلا أثرا من آثار النبوة التي أوتياها، فأيد الرب، جل وعلا، بكلماته الكونية بانفلاق البحر لهما ولقومهما وانطباقه على عدوهما، أيد بتلك الكلمات الكونية: من أنزل عليه كلماته الشرعية من النبوات الهادية فأمر بالبلاغ، فأداه على جهة الكمال فصار أهلا لعناية الرب، جل وعلا، ونصره، فجاء الإنجاء مضعفا في مبناه: "وَنَجَّيْنَاهُمَا" مئنة من الزيادة في معناه فذلك أليق بمقام العناية بالرسل عليهم السلام، فنجاهما الرب، جل وعلا، من الكرب العظيم الذي أجمل في هذا الموضع وبين في مواضع أخرى من التنزيل من قبيل:
قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)، فذلك جار على ما تقدم من دلالة لفظ: "البلاء" على البلاء المعهود من وجه وعلى النعمة بالنجاة منه من وجه آخر، فموسى وهارون، عليهما السلام، هما: الأصل، وأتم المنة عليهما بإنجاء قومهما، كرامة لهما، ثم جاء الإطناب في بيان تلك المنة الربانية الجليلة: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ: فأسند النصر والتأييد بالأمر الكوني لمن امتثل الأمر الشرعي إلى ضمير الفاعلين، وجاء التعقيب على جهة الفور والسببية، فغلبتهم فرع عن نصر الرب، جل وعلا، لهم، فذلك من المعلوم بالضرورة لمن كان له أدنى علم بالنبوات، وما بينته من صفات ربنا، جل وعلا، فبصفات جماله يعتني برسله عليهم السلام وبصفات جلاله ينتصر لهم من عدوهم. وذيلت الآية بالقصر بتعريف الجزأين وتوسيط ضمير الفصل بينهما، فذلك مئنة من تمام الغلبة، فكانوا هم وحدهم الغالبين لا غيرهم، فلم يغلبوا ولو مرة واحدة، بل غلبوا ابتداء بخلاف المنصور فإنه قد يغلب ابتداء ثم ينصر بعد ذلك على عدوه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله. فيكون اختيار وصف الغالب في مقام الامتنان بهذه الآية الكونية العظيمة التي وردت مجملة في لفظ: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، مبينة في مواضع من التنزيل من قبيل: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ)، يكون اختيار هذا الوصف والعدول عن وصف المنصور الذي قد يغلب ابتداء، كما تقدم، يكون ذلك الاختيار آكد في تقرير المنة الربانية بإظهار كمال العناية بالكليم وهارون، عليهما السلام، وقومهما لهما تبع في ذلك.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ: فذلك من اختصاصهما بقدر زائد من العناية الربانية، فآثرهما الرب، جل وعلا، بأعظم المنن: منة النبوة، فهي أعظم النعم الشرعية، والكونية من باب أولى، لشرف نعم الدين على نعم الدنيا بداهة لمن لم يرق دينه ويفسد قياسه فيصير من أهل: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، فهو من أهل: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).
والإيتاء لكليهما في: (وَآَتَيْنَاهُمَا): جار مجرى التغليب، فالمؤتى هو موسى عليه السلام وحده، فيكون ذلك، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، شاهدا لمن جوز دلالة اللفظ على معنييه: الحقيقي والمجازي، عند من يقول بوقوع المجاز في التنزيل، فالإيتاء حقيقة في حق الكليم عليه السلام، مجاز في حق هارون عليه السلام، ومن ينكر المجاز فإنه يحمل اللفظ، كما تقدم، على التغليب، فذلك مما عرفته العرب في كلامها فجرى به لسانها فصار حقيقة في الدلالة على المعنى المراد، فهو من جنس قول عائشة رضي الله عنها: "الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ"، فهو دال على التمر والماء، وإن كانت دلالته المعجمية على كليهما غير حاصلة، فاللون الأسود: عرض، والتمر والماء جوهران، وإنما غايته أن يدل على التمر باعتبار لونه، ويقال، أيضا، بأن إيتاء هارون الكتاب ثابت من وجه آخر فهو أشد الناس انتفاعا به بعد الكليم عليه السلام، لمكان عصمته، فضلا عن كون نبوته فرعا عن نبوة الكليم عليه السلام،: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) فيلحق الفرع بأصله في الحكم لاشتراكهما في الوصف: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فأفرد من جهة المعنى وإن كانا اثنين من جهة الذوات، فيكون الإيتاء حقيقة في حق هارون، عليه السلام، من هذا الوجه.
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: فذلك قدر زائد على الهداية الكونية العامة، فالهداية هنا هي: الهداية الشرعية الخاصة لقرينة القيد بـ: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، فلهما، بداهة، لمكان التأييد بالعصمة، أعلى درجاتها فذلك من كمال عناية الرب، جل وعلا، برسله عليهم السلام.
وعل ما اطرد في سياق نوح وإبراهيم عليهما السلام:
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ:
فذلك من كمال العناية بإعلاء الذكر في الآخرين فلا يذكران عليهما السلام إلا بالثناء الجميل، والدعاء بالسلام من كل نقص وعيب على جهة التعظيم الذي دل عليه التنكير، فذلك جزاء المحسنين، فهما من العباد برسم الاختيار، فكلاهما: عابد شرعا، مع كونه عبدا كونا، فنسبة الكون عامة لا تظهر فيها آثار المنة بالهداية الشرعية التي تقتضي الثناء والإفراد بالذكر، بخلاف نسبة الشرع الخاصة، فهما من المؤمنين، وذلك مشعر بعراقتهما في الوصف على وزان ما تقدم من قوله تعالى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فذلك آكد في الثناء عليهما بالإيمان من قولك في غير القرآن: إنهما مؤمنان.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 04 - 2010, 08:01 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ):
(يُتْبَعُ)
(/)
فجاء التوكيد لبيان اشتراك إلياس، عليه السلام، مع الرسل المتقدمين في وصف الرسالة، فقد استقلوا بوصف زائد هو أنهم من أولي العزم من الرسل، فرتبوا تبعا لزمن بعثتهم، فبعث نوح فإبراهيم فموسى، عليهم السلام، فليس الترتيب تبعا للأفضلية، فإن الخليل أفضل الثلاثة فالكليم فنوح، عليهم السلام جميعا، فجاء التوكيد دفعا لتوهم اقتصار وصف الرسالة عليهم لشهرتهم، فقد شركهم فيه إلياس عليه السلام، فإنه، على جهة التوكيد، لمن المرسلين، فجاء التوكيد باسمية الجملة واللام المزحلقة، فضلا عما اطرد من دلالة "من" في هذا السياق ولها دلالة بيانية جنسية، على التوكيد، فذلك أبلغ في تلبسه بوصف الرسالة من الإخبار الصريح بنحو: إن إلياس رسول، وعلامة ذلك: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ: فدعاهم إلى التقوى على سبيل الزجر بالإنكار والتوبيخ لما وقعوا فيه من الشرك الصريح، وحذف معمول التقوى مئنة من العموم.
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ: فاطردت شدته في مقام الغيرة على الدين، فذلك بيان لإجمال قوله: "ألا تتقون"، فجاء الفصل، فلا عاطف، للتلازم الوثيق بين المجمل ومبينه، فاستفهم في مقام الإنكار والتوبيخ، ونكر المعبود: "بعلا" تحقيرا لشأنه، وجاء الشطر الثاني في معرض المفاضلة: وتذرون أحسن الخالقين، فلا مفاضلة أصلا، وإنما هو من باب التنزل مع الخصم فذلك من قبيل قوله تعالى: (آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا خير في معبوداتهم أصلا، فـ: "خير" منزوعة الدلالة، وإنما جاء السياق على سبيل المفاضلة تنزلا مع الخصم باستنطاقه بالحجة المبطلة لمقالته، فأي عاقل، سيجيب وإن كان مخالفا: الله خير من جماد لا يضر ولا ينفع، فكذلك الشأن هنا: فكيف يعبد أولئك بعلا ويذرون أحسن الخالقين، وفي وصف الرب، جل وعلا، بالخالقية على جهة التفضيل المطلق، تعريض ببعل فلا يملك لنفسه نفعا أو ضرا، فضلا عن أن يملك لغيره بل إنه عاجز عن خلق ذرة في الكون، بل هو المخلوق لغيره، فكيف يسوى الخالق بالمخلوق، بل بالمخلوق الجامد فليس له من وصف الخلق شيء ولو بتحويل المادة من صورة إلى صورة، فـ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)، وهذا شأن كل من فسد قياسه فسوى بين المخلوق والخالق، بل قدم المخلوق على الخالق، جل وعلا، فيعم ذلك الإنكار كل من قدم المخلوق على الخالق في عبادة ظاهرة من ركوع أو سجود، أو عبادة باطنة، كسائر صور شرك الطاعة، وأظهرها طاعة طواغيت البشر ممن نازعوا الرب، جل وعلا، منصب التشريع، وهو كما تقدم في مواضع، من أخص أوصاف الربوبية، فالتدبير الشرعي أحد شطري التدبير الرباني، فعن وصف حكمته البالغة وعلمه المحيط، جل وعلا، قد صدر، فمن ذا الذي يزعم أن له حكمة أو علما يضارعان حكمة وعلم الرب، جل وعلا، وهل ذلك إلا عين المنازعة للرب، جل وعلا، وصف كماله الذاتي، وذلك هو الطغيان بعينه، فمن أطاع مختارا لمن فعل ذلك فقد اتخذه اتخاذ قوم إلياس لبعل، فذلك بعل محسوس، وهذا بعل معقول، والكلام جار على تحرير المناط لا تحقيقه في أفراد بعينهم، فليس ذلك مما تنصرف إليه الهمم، فإقامة الحجة الرسالية أمر موكول إلى من رسخت قدمه في الديانة من العلماء الذين أفنوا أعمارهم في هذا الشأن، فليس ذلك لكاتب أو قارئ، والشاهد أن بعلا وصف عام لا يقتصر على بعل دون بعل!، بل هو عام في كل بعل، فبعل محسوس كالصنم المنصوب، وبعل معقول كالشرع الموضوع، ودرهم ودينار وخميصة وزوج وولد وهوى متبع ..... إلخ، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ: ثم جاء عطف البيان إمعانا في الإنكار عليهم، بإظهار الاسم الكريم: "الله"، فصدر بوصف الخالقية فهو من أخص أوصاف الربوبية، كما تقدم، فذلك خصوص، وثنى بالاسم الكريم وأسند إليه وصف الربوبية على جهة العموم، فخص بوصف يظهر به عجز آلهتهم ثم ثنى بعموم وصف الربوبية الجامع، وأطنب ببيان عموم ربوبيته جل وعلا للأولين والآخرين: رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ: على جهة التعقيب العرفي، فلما يقع عذابهم بعد، ثم استثنى الفرقة الناجية من أهل الإخلاص فهم العباد على رسم الانقياد الاختياري لأمر الرب العلي، جل وعلا، وَترَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ: على ما تقدم من الثناء برفع الذكر فهو كما تقدم وصف عام في كل المرسلين، عليهم السلام، فهم الصفوة المختارة الذين أثنى عليهم الرب، جل وعلا، عليهم في التنزيل وأجرى ذكرهم الجميل على ألسنة عباده المؤمنين.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[14 - 04 - 2010, 08:13 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ):
فذلك جار مجرى ما تقدم في قوله تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فجاء التوكيد على نبوة لوط عليه السلام فهو من جنس التوكيد على نبوة إلياس عليه السلام، ثم جاء بيان وجه المنة عليه مقيدا بظرف: "إذ"، وإن كانت المنة عليه سابغة كالمنة على سائر الأنبياء عليهم السلام، وإنما تظهر آثارها أعظم ما تظهر في إنجاءهم من أعدائهم، وإهلاك أعدائهم بأجناس من العذاب هي من آثار صفات جلال الرب، جل وعلا، وعظم قدرته، وكمال حكمته، فلكلٍ عذاب يلائم جنس معصيته، فقد بدلوا الفطرة الكونية بإتيان الذكران، وبدلوا الفطرة الشرعية بعبادة الأثان، فجعلوا عاليها سافلها، فكان العذاب: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). فجاء الجعل الكوني مسندا إلى ضمير الفاعلين، كما اطرد مرارا، في مواضع النعمة المنجية والنقمة المستأصلة، وزيد في بيان إجمال العذاب بوصف الحجارة بالتتابع كما في آية هود: (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)، فذلك آكد في الإيلام، فاستأصل، تبارك وتعالى، قراهم ونكس دورها وبشرها، لما نكست فيها الفطر، فلم يغر على الفطرة الشرعية والكونية أحد، فإما فاعل مصر وإما راض مقر، فلم يغر إلا لوط، عليه السلام، فأنذر وحذر، ثم خرج برسم الهجرة فسلك سنن النبيين عليهم السلام، فـ: (قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فتلك سنة الرب، جل وعلا، بأمر الأنبياء بالخروج قبل وقوع العذاب الكوني النافذ، فنجاه الرب، جل وعلا، وجاء الفعل مضعفا من التنجية لا الإنجاء، فذلك أبلغ في تقرير المنة الربانية، وحصلت المنة بتنجية أهله معه، فلو نظر إلى المعنى اللغوي للأهل فإن الاستثناء يكون متصلا، فنجي وابنتاه فهما من أهله وخاصته، ولم تنج امرأته مع أنها من جهة المخالطة: من أهله، بل هي أهله على ما قد اطرد في كلام العرب من إطلاق لفظ الأهل على الزوج، فهي أهل الرجل باعتبار ما يكون بينهما من المخالطة والمعاشرة، ولو نظر إلى المعنى الشرعي فإن الاستثناء يكون منقطعا فليست من أهله، فأهل الرسول من آمن به، فمن لم يؤمن به فليس من أهله، فـ: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، بالنظر إلى الإيمان، وإن كان من أهله بالنظر إلى الأنساب، فيكون الاستثناء منقطعا من هذا الوجه، وجاء وصفها بالعجوز على جهة التنكير تحقيرا لشأنها، وفيه مزيد بيان لقوله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)، فعلم مكانها منه في هذه الآية: فهي امرأته، وعلم وصفها من آية أخرى، فهي عجوز، واستغني بالوصف عن الموصوف فالعجوز وصف لا يطلق إلا على المرأة الكبيرة، في مقابل الشيخ الذي يطلق على الرجل الكبير، فلا حاجة إلى ذكر جنس الموصوف لدلالة الوصف عليه، فهو كما تقدم، مختص بجنس الإناث دون الذكور، فنجي وأهله إلا عجوزا بقيت مع سائر المهلكين.
ثم جاء التذكير بعد بيان تلك الآية الكونية الباهرة، فذلك من الأمر الشرعي بعد إقامة البرهان الكوني، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين الربوبية وما يتفرع عنها من نفاذ الأمر الكوني، والألوهية وما يلزم منها من وجوب التزام الأمر الشرعي، فـ: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، فاستغرق السياق شطري الزمان وذلك آكد في بلوغ الحجة وحصول الموعظة الزاجرة عما وقعوا فيه من شرك وفساد لئلا ينالهم ما نال أولئك فـ: (مَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ، وذيلت التذكرة بالاستفهام الإنكاري التوبيخي في معرض الحض على التزام الطريقة الشرعية المثلى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، فتطردون قياس العقل الصريح
(يُتْبَعُ)
(/)
فتؤمنوا بالرب القدير فهو الإله المعبود بحق.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 04 - 2010, 08:12 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ):
فذلك من جنس ما تقدم في خبر إلياس ولوط عليهما السلام.
فذكر من قصة يونس عليه السلام خروجه من نينوى، متأولا، فلجأ إلى الفلك المملوء بالركاب، فاستعير معنى إباق العبد من سيده لخروج يونس، عليه السلام، من نينوى غضبة لربه، عز وجل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتأول الخروج ولم يؤذن له به، يأسا من إيمان قومه، ثم جاءت الفاء الفصيحة في معرض بيان الابتلاء الذي نصح به يونس عليه السلام لربه، جل وعلا، فخلص معدنه النفيس من شائبة فوات الصواب في اجتهاده بالخروج من أرض قومه غضبة لربه، تبارك وتعالى، كما تقدم، فلا يقر الوحي الأنبياء، عليهم السلام، على خطأ، بل لا يقرهم على خلاف الأولى، فذلك من تمام عناية الرب، جل وعلا، برسله عليهم السلام، لمكان العصمة والاقتداء، فهم أصحاب الشرائع الكاملة، فلا يتصور منهم خطأ في البلاغ، بل قد بلغوا رسالات الرب، جل وعلا، بالقول والفعل والتقرير، فجاء بيانهم أوفى بيان، فبه رفع كل إجمال، وزال كل إشكال، ودحضت كل شبهة.
فخرج فركب السفينة ... فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، وذلك، كما نقل صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، عن ابن العربي المالكي، رحمه الله، داخل في أصل شرع من قبلنا، فهو شرع لنا ما لم يرد له مخالف أو ناسخ في شرعنا، على قول جماعة من الأصوليين، والقرعة لا تجوز في شرعنا لأمر هو مظنة القتل، فكانت القرعة عامة في شرع من قبلنا وخصت في شرعنا بصور منها: الإقراع بين الزوجات حال السفر كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحدها القرافي، رحمه الله، بحد جامع مانع، فجوزها إذا تساوت الحقوق من كل وجه فإذا حصلت المفاضلة امتنعت، لئلا تضيع الحقوق بمصيرها إلى غير أصحابها، فهي بمنزلة الضرورة فلا يلجأ إليها إلا عند تعذر تعيين صاحب الحق جزما قاطعا أو ظنا راجحا.
فالتقمه الحوت حال كونه ملوما لخروجه بلا إذن، ومليم: فعيل بمعنى مفعول، فهو ملوم، أو بمعنى فاعل فكأنه، عليه السلام، هو اللائم لنفسه باستدعائه سبب اللوم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وتوجه اللوم إليه، عليه السلام، لا يلزم منه انتقاص من قدره أو حط من شأنه، بل ذلك، عند التحقيق، من كمال عناية الرب، جل وعلا، بعبده ذي النون بنفي كل شائبة عنه، فلجأ يونس إلى تحقيق وظيفة العبودية حال الشدة، فكان من المسبحين، وجاء بيان التسبيح المجمل في الصافات، في آية الأنبياء: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فسبح ربه، جل وعلا، وأقر بذنبه، فجاء الفرج بعد الكرب، فنبذناه، فذلك من كمال قدرته، جل وعلا، بإجراء هذه الآية الكونية الباهرة، فنسب الفعل إليه، جل وعلا، على جهة التعظيم، فذلك من نسبة فعل الحوت المخلوق إلى الخالق، عز وجل، فالنابذ هو: الحوت، باعتبار الفعل، والنابذ، هو الله، عز وجل، باعتبار الخلق فهو الذي أمر الحوت بنبذ يونس، عليه السلام، فخلق فعله بنبذه، فامتثل الحوت للأمر الكوني فهو فاعل من وجه مفعول مأمور من وجه آخر كسائر جند الرب، جل وعلا، فاختلف الفاعل باختلاف الجهة، فجهة المباشرة للحوت المخلوق، وجهة التقدير والخلق للرب جل وعلا، فنبذ بالعراء في حال سقم وضعف، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين عناية بجسده الضعيف، ففعل الإنبات من جنس فعل النبذ، فهو من وصف فعل الرب، جل وعلا، اللائق بجلاله، فنسب إليه، أيضا، على جهة التعظيم، ثم
(يُتْبَعُ)
(/)
اكتملت المنة بالإرسال الشرعي إلى قومه، فأقر الله، عز وجل، عينه بإيمان قومه، فآمنت له فئة عظيمة من البشر: مئة ألف أو يزيدون، فذلك مما يزيد المنة تقريرا، فلا أقر لعين الداعية من رؤية ثمرة دعوته يانعة، وإن لم يضره أن يبلغ رسالته، وإن لم يشهد نضج ثمرتها فـ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 04 - 2010, 09:04 ص]ـ
وعودة إلى سورة غافر مرة أخرى:
ومن قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
فذلك من الاستفهام التقريري في معرض الإنكار والتوبيخ، فقد ساروا في الأرض في رحلتي الشتاء والصيف فـ: (إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، والظرفية التي تدل عليها: "في" مئنة من التمكن في السير، فقد قطعوا تلك الأسفار جيئة وذهابا فرأوا من الآيات الكونيات الباهرات، التي هي مئنة من كمال قدرة الرب، جل وعلا، وكمال عنايته برسله، عليهم السلام، إذ أهلك عدوهم، بعذاب بئيس، فلم يغادر منهم أحدا، فـ (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، فلم ينج منهم أحد، فجاءت الأفعال مسندة إلى ضمير الفاعلين على ما اطرد في مواضع الجلال، و: (اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)، فأحاط بهم بعلمه، وأحاط بهم بالعذاب، فما لهم من الله من ولي ولا واق، فجاء الاستفهام تقريرا من وجه، إنكاريا من وجه آخر، فقد ساروا بالفعل، فذلك وجه التقرير، ولم ينتفعوا بذلك السير، فكأنهم ما ساروا، فذلك وجه التقريع والتوبيخ، فلم يفدهم نظر الأبصار المحسوسة، إذ لم ينظروا بعين البصائر المعقولة، فتفرع عن السير النظر، فتلك دلالة الفاء مع ما لها من معنى السببية، فهي نص فيها في هذا الموضع بعينه لسبقها بالاستفهام، فلو نظروا: نظر التدبر، لأفادهم ذلك علما نافعا، لا محض تصور للمعلوم في الذهن بلا تأثير في حركات النفس، فلم يرد الله، عز وجل، بهم، خيرا، ولو أراد لأسمعهم، فانتفعوا بتلك الصورة العلمية الباطنة: عملا صالحا، على ما اطرد مرارا من التلازم بين الباطن والظاهر، فكان السابقون: هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ: فذلك من عناية الرب، جل وعلا، الكونية بهم، فأعطاهم القوى الفاعلة وأقدرهم على إظهار آثارها في الأرض، فلا زالت منها آثار شاهدة بشدة خلقهم وعظم بنيانهم، ولكنهم مع تلك النعمة الكونية السابغة: كفروا، فذلك من المحذوف لدلالة السياق عليه اقتضاء، فإيتاء النعم الكونية ليس سببا في وقوع العذاب بداهة، وإنما الكفر بها بجحد النعمة الشرعية العظمى: نعمة النبوات، هو سبب وقوع العذاب، فـ: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)، و: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، فبدلوا النعمة الكونية بشؤم مخالفة الطريقة الشرعية، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ: فذلك من الأخذ الكوني، كما تقدم في قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فذلك أخذ شرعي، يتوجه الخطاب به لكل مكلف، بقدر طاقته العلمية والعملية، فليس أخذ الأنبياء عليهم السلام كأخذ آحاد المكلفين، بخلاف أخذ الرب، جل وعلا، بالعذاب فهو أخذ كوني قد انفرد به، انتصارا لرسله عليهم السلام من مكذبيهم، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ: فذلك من التذييل في معرض الاحتراس، فنفذ فيهم الحكم، ولم يمنعهم منه مانع، فقدم الجار والمجرور عناية بشأنه وقطعا لرجائهم في حصول النجاة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"
(يُتْبَعُ)
(/)
رحمه الله، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)، فهو أمر كوني نافذ لا راد له ولا مؤخر، وجاء النص على العموم بـ: "من" الداخلة على: "واق" قطعا لاحتمال التخصيص فعموم النكرة في سياق النفي ظاهر، فدلالته ظنية، كما قرر أهل الأصول، فلما دخلت عليه: "من"، صار نصا فدلالته قطعية فذلك آكد في تقرير المعنى وهو كما تقدم من أظهر صور العناية بالرسل عليهم السلام، وهو جار على ما اطرد في التنزيل من التلازم الوثيق بين فعل الربوبية: نعمة ونقمة، وما يجب على العبد مقابله من فعل الألوهية، فإن امتثل الطريقة الشرعية أصابته آثار ربوبية الجمال في الدار الأولى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وفي الدار الآخرة: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)، وإن لم يمتثل أصابته آثار ربوبية الجلال في الدار الأولى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)، وفي الدار الآخرة: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فذلك من آثار كلماته الكونيات النافذات.
ثم جاء التذييل بالتعليل فـ: "ذلك" بالإشارة إلى البعيد مئنة من عظم العذاب من وجه، وقد يقال بأنه تحقير من وجه آخر، فمقام الإهانة بالعذاب: مقام ضعة وإهانة، فقد يصح على هذين القولين: دلالة الاسم المشترك على كلا معنييه، وجاء المضارع: "تأتيهم" مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بالبشر إذ أرسل رسله تترى، فالمضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، فضلا عن استحضار صورة المنة، فكانت تأتيهم رسلهم بالبينات النقلية والعقلية، فجاءهم الهدى الخبري، والدليل العقلي على صحته، فقياس العقل الصريح يواطئ خبر النقل الصحيح لا محالة، فكفروا، فذكر المحذوف هنا إمعانا في تقرير الجناية في معرض التعليل قطعا لأعذارهم، فأخذهم الله، أخذا كونيا نافذا، ثم جاء التذييل بأوصاف الجلال على جهة التعليل: (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فذلك آكد في تقرير المعنى، فهو قوي فذلك من وصف ذاته المطلق فالاسم: مطلق، وهو شديد العقاب فذلك من وصفه الفعلي المقيد، فالاسم: مقيد بالإضافة، وشدة العقاب أثر من آثار قوته وجبروته، عز وجل، فعطف فعل العقاب على صفة القوة فهو أثرها، فكمال فعله، جل وعلا، من كمال وصفه قد صدر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 04 - 2010, 08:00 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
فصدر السياق بالتسبيح تنزيها مطلقا للرب، جل وعلا، في مقام العناية بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتلك الآية الكونية الباهرة التي قد يتطرق إلى الذهن الكاسد الوبيء إنكارها لمجرد أنها خالفت العادة الجارية المطردة، فيكون في ذلك قدح في قدرة الرب، تبارك وتعالى، بإنكار آية كونية باهرة تدل على عظم وصف القدرة الثابت لربنا، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فهو كسائر صفاته، عز وجل، التي بلغت الغاية في الكمال فلا مطمع في إدراك كنهها وإن وعى العقل معانيها العظيمة فعظمها من عظم الموصوف بها، جل وعلا، وهل تكون الآية إلا خارقة للعادة في معرض التحدي والإعجاز للمنكرين، والعناية والتكريم للنبيين، ودونهم الصالحون الذين يؤيدهم الله، عز وجل، بجملة من الكرامات قد تشترك مع آيات الأنبياء في النوع ولكنها لا تدانيها في القدر، فإن للأنبياء منزلة لا تقبل الشركة من آحاد البشر ولو كانوا صديقين أو شهداء أو صالحين، فحسن جميعهم رفيقا، ولكن الرفقة درجات فليست رفقة الأنبياء كرفقة من يليهم في المرتبة، ولو كانت مرتبة شريفة علية.
(يُتْبَعُ)
(/)
فيكفي في هذا الباب: الجواز العقلي ابتداء، فهل يعجز الرب، تبارك وتعالى عن حملان عبده بروحه وجسده الشريف من مكة إلى بيت المقدس، وهل في ذلك أمر محال لذاته يمتنع تصوره في الذهن أو وقوعه في الخارج، فبقي الأمر على حد الجواز العقلي، فلما جاء الخبر الصحيح، وهو العمدة في التصديق بالغيب الذي لا يدركه الحس، صار واجبا بعد أن كان جائزا، فمدار الأمر كما قال الصديق، رضي الله عنه، "إن كان قال ذلك فقد صدق، فقالوا: تصدقه أن قال: ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة، فقال أبو بكر: نزع الله عقولكم، أصدقه بخبر السماء، والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدقه بخبر بيت المقدس"، فلم يعارض الخبر الصحيح بقياس العقل، وإنما مدار الأمر عنده تصديق خبر النبوة التي ثبتت عنده صحتها، ابتداء، بالدلائل اليقينية: شرعا وعقلا، فذلك مبحث جليل لا يدركه إلا الأجلاء من أمثال الصديق، رضي الله عنه، فهو أعلم الناس بمخبر صفيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل قومه جميعا قد علموا من كمال حاله وعقله ما لا يجوز معه وقوع كذب أو خلل، بل لم يجد أعداؤه إلا الكذب والافتراء ليقدحوا في كمال حاله وصدق خبره، فـ: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وهذا حال أعدائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل الكتاب في كل زمان، فمذ بعث وأهل الكتاب قد ناصبوه العداء بعد أن نسخ رسالتهم برسالته الخاتمة، فكالوا له السباب والافتراء كيلا، كما نرى من سفلة زماننا من أهل الكتاب ومن أذنابهم من المرتدين والزنادقة وقد استعلن كثير منهم بالقدح الصريح في خاتم المرسلين وسيد العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فما زاده ذلك إلا رفعة فـ: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ)، وما زاد أمره إلا بيانا، فعرف كل منصف نظر في سيرته نظر المستدل الطالب للهداية لا الضال المعاند الذي لا يزيده النظر في الحق إلا عمى، لسوء مقصده وضعف حجته فيأتي لزوما يما يفضح جهله، ما زاد ذلك القدح رسالته إلا ظهورا، فدينه أظهر الأديان بالحجة والبرهان، والسيف والسنان معا، أو بالحجة فقط كما هي الحال في زماننا، فلم تزد الشبهات دين الإسلام إلا نصوعا، وذلك من جملة الأدلة العقلية والحسية على صحة رسالته، فلم يقدر أحد في زمانه أو بعده على كسر سيف حجته الرسالية الدامغة، بل غايته أن يثير شبهة باردة، تدل على عظم جهله فلا يزداد الناظر فيه إلا يقينا بصحة الدين الخاتم الذي عجز خصومه عن إيجاد ثغرة فيه فابتكروا وركبوا تلك الشبهات المتهالكة التي يدل العقل ابتداء على بطلانها فضلا عن مخالفتها لطرائق البحث العلمي الصحيحة، لو كان لهم دراية به ابتداء!، فغالبهم من الجهال: جهلا مركبا، فضلا عما تقدم من سوء الطوية والمقصد، فاجتمعت فيهم السوأتان، ولا سيف للشرع قائم ليستأصل تلك النبتة الخبيثة التي أينعت في الآونة الأخيرة، والشاهد، أن مناط الأمر، صدق المخبر، فإن المتنبئ الكذاب، لا يخفى أمره، فمآله، كما تقدم مرارا، إلى افتضاح، ولو ظهر أمره حينا، ليبتلي الله ما في صدور العالمين، فبالفتن تستخرج مكنونات الصدور، وأما النبي الصادق فأمره مطرد، فمذ بعث موسى عليه السلام وأمره ظاهر فلم يقدر أحد على تكذيب رسالته، بل قد أكرمه الرب، جل وعلا، بإغراق عدوه وجنده، فكانت آية من آيات عنايته بالكليم، عليه السلام، فأهلك أمة من أجله، فهو أعظم عند الله، قدرا منها، فالمؤمن قدره عند الرب، جل وعلا، جليل، فكيف بنبي من أولي العزم، عليهم السلام، عرف بالحمية والغيرة على الدين، حتى صار مضرب المثل في ذلك، فكان له في قلوب بني إسرائيل أعظم هيبة، مع كمال حيائه وحشمته، فذلك من تمام صناعة الرب، جل وعلا، له، وله في الشدة في دين الله، أحوال، تحاكيها أحوال الفاروق عمر، رضي الله عنه، فاطرد أمره فلا مكذب له في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فرسالته، التي دعت إلى التوحيد، وكتابه الذي لم يسلم من التبديل والتحريف بأيدي أحبار الضلالة، قد ثبت نزول كليهما، فبلغ رسالة ربه، جل وعلا، ولا يضره أن فرط من جاء بعده
(يُتْبَعُ)
(/)
فلم يحفظ التوارة وقد استحفظ عليها، فخان وبدل، وما قدح ذلك، كما تقدم، في الكليم عليه السلام أو في رسالته التوحيدية التي واطأت رسالات بقية إخوانه من الأنبياء عليهم السلام، فدينهم، كما تقدم مرارا، دين الإسلام الجامع، فاطراد الثناء عليه إلى يوم الناس هذا، واجتماع قلوب الموحدين الصادقين على حبه، فليس موسى الذين آمن به الموحدون كموسى الذين زعمه أبناء يهود، فقد نسبوا إليه في كتبهم من سوء الأدب مع الرب، جل وعلا، ما قد علمه من طالع أسفارهم المحرفة، وليس ذلك بمسلك آحاد المؤمنين فضلا عن أن يكون مسلك زعيم أنبياء بني إسرائيل، فمقامه الرفيع يكذب ما افتروه عليه بداهة.
وكذلك حال المسيح عليه السلام فهي من أكمل أحوال العباد الربانيين، وإن قدح فيه السفهاء من يهود برمي أمه البتول، عليها السلام، بما برأها الرب، جل وعلا، منه، فهي الصديقة أم الوجيه المقرب، والكهل الصالح، والنبي الخاتم لرسالات بني إسرائيل، العبد البار، فأول منطوقه: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)، وإن قدح فيه السفهاء ممن انتسبوا إليه زورا وبهتانا، فغلوا فيه وجعلوه الرب المألوه، ونسبوا إليه من النقائص ما يتنزه عنه آحاد المؤمنين، فجوزوا تسلط أخس الخلق من يهود المكذبين للرسل الساعين في دمائهم، عليه، مع كونه الرب القدير، فأهانوه وقتلوه ثم صلبوه، وذلك لا يليق بمقام الإيمان: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا)، فضلا عن مقام الرسالة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فضلا عن مقام الألوهية بزعمهم، فالفداء من الأساطير التي أقحمها شاءول اليهودي المتنصر نفاقا في ملتهم فصيرها وثنية بعد أن كانت توحيدية، فلئن تسلطوا على زكرياء ويحيى، فبرسم الشهادة لا الصلب والإهانة، ولئن سعوا في دم المسيح عليه السلام فقد رفعه الرب، جل وعلا، إليه، وطهره من الذين كفروا، فقال في محكم آيه: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، وتلك من أظهر صور العناية بالمسيح عليه السلام، فله من جنس ما للكليم، عليه السلام، من المحبة في قلوب المؤمنين، والثناء على ألسنتهم، فنحن أولى الناس به، فتولينا له من جنس تولي النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم له، فـ: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي"، فاطراد الثناء عليه على هذا النحو وتصديق الوحي المعصوم من التبديل له فـ: (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، هو العمدة، عند التحقيق، في إثبات وجود أولئك السادة الأماجد!، فضلا عن نبوتهم وعصمتهم، فلا خبر يصمد لمعايير النقد التاريخي المعتبرة يدل على كمال أحوالهم العلمية فهم أصحاب النبوات النازلة من السماء برسم العصمة في البلاغ فليس فيها ما يخالف ناموس التوحيد الجامع، وكمال أحوالهم العملية فهم أصح الناس إرادات باطنة، وأقوالا وأفعالا، ظاهرة، فظاهرهم قد صدق باطنهم فكل قد بلغ المنتهى في الصلاح والاستقامة، فمحال في حقهم الكذب أو العصيان، فمن عناية الرب، جل وعلا، بهم أن أرسل النبي الخاتم بالكتاب الناسخ، فأبطل ما قيل في حقهم من الأباطيل، وأثبت ما لهم من كمال الحال باطنا وظاهرا، فجواهرهم أصفى الجواهر من شوب الفساد في التصورات أو الإرادات، وظواهرهم أصدق الظواهر وأنقاها من شوب الكذب في الأقوال أو الفساد في الأعمال، فصدق الظاهر الباطن، ونزل الكتاب العزيز على ذلك خيرَ شاهد.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما صاحب الرسالة الخاتمة، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالكلام عنه في معرض التأييد بالآيات الكونية، ومنها الإسراء، تلك الآية الكونية الباهرة، والمعراج فهي الآية الأعظم، في تلك الرحلة المباركة، والآيات الشرعية وأعظمها الكتاب العزيز السالم من التحريف والتبديل والمعارضة والتكذيب، فخبره أصدق الأخبار، فـ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)، فأخبر عن الماضين وذكر أحوال التالين، فجاء الشاهد المحسوس بعده خير شاهد لصحة رسالته، وحكمه أعدل الأحكام بشهادة المجامع القانونية المعاصرة، وليس للوحي فيها حاجة فهو معصوم مسدد، قبل أن توجد تلك المجامع وأصحابها ابتداء، وإنما هي النافلة في الشهادة بهد شهادة الوحي، فهو الدليل والمدلول معا، ففيه الخبر والحكم، وفيه البرهان العقلي المحكم على صحة كليهما، فالكلام عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى ما سبق من ظهور أمره، وغلبة رسالته فلا تعرض على أي عاقل صحيح الإرادة والمقصد، إلا قبلها، لمواطئتها الفطرة التوحيدية الأولى في القلب، فيأتي الميثاق الثاني مجددا لما اندرس من آثار الميثاق الأول: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، الكلام عن كل ذلك مما لا يفي به بنان كاتب، ولا يحصيه لسان ناطق، فأدلة النبوة الخاتمة، قد بلغت، كما تقدم، حد التواتر، الذي يعجز الإنسان، لو تدبر، عن إحصاء آحاده، فحسبه أن يحصي أنواعه، فالشاهد مصدق بنبوته، والكتاب الأول فيه، على ما وقع فيه من التبديل، من البشارات ما صنفت فيه الكتب والرسائل، وصدق أخباره، وعدل أحكامه، وسلامة مقالته من المعارضة الصحيحة، ومواطأتها للفطرة السليمة، والآيات الكونية التي أجراها الرب، جل وعلا، على يديه، ومنها آية الإسراء، والآيات الشرعية السالمة من المعارضة التي أجراها، تبارك وتعالى، على لسانه، فعجز أرباب البيان من قريش: معدن الفصاحة، فلسانها كان اللسان الجامع لكل القبائل، فبها ينظم الشعر، وتنشأ الخطب، وتكتب الصحف، عجز أولئك عن معارضته ولو بآية، وتحديه لأهل الكتاب وإجابته عن شبهاتهم كما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، وقهره لهم بالحجة والبرهان، وإظهاره عليهم بالسيف والسنان فأجلى منهم من أجلى من المدينة وخيبر، وإظهار أتباعه من بعده، برسم رسالته الخاتمة على أمم العالم القديم من الرومان الكتابيين والفرس الوثنيين، وفتحهم للأمصار من مصر إلى المغرب، ومن العراق إلى حدود الصين، ثم انحسارهم لما قصروا في القيام بأمر دينهم، فلا يظهرون على العالمين إلا به ...... إلخ، كل أولئك ويزيد من: كمال عنايته عز وجل بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن كمال عنايته بالنوع الإنساني بأن يسر لهم أسباب معرفة الحق بدلائله الواضحات، لحاجتهم الماسة إلى ذلك فلا حاجة تفوق حاجة البشر إلى النبوات التي يسعد بها الإنسان في دنياه وينجو في أخراه، فكان من رحمته، عز وجل، أن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالآيات الشرعية الصادقة، والآيات الكونية الباهرة، فثبت لكل ذي عقل صدقهم وصحة طرائقهم فهي أصدق وأعدل الطرائق بشهادة الفلاسفة المنكرين للنبوات!، فكيف بمن صدق بجنس النبوات من الكتابيين، وكيف بمن صدق بالرسالة الخاتمة، فهو أولى الناس بهذه الشهادة فقد باشر من صدق وعدل الرسالة ما لم يباشره غيره.
(يُتْبَعُ)
(/)
فسبحان الذي أسرى بعبده: فجاء التعريف بالموصول في معرض تقرير تلك الآية الكونية الباهرة، فالتسبيح للرب، جل وعلا، الذي أسرى بعبده، فوصف الإسراء هو مناط الحكم، وهو من وصف فعل الرب، جل وعلا، عناية بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد بلغ حاله من الضيق والكرب بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه الكريم: أم المؤمنين، رضي الله عنها، ما بلغ، فكان ذلك من تمام العناية به، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجاء الإسراء بالروح والبدن معا، فمسمى العبد يعم كليهما، ذلك قول جمهور أهل العلم، إذ ليس في الإسراء بالروح فقط، ما يستنكر، فهو أمر يقع لكل أحد في منامه، فعلام استنكرت قريش ذلك، إن لم يكن خلاف المعهود المطرد لديها من السنة والعادة الجارية، وجاء التأييد بإخباره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأمور من قبيل وصف المسجد الأقصى لما جلاه الرب، جل وعلا، له، وإخباره بأمر العير التي مر عليها، فذلك قدر زائد على مجرد الانتقال بروحه وجسده الشريف من مكة إلى بيت المقدس، فالإسراء قد يقع لبعض السحرة والكهان كما يرى في الأعصار والأمصار التي تندرس فيها آثار النبوات، ولكن فساد حال صاحبها يشهد ببطلان مقالته، فضلا عن افتضاح أمره بوقوعه في الكذب لا محالة، وإن صدق في بعض خبره، فلا بد، كما تقدم، من هتك ستره لئلا تقع الفتنة العامة به، فتلك الزيادة بتلك الأمارات الزائدة، والتي لا يؤيد بها الرب، جل وعلا، في معرض التحدي، إلا نبيا معصوما، لئلا تبطل حجته الرسالية، لو جاز وقوع هذا القدر من التصديق لكذاب مدع!، فيجوز في حقه تأييد المفتري!، وذلك من نقص الوصف بمكان ففيه من وصف الرب جل وعلا بالظلم والسفه ما تنزه عنه آحاد البشر، فلا يعلم حيث يضع رسالته، فيضعها في متنبئ ضال!، وذلك محال في حقه، جل وعلا، لكمال وصفه ذاتا وأسماء وصفات وأفعالا، كما تقدم في مواضع سابقة، فهو أمر مطرد في آي التنزيل، كما في هذه الآية التي صدرت بالتسبيح فهو مئنة من نفي وصف النقص الذي تنزه الباري، عز وجل، عنه شرعا وعقلا، وذيلت بأوصاف الكمال إثباتا مفصلا: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فذلك على وزان قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): تنزيها مجملا لكل أوصاف النقص، و: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ): إثباتا مفصلا على ما اطرد من طريقة أهل الحق في هذا الباب الجليل.
فأسرى الرب، جل وعلا، بعبده، صلى الله عليه وعلى آله سلم، فجاء وصفه بالعبودية الخاصة في أشرف المواضع مضافا إلى ضمير الرب، جل وعلا، تشريفا، كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، فذلك من جنس ما تقدم من مقالة المسيح عليه السلام: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)، وكما جاء في وصف النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، فوصفه بالعبودية في أشرف المناصب البشرية: منصب الدعوة برسم النبوة المعصومة، و: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)، فأضافهم إليه في معرض الثناء عليهم فذلك آكد في تقرير المعنى فالإضافة إلى العظيم: تعظيم لشأن المضاف، وجاء الالتفات في قوله تعالى: (لنريه)، مئنة من عظم وبركة الآيات التي رآها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فضلا عن نسبة الفعل إلى ضمير الجمع المستتر في عامله، فذلك آكد في تقرير عظم تلك الآيات، وكل ذلك مئنة من كمال العناية بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجاء الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس الذي بارك الرب، جل وعلا، حوله، فالبركات فيه ظاهرة، فجيء بصيغة: "فاعل" مضافة إلى ضمير الجمع: (باركنا)، مئنة من المبالغة في الدلالة على تلك البركات، فذلك جار على ما قرره الصرفيون من دلالة صيغة: "فاعل" على المبالغة والتكثير كضاعف الشيء فهو بمعنى ضعَّفه بتضعيف العين فذلك نص في التكثير لدلالة: "فعَّل" المضعف عليه كما أشار إلى ذلك صاحب "شذا العرف" رحمه الله، فالآية قد حوت من الآيات والبركات العظيمات ما يدل على كمال عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الرحلة الخالدة.
وفيها، كما قرر أهل السير، دليل لطيف على انتقال القيادة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، فقد انتقلت النبوة من الفرع الإسحاقي إلى الفرع الإسماعيلي فصار أحق بالقيادة، ومعيار ذلك: بيت المقدس، فإنه لا يبقى إلا في أيدي الموحدين برسم الرسالة، فلا نسب بين الرب، جل وعلا، وبين أتباع الرسالة الخاتمة، ليلقي إليهم بمقاليد قيادة البشر، فتكون بيت المقدس تحت إمرتهم، وهم مفرطون في الوحي مكذبون له بلسان الحال، بل قد صرح بعضهم بالتكذيب بلسان مقاله الفاحش، كما تقدم من بيان حال زنادقة زماننا الذين صاروا من سيف الشريعة في مأمن، فالحكم دائر مع بيت المقدس وجودا وعدما، فمتى كان سير على منهاج النبوة فتحرير لبيت المقدس وقيادة للعالم من جديد، فقد ظهر فيه الفساد والخبث ولا ينفي ذلك إلا كير النبوة المعزولة عن منصب القيادة حتى إشعار آخر!، ومتى كان عدول عن منهاج النبوة وتخبط في بنيات الطريق من مناهج وضعية: علمانية وليبرالية وشيوعية ورأسمالية ..... إلخ، فذلة ومهانة بسقوط بيت المقدس في أيدي أذل الخلق وأهونهم على الرب، جل وعلا، فذلك من عظم عقوبته، جل وعلا، للأمة المفرطة في القيام بأمر ما استحفظت عليه من الوحي المعصوم، فلم تقم بمعانيه، بل قد هجرت تلاوة مبانيه، فلم تقم بحروفه أو حدوده، فأنى لها أن تستعيد بيت المقدس كما استعاده الخليفة الراشد عمر، رضي الله عنه، من صفرنيوس برسم: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا بغير الإسلام أذلنا الله"، وكما استعاده القائد الناصح صلاح الدين، رحمه الله، مقدم بني أيوب الذي فرج الرب، جل وعلا، به الكروب وشفى به الصدور من عباد الصليب الذين استباحوا البيت المقدس وأهله.
فمن يشفي الصدور من يهود فهم العقوبة الربانية الكائنة الآن على ما كان من تفريط في أمر الدين فأزيل عن حكم السياسة بإسقاط الخلافة الجامعة لأشتات الدول والممالك الإسلامية، وأزيلت الشريعة عن حكم الناس فيما يجد لهم من الأقضية في الدماء والأموال والفروج وسائر الأمور، ورقت الديانة، فزالت هيبة الوحي من قلوب الخاصة والعامة، الجماعات والأفراد إلا من رحم الرب، جل وعلا، ولا رجوع للمسرى إلا بمراجعة رسالة من أسرى به صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسكت النص عن آية المعراج، فقد دل عليها الشطر الثاني من الوحي المعصوم، فاستفاضت أخبارها في دواوين السنة المطهرة، فتمت المنة واكتملت المنة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفيها من الإعجاز ما ليس في آية الإسراء، وإثباتها جار على ما تقدم، من التجويز العقلي، فلا محال في خبر النبي، فالمعراج ابتداء: جائز، فلا يوجبه العقل ولا يحيله، حتي يرد المرجح للإثبات أو النفي، ولا يكون الترجيح في هذا الباب إلا بخبر صادق، فترجح جانب الإثبات بورود الخبر الصادق عن وقوعه فصار الإيمان به واجبا، فمرد الأمر، كما تقدم، إلى إثبات صدق دعوى النبوة، فإن ثبت فما بعده فرع عنه، ولذلك كان من كمال عقل وسداد أمر الصدر الأول، خير طباق الأمة، وكل من سار على طريقتهم في الاستدلال، الاستدلال على صحة النبوة، فإذا ثبتت فالتسليم الكامل للأخبار تصديقا وللأحكام تنفيذا، لمكان العصمة الذي لا يتطرق إليه كذب أو خطأ في الخبر، أو ظلم أو جور في الحكم، فأخبار النبوات، كما تقدم، أصدق الأخبار، وأحكامها أعدل الأحكام، فمتى صح النقل سلم العقل، فالتابع لا يتقدم بين يديه متبوعه بداهة، فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
(يُتْبَعُ)
(/)
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فلا تقدموا بين يدي خبره تكذيبا، أو حكمه تعطيلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 04 - 2010, 08:51 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا):
فذلك مئنة من تمام المنة على موسى الكليم عليه السلام، فالإيتاء لا يقبل المطاوعة بخلاف الإعطاء، فالمعنى في الإيتاء أقوى، فآتاه أسباب الهداية إيتاء لا يقبل الرد، فالنبوة منحة لا تقبل الرد ومنصب لا يقبل الإقالة أو الاستقالة، فآتينا، على جهة التعظيم، فالإسناد إلى ضمير الفاعلين مئنة من تعظيم العطية الربانية، كما تقدم مرارا، وجاء العطاء محلى بـ: "أل" العهدية فهي تشير إلى كتاب بعينه هو: التوراة، ففيها: (هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)، فمن قبل الكتاب العزيز: (كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة)، و: (آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)، وفي معرض الإنكار على من قال: ما أنزل الله من شيء: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس}، فذلك من المجمل الذي بينته هذه الآية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتحمل "أل" في: "الناس" على معنى العهد، فهم ناس بأعينهم، فالتوراة هدى لبني إسرائيل لمحلية الرسالة، فلم يكن رجال كالخضر عليه السلام مكلفين بها كما ظهر في رحلته مع موسى عليه السلام، فهو على الراجح نبي يوحى إليه بشرع يخالف شرع موسى عليه السلام فلا يلزمه اتباع موسى عليه السلام، وإلا ما فارقه بعد أن لقيه، فلم يصر من أتباعه بعد انتهاء الرحلة، فتلك قرينة تدل على محلية رسالة موسى عليه السلام، فضلا عن قرائن أخر، من قبيل هذه الآية: (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، فخص بنو إسرائيل بذلك دون سائر الأمم، فالتوراة كما تقدم: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ)، فالحكم خاص بهم دون غيرهم، بل لما خير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم في قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، جاء الأمر بالحكم بما أنزل الله في آية تالية: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)، فنسخ التخيير، ووجب عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في الكتاب العزيز أو في التوارة والإنجيل مما لم ينسخ فهو شرع لنا إذا ثبت عندنا أنه كان شرعا لمن قبلنا فحكي في شريعتنا ولم يعقب بإبطال أو نسخ، فالعمدة في هذا الباب: نص شريعتنا فهي العمدة في إثبات ذلك أو نفيه لقرينة الحفظ والعصمة من التبديل والتحريف الذي وقع في الكتب السابقة فلم يعد خبرها مستندا في إثبات شرع أو نفيه فلا ينظر فيها إلا على جهة الاستئناس بما وافق الكتاب العزيز فهي مما يستشهد به فيحكى متابعة لا أصلا، فـ: "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" فذلك فيما لم يثبت صدقه أو كذبه فيتوقف فيه ويحكى على جهة الاستئناس، كما تقدم،، فالشاهد أن: "أل " في "الناس" في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس) من قبيل "أل" في "الناس" في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، فيكون من العام الذي أريد به الخاص، فأريد بهم في آية: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس)، خصوص بني إسرائيل، لما تقدم من قرائن محلية الرسالة الموسوية، واقتصار المنة في مواضع كآية الإسراء على بني إسرائيل دون من سواهم، بخلاف الرسالة الخاتمة، فالمنة بها
(يُتْبَعُ)
(/)
أعظم لعالميتها فـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، فجاء التوكيد رافعا لاحتمال المجاز، فـ: "أل" هنا على أصلها لاستغراق ما دخلت عليه لقرينة السياق، ولقرينة عالمية الرسالة، فالقرينة الخاصة والعامة شاهدة بعالمية الرسالة الخاتمة، بل لو قيل بأنه هدى لبني إسرائيل ولغيرهم، فالكتاب الصحيح السالم من التبديل، قد دل بما فيه من البشارات التي كتمها يهود، على الرسالة الخاتمة، فلو صدقوا خبره لآمنوا بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله سلم، ولو امتثلوا حكمه، لأنفذوا حد الرجم، كما في سبب نزول: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، فيكون حكمهم مواطئا لحكم الكتاب الآخر، ولكنهم بدلوا ما استحفظوا، فتحريفهم قد عم الخبر والحكم معا، فالكتاب النازل على موسى عليه السلام هو بعينه الهدى لبني إسرائيل، فالإخبار عنه بأنه عين الهدى مئنة من المبالغة في تقرير العناية والمنة بالوحي، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو الهدى لهم دون الكتاب الذي كتبه الأحبار بعد ذلك، فـ: (وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)، فقد زيد فيه ونقص تبعا لأهواء وأذواق الكتبة، وتحريف العهد القديم، أمر قد اشتهر وتواتر، بل قد أثبته النقد التاريخي الحديث، كما تقدم في مواضع سابقة، فلا يستند إلى مخطوطات موثقة، ولا إسناد له في السطور أو الصدور، فلا حفظة له ولا نقل مكتوب يوثق به فقد وقع التبديل في الطبقات الأولى، وعدمت الأصول الموثقة التي يرجع إليها عند وقوع الاختلاف، وهو أمر قد وقع للأناجيل، بل شأنها أعظم!، لما علم من تساهل النصارى في نسخ الأخبار والأحكام معا، فلا يكاد الناظر في ملتهم يحكي شرعا مطردا لتوالي الحذف والإضافة تبعا لأهواء أو أذواق أو رؤى الآباء والرهبان!، فذلك مما امتازت به الأمة الآخرة، فإذا كانت المنة بالهدى على جهة التعظيم بالتنكير، ثابتة في حق بني إسرائيل فثباتها في حق الأمة الخاتمة أعظم، فالنبوة أشرف أجناس النعم، كما تقدم مرارا، وللأمة الخاتمة منها أشرف الأفراد: الرسالة الخاتمة المحفوظة بحفظ الرب، جل وعلا، فذلك أمر قد أخبر به الوحي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وشهد به الحس، فلا أحد إلى يوم الناس هذا يستطيع تبديل حرف من حروف الكتاب العزيز المنقول إلينا بلسان قريش بقراءاته المتواترة المعروفة.
والشاهد أن التوراة بأخبارها وأحكامها التي امتازت بالشدة والجلال، كانت هدى لبني إسرائيل، فالتنكير، كما تقدم، مئنة من التعظيم، فلا أعظم من نعمة النبوة، فالعناية بها أعظم صور العناية، فبها فضل بنو إسرائيل على عالمي زمانهم: (من العالمين)، فضلا عن دلالة اللام في: "لبني" على الاختصاص، فذلك آكد في تقرير المنة، فهو من قبيل قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)، بخلاف العالمين في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فالعموم هنا مستغرق محفوظ لما تقدم مرارا من عالمية الرسالة الخاتمة.
ثم جاء البيان والتفسير، على وجه لطيف أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذيلت الآية بأعظم مقررات الكتاب: التوحيد، فيكون ذلك من بيان العام بالخاص، فنص على التوحيد لكونه الأصل لما بعده فهو زبدة الرسالات السماوية، فمحله من الديانة: محل القلب من الجوارح، فإذا صلح العقد القلبي: صلح ما بعده من الإرادات والأقوال والأعمال، وإذا فسد: فسد ما بعده فلا يجدي تصحيح الفروع شيئا إن لم يصح الأصل الأول، ففروع بلا أصل صحيح داخلة في قوله تعالى في محكم التنزيل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
ثم جاء التذكير بصورة أخرى من صور العناية الربانية بإنجاء المؤمنين مع نوح عليه السلام في الفلك، وخروج الذرية من صلب نوح، عليه السلام، فحفظ بنسله النوع الإنساني فهو أبو البشر الثاني:
ذريةَ: على الانتصاب بالاختصاص أو النداء، فذلك آكد في تقريعهم لما وقع منهم من تقصير بتذكيرهم بالعناية بإنجاء أصولهم، فذلك آكد في تقرير معنى العناية من قولك في غير التنزيل: ذرية نوح، وإن كانوا كذلك بالفعل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والتعريض بتقصيرهم حاصل بالتذييل بـ: (عبدا شكورا)، فوصفه بالعبودية الخاصة والشكران على حد المبالغة فيعم أعمال الباطن والظاهر، ففيه نوع حض لهم على امتثال طريقة نوح، عليه السلام، في العبودية والشكران، وفيه تعريض آخر، أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالنكير متوجه من باب أولى إلى من خوطب بهذا التنزيل، ففساده أعظم بوقوعه في الشرك الصريح، وهو متوجه إلى كل مقصر في كل عصر ومصر سواء أكان تقصيره تقصير الكافر الأصلي، أم المرتد، أم الفاسق الملي، أم مرتكب الصغائر ..... إلخ من أجناس المقصرين فلكل نصيبه من التقريع بقدر خروجه عن منهاج النبوة الكامل.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 04 - 2010, 07:41 ص]ـ
ومن صور عنايته، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر الهجرة، كما في سورة التوبة:
ومن قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
فتلك من صور العناية بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر الهجرة، بنصره وتأييده إذ لم ينصره قومه، فالضمير عائد عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر، فيكون عائدا على غير مذكور، لدلالة السياق عليه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والشرط في هذا السياق قد أشرب معنى التقريع كما أثر عن سفيان بن عيينة رحمه الله: "إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر"، فلم يكن لها إلا الصديق الأعظم، رضي الله عنه، فهو الذي اختاره الله، عز وجل، للقيام بهذا الواجب العيني الذي سقط عن بعض المكلفين عجزا، وفرط فيه كثير كسلا، وهو أمر نجد أثره في زماننا، فمع كل تطاول على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يظهر معلوم الرب، جل وعلا، الأول في كثير من المكلفين، فتظهر زندقة كثير من المستترين برداء الإسلام الظاهر، فتلك من الفتنة التي تبلى بها السرائر، فـ: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، فتلك آية تتكرر في زماننا كثير، بل إنها تتكرر في اليوم الواحد للقلب الواحد مرات ومرات، فيبتلى بجملة من الفتن تعرض عليه عودا عودا، فإن نجا من فتنة سقط في أخرى، والمعصوم من عصمه الله، عز وجل، بالاستغفار الوقائي من الخواطر والوساوس، والاستغفار من الفتنة التي يسقط فيها، فيسارع بالأوبة، فكل البشر يخطئ ويصيب، فمن استغفر فقد صقلت مرآة إيمانه، ومن استسلم وسار مع الخطرات حتى صارت إرادات، فتولد منها لزوما أقوال وأفعال تدخل في دائرة الكسب الذي يؤاخذ عليه العبد، فإنه في دائرة الذم واقع حتى يراجع بالاستغفار، والشاهد أن تلك الفتنة بالتطاول على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يظهر بها مكنون الصدور من مادة النصرة التي قام بها الصدر الأول، رضي الله عنه، خير قيام، فلئن تخلف الأصحاب، رضي الله عنهم، عن مرافقته في سفر الهجرة، فذلك لاختصاص الصديق، رضي الله عنه، بتلك المنقبة، فهو الوزير الأول والصاحب الأقرب، فلا يصلح لرفقته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الرحلة المصيرية التي يتوقف عليها أمر الرسالة إلا هو، فليس تخلف الأصحاب، رضي الله عنهم، بقادح فيهم، فمنهم من عجز فسقط عنه التكليف، ومنهم من سبقه بالهجرة، ومنهم من هاجر بمفرده فقام بما يقدر عليه من مباشرة أسباب الفرار بالدين، ومنهم من فرق بينه وبين زوجه كأبي سلمة، رضي الله عنه، ومنهم من اختطف بعد أن قطع مراحل من الهجرة كعياش بن أبي ربيعة، رضي الله عنه، فلكل حاله، ولكل عذره، ولكل تكليفه الذي يلائم قدراته، ولكل مقامه، فمقام الصديقية هو المقام الوحيد الصالح لرفقة خير البرية صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الرحلة، فليس لها إلا أبو بكر، ورفقته له في الغار من جنس رفقته له في العريش يوم بدر، فذلك أخطر المواضع، فالقائد يحتفظ بجواره بأكفأ وزرائه، ثم هو مع ذلك عرضة لأن ينال منه الأعداء فهو المطلوب الأول على القائمة!، فليس لها، أيضا، إلا أبو بكر، رضي الله عنه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم حيث يجعل الصديقية والشهادة والصلاح وسائر مراتب الديانة فلكل محل ما يلائمه، فـ: (مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)، فلم يكن القوم مقصرين في نصرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل قد نصروه بالأنفس والأموال، فوفى الأنصار بالبيعة، وخرج المهاجرون من الدور والأموال والأولاد نصرة لدينه، وقعد منهم من قعد حارسا على بابه، ودافع عنه من دافع بالسيف بل
(يُتْبَعُ)
(/)
بالجسد فجعل نفسه ترسا يقي به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من السهام، كما صنع أبو دجانة، رضي الله عنه، يوم أحد، فتلك النصرة الكاملة التي قعد عنها في الجملة أهل زماننا فالعجز باعتبار المجموع، فلا سيف للشرع يقطع ألسنة المتطاولين على مقامه الرفيع من الكفار الأصليين والمرتدين، فكل قد استحق القتل شرعا، وإن أظهر التوبة رياء ونفاقا، أو خوفا من سيف الشرع المسلول في بعض بلاد المسلمين على ضعف اعتراه في الأعصار الأخيرة، فضلا عن كونه مغمودا بل مكسورا في كثير من أمصار المسلمين، بل بعض أولئك يحظى بالحماية الرسمية لدول تزعم حرية الفكر، ولو بالمجاهرة بالردة، كما يروج لذلك في بلاد الإسلام في الأعصار الأخيرة برسم حرية الاعتقاد الذي يروج له بعض مشايخ الضلالة ممن أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، فحرية الاعتقاد تساوي حرية المروق من الديانة وإبطال حد الردة تشجيعا لكل زنديق على استفراغ ما في جوفه من قيح، بعد أن أمن سيف الشرع المعطل باسم الشرع، فلم يعطله إمام جور فحسب، بل عطله شيخ سوء، و:
وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ ******* وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها
وبعض قد رضي بذلك فانشرح صدره، فهو، كما تقدم، مارق من الديانة، وبعض لا يعنيه الأمر فهو في تحصيل دنياه مشغول فليس له من الغيرة الإيمانية ما تتألم به النفس أو يتغير به الوجه، ولو بالامتعاض من القدح في أشرف الخلق، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلو اقترب أحد من دنياه بسوء، لثار وانتفض، وأظهر من صور الغيرة والحمية ما يدفع به عن نفسه الضرر، بل ربما تعدى وظلم، بل ذلك الغالب على المتنافسين برسم تحصيل الجاه: بسلطان أو مال، والشهوات نفسانية كانت أو جسدية، فالهمم دنية، فلا تطلب بداهة إلا ما يشاكلها في الدناءة، فليست محلا قابلا لمعالي الأمور، لتغضب وتثور حمية لمقام الرسالة، فبتلك المحنة الجليلة ظهرت نفوس شريفة، وأخرى وضيعة، فذلك من كمال وصف ربنا، جل وعلا، الرب المدبر لحركات النفوس وإرادات القلوب علوا أو دنوا:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ******* وتأتي على قدر الكرام المكارم.
ولئن حرم الإنسان الاقتصاص من أولئك، فالقادحون في شخصه الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الكفار الأصليين بمنأى عنا، ومأمن منا، فلا سيف يطلبهم كسيف الفاتحين الأوائل، بل لا سيف يدفع عدوانهم على الدين والأرض والدم والمال والعرض!، ولا سلطان على الزنادقة في بلاد المسلمين فأمرهم موكول إلى السلطان ليحتسب عليهم إن كان له من الغيرة الإيمانية نصيب، فليس أمر استيفاء ذلك موكولا لآحاد المكلفين لئلا يشيع الهرج وتقع الفتن في بلاد المسلمين، لا سيما مع اضطهاد أهل الحق وترصد أهل الباطل لهم، فهذا أدنى ما يعتذر به للرب، جل وعلا، في مقام نصرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عل فاعله يخرج من دائرة التقريع بـ:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ: فإلا تنصروه: (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، فيستبدل جيل آخر من أصحاب النفوس الباردة والهمم الدنية ممن أصابتهم الدياثة في مقتل فلا يغارون على دين أو عرض، بآخرين: لهم من الديانة ما تتحرق به نفوسهم شوقا إلى نصرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد أن خذله الجيل المفرط، فسنة التيه جارية، حتى ينقرض الجيل الجبان فيلقى في سلة المهملات الإنسانية، ويظهر جيل آخر يصنعه الرب، جل وعلا، على عينه لينتصر لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعدائه. فليس جيلا باردا يتعلل بسماحة الإسلام التي صيرها بتخاذله ضعفا واستكانة، وذلة ومهانة، فصار الإسلام الوسطي المزعوم يساوي التفريط في الثوابت وقلة الغيرة على الأحكام والشرائع، فحال أصحابه: الذلة مع أهل الكفر والنفاق، والعزة على أهل الإيمان، فالسماحة لا تكون إلا مع الكفار الأصليين من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمنافقين، وأهل البدع، فلا نصيب لأهل الإسلام والسنة فيها!.
(يُتْبَعُ)
(/)
فـ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ: فجاء الشرط مصدرا بـ: "قد": مئنة من التحقيق، فقد نصره الله، عز وجل، وانتهى الأمر، فدينه غالب منصور، وذكره ظاهر مرفوع، فلا يزيده أذى من قدح في عرضه الشريف إلا رفعة شأن وظهور أمر، والجناس الاشتقاقي بين الفعلين: المضارع: "تَنْصُرُوهُ"، والماضي: "نصره" مما يزيد المعنى بيانا، فضلا عن طباق السلب بالنفي في الشرط والإثبات في الجواب، فذلك مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحسبك بنصرة الله، عز وجل، لنبيه، صلى الله عليه وعلى آله سلم، واللفظ، وإن اختص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الموضع، فهو أحق الناس بنصرته، عز وجل، بداهة، إلا أن لأتباعه من معناه نصيب بقدر نصرتهم له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولدينه، فنصرة الرسالة: معدن الرفعة في الدارين، والتاريخ خير شاهد على ذلك، فهو كما تقدم مرارا، شاهد العدل الذي لا يكذب، فبقدر نصرة النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالدفاع عن شخصه الكريم والالتزام بمنهاج دينه القويم، بقدر ذلك تكون الغلبة في الدنيا والآخرة: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، فلكل من هذا المعنى نصيب بقدر التزامه بالشرط، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ كما تقدم في مواضع سابقة.
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ: فذلك من الإطناب بذكر الظرف الذي نصر فيه الرب، جل وعلا، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس ذكره بداهة بمخصص لعموم نصرته، عز وجل، لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو معنى ثابت مطرد في كل أحوال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حتى في المواضع التي كسر فيها المسلمون كيوم أحد، فقد شمل الرب، جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بصور من العناية في ذلك اليوم العصيب: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، فنزول السكينة العامة من جنس نزول السكينة الخاصة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار، فأخرجه الذين كفروا، فذلك من الفعل المتعدي، فأخرجوه بالتضييق عليه والسعي في دمه، فأخرجوه: ثاني اثنين: فتلك الحال مئنة من تمام الملابسة الإيمانية بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصديقه الأعظم، رضي الله عنه، فقد يكون ذلك وجه عود الضمير في: "سكينته"، فهو راجع على المخرج برسم الحالية الثنائية بين النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصديقه الأعظم، رضي الله عنه، فنزلت السكينة على كليهما، وإن كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها قدر أعظم، لمكان النبوة، فلا يدانيه مكان الصديقية، وإن عظم، فلكل قدره من العناية الربانية تبعا لمكانته الإيمانية، وليس إيمان آحاد الأنبياء، عليهم السلام، كإيمان كل الأولياء مجتمعين بما فيهم سادة الأولياء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، فنبي واحد خير من كل الأولياء، كما قرر الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته المشهورة، فإذا كانت تلك حال آحاد الأنبياء فكيف بمقدمهم وخاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإيمانه لا يدانيه إيمان أحد من الأنبياء فضلا عن الصديقين والأولياء، فذلك وجه التفاوت بين السكينة النازلة في قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والسكينة النازلة في قلب الصديق، رضي الله عنه، فإن اجتمع لكليهما المعنى الكلي الجامع فقد افترقا في القدر النازل في القلب تبعا لتفاوت الإيمان في قلب كليهما، ولذلك أصاب الصديق، رضي الله عنه، نوع حزن، لا جزعا على نفسه، كما يزعم المخرفون!، فلو كان كذلك ما خرج ابتداء، وما اختاره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهذه الرحلة مع ما يكتنفها من المخاطر، فلا يختار آحاد العقلاء رفقة جبان خوار في سفر كهذا السفر فهو مظنة الرصد والمتابعة، والجبان عبء جسيم على رفيقه، فلا يصلح لأمر جليل كهذا، فحسبه صغائر الأمور دون عظائمها،
(يُتْبَعُ)
(/)
فليس لها بأهل، فإذا كان هذا حال آحاد العقلاء، فكيف بعقل النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!، فاختياره بداهة لن يقع إلا على أعظم أصحابه، وأشجعهم قلبا، وأذكاهم عقلا، وآمنهم على سره، واصدقهم نصحا له في الظاهر والباطن، وقل ما شئت من خصال الصدق والإخلاص في موضع لا يصمد له إلا آحاد الشرفاء، فرمي الصديق، رضي الله عنه، بأي نقص في هذا الموضع، لما قد يتوهم، بادي الرأي، من معنى الحزن، قدح في عقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ لم يحسن اختيار الرفيق، وذلك ما التزمه ملك المغول الذي صنف له المخذول: "منهاج الكرامة"، فنقضه ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة"، فصرح باللازم لما قاس الأمر بعقله، فلا يصنع ذلك إلا قليل العقل، عديم السبر لأحوال الناس فضلا عن أقرب أصفيائه، فصاحبه أربعين سنة أو يزيد، ولم يعلم من حاله الجبن والخوف إلا في تلك اللحظة فنهاه زاجرا: لا تحزن!، وإذا فسد قياس العقل أتى صاحبه بالعجائب، والشاهد أن ذلك التفاوت في نزول السكينة من أظهر الأدلة على تفاوت الإيمان في القلوب، فالإيمان، كما قرر أهل السنة، يشمل الظاهر والباطن، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بل بالفتور عن الطاعة أو تعاطي فضول المباح، والثناء على الفاضل في هذا الموضع لا يلزم منه القدح في المفضول، بل كلاهما قد بلغ مرتبة رفيعة لا مطمع لمن بعدهما في بلوغها، فمرتبة النبوة الخاتمة مرتبة لا تقبل الشركة ولو كان الشريك: ثاني الخليلين، إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومرتبة الصديقية العظمى لا تقبل الشركة ولو كان الشريك الوزير الثاني: الفاروق الملهم: عمر، رضي الله عنه، وإنما التفاوت في النصرة والتأييد، كما تقدم، فرع عن التفاوت في المراتب الإيمانية.
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ: فذلك بدل مبين لإجمال حالهما حال خروجهما، ففيه مزيد بيان، لما أجمل ابتداء، فحصل بالإجمال التشويق، ثم جاء الإطناب فذلك آكد في تقرير المنة الربانية والعناية الإلهية بالمهاجرين المخرجين، و: "أل" في الغار: عهدية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتشير إلى غار بعينه، هو الغار الذي لجأ إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر الهجرة، ثم جاء البدل الثاني، على قول حكاه ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب"، فحصل به مزيد بيان وتقرير للمنة الربانية، فذلك جار على ما تقدم من الإطناب تذكيرا بنعمة الرب، جل وعلا، وعنايته بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ: فالمضارع مئنة من استحضار صورة قد انقضت، فـ: "إذ" ظرف لما مضى من الزمان، فمجيء المضارع بعده خروج عن المعهود من كلام العرب، ولا يكون ذلك إلا لنكتة، فالصورة مظنة الاستحضار في معرض تقرير المنة، كما تقدم، فأمر صاحبه على جهة الإيجاب المشوب بالرفق والإرشاد، لا تحزن، وذيل الأمر بعلته فذلك أدعى إلى امتثاله: إن الله معنا، فجاءت العلة مفصولة بلا عاطف لشبه كمال الاتصال بينها وبين المعلول، كما تقدم مرارا، فتلك من المعية الخاصة، بل من أخص أنواعها فهي معية تختص بأفراد بعينهم، فحدها حد المعية في نحو قوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فذلك من آكد صور العناية بهما، وجاء الضمير دالا على المجموع مستغرقا لكليهما، فذلك مظنة التأييد والتثبيت، وفيه، أيضا، إبطال لزعم المفترين على الصديق، رضي الله عنه، ما برأه الله، عز وجل، منه من الجزع والخور، فلا يستحق المعية في هذا الموضع إلا الأكابر، فالرب، جل وعلا، لا يصطفي لمعيته الخاصة إلا الأكابر، ومعيته، عز وجل، في هذا الموضع، من أوصاف فعله، فيضعها حيث شاء بحكمته، فلا يضعها إلا في المحل القابل لها، ومن أولى بمعيته نصرة وتأييدا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصديقه أبي بكر رضي الله عنه؟!.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد امتثل الصديق، رضي الله عنه، للأمر، فكان الحزن، كما يقول ابن حزم، رضي الله عنه، قبل ورود النهي: مستحبا، إذ ما حزن إلا إشفاقا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك مما يحمد المرء عليه استحبابا بل وجوبا في مواضع، فإنه لازم الحب له صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو من أركان الدين إذ ذلك من مقتضيات الشهادة الثانية، فالشهادة له بالرسالة: شهادة بالصدق والأمانة، فهو أعلم الناس بربه، جل وعلا، وأصدق الناس نصحا، وأفصحهم بيانا، وكل ذلك مظنة الحب بداهة فمن ذا الذي يبغض من بعثه الرب، جل وعلا، ليهديه بأصدق خبر وأعدل حكم وأوفى بيان، فلا يتصور دين إلا بحبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور حبه إلا بتعظيم قدره، وامتثال أمره ونهيه، فسرعة الامتثال برسم: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ): مئنة من كمال الإيمان، وضدها من التكاسل والتثاقل برسم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ): مئنة من نقص الإيمان، فيزيد وينقص، كما تقدم، تبعا لزيادة التعظيم لرسالته تصديقا بخبرها وامتثالا لحكمها، فذلك لازم التعظيم الوثيق، فمن المحال أن يكون الباطن على رسم التعظيم، ولا تظهر آثار ذلك في الخارج: فيبادر المعظم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمكان العصمة، إلى تصديق خبره وامتثال حكمه، فالتفاوت في محبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم يظهر أثره في التفاوت في الاستجابة له نبيا معصوما مؤيدا بالوحي، ولذلك كان سبه أو القدح فيه أو لمزه ولو من طرف خفي، كما يقع من كثير من زنادقة هذا الزمان ممن يصفون شريعته بالرجعية والهمجية والتوحش ..... إلخ، كان كل ذلك ناقضا صريحا للديانة، وإن لم يعتقده قائله، فحاله حال المستهزئ الذي لا يعتقد ما يجري على لسانه من كلمات الاستخفاف والتنقيص، فيكفر بها وإن اعتذر: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فكذلك القدح في شخصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو في رسالته أو في أمر من أمور شريعته، يعلم القادح يقينا أنه من شريعته، فلا عذر له بجهل أو تأويل، فذلك مئنة من انتفاء حبه وتعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القلب، فينتقض عقد إيمان فاعله، فقد نطق بالكفر مختارا غير مكره، فمحال ألا يكون ذلك صادرا عن باطن يماثله، على ما تقرر مرارا، من التلازم الوثيق بين الظاهر والباطن، والشاهد أن الصديق ما حزن إلا تحقيقا لهذا الركن الركين من الدين، فكان حزنه خوفا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: شاهد عدل من الظاهر لما يعتمل في باطنه من قوى الإيمان الفاعلة التي حملته على مرافقة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الرحلة، فتجشم من الصعاب والمخاطر ما تجشم، فحاله مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال الوزير، فهو بين يديه ومن خلفه برسم: "أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك"، وهل يفعل ذلك إلا محب صادق قد تمحض حبه من شوائب النقص، فلا حظ لنفسه مع محبوبه، فـ: "إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قُتِلْتَ هلكت الأمة". يقول الملهم عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر". اهـ
فتلك حاله قبل ورود النهي: فهي حال كاملة شريفة، لا حال نقص، كما يزعم المفتري، ثم جاء النهي، فانقلب الحال لورود التكليف بضده، وذلك، أيضا، من صور المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمحب يسارع دوما في امتثال أمر محبوبه ونهيه، فكان الصديق، رضي الله عنه، على رسم كمال المحبة والإيمان: حال حزنه وحال عدمه.
(يُتْبَعُ)
(/)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ: فجاء التعقيب بالفاء مئنة من سرعة الإجابة إذ استنصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بربه، فأثنى عليه بما هو أهله من وصف الكمال بتأييد وتثبيت أهل الإيمان، فـ:
أنزل الله سكينته: فالسكينة من أمره الكوني النازل، فأمره، عز وجل، من السماء إلى الأرض نازل، فـ: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، ومن شأنه أن ينصر أنبياءه وأوليائه، ويذل أعدائه، فنزلت السكينة داخل الغار، ونزلت الغشاوة خارجه، فأعمى الله، عز وجل، أبصارهم فلم يروا النبي وصاحبه مع صحة أعينهم وسلامة مداركهم.
فالإنزال هنا من إنزال الكلمات، فالكلمات الشرعية قد نزلت على قلبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: (إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، والكلمات الكونيات قد نزلت لتثبته وصاحبه في الغار، فذلك من التأييد والتثبيت الخاص، ولتثبته وصحبه الكرام، رضي الله عنهم، فـ: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، و: (أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)، فذلك من التأييد والتثبيت العام.
وإمعانا في النصرة والتأييد فذلك جار على ما تقدم من الإطناب في معرض العناية به صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا: فنكرت الجنود تعظيما فـ: (مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى: فذلك من الجعل الكوني النافذ الدال على كمال عزة وقهر الرب، جل وعلا، فلا غالب له، فكلمة أعدائه هي السفلى على حد التفضيل تقريرا للمعنى، فليست بسافلة بل هي السفلى، وفي المقابل وعلى حد المقابلة:
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا: على جهة الاستئناف مئنة من الثبوت والدوام الذي تفيده الجملة الاسمية، فضلا عن التوكيد بتعريف الجزأين: "كلمة الله"، و: "العليا" وضمير الفصل، فكلماته، عز وجل، الكونية هي العليا، فلا راد لقضائه، وكلماته، عز وجل، الشرعية، هي العليا فـ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فالإضافة في "كلمة الله": مئنة من العموم كما قرر أهل الأصول فتشمل الكلمات الكونية النافذة، والكلمات الشرعية الحاكمة، فقضاؤه الكوني أعدل قضاء، وقضاؤه الشرعي أحكم قضاء، وأمره الكوني نافذ لا محالة، فذلك من العزة التي ذيلت بها الآية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وأمره الشرعي بالغ غاية العدل والحكمة، فذلك من الحكمة التي ذيلت بها الآية فـ:
اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: فاجتمع له وصف الجلال عزة، ووصف الجمال حكمة، فبهما ظهر من كمال وصفه في رحلة الهجرة: رحمة وعناية بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصديقه رضي الله عنه، فذلك أثر وصف جماله، وطمسا لأبصار المشركين فذلك فرع عن طمس بصائرهم، فأصابهم الرب، جل وعلا، بعدله، بعمى القلوب والأبصار، فذلك أثر وصف جلاله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 04 - 2010, 07:42 ص]ـ
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ:
(يُتْبَعُ)
(/)
توكيد للسنة الجارية بـ: "إن"، واللام الداخلة على خبر الناسخ: "لننصر"، فضلا عن دلالته كمضارع على الحال والمستقبل فهي سنة مطردة تدور مع علتها وجودا وعدما، مصداق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، فمفهومه: وإلا تنصروه يخذلكم ودينه ظاهر بغيركم فما ضره توليكم، وإنما الضرر عليكم واقع.
وعطف تثبيت الأقدام على النصر: عطف خاص على عام، إذ تثبيت الأقدام فرع عن النصرة، وتثبيت الأقدام: كناية عن ثبات المقاتلين في أرض المعركة، فهو فرع عن تثبيت الجنان، فمتى ثبت القلب: ثبت البدن، ومتى صحت الصورة الباطنة علما وتصورا، ثبتت الصورة الظاهرة عملا وحكما، فعقد القلب النافع ذريعة إلى عمل الجوارح الصالح.
ولا مانع من الجمع بين المعنيين: الكنائي والحقيقي، فيكون التثبيت للقلب كناية، وللبدن حقيقة، بل ذلك أليق بالسياق الذي يصور حال المقاتل في سبيل الله، وقد جرد النية القلبية فاستقام له ظاهره وأطاعته جوارحه والأصل فيها العصيان، وتسخير الجند للعبد مئنة من رعاية الرب، جل وعلا، فدليل العناية من أدلة الربوبية، والعناية تكون بالقلب فيأتيه مدد الوحي بروح الشرع، وتكون بالبدن فيحفظه الله من التلف، ويثبته حال الشدة التي تخر فيها أقدام الجبابرة ذوي الصور الظاهرة التي ينخلع لها القلب، وصاحبها لا يزن عند الجبار، عز وجل، جناح بعوضة.
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا: فذلك تعليق للحكم المتقدم على وصفي: الرسالة والإيمان، فيفيد بمفهومه نفي الحكم عمن قام به ضدهما من الكفر، سواء كان المتلبس به عصري الرسالة فأظهر العداء لصاحبها، أو كان عدوا لأتباعه ومن جاء بعده من المؤمنين فله من خذلان الله، عز وجل، نصيب، بقدر عدائه للدين وأهله.
وإضافة الرسل إلى ضمير الفاعلين الراجع على الله، عز وجل، في مقام النصرة، مئنة من العناية بالرسل، عليهم السلام، وهو أمر قد اطرد باستقراء تاريخ النبوات، فقد أبيدت أمم بالسنن الكوني العام، وأذل الله، عز وجل، أمما لسيف النبوة فهو، كما تقدم في مواضع سابقة، سيف عادل حال دفعه أو طلبه، فيدفع عدوان المكذبين للرسل عليهم السلام، ويطلب حال القوة والمكنة من يليه من الكفار ليزيح الطواغيت عن عروشهم، لتبلغ الحجة الرسالية سائر الأمم، ثم هي بالخيار فـ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فمن آمن فقد استمسك ونجا فناله من بركة النبوة القدر الأعظم، فهو منصور في الدنيا والآخرة، وإن ظهر عليه عدوه حينا يسيرا تفتضح به قلوب، وتتمحض أخرى فتنصح من شوب النفاق أو إرادة الدنيا، ومن كفر فقد خذل وهلك، ولم يفته مع ذلك حظه من بركة النبوة، فله منها نصيب في الحياة الدنيا، فله الأمن والعصمة في الدم والعرض والمال، ما لم ينقض عهده بالطعن في الدين، فقد استوجب من فعل ذلك القتل سواء أكان كافرا أصليا، أم مرتدا، فيجب على الإمام قتله بعد استتابته، على تفصيل محله كتب الحدود في دواوين الفقه، وذلك الأمن الظاهر في الحياة الدنيا قدر زائد حظي به أولئك، فلم يكن لهم منه نصيب تحت حكم الطواغيت، وإن شاركوهم الملة أو النحلة، فقد اختار كثير من نصارى الشام ومصر حكم المسلمين على الرومان الذين يشاركونهم الملة، وإن خالفوا بعضهم النحلة، كنصارى مصر الأرثوذكس، فقد رزحوا تحت نير النصارى الكاثوليك، حتى جاء الفتح المبارك زمن الخليفة الراشد عمر، على يد عمرو، رضي الله عنه، فعرفت مصر، بشهادة أي منصف، الحرية الحقيقية لا الحرية المزعومة التي يتشدق بها أدعياء الحرية والديمقراطية من ساسة هذا الزمان، فليتهم مع انحراف مدلولها، أقاموها كما أقامها منظروها وأصحابها.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن من الأنبياء من لم يؤمر بالقتال فأرسل الرب، جل وعلا، رسل العذاب الكوني نصرة لرسل البشر الذين بلغوا الخبر والحكم الشرعي، كما أرسل الطوفان على قوم نوح، وكما أرسلت الطاغية على ثمود، والريح على هود، وكما أرسل جبريل معدن القدس على القرية التي كانت تعمل الخبائث فهي على ضد وصفه، فلها من الدنس والنجس ما استوجب تنكيسها، ومن الأنبياء من أمر بالقتال، فكان سيفه ظاهرا على سيف عدوه، فظهر يوشع بن نون، عليه السلام، على العماليق، وظهر طالوت بتزكية شمويل عليه السلام فإن: (اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، وكان في جنده النبي الملك: داود، عليه السلام، فاختص بكرامة قتل جالوت، وآتاه الله، عز وجل، الملك والنبوة، فكان ذلك من تمام المنة والعناية بالعبد الصالح: داود، عليه السلام، وظهر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عدوه، فسلط بسيفه على أعدائه يوم بدر، ومسه والمؤمنين معه القرح يوم أحد، فقام بأمر ربه، واستجاب له المؤمنون الصادقون، فألقي الرعب في قلب عدوهم، فانحاز وجبن عن غزو المدينة، فصرف الله، عز وجل، قلبه، عن ذلك، لما رأى في قلوب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحزبه من الصدق المشفوع بالدليل الصادق من النهوض إلى لحوق العدو مع ما بهم من جراحات، فخرجوا إلى حمراء الأسد برسم الطاعة والامتثال لأمر الوحي على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك معدن النصرة، كما تقدم من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، ثم أرسل رسله الكونية ريحا قلعت معسكر الأعداء يوم الخندق، ثم سلط بسيف الشريعة على رقاب يهود من بني قريظة، فحكم فيهم سعد بن معاذ، رضي الله عنهم، بحكم الله، عز وجل، من فوق سبع سماوات، فاحتزت رقابهم بسيف الجلال، ثم جاء الفتح فلم يصمد لسيفه سيف، فدخل البلد الحرام فاتحا عافيا، ثم مضى إلى حنين فانكسر جنده لما وكلوا إلى أنفسهم، ولم ينكسر فهو ثابت يدعوهم بأعلى صوته، ثم جاءهم مدد العناية الرباني فاجتمعوا بعد الشتات وثبتوا بعد أن زلزلت الأقدام، فظهروا على عدوهم، وحصروه في الطائف، ثم مضى إلى تبوك، ففرت جموع الروم والعرب من أمامه ولم تصمد للقائه، فجند الرعب الكوني قد أرسل عليها إرسالا، ثم جاء من بعده من الراشدين على طريقته، فنالهم من جنس ما ناله من العناية والكرامة بالتأييد والظهور فظهر الصديق، رضي الله عنه، على جموع المرتدين، وألزمهم الخطة المخزية، فلم يقبل منهم إلا الشهادة على قتلاهم بالنار، ونزع سلاحهم فسيرهم في الزرع وخلف أذناب البقر حتى تثبت عنده توبتهم، ثم بدأت جيوشه الزحف على ممالك العالم القديم فكانت نهاية حضارة، وقيام أخرى، على ما اطرد من سنة التعاقب الدوري بين الأمم، كما سماها ابن خلدون رحمه الله، فدافعت الأمة الخاتمة سائر الأمم برسم الوحي، فأظهرها الله، عز وجل، على جند كسرى وقيصر، فانثالت الجيوش في عهد عمر إلى قلب العراق وفارس شرقا، والشام ومصر غربا، ثم جاء من بعدهم من الخلفاء الملوك، فامتدت الخلافة شرقا إلى الصين، وغربا إلى الأطلنطي، وجاز الإسلام إلى أوروبا فالتقى مع النصرانية في أول مواجهة له معها على أرضها، فحقق نصرا كاسحا حتى عبر جبال البرنيه إلى الأرض الفرنسية، فتوغل حتى كان ما كان من بلاط الشهداء، ولم تزل الأمتان في تدافع، فظهر النصارى حينا زمن الحروب الصليبية حتى قيض الله، عز وجل، لهم الأيوبيين ومن بعدهم المماليك، فكسرهم صلاح الدين، رحمه الله، في حطين، وصد المماليك غارة المغول على الشرق المسلم، وطهرت سواحل الشام من آخر أدناس الصليبيين زمن الأشرف خليل، ثم استلم الراية بنو عثمان، فكان ما كان من ظهورهم برسم الجهاد على الدولة البيزنطية الشرقية، وانثالت جيوشهم من شرق القارة، هذه الكرة، حتى طرقت أبواب العاصمة النمساوية "فيينا"، ثم بدأ الانحسار بانحسار الديانة شيئا فشيئا في قلوب المسلمين حتى آل الأمر إلى تصدع بنيان الخلافة ثم انهيارها على يد جيل متقدم من العلمانيين أشرب بغض الدين، فسلط بالقدر الكوني النافذ، على بلاد المسلمين، ثم امتد أثره في الأعصار المتأخرة، فما تلك الزعامات الوهمية التي أذلت المسلمين وذلت لأعدائهم إلا قطف من ثمار العلمانية في أدوارها اللاحقة، وتسلطها خير شاهد على اطراد السنة الكونية: طردا بالنصرة حال الاستمساك بعرى الدين الوثقى، وعكسا حال تفريطها وتوليها عن إقامة أحكام الديانة أفرادا وجماعات، عقائد وشعائر وأحكاما، فالسنة، كما تقدم مرارا، مطردة منعكسة، لا تسير وفق هوى أحد، بل يسيرها الرب، جل وعلا، بقدرته النافذة وحكمته البالغة.
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ: تقسيم لأوجه القسمة العقلية على جهة الحصر فنصر عاجل ونصر آجل، نصر بالتمكين في الدنيا، ونصر بالنجاة في الآخرة.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 04 - 2010, 08:34 ص]ـ
ومن سورة غافر أيضا:
ومن قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا: فذلك إطناب في معرض بيان أطوار الخلق إمعانا في تقرير السنة الربانية في إيجاد الخلق.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: فتصدير الآية ببيان ربوبية الإيجاد مؤذن بتذييلها بألوهية الامتثال.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ:
فذلك طباق في معرض استيفاء أوجه القسمة العقلية لأوصاف الربوبية من الإحياء والإماتة، وبعد خصوص الإحياء والإماتة، إذ هما من أخص أوصاف الربوبية: عموم: فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ:
فذلك من الأمر الكوني العام في معرض تقرير دلالة الإيجاد، لدلالة النكرة في حيز الشرط: "إذا" على العموم.
ومن قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ: فتلك من دلالة العناية الكونية فالجعل كوني واللام في "لكم": مئنة من الاختصاص وهذا دليل على مزيد العناية، و: "أل" في "الأنعام" جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه على ما اطرد من ملائمة العموم لسياق المنة، فإن التخصيص ينغصها، وهو مخصوص لحق الرب، جل وعلا، على ما اطرد من تخصيص المنن صيانة لجناب الدين، فيخصص العموم بالذبائح المحرمة بل الأصل فيها على خلاف الأصل المطرد في الأعيان، فإن الأصل في الأعيان الطهارة والإباحة إلى أن يرد الدليل الناقل، لقرينة العموم في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، بخلاف الذبائح فإن الأصل فيها الحرمة، فيخصص هذا العموم بالخنزير والميتة وما ذبح على النصب ...... إلخ، وجاء النص على مصالح الركوب والأكل من باب الإرشاد إلى المنافع المعتبرة فذلك من تمام العناية بالخلق، أن يخلق لهم الرب، جل وعلا، الأعيان المباحة التي ينتفع بها، وأن يرشدهم إلى أوجه الانتفاع: لئلا يستعملوها في غير ما خلقت له، على وزان حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا، وفيه: "بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ"، فدلالة التخصيص من الأدلة الصحيحة على حكمة الرب، جل وعلا، فهي مئنة من إتقانه، عز وجل، للصنعة الكونية وحكمته في سن الطريقة الشرعية التي يحصل بها تمام الانتفاع، فخلق ابتداء ثم سن الطريقة المثلى لمباشرة أجناس نعمه ليحصل كمال الاستمتاع بها فأي عناية أعظم من ذلك.
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ: فذلك من العموم بعد الخصوص توكيدا للمنة وتنكير المنافع مئنة من التكثير فذلك مما يلائم سياق التفضل والامتنان من الرب الرحمن تبارك وتعالى، ثم خص مرة أخرى بعد العموم لحاجتهم الماسة إلى الأنعام عموما والإبل خصوصا في الانتقال بين الأمصار، فذلك مقابل الركوب في الحاجة القريبة استيفاء لأوجه القسمة العقلية فركوب الأنعام في الحاجة القريبة راحة للبدن، وركوبها في الحاجة البعيدة قضاء للحاجة والوطر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وثنى بذكر الوسيلة الثانية من وسائل الانتقال وهي الفلك فالسياق مستوف لأجناس الانتفاع إمعانا في تمام المنة.
وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ: فيريكم آياته في أنفسكم وفي الآفاق فذلك مما يستلزم كمال الإقرار والانقياد لا الإنكار والاستكبار، والمضارعة مئنة من التجدد والاستمرار فإن العبد لا ينفك عن مطالعة آلاء الرب، جل وعلا، فعليه من نفسه شاهد وقد أتقن الله، عز وجل، خلقه، والكون حوله ناطق بآيات القدرة والحكمة، فلكل شيء خلقه الملائم وفعله في الكون على سنن متقن يحصل به تمام الانتفاع به، بل الشر مع كونه شرا محضا في نفسه إنما يشاؤه الرب، جل وعلا، لغيره، فيستخرج به، بحكمته الباهرة من المصالح المعتبرة للعباد لا لربهم فهو عنهم غني، ما يفوق مفسدة وقوعه.
(يُتْبَعُ)
(/)
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 04 - 2010, 09:31 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ):
فذلك من كمال عنايته، عز وجل، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فناسب ذلك التذكير بالمضارع استحضارا لصورة قد انقضت، فالسورة مدنية، والحدث المشار إليه قد وقع في مكة لما أجمعت قريش أمرها على تقييد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو قتله أو نفيه، فجاء التذكير للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك المكر، فأرادوا به الكيد: إثباتا بالقيد والأسر، لئلا يصل إلى الناس بحجته الدامغة وعبارته الجامعة، فلا بد من الإثبات، حسا ومعنى، فيثبت الجسد في القيد، فذلك الإثبات الحسي، ويثبت القول الذي يدعو إليه بإثارة الشبهات حوله وحول صاحبه تنفيرا منه، فذلك دور منابر الإعلام قديما وحديثا، وذلك هو الإثبات المعنوي، فكثير من الناس يستعير منطوق ومعقول غيره ليحكم به على الأشياء، لا سيما إن عدم معقولا صريحا ومنطقا سليما فيردد ما يلقى عليه من الشبهات دون تحر لصحة لفظ أو معنى، فليس له من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) نصيب، بل قد رضي أن يكون أحد الفاسقين، بتصويته بما لا يعلمه، فهو على وصف من جاءوا بالإفك، ولو علم الله، عز وجل، فيه خيرا لحجب عنه الشبهات، وأطلعه على الحقائق المحكمات، ولكنه بعدوله عن طلب الحق، واشتغاله بتحصيل أمر دنياه، جمعا وإنفاقا، فلا يعرف إلا جمع المال من حل أو حرام لينفقه على شهوات تدور بين التحريم أو الكراهة بالإفراط في تعاطي المباحات على نحو يورث في النفس غلظة وفي البدن ثقلا عن الطاعة، بعدوله عن الفاضل إلى المفضول بل المرذول من أمر الدنيا صار أهلا لأن يلقى في سلة عقله مهملات الشبهات، إذ لم يتخير لعقله فدس فيه ما دس من الواهيات والموضوعات المختلقات، فلا تعدو الشبهة أن تكون نقلا ضعيفا ينضاف إليه فهم سقيم، يتربص صاحبه الدوائر بالحق، فيزيد فيه ما ليس منه من الخبر الكاذب، ويركب عليه من القياس الفاسد ما يجعله لكل ذي عقل صريح ممجوجا منبوذا، تأباه العقول السوية، وإن لم تعرف جهة الدس فيه تحديدا، فللحق نور به يسطع في القلوب المحفوظة بشهب الوحي فهي رجوم للشبهات والشهوات، وللباطل ظلمة لا تغشى إلا القلوب المنكوسة التي أوحى إليها شياطين الإنس والجن ما استرقوه من السمع فزادوا عليه مقدمات ونتائج فاسدة لا يرضاها إلا أصحاب النفوس الباطلة، فهي من كل فضيلة عاطلة، فأنى لها أن تعلم الحق بدليله فتتبعه على جهة التسليم والانقياد، فتلك رتبة ذوي الهمم العلية الذين فتشوا في مقالات الأمم عن الحق حتى وجدوا ضالتهم في مقالة الإسلام وقصص أولئك الشرفاء قد سارت بها الركبان في كل الأعصار والأمصار، فلا يخلو زمان أو مكان عن طالب للحق، مسترشد، قد بذل الدنيا في طلب الآخرة، فهل يستوي هو ومن جاءه الحق ابتداء فزهد فيه وأعرض عنه واستبدل الذي هو أدنى من وحي الشياطين بالذي هو خير من وحي النبيين: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
فمكروا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقيدوا جسده الشريف أو قوله الصحيح الصريح، فأنجاه الله، عز وجل، ببدنه، وأنجى مقالته من لغوهم، فذكره مرفوع وذكر عدوه، وإن ظهر حينا، موضوع، ومكروا به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقتلوه، فطمس الله، عز وجل، على بصائرهم، فـ: (جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، فكما جعل بين قلوبهم وبين الحق سدا، جعل بين أبصارهم وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال خروجه في سفر الهجرة سدا، ثم كان ما كان من آية الحفظ والعناية في الغار، ثم التأييد والحماية في المدينة، فهاجر إلى الأنصار، فكانوا أنصار الله ونبيه، وكانوا أنصار المهاجرين، فوصفهم الشريف في محكم
(يُتْبَعُ)
(/)
التنزيل الذين: (تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، فأيده الرب، جل وعلا، بتلك الجماعة المؤمنة فـ: (أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فذلك من تمام نعمته، جل وعلا، على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاءت: "لو" الوصلية في معرض تقرير المنة الربانية، فهي مئنة من المبالغة، وذلك أليق بسياق العناية بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنجاه من كيد أعدائه فأراد غورث بن الحارث قتله فعصمه الرب، جل وعلا، منه، كما في مسند أحمد من حديث جابر، رضي الله عنه، وفيه: "قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ فَرَأَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ"، وأراد بنو النضير قتله لما آوى إلى جدار من جدرهم، فأعلمه الروح الأمين، عليه السلام، فنصره الرب، جل وعلا، عليهم، فقذف في قلوبهم الرعب: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، فـ: (لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ)، وتربص به المشركون الدوائر فكان الأصحاب، رضي الله عنهم، حراسا على بابه، فعصمه الرب، جل وعلا، عصمة البلاغ، فـ: (أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وأرادت يهودية من أهل خيبر قتله بالسم، كما في سنن أبي داود، رحمه الله، من حديث جابر، رضي الله عنه، فأنطق الله، عز وجل، له الذراع، فلم يؤثر السم في جسده الشريف إلا آلاما احتملها، حتى بلغ رسالة ربه، جل وعلا، فأراد الله، عز وجل، أن يجمع له منزلة الشهادة إلى منزلة الوحي: (مَازِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي)، فليس ذلك من خذلانه أو إسلامه إلى عدوه، بل هو من إكرامه بعد أن بلغ وأدى.
ومكروا به ليخرجوه اضطرارا على جهة النفي، فخرج امتثالا لأمر الوحي، رغم أنوفهم، وكان خروجه إلى حين فـ: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)، فتلك من الآيات التي نزلت في سفر الهجرة، فالوعد حق، والخبر صدق، فخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهاجرا برسم: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)، ثم دخل فاتحا برسم: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).
فـ: يَمْكُرُونَ: على جهة المضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، وذلك أمر حاصل إلى يومنا، فما زال أعداؤه يمكرون به بالقدح في شخصه الكريم تارة، وبالقدح في دينه الحنيف أخرى، وبفتنة أتباع الرسالة ثالثة فحالهم حال: (الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)، وفي مقابل مكرهم: وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: فذلك من كمال وصف الرب، جل وعلا، أن كان جزاؤهم من جنس عملهم، وشتان مكر الرب: فهو مكر عدل يليق بجلاله، ومكر العبد فهو مئنة من فساد النية والعمل، فالاشتراك في المعنى الكلي المطلق لا يلزم منه الاشتراك في المعنى الجزئي المقيد، فلكل وصف يليق بذاته كمالا أو نقصانا، فللرب، جل وعلا، من كمال الوصف ما يليق بكمال ذاته القدسية، فوصف نفسه بالمكر على جهة التقييد بالكافرين، إذ الإطلاق في موضع التقييد قد يوهم التنقيص، فالمكر على جهة الإطلاق يحتمل الكمال والنقص، فوجب تقييده بالصورة الكاملة الثابتة لله، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، فـ: يَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، فذلك التقييد في الوصف بوصف الكمال، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: فأظهر في موضع الإضمار مئنة من كمال عنايته بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد مكر له في مقابل مكرهم به، وهو على جهة التسمية المقيدة بوصف الخيرية: خير الماكرين، فلا يطلق الاسم في حقه، تبارك وتعالى، كما لا يطلق الوصف، لاحتمال كليهما ما يتنزه عنه الرب، جل وعلا، من وصف السوء، فوجب تقييدهما بوصف الخير اللائق بكماله، تبارك وتعالى، المطلق.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 04 - 2010, 09:43 ص]ـ
وعودة إلى سورة غافر:
ومن قوله تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ:
فهو استفهام إنكاري توبيخي لقعودهم عن السير في الأرض فذلك مظنة الغفلة عن النظر في آيات الله، عز وجل، وسفر العبرة أحد الأسفار المحمودة فإن السياحة على رسم طلب العلم أو النظر في الآيات الآفاقية نظر التدبر لا نظر التنزه الذي غلب على سياح زماننا، الذين صيروا اللذة العلمية الوهمية غاية فالمشاهدة: فرجة، والسؤال لاكتساب علم بلا عبرة على حد المعلومات العامة التي لا يضر الجهل بها صاحبها، فلو نظروا نظر التدبر لعاينوا من آيات الإيجاد المعجز في أبراج السماء وفجاج الأرض، ما يجعل الناظر فيه برسم الاهتداء يهتدي إلى أعظم غايات العقلاء من التعرف على رب الأرض والسماوات بأوصاف قدرته النافذة إذ قدر فقضى الكون على هذه الصورة الكاملة، فلا زيادة ولا نقصان، ولا يعجزه خلق عن خلق، فخلق الشيء وضده قهرا لعباده، فبالصحة والمرض يبتليهم لتظهر آثار أوصافه في كل، فيصح فضلا منه وامتنانا، ليشكر بما أصح من الآلات فلا يستعملها المكلف إلا في تحصيل مراضيه من أجناس الطاعات، ويمرض إظهارا لوصف جلاله القاهر فيستخرج من عبودية الفكرة بعد السكرة، ومن عبودية اليقظة بعد الغفلة، ومن عبودية الصبر ما تظهر به آثار حكمته، فالمرض أثر صفة جلاله بقهر المريض، وأثر صفة جماله لمن اعتبر، فبه يرحم الرحيم المريض فإما أن يمن بالعافية فيكون طهورا من الذنب، سالما من البأس، وإما أن يكون ذريعة إلى تحصيل المغفرة بالصبر على البلاء لمن سدد فصبر عند النازلة، ولم يستجلب البلاء أو يتقصده كما يقع ممن وكل إلى نفسه فادعى لها حالا فكذبه الواقع فإن من ادعى لنفسه حالا أو علما وكل إليه، ومن وكل إلى غير الله، عز وجل، فهو مظنة العطب.
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ: فذلك من قياس الأولى إذ حل بأولئك ما حل من آثار جلال الرب، جل وعلا، فقهرهم بقدرته، مع عظم قوتهم، فكيف بمن دونهم، فهلاكه أيسر من باب أولى وكل يسير على الرب جل وعلا.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ: ففرحوا بآثار النعمة من العلم الظاهر، وإطلاق العلم على ما عندهم جار مجرى التهكم، إن لم يكن علما نافعا بل محض ظنون، أو كان علما بظاهر الحياة من علوم الطبيعيات فرح بها صاحبها فظنها أشرف أجناس العلوم فأعرض عن الإلهيات بل وازدرى أهلها كما يقع من جهلاء المتعلمين من أبناء زماننا، وعلوم الطبيعيات علوم نافعة ولكنها ليست إلا على حد الوسائل فغايتها أن تكون مرادة لغيرها ينتفع بها في قضاء أغراض الدنيا، فقدرها من قدر الدنيا وهي على رسم الذم إلا إذا انتفع بها في إقامة دين فتصير مرادة لغيرها أيضا من هذا الوجه، وهو أشرف من الوجه الأول، إذ هي في هذا الوجه وسيلة إلى مقصد شرعي، فتأخذ حكم المقصد، والشرعي لا يكون إلا مندوبا أو واجبا، بخلاف الوجه الأول فغايتها أن تكون وسيلة إلى مباح، فإن سلم منه فخرج كفافا لكان خيرا، فكيف والاشتغال بجنس المباح يلهي عن الأجناس الشريفة من الواجبات والمندوبات.
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ:
فسنة الله، عز وجل، ألا ينفع الإيمان إذا عاين الإنسان العذاب سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات، فذلك جار مجرى الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها والإيمان عند الغرغرة، وتلك سنة جارية لم يستثن منها إلا قوم يونس، عليه السلام، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجاء الإجابة بالسنة الكونية الجارية منتصبة على النيابة عن المصدر إذ هي اسم مصدر من السن، جاءت إجابة عن سؤال دل عليه السياق اقتضاء: وما علة ذلك العذاب، والجواب أن ذلك هو مقتضى السنة الكونية الجارية، فهي أثر من آثار صفات جلال الباري، عز وجل، وهي، أيضا، أثر من آثار صفات جماله بالنظر إلى جانب الحكمة، فإن الحكمة تقتضي تعليق المسببات على أسباب يتذرع بها إليها، فالسبب بمنزلة العلامة الوضعية، وإن زاد عليها بأن له قوة تأثيرية أودعها الله، عز وجل، فيه، بها يقع المسبب، وذلك مئنة من إتقان السنة الكونية، فتدور مع سببها وجودا وعدما فلما وجد منهم التكذيب للرسل اقتضت سنة الرب، جل وعلا، الكونية المطردة، سنة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ): إهلاكهم فتلك من أدلة ربوبيته القاهرة ومن دلائل النبوة، على ما اطرد من كلام أهل العلم في مسألة النبوات، ولما وجد التصديق من غيرهم وجد ضد الحكم من النجاة على حد قوله تعالى: (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، واطراد السنة الكونية وجودا وعدما مئنة من حكمة من سنها، فلا تتخلف إلا إذا شاء خرقها آية لنبي، أو كرامة لولي، أو فتنة لغوي في نفسه وأتباعه.
ووجه الحكمة الآخر أن التفريق بين المتباينين في الحكم تبعا لتباينهما في الوصف هو مقتضى الحكمة الربانية فلا يسوي بين المختلفين أو يفرق بين المتماثلين إلا من قل علمه ونقصت حكمته فرعا عن ذلك، إذ الحكمة فرع العلم، فلا حكمة إلا به بداهة، ونقص الحكمة والعلم منتف في حق الباري، عز وجل، بداهة، وفي التنزيل: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)، فهذه الآية اصل في القياس القرآني الصريح باختلاف الأحكام تبعا لاختلاف الأوصاف، وثبوت الحكم بوجود علته، وانتفائه بانتفائها، فذلك من قياس الطرد والعكس الذي يقبله كل عقل سالم من السفسطة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 04 - 2010, 01:49 م]ـ
ومن قوله تعالى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
فالإنطاق حقيقي، وإن لم يعلم كيفه، ففي عالم الشهادة نطق الجماد، وذلك فعل البشر، فكيف بفعل رب البشر تبارك وتعالى. فأقام، عز وجل، الشاهد عليهم من أنفسهم، ثم جاء التذييل بقياس الأولى الذي اطرد الاستدلال به في معرض إثبات البعث، فإن من خلق ابتداء إليه المرجع انتهاء، فدلالة الإيجاد الأول يثبت بها الإيجاد الثاني بداهة.
وفيه إثبات لفعل الرب، عز وجل، وفعل المخلوق، فهما فعلان مستقلان أحدهما خاضع للآخر، فليس فعل العبد عين فعل الرب، جل وعلا، كما زعمت الجبرية، فكان ذلك ذريعة إلى قول الاتحادية الذين قالوا بوحدة الذات، فرعا عن وحدة الأفعال التي أثبتها الأولون، فالفاعل واحد، وإنما تقوم الأفعال الاختيارية عندهم بأعيان المكلفين قيام الوصف الاضطراري بالموصوف، فتكون الصلاة والصيام عندهم على حد المرض والموت، مع أن الأولى أفعال تكليفية يقع الابتلاء بتوجه الخطاب بها على جهة الاختيار الذي يناط به الثواب والعقاب، فلا تستوي هي والأفعال الاضطرارية التي لا يتعلق بها تكليف أو وعد بالامتثال ووعيد بالمخالفة لانقطاع النسبة بينها وبين الإرادة الاختيارية التي لا تخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض تحرير هذه المسألة الشائكة:
"اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام وقعد وأكل وشرب وصلى وصام عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله". اهـ
"شفاء العليل"، ص220.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالرب: فاعل من جهة خالقيته، فهو خالق بأوصافه الفاعلة، فينفعل له ما سواه من الأسباب المخلوقة وما يتولد عنها من المسببات، ولا ينفعل لسواه فله الهيمنة على كل مخلوق، وليس لمخلوق عليه سلطان، فلا يناله أحد من خلقه بأذى فذلك ممتنع بداهة، فهو العزيز الذي يَنال ولا يُنال، بينما العبد فاعل بمباشرة الفعل بإرادة حرة مختارة لا تخرج عن إرادة خالقه، عز وجل، فهي لها تبع، فهو خالق الأعيان وما يقوم بها من الإرادات وما يتولد عنها من الأفعال، فهو فاعل بإرادته منفعل لإرادة الرب جل وعلا.
فالنطق فعل العبد ولا يكون إلا بإنطاق الرب، جل وعلا، له، والخروج فعل العبد ولا يكون إلا بإخراج الرب، جل وعلا، له كما في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
فإذا أحب، عبدا، أنطقه بالخير، فضلا منه لملاءمة محله لآثار الرسالات فلما أقبل على الذكر بما قدر له الرب، جل وعلا، بعلمه الأزلي،، كوفئ بأن أجرى على لسانه التنزيل والذكر فلا ينطق إلا بخير، وإذا أبغض عبدا أنطقه بالشر، عدلا منه فيه لعدم ملائمة محله لآثار الوحي النافع، فلما أعرض عن الخير عوقب بالاشتغال بالضد لا محالة، فهو المنطق على حد الإخبار بالوصف الفعلي فلا يطلق عليه المنطق على جهة الاسم، إذ المعنى محتمل للحسن والقبح، وأسماؤه، تبارك وتعالى، قد بلغت الغاية من الحسن، فلا تحتمل النقص ولو احتمالا، فامتنع اشتقاق أسماء له من أوصاف تقبل معانيها الانقسام لورود احتمال النقص فيها، ولو لم يرده القائل، بل امتنع على قول المحققين من أهل العلم اشتقاق أسماء له، ولو كان الوصف وصف كمال مطلق إذا لم يرد به نص بعينه لتوقيفية الباب، فلا يثبت ولا ينفى، فالله، وحده، أعلم، بوصف كماله على جهة التعيين لكله فلم يعلم أحدا من خلقه إلا بعضه، فـ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، وكذلك يقال في الألفاظ المجملة فهي لانقسام معانيها لا تطلق على الرب، جل وعلا، ولا تمنع إلا بعد معرفة مراد القائل فإن أراد خيرا قبل وأثبت، وإن أراد شرا رد ونفي، ومنع إطلاق الاسم على كل حال لما تقدم من توقيفية الباب.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 04 - 2010, 07:43 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ:
فذلك من الاستفهام الإنكاري في معرض تقرير الألوهية استنادا إلى خصائص منصب الربوبية، فالكفر بالإله الحق يستلزم الإنكار إذ ألوهيته، فرع عن ربوبية، فكما أنه الواحد المنفرد بوظائف الربوبية، فهو الواحد المنفرد بواجبات العبودية، فالأولى من توحيده بأفعاله، والثانية من توحيده بأفعال عباده، فجاء حكم الإنكار معلقا على أوصاف الربوبية فذلك آكد في استحقاقهم الذم، إذ الكفر بمن ثبت له من كمال الاسم والوصف والفعل ما يستحق به تمام التأله أقبح في التصور، ولذلك جاء وصف الربوبية الذي اختص به الله، عز وجل، على جهة الانفراد، جاء هذا الوصف في معرض الإنكار، إذ هو مما لا يقبل الشراكة، فلا اشتباه فيه ولا إجمال، يوقع الناظر في الحيرة كأن يكون الوصف مما يصح إطلاقه ولو على جهة الاشتراك المعنوي على المخلوق، كالعلم، على سبيل المثال، فإنه مما يصح إطلاقه على الخالق والمخلوق، فيقع فيه شبهة الإجمال من هذا الوجه، وإن كان لا إجمال عند التحقبق إذ ليس الاشتراك في أصل المعنى بملزم لوقوع الاشتراك في فرعه ليقع الإجمال من هذا الوجه، فوصف العلم قائم بمن اتصف به، فكماله من كماله، ونقصه من نقصه، فلا يوجد علم مجرد خارج الذهن، وإنما يوجد مقيدا خارجه بعلم فلان وفلان، فإذا ثبت هذا في عالم البشر، ولم يلزم منه التساوي في العلوم لمجرد الاشتراك في
(يُتْبَعُ)
(/)
أصل الصفة، فهو ثابت لله، عز وجل، من باب أولى، فعلمه فرع عن ذاته القدسية، فلا يلزم من اشتراكه مع المخلوق في أصل الصفة: تشبيه أو تمثيل، ولكن يبقى احتمال الإجمال قائما، ولو ضئيلا، بخلاف الوصف الذي اشتقت منه صلة الموصول وهو: خلق الأرض، فإن ذلك مما لم يدعه أحد من العقلاء، ولو ادعاه مسفسط مختل لشهد حاله، والنقص ملازم لذاته والعجز لا ينفك عنه، بكذب دعواه، وفي التنزيل: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)، فاستوفت القسمة العقلية احتمالات الخلق في معرض الإبطال إذ ذلك، كما تقدم، من أخص أوصاف الربوبية، فهو أحد شقيها، إذ الربوبية، كما تقدم مرارا، خلق وتدبير، وإن نسب الخلق إلى البشر فعلى جهة التقدير البشري وهو تقدير لا ينفك عن النقص لقصور التصور للمآلات، فلا يعنى إلا بتحصيل المصلحة العاجلة، إذ ليس مؤيدا بالوحي، كتصور الأنبياء، عليهم السلام، فعندهم من العلم بالمآلات ما قد علمهم الله، عز وجل، إياه، في معرض الترغيب والترهيب، وفي معرض التحدي بالإخبار بالمغيبات فذلك نوع من أنواع دلائل النبوة، أو على جهة: التحويل من صورة إلى صورة لا الإيجاد من العدم الذي اختص به الرب، جل وعلا، فخلق الإنسان إما: تحويل من صورة إلى صورة، وإما تقدير يفتقر إلى الدقة والإحكام لقصور التصور والعلم بالمآلات، وخلق الملائكة: تأويل لكلمات الرب، جل وعلا، الكونية الخالقة، فبها تكون الكائنات على ما قد قدر الرب، جل وعلا، أزلا، فهي قضاؤه في كونه بما قدر في علمه، فيباشر الملك الفعل بأمر الرب، جل وعلا، مباشرة الجند الفعل بأمر الملك، فهو السبب المؤدي إلى مسبَّبِه على ما اقتضت السنة الكونية الجارية.
وأما خلق الرب، جل وعلا، فهو: إيجاد من العدم، وتقدير من الأزل، بحكمة بالغة، فلا نقص فيه ولا خلل كتقدير البشر، بل قد بلغ الغاية من الإحكام والإتقان، فيوقعه الرب، جل وعلا، بقدرته النافذة، كما شاء في الأزل، فيكون الكائن في عالم الشهادة تأويل المعلوم في عالم الغيب، فخلق الرب، تبارك وتعالى، الخلق بعلمه الأول المؤثر في إيجاد الكائنات إذ علم من حال عباده: قوة وضعفا، علما وجهلا، صلاحا وفسادا ..... إلخ، ما اقتضى لكل منهم خلقا يلائمه وقدرا يناسبه، فذلك مقتضى الحكمة الربانية بوضع الشيء في موضعه الملائم له، فيقع المعلوم أزلا في عالم الشهادة كما قد قدر الرب، جل وعلا، على الوجه الذي تظهر به آثار قدرته النافذة بإيقاع المقدور كما قد قدر له بلا زيادة أو نقصان، وآثار حكمته فبوقوعه على هذا القدر والكيف تحديدا تحصل للبرية من المصالح الكلية ما يفوق أي مفسدة عارضة ولا يكون ذلك إلا مئنة من الحكمة البالغة، التي انفرد الرب، جل وعلا، بها فلا تداني حكمته حكمة، كما لا تعادل قدرته قدرة، وبهما يظهر كمال وصف ربوبيته، جل وعلا، فصار الكفر به بمخالفة الأمر بإفراده بالألوهية محل إنكار معتبر، صدرت به الآية ثم جاء عقيبه الدليل من أفعال الربوبية على وجوب إفراده بالألوهية فهو الذي خلق الأرض في يومين.
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ: فذلك من دلالة عنايته، جل وعلا، بخلقه، فأوجد من العدم، ثم قدر الأقوات وأقام الجبال أوتادا، فذلك من دلالة عنايته، كما تقدم، فخلق الظرف، وأودع فيه من الكنوز والقوى ما يحصل به تمام النفع للخليقة مع تمام غناه، عز وجل، عن خلقه، فهو محض إحسان إليهم بما تفضل به عليهم من النعم الكونية السابغة، فضلا عن النعم الشرعية الأعظم قدرا والأشرف وصفا، وأعظمها: نعمة النبوة فهي روح هذا العالم، إذ بفاؤه وصلاحه ببقائها، فلا تقوم الساعة حتى تندرس آثارها فلا يقال في الأرض: الله الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ: فانقاد له الكون قهرا بإرادته الكونية النافذة حتى صح مجيء الحال مصدرا، على جهة المبالغة، على وزان: جاء زيد ركضا، مئنة من سرعة وشدة ركضه، كما قرر ذلك النحاة، فذلك من آثار أوصاف جلاله في كونه إذ له القدرة النافذة في كل الكائنات، فالكون كله: حيه وجماده، أرضه وسماؤه، له منقاد بوصف إرادته الكونية، وإن خالف من خالف من المكلفين وصف إرادته الشرعية.
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم:
فقضاهن: قضاء كونيا نافذا، فضمن القضاء معنى الخلق، مع ما فيه من معنى النفاذ والقهر، فالقضاء مظنة النفاذ، فمنه تستصدر الأحكام الكونية الجزئية. فضلا عما فيه من معنى الإيجاد الإبداعي، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فاجتمع في اللفظ معاني: الخلق والإبداع، فذلك من آثار وصف جماله فالإبداع دليل على كمال التقدير والحكمة، والنفاذ فذلك من آثار وصف جلاله، فهو مئنة من كمال قدرته، عز وجل، بإيقاعه الكائنات على ما قد قدر أزلا، كما تقدم مرارا، فتضمن هذا اللفظ بأصل وضعه وبما ضمنه من معان أوصاف الجلال والجمال معا، وذلك من بلاغة الكتاب العزيز بإيراد المعاني الجليلات في ألفاظ يسيرات، فكلمة واحدة تدل على وصف الرب، جل وعلا، في فعل بعينه من أفعاله الكاملات، فكيف بوصف جلاله وجماله في أفعاله التي لا مبتدى لها، فهو الفاعل أزلا، ولما يكن مفعول كائن في عالم الشهادة، فاتصف بالفعل قوة ثم ظهر أثره بالفعل لما شاء خلق كونه، ولا منتهى لها في الأبد، فهو الفعال لما يريد على ما اطرد من دلالة وصف المبالغة على معنى مضارعه الدال على الحال والاستقبال كما قرر النحاة، فلفظ القضاء قد أفاد في هذا الموضع ما لا يفيده غيره فهو اللفظ الملائم لهذا السياق دون غيره من الألفاظ وإن رادفته في المعنى على القول بوقوع الترادف، أو قاربته، على القول بوجود القدر الفارق بين أي معنيين يدل عليهما لفظان متباينان، فاختلاف المبنى مئنة من اختلاف المعنى ولو في فرعه دون أصله، وذلك مما يزيد التنزيل قوة وجزالة، باختيار لفظ بعينه دون بقية الألفاظ التي تشاركه أصل المعنى فهو وحده الملائم تمام الملاءمة لهذا السياق بعينه، وذلك عين الإحكام والسبك للنظم القرآني.
ثم أوحى في كل سماء أمرها الكوني بمشيئته النافذة، فذلك من عنايته إذ قد دبر أمر الكائنات العلوية كما قد دبر أمر الكائنات الأرضية، والوحي لفظ: يعم معان عدة على جهة الحقيقة والمجاز على القول بوقوع المجاز في التنزيل، فالوحي في كل سياق بحسبه، على ما تقرر من استقراء مادة: "وحى" في نصوص الوحي: قرآنا وسنة، فيكون وحيا شرعيا وإلهاما كونيا وإشارة وأمرا وقبولا لأثر الأمر الكوني النافذ في نحو قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، ولا مانع من حمل مادة: "الوحي" في هذه الآية على كل تلك المعاني لعدم وقوع التعارض بينها، بل الجمع بينها يزيد المعنى قوة وجزالة، على ما تقدم بيانه من ازدحام المعاني في لفظ: "القضاء" لا على جهة التعارض، فليس ذلك بإجمال يقتضي ترجيح معنى على آخر، وهذا الحمل على كل المعاني التي يدل عليها لفظ الوحي في هذا السياق، سواء أقيل بوقوع الحقيقة والمجاز، أم كانت كلها حقيقة بقرينة السياق، ذلك الحمل هو اختيار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وإليه أشار بقوله: "والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون"
ثم خص بالذكر بعد عموم التدبير: تزيين السماء بالمصابيح، فبها تزدان السماوات وترجم الشياطين التي تسترق السمع، على حد قوله تعالى: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ)، ثم ذيل بوصفي العزة فذلك مئنة من تمام القدرة التي يقع بها ذلك التزيين، والعلم فذلك مئنة من تمام الحكمة التي يقع بها المقدور على ذلك النحو من الإتقان والإحكام، والإشارة بذلك مئنة من علو شأن المذكور فهو من فعل الرب المعبود، جل وعلا، وفعله قد بلغ الغاية من الكمال بداهة، والقول بعود اسم الإشارة: "ذلك" على كل ما تقدم من الآيات الكونية الباهرة دون تزيين السماء بالمصابيح خاصة أولى في معرض الدلالة على دلائل ربوبية الرب، جل وعلا، إيجادا بالقدرة، وعناية بالحكمة.
فذلك من التذييل بإجابة سؤال مقدر في الأذهان دل عليه السياق بداهة، فالذهن يسأل عما تقدم من الآيات الكونية الباهرة، كيف وجدت ولم وجدت؟، فجاء الجواب على حد الفصل للتلازم الوثيق بين الإجابة والسؤال فذلك من شبه كمال الاتصال، فـ: ذلك تقدير العزيز العليم.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 08:12 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
فقدم متعلق الخبر مئنة من التشويق، وجاء المبتدأ مؤولا من "أن" ومدخوليها، فضلا عن مجيء خبر الناسخ على حد المضارعة استحضارا للصورة، فترى الأرض ساكنة هامدة، فهي على رسم الموات، فإذا باشرها الماء بما أودع الرب، جل وعلا، فيه من قوى الإحياء اهتزت وربت، فذلك من دلائل البعث، إذ ينزل الرب، جل وعلا، من السماء ماء كمني الرجال في قوة الخلق والإيجاد من النطفة الموات إذا أراد نشر الأجساد، فكذلك الماء النازل من السماء يباشر مواضع الحياة في البذر فينبت، ويباشر مواضع الحياة في العظم فينشز، فالسنة الكونية واحدة بها يظهر كمال قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد من العدم، وكمال حكمته أن جعل لكل مسبَّب سببا، فجعل الماء سببا لتولد سائر صور الحياة الدنيوية والأخروية، الحيوانية والنباتية على حد قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، فذلك عموم قد خصه العقل بما دون الحيوات النورانية اللطيفة كحياة الملائكة والجان. فجعل الرب، جل وعلا، من جنس الماء سائر صور الحيوات المادية الكثيفة.
والرؤية محمولة على الرؤية البصرية، وقد جاءت مضارعة مئنة من استحضار تلك الآية الكونية المشاهدة بالبصر المدركة بالحس، فيكون وصف: "خاشعا": حالا، فلا تتعدى الرؤية البصرية إلا لمفعول واحد، فتراها خاشعة مئنة من السكون لجدبها وانقطاع الزرع منها، فتلك استعارة مكنية بتشبيه الأرض بالرجل المنكسر والتكنية عنه بوصف الخشوع فهو من لوازم الانكسار، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهذا حد الاستعارة المكنية، كما قرر البلاغيون، وهو آكد في تقرير المعنى بتشبيه الصورة المعقولة بالصورة المحسوسة، فذلك يقربها إلى الأذهان، والتشبيه حقيقة على الراجح من أقوال البلاغيين، فطرفاه ثابتان على وجه الحقيقة، وقد يقال بأن الكلام محمول على الحقيقة من وجه آخر فمادة: "خشع" كما في اللسان تدل على: السكون، فـ: "كلُّ ساكنٍ خاضعٍ خاشعٌ". اهـ
فذلك معنى كلي جامع يشمل صور الخشوع المعقول كخشوع القلوب والنفوس، وصور الخشوع المحسوس كخشوع الجوارح الحساسة المتحركة، وخشوع الأرض الميتة الجامدة فلا زرع فيها، فيكون من هذا الوجه: مشتركا معنويا، فمعناه الكلي متحقق في كل أفراده على جهة الحقيقة فلا مجاز فيه من هذا الوجه، والخطب يسير، بل إن الصورة البلاغية التي يجري فيها الكلام مجرى الاستعارة آكد، كما تقدم في تقرير المعنى، فللخيال دور كبير في تقرير المعاني المعقولة، ثم جاءت الاستعارة الثانية فشبهت الأرض بمن كان ذليلا فعز فاهتز جسده طربا لما ناله من السعة بعد الضيق، وحذف المشبه به وكني عنه بلازم من لوازمه وهو: "الاهتزاز" على ما تقرر في حد الاستعارة المكنية، فتلك استعارة مكنية ثانية، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تزيد المعنى، أيضا، بيانا وإيضاحا، فحصل من المجموع صورة مركبة تدل على آثار قدرة الرب، جل وعلا، في بث الحياة النامية في الأرض الميتة، فينقلق الحب والنوى ليستوي الزرع على سوقه، فنماؤه وزيادته من جنس حركة الذليل المستكين لما وردت عليه أسباب العزة فلم يملك إلا أن اهتز طربا، وإن كان ذلك من جنس الفرح المذموم إن كان برسم: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، فالمراد بيان وجه الشبه الذي يحصل به بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، على بث الحياة في الموات الساكن.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولو حملت الرؤية على الرؤية العلمية لأعرب الحال: مفعولا ثانية، والرؤية وإن كانت أظهر في البصرية في هذا السياق منها في العلمية إلا أنها تحتمل العلمية من وجه، فذلك المدرك البصري الحسي لا يحصل تمام الانتفاع به إلا إذا عرض على قياس العقل، وهو ما ورد بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى)، فذلك من القياس الجلي أو القياس المساوي، فإحياء الأجساد بالماء النازل من السماء من جنس إحياء الزرع بماء المطر، فقوى الإنبات والإخراج في كليهما كائنة فتستخرج الحياة بهما من الموات، واستعارة الإحياء للإنبات في الآية جارية مجرى الاستعارة التصريحية، كما أفاده صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهي في نفس الوقت دالة من وجه آخر على مناط الفائدة وهو: بيان قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد بعثا للأجساد، فرعا عن قدرته على الإيجاد إنباتا للزروع والثمار، لما بينها وبين: "محيي الموتى" من الجناس الاشتقاقي فيجمعهما معنى الحياة الكلي الذي تندرج تحته صور شتى من صور الحياة كحياة الأبدان، وحياة الأشجار ..... إلخ من صور الحياة المحسوسة، وحياة الأرواح والقلوب فتلك من صور الحياة المعقولة، والقيد هو الذي يعين المراد، فالمراد هنا هو الحياة المحسوسة التي تسري في الأجساد بعد بعثها بإذن ربها، جل وعلا، فضلا عما بين: "أحيى" و: "محيي" من المشاكلة.
وإضافة: "محيي" إلى "الموتى"، وإن كانت إضافة عامل إلى معموله فالأصل ألا تفيد تعريفا، فتجري مجرى الإضافة اللفظية تخفيفا إلا أنها في هذا الباب تجري مجرى الإضافة الحقيقية التي تفيد التعريف لقرينة: علمية ووصفية أسماء الرب، جل وعلا، مطلقة كالرحيم أو مقيدة كهذا الاسم فقيد المحيي على جهة التعدي بمعموله: "الموتى"، فمعنى الحياة قد ثبت له، جل وعلا، لزوما فهو: الحي: وصف ذات واسما مطلقا، و: المحيي: وصف فعل واسما مقيدا، والأصل في الإضافة اللفظية عدم الثبوت فتجري مجرى الحادث الطارئ المنقضي، وذلك أمر لا يتصور في حق الرب ن جل وعلا، فلا تعرض له الصفة ثم تزول لما يلزم من ذلك من زوال وصف الكمال عنه، جل وعلا، وإنما الصحيح عروض آحاد صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته، فيحدث منها ما شاء كيف شاء متى شاء، فجهة تعلق آحادها: المشيئة، مع كونه، جل وعلا، متصفا بأنواعها، فجهة تعلقها ذاته القدسية، فهي جارية مجرى سائر صفات الأفعال فلها وصفان: وصف الأولية والقدم من جهة النوع وهذا وجه كون الإضافة هنا حقيقية إذ الوصف باعتبار نوعه للرب، جل وعلا، ثابت، و: وصف الحدوث والتجدد باعتبار آحادها فيحيي ما شاء من الموتى متى شاء كيف شاء كما تقدم.
ثم ذيل بعموم القدرة، بعد ذكر فرد من أفرادها وهو: القدرة على إحياء الموتى، فذلك من قبيل: عطف العام على الخاص، فيفيد التوكيد بالإطناب فنص على الخاص تنويها بذكره، فالسياق قد ورد في إثباته خصوصا، ثم ذيل بالعموم إمعانا في توكيد عموم قدرته فهو على الخلق والإيجاد خصوصا قدير، وهو على شيء ممكن عموما قدير، فالقدرة لا تتعلق بالمحالات كتجويز طروء وصف النقص على الرب، جل وعلا، فلا يقال بأنه، جل وعلا، قادر على الاتصاف بالنقص، فذلك من الفساد بمكان لما علم ضرورة بالنقل والعقل من وجوبه اتصافه، جل وعلا، بكل كمال وتنزهه، عز وجل، عن كل نقص.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 05 - 2010, 08:44 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ: فتلك من دلائل الإيجاد للأجرام والأعراض التي تتولد منها، فعطف النهار على الليل مئنة من كون الليل هو الأصل والنهار هو الفرع على حد قوله تعالى: (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ)، وقد جعله صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، معطوفا على ما تقدم من خلق السماوات والأرض، فيكون السياق قد تضمن في معرض الاستدلال على كمال ربوبيته، عز وجل، الاستدلال بخلق الأجرام، ثم العطف في موضع تال بما يجري على تلك الأجرام من السنن الكونية فجريان الليل والنهار وحركة الشمس والقمر وفق سنن كونية محكمة من دلائل قدرته، عز وجل، وحكمته، إذ لكل عرض وقت يتحقق به كمال الانتفاع
(يُتْبَعُ)
(/)
للكائنات، فالنهار وقت ينتشر فيه البشر، والليل وقت يسكنون فيه، والحر وقت تنضج فيه الثمار، والبرد وقت تبيت فيه الكائنات بياتها الشتوي فتسكن حركتها حتى يأتي الربيع فتنشط ويبدأ موسم التزاوج مئنة من بداية الحياة، كما يبدأ الطفل حياته، فربيع عمره أوله، فيتولد الربيع وهو مادة الحياة من الشتاء وهو مادة البيات والموت، مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، على تنويع الأحوال بتوالي المتضادات فموت تعقبه حياة، فيخرج الرب، جل وعلا، الحي من الميت، فيخرج المولود من النطفة وهي موات، ويخرج الزرع في الربيع من الأرض بعد طول سكون في الشتاء، وهو، أيضا، مئنة من حكمته، عز وجل، إذ ارتبطت الحياة بأسبابها وفق سنن كونية محكمة، فارتبط خروج الزرع في الربيع بما هيأ الله، عز وجل، فيه من ظروف النماء، وارتبط خروج المولود من بين ذكر وأنثى، بما هيأ الرب، جل وعلا، لهما، من اللقاء، فخرجت الحياة من بينهما وفق ما قدر الرب، جل وعلا، أزلا، فجاء لقاؤهما تأويلا لمقدور الرب، جل وعلا، في عالم الغيب، فهو السبب الذي قضي به المقدور في عالم الشهادة فجاء وفق ما قدر الرب، جل وعلا، بلا زيادة أو نقصان، مئنة من تمام حكمته، فالتأمل في تلك الأعراض التي تقوم بالأجرام والأعيان على نحو ينتظم به أمر العالم على هذا النحو الدقيق المحكم مما يزيد الناظر تصديقا وإقرار علميا بكمال ربوبيته، عز وجل، إذ لا يقع مقدور في كونه إلا بمشيئته مئنة من قدرته، وتدبيره مئنة من حكمته، فهذان، كما تقدم مرارا، ركنا الربوبية.
فإذا بدأت الحياة بالربيع ثم اشتدت في الصيف ثم هدأت في الخريف ثم سكنت في الشتاء، فذلك صورة من الحياة اليومية: فحراك هادئ في أول اليوم ثم تشتد الحركة بارتفاع الشمس حتى تصل إلى ذروتها ساعة الظهيرة ثم تبدأ في الانكسار بزوال الشمس، فحركة الحياة نشاطا وخمولا مرتبطة بسنة جريان الشمس في جو السماء، ثم تسكن وتهدأ إذا جن الليل حتى تخمد في آخره، وقل مثل ذلك في حياة الإنسان: فضعف سرعان ما يؤول إلى قوة الصبا والشباب فالخلايا والأنسجة في غاية النشاط، ثم تستقر الحال بانتصاف العمر، ثم تبدأ شمسها في الغروب بتقدم العمر، ودخول الشاب مرحلة الكهولة فالشيخوخة، حتى يأذن الرب، جل وعلا، بالرحيل، ولا يعني ذلك اطرادها في كل حي، بل قد أجرى الرب، جل وعلا، السنة الكونية مطردة مئنة من نفاذ قدرته وتمام حكمته، ثم شاء تخلفها في بعض الصور فبعض يموت ولما يبلغ، بل ولما يخرج من رحم أمه مئنة من قدرته، أيضا، إذ نوع بين أقدار عباده لئلا يعتقد من خلاق لهم من ملاحدة الأمم أن هذا الكون يجري وفق سنة ميكانيكية رتيبة بلا رب مدبر يحدث فيه ما شاء من أقداره الكونية النافذة، بل له رب إن شاء أجرى السنة الكونية وإن شاء أبطلها، ولا يكون ذلك إلا لحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فتلك سنته في كونه في الأجرام والأجساد: سنة إيجاده من العدم، فاشتداد العود، فاستوائه فنقصانه ففنائه، وبها يظهر كمال الرب، جل وعلا، الذي قهر الكائنات بالموت والفناء، فيظهر وصف حياته فهي أصل صفات ذاته، وقيوميته بالتدبير والإحصاء فهي أصل صفات أفعاله، فإزاء حيواتهم الناقصة التي يعتريها من أعراض النقص والفساد ما يعتريها: حياته الكاملة التي لا يعتريها نقص ولا يطرأ عليها فساد أو فناء فهو الأول أزلا بصفاته الكاملات وأفعاله المحكمات، وليس ثم مفعول، فوصف فعله قائم بذاته القدسية قوة، حتى إذا شاء خلق المفعول وأجرى عليه أفعاله فصار فاعلا بالفعل، فلم يكن معطلا عن وصف كماله ذاتا أو أفعالا، بل له أزلية ذلك، وهو الآخر أبدا، فلا يفنى ولا يبيد، بل الباقيات على رسم الخلود في دار النعيم أو العذاب إنما تبقى بإبقائه، عز وجل، لها، فليس وصف الحياة الأبدية فيها ذاتيا كوصفها فيه، جل وعلا، بل تستمد مادة خلودها منه، جل وعلا، فهو المخلد لأهل الإيمان في دار الكرامة، ولأهل الكفران في دار المهانة.
(يُتْبَعُ)
(/)
فلما تقرر ما تقدم من عموم ربوبيته وكماله ذاته ووصفه وفعله، جاء لازم ذلك على حد الفصل لشبه كمال الاتصال، على ما تقرر مرارا من التلازم بين فعل الرب، جل وعلا، ربوبية، وفعل العبد ألوهية، فالأول علة الثاني فهو الرب المعبود فرعا عن كونه الرب الموجد المدبر فـ:
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ: فذلك من طباق السلب إمعانا في نفي التماثل بين أعظم متباينين، فذلك مما اطرد من الميزان القرآني المحكم بالتسوية بين المتماثلات في الحكم فرعا عن تماثلها في الوصف، والتفريق بين المتباينين في الحكم فرعا عن تباينهما في الوصف، فلا تسجدوا للمخلوق إذ النقص فيه وصف ذات لازم فلا يستحق منصب الألوهية إذ لا يكون الإله إلا كاملا، فذلك من البداهة بمكان إلا عند من طمس الرب، جل وعلا، على بصيرته، فشغل بالناقص عن الكامل، فالمخلوق، وإن شرفت ذاته، فإنها لا تنفك عن النقص والحاجة، وبذلك احتج صلى الله عليه وعلى آله وسلم على نصارى نجران، فإنهم أقروا بأن المسيح عليه السلام كان كسائر البشر مفتقرا إلى الأسباب ليبقى بمقتضى ما سن الرب، جل وعلا، كونا من اغتذاء الأبدان بالمطعوم، وانتفاعه بما ركب فيه من القوى بالمهضوم، وطرده لما لم ينتفع به وتلك من أعظم صور النقص في الهيئة البشرية، فهي كمال من جهة استواء الخلقة وصحة آلات الهضم والإخراج، ولكنها لا تنفك عن وصف نقص ذاتي لازم لصاحبه، وتأمل حال من ابتلي بعسر هضم أو احتباس فضلة في البدن، كيف يتألم، ليظهر بذلك من كمال أوصاف الرب، جل وعلا، إذ بضدها تتميز الأشياء كما تقرر مرارا، واسجدوا للذي خلقهن فعلق الحكم على وصف الخلق على ما تقدم مرارا من تعليق الحكم على وصف لا يقبل الشراكة، فذلك آكد في بيان تفرده جل وعلا بتمام التأله فرعا عن انفراده بكمال وصف الربوبية خلقا وتدبيرا، وذكر السجود إما أن يحمل على حقيقته اللغوية وهي الخضوع، كما أشار إلى ذلك صاحب "اللسان"، رحمه الله، بقوله: "وكل من ذل وخضع لما أُمر به فقد سجد ومنه قوله تعالى: (تتفيأُ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) أَي خضعاً متسخرة لما سخرت له وقال الفراء في قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان) معناه يستقبلان الشمس ويميلان معها حتى ينكسر الفيء ويكون السجود على جهة الخضوع والتواضع كقوله عز وجل: (أَلم ترَ أَن الله يسجد له من في السموات) (الآية) ". اهـ
فيعم سائر أجناس التعبد بدلالته الوضعية إذ معنى الخضوع متحقق في سائر العبادات: قلبية كانت أو لسانية أو بدنية، فلا تنفك عبادة يوقعها صاحبها لا على جهة النفاق أو الرياء، لا تنفك عن خضوع هو من فعل العبد، فهو أحد ركني العبادة بالنظر إلى فعل المكلف: تمام المحبة مع تمام الخضوع والذل، فهو متعلق وصف جلال الرب، جل وعلا، الفعلي، كما أن المحبة متعلق وصف جماله الذاتي.
وإما أن يحمل على حقيقته الشرعية، وهي وضع الجبهة على الأرض على هيئة السجود المعروفة، وهو الأصل في نص الشارع، عز وجل، فحمله على حقيقته الشرعية في سياق شرعي أولى من حمله على حقيقته اللغوية، إذ الشرع لم يرد لبيان الحقائق اللغوية فذلك مما استقر في عرف اللسان العربي قبل نزول الوحي، وإنما استعمل الوحي الحقائق اللغوية في تقريب المعاني الشرعية إلى الأذهان فالحقيقة اللغوية وسيلة إلى بيان الحقيقة الشرعية، إذ الحقيقة الشرعية: حقيقة لغوية مقيدة، فجنس السجود اللغوي إذا حمل على المعنى الاصطلاحي فإنه يقيد بصورة بعينها هي وضع الجبهة على الأرض خضوعا وتذللا للرب، جل وعلا، فإذا حمل على حقيقته الشرعية فإنه يكون من باب ذكر بعض أفراد العام في معرض التمثيل له فلا يخصصه، إذ السجود والركوع وسائر صور الخضوع تعبدا مما يجب إفراد الرب، جل وعلا، به، وإنما خص السجود بالذكر لكونه أشرف أجناس التعبد كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "فإن السجودَ أقصى مراتبِ العبادةِ فلا بُدَّ من تخصيصه به سبحانَهُ". اهـ
وقد يقال بأن حمله على الحقيقة اللغوية المطلقة آكد في هذا الموضع، مع كونه خلاف الأصل في الشرعيات، إذ السياق دال على إرادته لعموم معنى الخضوع في سائر أجناس التعبد، فذلك أعم في الدلالة من تخصيصه بالسجود الاصطلاحي، وإن كان مؤدى كليهما واحدا فعموم الخضوع في كليهما كائن إما بالوضع إذا نظر إلى الحقيقة الشرعية، وإما بالقياس على صورة السجود الاصطلاحي.
والإثبات بعد النفي قائم مقام الحصر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتقدير الكلام: لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ولكن اسجدوا لله وحده دونهن.
ثم ذيل بالشرط: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: إلهابا للهمم حملا لها على إفراده جل وعلا بالتعبد بقرينة تقديم الضمير على عامله فذلك مئنة من الاختصاص حصرا وتوكيدا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 05 - 2010, 07:22 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ:
فذلك من تقلب العبد في الأقدار الكونية على حد ما أفاده طباق الإيجاب بين الشر والخير، فلا ينفك العبد عن ابتلاء بالخير نعمة، وبالشر نقمة، فذلك من آثار قدرته، عز وجل، في خلقه بتنويع الابتلاء، فمنهم من يصلحه الضيق، ومنهم من تصلحه السعة، ومن آثار حكمته فيضع الشيء في محله الملائم.
فلا يسأم الإنسان، و: "أل" هنا بقرينة ورود اللفظ المحلى بها: "الإنسان" في سياق ذم، جنسية استغراقية لجنس بعينه، فليس استغراقها عموميا، بل عرفي، فقرينة الذم ترجح إرادة جنس بعينه هو جنس الكفار، ومن على شاكلتهم من المسلمين، وإن لم يلزم من التشابه بينهما في هذا الوجه: التشابه من كل وجه، على ما سبقت الإشارة إليه في مواضع سابقة، من جواز الاستشهاد بآيات نزلت في الكافرين على بعض أحوال المسلمين التي شابهوا فيها الكافرين، دون أن يلزم من ذلك بداهة: تكفيرهم فذلك مسلك الخوارج الذين حملوا آيات نزلت في الكفار لبيان أوصاف لهم قد يتصور اتصاف المسلمين ببعضها مع عدم انتقاض أصل الإيمان في قلوبهم، حملوها على المسلمين حملها على الكافرين، فسووا بينهم من كل وجه!، وقال بعض أهل العلم بأن ذلك من العهد العيني في معهود بعينه هو فلان أو فلان من المشركين، على ما ذكر في سبب نزول الآية، وخصوصه لا يمنع عموم لفظها، فالحكم قد علق بالوصف العام فمتى تحقق الوصف تحقق الحكم بغض النظر عن الأعيان التي يقوم بها. فلا يمنع قيام الوصف بزيد قيامه بعمرو، لعمومه، فيشتركان في الحكم لتحقق علته في كليهما.
فالإنسان قد جبل على حب الاستكثار، والحرص والجمع والمنع فـ: "لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ"، فالتعبير بانتفاء السآمة، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مئنة من التكرار ودوام الوصف، فتلك حال الإنسان، فقد جبل على الشح والبخل إلا من امتن الرب، جل وعلا، عليه فألهمه تزكية نفسه بالصلاة والزكاة، فـ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، ثم استثنى فذلك من النسخ بمعناه العام أو التخصيص المتصل: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، وفي السياق صورة بلاغية أخرى تدل على حرص الإنسان على الاستكثار من نعم الرب، جل وعلا، الكونية، دليل عنايته العامة، فلا يلزم من جريانها بلوغ العبد عنايته، جل وعلا، الخاصة، بنعمة الإيمان، في السياق صورة بلاغية تدل على ذلك الحرص، أشار إليها صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، يجرد فيها من الخير إنسان يدعوه طالب الحاجة ليقبل عليه، فلا يسأم من دعائه: أن أقبل، وذلك، كما تقدم، جار على ما ركز في نفس الإنسان من حب الخير وحب الاستكثار منه على جهة الحرص والشح الذي يدل عليه التكرار بنفي السآمة إلا ما رحم الرب جل وعلا، وفي مقابل ذلك:
(يُتْبَعُ)
(/)
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ: فهي مئنة من ندرة وقوع المس الذي هو أدنى درجات الإصابة، فالأصل هو: السلامة والسعة، فذلك من تمام عنايته، عز وجل، بعباده، فإن ورد الابتلاء بالتضييق، فهو عارض أبتر، لا دوام له، وإن طال زمانه واتصلت أيامه، مع كونه نعمة في حق الصابر والراضي، فبه تمحص النفوس، وترفع الدرجات، فهو لمن تدبر ورزق سدادا في الفهم وعزيمة على الرشد حال نزول الابتلاء فألهم الصبر فلم يجزع ولا يكون ذلك إلا لمن اصطفاه الرب جل وعلا لتلك المنزلة السامية، هو لمن هذه حاله: كرامة أي كرامة!، وإن كانت العافية أوسع للمؤمن، فسؤالها والإلحاح في ذلك طريقة كل عاقل فمن ذا الذي يصبر على الشدة والآلام إلا من اصطفاه الرب، جل وعلا، فثبته في موضع تزل فيه الأقدام وتسوء فيه الظنون بالرب المعبود تبارك وتعالى.
فإذا مسه أي ضر، فهو جزع يائس، ومن كل رحمة قانط، فمن فرح بالنعمة فرح البطر والأشر، يأس حال النقمة فأصابه اليأس والجزع، ولذلك كان شكران الرب، جل وعلا، حال النعمة، خير زاد للعبد حال الشدة.
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي: فجاء التوكيد بالقسم المقدر الذي دلت عليه اللام الموطئة، ولام الجواب التي تلقي بها جواب القسم المؤكد هو الآخر بنون التوكيد المثقلة، فذلك طبع الإنسان الذي يقابل عناية الرب، جل وعلا، به بصنوف النعم الكونية بالجحود والنكران على حد قوله تعالى: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). والذوق مئنة من كمال الإحساس وتنكير الرحمة مئنة من التعظيم لصدورها من الرب، جل وعلا، فـ: "من" لابتداء غايتها منه، فعظمها من عظم من صدرت عنه، وذلك من كمال عنايته، عز وجل، بعباده أن اختصهم بأجناس من الرحمات الشرعية والرحمات الكونية، فإما أن تحمل، كما تقدم مرارا، على أجناس الرحمات المخلوقة، وإما أن تحمل على وصفه، جل وعلا، فيكون صدورها منه، جل وعلا، صدور الصفة من الموصوف، فهاتان جهتا نسبة الرحمة إليه جل وعلا. وعلى كلا النسبتين ظهر من كمال وصف ربنا، عز وجل، عناية بعباده ما يحمل المسدد على إحسان الظن به، تبارك وتعالى، فما ابتلى إلا ليطهر، وما عافى إلا ليكرم الشاكر ويستدرج الجاحد. وإحسان الظن به، عز وجل، أصل جليل من أصول السعادة في الدنيا لا سيما في أزمنة الشدة التي تمحص فيها النفوس، وفي الآخرة فمن أحسن الظن أحسن العمل فبذل سبب دخول الجنان بمنة الرب الرحمن جل وعلا.
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى:
فذلك من فساد التصور فإن إحسان الظن لا يكون إلا فرعا عن إحسان العمل، فالتلازم بينهما بمكان، فالعمل علة إحسان الظن، والتلازم بين العلة والمعلول أمر تدركه بدائه العقول، فذلك جار على مقتضى ما سن الرب، جل وعلا، بحكمته البالغة، من أسباب الكون والشرع فلا يتوسل إلى المعلول إلا ببذل علته، فإحسان الظن بالرب، جل وعلا، لازم إحسان العمل. فلا يكون إحسان بلا عمل، وإنما ذلك محض أماني يتسلى بها البطالون من أصحاب الهمم الدنية.
فقياس حال الآخرة على حال الدنيا قياس فاسد يدل على فساد عقل صاحبه، فإن حال الدارين وأحكام كليهما متباينة، فلا يلزم من السعة في الدنيا: السعة في الآخرة، بل قد تكون سعة الدنيا: إملاء، أو توفية أجر كما في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، بل تلك هي الحال الغالبة في دار الدنيا، فأصحاب النعيم والترف غالبا ما تفسدهم النعمة، فيصيبهم البطر والأشر، فإن لم تكن ثم ديانة تعصم، فإن صاحب المال سيطغى لا محالة بمقتضى ما جبل عليه من حب الطغيان فـ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فلا يلزم من العافية والسعة في الدنيا: رضا الرب، جل وعلا، بل يمتنع ذلك إن كان صاحب النعمة مارقا من الديانة بكفر أو فسوق، وإن كان سؤال العافية مرادا شرعيا، فلا تقوى كل النفوس على ابتلاء الفقر الذي يفسد هو الآخر قياس العقل، فالفقر كالجوع يذهل صاحبه،
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا يحسن شيئا من أمر الدين أو الدنيا، والتوسط في غير إسراف أو تقطير مسلك المسددين في هذا الباب، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق الرب جل وعلا.
وقد جوز صاحب "التحرير والتنوير" حمل الآية على التهكم، فتلك حال صاحب الجنتين: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، فيكون ذلك موطئا لما جاء عقيبه من الوعيد، ففساد تصوره بإنكار البعث، وما يتفرع عن ذلك لزوما من فساد العمل، بإساءة استعمال النعمة، ذلك الفساد مئنة مما يليه من الوعيد:
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ:
فذلك من الوعيد الذي ينقض الدعوى السابقة، وقد جاء مؤكدا، أيضا، بالقسم المحذوف الذي دلت عليه لام الجواب، فهي المؤكد الثاني، ونون التوكيد المثقلة فهي المؤكد الثالث.
وأظهر وصفهم بالموصولية: "الَّذِينَ كَفَرُوا"، وحقه الإضمار، تنبيها على استحقاقهم هذا الوعيد، وذلك، أيضا، توكيد رابع في معرض الوعيد لهم والترهيب من سلوك طريقتهم.
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ:
فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بالإنسان، بالإنعام المنسوب إليه، تبارك وتعالى، على جهة التعظيم، فذلك أليق بمقام الامتنان وفي مقابل تلك العناية بتلك النعمة السابغة: دينا ودنيا، يعرض الإنسان عن دعاء الرب، جل وعلا، على ما قدره صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك واجب الألوهية في مقابل عطاء الربوبية، وقد يحمل الدعاء على صورته المعروفة، فإن النعمة مظنة الغفلة، ولذلك جاء النص على هذه الصورة بعينها تنبيها على ما يقع لابن آدم من الغفلة بالاشتغال بالنعمة عن المنعم، جل وعلا، إذ الشدة مظنة الرجوع إلى الرب، جل وعلا، ودعائه، ولو كان الداعي مشركا، كما في قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، بخلاف النعمة، فإنها، كما تقدم، مظنة الانصراف عن دعاء الرب، جل وعلا، وقد يحمل الدعاء على معناه العام فهو العبادة، على حد قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فقابل بين الدعاء والعبادة، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، فذلك من الحصر والتوكيد بتعريف الجزأين واسمية الجملة وضمير الفصل، فيكون إعراضه عن واجب الألوهية اللازم لشكر نعمة الربوبية على ما اطرد مرارا من التلازم بين الربوبية إيجادا وتدبيرا، والألوهية خضوعا وتسليما، وفي المقابل: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ: فذلك استيفاء للشطر الثاني من أوجه القسمة العقلية إذ لا ينفك الإنسان عن نعمة واجبها الشكر، ونقمة واجبها الصبر والتوبة، فأسند فعل المس، وهو مشعر بأدنى قدر من الإصابة، إلى الشر من باب المجاز العقلي عند من يقول بالمجاز بإسناد الفعل إلى سببه ومن ينكر المجاز فإنه لا يمنع إسناد الفعل إلى السبب المؤثر على جهة التأثير غير المستقل فالرب، جل وعلا، هو المقدر له أزلا، المجري له إذا شاء وقوع الفعل، وعلى كلا القولين تظهر سرعة جزع الإنسان فيسارع إلى الرب، جل وعلا، حال الشدة مع عظم إساءته حال السعة، ومن وجه آخر: نسب الفعل إلى الشر تأدبا مع الله، عز وجل، فالشر ليس إليه فعلا، وإن كان خالقه ومقدره، وذلك أصل مطرد في آي التنزيل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو كائن في نحو قوله تعالى: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، فبنى فعل إرادة الشر لما لم يسم فاعله تنزيها للرب، جل وعلا، عن فعل الشر، وإن كان خالقه كما تقدم، وجاء بالفاعل صريحا في إرادة الخير، ونكر الرشد تعظيما فذلك زيادة ثناء على الرب، جل وعلا، ببيان عظم آلائه الكونية والشرعية على عموم البرية، فالرشد في أمر الدين: أشرف أجناس النعمة الربانية.
وفي نحو قوله تعالى: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، فأضاف المرض إليه، وإن لم يكن هو الموجد له، فالرب هو الذي خلقه وابتلى به عدلا وشفى منه فضلا، ولذلك نسب الشفاء إليه تبارك وتعالى، فلا ينسب الشر إلى الله، عز وجل صراحة، وإنما ينبى لما لم يسم فاعله، أو يدخول في عموم فلا يوهم قدحا، على وزان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، فدخلت فيها كل المخلوقات على ما فيها من خير أو شر.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 05 - 2010, 08:42 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ):
فذلك من دلالة الإيجاد للآيات الآفاقية من أجرام وأفلاك، والآيات النفسانية من من أنسجة وأعضاء على ما فيها من صور الحكمة الباهرة فكل قد خلق على هيئة يحصل بها تمام الانتفاع فتظهر بذلك آيات حكمة الرب، جل وعلا، في خلقه المشهود، فلا تنفك الدلالة الإيجادية لتلك الكائنات عن دلالة عناية بها إذ قد سخرها الله، عز وجل، ليحصل بها كمال التنعم، على وجه تظهر به قدرة الرب، جل وعلا، في الخلق للأعيان والتدبير للأحوال، فهما، كما تقدم مرارا، أخص أوصاف الربوبية، والرؤية علمية لتعديها إلى المفعولين وهو أليق بسياق التدبر والنظر في الآيات الكونية التي أضيفت إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، فذلك مما يحسن في معرض بيان عظم القدرة وبلوغ الحكمة الربانية، وقد حمل صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، تلك الرؤية على أمر مستقبل هو ذيوع الإسلام في الآفاق وفي أنفس المخاطبين، مع عظم جحودهم وتكذيبهم له حال نزول الآيات، فيكون ذلك وجها من وجوه إعجاز الكتاب العزيز، إذ أخبر عن مغيب، فوقع كما قد أخبر، فذلك وجه إعجاز في باب الأخبار، فالوحي قد أخبر بما مضى فـ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)، بل فضح ما تواطأ يهود على كتمانه فلم يعلمه غيرهم فـ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، وأخبر بما هو آت من الأحداث الكونية الجسام، من قبيل خبر الدابة: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)، وطلوع الشمس من مغربها: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)، وأهوال يوم القيامة: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، وما يكون بعده من الحساب والجزاء، فضلا عما أخبر به من دقائق العلوم الطبية والفلكية والزراعية ..... إلخ، وإن كانت إشارات مجملة قد ورد بيان كثير منها في السنة التي صدق العلم التجريبي الحديث خبرها، فتلك، أيضا، مما ينظم في سلك دلائل الإيجاد والعناية، وإن كان الوحي لم يرد لبيان ذلك أصالة، فعنايته الأولى بتقرير أصول العقائد والشرائع، وبيان ذلك في الوحي الثاني: السنة، على ما اشتهر من تفسير البيان في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ببيان السنة، وعلى ما اطرد من التلازم بين الربوبية والألوهية جاء التذييل بالعلة الغائية من ذكر تلك النعم الربانية: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، فينقادوا لأمره الشرعي طاعة وديانة، فلا يكفي الانقياد للأمر الكوني فكل له خاضع فلا يحصل به فصل لجنس المؤمنين من جنس الكافرين فكلهم يتقلب في أقدار الرب، جل وعلا، الكونية بخلاف المؤمنين الذين استقلوا بموافقة أقداره الشرعية.
(يُتْبَعُ)
(/)
فالشاهد أن من جملة تلك الآيات الآفافية: ظهور الإسلام على سائر أمم العرب خاصة والشرق والغرب عامة في عصور ازدهاره التي تمسك فيها السلف بمقررات الرسالة فاستحقوا التمكين فرعا عن امتثال أمر التشريع، وذلك من دلائل النبوة عند التأمل إذ دار التمكين في الأرض معها وجودا وعدما، ولا يمكن الله، عز وجل، لكاذب ولا يمكن لأتباعه من بعده فلا يحصل لهم الظهور إلا بدعواه وهي في نفس الأمر كاذبة، فذلك من المحال بمكان إذ لازمه إبطال الحجة الرسالية، بتجويز تأييد الكذاب تأييدا مطلقا، وإنما يكون ظهور أمره، إن ظهر، فتنة وتمحيصا، فسرعان ما يظهر كذبه وتناقضه فـ: (لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، فالآية الكونية التي يجريها الرب، جل وعلا، تأييدا لرسوله تنزل منزلة قول مجريها عز وجل: صدق عبدي فلان في دعواه النبوة، كما قرر ذلك من تكلم من أهل العلم في أصول الديانة، فلزمكم تصديق خبره وامتثال أمره ونهيه، فهو مبلغ الشريعة، فله من العصمة ما يوجب اتباعه اتباعا مطلقا دون السؤال عن الدليل، فليس اتباعه كاتباع غيره من العلماء والمجتهدين الذين يستدل لكلامهم، بل كلامه في حد ذاته: دليل يستدل به، وذلك فرقان بين النبي المعصوم، والمجتهد أو العالم غير المعصوم، فإنه مهما بلغ من العلم والتحري في الفتوى فلا بد أن يخطئ، ولو في مسألة، وإلا كان معصوما، وتلك منزلة لا تكون إلا للنبي، فيرد قوله فيما أخطأ، ويثبت له الأجر على ما بذل من الجهد واستفرغ من الوسع، فلم يفته إلا أجر الإصابة، إلا أن يكون ذا هوى، فليس له من الأجرين شيء، بل عليه وزر اتباع الهوى والاجتهاد في التماس الذرائع الشرعية له، فلا يستدل إلا بالمتشابهات بحملها على الوجوه التي تؤيد مذهبه، ولو كانت أوجها مرجوحة بل مهجورة، ويعرض عن المحكمات الصريحة بضد ما ذهب إليه، وتلك حال علماء السوء في كل عصر ومصر، وفي زماننا، كثر هذا الصنف، لا سيما أصحاب الحوائج على أبواب المتملكة والمتأمرة برسم الجور.
ثم جاء التذييل بالاستفهام في معرض تقرير عموم وصفه الرباني فهو على كل شيء شهيد، فذلك ذريعة إلى الوفاء بالحق الإلهي مراقبه له، عز وجل، في السر والعلن، فاستحضار مقام الربوبية علة فاعلة لاستحضار مقام الألوهية، وقد أنزله صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، في قول له: منزلة القسم، فيكون الاستفهام إنكاريا على من لم يكتف بالقسم بالله، فذلك خلاف ما وردت به النصوص من قبيل حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ"، فينزل ذلك منزلة قوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً)، فإنكار عدم الاكتفاء بالقسم بالله، إثبات لوجوب الاكتفاء به، فالإنكار ينزل منزلة النفي، ونفي النفي إثبات كما قد قرر أهل النظر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 05 - 2010, 07:44 ص]ـ
ومن سورة الشورى:
ومن قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
فالوحي هنا بمعناه الاصطلاحي، فهو وحي الأنبياء عليهم السلام بواسطة الرسول الملكي بما تكلم به الرب العلي، تبارك وتعالى، من الكلمات الشرعيات الحاكمة، فوحيه، تبارك وتعالى لرسله من البشر يكون بالكلمات الشرعية الحاكمة، ووحيه، جل وعلا، لجنده من الملك يكون بالكلمات الكونية النافذه، فأمر الرسل: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وأمر الملائكة: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). فتقديم المسند وهو فعل الإيحاء تشويق لمعرفة الموحي، ومجيئه مضارعا مئنة من التجدد والاستمرار على الرسل باعتبار المجموع، فالوحي عليهم قد تتابع، وعلى الرسول الواحد فالوحي عليه قد تتابع باعتبار أفراده، فجنس الوحي معهود في النبوات عموما،
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو معهود من حال النبي الواحد في خاصة نفسه، على خلاف بين أهل العلم هل اختص الكتاب العزيز من بين سائر الكتب المنزلة بنزوله نجوما متتالية على أسباب وهو الأقل، أو ابتداء، وهو الأكثر، على حد قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، فقولهم إشارة على سبيل الكناية إلى نزول الكتب السابقة جملة واحدة فجاء الكتاب العزيز على خلاف ما عهدوه، لحكمة ذيل بها: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، والوحي من أشرف أفراد دلالة العناية، بل هو أشرفها لتعلقه بأشرف النعم الربانية على البشرية: نعمة النبوة الهادية، فللنبوة أخبار وأحكام، وأخلاق وآداب بها يستقيم أمر الأتباع على سنن الهدى في أمر المعاش، وهذا أمر مشاهد في النوع الإنساني إذ بتواتر جنس النبوات في أمة يقع من صلاح الحال ما لا يقع في أمة قد خفيت فيها آثار النبوة، فضلا عن الأمم التي لم تعرف النبوة أصلا، وهذا أصل في صلاح وفساد الأمم، فكلما كانت الأمة أقرب إلى النبوة، ولو محرفة، فهي خير من امة بلا نبوة ابتداء، فليس لها من التعلق بخبر السماء ولو مجرد النسبة، فإن من بركتها أن يقع بها نوع صلاح للمنتسب إليها، في أخلاقه وسائر أمور معاشه، وإن لم يكن له خلاق في الآخرة، والأمة التي لم تبدل الوحي، وإن فرطت في تعاليمه فعطلته بلسان الحال، خير من الأمة التي فرطت بلسان المقال تحريفا ولسان الحال هجرا وعزلا عن منصب الرياسة، فالأمة التي تولت الوحي نوع ولاية وإن لم تخل من منازعة غيره من الطواغيت الأرضية مادية كانت أو معنوية، كسائر التشريعات والمذاهب الأرضية الحادثة، الأمة التي وصفها هذا خير من الأمة التي عزلته بالكلية، وولت غيره برسم الديمقراطية أو الليبرالية ....... إلخ، والأمة التي قدمته فجعلته الرئيس المعظم فلا تصدر إلا عن أمره هي أعظم الأمم استقامة في المعاش، وأرجى الأمم للنجاة في المعاد، وإن لم يكن للجماعة كبير حظ من النبوة، فإن العاقل لا يفرط في حظه منها فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فحسبه أن يلتزم بها ويدعو إليها غيره من المسلمين فهم أسرع الناس إجابة لكونهم متقنين لأصولها العلمية وإن فرطوا في كثير من أحكامها العملية بل ربما تعدى تفريطهم في الأعصار والأمصار التي يخفى فيها العلم ويظهر فيها الجهل إلى الأصول مع كونهم مقرين بها جملة فيعذرون بالجهل ما لا يعذر به غيرهم، إن لم يفرطوا في طلب الحق، على تفصيل دقيق لأهل العلم في مثل تلك المضايق التي يصير الناس فيها غالبا إلى طرفي: التفريط فذلك رسم الإرجاء، والإفراط فذلك رسم الخروج.
وبالنبوة الصحيحة يستقيم أمر المكلف في دار الجزاء، فأتباع الأنبياء هم ورثة جنة الرحمن تبارك وتعالى.
فهي نعمة عاجلة وآجلة، امتن بها الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، فهي من جملة ما كرم به وفضل على سائر الخلائق، فالجن، وإن كانوا أعظم خلقة إلا أنهم لا يعرفون منها إلا الإنذار، فليس منهم لقصور مراتبهم العلمية: نبي، وإن كانت قواهم أعظم من قوى البشر.
والمنعم بها: "الله العزيز الحكيم": فذلك وصفه الجامع لأوصاف ربوبيته وهو ما يقتضيه مقام الامتنان بالوحي، فهو العزيز ذو القدرة النافذة فلا راد لقضائه، وهو الحكيم ذو الحكمة البالغة، فبها يدبر أمر الكون بالكلمات التكوينية، وأمر الشرع بالكلمات التشريعية، ثم جاء بيان أثر تلك الصفات في عالم الشهادة، فعنها صدر هذا العالم بإتقانه وإحكامه، فالتذييل بقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، ينزل منزلة البيان لوصفي العزة والحكمة ببيان أثرهما في عالم الشهادة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو من باب تفسير السبب بمسبَّبه، أو العلة بنتيجتها، فالصفات الربانية الفاعلة علة صدور هذا العالم، إذ بمقتضاها جاءت الكلمات الكونية، فكلمات كونية كان بها
(يُتْبَعُ)
(/)
الخلق، فهي متعلق اسمه الخالق، وكلمات كونية كان بها التدبير ولا يكون إلا عن علم سابق فهي متعلق اسمه العليم واسمه الحكيم.
فله ما في السماوات وما في الأرض على حد العموم المؤكد بالتكرار، فضلا عن وروده بـ: "ما" وهي تعم العاقل وغير العاقل فتستغرق الأعيان على حد "ما" في قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)، والأحوال على حد "ما" في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، وتقديم ما حقه التأخير مع كون اللام نصا في الملكية في هذا الموضع لقرينة السياق، فالرب، جل وعلا، المالك الملك للأعيان والأحوال ولا تخلو اللام من معنى الاختصاص إذ اختص، جل وعلا، على سبيل الانفراد، بملكية ما في السماوات وما في الأرض إيجادا وتسييرا، فذلك مما يندرج في دلالة الإيجاد، فإن صفة العزة وما يلزم منها من القدرة هي معدن الكلمات الكونية الموجدة، كما أن صفة الحكمة هي معدن الكلمات الكونية المدبرة فبها ينتظم أمر الأبدان، والكلمات الشرعية فبها ينتظم أمر الأديان، فنعمته، جل وعلا، كما تقدم، نعمة سابغة، قد عمت الظاهر والباطن، البدن الكثيف وما يحتاجه من عذاء طيني غليظ، والروح الخفيف وما يحتاجه من عذاء إيماني رقيق، فبالكلمات الكونية ينبت الرب، جل وعلا، الزرع في الأرض لتغتذي به الأبدان، وبكلماته الشرعية ينبت شجرة الإيمان في القلب فيتعاهدها بأجناس التأله الظاهر والباطن لتعتذي بثمارها الأرواح.
ولئلا يقع الوهم فيظن ظان اختلاط المالك بمملوكه أو حلوله فيه كما هو حال ملاك الدنيا الذين تحويهم ممالكهم ولا يحيطون بها لحقر ذواتهم، لئلا يقع ذلك الوهم جاء النص على علو الرب، جل وعلا، علو ذات وقهر وشأن، فهو العلي بذاته علوا معنويا عاما وعلوا خبريا خاصا هو استواؤه على عرشه على كيف يليق بجلاله لا يعلمه إلا هو فلا خوض للعقل فيه بتأويل لمعنى بعيد أو تعطيل لمعنى جليل، أو تمثيل بمعنى مشاهد، أو تكييف بمعنى مقدر في الأذهان وإن لم يكن له وجود في الأعيان، فكل ما شاهده المكلف أو تخيله من صور الكمال المطلق فالله، عز وجل، بخلافه، فلا يدرك كنه ذاته القدسية وصفاته العلية إلا هو.
وهو العظيم فلا يحويه خلقه بل قد أحاط بهم علما، ووسع كرسيه سماواته وأرضه فكيف بعرشه والكرسي كالمرقاة له، وكيف به، جل وعلا، في ذاته القدسية وقد استوى على أوسع مخلوقاته بأوسع أوصافه فـ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).
والقصر كائن في قوله: (وهو العلي العظيم): بتعريف الجزأين، فتأويله: لا علي ولا عظيم سواه، وجعله صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، من قصر القلب، إذ اعتقدوا تلك الأوصاف الكاملة في آلهتهم الناقصة فجاء النص على ضد ما اعتقدوه فذلك أبلغ ما يكون في إبطاله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 05 - 2010, 08:08 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
فذلك إشارة إلى تفريط الخلق في واجب الألوهية لازم ما تقدم من دلالات الإيجاد والعناية الربانية على ما اطرد من التلازم الوثيق بين فعل الربوبية وواجب الألوهية، فإزاء كل فعل رباني بإيجاد أو إنعام، أو حتى ابتلاء: فعل بشري يوقعه المكلف تألها وديانة، فليس ثم إلا: فعل الرب تدبيرا، وفعل العبد تسليما.
فلوقوع ذلك التفريط تكاد السماوات يتفطرن من أعلاهن، فذلك أبلغ في البيان إذ انفطار الشيء من أعلاه أعظم انفطار فهو بعم الأعلى والأسفل لزوما كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك مظنة فساد أمر الكون من شؤم تفريط العباد، وهو الذي يقع آخر الزمان إذا شاء الرب، جل وعلا، قيام الساعة فينقطع ذكره من كونه، فلا يقال في الأرض: لا إله إلا الله، فذلك انقطاع مادة الصلاح التي تحفظ بها الأفلاك العلوية والممالك الأرضية، فإذا عدمت من الأرض فقد وجب لها الفساد على ما اطرد من دوران المعلول مع علته وجودا وعدما فمتى كانت نبوة
(يُتْبَعُ)
(/)
كان صلاح ببركة اتصال خبرها، ومتى لم تكن كان فساد بشؤم انقطاع خبرها، والملائكة في السماء تسبح الرب، جل وعلا، بنفي النقص، وتحمده بإثبات الكمال، فهو المراد لذاته، فتنفي عنه كل نقص، وتثبت له كل كمال مطلق، على حد: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فالشطر الأول: تنزيه بالنفي، والشطر الثاني: ثناء بالإثبات، ويستغفرون لصالحي المؤمنين فذلك من كمال عناية الرب، جل وعلا، بعبيده المخلصين، أن قيض لهم ذلك الخلق العظيم المنزه عن المعاصي والشهوات الحيوانية، فهو من اللطافة والقدسية بمكان، أن فيضه لهم ليستغفر لذنوبهم، فذلك مما يقوي رباط الود بين المكلفين والملائكة المسبحين خصوصا، وسائر الجند العلوي عموما، فهي بأمر ربها تعمل، وللعبد من كل سوء تحفظ على وزان: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، فالكون نسيج واحد على رسم الخضوع والانقياد للرب، جل وعلا، فمن شذ من المكلفين فخالف شرعه المنزل فقد باين خلايا ذلك النسيج المحكم فصار بؤرة فساد تستحق الاستئصال صيانة للكل بنفي الجزء، وهو ما وقع للمكذبين من أعداء الرسل عليهم السلام إذ نفى الرب، جل وعلا، خبثهم من الأرض بعذاب بئيس ظهر به أثر صفات جلال الرب، جل وعلا، الذي قهر خلقه بقدره الكوني، كما ألزمهم على ألسنة رسله: امتثال قدره الشرعي، فالمسدد من اجتمع فيه القدران، فصار على حد التلاؤم التام مع القدر النافذ والشرع الحاكم.
ثم جاء التذييل مؤكدا لتلك المنة الربانية باستغفار الكائنات العلوية على حد الفصل للتلازم الوثيق بين المؤكَّد والمؤكِِّّد، وتوارد على السياق جملة من المؤكدات في معرض الترغيب في التوبة والاستغفار لينال المكلف آثار أوصاف جمال الرب، جل وعلا، من المغفرة سترا للذنب، والرحمة فضلا من الرب، فالمغفرة تخلي المحل من شؤم الذنب والرحمة تحليه برحمات الرب الخاصة بعباده المؤمنين فهي متعلق اسمه الرحيم، فجاء الاستفتاح تنبيها بـ: "ألا"، والمؤكد الناسخ، واسمية الجملة وضمير الفصل على حد القصر والاختصاص وتعريف جزأي الجملة، وقد يقال بأنه جارٍ، أيضا، على حد قصر القلب لاعتقاد من ظن غير الله، عز وجل، يقدر على المغفرة على حد ما تواتر عند أصحاب كراسي الاعتراف، وساكني مراقد الآئمة والمشايخ من غلاة أهل القبلة في هذا الباب ممن اعتقدوا للأنبياء أو الأئمة أو الأولياء جاها يشفعون به عند الله، عز وجل، ولو بلا إذنه فتلك من صور الشفاعة المنفية، فالرب، جل وعلا، غني عن عباده فلا يقبل شفاعتهم اضطرارا على حد ما يقع من ملوك الدنيا الذين يقبلون من الشفاعات ما لا يرضونه صيانة لعروشهم واستئلافا لأعوانهم الذين يقيمون لهم أمر ممالكهم ولو برسم الجور والطغيان كما هو كائن في كثير من الممالك المعاصرة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 05 - 2010, 09:35 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ: ثم جاء التذييل بأوصاف الربوبية إيجادا للسماوات والأرض، وعناية بخلق الذرية والأنعام، ولا يقدر على ذلك إلا رب قدير حكيم ليس كمثله شيء نفيا مجملا، وهو السميع البصير إثباتا مفصلا لأوصاف القدرة والإحاطة، فله وصف الثناء المطلق بكل جمال أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الوجه اللائق بجلاله، وله وصف التنزيه المطلق عن كل نقص، فصفات الكمال المطلق ثابته له إذا ورد النص بها، وما لم يرد إن كان كمالا مطلقا: فيتوقف فيه نفيا أو إثباتا فلا يحصي ثناء على الرب، جل وعلا، إلا هو، فلم يحط أحد من خلقه به علما، وإن كان أعلم خلقه به من الأنبياء عليهم السلام، وخاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي يفتح الرب، جل وعلا، عليه بمحامد لا يعلمها إلا إذا سجد بين يدي الرب، جل وعلا، وما نفى عن نفسه من أوصاف النقص فهي عنه منفية وهو عنها منزه سالم فذلك معنى اسميه: القدوس والسلام، وما كان من وَصْفٍ وَصَفَ به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله
(يُتْبَعُ)
(/)
عليه وعلى آله وسلم ومادته تقبل الانقسام فيتصور فيها انفكاك جهة الكمال عن جهة النقصان، فبثبت له منه ما أثبته لنفسه من وجه الكمال، كالمكر فإنه بالكافرين كمال، وبالمؤمنين نقص، وقد وصف تبارك وتعالى نفسه بوصف الكمال منه، فيثبت له على الوجه اللائق بجلاله وينفى عنه وصف النقص، فيمكر بالكفار استدراجا ولا يمكر بالمؤمنين بل يمكر لهم انتصارا.
وما كان من وصف لم تنفك فيه جهتا الكمال والنقص فالنقص فيه ذاتي ملازم له أبدا وإن تضمن كمالا من وجه كاتخاذ الصاحبة والولد فهو كمال في حق البشر إذ الفحل أكمل من العنين، والخصيب أكمل من العقيم، ولكن كلا الأمرين لا ينفكان عن وصف نقص ذاتي فالشهوة إلى الزوج والحاجة إلى الولد من أعظم صور النقص، فلا ينفكان عن افتقار يتنزه عنه الباري، عز وجل، بداهة، فهو الغني عن خلقه، بل خلقه المفتقرون إليه، فغناه ذاتي لازم له، متعد إليهم، فما كان فيهم من وصف الغنى فهو طارئ بعد أن لم يكن، حادث بعد العدم، بخلاف وصف غناه فإن له أولية الغنى وآخريته، كما له أولية الذات القدسية وآخريتها، وأولية كل أوصاف كماله الذاتية والفعلية وآخريتها، فلا تمكن نسبة الصاحبة والولد لله، عز وجل، للنص الصريح على النفي، ولو لم يرد لعلمه العقل الصريح بدلالات لزوم صفات الكمال الأخرى، فالكمال المطلق ثابت له إجمالا، واتخاذ الصاحبة والولد، كما تقدم، لا تنفك فيه جهة النقص عن جهة الكمال ليصح وصف الرب، جل وعلا، بكماله دون نقصه، كما في صفات المكر والاستهزاء فالبابان مختلفان والتسوية بينهما تسوية بين متباينين يأباها العقل الصريح.
وما كان من وصف نقص مطلق لا يتضمن كمالا من أي وجه فهو منفي عنه من باب أولى، كوصف الخيانة، ولذلك لم يقابل الله، عز وجل، خيانة الكفار بمثلها في قوله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). فقابل خيانتهم بالإمكان منهم.
ثم جاء الإطناب في بيان أوصاف ربوبيته جلالا: فـ: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: فبكلماته الكونيات النافذة تجرى الأقدار الكائنة على ما علم الرب أزلا وسطر في اللوح قبل خلق العالم المشهود.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ: فذلك من ربوبية الجمال إذ لا ينفك بسط الرزق وقدره عن حكمة، فيبتلي الغني بالفقير ليؤدي حقه، ويبتلي الفقير بالغني ليكف شره، ولا يكون هذا التدبير بداهة إلا بعلم محيط نافذ: فـ: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فدلالة التدبير ولا يكون إلا بحكمة على العلم السابق دلالة لزوم عقلي لا تقبل الانفكاك، فالعلم سابق الإيجاد كما في قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، والعلم سابق التدبير، فلا بد أن يعلم من يدبر الأمر تفاصيله وطرائق تدبيره قبل أن يشرع في ذلك ولله المثل الأعلى.
ومن سياق تال:
ومن قوله تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز) ُ:
فهو اللطيف بعباده، لطف الإحسان بهم، ولطف العلم بدقائق أمورهم، فإن العلم سابق التدبير، فلا بد أن يعلم اللطيف حال من يلطف به ليوصل إليه من أوجه الإحسان ما يلائمه، فالمعنيان متلازمان ويكاد معنى العلم يكون لازما لكل معاني الصفات الإلهية: إيجادا وعناية، فلا خلق ابتداء إلا بعلم أول سابق، قدر به الرب، جل وعلا، المقادير، ثم أوجدها كما شاء، فظهر من إحكام صنعه وإتقان خلقه، ما قامت به الحجة على كل ذي لب، ولا عناية بالمخلوق إلا بالعلم بحاجاته وما يلائمه من أغذية نافعة سواء أكان ذلك غذاء الروح للعقلاء، أم غذاء الأبدان لكل حي حساس ذي إرادة وإن لم يكن ذا عقل يدرك، فنعمته، عز وجل، الكونية السابغة قد عمت كل الكائنات، فلطفه أثر من آثار جماله، يتجدد بتجدد آلائه، فيجري مجرى الصفات التي تتعلق بالمشيئة، فيحدث من آحاد تعلق لطفه العلمي بعباده ما يعلم به علما مواطئا للعلم الأول ما هم عليه من حال، وما يحتاجون إليه من الأزواد، فيجري فضلا أو يمنع عدلا، وفي كل تظهر آثار حكمته بالتدبير بسطا وقبضا، إعطاء ومنعا، فضلا عن ظهور آثار أوصاف جلاله، إذ خلق المتضادات
(يُتْبَعُ)
(/)
مئنة كمال قدرته، وذلك من معاني ربوبيته القاهرة، فامتن بالصحة والحياة ..... إلخ، وقهر بالمرض والموت ليظهر القدر الفارق بين وصف الرب، جل وعلا، ووصف العبد، فبينهما من الفارق ما بين ذات الرب القدسية وذات العبد الأرضية.
فهو اللطيف بعباده يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ: فذلك من الإطناب بتوالي الأخبار في معرض بيان وصف جماله، على حد الفصل لشبه كمال الاتصال فالمسند إليه واحد، قد أسند إليه الخبر الأول اسما مقيدا: "لطيف بعباده"، فليس على حد الإطلاق في نحو قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فدلالة: "أل" على استغراق عموم ما دخلت عليه من معاني اللطف الذاتي بالعلم والفعلي بالإحسان، صيرته على حد الإطلاق، فبه تثبت للرب، جل وعلا، كل دلالات الاسم المعنوية: تضمنا فهو اللطيف فلا تراه الأبصار في الدار الأولى ليقع بذلك تمام الابتلاء، وهو اللطيف العليم بدقائق الأمور، فاسمه اللطيف مقرون باسمه الخبير، فلا تدركه في الدار الأولى ولا تحيط به في الآخرة، وهو اللطيف الذي يرى ولا يُرى في دار الابتلاء وهو الخبير الذي يعلم دقائق أحوال عباده فذلك من التذييل الملائم لصدر الآية على نحو قد بلغ الغاية في الدقة والإيجاز، ثم جاء الإخبار بالمسند المضارع مئنة من تجدد رَزْقِه لعباده فيتجدد له من آحاد وصفه بالرَّزْق ما يتعلق بمشيئته العامة رزق فلان وفلان، فالمضارعة مئنة من الاستمرار والتجدد وذلك آكد في استحضار صورة المنة الربانية المتجددة، والبيان يناسبه الإطناب لا سيما في إثبات الصفات الإلهية، فالأصل فيه التفصيل، فتعدد الأخبار عن الله، عز وجل، في هذا السياق، من هذا الباب، وقد يحمل ذلك على التوطئة بالخبر الأول ففيه نوع إجمال، للخبر الثاني فبه يحصل تمام البيان، فكأن المخاطب قد طرق سمعه وصف اللطف فتساءل، وما حد هذا اللطف، فجاء الجواب بذكر لطف الإنعام بالأرزاق فلا يخصص عموم اللطف إذ هو من أفراده، فذكره جار مجرى التمثيل، وذكر بعض أفراد العام في معرض التمثيل لا يخصصه، وكما فسر جمع من المفسرين وصف اللطف بآثاره فذكر كل ما ظهر له منه، فلطف بالصحة، ولطف بالمال ..... إلخ، وأعظمها اللطف بنعمة الإيمان، فلا يخصص فرد من تلك الأفراد عموم الاسم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ثم ذيل بوصف الجلال بعد الجمال على حد القصر بتعريف الجزأين: وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ: ليكتمل للرب، جل وعلا، وصف الكمال جلالا وجمالا.
وفيه نوع احتراس لئلا يظن ظان أن لطفه بعباده عن عجز، بل هو الجميل بوصف ذاته، الجليل بوصف فعله، فليس عطاؤه عن ضعف أو عجز، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والقصر على جهة المبالغة، فكأن كل قوة وعزة دون قوته وعزته عدم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 05 - 2010, 10:11 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ:
فذلك مئنة من سعة عطائه عناية بالمؤمنين، بل وبالكافرين بإعطائهم حظهم العاجل من هذه الدار، فـ: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).
فتلك القسمة العقلية التي لا تحتمل شطرا ثالثا، فإن من أراد الدنيا للدين فليس بمريد لها حقيقة بل هو مريد للدين، ومن أراد الدين للدنيا فليس بمريد له حقيقة بل هو مريد للدنيا، فإيمان وكفر، ونفاق يؤول في حقيقته إلى الكفر فالظاهر طالب للدين والباطن طالب للدنيا، ولا يلزم من ذلك وقوعه على حد النفاق الكبر، وإنما المراد التمثيل بصورة تؤول فيها الاحتمالات العقلية إلى شطري القسمة الثنائية فهي القسمة الجارية على سنن التدافع بين حزب الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وحزب أعدائهم، فلأجلها خلق الخلق ليظهر فيه أثر وصف الرب، جل وعلا، فتؤمن به قلة مؤمنة، وتكفر به كثرة كافرة، فيقع الصدام لزوما وإن تهادن الفريقان حينا، فالسنة الكونية قاضية بوقوع المفاصلة والمناجزة، فيظهر من ذلك من آثار فعل الرب، جل وعلا، القدير
(يُتْبَعُ)
(/)
الذي ينصر عباده المؤمنين فذلك وصف جلاله، الحكيم الذي يدبر أمر الفريقين على نحو يظهر به كمال صفاته، فيبتلي المؤمنين عدلا، ويظهر الكافرين استدراجا ومكرا، ثم تكون العاقبة للرسل عليهم السلام وأتباعهم فيظهر أثر وصفه بالصدق إثباتا وعدم إخلاف الميعاد نفيا، فوصفه، كما تقدم، ثبوتي فهو مراد لذاته، سلبي بتنزيهه عن وصف النقص فهو مراد لغيره بإثبات كمال ضده.
ومن دقيق السبك القرآني أن جاء عموم وصف الرزق في الآية السابقة مجملا: "يرزق"، ثم ورد بيانه في هذه الآية فلأهل لدنيا أرزاقهم، ولأهل الآخرة أرزاقهم، فمن أراد كلاً على حد الشرطية المؤذنة بوقوع المشروط بوقوع شرطه فذلك مئنة من التلازم الوثيق بين الفعل وجزائه، وذلك أليق بإثبات فعل العبد بإرادة مؤثرة لا تخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية العامة، وإن خالفت إرادته الشرعية، فإن طالب الدنيا لذاتها مع خسة قدرها قد خالف مراد الرب الشرعي يقينا، فإن الدنيا لا يحمد طلبها إلا نصرة للدين باستعمالها في صيانته لا استعمال القوى والإرادات في صيانتها، فذلك من فساد التصور العلمي الذي يولد فسادا في الإرادة البشرية بتعلقها بسفاسف الأمور دون معاليها، فتلك خسة في الهمة القلبية تظهر آثارها على الأفعال البدنية فيصير هم المكلف تحصيل حظه وقضاء وطره من الدنيا قضاء الحيوان البهيم الذي لا يملك إلا قوى الحس والتخييل فبها يدرك المحسوسات التي يلتذ بها بلا غاية، فليس له قوة عقلية يدرك بها المآلات، فهمه تحصيل الشهوة الحالية، وهو، مع ذلك، غير ملوم، إذ لم يتوجه إليه خطاب التكليف وإنما يلام من سلك مسلكه مع كمال قوته العقلية التي يتعلق بها التكليف: معدن التشريف عند التحقيق للنوع الإنساني باصطفائه لحمل الأمانة وإقامة أمر الديانة.
فـ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ: فذلك من الوعد الجزيل، فإن الشكور يعطي على القليل الكثير، فمن أراد معالي الأمور زيد له فيها تفضلا وامتنانا من الرب الغني الحميد تبارك وتعالى، فيحمد الرب، جل وعلا، عمله، بالقبول، ويزيد له في الحرث فلا يخشى فقرا أو نفاد عطاء، فعطاؤه غير مجذوذ، ومسائل عباده وإن عظمت كيفا وكثرت كما لا تنقص من ملكه إلا كما ينقص المخيط من البحر، فلا تنقص شيئا، وإنما ضرب المثل إمعانا في بيان عظم ملكه وسعة عطائه.
وفي المقابل: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا: فذلك مئنة من حقر شأنها فنؤته مما تعجل من الحظوظ الناقصة التي لا تسلم من الأكدار، الفانية التي لا تسلم من الفساد، ولكل مقام مقال، ولكل همة متعلق، فهمة قد تعلقت بنعيم الآخرة الباقي فشمرت السواعد، وجدت في السير إلى مراضي الرب جل وعلا، وهمة قد تعلقت بنعيم الدنيا فقعدت بصاحبها عن طلب المعالي، فاكتفى بحظوظ بطنه وفرجه، وأحسن أحواله أن يتسلى بلذة رياسة أو وجاهة وهمية لا حقيقة لها إذ لم تكن على وزان الطريقة الشرعية.
وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ: على حد العموم لورود النكرة في سياق نفي مؤكد بمن فضلا عن تقديم ما حقه التأخير فذلك أبلغ في المساءة ببيان عاقبة التكالب على حظوظ الدنيا الناقصة فهو مظنة بل ذريعة إفلاس العبد من حظوظ الآخرة الكاملة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 05 - 2010, 07:37 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ: فذلك من حكمته، عز وجل، التي يحصل بها صلاح العالم، فذلك من عنايته بخلقه بانتظام كونه بأمره بتنزيل الأرزاق بقدر، وإن كان له من القدرة والغنى ما يعطي به كلا سؤله دون أن ينقص ذلك من ملكه شيئا، ولكن الحكمة تقتضي وقوع التغاير في المقدورات لتظهر آثار سنن الرب، جل وعلا، الكونية، وآثار صفاته، فهو الخبير بدقائق الأمور البصير بشئون عباده، فلا يشغله شأن عن شأن، بل يعطي كلا بحسبه، فيعطي الغني ليبتليه بالبذل، ويمنع الفقير ليبتليه بالصبر، فتظهر بالمتضادات آثار ربوبيته الكاملة إذ لكل سنته الكونية النافذة، ولكل سنته الشرعية الحاكمة فتتفاوت العبوديات بتفاوت الأعيان والأحوال صحة أو مرضا،
(يُتْبَعُ)
(/)
فقرا أو غنى ....... إلخ.
ومن قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ: فجاء الإخبار عن الضمير بالموصول على حد القصر والاختصاص بتعريف الجزأين فهو لا أحد سواه الذي ينزل ماء الغيث فذلك من أوصاف جماله، كما ينزل مطر السوء فذلك من أوصاف جلاله، فذلك على ما اطرد من قصر القلب لاعتقاد المخاطب استقلال غير الله، عز وجل، بالتأثير في الأحداث الكونية من إحياء أو إماته أو إغاثة بمطر .... إلخ كما قرر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالعباد بين الجمال فضلا والجلال عدلا، ونزوله بعد القنوط آكد في تقرير المنة في معرض العناية بالخلق، فينشر رحماته المخلوقة، فهي أثر صفة جماله: صفة الرحمة، وهي غير مخلوقة بداهة إذ هي وصف الخالق، عز وجل، فآحادها من هذا الوجه: متجددة لتعلقها بمشيئته العامة، فيحدث من رحماته المخلوقة بكلماته الكونيات ما شاء فماء طهور يغاث به العباد، وإجابة للمضطر بكشف السوء ....... إلخ من صور العناية بخلقه فكلها من رحماته التي نشرها في كونه.
ومن قوله تعالى:
وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ:
فذلك من دلالة الإيجاد ولا تخل من دلالة عناية إذ الدواب مما سخر للعباد فـ: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ: فليس له مفهوم ليقال بأنه لا يقدر على ما لم يشا، بل هو على كل شيء قدير فذلك منطوق يقدم على هذا المفهوم لو صح اعتباره، فالقدرة تتعلق بكل الأشياء، والشيء لا يكون إلا ممكنا، وبذلك أجيب عن شبهة: هل الله، عز وجل، قادر على المحال الذاتي كاتصافه، جل وعلا، بالنقص فذلك من المحال الذاتي بداهة فليس شيئا لتتعلق به القدرة، وإنما يفرضه الذهن فرضا في معرض التنزل مع الخصم، فالعلم يتعلق بالممتنعات فرضا، بخلاف القدرة فإنها لا تتعلق إلا بالممكنات.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 05 - 2010, 09:29 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ):
فجاء الإخبار عن الله، عز وجل، بالموصول، والمراد المعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو إنزال الكتاب والميزان فهي مئنة من عدله، عز وجل، والعدل معنى يستلزم الغنى، إذ الظلم إنما يكون فرعا افتقار الظالم إلى ما بيد المظلوم من العرض، وربما كان افتقاره إلى شهوة رياسة أو جاه، كحال رءوس الضلال من أرباب الملل والنحل الباطلة فإنهم يستأثرون بدنيا الأتباع برسم الديانة، فسيفهم سيف يقهر كل نفس إذ قد جبلت على التأله مع عظم جهلها إن لم تستضئ بنور الرسالات، ويوبقون مع ذلك أخراهم، وذلك بخلاف طريقة الأنبياء عليهم السلام الذين يبذلون الدنيا لطالبها تأليفا لقلبه واستئصالا لمادة الغل من قلبه، فليس فيهم شح أرباب الرياسات الذين يستأثرون بالوجاهات والشهوات، فما أتي من أتي إلا من قبل نفسه الطالبة لحظوظها سواء أكانت حظوظا بدنية محسوسة أم حظوظا نفسية معقولة، وكل من نصب نفسه طاغوتا برسم الدين أو الدنيا لا يرضى إلا بكمال التسليم والانقياد من الأتباع فلسان حاله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، فهو الحاكم المهيمن بقياس عقله أو وجدان ذوقه على أتباعه، فإن خرج أحدهم عليه ولو برسم التجديد أو الإصلاح لا المناقضة الصريحة لملته أو طريقته فإنه يلقى من البطش ما يلقى إذ قد نازع طاغوتا رياسته، ولا أشد على الطاغوت من ذلك، ولا أشرس منه في الدفاع عن كيانه الذي أقامه على خلاف منهاج النبوات، فهي كما تقدم مرارا أعظم منة ربانية فهي مئنة من كمال عنايته واصطفائه جل وعلا للنوع الإنساني، فإن لسان مقال الأنبياء عليهم السلام: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
(يُتْبَعُ)
(/)
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، ولذلك كانت نسبة أهل التوحيد: نسبة عالمية إلى دين الإسلام العام: دين الأنبياء عليهم السلام، الذي جمع الرب، جل وعلا، خلاصته في الدين الخاتم المصدق لما بين يده من الدين النبوي الواحد، الناسخ لشرائعه بشريعته التي جمعت كمال ما سبقها من الشرائع، والشاهد أن معاني العدل التي يدل عليها إنزال الكتاب بمحكم الآيات، والميزان ليقوم الناس به، فبه قامت السماوات والأرض، تناقض معاني البغي والطغيان، وتلك معركة الرسل مع أعدائهم فالرسل عليهم السلام يدعون إلى العدل الإلهي بإعطاء كل ذي حق حقه، فلا تفريط ولا إفراط، والطواغيت يدعون إلى الجور فالرسالة تعزلهم من مناصبهم وتقطع أرزاق السحت التي أجريت عليهم برسم الديانة أو الرياسة، فالرسالة تصيب أعدائها في مقتلي: شهوة النفس وشهوة الجسد فالنفس قد جبلت على الطغيان فرعا عن فساد التصور فتظن كمالها وضده من النقص الذاتي اللازم قائم بها على حد قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فجاء بفعل الرؤية العلمية مئنة من شدة تيقنه من ذلك مع بطلانه في نفس الأمر فذلك آكد في بيان فساد تصوره إذ اعتقد على حد الجزم والتحقيق ما هو خلاف الحق الصحيح!، وذلك مئنة من عظم الخذلان، إذ قد بلغ الفساد في القوة العلمية مبلغه فتولد عنه من فساد الحال ما جعل صاحبه ينتحل الباطل الصراح الذي لا يشهد له نقل أو عقل، وإنما محض تقليد للرءوس، بل ويذب عنه، فهو من جنده المخلص، وما ذلك إلا من شؤم خفاء آثار النبوات التي تصحح التصورات العلمية والإرادات العملية فتجري على ما يرضي الرب، جل وعلا، فلصاحبها من صلاح الحال بموافقة الفطرة التوحيدية الأولى التي تسكن ثائرة النفس وشكوكها وهواجسها وتقطع حبال وساوسها التي لا تنتهي، وصلاح المعاش بانتظام أمر الحياة على منهاج أحكام الرسالة، أعدل الأحكام باعتراف أعداء الرسالات، وصلاح المآل إذ صلاح الدنيا بالدين وسيلة إلى صلاح الآخرة به، فهو مادة صلاح البدن والروح معا، وهو معدن السعادة المفقودة في دار الابتلاء وإن عظمت الخطوب وفي دار الجزاء حيث لا حزن ولا هموم.
ولذلك كانت النبوات، كما تقدم، أعظم نعمة ربانية على النوع الإنساني فبها عرف السالك معالم طريق الهجرة إلى الرب، جل وعلا، فلولا الرسل، عليهم السلام، ما عبد الله، جل وعلا، ولولا الرسل ما استقام أمر هذه الدنيا، بل لولا الرسل ما أبقى الله، عز وجل، هذه الأرض، فإنها لا تفنى ما قيل فيها: لا إله إلا الله، ولم تعرف البشرية تلك الكلمة إلا من مشكاة النبوات فهي دعوة الرسل العامة، وهي التي قامت سوق الجهاد لأجلها بين حزب الرسل عليهم السلام وأتباعهم من الموحدين، وحزب أعداء الرسالات وأتباعهم من الكفار المكذبين، فإذا شاء الرب، جل وعلا، خراب أرض قطع ذكره منها، فلم يعد يقال فيها الله الله، أو أمر مترفيها بقضائه الكوني النافذ فأهانوا اسمه أو وصفه، لتظهر بذلك آثار أوصاف جلاله القاهر، فتحل نقمته على أولئك إذ آسفوه فاستوجبوا انتقامه، فصلاح هذا العالم ببقاء الرسالة أو آثارها، فلن تعدم أرض فيها ذكر الرسالات، ولو مبدلة، من بركة بها تحفظ، فكيف بأرض قد ظهرت آثار الرسالة المحفوظة فيها، أليست أولى بالحفظ والصيانة بمقتضى قضاء الرب، جل وعلا، وسنته الجارية في كونه، ولذلك كان إظهار الشعائر، ولو اختلف في وجوبها كالأذان فإن من أهل العلم من قال بأنه سنة مؤكدة، ومنهم من أوجبه على الكفاية، كان إظهار تلك الشعائر علامة فارقة تتمايز بها دور الإيمان من دور الكفران، فيظهر في الأولى من بركتها ما لا يظهر في الثانية، ولذلك اتفق كل العلماء مع اختلافهم في حكم تلك العلامات الفارقة هل هي واجبة أو مستحبة، اتفقوا على وجوب تعزير من عطلها إن كان واحدا أو جماعة غير ذات شوكة، أو قتال من عطلها إن كانوا جماعة ذات شوكة، إذ لو سلم بأنها من السنن غير الواجبة ما جوز ذلك تركها بالكلية فإن ترك المستحب بالكلية مئنة من نقص في دين ومروءة التارك وذلك ما يوجب تعزيره، فالمستحب إن تركه الفرد بالكلية لحقه الذم وعليه يحمل قول الإمام أحمد في تارك الوتر، فهو سنة واحدة
(يُتْبَعُ)
(/)
من جملة متكاثرة من السنن، ومع ذلك استحق المداوم على تركها الذم وإن لم يستحق العقاب الشرعي المقدر لكون الوتر غير واجب على الراجح من أقوال أهل العلم، فكيف بتارك جملة من السنن، بل كيف بتارك جنس السنن، بل كيف بمن تعدى إلى التفريط في الواجبات وذلك كائن لا محالة بالتفريط في المندوبات فهي السياج الحافظ للواجبات فمتى اخترق اخترق ما بعده بداهة كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وقل مثل ذلك إن كان الترك جماعيا فهو مما تذم به الجماعة فلو تواطأت على ترك مندوب، أو حتى مباح كالزواج لصارت أهلا للذم والإنكار إذ ذلك مؤد لا محالة إلى فساد أمر الجماعة وذلك نقيض مراد الشارع، عز وجل، من سن الأحكام وإنزال الشرائع، وبعث الأنبياء عليهم السلام، فرحمتهم التي عمت الموافق والمخالف، هي كما تقدم، مادة صلاح هذا الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ: فذلك دال على محذوف دل عليه السياق اقتضاء إذ ذكر الكتاب والميزان مئنة من وجوب العدل في الأقوال والأفعال، فإذا سأل السائل عن علة وجوب ذلك فالجواب: اعمل بذلك الميزان لعل الساعة قريب وأنت لا تشعر فكن منها على حذر وكن من ساعتك التي تنزل بك إذا حان الأجل على حذر، فذلك من التلازم الوثيق بين أمر الربوبية إذ تتضمن إنزال الكتب وإقامة موازين العدل وفق ما جاءت به النبوات فلا عدل يرتجى في غير أحكامها، ومن وافقها ففرع لا يحتج به على أصل إذا خالف، ولا يفرح به إذا وافق إن كان يعتقد أنه الأصل والنبوة فرع عنه! كما يقع من كثير من العلمانيين الذين يرومون تسوية الشرائع على أهوائهم بإسقاط ما لم ترتضه عقولهم أو أذواقهم مع نقصها الجبلي وفسادها الذي عرض لها بمخالفة النبوات، فالنقص فيها ذاتي لازم فكيف وقد طرأ عليها الفساد بمخالفة شريعة رب العباد؟!.
ثم بين حال المكلفين مع الساعة على حد السبر لأوجه القسمة العقلية قسمة: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، فإن حال الأولين قد دل عليه معنى التجدد والحدوث في المضارع:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا: فذلك من فساد تصورهم العلمي الذي أنتج تلك الحركة القلبية الفاسدة فصار رسمهم الاستخفاف على حد: (ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فهو مئنة من الاستهزاء والمكابرة
وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ: فذلك جار مجرى طباق السلب إمعانا في بيان اختلاف الحالين فرعا عن اختلاف التصور العلمي لكليهما، فالأولون قد جهلوا فتولد من ذلك ما تقدم من فساد الإرادة القلبية وعنها تتولد أجناس من الفساد العملي تظهر لا محالة على جوارح كل كافر مارق، والآخرون على الضد من ذلك فقواهم العلمية المكتملة قد أنتجت حركة قلبية نافعة، فالمؤمن مشفق لا على حد اليأس والقنوط، وإنما على حد: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"، فهو الخوف الإيجابي الذي يولد في النفس همة تحمل صاحبها إلى معالي الأمور وتحجزه عن سفسافها، فليس خوف اليائس العاجز الذي أقعده القنوط عن العمل إذ أساء الظن بالرب الكريم الشكور، جل وعلا، فحاله على الضد من حال من غرته الأماني فأساء الظن بالرب ذي الجلال والجبروت فلم يحسن دعاءه بوصف جلاله الذي يحمل العبد على الكف، فتطهر نفسه وتصير محلا قابلا لآثار أوصاف الجمال من الفعل طلبا لمغفرة الرب، جل وعلا، ورحماته الكونية والشرعية السابغة، فرحمته قد عمت فيوضاتها الدارين: فرحمة عامة بالخلق في دار الابتلاء وأولى الناس بها أهل الإيمان وإن حجبت عنهم فتمحيصا لقلوبهم إذ العقبى لهم لا محالة فذلك وعد الرب جل وعلا الصادق: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، ورحمة خاصة بالمؤمنين في دار الجزاء فهي تأويل آثار صفات جماله بإكرام أوليائه.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم جاء التذييل بالنكير: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، على من مارى وجادل في أمر الساعة وهي من الظهور بمكان إذ قد أقام الرب، جل وعلا، عليها من الأدلة النقلية والعقلية والحسية ما أزال كل شبهة ودحض كل حجة، فأقيم الدليل من نفس المستدل الذي يموت ويبعث في كل يوم وليلة، فالموتة الصغرى دليل حسي على الموتة الكبرى، والبعثة الصغرى دليل حسي على البعثة الكبرى.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 05 - 2010, 08:01 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)
فذلك من تقديم ما حقه التأخير على ما تقرر من دلالة ذلك على الحصر والتوكيد في المواضع التي يحسن فيها التوكيد ومن آكدها مقام إثبات الربوبية بدلالة الإيجاد المعجز أو العناية بالنعم الربانية السابغة، فتلك مظنة التفرد إذ هي من خصائص منصب الربوبية وهو منصب لا يقبل الشراكة لئلا يفسد أمر الكون بتعدد أربابه، فإن لكل رب شرائع وأحكاما يخضع بها عباده تألها وديانة، وإن ادعى خلاف ذلك بلسان مقاله، فإن لسان الحال قاض بأن من سن شرعا ينازع به الملك، عز وجل، منصب التشريع، وهو من أخص وظائف الربوبية، فهو طاغوت يدعو الناس إلى الطغيان ومجاوزة الحد فيه متبوعا على جهة التسليم والانقياد ولو خالف حكمه حكم الرب الشارع ذي الجلال والجمال، فالشرائع لا تخلو من جلال تظهر به آثار أوصاف الرب القاهر الجبار، تبارك وتعالى، فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، فكتابته على حد التشريع من الجلال الذي تحفظ به الأبدان بحسم مادة التعدي على النفوس قتلا أو جرحا، ولا تخلو مع ذلك من وصف جمال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)، فمن عفى عن حقه الخاص، فله ذلك صيانة لدم القاتل، وإن استحق السفك، فإن رأى الإمام المصلحة الشرعية المعتبرة في تعزيره ولو بالقتل لكونه سفيها لا يقيم لدماء الناس وزنا، فله ذلك، فيعدل عن وصف الجمال إلى وصف الجلال، إذ الموضع لا يحتمل لينا قد يفسد، بل الشدة هي التي تحسم هذه الأدواء فينزجر من تسول له نفسه التعدي على الحرمات بسيف الشريعة الزاجر، فمقام الربوبية مقام موصل إلى المراد بذاته: مقام إفراده، عز وجل، بالألوهية تعبدا وتشريعا، فمن آياته: الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ على تقدير مضاف: فالجوار وصف أقيم مقام موصوفه على ما اطرد في لسان العرب من حذف الموصوف وإقامة الوصف مقامه، فيكون في السياق إيجاز بالحذف، وهو: مجاز عند من يجوز المجاز في لسان العرب عموما أو في الكتاب العزيز خصوصا، ومنكره يجري على قاعدته بأن السياق قد دل على المراد ابتداء فلا حاجة إلى تكلف القول بالمجاز، فضلا عن كونه أمرا قد تكلمت به العرب واطرد في لسانها وهو الفيصل عند وقوع النزاع، فجريانه على لسانها قد صيره حقيقة، وإن لم يكن حقيقة بأصل الوضع، على القول بأن اللغة وضعية، أو بالدلالة المعجمية للكلمة، فإن الجريان لم يوضع للدلالة على السفن وإنما وضع للدلالة على عرض يعرض لها ولغيرها، فالشمس تجري والقمر يجري والماء يجري والريح تجري والراكض يجري، ولكل جريانه الذي لا يشتبه على أحد لدلالة القيد الرافعة لإجمال الاشتراك المعنوي في أصل المعنى، فمادة الجريان المطلقة تدل على نوع بعينه من الحركة، يوجد في الذهن مطلقا فإذا قيد بموصوف خارجه زال الاشتراك بتعين المراد، إذ القيد رافع لاحتمال ما سواه، فجريان الفلك رافع لاحتمال جريان غيرها إذ التقييد بها جار مجرى الفصل في حدود المناطقة فيخرج ما سوى المحدود، وهذا أصل في كل المعاني المطلقة والمقيدة، فإن كل معنى في الخارج إنما هو معنى كلي مطلق في الذهن يرد عليه القيد الخارجي فيرفع إجماله،
(يُتْبَعُ)
(/)
على ما تقدم بيانه، فلا بد من قدر مشترك في أصل المعنى به تدرك المعاني، وقدر فارق خارج الأذهان تدرك به الحقائق، فحقائق الأعيان والأوصاف خارج الذهن متباينة، فحقيقة زيد غير حقيقة عمرو، وحقيقة علم زيد غير حقيقة علم عمرو، وإن اشتركا في المعنى الكلي للعين، فالذات المطلقة معنى يقبل الشراكة لعدمه في الخارج، فلا يوجد مطلقا إلا في الذهن، فيقبل توارد الشركاء عليه بلا إشكال فإذا حصل التقييد في الخارج امتاز الشركاء فباينت ذات عمرو ذات زيد، وقل مثل ذلك في الصفات فالعلم وصف كلي مطلق يرد عليه القيد الخارجي فتمتاز أفراده خارج الذهن فعلم زيد غير علم عمرو ..... إلخ، وذلك ما احتج به مثبتو الصفات الإلهية على الوجه اللائق برب البرية، جل وعلا، فردوا به على أهل التأويل والتفويض، فلا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي تشبيه ليؤول أو يفوض معناه مع ظهور دلالته، فلا يقول أحد بأن العلم إذا أضيف إلى الرب، جل وعلا، أو أي صفة أخرى معنوية كانت كالبصر أو خبرية كالعين، فإنها بهذه الإضافة تفقد دلالتها المعنوية التي يدركها العقل بقطع النظر عن الحقيقة الخارجية فذلك مما استأثر الرب، جل وعلا، بعلمه، بل يثبت معناها وتفوض حقيقتها إلى العالم بها، تبارك وتعالى، فذلك التفويض الجائز في هذا الباب لا تفويض أصل المعنى المفضي إلى تعطيل دلالات ألفاط النصوص على معانيها وهو ما يفتح باب شر قد يلج، بل قد ولج منه الباطنية، فأولوا ما شاء من النصوص مع ظهور دلالات ألفاظها على معانيها بزعم أن لكل نص ظاهرا يدركه العوام وباطنا لا يدركه إلا الخواص، فأنكروا بدائه العقول وخرجوا عن مقتضى الشرع واللسان، فأولوا الأخبار والأحكام على حد سواء فصارت الأحكام عندهم مع ظهور دلالاتها وبيان الشرع لحدودها وأركانها صارت مجرد معان رمزية تدل على معان باطنة لا تمت لظواهرها بصلة وحجتهم في ذلك تأويل المتكلمين للأخبار الإلهية وبعضهم تعدى هذا الحد كالمعتزلة فأولوا السمعيات كأخبار دار الجزاء من صراط وميزان وحوض ..... إلخ، وإن أثبته بعضهم، على تفصيل في ذلك، فإذا كان أولئك قد خاضوا في الإلهيات وهي أكثر عددا وأشرف قدرا من الحكميات العملية فما المانع من تأويل أحكام الشريعة الظاهرة، وحجتهم في ذلك أيضا تسليم المفوضة بعدم دلالة الألفاظ على ظواهرها، فاشتركوا معهم في نفي دلالة اللفظ على ظاهره أو التوقف في ذلك، فاجترءوا على النصوص لما أحجم أهل الحق عن إثبات معانيها، فلم يقم عليهم أحد في هذا الباب حجة دامغة مطردة إلا أهل السنة المثبتون لمعاني الصفات أيا كان نوعها، المفوضون لحقائقها فلا يعلم كيفيتها إلا المتصف بها، جل وعلا، فالمعاني محكمة، والكيفيات متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، وأهل الرسوخ يسلمون بذلك فكل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب.
وإنما جاء النعت بصفة الجريان لكون ذلك محط الفائدة في هذا السياق فإن وجه العناية والامتنان في هذا الموضع هو جريان الريح، وذلك مما يعم نفعه في البحر والبر، ففي البحر يرسلها الرب، جل وعلا، فتسوق الفلك إلى موانيها، وفي البر يرسلها الرب، جل وعلا، لواقح للأزهار فتنتج الثمار المطعومة والبذور المزروعة. وذلك من إحكام صنع الرب، جل وعلا، أن هيأ الأسباب وأجراها لإيقاع مسبَّباتها على نحو تظهر به آثار وصف حكمته في تدبير شأن خلقه، فيدبر السفن في البحار بإرسال الريح، فينتفع العباد في انتقال الأبدان والبضائع والمؤن فيحصل بذلك من الاتصال بين البشر على اختلاف أجناسهم ما تتحقق به سنة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فيمتاز التقي من الغوي، ويظهر التباين بين الأديان والأخلاق والأعراف، فتقع سنة التدافع الكونية لا محالة لتباين أمزجة البشر، وذلك أمر مشاهد في البقعة الواحدة فكيف بالبقاع المتعددة، فالأحوال والأجواء قد بلغت من التباين بل التناقض أحيانا ما قد علم، فللقرى أخلاقها، وللمدن أخلاقها، وللبلاد الباردة عوائدها وأمزجتها، وللبلاد الحارة من ذلك ما يخصها، ولأهل كل بلد عرف يخصهم، ولأهل كل دين
(يُتْبَعُ)
(/)
أعياد وطقوس لا يشركهم فيها غيرهم إلا على سبيل المجاملة الباردة في محافل الحوارات الوهمية بين الأديان السماوية، ولا يفصل النزاع بين تلك المتضادات الكونية والشرعية إلا كتاب منزل، فلا يحسم مادة الخلاف في الشرعيات إلا النبوات فهي المعيار العام الذي توزن به العادات والأخلاق والأعراف، ولذلك قرر علماء الأصول في معرض بيان دلالة العرف على الأحكام بأنه لا اعتبار لعرف يصادم نص الشرع، فاصطلاح الناس على الفجور لا يصيره برا، واصطلاحهم على مباشرة الموبقات من تناول مسكرات ومقارفة فواحش لا يصيرها منجيات أو مباحات، ولكل أمة عقلها الجمعي، بل لكل مدينة أو قرية عقل جمعي يميزها عن بقية البقاع فقرية كذا قد اصطلحت على عرف كذا ..... إلخ، فلو رد الأمر إلى العقول لعطلت الشرائع، كما هو الحال في زماننا، فإن كلا يسن ما يروق له من الأحكام، ويتصرف فيها بالتعديل حذفا وإضافة متى شاء ليحقق منفعته الخاصة ولو بإهدار المنفعة العظمى العامة، فلا اعتبار في شرع الأفراد إلا لمصالحهم القاصرة، فذلك فرع عن افتقارهم، فيحدثون ما يحتاجون إليه لحفظ رياساتهم ووجاهاتهم، دينية كانت كما اطرد في طرائق باباوات وقساوسة الكهنوت الذين يحكمون ما شاءوا وينسخون ما شاءوا ويحدثون ما شاءوا فهم نواب المسيح عليه السلام في الأرض على حد الاستقلال فلا يقدر على مراجعة أحكامهم أو نقضها، فأحكامهم لا تقبل النقض! فذلك رسم الطغيان والجور في الأديان المبدلة والطرائق المحدثة كما وقع ذلك من غلاة الإسلاميين في الأئمة والأشياخ فنزلوهم بلسان الحال وبعضهم بلسان المقال منزلة الأرباب التي تضع الشرائع والطرائق العلمية والعملية ولو على خلاف الرسالة السماوية، فشيخ الطريقة أعلم بحال كل مريد فلكل ما يلائمه من الأذكار والرياضات ليصح سيره على الطريق فيكون سالكا على رسم طريقة كذا إلى ما سبقه إليه المحققون الذين وصلوا إلى منازل لا يعلمها إلا الله، فبعضهم تخطى بولايته مرتبة الرسالة والنبوة، وبعضهم خاض بحارا لم يخضها الأنبياء عليهم السلام ولعلهم خافوا البلل!، ولا اعتبار في تلك الطرائق للرسالة إذ أصحابها من الجفاة في حقها الحاطين من قدرها وإن أظهروا بلسان مقالهم تعظيمها، فإن تلك دعوى لسانية تكذبها القرائن الحالية، فكل يدعي موافقة الكتاب والسنة وهو ينقضهما نقضا بأذكاره وأحواله، والقدح في مقام النبوة أمر قد اجتمع عليه كل محدث في الديانة وإن اختلف الطرائق الحادثة، فذلك، كما تقدم، فرع عن تباين العقول واختلافها فعقل فلان يستحسن ما لا يستحسنه عقل فلان، وذوق فلان يستحسن ما لا يستحسنه ذوق فلان، والسر في كل تلك الطرائق الحادثة سواء أكانت مللا أم نحلا: طغيان الرءوس ومنازعتهم للرب، جل وعلا، منصب التشريع، فهم أنداد له فيه، واختلاف وتباين العقول والأذواق، والحط من قدر النبوات بتقديم العقل أو الذوق عليها فتلك مفاتيح أي ضلال علمي أو عملي في أمر الديانات، وقل مثل ذلك في السياسات الجائرة فإنها الشطر الثاني الذي تظهر فيه هذه المعضلة، فطغيان ساسة الجور من جنس طغيان كهنة الأديان، وإن كان طغيان كهنة الأديان أعظم وأظلم لكونه صادرا باسم الديانة ولها من التعظيم في النفوس ما يحمل التابع على السكوت ولو كان في سكوته ضياع لحقه بل ربما آدميته فتلك ضريبة الخلاص!، بخلاف طغيان ساسة الجور فإنه صادر باسم الدنيا فلا يلقون من التأييد ما يلقاه الأولون، فالمؤيدون لهم في سياساتهم الجائرة فئة قليلة من المنتفعين تحيط بهم وتزين لهم ما يحفظ رياساتهم ووجاهاتهم ومكاسبهم الزائلة، فأهل السياسة يحطون من قدر النبوات، وإن أظهروا لها التعظيم في الأعياد والموالد، فيعارضونها بمعقولهم الذي لا يعتبر إلا المصلحة العاجلة ولو كان فيها تفويت لمصلحة آجلة أعظم، فذلك من سوء تقدير كل من خالف التنزيل، وليس لهم عناية بأمر الجماعة، فالمصلحة الخاصة مقدمة على المصلحة العامة ولو أدى ذلك إلى اضطراب أمر الجماعة، فلا يعنيهم إلا ما يحفظ لهم رياساتهم ولو فسد أمر الجماعة التي ابتليت بهم!، وليتهم أصابوا في ذلك بل وقعوا في عين ما يهدد عروشهم لو تدبروا، وذلك، أيضا، من شؤم مخالفة التنزيل، فالمعايير فاسدة وذلك مئنة من فساد القول أو الفعل الصادر عنها.
(يُتْبَعُ)
(/)
فلا يحسم هذا النزاع كما تقدم إلا نبوة، ولذلك كان على من يدعو الناس إلى الحق المؤيد بالوحي أن يعتبر ذلك التباين في أخلاق وعادات الناس فإنه لا بد أن يصطدم الحق بالباطل، بل لا بد أن يعلو صوت الباطل ابتداء فتلك سنة الابتلاء الجارية، فإن لم يصبر الداعي على الابتلاء، أو أحس في نفسه الجزع يقينا، فخير له أن يعتزل الناس فلا يتصدى لما ليس له بأهل , ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، والنفوس أوعية تتفاوت سعة في معرفة الحق وصلابة في تحمل تبعاته.
فمن آياته تلك الجواري على ما تقدم بيانه فهي كالأعلام في ظهورها وبروزها طافية على سطح الماء، وذلك من دلائل إحكام سننه الكونية فقوانين الطفو قوانين محكمة يدل اطرادها على إتقانها ولا يكون ذلك الوجود المتقن إلا مئنة عن مبدع أول ليس على طريقة الفلاسفة الذين جعلوه وجودا مطلقا فجردوه من صفات الكمال إلا العلم البسيط لا الدقيق، على قول بعض محققيهم، فذلك إلى الخيال أقرب، فلا وجود له في الحقيقة، وإنما المبدع الأول لهذا الكون كما نطقت الرسالات هو الرب، جل وعلا، المتصف بكمال أوصاف الذات والأفعال أزلا وأبدا، وشتان المبدعان: المبدع عند الفلاسفة، والمبدع عند الأنبياء عليهم السلام، فالتباين بينهما فرع عن التباين بين الفيلسوف الحائر المنقاد لأوهام العقل، والنبي الصادق المنقاد لأمر الشرع.
فـ: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ: فذلك مئنة من عموم قدرته فملك الريح كسائر الجند العلوي عامل بأمره الكوني ممتثل لأمره الشرعي على حد التسيير، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإن أمروا بإمساك الريح أمسكوا وإن أمروا بإجرائها أجروها نعمة أو نقمة كما وقع لعاد لما كذبت صالح عليه السلام، فدقت الريح أعناق المكذبين.
ثم جاء التذييل على حد التعليل، ففصل عما قبله لشبه كمال الاتصال بينهما، إذ تولد السؤال في ذهن المخاطب عن سبب الإشارة إلى تلك الآيات الكونية الباهرة التي تدل يقينا على انفراده، جل وعلا، بمنصب الربوبية، فجاء الجواب بلازم ذلك من واجب الألوهية فـ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ: فهي آيات تحمل المكلف على الصبر حال الشدة فهي من آثار أوصاف جلاله، والشكر حال النعمة فهي من آثار وصف جماله، ولكل وصف رباني كامل ما يقابله من الواجبات الشرعية على اختلاف درجات مشروعيتها، فلا يفوت العاقل على نفسه أجر الواجب والمندوب فالمدح لهما لازم، والمباح فالمدح له عارض إن وفق العبد إلى استحضار نية صالحة يتلذذ بها بالمباح مع أمن العاقبة بل مع حسنها بما يحصل له بالنية أو النوايا إن كان يحسن التجارة مع أغنى الشركاء جل وعلا. فالتذييل بهذين الوصفين قد استوفى شطري القسمة العقلية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالعبد لا ينفك عن جملة نعم متكاثرة هي الأصل لكل من نظر في حاله، وإن صادف من البلاء ما صادف، فإنه إن نظر إلى من هو دونه ممن عظمت بليته وقلت حيلته، مع تمام صبره ووفور عزمه، وإن كان طفلا صغير العمر ضعيف القوى كما هو مشاهد في كثير من الحالات الإنسانية التي تبتلى فيها الزهور بآفات لا تقوى أعظم الأجساد على احتمالها ولا تجد مع ذلك إلا صبرا يثير العجب!، إن نظر إلى أولئك الصابرين علم قدر ما هو فيه من نعمة وسعة، فذلك مئنة من كمال عنايته، عز وجل، التي عمت الصحيح والمبتلى، وللرب، عز وجل، ألطاف خفية بعباده، ولكنهم قوم يستعجلون فلا يصبرون على المحن التي تصير بالصبر والرضا منحا فيستخرج الرب، جل وعلا، بها من نفس العبد مواهب إيمانية نادرة ما كانت لتظهر لولا ورود الابتلاء الذي هيجها على الظهور فظهرت، وسؤال السلامة من الابتلاء ابتداء مسلك كل عاقل فلا يقوى أحد على الصمود للقدر الكوني إلا إن شاء له الرب العلي الثبات، وليست الدعاوى في أزمنة العافية بمغنية عن صاحبها شيئا في أزمنة الابتلاء.
(يُتْبَعُ)
(/)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا: فذلك من وصف جلاله، فإن شاء أهلك السفن أو الجماعات التي تقلها على القول بعود الضمير على الأفراد بالنظر إلى معنى الجماعة، فذلك مما يجوز الإخبار عن المذكر بالمؤنث، إذ ضمن معنى مؤنثا على سبيل المجاز، على وزان قول أحد الأعراب: جاءته كتابي فلما روجع في ذلك قال: أليس بصحيفة، وفي لسان العرب في مادة "كتب": "وحكى الأَصمعي عن أَبي عمرو بن العَلاء أَنه سمع بعضَ العَرَب يقول وذَكَر إِنساناً فقال فلانٌ لَغُوبٌ جاءَتْهُ كتَابي فاحْتَقَرَها فقلتُ له أَتَقُولُ جاءَته كِتابي؟ فقال نَعَمْ أَليس بصحيفة؟ ". فضمن المذكر معنى مؤنثا فصح إسناد الفعل إليه على حد التأنيث، وعكسه كائن في نحو قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، على القول بتضمين الرحمة المؤنثة معنى الإحسان المذكر فيكون ذلك من باب تفسير الصفة بأثرها، فالإحسان غير الرحمة، إذ هو من لوازمها، ولوازم الشيء غيره بداهة.
وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ: فذلك وصف جماله، فيعفو عن خلق كثير مع استحقاقهم العقوبة وهذا أمر مشاهد في كل الأعصار والأمصار، فالرب، جل وعلا، يحلم عن العصاة الذين سبق في علمه رجوعهم إلى الجادة، ويصبر على مردة الكفار فيوفيهم أجورهم في هذه الدار فلا يظلمهم منها شيئا، فـ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وذلك من تمام عدله بل فضله إذ أسبغ عليهم نعمته الكونية العامة متعلق وصف رحمته العامة: رحمة الرحمن وحجب عنهم نعمته الشرعية الخاصة متعلق وصف رحمته الخاصة: رحمة الرحيم، فعاملهم في الكون بالفضل وعاملهم في الشرع بالعدل، فلا ينفك العبد عن التقلب بين فضل وعدل الرب، جل وعلا، فهو في أمن من الظلم، وإن كان أعتى العصاة وأكبر المجرمين.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ: على الرفع استئنافا عند بعض القراء فيكون ذلك من قبيل التذكير بوصف جلال الرب في معرض الترهيب من الجدال في آياته بغير علم.
أو النصب على تقدير دخول لام تعليل على فعل محذوف فيؤول السياق إلى نحو: لينتقم منهم ويعلم، فتكون الواو من قبيل واو الصرف التي صرفت الفعل عن حكم ما قبله فلم تعطفه عليه، إذ لو عطف عليه لجزم، وإنما عطفته على معنى متصيد من السياق كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وأشار أبو السعود، رحمه الله، إلى وجه ثالث لطيف إذ قرئ بالجزم عطفا على ما تقدم، فيكون ذلك من قبيل استيفاء القسمة العقلية بجعلها ثلاثية: فينتقم من طائفة ويعفو عن ثانية ويحذر ثالثة فيعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مهرب فيحملهم هذا التحذير بإيراد الوعيد على الكف عن الجدال في الآيات بغير علم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 05 - 2010, 07:58 ص]ـ
ومن سورة الرعد:
ومن قوله تعالى:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ:
فـ: من رب السماوات والأرض: الذي يدبر أمرهن، فالاستفهام على جهة استنطاق الخصم بالحجة، فهم مقرون بذلك ضرورة، فافتقار هذا العالم إلى أول صدر عنه صدور المخلوق من خالقه، فهو الأول فليس قبله شيء، لم يقترن بوجوده الأول على جهة الانفراد والإطلاق فلا قيد لأوليته، لم يقترن بوجوده ذلك: وجود، بل: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ"، فخلق الخلق بعلة مؤثرة تامة هي كلمته التكوينية النافذة، فرعا عن كمال أوصافه، فكمال فعله فرع من كمال وصفه، فخلق بفعل الخلق القائم به قيام الصفة بالموصوف، فرعا عن كونه الخالق
(يُتْبَعُ)
(/)
الأزلي، المتصف بكمال الخالقية، فهو الخالق، وإن لم يخلق شيئا، فله كمال الوصف ابتداء، وإن لم يصدر منه الفعل إلا تاليا متعلقا بمشيئته النافذة على سبيل التجدد الذي به يتكرر الفعل بتكرار المخلوقات، على حد قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) فلكل كائن: كلمة تكوينية مؤثرة بها يكون فيصير وجودا في الخارج يتعلق به العلم الثاني، علم: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ): علم الظهور والانكشاف لما سطر في الكتاب الأول إقامة للحجة وإناطة للثواب والعقاب بأفعال وجودية، بعد أن كان عدما يتعلق به العلم الأزلي الأول، علم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فالعلم المحيط سابق الخلق الحادث، إذ لا يكون خلق بلا علم، فدلالته على العلم دلالة لزوم عقلية لا تنفك عنه، كدلالته على الحياة، فإنه لا يكون خلق إلا من حي، إذ كيف يهب الحياة من لا يتصف بها؟ فهو المتصف بأكمل صورها من باب أول، على حد قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
فجاء الاستفهام عن رب النوعين، فالسماوات يراد بها جنس السماء في مقابل جنس الأرض، فذلك من قبيل الجمع الذي أريد به واحد، كما حكى ذلك الفراء، رحمه الله، في "معاني القرآن"، فالسماوات بمعنى السماء في مقابل الأرض، أو يقال بأن: "الأرض" هي جنس الأرض فتعم سائر الأرضين، فيكون ذلك على الضد من الأول فهو من المفرد الذي أريد به الجمع، ويشهد للأول قوله تعالى: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، فلم يقل: وما بينهن، فثنى بالنظر إلى الجنسين: جنس السماء وجنس الأرض، ويشهد للمجموع قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، فذلك نص على تنزل الأمر كونيا كان أو شرعيا، فـ: "أل" مئنة من العهد من جهة كونه صادرا عن الرب، جل وعلا، فهو أمر بعينه يباين أوامر غيره، تبارك وتعالى، ومئنة من الاستغراق الجنسي لعموم ما دخلت عليه فيشمل الأمر التكويني النافذ، والأمر التشريعي الحاكم، فيتنزل على جهة التكرار الذي دلت عليه صيغة: "يتفعَّل" بينهن باعتبار المجموع، فسبع سماوات تقابلها سبع أراضين.
ثم جاء الجواب: قل: الله، فالمسند قد حذف لدلالة السؤال المتقدم عليه، فتقدير الكلام: قل الله رب السماوات والأرض، فالله، عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، رب السماوات والأرض، يقول ابن كثير رحمه الله:
" {الله} عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وفي الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة) ". اهـ
(يُتْبَعُ)
(/)
فضلا عما يدل عليه وصف التأله الذي اشتق منه اسم: "الله" على جهة ملاقاة الأوصاف للمصادر التي أخذت منها لا على جهة الاشتقاق الذي يوهم الحدوث، فأسماؤه، عز وجل، أزلية كذاته القدسية، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى أزلا، فهو الأول بذاته وأسمائه وصفاته، كما هو الله: ذاتا وأسماء وصفات كما تقدم من كلام ابن كثير، رحمه الله، فاسم الله مشتق من وصف التأله الذي يدل على فعل العبد، فمقابل فعل الربوبية العامة من الله، عز وجل، بالإيجاد والتدبير، فعل الألوهية من العبد بالخضوع والامتثال للأمر الشرعي، فذلك جار على ما اطرد في التنزيل من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، فربوبيته، عز وجل، ربوبية عامة، فهي ربوبية إيجاد لجنس السماء والأرض، ولمجموع السماوات والأراضين فذلك من دلالة الإيجاد، وهي ربوبية تدبير بالأمر الكوني، فذلك مئنة من قدرته النافذة، فبكلماته الكونيات تكون الأعيان والأوصاف كما قدر أزلا، فيشاء وقوع الشيء، على جهة التجدد والاستمرار، فكل حركات الكون موقوفة على مشيئته، فيقع بكلماته الكونيات كما قدر أولا، بلا زيادة أو نقصان، وهي ربوبية تدبير بكلماته الشرعيات الحاكمة، ففيها صلاح الدين والدنيا، فيصلح المعاش بالسير على صراط الرق الشرعي المضروب على العباد فهم عباد مسترقون في قيد الشريعة المحكم، ويصلح المعاد بالسير على الصراط المضروب على ظهر جهنم، فمن استقام على صراط الأولى فالتزم أحكام الشريعة: علوما وأعمالا، عقائد وشرائع سواء أكانت شعائر أم معاملات، سياسات وأخلاقا، من استقام بهذا المعنى الجامع، استقام لزوما على صراط الآخرة، فلكل سبب نتيجة، ونتيجة الالتزام بالشرع الحاكم: النجاة في اليوم الآخر.
ولا يخلو تدبيره من دلالة عناية، فانتظام أمر الكون بكلماته الكونيات، وانتظام أمر الأفراد والجماعات بكلماته الشرعيات مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بخلقه، فالربوبية، كما تقدم، فيها الإيجاد المعجز، فالرب، جل وعلا، هو المبدع لهذا الكون لا على مثال سابق، وفيها التدبير المحكم، فالرب، جل وعلا، هو الذي يكلؤ الخلق عموما بكلماته الكونيات، ويكلؤ المكلفين خصوصا بكلماته الشرعية.
ومن ثم جاء الاستفهام: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا: ففيه معنى الإنكار التوبيخي لما قد وقع منهم بالفعل، فقد اتخذوا من دونه، عز وجل، أولياء، يتقربون إليهم على جهة الرغبة في النفع والرهبة من الضر، وإنما خص هذان بالذكر لكونهما مراد العابد الأول من معبوده، فذلك إنما ينشأ في النفس إذا اعتقدت في المعبود قدرة على جلب النفع ودفع الضر، فما صدر هذا الفعل إلا عن تصور سابق، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين الظاهر والباطن، فالباطن العلمي منشأ الظاهر العملي، فلا يوجد عمل بلا علم يسبقه، سواء أكان صحيحا أم فاسدا، فالعمل جار مجرى الحكم، والعلم جار مجرى التصور، والحكم اللاحق على الشيء فرع عن تصوره السابق، كما قد قرر أهل النظر، فلما اعتقدوا في معبوداتهم ما لا يكون إلا للرب المدبر، جل وعلا، الذي ينفع بفضله ويضر بعدله، كما أشار إلى ذلك الطحاوي، رحمه الله، بقوله: "يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا"، لما اعتقدوا ذلك في أولئك الأولياء سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا، صالحين أم فجارا، ملائكة أم بشرا، جاء التصريح بنفي ذلك عنهم على جهة الإطناب بالتكرار، فتكرار أداة النفي إطناب في موضع يحسن فيه النص على أعيان المنفيات، فيستقل كل فرد منها بنفي يخصه، فاستقل النفع بـ: (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا)، واستقل الضر بـ: (وَلَا ضَرًّا).
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم جاء الاستفهام في معرض بيان القدر الفارق بين الرب القادر والمربوب العاجز، على ما اطرد في الكتاب العزيز من نفي التسوية بين المتباينات، فذلك ميزان قرآني جامع، فـ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ): فذكر المتضادين على جهة طباق الإيجاب في معرض نفي التماثل لوقوع التباين، فذلك من الإنكار الإبطالي لوجود القدر الفارق، من باب ضرب المثل، فالقدر الفارق بين الرب، جل وعلا، والمربوب، أعظم بكثير من القدر الفارق بين الأعمى والبصير، وإنما ضرب المثل تقريبا للمعنى لا تصويرا لحقيقته، فإن تصور ذلك يلزم له إدراك كمال وصف الرب، جل وعلا، وذلك مما لا تطيقه عقول البشر، فيشتد الإنكار بتعاظم القدر الفارق بين المتباينين اللذين سوى الجاهل بينهما في الحكم، لجهله بالقدر الفارق بينهما فذلك مئنة من فساده تصوره المتقدم، على ما تقدم من فساد الحكم فرعا عن فساد التصور، فالأول لازم والثاني ملزومه.
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ: ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم فضلا عما فيه من التهكم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: فذلك نص على مفهوم الاستفهام السابق، فلم يخلقوا أي شيء، بل الله، عز وجل، خالق كل شيء، وذلك من العام المخصوص بالعقل، فلا تدخل ذاته أو صفاته في جملة الأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق، جل وعلا، والخالق غير المخلوق بداهة، أو يقال بأن القسمة الثنائية قد دلت ابتداء على ذلك فلا وجه لوقوع مجاز العمومية، بإطلاق العام: "كل" وإرادة الخاص: كل ما سوى الله، عز وجل، فاسم الله، تبارك وتعالى، كما تقدم، يدل على الذات القدسية وما لها من أسماء وأوصاف وأفعال، فحصل التمايز ابتداء بين الخالق، تبارك وتعالى، والمخلوق، وإلى ذلك أشار ابن أبي العز، رحمه الله، في كلمة جامعة في "شرح الطحاوية" فقال: "وَمِنَ الْأَدِلَّة على أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَة، قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، فَهَذَا عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فيه بِوَجْه مَا، وَلَا يَدْخُلُ في ذَلِكَ صِفَاتُ الله تعالى، فَإِنَّهَا دَاخِلَة في مسمى اسْمِه. فالله تعالى هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَعِلْمُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه وَسَمْعُه وَبَصَرُه وَجَمِيعُ صِفَاتِه - دَاخِلٌ في مسمى اسْمِه فَهُوَ سبحانه بِذَاتِه وَصِفَاتِه الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاه مَخْلُوقٌ". اهـ
ثم جاء التذييل: (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ):
فذيل بوصفي: وحدانية الذات، فذلك مئنة من كمال وصفه الذاتي، فهو الصمد المنفرد فلا شريك له في ذاته أو وصفه، الأول بذاته وصفاته، فلا أول يسبقه أو يقارنه، بل أولية كل ما سواه مقيدة مسبوقة بالعدم، وأوليته، جل وعلا، مطلقة من الأزل، والقهر على جهة المبالغة، فذلك مئنة من كمال وصفه الفعلي، وفيه إشارة إلى جلاله تبارك وتعالى، فالقهر بالكلمات الكونيات النافذة، فلا يخرج كائن عن حكمها، مئنة من جلاله، عز وجل، فالقهر لا يكون إلا بجبروت يعم سائر الملكوت العلوي والسفلي، فله، عز وجل، أوصاف: العظمة والكبرياء والقهر والجبروت على الوجه اللائق بجلاله.
والقصر بتعريف الجزأين قصر حقيقي فلا ند له ولا نظير فهو الواحد بذاته، ولا شريك له في أمره فهو القهار لما سواه بقدره النافذ. و: "أل" في كليهما مئنة من استغراق عموم الوصف فهو الواحد بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو القهار لكل ما سواه، فذلك من العموم المحفوظ فلا يخرج عنه مخلوق.
والله أعلى وأعلم.
ـ[فصيح البادية]ــــــــ[25 - 05 - 2010, 08:18 م]ـ
أستاذي مهاجر
بارك الله لك
لم أجد كلمة غيرها
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 05 - 2010, 08:55 ص]ـ
وبارك فيك أخي فصيح وجزاك خيرا على المرور والتعليق وحسن الظن.
ومن سورة الزخرف:
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ):
فذلك على سبيل التعجب من حالهم، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فإن من أقر للرب، جل وعلا، بقدرته على الإيجاد يلزمه الإقرار له بكمال الانفراد بالألوهية، إذ التمانع في الربوبية الذي يثبت في هذه الآية بانفراده جل وعلا بخلق أعظم الكائنات المشهودة: السماوات والأرض فضلا عن الكائنات المغيبة كالكرسي والعرش، وإنما خاطبهم الرب، جل وعلا، بما يجده الحس الظاهر إمعانا في إقامة الحجة عليهم، فالمشهود المحسوس آكد في ذلك من المغيب الذي لا تتصوره عقول كثيرة بل تدفعه إنكارا وجحودا، فأقيمت عليم الحجة بدلائل الربوبية المشهودة، على وزان قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فلئن سألتهم من خلقهن ليقولن: على سبيل التوكيد بلام الجواب ونون التوكيد المثقلة، فذلك من استنطاق الخصم بالحجة، إذ أقر بنفسه بل أكد إقراره بما تقدم من المؤكدات اللفظية الرافعة لأي احتمال للشك أو التردد، وجاء المسند إليه: العزيز العليم، إذ هذان الوصفان هما قطب رحى الربوبية، فالعزة لازمها القدرة، فإن العزيز لا يعجزه شيء، والله، عز وجل، قدير على كل الممكنات لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماوات، فبقدرته النافذة توجد الكائنات، والعلم لازمه الحكمة، فإن الخلق لا يكون على هذا النحو من الإتقان إلا بعلم سابق، فلا يتقن صانع صنعته إلا بعلم سابق بدقائقها وكلما زاد علمه: زاد إتقانه لصنعته، ولله المثل الأعلى، فإنه قد علم أزلا مقادير الخلق فقدرها على الوجه الذي تظهر به آثار حكمته البالغة، ثم أوجدها في عالم الشهادة بقدرته النافذة على ما قدر ابتداء بلا زيادة أو نقصان، فصدق الشاهد الغائب، وظهر بذلك من كمال ربوبيته، عز وجل، ما استحق به منصب الألوهية على حد الإفراد فلا شريك له في أفعال عباده فرعا عن كونه الرب الذي لا شريك له في أفعاله، فوحده العابدون بأفعال الألوهية فرعا عن توحيدهم له بأفعال الربوبية.
ثم جاء الإطناب في ذكر أوصاف الرب، جل وعلا، ببيان طرف من دلائل عنايته بخلقه، على ما اطرد مرارا من اقتران دلالتي الإيجاد والعناية في معرض إثبات ربوبيته عز وجل:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:
فذلك إما أن يكون خبرا ثالثا للضمير "هو" في آخر الآية السابقة، فيكون الإطناب في معرض البيان واقعا بتعدد الأخبار، عند من يجوز ذلك، على وزان قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).
ومن منع ذلك فإنه يقدر لكل خبر مبتدأ من جنس المبتدأ الأول، فيصير الإطناب في هذه الحال بجمل متتالية على حد الفصل إذ لا رابط بينها لشبه كمال الاتصال بينها إذ المسند إليه فيها جميعها واحد وهو الضمير الراجع على الرب، جل وعلا، فهو العليم، وهو القدير، وهو الذي جعل لكم الأرض ..... إلخ، ومؤدى القولين واحد إذ المسند إليه في كليهما واحد، وإن امتاز القول الثاني بوقوع التوكيد بتكرار الضمير فذلك أبلغ في استرعاء انتباه المخاطب.
فذلك من جعله الكوني في معرض الامتنان بتمهيد الأرض وتسهيلها وفيه من دلالة قياس الأولى: الاستدلال على خلق الإنسان وبعثه بخلق ما هو أعظم منه من الأجرام الكونية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك على وزان ما تقدم في سورة يس من قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)، فاجتمع في السياق من هذا الوجه: دلالة الإيجاد فالرب، جل وعلا، قد أوجد هذه الأرض على هذا النحو البديع، فلم يجرؤ أحد على ادعاء ذلك، وإن نازع من نازع من طواغيت البشر الربَّ، جل وعلا، خصائص ألوهيته من
(يُتْبَعُ)
(/)
كمال انقياد وتسليم، وخصائص ربوبيته من تشريع بتحليل وتحريم، فلم ينازع أحد في دلالة الإيجاد المعجز على هذا الحد من الإبداع والإتقان، وإنما سفسط من سفسط فنسب هذا الكون المتقن في صنعه المحكم في خلقه الذي تجري كل ذرة فيه لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم نسبه إلى إله نحتته الأذهان أطلق عليه منظرو الإلحاد: "الطبيعة" فهي الفاعلة لهذا الخلق البديع مع عجزها عن تدبير أمرها بل عن رد عدوان الإنسان عليها وهو الذي أفسدها بالعبث فيها ومعارضة سننها الكونية المحكمة التي تجري على وفقها بإذن ربها المدبر، عز وجل، فلو خرج جرم واحد عن مساره لفسد نظام الكون، ولو كان للكون إله مع الله، عز وجل، يأمر وينهى، شرعا أو كونا، لوقع التعارض لا محالة، بل لو وقع التوافق فلا ينفك ذلك عن افتقار كل إله إلى موافقة الآخر له، فذلك وجه نقص لا تنفك عنه أي شراكة، فلا يحسم الأمر إلا بقهر أحدهم للآخر، فالخالق واحد والمدبر واحد، وكل ما سواه لأمره الكوني خاضع وبأمره الشرعي مخاطب، فلا ينفك كائن عن عبودية اختيارية أو إجبارية، شاء أو أبى، فإن لم يكن عابدا منقادا فهو عبد خاضع، والمسدد من اجتمع له الوصفان فهو العابد المنقاد بمقتضى المحبة، العبد الخاضع بمقتضى الإرادة والقدرة، فإذا كانت الوحدانية ثابتة من هذا الوجه، فإن وحدانية التأله بأفعال العباد فرع عنها فوحدانيته، عز وجل، ذاتا وأسماء وصفات على الوجه اللائق بجلاله، ذريعة إلى توحيده بأفعال عباده، كما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين منصب الربوبية وتكليف الألوهية، فجعل بكلماته الكونية الأرض ممهدة، وعلة ذلك قد أبانت عنها مواضع أخر في التنزيل على ما قرره المحققون من أهل العلم من تفسير إجمال آي التنزيل بآي التنزيل أولا قبل النظر في غيرها، فعلة ذلك: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)، و: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، و: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، و: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) .... إلخ، فتمهيدها للسير فيها تدبرا ونظرا لأخذ العبرة الشرعية، واستخراجا لزروعها وما عدن فيها من الكنوز .... إلخ، فجعل فيها سبل السير، وسبل نبات البذر وخروج الزرع، وسبلا يتخللها الماء فتحفظه الأرض ماء معينا فـ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)، فذلك من أدلة عنايته إذ يسر الماء للتناول، فأنزله عذبا ولو شاء لأنزله أجاجا، وجعل بين العذب والمالح برازخ فلا يبغي أحدهما على الآخر، ولو شاء لاختلط الماءان ففسد ماء الشراب، وعدن الماء في الأرض ولو شاء لتخللها إلى طبقات لا يمكنه الوصول إليها، ويسر له سبل الاستخراج من آبار بدائية إلى آلات ميكانيكية، ولو شاء لأقعده عن طلب تلك الوسائل .... إلخ فله الفضل في مهد الأرض وتسبيلها.
وعلة ذلك: لعلكم تهتدون: على تأويل: لتهتدوا فيكون ذلك من قبيل استعارة الرجاء للتعليل، ولقائل أن يقول بأنه لا حاجة إلى تكلف استعارة إذ لعل بمادتها دالة على التعليل فهو أحد استعمالاتها وإن لم يكن معروفا متداولا في اللغة الدارجة بخلاف معنى الرجاء فهو المتبادر إلى الأذهان، وقلة الاستعمال أو ندرته لا تعني بطلانه، وعدم العلم به لا يعني العلم بعدمه، بل هو ثابت في لسان العرب كما أثبته من صنف في معاني الحروف، كابن هشام، رحمه الله، في "المغني" إذ يقول:
"الثاني، (أي من استعمالات لعل): التعليل، أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائي، وحملوا عليه: (فقولا لهُ قولاً ليِّناً لعلّه يتذكرُ أو يخشى) ومَن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين، أي اذهبا على رجائكما". اهـ
"مغني اللبيب"، (1/ 302).
(يُتْبَعُ)
(/)
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 05 - 2010, 08:50 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ):
فذلك من العطف على الموصول الأول لجامع اتحاد الصيغة: "الذي"، واتحاد المسند إليه وهو الرب، جل وعلا، فذلك مما يوطئ للوصل بالعاطف إذ عطف النظير على نظيره أمر جار على لسان العرب على وجه الاستحسان.
والزيادة في مبنى: "نزَّل" بتكرير عينه، فهو من مضعف العين مئنة من الزياة في المعنى، فذلك أبلغ في تقرير المنة الربانية، إذ تنزيل المطر على حد التكرار أبلغ من نزوله مرة واحدة، فتتكرر الرحمات بتكرار نزوله، وإن لم يكن من ينزل عليه أهلا لتلك الرحمات الكونية السابغة، فإن ذلك جار على حد: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، و: " مهلا عن الله، مهلا، فإنه لولا شيوخ ركع، وشباب خشع، وأطفال رضع، وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا"، كما عند أبي يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، فالرحمة الكونية رحمة اسمه الرحمن، فهي عامة لكل الخلائق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، بخلاف الرحمة الشرعية الخاصة، وأعظمها رحمة النبوات، فهي لأوليائه على حد الاختصاص فليست لغيرهم فلا ينال رحمة الرحيم الأخروية إلا من كان في دار الابتلاء على الطريقة الشرعية.
فنزل من السماء: مَاءً بِقَدَرٍ: فذلك من المطلق الباقي على إطلاقه حتى يتغير بمخالط، وذلك من يسر الشريعة في أمور الطهارة فكل ما صدق عليه وصف الماء بإطلاق فلم يغلب عليه وصف يقيده كماء الورد أو الزعفران فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وإن استعمل في طهارة، فالعبرة بإطلاق وصفه عن القيد بطاهر يخرجه عن حد المائية المطلقة أو نجس فهو مخرج له عن حد الطهارة من باب أولى، فلا يحل استعماله إلا إذا زال وصف النجاسة بتسخين أو نزح للنجاسة أو إضافة ماء كثير لها تزول به .... إلخ من الوسائل المذهبة لوصف النجاسة الذي علق عليه حكم الحظر فإذا زال الوصف الناقل عن الأصل وهو الطهارة زال الحكم الناقل عن الأصل وهو الإباحة، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهذا أيضا من صور العناية بالمكلفين بالتيسير في استعمال الماء طالما تحقق فيه وصف الطهارة وإن استعمل كما تقدم أو طرأت عليه نجاسة ثم زالت فأين ذلك الضبط الدقيق للأحكام من تشدد يهود في أمور الطهارة فلا يطهر الموضع الذي باشرته النجاسة إلا بقرضه، وتساهل النصارى الذين جعلوا القذارة أمارة من الديانة وعدوها من مناقب الرهبان فألفت كتب التراجم التي تعد عدم اغتسال فلان من الأحبار أو الرهبان لشهور بل سنين كرامة تستحق الإشادة!، كما حكى صاحب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" رحمه الله وطيب ثراه، طرفا من تلك المخازي، في معرض رصده للظواهر الإنسانية في سائر الملل والطرائق المخالفة لدين الحنيفية السمحة.
فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا: فذلك من آكد صور العناية بالنوع الإنساني، إذ ينشر الرب، جل وعلا، به الأرض الموات بأجناس النبات النافع الذي تحيى به الأبدان، فهو محيٍ لها من الموت من هذا الوجه، فالماء سبب الحياة النباتية والحيوانية، فيتولد الحيوان من ماء النطف، ويتغذى بماء المطر، ويقتات بالنبات والحيوان المأكول وهما لا يستغنيان في أصل وجودهما وبقاء حياتهما عن سبب الماء المحيي الذي أودع الرب، جل وعلا، فيه قوة الإحياء والإبقاء، فـ: (جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، فذلك من الجعل الكوني في معرض الامتنان بنعمة الماء التي خلق الأحياء من جنسه لا على سبيل الاستغراق لدلالة "أل" على الماهية الجنسية التي تصدق على أي ماء لا على سبيل الاستغراق الذي تفيده "أل" الجنسية المستغرقة لعموم ما دخلت عليه، وتلك، كما تقدم، سنة ربانية جارية، فالخلق ينبتون في الأرحام بمباشرة ماء النطف للبويضات، وينبتون في دار الجزاء بمباشرة الماء النازل لمواطن الإنبات في بقايا عظامهم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع، فنبه على النظير بنظيره في قوله: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، فذلك من القياس القرآني الصريح، فإن سنة
(يُتْبَعُ)
(/)
الإحياء واحدة، وآلة الإحياء واحدة، فالعلة الجامعة هي وصف المائية المؤثر في تولد الحياة من الموت بإذن الرب، جل وعلا، فصح القياس، فبعث الأموات من القبور فرع عن بعث الحياة من الأرض الموات بأصناف الزروع، وهذا أحد مسالك التنزيل في إثبات الحشر يوم الوعيد.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 05 - 2010, 12:01 م]ـ
ومن قوله تعالى:
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا: فالكون قد أقيم على سنة الزوجية فذلك من دلالة الإيجاد المعجز إذ ظهر فيها من آيات القدرة على خلق الشيء ونظيره الذي يسكن إليه فيكتمل به من النقص اكتمال الجزء بالجزء ليصيرا كلا فالزوجية من أظهر آيات القدرة، وبها يظهر أثر اسمه الأحد في صفاته فلا شبيه له، الواحد في ذاته فلا ند له، الصمد المستغني عن غيره بل هو السيد الذي لا يستغني عنه من سواه من الكائنات، وبها تظهر آيات حكمته إذ ركب في كل زوج ما يحتاجه الزوج الآخر فحصل من التقائهما صلاح حال وانتظام أمر هو مئنة من إتقان الصنعة وإحكام الخلقة الربانية، فذلك دليل العلم فهو العليم أزلا بمقادير كل زوج، وما يصلحه وما يلائمه من الزوج الآخر، ففي أزواج البشر: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)، فذلك زواج الأنفس، لا الأبدان، فالأرواح جنود مجندة تشترك في أصلها الرفيع فيقع من التلائم بينها بلا سابق لقاء ما يثير العجب إذ صادف النظير نظيره فاطمئن له وسكن إليه، و: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)، و: (مِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فذلك زواج أعظم قدرا، فهو الميثاق الغليظ، تتزاوج به الأرواح والأبدان فإن حصل التزاوج بالروح قام أمر الزوجين على صفو المحبة من جنس المودة الرفيع، فحصل لكليهما تمام الاستمتاع المباح بصاحبه، وإن حصل التزاوج بالأبدان وتنافرت الأرواح لاختلاف مادتها، فلم يقع الاشتراك آنف الذكر في أصلها الرفيع الذي يعطف الزوج على زوجه، إن حصل ذلك قام أمرهما على الرحمة فإنما يتعايش الناس بافسلام والأنساب، فإن لم يكن ثم فضل بالمحبة فعدل، فـ:: "زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها"، وتلك معان رفيعة تدق عن الوصف إذ هي متعلق خلق رفيع المادة لطيف الهيئة: خلق الروح سر الرب، جل وعلا، القائم بهذا البدن الكثيف.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ: فذلك من دلالة العناية بهم أن جعل لهم بقدره الكوني الفلك ليركبوها في البحر، والأنعام ليركبوها في البر فأشار إلى أجناس المراكب البرية والبحرية، وأشار ضمنا إلى ما استحدث من المراكب الجوية والفضائية بقوله: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
والجعل هنا بمعنى التصيير، لتعديه إلى مفعولين، وهو أليق بالسياق، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، لأن السفن مصنوعة من الخشب، وهذا معنى التصيير، فهو تحويل للخشب من المادة الخام إلى هيئة السفن المعروفة، وجعل الأنعام في سياق الركوب لا يتطرق إلى خلقها وإن كان يتضمنها فإن كل مواد وقوى العالم مخلوقة للرب، جل وعلا، وإنما المنة هنا بقدر زائد هو كيفية توظيف هذه المواد والقوى ليمكن الانتفاع بها، فالله، عز وجل، خلق هذه الكائنات، وخلق في الإنسان قوة عقلية يباشر بها معالجة هذه الكائنات لينتفع بها على أكمل الوجوه فهذا وجه امتنان آخر.
(يُتْبَعُ)
(/)
والنظم نفسه يزيد المنة تقريرا وبيانا، إذ فصل بالفلك، فلو عقب بذكر الأنعام بعد الأزواج ما تشوفت النفس إلى ذكرها، فهي داخلة في حد الأزواج فيكون تكرارها من باب الإعادة المحمولة على عطف الخاص على العام، وهو إن كان لا يخلو من وجه بلاغي معروف في باب الإطناب إذ عطف الخاص على العام من صور الإطناب في معرض التوكيد والتنويه بالخاص إذ أفرد بالذكر بعد ذكره ضمن العام، وإن كان له وجه بلاغي على هذا النحو إلا أنه لا يخلو من إعادة فلا يزيد في معناه عن التوكيد على ما اطرد من العطف في مثل هذه المواضع، بخلاف الفصل بالفلك فإنه قطع احتمال التوكيد بالانتقال من الأزواج إلى الفلك ولا رابط بينهما يجعل العطف من باب التوكيد بعطف الخاص على العام، فهو من عطف المتغايرات، فوقع الفصل بين الأزواج والأنعام بالفلك، ثم جاء ذكر الأنعام بعد الفلك تأسيسا لا توكيدا، إذ ذكرها عقيب الفلك ولا رابط بينهما في الماهية فماهية الفلك جامدة وماهية الأنعام حية، فيكون ذكر الأنعام في هذا الموضع بمنزلة الاستئناف، وهذا، كما تقدم، تأسيس لمعنى جديد تشوفت إليه النفس بعد إقحام الفلك بين الأزواج والأنعام، وذلك كما قرر البلاغيون تنبيه بتغيير النظم إذ فصل بين متماثلين في الماهية بمباين لهما فيها، فالأزواج من خيل وبغال وحمير ..... إلخ تماثل الأنعام في ماهية الحياة الحساسة المتحركة فهذا جنس أعلى يشملها، بل ويشملها جنس أدنى فكلها من الحيوانات، بل وجنس ثالث وهو جنس الثدييات، فبينها من التلائم ما يجعل عطف الأنعام على الأزواج هو المتبادر إلى الأذهان، ولكنه عدل عن ذلك إلى عطف الجامد على الحي ثم استأنف بعطف الحي مرة أخرى لما تقدم من تأسيس المنة بذكر الأنعام في معرض الانتفاع بالركوب، وهذا الفصل من جنس الفصل بين المغسولين في الوضوء: اليد والرجل بممسوح وهو الرأس وهو لا يخلو من نكتة بلاغية هي الإشارة إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما قرر الفقهاء في معرض الاستدلال بآية المائدة على وجوب الترتيب خلاف الحنفية، رحمهم الله، الذين جعلوا العطف بالواو مئنة من مطلق التشريك فلا معنى زائد على ذلك، فلا تفيد ترتيبا، كما قرر جمهور النحاة وأهل المعاني الذين صنفوا في معاني الحروف، وإن استدرك ابن هشام، رحمه الله، على السيرافي لما حكى إجماع اللغويين والنحاة على ذلك، بخلاف قطرب والربعي والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي، "مغني اللبيب"، (2/ 18)، وذكر له صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، في معرض هذا المعنى الذي قرره، ذكر مثالا من قول امرئ القيس:
كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍ ******* ولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال
ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ ******* لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال
ففصل بين الركوب الأول: كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍ، والركوب الثاني: ولم أقُلْ لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال، بتبطن الكواعب لاختلاف نوعي الركوب فالركوب الأول: ركوب اللذة، والركوب الثاني: ركوب الحرب فحسن الفصل بينهما لاختلاف الماهية وإن اتحدا في المعنى الكلي فجنس الركوب المطلق كائن فيهما.
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ: فذلك نوع إطناب آخر بذكر علة تسخير هذه الكائنات فيستوي الراكب على ظهر الدابة أو الفلك فيذكر نعمة الرب، جل وعلا، عليه، فذلك وجه الامتنان ولذلك ناسب أن يأتي بوصف الربوبية في معرض تعريف النعمة بالإضافة، إذ الربوبية مظنة الإنعام، فهو من فعل الرب، جل وعلا، والربوبية فعل الرب جل وعلا في كونه والإنعام منه، فذلك مما يزيد المنة تقريرا فضلا عن إضافة اسم الرب، جل وعلا، إلى ضميرهم، فهي إضافة تدل على جلاله، عز وجل، إذ هو المهيمن بقدره الكوني عليهم، وجماله إذ هو الرب المنعم المدبر لشأنهم، فاجتمع في الإضافة كمال وصف الرب، جل وعلا، جمالا وجلالا، والسياق دال على إرادة نعمة الركوب خصوصا مع كون الصيغة صيغة عموم إذ المفرد المضاف نص في العموم كما قرر أهل الأصول، ولا مانع من حمل العموم على وجهه عوضا عن تخصيصه بإحدى صوره، وهي صورة الركوب، فهو تحجير للمنة، وتوسيع دائرتها أليق بسياق الامتنان فضلا عن كون العموم متضمنا لصورة
(يُتْبَعُ)
(/)
الركوب، فالعام يتضمن الخاص بداهة، فالامتنان بها كائن في كلا الحالين، وتذكر النعمة حال مباشرتها أدعى إلى شكر المنعم جل وعلا، فتذكرها حال الاستواء على ظهور الدواب والأفلاك أدعى إلى الإقرار بمنة موجدها ومسخرها، جل وعلا، والتذكر إنما ينفع صاحبه إن كان تفكرا في آيات الربوبية في تسخير هذا الكون للإنسان ليستعين به على وظائف الخلافة الشرعية: خلافة الابتلاء: خلافة: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، خلافة: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، فيستدل بتلك الآيات الآفاقية على وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية، فذلك تذكر الانتفاع لا مجرد التذكر باللسان أو القلب على حد التصديق دون إقرار جازم بالمنة الربانية يولد في القلب إرادات نافعة لازمها صلاح الظاهر قولا وعملا، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، وفيه، كما حكى صاحب التحرير والتنوير رحمه الله، تعريض بالكفار بذكر لازم تلك النعمة من الشكر الذي قصروا في أدائه، فحالهم الجحود وإن أقروا بألسنتهم بانفراده، عز وجل، بالربوبية فلا ينفع هذا الإقرار صاحبه حتي يشفعه بلازمه من كمال إفراده، عز وجل، بالألوهية، فالتمانع في الربوبية لا يكفي لحصول النجاة حتى يولد في صاحبه تمانعا آخر في الألوهية يمنعه من صرف أي عبادة لغير الله، عز وجل، سواء أكانت عقيدة أم شعيرة أم حكما، فمعنى الألوهية يعمها جميعا، ولذلك انتقل بعد ذلك إلى لازم تلك المنة الربانية من التكليف الشرعي:
وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ: فذلك من الخبر الذي أريد به الإنشاء فهو على تقدير: فسبحوا الله، تبارك وتعالى، فذلك لازم إقراركم بنعمته السابغة عليكم أن سخر لكم المركوبات البرية والبحرية، والتسبيخ تنزيها يتضمن الثناء بأوصاف الكمال الثبوتية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، على ما اطرد مرار من كون النفي، والتسبيح منه إذ هو نفي لأوصاف النقص عن ذات الرب ذي الجلال والإكرام، من كونه في باب الصفات الإلهية متضمنا لإثبات كمال ضد المنفي من صفة الكمال، فنفي السنة والنوم مستلزم لإثبات ضدهما من كمال الحياة، وهذا أصل مطرد في باب النفي في هذا الباب الجليل فإن النفي فيه غير مراد لذاته، فليس مدحا في حد ذاته، بل إن التفصيل فيه مظنة الذم لا الكمال، كمن يمدح السيف بأنه ليس كالعصا على وزان قول الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ******* إذا قيل إن السيف خير من العصا.
فلذلك حسن الإجمال فيه والإطناب في وصف الكمال، وحسن أيضا شفعه بلازمه في باب الصفات الإلهية من إثبات كمال الضد، فذلك لازم في حق الرب، جل وعلا، غير لازم في حق البشر، فقد ينفى البخل عن إنسان فلا يلزم من ذلك وصفة بالكرم، بل هو لا بخيل يذم ولا كريم يمدح، وذلك غير متصور بداهة في جنب الرب، جل وعلا، فهو المتصف بكمال وصف الكرم وكل أوصاف المدح الثبوتية فلا يكون النفي ذا جدوى في هذا الباب، حتى يشفع، كما تقدم مرارا، بالنص على كمال الصفة الثبوتية المقابلة للصفة المنفية.
ثم جاء التذكير بالبعث بعد الإقرار بالنعمة الربانية فإن تلك صورة أخرى من صور ربوبيته، عز وجل، العامة، فالآيات قد تضمنت صورا عديدة من صور الربوبية ففيها: ربوبية الإيجاد ابتداء فكل الكائنات عن وصف الخالق الفاعل قد صدرت فبكلماته التكوينية الخالقة قد وجدت، وربوبية الإيجاد انتهاء التي دلت عليها هذه الآية، فالعباد إلى ربهم، تبارك وتعالى، منقلبون، وإن طال بهم المقام في دار الابتلاء، وربوبية القهر التي تضمنها الموت فالبعث فالحشر، فالرب، جل وعلا، قد قهر العباد بالموت إظهارا لكمال وصفه بالحياة الأزلية الأبدية، وقهرهم بالافتقار إلى أسباب الحياة من مطعوم أو مشروب ....... إلخ، ليظهر كمال استغنائه عن الأسباب المخلوقة فالخالق، عز وجل، لا يفتقر إلى المخلوق بداهة، بل المخلوق هو الذي يفتقر إليه في كل أطواره إيجادا، ونموا، وإمدادا بالأسباب، وتدبيرا للأحوال، وظهر
(يُتْبَعُ)
(/)
بهذا القهر الجبلي من سننه المحكم في كونه ما ظهر، فالغذاء يتخلل مسالك دقيقة وتستحيل ذاته إلى طاقة عبر تفاعلات كيميائية دقيقة تستهلكها الخلايا والأنسجة للقيام بالوظائف الحيوية نموا وتجددا وصيانة ...... إلخ، فالقهر ليس قهرا بلا حكمة كما يزعم نفاة تعليل أفعال الرب، جل وعلا، بالحكمة، احترازا من الافتقار إلى الغرض، وذلك مما لا يلزم ليحترز منه بنفي العلل، إذ الغرض إنما هو للمخلوق المفتقر إلى السبب لا للرب الغني عن كل سبب، فالمصلحة إنما هي للعباد تفضلا منه، جل وعلا، وامتنانا، فتظهر بها آيات قدرته الإيجادية وحكمته التدبيرية في تسيير أمور البرية بأقداره الكونية النافذة، وربوبية التسخير لتلك الكائنات مع عظم أجرامها ـ فسخر الجمل العظيم للطفل ولما يبلغ، فيركبه ويستقر على ظهره، وربوبية الإنعام بذلك التسخير، وكل ذلك، كما تقدم، من أدلة الإيجاد والعناية التي يظهر بها كمال وصف الرب، جل وعلا، فيلزم منه عقلا، على ما اطرد من القياس العقلي الصريح في آي التنزيل، يلزم منه، كما تقدم مرارا، إفراده، عز وجل، بتمام التأله، فلا تصرف العبادة لملك أو نبي، فإن من سوى الله، عز وجل، وإن بلغ ما بلغ من عظم الشأن والمكانة، والقوة والإرادة لا ينفك عن كونه مخلوقا مفتقرا إلى الرب، جل وعلا، فهو وعابده سواء: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
فمن يدعوه صراحة يدعو ميتا بالفعل أو القوة فمآله إلى الموت وإن طال بقاؤه، ومن يحتكم إليه ويهمل حكم الرب، جل وعلا، يحتكم إلى عبد ناقص الذات والوصف مثله، فليس له من العلم والحكمة ما للرب، جل وعلا، ليقبل حكمه على جهة التسليم والانقياد، فذلك لا يكون إلا للرب، جل وعلا، وحده.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 06 - 2010, 12:43 م]ـ
وعودة إلى سورة المائدة:
ومن قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ:
فذلك من التذييل للنهي المتقدم عن الصيد حال الإحرام زمانا أو مكانا، فهو مفهوم التقييد بالحال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، فيفيد الإباحة حال عدم الإحرام بأن يكون الصائد حلالا خارج حدود الحرم، فلما جاء النهي عاما في الآية السابقة: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد)، فتسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل وعلى: "الصيد"، وهو بمنزلة النكرة، فـ: "أل" الجنسية تفيد العموم وهو مئنة من الشيوع الذي تفيده النكرة فينزل منزلتها من هذا الوجه، كما قال النحاة في: "أل" في: "الحمار" في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)، فهي معرفة باعتبار المبنى، نكرة باعتبار المعنى، فالجنسية مظنة التنكير، كما تقدم، ولذلك جاز إعراب الجملة بعدها: (يَحْمِلُ أَسْفَارًا): حالا بالنظر إلى التعريف اللفظي، ونعتا بالنظر إلى التنكير المعنوي، ومثله قول الشاعر:
ولقَدْ أمُرُّ على اللَّئيمِ يَسُبُّني ******* فمضَيْت ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنِيني
فأصل ذي اللام في أصل الوضع لواحد معين، ثم قد يستعمل بلا إشارة إلى معين، فينزل منزلة النكرة لشيوع دلالته فلا يختص بفرد بعينه، كما أشار إلى ذلك شارح الكافية رحمه الله.
فليس المراد لئيما بعينه، فليست "أل" عهدية، وإنما المراد جنس اللئام، وهو مظنة الشيوع، فيصح، أيضا إعراب الجملة بعده حالا أو نعتا على التفصيل المتقدم.
(يُتْبَعُ)
(/)
والشاهد أن: "أل" في الصيد من هذا النوع، فهي جنسية تفيد الاستغراق لعموم ما دخلت عليه، فتنزل منزلة النكرة، ويكون وقوعها في حيز النهي الذي صدرت به الآية: (لا تقتلوا): نصا في العموم، فالنكرة الصريحة أو المؤولة في حيز النهي: نص في العموم، ودلالة العموم، كما قرر أهل الأصول ظنية، فجاء النص على حل صيد البحر مخصصا لهذا العموم، فالخاص قطعي الدلالة، فأحل لكم صيد البحر فهو مستثنى من جنس الصيد المنهي عنه، فيختص النهي بصيد البر، وذلك وجه امتنان من الرب، جل وعلا، على عباده، فمعنى العناية فيه ظاهر، إذ تحريم الصيد مطلقا يوقع المكلف في الحرج، فجاء التخفيف بحل صيد البحر، وحذف الفاعل للعلم به، فإن التحليل والتحريم لا يكون إلا للرب الشارع، عز وجل، فهو باعث الرسل ومنزل الكتب، ولذلك وقع الخلاف بين أهل العلم في جواز تسمية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مشرعا، أو صاحب الشريعة، فمنع ذلك بعض أهل العلم لأن منصب التشريع تحليلا أو تحريما يختص بالرب، جل وعلا، فهو من أخص أوصاف ربوبيته، إذ يدخل في حد التدبير، فهو إما: كوني بالكلمات الكونية النافذة، وإما شرعي بالكلمات الشرعية الحاكمة، وأجازه بعض آخر، واستدلوا لذلك بنحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ"، فصار قوله في معرض بيان الشريعة: تشريعا ملزما، فيكون مشرعا من هذا الوجه، وقد يقال بأنه صاحب الشريعة أو المشرع بلاغا لا إنشاء، فيجمع بين القولين، فتلك وظيفة الرسل عليهم السلام فـ: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ)، و: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)، فذلك من جنس نسبة الكتاب العزيز إليه في نحو قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، فتلك، أيضا، نسبة بلاغ لا إنشاء.
واللام في: "لكم" تفيد الاختصاص، ففيه مزيد تقرير للمنة الربانية على عموم المكلفين، فضمير الجمع يعم سائر المخاطبين، على الخلاف في عموم خطاب الشريعة للكفار، أو اقتصاره على المؤمنين فيكون العموم مخصوصا من هذا الوجه، ولا يخلو في كلا الوجهين من دلالة شمول لأفراد المخاطبين سواء أكانوا أمة الدعوة العامة أم أمة الإجابة الخاصة، وكذلك الشأن في عموم: "صيد البحر": فالمعرف بالإضافة إلى المحلى بـ: "أل" من صيغ العموم، كما قرر ذلك الأصوليون، فيكون ذلك، أيضا، وجه امتنان آخر، بحل عموم المصيد من البحر، فالمصدر: "الصيد" قد أريد به المفعول المصطاد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهو عموم محفوظ عند جمهور أهل العلم، ويشهد له قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"، فلم يخص عموم المضاف إلى الضمير: "ميتته"، مع قيام الحاجة إلى البيان، بورود السؤال، فذلك موضع حاجة لا يجوز تأخير البيان عنه، فكان سكوته عن تحريم بعض ميتة البحر، لو كانت محرمة، كان هذا السكوت: بيانا لحل عموم ميتة البحر، وقد خصه بعض أهل العلم، كالحنفية، رحمهم الله، بما يموت بغير فعل الصائد، فما يموت ويطفو على الماء عندهم: محرم، واستدلوا لذلك بحديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ"، وقد أعله أبو داود، رحمه الله، بالوقف، وخص، أيضا، لا على جهة التحريم وإنما على جهة الكراهة ببعض الأنواع المستقذرة، كسمك القرش، على سبيل المثال، فإن له رائحة منفرة، وإن لم يكن محرما، وكره مالك، رحمه الله، أكل خنزير البحر لاسمه، ولم يحرمه، فكأنه نفر منه لمجامعته الخنزير البري المحرم في الاسم، وإن لم يجامعه في الوصف الذي علق عليه التحريم وهو كونه رجسا، كما دل على ذلك قوله تعالى: (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)، وقد جاء العلم الحديث مصدقا للكتاب العزيز، فتحريم الخنزير
(يُتْبَعُ)
(/)
البري، عند التأمل، من وجوه عناية الرب، جل وعلا، بعباده، فحرم عليهم الخبائث التي تفسد أبدانهم وأديانهم، فإن آكل الخنزير يفسد البدن بما فيه من الميكروبات والديدان التي ثبت أنها تقاوم درجات الحرارة المرتفعة فلا يجدي طهيه شيئا في تطهير لحمه، فنجاسته كنجاسة الكلب: نجاسة عينية، فلا تزول بالتطهير كالنجاسة العارضة، ويفسد دينه وخلقه، فقد ثبت بالتجربة أن الآكل يكتسب من المأكول خصال خير إن كان طيبا، أو خصال شر إن كان خبيثا، والخنزير معروف بدياثته وقلة غيرته، وهو أمر ظاهر فيمن يأكله، ولعله سبب رئيس في ذيوع الفواحش دونما إنكار في المجتمعات الغربية التي استباحت هذا المحرم الذي أجمعت الشرائع المنزلة على تحريمه، فأباحوه برؤيا راهب، أحل له شيطانه في منامه كل الأشياء حتى النجاسات والقاذورات التي تنفر منها الطبائع السوية، وذلك جار على المعهود من حال النصارى لاسيما رهبانهم من قلة التحرز من النجاسات، بزعم الانشغال بتطهير الروح عن تطهير البدن!.
والشاهد أن الراجح في هذا السياق: إباحة المطعوم البحري على جهة العموم المحفوظ، فتلك منة ربانية تدل على عظم عنايته، عز وجل، بعباده، فرخص لهم في طعام البحر، ولو ميتا، فلا ضرر عليهم في تناوله، كميتة الحيوان البري، فهي خبيثة ضارة، قد حرمها الشرع ونفر منها الطبع، والشرع لا يعارض العقل الصريح أو الطبع السوي، بل يزكيهما بأحكامه التي تلائمهما، وقد استثني من هذا العموم في حق الحيوان البري الميت: ميتة الجراد، كما دل على ذلك حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ"، خلافا للمالكية رحمهم الله الذين حملوا العموم على ظاهره فلم يخصوه بالجراد لعدم ثبوت الحديث عندهم، فذلك وجه الاعتذار عنهم في مخالفة القول الراجح في هذه المسألة.
ويقال من وجه آخر بأن السياق وهو استثناء من محرم تقدم، يحمل معنى المنة بالمباح، والمنة لا يلائمها التخصيص فهو مما ينغصها، فالأليق حمل العموم على ظاهره ما أمكن وهو الذي تشهد له النصوص وعليه قول الجمهور كما تقدم.
وأشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله إلى وجه عموم ثالث تحصل به المنة أيضا، وهو عموم: "أل" في: "البحر"، فلا يدل على البحر المعهود، وإنما يعم سائر أنواع المياه كالبحيرات والأنهار ........ إلخ، فكل مطعوم استخرج منها فهو حلال إلا ما كان يأوي إليها وليس من الكائنات البحرية كالضفادع على سبيل المثال فقد وقع الخلاف في إباحتها، والحنابلة، رحمهم الله، على تحريمها، وذلك جار على سنن الطبع السوي فالنفوس تنفر منها، فليست بمستطابة حسا.
وجاء الإمعان في تقرير المنة الربانية بعطف الطعام على الصيد، فحمله بعض أهل العلم، كما حكى صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، على ما مات دون فعل الصائد، فيكون السياق قد استوفى على هذا الوجه شطري القسمة العقلية: ما مات بفعل الصائد، وما مات حتف أنفه.
ثم جاء استيفاء أوجه المنة باعتبار الآكل أو المنتفع فقد أحل: "متاعا لكم وللسيارة"، فتجوز هبته أو بيعه للجماعات السائرة التي يلقاها المحرم، بخلاف صيد البر، فإنه لا يحل إن كان قد صيد لأجل المحرم كما في حديث الصعب بن جثامة، رضي الله عنه، لما أهدى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صيدا فرده، فتغير وجه الصعب، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم معتذرا: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ"، وذلك من كمال أدبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تطييب خواطر أصحابه رضي الله عنهم.
وعلى سبيل طباق الإيجاب استيفاء للقسمة العقلية في معرض التشريع بالتحليل والتحريم:
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا: فحذف الفاعل أيضا: للعلم به، فالرب، جل وعلا، كما تقدم، هو المنفرد بهذا المنصب فهو فرقان عظيم بين الرب الآمر الناهي، والعبد المأمور المنهي، فلا يخرج عن أمره إلا من طغا فاتخذ إلها غيره يرد إليه الأمر والنهي ولو على خلاف الشريعة، فذلك حال الذين: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وجاء عموم: "صيد البر" في مقابل عموم: "صيد البحر"، وفي مقام التحريم تكون المنة بالتخصيص لا بحفظ العموم منه، فالتخصيص يخرج بعض أفراد العام المحرم إلى دائرة الإباحة، ومعنى السعة فيها ظاهر، وذلك وجه امتنان، كما لا يخفى، وقد وقع التخصيص في صورة ما لو أهدي للمحرم من الصيد ولم يكن قد دل عليه أو أعان على صيده، كما أثر عن طلحة، رضي الله عنه، فيكون حلالا، لعدم فعل المحرم، ولو إشارة إليه، وجاء التقييد بـ: (ما دمتم حرما)، فأفاد بمفهومه، كما تقدم، حله خارج زمن الإحرام خارج حدود الحرم إن كان الصائد حلالا غير محرم، فذلك التخصيص بالمفهوم وجه امتنان آخر فليس النهي متصلا لئلا يقع الحرج بذلك، والتقييد بزمن الإحرام من جنس تقييد الصيام بقوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فذلك مئنة من التخفيف، فهي أيام سرعان ما تنقضي، فيصبر المرء قليلا لينال ثوابا جزيلا، وكذلك الإحرام، فهو أيام قلائل سرعان ما تنقضي ويرجع المحرم حلالا فيباشر ما قد نهي عنه حال إحرامه من المحظورات التي ذكرها أهل الفقه.
ثم جاء التذييل بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، عقيب التحريم ففيه نوع ترهيب من مخالفة الحكم الشرعي بفعل المحرم، فلازم التقوى اجتناب ما حرم الله، عز وجل، من المنهيات المؤبدة أو المؤقتة كما في هذا الموضع، وجاء التعريف بالموصولية إشارة إلى محط الفائدة، وهو المعنى الذي اشتقت من جملة الصلة، فإلى الله، عز وجل، وحده، لا إلى غيره، على جهة الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير يحشر العباد فتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 06 - 2010, 12:33 م]ـ
ومن قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ):
فذلك من الجعل الشرعي بحمل القيام، على القيام المعنوي بالملة الحنيفية التي قومت بها النفوس بنفي خبث الشرك بكير التوحيد الذي يمحض مادة الخير في النفوس،، وقد جاء الإخبار به مبالغة على وزان قولك: محمد عدل، فهو مؤول بعادل، أو بذي عدل، أو، وهو أحسنها، بالمبالغة حتى صح الإخبار عن ذاته بالمصدر لا بمشتق منه فصارت حقيقته هي حقيقة العدل، وإن كانت الأولى ذاتية والثانية معنوية، فذلك المبالغة في هذاالقول، وهو من الجعل الكوني بحمل القيام على القيام المادي بما يتحقق للعباد من منافع دنيوية عاجلة بكسب أو تجارة ..... إلخ، وجاء عطف: "البيت الحرام" على الكعبة من قبيل عطف البيان الذي زاد الكعبة تشريفا، بملاحظة معنى التحريم الشرعي للكعبة، وذلك، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير"، يكون بالنظر إلى لفظ الحرام وما يدل عليه من معنى المنع والصيانة، فالحرام: ممنوع مصون من التناول والابتذال، وأما بالنظر إلى "البيت الحرام" بعد صيرورته علما بالغلبة على المسجد، فذلك يكون بيانا للكعبة وهي جزء من المسجد، بالمسجد بأكمله، فيكون ذلك من قبيل العموم بعد الخصوص، فيزيده بيانا، فهو إطناب بذكر اسم آخر من أسماء الكعبة، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ"، فـ: "أل" في الكعبة عهدية تشير إلى معهود بعينه هو ذلك البناء المكعب في مكة، فقد اختصه الرب، جل وعلا، بجملة من الخصائص التي لا تعلم إلا بتوقيف من الشارع، عز وجل، فهو الذي أمر بالطواف به ونهى عن الطواف بالقبور والمشاهد .... إلخ، مع أن أبنية كثير منها مكعبة، أيضا، فعلم أن العبرة بتوقيف الشارع، عز وجل، لا بمضاهاة المشروع بغير المشروع بإقامة أبنية تضارعه في الوصف وقياسها عليه قياسا فاسدا، فالقياس لا يجري في الأخبار والشعائر، فالخبر قد اختص تلك البناية بجملة من الفضائل لم يختص غيرها بها، فذلك فضل الله، عز وجل، يضعه حيث شاء بعلمه المحيط وحكمته البالغة، وهذا فرقان بين الدين المحفوظ والدين المبدل، فمن عجب أن يتطاول النصارى وهم أئمة الغلو والابتداع في الديانة لا سيما في أمور الصور والتماثيل والمشاهد المبنية على قبور القساوسة والقديسين ..... إلخ مع ما يمارس عندها من صور الوثنية الصريحة بالتوجه بالسؤال إلى أموات غير أحياء، وهو ما وافقهم عليه فئام من هذه الأمة فغلوا في الصالحين غلو النصارى في القديسين، كما غلوا في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غلو النصارى في المسيح عليه السلام، فذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"، وإن افترقت الملتان بأن ملة التوحيد قد بقيت محفوظة الأصول فلا يخلو زمان من منكر لتلك البدع الحادثة، بخلاف ملة التثليث التي صار ذلك هو المعروف فيها فمن أنكره فهو الخارج عن الأصل!، ولذلك تلقى الحركات الإصلاحية، إن صح التعبير، في أوساط النصارى، بنبذ تقديس الصور والتماثيل .... إلخ، وهي الدعوة التي أطلقها مارتن لوثر المصلح البروتستانتي المعروف، تلقى استياء شديدا في أوساط النصارى الذين أشربت قلوبهم الغلو في تقديس البشر بإقامة التماثيل والصور والمشاهد .... وكنائسهم وآثارهم خير شاهد على ذلك، فكلها تدور حول فكرة المعظم في الديانة الذي لا وصول إلى النجاة إلا عن طريقه سواء أكان حيا يغفر الذنب بالاعتراف، أو ميتا تقضى عند قبره حوائج البشر!، فتلقى تلك الدعوة سخطا في صفوفهم لا سيما الرءوس منهم لما يشوبها من الأصل الإسلامي الراشد، فهي من جملة ما استفادته أوروبا، وإن أنكرت، من عقيدة الإسلام الصافية التي تنفي كل غلو، ولو في صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(يُتْبَعُ)
(/)
فـ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، فمن عجب بعد ذلك أن يزعم قائلهم بأن مناسك الحج مناسك وثنية، وهي قد جاءت بنقل صحيح لا يقدح فيه منصف ولو كان غير مسلم، فاصطفاء الله، عز وجل، تلك البقاع بتلك الفضائل، التي لا تثبت إلا بالخبر الصحيح كما تقدم، من جنس اصطفائه آدم عليه السلام على سائر خلقه، فلم يسلم إبليس بذلك، بل طعن في الحكمة الإلهية وعارض الخبر بفضيلة آدم عليه السلام فهو المخلوق بيدي الرحمن تبارك وتعالى، عارضه بقياس عقله: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، مع ما في القياس لو سلم بجواز إجرائه من فساد، فمادة الطين، كما تقدم في مواضع سابقة، أشرف وأنفع فهي مظنة الرزانة في الطبع والنفع بالشجر والزرع بخلاف مادة النار فهي مظنة الطيش والإفساد بالحرق، فكيف والقياس غير جائز ابتداء، ففضيلة آدم عليه السلام بمنزلة الخبر الذي لا يعارض بقياس أو ذوق، بل الشأن كل الشأن، التصديق بالخبر متى ثبتت صحته، فلما صح الخبر عند الملائكة، وذلك واجب بداهة، فـ: (مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)، ولا واسطة بينهما ينظر في حالها، فقد صدر الأمر على جهة خطاب المواجهة، فامتثل الملائكة دون إعمال لقياس العقل في مقابل النص، كما صنع إبليس، ففازوا وخسر، فكذلك الشأن في البيت الحرام، فإن من تلمس حكمة التوقيف في اختصاصه دون غيره من المساجد بتلك الفضيلة الشرعية العظمى، التي لا تثبت إلا بالنص الصحيح، ولا أصح من خبر الوحي الذي قامت الأدلة المتواترة على صحته، فصار من جملة العلوم الضرورية، فمن تلمس ما حجب عن البشر من تلك الحكمة، فعارض فضيلته الثابتة بفضيلة حادثة لبيوت اتخذها البشر على جهة التعظيم مضاهاة لتعظيم الشارع، عز وجل، لهذا البيت، من فعل ذلك خصوصا، فهو إبليسي المسلك، وليس هذا مخصوصا بهذه الصورة، بل هو عام في كل صور الإحداث في الملل والنحل، فمن خص زمانا لم يخصه الشارع، عز وجل، بفضيلة، يضاهي بها فضيلة مشروعة لزمان مخصوص كشهر الصوم أو أشهر الحج، أو العيدين ..... إلخ، من فعل ذلك فقد وقع في جنس القياس الإبليسي الطاعن في الحكمة الإلهية فلسان حال المبتدع بزيادة، وهو الغالب، أو نقصان، لسان حاله الاستدراك على الشرع باعتبار ما ألغاه، أو إلغاء ما اعتبره.
والشاهد أن الكعبة والبيت الحرام، و: "أل" فيه بعد صيرورته علما بالغلبة على المسجد: عهدية أيضا، وكذلك الشهر الحرام، فـ: "أل" فيه، أيضا، جنسية باعتبار استغراقها للأشهر الحرم، عهدية باعتبار اقتصارها على جزء مخصوص من الزمان، وذلك، أيضا، مما لا يكون إلا بتوقيف من الوحي، والهدي والقلائد: كل أولئك مما يقوم به أمر الناس في الدنيا والآخرة، فمنافع الكسب والتجارة في الأشهر الحرم، والهدي وما يحصل به من الانتفاع بلحومه، والقلائد، ففتلها صناعة يتكسب بها، وجاء النص عليها إمعانا في تقرير جملة المنافع التي شرع الحج من أجلها، حتى شمل ذلك تلك الصناعة الدقيقة، فانتفع أهلها بالموسم من هذا الوجه، ثم ذيل بعلة ذلك:
ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:
فمن إحاطة علمه أن علم من الأزل: الأزمنة والأمكنة الفاضلة وما يشرع فيها من العبادات والمناسك، فشرع ذلك على ألسنة رسله لينتفع العباد بها في عاجل أمرهم وآجله، وذلك من العناية بهم بمكان.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 06 - 2010, 06:03 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ):
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلك من أدلة العناية الربانية بالعباد بشرع ما فيه نفعهم، فإن للحج غايات دينية ودنيوية بها يصلح حال المكلفين عاجلا وآجلا، فـ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، فتلك من أعظم وجوه الانتفاع لتعلقه بالمآل، وتلك منفعة دينية عظمى تتضاءل أمامها المفاسد الجزئية التي تعرض للحاج فإنفاق المال وتجشم عناء السفر، لا سيما في الأعصار التي يقل فيها الأمن وتكثر فيها مخاطر الطرق، وهو أمر لا يجد كثير من الحجاج في زماننا أثرا له، لغلبة الأمن على البلد الحرام، وعلى الطرق المسلوكة إليها، وذلك، أيضا، من أدلة عناية الرب، جل وعلا، بعباده، أن شرع لهم المناسك على جهة التيسير فـ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، فذلك الأمن الذي يرفع آخر الزمان، ذلك الأمن من دلائل النبوة، فقد بشر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولما يمكن الله، عز وجل، لدينه بعد، ففي حديث عدي، رضي الله عنه، مرفوعا وفيه: "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ"، فجاء الشاهد تأويلا لتلك البشرى، وبه استدل من استدل من أهل العلم على جواز سفر المرأة إلى الحج بلا محرم، إن كانت في رفقة آمنة من نسوة ثقات، وهذا قول الشافعية، رحمهم الله، ولهم قول آخر بإجزاء السفر مع امرأة واحدة ثقة، وتوسه بعضهم فأجاز ذلك بلا محرم، فهو سفر واجب، كسفر من أسلمت في دار حرب، فيجب عليها الهجرة إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، أو سفر من لها مال في بلد بعيدة فلا تأمن ضياعه إن وكلت غيرها في استيفائه أو إدارته، وقصر بعض آخر ذلك على المرأة العجوز فيجور لها السفر بلا محرم لأمن الفتنة في حقها، والشاهد من ذلك: الإشارة إلى نعمة الأمن الذي امتن الله، عز وجل، به على من قصد بيته ملبيا دعوة الخليل عليه السلام، فأمر بالإعلام على جهة الأذان، والأمر إما للخليل عليه السلام، وهو الأظهر، وإما للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون الأذان في حقه بلاغا، فذلك من خصائص منصب الرسالة، فبلاغ الوحي الخاص على جهة التشريع الملزم أمر لا يشرك النبي فيه غيره، فهو صاحب الشريعة المبلغ لنصوصها أخبارا وأحكاما فما زاد وما نقص، وإنما بلغ كما أمر فـ: (لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، وأما البلاغ العام، بلاغ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" فهو عام في حق كل المكلفين، فمن علم خبرا أو حكمه لزمه البلاغ، وإن لم يكن عالما بالمعنى المعهود، فهو عالم بما يبلغه وذلك كاف في قبول خبره إن كان عدلا في خلقه ثقة في نقله، فالأذان، على كلا الوجهين، أذان شرعي صدر من نبي، فجاء الجواب على جهة الجزم في جواب الأمر مئنة من سرعة الامتثال، فذلك أبلغ في تقرير المنة، فامتثال الأمر بشد الرحال إلى البيت الحرام، نعمة عظيمة، عند التدبر والنظر، ففيها جملة من المصالح يرجع نفعها على العباد فربهم، جل وعلا، عن سفرهم ونسكهم لغني، فـ: " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي"، وجاء التنويع في بيان أحوال من قصد البيت على جهة التعظيم بحج او عمرة، فالحال: "رجالا": قد دلت على الشطر الأول من شطري القسمة العقلية لأحوال المسافرين، فيأتون سائرين على الأقدام، وفي ذلك من المشقة ما لا يخفى، فتقدم ذكرهم تنويها بشأنهم وتعجيبا من حالهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ثم جاء الشطر الثاني عقيب الواو التي جاءت للتقسيم، فـ: (على كل ضامر): فذلك شطر الراكب في مقابل شطر الماشي، فتأخيره في الذكر تدرج من الأعلى إلى الأدنى في الأجر، فالأجر على قدر المشقة التي تأتي عرضا لا قصدا، فليس في الحنيفية السمحة تعبد بتحصيل أسباب الحرج والمشقة، فذلك مسلك رهبان الأمم الذين غلوا في جانب العمل وجفوا في جانب العلم، فوقعوا في جملة من البدع
(يُتْبَعُ)
(/)
صيرتهم مضرب المثل في الغلو والتنطع، فهلكوا، فذلك تأويل خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ"، فليست المشقة مرادة لذاتها لتصير مباشرة أسبابها دينا يثاب فاعله، بل هي مما يعرض للمكلف حال مباشرته العبادة المشروعة فتزيد في أجره من هذا الوجه، فهي طارئ على ماهية الفعل المشروع، فليست جزءا منها، فإن الرب، جل وعلا غني عن تعذيب عباده لأنفسهم كما في حديث أبي إسرائيل رضي الله عنه.
ويقال أيضا بأنه تدرج من الأدنى إلى الأعلى في كمال الحال الظاهرة، فالراكب أكمل حالا من الماشي، وإن تفاوت الأجر تبعا لتفاوت النية والإرادة، فـ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"، فلا ينظر الرب، جل وعلا، إلى صورة العمل أو هيئة المركب، وإنما ينظر إلى ما قام بالقلب من نية وإرادة، فإن كانت صالحة فذلك مئنة من قبول العمل، وإن لم يشق على فاعله، فالمشقة، كما تقدم، ليست علامة قبول، فكم من نفوس عملت ونصبت، فهي: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)، على أحد الأقوال في تأويل الآية، فأولئك قوم أجهدوا أنفسهم وأزعجوا جوارحهم بمكابدة نصب العبادة والجوع والعطش والسهر ..... إلخ، وهم مع ذلك بمعزل عن القبول، إذ لم تواطئ أعمالهم ما جاءت به النبوات من صفات وهيئات مشروعة، فزهدوا في المشروع، ولسان حالهم الاستدراك على الشارع، عز وجل، وأحدثوا في مقابل ما قرره الوحي: جملة من الهيئات الحادثة يضاهئون بها المشروع إرادة المبالغة في التعبد، ولو على غير منهاج النبوات، فذلك عين الابتداع المذموم شرعا فـ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".
وجاء الضمير في: "يأتين" عائدا على "كل ضامر" لدلالة: "كل" باعتبار المعنى وإن كانت مفردا في المبنى، على جمع الضوامر التي تحمل الحجاج، فعود الضمير عليها، وإسناد فعل الإتيان إليها باعتبارها وسيلة السفر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وأشار، رحمه الله، إلى وجه آخر يرجع الضمير فيه على الضمير المرفوع في: "يأتوك"، فهو عائد على الحجاج أنفسهم، وفيه مزيد تعجيب من تيسير الله، عز وجل، السفر مشيا إلى الحج، وذلك أظهر في تقرير المنة الربانية والعناية الإلهية بجموع الحجاج التي قصدت البيت على جهة التعظيم لحرمات الله، عز وجل، فذلك مئنة من التقوى التي يمدح صاحبها فـ: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
فيكون ذلك من باب الاشتراك اللفظي بتعدد الأقوال في مرجع الضمير، فيعود على حقيقتين متباينتين: وإن كانتا متلازمتين: الحجاج ودوابهم التي يسافرون عليها، وهو معنى يعم كل ما استحدث من وسائل النقل كالسيارات والطائرات، فتلك، أيضا، من صور عناية الرب، جل وعلا، بعباده أن يسر لهم هذه المراكب التي أزالت قدرا كبيرا من مشقة السفر.
ولا مانع من الجمع بين القولين لعدم التعارض فعود الضمير على كليهما يفيد معنى صحيحا، فيكون ذلك من إثراء السياق بتوارد المعاني الصحيحة على وجه لا يقع به التعارض، فلا يصار إلى الترجيح إلا بعد تعذر الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض، كما قرر ذلك أهل الأصول.
ثم جاء النص على جملة من نعم الرب، جل وعلا، على الحجاج على جهة التعليل للأمر السابق فـ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ: فذلك عموم نكر لفظه مئنة من التكثير والتعظيم، فهي منافع كثيرة باعتبار أفرادها، عظيمة باعتبار أوصافها، وجاء الخصوص بعده تنويها بشأن المخصوص، فصدر البيان بـ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: فتلك أعظم المنافع إذ لا منفعة أعظم من المنفعة الشرعية، وتقييد ذلك بالأيام المعلومات، وهي مظنة القلة، تيسير آخر لئلا تمل النفوس وتسأم من العبادة، فذلك من قبيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فهو أيام معدودات سرعان ما تنقضي وذلك مما يحفز النفس على
(يُتْبَعُ)
(/)
استثمارها ويغريها بالصبر على مشقتها فهي مشقة عارضة.
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: فذلك من الرزق الشرعي بالنظر إلى عبادة الذبح، فهي من أجل العبادات لمعنى التعظيم لشعائر الله، عز وجل، فيها، فـ: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، و: (نْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، وذلك أعظم رزق يرزقه المكلف لو وهب سدادا فنظر إلى الأمر من جهة المنة الربانية العظمى بإرسال الرسل عليهم السلام، وتقرير الشرائع، والنسك من أعظمها، كما تقدم، ففيها معنى البذل كسائر العبادات المالية، وفيها معنى الخضوع الباطن بإراقة الدم تقربا إلى الله، عز وجل، فذلك مما لا يكون لسواه، بل الذبح لغيره على جهة التعظيم: شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة بعد إقامة الحجة الرسالية عليه إن كان جاهلا، بخلاف الذبح لغيره على جهة الإكرام، فهو من إكرام الضيف المأمور به شرعا إيجابا أو استحبابا.
وفيه أيضا إشارة إلى الرزق الكوني، فينتفع بلحوم الأنعام التي جاء ذكرها على جهة إضافة الجنس الأعلى بهيمة فيعم سائر أنواع الحيوان، فهو مجمل بينه ما أضيف إليه من الجنس الأدنى، فاقتصر على أفراد بعينهم من عمومه، فلا يكون هدي إلا بإبل أو بقر أو غنم، على تفصيل في أعمارها وأوصافها في باب الهدي والمناسك من كتاب الحج في مدونات الفقه الإسلامي، وبيان هذا الوجه:
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ: على جهة التعقيب بأمر يدل على الإباحة التي لا تخلو من معنى المنة، فلا منة بمحرم، وأمر ثان يدل على الوجوب فذلك من عناية الشارع، عز وجل، بالفقير والمسكين على القول بالتغاير بين مدلول كلا اللفظين: البائس والفقير، وفي الآية دليل لمن ضعف دلالة الاقتران، فلا يلزم من اقتران أمرين أو نهيين تساويهمافي الحكم إيجابا أو استحبابا أو إباحة، بل قد يرد أحدهما للوجوب والآخر للإباحة، كما في هذا الموضع من التنزيل، ونظيره قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، فالأول: "كلوا" للإباحة على جهة الامتنان، والثاني: "وآتوا": للإيجاب، وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، فلا يلزم من اقترانهما على جهة العطف تساويهما في الحكم فيكون الغسل من الجنابة كالتبول في الماء، فالأول: مباشرة طاهر لطاهر، بخلاف الثاني فهو مباشرة نجس لطاهر، فحصل التغاير في الحكم تبعا للتغاير في الوصف.
ثم جاء التذييل بجملة من النعم الشرعية: (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، في معرض ما تقرر من امتنان الرب، جل وعلا، على عباده فإيجاب هذا النسك تطهيرا للنفوس وتحصيلا للمنافع الدينية والدنيوية، فالشرع خير كله ونفع كله لعموم المكلفين في عموم أحوالهم العاجلة والآجلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 06 - 2010, 11:47 ص]ـ
ومن نفس السياق تقريبا في سورة الحج:
ومن قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ):
فذلك جار على ما تقدم من الامتنان بالشعائر الدينية التي بها يحصل للعبد كمال الحال في الدين، ولا تخلو من منفعة دنيوية عاجلة، فبنحر البدن وذبح البقر والغنم، تراق الدماء قربة من أعظم القربات إلى الرب، جل وعلا، ويحصل الانتفاع بلحومها فـ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، فحصلت العناية الشرعية ببيان أحكام الشعيرة، وحصلت العناية الكونية بتسخير البدن وسائر الدواب للإنسان، فمن لحومها يأكل، ومن ألبانها يشرب، ومنها ركوبه، فالمنة عامة، فالأصل في الأشياء الإباحة، وفي
(يُتْبَعُ)
(/)
الأعيان، ومنها البدن وسائر الأنعام، الطهارة إلا ما استثنى الدليل من الأعيان النجسة، كالكلب والخنزير، وأما الذبائح فقد خرجت عن هذا الأصل احترازا، فالأصل فيها الحرمة تحرزا مما لم يذبح، أو ذبح ولم يذكر اسم الله، عز وجل، عليه، في البلاد التي يغلب على الظن عدم تسمية أهلها على ذبائحهم، فهم إما وثنيون لا عهد لهم بالتسمية، وإما كتابيون قد هجروا هذا الحكم فليسوا من أهل: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، وفي "فتح القدير": "وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابيّ يسمى غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن، وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ويدل عليه أيضاً قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [النحل: 115] ". اهـ
فيكون ذلك من قبيل تخصيص عموم: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، بـ: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ)، و: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "البحر المحيط" رحمه الله.
فخرجت الذبائح عن أصل الإباحة، فذلك من قبيل تخصيص المنة العامة صيانة لحق الله، عز وجل، فيجري مجرى النهي عن اتخاذ القبور مساجد، فذلك، أيضا، من قبيل التخصيص لعموم المنة الربانية في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" صيانة لجناب التوحيد بسد الذرائع إلى الشرك بالغلو في المقبورين باتخاذ قبورهم مساجد، والمنة معنى يناسبه التوكيد فقدم ذكر البدن منتصبة على الاشتغال، فتكرار العامل المقدر والمذكور مئنة من التوكيد، وذكر لفظ البدن مصدرا بـ: "أل" الجنسية مئنة من استغراق عموم جنس البدن، وهي النوق العظام البدن، فالعموم فيها جار على ما تقدم من عموم المنة، ولا تخلو من معنى العهد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد صارت علما بالغلبة على الإبل التي تهدى إلى البيت دون غيرها، فذلك نوع تخصيص بعرف الشارع الذي قصر دلالة اللفظ العام على بعض أفراده.
وأضيف الجعل إلى الرب، جل وعلا، على جهة التعظيم بإسناد الفعل إلى ضمير الفاعلين: "نا"، فذلك، أيضا، من تقرير معنى العناية بالمنة الربانية، بتشريع نحر البدن وذبح الهدي قربانا إليه، تبارك وتعالى، فذلك من الجعل الشرعي: "لكم": فدلالة الاختصاص في اللام: تقرير آخر لدليل العناية بالمكلفين، فما نزلت الكتب وشرعت الأحكام إلا عناية بهم، بإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا، فأحكام الشرع خير كلها، فمن العليم الحكيم قد صدرت، فله كمال الإحاطة والتدبير الكوني والشرعي، فبكلماته الكونية النافذة يكون تدبير الكون، فتجري الشموس والأجرام في أفلاكها بسننه الكوني النافذ، وبكلماته الشرعية الحاكمة يكون تدبير الشرع، فيعلم الحلال والحرام من كلام النبوات فهي الواسطة بين الحق والخلق، ولا أنفع من علم الحلال والحرام، فإن شرف العلم بشرف المعلوم وعظم نفعه للمكلف، والعلم بالشرع أشرف أجناس العلوم، فعلوم الأنبياء عليهم السلام أصح وأكمل العلوم، والعلم به أعظم ما ينتفع به العبد في العاجلة بصلاح الحال، وفي الآجلة بصلاح المآل، فسعة في الدنيا، وإن ضاقت أسباب الرزق، وسعة في الآخرة، دار النعيم الكامل.
فالبدن من جنس شعائر الله، التي أضيفت إلى الرب، جل وعلا، على جهة التشريف بالنظر إلى أعيان البدن، فذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه عناية بشأنه وتنويها بذكره، فليست البدن التي تساق قربانا إلى الله، عز وجل، كسائر النعم، وإن كان معنى المنة في جميعها حاصلا، وإن كان النظر إلى تشريع نحر البدن، فذلك من إضافة الكلمات الشرعيات إلى قائلها، جل وعلا، فذلك من إضافة الصفة إلى الموصوف بها، فشعائره من كلماته الشرعيات الحاكمة، التي صدرت منه، جل وعلا، صدور الوصف من الموصوف على الوجه اللائق بجلاله، فتكلم بها لما شاء سن الشرائع وتقرير الأحكام، فبعث، رسله، بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام فـ: (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فذلك، كما تقدم مرارا، من
(يُتْبَعُ)
(/)
أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، فالنبوات وما جاءت به من كلمات الوحي، أشرف أجناس النعم كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
ثم جاء الابتداء على جهة التنكير: "خير" مؤخرا، فذلك وجه تجويز الابتداء به، بالنظر إلى الصناعة النحوية، فضلا عما يدل عليه، بالنظر إلى الصناعة البلاغية، من توكيد معنى المنة بتقديم ما حقه التأخير، فلكم لا لغيركم، فيها لا في غيرها: خير نكر تعظيما، فالمنة يناسبها معنى التعظيم وهو من أغراض التنكير كما قرر ذلك البلاغيون، وضمير المخاطب في: "لكم" من قبيل خطاب غير المعين، فالعبرة بعموم معنى خطاب التشريع الذي يشمل سائر المكلفين على القول بخطاب الكفار بفروع الشريعة، أو سائر المؤمنين دون نظر إلى أفراد بعينهم، على القول بعدم خطاب الكفار بخطاب الشريعة، فالعبرة، كما تقدم، بعموم خطاب التشريع، لا بخصوص خطاب المواجهة لمن نزلت عليهم الآيات ابتداء، وذلك العموم جار على ما تقرر مرارا من عموم المنة بالشرع إلا ما ورد الدليل على اختصاصه بأفراد بعينهم.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ: فذلك من شكران النعمة بالتزام حكم الشرع بوجوب ذكر اسم الله على البدن حال نحرها قائمة، واصطفافها متقاربة مئنة من جلالة هيئتها، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك مما يلائم مقام النسك الذي يظهر فيه العبد كمال الخضوع والذل للرب ذي الجلال تبارك وتعالى. فلكل نعمة كونية: تكليف شرعي به يكون شكرانها، وذلك جار على ما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين أحكام الربوبية، ومنها ربوبية الإنعام، وأحكام الألوهية، ومنها شكر هذه النعم بذكر اسم الله، عز وجل، حال الاستمتاع بها.
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا: فالوجوب في هذا السياق يحمل على حقيقته اللغوية المطلقة، فدلالته المعجمية هي السقوط، وفي اللسان: " وأَصلُ الوُجُوبِ السُّقوطُ والوقُوعُ ووَجَبَ الميتُ إِذا سقَط وماتَ ويقال للقتيل واجِبٌ وأَنشد: حتى كانَ أَوَّلَ واجِبِ. والوَجْبة السَّقطة مع الهَدَّة وَوجَبَ وجْبةً سَقَط إِلى الأَرض ليست الفَعْلة فيه للمرَّة الواحدة إِنما هو مصدر كالوُجوب ووَجَبَتِ الشمسُ وَجْباً ووُجُوباً غابت"، فالغياب مئنة من سقوط الشمس من كبد السماء، أو سقوط حاجبها في مقابل ارتفاعه أول النهار.
فالإبل إذا نحرت قائمة، كما جاءت بذلك السنة، فإنها تسقط على جنوبها، وذلك أيسر في نحرها، فلا يحمل الوجوب في هذا السياق على الوجوب الشرعي، كما عند أهل الأصول، أو العقلي، كما عند أهل النظر، أو الصناعي كما عند أهل الفنون من نحو وصرف .... إلخ، فلكل منها قرائن تحتف بها فتعين المراد، فالسياق، كما تقدم مرارا، أصل في تعيين مراد المتكلم، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ: على جهة الفور الذي تدل عليه فاء التعقيب، ولا تخلو من معنى السببية، فالأكل والإطعام فرع عما تقدم من النحر، فلا يكونان إلا بعده، فجاء الامتنان بإباحة الأكل من الهدي، على خلاف فيما يؤكل منه وما لا يؤكل، فذهب الشافعي، رحمه الله، إلى المنع مطلقا فالهدي قد خرج بالإهداء من ذمة من أهداه فلا يحل له الانتفاع بشيء منه، والسنة ترجح خلاف ذلك فقد أكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هديه، وتلك قرينة ترجح قول من أوجب الأكل منها، فيكون الأمر في: "كلوا" على أصله، ففعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد وقع بيانا لمجمل واجب، فيحمل على الوجوب، ومن حمل الأمر على الإباحة فذلك، جار على ما تقدم من امتنان الرب، جل وعلا، على عباده، بشرع الإهداء قربة، والانتفاع بلحمه فتعم المنة به أمر الدين والدنيا معا، وعطف عليه الأمر بالإحسان المتعدي إلى القانع والمعتر، فذلك، أيضا، من عنايته، جل وعلا، بأهل الفقر والفاقة فشرع من الأحكام ما يسد خلتهم وجوبا أو استحبابا، فيكون ذلك من شواهد ضعف دلالة الاقتران فقد عطف الأمران: "كلوا" و: "أطعموا" على جهة الاقتران مع اختلاف مدلوهما.
(يُتْبَعُ)
(/)
كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: فذلك من التذييل بتكرار التذكير بتسخير الأنعام بالأمر الكوني ليقع الشكر بامتثال الأمر الشرعي، فلا تذبح إلا لله، عز وجل، ولا يكون انتفاع بلحومها إلا على الوجه الذي شرعه الرب جل وعلا.
فـ: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: فلا يصله من عباده لحوم البدن أو دماؤها، فهو الغني عنهم وعن ذبائحهم، بل هو الذي خلقها ابتداء ليمتن على العباد بالانتفاع بها، فكيف يفتقر إلى شيء منها؟!، وإنما يناله، على جهة طباق السلب إمعانا في تقرير المعنى بنفي ضده، فيصله منكم: التقوى التي تحصل في القلب بامتثال أمر الشرع في الهدي خصوصا وفي سائر الشعائر عموما، وهو مع ذلك، غني عنها فـ: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، فالعباد هم الذين ينتفعون بما يعملون من أعمال البر، فلا منة لهم على الرب، جل وعلا، بل المنة منه، تبارك وتعالى، أن شرع لهم أسباب التقرب إليه ويسرها لهم، فجاءت أعمالهم على ما يحب ويرضى، فأي منة أعظم من منة التيسير لأسباب الخير وقبوله ممن فعله، فذلك من فضله، جل وعلا، ولو شاء لرده عدلا، فلا يظلم ربك أحدا.
ثم جاء التذكير بمنة التسخير، فذلك من الإطناب بالتكرار، فينتفع الذابح بالأكل من هديه ويتنفع غيره بالإهداء له والتصدق عليه، وما يقابلها من الشكران بامتثال أمر التشريع فـ: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ: فـ: "على" في هذا السياق تفيد التعليل، كما أشار إلى ذلك صاحب "المغني"، رحمه الله، في الفصل الذي عقده لبيان معاني "على" في: "مغني اللبيب"، (1/ 163).
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: بقبول العمل فحصل لهم كمال الانتفاع، فاستمتاع بالنعمة، وذلك قدر مشترك بين سائر البشر، وخروج من عهدتها بأداء حقها، فذلك القدر الفارق بين المؤمن والكافر، فالأول من حزب: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)، والثاني من حزب: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 06 - 2010, 05:15 ص]ـ
وعودة إلى سورة الشورى:
ومن قوله تعالى:
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ:
فذلك من دلالة الإيجاد فله ملك السماوات والأرض، على جهة الاختصاص والملكية فله ملك أعيانها وتدبير أحوالها، فذلك الملك التام، وهو مئنة من كمال ربوبية الإيجاد بالخلق تقديرا وتصويرا، وربوبية العناية تدبيرا بالشرع والكون، فالقدر الكوني تحفظ به الأبدان والقدر الشرعي تزكوا به الأرواح، كما تقدم مرارا، وذلك مئنة من كمال قدرته وحكمته، فيخلق، على حد الفصل فهو من لوازم الملك فحسن الفصل فلا عاطف بينهما للارتباط الوثيق بينهما، فالخالق، عز وجل، بقدرته، هو المدبر بحكمته، وبكلا الوصفين تثبت له صفة الملك، فهو المليك الجامع لوصفي: الملك والمالك، على جهة الكمال، فليس ملكا متصرفا في ملك غيره، وليس مالكا يتصرف غيره في ملكه، بل له كلا الوصفين على الوجه اللائق بجلاله، والمضارعة في: "يخلق" مئنة من التجدد والحدوث، فذلك أبلغ في بيان كمال قدرته على إيجاد الكائنات، فيخلق ما شاء من الأعيان والأوصاف لدلالة: "ما" على العموم فذلك أبلغ في التوكيد على عموم القدرة على الإيجاد، ثم خص بعد عموم الخلق بذكر خلق الذكور والإناث لكونه مما تتعلق به النفوس، واستوفى السياق القسمة العقلية فيهب الإناث ويهب الذكور ويمنع من شاء منهما، فيجعله عقيما فذلك من الجعل الكوني النافذ، وذلك التقسيم المستوفي لأوجه القسمة العقلية في هذا الشأن مئنة من كمال قدرته وحكمته أن نوع بين أقدار عباده، لتظهر آثار ربوبيته، بتنوع الأقدار والأحوال، وجاء التذييل بالعلم والقدرة فذلك مما يلائم أمر الخلق، فلا يكون خلق إلا بعلم سابق يقدر به الرب، جل وعلا، الكائنات، وقدرة على إيجاد تلك الكائنات المقدرة في عالم الغيب: في عالم الشهادة، كما قد قدر الرب، جل وعلا، أزلا، فيأتي الخلق الإيجادي اللاحق مصدقا للخلق التقديري السابق بلا زيادة أو نفصان مئنة من إتقان الصنعة وإحكام الخلقة.
والتذييل من جهة أخرى قد صدر بالناسخ المؤكد: "إنه"، فذلك من التذييل بالعلة، فحسن الفصل بينهما، أيضا، فلا عاطف، لشبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، والتذييل بالعلة في سياق إثبات كمال وصف الرب، جل وعلا، قدرة وعلما وحكمة، مما يزيد النفس طمأنينة ورضا بقدر الرب، جل وعلا، فإن أعطى فشكرا، وإن منع فصبرا وحمدا، فقد أعطى كل مكلف ما يلائمه، ولكن النفوس بغلظ حجابها لا ترى إلا وجه المصلحة العاجل، وإن ترتب عليه مفسدة آجلة، فالغلام الذي قتله الخضر، عليه السلام، كان باعتبار الحال: قرة عين لوالديه، وباعتبار المآل: سببا في شقائهما لو عاش، فصارت المصلحة في قتله، ولو كان ذلك فسادا في الظاهر، فقد أطلع الرب، جل وعلا، الخضر، عليه السلام، بما أوحاه إليه، فهو نبي على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، أطلعه على تلك المفسدة الآجلة التي كانت غيبا قد اختص الرب، جل وعلا، بعلمه، فلا يطلع عليه إلا من شاء من عباده برسم النبوة، فصارت المصلحة في ارتكاب أخف الضررين، فدرءت مفسدة القتل الصغرى مفسدة الكفر العظمى، وذلك النظر، الدقيق، كما تقدم في مواضع سابقة، هو خلاصة علوم النبوات.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 06 - 2010, 05:39 ص]ـ
ومن سورة الزخرف:
ومن قوله تعالى:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ:
أي صيروا أو اعتقدوا له في تناقض عجيب أفاده تقدم الوصف على موصوفه المنكر فصار حالا، وهو أبلغ في الإنكار باستحضار تلك الحال الحادثة، فهي حال عجيبة تدعو إلى الدهشة والاستنكار إذ جمعوا بين النقيضين: الخالقية والمخلوقية، فإن اتخاذ الملائكة بنات لله، عز وجل، ولازم ذلك الاتحاد في الماهية إذ الولد من جنس أبيه، وهي مع ذلك من عباده، فكيف يصح في الأذهان الجمع بين اعظم متناقضين: الربوبية والعبودية، فيجتمع في الملائكة وصف الربوبية، فذلك لازم البنوة، ووصف العبودية فهي من جملة عباد الله عز وجل.
ثم ذيل بعلة ذلك الفساد في التصور على حد الفصل: إن الإنسان لكفور مبين، فجحوده مبين قد جاء مؤكدا باللام المزحلقة، وتنكير الوصف مئنة من العظم فضلا عن وصفه بأنه مبين.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ: فذلك إضراب انتقالي إلى الإنكار عليهم دعوى اتخاذ الرب، جل وعلا، البنات، ففيه ذم آخر غير الذم الذي ذيلت به الآية السابقة فلم يبطله وإنما انتقل منه إلى وجه آخر من وجوه الإنكار، فالإنكار هنا بالإنشاء الذي أفاده الاستفهام الإنكاري الإبطالي لما بعده، إذ ما بعده باطل غير كائن بداهة، والإنكار الأول: إنكار بالجملة الخبرية المؤكدة بالناسخ واللام، كما تقدم، لذلك حسن الفصل بينهما فلا عاطف بل استأنف بالاستفهام لعدم التناسب اللفظي بين الخبر والإنشاء، فالأصل في العطف: التماثل فيعطف الإنشاء على الإنشاء، والخبر على الخبر، على تفصيل في ذلك أشار إليه ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب"، فقد أجاز بعض النحاة ذلك، وإن كان خلاف الأصل، والتنزيل جار على ما اشتهر في لسان العرب إمعانا في البيان الذي تقام به الحجة الرسالية.
وتوجه الإنكار إلى الاتخاذ أبلغ في نفي أوصاف النقص عن الباري، عز وجل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو يشمل الاتخاذ بالولادة، والاتخاذ بالتبني، وسائر صور الاتخاذ، لدلالة تسلط الاستفهام وهو قائم مقام النفي على المصدر الكامن في الفعل: "اتخذ"، فيفيد النفي العام لكل صور اتخاذه، عز وجل، للولد، فذلك من معاني النقص المطلق التي يتنزه عنها الباري، عز وجل، فلا ينفك الولد، وإن كان كمالا من وجه في حق البشر، لا ينفك عن نقص لازم، فمعنى الافتقار إلى الولد لا ينفك عنه، وهو معنى منتف عن الباري، عز وجل، بداهة فهو الغني عن خلقه، بل هم المفتقرون إليه في كل شأن خاص أو عام، ديني أو دنيوي، فيفتقرون إلى الوحي مادة حياة أرواحهم ويفتقرون إلى الزرع مادة حياة أبدانهم، فيفتقرون إليه إيجادا وإعدادا وإمدادا، فتلك من علامات تفرده، جل وعلا، بربوبية الإيجاد والعناية، محل البحث، ومجيء الصلة مشتقة من مادة الخلق أبلغ في إبطال معتقدهم لوقوع التباين بين جنس الخالقية وجنس المخلوقية، فليس الخالق كالمخلوق بداهة ليصح اتخاذه صاحبة أو ولدا منه، فإن الأعلى لا يتخذ من الأدنى، ولا يتخذ الزوج زوجا إلا من نظيره فذلك من القياس العقلي الصريح، والرب، جل وعلا، لكمال تفرده بأوصاف الكمال ذاتا وصفات، لا نظير له ليصح اتخاذه زوجا منه، فانتفى الولد لزوما إذ لا ولد بغير زوجية، فإن ادعى أحد التولد بلا زوجية، كأصحاب مقالة التولد الذاتي من الفلاسفة، فإن نفي الاتخاذ على ما تقدم من عمومه مبطل لادعائهم فهذا دليل الخبر، وأما دليل العقل فهو ما يلزم من ذلك أيضا من اتخاذ الخالق ولدا من المخلوق، وهو لا ينفك عن معنى افتقار ذاتي لازم للمتخذ، والرب، جل وعلا، كما تقدم، منزه عن كل صور الافتقار، فهو الخالق لما سواه فلا يفتقر إلى ما خلقه بيديه، فذلك داخل في حد دلالة الإيجاد والاختراع فالموجد غير الموجَد، فلا يماثله في الكيف وإن شاركه على جهة الإطلاق لمعاني الصفات فذلك اشتراك لا يلزم تشبيه أو تمثيل.
(يُتْبَعُ)
(/)
وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ: فذلك من التنزل مع الخصم في الجدال كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلو كان الأمر كذلك وجاز على سبيل الفرض العقلي المحض أن يتخذ الرب، جل وعلا، ولدا، لاتخذ من الجنس الأعلى، فمقالهم قد جمع أطراف القبح، فأثبتوا وجه النقص وليتهم اختاروا الصورة الأعلى بل اختاروا الصورة الأدنى، فذلك على حد قوله تعالى: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فذلك، أيضا، على حد الفرض العقلي المحض فلا يلزم من مجرد الشرط: وقوع المشروط، بل ذيل بما ينفيه رفعا لأي احتمال، ولو بعد، فـ: سبحانه هو الله الواحد القهار، على حد القصر بتعريف الجزأين، فلا واحد في ربوبيته وألوهيته إلا هو، وإن ادعيت أفعال الربوبية من خلق وتدبير لغيره فتلك دعوى يشهد عجز تلك الأرباب على بطلانها فلا تملك لنفسها فضلا عن غيرها حياة أو موتا، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)، وإن صرفت أفعال التأله لغيره من صلاة ودعاء، فليس ذلك بمغن في إثبات صحة التأله لها شيئا، فهي مجرد دعوى تفتقر إلى دليل، فكل يدعي صحة طريقته، ولا يفصل بين المتنازعين في هذا الباب الجليل إلا النبوات، فـ: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).
فهو الواحد في ذاته القهار في أفعاله فلا يتصور أن يتخذ من ذلك وصف كماله المطلق ولدا يقدح فيه بالنقصان الذي لا ينفك عن اتخاذ الولد أيا كان ذلك، وأيا كان شرف الولد ملكا كان أو نبيا، ففكرة التولد فكرة يلازمها النقص لزوما عقليا لا انفكاك فيه، فسواء قيل بأن الولد قد تولد تولدا حقيقيا، كما يقع في عالم الشهادة فيكون الرب، جل وعلا، قد اصطفى من الجن أو الإنس صاحبة!، فاستولدها ابنا، وذلك أمر يكفي تصوره وتصور أوجه النقص فيه من حاجة إلى ما يستقبح التصريح به، يكفي ذلك في إبطاله، أو كانت ولادة عقلية كما يتفلسف بعضهم، فتكون الكلمة قد تولدت منه وتجسدت في الأقنوم الثاني الذي حل في رحم البتول عليها السلام ليخرج ابن الإله من فرجها بعد أن اكتمل خلقه في رحمها تسعة أشهر كاملة!، وتجسد الكلمة وهي صفة الرب، جل وعلا، في جسد كثيف مخلوق، نقص يتنزه عنه، الباري، عز وجل، إذ يلزم منه حلول صفة غير المخلوق في مخلوق محصور يعتريه من النقص والفساد الجبلي ما يعتريه، فيلحق النقص بل الفناء وصفه، ولازم ذلك طروء النقص على ذاته القدسية فهي سلسلة من اللوازم العقلية من جنس سلسلة لوازم مقالة المعتزلة في مقالة: خلق القرآن، ففي كليهما ادعى القائل حلول غير المحدود: كلمات الرب، جل وعلا، الشرعية كما في مقالة المعتزلة، أو الكونية كما في مقالة النصارى الذين زعموا أن المسيح عليه السلام هو ذات الكلمة التكوينية "كن" والصحيح أنه بها كان، فقال الرب ذو الجلال والإكرام: كن فكان المسيح آية كونية للناس إظهارا لعموم القدرة الربانية في خلق الكائنات الأرضية من طين بلا اب أو أم، ومن اب بلا أم، ومن أم بلا أب، ومن أم وأب، فاكتملت أوجه القسمة العقلية في معرض إثبات عموم قدرته، عز وجل، على الإيجاد، فذلك، أيضا، وجه من أوجه دلالة الإيجاد، محل البحث، استفيدت من وصفه بوحدانية الذات، وتنزهه عن الحدوث، فهو الخالق للأزواج التي تتولد منها الكائنات، بسنن الإيجاد المطردة التي خرقت في معرض الإبداع بخلق حواء أو الإعجاز بخلق المسيح عليه السلام، فله، عز وجل، من الخالقية أشرف المراتب، فهو الخالق المقدر الموجد لما خلق كما قد قدره أزلا ثم شاء إيجاده في عالم الشهادة فجاء كما أراد، ثم دبر أمره في الدار الأولى، ثم أنشره في الدار الاخرة، فخالقيته قد عمت سائر أحوال عباده، فخلق الأعيان وخلق الأفعال وخلق أولا ثم بعث ثانيا، فله المثل الأعلى إذ الإعادة أهون من الإبداع وكلها على الرب، جل وعلا، هينة.
وفي كلا القولين، (قول النصارى والمعتزلة): يلزم القائل حلول ما لا ينتهي فيما ينتهي، فكلمات ربنا، عز وجل، لا منتهى لها، فله في كل قدر كلمة كونية نافذة، والأقدار تتوالى فلا انتهاء لها، حتى في دار القرار، فآحاد نعيمه في الجنان تكون بالكلمات، وآحاد عذابه في النيران تكون بكلمات، فإن صح حلول بعضها في مخلوق منتهي الأركان فذلك حط من وصف الرب ذي الجلال والجمال يتنزه عنه بداهة، وهذا أصل جليل قرره أهل العلم في هذا الباب الشريف من أبواب العلم الإلهي أشرف أجناس العلوم. فلا منتهى لكمال صفات الرب، إذ كمالها فرع عن كمال الذات القدسية المتصفة بها على الوجه اللائق بجلاله.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 06 - 2010, 05:59 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ:
فذلك إمعان في التوبيخ صدر بالتهكم إذ ليست الإناث في أعرافهم مما يبشر به صاحبه، بل هو مما تسود به وجوههم لفساد تصورهم تصور: "والله ما هي بنعم الولد: نصرهن بكاء وبرهن سرقة! "، فجاءت النبوة لتذهب هذا الفساد بمادة صلاح علمي أعطى الإناث، معدن الرحمة بحكم ما جبلن عليه من الرقة التي تفنن كثير منهن في إهدارها بمزاحمة الرجال وظائفهم حتى صرن نسخة مشوهة من الذكور فخرجن عن مقتضى الفطرة الأولى وذلك مظنة الفساد في أي شأن دينيا كان أو دنيويا، فأي خروج عن الفطرة الأولى معارضة للسنن الكونية المحكمة ومعارضة المحكم لا تكون إلا بمتشابه مضطرب من الأقوال والأفعال فلا يتبعه إلا من زاغ قلبه، فجاءت النبوة لتزيل ها الفساد فـ: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ"، و: "مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ"، و: " ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم"، و: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"، و: "إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" إلا ما استثناه الشارع، عز وجل، من الأحكام التي اختص بها كل جنس، بمقتضى ما جبله الله، عز وجل، عليه من الخلقة الملائمة للوظيفة التي اختص بها، فذلك من الإيجاد المحكم لكل نوع فيلائمه من الوظائف ما لا يلائم الآخر، فوظيفة العبودية: وظيفة عامة تشترك فيها كل الخلائق إما برسم التكليف الشرعي أو التسيير الكوني فـ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، ووظائف الدنيا تتفاوت من جنس لآخر بل من فرد لآخر فليست وظائف الذكر، وقد جبل على القوة والشدة، أو هكذا يفترض!، كوظائف الأنثى وقد جبلت على الضعف واللين، فذلك، أيضا، من دلائل الإيجاد المعجز بخلق الزوج ونظيره لتظهر فيه آثار العناية بكلٍ إذ خلق له نظيره الذي يكمل نقصه ويجبر كسره، فتلك من آثار حكمته، فأوجد بقدرة نافذة، وهدى بحكمة بالغة، فهو: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
وفي السياق مزيد تنزل معهم في الجدال، إذ كيف استجاز أولئك المحجوبون نسبة ما تأنف منه أنفسهم إلى الرب، جل وعلا، فهلا نسبوا إليه الجنس الأعلى إن كانوا لا بد فاعلين؟!، مع كون الأمر محالا في حقه، عز وجل، على كل حال، وإنما هو جار على حد ما تقدم من التنزل مع الخصم في الجدال، ومع كون ما أنفت منه نفوسهم مما لا تأنف منه النفوس لمن فقه هذا الشأن فالإناث إن أحسن وليهن تأديبهن رأيت منهم صلاحا ورحما لا تراها من كثير من الذكور غلاظ الأكباد لا سيما في هذه الأعصار، ومناط أي صلاح في المعاش تعظيم أمر الرب، عز وجل، وتأويل شرعه في خلقه تأديبا وتهذيبا فمن أدب رعيته خاصة كانت أو عامة بأدب الشرع فإنه ملاق بذلك من الخير ما تقر به عينه في الدارين، فصلاح في الأولى ونجاة في الآخرة.
ومن قوله تعالى:
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ: فذلك من تمام الإنكار عليهم إذ نسبوا إلى الرب، جل وعلا، ما لا يقدر على الانتصار فلا يجيد المخاصمة أو المقاتلة، فذلك جار على حد ما تقرر من التنزل مع الخصم في الجدال، فالإنكار فيه معتبر، وذلك مما يلائمه تقدير محذوف عقيب الاستفهام على وزان: أفسد قياس عقولكم وجعلتم الأدنى لله، عز وجل، والأعلى لكم، فالإنكار فيه من جنس الإنكار في قوله تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى)، فالاستفهام إنكاري إبطالي لما بعده باعتبار عدم وقوعه، فالأصل باطل كما تقدم، فلم يتخذ، جل وعلا، ولدا من هذا الجنس أو ذاك، وهو توبيخي باعتبار ما ادعوه له، جل وعلا، إذ ادعائهم قد وقع بالفعل فاستلزم الإنكار عليهم بتوبيخهم وتقريعهم بهذا الاستفهام. وهو يدل على كمال انفراده، جل وعلا، بإيجاد جميع الأجناس والأنواع فانتفى اتخاذه الولد على
(يُتْبَعُ)
(/)
جهة العموم فـ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ)، وانتفى اتخاذه البنات على جهة الخصوص، فذلك لازم الإنكار في هذه الآية وفي نحو قوله تعالى: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، فلا ند له، جل وعلا، ولا نظير، ولا شريك له في وصفه، فإن الولد، كما تقدم، يشارك أباه الوصف، وإن باينه في العين، فلكل عين تقوم بنفسها، ولازم هذه المشاركة الباطلة: بطلان انفراده، جل وعلا، بخصائص الربوبية من إيجاد وتدبير، فيكون له فيها شريك، وهذا لازم مقالة كل من أشرك معه غيره في الذات والصفات، كما فعل النصارى الذين أشركوا معه الروح القدس والمسيح، عليهما السلام، على نزاع بينهم كبير، لم ولن يفصل، أبدا، لعدم جريانه على أصول عقلية صريحة، فهو من المحال الذاتي الذي لا تأتي به نبوة صحيحة، وإنما ينسب إليها زورا وبهتانا، فمن جعل الأقنومين: صفتين، فقد قال بتجسد الصفات في أعيان وانفصالها عن الموصوف مع صحة قيامها به قيام الصفة بالموصوف، فحصل التعدد في الذوات، مع ما يدعونه من وحدانية الذات، ومن جعلهما صورتين: فتجسد الرب، جل وعلا، فيهما، فقد ألحق النقص بالخالق، عز وجل، بأن جوز حلوله في صورة مخلوقة لا تنفك عن نقص يعتريها، فهي من العدم وإلى الفناء، وذلك محال في حق الرب الأول الآخر، جل وعلا، ولا يرد على ذلك الصورة العلمية التي يراها النائم، كرؤيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه، جل وعلا، في المنام، فتلك صورة علمية في الذهن فلا وجود لها في الخارج كالصور والذوات التي أثبتها أولئك، وهو لازم، أيضا، لكل من أشرك معه غيره في الربوبية أو الألوهية فلا ينفك ذلك عن اعتقاد في الشريك بنفع أو ضر أو نوع تصرف في الكون، كما يقع من الغلاة في الأنبياء والأئمة والأولياء، فلا ينفك دعاؤهم عن اعتقاد بنفعهم وضرهم، فالعاقل لا يدعو من يعتقد أنه لا يضر ولا ينفع، وإنما يرد الفساد على تصوره، فيعتقد النفع أو الضر فيمن لا يملكهما، فيدعوه لزوما، فذلك من الشرك في التصريف لأمر الكون والتدبير لشأن الخلق. ومثل أولئك من أشرك معه غيره في التدبير الحكمي الشرعي، فاستعار أحكام البشر، لتفصل في منازعاته، فلم يرد الأمر إلى الشارع، جل وعلا، فهو، أيضا، ممن قدح في دليل العناية، بتقديم ما حقه التأخير، فلسان حالهم بل مقال كثير منهم، ملاءمة الشرائع الأرضية دون الشرائع السماوية، فيكون نظر المخلوق للمخلوق، أحكم من نظر الخالق، جل وعلا، للمخلوق، وهل قدح في دليل العناية بالتدبير الشرعي المحكم أعظم من ذلك؟!، فكل قادح في كمال وصف الرب، جل وعلا، لا بد أن ينال قدحه من صحة دليل الإيجاد والعناية، فهو دليل وثيق الصلة بأوصاف القدرة والحكمة التي تظهر آثارها بدلالتي الإيجاد بالقدرة والعناية بالحكمة.
ومن قوله تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا: فذلك من الجعل الاعتقادي، فاعتقدوهم إناثا، وهو الجنس الأدنى وهم: عباد الرحمن على حد الحصر والتوكيد بتعريف الجزأين في معرض إثبات عبوديتهم في معرض الإنكار على مدعي بنوتهم لله، عز وجل، وفيه من معاني التشريف إصافة العبودية إلى الرحمن فهي عبودية خاصة على وزان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، ثم جاء الاستفهام إنكاريا إبطاليا لتخرصهم وقولهم على الله، بغير علم: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟!، فذلك من الإلزام العقلي الصريح فذلك مما لا يدرك بالحدس وإنما يدرك بالحس، ولم يدركه أحدهم بحسه بداهة، ثم جاء الخبر في معرض التهديد: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُسْأَلُونَ فرعا عن الكتابة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 06 - 2010, 05:27 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
(يُتْبَعُ)
(/)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ: فذلك من البراء من سائر المعبودات أعيانا كانت أو معان، فـ: "ما" دالة على العموم الذي يشمل سائر الأشياء: عاقلة كانت أو غير عاقلة، محسوسة كانت أو معقولة، أو يقال بأنها على وزان: "ما" في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فاللفظ دال على معنى في العين المنكوحة أو المعبودة، وهو في هذا الموضع معنى العبودية فكل ما تحقق فيه هذا المعنى من الآلهة الباطلة التي ادعي لها ما ليس لها من خصائص الربوبية فصرفت أجناس العبودية لها فهي معبودة باعتبار أفعال عابديها، فلا توصف بأنها: معبودة بحق، فذلك وصف الرب، جل وعلا، ولذلك عقب بلازم البراء مما سوى الله بالولاء له وحده لتكتمل عقيدة: الولاء والبراء بشقيها، فولاء لحزب الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وبراء من حزب أعدائهم، فالخليل إمام الموحدين أحق الناس بالبراء من أعداء التوحيد.
إلا الَّذِي فَطَرَنِي: فعلق حكم الولاية تألها للرب، جل وعلا، بوصف الفطر أو الخلق فهو من أخص أوصاف الربوبية التي تستوجب تمام التأله للباري، عز وجل، فذلك من الاستدلال بدلالة الإيجاد المعجز على غير مثال سابق على وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية تعبدا ورقا، فالفطر باعتبار النوع الإنساني، فإنه لا مثال سابق له، وباعتبار الأفراد فإن كل فرد يستقل بخصائص ينفرد بها عن بقية الأفراد ولو كان له منها توأم يماثله فلا بد من قدر فارق يظهر به إبداع الخالق، عز وجل، في كل فرد بعينه بما يهبه من الملكات الجسدية والنفسية فلو لم يكن إلا تباين الروحين بين التوأمين وإن تماثل الجسدان لكفى فكيف والاختلاف كائن بينهما في خصائص جسدية فلكل بصمة تخصه وإن شابه الإصبعُ الإصبعَ فتعاريج الجلد تتباين من إنسان إلى إنسان تباينا يدل على عظم قدرة الرب، جل وعلا، على إبداع الكائنات، ثم ذيل بالشق الثاني من أوصاف الربوبية: شق الحكمة بهداية الموحد في كل شأنه، فذلك من أدلة العناية العامة: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)
على وزان قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فهدى كل كائن إلى ما يلائمه من الأحوال الكونية فإن كان حيا حساسا هداه إلى ما يحفظ جسده من أجناس الأغذية وطرائق التناسل حفظا للنوع، وذلك أمر ظاهر في الإنسان وما يليه في الرتب التصنيفية في المملكة الحيوانية من سائر الأنواع، واطراد السنة الكونية في تناول الغذاء وهضمه مئنة من وحدانية الصانع لها، تبارك وتعالى، فتركيب الأجهزة الهاضمة واحد وإن وقع الخلاف لمن درس علم التشريح المقارن في بعض الأجزاء التي اختص بها كل حيوان على وجه يلائمه فيحصل له به كمال الانتفاع بالغذاء، فذلك التنوع، أيضا، مئنة من العناية الربانية بالكائنات، فصارت الأنواع فيما تشابهت فيه دالة على وحدانيته عز وجل، فوحدة المصنوع واطراد سننه العامة مئنة من وحدة الصانع، عز وجل، ووصفه بالصانع جار مجرى الإخبار لا التسمية أو الوصف لتوقيفية الباب فباب الإخبار كما تقدم في مواضع سابقة أوسع من باب التسمية والوصف، والاختلاف في بعض الأجزاء ليقع تمام الملائمة مع الوظيفة الحيوية من غذاء أو تناسل ...... إلخ مئنة من كمال حكمته بوقوع التخصيص فهو مئنة الإتقان فلكل نوع أجزاء تخصه بعينه فلا يقع بها كمال الانتفاع لغيره، وقل مثل ذلك في اطراد السنة الكونية في التزاوج بين أفراد النوع الواحد استيلادا لأفراد جدد يحفظ بهم النوع فلكل زوج من نوعه ما يلائمه فلا يقع التزاوج بين نوعين متباينين فذلك مظنة الفساد ولو جزئيا، فالبغل مع قوة احتماله وسرعة عدوه لتولده من الحمار والحصان لا ينفك عن فساد في بنيته لكونه عقيما لا يلد، فذلك التخصيص في التزواج مع التشابه العام في آلات التوالد، هو، أيضا، مئنة من عنايته، عز وجل، بالكائنات فقدر بحكمته لكل فرد زوجا يلائمه، بل داخل أفراد النوع الواحد لا يصلح التزاوج بين أي فردين، وذلك أمر مشاهد في النوع الإنساني، فلا بد من وقوع التلائم بين الزوجين روحا وجسدا ليقع كمال الاستمتاع وكمال الود الذي ينتظم به أمر الحياة، وفي التنزيل: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ
(يُتْبَعُ)
(/)
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فأسعد البيوت ما أقيم على صفو المحبة من الود فإن لم يكن فرحمة تصلح بها العشرة في ظل الشرع العاصم من الظلم والتعدي إن لم يكن ثم ود ومحبة، وذلك من آيات الرب، جل وعلا، في خلق الأزواج فهو من أظهر صور العناية بالأرواح بإشباع حاجتها من الود والرحمة، والأجساد بإشباع حاجتها الفطرية إلى ما يحفظ العفة ويقي من الفتنة، فكل تلك الصور الباهرة من صور عنايته العامة بخلقه على اختلاف الأنواع والأفراد.
وأما عنايته الخاصة فهي الهداية التي أكدها الخليل عليه السلام بـ: "إن" وصدرها بالسين الدالة على قرب الاستقبال إبطالا لظن قومه أنه سيضل إن ترك ما اعتقدوا فيه الهداية وهو عين الغواية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فيهدي من اصطفى من عباده هداية شرعية خاصة: هداية التوفيق والإلهام إلى التصديق بخبر الرسالات فيحصل له تمام الانتفاع بأشرف أجناس النعمة: النعمة الدينية، وأعظم أفرادها: نعمة الوحي المنزل على قلوب صفوة الخلق، عليهم السلام، لدلالة البشر على مراضي الرب، جل وعلا، لتمتثل، ومساخطه لتجتنب.
فكل تلك النعم هي أثر هدايته، عز وجل، لخلقه، في أديانهم وأبدانهم، فكيف لا يفرد من ذلك وصفه من ربوبية الإيجاد والإنعام بأجناس التأله والعبودية؟!، وإنما دار التنزيل في مجمله على تقرير هذا الأصل فهو أصل الأصول المنجي فـ: لا إله معبود بحق شارع حاكم بعدل سواه فرعا عن لا رب صانع مدبر سواه.
وتلك هي الكلمة الباقية فـ: جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فنكرت تعظيما فهي أجل الكلمات الشرعيات التي جاءت بها النبوات، فهي شهادة التوحيد فلا إله معبود بحق إلا الله الخالق المدبر، فهو الرب بحق، جل وعلا، فذلك كما تقدم، مقدمة الاستدلال العقلي الصحيح، وهو الإله المعبود بحق فهذه النتيجة البدهية لتلك المقدمة الضرورية، فإن أدلة الربوبية قد تواترت نقلا وعقلا وفطرة وحسا، فصارت من جملة العلوم الضرورية، فهي العمدة في استدلال النبوات في مسألة توحيد الألوهية، فـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فصدر بحكم إفراده، جل وعلا، بالعبادة، وذيل بعلته: "الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ"، فالكلمة الشرعية بإفراد رب البرية، جل وعلا، بتوحيد الألوهية هي ميراث الحنيفية الإبراهيمية فجعلها إرثا في عقبه فـ: (وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وهي، كما ذكر صاحب "الأضواء" رحمه الله، دعاؤه لذريته: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وهي دعاؤه ببعث النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، فدعا الله، عز وجل، أن يبعثه بالكلمة التي لأجلها خلقت السماوات والأرض، وبها كلف الجن والإنس.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 06 - 2010, 06:12 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ):
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلك من دلائل قدرته ودلائل نبوة رسله عليهم السلام على ما اطرد من تمام العناية بهم بإهلاك أعدائهم، فناسب ذلك نسبة الفعل إلى ضمير الفاعلين تعظيما فذلك من مقام الجلال الذي يلائمه التعظيم، فوصف الانتقام من وصف فعل الرب، جل وعلا، فيوقعه بمن شاء من الكفار والفساق بصنوف العذاب التي تباينت صورها مئنة من كمال قدرته وحكمته، جل وعلا، في إيقاع العقوبة بقدر الجناية، وسببه: إغضاب العباد لربهم، جل وعلا، فهو، أيضا، من وصف فعله، عز وجل، ومن وصف جلاله تحديدا، فيغضب على الوجه اللائق بجلاله، كما في حديث الشفاعة: "إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ"، فيكون انتقامه فرعا عن غضبه، فذلك جار مجرى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ"، فالمعافاة فرع عن الرضا، والعقوبة فرع عن السخط، فيكون السياق: سياق عطف لوازم على ملزوماتها على جهة اللف والنشر المرتبين، فالمعافاة في مقابل الرضا، والعقوبة في مقابل السخط، ثم جاء بيان هذا الانتقام بـ: (فأغرقناهم أجمعين): فتلك عقوبة آل فرعون، فلم يستثن الرب، جل وعلا، من الجيش أحدا، فالتوكيد: أجمعين رافع لاحتمال المجاز بإطلاق الكل وإرادة البعض، وذلك آكد في تقرير عناية الرب، جل وعلا، بكليمه، عليه السلام، ومعيته له معية النصرة والتأييد الخاصة، فلسان مقاله عليه السلام لما تراءى الجمعان: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فعلق المعية بالربوبية، وهي في هذا المقام: ربوبية عناية بإنجاء موسى عليه السلام ومن معه، فذلك من وصف جمال الرب، جل وعلا، فينصر أولياءه، وربوبية عدل بإغراق فرعون ومن معه، فذلك من وصف جلال الرب، جل وعلا، فيهلك أعداءه، فالقياس: مطرد منعكس، فمن آمن فله النجاة والأمن، ومن كفر فله الإهلاك والخوف، وإن أمن ومكن له برهة من الزمان، ولو طالت، فذلك من استدراج الرب، جل وعلا، وإملائه لأعدائه، وفي ذكر عذاب الماضين عبرة للسامعين سواء أكانوا ممن توجه إليهم الخطاب مواجهة زمن نزول الآيات، فهم أولى الناس بالاعتبار، أم كانوا ممن جاء بعدهم ممن أسخط الرب، جل وعلا، بكفر أو فسق، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب، فقد تتباين صور العذاب، ولكن المعنى الذي يوجبه واحد، فلا يكون إلا فرعا عن كفر أو عصيان، فذلك، أيضا، من المعاني المطردة المنعكسة، فهي جارية مجرى القياس القرآني بتعلق المسبَّبات بأسبابها: وجودا وعدما، والتسوية بين المتماثلين وصفا في الحكم، والتفريق بين المتباينين، فلا يستوي الطائع فجزاؤه النجاة وإن أخيف في هذه الدار، بل قد يقتل ويمزق، والعاصي فجزاؤه الهلاك وإن أمن في هذه الدار استدراجا كما تقدم، ثم جاء التوكيد على هذا القياس بإجراء الحكم حال تحقق الوصف فالعبرة من ذكر قصة أولئك:
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ: فتلك من الآيات الباقيات خبرا أو أثرا على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر)، فالاستفهام قد ضمن معنى الطلب على تقدير: فادكروا. فهم سلف للخلف من العصاة، وهم مثل، أو أمثال، على قول أبي علي الفارسي، رحمه الله، الذي جعل ذلك من الواحد الذي أريد به الجمع، كما نقل عنه ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد صيرهم الله، عز وجل، أمثالا، فالجعل هنا بمعنى التصيير بقرينة تعديه إلى مفعولين، وقد جاء مسندا إلى ضمير الفاعلين على ما تقدم من اقتضاء المقام لإبراز وصف الجلال الذي يناسبه التعظيم اللفظي بالإتيان بضمير الجمع، وإن كان الفاعل واحدا، على ما اطرد من سنن العرب في كلامها فتعظم الفاعل بإنزاله منزلة الجماعة، ومن جهة أخرى، يقال، كما تقدم في مواضع سابقة، بأن الجمع مئنة من تعدد أوصاف الكمال الثابتة للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فالفاعل بأوصافه الكاملة الفاعلة ينزل منزلة الفاعلين، وإن كانت ذاته واحدة، فقد قام بها من الصفات ما جوز هذا الجمع، فهو جمع معنوي لا ذاتي، فذاته، عز وجل، واحدة، وإن كانت صفاته جمعا لا يحصيه إلا هو، فلا يحصي ثناء عليه، تبارك وتعالى، بأوصاف الجمال والجلال إلا هو، إذ لا يعلم حقيقة كماله الذاتي والوصفي والفعلي إلا هو.
وأشار صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، إلى وجه آخر يحمل فيه المثل على معنى المثل السائر فقد صاروا عبرة تتناقلها الأمم تناقل الأمثال الدارجة، فذلك آكد في ذمهم، والتحذير من صنيعهم، لئلا يطال من وافقهم في الوصف ما جرى عليهم من الحكم الكوني النافذ بالإهلاك، فذلك، كما تقدم، وجه اطراد هذا القياس في حق من شاكلهم في المعنى، ووجه انعكاسه في حق من خالفهم من الآخرين الذين توجه إليهم الخطاب سواء أكان خطاب مواجهة أم خطاب بيان لكل من بلغه التنزيل، فأقيمت عليه الحجة الرسالية، فالخطاب القرآني: عام لقرينة عالمية الرسالة وعموم التشريع إلا ما دل الدليل على تخصيصه.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 06 - 2010, 05:55 ص]ـ
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:
فذلك من قصر القلب لمعتقد النصارى الذين ظنوا فيه الربوبية فجاء النص على ضدها من العبودية بأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء، والعبودية من وجه آخر عبودية تشريف، فمقام العبودية أشرف مقامات البشر فكلما تمكن المكلف في هذا الباب بقلبه استسلاما وبجسده انقيادا، فالعبودية تنشأ أول ما تنشأ في القلب بتصور علمي صحيح يورث القلب محبة وإرادة استسلام للرب، جل وعلا، وتلك أنفع الإرادات فإذا سلم الملك أصلا سلمت بقية الجند فرعا، فسلم اللسان بالإقرار وصدقت الجوارح بالأعمال، وأحق الناس بهذا الوصف الشريف: الأنبياء عليهم السلام، فإنهم أعظم من حقق مرتبة العبودية باطنا وظاهرا، وفي حديث الثلاثة: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ".
وذكر الإنعام، وهو مئنة من عناية الرب جل وعلا بعبده المسيح عليه السلام، ذكر في هذه الآية مجملا وبين في مواضع أخر من التنزيل، كما أشار إلى ذلك صاحب "أضواء البيان"، رحمه الله، بقوله:
"وقوله هنا: {عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْه} لم يبين هنا شيئاً من الإنعام الذي أنعم به على عبده عيسى، ولكنه بين ذلك في المائدة، في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} [المائدة: 110] وفي آل عمران، في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين} [آل عمران: 45] إلى قوله: {وَمِنَ الصالحين} [آل عمران: 46] إلى غير ذلك من الآيات". اهـ
فنعمته، عز وجل، على روحه، عليه السلام، الذي صدر منه صدور المخلوق المشرف من خالقه، فهو العبد الذي أنعم الله، عز وجل، عليه بجملة من النعم والآيات في معرض التحدي وإجابة لسؤل الأتباع كما في معجزة المائدة التي استجاب الرب، جل وعلا، للمسيح عليه السلام، فأنزلها عيدا، وهو العبد الذي نطق في المهد بربوبية من قال له كن فكان بلا أب، فبالكلمة كان المسيح عليه السلام، وهو العبد الذي أجرى الله، عز وجل، على يديه إحياء الموات بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ، فباشر سبب الإحياء من تقدير الأجساد طينا والنفخ فيها، فكانت الحياة بإذن بارئها، عز وجل، وهو العبد الذي أعلمه الله ما يدخر العباد مما ذكر اسم الله، عز وجل، عليه، فليس إخباره من جنس إخبار الشياطين للكهان بل هو من إخبار الملائكة للأنبياء وشتان وحي الرحمن الصادق ووحي الشيطان الكاذب، فإن صدق فبكلمة يسترقها فيكذب عليها مئة كذبة يصطنعها، ولا بد أن يقيم الله، عز وجل، بمقتضى ما كتب على نفسه من الرحمة وما اتصف به من الحكمة، لا بد أن يقيم الدليل السالم من المعارضة المعجز لكل أجناس البشر، على صدق النبي وكذب المتنبئ، فإعجازه ليس لفئام دون فئام كخوارق الكهان، بل لا بد أن يظهر الفارق بين معجزة النبي وخارقة الكاهن فالأولى معجزة للنوع الإنساني لا يقدر على مثلها إلا نبي، لا على سبيل المعارضة بل على سبيل التأييد والمعاضدة، فآيات الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضها بعضا بخلاف خوارق الكهان التي يعرض بعضها بعضا فيأتي الساحر أو الكاهن بما يبطل به سحر آخر، فهم طلاب رياسة على رسم الطغيان، فلا بد أن تقع بينهم المشاحة لحظوظ النفس الطالبة للعلو في الأرض بغير الحق، بخلاف الأنبياء الذين تجردوا من حظوظ أنفسهم فليس لهم في الرياسة
(يُتْبَعُ)
(/)
أرب، بل كانوا قبل النبوة أزهد الناس فيها، فلما اصطفاهم الرب، جل وعلا، لحملها، لم يكن ثم بد بد من الخضوع للأمر والقيام بالتكليف فليس الأمر اختيارا بل هو اصطفاء بعطاء لا يقبل الرد، فالنبوة منصب شرعي باعتبار ما يلقى إلى النبي من الكلمات الشرعيات الحاكمات، كوني باعتبار الاصطفاء فالله أعلم حيث يجعل رسالته، والنبي مرسل برسم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، فهو الذي أذن بخلق النبي وأذن ببعثه فبعث إليه الروح الأمين بأمره ونهيه.
ولا بد أن يظهر في خبر النبي من الصدق والاطراد ما يعرف به صدقه، فلا تعارض بين أقواله، إلا ما قد يتوهمه الناظر، لقلة بضاعته من علوم النبوات، فهي إما أن تكون مما يمكن الجمع بينها فيجمع بتخصيص بعضها لعموم بعض، أو تنزيل كل على حال بعينه فتكون الجهة منفكة فلا تعارض ...... إلخ، أو مما يعلم متأخره من متقدمه فينسخ المتأخر المتقدم، أو مما يرجح فيه بعض على بعض إسنادا: فيقدم الصحيح على الضعيف .... إلخ من المرجحات الإسنادية، أو دلالة فيقدم النص غير المحتمل على الظاهر المحتمل ..... إلخ من المرجحات المعنوية، ولا بد أن يظهر في المقابل في خبر الكاهن من الكذب والاضطراب ما يعرف به كذبه، فالتعارض في أقواله كائن بل بين، فلو صدق في كلمة لكذب في مئة، وذلك، كما تقدم، من رحمة الله، عز وجل، لئلا يلتبس على الناس أشرف البشر من الأنبياء بأخسهم من المتنبئين، فالنبوة فرقان بين النوعين فلا تحتمل القسمة العقلية وسطا بينهما، فإما أن يكون صاحب الدعوى أصدق الناس وإما أن يكون أكذبهم، ومع كل من الأدلة ما يؤيده إن كان صادقا ويعارضه بل يبطل دعواه إن كان كاذبا.
ثم ظهرت عناية الرب العظمى بالمسيح عليه السلام فتوفاه وفاة القبض والاستيفاء لا الموت والفناء، ورفعه إليه ذاتا وقدرا وطهره من الذين كفروا وجعل أتباعه من الموحدين في كل زمان من لدن بعث فآمنت به فئام لم تبدل حتى جاء النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مصدقا لدينه فدين الرسل عليهم السلام واحد ناسخا لشرعه بالشريعة الخاتمة فصار أتباع المسيح عليه السلام هم أتباع النبي الأمين صلى اله عليه وعلى آله وسلم فهم أولى الناس بعيسى وموسى والخليل وكل نبي جليل بعثه رب العالمين، فدين الرسالات واحد، والرحم بين الأنبياء كائن فكلهم أبناء دين التوحيد وإن اختلفت أرحام الشرائع جلالا كشريعة الكليم، وجمالا كشريعة المسيح، وكمالا كشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[المراغي]ــــــــ[15 - 06 - 2010, 01:42 م]ـ
أخي الكريم ..
بعد قراءة متأنية ومكررة، لست أدري ماذا أقول ..
زادك الله من علمه ونورك كما نورتنا، وجزيت الخير كله.
ـ[الدوسري]ــــــــ[15 - 06 - 2010, 08:58 م]ـ
بارك الله فيك اخوي مهاجر
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 06 - 2010, 05:47 ص]ـ
وبارك فيك أخي أبا عبد الرحمن وجزاك خيرا على المرور والتعليق.
ومن قوله تعالى:
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ:
فلو شاء الله، عز وجل، لجعل بدل البشر الآدميين ملائكة مطهرين يخلف بعضهم بعضا في الأرض، فمن في هذا السياق تحمل على البدلية، ولكن حكمته، عز وجل، اقتضت أن يتولى بنو آدم منصب الخلافة بما ركب فيهم من شهوات وقوى تتدافع لتظهر آثار حكمة الرب، جل وعلا، في ذلك، فلو كانوا على حد الملائكة من التجرد من الشهوات والأعراض البشرية ما ظهرت آثار أسماء الله، عز وجل، جمالا وجلالا، ففقر البشر إلى المطعوم والمشروب تظهر به آثار رحمة الله، عز وجل، أن يسر لكل كائن أسباب بقائه، فتلك من دلالة عنايته بكل مخلوق بأن ركب فيه بحكمته البالغة قوى ينتظم بها أمره فذلك من دلالة الإيجاد المعجز، فآيات الإتقان في الصنعة الربانية ظاهرة، وأمد تلك القوى بما يلائمها من أسباب البقاء وفق سنن كوني محكم به تظهر آثار اسمه الحكيم، وفقر الكائنات لا سيما من تطعم وتشرب وتنكح وتأتي مواضع الحاجة وتنام وتمرض وتموت ...... إلخ من عوارض النقص تظهر به آثار اسمه الغني فمقابل فقرها الذاتي اللازم: ضده من الغنى الذاتي اللازم لله،
(يُتْبَعُ)
(/)
عز وجل، فرع عن كمال ذاته القدسية فلكل ذات ما يلائمها من صفات الكمال أو النقص، فكمال وصف الرب، جل وعلا، فرع عن كمال ذاته القدسية، ونقصان وصف المخلوق فرع نقصان ذاته الطينية.
ووقوع المعاصي والآثام من البشر المجبولين على الخطأ والنسيان ذريعة إلى ظهور آثار أسمائه: الغفور والرحيم والستير.
وجعل الناس شيعا متباينة في المقالات والآراء ووقوع المدافعة بين الأبدان في ساحات الجهاد فرعا عن وقوع المدافعة بين الأديان، فذلك حتم لازم، فلا يرضى الحق بالباطل ولو أعطى الدنية فرضي ما رضي الباطل إلا أن يظهر عليه، كل أولئك مما تظهر به آثار أسماء الجلال، فهو النصير لأوليائه القاهر لأعدائه، العزيز فلا ينال، فمن لجأ إليه واعتصم به أعزه، ومن نأى عنه ونكص على عقبيه أذله، فله من أوصاف الجلال ما ينصر به أولياءه تأويل قوله تعالى: (ِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
وهكذا تظهر في كل حركة في هذا الكون آثار من أوصاف ربنا، عز وجل، الكاملات، فلصفات الجمال مواضعها، ولصفات الجلال مواضعها، ولكل موضع ما يلائمه فمقام الانتصار من أعداء رسله عليه السلام بإهلاكهم بأجناس العذاب: مقام جلال، ومقام غفران ذنوب العائدين وقبول توبة التائبين: مقام جمال.
ويقال أيضا بأن استخلاف بني آدم على جهة الابتلاء من الرب، جل وعلا، نوع تكريم امتاز به الإنسان عن بقية الكائنات، كما قد نص التنزيل على ذلك: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، فهو من أدلة العناية بالنوع الإنساني، فالاصطفاء، كما تقدم، مظنة التكريم، فاستخلف الإنسان في الأرض، وخلافته كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين: خلافة للرب، جل وعلا، على جهة الكمال، لا عن نقص في المستخلِف، تبارك وتعالى، فاستخلفه ابتلاء لتظهر آثار قدرته وحكمته، لا لعجزه عن تسيير أمر كونه، أو لخفاء أمور خلقه عنه، كما يقع من المستخلِفين من البشر الذين ينيبون عنهم من يدبر جملة من أمورهم لعجزهم عن القيام بكل شئونهم، فيخفى عليهم ما يخفى من أحوال من أنابوهم، وذلك أمر مشاهد في الولايات العامة، لا سيما إن كان الزمان زمان جور، فملوك الجور لا ينيبون عنهم إلا من يثقون في ولائه المطلق، وإن لم يكن أهلا، فمناط الأمر عندهم: إحكام قبضتهم على ممالكهم، ولو بالجور والعدوان، فلا ينيب من ذلك وصفه، في أغلب أحواله، إلا جائرا مثله، فيخفى عليه ما يخفى من أمره، إذ ليس حريصا ابتداء على تفقد حاله أعادل هو أم جائر، وإنما يكفيه أنه يحفظ له سلطانه فيما أنابه فيه من الولايات، ولو جار وظلم من تحت يده، والشاهد أن هذه المعاني منتفية في حق الرب، جل وعلا، بداهة، فهو العليم بشئون عباده حالا ومآلا، فـ: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، فيدبر الأمور برفع وخفض، وبسط وقبض ..... إلخ من أحكامه الكونية النافذة، ولا تصدر تلك الأحكام على هذا الوجه من الإحكام والإتقان إلا من رب عليم قد أحاط بعلمه سائر خلقه، فيعلم أعيانهم ويعلم أفعالهم، بل هو الخالق لها: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فلا تتصور خلافة في حقه إلا ابتلاء للمستخلَف ليظهر كمال المستخلِف، جل وعلا، على جهة الإخبار عنه بوصف فعله، فبالاستخلاف تظهر آثار أوصافه جمالا وجلالا، وعلى هذا الوجه يصح إطلاق وصف الخليفة على العبد، فهو خليفة عن الرب، جل وعلا، في الأرض، لينظر كيف يعمل، وفي التنزيل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فذيل بالعلة، فبتلك الخلافة يظهر مقدور الرب، جل وعلا، الأزلي، في عالم الشهادة، فيناط به الثواب فضلا للمحسن، والعقاب عدلا للمسيء، فقد علم الرب، جل وعلا، حال كلٍ من الأزل، وإنما اقتضت حكمته وعدله ألا يثيب أو يعاقب إلا بعد وقوع الفعل في عالم الشهادة، وبعث الرسل عليهم السلام، بالحجة الرسالية، فـ: (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
(يُتْبَعُ)
(/)
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فيرسل الرسل عليهم السلام بمعلومه الشرعي، ويحصي أعمال العباد فهي من معلومه الكوني، ويقيم عليهم الحجة من أنفسهم فـ: (قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
وفي حق البشر يقال أيضا، كما قال الفاضل صاحب المقالة آنفة الذكر: الإنسان خليفة عمن سبقه من البشر على جهة النقصان، فذلك في مقابل خلافته للرب، جل وعلا، على جهة الكمال، ابتلاء من الرب، جل وعلا، لعبده، كما تقدم، فالمستخلِف البشري، عادلا كان أو جائرا، لا يستخلف إلا لقصور في مداركه، فلا يحيط مهما أوتي من علم وحكمة بأحوال ما استخلف غيره فيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أكمل البشر خَلْقا وخُلُقا، يستخلف إذا خرج من المدينة غازيا أو معتمرا أو حاجا، فالجبلة البشرية قاضية عليه وعلى من دونه من باب أولى بقصور المدارك عن الإحاطة بكل معلوم، فليس ذلك إلا للرب المعبود، جل وعلا، فهو العليم بالظاهر والباطن، فعلمه قد أحاط بسائر الموجودات، أعيانا وأفعالا، كما تقدم مرارا، فذلك معنى يحسن تكراره، فبه تدحض شبهات كثيرة في أمور العقائد والشرائع، فإن من تصور إحاطة الرب، جل وعلا، لخلقه بعلمه، سهل عليه الانقياد لشرعه، فهو الأعلم بما يصلح العباد، وهو الأحكم فينزل من الأحكام بقدر، كما ينزل من الأرزاق بقدر، فكل من كلماته النازلة، فيشرع لأمة ما لا يشرع لأخرى، فلكلٍ ما يلائمه، وينزل الأحكام ثم ينسخها، فلكل زمان ما يلائمه، فذلك من كمال حكمته تبارك وتعالى.
ومن صور العناية بالنوع الإنساني في هذا المقام أيضا: أنه هيأ له أسباب الخلافة فسخر له السماوات والأرض والجبال، وسخر له سائر الكائنات فذلك مما يعينه على أداء ما كلف به من إقامة شرع الرب، جل وعلا، في كونه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 06 - 2010, 06:26 م]ـ
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ:
على خلاف في مرجع الضمير، فمن جعله عيسى عليه السلام، فتقدير الكلام: وإنه لعلامة على قرب الساعة، إذ ينزل في آخر الزمان لقتل مسيح الضلالة، فتلك من أعظم صور العناية بالبشرية بالقضاء على أعظم فتنة كونية بنزول رسول كريم من أولي العزم عليهم السلام برسم التوحيد المبطل لسائر الملل المبدلة والنحل الحادثة فلا يقبل إلا إسلاما، ولا يرضى لمقالة من غلا فيه إلا إبطالا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، فبكسر الصليب تتطهر النفوس من خبث الشرك، وبقتل الخنزير تتطهر الأحشاء من خبث لحمه، فالرسالات أكمل طرائق تزكية القلوب والأبدان، فنعمتها قد عمت الروح اللطيف والجسد الكثيف، فيستوي كلاهما على سنن الفطرة، فالروح على فطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، والبدن على فطرة: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، فلو فتش الإنسان ما فتش على نعمة أعظم من نعمة النبوات ما وجد فهي التي بها تحصل النجاة في درا الجزاء، وهي التي ينتظم بها أمر العالم في دار الابتلاء فبركتها قد عمت الدارين، فاستغرقت الأعيان والأزمان، فعمت الأبدان والأرواح كما تقدم، فذلك عمومها للأعيان، وعمت الأولى والآخرة، فذلك عمومها للأزمان.
فهو، عليه السلام، العلم على قرب الساعة، فيكون ذلك جاريا مجرى إطلاق المسبب وإرادة السبب، فعلم الساعة هو المسبب عن نزول المسيح عليه السلام، إذ نزوله مؤذن بقرب وقوعها، كما أشار إلى ذلك صاحب "أضواء البيان" رحمه الله، فهو على وزان: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا)، فأطلق المسبب وهو الرزق وأراد السبب وهو المطر النازل من السماء فالسماء لا تمطر الرزق بداهة وإنما تمطر سبب إنباته.
(يُتْبَعُ)
(/)
أو على تقدير مضاف على تقدير: وإنه لذو علم بالساعة لكون نزوله إعلاما بقرب وقوعها، فيكون ذلك من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مما اطرد استعماله في لسان العرب، فصاحب "الأضواء"، أضاء الله ضريحه، على أصله في منع وقوع المجاز في الكتاب العزيز فمجاز المسببية المرسل كما في القول الأول، ومجاز الحذف كما في القول الثاني، كلاهما مما استعملته العرب في كلامها فصار حقيقة وإن أدرجه البلاغيون في باب المجاز في علم البيان، فذلك تقسيم اصطلاحي متأخر لم تعرفه العرب زمن الاحتجاج، فلا يحاكم لفظ المتقدم إلى اصطلاح المتأخر الحادث بعد انقضاء زمن الاحتجاج.
أو يكون الإخبار عنه بأنه علم للساعة من باب المبالغة على وزان قولك: محمد عدل، فأخبر بالمصدر عن الذات، والأصل أن يخبر عنها بمشتق دال على وصف قائم بها، كأن يقال: محمد عادل، ولكن الصفة لما كانت شديدة الملابسة له صح الإخبار عنه بمصدرها فكأن معناها قد تجسد في ذاته لشدة اتصافه بها، فيكون المسيح عليه السلام لكونه أمارة ظاهرة على الساعة كأنه هو علم الساعة ذاتها، مع أنه دليل عليها. وذلك، أيضا، مما عرفته العرب في كلامها فلا حاجة إلى تكلف القول بالمجاز تخريجا له، فلسان العرب يحتمله حقيقة ولا يعدل عن الحقيقة، مع إمكان حمل الكلام عليها، إلى المجاز كما أثر ذلك عن القرطبي رحمه الله في تفسيره إذ يقول: "وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كتب الأصول". اهـ
فتلك تخريجات صاحب "الأضواء" رحمه الله. فهو علم على الساعة فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا، فذلك من التصديق الخبري، و: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم: فذلك تصديق القول بالعمل على ما اطرد من التلازم الوثيق بين القول والعمل فهما داخلان في حد الإيمان اللازم لحصول النجاة دخول الجزء في كله فدلالة الإيمان على قول القلب تصديقا وقول اللسان إقرارا وعملها جميعا فللقلب أعماله الدقيقة من خشية وتوكل وللسان أعماله من الذكر، وللبدن أعماله من الصلاة والصيام والحج والجهاد ...... إلخ، دلالة الإيمان على كلها: دلالة مطابقة فهي أجزاؤه التي يحصل بالصورة المجموعة منها صورة الإيمان الواجب، فإن فقد أحدها نقص من الإيمان بقدره فشوهت صورته بقدر ما ينتقص منها بل ربما انهد البنيان ومزقت الصورة بزوال أحد الأركان مما لا يقوم الإيمان إلا به، أو ورود ناقض قلبي أو قولي أو عملي، على ما اطرد من كلام المحققين من أهل العلم من نقض الإيمان بكل أجناسها: القلبية واللسانية والعملية فلا يقتصر ذلك على الناقض القلبي فقط كما ذهب إلى ذلك أهل الكلام. ودلالته على أحدها: دلالة تضمن فالمجموع يتضمن أجزاءه بداهة، فالاعتقاد جزء، والقول جزء، والعمل جزء والإيمان مجموع يتركب منها.
وأما صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فقد جعل الضمير عائدا على الكتاب العزيز ففيه علم الساعة بذكر أشراطها، وجعل ذلك أيضا من مجاز المسببية إذ أطلق المسبب وهو العلم وأراد السبب وهو الكتاب العزيز فهو وسيلة العلم بأشراط الساعة وأهوالها فيكون الضمير في: "إنه" عائدا على القرآن، فلا يكون عائدا على أقرب مذكور وهو المسيح عليه السلام وذلك مما يرجح القول الأول، أو يكون الأمر عنده من باب مجاز التعلق الاشتقاقي عند من يقول بالمجاز فأطلق المصدر: علم وأراد اسم الفاعل وهو: المُعْلِم فهو معلم بقرب وقوع الساعة.
وقرئ: "لَعَلم" من العلامة فلا يكون في هذا الوجه حاجة إلى تخريج الآيات على المجاز أو ضده بحمل الكلام على الحقائق المتداولة عند العرب في نطقها كما تقدم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 06 - 2010, 12:10 م]ـ
وعودة إلى سورة الأحزاب، وإلى آية الأمانة تحديدا، فهي محمولة على خلافة الله، عز وجل، في الأرض، خلافة الابتلاء، وفيها من صور التكريم والعناية، ما فيها، فـ:
(يُتْبَعُ)
(/)
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، وفي سورة فصلت: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ):
وخلاصة القول في أمر الخلافة، كما يقول بعض أهل العلم المعاصرين، أن:
استخلاف الله، عز وجل، للبشر إنما يكون على جهة الابتلاء، فـ: (لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فيصح من هذا الوجه أن يقال بأن الإنسان خليفة الله، عز وجل، في الأرض، فقد اصطفاه بالتكريم، وعرض الأمانة على غيره فأبى، وحملها الإنسان، فهو بالقدر النافذ والحكمة البالغة إظهار لأوصاف جلال الرب، جل وعلا، ظلوم في حكمه، فذلك مئنة من فساد القوة العملية، جهول في تصوره، فذلك مئنة من فساد قوته العلمية، وذلك من خطاب التغليب، فـ: (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، و: (مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)، ومع ذلك امتن الرب، جل وعلا، عليه بتسخير بقية الكائنات له، فقيل للسماء والأرض: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، فذلك من القول الحقيقي على كيف لا يعلمه بشر، وإن كان موجودا، فعدم الوجدان بالحاسة لا يستلزم عدم الوجود في الخارج، بل كثير من الحقائق لا يدركها الحس الظاهر، ومع ذلك يسلم بوجودها للخبر الصادق عن ذلك، ولا أصدق من خبر الوحي المحكم الذي أثبت القول لهما فقالتا: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، فجاء الحال مجموعا على حد جمع المذكر السالم، وهو جمع ما يعقل عينا أو صفة، كما قرر النحاة فذلك من مراعاة السياق إذ نسب إليهما فعل العقلاء، على الحقيقة، على الراجح من أقوال أهل العلم، أو حتى على المجاز عند من يقول بوقوعه في الكتاب العزيز، فتأويل القول عنده بالانقياد، وهو من التأويل باللازم فلازم قولهما: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ): الانقياد التام، ولا يلزم من إثبات اللازم: نفي الملزوم، فلا يمنع إثبات الانقياد: إثبات القول على جهة الحقيقة على كيف لا يعلمه إلا الرب، جل وعلا، كما تقدم، فيثبت القول وهو: الأصل الملزوم، ويثبت الانقياد وهو: الفرع اللازم، فسخرتا على جهة الطاعة إظهارا لمعنى العدل الرباني، ولو شاء لقهرهما على ذلك قهرا، فهو، جل وعلا، القهار المنعوت بمعاني الجلال، فتتعلق بمشيئته النافذة، فجلها من أوصاف الأفعال الحادثة آحادا، القديمة نوعا، وذلك التسخير من أدلة العناية بالنوع الإنساني الذي استخلف على جهة الابتلاء، كما تقدم، فاقتضت حكمته ورحمته، جل وعلا، تسخير قوى الكون له، فبها يكون الابتلاء فذلك من مقتضيات الحكمة، وبها يكون الانتفاع فذلك من مقتضيات الرحمة، ففي الآية إشارة لطيفة إلى دليل الإيجاد للأعيان، فأوجد، جل وعلا، الإنسان والسماوات والأرض والجبال ..... إلخ، بقدرته النافذة، وحكمته البالغة، فأتقن كل شيء، فهو المقدر أزلا بعلمه الأول، البارئ إذا أراد إيجاد المقدور المعدوم فلما يصر موجودا، المصور الذي أعطى كل خلق ما يلائمه من الخصائص والعلامات الفارقة، فلكل كائن وصفه المميز، بل لكل فرد ما يميزه عن بقية الأفراد وإن اتحد الجنس والنوع، وفيها إشارة لطيفة، أيضا، إلى دليل العناية بالنوع الإنساني، كما تقدم، فقد سخر الرب، جل وعلا، قوى الكون لمن قبل حمل الأمانة، فامتن عليه ابتداء بالاصطفاء والتكريم فبيديه خلقه وله أسجد ملائكته، ثم أسكنه جنته، وخلق من ضلعه زوجه، وأهبطه إلى الأرض برسم الخلافة بعد حصول التوبة والإنابة، فنزل مطهرا من الذنب سالما من العيب، بل نزل برسم النبوة فكان آدم عليه السلام نبيا يوحى إليه لا كما يدعي أصحاب مقالة الخطيئة الموروثة التي لم تزل البشرية تتلطخ بأدرانها
(يُتْبَعُ)
(/)
حتى حصل الفداء المزعوم، بصلب الناسوت، ومع ذلك لم تزل البشرية يظلم بعضها بعضا، ويسترق بعضها بعضا، ولم يزل الدين المبدل يقر هذا الظلم، بل ويمتدحه فهو دليل على وقوع الخطيئة التي تلطخ بها بعض البشر دون بعض!، فتلطخ بها الفلاحون في إقطاعيات النبلاء والقساوسة، دون رجال السياسة والدين المتآمرين على البشر في عصور الإقطاع الأوروبي المظلمة الظالمة للنوع الإنساني بتسفيه أحلامه واسترقاق أبدانه باسم الديانة، فالصبر على الظلم، وعدم السعي في رفعه على منهاج النبوة، والقعود عن طلب الحق فلا ينال إلا من أرباب الكنيسة، فليس لعقول العامة إدراك لما يدركه القساوسة من الأسرار المقدسة التي تنقض قياس العقل نقضا!، الصبر على كل تلك الأوضاع الجائرة برسم الجبر فهو من المقدور المكتوب فلا مبدل له، الصبر على ذلك هو طريق العبد إلى الملكوت وإن عاش حياته في قيد الذل باسم السياسة تارة، فالنبلاء قد استرقوا بدنه في مزارعهم، وباسم الديانة أخرى، فالقساوسة قد استرقوا روحه، بل وبدنه في إقطاعياتهم بأعمال السخرة التي تنقض دعواهم الزهد الذي لا يجب إلا على عامة الشعب!، في حين ولغ الخاصة من أهل السياسة والدين في أوحال الشهوات المزرية التي لا تليق بآحاد الرعية فضلا عن خواصهم، فضلا عن رجال الدين المقدسين فهم نواب المسيح عليه السلام بعد صلبه!، وتلطخ بها أيضا، العمال في المعسكر الآخر: معسكر الإلحاد الشرقي، فالبلاشفة قد حقروا من شأن هذا الخليفة، فجعلوه حيوانا، بل مادة، فذلك مزيد إهانة وتحقير كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فالحيوان أرقى منها تكوينا، فاسترق البشر بحاجاتهم الحيوانية في مصانع ومزارع الثورة التي بشرت بالمساواة، وقد وفت، فساوت بين عموم الشعب في الظلم والقهر والإرهاب، واختصت نفسها بمآثر إنتاجهم، فأعضاء الحزب ينتفعون بنتاج غيرهم، فلهم وحدهم بقدر ترقيهم في درجات الحزب: نتاج ما لم تعمل أيديهم، فبقدر الدرجة الحزبية تكون الامتيازات الدنيوية، ولغيرهم من الكادحين من العمال الذين قامت الثورة باسمهم فهي ثورة البروليتاريا على طبقة الإقطاع، لأولئك المغرورين بشعارات الثورة: فتات موائد أعضاء الحزب، فأي تحقير للنوع الإنساني أعظم من ذلك، ونظيره في المعسكر الرأسمالي، وإن كانت الصورة أكثر قبولا، بادي الرأي، فمسرحية الديمقراطية المزعومة التي يحكم الشعب بها نفسه، من جنس مسرحية حكم الطبقة الكادحة لنفسها بامتلاكها أدوات الإنتاج واستنابتها الدولة المركزية في إدارتها لتستأثر تلك الدولة الطاغوتية بكل مآثر من نابت عنه، ولم تنب عنه، عند التحقيق، إلا بسيف الإرهاب والبطش، فهو من جنس سيف الإرهاب الذي تشكل به المجالس النيابية الصورية في دول العالم الثالث المتخلفة، وأغلبها، بطبيعة الحال، من الدول الإسلامية!، والعربية تحديدا، ففي كثير منها من التسلط والقهر حتى في تشكيل تلك المجالس التي تجيز لنفسها سن قوانين وتشريعات تخالف أحكام الرسالة الخاتمة، ففي المعسكر الغربي الديمقراطي تستأثر الطبقة المؤثرة في صنع القرار، وهي طبقة الرأسماليين أصحاب المصانع ورءوس الأموال، تستأثر بسن القوانين التي تخدم مصالحها وتضمن هيمنتها على مجريات الأمور، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالمصلحة العامة، فالمصلحة الخاصة لتلك الطبقة الجائرة فوق كل اعتبار، فهي التي تملك الثروة، وهي التي توجه الرأي العام لسيطرتها شبه التامة على وسائل الإعلام، وهي التي تمول حملات المرشحين، حتي في الديمقراطيات المتقدمة، لتأتي برأس صوري، وأعضاء مجالس، هي عند التحقيق صورية، وإن كان هامش الحرية فيها أكبر من هامش الحرية في دول الحزب الواحد سواء أكانت بائدة كالشيوعيات المنقرضة، أم باقية إلى الآن، كالدول التي تأثرت بالمد الشيوعي في الستينيات، فابتدعت نظما اشتراكية فاشلة تقوم، أيضا، على مبدأ: الحزب الواحد فكل من يباينه الرأي ولو بحجة: عميل للرجعية التي يعنون بها: الدين والإقطاع، وكأن بلاد المسلمين كانت كبلاد أوروبا في عصور الإقطاع، فكان دينها كدين أوروبا: محرفا وكانت سياساتها وإن وقع فيها الجور لا سيما في الأعصار المتأخرة من جنس سياسات أوروبا الإقطاعية التي بلغت الغاية في الجور وإهانة الإنسان
(يُتْبَعُ)
(/)
وامتهان آدميته وذلك من القياس العجيب الذي برر به اولئك استيراد تلك النظم الخارجة عن النبوة بزعم الإصلاح فكان ما كان من إفسادهم في الأرض وهو أمر نعيشه في كثير من بلاد المسلمين إلى يوم الناس هذا، فكل من يعترض على سياساتهم الفاشلة: يستحق النفي وربما القتل، والشاهد أن تحقير شان الإنسان: خليفة الرب، جل وعلا، في كلا المعسكرين حاصل بل واجب فلا بقاء لهما إن أحس الإنسان بآدميته الحقيقية، فالنبوات وحدها هي التي كرمت الإنسان فتوجته بمنصب الخلافة فهو المأمور المنهي لكمال اصطفائه، فلا يتوجه الأمر والنهي إلا لمن عظم شأنه، فاكتملت قواه العلمية والعملية فصار أهلا للتكليف، فهو تشريف من وجه، وإن لم يخل من معاني الابتلاء التي يظهر الرب، جل وعلا، بها مكنون النفوس.
والإنسان من وجه آخر: خليفة عن غيره على جهة النقص، سواء أكانت الخلافة خاصة، فيولي الخليفة العام أو الملك أو السلطان غيره: ولايات خاصة في مصر أو إقليم بعينه، أم عامة كالخلافة التي تجمع كلمة المسلمين على إمام واحد، وتلك هي الخلافة التي يعنى علماء السيرة والسياسة الشرعية ببيان حدها وأحكامها، فقد عرفها الماوردي، رحمه الله، بقوله: "الإمامة، وهي مرادف الخلافة في هذا الباب: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وعرفها الإيجي، المتكلم المعروف، رحمه الله، بقوله: "هي خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة"، وعرفها إمام الحرمين الجويني، رحمه الله، بقوله: "الإمامة: رياسة تامة وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا" ابن خلدون، رحمه الله، بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة"، وعليها حمل المانعون إطلاق لقب الخلافة عن الله، عز وجل، على الإنسان، فجعلوا الخلافة في نحو قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، خلافة بعضهم لبعض، قكلما مات خليفة قام آخر سواء أكان ذلك في ولاية عامة أم خاصة كما تقدم، وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة" بقوله: "والمقصود هنا أن الله لا يخلفه غيره فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره وهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات جميعا بل هو سبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله ويروى أنه قيل لأبي بكر يا خليفة الله فقال: بل أنا خليفة رسول الله وحسبي ذاك". اهـ
ولا مانع من الجمع بين كلا المعنيين، كما تقدم، فالقيد في كليهما مختلف، فليست خلافة الابتلاء من جنس خلافة الإنسان لغيره، فالأولى: مئنة من كمال وصف الرب، جل وعلا، فهو الحكيم في فعله العدل في حكمه، فاستخلف الإنسان لتظهر آثار حكمته وعدله فيتعلق الثواب أو العقاب بفعل العبد فهو الشاهد عليه، فـ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، و: (وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فمن حكمته ورحمته، جل وعلا، أنه لا يؤاخذ العباد بما قد علمه من حالهم أزلا، فلا مؤاخذة إلا بعد وقوع الفعل فيصير موجودا تتعلق به الأحكام: مدحا أو ذما، وعدا بالثواب أو وعيدا بالعقاب، بينما الثانية كما يظهر في عالم الشهادة: مئنة من النقصان، بل هي عينه، فلا يستخلف الإنسان غيره إلا لقصور مداركه عن إدراك كل ما يقع في ملكه، فيخفى عليه ما يخفى لغيابه بذاته ووصفه، وبذلك احتج الخليل عليه السلام على قومه، فـ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)، فالآفل: غائب، والغائب لا يصلح أن يكون ربا، فالرب، هو الذي يدبر أمر عباده، وذلك يستلزم دوام اطلاعه عليهم فلا يخفى عليه من أمرهم شيء، وذلك وصف الرب، جل وعلا، وحده، فـ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، فأكد بالناسخ المؤكد واسمية الجملة وتكرار الفاعل، واستيعاب النفي لجنس السماء والأرض، فـ: "أل" في كليهما جنسية استغراقية فضلا عن تكرار النفي فذلك من الإطناب بالتكرار مئنة من التوكيد، فظهر بنقصان خلافة العبد لمثله لنقص في ذاته ووصفه: كمال خلافة العبد لربه، جل وعلا، على جهة الابتلاء، فاستخلفه، وهو المطلع على حاله العالم بسره وعلنه، فاستخلافه له مئنة من كمال ذاته القدسية وما قام بها من الصفات العلية: حكمة ورحمة وسمعا وبصرا وعلما ....... إلخ من أوصاف الربوبية التي بها أوجد الرب، جل وعلا، الكون، وبها يدبر أمره، فـ: (عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 06 - 2010, 05:43 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ):
فتوجه الخطاب إلى الجماعة بإشارة إلى البعيد مئنة من علو ذات وشأن الرب، جل وعلا، وفي السياق حصر حقيقي، بتعريف الجزأين فذلكم وحده لا غيره الله، وقد يقال بأن نوع الحصر يختلف باختلاف حال المخاطب، فإن كان منكرا، فهو من قصر القلب، فالله هو الرب لا ما ادعيت من الآلهة الباطلة، وإن كانت أعيانها شريفة القدر، كالمسيح عليه السلام، فإن ذلك لا يعني تصحيح ربوبيته بحال، وقد يكون من قصر الإفراد، لو كان المخاطب يعتقد شريكا للرب، جل وعلا، فيفرد الرب، جل وعلا، بمنصب الربوبية ملزوما، ومنصب الألوهية لازما، فقد اقترنا في الذكر، وأضيف لفظ الرب إلى ضمير الجمع فذلك مئنة من العموم، وهو عموم محفوظ لا مخصص له، فالرب، جل وعلا، هو الرب المدبر لشئون جميع الخلائق، فهو الله المعبود بما أنزل من الكلمات الشرعية، لأنه الرب بما أوجد ودبر بما أنزل من الكلمات الكونية، فيؤله، من التأليه، بالشرع لانفراده بأمر الكون: إيجادا وعناية، ثم جاء التذييل على جهة التوكيد لما تقدم من التلازم بين الربوبية والألوهية:
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: فإفراده بالألوهية على جهة القصر بأقوى أساليبه: النفي والاستثناء، فالتقدير كما قد قرر النحاة: لا معبود بحق إلا الله، فتحملت الحال: "بحق" ضميرا على القول بجواز ذلك لما تدل عليه من معنى الاستحقاق فذلك نوع اشتقاق يجيز تحمل اللفظ ضميرا، فليس مشتقا صريحا، ولكنه في قوة المشتق، فالاسم المؤول بالمشتق يتحمل الضمير، كما في قولك: زيد أسد، فيتحمل لفظ: "الأسد" الضمير لتأويله بوصف: "الشجاع"، فهو وصف مشتق، فيتحمل الجامد الضمير إن أول بمشتق بإجماع أهل البلدين كما ذكر ذلك ابن عقيل، رحمه الله، في شرحه، ثم جاء التقييد بالبدل: لفظ الجلالة من ذلك الضمير المستكن في الحال المؤولة بالمشتق، فهو محط الفائدة، فالله، عز وجل، هو المعبود بحق، وتلك نتيجة عقلية صحيحة للمقدمة التي جاءت بعدها: خالق كل شيء، فمنصب الألوهية عبودية وانقيادا وتشريعا، فرع عن منصب الربوبية خلقا وتكوينا، فهو خالق كل شيء، فذلك من العموم المحفوظ، أيضا، وفيه مئنة من التجدد والحدوث، فتلك من صفات الأفعال المتعلقة بالمشيئة الربانية العامة، فاسم الفاعل فرع عن مضارعه في العمل، وإن كان دونه، والمضارع يفيد الحال والاستقبال، فالرب، جل وعلا، يخلق، تقديرا، ويخلق إيجادا فذلك قضاء ما قد قدر في الأزل، فخلقه الإيجادي تأويل خلقه التقديري، وخلقه قد عام كل الأشياء، فخلق الأعيان، وخلق الأوصاف الذاتية القائمة بها، وخلق الأوصاف الفعلية الطارئة عليها، فخلق الحركات والسكنات، فكل ذرة في الكون لا تخرج عن خلقه وتدبيره، فـ: (عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، ففي الآية جملة من العمومات المؤكدة التي ترفع احتمال التأويل بتخصيص أو تقييد، فالمشيئة الكونية خلقا وتدبيرا: مشيئة عامة لا راد لها ولا معقب لكلماتها، وقد جعل بعض أهل العلم عموم هذه الآية داخلا في مجاز العمومية المرسل، فأوله بتخصيص عقلي بدهي، وهو أن الرب، جل وعلا، وهو شيء من جهة الإخبار، وهي أوسع الجهات في الكلام في الإلهيات، فيخبر عن الرب، جل وعلا، بما لا يوصف ولا يسمى به، من قبيل قول أهل النظر: الله واجب الوجود، أو وجوده: واجب لذاته، وقولهم: الله قديم، فالقدم عندهم يكافئ الأولية في النصوص الشرعية، وقولهم: الله شيء، فالشيئية في حقه، جل وعلا، إخبار عن وجوده في مقابل ما زعمه من زعم من الفلاسفة ونفاة الصفات الذين أثبتوا وجودا مطلقا، هو عين العدم، عند التأمل، فلا يوجد مطلق كلي إلا في الأذهان على جهة التصور أو الفرض، فلا حقيقة له في الخارج، بل العدم الذي يوصف بالإطلاق العام، فليس له أي
(يُتْبَعُ)
(/)
وصف يثبت له حقيقة في الخارج، فضلا عن أن يثبت تفرده عن بقية الأشياء، فوجود الخالق، جل وعلا، بداهة، غير وجود المخلوق، فوجوده مقيد: بوجوب كمال ذاته وصفاته القائمة بها، فذلك من الوجوب العقلي الذاتي، وامتناع ورود النقص عليه، جل وعلا، فذلك في المقابل من: المحال العقلي الذاتي، بينما وجود المخلوق على الضد فهو مقيد: بنقص جبلي في أصل الخلقة، فيرد عليه من أعراض النقص البشري التي تنزه عنها الوجود الرباني ما يرد، فكماله على الضد من كمال الرب جل وعلا: مشوب بأعراض النقص الجبلي، فذلك مما لا يذم عليه، فضلا عن أعراض النقص التي يذم عليها من تقصير في حق العبودية، ولو بفتور، فكيف بترك أو جحود؟!، فحصل التباين بين الوجودين، ولو من جهة الأصل، فوجود الرب جل وعلا ابتداء: واجب أزلي أبدي فهو الأول فلم يسبق بعدم، والآخر فلا يطرأ عليه فناء فـ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، فأطلق الوصف وهو الوجه وأراد الموصوف وهو الذات القدسية بما يقوم بها من صفات الكمال الذاتي والفعلي، المعنوي والخبري، فذلك باق على جهة الوجوب العقلي، فبقاؤه، جل وعلا، ذاتي لا يعلل، كما أن غناه ذاتي لا يعلل، كما أن كماله على جهة العموم فيشمل البقاء والغنى ..... إلخ: ذاتي لا يعلل، فهو الباقي: وصفا، المبقي: فعلا، فيبقي من شاء من عباده في النعيم السرمدي فضلا، أو العذاب السرمدي عدلا، ووجود المخلوق: ممكن، فيسبق بالعدم ويلحقه الفناء، ويتخلله النقص الجبلي آنف الذكر، فلا بقاء له، ولو حينا ينتهي بالأجل المحتوم، إلا بإبقاء الرب، جل وعلا، له، بإصلاح آلته البدنية وسلامتها من الأخلاط الردية، وإمدادها بمادة الغذاء رزقا من السماء فالماء أصل كل حياة، أو رزقا من الأرض، فالزرع قوت ضروري للإنسان والحيوان معا، فينتفع به الإنسان في طعامه سواء باشره أم قدمه للحيوان المأكول فيصله النفع ولو من طريق غير مباشر كما قد تقرر في السلاسل الغذائية في علم الأحياء، فتلك الدقة في التسلسل، فليس كل طعام يلائم كل مخلوق، بل لكل ما يلائمه، فمنه ما يغتذي على النبت، ومنهم من يغتذي على اللحم، ومنهم من قد جمع الوصفين، كالإنسان، فذلك مزيد عناية به فقد خلقه الرب، جل وعلا، على أكمل وصف، فقواه تنتفع بالطيب من الزرع أو الحيوان، فذلك من عموم المنة الربانية فـ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فذلك عموم هو الأصل إلا أن يرد الدليل الحاظر، و: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، فالأمر بالأكل في الآية قد سيق مساق الإباحة في معرض الامتنان، فلا تكون منة بمحرم بداهة، فجاء القيد بـ: (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، فمفهومه معتبر، فلم تبح الخبائث مفهوما كما قد أبيحت الطيبات منطوقا، فوصف النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، فذلك وجه آخر من وجوه العناية الربانية بالنوع الإنساني فلا يبيح، جل وعلا، إلا ما طاب ففي تناوله سلامة آلات البدن بمباشرة قوى الاغتذاء لطيب المطعوم ونافعه، فيصير محلا قابلا للروح اللطيف التي لا تبقى في بدن قد مازجته الأخلاط الردية، فذلك مشعر بقرب الرحيل بمفارقة الروح اللطيف للجسد الذي كثفت مادته بورود أسباب النقص والفساد التي تضعفه، وما أكثرها في زماننا فقد أصاب شؤم المعصية حتى الهواء الذي نتنفسه، فضلا عن المطعوم والمشروب الذي أبى الإنسان إلا التدخل فيه فأفسده وجعله ذريعة إلى إصابة البدن بشتى العلل، فما خرج شيء في الكون عن سنته الكونية ودورته الربانية التي فطره الله عز وجل على سلوكها، إلا فسد في نفسه وصار سببا لإفساد من يتناوله، وذلك أمر مشاهد حتى في الأخلاق النفسانية، فما خرج كائن عن وصفه الذي يلائمه إلا فسد وأفسد، وأبرز مثال على ذلك في زماننا: تخنث الرجال وترجل النساء، فقد خرج كل عن طوره، فأصاب المجتمع من الفواحش ما أصابه بخروج كل جنس عن خلائقه النفسانية وطبائعه الجبلية من ملبس وزينة ..... إلخ
(يُتْبَعُ)
(/)
، وربما عن صفاته الجسدية لاحقا، فصار المرء يحار عند النظر إلى بعض البشر أقوم هم أم نساء؟!، فالشاهد أن كثافة مادة البدن بطروء الأخلاط الردية عليه: ذريعة إلى مفارقة الروح اللطيف لهذا البدن العليل، فذلك من النقص الذي كتبه الرب، جل وعلا، على كل الخلائق، ليمتاز وجود الخالق، عز وجل، الكامل من وجود المخلوق الناقص، فهو، كما تقدم، قد سبق بالعدم وأُتْبِع بالفناء وتخلله ما تقدم من أخلاط المرض وأعراض اللغوب والسنة والنوم .... إلخ، فكلها مئنة من الأفول الذي احتج به الخليل عليه السلام على بطلان ألوهية كل معبود أرضي، فهو ناقص آفل لا محالة بما جبل عليه من نقص الخلقة والهيئة، ليمتاز بذلك كمال الرب، جل وعلا، ذاتا وصفات وأفعالا، فبضدها تتميز الأشياء، فامتاز الخالق، عز وجل، بذاته وصفاته، بل بوجوده، عن وجود المخلوق، فبينهما من التباين ما بينهما، ولو في صفة الوجود، فهي أعم الصفات، فكيف بما اختص به الرب، جل وعلا، من صفات الجمال والجلال، فالتباين فيها كائن من باب أولى، والشاهد أن كل ذلك مما سوغ القول بالتخصيص العقلي للفظ: "شيء" في الآية، فالرب، جل وعلا، مستثنى من هذا العموم بداهة، فهو الخالق بذاته وصفاته الفاعلة، وغيره المخلوق، فليس ثم شيء من ذاته القدسية أو أسمائه الحسنى أو صفاته العلى: ذاتية كانت أو فعلية، ليس ثم شيء من ذلك مخلوق، بينما غيره على الضد من ذلك فهو مخلوق: ذاتا وصفات، فهو الأول، جل وعلا، فله الأولية المطلقة، فكان وليس شيء غيره، فالعرش أول ما نعرف من خلقه، فله، جل وعلا، وصف الخالقية أزلا وابدا، فلم يكن معطلا عن كماله، وإن لم تظهر آثاره في الكون، فهو الخالق قبل أن يخلق، فكان في الأزل أولا لا يشاركه في وجوده الأزلي أحد، فليس ثم أقانيم تشاركه وصف القدم، بزعم أنها من وصفه، فالوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالذات الموصوفة به، فلا يعهد في نقل أو عقل أو لسان: تجسد المعاني اللطيفة في أجساد مخلوقة كثيفة، فذلك خروج عن قانون القياس الصريح الذي لا يعارض محكم التنزيل من الكتب المنزلة، فالوحي لا يأتي إلا بما يصدقه العقل، ولو إمكانا، فلا يأتي بمحال لا يقبله العقل إلا إن فسد أو عطل بزعم التسليم والانقياد، فذلك إنما يكون فيما يحار العقل في كنهه لا فيما يحيله لما يلزم منه من الممتنع لذاته كوصف الرب، جل وعلا، بالنقائص، أو تشريك غيره معه في أوصاف كماله التي انفرد بها كوصف الأولية المطلقة بذاته وصفاته جل وعلا.
وبعض أهل العلم يجعل الكلام على الحقيقة فلا حاجة إلى القول بالمجاز المرسل، فالرب، جل وعلا، قد خرج من هذا العموم ابتداء، فهو الخالق، والخالق، كما تقدم، اسم يدل على الذات القدسية وصفة الخلق معا: فذلك من دلالة التطابق، ويدل على بقية الصفات الإلهية: ذاتية أو فعلية، فذلك من دلالة اللزوم، فخرج الرب، جل وعلا، من هذا العموم، بل لم يدخل فيه ابتداء، فهو الخالق لكل الأشياء المخلوقة، وليس هو، تبارك وتعالى، منها، وإن صح الإخبار عنه، كما تقدم، بأنه شيء، فهو شيء غير مخلوق بل هو الخالق لما سواه.
ثم جاء التذييل بلازم الخلق، وهو من أظهر أدلة الربوبية: إيجادا للخلق وعناية بهم بخلق ما ينتفعون به من مطعوم ومشروب وملبوس ومنكوح، فقد خلق كل جنس للآخر ليكمل به، فـ: (اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)، ومركوب ..... إلخ، فجاء التذييل بلازم ذلك من شكره، جل وعلا، على الخلق والعناية، وشكره لا يكون إلا بإفراده، جل وعلا، بالعبودية، فاعبدوه على جهة الاختيار والانقياد، فما من خالق غيره، ولا من مدبر سواه، ولا من رزق إلا ما قد قدره، فهو على كل شيء وكيل، فذلك، أيضا من العموم المحفوظ فضلا عن دلالة تقديم ما حقه التأخير على الحصر والتوكيد كما تقدم مرارا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 06 - 2010, 06:12 ص]ـ
ومن سورة الأعراف:
ومن صور العناية بالأنبياء عليهم السلام:
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ):
فذلك على تقدير وأرسلنا لوطا حملا للمتأخر على المتقدم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك أولى في التقدير ليتسق السياق، فتقدير المحذوف من جنس المذكور أولى من تقديره من جنس غيره.
فقال لوط عليه السلام لقومه في معرض الإنكار والتوبيخ على قومه لارتكابهم تلك الفاحشة، التي استجمعت كل أوصاف القبح، فحسن الإتيان بلفظ: "الفاحشة"، فهي تستجمع كل أوصاف القبح، كما قيل في لفظ كـ: "اللؤم"، فهو يستجمع كل الأوصاف النفسانية المرذولة، فـ: "أل" في الفاحشة: عهدية تشير إلى فاحشة بعينها، وهي في نفس الوقت: جنسية استغراقية لأوصاف القبح فذلك أدعى إلى التنفير من تلك الفعلة، التي تنفر منها الطبائع السوية، وإن لم يكن أصحابها من أتباع النبوات، فهي فعلة ينحط فاعلها إلى دركة أحط من درجة الحيوان، فالحيوان البهيم يترفع عن هذه الفاحشة، فهو بما جبل عليه من الطبائع البدنية والقوى الحيوانية لا يتحرك إلا بمقتضى فطرة سوية وإن كانت غريزية، فليس من أهل التكليف لنقصان آلته العقلية، ولكنه، من جهة سلوكه الجادة الفطرية، في أفعاله الجبلية من غذاء ونكاح، بل في تسبيحه الذي يوقعه على جهة التسخير فهو خير من المكلف الذي يترك التسبيح اختيارا، فذلك، أيضا، من انحطاطه عن درجة الحيوان الذي صار مكرما عليه من جهة التسخير فطبائعه الجبلية، وتسبيحاته الفطرية، قد صيرته أرقى رتبة من الإنسان، فهو، إما مصطفى مكرم بحمل الأمانة على جهة التكليف الاختياري، وإما مهان قد انحط بإعراضه عن منهاج النبوات، فالحيوان البهيم خير منه، فقد أدى وظيفته، ولو اضطرارا، وحال كثير من البشر في زماننا، قد صار من النوع المهان، فقد انحطت كثير من الجماعات الإنسانية، فأقرت تلك الفاحشة، وصيرتها جزءا من منظومة القيم، فهي من جملة الحريات العامة التي انتزعتها الثورة العلمانية من دين الكنيسة، فانقلبت على المنظومة الدينية والأخلاقية لمجتمع القرون الوسطى، الذي ذاق مرارة الحرمان من الحريات الفكرية والإنسانية بما قيدته به الكنيسة من آصار حجرت بها على العقول والأبدان، وجاء الانقلاب، كأي ثورة عشوائية، على كل قييح وحسن، فانقلبت أوروبا على أخلاق المجتمع الزراعي المحافظ مع ما انقلبت عليه من دين الكنيسة البالي، وذلك من عشوائية الفكر وتطرف ردود الأفعال التي تميز بها العقل الأوروبي المعاصر، كما حكى ذلك بعض الفضلاء المعاصرين في معرض رصد الحركة الفكرية الأوروبية المعاصرة، فهي جملة ردود أفعال متطرفة لبعد أوروبا طوال تاريخها عن دين النبوات الصحيح، فلم تعتنق يوما دين المسيح عليه السلام، كما نزل من عند الله، عز وجل، فكان اعتناق الإمبراطورية الرومانية له طوق نجاة أخير لإنقاذ الإمبراطورية من الانهيار، فهو عقد جامع، لشعوب الإمبراطورية، ولو كان على غير الدين الصحيح الذي يأبى الانقياد له أصحاب السياسات الملوكية الجائرة، فإنه ينزع ملكياتهم الجائرة للأرض والبشر، فيردها إلى الملك، جل وعلا، فلا يهادن الساسة الدين إلا لتحقيق مآرب شخصية عاجلة، فيرضون بالدين الذي يوافق أهواءهم، وقد وجد قسطنطين ضالته في دين وجداني قد فصلت فيه الشريعة عن العقيدة، فأعط ما لله لله، وأعط ما لقيصر لقيصر، ولم يكن قسطنطين إلا قيصرا من قياصرة الإمبراطورية الرومانية فأبى أن يعطي ما له لله، الملك الواحد، تبارك وتعالى، فالأمر كله له، إذ الخلق والتدبير كله له، فذلك جار على ما تقرر في أكثر من موضع من التلازم الوثيق بين الربوبية تصورا وعلما والألوهية عملا وحكما. فكان
(يُتْبَعُ)
(/)
الدين حلا مؤقتا لوضع سياسي متأزم، فهو عقد وجداني لا أثر له في الشرائع والسياسات والأخلاق، فليس إلا تصورا باطنا لا يظهر أثره في واقع الحياة، فمن أراد أن يرتكب فاحشة قوم لوط، فله ذلك، بل له من الحريات ما يكفل له ذلك، إذا تراضى الطرفان، بل له الحماية الدستورية التي تكفل له حرية الاعتقاد العلمي والمسلك العملي، فلا يملك أحد الاحتساب والإنكار عليه، فلو حصل ذلك ممن له بقية آدمية فضلا عن أن يكون ذا دين، فهو الملوم المذموم لخروجه عن منظومة القيم الأوروبية التي تطرفت في منح الحريات، كرد فعل لتطرف الكنيسة في قمعها، فالمسألة، كما تقدم، مردها إلى التطرف الفكري الذي تعاني منه العقلية الأوروبية، فلا تحسن إلا الانقلابات والثورات على المبادئ والقيم لا سيما إن كانت دينية، فالدين في وجدانها رمز التسلط والقهر، وهو ما نجح كثير من العلمانيين المعاصرين، في تمريره إلى العقل المسلم المعاصر فقيس دين الحنفية التوحيدي على دين الكنيسة التثليثي.
والشاهد أن لوطا عليه السلام قد أنكر عليهم، بمقتضى ما عنده من الطبع السليم الذي وافق ما أُنزِل عليه من الوحي الصحيح، فصدق التشريع الإلهي بتحريم الفواحش: التكوين الرباني للنفوس السوية التي تأنف من كل ما يخدش الحياء ويضاد الفطرة، فالنفوس قد ركزت فيها قوى التحسين والتقبيح، وإن لم تستغن بذلك عن تحسين وتقبيح الشرائع السماوية التي فصلت القول في الحكم: تحليلا وتحريما، والمآل: ثوابا وعقابا.
فإذا نظر إلى معنى العهد في: "الفاحشة"، يكون قوله تعالى: (ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ): حالا مقيدة، إمعانا في الإنكار عليهم، فقد أكدت أوليتهم في هذا الشأن القبيح، بورود النكرة: "أحد" في سياق النفي بـ: "ما"، فضلا عن دخول: "من" المؤكدة للعموم عليها، وإذا نظر إلى معنى الجنسية الاستغراقية لأوصاف القبح فإن لفظ: "الفاحشة" ينزل منزلة النكرة، فكلاهما مظنة الشيوع والعموم في بابه، فقد استجمعت تلك الفعلة، كما تقدم، كل أوصاف القبح والذم، فهي نص في عموم قد استغرق كل ما يذم به فاعله، فإذا نظر إلى ذلك المعنى، فقوله تعالى: (ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ): وصف لوروده بعد لفظ منكر في معناه وإن كان معرفة في مبناه، وهو، أيضا، قيد يزيد معنى الإنكار والتوبيخ بيانا وتوكيدا.
ثم جاء البيان بعد الإجمال، فقوله: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ)، فذلك بيان لحقيقة الفاحشة التي تلبسوا بها على جهة التعيين، مع الحفاظ على أدب الخطاب، فلفظ الإتيان كناية عما يستقبح ذكره، وإن كان مشروعا، كالذي يقع بين الرجل وأهله، فكيف بما يقع على هذا الوجه الفاحش؟!، وجاء التوكيد بالناسخ: "إن" واللام في: "لتأتون": تنزيلا لهم منزلة المنكر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد بلغ فساد الجبلة منهم مبلغه، فلم يعد ذلك الأمر مما يخجل فاعله منه، فيرتكبه سرا، بل قد استعلنوا بالفاحشة، فـ: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)، وذلك آكد في القبح، فإن الإمعان في استحلال المنكر حتى يصير معروفا، ويصير منكره هو الخارج عن عرف الجماعة العام، كل أولئك مما يناسبه التوكيد في معرض الرد، لإعادة الأمور إلى نصابها، ورد الفطرة إلى أصولها، وذلك من جنس ما يقع الآن في زماننا، بعد أن خفتت أضواء النبوة في كثير من الأمصار، بل أظلمت بلاد وأقفرت من النبوات، فقد استعلنت أمم كثيرة بأنماط من الفواحش يندى لها جبين أي آدمي، فضلا عن أن يكون ذا دين أو خلق أو حتى جبلة سوية، وانتقلت أمم من عصر الأخلاق الزراعية إلى عصر الأخلاق الصناعية، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فانتهت معان من قبيل: الزوجة والأسرة والستر والعفة ...... إلخ من المعاني الرجعية التي قضت عليها الثورات الصناعية ثم الشيوعية التي جعلت هدم البنيان الأسري غاية شريفة لها لإعادة البشرية إلى عصر الشيوعية الأولى، حيث لا ملكية ولا اختصاص، بل كل شيء، حتى الأعراض!، مشاع، فهو كلأ مباح لكل راع، فتلك الصورة المثلى للنوع الإنساني عندهم
(يُتْبَعُ)
(/)
!، وبمقارنتها بالصورة المثلى للبشرية في النبوات يظهر الفارق بين الوحي الرحماني والوحي الشيطاني، فالأول عاصم للبشرية من الانحطاط إلى دركة ما قبل البهائم!، والثاني سبب رئيس في تكريم الحيوان البهيم على الإنسان السميع البصير الذي لا منتهى لضلاله، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، إن أعرض عن النبوات، أعظم نعم الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، فهي من أظهر أدلة العناية بالبشرية، فقد عصم أتباعها من الإهانة والتحقير الذي ينال كل من عدل عنها إلى غيرها من المناهج الأرضية والطرائق العقلية أو الذوقية التي لا مستند لها من كلام رب البرية جل وعلا، فقد صيرته المناهج الأرضية حيوانا متطورا، أو حيوانا جنسيا لاهثا، أو حيوانا اجتماعيا يسوقه العقل الجمعي للقطيع الذي يعيش فيه!، أو مادة هي أحقر من الحيوان الحساس المتحرك، فأين ذلك من تكريم النبوات التي جاءت بالتكليف الشرعي والتشريف الإلهي بحمل كلمات الرب، جل وعلا، في الصدور، وظهور آثارها على الألسنة والجوارح، وإبلاغها لسائر أمم الأرض استنقاذا لها من الدركات التي يريد شياطين الجن والإنس حطها إليها، والشاهد أن لوطا، عليه السلام، قد ألجئ إلجاء إلى التوكيد إنكارا على من لم يعد يعرف منكرا من معروفا، فاحتاج إلى التنبيه على فساد طريقته، وهل يحتاج عاقل إلى مزيد بيان لقبح تلك الفعلة؟!، ولكنه، كما تقدم، أثر من آثار شؤم انقطاع أثر النبوة، وقد ذكر صاحب رسالة "العلمانية" حفظه الله وسدده وأتم شفاءه، قصة غريبة وقعت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا في عهد الرئيس جيمي كارتر، وهو معروف بتدينه!، فهو أحد كبار المنصرين المعاصرين، وفي تلك الآونة، كانت أمريكا قد بدأت حصاد ثمار العلمانية، لا سيما في الجانب الاجتماعي والأخلاقي، بل لعلها بدأت موسم الحصاد قبل ذلك بسنين!، ومع ذلك كانت الحال بالتأكيد خيرا من حال أمريكا اليوم، حيث لا أخلاق وإن كان ثم دين متطرف تحشد به قوى الخير الإنجيلية لحرب قوى الشر الإسلامية!، ففي تلك الآونة طلب بعض موظفي وزارة الخارجية، من الرئيس أن يسمح لهم بممارسة الشذوذ الجنسي في مكاتبهم، فهو، كما تقدم، نشاط بيولوجي!، كسائر التفاعلات التي تحدث في خلايا الجسم، فلا وجه لإنكاره، فكيف تكون حال أمريكا اليوم، وكيف تكون حال العالم الذي وكلت قيادته إلى أمة هذا عرفها العام؟!، وذلك بالتأكيد ما يبطل عجب من نظر في الفساد الذي عم وطم، فذلك: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فالهرج الذي تعيشه البشرية اليوم هو رد فعل طبيعي لقيادة عالمية تسعى إلى تصدير قيمها المنحطة إلى سائر الأمصار، فالتبشير بقيم العلمانية وحرياتها المطلقة من جنس التبشير بدين النصرانية، فقد وضع تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة: خطة أخلاقية محكمة!، هدفها قلب أنظمة الحكم الاجتماعية في كل دول العالم، ولو أدى ذلك إلى قلب أنظمة الحكم السياسة وإشاعة القتل والفوضى الخلاقة!، كما قد جرى في أرض الرافدين، فكان الغزو العسكري تمهيدا إلى غزو فكري لمنظومة القيم التي تحكم الأفراد والجماعات في العالم الإسلامي، ليصل أبناءه إلى الدركة التي وصل إليها المجتمع الأمريكي، فلا بد للبشرية أن تكون، شاءت أم أبت، نسخة مقلدة من المجتمع الأمريكي فهو النموذج الإنساني الأرفع، فلا يدانيه أي نموذج ولو كان مستندا إلى النبوة، وذلك ما يفسر الصراع المحتدم الآن بين الغرب بقيادة أمريكا، والإسلام، فإنه لم يصمد للنموذج الغربي بعد انهيار كل القوى العالمية إلا النموذج الإسلامي، فمع ضعفه السياسي والعسكري والاقتصادي ..... إلخ من الجوانب المادية، إلا أنه لا زال يملك التفوق والريادة في الجانب الإنساني، معدن السعادة الحقيقية التي تفتقدها البشرية المتخمة بالنعيم الحسي، الفقيرة إلى الاستقرار النفسي، فليس ثم ذلك إلا بالسير على منهاج النبوة، التي يجتهد أكثر الناس في زماننا، حتى من أتباعها، في إطفاء نورها وإفناء أهلها!، وما ذلك إلا فساد تصور من جنس فساد تصور قوم لوط، فقد صارت الفاحشة في تصورهم: حرية، وصارت النبوة في تصور
(يُتْبَعُ)
(/)
كثير من أهل زماننا معدن التطرف والإرهاب!، وإذا اختلت معايير القياس، فلا يجدي الحوار شيئا إن تطرق إلى الفروع قبل تحرير الأصول، ولذلك كان مصير كل حوار بين الحضارات إلى يوم الناس هذا: الفشل الذريع، لأن المتحاورين لم يتفقوا على أصل جامع، فلكلٍ أصوله ومبادئه، وليس ثم حكم يفصل بين العقول المتنازعة إلا الوحي المنزل الذي اجتهد القوم في تحريفه سلفا، وحربه خلفا، فمن يفصل النزاع بين الحضارات غير الوحي الذي أنزله العليم الخبير، جل وعلا، فهو الذي يعلم أسرار النفوس وخبايا الصدور؟!.
وقول لوط عليه السلام: مِنْ دُونِ النِّسَاءِ: إطناب في معرض الإنكار، فإن هذه الفعلة مستقبحة سواء أجمع فاعلها بينها وبين إتيان النساء أم لم يجمع، فلا مفهوم للكلام، ليقال بأن الإنكار يتوجه إلى من صُرِفَ إلى تلك الفعلة عن إتيان النساء، فلا يكون الجامع بينهما مذموما!، بل كل فاعل لها مذموم، وإنما جاء القيد أغلبيا، فلا مفهوم له، فالغالب من حال مرتكب هذه الفعلة الشنيعة أنه يعدل عن إتيان النساء، فقد فسدت جبلته، فلم يعد له في المشروع حاجة، ولعل ذلك من أسباب الانقراض الذي يهدد كثيرا من المجتمعات الغربية التي استغنى كثير من رجالها برجالها، واستغنى كثير من نسائها بنسائها، وليس الأمر خاصا بهم، بل إن من سار على طريقتهم، ولو كان من أتباع النبوة الخاتمة، فهو أهل لما يحل بهم من العقوبات الشرعية والكونية، وذلك ما قد ظهرت بعض آثاره في جملة من أمصار المسلمين، كما ذكرت بعض الباحثات المعاصرات، فظهرت في دولة عربية أول جمعية للدفاع عن حقوق الشواذ في العالم الإسلامي تحت اسم جمعية: "حلم"!، وهو كابوس مزعج، وظهرت منتديات على الشبكة العنكبوتية لشواذ الأمصار، فاستحق الجميع غربيين كانوا أو شرقيين، إنكار لوط عليه السلام، وكل نبي، وكل ذي دين وخلق وجبلة صحيحة، فالعبرة بالمعنى لا بالسبب، فخطاب المواجهة لقوم لوط يعمهم ويعم غيرهم ممن سار على طريقتهم النكراء، ولذلك جاء التهديد بعموم الوعيد في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)، فكل من وافقهم في الوصف، فهو متوعد بما نزل بهم من الخسف، فضلا عما توعد به الآخرون في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم"، وقد جاء تأويل هذا الخبر النبوي الصحيح، فهو من دلائل نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم فظهرت أوجاع وأمراض ترتعد الجوارح لمجرد ذكرها، فما هي، أيضا، من الظالمين ببعيد، ثم أضرب لوط عليه السلام، على ما تقدم من الإطناب في الزجر والإنكار، فالإضراب انتقالي، فما قبله مؤسس وما بعده مؤكد لمعناه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: وجاء الإخبار بالجملة الاسمية، إمعانا في النكير، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالإخبار بالجملة الاسمية مئنة من ثبوت الوصف، فقد صار الفسق لهم سجية، وهو فسق اعتقادي فالقوم مشركون، وفسق عملي فالقوم منحرفون وذلك آكد في ذمهم بإطلاق وصف الفسق عليهم مثبتا مسندا إلى الضمير الدال على جماعتهم.
وفي مقابل ذلك: مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ: فذلك جار مجرى الذم بما هو عين المدح، فقد نكست النفوس وفسدت الطبائع، كما تقدم، حتى صار التطهر عيبا يذم به صاحبه، لاختلال معايير القيم في مجتمع قد استعلن بالفاحشة، وتلك حال مطردة في كل جماعة إنسانية تخرج عن المعايير الأخلاقية، لا سيما الشرعية، فإنه، لا أخلاق إلا وقد أرست النبوات قواعدها، فليس ثم خلق صحيح إلا والنبوة قد أرشدت إليه، وليس ثم خلق فاسد إلا وقد حذرت منه، فنعمة النبوة قد عمت كل حال: فعلومها أنفع العلوم، وأعمالها أصلح أعمال للقلوب والجوارح، وأخلاقها أكمل الأخلاق، وسياساتها أحكم السياسات، وإنما يعرض عنها من يعرض من ضلال البشر لعظم جهلهم بقدرها، فلا صلاح للنوع الإنساني إلا بتوليتها وعزل كل
(يُتْبَعُ)
(/)
خصومها من طرائق البشر المحدثة سواء أكان ذلك في العقائد أم الشرائع أم الأخلاق أم السياسات، فالنبوة منصب لا يقبل الشركة من عقول البشر المضطربة التي تحسن وتقبح تبعا لأهوائها وأذواقها.
فالكلام من قبيل الذم الذي أريد به المدح، في حقيقته، فلم يريدوا مدح لوط وأهله بطبيعة الحال!، وجاء الوصف: "يتطهرون": مضعفا، فهو دال على تكرار الوصف فهو ملكة راسخة لا حال طارئة، وهو من وجه آخر دال على تكلف صاحبه وحرصه على مباشرة أسبابه والتنزه عن أضداده، فتطهر أبلغ في الوصف من: "طهر"، ولذلك رجح جمهور أهل العلم، خلافا لابن حزم، رحمه الله، عدم جواز إتيان الحائض إن انقطع دمها إلا بعد الغسل، لدلالة لفظ: "تطهرن" في قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، على تكلف أسباب الطهارة، وذلك لا يكون في رفع الحدث الأكبر إلا بالغسل فضلا عن دلالة قراءة: (يطَّهرن)، على نفس المعنى، فالتضعيف في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى بتكلف أسبابه، والشاهد أن هذا التضعيف الذي ذيلت به الآية: آكد في الذم في عرف من اختل ميزانه وفسد قياسه فكلما ازداد خصمه زكاء ونقاء، ازداد في نظره خبثا وفسادا.
ولما جاء التهديد بالإخراج، جرت السنة الكونية في معرض الانتصار للأنبياء عليهم السلام، فهي من أظهر صور العناية بهم، جرت بإهلاكهم بعذاب بئيس عام، فذلك من عذاب الاستئصال الخاص لأمة مكذبة بعينها، فلم يؤمر لوط بجهاد، وأنى له ذلك وهو القائل: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، فآواه الرب، جل وعلا، إلى ركنه، وانتصر ممن كذبوا وهموا بإخراجه وأهله فـ:
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ: فالفاء مئنة من الفور والتعقيب، وذلك آكد في بيان عظم عناية الرب، جل وعلا، بنبيه الكريم لوط وأهله، عليهم السلام، فناسب ذلك أن يسند الفعل إلى ضمير الفاعلين، فذلك آكد في بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، ورحمته في استنقاذ لوط وأهله، علهيم السلام، من عذاب الاستئصال الذي نزل بقومه، واستثنيت امرأته فهي من الغابرين لقيام وصف الكفر بها، والرضا بصنيعهم، بل والمعاضدة عليه، كما قد جاء في بعض الآثار، فخرجت من أهله بالنظر إلى معنى الأهلية الشرعية، وإن لم تخرج بالنظر إلى الأهلية العرفية، كما قد خرج ابن نوح عليه السلام من أهلية الدين، وإن لم يخرج من أهلية النسب فـ: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). فوصف الإنجاء للأنبياء عليهم السلام وأهليهم وأتباعهم من أوصاف فعله المتعلقة بمشيئته العامة النافذة، التي يظهر بها جمال وصفه، فهي مئنة من رحماته، جل وعلا، بعباده المؤمنين رحمات خاصة في الدنيا بالنصر ولو استبطئ، فذلك من تمحيص الرب، جل وعلا، لما في الصدور، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب ودخول دار النعيم السرمدي في جوار الرب العلي تبارك وتعالى.
وإمعانا في تقرير المنة وإظهار لكمال العناية بلوط عليه السلام وأهله، جاء الضد من الإنجاء بالإهلاك، وهو أيضا، من أوصاف الرب، جل وعلا، الفعلية، ولكنه على الضد من الأول، فهو مئنة من جلال وصفه، تبارك وتعالى، بإيقاع العذاب بالمكذبين، فناسبه، أيضا، الإسناد إلى ضمير الفاعلين، فذلك مئنة من عظم قدرته، فلا يعجزه إهلاك أعدائه كما لا يعجزه إنجاء أوليائه، فيكون الإسناد إلى ضمير الفاعلين في هذين الموضعين جار مجرى الاشتراك اللفظي، بل التضاد، فهو في موضع: مئنة من جمال الرب، جل وعلا، بإنجاء أوليائه، وفي آخر لاختلاف القيد: مئنة من جلاله بإهلاك عدوه، وكلاهما، عند التدبر والنظر، يصب في قناة العناية بالرسل عليهم السلام، فالسنة المطردة: ظهورهم على عدوهم مع قلة عددهم وعتادهم، فإن لم يكونوا مقاتلين قد شرع لهم جهاد عدوهم، فالعذاب النازل من السماء، وإن كانوا مقاتلين، فالنصر، وإن ابتلوا، بظهور عدوهم عليهم في بعض الوقائع، تمحيصا للصدور، كما تقدم، كما قد جرى للطائفة المؤمنة يوم أحد، فـ: (مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
(يُتْبَعُ)
(/)
الْمُؤْمِنِينَ)، فالأنبياء، عليهم السلام، وأتباعهم منصورون بمقتضى الكلمة الكونية النافذة فـ: (لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، فإما نصر بالقدر الكوني فـ: (كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، وإما نصر بالقدر الشرعي الموجب للأخذ بأسباب القتال دفعا وطلبا، فـ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فينزل الرب، جل وعلا، عذابه بالكفار بأيدي المؤمنين، فهم سبب كسائر الأسباب، فـ: (مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فبذل السبب غاية المؤمن طلبا للثواب، وأما تولد النتيجة منه بإصابة الهدف فذلك لا يكون إلا بتقدير الرب، جل وعلا، بمشيئته الكونية العامة.
فكانت صورة العذاب الكوني النازل بساحة القوم: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا: فنكر تعظيما، فالتنكير يفيد التهويل بإبهام المنكر، وقد جاء بيانه في مواضع أخر من التنزيل كقوله تعالى: (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)، فذلك جار على ما اطرد من طريقة المحققين من أهل التأويل في تفسير آي التنزيل بالتنزيل، فتجمع أدلة الباب لتكتمل صورة الاستدلال. ثم جاء التذييل بالأمر بالنظر على جهة التفكر، فهو من رؤية البصيرة بقرينة تعلقه بالكيف، فهو حال، والحال مظنة النظر العقلي طلبا للعبرة: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ: فأفاد الأمر بدلالته المعجمية: الوجوب فالنظر في أخبار السابقين من آكد أسباب النجاة بالإيمان بالرسالات، فالقياس القرآني الصريح قاض بالتسوية بين المتماثلين، فمن سار على طريقتهم في الجحود والتكذيب فله ما لهم من الوعيد ثم العقاب، والتفريق بين المختلفين، فمن سار على ضد ما ساروا عليه، فآمن تصديقا بالخبر وامتثالا للأمر، فله من الوعد ثم النجاة ما يقابل وعيدهم وعقابهم بالإهلاك والاستئصال.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 06 - 2010, 06:19 ص]ـ
ومن سورة الكهف:
ومن صور العناية بالمؤمنين: سواء أكانوا مرسلين أم مؤمنين:
ومن قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً):
فصدر السياق بالتوكيد بتكرار الفاعل مضمرا في المسند: "نقص"، فذلك من التنويه بشأن المذكور، وهو من أدلة عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد سألته قريش بمشورة يهود، وهم أعلم الناس بصفته، وأعلم الناس آنذاك بما قد كان في القرون الأولى، فهم أهل الكتاب الذي جمع من أخبار السابقين ما لم يجمع غيره، فالعهد القديم عمدة الكتاب عند أهل الكتابين، فعليه يحيل النصارى في الأحكام الشرعية، فلم يأت المسيح عليه السلام لينقض الناموس بل ليتمه، فذلك منطوق كتابهم، وقد جاء الكتاب العزيز بتصديقه: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، فكان من عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن قص عليه من نبأهم ما يدل على صدق دعواه، فالنبي لا يكذب في خبره، فذلك من المحال الذاتي، فهو معصوم من الكذب مطلقا، ومعصوم من الخطأ والسهو والنسيان، حال البلاغ، فالوحي المنزل قد بلغه، وحفظه الرب، جل وعلا، إقامة للحجة الرسالية بحفظ آخر كتاب مما قد وقع لما تقدمه من التحريف في مبانيه تبديلا ومعانيه تأويلا، والشاهد أن من أظهر دلائل النبوة: إخبار النبي عما قد وقع في الماضي، مما لا علم له به فـ: (مَا كُنْتَ
(يُتْبَعُ)
(/)
تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، فما جلس صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى معلم قبل بعثته، وما نظر في كتاب عربي، فضلا عن أن ينظر في الكتاب العبراني، فرصيده من علوم الأوائل كرصيد العرب من الفلسفات الأرضية، فقد امتازت تلك البيئة بعزلتها ونقائها الفكري، إن صح التعبير، فلم يكن فيها من العلوم الجدلية والفلسفية ما في سائر البيئات التي ازدهرت فيها المدنيات كفارس والروم، فكان ذلك، كما يقول بعض أهل العلم، حسما لمادة الشبهة، لئلا يدع مدع بأن هذه الرسالة الخاتمة هي نتاج تراث فكري أو فلسفي متراكم، فيصير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفكرا أو فيلسوفا أو مصلحا أو حتى ثائرا!، كما قد رام ذلك كثير ممن أعجب بشخصه الكريم وبهر برأيه السديد، مع إنكاره للوحي، كمفكري الغرب، أو تحقيره من شأنه، والضمير راجع على الوحي، كما هي حال كثير من مفكري الشرق لا سيما العقلانيين واليساريين الذين ردوا تلك الآراء السديدة والسيرة الحميدة التي تحمل كل منصف على احترام صاحبها وتقديره، ردوا كل ذلك إلى ملكاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم النفسانية، وهي ملكات عظيمة بلا شك، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هملا قبل البعثة بل كان من أكمل رجالات قريش عقلا وفضلا، فكان المؤتمن على الودائع، المستشار في النوازل، الحكم في المنازعات كما قد وقع في حادثة بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود، فقد شهد من كذبه على نفسه، فرضي القوم بالصادق الأمين، وهم بعد ذلك الذين كذبوه ورموه بالسحر والمس!. فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عظيم، ولكن تلك العظمة الأرضية لا تكفي لنيل منصب الرسالة، فليست الرسالة مما ينال بالاكتساب، بل هي محض هبة ربانية يضعها الرب، جل وعلا، بحكمته، حيث يشاء، فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فنزل الوحي على محل قابل لآثاره فهو من الطهر والنقاء بمكان، وذلك أمر شهد به أعداء النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسيرته قبل البعثة أطيب سيرة، بل قد توسمت فيه أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، وكانت ممن عنده علم بشأن نبي آخر الزمان، توسمت فيه أنه المصطفى لحمل آخر الرسالات لما قد اشتهر به من شمائل الخير ومكارم الأخلاق، فالنبوة مرتبة فوق مرتبة الداعية أو المصلح أو الثائر .... إلخ من المناصب البشرية، ففيها من الاصطفاء ما ليس في غيرها، وفيها من التأييد بالآيات الكونية والشرعية ما ليس في غيرها، وفيها من الإخبار بجملة من الغيوب الماضية والتالية ما يواطئ الحقيقة فلا يعلم بشر ذلك إلا من جهة الوحي المعصوم، فالصادق لا يكذب، والكاذب قد يصدق، كما يصدق الكهان، في بعض كلامهم، ولكن آخره ينقض أوله، فلا بد أن يقع في الكذب وإن أظهر الصدق وتكلفه، فالنبوة مرتبة لا واسطة فيها، لعظم شأنها، فإما أن يدعيها أصدق الصادقين، وإما أن يدعيها أكذب الكاذبين، والفرقان بينهما يسير على من أنار الرب، جل وعلا، بصيرته، فنظر في مقالة كليهما، مؤيدا بدلائل النبوة الصحيحات، فتنكشف له حال الصادق من الكاذب، وذلك، أيضا، من أدلة عناية الرب، جل وعلا، بالبشر، أن يسر لهم وسائل المعرفة في أمر عظيم وقضية جليلة كالنبوة، فأقام من الدلائل على تواترها في النوع الإنساني وصحة دعوى من ادعاها من الرسل عليهم السلام ما حصلت به الكفاية، فالشيء، كما يقول بعض المحققين من أهل العلم، كلما اشتدت إليه الحاجة يسر الرب، جل وعلا، أسبابه، ولا أشد حاجة للبشر من النبوات فهي معدن السعادة في الأولى والنجاة في الآخرة.
(يُتْبَعُ)
(/)
فأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجملة من أخبار الماضين على ما قد وقع فعلا، بل أخبر يهود بفضائح اجتهدوا في كتمانها، كواقعة أصحاب السبت، فلو فرض جدلا أنه جلس إلى معلم منهم، وهم أشح الناس، فكتمان الحق فيهم سجية، وبخلهم بما في أيديهم المغلولة من أمر دين أو دنيا، أمر معروف مشتهر، فلو جلس إليهم فلن يخبروه قطعا بفضيحة اجتهدوا في كتمانها، فمن أين له العلم بذلك، ومن أين له العلم بإخفائهم آية الرجم حال قراءتهم لها أمامه، لما أخفاها القارئ بيده، وهو، صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا علم له بالخط العربي فضلا عن الخط العبراني؟!، ومن أين له ما قد أخبر به من الأمور المستقبلة مما قد وقع ولا يزال يقع على ما قد أخبر، بل إن ما نحن فيه الآن من ضعف وانكسار، هو في حقيقته، تأويل خبره الصادق: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"، فهو عند التحقيق، من دلائل نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك، كما تقدم، من أظهر أدلة عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتأييده بخبر الوحي الصادق.
وجاء التقييد بالحال: "بِالْحَقِّ": فالباء للمصاحبة والملابسة، جاء التقييد بها إمعانا في تأييده صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معرض التحدي، فليس لها مفهوم، فليس من القصص ما هو بباطل وآخر بحق، بل كله بالحق بداهة، وإنما نص على ذلك في هذا الموضع، مع كونه معلوما بالضرورة، إمعانا في تأييده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما تقدم.
ثم جاء البيان لما قد أجمل من نبأهم في صدر الآية، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فـ: إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ: فتعلق الإيمان بوصف الرب، جل وعلا، فذلك جار على ما تقدم مرارا من التلازم الوثيق بين فعل العبد تألها وعبودية، فالإيمان أصل كل حركة باطنة وظاهرة برسم التعبد، وفعل الرب، جل وعلا، ربوبية بالإيجاد، وهو ما قد قاله الفتية فـ: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فهو الرب الموجد لأعيانها المدبر لأحوالها بما ينتظم به أمر الخلائق، ففي خلق السماوات والأرض من أدلة الإيجاد المعجز والعناية بتدبير حركات الأفلاك ومقادير الأرزاق .... إلخ، في ذلك من دلائل ربوبيته العامة، تبارك وتعالى، ما فيه.
ثم جاء التثبيت من الله، عز وجل، لتلك الثلة المؤمنة، فذلك من عنايته، عز وجل، الخاصة بأوليائه، فهي، كما تقدم في أكثر من موضع، قدر زائد على العناية العامة التي تكفل بها الرب، جل وعلا، لسائر الخلائق، فذلك فرع عن الربوبية فمنها أيضا: ربوبية عامة: ربوبية الرحمن بالرحمات الكونية من غذاء للأبدان وهدى على جهة الدلالة والإرشاد ببعث الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب، و: ربوبية الرحيم الخاصة بالرحمات الشرعية فلا ينالها إلا المؤمنون، فهداية التوفيق والإلهام مما قد استأثر به الرب، جل وعلا، فـ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فيهبها من شاء فضلا ويحجبها عمن شاء عدلا، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، لكمال قدرته النافذة وكمال حكمته البالغة، فهو الذي خلق القلوب وقدر مقاديرها، فيحل فيها من الهدى أو الضلال ما يلائم قدرها، فمن القلوب أوعية تسع من العلوم والأعمال ما تسع، ومنها قلوب قد طبع الرب، جل وعلا، عليها، بالطابع الكوني النافذ، فلا يجد الهدى إليها سبيلا، فكل أبواب الخير إليها موصدة، وكل أبواب الشر إليها مشرعة.
(يُتْبَعُ)
(/)
فثبتهم الرب، جل وعلا، فـ: زِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ: فجاء الفعل مسندا إلى ضمير الفاعلين في: "زدناهم" و: "ربطنا" فذلك، كما تقدم في أكثر من موضع، مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بعباده المؤمنين، فالمقام مقام: عناية يلائمه الإسناد إلى ضمير الفاعلين فذلك ركن شديد يأوي إليه كل مؤمن طريد، فإذا خرج فارا أو أخرج من قريته، فالرب، جل وعلا، مستنده، فهو الموصوف بكمال صفاته جلالا فينتصر من أعدائه لأوليائه، وجمالا، فينتصر لأوليائه من أعدائه، ويحوطهم بعنايته، كما قد وقع لأولئك الفتية: (إِذْ قَامُوا فقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)، فمعنى التعليل في: "إذ": ظاهر، فما كان من عناية بهم، فلأنهم قاموا، والقيام، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، يحتمل القيام الحقيقي فكانوا جلوسا فقاموا إمعانا في الاستعلاء بإيمانهم، ويحتمل القيام بالأمر، فيكون من قبيل المجاز، عند من يقول بالمجاز في الكتاب العزيز، فقاموا بأمر العبودية خير قيام، فلن يعبدوا، وجاء لفظ الدعاء نائبا عنه، إذ الدعاء من أظهر صور العبادة، بل هو العبادة، كما في حديث النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، مرفوعا: "الدعاء هو العبادة"، فذلك من القصر، فيحتمل القصر الإضافي إمعانا في التنويه بشأن عبادة الدعاء، أو القصر الحقيقي، فإن كل العبادات ترجع في حقيقتها إلى عبادة الدعاء، ففي كل العبادات مناجاة للرب، جل وعلا، استنزالا لرحماته، واستدفاعا لنقماته. فلن يعبد أولئك من دونه، جل وعلا، إلها، فهو الإله الحق، إذ هو الرب الحق الذي خلق السماوات والأرض، كما قد تقدم من كلامهم، ولازم ذلك أنه العليم الخبير فـ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فيعلم حال العبد وما يلائمه من الأرزاق الكونية فأحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث، وما يلائمه من الأرزاق الشرعية فأنزل له الكتب وبعث له الرسل، عليهم السلام، بأشرف أجناس الغذاء، فهو الطيب الناصح الذي لا شوب فيه ولا كدر في مقابل ما يشوب مقالات البشر من خروج عن شريعة السماء، بل عن قانون العقل والفطرة المركزة في النفوس بمقتضى الجبلة الأولى، فإذا ترك البشر لعقولهم فعزلت النبوة عن منصب الدلالة والإرشاد ابتداء، وعزلت النفوس عن منصب الخضوع والانقياد تصديقا بأخبار الرسالات وامتثالا لأحكامها، إذا وقع ذلك وقع في العالم من الشرور والمفاسد ما قد ظهرت آثاره في زماننا، فشمس النبوات قد أفلت في كثير من أمصار الأرض، وخفت ضوءها في أمصار أخر، فنزل بالبشر من شؤم الإعراض عن الوحي ما قد نزل، فضيق في الأرزاق، وخوف قد ملأ القلوب، وهم وحزن قد أقعد أصحاب الهمم، وليس ثم سبيل لرفع هذا البلاء إلا بمراجعة الدين الخاتم، فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، فقد دخل السلف كافة فكان ما كان من تمكين، وأعرض الخلف عن جملة بل جمل من أحكامه، فإلى أمثالهم يتوجه خطاب الإنكار: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، فمنهم من كفر بلسان مقاله تصريحا، فزعم أن النبوة لا تصلح لتسيير أحوال الناس في هذا الزمان، فقد نزلت في بيئة صحراوية مقفرة على ثلة من البدو لا علم لهم بأدوات الحضارة المعاصرة!، ومنهم من هو في شك بلسان حاله، ففي صدره حرج لا يبديه من أحكام النبوة، فعقله يرد كثيرا من أحكام الشريعة فليتها ما نزلت!، لما يتوهمه من عدم ملاءمتها لمقتضيات العصر، فهي تسبب له إحراجا في عالم قد كفر بالرسالات، وآمن بمقررات العلمانية التي نقضت غزل الدين في أوروبا وأحالته إلى التقاعد بعد طول استبداد، وقياس دين الإسلام على دين الكنيسة، كما تقدم مرارا، قياس مع الفارق، فهو قياس فاسد الاعتبار لمن تأمله.
(يُتْبَعُ)
(/)
فربط الرب، جل وعلا، على قلوبهم، فذلك من قبيل استعارة الربط المحسوس للربط المعقول، وتعديه بـ: "على" إمعان في تقرير المعنى فهي تفيد الاستعلاء، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذلك من العناية بهم بمكان، والشطط الذي ذيلت به مقالتهم من قبيل الاستعارة، أيضا، فهو مئنة من التباعد، فكذلك من دعا مع الرب، جل وعلا، غيره، فقد تباعد من النبوات العاصمة فهو في أسباب الهلاك في الدارين قد وقع إلا أن يرجع إلى سبب النجاة الوحيد، فلا صلاح للأولى والآخرة إلا باقتفاء آثار الأنبياء عليهم السلام.
ثم استنكر أولئك الأفاضل حال قومهم لما قد أنعم الرب، جل وعلا، عليهم به، من الفطرة السوية، فلا يسوي العاقل المسدد بين آلهة لا برهان عليها، وبين الإله المعبود بحق الذي قامت كل دلائل النقل والعقل والفطرة والحس على وحدانيته في أفعاله الكونية النافذة، فلازم ذلك، كما تقدم مرارا، توحيده بكلماته الشرعية الحاكمة، فأشاروا إلى قومهم مئنة من التحقير: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً)، فالإشارة إلى البعيد في معرض الذم مئنة من النقصان، بخلاف الإشارة إليه في معرض المدح، فالسياق قيد فارق بين المعنيين وإن كان مبنى الإشارة اللفظي للبعيد واحدا، فـ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً: فالاتخاذ مئنة من التكلف فما حملهم على ذلك إلا الهوى المستحكم، فليس لهم، كما تقدم، دليل مرضي، فـ: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ: فذلك من الحض في معرض التحدي زجرا لهم، ثم جاء التذييل بالاستفهام الإنكاري التوبيخي إمعاتنا في تقرير بطلان ألوهية معبوداتهم في مقابل ألوهية المعبود بحق، تبارك وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا: فلا أظلم ممن افترى على الله، تبارك وتعالى، كذبا، فسوى بين أعظم متباينين: الرب المعبود بحق، والآلهة المعبودة بالباطل، فذلك مئنة ظاهرة من فساد القياس، فالصريح منه يقتضي التفريق بين المتباينين: فللرب، جل وعلا، من أوصاف الكمال الذاتي والوصفي والفعلي ما ليس لتلك الآلهة الباطلة بداهة، فليس لأحد في هذا الكون شركة في إيجاد أو تدبير، فالرب، جل وعلا، قد استقل بالملك والتدبير ولوازمهما من الخلق والرزق .... إلخ، فلا يدبر الأمر إلا هو، بل لا تدبر الملائكة، وهي أعظم جنده، أمرا إلا بإذنه فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ: فذلك من تصديق القول بالفعل، فاعتزلوا المنكر لما عجزوا عن إنكاره، فاعتزالهم لآلهة قومهم إلا الله، يحتمل الانقطاع، إن كان القوم كفارا لا يعبدون الله، عز وجل، ابتداء، أو الاتصال إن كانوا مشركين يعبدونه ويعبدون غيره من الآلهة معه، كما قد قال غيرهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: فرار بدينكم و: "أل" في الكهف تحتمل الجنسية فتكون لبيان الماهية فلا تعم سائر الكهوف بداهة فلن يأوي القوم إلا إلى كهف واحد أو عدة كهوف لو اضطروا إلى تقسيم أنفسهم أو تبديل محل إقامتهم باستمرار إمعانا في التمويه!، وتحتمل العهد لو أريد كهف بعينه، وأيا كان الأمر، فذلك سبب في حصول عناية الرب، جل وعلا، بنشر الرحمات الخاصة بأوليائه، فجاء المضارع مجزوما في جواب الأمر: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ: على تقدير شرط محذوف، فإن تأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، وفي تعليق المشروط على الشرط ما يدل على عظم يقينهم بالله، عز وجل، فالأمر سنة كونية قد أوجبها الرب، جل وعلا، على نفسه، فـ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): عامة كانت بكل الخلائق وخاصة بعباده المؤمنين، و: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فنصره إياهم من أظهر أدلة عنايته الخاصة بأوليائه، وجاء نشر الرحمة من قبيل الاستعارة، أيضا، فهو مئنة من العموم، المستغرق للأنواع والأعيان والأحوال والمكان الذين حل فيه القوم، فتنزلت عليهم
(يُتْبَعُ)
(/)
الرحمات التي عمتهم كما يعم الثوب إذا نشر بعد الطي: الجسدَ، وجاء الإطناب في معرض بيان عناية الرب، جل وعلا، بهم: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا: وهو ما يرتفق وينتفع به، وذلك من لوازم نشر الرحمة، فيكون إطنابا بذكر اللازم عقيب ملزومه، أو هو من جملة الرحمات بتيسير أسباب الانتفاع، فيكون من عطف الخاص على العام، وأيا كان، فالإطناب في كلتا الحالين يلائم سياق المنة الربانية بكمال العناية بهم لما بذلوا من أسباب نصرة الدين والفرار به صيانة له من قومهم الذين تلبسوا بضده من الكفر أو الشرك على التفصيل المتقدم.
ثم جاء الخطاب لغير معين، فذلك مما يلائم خطاب الاعتبار فهو خطاب عام يتوجه إلى كل قارئ أو سامع: فـ: تَرَى الشَّمْسَ: فتلك رؤية علمية بالنظر في حالهم، فذلك ذريعة إلى أخذ العبرة بإعمال الفكر في المعنى المعقول المستفاد من المعنى المحسوس الذي جاء بيانه عقيب فعل الرؤية، وقد تحمل الرؤية على الرؤية البصرية، فيكون ذلك من استحضار الصورة، فقد ورد بيانها، كما تقدم مفصلة: فترى الشمس إذا: طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ: فالمجيء بالمضارع: "ترى" في حق المخاطب، ثم المضارع: "تزاور": أي تميل، و: "تقرضهم": أي لا تقربهم فهو من القرض وهو القطع كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، ففيه، أيضا، استعارة معنى محسوس لمعنى معقول، على ما اطرد في هذا السياق، فالاستعارة تقرب المعنى إلى الأفهام بإيراد المعقولات في قوالب محسوسة تشترك عامة العقول في إدراكها بلا عناء فذلك من تيسير الرب، جل وعلا، للذكر، بأن أنزله بلفظ بين لا غموض فيه ولا إلباس، فالقرآن قد نزل بلغة العرب مرشحة، إن صح التعبير، من الألفاظ الغريبة التي وردت في أشعارهم، والشاهد أن مجيء المضارع في تلك المواضع مما يسوغ حمل الرؤية على الرؤية البصرية تنزيلا للغائب منزلة الشاهد، فذلك آكد في استحضار صورته لحصول تمام الاعتبار، وذلك، أيضا، من أدلة عنايته، عز وجل، بالأمة الخاتمة، فالدعوة إلى أخذ العبرة من أحوال السابقين، بموافقة أهل الإيمان ومخالفة أهل الكفران، تلك الدعوة قد تواترت في كل أخبار التنزيل عن أحوال الماضين على ما تقدمت الإشارة إليه في مواضع عدة، لا سيما في مواضع الوعد والوعيد، وما حل بالأمم المكذبة من العذاب فهو تأويل وعيده، جل وعلا، لكل من كذب رسله وعصى أمره، فذلك معنى مطرد لا خصوص له بسببه، فالعبرة بعموم معناه، وهو جار على ما تقرر من قياس الطرد والعكس القرآني فمنطوق أي وعد أو وعيد: وقوعه بوقوع سببه، ومفهومه: وقوع ضده بوقوع ضد سببه، فمن آمن نجا، ومن كفر هلك، فتلك قاعدة عامة تصلح في أي موضع جاء فيه وعد أو وعيد رباني، أو جاءت فيه حكاية ما حل بالماضين: نجاة إن كانوا مؤمنين، وهلاكا إن كانوا كافرين، ثم جاءت الحال: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: فهي آكد في استحضار تلك الصورة العجيبة لأولئك الفتية الفارين بدينهم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فـ: ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ: الكونية الباهرة، فناسب أن يشار إليها بإشارة البعيد مئنة، هذه المرة من التعظيم وعلو الشأن بخلاف الإشارة في نحو قوله تعالى: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا)، فهي مئنة من التحقير ودنو الشأن، كما تقدم، فالسياق هذه المرة قد رجح ضد ما رجح في المرة الأولى، مع كون الاستعمال واحدا: فهنا إشارة إلى بعيد معظم، وهناك إشارة إلى بعيد محقر. فهي آية عجيبة في حفظ الرب، جل وعلا، لأوليائه، فحفظ أبدانهم ووقاهم حر الشمس، ثم جاء التذييل بقاعدة عامة، فالشرط فيها نص في العموم وهو عموم محفوظ لا مخصص له، فـ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ: فذلك من القصر الحقيقي فهو المهتد وحده دون غيره، فتحمل الهداية هنا على هداية التوفيق والإلهام، فليست، كما تقدم، إلا للرب ذي الجلال والإكرام، فهو المنفرد بتقليب القلوب فإن شاء صرفها على الطاعة فضلا، وإن شاء صرفها على المعصية عدلا، فانفرد، جل وعلا، ببعث الرسل عليهم السلام بهداية الإرشاد فتلك منة عامة لكل من بلغه خبر الرسالات، وهو شرط رئيس في قيام الحجة فـ
(يُتْبَعُ)
(/)
: (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وذلك، أيضا، من عنايته عز وجل بعباده فلا يحكم فيهم إلا بالعدل بل قد حكم في بعضهم بالفضل كما تقدم، ثم انفرد، تبارك وتعالى، بهداية التوفيق والإلهام، كما تقدم، فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فهو ذو الفضل العظيم فلا راد لفضله فـ: (إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وهو مع عظيم عطائه وسعة رحمته ونفاذ قدرته فلا راد لمشيئته: حكيم لا يضع الهدى إلا في المحل الملائم له، كما لا يضع الضلال إلا في المحل الملائم له، فجاءت المقابلة استيفاء لشطري القسمة العقلية، فذلك من الاحتراس لئلا يظن ظان انفراد الرب، جل وعلا، بالهداية دون الضلال، كما قد ظن ذلك من ظن من الثنوية القائلين بإله للخير وآخر للشر، أو القدرية، فمنهم من نفى خلق الرب، جل وعلا، لأفعال العباد عموما، ومنهم من شابه الثنوية، فقال بأن الله، عز وجل، يخلق الهدى والخير في قلوب عباده ولا يخلق الضلال والشر، والصحيح أن كلا من قدره الكوني النافذ، فـ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا)، كما قد نص على ذلك الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته المعروفة، فاستيفاءً لشطري القسمة العقلية إمعانا في بيان قدرة الرب، جل وعلا، على تصريف القلوب على الخير أو الشر كما تقدم: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا: على جهة التأبيد لا لدلالة "لن" المعجمية على ذلك وإنما لقرينة السياق التي دلت على انفراد الرب، جل وعلا، بتصريف القلوب، فهي بين الفضل والعدل تدور، فلن تجد لمثل هذا وليا مرشدا، فتلك نكرات في سياق النفي تفيد العموم المحفوظ، كما تقدم، لانفراد الرب، جل وعلا، بذلك المنصب الجليل فهو من أظهر أدلة ربوبيته فهو الرب المدبر للأعيان الظاهرة: إيجادا وإفناء، زيادة ونقصانا، وهو الرب المدبر للأحوال الباطنة هداية أو إضلالا، فليس من ولي مرشد إلى حق على سبيل الانقياد إلا هو، وإن كان للرسل من الإرشاد البياني نصيب فتلك وظيفتهم الرئيسة.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا:
فذلك، أيضا، من استحضار تلك الصورة العجيبة في معرض تقرير عناية الرب، جل وعلا، بهم، فجاء الفعل مضارعا ليتسق مع ما تقدم من الأفعال المضارعة التي سيقت كلها لهذا الغرض، والطباق بالإيجاب بين: "أيقاظا" و: "رقود": يزيد المعنى تقريرا، وكذلك جاء فعل التقليب مضارعا مئنة من التجدد والاستمرار فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بأبدانهم لئلا تفسد بالمكث على حال واحدة، وذلك ما قد أثبتته العادة والتجربة، فضلا عن العلم الحديث فالإنسان الذي يمكث على حال واحدة، ولو كانت مريحة، يصاب بما يعرف بـ: "قرحة الفراش"، نتيجة تجلط الأوعية الدموية السطحية التي تماس الموضع الذي يتكئ عليه، وهي قرحة شديدة عسيرة العلاج، كما يقول الأطباء، إلا أن يشاء الرب، جل وعلا، شفاءها، فكان تقليبهم على هذا النحو طوال هذه المدة من كمال عناية الرب، جل وعلا، بهم، و: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ: فتلك، أيضا، من الصور العجيبة في هذه الآية، فناسب أن يعمل اسم الفاعل نائبا عن مضارعه، مع أنه لا يعمل إذا جرد من "أل" كما في هذا الموضع إلا في الحاضر أو المستقبل، وتلك صورة انقضت، ولكنها، كما تقدم، صورة عجيبة تستحق الاستحضار بالباصرة والتدبر بالبصيرة.
وعلى ما اطرد من خطاب غير المعين لعموم العبرة في القصة: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا: ففي الاطلاع نوع تكلف دلت عليه زيادة مبنى الفعل: "طلع" بالتضعيف، فاطلع من افتعل، ومن معانيه الرئيسة: التكلف فذلك أدعى إلى النظر والتدبير، وفيه نوع استعارة، أيضا، فالاطلاع يدل على رقي مكان عال والنظر منه إلى ما دونه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك معنى محسوس استعير للمعنى المعقول باستحضار صورتهم التي تثير رعب الناظر لكون الكهوف عادة ملجأ قطاع الطرق، فاجتماعهم على هذا النحو مظنة الريبة، وهي، هنا، أيضا، من أدلة عنايته، عز وجل، بهم، فلو اطلع عليهم أحد ما تجرأ على الدخول عليهم فضلا عن إلحاق الأذى بهم، وذيلت الاية باستعارة أخرى، جريا على ما اطرد في هذا السياق الغني بهذا الفن من فنون البيان، فالامتلاء ينصرف ابتداء إلى المحسوسات كالأكواب والأقداح، فاستعيرت تلك الصورة لوعاء القلب، فهو وعاء معنوي قد ملئ رعبا، فذلك، أيضا، معنى، فاستعير امتلاء المحسوس بالمحسوس لامتلاء المعقول بالمعقول.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 07 - 2010, 06:51 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ):
فذلك من أدلة إيجاده، جل وعلا، للكائنات، على أكمل الصور والهيئات ليحصل بها تمام الانتفاع في هذه الدار، فتلك دلالة العناية التي تقارن دلالة الإيجاد في كثير من المواضع من التنزيل، فهما، كما تقدم مرارا، أثر أخص أوصاف الربوبية، فالإيجاد بالقدرة وهي مئنة من الجلال، والعناية بالحكمة، وهي مئنة من الجمال، وباجتماعهما يثبت للرب، جل وعلا، الكمال، فهو، على جهة القصر بتعريف الجزأين قصرا حقيقيا، فلا خالق من العدم سواه، فله الخلق التقديري في الأزل والخلق الإيجادي من العدم، فلا يطلق الخلق وصفا أو فعلا، إلا عليه، جل وعلا، فكل خالق سواه فإنما خلق بقيد التحويل من هيئة إلى أخرى، فلا يبدع من العدم، وإنما يجري الرب، جل وعلا، على يديه من أسباب الصناعات ما يكون به الخلق البشري المقيد، فالإطلاق، في هذا الباب، كما تقدم، لا يكون إلا للرب ذي الجلال والإكرام، فإنه المنفرد بكمال القدرة تخليقا، وكمال الحكمة تدبيرا، فخلقه أكمل خلق، وصنعته أتقن صنعة، بخلاف المخلوق فنقصان صنعته من نقصانه الذاتي، كما أن كمال صنعة الرب، جل وعلا، من كمال وصفه ذاتا وصفات، فلا يكون فعل الكامل إلا كاملا، وفي المقابل، لا يكون فعل الناقص إلا ناقصا، فهذا الطير قد خلقه الباري، عز وجل، وفي خلقته من الإحكام والإتقان ما فيه، وهذه الطائرة قد صنعها الإنسان، فاستمد صناعتها من صناعة الرب، جل وعلا، للطير الحي الحساس المتحرك، فلم يجئ خلقه إلا جامدا يتحرك حركة ميكانيكية رتيبة فيها من وجوه النقص والعطب ما فيها، وحوادث الطيران، خير شاهد على ذلك، في مقابل حوادث الطيور، فلم نسمع، يوما، أن طائرا قد سقط أو انفجر نتيجة عطل فني!، فـ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ، فالتعريف بالموصولية مئنة من الوصف المؤثر، فالخلق، كما تقدم، من أظهر أدلة الربوبية، ومجيء الفعل ماضيا له من الدلالة التوكيدية ما يزيد المعنى تقريرا، فلا زالت أسباب الحياة تخلق، فالزروع تنبت، والأرزاق تنزل، ومع ذلك جاء الفعل ماضيا، فهو الذي خلقها لكم، فذلك، كما تقدم، آكد في تقرير المعنى، فالله، عز وجل، هو الموصوف بالخلق أزلا، فهو الخالق بالقوة وصفا وإن لم يكن ثم مخلوق، وهو الخالق بالفعل وصفا، فيخلق على جهة التجدد والحدوث، فآحاد الفعل متجددة حادثة متعلقة بمشيئته الكونية النافذة، وآحاد المخلوقات متجددة فتخلق الأعيان وما يقوم بها من الأحوال، خلقا من بعد خلق، فالأرزاق، كما تقدم، لا تزال جارية، فيخلق الرب، جل وعلا، منها، وينزل بقدر، فذلك من وجوه حكمته البالغة، فـ: (لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، وفي السياق، أيضا، توكيد بتكرار الفعل، فقد ذكر ضميرا بارزا صدر به السياق، ثم ذكر مستكنا في الصلة، فذلك، أيضا، من جملة المؤكدات اللفظية، واللام في "لكم": مئنة من الاختصاص، وفي ذلك مزيد بيان لدليل العناية، فلكم خلق ما في الأرض لتنتفعوا به وتشكروه على عظيم فضله ومنته، وجاء التوكيد بـ: "جميعا" بيانا للأصل في الأشياء المخلوقة، فالأصل فيها الطهارة والإباحة إلا ما ورد الدليل على ضده، فيستثنى من هذا الأصل العام ولا يقدح فيه، فإنما حرم صيانة لحق الله، عز وجل، فذلك وجه تخصيص المنة، فلا ينغصها، فما خصت تحكما، وإنما صيانة لحق من خلقها لكم تبارك وتعالى.
(يُتْبَعُ)
(/)
والاستواء مادة كلية تدل على العلو والكمال والاعتدال، وهي تنقسم من جهة المعنى، فتتعدى بـ: "على" فتفيد العلو، كما في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فذلك من علو الذات والصفات، فاستوى بذاته القدسية بأعظم أوصافه: "الرحمن"، فهو على وزن فعلان وهي مادة تدل على المبالغة والتمكن من الوصف، على العرش: أعظم مخلوقاته التي نعلمها فإليها منتهى علمنا بهذا العالم المخلوق، وتتعدى بـ: "إلى"، كما في هذه الآية فتفيد القصد، فالمعنى: ثم قصد إلى السماء، وقد ترد لازمة فلا تتعدى بواسطة، فتفيد المعنى الكلي الجامع: معنى الاعتدال والاستقامة، وهو، إما أن يكون معقولا، كقولك: استوى أدب فلان إذا اكتمل، أو معقولا، كقولك: استوى الثمر، فدل على نضجه، ولا زال هذا الاستعمال معروفا في لهجات العرب الدارجة في زماننا، فاستواء الثمر: نضجه وصيرورته صالحا للتناول، ويقال: استوت خلقة فلان، أي اكتملت ببلوغه ونمو بدنه نموا ظاهرا، وقد اجتمع المعنيان، كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فقد اعتنى الرب، جل وعلا، بكليمه، عليه السلام، فسوى خلقه المعقول، فهو من أشد الناس في دين الله، عز وجل، وخلقه، فهو من أكمل الناس خلقة، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر , ثوبي حجر , حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال: فذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} "، فبرأه الله، عز وجل، مما قالوا في حقه، فالأنبياء علهم السلام منزهون عن الأخلاق الردية التي تخرم المروءة من بخل وجبن وشره، ومنزهون، أيضا، عن قبح الخلقة ودمامتها، وعن كل مرض منفر من جذام وبرص ونحوه، ولذلك رد من رد من أهل العلم ما جاء في بعض كتب التفسير من وصف مرض أيوب عليه السلام، فهو مرض منفر، قد زهد الناس في رؤيته فضلا عن مجالسته، وذلك مما يعارض ما يقتضيه منصب النبوة من الاشتهار والظهور، فيناسب ذلك كمال الصفات الخَلْقية الظاهرة والخُلُقية الباطنة، ليحصل بذلك تمام الألفة، فذلك أول منازل الدعوة إلى الحق، فشخص الداعي عامل رئيس في قبول الدعوة أو ردها، وما جبل عليه من الشمائل، دليل ظاهر من أدله صدقه أو كذبه، فللأنبياء، عليهم السلام، من أوصاف الكمال، ظاهرا وباطنا، خَلْقا وخُلُقا، ما لا يشتبه مع أوصاف غيرهم من المتنبئين الكذابين، أو عامة الناس، ولو كانوا صادقين، فمنزلة النبوة منزلة سامية لا تقبل الشركة من آحاد البشر، وإن علا قدرهم، إذ ليس للكسب فيها مجال، بل هي محض اصطفاء وهبة يقسمها الرب، جل وعلا، لمن شاء، فـ: (قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ)، فالرحمة هنا هي: النبوة، فهي من قبيل الرحمة في قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، فنكرت تعظيما، إذ لا رحمة بالبشر أعظم من رحمة النبوة، والشاهد أن الاستواء هنا لم يحتج إلى التعدي بغيره، فقد جاء على بابه، وهو، عند التأمل وإعمال النظر، مئنة من كمال عنايته، جل وعلا، برسله، فتلك عناية خاصة بأن سواهم على أكمل الخلائق والأخلاق،
(يُتْبَعُ)
(/)
فضلا عن ورود مادة الخلق المتعدية في نحو قوله تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فتلك عناية كونة عامة بسائر الخلائق، فالعموم محفوظ لا يتصور تخصيصه، فليس ثم مخلوق إلا وقد سوى الرب، جل وعلا، خلقته، وهداه بإلهامه الكوني إلى ما يحفظ وجوده العيني، فألهم النبت امتصاص الماء والضوء وسوى خلقته فأوجد فيه صبغات التمثيل الغذائي، فيمتص ما يحتاجه من ماء وأملاح وضوء ليتم تمثيله الغذائي بواسطة تلك الصبغيات، وألهم آكل النبت من الحيوان ما به قوام بدنه، وألهم آكل اللحم ما يلائم طبعه، وألهم الإنسان إلهاما زائدا، فهو يشترك مع الحيوان في استمداد مادة صلاح بدنه مما حوله من الأغذية المحسوسة، ولكنه يزيد عليه في هذا الباب: عقلا يميز به الطيب من الخبيث، فينتقي الأول ويجتنب الثاني، فتلك سمة أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، فالأمر هنا للإباحة المقرونة بالامتنان بطيب الغذاء، فذلك، كما تقدم، من أدلة العناية العامة، وإن توجه الخطاب إلى المؤمنين، فهو من قبيل خطاب المواجهة، فيدخل فيه غيرهم تبعا، لقرينة عموم خطاب التشريع، إلا ما دل الدليل على خصوصه بعين أو جنس أو وصف، فمن تناول الخبيث فقد أبطل القدر الفارق بينه وبين الحيوان الذي لا يحترز من مباشرة الخبائث، فيأكل الميتة والدم، وليس عليه في ذلك لوم، فلا عقل له يناط به تكليف، فذلك مما كرم الله، عز وجل، به بني آدم دون سائر الخلائق، فمن فرط في هذه المكرمة فلسان حاله إبطال آدميته والاقتصار على وصف الحيوان الغرائزي، في أكله وشربه ونكاحه ...... إلخ، وتلك حال كثير من البشر ممن انتكست فطرهم لتنكبهم طريق النبوات الهادي إلى سواء السبيل، فتلك الزيادة الأشرف قدرا، التي اختص بها الإنسان، وهي الهداية الشرعية: دلالة على جهة العموم، ثم توفيقا على جهة الخصوص، فذلك، أيضا، قدر زائد اختص به أتباع الأنبياء، عليهم السلام، فهو اصطفاء بعد اصطفاء، فاصطفاء بالعقل مناط التكليف، ثم اصطفاء بموافقة العقل للوحي، فيلتئم الشقان: شق الإلقاء، فهو صحيح، فهو جل وعلا: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) وشق التلقي، فهو عقل صريح، فكل ذلك من صور التسوية والهداية، فكلاهما من المتعدي، فالاستواء مادة تدل على اللزوم، والتسوية مادة تدل على التعدي، فالرب، جل وعلا، هو المسوِّي، على جهة الإخبار بوصف الفعل لا التسمية، والخلق عموما والإنسان خصوصا هو المسوَّى على أكمل خلقة، فالعموم، كما تقدم، محفوظ، لتمام إحاطته، جل وعلا، بكل شيء، خلقا بقدرته وتدبيرا بحكمته، فالقدرة والحكمة، هما أخص أوصاف الربوبية، فبهما تكون الهيمنة التامة للرب، جل وعلا، على الأبدان: تكوينا، وعلى الأرواح: تشريعا، فيدبر أمر البدن بكلماته الكونية التي يخلق بها الطيبات المطعومة، ويدبر أمر الروح بكلماته الشرعية التي ينزل بها الروح الأمين على قلوب الرسل عليهم السلام، فهي أشرف أجناس الطيبات المعقولة التي يحصل بمباشرة الألباب والأفئدة لها صلاح الحال والمآل.
فالشاهد أن الاستواء هنا، وهو مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، على الفعل، فيقصد إلى ما شاء من خلقه بما شاء من وجوه التصرف، فبكلماته الكونيات تصرف الأمور والقلوب، فالاستواء هنا من وصفه اللازم، فهو، تحديدا، من وصف فعله اللازم، ثم جاء وصف فعله المتعدي بتسوية السماوات، فـ: (سَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ)، فذلك، أيضا، مئنة من كمال قدرته على إيجاد الكائنات على أكمل الهيئات، وكمال تدبيره لأمرها فذلك من وجوه عنايته، فـ: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فيمسكهن بكلماته الكونيات، فلا تزولا، فلا ممسك لهن سواه، فهو الخالق لهن، والخالق المسوي، أعلم الناس، بداهة بما خلق وسوى، ولله المثل الأعلى، ولذلك ذيلت الآية بإثبات
(يُتْبَعُ)
(/)
عموم علمه لكل الأشياء، ولو كانت من المحالات، كما تقدم في قوله تعالى: (لوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فذلك من المحال الذاتي لوجوب إفراد الرب، جل وعلا، بكمال الذات والوصف وما يلزم من ذلك من وجوب إفراده بمنصب الربوبية علما، ومنصب الألوهية عملا، فذلك لازمه الرئيس، كما تقدم مرارا، فعلمه، جل وعلا، قد أحاط بكل الممكنات، فـ: (لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، فخلق الخير فيهم ممكن، ولكنه جل وعلا شاء ألا يرجح هذا الممكن بكلمته الكونية، فصار معدوما، وذلك من عدله فيهم، ولو شاء لرجح الممكن بكلمته الكونية فصار موجودا، فذلك فضله يؤتيه من يشاء من عباده ممن علم أزلا قبول محالهم لأثر كلماته الشرعيات من الوحي المنزل على قلوب المرسلين عليهم السلام، فتقبله نفوس أولياء الرحمن تصديقا وامتثالا، وترده قلوب أولياء الشيطان تكذيبا وإعراضا، ولكل محل ما يلائمه من الحكم، فوصفه بالصلاح أو الفساد علة الحكم له بالهداية فضلا أو الضلال عدلا. فإذا شاء الرب، جل وعلا، أن تزول السماوات والأرض، قطع مادة كلماته الشرعيات من الكون، بانقطاع إسناد النبوة واندراس آثارها وغروب شمسها عن الكون، فاستحق التخريب، فالدنيا: "مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ الله وَمَا وَالاَهُ، وَعَالمًا وَمُتَعَلِّمًا"، و: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله"، فتقوم القيامة بكلمته الكونية، وبها ينقطع التكليف بكلماته الشرعية، فقد ولت دار الابتلاء وأقبلت دار الجزاء.
والشاهد أن في سورة البقرة إشارة إلى ما تقدم من وصف الاستواء اللازم الذي يتعدى بواسطة: "إلى"، فذلك مما يدل على إرادة معنى القصد، فالمعنى الكلي للاستواء بمنزلة المشترك المعنوي الذي تتعدد موارده بتعدد روافده، فكل قيد يفيد معنى لا يفيده الآخر، مع اشتراك الجميع في المعنى الكلي الجامع، فالاشتراك في المعاني الكلية المطلقة لا يلزم منه الاشتراك من كل وجه في المعاني الجزئية المقيدة، ففي المقيد قدر زائد يصب في قناة معنى بعينه دون سائر المعاني التي يدل عليها المطلق حال إطلاقه، وفيه، أيضا، إشارة إلى معنى التسوية المتعدي الذي دل عليه لفظ: "فسواهن"، فبينه وبين الاستواء اللازم الذي دل عليه لفظ: "استوى": جناس اشتقاقي فالمادة واحدة وإن أفادت معنى اللزوم في موضع، ومعنى التعدي في آخر، ووقع الفعل على ضمير الجمع في: "فسواهن"، وإن كان لفظ: "السماء" مفردا باعتبار الجنس، فـ: "أل": جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه، فلفظ السماء: مفرد من جهة المبنى، جمع من جهة المعنى، فالقرينة اللفظية، التي وردت في موضع تال هو قوله تعالى: (سَبْعَ سَمَوَاتٍ)، قد دلت على المراد من لفظ: "السماء" هنا فأزالت إجماله بحمل المجمل على المبين كما هي طريقة المحققين من أهل الأصول والتفسير، فما أجمل في موضع من التنزيل قد بين في آخر، فحصل باجتماعهما التئام صورة الاستدلال، فلا مجاز هنا إذ لم يرد بلفظ السماء حقيقة الإفراد ليقال بأن ذلك من قبيل ذكر بعض وإرادة كل، فيكون من مجاز الجزئية المرسل، بل قد قصد بلفظ: "السماء" ابتداء: السماوات على جهة الجمع لما تقدم من دلالة "أل": الجنسية الاستغراقية، فجنس السماوات قد سواه الرب، جل وعلا، فذلك معنى الجنسية فيها، وجميع السماوات قد سواها الرب، جل وعلا، على أكمل الهيئات، فـ: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)، فخلقهن: (سَبْعَ سَمَوَاتٍ)، و: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، وزين الدنيا منهن: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ)، فكل ذلك مئنة من كمال قدرته إيجادا، وكمال إتقانه وتدبيره، فذلك من آثار حكمته البالغة في تسيير هذا الكون على سنن متقن، به يكون صلاح هذه الدار، فذلك،
(يُتْبَعُ)
(/)
كما تقدم، من صور عنايته، عز وجل، فانتظام أمر هذا العالم دليل ظاهر على ربوبية الإيجاد والتدبير، ولا يكونان، كما تقدم، إلا أثرا من آثار العلم الأول: تقديرا، والعلم الثاني تأويلا للمقدور في عالم الشهادة، ولذلك، ذيلت الآية، كما تقدم، بوصف العلم، على جهة العموم فضلا عن الحصر والتوكيد بتقدم ما حقه التأخير فـ: (هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 07 - 2010, 06:18 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ):
فذلك من عناية الرب، جل وعلا، ببني إسرائيل، مع قسوة قلوبهم وغلظ أكبادهم، فقد أرسل إليهم رسولا من أولي العزم من الرسل، به ختمت الرسالة في بني إسرائيل، فجاءهم بالبينات، وهي الدلائل الواضحات، فجاء مصدقا للتوراة أصولا فذلك مما تواطأ عليه الأنبياء عليهم السلام جميعا فهم: إخوة لعلات، وجاء مثبتا لأكثر أحكامها، فلم يأت لينقض الناموس وإنما ليرفع بعضه تخفيفا، كما في قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، فذلك بيان لمجمل ما وقع من الاختلاف في هذا الموضع، فوقع في بعض فجاء المسيح عليه السلام بما يرفعه، فذلك من أظهر صور العناية في بعث الرسل عليهم السلام، فأخبار النبوات وأحكامها الأصل الأول في باب الاستدلال في أمور الديانة، فلكلٍ عقل يباين سائر العقول فلا يفصل النزاع بينها إلا الكتاب المنزل، فمن رحمة النبوة: إزالة أسباب الخلاف الذي يغري العداوة والبغضاء فتستحل به الدماء وتنتهك به الحرمات.
فجاءهم بالحكمة، وهي النبوة، كما في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ)، فـ: "أل" في "الحكمة": عهدية ذهنية تشير إلى أعظم معادن الحكمة، فيجوز على هذا الوجه أن تكون "أل" جنسية استغراقية لمعاني الحكمة، والحكمة في لسان العرب مئنة من المنع، ومنه قيل لحكمة اللجام حكمة، وإليه أشار صاحب "اللسان" رحمه الله، بقوله: "قال الأصمعي أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم قال ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام لأَنها تَرُدُّ الدابة". اهـ، وهي، أيضا، مئنة من الإتقان، فيقال أحكم الشيء بمعنى: أتقنه، فحكمة النبوات ترد النفوس عن الفساد العلمي فترد الشبهات الواردة على القلب في مسائل الإلهيات والسمعيات، ومسائل الإيمان والشرك، فغاية النبوات: تجريد التوحيد للرب المليك، جل وعلا، ولا يكون ذلك إلا بتصحيح التصور العلمي الباطن فهو الذريعة إلى تصحيح القول والعمل الظاهر، فالغاية العظمى من النبوات: غاية علمية لا تنفك لزوما عن غايات قولية وعملية هي تأويل ما قام بالباطن من تصور لقضايا الربوبية والألوهية، فالنبوات ترد العقول، كما تقدم، عن الشبهات، وترد لزوما اللسان والجوارح عن الشهوات من قول محرم أو فعل مجرم، وذلك اللزوم لا انفكاك فيه في حقيقة الأمر ولو في حق المنافق فإن مآل ظاهره وإن صلح بادي الرأي إلى الفساد فهو في فساد عريض بل فساده أعظم من فساد الكافر الذي استوى باطنه وظاهره، فالمنافق في الدرك الأسفل من العذاب، فرتبته في الآخرة أدنى من رتبة الكافر، وإن كان في الدنيا أعلى منه رتبة بما استفاده من إقراره الظاهر بالقول والعمل، فأحكام دار الجزاء تباين أحكام دار الابتلاء، فما يعصم به المكلف في هذه الدار، لا يعصم به في دار الجزاء إلا إن كان مواطئا لما قام بالقلب، فهو محط الفائدة ومحل النزاع بين جند الرحمن من الأنبياء والملائكة، وجند الشيطان من الأبالسة.
(يُتْبَعُ)
(/)
والنبوة ذريعة إلى إتقان الأصول العلمية والعملية، فذلك، كما تقدم من معاني الحكمة، فإن القلب قد يدرك أمور التوحيد جملة، فلا يستقل عن بيان النبوات ففيها تفصيل ما أجملته الفطرة الأولى، فالنبوات، كما تقدم في أكثر من موضع، تعالج الفطرة: تبيينا لما أجملته، وتقويما لما اعوج منها بطروء الشرك فهو العارض، فالأصل في المكلف الإيمان، فـ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، والجوارح تفتقر إلى أعمال تزكيها، ولا يكون ذلك على وجه التعيين إلا من طريق النبوات، فالعقل قد يدرك حسن وقبح أعمال، فيفعل الأولى ويترك الثانية، ولكن المعنى الشرعي الذي يقر تحسينه وتقبيحه، أو ينقضه، لا يتلقى إلا من طريق النبوة، ففيها النص على حكم العمل وصفته وجزائه في الدنيا والآخرة ...... إلخ من المجملات التي لا يستقل العقل بإدراكها لا سيما في باب العبادات، فالأصل فيها التوقيف، والقياس فيها نادر، بل قد جرى على ألسنة الفقهاء امتناع القياس في العبادات، فعللها غير معقولة، وإن كان لها علة في نفس الأمر، ولكنها غير مدركة بالعقل، ليقيس عليها غيرها، فيدرك الحكمة العامة من تشريعها، ولكنه لا يدرك الحكمة الخاصة أو العلة التي من أجلها قد شرعت، فذلك مما ابتلي بالإيمان والتسليم به دون خوض فيه، فلا مطمع في درك ما قد استأثر الرب، جل وعلا، بعلمه سواء أكان ذلك في الإلهيات العلمية أم في الشرعيات العملية.
وأما باب المعاملات فهو أوسع، إذ العقل يدرك العلة في إباحتها أو تحريمها، فيقيس عليها المعاملات الحادثة في كل عصر ومصر، فذلك، أيضا، مئنة من إتقان الشرائع التي نزلت على الأنبياء، عليهم السلام، لا سيما الشريعة الخاتمة فهي أكملها وأوسعها، فهي الخاتمة فلا رسالة بعدها، وهي العامة للثقلين، فتشمل عموم أحوالهم إما بالنص، ففي النصوص جملة عظيمة من أحكام المكلفين، وإما بالقياس لما يجد من نوازل لا سيما في باب المعاملات، كما تقدم، وكل ذلك مئنة مما تقدم من عظم عناية الرب، جل وعلا، بعباده أن أرسل رسله، وأنزل على قلوبهم الحكمة ليهتدي البشر بها، فهي سبيل النجاة، فبها تصح علوم الباطن وأقوال وأعمال الظاهر.
ثم جاء التذييل بالعلة من إرسال الرسل عليهم السلام فـ: فَاتَّقُوا اللَّهَ: بتصديق الخبر وامتثال الحكم، وَأَطِيعُونِ: فتلك الطريق إلى الرب، جل وعلا، هجرة إليه وإلى رسله عليهم السلام بتصديقهم وتحكيمهم في كل ما شجر من نزاع، ثم جاء التذييل بعلة ذلك: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ: فصدرت بالتوكيد تنويها بشأنها، فعلة الطاعة لمن أرسله أنه الرب الخالق المدبر على جهة القصر توكيدا بتعريف الجزأين فضلا عن الفصل بضمير الغائب والإطناب في بيان عموم ربوبيته، فهو رب الرسل ورب من أرسلوا إليهم، فهو الرب، على جهة العموم، لكل الخلائق فعليها تحمل الإضافة في: "ربكم"، وهو الرب على جهة الخصوص لأنبيائه وسائر أوليائه، فعليها تحمل الإضافة في: "ربي"، فاختلف المعنى باختلاف جهة الإضافة، فليست ربوبيته لمن اصطفاهم كربوبيته لمن خلقهم، فليس كل خلقه مما تمدح حاله، بل: (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فاللفظ واحد في مبناه، ولكن لما اختلفت جهة التقييد اختلف المعنى، فربى عباده بالنعم الشرعية فتلك تربيته لأوليائه، وهي أظهر صور العناية فليس أعظم من الإيمان عطية، وربى سائر خلقه بالنعم الكونية، فهي أيضا من صور العناية الربانية بسائر الأجناس والأنواع، فعنايته، كما تقدم مرارا، شرعية خاصة وكونية عامة، وأعيد اللازم من العبودية الخاصة لازم الربوبية توكيدا، فقد سبق ذكرها ابتداء: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)، ثم ثني بذكرها فذلك من التوكيد بالتكرار.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 07 - 2010, 12:11 م]ـ
وعودة إلى سورة التوبة:
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ):
فعلق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه الصلة، وهو المال الذي اكتنزه جامعه فلم يؤد فيه حق الرب، جل وعلا، فما أديت زكاته فليس بكنز، وإن بلغ ما بلغ، كما في حديث أم سلمة، رضي الله عنها، مرفوعا: "ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي فليس بكنز"، وجاء البيان لعموم المعنى بذكر أفراد من أفراد العام، وهي الأموال التي تكتنز، فأظهر أصنافها: الذهب والفضة، وليس ذلك بمخصص لعموم المعنى الذي يشمل كل ما تحقق فيه وصف المالية الموجب للزكاة، وإنما أورد مورد التمثيل، بأشهر أجناس المال الذي تجب فيه الزكاة، لا سيما في زماننا، الذي ينصرف فيه الذهن إلى النقد مطبوعا كان أو مضروبا، فحقيقته ذهب أو فضة، قد تعارف الناس من قديم على استعمالهما في المبادلات التجارية، وعموم الآية الذي تدل عليه جنسية "أل" في: "الذهب والفضة" يشمل كل صورهما، وقد استدل الخطابي، رحمه الله، بعموم هذه الآية على وجوب الزكاة في الحلي مطلقا، فيشمله معنى الذهب والفضة لكونه مصنوعا منهما فإن لم يكن منهما كأن كان من الماس أو الياقوت فلا زكاة فيه مهما بلغت قيمته إلا أن يتخذ للادخار أو التجارة فتتعلق الزكاة بسعر وقته على تفصيل ليس هذا موضعه.
وقد جاء المضارع: "يَكْنِزُونَ": مئنة من استحضار الصورة في معرض التنفير، ومئنة من دوام اتصافهم بهذا الوصف المذموم الذي يترتب عليه من العقوبة العاجلة: شؤم بنزع البركة من الأموال المكتنزة، وهذا أمر ثابت بالشرع والحس، والعقوبة الآجلة فهي من جنس العمل، فما اكتنزوه إنما ادخروه ليكون أداة تعذيبهم، فكل من منع حقا في مال زكوي، عذب به، فمن منع زكاة الإبل فإنها تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، ومن مع زكاة الذهب والفضة صفحت له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، فذلك ما ذكر في هذا السياق، وقد زادته السنة بيانا، فهي الحكمة الشارحة للكتاب، فيكوى بها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت نارا يكوى بها ثانية وثالثة ........ إلى أن يقضي الله، عز وجل، بين العباد، وجاء العطف: وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه: إطنابا في بيان الوصف الموجب للعقوبة التي ذيلت بها الآية، فذلك من عطف اللازم على ملزومه، فلازم الكنز وعدم أداء حق الله، عز وجل، في الأموال، عدم إنفاقها في سبيل الله، والإضافة فيها مئنة من العموم فقد بخلوا بها فلم ينفقوها في أي وجه من وجوه الخير، فسبيل الله في هذا الباب: سبل كثيرة، منها الواجب ومنها المندوب، فـ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فتلك الصدقات الواجبة، و: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): فتلك من الصدقات المندوبة وما أكثرها، فذلك من تيسير الرب، جل وعلا، لوجوه الخير، فلكل وجه يلائمه يجعله الرب، جل وعلا، سببا في رحمة من يباشره، فـ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، فاشتراها وهي ملكه وأثاب عليها أضعاف أضعافها، فهو الشكور الذي يثمر القليل فيغدو بإذنه كثيرا، وذلك من صور عنايته الشرعية بعباده، فقد شرعت الزكاة عناية بالفقراء لئلا يذهلهم الفقر والجوع فهو بئس الضجيع، فيفرطوا في حقوق الرب، جل وعلا، فإن النفس إذا ذهلت بهم الرزق، فارقها الخشوع فهي أمر مريج، فإذا كفيت المؤنة تفرغت لحملان أعباء الخلافة بإقامة أحكام الديانة، ما لم تطغ بالزيادة الفاحشة التي تعادل النقص الفاحش، فكلاهما مظنة الذهول، فالأول مشغول بهم
(يُتْبَعُ)
(/)
اكتساب المال، والثاني مشغول بهم صيانته من التلف وزيادته من أي وجه، فـ: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب"، فلا يشبع طالب المال وإن جعلت له الجبال ذهبا، فـ: "منهومان لا يشبعان طالبهما طالب علم وطالب الدنيا"، وهو مع ذلك مشغول بهم إنفاقه!، فيتفنن غالبا إن لم يؤت حظا من العلم في إهداره، وتلك حال كثير من أصحاب الأموال، فـ: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ" وذكر منهم: "وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ"، وشرعت الزكاة أيضا عناية بالغني فهي وقاية لماله، لو فقه، من الآفات، ووقاية لنفسه من رذيلة الشح والبخل التي تصيب صاحبها بالهم والنكد، فقلبه معلق بالدنيا، إن ربح فرح فرح الأشر البطر، وإن خسر حزن حزن اليائس القنط، ففي كلتا الحالين لا حظ له من الطمأنينة لغفلته عن سببها الرئيس: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، بل حقيقة معيشته: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، وإن كان له من أسباب المتاع الظاهر ما يحسده عليه الذين لا يعلمون، ويشفق منه الذين يعلمون، فلكل زمان قارون، بل قوارين كثر ينقسم الناس فيهم: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)، فتلك صورة خاصة باعتبار الأعيان، عامة باعتبار الأحوال، فالزكاة لمن تأملها رحمة لكل أفراد الجماعة المسلمة: غنيها وفقيرها، بها تستنزل الرحمات: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)، فمفهومه نزول القطر غيثا لا عذابا على من أدى حق الرب، جل وعلا، في ماله الذي استخلف فيه، فتلك صورة خاصة من صور الخلافة العامة برسم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فذلك نظر الإحصاء، فالرب، جل وعلا، قد علم المقادير أزلا، فذلك علمه التقديري الأول، ثم أظهرها في عالم الشهادة بقدرته، فخلق الأعيان وخلق الأفعال، ثم نظر فيها بعلمه الثاني: علم الإحاطة بالصغائر والكبائر، فكتب كلا بأيدي ملائكته الحفظة، فذلك من تمام عدله أن أقام، وهو العليم، الشاهد من الكتاب المحصي بل قد أقام الشاهد من نفس الإنسان كما في حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا، وفيه: "فإني لا أقبل علي شاهدا إلاَّ من نفسي قال: فيقول تبارك وتعالى، أو ليس كفاني شهيد وبالملائكة الكرام الكاتبين شهودا. قال: فيردد هذا الكلام مرارا قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول: بعدا لكن وسحقا عنكن كنت أجادل: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم، ولا أبصاركم} "، فانقطعت حجته، فكذلك الشأن في أمر الزكاة، فقد يسر أسباب الغنى لبعض خلقه ليبتليهم ويبتلي بهم، فيبتلى الغني بالفقير ليؤدي حقه، ويبتلى الفقير بالغني ليصبر عما حرمه من نعم لو تدبرها لزهد فيها، فمآلها الفساد ثم الزوال، وإنما يكفيه منها ما يذهب البلابل التي تذهل القلب عن طاعة الرب جل وعلا فليس الفقر بمراد شرعي، بل هو عارض كوني، يعرض كالغنى، فله فقه يناط به الثواب والعقاب، فلا يتعلق به في نفسه مدح أو ذم، وإنما يتعلق ذلك بما يكون من حال العبد الغني: شكرا أو بطرا، والفقير: صبرا أو جزعا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم جاءت الاستعارة التهكمية مئنة من التنفير، كما تقدم، وأجملت العقوبة تشويقا، ثم جاء بيانها في الآية التالية: فالمضارعة هنا، أيضا: "يُحْمَى" مئنة من استحضار الصورة واتصال زمان العذاب حالا واستقبالا حتى يقضي الله، عز وجل، بين العباد، وجاء الإطناب في الوعيد زيادة في التنفير والتحذير، فيحمى عليها لتكوى بها الجباه والجنوب والظهور فبها يقع الإعراض عن الفقير، فاستحقت الكي بما كانت سببا في منعه، فذلك، أيضا، من حكمة الرب، جل وعلا، أن وضع العقوبة بما يلائم الجناية، ثم جاء الإشارة إلى الكنز على سبيل التهكم إمعانا في التبكيت: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فالإشارة قد تحمل على التعظيم فذلك تهكم، كما تقدم، إذ ليس ذلك المال المكتنز بمعظم شرعا، وإن عظم في أعين الناس في دار التكليف حسا، وقد تحمل على التحقير، فلا يكون ثم تهكم، وإنما هو زيادة في التوبيخ، كما تقدم، فذلك المال الحقير الذي بخلتم به في دار الابتلاء هو الذي تعذبون به الآن في دار الجزاء، وإنما كان حقيرا لوصف قام به يقبل الانفكاك عنه، فليس حقيرا في نفسه، وإنما هو حقير لما تعلق به من وصف البخل ومنع حق الرب، جل وعلا، وحقوق العباد فيه، فلو أديت لصار عظيما، فليس فيه في نفسه ما يوجب تعظيما أو تحقيرا، بل هو كسائر المباحات، يمدح أو يذم لغيره، لا لذاته، فإن استعمله في طاعة مدح بفعله لا بالمال الذي هو آلة في يده، وإن استعمله في معصية ذم بها لا به، فالآلة المباحة قد تصير ذريعة إلى طاعة فتكتسب وصفها تبعا لا أصلا، فلها حكمها، وقد تصير ذريعة لمعصية فتكتسب، أيضا، وصفها، فللوسائل أحكام المقاصد، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم ممن تكلم في مقاصد الشريعة الخاتمة وأصولها الجامعة، فأصل سد الذرائع وفتحها: دليل كلي من أدلة الأحكام عند فريق معتبر من أهل العلم كالمالكية، رحمهم الله، فهم أوسع الناس بابا في هذا الأصل، ويليهم الحنابلة، رحمهم الله، وقد عمل به غيرهم ضمنا فلم يفرده بأصل كما فعلوا، فكلهم مجمعون على اعتبار النية والمقصد في الحكم على الوسائل مدحا أو ذما.
ثم جاء الأمر على جهة الإهانة ففيه، أيضا، نوع استعارة دل عليها السياق فـ: "ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ"، فهو من قبيل الذوق في قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، وهو معنى يدل على وجدان طعم الشيء، فينصرف بمقتضى العقل إلى المعنى المطلق سواء أكان الذوق معقولا بصنوف التكريم أو الإهانة، والإهانة هنا هي المتعينة لقرينة سياق الوعيد بالعذاب الشديد، أم محسوسا، فالآية تشمله، أيضا، فالعذاب بالكي محسوس، فالألم قد يكون نفسيا، وهو الأشد عند التحقيق، أو حسيا، والذوق من جهة أخرى: ينصرف بمقتضى الحس إلى وجدان طعم الشيء باللسان، ولا يمنع تصور هذه الصورة الخاصة من تصور المعنى العام الذي يشمل كل صور الذوق المعنوي والحسي، والذوق في دار الجزاء يباين الذوق في دار الابتلاء، فذوق الإنسان للنعيم أو العذاب في دار الجزاء يكون بكل وسائل الحس المعقول والمحسوس إمعانا في التكريم أو الإهانة، بخلاف الذوق في دار الابتلاء فيختص بآلات بعينها، ثم ذيلت الآية بما يدل على ديمومة اتصافهم بما استحقوا به هذا العذاب فـ: "فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ"، فـ: "كان" تدل على دوام الاتصاف في الزمن الماضي: زمن التكليف في دار الابتلاء، وأظهر سبب العذاب وحقه الإضمار على تقدير: فذوقوه، أظهر إمعانا في التنفير منه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[19 - 07 - 2010, 12:51 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد:
الأستاذ الفاضل: مهاجر
نافذة قيمة جدا، فهي غنية بالمعلومات القيمة والمواعظ الحسنة والتفاسير الرائعة للآيات والتعليقات العلمية، رزقكم الله الجنة عليها وأثابكم خيرا، وتقبل الله منكم ما كتبتم وما نشرتم من خير في كل هذه الصفحات.
بارك الله في علمكم وزادكم الله من فضله العظيم، وكتب الله لكم الأجر والمثوبة، وجعله الله في موازين حسناتكم / اللهم آمين.
لقد استفدت.
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 08 - 2010, 06:38 ص]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
جزاكم الله خيرا على المرور والتعليق وعذرا على التأخر في الرد نحو ثلاثة أسابيع أو يزيد!.
ومما يتعلق بموضوع النافذة الرئيس: ما ذيلت به سورة الزخرف:
من قوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ:
فذلك من سوء ظنهم بالرب، جل وعلا، وعظيم جهلهم بأسمائه وصفاته، فحسبوا على جهة الجزم أو الرجحان أن الله، عز وجل، لا يسمع سرهم، فأتوا في السر ما لم يأتوا في العلن، فالآية تمهيد بذكر كمال وصفه، جل وعلا، فالسمع من صفات كماله الذاتية، ولازمه، أو هو لازم، إحاطته العلمية بعموم البرية، فيسمع السر وأخفى، ويسمع الجهر من باب أولى، فذلك من التنبيه بالأعلى على الأدنى، وجاء الخطاب بضمير الجمع في: "نسمع" فذلك أليق بسياق وصف الرب، جل وعلا، فالتعظيم اللفظي مئنة من التعظيم المعنوي، فتلك معان جليلة أثبتها الوحي لمن أنزله، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فقد: (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وكذلك الحال في: "رسلنا"، فأضاف الرسل إليه، جل وعلا، إضافة المخلوق إلى خالقه على جهة التعظيم، فذلك مئنة من عظم المرسِل، جل وعلا، فهو الرب الجليل الكريم، وعظم المرسَل، فهم الكرام الكاتبون، فيعلمون ما يفعل العبد بإذن الرب، جل وعلا، فقد جعل لهم من الاطلاع على حال العبد ما لم يجعل لغيرهم، فليس علمهم ذاتيا، بل هو مما وهبه الرب، جل وعلا، لهم، ليلائم وظيفتهم في إحصاء الأقوال والأعمال، ومع ذلك لا يعدل علمهم علم من أرسلهم، جل وعلا، فعلمه قد عم الظاهر والباطن، فيعلم صورة الفعل وحقيقته، والباعث على اقترافه .... إلخ مما لا يعلمه ملك مقرب أو نبي مرسل فالرسل الملائكية تكتب الأفعال البشرية في صحف الأعمال التي تنشر يوم الجزاء، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
فهم من جنده في دار الابتلاء، ويقابلهم في دار الجزاء جنده من ملائكة الرحمة والعذاب، فالكتبة لكتابة الأعمال وحفظها، وخزان الجنة والنار للجزاء على تلك الأعمال، إن خيرا فنعيم، وإن شرا فعذاب، فيظهر بذلك من كمال حكمته، جل وعلا، بتعليق المسبَّبات على أسبابها ما يدل على كمال وصفه الذي استحق به التوحيد خضوعا وعبودية، فتوحيد الألوهية، كما يقول بعض أهل العلم، مظهر حكمة الرب، جل وعلا، فالجزاء من جنس العمل، والجزاء بقدر العمل.
ومن تمام وصف الرب، جل وعلا، نفي ظن السوء عنه، فنفى في الآية السابقة النقص في صفة ذاته اللازمة له، ثم نفى في الآية التالية: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ): النقص، بتولد الابن منه، فذلك من النقص الخارج عن ذاته القدسية، فالولد يباين والده فلا يقوم به قيام الوصف بموصوفه، والابن في حقه: نقص مطلق لما يلزم منه من الحاجة والافتقار والرب، جل وعلا، هو الغني عما سواه، فهو الحي الذي لا يموت فليس له حاجة إلى ابن يرثه، بل هو الذي يرث الأرض ومن عليها، ولا يصيبه ما يصيب البشر من العجز والضعف ليفتقر إلى ولد يعينه، بل هو القوي المتين، فنسبة الولد إليه، نقص من كل وجه، ففيه نفي لوحدانية الرب، جل وعلا، بذاته، وأحديته بصفاته، فالابن من جنس أبيه، فيلزم من إثباته: إثبات الشريك للرب، جل وعلا، وذلك قدح في التوحيد، آكد واجب على العبيد، وتجويز انفصال وصف من أوصافه عن ذاته القدسية ليتمثل بشرا برسم البنوة له، نقص آخر، يتنزه عنه الرب، جل وعلا، فالبشر مآله الفناء، وإن عظم قدره وكمل وصفه، فلا ينفك عن أعراض النقص الجبلية التي يتنزه عنها رب البرية، جل وعلا، من تعب ونوم ومرض ثم موت، فلو تمثل الوصف الرباني في بشر هذا وصفه، للحقه من النقص ما يلحق عامة البشر، ولحوق النقص بوصف الرب، جل وعلا، أو ذاته: محال ذاتي، فالعقل يثبت له، جل وعلا، بداهة: كمال الذات والصفات، والابن من وجه آخر: نقص في حق المخلوق من جهة افتقاره إليه، وإن كان كمالا من وجه آخر، فمن يولد له من البشر أكمل ممن لا يولد له، ومع ذلك لا ينفك هذا الكمال عن نقص الحاجة، كما تقدم، فالنقص في الولد ثابت في كل حال وذلك
(يُتْبَعُ)
(/)
آكد في وجوب نفيه عن الباري، عز جل، فاستوعب النفي في الآيتين: النقص اللازم والخارج، ففي الآية الأولى: نفي لوصف النقص عنه بطريق الاستفهام الإنكاري التوبيخي، فوبخهم على سوء ظنهم بالرب، جل وعلا، وهو إبطالي من جهة نفي ما اعتقدوه من نقص في وصفه، جل وعلا، فلسان مقالهم، أو حالهم أن الله لا يسمع ما يسرون، ثم جاء التنزيه عن النقص في هذه الآية: فـ:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ: فذلك من التنزل مع الخصم في الجدال على طريقة: إن كان ما تقوله حقا فأنا أول مؤمن به، فلا يلزم منه جواز ما افترضه المجادل فرضا عقليا محضا، فالعقل قد يفرض المحال الذاتي في معرض الحجاج العقلي، فضلا عن أن يجب في حق الرب، جل وعلا، فهو ممتنع شرعا وعقلا، وبعد التنزيه الخاص بنفي أوصاف نقص بعينها في معرض إبطال شبه الخصوم، فذلك من مسوغات التفصيل في باب النفي، فالأصل فيه الإجمال، فـ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، بعد هذا التفصيل في التنزيه جاء الإجمال، فذلك من قبيل الإطناب في إثبات المعنى بالتذييل بالتنزيه العام عقيب التنزيه الخاص: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ: فسبحان من له ربوبية أعظم المخلوقات، فذلك، أيضا، من التنبيه بالأعلى على الأدنى، فربوبيته لما دون العرش ثابتة من باب أولى، فسبحان من له ربوبية الكون إيجادا وتدبيرا، عما يصفون، فذلك من صور العموم في لسان العرب، فـ: "ما" الموصولة من صيغ العموم القياسية، فتنزه، جل وعلا، عن كل ما وصفه به الظالمون من أوصاف النقص التي تنزه عنها شرعا وعقلا فذلك من آكد علوم الرسالة النقلية، وعلوم الضرورة العقلية.
وبعد إثبات كمال ربوبيته، جل وعلا، فرعا عن كمال وصفه الذاتي والفعلي، فقد استغرقت الآيات السابقة نوعي التوحيد العلمي الخبري: توحيد الصفات وتوحيد الربوبية، فبعد هذا الإثبات للخبر، جاء التنويه بلازمه من وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية، فذلك كما تقدم مرارا، من التلازم العقلي الوثيق فـ: هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ: فهو الإله المعبود في السماء والأرض، على طريقة: فلان أمير في العراق، وأمير في الشام، فلا يلزم من ذلك حلوله بذاته في كلا المصرين، بل حكمه نافذ في كليهما، وإن لم يوجد بذاته فيهما، ولله المثل الأعلى، فهو الإله في الأرض، فلا معبود بحق سواه، وإن تعددت الآلهة، فهي آلهة كلا آلهة، فلا يلزم من نسبة أتباعها: وصفَ الألوهية لها: أنها آلهة بحق، فكل يدعي ما يروق له، وإن كان عين المحال الذاتي، حتى ادعى من ادعى من البشر ألوهية الفئران!، ولم يلزم من ذلك بداهة صدق دعواه، وإن اعتقدها كذلك، فلا يسلم لصاحب الدعوى بصحتها إلا إن أقام البينة على ذلك، فتلزمه الحجة الصحيحة السالمة من المعارضة، وأنى لمن عبد غير الله، عز وجل، أو أشرك به، أو غلا في حق مخلوق فجعله ندا له، أنى لأولئك بحجة صحيحة على ما هم فيه من الباطل العظيم، بتجويز بل ادعاء المحال في حق الرب، جل وعلا، فالمحال، كما تقدم، قد يفرضه العقل فرضا محضا، ولا يلزم من ذلك جوازه فضلا عن إيجابه، فتبطل بذلك مقالة أهل الحلول والاتحاد بنوعيه: الخاص والعام، فلا يحل الرب، جل وعلا، بذاته القدسية في جهة مخلوقة، فهو في السماء المطلقة أو العلو المطلق فليس في السماء المخلوقة التي نراها أو التي لا نراها من بقية السماوات المخلوقة، ليس فيها بذاته القدسية، فله العلو الذاتي المطلق، والعلو الفعلي استواء على عرشه، فليس فيها من هذا الوجه وإن كان فيها بأوصاف علمه وقدرته، فحسن التذييل بوصفي العلم والحكمة، فهو في السماوات والأرض بأوصاف كماله، فيعلم السر وأخفي ويجري الأقدار بحكمته البالغة، وهو، أيضا، فيها، بمنصب ألوهيته، فلا معبود بحق سواه فيها، فانتفى وجوده فيها من وجه: فليس فيها بذاته القدسية فلا يحل في جهة مخلوقة كما تقدم ولا يحل في ذات مخلوقة فتجويز تمثله في ذات أرضية ولو شرفت كذوات الأنبياء والأولياء، تجويز لمحال ذاتي لما يلزم منه من وصفه جل وعلا بالنقص المطلق الذي تنزه عنه بداهة، وثبت بل وجب وجوده فيها من وجه: فهو
(يُتْبَعُ)
(/)
فيها بأوصافه العلية، وربوبيته إيجادا وتدبيرا، وألوهيته حقا واجبا على عباده.
ثم جاء التذييل بجملة من أوصاف الربوبية ووظائفها التي انفرد بها الرب، جل وعلا، فذلك، أيضا، من التوكيد على وجوب إفراده، جل وعلا، بمنصب الألوهية، فينزل منزلة التذييل بالعلة عقيب المعلول، فكأن المخاطب قد تولد في ذهنه السؤال عن علة استحقاقه، جل وعلا، هذا المنصب الجليل، الذي لا يقبل الشراكة بداهة، فجاء التذييل بالجواب بذكر جملة من أوصاف الربوبية: ملكا للسماوات والأرض، وعلما بالساعة، وبعثا للأجساد فإليه، وحده، على جهة القصر يرجع العباد فيجزيهم بما قدمت أيديهم في دار الابتلاء، فالبعث ضرورة عقلية وشرعية، وإنكاره سوء ظن عظيم بالرب الجليل تبارك وتعالى، ففيه من نسبة العجز إليه، جل وعلا، فلا يقدر على إعادة الأجساد وحشرها وهو الذي خلقها ابتداء، فإعادتها أهون عليه، فـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، يقول ابن القيم، رحمه الله، في "إعلام الموقعين":
"يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها، وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات وأدلها وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون)، فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية". اهـ
فذلك من قياس الأولى الضروري عقلا قبل ثبوته نقلا، وفي إنكار البعث: نسبة السفه إليه، جل وعلا، فيسوي بين الظالم والمظلوم في دار الابتلاء، إذ لا دار ثانية بعد هذه الدار تتمايز فيها الأحكام تبعا لتمايزها في الأفعال في الدار الأولى، وكم رأينا ولا زلنا نرى من صور الظلم والبغي على الضعفاء ما لم يقتص لأصحاب الحقوق فيه بعد، فلما يأت الجزاء فهو آت لا محالة في الدنيا أو في الآخرة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فإن فاته في الدنيا فلن يفوته في الآخرة، فأي سفه وظلم يضاد معاني الحكمة، أعظم من التسوية بين ذينك الفريقين؟!، ففي إنكار البعث مما تقدم من وصف السوء: عجزا وجهلا وسفها وظلما ما تنزه عنه، تبارك وتعالى، ضرورة، ولذلك جاء الرد على هذه الشبهة بإثبات أوصاف القدرة في مقابل العجز، والعلم في مقابل الجهل، والحكمة في مقابل السفه.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "الفوائد":
"وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته فإن شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع:
أحدها: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض علي وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص:
الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء هكذا أبدا كلما مات جيل خلفه جيل آخر فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك فجاءت براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول:
أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال: من يحي العظام وهي رميم، قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. وقال: وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم. وقال: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم.
والثاني: تقرير كمال قدرته كقوله: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. وقوله: بلي قادرين على أن نسوي بنانه. وقوله: ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير. ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم.
الثالث: كمال حكمته كقوله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. وقوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. وقوله: أيحسب الإنسان أن يترك سدى. وقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق. وقوله: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع وأن كمال الرب تعالي وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص". اهـ
فأي سوء ظن بالله، عز وجل، أعظم من إنكار البعث والنشور وما يلي ذلك من الجزاء والحساب.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "زاد المعاد":
"ومَن ظن أنه لن يجمع عبيدَه بعد موتِهم للثوابِ والعِقاب فى دار يُجازى المحسنَ فيها بإحسانه، والمسىءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ". اهـ
وليس ذكر هذه الأوصاف بمخصص لعموم أوصاف ربوبيته، جل وعلا، فالسياق غير حاصر، وإنما نبه بها في معرض التمثيل لعموم معنى الربوبية، فذكر الخاص في معرض التمثيل لا يخصص العموم، فأوصاف ربوبيته، جل وعلا، أعظم قدرا من أن تدرك، وأكثر عددا من أن تحصى. فـ: (َتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 08 - 2010, 03:49 م]ـ
ومن صدر سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ):
فذلك من إنزاله، جل وعلا، الشرعي، وهو من أعظم صور الحكمة الإلهية بإنزال الشرائع التي تستقيم بها أحوال البشر، فهو، أيضا، من أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، فالرسالة أعظم منة إلهية، وآثارها الباقية في الأرض الآن: الكتاب العزيز، آخر وحي نازل برسم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فهو الكتاب الذي أنزله الرب، جل وعلا، في ليلة، نكرت تعظيما، ووصفت بالبركة فذلك من تتميم وصف الثناء، فأنزل أعظم كتاب في أعظم ليلة، فمن عنده، جل وعلا، ينزل الأمر الكوني، فـ: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، فهو مئنة من كمال قدرته، ومن عنده، جل وعلا، ينزل الأمر الشرعي، فـ: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، فمادة الإنزال: مئنة من وصف فعلي ثابت لله، عز وجل، على جهة التعدي بهمزة: "أنزل"، وهو يعم: الإنزال الكوني، والإنزال الشرعي، فتلك أفراد هذه المادة الكلية، فثبت، له، جل وعلا، كلا النوعين بقيد التكوين وفيه من دلالة الإيجاد ما فيه، فلا تكون ذرة في هذا الكون خلقا، ولا تكون حركة بعد سكون، أو سكون بعد حركة، إلا بأمر كوني نافذ، ينزل من لدنه، فتتلقاه الملائكة فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، فالملائكة من جملة الجند الرباني الغيبي، فهي أسباب مغيبة تؤثر بإذن الرب، جل وعلا، في إيقاع وتسيير الأسباب المشهودة، فقد أقيم هذا الكون على جملة من السنن الكوني النافذ، الذي يدل على عظم قدرة وحكمة الرب، جل وعلا، فمنه الغيبي الذي ابتلينا بالإيمان به فذلك من التوحيد، ومنه المشهود الذي ابتلينا بمباشرته، فذلك من التشريع، فمن قدح في السبب الغيبي إنكارا فقد قدح في إيمانه بالغيب، ومن قدح في السبب المشهود إهمالا فقد قدح في امتثاله الشرع، ولا تكون ديانة إلا بتوحيد وشرع، فالأول من العلم، والثاني من العمل، والإيمان، كما قرر المحققون من أهل السنة، علم يباشر القلب، وعمل تباشره الجوارح، فالعلم كامن في القلب تصديقا بالغيب من إلهيات وسمعيات ونبوات، والعمل ظاهر في الأقوال والأعمال تصديقا آخر بامتثال الجوارح أمر الشرع ونهيه.
والشاهد أن إنزال الكتاب: حدث عظيم ونعمة جليلة، فناسب ذلك: نسبته إلى ضمير الفاعلين، فالتعظيم اللفظي مئنة من التعظيم المعنوي للمنزِل، جل وعلا، وللمنزَل من الوحي الجامع لأصول العلوم النافعة والأعمال الصالحة.
وعلة هذا الإنزال، كما ذكر أبو السعود، رحمه الله، أنه إنذار من الرب الجليل، تبارك وتعالى، فجاء التذييل: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، والإنذار مئنة من الجلال، فلا ينذر ويتوعد على هذا الوجه إلا من يقدر على إيقاع ما يتوعد غيرَه به، فحسن معه، أيضا، الإتيان بصيغة الجمع: "إنا"، و: "كنا"، و: "منذرين"، فذلك من وصف الفعل الرباني، فالاسم مئنة من وصف الفعل: وصف الإنذار، فليس اسما مطلقا من الأسماء الحسنى، فكأن السياق قد دل اقتضاء على سؤال مقدر في ذهن المخاطب: وما علة هذا الإنزال؟، فجاء الجواب على جهة الفصل بلا وصل بعاطف لشبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، فـ: "إنا كنا منذرين"، فضلا عن تصدير الكلام بـ: "إن"، فهو، مئنة من التعليل، كما قرر أهل الأصول في مبحث العلة في باب القياس.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم جاء الإطناب في وصف الليلة المباركة فـ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ: فالأمر في هذه الآية: مفرد الأمور، فهي الأحداث التي تقع في ذلك العام، فيفصل القضاء الكوني النافذ فيها، كما أثر عن جمع من المفسرين، فالتقدير السنوي يكون في ليلة القدر، فأمور الكون لا تقضى إلا على وجه الحكمة، فتلك علة وصف الأمر بالحكمة، وإن كان مؤلما باعتبار الحال، فكم من مصائب ابتلي ولا زال البشر يبتلون بها، تنفطر لها الأكباد وتنصدع الأفئدة، وتذوق بها النفس ألوانا من المرارة والقهر لعجزها عن نصرة مظلوم أو نجدة ملهوف، يبتلى في دينه أو بدنه، وليس ثم مروءة أو رجولة، وإنما محض ذكورة هي الطابع العام لرجال هذا الزمان، وأحوال المستضعفين حتى في بلاد المسلمين خير شاهد على ذلك، فكيف بما يقع في البؤر المشتعلة من ديار الإسلام التي ابتليت بمداهمة العدو لها، أو حصاره الظالم لها، فكل ذلك مما يحير العقل في ساعات الزلزلة، فيغيب عنه وجه الحكمة في تلك النوازل التي يرفع الرب، جل وعلا، بها أقواما، ويضع آخرين فتفتضح سرائرهم القبيحة، ويظهر جبنهم وخورهم، وإن بدوا أسودا في مواكب الزور!، فيقضى في تلك الليلة بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ، أمر الخلائق، بأوامر كونية نافذة، فالحال: "أمرا" في الآية التالية: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ): مفرد الأوامر الكونية النافذة، فالأمور تقضى بأوامر، فمادة الأمر، أيضا، مادة كلية تنقسم إلى: كوني نافذ، وشرعي حاكم، فهما فرع عن نظيريهما من الإنزال الكوني، والإنزال الشرعي، فالمنزل: كلام إلهي تقع به الأمور الكونية من إحياء وإماتة ورزق وعناية، فذلك من العناية الكونية، وتصلح به النفوس فذلك الأمر الشرعي: خبرا يصدقه القلب، وشرعا تصدقه الجوارح، فذلك من العناية الشرعية بأعظم منة ربانية: منة الرسالة والوحي الذي تبلغه، فهو مادة صلاح النفوس، بل مادة صلاح الكون، فليس ثم ملك كامل، أو عيش هانئ إلا في ظلال النبوة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، فمتى كانت نبوة: كان سلام داخلي فلا يصطرع الإنسان مع نفسه حيرة، وسلام خارجي فتصلح أحوال الدنيا بكتاب هاد وحديد ناصر، فكتاب النبوة: أحكم كتاب، وسيف النبوة: أعدل سيف وأمضاه في نفس الوقت، فهو سيف رحمة لا خور، فبينهما حد يخطئه كثير من دعاة الحوار مع الآخر، فيصير إعطاء الدنية في الدين: تسامحا!، وليس ذلك إلا عين الذلة، كما نرى الآن في بعض أمصار المسلمين التي راجت فيها تلك الدعوات فذل المنتسبون إلى الإسلام برسم المحبة والتسامح، والدين من ذلهم براء، فهو دين العزة التي لم تعرفها نفوسهم الذليلة، ذلوا للكفار الأصليين، لا سيما أهل الكتاب، بحجة انتسابهم إلى شريعة سماوية، وهي بعد ما وقع فيها من تبديل وتحريف نال الأصول والفروع، محض آثار دارسة لشريعة نازلة عبث بها أتباعها فصيروها شركا بعد أن كانت توحيدا، فذلك دين الأنبياء الحق، لا الدين الجامع الذي يروج له من يروج من دعاة: وحدة الأديان، وليس ثم إلا دين الإسلام العام: دين الرسل عليهم السلام، وأكمل وأنقى صوره: دين الإسلام الخاص: دين النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو الدين المحفوظ فذلك موعود الرب، جل وعلا، فلا يقبل الرب، جل وعلا، غيره، فلم لم يكن على جادته، أيا كانت ملته، فهو كافر أصلي، وإن سماه من سماه من أصحاب موائد الحوار العامرة!: آخر، فالآخر الذي يقابل المؤمن هو: الكافر، كما أن الكافر، لظنه أنه على الحق وغيره على الباطل، يسمي نفسه: مؤمنا، وغيره كافرا، وإن تنصل من ذلك، فلا يؤمن الإنسان إيمانا صحيحا بدين أو حتى مذهب فكري وضعي إلا إن نبذ سواه، فاعتناقه دينا أو فكرا يعني بداهة براءته مما سواه، وإلا كان منافقا، تتعدد ألوان طيفه الديني والفكري بتعدد مكاسبه العاجلة من رياسات أو مآكل دنية صارت هي معقد ولاء وبراء عامة رءوس الضلالة، فقد ضلوا وأضلوا وطعنوا في الحق زورا، ونصبوا العداء لأهله ظلما فسعوا في سفك دمائهم وهتك أعراضهم واستصفاء أموالهم، كما هي سنة الباطل في كل عصر أو مصر يستطيل فيه أهل الباطل على أهل الحق تمحيصا، كما كانت الحال زمن الرسالة، أو عقوبة على
(يُتْبَعُ)
(/)
النكول عن نصرة الحق كما هي حالنا في الأعصار المتأخرة التي اضطربت فيها الأولويات، فصارت الدنيا معقد العزائم الدنية التي لا تتحرك إلا لها، ولو كانت شهوة محرمة، وصار الدين في ذيل القائمة فإن وجد لنصرته والغيرة على محارمه وقت: ففضول زائدة ومساحات بينة شاغرة بين هموم الدنيا!، ولا ينصر دين قد اضطربت أولويات أتباعه، فعزل الدين عن منصب الصدارة، وإذا سألت عن سر تسلط أهل الباطل من الكفار الأصليين وأذنابهم من المرتدين والزنادقة والعلمانيين، سواء أكانوا في الخارج أم في الداخل، كما يقع الآن في بلد كمصر انتفش فيه الهر فصار أسدا، فخضعت الأكثرية المستضعفة من المسلمين!، للأقلية النصرانية المهينة التي اتخذت شرطي العالم لها عضدا فضلا عن تآمر دولة علمانية تكيل بمكيالين استبقاء لمصالح وتحالفات استراتيجية موهومة تلعب فيها دوما دور التابع الذليل، وإن صرح أعداؤها بأنها حليف متين، فهي كذلك بالفعل في نصب العداء لأهل الحق، إذا سألت عن سر تسلط الذليل عليك حتى سامك الذل الذي ضرب عليه، إذا سألت عن ذلك فالجواب هو ما تقدم من اضطراب الأولويات الذي أودى بمروءة أهل الإسلام، فلم يعد في القلب من الغيرة على المضطهدين في الله، جل وعلا، كإخواننا وأخواتنا المستترين بدينهم ممن هدي إلى دين التوحيد من النصارى المثلثة، فقد رفعت الدولة المدنية المزعومة التي تتدعي حرية الاعتقاد، رفعت يد الحماية عنهم، ولو برسم المواطنة!، إرضاء لرءوس الضلالة من كهنة وقساوسة السوء، ومن يحركهم من قوى الشر القابعة على الشاطئ الآخر من الأطلنطي، فلم يعد في القلب من الغيرة على أولئك السادة الأفاضل، إلا ما يستحق به الرجال وصف الذكورة فذلك يكفيهم في الوقت الراهن!، فلا يسوي الله، عز وجل، بين رجال ونساء بذلوا من دنياهم ما بذلوا طلبا للحق، حتى قتل وأسر وعذب منهم نساء سمعنا ونسمع هذه الأيام من قصصهم ما يدل يقينا على صحة هذه الرسالة، فلو أنصف من يصنف في دلائل النبوة لعدهن من جملتها، فإن الثبات على هذا النحو على دين يضطهد بل يسحق أهله على هذا النحو، بل أهله قد فرطوا فيه وصاروا دعاية سوء تصد الناس عنه، الثبات مع عظم المصيبة وقلة الجدوى بل عدمها في الدنيا فليس ثم رجال يدفعون عنهن فضلا عن أن تكون هناك مكاسب مادية عاجلة!، الثبات على هذا النحو لا يكون إلا على دين صحيح ورسالة محفوظة تصنع ممن يعتنقها عملاقا عزيزا وإن نال منه أهل الباطل فهم الأذلة وهو العزيز، وتصير من يخذلها، ولو كان من أهلها قزما ذليلا، كا هي حال عامة المسلمين وراثة في زماننا، فلا يسوي الله، عز وجل، بين أولئك، وبين من ورث هذه التركة العظيمة فلم يصنها، والدين عزيز لا يصبر على جوار ذليل النفس، أو جوار من يزهد فيه وقد زهد فيه مجموعنا من لدن رضيا بشعارات الشرق والغرب عوضا عنه، فأنى يعز الرب، جل وعلا، بالإسلام من نبذه؟!، وهل يكون ذلك إلا عين السفه الذي تنزه الرب الحكيم، جل وعلا، عنه بداهة؟!.
ثم جاء وصف التنزيل: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: فالشرع كله رحمة، فما نزل إلا لينتفع العباد بأحكامه ويتنعموا في رياضه، فهو رحمة للموافق في الدنيا لعدله في أحكامه، والآخرة: لعظم الجزاء على امتثاله، وللمخالف فلا يخشى في ظل حكمه بخسا ولا رهقا، بل والأمر الكوني أيضا: رحمة، بالنظر إلى مآلاته، فقد يكون شرا عاجلا، كالذي نراه الآن في عالم قد عزلت فيه الرسالة عن منصب القيادة، ولكنه مؤد لا محالة إلى خير يفوقه، فليس بعد الشدة إلا الرخاء، وليس بعد الكرب العظيم إلا فرج قريب، وإن طال زمان الابتلاء حينا فتلك سنة الرب، جل وعلا، فـ: (لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، و: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فنصره قريب وإن استبطأه المتعجلون، فلا يعجل، تبارك وتعالى، لعجلة أحد، وفرجه قريب، فـ: (إنَّ مَعَ الْعُسْرِ
(يُتْبَعُ)
(/)
يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، و:
عسى الكرب الذي أمسيتَ فيه ******* يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عانٍ ******* ويأتي أهله النائي الغريب
فأمر الرب، جل وعلا، بنوعيه الشرعي والكوني: رحمة عظيمة، فتنكيرها، أيضا، مئنة من التعظيم، بل هي أعظم الرحمات، فـ: (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فالنبوة، كما تقدم، أجل النعم وأعظم المنن، ثم جاء التذييل بوصفي السمع والعلم، فإن من ينزل الشرع المصلح لأحوال العباد، وإن أبى من عطله تملقا للكفار، من ينزله لا بد أن يكون له كمال الإحاطة العلمية بعباده، فيسمع، فالسمع من لوازم العلم، ويعلم من أحوالهم ما يشرع به الملائم لهم: المصلح لمعادهم من أحكام الدين علوما وشعائر، والمصلح لمعاشهم من أحكام الدنيا من معاملات وسياسات ..... إلخ، فالشرع قد عم كلا النوعين خلافا لمن زعم من العلمانيين اقتصاره على جانب الدين: تصورا علميا ووجدانا، وشعائر على أحسن نسخ العلمانية الرديئة!، فجاء التذييل على جهة الفصل مصدرا بالمؤكد الناسخ، فينزل، أيضا، منزلة العلة، فهو جواب سؤال مقدر عنها بنحو: وما علة وصف الشرع النازل من عند الرب، جل وعلا، بأنه رحمة، فالجواب: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ: وفيه من المؤكدات جملة وافرة: التوكيد بالناسخ، واسمية الجملة، وضمير الفصل، وتعريف الجزأين، فهو السميع العليم على جهة القصر بتعريف الجزأين، كما تقدم، وهو حقيقي بالنظر إلى جانب التشريع فلا يعلم من أمور العباد حالا ومآلا على جهة التفصيل الدقيق فلا يخفى عليه، جل وعلا، شيء في الأرض ولا في السماء، بل: (مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، لا يعلم من حالهم ومآلهم على هذا النحو ما تصلح به أديانهم وأبدانهم إلا الرب جل وعلا، فيشرع لهم ما يلائم أحوالهم ويصلح معاشهم الحالي ومآلهم الباقي.
ثم جاء الإطناب في أوصاف الربوبية: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ: فذلك من ربوبية الإيجاد والتدبير، ففيه من عموم خلقه وتدبيره جل وعلا لأمر السماوات والأرض وما بينهما ما حسن به التذييل بالشرط إلهابا وتهييجا على الإيمان واليقين، فلا ينظر عاقل في أمر الخلائق إيجادا وتدبيرا إلا علم يقينا أن لها ربا خالقا مدبرا له من أوصاف الكمال ما استحق به منصب الربوبية العامة، فوجب له، لزوما عقليا لا انفكاك فيه، وجب له كمال التأله: عبودية وخضوعا لأمره الشرعي الذي بعث به رسله عليهم السلام، فتصديق خبره وامتثال أمره الشرعي الحاكم فرع عن عموم خلقه وتدبيره لكونه بأمره الكوني النافذ، فهما، كما تقدم مرارا، قسما أمره العام الذي يصدر عنه كلاما كونيا وشرعيا على الوجه اللائق بجلاله.
ثم جاء التعقيب بلازم منصب الربوبية من وجوب إفراده جل وعلا بالألوهية: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: فذلك خبر أريد به إنشاء الأمر بإفراده، جل وعلا، بهذا المنصب الجليل، فلا إله إلا هو: يُحْيِي وَيُمِيتُ: على جهة المضارعة مئنة من تجدد آحاد هذا الوصف له، جل وعلا، فذلك آكد في بيان قدرته، فضلا عما في الطباق بالإيجاب بين الضدين من دليل على عموم ربوبيته، فهو: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ: فذلك عموم آخر بالنظر إلى أعيان المربوبين فهو ربهم الذي خلق أبدانهم فذلك من دلالة الإيجاد، وأجرى عليها أرزاقها، فذلك من دلالة العناية الكونية، وأرسل إليهم رسله، عليهم السلام، فتلك سنته في كل من انحرف عن الجادة التوحيدية فهي مقتضى الفطرة الأولى، فمن رحمته، جل وعلا، أن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، فتلك، كما تقدم مرارا، أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، والتذييل بهذه الجملة من أوصاف الربوبية عقيب التنويه بالألوهية خبرا وإنشاء ينزل، أيضا، منزلة التذييل بالعلة عقيب المعلول، فانفراده، جل وعلا، بمنصب الربوبية علة وجوب إفراده جل وعلا بمنصب الألوهية، وذلك، كما تقدم، من التلازم العقلي الضروري الذي لا ينكره إلا جاهل أو مسفسط، فمن خلق ورزق على جهة الانفراد هو المستحق
(يُتْبَعُ)
(/)
للعبادة على جهة الإفراد بداهة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 08 - 2010, 06:20 م]ـ
وعودة إلى سورة الأعراف:
ومن قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ):
فذلك جار على ما تقدم من العناية بالبشرية، بأعظم منة ربانية، وهي النبوة، معدن صلاح المعاد والمعاش، فالنبوة مادة صلاح الكون والشرع، فبها تستقيم أمور الروح والبدن، فبعث شعيب، عليه السلام، بصلاح القلوب فـ: يَا قَوْمِ، فذلك من التلطف معهم في الخطاب، مع ما في النداء بـ: "يا" من التنبيه، وهو مظنة الغفلة، فأي غفلة أعظم من غفلة القلوب عن التوحيد: مادة حياتها وصلاحها، فجمع في خطابه بين الترغيب والترهيب، فألان الكلام بنسبتهم إليه فهم قومه، فلا أحرص على هدايتهم ونجاتهم منه، فـ: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فتلك حال الأنبياء، عليهم السلام، فهم أحرص الناس على هداية البشر، فهم أعلم الناس بالرب، جل وعلا، الذي أرسلهم، بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فلا يقدرها حق قدرها، إلا ذو الهمة العالية فلا تتعلق بسافل، والنفس الشريفة فلا تتعلق بخسيس، وهم أفصح الناس لسانا، فحصل ببلاغهم البيان الوافي لمراد مرسِلهم، جل وعلا، فما أراد إلا توحيده وعبادته، لتستقيم أحوال الأفراد والجماعات، فما خلقوا إلا لعبادته، وتلك أعظم الوظائف وأشرف الصنائع، فـ: (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وليس إلى الله، جل وعلا، في توحيدهم وعبادتهم حاجة، فـ: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، و: "يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئًا"، فما أرسل الرسل عليهم السلام إلا لنفع البشر، فلن تعود عليه منفعة من طاعة، ولن يناله ضر من معصية، فـ: "ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، ويجعلون له أندادا، وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم"، وذلك من الجور بمكان، فيرزقهم ويعافيهم، ويسمع منهم ما يؤذي، وليس ذلك عجزا منه، تبارك وتعالى عن وصف النقص علوا كبيرا، فأخذه شديد وعذابه أليم، وليس ذلك وصف العاجز بداهة، بل: (لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فلو شاء بقدره الكوني النافذ، فلا راد لمشيئته، فـ: (لَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ولكن: (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فتمت كلمته الكونية: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فتظهر بذلك آثار حكمته، التي يغفل عنها عموم البشر، بل عموم المؤمنين، في أعصار الضعف والانحسار، فترد النازلة الكونية بمؤمن مستضعف، فلا يجد إخوته من المؤمنين حيلة لإنجاده، فليس بعد استنفاد الأسباب المشروعة، إلا الدعاء، فسهام القدر الكوني النافذ لا تخطئ من ظلم المؤمن وخذله مع قدرته على إنجاده، فذلك مئنة من رقة ديانته، بل عدمها
(يُتْبَعُ)
(/)
في أحوال كثيرة، فمادة الحب لأهل الإيمان، والبغض لأهل الكفران، لا يتصور قلبُ مؤمن بغيرها، قلت أو كثرت، فتتفاوت القلوب في مراتب الإيمان بتفاوت قدرها، فيزيد الإيمان بعقدها ويقل بحلها وينعدم بنكثها، بقول أو فعل يدل يقينا على ميل القلب إلى أهل الكفر نصرة ومظاهرة لهم على أهل الإيمان، فلا ينفك عمل الظاهر عن منشئ له في الباطن، فينكث عقد الولاء والبراء في قلبه ابتداء، فيخذل أهل الإيمان بالتحريض على استئصالهم والسعي في إسلامهم إلى عدوهم في الظاهر انتهاء، فالقول يشي بمكنون الصدر، والفعل يفضح ستر القلب، والشاهد أنه في تلك النوازل التي ابتلي بها المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا في الأعصار الأخيرة، سواء على مستوى الأمم كما وقع من خذلان المؤمنين في السنوات الأخيرة لبلاد الأفغان وبلاد الرافدين وغزة، أو على مستوى الأفراد كما يقع الآن من خذلان لآحاد المستضعفين والمستضعفات من المؤمنين والمؤمنات بإسلامهم إلى الكفار، في تلك النوازل تذهل العقول عن وجه الحكمة فلا يرى الإنسان إلا مرارة المصاب، مع ما لتلك النوازل من حكم جليلة، فيميز الرب، جل وعلا، بها الخبيث من الطيب، وترتفع بها درجات المبتلين، وتمحص فيها معادن الولاء والبراء في قلوب المؤمنين، وينتصر أهل الحق للمظلوم قدر الطاقة، ولو بكلمة صادقة أو دعاء حار من قلب يحترق على إخوانه، ويزيد أهل الباطل غرورا يعميهم وظلما يطغيهم، فذلك مئنة من هلاك قريب باستدراج الرب، جل وعلا، لهم بكيد متين، فتلك لحظات احتضار الباطل، فصحوة الموت، وإن طالت، يعقبها الموت فتخمد أنفاس الباطل إلى الأبد، و: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) ...... إلخ، فتحق كلمات الرب، جل وعلا، الكونية: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، ممن استدرجهم الرب، جل وعلا، بتمكين عارض، والأنبياء، مع ذلك، وهو محل الشاهد: أنصح الناس للخلق، فنصحهم وإخلاصهم من أعظم أمارات العناية الربانية بالنوع الإنساني، فبدأ شعيب، عليه السلام، بالتوحيد فهو أول واجب على العبيد، فما بعده من العلوم والإرادات والأقوال والأعمال فرع عنه، فـ: يا قوم اعْبُدُوا اللَّهَ: فذلك أمر أو هدى، مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ: فتلك العلة أو البينة، فحسن الفصل لشبه كمال الاتصال، فيقدر الذهن سؤالا يدل عليه السياق اقتضاء: وما علة ذلك الأمر، فجاء الجواب عقيبه: لأنه الإله الواحد فلا إله إلا هو، فليس ثم معبود بحق سواه، إذ ليس ثم رب خالق مدبر إلاه، فالكتاب العزيز: هدى بأخباره وأحكامه، وبينات بالدلائل العقلية الدامغة لأي شبهة، فـ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ: فنكرت البينة تعظيما، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، فابتداء غايتها من الرب، جل وعلا، فهي منه: وصفا، إن كانت كلمات شرعية، فالكتاب العزيز، كما تقدم، قد اشتمل على جملة من الدلائل العقلية الناصعة التي لا يجد الناظر فيها غموضا واستغلاقا كذلك الذي يجده في دلائل أهل النظر من الفلاسفة والمتكلمين فلا يكاد يعي دلائلهم إلا آحاد الأذكياء، والحجة الدينية لا تقوم إلا بألفاظ واضحة ودلائل ظاهرة، وتلك طريقة التنزيل الذي أتى على دلائلهم، بل زاد عنها، فلم يزيدوا عنه شيئا، بل ما أصابوا فيه فهو مما وافقوا فيه دلائل التنزيل من الأقيسة العقلية الصحيحة كقياس الأولى في الخبريات، وقياس التمثيل في الحكميات، وهي منه، جل وعلا، خلقا، إن كانت آية كونية كناقة صالح، عليه السلام، فلسان مقال صالح عليه السلام أيضا: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً)، فأجمل ثم بين، فابتداء غاية البينة الكونية من الرب، جل وعلا، ابتداء غاية مخلوق من خالقه قدره أزلا وأوجده بكلماته الكونية النافذة، وابتداء غاية البينة الشرعية، ابتداء غاية وصف من موصوفه، فصدرت عنه، جل وعلا، الكلمات الشرعية: أخبارا مشفوعة بدلائلها العقلية، فليس خطاب التنزيل خطاب قانون أو دستور عار عن الأدلة، بل فيه من جملة الأدلة النقلية والعقلية المتعاضدة ما ظهر به يقينا صدق الرسول وصحة الرسالة فـ: (لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
(يُتْبَعُ)
(/)
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، فلا يصلح أمر الفرد إلا بعقيدة صحيحة سالمة من الشبهات القادحة، فهي اللبنة الأولى في صرح الإيمان في قلبه فإذا اكتمل علما وإرادة، ظهر ذلك، ضرورة على لسانه وجوارحه، فتوجه الأمر بالتكليف الظاهر بعد رسوخ الإيمان في الباطن، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ: وهو من وجه آخر بناء لصرح الجماعة المؤمنة بشريعة ملزمة يصلح بها الشأن العام بعد صلاح الشأن الخاص بصلاح القلب بالاعتقاد، واللسان بالشهادة، والأركان بالشعائر، فالوحي يمتاز عن قوانين البشر القاصرة بإصلاحه للفرد في نفسه قبل إصلاح الجماعة بأحكام ملزمة تنتهك في كل مناسبة، فسيادة القانون المزعومة: لا تكفل للمستضعفين حقوقهم، فلا ينتفع بالقانون الوضعي إلا واضعوه من الأقوياء والأثرياء أصحاب النفوذ، وغالبا ما تكون حالهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)، فالقانون ينتهك استرضاء للأقوياء، وإن نال الضعفاءَ: الضيم في دينهم بفتنتهم فيه، فذلك يصب في قناة خفافيش الظلام من أصحاب الديانات الكهنوتية التي قامت على جملة من الخرافات المقدسة! لا تعدوا في حقيقتها أن تكون طلاسم وتعاويذ شيطانية فـ: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، فكم أبطله من مؤمن مستضعف بتلاوة آي الكتاب العزيز، فـ: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، فيدافع عنه ويبغض الكفور الذي ظلمه والخوان الذي خذله، أو الدنيا بفتنتهم بتضييق المعايش، فذلك يصب في قناة أصحاب رءوس الأموال في عهود الإقطاع الأول والثاني!، فإقطاع صريح في عصور الظلام في أوروبا الكنسية الملكية، وإقطاع رأسمالي حديث تتكدس فيه الثروات في أيدي شريحة ضئيلة من شرائح المجتمع فتمارس صنوفا من القهر والاستبداد، لغياب حكم النبوات، فـ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فلا أشد على النفس فتنة من طغيان المال والسلطان، فهما قرينان، كما هي الحال في كثير من بلاد المسلمين الآن، فمن أجلهما فرط من فرط في فروع بل وأصول الديانة، فتآمر ذو السلطان الجائر مع أهل الكفران البائن على ضعاف المؤمنين فتنة لهم في دينهم بإفساد عقولهم الحرة التي أبت رق الخرافة، فأبصرت بما امتن الرب، جل وعلا، عليها، من صحة الإرادة والعقل، أبصرت نور النبوة المتصل الإسناد من آدم إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فـ: (لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، فهي مقالة كل نبي لأمته، كما في آي الأعراف، ومن جملتها مقالة شعيب الآنفة الذكر، فالأنبياء إخوة لعلات، فـ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، فأنى لمن أبصر هذا الضياء أن يرضى لنفسه خطة الخسف فيرجع بإرادته إلى قيد الكفر الذي يرضى به من فسدت إرادته وقل علمه ودنت مروءته، فالحق شريف لا يصلح إلا للمحال الشريفة، فذلكم قياس العقل الصريح، فـ: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)، فطيب الاعتقاد والقول والفعل لطيب المحل الذي زكاه الرب، جل وعلا، بفضله، واصطفاه، وخبيثها لخبيث المحل الذي دساه الرب، جل وعلا، بعدله، فأبعده وطرده من خاصته، فلا يدخل في سلطان ولايته الشرعية وما تقتضيه من النصرة والتاييد بالمعية الربانية الخاصة، معية: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، لا يدخل فيها إلا الطيبون من المؤمنين الذين بذلوا من دمائهم وأموالهم ورياساتهم ما بذلوا ليكون الدين كله لله.
(يُتْبَعُ)
(/)
فإذا أصلح الوحي الفرد في نفسه، أمن جانبه فصار الرقيب الشرعي عليه أعظم أثرا من الرقيب البشري بقانون قاصر يتفنن أصحاب السلطان في انتهاكه برسم الطغيان الديني تارة، وهو أعظم طغيان، وبرسم الطغيان السياسي، كحال ملوك وأمراء الجور في كل عصر ومصر، وبرسم النفوذ بمال أو جاه، ولا تزدهر تلك الصور إلا في أعصار وأمصار تخفت فيها أضواء النبوات، فظلام الجهل بالكفر والظلم فيها قد عم، فإذا أشرقت شمس الرسالة يوما، وذلك كائن لا محالة، فذلك موعود الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: (لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، إذا أشرقت بعد حصار أحزاب الظلام من كفر ونفاق وظلم، بددت بأشعتها تلك الظلمات فـ: (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، و: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). فالنبوة شريفة القدر لا يحمل خبرها ويجري أحكامها على الجماعات إلا شريف القدر، سواء أكان ذا ولاية خاصة فيجري حكم الشريعة على نفسه وأهله، فهو من المقسطين، فـ: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، أم كان ذا ولاية عامة، فيجريها على عموم العباد والبلاد، فتستقيم أمور الأديان والأبدان، ويأمن المخالف قبل الموافق من جور أديان الأرض، فدين السماء بأخباره وأحكامه أمان لأهل الأرض جميعا، فإذا رفع خربت الدنيا، بإذن ربها الكوني النافذ، فلا: "تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله"، والتاريخ خير شاهد أنه ليس ثم ملك راسخ إلا في ظل النبوات، فملك سليمان عليه السلام: ملك نبي، وخلافة الراشدين خلافة نبوة، وخلافة المتأخرين كعمر بن عبد العزيز ما عظم قدرها وخلد ذكرها إلا بسلوك منهاج النبوة. وفي المقابل: ما ذلت أمة الإسلام، إلا بتوسيد الأمر إلى غير أهله، فنطق الرويبضة، فلا ينطقون بكلام النبوات بداهة، فليس ثم في كلامهم إلا ما استعاروه زورا من كلام بقية الأمم، فليتهم أقاموه، فلم يقيموا دينهم ولا دنيا غيرهم!، واطراد الأمر نهوضا، برسم العزة، بتصديق خبر النبوات وامتثال أمرها، وقعودا، في المقابل، برسم الذلة، بتكذيب خبرها، مقالا أو حالا، ومخالفة أمرها صراحة، ذلك الاطراد خير شاهد على جريان السنة الكونية النافذة فـ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا: فذلك عموم عقيب خصوص النهي عن صور من الإفساد بعينها، فأطنب بالعموم عقيب الخصوص تقريرا للمعنى، فليس ثم إفساد إلا بمخالفة أمر النبوات، فيفسد المخالف ما صلح ابتداء أو أصلحه غيره، وذلك أقبح في العقول الصريحة، فالإفساد عقيب الإصلاح أقبح في التصور من الإفساد ابتداء وإن كان كلاهما قبيحا، فنهاهم عن الإفساد فذلك من جملة وظائف الرسل فلا يأمرون إلا بالإصلاح الديني والدنيوي، ولا ينهون إلا عن ضده، فالرسالات، كما تقدم، معدن صلاح الدين والدنيا، فبها تستقيم أمور الأفراد والجماعات، ثم جاء التعقيب في معرض الترغيب فـ: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ: وذلك من التفضيل المنزوع الدلالة فلا خير في غير منهاج النبوة، وإن ظنه السالك خيرا، فذلك لقلة علمه وفساد إرادته، فتعرض له شبهة تفسد معلومه، أو شهوة تفسد مراده فيسعى في تحصيلها لظنه النفع فيها، ولو كان فيها عين الضرر الذي يناله قبل غيره، ولكنه لفساد تصوره قدم المنفعة العاجلة العارضة على المنفعة الآجلة الباقية، فذلكم، على جهة الإشارة إلى البعيد مئنة من علو شأنه، فلا شأن أعظم من شأن الوحي، فهو، كما تقدم مرارا، أعظم نعم الرب، جل وعلا، على عبيده.
(يُتْبَعُ)
(/)
فذلكم خير لكم: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: فذلك من الإلهاب للهمم فوصف الإيمان وصف قد أجمع العقلاء من الأمم على حسنه، فالنفوس تدعيه، ولو كانت واقعة في ضده، فكل يزعم الإيمان، ولو كان رأسا في الكفر، بل لا ينفك أي بشر عن إيمان، ولو بدين وضعي أو مذهب أرضي، فتجد فلانا أو فلانا من المفكرين!، يؤمن بالعلمانية أو الشيوعية .......... إلخ بديلا عن الدين السماوي المنزل، فلا تنفك النفس عن عبودية تقتضي الإيمان بأي معبود، ولو كان الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَ)، بل لو كان الشيطان كما قد وقع في زماننا!.
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا: فتلك حال رءوس الضلالة في كل زمان فلا تجد إلا الصد عن سبيل الله، عز وجل، فقد صُدُّوا ابتداء، بالقدر الكوني النافذ، فليسوا أهلا لتلك الكرامة فاقتضت الحكمة الربانية البالغة حجبها عنهم، ثم صاروا أئمة في هذا الشأن فصدوا غيرهم بالترغيب والترهيب، بل وبالتعذيب والتقتيل، على مرأى ومسمع من أدعياء الحريات المدنية المزعومة، فيوعدون من سلك سبيلا معقولا أو محسوسا، فمن سار على طريق الهداية صدوه، ومن سار على طريق التجارة سرقوه، فهم قطاع طرق الدين والدنيا، ففتنوا المؤمنين والمؤمنات في أديانهم وأبدانهم، ثم ذكرهم شعيب عليه السلام بعناية الرب، جل وعلا، بهم، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ: فكانوا قليلا فصيرهم كثيرا، وكانوا فقراء فصيرهم أغنياء، فلو كانوا أهل نظر، لحمدوا ذلك وشكروه باستعماله في مراضي من تفضل به ابتداء، فعمروا المعاد بآثار تلك الصالحات، واستبقوا تلك النعم في هذه الدار بشكرها، فبه تدوم النعم، ولكنهم اغتروا بها، فلسان حالهم لسان مقال عاد: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، فالكفر ملة واحدة، فجرت عليهم سنة الاستدراج وهي أول خطوة في طريق الاستئصال، ثم انتقل من الترغيب بالتذكير بآثار نعم الرب الكريم إلى الترهيب، بالتذكير بما حل بالمفسدين فـ: انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: على جهة الأمر إرشادا فانظروا نظر الفكر، لقرينة تعلقه بالكيف، فالنظر في الأحوال يكون بالعقول، والنظر إلى الأعيان يكون بالأبصار، ولا يبعد أن يكون النظر بالبصر لو كان ثم ديار قريبة لمن كذب بالرسل، عليهم السلام، فيجتمع في حقهم نظر الفكر المعقول ونظر العين المحسوس، فاستعمل شعيب عليه السلام قياس الطرد القرآني فانظروا في عاقبتهم فإن فعلتم مثل أفعالهم نالكم ما نالهم من العذاب، واستعمل بدلالة المفهوم: قياس العكس فإن آمنتم فلم تسلكوا سبيلهم في الكفر تكذيبا بالخبر وتولٍ عن امتثال الأمر والنهي بتأويله في عالم الشهادة فعلا وتركا، فإن آمنتم نجوتم فلم تصر عاقبتكم كعاقبتهم، وذلك، أيضا، يصب في قناة ما تقدم من سلوك التنزيل مسالك عقلية دقيقة بعبارات بسيطة خالية من تكلف أهل النظر والفلسفة.
ثم دعاهم إلى المفاصلة: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ: فانقسم الناس بدعوته إلى فريقين: مؤمن وكافر يدخل في حده المنافق فمآله إلى الكفر بل أشد، وفي زمان كزمان شعيب لا يظهر النفاق، فأتباعه من المستضعفين وليس له دولة وسيف يحسم مادة الشر بأمر الشرع، فلم يؤمر بقتال، وتلك سنة الأنبياء عليهم السلام في أزمنة الاستضعاف، فيعقبه التمكين إما بإهلاك المكذبين بسنة عامة، كما قد وقع لعاد وثمود، وإما بقيام دولة النبوة فيظهر النفاق لزوما فتارة يستخفي في أزمنة القوة، فيلتحق بمعسكر المؤمنين في أحكام الدنيا دون الآخرة ما لم تظهر أمارة بينة على نفاقه الباطن، وتارة يستعلن فيلتحق بمعسكر الكفار في أحكام الدنيا والآخرة، كحال كثير من زنادقة العصر، فاصبروا: فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين فحصل التضاد في معناه بتضاد جهاته، فتعلقه بالمؤمنين غير تعلقه بالكافرين.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذلك من شواهد جواز وقوع الاشتراك اللفظي في مادة واحدة بتباين متعلقاتها، ولو كان السياق واحدا، فيصح حملها على أكثر من معنى، بل يصح حملها على ضدين.
فهو خير الحاكمين جل وعلا: فذلك من وصفه المقيد، وهو: (أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، فذلك بيان لوجه الخيرية في آية الأعراف، فيفسر بعض التنزيل بعضا، وذلك مئنة من دقة سبكه وجودة لفظه، فالمعاني والمباني قد بلغت الغاية في الإتقان، وذلك دليل آخر على حفظ التنزيل، بحفظ الرب الجليل، فلا يختلف في فروع، فكيف بأصول الإيمان التي تختلف فيها طوائف من ملة واحدة، فيضيع الحق بينها بخلاف الحق المحفوظ في كتاب الأمة الخاتمة، وإن أحدث المحدثون من المقالات ما أحدثوا، فالكتاب العزيز شاهد بنقضها وإن استدل بعضهم بآي منه لإحكامها!.
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا: فقالوا على سبيل التهديد الذي أكد بقسم دلت عليه لام الجواب ونون التوكيد المثقلة في: (لَنُخْرِجَنَّكَ)، فالتهديد بالنفي، وهو في زماننا قد زيد في معناه فصار يشمل السجن لآماد طويلة وأحقاب مديدة قد تستنفد في أحيان كثيرة عمر السجين المنفي في غياهب السجون، ذلك التهديد مسلك مطرد لأهل الباطل في منع الحق من الظهور، فمجرد ظهوره وانتشاره يؤذن بزوال دولة الباطل، فالحق يلامس مكامن الفطرة السوية في نفوس المخاطبين: عقيدة ففطرة التوحيد مركوزة في كل نفس، وشريعة فشرائع الأنبياء أكمل الشرائع وأعدلها، فتقبله النفوس وإن لم تقو على تحمل تبعاته في كل وقت، فهو ثقيل مريء لا تنتفع بمادته إلا النفوس الشريفة، وقد هدد به صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، فإما الخروج وإما الرجوع إلى ظلمات الكفر، كحال من يتوعده أهل الباطل في زماننا بالقتل والخطف والسحر ..... إلخ، بزعم المناصحة والإرشاد!، فيرغب تارة ويرهب تارات، ولا يلزم من دخول شعيب عليه السلام مع المؤمنين في خطاب الرجوع أنه كان على الشرك ابتداء، فذلك مما تنزه عنه الأنبياء عليهم السلام، فالخطاب بالنظر إلى المجموع فدخل فيه تغليبا وإن لم يكن من أهله حقيقة.
قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ: ففي السياق حذف يزيد معنى الإنكار في الاستفهام، فيقدر محذوف من قبيل: أبلغ الظلم بكم مبلغه فرغبتم في قهرنا على العودة في ملتكم ولو كنا كارهين، فالإكراه وسيلة اهل الباطل في كل زمان، وإن ادعوا السماحة وحرية الاعتقاد، فذلك وهم تعيشه الدول المدنية المزعومة، التي تطأ قوانينها بنفسها إذا عارضت مصلحة لكبير أو عرقلت مخططا للتخريب الذي يُؤْثِرُ فيه أصحاب النفوذ مصالحهم الخاصة، ولو جائرة، على مصالح العامة ولو عادلة، فيقهر فيه المستضعفون وتنتهك أبسط حقوقهم في الاعتقاد والحياة الآمنة، فذلك مما نزل بأمة الإسلام لما كسر سيف الشريعة المانع من الظلم والاستبداد، فطمع أعداء الملة فيها، فحق ضعيف لا سيف له، حق منتهك الحرمات، لا يقيم له عدوه وزنا ولا يخشى منه بأسا، فلا تقوم الديانة إلا بكتاب هاد وحديد ناصر.
والإكراه مئنة الإفلاس، فلا يملك المكره إلا قهر بدن من يكرهه فيتعدى عليه بالضرب والقطع بل والإتلاف، ولكنه لا يقدر على قهر القلب المطمئن بالإيمان.
ثم أطنب شعيب عليه السلام في الاستنكار:
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا: فعقد العزم على الثبات، ولم يكل الأمر إلى عزمه أو قوته، بل لو شاء الله لفتن من آمن، لدخيلة نفس، فلا يظلم الرب، جل وعلا، أحدا، وذلك من جنس قول الخليل أبي الأنبياء وإمام الموحدين عليه السلام: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، فنسب النبوة بينهما جامع، ومقالة الوحي
(يُتْبَعُ)
(/)
واحدة لا اضطراب فيها ولا تناقض، فاسأل: (مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ)، و: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، و: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، فاطراد المقالة مع اختلاف أعصار وأمصار قائليها، مئنة من اتصال السند إلى الوحي، ومن المحال، نقلا وعقلا، أن يجتمع أولئك جميعا على مقالة واحدة، فيبشر السابق باللاحق، ويصدق اللاحق السابق، مع ما بينهم من حاجز الزمان والمكان، فمن المحال أن يقع ذلك وهم في حقيقة أمرهم كذبة متواطئون على مقالة سوء!، فذلك لا يكون من آحاد البشر في دعوى أرضية، فكيف بدعوى دينية يزعم صاحبها أنه مرسل من رب البرية، جل وعلا، فأمارات الصدق والكذب في هذه الحال أظهر من أن تخفى على من له مسكة عقل، وقراءة تاريخ النبوات من مصادر موثوقة، يزيد تلك المسلمة العقلية الضرورية رسوخا في نفس القارئ، فاطراد السنة الكونية في نصرتهم على عدوهم باستئصال عام أو خاص، وظهورهم عليهم بالحجة والبرهان فذلك ظهور دائم، وبالسيف والسنان، فذلك ظهور قد ينقطع والعاقبة للمتقين، وما يجري عليهم من سنن الابتلاء فالتمكين، واتباع الضعفاء لهم دون الشرفاء، وزيادة أتباعهم فلا ينقصون، وهي حال الدين الخاتم إلى يومنا هذا، وإن كان بلا سيف يذب عنه، فالرب، جل وعلا، يحفظه وإن قعد أهله عن حفظه، فيستبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم فيقع الفتح على أيديهم، فكل أولئك مئنة من صدقهم ضرورة عقلية ملجئة، علم بها أهل النظر كهرقل صدق النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي سفيان، رضي الله عنه، بعد صلح الحديبية، فاطردت مقالة الأنبياء في التنزيل، فقال الخليل عليه السلام: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وقال شعيب عليه السلام: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وتوجه الخطاب إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)، ولو كان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتمها وأضرابها من عتاب، ربه، جل وعلا، له، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، فـ: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، وحاشاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يتقول على ربه، جل وعلا، بزيادة أو نقص في الوحي: كتابا أو سنة.
واستعان شعيب بالرب، جل وعلا، وتلك حال المؤمنين الصادقين وإن كانوا مستضعفين، فلسان حالهم الثبات حتى الممات، وإن كانت أعمارهم في الحق أياما معدودة، فيرى الناظر من حالهم عجبا فلا يقدر كثير من ورثة الحق على محاكاتهم، وللرب، جل وعلا، آيات في خلقه، فالقلوب بيده، فإذا أراد بعبد خيرا وهداية فلا راد لفضله، وإذا أراد بعبد شرا وضلالة فلا كاشف له إلا هو، فـ: (إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فـ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا: فذلك من دعاء الثناء بقصر عبادة التوكل على الرب، جل وعلا، فقدم ما حقه التأخير، فأفاد ذلك ذلك بمنطوقه ومفهومه، كما تقدم في دلالة القصر البلاغية، فعلى الله توكلنا فذلك منطوق، فلا نتوكل على غيره، فذلك مفهوم، ثم جاء دعاء المسألة في مقام المفاصلة: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ: فذلك من الفتح الكوني بين المؤمنين المصدقين،
(يُتْبَعُ)
(/)
والكفار المكذبين، فيفتح الرب، جل وعلا، بينهم بالحق، فذلك قيد يحترز به من التعدي في الدعاء، فلا يكون الفتح فتحا إلا إن كان بالحق، ثم ذيل باسم آخر من أسماء الرب، جل وعلا، المقيدة، فهو خير الفاتحين بقدره الكوني النافذ، وهو خير الحاكمين بين المتخاصمين، كما تقدم في موضع سابق، فـ: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، ولسان مقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، ويوم القيامة: (يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)، فما ضاع من حقوق المستضعفين في هذه الدار، ولو كفارا، فلا بد من استيفائه في دار الجزاء، فـ: (نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)، فكيف إن كانوا مؤمنين قد فتنوا وظلموا: (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فإن تأخر الفتح فإنه آت لا محالة، وإن تأخر الحكم فذلك من قدر الرب، جل وعلا،، فاقتضت حكمته التأجيل، فلا يعجل لعجلة أحد.
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ: فذلك، أيضا، من جملة التهديد فليس ثم إلا الإيعاد بالخسران، وإن ألبسه صاحبه ثوب المناصحة!، فهو ترهيب في صورة ترغيب سرعان ما ينكشف وجهه القبيح فيصير ترهيبا صريحا لمن تمسك بالحق وثبت عليه، فيستنفد الباطل حيله، فلا جديد عنده في باب الصد عن سبيل الله، وجاء التهديد، أيضا، مؤكدا بقسم محذوف، وجواب صدر بالناسخ المؤكد: "إن"، و "إذاً"، فضلا عن اللام المزحلقة إلى خبر الناسخ: "لخاسرون"، فذلك تهديد قد بلغ الغاية، فجاء العذاب عقيبه، فإذا بلغ الظلم غايته فقد اقتربت نهايته: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ: فعقيب التهديد أخذهم الرب، جل وعلا، بعذاب الاستئصال، فـ: (كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، فذلك من دلالة عنايته الخاصة، جل وعلا، بالأنبياء وأتباعهم فيستأصل عدوهم بالعذاب، وإمعانا في النكاية ببيان سوء العاقبة: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ: فذلك توكيد في مقابل توكيدهم، وهو مشفوع بالدليل العملي فليس تهديدا بالقول كتهديدهم، وذلك فرقان آخر بين الرب، جل وعلا، وعباده، فهو القدير على إنفاذ وعيده بكلماته الكونية، وعباده ليس لهم من الضر والنفع شيء، وإن حصل لهم نوع تمكين وسلطان عارض، يسومون فيه أهل الحق سوء العذاب، باسم الدياتة تارة وباسم السياسة أخرى، فلكل حظه من الجور والطغيان، ولسان مقال الكليم عليه السلام لمن استضعف من قومه: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ: فتلك وظيفة الرسل عليهم السلام، فحصل البلاغ بأفصح مبنى وأبلغ معنى، وحصل النصح بأصدق إرادة، فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ: فأبطل بالاستفهام الإنكاري الأسف على من كفر بالرسالة فليس أهلا لذلك، بل قد صار بجحوده وإنكاره، وإصراره على كفره، بل وفتنته للمؤمنين في أديانهم وأبدانهم، قد صار بكل ذلك أهلا للمجالدة بالسيف في دار الابتلاء، وذوق عذاب الخلد في دار الجزاء، وإنما هي أيام وتنقضي الدنيا، وتنقضي قبلها الشدة، فهي بتراء، لا دوام لها، فلا يبقى إلا أجرها لمن امتن الرب، جل وعلا، عليه برسوخ الديانة وثبات القلب، وإن أتلف البدن والعقل في ذات الرب جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 08 - 2010, 04:13 م]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى في آخر السورة: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ: فذلك من خطاب التكليف مواجهة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومتابعة لأمته من بعده، فغيره، مهما بلغت مكانته، دونه في المنزلة عند الرب، جل وعلا، فإن أكرم الخلق على ربه نبيه الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو خير البرية، فإذا ثبت انتفاء ملك الضر والنفع على جهة الاستقلال بالتأثير ولو للنفس، فكيف بالغير؟!، إذا ثبت انتفاء ذلك عن خير الخلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانتفاؤه عن غيره من الأئمة والشيوخ والرهبان .... إلخ، ثابت من باب أولى، فقياس الأولى الصريح قاض بذلك، فكيف إن كان من يعتقد فيه الناس النفع والضر إمام ضلالة أو شيخ سوء أو عابد صليب يرتدي مسوح الرهبان، وهو قد بارز الرب، جل وعلا، بالسب والقدح؟!.
فأفاد النص بإشارته إلى ذلك المعنى، في معرض تقرير انفراد الرب، جل وعلا، بالملك والتدبير بالمشيئة النافذة، فله التدبير العام المطلق، فكل الأسباب تؤثر بما أودع فيها من القوى، ولكنها لا تستقل بإحداث الأثر حتى يشاء الرب، جل وعلا، ذلك، فالأسباب لا تؤثر بذاتها، فليس غناها ذاتيا، فتستقل بالتأثير، وإنما تؤثر بقوى فيها لا تعمل إلا بثبوت جملة من الأسباب وانتفاء جملة من الموانع، وكلها ترجع في النهاية إلى سبب واحد رئيس، غناه ذاتي فلا يفتقر إلى سبب آخر، فكلمات الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، التي هي أثر صفاته الفاعلة المؤثرة في الكون إيجادا، فتلك من دلالة الإيجاد من العدم فهو الخالق، البارئ، المصور، أحسن الخالقين، بديع السماوات والأرض ..... إلخ من أسمائه جل وعلا المطلقة والمقيدة التي تدل على انفراده، جل وعلا، بمقام ربوبية الإيجاد، وتدبيرا فهو الحكيم، فتلك من دلالة العناية العامة بالبشر، فأجرى الرزق الكوني، على المؤمن والكافر: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وأرسل الرسل عليهم السلام بالرزق الشرعي العام، فهداية البيان مبذولة لكل أحد، فـ: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، والدلائل البينات على جنس النبوات العام: نقلية كانت أو عقلية، محسوسة كانت كآثار الأنبياء وما وقع بأقوامهم من الخسف والهدم أو معقولة، فلم تزل آثار رسالاتهم العلمية باقية في الأرض، بل لا صلاح لهذا العالم، كما تقدم، إلا ببقاء آثار النبوات، ولو دارسة، فتلك الدلائل العامة على جنس النبوات، ثم قد أقام، جل وعلا، على النبوة الخاتمة بعينها من دلائل النقل والعقل في الكتب الأولى والكتاب الآخر ما لم يقم على بقية النبوات ففيها زبدة الرسالات السابقة، والعناية الخاصة بالمؤمنين منهم فهداية التوفيق لا تكون إلا لهم، فذلك من فضل الله، عز وجل، على من اصطفاه الرب، جل وعلا، فيسر له السير على منهاج النبوة تصديقا وامتثالا، فمعلومهم الخبري وتكليفهم الإنشائي بالأمر والنهي، كل أولئك جار على سنن الرسالة، معدن صلاح الفرد والجماعة، فلا يملك صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنفسه نفعا ولا ضرا، نكرة في سياق نفي مكرر، فأفاد العموم المؤكد، فضلا عن العموم بتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل، فلا يملك صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنفسه منطوقا، ولغيره مفهوما من باب أولى، لا يملك لنفسه أي نفع أو ضر، فلا يملك إلا هداية البيان، فـ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فليس له من أمر التكوين شيء، وإنما عليه بلاغ أمر التشريع، وأكد ذلك بشرط أفاد بمنطوقه أيضا: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ: فأطنب بالمقابلة بين الخير استكثارا والسوء استدفاعا، فذلك أبلغ في تقرير المعنى، فلو كنت أعلم الغيب الكوني لاستكثرت من جنس الخير فـ: "أل" فيه جنسية، وما مسني جنس السوء، فـ: "أل" فيه، أيضا، جنسية، ولكني لا أعلم من ذلك شيئا، فقد مسني من السوء ما قد علمتم، فذلك محذوف مقدر تكتمل به القسمة العقلية، فلو كنت أعلم الغيب ما مسني السوء فذلك
(يُتْبَعُ)
(/)
منطوق، ولكني لا أعلم منه إلا ما علمني جل وعلا من الغيوب القادمة آية على صدق الرسالة فهي من دلائل النبوة فلا تعلق لها بما يناله في نفسه من القدر الكوني النافذ من حياة أو موت، ونصر أو هزيمة، وجوع أو شبع ........ إلخ، فذلك مفهوم، وسيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير شاهد على ذلك فقد ناله بقدر الرب، جل وعلا، الكوني من أذى قومه ما ناله، فآذاه سفهاء مكة والطائف، وتوصل إليه يهود بسحر لبيد، فسحروا جسده الشريف دون عقله لمقام عصمة التبليغ، وتوصلوا إليه بالسم في شاة زينب بنت الحارث، فكتب له الرب، جل وعلا، بها شهادة، فـ: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري من ذلك السم"، ولا يرد على ذلك أن الرسل، عليهم السلام، لا تقتل، فهم محفوظون بعناية الرب، جل وعلا، الكونية الخاصة، فهي من أبرز صور العناية الخاصة فـ: (اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، و: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، و: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، و: (مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)، فذلك صحيح قبل إكمال الدين، فلو قتل الرسول الناسخ برسالته رسالات من تقدمه، لو قتل ما حصل البلاغ الذي تحصل به الحجة الرسالية، وأما قتله شهادة بعد إكمال الدين، فتلك كرامة أخرى، تزيده قربا من ربه، جل وعلا، فهو ميت لا محالة، فـ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، فلتكن الميتة إذن: أشرف ميتة، فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحق الناس بمقام الشهادة فـ: "والذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو في سَبِيل اللهِ، فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل"، فكانت الصورة: مصيبة بالقتل، وكانت الحقيقة: كرامة عظيمة هي من صور العناية الخاصة به صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجمع له الرب، جل وعلا، مقام الشهادة إلى مقام النبوة الخاتمة فأي عناية وأي كرامة أعظم من ذلك؟!.
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: فذلك من القصر الإضافي مبالغة وإمعانا في التوكيد، فيجري مجرى الاحتراز من توهم اختصاصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشيء من وظائف الربوبية تأثيرا بنفع أو ضر، فليس له إلا وظيفة البلاغ: بشارة ونذارة، ترغيبا بآثار وصف جمال الرب، جل وعلا، وترهيبا بآثار وصف جلال الرب، جل وعلا، فهو، بداهة، ليس بالنذير فحسب، بل هو عبد مكلف، وزوج، وأب ....... إلخ من مناصبه الشريفة التي بلغ فيها جميعا حد الإعجاز، فسيرته فيها من أبرز دلائل نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن الاحتراز في مقام بيان انفراد الرب، جل وعلا، بمقام الربوبية، فهو مجري الأسباب الكونية بكلماته النافذة وجنده الملائكي المغيب الذي يعمل بأمره وما أودع فيها من قوى النفع والضر، ومنزل الأسباب الشرعية من كلمات الوحي الحاكمة، فليس ذلك إلا له، جل وعلا، فلا ينازعه فيه ملك مقرب أو نبي مرسل، فـ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)، و: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، فالاحتراز في هذا المقام يحسن معه المبالغة بالقصر الإضافي نفيا لما قد يتوهمه البعض من نوع تصرف كوني للرسول البشري صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك من الغلو فيه بادعاء تصريفه للأمر الكوني وإنزاله للوحي الشرعي فيد تناول جبريل في السماء وأخرى تأخذ منه في الأرض! كما يزعم بعض مخرفي الطرقية، وعلمه متى تقوم الساعة، وخلقه من نور الرب، جل وعلا، وتلك شعبة من قول النصارى في الغلو في المسيح عليه السلام بادعاء تجسد الرب، جل وعلا، في ناسوته، أو تجسد صفته أو أقنوم من أقانيمه هو أقنوم الكلمة أو العلم في ناسوته، فيكون الوصف الرباني قد امتزج بالناسوت البشري، كما يدعي من زعم امتزاج النور الرباني بجسد النبي العربي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل ذلك مما يلزم منه نعت الرب، جل وعلا، بالنقص الذي تنزه عنه، فاختلاط
(يُتْبَعُ)
(/)
الكامل بذاته أو صفاته بالناقص، فلا تنفك الجبلة البشرية عن نقص ذاتي فيها، فذلك مما يظهر به كمال الخالق، جل وعلا، بإمعان النظر في وجوه النقص العديدة في المخلوق الحادث، ذلك الاختلاط من المحال الذاتي وفيه من الجفاء في حق الرب، جل وعلا، في مقابل الغلو في حق العبد ما فيه، وهو مما قد نهى عنه صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله"، واختصاص النذارة والبشارة بالمؤمنين لا يعني انتفاءها عن غيرهم، فهداية البيان، كما تقدم، مبذولة لكل أحد، فيكون اختصاص المؤمنين بالذكر لكونهم أول من أجاب، فتحققت فيهم هداية البيان وهداية التوفيق معا، فذلك من باب التنويه بفرد من أفراد العام الذي توجه خطاب البلاغ إلى كل أفراده، فـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، والتنويه بفرد من أفراده لا يخصصه، فالبلاغ عام لكل أحد، والإيمان خاص بمن اصطفاه الرب، جل وعلا، من المؤمنين.
ثم جاء التصريح بدلالة الإيجاد المثبتة للرب، جل وعلا، وحده، وما فيها من صور العناية بالنوع الإنساني بخلق الأزواج، فإليها تسكن الأنفس، فـ:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ: فذلك من القصر بتعريف الجزأين، وهو قصر حقيقي، فلا خالق إلا الرب، جل وعلا، فذلك وجه استحقاقه الإفراد بمنصب الألوهية عقيدة علمية وشعيرة عملية وشريعة حكمية تحكم الشأن العام بين أفراد الجماعة الواحدة، والشأن الدولي بين الجماعة المسلمة وبقية الجماعات في أزمنة السلم والحرب، فاستخرج من آدم عليه السلام ذريته في عالم الذر، ثم في عالم الشهادة، فخلقكم من نفس واحدة، فابتداء غاية خلق البشر من صلب أبيهم آدم عليه السلام، فـ: "من" لابتداء الغاية، ولا تخلو بداهة من معنى البيان الجنسي، فالبشر كلهم جنس واحد، وإن تباينت أنواعهم إلى ذكور وإناث، صغار وكبار، أصحاء ومرضى ..... إلخ من الأضداد التي يظهر بخلقها كمال معاني الربوبية قدرة على خلق الأشياء وحكمة في تدبير أمرها بكلمات كونية، فبها يكون فلان صحيحا، وفلان مريضا، فلكل تكليفه الشرعي الذي يلائم حاله، فـ: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، فظهر في هذا التفاوت حكمة الرب، جل وعلا، البالغة، فلم يسو بين المتباينين، بل أعطى كلا حكمه، فالتفريق بين المتباينين والتسوية بين المتماثلين من أظهر صور الحكمة التي يمدح بها آحاد الحكماء من البشر، فمدح الرب، جل وعلا، بها واجب من باب أولى، فهو خالق الكمال حكمة وقدرة في خلقه، فلا يكون إلا حكيما قديرا بداهة، فخلقكم: فالخطاب للحاضر الموجود ابتداء، وهو يعم الغائب سواء في زمن الرسالة فكل من بلغه الخبر في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالخطاب متوجه إليه، أو بعده، فذلك مما يستأنس به في مسألة خطاب المعدوم، فالخطاب موجه لكل تال لهذه الآية: مؤمنا كان أو كافرا، فهو من دلائل ربوبية الإيجاد المعجز، والإتقان المحكم في خلق هذه الصنعة على هذا النحو الدقيق المبهر، من نفس واحدة، ومعنى التبعيض، أيضا، مما قد يرد على هذا السياق، فبعض آدم عليه السلام، في كل منا، ولو قل، وإمعانا في تقرير دلالة الإيجاد والعناية بآدم عليه السلام على جهة الخصوص: (جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، فالخطاب يتعلق به أصالة، ودلالة الإيجاد والعناية بكل ذكر خرج من صلبه، فزوجه نعمة كونية سابغة عليه، وهو نعمة سابغة عليها، أو هكذا يفترض!، فذلك الأصل في علائق المودة والرحمة بين الزوجين، فقدر خلق آدم عليه السلام في الأزل، ثم خلقه بيده، ثم نفخ فيه من روحه، فخلق الروح الآدمي وأضافه إلى نفسه تشريفا، فابتداء غاية خلقه من الرب، جل وعلا، وابتداء غاية نفخه في الجسد الطيني الأجوف منه، جل وعلا، فسرت مادة الحياة النوارنية في مادة الطين الأرضية، فكان آدم عليه السلام، فـ: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فبكلمة كونية سرت الروح في البدن، وأشار صاحب "التحرير والتنوير"
(يُتْبَعُ)
(/)
رحمه الله، إلى وجهين في لسان العرب في إضافة الفعل إلى ضمير المخاطبين، فيحتمل:
الكل المجموعي، بالنظر إلى أبي البشر آدم عليه السلام.
والكل الجميعي، بالنظر إلى كل أب بعينه، فمنه خلق ابنه، فكان نطفة في صلبه، ثم علقة في رحم أمه، فجنينا فطفلا ..... إلخ من أطوار الخلق.
فبكلمة كونية أخرى: جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا: فالخلق مئنة من التقدير الأول، كما تقدم، فهو أصل، والجعل مئنة من التصيير، فجعل شيئا من شيء، فهو فرع، فذلك جار مجرى قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، فالجعل فرع طارئ عن خلق الأجرام التي ينشأ الليل والنهار من حركتها، كما أشار إلى ذلك الزمخشري، غفر الله له، في كشافه، و: "من" هنا، أيضا، مئن من المعاني الثلاثة: ابتداء الغاية، والبيان الجنسي، والتبعيض، فخلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام، فخلقها منه: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا: فالسكون مئنة من الأنس والطمأنينة، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وتلك توطئة إلى صورة من صور الملاطفة، وهي الغشيان، فلا يتصور إلا كذلك، وإلا كان من جنس إتيان البهائم!، فتلك، عند التأمل، علائق رفيعة بين أصلين، فإن لم يحصل التلاؤم بين عنصري الروح أصالة، لم يحصل بين عنصري الجسد تبعا، فاللقاء المحسوس تأويل لقاء أرواح يسكن بعضها إلى بعض، فيجد كلٌ من صفو المحبة، وهي المودة، فهي قدر زائد على المحبة، فليست إلا أشرف أنواعها، يجد كلٌ منهما ما يحمله على التواصل الذي سنه الرب، جل وعلا، لقضاء الأوطار، فهو معدن العفة، وإنجاب الأولاد، فهو معدن القوة، بالتناسل طلبا للولد الصالح، فـ: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ"، فيحصل الأجر بالنية، وتحصل اللذة بالوقاع، وتلك غنيمة عظيمة لا يزهد فيها إلا جاهل بالشرع المنزل فلا يحسن ينوي، أو غليظ الطبع فلا يحسن يتودد إلى زوجه، والغباء الزوجي المتبادل الذي صار سمة عامة في هذا الزمان سبب رئيس في تهدم بنيان أسر كثيرة لا سيما الوليدة التي لم يدرك فيها الطرفان: معنى الزوجية وما تتضمنه من معاني المسئولية والتضحية ..... إلخ، فكل قد نشأ على استنظاف حقه فلا يعنيه إلا ذلك، فلا أحد يحسن التبعل لقرينه، فليس ثم إلا الجفاء وسوء العشرة إلا من رحم الرب، جل وعلا، ممن بقي فيهم بقية آدمية طبعية، وبقية ديانة شرعية، فلن يقع السكون إلا بذلك، فلا بد من ديانة شرعية بها تكون العصمة، ومودة طبعية بها تكون الألفة، وإن لم توجد الثانية فلا غنى عن الأولى فهي أمان من الظلم، فمن كره زوجه طبعا فلن يظلمها شرعا إن كان ذا ديانة، فهي معه في خير حال، فإما فضل إن كان ثم محبة، وإما عدل إن كان ثم بغض.
فخلقها ليسكن إليها الزوج، فتلك علة خلق حواء عليها السلام، وبناتها من بعدها، وهو معنى كلي عام، أفردت إحدى صوره الجزئية الخاصة بالذكر، وهي صورة الغشيان فهي، كما تقدم، من أبرز صور السكن: مودة بالروح ووصالا بالجسد، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا: والتغشي مئنة من التفعل، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ففيه إشارة إلى تقصد الفعل، وذلك لا يكون، كما تقدم، إلا مع كمال المودة بين الزوجين، فلما تغشاها، وتلك كناية لطيفة عما يستحى من ذكره صراحة، فالغشيان مئنة من الستر، وهو أمر يعم المعقول فالزوج ستر لزوجه يصون كرامتها ويحفظ سرها، والمحسوس، فصورة الغشيان مظنة الستر إلا عند بعض البهائم!، فبعض العجماوات تتستر حال الوقاع وبعض المسوخ البشرية لا تفعل ذلك!، وهي في نفسها ستر، فيقال فلانة تحت فلان، فهو يعلوها ويسترها بجسده، فحصل بهذه الكناية اللطيفة تقرير لمعان زوجية رفيعة، فلما تغشاها: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ: فذلك، أيضا، من دلائل ربوبية الإيجاد، فقد علق الولد باستيلاد الزوج زوجَه، فإذا باشر السبب المؤثر بما أودع الرب، جل وعلا، فيه من قوى التأثير، فالتقت النطفتان: مشيجا مختلطا في رحم الأم، حصل الحمل
(يُتْبَعُ)
(/)
بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ، فلن ينتج السبب أثره إلا بالإذن الكوني، فهو السبب الأول لكل ما يليه من الأسباب المخلوقة، مغيبة كانت أو مشهودة، كما تقدم، فكل الأسباب له خاضعة، ومنه صادرة، فلا حركة في هذا الكون إيجادا أو إعداما، إلا بقدر أول أزلي يقع تأويله في عالم الشهادة بأمر كوني، فيأتي التأويل المشهود مصدقا للمعلوم المقدور، وهو، أيضا، مئنة من ربوبية الحكمة بتعليق الحمل على سببه، ونمو في أطوار دقيقة تدل على حكمة من قدرها، فلا تختلط الأجنة، بل لكل وصفه، مع اتفاقها في أصل المادة، فمادة الخلق ماء مهين تحمله أصلاب الذكور أو الفحول، ومع ذلك تتباين الأجنة في النوع، فلكل نوع جنينه، وفي الجنس، فذكور وإناث، وفي سائر الصفات الجسدية والنفسانية، فلا يوجد جنينان متماثلان من كل وجه ولو كانا توأمين، فلا بد من قدر فارق، وإن دق، فحصل بوحدة المادة في أصلها، فـ: (جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ): دلالة قاطعة على وحدانية الخالق في ذاته وأحديته في صفاته التي يخلق بها: إيجادا وتقديرا، واختلاف الأجنة مئنة من ربوبيته فالتنويع في الكائنات بخلق الأجناس المتباينة، والتنويع في الجنس الواحد بخلق الضد، فالرب هو خالق الأضداد، على نحو يقع به صلاح العالم فلا فساد، فـ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، ذلك التنويع مئنة من قدرته وحكمته، فيخلق ما شاء لحكم جليلة لا تدركها عقول كثيرة، فخلق النافع والضار، وجعل لكل سننه التي يحصل بها كمال التدبير، فمآل كل أفعاله: الخير، فالشر ليس إليه، وإن قدر وقوعه كونا، فهو معدن خير آجل، وإن لم تدركه العقول حال الفاجعة بنازلة كونية تزلزل قلوب البشر إلا من شاء الرب، جل وعلا، تثبيته وتصبيره، فيسر له سبب ذلك من إيمان واحتساب وذكر بحمد واسترجاع،، فلما أثقلت والخطاب ليس لآدم وحواء بداهة، فالأنبياء، عليهم السلام، وآدم أولهم، معصومون من الشرك، فلما أثقلت دعوا الله ربهما، فدعوا، فتلك عبادة يناسبها الاسم الدال على معنى الألوهية، والدعاء من وجه آخر طلب عطية كونية يناسبه وصف الربوبية: "ربهما"، وجاء الدعاء مؤكدا بقسم محذوف، ولام صدر بها الجواب ونون توكيد مثقلة، ومع ذلك: لَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ: فوقع الشرك في المولود، مع انفراد الرب، جل وعلا، بتقديره وتكوينه في الرحم ثم إخراجه إلى العالم، فقياس العقل الصريح ألا يشرك به، جل وعلا، شيء، لكمال انفراده بمقام الربوبية، تقديرا وإيجادا، ولذلك جاء الاستفهام الإنكاري التوبيخي: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ: فجاء العموم بـ: "ما" فتعم العاقل وغير العاقل في هذا السياق، فمن المعبودات ما هو عاقل من ملك أو نبي أو إمام أو ولي، فيقع الشرك بالغلو فيهم، كما تقدم من حال النصارى في المسيح عليه السلام، ومن سار على طريقتهم الردية في تعظيم خارج عن الطريقة الشرعية، فتعظيم من عظمه الشرع من صالحي البشر باب، وعبادتهم من دون الله، عز وجل، باب آخر، فتعظيمهم التعظيم اللائق بهم: من الشريعة، والغلو فيهم: نقض للشريعة، ولو ارتكب باسم الشريعة، فالعبرة بالمعاني لا بالمباني، فتسمية الشرك توسلا لن تخرجه عن حقيقته، ومنها ما هو غير عاقل، كسائر المنحوتات والحيوانات والنباتات ..... إلخ، فلكل عابدوه الذين ضلوا عن الإله الحق فوقعوا لزوما في عبودية آلهة الباطل، فالنفس مجبولة على التأله ضرورة، فإما أن تهتدي إلى الإله الحق، فيحصل لها بذلك الكمال العلمي والعملي، وإما أن تضل في أودية الباطل، فيفسد تصورها العلمي وما يتفرع عنه من فعل القلب: إرادة، وفعل الظاهر عبادة، فتعبد غيره، جل وعلا، لا محالة، وذيل بالعلة العقلية على بطلان تلك الآلهة، فـ: لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ: فالنكرة في سياق النفي مئنة من العموم، فلا يخلقون أي شيء، فذلك وصفها في غيرها، فحصل بالنفي بيان عجزها عن الإيجاد، وَهُمْ يُخْلَقُونَ: فالجمع بالنظر إلى "من" بخلاف الإفراد في: (لَا يَخْلُقُ شَيْئًا) فهو بالنظر إلى
(يُتْبَعُ)
(/)
لفظها، ولعل الإتيان بالجمع في معرض بيان خلق تلك لآلهة آكد في بيان عجزها وافتقارها، فذلك وصفها في نفسها فحصل بالإثبات بيان افتقارها إلى من يوجدها، فليس ذلك وصف الرب الخالق والإله المعبود بداهة، وحصل بالجناس بين الفعل المبني لما سمي فاعله، والفعل الذي لم يسم فاعله للعلم به بداهة، فالله، جل وعلا، خالق، كل شيء، حصل بهذا الجناس في سياق نفي: (لَا يَخْلُقُ شَيْئًا)، مشفوع بسياق إثبات: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، مع اتحاد المادة اللفظية، لاختلاف المتعلق، حصل به نوع مقابلة تزيد المعنى بيانا وتقريرا.
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ: فنفى في الآية السابقة: ربوبية الإيجاد، ثم شفع ذلك بنفي ربوبية العناية، فلا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ولا يقدرون على نصرتهم، فضلا عن نصرة أنفسهم، فهم أموات غير أحياء، فـ: (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، فإذا انتفت نصرتهم لأنفسهم ابتداء، انتفت بدلالة قياس الأولى: نصرتهم لغيرهم، فذلك من قياس التنزيل الصريح.
ثم أطنب في بيان عجزهم آلاتهم الإدراكية: فـ:
إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ: فحال الداعي أكمل من حال المدعو، فالأخير يفتقر إلى دعاء من يدعوه، إن كان مكلفا، فإن كان حجرا أو شجرا، فدعاء الأول له على كلا الوجهين: عبث، فلن يسمع دعاءه إن كان عبادة ولن ينتفع به إن كان له بصلاح وهداية، فهو غير مكلف ابتداء.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: فهم عباد أمثالكم يجري عليهم ما يجري عليكم من سنن الكون، فلا وجه صحيح للغلو فيهم برفعهم فوق درجاتهم، وإضفاء وصف الألوهية على ذواتهم الأرضية، فقياس العقل قاض ببطلان هذا الدعاء، فهو طلب من أدنى إلى أعلى، والطلب هنا من مساو إلى مساويه، بل هو، من وجه، أكمل منه، فقد مات المعظم الذي تتعلق به القلوب، فانقطع عمله وزال تكليفه وصار في حاجة إلى من يدعو له لا من يدعوه، فلا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا، فتلك من أخص وظائف الربوبية، فحسن التعقيب باستفهام حصل به الإطناب في بيان وجوه عجزه المحسوس: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ: فليس لهم من آلات الفعل والإدراك شيء، فهم إما ميت لا تأثير له في أحداث العالم، وإن زعم له ذلك من زعم من غلاة الملل والنحل، وإما جماد، فلا حياة فيه ابتداء، والعقل قاض بقياسه الصحيح أن الإله لا يكون إلا سميعا بصيرا عليما فعالا لما يريد بإرادة كونية نافذة، وصفات فاعلة من خلق ورزق، فكلماته الكونية النافذة هي أثرها في هذا العالم، فليس ثم حركة في هذا الكون، كما تقدم، إلا وهي أثر لكلمة من كلمات الرب، جل وعلا، فله في كل شأن تقدير نافذ وحكم شرعي لازم، فـ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، ثم ذيل بأمر الإعجاز والتحدي مجددا: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ).
وفي مقابل أولئك الأولياء العاجزين:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ: فحصل القصر الحقيقي بتعريف الجزأين فله الولاية الكونية بكلماته النافذة، وله الولاية الشرعية برسالاته المنزلة، وهو يتولى الصالحين، فالمضارعة مئنة من التجدد والحدوث، فيحدث من أفراد ولايته الخاصة لعباده المؤمنين نصرا وتثبيتا، ما يدل على صدق موعوده: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، ولو تأخر النصر استكمالا لأسبابه وتأويلا لسنة التدرج في نهضة الأمم بعد كبوتها، فلا تنهض الأمم فجأة، كما لا تكبوا فجأة.
وحصل التعريض بقصر الولاية الخاصة على الصالحين، فمفهومها نفي وصف الصلاح عمن تولى غيره فعلق به قلبه رغبة ورهبة.
ثم حصل الإطناب بتكرار أوصاف عجز آلهتم في مقابل كمال تولي الرب القدير السميع البصير العليم الحكيم لأوليائه الصالحين:
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.
والله أعلى وأعلم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 09 - 2010, 12:55 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ):
فذلك من دلالة العناية الخاصة بالكليم عليه السلام، فاصطفاه الرب، جل وعلا، على الناس، فالاصطفاء مرادف الاختيار، على القول بوقوع الترادف في لسان العرب، وإن ظهر في الاصطفاء معنى النصح والخلوص فقد استخلصه الرب، جل وعلا، لنفسه فـ: (اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)، فالاصطناع أبلغ من الصنع، فالافتعال مظنة العناية بالفعل، والزيادة في المبنى زيادة في المعنى كما اطرد في كلام الصرفيين والبلاغيين، فيكون ذلك من قبيل قوله تعالى في اصطفاء بني إسرائيل فهم المختارون في زمانهم قبل أن تنزع منهم النبوة لترد على بني إسماعيل عليه السلام فـ: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ)، فذلك من الاصطفاء الشرعي الخاص لبعض بني الإنسان بالرسالة: وصفا فالرسالة أعظم منصب بشري أو: تبعا فأتباع الأنبياء عليهم السلام خلاصة أممهم فهم أعلم الناس بالرسالة مبان ومعان فليس من شاهد كمن سمع، فيقابله الاصطفاء الكوني العام لجملة النوع الإنساني، فاصطفى الرب، جل وعلا، الكليم، عليه السلام، على الناس في زمانه، فدلالة العموم في "أل" الجنسية مخصوصة بالناس الكائنين زمن رسالته، فليس اصطفاء على عامة الناس، فذلك مقام النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المصطفى على الناس مطلقا بالرسالة الخاتمة الناسخة لما قبلها من الرسالات، الجامعة لزبدة علومها وأعمالها، فأخبارها أصدق الأخبار، وأحكامها أعدل الأحكام، فيكون اصطفاء موسى عليه السلام من جنس اصطفاء قومه على أهل زمانهم كما تقدم في قوله تعالى: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ): فالعموم هنا، أيضا، مخصوص، بعالمي زمانهم، فيصح إطلاق العهد على: "أل" فيهما فالمراد معهود ذهني بعينه هو الناس أو العالمون في زمن رسالة موسى عليه السلام أو في زمن اصطفاء بني إسرائيل على بقية الأمم، وعطف الكلمات الشرعيات على الرسالات: (بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي)، من عطف البيان، فبيان الرسالات: الكلمات الشرعيات التي نزل بها الروح الأمين على قلوب النبيين عليهم السلام، أو هو من عطف خاص على عام، بالنظر إلى المفهوم الأعم من الرسالة، فالرسالة: علوم وأعمال، فأعمال الرسل عليهم السلام، وحي من جهة المنشأ، فلا يصدرون في أمور الديانة إلا عن وحي، بخلاف أمور العادة والأمور المصلحية التي يحكم فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باجتهاده، كأمور الحرب والسياسة، فتلك يبرز فيها الجانب البشري، فتجوز فيها المراجعة، كما راجع الحباب بن المنذر، رضي الله عنه، في أمر المقام في بدر، فأشار عليه بأن ينزل الجيش أمام الماء ليمنع المسلمون كفار قريش من وروده فيحولوا بينهم وبينه، فذلك أمر مصلحي أرسله الشارع، جل وعلا، فجازت فيه المراجعة لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل قد عدل عليه الصلاة والسلام عن قوله وأخذ بقول الحباب رضي الله عنه.
فالرسالة: علوم هي الكلمات، وأعمال هي تأويل تلك الكلمات، فأفردت الكلمات بالذكر، فذلك وجه تخصيصها بالذكر بعد عموم الرسالة الجامعة لجملة من الأخبار العلمية والأحكام العملية، فيكون في الإطناب بالخصوص بعد العموم: زيادة في تقرير المنة الربانية بالرسالة الموسوية.
ثم جاء التذييل بالأمر الشرعي فهو من شكر هذه النعمة الربانية السابغة، فلا أعظم من نعمة الاصطفاء بالنبوة: فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ: أخذ القبول والرضا تصديقا وامتثالا فذلك أخذ المؤمنين فكيف بالنبيين؟!.
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ: على تلك النعمة، فشكر النعمة ليس كلاما فحسب، بل لا بد من أخذ الوحي بقوة، فتلك سنة الأنبياء، فـ: (يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ).
وقوله: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ: أبلغ من القول في غير التنزيل: وكن شاكرا، فـ: كن من الشاكرين: مظنة العراقة والرسوخ في هذه العبادة فهي تعم القلب واللسان والأركان، فالشكر يكون بها جميعا.
(يُتْبَعُ)
(/)
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 09 - 2010, 02:11 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ):
فذلك جار أيضا مجرى العناية الخاصة بالكليم عليه السلام، فكتب له، تبارك وتعالى، في الألواح، جملة من الأحكام الشرعية التي تستقيم بها أمور البرية، والكتابة مظنة الجمع، فاجتمعت حروف الكلمات الشرعية، واجتمعت الكلمات في الألواح والصحف آيات فمنها الأخبار فأخبار النبوة أصح الأخبار، ومنها الأحكام فأحكام النبوات أعدل الأحكام، ولما كانت المنة عظيمة جسيمة والنعمة خطيرة جليلة، حسن الإتيان بالفعل، فهو من أوصاف أفعال الرب جل وعلا، حسن الإتيان به مضافا إلى ضمير الفاعلين، فعظمة الفاعل مئنة من عظم الفعل، ولا أعظم من الرب، جل وعلا، بذاته القدسية، وصفاته العلية، ذاتية كانت أو فعلية، فكتبنا له في الألواح، فـ: "أل": عهدية تشير إلى ألواح بعينها هي الألواح التي امتن الرب، جل وعلا، على الكليم عليه السلام بكتابة الشريعة التوراتية على صفحاتها، فتلك من العناية الخاصة بالكليم عليه السلام، كما تقدم، وهي أيضا، من صور العناية العامة بالأمم التي بعث فيها الرسل عليهم السلام فما من رسول إلا وله شريعة تحفظ الدين وتصلح الدنيا، ولكل أمة ما يلائمها من الأحكام، فأمة التوراة: أمة ذليلة متكبرة في نفس الوقت، وتلك من المفارقات العجيبة، فهي أمة قد استمرأت الذل في قصور فرعون فصار فيها ملكة راسخة، فلا يصلحها اللين، فالشدة تشد من عودها الذي لان وانثنى تحت وطأة فرعون، ولذلك، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين في تحليل دقيق لتشريع الجهاد وهو مادة العزة المفقودة في زماننا، لذلك كانت الحكمة الربانية في تشريع هذا الفرض الجليل القدر العظيم الشأن، كانت الحكمة في التدرج: من تحريم تحصل به الدربة على تحمل الأذى فلا يسارع العربي الذي لا يصبر على الضيم، لا يسارع إلى الانتصار لنفسه من خصمه، وتستبقى به نواة الإسلام الأولى لئلا تتسلط عليها قريش بالاستئصال العام في حال وقوع مواجهة مفتوحة برسم عدم التكافؤ في العدد والعدة، ثم شرع الجهاد إذنا، فبدأ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو محل الشاهد، بدأ في تحريك سرايا صغيرة تزيل الرهبة من النفوس وتزيل ما قد يكون عالقا ببعض النفوس من نوع ذلة، فلم تسل السيوف من سنين، وعدم سلها مظنة نسيانها!، مع الفارق في التشبيه بين أتباع محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فوصفهم في التنزيل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، وأتباع موسى الكليم عليه السلام فلسان مقالهم: (يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ)، ووصف الكليم، عليه السلام، لهم وهو أخبر الناس بحالهم الدنية: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فلا يمكن شرعا أو عقلا، أن يكلف من لم يقاتل زمانا طويلا بقتال كقتال بدر، فهو الفرقان الذي سبقه مراحل إعدادية للنفوس في سرايا حقيقية لا تدريبات وهمية!، هي إلى ألعاب السيرك أقرب، فإذا جاء الخوف هزم الجمع وولى الدبر، كما في نكساتنا الشهيرة في الأعصار الأخيرة وما أكثرها مع أن من وقعت في عهده الزاهر!، كان أكثر الناس تشدقا بمباني العزة وليس له من معانيها حظ، وليس لمن صدقه منها حظ، فإنا: "قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"، فلا عزة إلا في الديانة لا سيما إن كان أصحابها هم أصحاب الرسالة الخاتمة، معدن السيادة فـ: "يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا: لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ"، فمن ابتغى العزة في دين مبدل أو مذهب ملفق، فليس له إلا الذل والانتكاس، ولا تكون عزة إلا بقتال تراق فيه الدماء، فتلك سنة كونية عامة تسري على كل أمم
(يُتْبَعُ)
(/)
الأرض، ولو كانت على غير منهاج النبوة، فالتدافع بين بني البشر قدر محتوم، فلا مناص من وقوع القتال المحموم، بالحجج والبراهين إن كان الميدان عقليا، وبالسيف والسنان إن كان الميدان بدنيا، فقتال الأبدان لازم قتال العقول، فما حركات البدن ضربا وتقتيلا إلا أثر حركات العقل وإراداته لحجته تقريرا ولحجة خصمه تفنيدا، ولا يوجد بشر أو حتى حيوان يخوض قتالا بلا هدف، إلا من طمس الله، عز وجل، على بصره وبصيرته، فلا يدري لم يقاتل، فهو كآلة الحرب والقتل تفتك بما أودع فيها من القوى دون أن يكون لها إرادة في ذلك، فهي جماد عديم الإرادة، فتربية النفوس على طاعة باريها، عز وجل، بمدافعة أسباب الكون بأسباب الشرع، مظنة النصر في الدنيا والفوز في الآخرة، وتربيتها على الطاعة العمياء لقادة لهم المغنم وعلى جندهم المغرم، فلا يبغون إلا تحقيق المصلحة الخاصة، ولو كانت على خلاف المصلحة العامة، فطريقتهم ضد طريقة الوحي الذي يهدر المصلحة الخاصة للفرد تحصيلا للمصلحة العامة للجماعة، فلا ترهن مصاير الأمم حفاظا على عرش ملك جائر وسلطان غاشم، لم ينله على وجه مشروع، ولم يعمل فيه بما أمر به الرب المعبود، فـ: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وهي أمة متجبرة مع ضرب الذلة عليها، في مفارقة عجيبة، كما تقدم، فالمتجبر لا يصلح معه اللين، بل لا بد من كسر حدته بشرعة جلال تخضعه للرب، جل وعلا، فشريعة التوراة أثر من آثار جلال الرب، جل وعلا، بكلمات حكميات جاءت بالعزائم تربية للهمم، فالدين لا يقوم على أكتاف المترخصين، بل لا بد له من أصحاب عزائم لا تربيها إلا الشدائد سواء أكانت شرعية كشريعة يهود، أم كونية، كسائر النوازل التي يستخرج الرب، جل وعلا، بها، من كمائن الإيمان ما كان محجوبا فلولا كير الشدة ما صقل ولمع، وذلك أعظم ما يتسلى به العبد في شدته، وأعظم ما يهون على المستضعفين من أهل الديانة مصابهم، فقد ظلمهم أهل الكفران، وخذلهم أهل النفاق، وعجز كثير من أهل الإيمان عن نجدتهم، فالمحنة في حقهم منحة، وفي حق غيرهم فتنة ينقسم الناس بها إلى: كفار يتربصون بهم، ومنافقون يتآمرون عليهم، ومؤمنون بقدر إيمانهم تكون حرارة المصاب في قلوبهم فتشتعل بها جذوة الولاء والبراء في الصدور، فهي الباعث على بذل كل سبب مشروع لنجدتهم، فلا يدفع البلاء ولا يرفع إلا ببذل المقدور من دعاء فهو أمضى سلاح، وبذل للأسباب التي جعلها الرب، جل وعلا، وسائل فاعلة بما أودع فيها من القوى المؤثرة، فيبذل السبب فهو سنة الرب، جل وعلا، في كونه، ولا يتعلق القلب به فليس له استقلال بالتأثير، فليس ذلك إلا لرب العبيد، جل وعلا، فلو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولو شاء لرفع البلاء عن كل مبتلى، ولو شاء لشفى صدور قوم مؤمنين بنجاة إخوانهم المستضعفين وهلاك من ظلمهم وخذلهم من الكفار والمنافقين، ولكن حكمته اقتضت وقوع التدافع بين الفريقين فبها تستخرج عبوديات الجهاد حجة وبرهانا، وسيفا وسنانا، ولكل ميدان سلاحه.
فتلك الشريعة التوراتية التي كتب الرب، جل وعلا، كلماتها للكليم عليه السلام، فاصطفاه بأن كلمه ثم كتب له كلامه في الألواح، فجمع له الكلام المسموع والكلام المكتوب، وذلك من العناية الربانية الخاصة بمكان، فـ: "أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده".
وأما الشريعة العيسوية فهي شريعة الجمال فقد جاءت بالتخفيف فنسخت جملة من الآصار الشرعية التي ضربها الله، عز وجل، على بني إسرائيل، من قبيل: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، فعليهم ضرب الله، عز وجل، حكم التحريم تربية بالعقوبة، فالنسخ من الأثقل إلى الأخف من صور النسخ الشرعي فتنسخ شريعة جملة من أحكام شريعة سابقة، فتنسخ النصرانية بأحكامها التي يغلب عليها جانب الرقة والجمال، فـ: (قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
(يُتْبَعُ)
(/)
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، جملة من أحكام التوراة التي جاءت برسم الجلال، فـ: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، وينسخ الحكم الواحد في الشريعة الواحدة، من الأثقل إلى الأخف جمالا، ومن الأخف إلى الأثقل جلالا، فيحصل باجتماعهما الكمال الذي جاءت به الشريعة الخاتمة، فهي الشريعة التي جمعت جلال شريعة يهود، وجمال شريعة النصارى قبل التبديل، فلم يعد منها الآن إلا جملة من الأخبار التي دخلها التحريف، وإن بقيت منها جملة كثيرة محفوظة تشهد ببطلان مقالة الصلب والتثليث، فلم يأت المسيح عليه السلام إلا بالتوحيد فـ: (لَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فبين بعضه بالنسخ الجزئي لجملة من أحكام التوراة، وجاء بالتوحيد خالصا من كدر الشرك وقذى التثليث، فليس إلا إله واحد بذاته، أحد في صفاته، فلا ند له ولا شبيه، إذ ليس إلا رب واحد خالق بارئ مصور رازق له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فـ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) على جهة القصر بتعريف الجزأين والتوكيد بضمير الفصل، فله الربوبية الخاصة: عناية بالمسيح عليه السلام فأيده بالمعجزات فـ: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي)، وحفظا من أعدائه فـ: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وله الربوبية العامة عناية بالإيجاد والإعداد والإمداد لسائر الكائنات.
ولم تعد نصرانية بولس من جنس نصرانية المسيح، فلا نرى منها الآن إلا التعصب الفكري والتطرف الحركي، ولا نرى تسامحا مع المخالف، فليس ثم إلا إفناء الأبدان وتخريب العقول لمن آمن بالرب المعبود، تبارك وتعالى، فأيد انتسابه إلى المسيح باتباع أولى الناس به: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فـ: "إني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن نبي بيني وبينه"، فأولئك شهداء بصحة الرسالة الخاتمة، فلهم من قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): حظ عظيم، وإن لم يكونوا من أولي العلم بالمعنى المعهود المتبادر إلى الأذهان، فليسوا من أهل الرواية والدراية، بل منهم من أيامه في الديانة معدودة، ولكنها قد ساوت بل فاقت أعمارا مديدة لأناس ورثوا الديانة تقليدا، فما علموا من قدرها ما علمه من دفع ثمنها، فلا يستوي من كد لتحصيل الثمن، ومن قعد فجاءته الديانة هبة بلا ثمن، فزهد فيها، بل باعها بعض أهلها بأبخس ثمن، وتلك من آيات الرب، جل وعلا، فيصطفي من عباده رجالا ونساء قلوبهم على وصف الأسود، وإن كانت أبدانهم ضئيلة المبنى، فقد قام بالصدور من المعاني ما صيرهم أهلا للسيادة، فهم على رسم الصديقية، فـ: "ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه"، وإن جهل من جهل من البشر أعيانهم، فيكفيهم أن الله، عز وجل، بحالهم عليم وعلى قولهم وفعلهم شهيد، فلا توسط عند من رام السيادة لا سيما إن كانت برسم الديانة، فلسان حاله:
ونحن قوم لا توسط عندنا ******* لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ******* ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
(يُتْبَعُ)
(/)
ولسان مقال أبي الطيب فهو الخبير الناصح لمن رام الشرف:
إذا غامرت في شرف مروم ******* فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ******* كطعم الموت في أمر عظيم
وأما شريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهي شريعة الكمال، ففيها الجمال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وفيها الجلال فلسان مقال صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري".
فجمعت بين جلال الموسوية وجمال العيسوية، وتنوعت أحكامها بين العزائم والرخص، فذلك مئنة من سعتها فأحكامها تلائم كل عصر ومصر، ففيها أحكام الاختيار، وأحكام الاضطرار، وأحكام ارجال، وأحكام النساء فـ: (لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، وأحكام التكليف وأحكام الوضع ...... إلخ، وهي الشريعة المحفوظة فنقلها صحيح، وهي الشريعة المعقولة، فقياسها صريح، وهي الشريعة التي توافق صريح العقل فلا يجد المكلف عسرا في قبولها، فأخبارها صدق، وأحكامها عدل، فليس فيها أسرار يستحى من ذكرها، وليس فيها ما ينقض قياس العقل، فـ: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، فدعت إلى التفكر في الرسالة، وفي حال صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، و: (مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، فكل مقالة تناقض الرسالة لا بد أن يكون فيها عوار يستره صاحبه، فيتكلف التأويلات البعيدة، وربما الباردة!، ليستر سوأته، فصار الدين أسرارا لا يعرفها إلا رءوس الملة أو النحلة، فذلك ذريعة إلى الطغيان الروحي والفكري، فلا خلاص إلا بإسلام العقل: تقليدا لقس أو مرجع أو شيخ، وتلك خطة الخسف التي سامها السادة للأتباع، فلسان مقال الرسول: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ)، ولسان مقالهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). وصار تأويلا يتجشمه صاحبه لعله يسكت صريخ الفطرة التوحيدية في صدره، فقد بدلت الديانة ونقض الميثاق فخرجت الروح عن حد الاعتدال، فلا تزال تئن، فلا تشفى بشهوة أو شبهة، فلا يشفيها إلا الرجوع إلى قواعد الملة الأولى التي بعث بها الرسل عليهم السلام فـ: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
والشاهد أن الرب، جل وعلا، قد امتن على الكليم عليه السلام بكتابة الشريعة في الألواح، فكتبنا له: مِن كُلّ شَىْء: فذلك عموم أريد به خصوص الشريعة، فكتب له كل شيء يتعلق بأمور الديانة أخبارا وأحكاما، فالعموم في هذا الموضع مما يزيد المنة تقريرا، فكأن كل شيء قد كتب فيها، فلا أعظم من أمر الديانة، فهي كل شيء، عند التدبر والنظر، إذ بها تنال دار الكرامة، ففيها كل شيء، فأجناس وأوصاف وأقدار النعيم قد بلغت فيها الغاية، فكتب له من كل شيء: موعظة: فذلك بدل حصل به البيان لإجمال المبدل منه، فيجري ذلك مجرى التقييد بالبدل، وهو نوع إطناب، بذكر المبدل منه مجملا شحذا لذهن السامع فالمجمل مظنة الغرابة، لازدحام المعاني فيه، فعموم: "كل" يحتمل أمور الدين والدنيا، والمراد هنا أصالة: أمور الديانة، وإن أريدت أمور الدنيا فبالتبع إذ بالدين تساس وتنتظم، فلا صلاح للدنيا، كما تقدم مرارا، إلا برسم الديانة، فالشريعة قد استوعبت أمور المعاش والمعاد، فلا سعادة في الأولى ولا نجاة في الآخرة إلا بتأويل أحكامها في عالم الشهادة،
(يُتْبَعُ)
(/)
فما نزلت لتتلى ويتبرك بكلماتها، وإن كان ذلك مقصدا شرعيا، ولكنه ليس المقصد الرئيس، وإنما نزلت لتحكم الأرض برسم النبوة والخلافة الراشدة، ولا تكون الخلافة راشدة إلا إذا كانت على منهاج النبوة، والشاهد أن عموم "كل" مظنة الإجمال فجاء البيان عقيبه، فالمكتوب: موعظة، فالموعظة أول ما يطرق القلوب فتنتعش بسريان ماء الحياة في عروقها، وماء حياة القلوب: ماء الإيمان الذي تنشأ به الشجرة الطيبة، فـ: "أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"، فالأصل ثابت راسخ في القلب فهو معقد ولاء وبراء صاحبه، فلا يحب ولا يبغض إلا فيه، فحرارة الإيمان: حرارة فاعلة تولد في القلب لزوما حركة دائبة، فلا ينفك قلب المؤمن عن ولاء لأهل الإيمان، وبراء من أهل الكفران والنفاق، ولا ينفك مع ذلك من عدل ابن رواحة رضي الله عنه: "والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولن يحملني بغضي لكم، ولا حبي له أن أحيف عليكم، فقال يهود خيبر: بهذا قامت السماوات والأرض"، فلسان حاله: (إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، فذلك أمر المعاملة الدينية الباطنة، و: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فذلك أمر المعاملة الدنيوية الظاهرة من بيع وشراء وطب وعلاج ...... إلخ، فالتسامح لا يكون إلا في أمر الدنيا فالمؤمن يبذلها لكل أحد، تأليفا للقلب أو أنفة من قتال خسيس تكون الدنيا غنيمته، وبئست الغنيمة: دنيا لا تبذل صيانة للديانة، فالمال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وليس للكنز والادخار، والشاهد أن الموعظة الإيمانية تحيي القلوب الميتة وتوقظ القلوب النائمة، وتشعل وهج الديانة في القلوب الباردة فتذيب جليد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)، فقد تثاقل كثير من الناس، ومنهم أصحاب دين وفضل، تثاقلوا عن نصرة الدين وأهله من المستضعفين الذين خذلهم القادر والعاجز!، بل ربما سعى بعض أهل الديانة في تخذيل الناس وتخدير المشاعر، فتبرد الهمم الحارة التي تحترق غيظا، وليس المراد إشعال نار تأكل الأخضر واليابس، بل المراد استبقاء جذوة الإيمان مشتعلة في القلب، فلا تفتر فيبرد القلب، ولا تزيد عن الحد فتنقلب إلى الضد نار فتنة مستعرة، فليس ذلك مراد الشرع الذي ألجم النفوس بلجام الأمر والنهي، فلا تصدر إلا عن أمره، ولا تنزجر إلا بنهيه.
والفرع في السماء: فإذا تكلم العبد بكلمة التوحيد عرجت إلى الرب، جل وعلا، في السماء، كما ذكر ذلك البغوي، رحمه الله، فهو العلي الذي استوى على العرش: سقف العالم المخلوق فليس ثم بعده إلا جهة العلو المطلق: وصف الرحمن، فهو العلي بذاته على كل خلقه، فذلك وصفه الذاتي، وهو العلي على عرشه استواء يليق بجلاله، فذلك وصفه الفعلي، فله العلو العام والخاص: الذاتي والفعلي.
وبعد الموعظة العامة: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ: فذلك، كما تقدم، عموم أريد به خصوص الديانة لمكان التنزيل فلا ينزل الوحي إلا بالكلمات الشرعية الحاكمة أخبارا هي مادة صلاح القلوب، وأحكاما هي مادة صلاح الجوارح، فيعمل القلب فيها تصديقا وإرادة، وتعمل الجوارح امتثالا لما قام بالقلب من علوم وإرادات، على ما اطرد مرارا، من التلازم الوثيق بين الباطن العلمي والظاهر العملي.
(يُتْبَعُ)
(/)
فحصل بالموعظة: بذر الإيمان في القلب، ثم حصل بالتفصيل الخبري الحكمي نماء تلك البذرة التي يتفاوت نموها بتفاوت التعاهد بسقي العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك تفاوت الإيمان في القلوب حرارة وبرودة، قوة وضعفا، وإن كانت صورة العمل الظاهر واحدة، كما تتفاوت قوة الزرع بتفاوت مهارة الزارع، وإن كان الغرس والسقي في صورته الظاهرة واحدا، فلا يستوي من تعاهد زرعه الإيماني بمادة حياته ولا تكون إلا من مشكاة النبوات، ومن أغفله حتى ذبل أو ضعف، و: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا).
ثم جاء التكليف الشرعي عقيب تقرير المنة الربانية، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين حكم الربوبية إنعاما، وحكم الألوهية إيجابا وتحريما، فـ: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا: فقيد الأخذ بالحال: "بقوة"، فهي عمدة في المعنى وإن كانت فضلة في المبنى، فليس المراد الأخذ مطلقا، فليس ذلك بأخذ الأنبياء عليهم السلام، وليس ذلك بأخذ أتباعهم ممن حملوا أمانة التبليغ فكانت الرسالة في قلوبهم حارة، فذلك رسم العلماء العاملين وكانت في قلوب غيرهم باردة، وإن كان لهم من تحرير مسائل الشريعة نصيب أوفر، وذلك مقصد شرعي رئيس، ولكنه إن لم يسق بماء العمل، فليس له ثمرة، وليس لصاحبه ذكر في العالمين، فليس من أهل: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، فما رفع ذكر عالم إلا بعمل، وما صار العز بن عبد السلام رحمه الله: عزا للدين والدنيا إلا بحشد الجموع في عين جالوت فأنكر على القاعد وشد أزر القائم فكان سيف الدين قطز سيفا سله الله، عز وجل، على أبناء المغول، وكان ركن الدين ببيرس ركنا شديدا آوى إليه أهل الديانة، وما صار ابن تيمية شيخا للإسلام إلا بعمل صدق العلم: فجهر بالحق وأوذي في سبيله، ثم قدر فعفا، ودافع التتار في شقحب، فسل سيف الشريعة على أعدائها، فكان شيخا وإماما لها، والكلام في زمن السعة يسير، وفي زمن الضيق عسير عزيز فلا يجري إلا على ألسنة المخلصين الذين صدقت أعمالهم أقوالهم، وإن قلت، فقول قليل يعمل صاحبه بمقتضاه يثمر ما لا يثمره قول كثير لا حظ لصاحبه من العمل، وفي النوازل تظهر الكمائن النفسانية والمعادن القلبية، وليس تمني الابتلاء بمطلب شرعي، وإنما هو وارد كوني يظهر الله، عز وجل، به ما لا يظهر في زمان العافية.
فذلك الأخذ الذي تقام به الأديان، فأحق الناس به الأنبياء عليهم السلام، لا سيما أولي العزم، فهم صفوة الصفوة، والكليم، عليه السلام، ثالثهم، فمن يأخذ الألواح بقوة غيره؟!.
والأمر على بابه للوجوب، فأخذ الشرائع واجب على كل مكلف والأنبياء عليهم السلام من جملة المكلفين بشريعة رب العالمين تصديقا وامتثالا، وإنما توجه الخطاب إليهم ابتداء على سبيل المواجهة، فهو المأمورون بالتبليغ فيتوجه إليهم خطاب الوحي قبل غيرهم، فهم أصل وغيرهم لهم تبع، فخطاب أممهم: خطاب إعلام بالشرع وإلزام بأحكامه، إلا ما ورد الدليل على اختصاصه بالرسول، فذلك استثناء من قاعدة كلية، فالأصل في التشريع: العموم، فلا يصار إلى الخصوص إلا بدليل ناقل عن الأصل العام، وقد جاء الأمر العام لقومه عقيب الأمر الخاص له، وإن كان خطابه، كما تقدم، خطاب مواجهة خاص، وتشريع عام، فالعموم مستفاد منه ابتداء، ومع ذلك جاء الأمر العام لقومه فذلك جار مجرى الإطناب توكيدا واحترازا لئلا يظن من قل علمه قصر أمر الديانة على شخص أو جماعة بعينها يوكل إليها الأمر برسم الكهنوت الذي صير للدين رجالا وللدنيا آخرين!، فالأولون متصدرون برسم الطغيان، والآخرون مقلدون برسم العمى، فقد عميت البصائر فعطلت العقول عن العمل فانحط أصحابها إلى رتبة الأنعام: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).
(يُتْبَعُ)
(/)
وَأْمُرْ قَوْمَكَ: فذلك من قبيل "أفعل" التفضيل التي نزعت دلالتها، فكل شرائع السماء حسنة، كما نقل ذلك البغوي والألوسي عن قطرب، رحم الله الجميع، وحمله بعض أهل العلم على تفاوت الأحوال، فلكل حال حكم يلائمها يصير هو الأحسن في هذا الموضع بعينه، وإن لم يكن الأحسن مطلقا، كما في الأحكام المنسوخة، فالمنسوخ قبل نسخه هو الأحسن لملاءمته حال المكلفين، فلما تغيرت الحال، اقتضت الحكمة تغير الحكم، فصار الناسخ هو الأحسن لملاءمته الحال الجديدة، فالحكم دائر مع علته وجودا وعدما، والأحكام المنسوءة، فهي محكمة لم تنسخ، وإنما تتعدد صورها بتعدد الأحوال، كما في أحكام القتال تحريما فإذنا فأمرا بالدفع فانتهاء بالطلب، فليس زمان الضعف والانحسار كزمان القوة والانتشار، فلكل زمان حكمه الذي يصير فيه الأحسن، بل قد يصير واجبا وغيره محرما، فيكون الأخذ عزيمة لا خيرة فيها، لا سيما مع تضاؤل المصالح التي تحصل بالرخصة، فالرخصة تحصل بها السعة ولا يحصل بها انتقاص الدين بزعم الحفاظ عليه بدرء المفسدة!، وقال بعض أهل العلم كما نقل البغوي رحمه الله: وقيل: بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو أحسن من القصاص، والصبر أحسن من الانتصار، فكل مشروع ولكن المشروع درجات، فمنه الواجب ومنه المندوب ..... إلخ، بل من الواجب المفروض ما هو آكد في الأخذ لقرينة الحال، فتزاحم الواجبات مظنة الترجيح، ولا يقوى على ذلك إلا آحاد المسددين برسم التوفيق الرباني بعلم تدرك به الأولويات، فذلك علم النبوات، كما ذكر ذلك بعض المحققين، فلا تقدم شرائع الفقه الأصغر على شرائع الفقه الأكبر، فكيف يروم عاقل إحكام الفروع ولما يحكم الأصول، وقد يكون المأخوذ خلاف الأولى، كما في واقعة أسرى بدر، فيأتي الوحي بالبيان، فلا يقر صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خلاف الأولى، وتلك مفاضلة بين اجتهادين، فكيف صحت المفاضلة بين واجب عام في نازلة عامة كإغاثة مستضعف أو محاصر، ونافلة من قول أو فعل مشروع يزهد صاحبه بلسان حاله الناس في الشريعة فهو بتقديمه المفضول على الفاضل قد صرف القلوب والجوارح عن واجب الوقت، فمثله مثل أهل الطريق لما دهم الفرنسيون أرض مصر، فاشتغلوا بقراءة صحيح البخاري، وهو أمر مشروع، ولكن الرب، جل وعلا، لم يضعه سببا لمدافعة العدو، فقد شرع القتال دفعا للغزاة، فلا يندفعون بداهة بقراءة الصحاح والمسانيد، فقراءتها تكون في حلقات الدرس لا في ميادين الدفع.
ثم جاء التذييل:
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ:
فذلك جار على ما تقرر في التنزيل من قياس الطرد والعكس، فمن سار على منهاج الفاسقين، فدورهم شاهدة على عاقبة أمرهم: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)، فله ما لهم من عذاب الأولى والآخرة، ومن سار على منهاج المتقين، فله، أيضا، ما لهم في الأولى والآخرة، فعاقبة أمرهم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). و: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، ولو بعد حين، فذلك مما تطمئن به قلوب المستضعفين من أهل الديانة، فقد ظلموا وخذلوا فلم ينتصر لهم أهل الأرض، فرب السماء، جل وعلا، ناصر لهم ولو بعد حين من الابتلاء، ومنتصر ممن ظلمهم وخذلهم ولو بعد حين من الاستدراج، فتلك سنن: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، و: (أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، فللمستضعف سنته، وللمتجبر سنته، وكلٌ نافذ بمشيئة الرب القدير الحكيم جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 10 - 2010, 12:23 ص]ـ
ومن سورة القصص:
ومن قصص الكليم عليه السلام:
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ):
فلما قضى الأجل في مدين، والقضاء هنا مئنة من التمام، فأتم الأجل، بل أتم الأجل الأقصى فمكث عشر سنين في مدين، وذلك الأليق بالأنبياء عليهم السلام، فهم أوفى الناس عهودا وأكمل الناس أخلاقا، وذلك عند التدبر والنظر من أظهر أدلة العناية الربانية بصفوة الخلق، فعلى عين الله، جل وعلا، قد صنعوا، حفظا لنفوسهم من الإتلاف، وحفظا لأخلاقهم من الرذائل ولو مباحات تخرم المروءات الكاملة فنزهوا عن صغائر الخسة ورذائل العادات من أكل في الطرقات ونحوه ونزهوا عن الحرف الدنية كالحجامة، وقد خص الكليم عليه السلام بالذكر في هذا الشأن فامتن الرب، جل وعلا، عليه كما في سورة طه: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، فتلك عين الرعاية الربانية وإثباتها لا ينفي صفة الذات القدسية: صفة العين التي يقوم بها فعل الإبصار، وهو أيضا، من أوصاف الذات القدسية بالنظر إلى نوعه فـ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، ومن أوصاف الأفعال الإلهية بالنظر إلى آحاده، ومنه، أيضا، البصر بالمحسوسات، فالرب، جل وعلا، قد أحاط بكل المحسوسات بصرا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من ذوات وأفعال العباد، فمنه نظر الإحاطة، ومنه نظر العناية فـ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فهو منقسم المعنى بانفكاك الجهة فيكون في حقهم من جنس معية النصرة الخاصة فهو سماع وبصر الوعد بالعناية ويكون في حق فرعون من جنس المعية العلمية العامة: معية الإحصاء فهو سماع وبصر الوعيد فإحصاء الأعمال بالعلم والسمع والبصر مما يحمل العاقل فضلا عن المؤمن على مراقبة من لا تأخذه سنة ولا نوم، ومنه: نظر الوعيد، كما تقدم، فالآية السابقة تحتمله وقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى): نص فيه لقرينة سبب النزول، فالاستفهام إنكاري توبيخي يؤول إلى إثبات ما أنكره أبو جهل بلسان حاله مع علمه بصدق مقالة الرسالة ومنها بداهة الصلاة التي أنكر على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاستعلان بها وجاء المعمول مؤولا من: "أن" ومعموليها فذلك آكد في تقرير المعنى فضلا عن اسمية الجملة وتكرار الفاعل بإسناد الفعل المضارع الذي استكن فيه عامله إلى مرجعه المظهر الذي قدم في الذكر، فضلا عن الإتيان باسم: "الله" فمعاني الجلال فيه أظهر من اسم: "الرب"، فمعاني الربوبية مئنة من العناية والرعاية وتلك معاني جمال لا يلائمها سياق التهديد والوعيد، وهو ما يشهد لإرادة نظر التهديد بلفظ الرؤية الذي جاء على حد المضارعة مئنة من التجدد والحدوث بالنظر إلى آحاده وذلك، أيضا، آكد في التهديد بدوام المراقبة الكونية من الرب، جل وعلا، فالأليق بها لو كان المخاطب ذا عقل: دوام المراقبة الشرعية فيقابل فعل الإله الجليل: كونا، بفعل العبد الذليل: شرعا، والبصر بالمعقولات فـ: (اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فكذلك الشأن في وصف العين، فالسياق أصل في معرفة مراد المتكلم، فقد يرد في سياق يراد به وصف الذات، وقد يرد في سياق يراد به وصف المعنى، كما في هذا السياق، لقرينة الامتنان بالحفظ الكوني من بطش فرعون، بل قد نشأ في بيته وفي كنفه، وكان له من الحظوة النفسانية ما له، فـ: (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فنكرت المحبة تعظيما فضلا عن صدورها من الرب، جل وعلا، خلقا، فقد خلق الرب، جل وعلا، في قلوب من رآه: محبته، وهي محبة سابغة تملأ الصدر وتأسر القلب فلا يملك من رآه إلا التسليم للقدر الكوني النافذ الذي يتصرف في القلوب محبة وبغضا، فالقلوب بيد من يقلبها فإن شاء صرفها على المحبة وإن شاء صرفها على البغضاء، كما يصرف بعضها على الطاعة فضلا، ويصرف آخر على المعصية عدلا فشأن النفس عظيم فلا يتصرف في حركاتها الباطنة وما يظهر من آثارها القولية والفعلية فهي الدليل الفاضح لما يقوم بالنفس من الإدراك الباطن، إيمانا أو كفرا، محبة أو كرها .......... إلخ، لا يتصرف في تلك
(يُتْبَعُ)
(/)
الحركات الدقيقة إلا الخالق البارئ القدير، ولا يحيط بها إلا اللطيف الخبير فهي، وإن ظهرت بعض أماراتها على صورة البدن، فـ:
مهما تكن عند امرئ من خليقة ******* وإن خالها تخفى على الناس تعلم.
ومما نسب إلى أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قوله:
وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ فِي عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا ******* مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
عَيْنَاك قَدْ دَلَّتَا عَيْنَيَّ مِنْك عَلَى ******* أَشْيَاءَ لَوْلَاهُمَا مَا كُنْت تُبْدِيهَا
بل قد يظهر بعضها آية لنبي، كما في خبر أبي سفيان، رضي الله عنه، وفيه: "لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى"، وعند البيهقي، رحمه الله، في "دلائل النبوة": "أن أبا سفيان بن حرب، بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه: «لو جمعت لمحمد جمعا، إنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال: "إذا يخزيك الله"، قال: فرفع رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه، فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إن كنت لأحدث نفسي بذلك"، وكما في تأييد المسيح عليه السلام بعلم بعض الغيب فـ: (أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)، فهو علم جزئي لا يعارض علم الرب، جل وعلا، الكلي، فلا يصح لمشبه أن يروج به لمقالة الغلو في المسيح عليه السلام فعلم الغيب من أخص أوصاف الرب، جل وعلا، فلا يعلمه على جهة الاستغراق إلا الله، عز وجل، ولا يستأثر بجملة مخصوصة منه فلا علم لملك أو نبي بها، إلا الله، عز وجل، فـ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فذيل بوصف العليم فالخبير فذلك من الترقي في الوصف من الأعم إلى الأخص فهو العليم بالأعيان والأفعال بل الخبير بالدقائق وأشدها خفاء ما استأثر به الرب، جل وعلا، من جملة الغيوب التي وردت في الآية، فيظهر بعض مكنونات النفوس آية من آيات النبوة أو كرامة لولي فهي من الفراسة الإيمانية، بل قد تظهر لمن لا حظ له من ولاية أو ديانة من أصحاب الفراسة الخَلْقية أو الرياضية، فإن ظهر أو علم منها ما تقدم إلا أنه ليس في مقدور البشر الإلمام بمكنون صدر واحد على وجه الإحاطة الكلية، فليس ذلك إلا للرب العليم، جل وعلا، فكيف بمكنون صدور العالمين، فـ: (إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، فجاء التوكيد، كما اطرد في مثل هذه المواضع بجملة من المؤكدات اللفظية من ناسخ مؤكد، واسمية للجملة تفيد ثبوت المعنى الذي تدل عليه، ومضارعة من جنس مضارعة فعل الرؤية في قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)، فيعلم ما تبدي وما تخفي كل نفس، على وجه الإحاطة الكاملة بكل الجزئيات الإرادية، فعلمه، جل وعلا، علم محيط بكل جزئيات الكون أعيانا وأوصافا فليست علوما كلية كما زعم الفلاسفة الذين نفوا علم الرب، جل وعلا، بالجزئيات، فذلك من شؤم تشبيه علمه المحيط الكامل بعلوم البشر المحدودة القاصرة.
والشاهد أنه قد استعير لتلك المحبة الإلقاء الحسي، فإلقاء الثوب على الشيء مظنة السبوغ، فكذلك إلقاء المحبة على الكليم عليه السلام، فهي مظنة إسباغ الوصف عليه، فيحب من كل وجه، ويحبه كل أحد، وتلك، أيضا، من صور الإعداد الكوني لمنصب الرسالة الشرعي، فالرسول تألفه القلوب لكمال خلقه الظاهر وخُلُقه الباطن، فلا ينفر منه البشر، وإن وقع في قلوبهم من هيبته ما وقع، وذلك وصف الكليم، عليه السلام، فهو الشديد في أمر الله، جل وعلا، وهو صاحب المروءة فـ: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)، وهو الخاشع الخاضع الداعي برسم الفقر إلى الرب الكامل جل وعلا: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وهو وصف النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه، وذلك وصف كل مؤمن وإن لم يكن له منه ما للنبي
(يُتْبَعُ)
(/)
الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أكمل البشر خَلْقا وخُلُقا، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، بقوله: "والجمال قسمان: ظاهري وباطني كجمال علم وعقل وكرم وهذا محل نظر الله وموضع محبته فيرى صاحب الجمال الباطن فيكسوه من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات فإن المؤمن يعطى حلاوة ومهابة بحسب إيمانه فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه وإن كان أسود مشوها وهذا أمر مشهود بالعباد". اهـ
فهو وصف الأنبياء عليهم السلام ومن جاء بعدهم من الخلفاء برسم الرشد، فشدة عمر، رضي الله عنه، موسوية جليلة، ورقته لعجائز المسلمين وصبيانهم عيسوية جميلة، وتلك خلائق العظماء الذين يجمعون الأضداد على نحو يكون به الكمال فهو جلال وجمال قد امتزجا على نحو دقيق فلا يغلب أحدهما الآخر، فلكل موضعه الذي يلائمه، وتلك مئنة من الحكمة فلا يوضع الشيء في غير محله، كما هي الحال الغالبة في زماننا، فتستعمل أخلاق الجلال مع المؤمنين ظلما، وتستعمل أخلاق الجمال مع الكافرين الناكثين للعهد بفتنة المؤمنين والطعن في الدين والكافرين المحاربين تستعمل معهم ذلا برسم إعطاء الدنية في الدين، وإن زعمها المخذول: برا وتسامحا، فذلك لا يكون إلا للمعاهدين وأهل الذمة برسم العزة، فـ: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
والشاهد أن قضاء الأجل على هذا الوجه الكامل الذي دل على كمال خلق الفاعل، هو من أعظم صور العناية برسول كريم من أولي العزم عليهم السلام، وهو، أيضا، دليل من جملة دلائل النبوة، فالنبي لا يكون، بداهة، إلا وفيا، بل لا يكون إلا أوفى الأوفياء، فنعت الخليل عليه السلام: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، فحذف المعمول مئنة من العموم فوفى بكل ما كلف به، فلا يكون نبي كاذبا في قوله، أو مخلفا لوعده، أو خائنا لأمانة جلت أو دقت، فمن فرَّط في دقيق فرط في جليل، فقضاء الأجل الأوفى، وإن وقع قبل نبوته صلى الله عليه وسلم إلا أنه مئنة ظاهرة من كمال حاله فلا ذريعة لطاعن فيه، فذلك من جنس ما ألزم به النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم قومه، فـ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، فلبث فيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أكمل حال، فتلك شهادة الموافق والمخالف، فحاله قبل البعثة أرضى حال فما يحمله بعد تلك السنين على الكذب على رب العالمين، وهو الذي لم يكذب على أحد من البشر؟!.
فلما قضى الكليم عليه السلام الأجل الأقصى، سار بأهله، فـ: آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا: نكرت تعظيما فهي من نور الرب، جل وعلا، كما في حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، مرفوعا: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه"، فله، جل وعلا، من وصف العظمة والجلال ما لا يطيق الكون آثاره، فلا يكشف الحجاب في دار الابتلاء، فذلك يبطل التكليف بمعاينة ما امتحن العباد بتصديقه من الغيب، وأعظم غائب عن العقل: حقيقة وصف الرب ذي الجلال والإكرام، فالعقل يدرك منه المعنى الكلي في الذهن دون الحقيقة في الخارج، فلا يعلم كيف هو في ذاته وصفاته إلا هو، فهو العليم فـ: (لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، فلا يحيطون بشيء من علم ذاته وصفاته وحكمة أفعاله الكاملة فهي تأويل تقديره الكوني النافذ وحكمة كتبه النازلة فهي مسطور تقديره الشرعي الحاكم، فلا يحيطون بشيء من كل ذلك، على القول بعود الضمير عليه جل وعلا، لا يحيطون بشي منه إلا بما شاء من المعاني الشريفة التي جاءت بها النبوات، فهي من أعظم صور المنة بالرسالات التي عرفت العباد من وصف ربهم، جل وعلا، ما بين مجمل الفطرة وأزال كل شك وحيرة، فلسان مقال الرسل عليهم السلام: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)،
(يُتْبَعُ)
(/)
فليس ثم شك في الإله المعبود بحق، فالتقديم لما حقه التأخير في اللفظ، يفيد اختصاص الإنكار والنفي، بالشك في استحقاق الله، عز وجل، لمنصب الألوهية الحقة، على وجه تنتفي فيه كل شركة في الإيجاد أو التدبير أو التأثير، فليس ثم شيء في الكون إلا وهو أثر من آثار تقدير الرب، جل وعلا، فـ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، فذلك عموم مستغرق لكل مخلوق من العرش إلى أسفل أرض، فضلا عن اختصاص من أنكر ذلك بالتوبيخ الذي أشربه الاستفهام، والإبطال بالنظر إلى فساد مقالته، فلا أفسد من مقالة من نازع الرب، جل وعلا، ألوهيته، بتشريك أو تثليث ..... إلخ من صور الغلو في المخلوق الناقص والجفاء في الخالق الكامل، جل وعلا، فما تولد شرك إلا من غلو في مخلوق باعتقاد ما ليس له من أوصاف الكمال الذاتي، فـ: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، فليس لهم بعد موتهم من وصف كمال في ذواتهم فضلا عن التصرف بالنفع والضر في غيرهم!، فبطلان ألوهيتهم لازم نقص أوصافهم الذاتية التي تظهر آثارها: أفعالا بالجوارح المخلوقة التي فنت بموتهم فليس لهم من آلة الفعل البشري شيء فتلك مقدمة عقلية ضرورية يسلم بها المخالف، وليس لهم من وصف الفعل البشري شيء نتيجة أولى، وليس لهم من باب أولى من وصف الفعل الرباني شيء: نتيجة ثانية، فحال الداعي أكمل من حال المدعو!، بالنظر إلى صحة آلاته الظاهرة، فما فسد تصوره فدعا غائبا لا يسمعه، لنقصان وصفه الذاتي، وإن كان نبيا أو ملكا شريف القدر، فلا ينفك أولئك مع عظم شأنهم عن نقص ضروري به يظهر انفراد الرب، جل وعلا، بالكمال الذاتي والوصفي المطلق، فذلك كما تقدم ذريعة ضرورية إلى إفراده بمنصب الألوهية عبودية وتشريعا، فما فسد تصور أولئك بدعوة الملائكة والأنبياء والصالحين ..... إلخ إلا بالغلو في ناقص بإنزاله منزلة الكامل، فذلك من الفساد الضروري للقياس العقلي للتسوية في الحكم بين أعظم متباينين في الوصف، وكما أن آلة الفعل البدني لا أثر لها في التصرف الكوني، فكذلك الروح، فقد فارقت الجسد برسم العبودية، فهي روح مخلوق لا خروج لها عن أمر الخالق، جل وعلا، فلا خروج لذرة من الكون عن أحكام الربوبية التقديرية الكونية برسم القهر، وإن وقع الابتلاء برسم التكليف والاختيار، فالجهة منفكة، فالعبد مقهور بالقدر الكوني فلا خروج له عن أحكامه، ممتحن بالقدر الشرعي فيتصور خروجه عن أحكامه ولا يكون ذلك إلا بما قضى به الرب، جل وعلا، فمشيئته نافذة في كل حال. فليس ثم شك في الإله المعبود بحق لكمال وصفه وفعله ربوبية:
إيجادية للأعيان وتدبيرية للأوصاف والأفعال والحركات اختيارية كانت أو اضطرارية، فجاء التذييل بأثر من آثارها: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ففطر السماوات والأرض على هذا النحو البديع فلا مثال سابق له، من أظهر أدلة الربوبية التي تدل لزوما على وجوب إفراده، جل وعلا، بمنصب الألوهية، كما تقدم مرارا، من التلازم الوثيق بين النوعين: الخبري العلمي بأوصاف الرب الكامل جل وعلا فله أوصاف الجلال والجمال، وأحكام ربوبيته تكوينا وتشريعا فلا تصرف في الكون إلا له، جل وعلا، ولا شرع يبتلى العباد بامتثاله إلا منه، جل وعلا، فهو منزل الكتب ومقرر الشرائع التي جاءت بها النبوات ليساس بها البشر برسم العدل فبه تقوم السماوات والأرض.
وربوبية عناية: فيدعو البشر، مع كمال استغنائه عنهم فلا يفتقر إلى نفعهم ولا يناله ضرهم، فـ: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي"، بل يدعوهم ليغفر لهم فتلك من أظهر صور عنايته، جل وعلا، بالعباد، فمغفرة الله، عز وجل، أعظم سؤل فبها تحصل النجاة في الدارين، فمن غفر له بشر بسعة العيش في دار الابتلاء وإن ضاقت أسبابه المادية، والعيش الكامل في دار السلام، فمغفرة وتأخير إلى أجل مسمى برسم الحياة الهنيئة، وميتة شريفة لمن قدر له الرب، جل وعلا، خاتمة السعادة على الطريقة الكاملة، وحياة برزخية
(يُتْبَعُ)
(/)
برسم التنعم في اللحد، وحياة أخروية برسم الخلود في دار النعيم.
فصح الإنكار من هذا الوجه بل عظم على من صرف ما لا يصرف ضرورة إلا للرب، جل وعلا، إلى غيره، من المعبودات الأرضية الباطلة، ولو كانت، كما تقدم، شريفة في نفسها، فما دعا ملك أو نبي إلى عبادته، فـ: (لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، فقياس العقل الصريح: نسبة كل حكم إلى الوصف الملائم له، فينسب حكم الألوهية إلى وصف الربوبية الكاملة التي لا يتصف بها بداهة إلا من له كمال القدرة والحكمة، فتلك أوصاف ومناصب لا تقبل الشركة بداهة حتى عند من أثبت الشركاء، فالمثلثة، وإن وقعوا في الشرك من وجه، فأثبتوا للأقانيم من وصف الأولية ما للرب، جل وعلا، بزعم أنها من وصفه القائم بذاته، فأوليتها من أوليته مع كونها في نفسها ذوات مستقلة، يثبت لمن قال بها حكم التشريك في وصف الرب المليك، جل وعلا، فإن وقعوا في ذلك إلا أنهم يثبتون للأقنوم الأول الذي انبثقت منه بقية الأقاتيم بزعمهم، يثبتون له من أوصاف الربوبية تقديرا وإيجادا وتدبيرا ما ليس لبقية الأقانيم، كما أشار إلى ذلك شارح الطحاوية رحمه الله، فمنصب الربوبية عندهم، وإن كانوا مشركين، منصب يختص بوظائف لا تقبل الشركة، فذلك من جنس جواب المشركين، فـ: (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وكذلك الشأن في الثنوية، فإله النور عندهم أكمل من إله الظلمة، فهو خالق الخير، فله من الخصائص التي انفرد بها ما ليس لإله الظلمة، فصح إفراد واحد بمنصب لا يقبل الشركة حتى عند من وقع في شرك الصفات، كشرك الأولية عند النصارى، أو الأفعال كشرك الخالقية عند الثنوية، أو شرك العبادة عند مشركي العرب، فهذا الواحد منفرد بأوصاف يظهر أثرها ضرورة في الكون، فـ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فكلها آيات كونية ظاهرة تفيد علما ضروريا بكمال ذات ووصف وفعل من أجراها على سنن محكم، ومن ذلك حده، فوصفه أكمل وصف وحكمه أعدل حكم فبه قامت السماوات والأرض، من ذلك حده فهو المستحق لمنصب الألوهية إفرادا لا يقبل الشركة فذلك، كما تقدم، مقتضى قياس العقل الصريح الذي تواطئ أحكامه خبر النقل الصحيح، فهو الإله المعبود بحق لأنه الرب المنفرد بالخلق، وهذه الآية عند النظر والتدبر، برهان عقلي دامغ فضلا عن كونها مستندا خبريا محفوظا برسم العصمة: أداء وبلاغا، فـ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
فقال لأهله: امْكُثُوا: فذلك من كمال أدبه، عليه السلام، على ما ذكر بعض أهل التأويل من عادة أهل المروءات في خطاب الأهل بضمير الجمع فهو مئنة من التعظيم، فيجري مجرى قول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ******* وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردا
فخاطبها بضمير الجمع، كما يقول صاحب "الأضواء" رحمه الله، فذلك مئنة من عظم قدرها عنده، وكمال مروءته، فتلك حال أصحاب الفضل مع نسائهم، وللأنبياء عليهم السلام من ذلك أعظم حظ، فتلك حال الكليم عليه السلام مع شدة عزمه، فقد جمع إليها لينا ورقة مع أهل بيته، وتلك حال النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو مقدم الأنبياء عليهم السلام في كل خصلة محمودة، فـ: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي. ما أَكْرَم النساءَ إلا كريم، ولا أهانهنّ إلا لئيم"، فحصل بالإخبار بعين المبتدأ بقيد الأهل مزيد تخصيص، فهو مئنة من القصر الادعائي مبالغة في تعليق حكم الخيرية بالإحسان إلى الأهل والذرية، فضلا عن تعريف الجزأين، ثم جاء وصفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخيرية المطلقة في هذا الباب وإن لم يختص به فهو أشرف أفراد النوع في كل كمال
(يُتْبَعُ)
(/)
ديني أو دنيوي، خَلْقي أو خُلُقي، فذلك من القصر الحقيقي فهو خير الناس لأهله، وحصل ما حصل في الفقرة الأولى من القصر بتعريف الجزأين فجاء النص عاما ثم أفرد فرد منه بالحكم تعظيما لشأنه وتنويها بذكره، فذلك من قبيل التذييل بالخصوص عقيب العموم، فالحكم العام قد تقرر، والحكم الخاص قد تأكد في فرد بعينه هو أشرف أفراد النوع كما تقدم.
ثم جاء قصر آخر بأقوى أساليبه، على سبيل الادعاء إمعانا في المبالغة، فضلا عن حصول التقرير بالمقابلة بين فعل الإكرام ووصف الكرم في الفقرة الأولى مع ما بينهما من جناس اشتقاقي فمادتهما واحدة وهي مئنة من السعة والحسن والنفاسة والسخاء، فحصلت المقابلة بينهما وبين فعل الإهانة ووصف اللؤم في الفقرة الثانية فذلك مما يزيد المعنى بيانا فبضدها تتميز الأشياء.
ووصف زوجه وحبه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: "ما ضرب رسول الله بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله".
وعنها وقد سئلت عن خلق رسول الله فقالت: "كان خلقه القرآن"، فذلك جار على ما تقدم من كمال العناية الربانية بصفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين فقد جمع لهم الرب، جل وعلا، من كمال الخلق: جلالا وجمالا ما حصلت لهم به الصدارة برسم العصمة، فهم أكمل الناس حالا في موضع الشدة والجلال، وهم، مع ذلك، أكمل الناس حالا في موضع اللين والجمال، ولا يتصف بذلك إلا عظيم، وتلك أخلاق قد تكتسب أصولها بالتعلم، ولكن يظل للأنبياء عليهم السلام منها درجة لا تدانى لرسم العصمة الذي اختصوا به فهو رسم لا يقبل الاكتساب بالمجاهدة والرياضة، فطبعهم على تلك الأحوال الكاملة والأخلاق الفاضلة هو من جملة دلائل النبوة لما تقدم من وجوب اتصاف الرسل عليهم السلام بكمال الباطن خُلقا وكمال الظاهر خَلقا.
والله أعلى وأعلم.(/)
توفل اللغة العربية .. هل يكون قارب النجاة؟
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[07 - 08 - 2009, 11:48 ص]ـ
عبداللطيف الضويحي
توفل اللغة العربية .. هل يكون قارب نجاة هويتنا الثقافية؟
وصلتني رسالة من جوال الصديق الكاتب والأديب محمد الحربي، ومحتوى الرسالة الحسرة والألم الذي ينتاب الكاتب من المستوى المتدني الذي وصله الطلاب العرب في لغتهم العربية حتى في كتابة أسمائهم حين تنتهي بألف مقصورة أو همزة. وفي الحقيقة، إنني أتساءل عن سبب هذه الظاهرة بالرغم من أن الطلاب العرب يدرسون خلال سنوات دراستهم في التعليم العام، أقول يدرسون لغتهم أكثر من أي شعب من شعوب العالم. أي أن ساعات اللغة العربية التي يدرسها الطلاب العرب منذ بداية المرحلة الابتدائية أكثر مما يدرسه اليابانيون عن لغتهم أو الأمريكيون عن لغتهم، أو الألمان عن لغتهم خلال تلك المرحلة (حسب دراسة بهذا الخصوص)؟ ولكن ماذا يدرس طلابنا العرب عن اللغة العربية وكيف يدرسونها ومن يدرسهم؟ مقررات لم تتغير منذ عشرات السنين، مدرسون يعانون قصوراً في لغتهم (وفاقد الشيء لا يعطيه) تراجع دور المدرسة أمام منابر حديثة أكثر إغراء وجاذبية.
شخصياً لا أستطيع أن أعدد الأسباب لهذه الظاهرة حتى لو أردت، غير أن هناك الكثير الذي يمكن عمله لإصلاح ما أفسد الدهر أو التعليم أو الإعلام أو اللغات الأجنبية. السؤال المطروح هنا: هل هناك من يهتم بهذه المشكلة في أي موقع حكومي كان أو غير حكومي؟ خاصة أن القضية ليست تربوية فقط أو إعلامية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية .. فالقضية هي كل هذا وأكثر. فعندما تتعدد أسباب المشكلة وتتشعب حلولها وتمس الهوية فهي إذا قضية استرتيجية، ولكن هل هناك استراتيجيون يرتقون لقضايانا الاستراتيجية؟
اللغة العربية تتآكل، ليس لعدم وجود مجامع لغوية، فهي كثيرة لكنها تعيش في أبراج عاجية. كما أن المشكلة ليست من قلة الجامعات أو انعدامها، لكنها جامعات لم تتجاوز مرحلة (الكتاتيب) حيث يزف كل سنة آلاف (الحفظة) و (الموظفين/ الكتبة). هذه الجامعات يفصلها عن مجتمعاتها سنوات ضوئية، فلم تغير فكراً ولم تنقل المجتمع التقليدي إلى مجتمع صناعي ثم معلوماتي ثم معرفي كما حصل في أغلب المجتمعات في العالم. جامعاتنا في الغالب تمنح شهادات تمحو الأمية بمسميات بكالوريوس وماجستير ودكتوراه.
مؤسسات أوجدت لتقود المجتمع وتضعه على السكة الصحيحة، والواقع أن المجتمع يسبقها في كثير من الأحيان والدليل برامج الابتعاث الضخمة لتسد العجز وتتدارك ما يمكن تداركه. نعم هي إمبراطوريات علمية على الورق وجدران أسمنتية تغص بالموظفين الذين يمضون ساعات طويلة من الاجتماعات التي تدرس وتناقش كل شيء إلا النهوض بالمجتمعات .. ميزانيات ضخمة يتم صرفها سنويا على تلك المؤسسات تنتهي برواتب وانتدابات وحملات علاقات عامة. تقنية وأجهزة مهولة يتم جلبها من مصانع الشرق والغرب تنتهي إلى المستودعات وليس إلى المختبرات والمعامل والمشروعات الفكرية والمعرفية والصناعية والمجتمعية ... خسارة.
ماذا لو قررت الجامعات العربية المحترمة، عدم قبول أي طالب أو طالبة قبل حصول (هـ-ها) على درجة التوفل TOEFL في اللغة العربية التي تحددها حسب ما يناسب كل كلية أو قسم من أقسامها؟ نعم توفل ولكن للغة العربية. هذا العام تم قبول ما يقارب 200000 مئتي ألف طالب وطالبة في الجامعات السعودية. ماذا لو أرغمتهم الجامعات السعودية على إجادة اللغة العربية التي تؤهلهم للتعامل مع المرحلة الجامعية سواء في المحاضرات أو في البحوث أو التخصص وحتى التعريب؟. بعضنا ربما سمع بامتحان التوفل وبعضنا قد أجرى هذه الامتحان. ولمن لا يعرفه، فهو امتحان اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية Test of English as Foreign Language يتم بموجبه تقييم لغة غير الناطقين بالإنجليزية، ويحدد هذا الإمتحان مستوى الطلاب الراغبين بالدراسة في الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية حسب الدرجة التي تحددها كل جامعة أو مؤسسة أكاديمية لنفسها. وهو مكون من أربعة أقسام: الاستماع، القواعد، القراءة، الكتابة. وامتحان التوفل نوعان: 1) يتم على الكمبيوتر، 2) يتم بالطريقة التقليدية باستخدام ورقة الإجابة وقلم الرصاص. وعلى عكس توفل اللغة الإنجليزية، الذي يطلب من الطلاب غير الناطقين بالإنجليزية. أرى أن يفرض امتحان
(يُتْبَعُ)
(/)
التوفل العربي على الطلبة العرب المرشحين للدراسة الجامعية كشرط للقبول.
ليس المطلوب من جامعات منفردة أو مجتمعة إيجاد مؤسسة تعنى بمشروع التوفل العربي، وليس المطلوب نظام امتحان توفل خاص بكل جامعة على حدة .. فمشروع التوفل المطلوب يجب أن يأخذ لغة عربية كمواصفة Standard لكل قواعد النحو والصرف واللغة على أن يبدأ المشروع صغيراً ويكبر شيئا فشيئا حتى يصبح معتمدا لكل الجامعات العربية.
في الحقيقة، أنا ضد أن يكون هذا المشروع حكومياً، لأن هذا المشروع لا تحركه إلا المصلحة الاستثمارية وهي الكفيلة بنموه وتجاوزه الروتين والإجراءات وحدود الدول. وكما أن هذا المشروع يجب أن يعم كافة الجامعات العربية وليس بعضها وفق آليات تنظمها المنظمات العربية وفي مقدمتها جامعة الدول العربية. فمن المفيد أن نتذكر أن التوفل الإنجليزي هو في الأساس مشروع استثماري، وهو معتمد الآن في كافة الجامعات التي تدرس بالإنجليزية في العالم أو أغلبها وإن كانت هناك بعض الامتحانات المتخصصة غير التوفل. ويعقد هذا الامتحان في كافة دول العالم متزامناً. هذا التوفل العربي لا يكفي لعلاج قضية تدني مستوى الطلاب العرب في اللغة العربية، ولن يحل مشكلة العربية ما قبل الجامعة ولن يحل مستوى اللغة العربية ما بعد القبول في الجامعة، لكن نسبة 1.25 % من المواطنين وهي 200000 طالب وطالبة كبداية لهذا المشروع وعلى مستوى بلد عربي واحد من بين 22 دولة عربية كفيل بأن ننتظر منه قطف الثمرة. وهذه الآلية واحدة من الآليات التي يجب ابتكارها أو فرضها لمعالجة مشكلة اللغة العربية في عقر دارها. بجانب كل ما تقدم، سيتيح هذا المشروع آلاف فرص العمل لمتخصصي اللغة العربية، وسيكون هذا التخصص عملة نادرة. هذه الفئة التي لا تجد الآن سوى وظيفة التدريس إن وجدوا، ستمتلئ إعلانات الصحف بالبحث عنهم، لكثرة المعاهد والمراكز التي ستتولى تأهيل وتدريب الطلاب.
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=3234&id=13462&Rname=368
يقول فصيحويه:
هذا ما جنيناه حينما يضع مناهج تعليم اللغة العربية من لا فهم له بأصول تصميم المناهج
وهذا ما جنيناه من قوم أكبر همهم أن يناقشوا اختلافات النحاة
من يهتم بلسان شباب وفتيات هذا الجيل؟؟؟؟؟؟؟؟
أجيبوني
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[07 - 08 - 2009, 12:13 م]ـ
اقتراح جميل جداً
ولو أخذت به جامعة الدول العربية والزمت بها الدول العربية لكان خيراً للغة
أشكرك أخي العزيز على هذه الغيرة
وأسأل الله تعالى أن يهيء من يأخذ بهذه الفكرة ويخرجها إلى النور
تحياتي وتقديري
ـ[ضمائر مستترة]ــــــــ[07 - 08 - 2009, 03:19 م]ـ
أشكرلأخينا الكريم فصيحويه اهتمامه الظاهر بمثل هذه القضايا في هذه الشبكة.
والقضية من الخطورة والتعقيد بمكان؛ ولا بد من مناقشتها بشكل موسع. وفي جميع المؤسسات الرسمية والأهلية في جميع بلادنا العربية؛ لنخرج بما ينتشل تعليم لغتنا من الأوضاع الكارثية التي تعيشها.
ويبدو لي أن المشكلة في أساسها سياسية فكرية ثقافية اجتماعية أكثر منها تربوية منهجية.
والمدخل إلى العلاج المعلم لا المنهج؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولم أسمع بمناقشة آراء النحاة مع من لا يحسنون المهارات الأساسية إلا اليوم. وهذا إذا حدث خطأ لا بد من تجنبه. والله المستعان.
أكرر لك شكري على اهتمامك بوصف الداء، فهيا بنا إلى تشخيصه ووصف الدواء.
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[07 - 08 - 2009, 08:49 م]ـ
أشكرك أخي كرم على مرورك الكريم
كما أشكرك أخي ضمائر مستترة على مرورك وتعليقك. أتفق معك أن المشكلة لا يمكن حلها من طرف واحد بل تحتاج إلى أطراف متعددة ومؤثرة.
وتعليقي بعد الخبر وخاصة السطر الثاني منه فالمقصود به هم فئة من أساتذة اللغة العربية في الجامعات العربية لا يلقون بالا لما يجري من ضعف في لغة شباب هذا الجيل ويمضون الأوقات في ترديد الخلافات النحوية التي لا طائل من ورائها.
تحياتي
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[08 - 08 - 2009, 11:17 ص]ـ
يبدو أنني سأرحل من هذا المنتدى فلا أحد يهتم للمواضيع الجادة وكأنه ليس بيننا معلمون ومشرفون للغة العربية ولو كتبت عن خاطرة أو فكاهة لتوالت الردود. سبحان الله!!!
ـ[ضمائر مستترة]ــــــــ[08 - 08 - 2009, 02:25 م]ـ
لا تفعل، أخي الكريم؛ فالقليل إلى القليل كثير، وأنت هنا من أجل هذه اللغة الشريفة لا من أجل القلة أو الكثرة ويكفيك أن يكون استفاد من الموضوع هذا العدد الكبير، ثم إن أكثر رواد المنتديات لا يصبرون على قراءة الموضوعات الطويلة مثل هذا إلا أهل الاهتمام وهم قلة في واد، ولا يمكن التعليق على موضوع دون قراءته في تأن وروية وتفهم. فاصبروا وصابروا ورابطوا والله لعلكم تفلحون. والله المستعان.
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 04:33 م]ـ
بورك فيك أخي الكريم على تثبيتك لأخيك.
عسى الله أن يوفقنا لكل خير.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[عصام محمود]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:00 م]ـ
فكرة ممتازة وسبق لي طرحها على صفحات منتديات مختلفة بل قمت بأخذ فكرة برنامج للمسابقات وعدلته ليصبح فكرة مبسطة تكون نواة مبدئية للتويفل العربي، وعلى الرابط التالي تفاصيل الموضوع
http://www.almaktabah.net/vb/showthread.php?t=14110&highlight=%CA%E6%ED%DD%E1
ـ[ضاد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:08 م]ـ
وماذا سيفعل الطلاب بالتوفل العربية إذا كانوا سيدرسون العلوم بلسان الأمريكان والفرنسيين؟ وإذا كانوا لا يحتاجون العربية في مهنهم؟ وإذا كانوا لا يتكلمونها في حياتهم اليومية إلا عند قراءة القرآن؟
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 06:02 م]ـ
شكرا أخي عصام ولكن مع احترامي لشخصكم الكريم فوضع اختبار عالمي كالتوفل لا يمكن أن يتم عن طريق أفراد بل عن طريق عمل مؤسسي ضخم.
ـ[فصيحويه من جديد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 06:08 م]ـ
وماذا سيفعل الطلاب بالتوفل العربية إذا كانوا سيدرسون العلوم بلسان الأمريكان والفرنسيين؟ وإذا كانوا لا يحتاجون العربية في مهنهم؟ وإذا كانوا لا يتكلمونها في حياتهم اليومية إلا عند قراءة القرآن؟
صدقت مع مبالغتك خاصة وأن من الطلاب من يدرس العلوم الشرعية أو علوم اللغة العربية.
ثم إن الهدف من هذا الموضوع ليس الاختبار بحد ذاته وإنما الحالة اللغوية الراهنة التي أوصلتنا لأن نفكر في وضع اختبار، ولذلك أنا أتساءل هل مناهجنا اللغوية تعمل حقا خاصة وأن المخرجات كما ترى وتعرف؟!!! لماذا لا نعترف بالقصور ونعالجه؟!!! من أين أتى هؤلاء الطلاب الذين لا يحسنون القراءة والكتابة؟!! ألم يدرسوا هذه المقررات؟!! *
دمت بخير أخي الكريم
ـ[عصام محمود]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 08:41 م]ـ
شكرا أخي عصام ولكن مع احترامي لشخصكم الكريم فوضع اختبار عالمي كالتوفل لا يمكن أن يتم عن طريق أفراد بل عن طريق عمل مؤسسي ضخم.
هي مجرد فكرة أو بدائية لا أكثر
ـ[المدرس اللغوي]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 09:22 م]ـ
الموضوع مهم ,وهناك مشكلة أخرى تتعلق بذات الموضوع, وتتخلص في عدم تقنين اختبار (توفل) لمتعلمي اللغة العربية من الناطقين بلغات أخرى مماثل لما في اللغات الأخرى, كالإنلجيزية ,وغيرها.
ـ[أنوار]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 09:55 م]ـ
الثمار لا تجنى بيوم وليلة .. بل تحتاج لغرس ورعاية ..
دور العلم لم تغرس حب العلم في الصغار بقدر ما غرس بهم ذاكر لتنجح وتكون من أوائل الصف ولتنال وظيفة مرموقة وكفى .. لم تعن بالناحية المعنوية بقدر ما عني بالناحية المادية
أتعجب من الأطفال اليابانيين .. وطول مدة الدراسة اليومية .. وشغفهم بالعلم .. حتى أن مرحهم في أوقات الفراغ لا يخلو من العلم ..
ـ[كعب بن زهير]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 12:25 ص]ـ
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
فكرة رائعة تعطي للغة العربية المكانة والإحترام
شكر الله سعيك
ـ[سيبوبه سبيع]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 06:39 ص]ـ
أشكرلأخينا الكريم فصيحويه اهتمامه الظاهر بمثل هذه القضايا في هذه الشبكة.
والقضية من الخطورة والتعقيد بمكان؛ ولا بد من مناقشتها بشكل موسع. وفي جميع المؤسسات الرسمية والأهلية في جميع بلادنا العربية؛ لنخرج بما ينتشل تعليم لغتنا من الأوضاع الكارثية التي تعيشها.
ويبدو لي أن المشكلة في أساسها سياسية فكرية ثقافية اجتماعية أكثر منها تربوية منهجية.
والمدخل إلى العلاج المعلم لا المنهج؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولم أسمع بمناقشة آراء النحاة مع من لا يحسنون المهارات الأساسية إلا اليوم. وهذا إذا حدث خطأ لا بد من تجنبه. والله المستعان.
أكرر لك شكري على اهتمامك بوصف الداء، فهيا بنا إلى تشخيصه ووصف الدواء.
خير الكلام ما قل ودل(/)
إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[08 - 08 - 2009, 03:26 ص]ـ
إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة
الشيخ محمد حسان
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده
ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران/102.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) النساء/1.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) الأحزاب70/ 71.
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى نبينا محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد ..
فحياكم الله جميعا أيها الأخوة الأخيار، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفي في جنته ودار مقامته إنه ولى ذلك ومولاه ..
أحبتي في الله: كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا اليوم مع سورة الحجرات كعادتنا لكنني استخرت الله عز وجل في أن يكون هذا اللقاء بمثابة المقدمة والتوطئة بين يدي رمضان والله أسأل أن يبلغنا رمضان وأن يبارك لنا فيه.
فمن الحتم اللازم على أهل العلم أن يهيئوا النفوس الشاردة وأن يهيئوا القلوب الغافلة لاستقبال هذا الشهر الكريم، وهذا الموسم العظيم إنه ربيع أمة سيد النبيين
واسمحوا لي أن أدع الأمر هكذا لفضل الله تبارك وتعالى دون ما تحديد لمجموعة من العناصر أو المحاور كما اعتدت في الغالب، فإنا نترك الأمر لفضل الله جل وعلا، والله أسأل أن يتكرم علينا بفضله ورحمته، إنه ولى ذلك والقادر عليه ..
أيها الحبيب اللبيب:
المؤمن يفرح بقدوم شهر رمضان، أما المنافق يتأذى كل الأذى بقدوم شهر رمضان، هاهو ترمومتر حساس دقيق، يستطيع الآن كل مسلم أن يقيس به إيمانه من عدمه أو من ضعفه، المؤمن يفرح بمواسم الطاعة، يفرح بمواسم الخير، لأن المؤمن الصادق لا يفرح إلا بفضل الله، وهل هناك فضل يفوق فضل الله تبارك وتعالى علينا في هذا الشهر العظيم الكريم الذي فرض علينا صيامه وسن لنا نبينا قيامه؟ لا والله.
فلقد اصطفى ربنا شهر رمضان من بين سائر الشهور فكرمه، إذ أنزل فيه القرآن وفرض على الأمة صيامه، وكلف نبيه أن يسن للأمة قيامه، الفرح الحقيقي ليس في المال، ليس في الجاه والغنى والسلطان، ليس في الدنيا وبكن الفرح الحقيقي في فضل الله تبارك وتعالى قال جل جلاله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/58)
أرأيت لو غاب لك حبيب، لو سافر ولدك للدراسة هنا أو هنالك وغاب عن عينك شهوراً طويلة عاما إلا قليلا، وهاهو يتصل عليك، ليبشرك بقدومه كيف سيكون استقبالك لحبيبك؟ كيف يكون استقبالك لولدك الغائب عن عينك وبصرك؟ أتصور أن الفرحة لا يستطيع بليغ أديب أن يعبر عنها أو أن يجسدها، فالمؤمن الصادق يستقبل هذا الغائب الذي يأتيه في العام مرة واحدة يستقبله استقبالاً يليق بقدر هذا الشهر عند الله، يستقبله بحفاوة بالغة وبفرحة شديدة عارمة ولم لا وهو ربيع الأمة وموسم الخير، وشهر البركات والطاعات، الذي سيقربه إن صدق إلى رب الأرض والسماوات؟.
تدبر معي أيها الحبيب اللبيب قول رسول الله والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " أكررها عليك قال الصادق: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " ([1])
وفي لفظ مسلم: " فتحت أبواب الرحمة " ([2])
وفي لفظ الترمذي والبهيقي: " إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى مناد: ياباغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة حتى ينقضي رمضان " ([3])
لا إله إلا الله فتحت أبواب الجنة أقسم بالله: محروم ومخذول، من يفتح له الله أبواب الجنة ولا يسابق الأنفاس، ليدخل أبوابها محروم، من يفتح الله له أبواب الرحمة دون أن يزج بنفسه في رحمات الرحمن جل وعلا، أبواب الجنة تفتح في أول يوم، أبواب الرحمة تفتح في أول يوم، فمحروم مخذول من لا يدخل من هذه الأبواب. متى ستدخل الأبواب إن لم تدخلها الآن؟ أبواب الجنة مفتحة، وأبواب الرحمة مفتحة وما أدراك ما الجنة؟ وما أدراك ما الرحمة؟ سؤالان أجيب عليهما باختصار شديد وإلا، فإن الجواب على واحد منهما يحتاج ورب الكعبة إلى اللقاء بطوله: ما أدراك ما الجنة؟ التي سيفتح الله لك أبوابها مع أول يوم من أيام رمضان
يتبع بإذن الله
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[11 - 08 - 2009, 01:48 ص]ـ
الجنة لن أصف نعيمها، ولن أقف مع قصورها، ولن أصف لكم حريرها، ولا حورها ولا ذهبها ولا فضتها، ولا حريرها ولا نعيمها، إنما سأقف فقط مع حديثين اثنين للنبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif يبين فيهما نبينا آخر رجل يدخل الجنة ويبين فيه أدنى منزلة في الجنة.
الأول: رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif
قال: " آخر رجل يدخل الجنة من أمتي يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة – يعني ينكفئ على وجهه مرة – وتسفعه النار مرة فإذا نجاه الله وعبر الصراط التفت إلى النار من خلفه وهي تضطرم قال: تبارك الذي نجاني منك الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين من خلقه " وهو آخر رجل سفعته النار على الصراط قال http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif : " فيرفع الله له شجرة "
وأرجو أن تتصور أيها الحبيب شجرة غرسها ملك الملوك " فيرفع الله له شجرة " وحتى لا يجنح خيالك إلى شجرة أهل الأرض أو إلى شجر الدنيا فكن على يقين بأن ساق كل شجرة في الجنة، ليس من الخشب، وإنما من الذهب نعم " يرفع الله له شجرة، فيقول العبد: أي رب أدنني قربني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الرب جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها تسألني غيرها فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيرها فيدنيه الله منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها " قال الحبيب http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif: " ثم يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى فيسكت العبد ما شاء الله له أن يسكت ثم يقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فيقول الله جل وعلا: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها فيقربه الحق جل وعلا منها " يقول الحبيب: " ثم يرفع الله له شجرة على باب الجنة هي أحسن من الأوليين " قال الصادق: " فيقول العبد أي رب أدنني من هذه الشجرة " فيقول الله جل وعلا (يقول الحبيب http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif : وربه يعذره، لأنه يرى ما لا يصبر عليه) فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها فيدنيه الله منها فإذا اقترب منها وهي على باب الجنة ونظر إلى ما أعد الله فيها لأوليائه من النعيم المقيم سكت العبد ما شاء له أن يسكت ثم قال: أي رب أدخلني الجنة فيقول الرب الكريم: عبدي ما الذي يرضيك مني؟ أترضي أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا ".
وهنا يضحك ابن مسعود ويسأل الصحابة: لما لا تسألوني: مم أضحك؟ قالوا: مما تضحك يا ابن مسعود " قال: أضحك لضحك رسول الله http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif فما حدث بذلك ضحك فسألناه: مما تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة (1 ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn4)).
لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك (كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/11) أضحك لضحك رب العزة حينما يقول الرب للعبد: " أترضى أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا فيقول العبد للرب الكريم: أتهزؤ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك الرب من عبده ويقول: أنا لا أهزؤ بك ولكني على ما أشاء قادر "
هذا آخر رجل يدخل الجنة فما هي أدنى منزلة في الجنة؟ الحديث رواه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن نبينا http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif قال: " سأل موسى بن عمران ربه جل وعلا: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال الرب جل وعلا لموسى: ذاك رجل يجيء بعدما دخل الناس الجنة ونزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم " فيقول له الرب الكريم: " أدخل الجنة فينطلق ثم يرجع إلى الله فيقول: يا رب لقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم – يعنى لا يجد له مكانا بزعمه – لقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم " فيقول الكريم جل وعلا: " أترضى أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا فيقول العبد: رضيت يا رب فيقول الرب: لك ذلك وفقط
(يُتْبَعُ)
(/)
؟ لا لك ذلك _ أي لك ملك ملك من ملوك الدنيا _ لك ذلك في الجنة ومثله – أي ضعفه – ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول العبد في المرة الخامسة وربه يقول ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله يقول العبد: رضيت يا رب رضيت يا رب فيقول الرب الكريم: " لك ذلك وعشرة أمثاله معك ولك ما اشتهت نفسك وقرت عينك قال موسى: يا رب هذا أدنى أهل الجنة منزلة فما أعلاهم منزلة؟ قال الرب الكريم: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر" (1 ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn5))
فتحت أبواب الجنة، يا مسكين، سابق اطرق هذا الباب، ولا تمل حتى يفتح لك الملك حتى تلج الباب وإن ولجت الباب ورب الكعبة سعدت سعادة لا شقاء بعدها أبدا.
فتحت أبواب الجنة وما أدراك ما الجنة؟ أنا ما وصفت الجنة وإنما بينت لك منزلة آخر رجل يدخل الجنة وأدنى منزلة في الجنة وأنا لا أعلم هل يا ترى هذا الرجل هو صاحب هذه المنزلة أم لا، الله جل وعلا أعلم.
فتحت أبواب الرحمة، الله، وما أدراك ما الرحمة؟ إنها رحمة الرحمن إنها رحمة الرحيم، إنها رحمة الغفور، إنها رحمة اللطيف، إنها رحمة الله فتحت أبواب الرحمة.
والله، والله، لو تدبرت ووقفت على سعة رحمة الله وعرفها كل أحد على وجه الأرض ما قنط كافر على الأرض من رحمته والله لو عرفنا رحمة الرحمن ما قنط كافر على الأرض من رحمته أبداً قال جل وعلا: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء) (الأعراف/156) يا رب ونحن شيء في كونك وملكك فلتسعنا رحمتك يا أرحم الراحمين.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif قال: " لما خلق الله الخلق كتب في كتاب هو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي " (2 ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn6)) وفي لفظ " إن رحمتي سبقت غضبي ".
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif قال: " جعل الله الرحمة مائة جزء " تصور الرحمة " فأمسك عنده تبارك وتعالى تسعة وتسعين جزءا وأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً فمن هذا الجزء " من مائة جزء من رحمة الله من هذا الجزء الذي أنزله الله الأرض " تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" ([4] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn7)) أما استوعبت هذا الكلام النبوي، هل رأيت يوماً دابة من الدواب ترفع حافر
رجلها عن ولدها حتى لا تصيبه، خشية أن تؤذيه؟ هل رأيت هذه المشاهد الرقراقة من مشاهد الرحمة في الكون؟ هل رأيت غنياً يرحم فقيراً في صورة جميلة رقيقة؟ ثم هل رأيت طبيباً رحيماً يرحم مريضاً يتألم؟ ثم هل رأيت رجلاً يرحم كلباً فيقدم له ماءاً أو طعاماً؟ ثم هل رأيت أماً رحيماً ترحم ولدها وتضم ولدها إلى صدرها؟ ثم هل رأيت والدا رحيماً كريماً يخرج الطعام من فمه ليطعم به ولده الصغير أو الكبير؟.
يا لها من مشاهد! إنها مشاهد الرحمة في الكون، إنها مشاهد العطف في الكون، كل هذه المشاهد وغير هذه المشاهد من صور الرحمة في الكون ومن بينها رحمة المصطفى محمد http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif وهذا موضوع طويل جليل لا أريد أن أفتح الباب في الحديث فيه وإلا فوالله لا يتسع له الوقت بل ولا العمر رحمة المصطفى http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif رحمته بالنساء، رحمته بالأطفال، رحمته بالشيوخ، رحمته بالحيوان، رحمته حتى بأهل المعصية.
(يُتْبَعُ)
(/)
رحمة الحبيب http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif إنما هي جزء من جزء من مائة جزء من رحمة الرحمن الرحيم جل وعلا، لذا يقول ربنا جل جلاله في الحديث القدسي الجليل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه – عن رسول الله http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif عن رب العزة قال: " أذنب عبدي ذنباً – فقال أي العبد: رب اغفر لي ذنبي " قال الله تبارك وتعالى: " أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب " ثم عاد العبد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال الرب تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب "- ثم أذنب العبد ذنباً – أي ثالثاً – فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال الرب تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فليفعل عبدي ما يشاء فقد غفرت له " ([5] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn8))
هذا حديث يفتح لنا باب الرجاء، لا باب الجرأة على الله، لا بل من عرف الله أحبه، ومن عرف الله خافه، فالحديث لا بفتح لنا أبواب الجرأة على المعصية، كلا بل يفتح لنا أبواب الرجاء وأبواب الرحمة فالمؤمن الصادق يسير إلى الله بين هذين الجناحين، جناح الرجاء والخوف، بجناح الحب والوجل.
ففي صحيح البخاري أن عثمان بن مظعون http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/radia-icon.gif لما مات قالت أم العلاء – امرأة من الأنصار – قالت: رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك أن الله أكرمك – تقصد عثمان بن مظعون – ولما لا؟! وعثمان بن مظعون هو أول من لقب بالسلف الصالح؟ وعثمان بن مظعون هو أول من دفن بالبقيع وعثمان بن مظعون ممن شهدوا بدرا؟.
وعثمان بن مظعون كما في مسند أحمد – ومن أهل العلم من ضعف سند هذه الرواية، لكن الراجح أن السند حسن بشواهده: لما مات ذهب إليه النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif فقبل النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif عثمان بن مظعون، حتى سالت دموع النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif على خدي عثمان http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/radia-icon.gif فلما مات قالت أم العلاء: شهادتي عليك أن الله أكرمك فقال الحبيب http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif : " وما يدريك أن الله أكرمه؟ قالت: سبحان الله فمن يا رسول الله؟ فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم عثمان بن مظعون؟! فقال النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif أعرف الخلق بالرب قال: " أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير " ثم قال " والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي
ولا بكم " ([6] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn9))
فالعبد السائر إلى الله جل وعلا يسير بين جناحين: الخوف والرجاء قال الرب: أذنب عبدي ذنبا فعل أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فتب إلى الله جل وعلا كلما أذنبت، وكلما زلت قدمك في بؤرة معصية وكلما جذبت أشواك الآثام ثوبك، فما عليك إلا أن تطهر الثوب بدموع التوبة والأوبة وأن تغتسل بدموع التوبة وأن ترجع إلى الله جل وعلا وأنت على يقين بأن الحق سبحانه سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/53) قال المصطفي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم " ([7] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn10))
(يُتْبَعُ)
(/)
قال جل وعلا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/133) من المتقون؟ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) (آل عمران/134 - 135) هذا هو المراد، إياك أن تصر على ذنب، ولو كان صغيرا، إياك أن تصر على معصية ولو كانت صغيرة لكن إن ضعفت لبشريتك ووقعت في الذنب والمعصية فما عليك إلا أن تجدد التوبة بعد كل ذنب واعلم بأن الله لا يمل حتى تمل.
ومن أعظم صور الرحمة أن فرض الله علينا رمضان لنصوم أياماً من أعظم صور الرحمة تدبر معي قول النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif : " إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن" ([8] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn11)) إذن لماذانرى من يشرب الخمر وربما من يزني ويسرق ويسب كيف يحدث ذلك وقد صفدت الشياطين؟ كيف يقع ذلك وقد سلسلت مردة الجن؟.
انتبه لتعلم أن كل هذا بسبب عدو شرس بين جنبيك قلما تنتبه إليه إنها النفس الأمارة بالسوء (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف/53) ومن ثم فرض الله علينا صيام هذا الشهر بطوله لتزكو هذه النفوس، لتهذب بهذه المدرسة الإيمانية الكبرى نفوسنا، لنزكى نفوسنا لنزكى أخلاقنا.فالصيام تهذيب للنفس، وترويض للنفس، الصيام يفطم النفس عن شهواتها، ويفطم النفس عن شبهاتها، ومن ثم لو تدبرت الصيام لسجدت لله شكرا أن فرض الله على الأمة صيام هذا الشهر.
فالله غني عنا لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، بل لو وحد أهل الأرض ربهم جل وعلا ما زاد في ملكك الله شيئاً، ولو كفر أهل الأرض ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً.
الله جل وعلا فرض علينا الصيام ليزكى به النفوس، ليهذب به الأخلاق ليزكى به الضمائر، إذا اشتهت نفسك الطعام وهو بين يديك لا إذا اشتهت نفسك المرأة الحلال زوجتك، وهي بين يديك في حجرة واحدة، لا إذا سابك أحد أو قاتلك:
اللهم إني صائم.
فالصيام من أعظم صور الرحمة من الله جل وعلا بأمة الحبيب http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif لذا قال ربنا في الحديث القدسي في الصحيحين: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به والصيام جُنة – أي وقاية – فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر: فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" ([9] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn12)) اللهم فرحنا يوم لقياك – " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ([10] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn13)).
والحديث في الصحيحين، ورب الكعبة إنه من أعظم وأرق صور الرحمة بالأمة، فعرض نفسك لرحمة الله سبحانه وتعالى، وأنت في غاية الرضا عن الله وفي غاية الفرح بربيع أمة رسول الله بموسم الخير، وشهر الطاعة والبركات والرحمات.
كيف نعرض أنفسنا في هذا الشهر لرحمة الله؟.
خذ هذا البرنامج العملي وأسأل الله أن يعينني وأن يعينك عليه: أول خطوة أذكر نفسي وإخواني بها أن يتخذ القرار بصدق ورجولة وأن يمنعوا أنفسهم من قتل الوقت أمام الفضائيات لو سلمت بصرك وقلبك للفضائيات سيضيع شهرك وإن شئت فقل وأنت صادق: سيضيع عمرك إن استسلمت لجهاز البحث عن القنوات عبر هذه الفضائيات ضاع ليلك يا مسكين وضاع نهارك يا محروم واعلم بأن كل دقيقة تمر عليك في الدنيا إنما هي عطاء من الله ونعمة من الله، الله ينظر إليك ماذا أنت صانع بها.
روى البخاري وغيره من حديث ابن عباس http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/radia-icon.gif أن النبي http://ww2.mohamedhassan.org:8000/images/salla-icon.gif قال: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" ([11] ( http://www.mohamedhassan.org/RTB/AddWrittenDataRTB.aspx?hCategoryID=14#_ftn14)).(/)
من هدايا أبو حسين!
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 08 - 2009, 08:35 ص]ـ
http://www.islammemo.cc/akhbar/arab/2009/08/07/86177.html
وبغض النظر عن صحة الخبر أو عدم صحته فتوالي الضربات الأمريكية على منازل الموحدين من أبناء القبائل الباكستانية والأفغانية، وتحريض الجيش الباكستاني على نقض المعاهدة التي أبرمتها الحكومة مع مقاتلي وادي سوات، وهو ما ترجم في أرض الواقع إلى تلك الحملة المفاجئة التي شنها الجيش وأدت إلى تشريد أعداد هائلة من أبناء المنطقة لم تف أمريكا لحاكم باكستان، أو بعبارة أدق: محافظ ولاية باكستان التابعة إداريا للبيت الأبيض، لم تف له بالوعود التي قطعتها لاحتواء الأزمة الإنسانية الناجمة عن تلك المعركة المفتعلة بعد توقيع المعاهدة التي كانت كفيلة بحقن دماء المسلمين وهو أمر لا يسر واشنطن التي تريد حربا بالوكالة، وبطائراتٍ بلا طيار، وهذه هدايا: باراك أوباما، أو: أبو حسين!، كما سماه بعض أهل العلم ممن يظن فيهم الفضل وهم لذلك أهل، ولكنهم وقعوا في شراك خطابات أوباما الدعائية فلسان طويل بلا فعل، وهو لا يعدو عند التحقيق أن يكون: مرتدا حربيا مجاهرا بالعداوة لأهل الإسلام، فذلك اسمه الشرعي، إذ ليس الحكم على المكلفين موكولا إليهم، وإنما تستمد الأسماء والأحكام من نصوص الوحي، وفعله بالردة وتبنيه لخيار الحرب الظالمة على الموحدين في بلاد الباكستان والأفغان قد جعلاه أهلا لذلك الاسم وإن أحرج بعض أهل الإسلام من إطلاقة لئلا ينبز بالتعصب وكراهية الآخر!.
واللافت في تلك النازلة:
دور جيوش الدول الإسلامية في إدارة الحروب بالوكالة، وهي جيوش يسيطر عليها في الغالب: العلمانيون، أو المنحرفون عقديا كالجيش الباكستاني الذي تسيطر على قيادته الطائفة الإسماعيلية المارقة، بل رأس الدولة نفسه من تلك الطائفة مع كونها أقلية ضئيلة من الشعب الباكسناني المسلم ملة السني نحلة.
ولم يكن للجيش الباكستاني دور فاعل إلا إبان حكم الجنرال محمد ضياء الحق، رحمه الله، فهو من القلائل من أهل السنة الذين استطاعوا قيادة الجيش وقيادة الدولة بعد ذلك قبل اغتياله في حادث الطائرة الشهير، وهي تجربة لم تتكرر بعد ذلك، إذ كان الجنرال التالي من أسوأ حكام باكستان قبل التخلص منه وإلقائه في سلة المهملات.
أو يسيطر على تلك الجيوش أحيانا كفار أصليون كالنصارى الذين كشروا عن أنيابهم العسكرية في أحداث شمال نيجيريا الأخيرة، بغض النظر عن الحكم الشرعي في تلك الأحداث وهل كانت المصلحة الشرعية بكف اليد آكد من حمل السلاح في مواجهة غير متكافئة بالمرة مع جيش مجهز يتولى قيادته ويسيطر على أركانه نصارى الجنوب الذين استأثروا بخيرات البلاد واستولوا على السلطة الفعلية فيها مع كون المسلمين فيها أغلبية في كثير من الإحصائيات غير الرسمية، وقد كانت همجية الجيش النيجيري في القضاء على حركة: "بوكو _ حرام" وقتل كثير من أفرادها بعد استسلامهم تشفيا، نحو: 800، ودفنهم في مقابر جماعية بعد تسوية مقرهم بالأرض، وهدم أحد مساجدهم أخيرا، كان ذلك هدية جديدة من هدايا الآخر للمسلمين!. ولك أن تتخيل لو كانت تلك الجماعة نصرانية في بلد إسلامي وتعاملت معها السلطات بنفس الوحشية، هل كانت واشنطن راعية حقوق الإنسان ستلتزم الصمت كما التزمته في تلك الأحداث؟!.
وإلى الله المشتكى.
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:08 م]ـ
نعم
وإلى الله المشتكى
ولا حول ولا قوة إلا بالله والله المستعان(/)
زادت حسرتي لما سمعت المنادي يتوعدني بالعذاب
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 12:44 ص]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
قصة قرأتها .... وأحببتُ .... نقلها لكم ....
قصة تائب
شاب يافع، لديه طموح الشباب، كان يعيش مثل بعض أقرانه لايأبهون بأوامر الله، وذات ليلة أراد الله به خيراً، فرأى في المنام مشهداً أيقظه من غفلته، وأعاده إلى رشده ..
يحدثنا هذا الشاب عن قصته فيقول:
في ليلة من الليالي ذهبت إلى فراشي كعادتي لأنام، فشعرت بمثل القلق يساورني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ونمت، فرأيت فيما يرى النائم، أن شيئاً غريباً وضخماً قد وقع من السماء على الأرض .. لم أتبين ذلك الشيء ولا أستطيع وصفه، فهو مثل كتلة النار العظيمة، رأيتها تهوي فأيقنت بالهلاك .. أصبحت أتخبط في الأرض، وأبحث عن أي مخلوق ينقذني من هذه المصيبة .. قالوا هذه بداية يوم القيامة، وأن الساعة قد وقعت، وهذه أول علاماتها .. فزعت وتذكرت جميع ماقدمت من أعمال الصالح منها والطالح وندمت أشد الندم .. قرضت أصابعي بأسناني حسرة على مافرطت في جنب الله .. قلت والخوف قد تملكني ماذا أفعل الآن؟ وكيف أنجو؟ .. فسمعت مناديا يقول: اليوم لاينفع الندم .. سوف تجازى بما عملت .. أين كنت في أوقات الصلوات؟ أين كنت عندما أتتك أوامر الله؟ لم تمتثل الأوامر وتجتنب النواهي؟ كنت غافلا عن ربك .. قضيت أوقاتك في اللعب واللهو والغناء، وجئت الآن تبكي .. سوف ترى عذابك ..
زادت حسرتي لما سمعت المنادي يتوعدني بالعذاب .. بكيت وبكيت ولكن بلا فائدة .. وفي هذه اللحظة العصيبة استيقظت من نومي .. تحسست نفسي فإذا أنا على فراشي .. لم أصدق أني كنت أحلم فقط حتى تأكدت من نفسي .. تنفست الصعداء، ولكن الخوف مازال يتملكني، ففكرت وقلت في نفسي والله إن هذا إنذار لي من الله .. ويوم الحشر لابد منه .. إذن لماذا أعصي الله .. لم لا أصلي .. لم لا أنتهي عما حرم الله .. أسئلة كثيرة جالت في خاطري حتى تنجو في ذلك اليوم العظيم.
أصبح الصباح وصليت الفجر، فوجدت حلاوة في قلبي .. وفي ضحى ذلك اليوم نزلت إلى سيارتي .. نظرت بداخلها فإذا هي مليئة بأشرطة الغناء .. أخرجتها واكتفيت ببعض الأشرطة الإسلامية النافعة .. بقيت على هذه الحال، في كل يوم أتقدم خطوة إلى طريق الهداية التي أسال الله أن يثبتني وإياكم عليها!!
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 01:01 ص]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
لقد أثّر فيَّ هذا الموقف ... عندما تجولت على الشبكة العنكبوتية .... وجدتُ إحدى المنتديات الإسلامية ... قد مات عضوٌ فيها .... سبحان الله ... الكل يعزي ... فتذكرت .... نحن إذا متنا
فسوف تشهد علينا .... هذه الكتابات ... فاحرصوا على ألا تكتبوا ... شيئاً .... يغضب الله .....
الخط يبقى بعد صاحبه. فخط بيدك ما تسر أن تراه بعد الرحيل
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 01:52 ص]ـ
لا حول ولا قوة إلا بالله
اللهم أغفر لنا
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 11:19 ص]ـ
لا حول ولا قوة إلا بالله
اللهم أغفر لنا
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزاك الله خير ....... أختي الحبيبة ..... وليدة ساعة وأديبة ساعة .... أشكر مرورك الطيب
ـ[أمة الله الواحد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 11:45 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا
ـ[احمد السنيد]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 12:37 م]ـ
جزاك الله خيرا
لعل مثل هذه القصص توقض المشاعر عند الشباب
وتحركهم للعودة الى دينهم
(لعمري لقد بادت قرون كثيره .... وانت كما باد القرون تبيد)
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:35 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
لقد أثّر فيَّ هذا الموقف ... عندما تجولت على الشبكة العنكبوتية .... وجدتُ إحدى المنتديات الإسلامية ... قد مات عضوٌ فيها .... سبحان الله ... الكل يعزي ... فتذكرت .... نحن إذا متنا
فسوف تشهد علينا .... هذه الكتابات ... فاحرصوا على ألا تكتبوا ... شيئاً .... يغضب الله .....
الخط يبقى بعد صاحبه. فخط بيدك ما تسر أن تراه بعد الرحيل
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
التعديل الأخير تم بواسطة أبو طارق ...... جزاك الله خير ... على تعديل الأخطاء النحوية
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:37 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
أختي الحبيبة ..... نور القمر .... جزاك الله خير ... وأشكر لكِ مرورك الطيب
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 08 - 2009, 05:41 م]ـ
جزاك الله خيرا
لعل مثل هذه القصص توقض المشاعر عند الشباب
وتحركهم للعودة الى دينهم
(لعمري لقد بادت قرون كثيره .... وانت كما باد القرون تبيد)
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
جزاك الله خير .... على هذه الإضافة القيمة ..... ما أحوجنا جميعا ... أن ننتبهه لأنفسنا ....
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .... ويا مصرف القلوب والأبصار اصرف قلوبنا على طاعتك .... آمين
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 01:11 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيرا أختي الكريمة الزهرة المتفائلة على هذه القصة التي توقظ الغافل من غفلته وتذكره بالموت فالناس يحبون الدنيا وينسون الآخرة يحبون القصور وينسون القبور أملهم طويل وأجلهم قصير ...
اللهم اهدنا لما تحبه وترضاه وثبتنا عليه وبلغنا رمضان ولا تحرمنا خيره وفضله
اللهم آمين ..
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 11:34 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيرا أختي الكريمة الزهرة المتفائلة على هذه القصة التي توقظ الغافل من غفلته وتذكره بالموت فالناس يحبون الدنيا وينسون الآخرة يحبون القصور وينسون القبور أملهم طويل وأجلهم قصير ...
اللهم اهدنا لما تحبه وترضاه وثبتنا عليه وبلغنا رمضان ولا تحرمنا خيره وفضله
اللهم آمين ..
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزاك الله خير .... على هذه الإضافة القيمة .... انغمسنا في هذه الدنيا ... ويومنا كأمسنا ... ما نفعله اليوم نفعله غداً ...
متى نغير حياتنا هذه .... فمنّا ... يصلي ... وقلبه بهذه الدنيا .... فلم يعد يعرف كم صلّى ... قلبه ... يعيش خارج ... الصلاة ... ويترك من هو أهم ... ألم يعرف أنه أمام خالقه ...
انتشرت الأوبئة .... أولا انفلونزا الطيور ... جنون البقر .... وأخيراً انفلونزا الخنازير ... الذي انتشر ... كانتشار النار في الهشيم .....
ألم تتعظ أيها الإنسان بعد .... ؟؟
كل يوم ربكَ .... يرسل لكَ رسائل ربانية .... وأنتَ ما زلتَ ... تلهو وتلعب ... !
نسأل الله أن يرحمنا برحمته .....
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:54 م]ـ
رائعة أختى زهرة
بارك الله فيكِ
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 09:28 م]ـ
رائعة أختى زهرة
بارك الله فيكِ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: ـ
أختي الحبيبة .... يا حامل القرآن .... كلماتك ومرورك هو الأروع .... جزااااك الله خير(/)
أهل القرآن ...... هلموا
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 12:38 ص]ـ
فضل تلاوة وحفظ القرآن من السنة النبوية
إتباع السنة:-
حفظ القرآن سنّة متبعة, فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حفظ القرآن الكريم بل وكان يراجعه جبريل عليه السلام في كل سنة.
الخيرية:-
* قال رسول الله: قال الله تعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. أخرجه الترمذي والبيهقي , وضعفه الألبانى
* قال رسول الله: إن لله أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته رواه الإمام أحمد
قال رسول الله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه رواه البخاري
* قال رسول الله: لا حسد إلا في اثنتين
: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتفقه آناء الليل وآناء النهار
متفق عليه
الرفعة فى الدنيا:-
* عن عمر بن الخطاب أن النبى قال:-إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين"رواه مسلم
الريح الطيبة فى الدنيا:-
مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن
مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر
البيوت وأهل السماء:-
* اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبورا كما اتخذت اليهود والنصارى في بيوتهم
قبورا وإن البيت ليتلى فيه القرآن فيتراءى
لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض (صحيح)
طرد الشيطان من منازلنا:-
* إن لكل شيء سناما و سنام القرآن سورة البقرة،
و إن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ،
خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة (حسن)
جلاء صدأ القلوب:-
فى الحديث الشريف "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"فقيل يا رسول الله فما جلاؤها؟ فقال "تلاوة القرآن وذكر الموت"
البشرى العاجلة:-
قال رسول الله:"إقرأوا القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن وإن القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن ومن أحب القرآن فليبشر"موقوفاً على عبد الله بن مسعود
كنوز من الحسنات:
* قال رسول الله: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف. رواه الترمذي وأخرجه البخاري.
تعلمه أو تعليمه خير من الدنيا:-
ففي الحديث: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل»
تستحق به التوقير و التكريم:_
لما جاء في الحديث: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه .. » الحديث
نسأل الله به الجنة:
* تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا؛ فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به ورجل يستأكل به ورجل يقرأه لله (صحيح)
حسن أم سوء خاتمة
معك فى القبر:-
* يؤتى الرجل في قبره فإذا أتي من قبل رأسه دفعته تلاوة القرآن وإذا أتي من قبل يديه دفعته الصدقة وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد) حسن (
علو الدرجات يوم القيامة له ولوالديه ويشفع لعشرة من اهله:-
* قال رسول الله: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به فهو مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه فله أجران. متفق عليه.
* قال رسول الله: يقال لصاحب القرآن
اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك
عند آخر آية تقرؤها حديث حسن صحيح
ويقال في تفسير هذا الحديث أن المقصود به هو الحافظ للقرآن
* يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن يا رب حله
فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول
يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة (حسن)
فائدة لأهله:-
* يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك واظميء هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها فيقولان: يا رب أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن. وإن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة: اقرا وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية معك (صحيح)
* قال رسول الله: من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل بهذا"وضعفه الألبانى
* قال رسول الله: من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من. أهل بيته كل قد وجبت لهم النار
قائدنا إلى الجنة:-
* القرآن شافع مشفع و ماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة و من جعله خلف ظهره ساقه إلى النار (صحيح)
شفيعنا يوم القيامة:-
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه».
نجاة من النار:-
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» رواه أحمد.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 12:42 ص]ـ
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
جئت إليكم آل الفصيح بدعوة لحفظ كتاب الله
والسبيل لذلك:
الاستعانه وإخلاص النوايا لله عز وجل
تعلم التجويد ولله الحمد فى بلادنا كثير من دور للحفظ القرآن
وإذا لم يتوفر لديكم مقرأه تتبعوا تعليم التجويد من هنا بإذن الله:-
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48556 (http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48556)
يتبع
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 12:44 ص]ـ
تقوم الفكرة على أساس حفظ القرآن كاملا خلال الفترة المحددة مع حرية اختيار:
1. المكان
2. الوقت
3. الجزء
ملاحظات أولية:
يجب أن يكون الحفظ من مصحف الحفاظ "كل صفحة بها خمسة عشر سطرا " للأسباب الآتية:
1. لأنه يبدأ بأول الآية وينتهي بآخر الآية في نفس الصفحة مما يساعد على التركيز في الحفظ
2. لأن كل20 صفحة تساوي جزءا كاملا (عدا جزء عم) وهذا موافق لطريقة الحفظ
3. يقصد بالصفحة وجه واحد فقط
طريقة الحفظ:
1. أن يحفظ الشخص في كل يوم صفحة واحدة فقط
2. بعد حفظ خمس صفحات يكون اليوم السادس للمراجعة،وهكذا حتى نهاية الجزء
3. بعد حفظ جزء كامل تخصص أربعة أيام لمراجعة الجزء المحفوظ
4. بعد حفظ خمس أجزاء (حسب الطريقة السابقة) تخصص عشر أيام لمراجعة الأجزاء الخمسة المحفوظة
5. عند إتمام حفظ عشر أجزاء تخصص خمسة عشر يوما لمراجعة الأجزاء العشر
6. عند إتمام حفظ خمسة عشر جزء تخصص خمسة وعشرين لمراجعة الأجزاء المحفوظة
7. عند حفظ عشرين جزء تخصص ثلاثين يوما للمراجعة الشاملة لمراجعة الأجزاء المحفوظة
8. عند حفظ خمسة وعشرين جزء:0تخصص خمسة ثلاثين يوما للمراجعة الشاملة لمراجعة الأجزاء المحفوظة
9. عند إتمام حفظ القرآن كاملا تخصص خمسة و أربعين يوما للمراجعة الشاملة
10. بهذه الطريقة تكون قد حفظت القرآن في 1000 يوم.
مقترحات للحفظ:
1. لك حرية اختيار الجزء الذي تريد حفظة، وحرية اختيار الوقت والمكان
2. استغل أوقات الفراغ في الحفظ والمراجعة ولا تضيعها،ومن الأوقات التي تستغل أثناء انتظارك لإنجاز معاملة ما،وبعد صلاة الفجر، بين الأذان والإقامة، بعد صلاة الظهر…الخ
3. استخدم الورقة والقلم في كتابة الآيات التي ستحفظها.
4. قم بتصوير الصفحة التي تريد حفظها واجعلها معك طوال اليوم لتحفظ منها.
5. استخدم الشريط للآيات التي ستحفظها واستمع لها أثناء القيادة أو أثناء استراحتك قبل المنام
6. اجعل لك شيخا تقرا عليه القران لتحسن القراءة والتلاوة والتجويد.
7. اشترك مع عائلتك أو أصدقائك في حفظ الآيات ويفضل وضع مكافأة مادية.
8. احرص على قراءة ما تحفظه في صلواتك (الفرائض، السنن، التطوع)
9. اقرأ تفسير الآيات التي ستحفظها ليسهل عليك الحفظ
10. اجعل نيتك خالصة لله تعالى،ثواب الله عز وجل
11. أن تضع بين يديك الفضل العظيم في حفظ القرآن
12. ابتعد عن التسويف و ابدأ بعزيمة قويه وهمة عالية في حفظ القرآن
13. و أخيرا ابتعد عن الذنوب والمعاصي فإنها سبب رئيسي في عدم الحفظ وكثرة النسيان.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 12:47 ص]ـ
والأفضل أن تتابع مع شيخ معلم أو الاستماع لأحد شيوخنا الأجلاء والمصحف المعلم:_
للشيخ الحصرى
الشيخ محمد جبريل
الشيخ المنشاوى
http://www.tvquran.com/banr/tvquran_26.gif (http://www.tvquran.com/)
وقد جمعت بعض المصاحف هنا:-
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48557 (http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48557)
ـ[السلفي1]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 01:26 ص]ـ
فضل تلاوة وحفظ القرآن من السنة النبوية
إتباع السنة:-
بسم الله.
قلتُ , وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسنتِ أختي الكريمة , وأحسن الله تعالى إليك.
حفظ القرآن سنّة متبعة, فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حفظ القرآن الكريم بل وكان يراجعه جبريل عليه السلام في كل سنة.
قلتُ: الأولى من تلك الكلمة ما جاء بنص الحديث وهو " يدارسه " ,
وكلمة " يراجعه " لا تكافئ كلمة " يدارسه ".
الخيرية:-
* قال رسول الله: قال الله تعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. أخرجه الترمذي والبيهقي , وضعفه الألبانى
(يُتْبَعُ)
(/)
قلتُ: اتفق المحدثون - رحمهم الله تعالى - على عدم جواز نسب الحديث
الضعيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجزم ,
فلا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وثبت عن الرسول صلى
الله عليه وسلم أو أي صيغة تفيد أن الحديث خرج من فم الرسول صلى الله عليه
على جهة الثبوت عنه ,
بل نذكر الحديث عنه صلى الله عليه وسلم بصيغة التمريض (بلفظ يدل على
ضعف الحديث وعدم صحة نسبته إليه عليه الصلاة والسلام) نحو قولنا:
رُوي - بلفظ البناء للمجهول - يُذكر - قيل - عن النبي صلى الله عليه وسلم.
* قال رسول الله: إن لله أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته رواه الإمام أحمد
قال رسول الله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه رواه البخاري
* قال رسول الله: لا حسد إلا في اثنتين
: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتفقه آناء الليل وآناء النهار
متفق عليه
الرفعة فى الدنيا:-
* عن عمر بن الخطاب أن النبى قال:-إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين"رواه مسلم
الريح الطيبة فى الدنيا:-
مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن
مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر
البيوت وأهل السماء:-
* اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبورا كما اتخذت اليهود والنصارى في بيوتهم
قبورا وإن البيت ليتلى فيه القرآن فيتراءى
لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض (صحيح)
طرد الشيطان من منازلنا:-
* إن لكل شيء سناما و سنام القرآن سورة البقرة،
و إن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ،
خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة (حسن)
جلاء صدأ القلوب:-
فى الحديث الشريف "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"فقيل يا رسول الله فما جلاؤها؟ فقال "تلاوة القرآن وذكر الموت"
قلتُ: أين تخريج الحديث ودرجته؟
البشرى العاجلة:-
قال رسول الله:"إقرأوا القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن وإن القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن ومن أحب القرآن فليبشر"موقوفاً على عبد الله بن مسعود
قلتُ: أختي الكريمة.
كيف تنسبين الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم ثم تذكرين أنه موقوف على
عبد الله بن مسعود (أنه من كلام ابن مسعود , وليس من كلام الرسول عليه
الصلاة والسلام) , ففارق شاسع بين الحديث المرفوع والموقوف.كنوز من الحسنات:
* قال رسول الله: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف. رواه الترمذي وأخرجه البخاري.
تعلمه أو تعليمه خير من الدنيا:-
ففي الحديث: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل»
قلتُ: أين تخريجه ودرجته؟
تستحق به التوقير و التكريم:_
لما جاء في الحديث: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه .. » الحديث
قلتُ: أين التخريج والدرجة؟
نسأل الله به الجنة:
* تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا؛ فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به ورجل يستأكل به ورجل يقرأه لله (صحيح)
حسن أم سوء خاتمة
معك فى القبر:-
* يؤتى الرجل في قبره فإذا أتي من قبل رأسه دفعته تلاوة القرآن وإذا أتي من قبل يديه دفعته الصدقة وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد) حسن (
قلتُ: من حسن الحديث؟
علو الدرجات يوم القيامة له ولوالديه ويشفع لعشرة من اهله:-
* قال رسول الله: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به فهو مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه فله أجران. متفق عليه.
* قال رسول الله: يقال لصاحب القرآن
اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك
عند آخر آية تقرؤها حديث حسن صحيح
ويقال في تفسير هذا الحديث أن المقصود به هو الحافظ للقرآن
* يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن يا رب حله
فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول
يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة (حسن)
فائدة لأهله:-
* يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك واظميء هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها فيقولان: يا رب أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن. وإن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة: اقرا وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية معك (صحيح)
* قال رسول الله: من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل بهذا"وضعفه الألبانى
قلتُ: الحديث الضعيف لا ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجزم كما
مر.
* قال رسول الله: من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من. أهل بيته كل قد وجبت لهم النار
قلتُ: أين التخريج والدرجة؟
قائدنا إلى الجنة:-
* القرآن شافع مشفع و ماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة و من جعله خلف ظهره ساقه إلى النار (صحيح)
شفيعنا يوم القيامة:-
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه».
نجاة من النار:-
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» رواه أحمد.
قلتُ: أين درجة الحديث؟
وبعد , فأرجو من الأخت الكريمة إكمال ما قد فات , وشكر الله لك صنيعك.
والله الموفق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 01:38 ص]ـ
تقوم الفكرة على أساس حفظ القرآن كاملا خلال الفترة المحددة مع حرية اختيار:
1. المكان
2. الوقت
3. الجزء
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك.
ألا ترين أن بعثرة الأجزاء المحفوظة سبب لعدم الحفظ والإتقان , ويصَّعِب تذكر
أجزاء القرآن مرتبة؟
ملاحظات أولية:
يجب أن يكون الحفظ من مصحف الحفاظ "كل صفحة بها خمسة عشر سطرا "
قلتُ: هل الوجوب هنا وجوب شرعي , فمن لم يفعل أثم؟
للأسباب الآتية:
1. لأنه يبدأ بأول الآية وينتهي بآخر الآية في نفس الصفحة مما يساعد على التركيز في الحفظ
2. لأن كل20 صفحة تساوي جزءا كاملا (عدا جزء عم) وهذا موافق لطريقة الحفظ
3. يقصد بالصفحة وجه واحد فقط
طريقة الحفظ:
1. أن يحفظ الشخص في كل يوم صفحة واحدة فقط
2. بعد حفظ خمس صفحات يكون اليوم السادس للمراجعة،وهكذا حتى نهاية الجزء
3. بعد حفظ جزء كامل تخصص أربعة أيام لمراجعة الجزء المحفوظ
4. بعد حفظ خمس أجزاء (حسب الطريقة السابقة) تخصص عشر أيام لمراجعة الأجزاء الخمسة المحفوظة
5. عند إتمام حفظ عشر أجزاء تخصص خمسة عشر يوما لمراجعة الأجزاء العشر
6. عند إتمام حفظ خمسة عشر جزء تخصص خمسة وعشرين لمراجعة الأجزاء المحفوظة
7. عند حفظ عشرين جزء تخصص ثلاثين يوما للمراجعة الشاملة لمراجعة الأجزاء المحفوظة
8. عند حفظ خمسة وعشرين جزء:0تخصص خمسة ثلاثين يوما للمراجعة الشاملة لمراجعة الأجزاء المحفوظة
9. عند إتمام حفظ القرآن كاملا تخصص خمسة و أربعين يوما للمراجعة الشاملة
10. بهذه الطريقة تكون قد حفظت القرآن في 1000 يوم.
قلتُ: هل هذه الطريقة توقيفية؟ ومن أين لك؟
مقترحات للحفظ:
1. لك حرية اختيار الجزء الذي تريد حفظة، وحرية اختيار الوقت والمكان
2. استغل أوقات الفراغ في الحفظ والمراجعة ولا تضيعها،ومن الأوقات التي تستغل أثناء انتظارك لإنجاز معاملة ما،وبعد صلاة الفجر، بين الأذان والإقامة، بعد صلاة الظهر…الخ
3. استخدم الورقة والقلم في كتابة الآيات التي ستحفظها.
4. قم بتصوير الصفحة التي تريد حفظها واجعلها معك طوال اليوم لتحفظ منها.
5. استخدم الشريط للآيات التي ستحفظها واستمع لها أثناء القيادة أو أثناء استراحتك قبل المنام
6. اجعل لك شيخا تقرا عليه القران لتحسن القراءة والتلاوة والتجويد.
7. اشترك مع عائلتك أو أصدقائك في حفظ الآيات ويفضل وضع مكافأة مادية.
8. احرص على قراءة ما تحفظه في صلواتك (الفرائض، السنن، التطوع)
9. اقرأ تفسير الآيات التي ستحفظها ليسهل عليك الحفظ
10. اجعل نيتك خالصة لله تعالى،ثواب الله عز وجل
11. أن تضع بين يديك الفضل العظيم في حفظ القرآن
12. ابتعد عن التسويف و ابدأ بعزيمة قويه وهمة عالية في حفظ القرآن
13. و أخيرا ابتعد عن الذنوب والمعاصي فإنها سبب رئيسي في عدم الحفظ وكثرة النسيان.
قلتُ: على أيّ مستند أقمت تلك المقترحات؟
والله الموفق.(/)
حملة مقاطعة الأفلام والمسلسلات في رمضان
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 01:55 ص]ـ
حملة مقاطعة الأفلام والمسلسلات في رمضان
http://www.islamway.com/inc/units/photos/show_image.php?table=articles&id_field=article_id&id=2408
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان:6].
في شهر رمضان تصفد الشياطين وتفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران, ويعتق فيها الرحمن رقاباً من بني الإنسان, ويفيض القلب ويذوب وينساب مع آيات القرآن.
فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
باب من الخير اصطفاك الله وفضلك على غيرك بحضوره فكم ممن حضر معنا رمضان الماضي هو الآن بين الأموات.
ومع استعداد المتقين الصالحين لموسم الطاعات, يعد شياطين الإنس لهم الكثير والكثير من الموبقات ليتسلموا الراية من إخوانهم شياطين الجن, وليقولوا لهم بلسان حالهم, ستصفدون ونحن مكانكم فلا تقلقوا.
فالحذر الحذر أن تضيع أوقاتك بين معصية وأختها, حتى إذا ما ذهب رمضان وذهب معه بعضك فتحت يديك فإذا هما خاويتين, ونفضت ثيابك فإذا هي دنسة من المعاصي, وكان الأجدر أن تفتح يديك فتجد الكثير من الحسنات تستشعرها بما قدمت من ختمات للقرآن, وصدقات للجائع والظمآن, صلوات في دلجة الليل, وركعات مع المسلمين في فرائض وقيام, حلقات للقرآن, ومجالس لتواصل الأرحام, محبة وإطعام ودعوة ودعاء, إخبات ورجاء, فيالخسارة من ترك كل هذا الخير وارتمى في أحضان اللئام.
يا باغي الخير دعك من هذا الهراء, فأهل الفن لا يرجون من عملهم إلّا تجارة أجساد يتربحون بها لإثراء دنياهم على حساب دينهم, أمّا أنت إن تبعتهم فستخسر دينك ودنياك سويا, فلا مربح لك من ورائهم إلّا الذنوب, فبالله عليك هل يقبل عاقل أن يرفض دعوة من فتح له كل أبواب الخير وأغلق له باب كل عذاب ويرتمي في أحضان أعداء ما أرادوا من ورائك إلّا مصلحتهم, ووالله مافيها أي مصلحة وإن لم يتوبوا فسيعلموا مغبة ما قدموا.
أخي إن كنت تريد أن تقدم شهرك هذا قربانا للممثلين والمنتجين والمخرجين على حساب دينك, فأقول لك أغبن النّاس من باع دينه بدنيا غيره, فاحذر كل الحذر, وعساها بداية خير لك, أخي لا تخلوا هذه الأعمال من نساء كاسيات عاريات وأحضان وقبلات, ومعازف وآهات ثم يتبعها حسرات وحسرات, فوفر على نفسك الحسرة, واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
أخي هذه دعوة صريحة من موقعنا المبارك لمقاطعة المسلسلات والأفلام في نهار رمضان وليله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» [رواه البخاري].
وهذه فتوى للشيخ بن باز رحمه الله حول هذا الأمر:
س: بعض الصائمين يقضون معظم نهار رمضان في مشاهدة الأفلام والمسلسلات من الفيديو والتلفاز ولعب الورق، فما هو حكم الدين في ذلك؟
ج: الواجب على الصائمين وغيرهم من المسلمين أن يتقوا الله سبحانه فيما يأتون ويذرون في جميع الأوقات, وأن يحذروا ما حرم الله عليهم من مشاهدة الأفلام الخليعة التي يظهر فيها ما حرم الله, من الصور العارية وشبه العارية, ومن المقالات المنكرة, وهكذا ما يظهر في التلفاز مما يخالف شرع الله, من الصور والأغاني وآلات الملاهي والدعوات المضللة, كما يجب على كل مسلم صائما كان أو غيره أن يحذر اللعب بآلات اللهو, من الورق وغيرها من آلات اللهو, لما في ذلك من مشاهدة المنكر وفعل المنكر, ولما في ذلك أيضا من التسبب في قسوة القلوب ومرضها واستخفافها بشرع الله, والتثاقل عما أوجب الله, من الصلاة في الجماعة أو غير ذلك من ترك الواجبات والوقوع في كثير من المحرمات, والله يقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:6 - 7] , ويقول سبحانه في سورة الفرقان في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
والزور يشمل جميع أنواع المنكر, ومعنى {لَا يَشْهَدُونَ}: لا يحضرون، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» [رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به]. والمراد: ب «المعازف»: الغناء وآلات اللهو، ولأنّ الله سبحانه حرم على المسلمين وسائل الوقوع في المحرمات. ولا شك أنّ مشاهدة الأفلام المنكرة, وما يعرض في التلفاز من المنكرات من وسائل الوقوع فيها, أو التساهل في عدم إنكارها. والله المستعان [الشيخ ابن باز، مجموع الفتاوى: 15/ 216].
أرجو أن تلقى هذه الدعوة القبول لدى القارئ الكريم في بقاع الأرض.
وتقبل الله منّا ومنك صالح الأعمال وشهركم مبارك إن شاء الله وكل عام وأنتم والأمّة الإسلامية بكل خير, وقد عمّ أرجائها الأمن والأمان والنصر والتمكين.
مع رجاء تعميم هذه المقاطعة في جميع المواقع والمنتديات.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 09:18 م]ـ
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسنتِ أختي الكريمة , وأحسن الله تعالى إليك.
قولك:
" رمضان بلا تلفاز .... صوم بامتياز " فيه نظر بين ,
وخلاصته أن المعصية لا تتحقق فحسب بالتلفاز , فقد تتحقق به وبغيره ,
فقد يحبس الصائم نفسه عن التلفاز , وهو من أجرم خلق الله تعالى وأفسدهم.
فهل صومه حينئذ صار بامتياز , لأنه حبس نفسه عن التلفاز؟!
ثانيًا:
ماذا تعنين بقولك:
أخي إن كنت تريد أن تقدم شهرك هذا قربانا للممثلين والمنتجين والمخرجين على حساب
دينك؟
وإلا فالعبارة تحمل من الخطإ العقائدي ما لا تستطيعين دفعه.
فأرجو بيان مقصودك وإلا حُذفت العبارة.
والله الموفق.
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 10:14 م]ـ
بارك الله فيك.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 10:23 م]ـ
بارك الله فيك أختي الكريمة على ما تقدمين من نصائح ومواعظ وتذكير
وكتب الله لك ذلك في ميزان حسناتك.
ـ[لخالد]ــــــــ[11 - 08 - 2009, 12:42 م]ـ
بارك الله فيك
و أرجو أن يتم نقلها لباقي المنتديات الأخرى الأقل جدية من الفصيح فهي إليه أحوج.
و الله أعلم.
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 12:34 ص]ـ
جزاكِ الله خيرا ..
ـ[أبو سارة]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 05:39 ص]ـ
مفهوم الحملة أن الأفلام والمسلسلات حرام في رمضان حلال في غيره!
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:17 م]ـ
مفهوم الحملة أن الأفلام والمسلسلات حرام في رمضان حلال في غيره!
لا ليس هذا ما تعنيه الحملة بالطبع أخى الفااضل ولكن معنى الحملة ألا يستقطبنا التلفاز فى هذا الشهر الكريم
فهل لى بسؤال:_
كلنا نعلم بأن التلفاز والمسلسلات والأفلام حرام ولهو
ولكن سواء كثيرا أو قليلا نجلس إليه بدعوى أحيانا هذا البرنامج فيه فكرة هذا المسلسل فيه مغزى
والشيطان يزين الشر فيه وكأنه خير
فما تقوله الحملة ألا ننجذب للقليل السئ فى رمضان
لأجل أن نعتاد على الخيرات فى رمضان وغير رمضان
فرمضان شهر يملأ إيماننا ويكون الزاد الذى نسير به
وأن كان هناك أى خطئ فيما نقلت فمن نفسى ومن الشيطان
وبارك الله فيكم
وبإذن الله بيتم النقل على العديد المنتديات
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 06:38 ص]ـ
http://img141.imageshack.us/img141/2738/37512788.jpg(/)
أختاه هل أنتِ زهرة أم لؤلؤة؟
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 02:58 ص]ـ
http://sor.w2hm.com/files/image/t/10.gif (http://sor.w2hm.com)
http://www9.0zz0.com/2009/08/09/23/513200921.jpg (http://www.0zz0.com)
ذات يوم تقابلت زهرة مع لؤلؤة, ودار بينهما حوار حول الأجمل منهما؟
قالت الزهرة: أنا عنوان المحبة ورسول المودة, أنا جميلة في عيون كل من يراني، رائحتي دائمًا عطرة، يتنسم الجميع عبيري، أنا ثمني بسيط يستطيع الحصول عليَّ معظم الناس، ألواني جذابة تخطف الأنظار, ولا يملك أحد إذا رآني إلا أن يلتفت إلي ويبدي إعجابه بي، فمن أنت إذن أيتها اللؤلؤة؟
فردت اللؤلؤة: أنا مكاني في قاع الماء، لا يستطيع الحصول علي إلا من يتعب ويجتهد، ينفق الكثير حتى يحصل علي، وقليل هم الذين يفوزون بي، لوني زاهٍ وجمالي خلاب وبراق لا يدانيه جمال، لكني أخفي هذا الجمال لمن قسمه الله لي، قيمتي باقية طوال العمر، لأني لا أذبل، بل أنا جوهرة في يد من يعرف قيمتها, والآن ماذا تحبي أن تكوني زهرة أم لؤلؤة؟
أختي الفتاة المسلمة:
إذا اخترتِ أن تكوني لؤلؤة فإنه لا بد من محارة تصون اللؤلؤة, وهذه المحارة هي الحجاب.
ولأخواتنا المؤمنات، ربات الصون والعفاف وغيرة عليهن من أن يكنَّ غرضًا للنظرات الجائعة، أو أن يتحولن إلى سلعة رخيصة يروج عن طريقها لكل السلع، كما واقع المرأة الغربية، شرع الله تعالى لهن الحجاب الشرعي الذي يصون حياء المرأة وعفتها، ويجعلها طاقة بناءة في أرض الإسلام، بدلًا من أن تكون مصدرًا لتأجيج نيران الشهوات كما أراد لها أعداء الأمة.
(فإن دين الله يضع أختنا المؤمنة في مرتبة اللؤلؤة النفيسة, التي يجب أي يكون لها محارة قوية، تقيها من غوائل العابثين، حتى إذا أكرمها الله تعالى بالزوج المؤمن الصالح كانت له خير متاع الدنيا، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله.
من أجل كل هذه المقاصد وغيرها، فقد أوجب الله على كل مؤمنة أن تتمسك بحجابها الشرعي، ليكون لها ولمجتمعها حافظًا وعاصمًا، بعد فضل الله من التفكك والسقوط في حمأة الرذيلة) [حياة النور، فريد مناع ص172 - 173].
ومن أجل التأكيد على أهمية الحجاب وضرورته لصون أمتنا، جاءت جمهرة من نصوص الوحيين بين وجوبه، وتجعل الوقوع في حمأة التبرج كبيرة عند رب العالمين الذي يقول في محكم تنزيله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
وأما كبيرة التبرج، فما أحرى أختنا المؤمنة التي خالط الإيمان شغاف قلبها أن تنأى بنفسها عنها, لا سيما وقد جعله الله تعالى من خصال الجاهلية فقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
الحرمان من الجنان:
من أسباب الحرمان من الجنان التبرج، بل جعله نبينا صلى الله عليه وسلم موجبًا لدخول دار الجحيم فقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما, قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها, وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) [رواه مسلم].
عبادة وليس عادة:
(يُتْبَعُ)
(/)
(فالمرأة المسلمة إذن ليست من النساء الكاسيات العاريات اللواتي تغص بهن المجتمعات المعاصرة الشاردة عن هدى الله وطاعته ... والمرأة المسلمة التي نهلت من معين الإسلام الصافي لا تلتزم الحجاب الشرعي تقليدًا وعادة درجة عليها الأمهات والجدات، فورثتها عنهن ... بل تلتزمه وقلبها مطمئن بالإيمان أنه أمر من الله تعالى، ونفسها مفعمة بالقناعة أنه دين أنزله الله لصياغة المرأة المسلمة وتمييزًا لشخصيتها، وإبعادًا لها عن مزالق الفتنة ومهاوي الرذيلة، ومن هنا فهي تتقبله بنفس راضية، وقلب مطمئن، واقتناع راسخ، كما تقبلته نساء المهاجرين والأنصار، يوم أنزل الله فيه حكمه القاطع.
عن عائشة رضي الله عنها فيما عنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن مروطهن (أي أزرهن) فاختمرن بها (أي تقنعن بها) [راه البخاري]) [شخصية المرأة المسلمة، د/ محمد علي الهاشمي، ص (52 - 53)، باختصار].
دور الأم قبل بلوغ الفتاة:
(وهنا يأتي دور الأم قبل بلوغ ابنتها، فعليها أن تمهد للفتاة قبل البلوغ بوقت قصير لما سيحدث لها من تغيرات فسيولوجية، وما يحدث بعد البلوغ، وتبين لها الأم أنها بذلك قد بلغت مبلغ النساء، وأصبحت مكلفة شرعًا أمام الله بالتكاليف الشرعية مثل الصلاة والصيام ... وفريضة الحجاب، فالبنت في هذه السن تحتاج إلى صداقة الأم وإلى الإرشاد والتوجيه النفسي منها، ولا تكون العلاقة مع الابنة مجرد أوامر ونواهي وممارسة السلطات عليها) [كيفية التعامل مع المراهقين، عادل فتحي عبد الله، ص68 بتصرف].
اغلق الأبواب من فضلك:
إن تربية الفتيات على آداب الإسلام منذ الصغر، ضرورة ملحة ليقفن عند حدود الحلال والحرام، فلا تهاون ولا تجاوز لهذه الحدود.
(وقد وضع الإسلام ضوابط تحد من الانحرافات ـ وخاصة انحرافات الجنس ـ وجعل هناك تدابير توصد باب الغواية، وسن آداب الحجاب وغض البصر، وآداب الاستئذان ومنع الاختلاط ... ولو اتبعت هذه الآداب لحلت كثير من مشكلات المراهقين الجنسية) [تربية المراهق في رحاب الإسلام، محمد حامد الناصر، خولة درويش، ص (107)].
ومن أجل منع الإثارة الجنسية أوجب الإسلام على المرأة إذا بلغت سن التكليف الالتزام بالحجاب الشرعي عند خروجها من بيتها، فلا يظهر منها شيء من حسن أو جمال، وتمشي تفلة في الطريق، فتحفظ نفسها وتحفظ الرجال كذلك وهي تساعد بذلك على سمو الأمة، وبناء الحضارة ولا تكون معول هدم فتشغل بها الرجال في الطريق.
حتى هذا يريد المتدينة:
فأنت بحجابك درة مصونة لا يتقدم إليك إلا الزوج الصالح صاحب الخلق، واعلمي أختي الفتاة أن الشباب حتى غير المتدين منهم عندما يبحث عن عروس، يبحث عن ذات الدين لأنها هي التي تصونه وتحفظ عرضه.
(وها هو ذا الكاتب الروائي الشهير إحسان عبد القدوس الذي أغرق السوق الأدبية بروياته الداعية إلى خروج المرأة من البيت والاختلاط بالرجال ومراقصتهم في الحفلات والنوادي والسهرات، يقول في مقابلة أجرتها معه جريدة الأنباء الكويتية في عددها الصادر بتاريخ 18/ 1/1989م: أعتبر أن أساس مسئولية أي امرأة هو البيت والأولاد، وهذا ينطبق علي بالدرجة الأولى، فلولا زوجتي ما كنت أستطيع تحقيق الأسرة والاستقرار والنجاح، لأنها متفرغة للبيت والأولاد) [شخصية المرأة المسلمة، محمد علي الهاشمي، ص (57 - 58)، باختصار].
تلك هي مآربهم:
(يقول جلادستون: (لا بد لاختلال قوى الإسلام من رفع الحجاب عن وجه المرأة المسلمة ونغطي به القرآن).
هذه هي مخططات أعداء الدين، وهم يقومون بتنفيذ هذه المخططات بشكل منظم ومدروس، وبخطوات متباعدة، ولكنها مضمونة كما تحكيه عبارتهم "سلو بت شور" أي بطيء ولكن مضمون.
وهم يحققون خططهم تحت عناوين مختلفة منها: دعوى التحضر، ومنها الموضة، الاستقلال الذاتي للمرأة، ومنها دعوى تحرير المرأة.
(يُتْبَعُ)
(/)
والحقيقة هي ليست دعوة إلى تحرير المرأة كما يزعمون، ولكنها دعوة إلى تحرير الوصول إلى المرأة، هم يريدونها أن تكون قطاعًا عامًا لكل الناس بالتلذذ في النظر إلى جسدها ومفاتنها والاستمتاع بها بلا قيود ولا حواجز، إنها دعوة إلى التحرر من كل الروابط والقيم والمسئوليات الأسرية والحقوق الاجتماعية, ولن تحقق المرأة مكانتها، ولن تجد قيمتها إلا على أنقاض العفة والحشمة والالتزام بضوابط الشرع) [وهكذا ظلمت المرأة، القسم العلمي بمدار الوطن، ص (7 - 8)، باختصار].
والإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف (لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين ..... هذا وإن النظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون وأن ينفلت زمام الأعصاب والإرادة) [دستور الأسرة في ظلال القرآن، ص (266)].
شروط لا بد منها:
ولكي تفوز المسلمة برضوان الرحمن الرحيم وتنجو من سخط رب العالمين، فلا بد أن تستوفي في زيها شروط الحجاب الشرعي التي حصرها أهل العلم فيما يلي:
1. ستر جميع بدن المرأة.
2. ألا يكون الحجاب في نفسه زينة.
3. أن يكون صفيقًا ثخينًا لا يشف.
4. أن يكون فضفاضًا واسعًا غير ضيق.
5. ألا يكون منجرًا مطيبًا.
6. ألا يشبه ملابس الرجال.
7. ألا يشبه ملابس الكافرات.
8. ألا يكون ثوب شهرة [مستفاد من الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة، حنان عطية الطوري، ص (249)].
وهنا يبقى السؤال هل الحجاب يمنع المرأة من التقدم والرقي لتطوير الذات؟
وهل الحجاب يمنع من الفهم والتأمل والتفكير؟
وهل الحجاب يمنع من دراسة المرأة الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وحتى دراسة الذرة؟
فأنا أعرف فتاة منذ أن بلغت ارتدت الحجاب ومجتهدة في دراستها ودائمًا الأولى على المدرسة، وأخرى أيضًا بمجرد بلوغها التزمت الحجاب وكانت ذكية متقدة الذهن ومتفوقة وحافظت على هذا المستوى العلمي حتى دخلت كلية الطب، وتخرجت بتقدير امتياز وهي تتصف بالصلاح والأخلاق العالية, ومن هنا نفهم أنه لا تعارض بين ارتداء الحجاب والالتزام بشرع الله وبين تحصيل العلم والتفوق في الدراسة بل والعمل في المجالات التي تناسب المرأة كطبيبة ومدرسة.
أهمية الالتزام بالزي الشرعي على نفسية الفتاة:
إن التزام الهدي الظاهر من شعائر الإسلام التي يعتز بها كل مسلم، وهي تدل أيضًا على هويتها الإسلامية.
والحجاب طاعة وعبادة وقربة إلى الله وهو دليل على الإيمان, والإيمان يزداد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتجد المسلمة حلاوة هذه الطاعة على قلبها وعقلها وبدنها، وتجده راحة في النفس واستقرار وهدوء.
وماذا بعد الكلام:
1. حافظي على حجابك فهو علامة على إيمانك واحتفاظك بهويتك الإسلامية.
2. حجابك طاعة لله وقربة والطاعة حسنات في الدنيا والآخرة والطاعة نور في القلب والعقل والبدن.
3. لا يمنعك حجابك عن الدراسة والتفوق في دراستك ووصولك إلى أعلى الدرجات العلمية حتى الدكتوراه.
4. كوني قدوة حسنة للفتاة المحجبة ومثالًا يُقتدى به في الأخلاق والعمل والنجاح.
5. أرجو منك أن تحققي شروط الزي الشرعي للمرأة المسلمة في ملابسك.
وترنمي بقول الشاعر:
فليقولوا عن حجابي لا وربي لن أبالي ... قد حماني فيه ديني وحباني بالحلال
زينتي دومًا حيائي واحتشامي بالحلال ... سوف أزهو بحياتي وعلى الله اتكالي
فليقولوا عن حجابي لا وربي لن أبالي.
[ line]
المراجع:
1. حياة النور، فريد مناع.
2. شخصية المرأة المسلمة، د/ محمد علي الهاشمي.
3. كيفية التعامل مع المراهقين، عادل فتحي عبد الله.
4. تربية المراهق في رحاب الإسلام، محمد حامد الناصر، خولة درويش.
5. وهكذا ظلمت المرأة، القسم العلمي بمدار الوطن.
6. دستور الأسرة في ظلال القرآن.
7. الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة، حنان عطية الطوري.
م ن ق و ل للفائدة ...
ـ[فتون]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 02:52 ص]ـ
شكرا لك
وجزاك الله خيرا
المرأة العاقلة الحصيفة ترفض
كل ما من شأنه أن يسيء إليها
سواء في دينها أو أخلاقها أو سمعتها
ولا تقبل إلا أن تكون في القمة
ومن علية القوم وأشرافهم
ولن تصل إلى هذا كله إلا بتقوى الله
تعالى.
ـ[رحمة]ــــــــ[27 - 08 - 2009, 09:57 م]ـ
جزاكم الله خيراً أخي الكريم علي هذا الموضوع المميز
اللهم أهدي بنات المسلمين يارب العالمين
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 03:40 ص]ـ
شكرا لك
وجزاك الله خيرا
المرأة العاقلة الحصيفة ترفض
كل ما من شأنه أن يسيء إليها
سواء في دينها أو أخلاقها أو سمعتها
ولا تقبل إلا أن تكون في القمة
ومن علية القوم وأشرافهم
ولن تصل إلى هذا كله إلا بتقوى الله
تعالى.
صدقتِ أختنا فتون نعم هى تقوى الله عزوجل فى السر والعلن للفتايات وللشباب ولكل المسلمين أجمعين.
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 03:41 ص]ـ
جزاكم الله خيراً أخي الكريم علي هذا الموضوع المميز
اللهم أهدي بنات المسلمين يارب العالمين
وبوركتِ أختنا الكريمة، اللهم آمين نسال الله ذلك.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 03:47 ص]ـ
سقط القناع ..
والآن نعرف من يبيع كرامة العربي في هذا الزمن ..
الآن نعرف من يبيح العرض في الطرقات تنهشه الثعالب والضباع ..
ذاع الخداع ..
ـ[وردة العشاق]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 06:38 ص]ـ
جزاك الله خيرا اختي ...... لم يفرض الحجاب عبثاً هو من عند الله لما فيها من حفظ وصون للمراة المسلمه ..
حفظ الله نساء المسلمات(/)
محاربة الأخطاء الشائعة والمتداولة في لغتنا العظيمة
ـ[يميومي]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 02:59 ص]ـ
محاربة الأخطاء الشائعة والمتداولة في لغتنا العظيمة(/)
رحبوا بالأستاذ الدكتورحسانين أبو عمرو
ـ[أبو عمار الكوفى]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 06:43 م]ـ
انضمَّ إلى موكب الفصيح عالم كبير هو الأستاذ الدكتور: حسانين أبو عمرو.
نرجو أن ينفعنا الله بعلمه وأن يجعل ما يكتب في ميزان حسناته.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 06:50 م]ـ
مرحبا بك وسهلا دكتور حسانين، حللت أهلا ونزلت سهلا.
ـ[أبو طارق]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 07:06 م]ـ
مرحبًا بالأستاذ حسانين أبي عمر
ونأمل له طيب المقام
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 07:56 م]ـ
أهلا وسهلا ومرحبا دكتور حسانين
حياك الله وبياك يسرنا وجودكم حفظكم الله.
شكرا أبا عمار.
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 08:09 م]ـ
حللت أهلاً ووطئت سهلاً دكتورنا الغالي حسانين أبا عمرو ونشكر الأستاذ أبا عمار الكوفي على الهدية الثمينة.
ـ[السلفي1]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 09:25 م]ـ
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
مرحبًا بأستاذنا , حللت أهلاً , ووطئت سهلاً , وأنار بك الفصيح ,
ليتك أبا عمار عرفتَ بالدكتور.
والله الموفق.
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[10 - 08 - 2009, 09:54 م]ـ
مرحبًا بالأستاذ الدكتور حسانين
ـ[حسانين أبو عمرو]ــــــــ[10 - 09 - 2009, 10:37 م]ـ
السلام عليكم
أساتذتي الأجلاء
اسعادة لأستاذ أبو عمار
سعادة الأستاذ الأديب اللبيب
سعادة الأستاذ أبو طارق
سعادة الأستاذ عامر مشيش
سعادة الأستاذ أحمد الغنام
سعادة الأستاذ السلفي
سعادة الأستاذ خالد الشبل
حيَّاكم اللهُ , وأكرمكم برضاهُ عنكم , ورفعكم أعلى الدرجاتِ في الدنيا والآخرة , وجعلكم ممن قال فيهم:
(يُثَبِّت ُ الله ُ الذين َ آمنوا بالقول ِ الثابت ِ في الحياة ِ الدُّنيا وفي الآخرة)
وممن قال فيهم:
(وسِيق الَّذين اتَّقََوا ربَّهم إلى الجَنَّة زُمَرا)
آمين.
ـ[أبو سارة]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 04:53 ص]ـ
الدكتور حسانين
حللت أهلا ونزلت سهلا، بأمثالكم يزدان الفصيح
ـ[محمد سعد]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 06:21 ص]ـ
مرحبًا بالأستاذ حسانين أبي عمر
ونأمل له طيب المقام
ـ[عبدالعزيز بن حمد العمار]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 04:24 م]ـ
أهلا بالدكتور حسانين أبي عمرو، ونرجو له طيب الإقامة بيننا، ونسأل الله أن يؤلف بيننا لنفيد منه.
ـ[ابن القاضي]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 11:02 م]ـ
أهلا وسهلا ومرحبا بالأستاذ القدير حسانين أبي عمر، سعداء بك.
أعلم أنها متأخرة قليلا، لكن عذري أني كنت في إجازة خارج البلد.
ـ[النابغة الحضرمي]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 04:58 ص]ـ
مرحباً به بين إخوته وتلاميذه من الفصحاء.
ـ[حسانين أبو عمرو]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 04:50 م]ـ
السلام عليكم
سعادة الأستاذ أبو سارة
سعادة الأستاذ محمد سعد
سعادة الأستاذ عبد العزيز بن حمد
سعادة الأستاذ ابن القاضي
سعادة الأستاذ النابغة الحضرمي
حفظكم الله , ورزقكم القبول في الدنيا والآخرة.
لقد شرُفت بوجودي بينكم أنهلُ من علمكم , وكرم خلقكم
ـ[السراج]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 09:14 م]ـ
مرحبا بالدكتور حسانين ..
حللت أهلا ونزلت سهلا، بأمثالكم يزدان الفصيح
ـ[النابغة الحضرمي]ــــــــ[13 - 09 - 2009, 05:11 ص]ـ
سعادة الأستاذ النابغة الحضرمي
إن كنتُ أنا (سعادة الأستاذ) , فما الذي بقي لأساتذتنا أمثالكم:)
والله ما أنا إلاّ من تلاميذكم, بارك الله فيكم:)
ـ[نرفانا]ــــــــ[13 - 09 - 2009, 07:02 ص]ـ
باديء الامر .. اُحييك أستاذنا أبو عمار ..
..
أهلن بإن إزداد الحُسن حُسناً ..
زادك الله في علمك ..
ووهبنا من طيب ماعندك ..
أتمنىآ لك طيب الاقامة .. دكتورنا الفاضل ..
تلميذتك ..(/)
ابن خلدون وتعريب تدريس العلوم
ـ[فرحات]ــــــــ[11 - 08 - 2009, 10:28 م]ـ
يرى ابن خلدون في المقدمة أنه إذا سبقت لغة إلى لسان فنادرا ما يتميز صاحبها في العلوم بلغة ثانية وذلك في الفصل الرابع والأربعين: في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي.
برهان ابن خلدون أساسه ازدواجية اللغة وأخذ العلوم بغير اللغة التي سبقت إلى اللسان (اللغة الأم) حيث:
اللغة الأولى هي العجمة
اللغة الثانية هي العربية
لغة التعليم هي اللغة الثانية
إذا طبقت نظرية بن خلدون في البلدان العربية حيث:
اللغة الأولى هي العربية
اللغة الثانية هي الإنجليزية أو الفرنسية
لغة التعليم هي اللغة الثانية
لنا رأي عبقري عربي يدعم التعريب ويدعم تدريس العلوم باللغة العربية بل ويبرهن على ضرورته.
نظرية ابن خلدون دليل على بطلان مقولة وجوب تدريس العلوم بلغة غربية وتدعم مطلب التعريب في البلدان العربية لتكون لغة المتعلم الأولى هي لغة التعليم.
لاحظ أن نظرية ابن خلدون في ازدواجية اللغة تتقاطع مع نظرية الغالب والمغلوب لدحض موقف الداعمين لتدريس العلوم بلغة غربية لمتعلم لغته الأولى هي اللغة العربية.
فرحات التونسي
ـ[فرحات]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 12:55 ص]ـ
تبدو نظرية ابن خلدون هذه وكأنها منسية لا يستشهد بها المنادون بالتعريب!
ـ[عنزي]ــــــــ[01 - 09 - 2009, 06:02 ص]ـ
أشكركم لهذه الفكرة, فكرة تعريب العلوم اللاعربية و ايجاد معالجة الموضوع في مصادر العرب القدامى.
و لكن هناك تعقيد أشد: بالنسبة للحاسوب و برمجمته, كيف تتم تعريب التشفيرات؟ هل تبقى التشفيرات على ما هي و تُعامل و كأنها رسوم؟ كل شئ يجب أن يُعرب و خصوصا أن الحضارة اليوم منتقلة غربا؟(/)
قبل النوم ................
ـ[إماراتية]ــــــــ[11 - 08 - 2009, 11:59 م]ـ
http://www.up-00.com/oqfiles/YXp23599.jpg (http://www.up-00.com/)
ـ[السراج]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 12:55 م]ـ
رمزية رائعة ..
شكرا إماراتية(/)
ويسألونك عن الجبال
ـ[رقية القلب]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 12:01 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
" موقع مداد "
(ويسألونك عن الجبال)
استقر في أذهان العقلاء و الفضلاء، أن الجبال ترمز إلى الأشياء العظيمة، و الأشياء الثابتة التي يصعب تغييرها، و ترمز الجبال إلى الأنفة و الثبات و المجد. (حلقة رائعة من حلقات لطائف المعارف).
http://www.midad.me/indexImages/mown_na.jpg
استمع للمزيد في هذه المحاضرة القيمة
لفضيلة الشيخ: صالح بن عواد المغامسي
من خلال زيارة الرابط التالي:
http://www.midad.me/sounds/view/50083
هذه المادة منقولة من موقع .. : مداد: ..
www.midad.me(/)
حال المسلم في رمضان
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 05:27 ص]ـ
حال المسلم في رمضان
ما هي الكلمة التي توجهونها للمسلمين بمناسبة دخول شهر رمضان؟.
الحمد لله
قال الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة / 185
هذا الشهر المبارك موسم عظيم للخير والبركة والعبادة والطاعة.
فهو شهر عظيم، وموسم كريم، شهر تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتقفل فيه أبواب النيران، وتقبل فيه التوبة إلى الله من ذوي الآثام والسيئات.
فاشكروه على ما أنعم عليكم به من مواسم الخير والبركات، وما خصكم به من أسباب الفضل وأنواع النعم السابغات، واغتنموا مرور الأوقات الشريفة والمواسم الفاضلة بعمارتها بالطاعات وترك المحرمات تفوزوا بطيب الحياة وتسعدوا بعد الممات.
والمؤمن الصادق كل الشهور عنده مواسم للعبادة والعمر كله عنده موسم للطاعة , ولكنه في شهر رمضان تتضاعف همته للخير وينشط قلبه للعبادة أكثر، ويقبل على ربه سبحانه وتعالى , وربنا الكريم من جوده وكرمه تفضل على المؤمنين الصائمين فضاعف لهم المثوبة في هذا الموقف الكريم وأجزل لهم العطاء والمكافئة على صالح الأعمال.
ما أشبه الليلة بالبارحة ..
هذه الأيام تمر بسرعة وكأنها لحظات، فقد استقبلنا رمضان ثم ودعناه، وما هي إلا فترة من الزمن وإذ بنا نستقبل رمضان مرة أخرى، فعلينا أن نبادر بالأعمال الصالحة في هذا الشهر العظيم، وأن نحرص على ملئه بما يرضي الله، وبما يُسعدنا يوم نلقاه.
كيف نستعد لرمضان؟
إن الاستعداد في رمضان يكون بمحاسبة النفس على تقصيرها في تحقيق الشهادتين أو التقصير في الواجبات أو التقصير في عدم ترك ما نقع فيه من الشهوات أو الشبهات ..
فيُقوم العبد سلوكه ليكون في رمضان على درجة عالية من الإيمان .. فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأول طاعة يحققها العبد هي تحقيق العبودية لله وحده وينعقد في نفسه ألا معبود بحق إلا الله، فيصرف جميع أنواع العبادة لله لا يشرك معه أحداً في عبادته، ويستيقن كل منا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن كل شيء بقدر.
ونمتنع عن كل ما يناقض تحقيق الشهادتين وذلك بالابتعاد عن البدع والإحداث في الدين. وبتحقيق الولاء والبراء، بأن نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين والمنافقين، ونفرح بانتصار المسلمين على أعدائهم، ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونستن بسنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونحبها ونحب من يتمسك بها ويدافع عنها في أي أرض وبأي لون وجنسية كان.
بعد ذلك نحاسب أنفسنا على التقصير في فعل الطاعات كالتقصير في أداء الصلوات جماعة وذكر الله عز وجل وأداء الحقوق للجار وللأرحام وللمسلمين وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، والصبر عن فعل المنكرات، وعلى فعل الطاعات، وعلى أقدار الله عز وجل.
ثم تكون المحاسبة على المعاصي واتباع الشهوات بمنع أنفسنا من الاستمرار عليها، أي معصية كانت صغيرة أو كبيرة سواءً كانت معصية بالعين بالنظر إلى ما حرم الله أو بالسماع للمعازف أو بالمشي فيما لا يرضي الله عز وجل، أو بالبطش باليدين في ما لا يرضي الله، أو بأكل ما حرم الله من الربا أو الرشوة أو غير ذلك مما يدخل في أكل أموال الناس بالباطل.
ويكون نصب أعيننا أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وقد قال سبحانه وتعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}. وقال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}.
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان، " فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ".
إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، والتاجر الحاذق يغتنم المواسم ليزيد من أرباحه فاغتنموا هذا الشهر بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والعفو عن الناس والإحسان إلى الغير والتصدق على الفقراء.
ففي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد فيه الشياطين وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
فكونوا عباد الله من أهل الخير متبعين في ذلك سلفكم الصالح مهتدين بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم حتى نخرج من رمضان بذنب مغفور وعمل صالح مقبول.
واعلموا بأن شهر رمضان خير الشهور:
قال ابن القيم: " ومن ذلك – أي المُفاضلة بين ما خَلَق الله – تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي" أهـ زاد المعاد 1/ 56.
وفُضِّل هذا الشهر على غيره لأربعة أمور:
أولاً:
فيه خير ليلة من ليالي السنة، وهي ليلة القدر. قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر} سورة القدر.
فالعبادة في هذه الليلة خير من عبادة ألف شهر.
ثانياً:
أُنزلت فيه أفضل الكتب على أفضل الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان} البقرة / 158. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين.فيها يُفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسِلين} الدخان / 1 - 2.
وروى أحمد والطبراني في معجمه الكبير عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأُنزلت التوراة لِسِتٍ مضت من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأُنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان). حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1575).
ثالثاً: هذا الشهر تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق أبواب جهنم وتُصفَّد الشياطين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين) متفق عليه.
وروى النَّسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين) وصححه الألباني في صحيح الجامع (471).
وروى الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في رواية: (إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومَرَدَة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عُتقاء من النار وذلك كل ليلة). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (759).
فإن قيل: كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً، فلو صُفدت الشياطين لم يقع ذلك؟
فالجواب: أنها إنما تَقِل عن الذي حافظ على شروط الصيام وراعى آدابه.
أو أن المُصفَّد بعض الشياطين وهم المَرَدة لا كلُّهم.
أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس، فإنَّ وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإِنسية. الفتح 4/ 145.
رابعاًَ:
فيه كثير من العبادات، وبعضها لا توجد في غيره كالصيام والقيام وإطعام الطعام والاعتكاف والصدقة وقراءة القرآن.
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعاً لذلك ويعيننا على الصيام والقيام وفعل الطاعات وترك المنكرات.
والحمد لله رب العالمين.
موقع الإسلام سؤال وجواب
ـ[السلفي1]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 06:27 م]ـ
إن الاستعداد في رمضان
بسم الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك أخيتي الكريمة على هذا النقل.
كلمةُ " في " لا أرى لها وجهًا هنا , وإنما المقصود " لـ " بمعنى " لأجل"
أو " من أجل ".
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان،
قلتُ: لا أعلم أحدًا من أهل العلم أوجب على المسلم توبةً من أجل أو لأجل
أو استعدادًا لرمضان , ومن ادعي غيره فعليه الدليل ,
فإن المسلم يطالب بالتوبة من أجل الذنب وجوبًا ,ومن أجل التقصير في
المندوبات وفعل المكروهات والاستغراق في المباحات استحبابًا , فتلك علل
التوبة , ولا أعلم أن الاستعداد لرمضان أو دخوله علة للتوبة وصوم رمضان
على وجهه الشرعي من أعلى مراتب التوبة , ولذا جاء أن الصيام يكفر كل
الذنوب صغائر كانت أو كبائر كما نص عليه جمع من السلف في قوله صلى الله
عليه وسلم: " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " ,
والمسلم مطالب بالتوبة في كل أوقاته للعل السابقة , فلو تاب مسلم قبل رمضان
بيوم أو يومين بعلة ذنب ارتكبه لا بعلة الاستعداد لرمضان , لكان على قول
القائل أن هذا المسلم آثم , لأنه لم يحدث التوبة الواجبة عليه من أجل رمضان ,
ولا قائل في علمي من العلماء بذلك , ولا سمعنا عنه لا عن الأولين ولا
المتأخرين.
" فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ".
قلت: هذا الكلام لا يصح مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم , بل هو ضعيف
النسبة إليه ,
وكلمة " الأماني " لم ينسبها أحد من مخرجي الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم
على ضعف النسبة إليه , وهي من طريق واهٍ تالف عند أمالي القضاعي كما
أثبت ذلك شيخنا العلامة المحدث المصري عمرو بن عبد اللطيف رحمه الله
تعالى رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
color=darkred] رابعاًَ: [/ color][/b]
فيه كثير من العبادات، وبعضها لا توجد في غيره كالصيام والقيام وإطعام الطعام والاعتكاف والصدقة وقراءة القرآن.
قلتُ: سبحان الله تعالى! ,
وهل من قائل: إن الصيام والقيام وإطعام الطعام والاعتكاف والصدقة وقراءة
القرآن لا توجد إلا في رمضان؟!
فأين دليله من النقل والعقل؟
هذه عبادات في جميع شهور السنة , فهي لا تختص برمضان وحده ,
فالصيام مشروع في جميع الأشهر , وكذا بقية العبادات , فمن أين ذلك الكلام؟
ولكن الصحيح أن نقول:
لها من الثواب في رمضان ما لم يكن في غيره , فثواب صوم رمضان لا يعدله
ثواب صوم في غير رمضان , وكذا بقية العبادات ,
[
موقع الإسلام سؤال وجواب
قلتُ: لعلك أخيتي الكريمة تراجعين ما تنقلين , لتكون النصيحة بعلم صحيح
وأسلوب قويم , فالألفاظ (المباني) قوالب المعاني , فلابد أن يوضع المعنى
في قالبه ولفظه ووعائه الصحيح المؤدي له ,
والله أسأل لك التوفيق والسداد ,
السلفي1
خادم سنة النبي صلى الله عليه وسلم , والداعية بأنصار السنة المحمدية المصرية.
والله الموفق.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[12 - 08 - 2009, 10:20 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ...... وبعد: ـ
جزاااك الله خيراً .... يا حامل القرآن .... على هذه الدرر والنصائح ... فيارب نكون من الذين إذا بلغوا رمضان ..... قاموا ليله، وصاموا نهاره، وأقاموا ما أمرهم الله به، وانتهوا عن ما نهى الله عنه .... اللهم آمين ....
ـ[أبو لين]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 03:04 ص]ـ
بارك الله فيك أختنا الكريمة على هذه التذكرة الطيبة وجعلها ربي في ميزان حسناتك.(/)
لكل من أتم الماجستيرأوالدكتوراه (هل فعلت هذا؟ ولم؟)
ـ[إماراتية]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 02:06 ص]ـ
سؤالي للأعضاء الكرام:
س 1:هل فكرت في طباعة أطروحتك؟
إذا كانت الإجابة بالنفي فلم لم تفعل؟
س2: ما أهم النقاط التي يجب أن أتنبه لها إذا قررت أن أحول أطروحتي إلى كتاب مطبوع؟
لاتبخلوا علي يا أهل الخبرة فإن السماء سوف تثيبكم كرما جزيلا ...
ـ[أبو سارة]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 04:02 ص]ـ
السلام عليكم
لو كان الأمر بيدي لمنعت أصحاب رسائل الماجستير والدكتوراة من طباعتها، لأن أكثرها ليس في طبعه أدنى فائدة إذ أكثرها مكرر وقليل الجدوى.
ولطلبت من اللجان الجامعية المختصة تعقب تلك الرسائل وترشيح ما يستحق الطبع منها تعميما للفائدة.
أحدهم أهدى إلي رسالة طبعها على نفقته الخاصة، والحق أني استفدت منها فائدة عظيمة وذلك بحرق أوراقها في ليلة شتوية.
وإن جاء متشدد لينقد رأينا هذا، سنستجيب له ونشترط أن يدخل موضوع رسالته مع الأسباب السبعة التي ذكرها أهل العلم في أسباب تأليف الكتب.
بقي أمر السماء التي تثيب المجيب، ولعل المقصود رب السماء، وأمر آخر في المعرف، فلعل الأصوب: أماراتية لا إماراتية، لأنها أمارة بفتح الهمزة.
دمت موفقة
ـ[إماراتية]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 03:14 ص]ـ
شكرا أخي على طرح رأيك الحر
ـ[مفلح القحطاني]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 02:16 ص]ـ
أخي أبا سارة
أوافقك فيما قلت إلى حد كبير، غير أن هناك رسائل متفردة، وهذه الجديرة بالطبع، وأضيف إلى كلامك أن أكثر الباحثين المتميزين لا يستطيعون النظر إلى رسائلهم بعد مناقشتها، ولا يحبون أن يذكروها، ويبدو أنه شعور نفسي.
ـ[مفلح القحطاني]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 10:42 م]ـ
عفوا أبا سارة
أمارة بفتح الهمزة بمعنى علامة وإمارة مكان الأمير أو بمعنى الولاية، فأختنا إماراتية على حق.(/)
القاموس المحيط يعرفكم بنفسه
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 01:58 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فإني قد عرفت عن نفسي مرتين بناء على طلب الأخ رائد عبد اللطيف ولكن أدخل مرة أخرى فلا أجد هذا التعريف ..
الاسم: محمد النهدي.
العمر:17
المؤهل العلمي: طالب في الصف الثاني الثانوي العلمي ومنتقل للصف الثالث.
مكان الإقامة:مكة المكرمة
الهوايات: القراءة بشكل عام
ـ[أبو لين]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 02:25 ص]ـ
أهلا بك أخي الكريم محمدا وحيّاك الله ونتمنى لك طيب الإقامة بيننا.
ـ[أبو سهيل]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 06:18 ص]ـ
مرحبا بك أخي الكريم
ـ[عبدالعزيز بن حمد العمار]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 07:03 ص]ـ
أهلا وسهلا يا بني محمدا نتشرف بوجودك.
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 01:27 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فإني قد عرفت عن نفسي مرتين بناء على طلب الأخ رائد عبد اللطيف ولكن أدخل مرة أخرى فلا أجد هذا التعريف ..
الاسم: محمد النهدي.
العمر:17
المؤهل العلمي: طالب في الصف الثاني الثانوي العلمي ومنتقل للصف الثالث.
مكان الإقامة:مكة المكرمة
الهوايات: القراءة بشكل عام
حياك الله وبياك يا محمد النهدي بين إخوتك فصيحا حارسا من حراس اللغة
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 03:11 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أشكركم إخوتي الفصحاء الكرام على الترحيب بي وأتشرف بانضمامي لهذه الشبكة الأكثر من رائعة ..
وجزاكم الله كل خير ..
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 06:47 م]ـ
بارك الله فيك أخي محمد
ما شاء الله تبارك الله.(/)
أقبح جريمة سرقة
ـ[رقية القلب]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 11:34 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المادة منقولة من موقع
.. : مداد: ..
http://www.midad.me/
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد:
أقبح جريمة سرقة
*
http://www.midad.me/new_d/5.jpg
*
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها)
هو أسوأ الناس سرقة .. لأنه يسرق في بيت الملك، وهو واقف بين يديه ليس بينه وبين ربه ترجمان، فأين الحياء إن لم يكن الأدب؟
هو أسوأ الناس سرقة .. لأنه يسرق من صلاته فيفسدها، وهي التي لو فسدت فسد عمله كله، وأصبح إلى العقوبة أسرع منها إلى الثواب.
هو أسوأ الناس سرقة .. لأن سارق الدنيا ينتفع بما يسرقه ويتمتع به، أما هو فيسرق من حق نفسه في الثواب، ويشتري بذلك العقاب في الآخرة.
فأقبح بها من سرقة .. وأعظم بها من جناية ..
الموضوع على الرابط التالي:
http://www.midad.me/arts/view/39382
..: مداد: ..
أكبر موقع إسلامي يحتوي على تلاوات القرآن الكريم الخطب و المحاضرات الصوتية، كما يحتوي على موسوعة الفتاوى متكاملة التي تجيب على كافة أسئلتكم و استفساراتكم ويضم مكتبة للكتب التراثية
www.midad.me
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[13 - 08 - 2009, 11:47 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
جزاااك الله خيراً ....
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:49 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
حقا سرقة قبيحة ..
جزاكِ الله خيرا ..
ـ[أبو عمار]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 12:37 ص]ـ
صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم.(/)
أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 12:13 ص]ـ
وقفة مع حديث ثابت من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم
أريد من هذه الوقفة أن نعرف مقدار الخير الذي نحصل عليه بإدراكنا لشهر رمضان مع صيامه وصلاتنا ألف وثمان مئة صلاة بمرور سنة علينا،
حتى نستقبل شهر الصوم استقبال المستبشرين به العالمين بمنة الله عليهم بإدراكه وصومه
حتى لا تفتر ألسنتنا من شكر الله على هذه المنة فمن الناس من هو في قبره، لا يستطيع زيادة حسنة واحدة، ومن الناس من هو في الدنيا لكنه محبوس عن العمل الصالح بذنوبه وبجلسائه الذين يدلونه على الشر ويرغبونه فيه، ويبعدونه عن الخير ويزهدونه فيه.
إخواني وأخواتي:
شهر رمضان جواهر ثمينة بل أعظم من الجواهر، والذين لا يعرفون قيمة الجواهر يقصرون في حقها، ويتحسرون على عدم الانتفاع بها فيما بعد، ولات ساعة مندم.
روى الإمام أحمد في مسنده برقم: 1389 عن أبي سلمة قال: نزل رجلان من أهل اليمن على طلحة بن عبيد الله، فقتل أحدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم مات على فراشه، فأُرِي طلحة بن عبيد الله أن الذي مات على فراشه دخل الجنة قبل الآخر بحين، فذكر ذلك طلحةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " كم مكث في الأرض بعده؟ "
قال: حولا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلى ألفا وثمان مئة صلاة، وصام رمضان ".
وبرقم: 1401 عن عبد الله بن شداد: أن نفرا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يكفنيهم؟ " قال طلحة: أنا. قال: فكانوا عند طلحة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا، فخرج فيه أحدهم، فاستشهد. قال: ثم بعث بعثا، فخرج فيهم آخر، فاستشهد قال: ثم مات الثالث على فراشه. قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد أخيرا يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم. قال: فدخلني من ذلك. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. قال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله ".
وبرقم: 1403 عن طلحة بن عبيد الله: أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم، كأني عند باب الجنة: إذا أنا بهما، وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج، فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إلي، فقالا لي: ارجع. فإنه لم يأنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " من أي ذلك تعجبون؟ " قالوا: يا رسول الله! هذا كان أشد اجتهادا، ثم استشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله.
فقال: " أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ " قالوا: بلى. " وأدرك رمضان، فصامه " قالوا: بلى. " وصلى كذا وكذا سجدة في السَّنَة "
قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ".
هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وبمجموع طرق الحديث وشواهده يكون الحديث حسنا.
بلغنا الله وإياكم رمضان ورزقنا فيه الصيام والقيام والصدقة وتلاوة القرآن.
قف متأملا فضل الله عليك إن أدركت رمضان.
وأكثر اللهج بهذا الدعاء: " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ ... "
واطلب من ربك أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته،
وأكثر من هذا الدعاء فإن استجيب دعاؤك نلت خيري الدنيا والآخرة.
أجاب الله دعانا ودعاك وعافانا وإياك.
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 01:56 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم آمين وفقك الله وبارك فيك أخي أبا أيوب وجزاك خيرا على طرحك ..
أطال الله أعمارنا على ما يحبه ويرضاه ..
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 02:09 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم آمين وفقك الله وبارك فيك أخي أبا أيوب وجزاك خيرا على طرحك ..
أطال الله أعمارنا على ما يحبه ويرضاه ..
أهلا بك القاموس المحيط سعدت بمرورك
وكلماتك المشجعة
بارك الله فيك
ـ[السلفي1]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 01:32 ص]ـ
[ QUOTE= أبوأيوب;363120] [ center][font="comic sans ms"][size="6"][color="blue"]
فمن الناس من هو في قبره، لا يستطيع زيادة حسنة واحدة،
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسنت أخي الكريم ,وأحسن الله تعالى إليك , وبارك فيك.
ما موقع الكلام المذكور أعلاه من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام:
" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث .... الحديث " ,
والله الموفق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 11:01 ص]ـ
[ quote= أبوأيوب;363120] [ center][font="comic sans ms"][size="6"][color="blue"]
فمن الناس من هو في قبره، لا يستطيع زيادة حسنة واحدة،
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسنت أخي الكريم ,وأحسن الله تعالى إليك , وبارك فيك.
ما موقع الكلام المذكور أعلاه من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام:
" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث .... الحديث " ,
والله الموفق.
شكرا لمرورك.
ألم تقرأ قولي: " من الناس " ومن تبعيضية، يعني: بعض الناس.
وبعضهم تزيد حسناته أكثر من بعض الأحياء.
جزاك الله خيرا أخي السلفي
ـ[السلفي1]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 06:24 م]ـ
[/ font]
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسنت أخي الكريم ,وأحسن الله تعالى إليك.
بلى قرأتُ , وأعرف ما ذكرتَ , ولكن من المعلوم عند أئمة التأصيل أن اللفظ
له معنىً استعمالي أي معنىً في التركيب والسياق , وقد يخالف معناه منفردًا ,
فكلامك أيها الحبيب كان حول نعمة الله تعالى على الأحياء أن أبقاهم أحياءً لأن
أدركوا رمضان , وفرعت على هذه النعمة أن من الناس من هو في قبره ..... ,
فهذا التفريع في باب المقابلة للأحياء , فيصر معنى (من الناس ... ) أي
الأموات كلهم لذكرهم في مقابل الحياء ,
ولكن الرافع تمامًا لأي إشكال أن تقول: (فمن الأموات .... ) ,
والله الموفق.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 10:47 ص]ـ
مداخلة جميلة وإضافة ثرية
شكرا لك أخي السلفي
سعدنا بمرورك(/)
للأهمية .. عند شرائك أطعمة رمضان تنبه لهذا!
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 01:47 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
عند ذهابك إلى محل بيع المواد الغذائية -ولا أريد قول السوبر ماركت إذ أنني في فصيح- للتزود ببعض الأطعمة والمؤن؛استعدادا للشهر الفضيل الذي تعد فيه أشهى المأكولات وألذ الحلويات فضلا عن العصائر وغيرها، تذكر وأنت تحمل القائمة والتي سبق وأن أعددتها ما يلي:
1 - أن تتأكد من تاريخ الصلاحية.
2 - أن تكون محتاجا لما اشتريته بالفعل.
3 - أن لايكون ما اشتريته من منتوجات الدول التي تطاولت على الرسول صلى الله عليه وسلم وتطاولت على الإسلام وحاولت النيل منه.
4 - أن لا تنسى استحضار النيه الصالحة.
5 - أن لاتنسى االفقراء والمساكين وخاصة الذين لايسألون الناس إلحافا.
وبعد ذلك كله
تخيل معي أنك تفطر في رمضان وتتلذذ بالطعام الشهي والعصير البارد المنعش فخطرت على بالك غزة السجن الكبير الذي يحوي أكثر من مليون مسلم عربي فتخيلت حالهم وحال أطفالهم الصغار وحال مرضاهم وشيوخهم ..
كل شهر عندهم هو رمضان ولكن من غير متجر للأطعمة ومن غير طعام لذيذ أو عصير منعش وبارد
حتما ستردد بيت أبي البقاء
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
ستترك بعدها الطعام وتنهض من المائدة ..
ـ[أبو لين]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 02:28 ص]ـ
ذكرك الله بالشهادة وكتب أجرك أخي الكريم ... بالفعل الكثير - بكل أسف - يجتهد في رمضان ليجمع في منزله أكثر الأصناف من الأطعمة وكأن رمضان شهرأكل ونوم ..
اللهم بلغنا رمضان وسخّنا في طاعتك واعتق رقابنا من النار.
بوركت أخي محمدا.
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[14 - 08 - 2009, 01:25 م]ـ
بارك الله فيك
ـ[علي جابر الفيفي]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 11:26 ص]ـ
وأضيف:
أن تُهْدي جيرانك شيئا من قِدْرك , هذه العادة التي افتقدناها.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:51 م]ـ
بارك الله فيكم على النصيحة الغالية
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 02:31 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله خيرا
وشكرا على مروركم
أخي الفيفي شكرا على الإضافة وجزاك الله خيرا
ـ[السراج]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 07:16 ص]ـ
وأضيف:
أن تُهْدي جيرانك شيئا من قِدْرك , هذه العادة التي افتقدناها.
إضافة رائعة،
وكما أضفت أخي فعلا افتقدنا هذه الصفة إلا ما ندر ..(/)
هل ستشرب الكأس؟!
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 04:31 ص]ـ
:::
أعجبتني كثيراً هذه الفلسفة و أحببت نقلها هنا:)
هل ستشرب الكأس .. ؟؟
يحكي أن طاعون الجنون نزل في نهر يسري في مدينة ..
فصار الناس كلما شرب منهم احد من النهر يصاب بالجنون ...
وكان المجانين يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء ..
واجه الملك الطاعون وحارب الجنون ..
حتى إذا ما أتي صباح استيقظ الملك وإذا الملكة قد جنت ..
وصارت الملكة تجتمع مع ثلة من المجانين تشتكي من جنون الملك!!
نادى الملك بالوزير: يا وزير الملكة جنت أين كان الحرس ..
الوزير: قد جن الحرس يا مولاي ..
الملك: اذن اطلب الطبيب فوراً ..
الوزير: قد جن الطبيب يا مولاي ..
الملك: لم يبق لنا سوى العراف، نادي بالعراف الان ..
الوزير: قد جن العراف أيضاً يا مولاي ..
الملك: ما هذا المصاب، من بقي في هذه المدينة لم يجن؟
رد الوزير: للأسف يا مولاي لم يبق في هذه المدينة لم يجن سوى أنت وأنا ..
الملك: يا لطف السماء أأحكم مدينة من المجانين؟!!
الوزير: عذراً يا مولاي، فإن المجانين يدعون أنهم هم العقلاء ولا يوجد في هذه المدينة مجنون سوى أنت وأنا!!
الملك: ما هذا الهراء؟! هم من شرب النهر وبالتالي هم من أصابهم الجنون!!
الوزير: الحقيقة يا مولاي أنهم يقولون أنهم شربوا النهر لكي يتجنبوا الجنون، لذا فإننا مجنونان لأننا لم نشرب ..
ما نحن يا مولاي إلا حبتا رمل الآن .. هم الأغلبية .. هم من يملكون الحق والعدل والفضيلة ... هم الآن من يضعون الحد الفاصل بين العقل والجنون ..
هنا قال الملك: يا وزير أغدق علي بكأس من نهر الجنون إن الجنون أن تظل عاقلاً في دنيا المجانين ...
******
بالتأكيد الخيار صعب ..
عندما تنفرد بقناعة تختلف عن كل قناعات الآخرين ..
عندما يكون سقف طموحك مرتفع جداً عن الواقع المحيط ...
هل ستسلم للآخرين .. وتخضع للواقع .. وتشرب الكأس؟
...
هل قال لك أحدهم: معقوله فلان وفلان وفلان كلهم على خطأ وأنت وحدك الصح!!
إذا وجه إليك هذا الكلام فاعلم أنه عرض عليك لتشرب من الكأس؟
...
عندما نختار تخصص دراستنا قد يختلف معك من حولك من أهلك وأصدقاءك .. بأن هذا المجال لا ينفعك .. قد تستجيب لهم وقد لا تستجيب ... وقد تنجح في هذا المجال وقد لا تنجح ..
عندما تدخل مجال العمل بكل طموح وطاقة وإنجاز وتجد زميلك الذي يأتي متأخرا وإنجازه متواضع يتقدم ويترقى وأنت في محلك ..
هل يتوقف طموحك .. وتقلل إنجازك .. وتشرب الكأس؟؟
...
أحياناً يجري الله الحق على لسان شخص غير متوقع ..
مرت طفلة صغيرة مع أمها على شاحنة محشورة في نفق .. ورجال الإطفاء والشرطة حولها يحاولون عاجزين عن إخراجها من النفق .. قالت الطفلة لأمها .. أنا أعرف كيف تخرج الشاحنة من النفق!!
استنكرت الام و ردت معقوله كل الاطفائيين والشرطة غير قادين
وأنت قادرة!! ولم تعط اي اهتمام ولم تكلف نفسها بسماع فكرة طفلتها ..
تقدمت الطفلة لضابط المطافئ: سيدي افرغوا بعض الهواء من عجلات الشاحنة وستمر!
وفعلاً مرت الشاحنة وحلت المشكلة وعندما استدعى عمدة المدينة البنت لتكريمها كانت الأم بجانبها وقت التكريم والتصوير!!
...
وأحيانا لا يكتشف الناس الحق إلا بعد مرور سنوات طويلة على صاحب الرأي المنفرد ..
غاليلوا الذي أثبت أن الأرض كروية لم يصدقه أحد وسجن حتى مات!
وبعد 350 سنة من موته اكتشف العالم أن الارض كروية بالفعل وأن غاليليو كان العاقل الوحيد في هذا العالم في ذلك الوقت ...
...
ولكن هل بالضرورة الانفراد بالرأي او العناد هو التصرف الاسلم باستمرار!!
كاتب مغمور أكثر على الناس بكتاباته الحادة حتى اعتزله الناس ليكتشف بعد سنوات أن كل كتاباته كانت ضرباً من الهراء!
كم تمنى هذا الكاتب أنه شرب من هذا الكأس حتى ابتلت عروقه!
إذن ما هو الحل في هذه الجدلية ... هل نشرب من الكأس أو لا نشرب؟
دعونا نحلل الموضوع ونشخص المشكلة بطريقة علمية مجردة ..
.
.
رأي فردي مقابل رأي جماعي ..
منطقياً الرأي الجماعي يعطينا الرأي الأكثر شعبية وليس بالضرورة الأكثر صحة
قد تقول إذن لا اشرب الكأس ... لحظه!!
في نفس الوقت نسبة الخطأ في الرأي الجماعي أقل بكثير من نسبة الخطأ في الرأي الفردي ..
إذن تقول نشرب الكأس .. تمهل قليلاً!!
من يضمن أنه في هذه اللحظة وفي هذه القضة كانت نسبة الصواب في صالحك
أعرف الأمر جد محير ..
...
شخصياً عرض علي الكأس مرات عديدة ..
أشربه أحيانا وأرفض شربه أحيانا كثيرة ..
الأمر كله يعتمد على إيماني بالقضية ..
وثقتي في نفسي .. وثقتي في الآخرين من حولي ..
هذا بالنسبة إلى خبرتي .. والأن السؤال موجه لك أنت يامن تقرأ كلماتي ...
إذا عرض عليك الكأس ..
هل تفضل أن تكون مجنوناً مع الناس! أو تكون عاقلًا وحدك!
وهل ستشرب الكأس؟!!
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(107).gif
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 09:29 ص]ـ
لا أشرب من هذا الكأس http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(107).gif
و هذا سبب معاناتي في الدنيا:)
جزاك الله خيرا على موضوعك
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[15 - 08 - 2009, 06:56 م]ـ
الدكتور أبو دجانة ..
أشرب حتى لا تعاني:)
أسعدني مرورك ..
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(116).gif
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:42 ص]ـ
سأتظاهر بشرب الكأس وأفعل ما أريد ..
طبعا هذا آخر الخيارات ..
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 03:12 ص]ـ
القاموس المحيط ..
شكراً لمرورك .. http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(119).gif
ـ[أم مصعب1]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 08:53 ص]ـ
كما قلتِ أخيّتي لحن القوافي
هي قضيّة مبادئ
،
،
بوركتِ
ـ[مُسلم]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 12:21 م]ـ
لا أدري ما كان ليحل برأسي وقتها ... لكن لأنني متردد وليست عندي الثقة الكافية بنفسي ... فإن شرب الكأس سيكون هو أول اختياراتي ...
وايضاً، لانني حينها ساكون حاكم المدينة فلن أتخلى عن عرشي مقابل عقلي ... فليذهب العقل إلى الجحيم وليبق حكمي على الكرسي .... كما يفعل ( .... ).
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 06:44 م]ـ
أم مصعب،،
أسعدني مرورك،،
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(105).gif
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 06:47 م]ـ
مسلم ..
شرب الكأس تحدده القناعات والمواقف ..
شكراً لمرورك ..
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(127).gif
ـ[ضاد]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 07:15 م]ـ
ماذا لو شرب أحمد بن حنبل إمام السنة كأس الجنون مع من ادعوا بخلق القرآن؟ وفي الحديث ما معناه: يأتي النبي يوم القيامة وحده وما معه أحد ممن أرسل إليهم, أتراه كان ليشرب كأس جنون الشرك؟ وفي الحديث نهي الرسول المرء أن يكون إمعة ووصيته في زمن الفتن أن يلزم الحق ولو كان واحدا.
ـ[لحن القوافي]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 05:46 م]ـ
ضاد ..
لقد اتخذ هؤلاء الذين ذكرت قراراً
صائباً بعدم شربهم للكأس ..
فكما ذُكر لايشرب الكأس دوماً ..
ولا يترك دوماً ..
لأن المبادئ والقناعات تلعب دوراً
كبيراً في اتخاذ القرارات ..
شاكرة لمرورك ..
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/46/heart%20(170).gif(/)
جسر المعونات مستمر .. ولله الحمد ..
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:41 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
http://www4.0zz0.com/2009/08/16/11/890785581.jpg (http://www.0zz0.com)
أخوتاه طبعاً من لم يشكر الناس لم يشكر الله، وأنا أتقدم من هنا من منبر الفصيح بالشكر الخالص لكل المساهمين فى حملات المعونات التى لازالت مستمرة حتى هذه اللحظة التى أتحدث لكم فيها إلى أهلنا فى فلسطين أعانهم الله ويسرّ لهم ونصرهم وأيدهم بجند من عنده اللهم آمين.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذا منحتكها مني مهذبة ... حذوا على حذو ما أوليت من حسن.
http://www9.0zz0.com/2009/08/16/11/436952523.jpg (http://www.0zz0.com)
وأخص بالذكر فى شكرى دولة السعودية وحملة خادم الحرمين الشريفين جزاه الله كل خير وحملة خادم الحرمين لإغاثة غزة تجاوزت 175 مليون ريال إضافة للتبرعات العينية، دولة ليبيا وجمعياتها الكثيرة وتعتبر ليبيا من أول الدول المبادرة بكميات تبرعات يصعب وصفها اللسان، دولة مصر والجمعيات الخيرية فيها وأخص بالذكر الجمعية الشرعية التى قامت بدور ملموس، دولة تركيا التى قامت بمجهود كبير إزاء القضية والتبرعات، دولة الكويت وقطر والإمارات والأردن واليمن سوريا وتونس والجزائر والمغرب ولبنان وغيرها الكثير من الدول العربية وغير العربية والإسلامية والغير إسلامية ...
أقول بملىء فمى لكل هذه الدول المساهمة والأشخاص المساهمين والجمعيات المشاركة فى أمر المعونات والتبرعات "شكراً لكم جميعاً وجزاكم الله كل خير والحمد لله على ما قدمتم، وتقبل الله منكم وهنيئاً لكم الأجر بإذن الله"
وإن كان هذا الشكر لا يفى بما ُقدمت من تبرعات ولكن كلمة الشكر هذه تساوى كثير عند هؤلاء .. " ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ..
http://www10.0zz0.com/2009/08/16/11/361756889.jpg (http://www.0zz0.com)
تقريباً آخر ما شاهدت خلال الأيام الأربع الماضية ما لا يقل عن خمسين شاحنة مياه معدنية ومثلها أمس شاحنات دقيق ومعونات آخرى هذا غير سيارات الإسعاف المجهزة والمُتبرع بها لأهل غزة.
طبعاً إلى يومنا هذا هناك مرضى كثر وآخرون يواجهون الموت لعدم وجود أدوات طبية وأدوية ومأكل وملبس ومسكن ... اللهم يا منان كن معهم ولا تخذلهم ..
فأين إخوة الإسلام ... أين الإتحاد؟
وأين المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا!
وأين "إنما المؤمنون إخوة"؟
هل نسينا أنهم إخواننا فى الإسلام، وواجبنا نحوهم فى دعمهم ولو بالدعاء؟
أظن كثير منّا إلا ما رحم ربى قد قصر فى هذا الواجب؟
وكثير منّا إلا ما رحم ربى تناسى الأمر أصلاً؟
وقلة منّا من أبدى إهتماماً لأمر هؤلاء؟
إخوانى نسألكم الدعاء لجميع مرضى المسلمين والمسلمات وأن ينصر الله الدين ويعزنّا به إنه ولى ذلك والقادر عليه ...
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 05:51 ص]ـ
بارك الله فيك وجزيت خيراً
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:14 م]ـ
بارك الله فيك وجزيت خيراً
وفيك أستاذنا الحبيب ...
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 04:21 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
بالأمس وصلت إلى شمال سيناء المصرية أطنان من المعونات الغذائية ضمن حملة التبرعات المقدمة من الهلال الاحمر بدولة الإمارات العربية المتحدة.
فأنا أتقدم بالشكر الخالص لدولة الإمارات على الخصوص وإلى القائمين على الحملة وجعل الله ذلك فى موازين حسناتكم يوم القيامة ولازال شريان الحياة وجسر التبرعات مستمر ولله الحمد نسأل الله العظيم أن يفك كرب إخواننا فى غزة بوجه خاص وفلسلطين بوجه عام وأن ينصر الإسلام ويعز المسلمين إنه ولى ذلك والقادر عليه ...(/)
دورة تعلم أشهر كتابة فنون النثر قد بدأت
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 02:31 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
(أسماء المشاركين في دورة تعلم كتابة فنون النتر الأدبي للدكتور حسين طلافحة)
هم كالآتي:ـ
الأسلمية
أبو همام
جلمود
زورق شارد
الباحثة عن الحقيقة
تيما
عامر مشيش
طويلب بريطاني
وائل5
أبو دجانة المصري
سأكون شيئا
محمد مشرف أشرف
أنوار
باحث عن نور
كآدي
زمخشري زمانه
زخات مطر
الفصيح الأزدي
أم خليل
ورد وزهر
مغني البيب
بنت الشريف الأهدل
ياسمين الشام
ما عاد بدري
رياض خنفوف
نور القمر
ماجدة الصاوي
منى
الكردي
الأنيس
ناصر علي
غرور أنثى
ألـ/ـــق ْ
رفيقة الحروف
عتيق
ولاف
الساحلي 2
غدووو
ابن مسعود
رحيل 2007
سفانة
نوري
بحر الندى
سمو الحرف
معلمة أجيال @
المشاركة والتفاعل من قبل الجميع مما يثري الدورة .... أختكم زهرة متفائلة
جزاكم الله خيراً
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 11:52 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أختي الزهرة كيف يكون الاشتراك؟
وشكرا ..
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 05:40 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أختي الزهرة كيف يكون الاشتراك؟
وشكرا ..
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
جزاك الله خيرا .... الدكتور الفاضل ... حسين طلافحة ... فتح المجال أمام الجميع .... للمشاركة بالدورة .... جزاه الله خيراً ... وجعل هذه الدورة في موازين حسناته .... اللهم آمين
ـ[أوداج]ــــــــ[09 - 09 - 2009, 02:27 م]ـ
هل بدأت الدورة!!
ـ[رحمة]ــــــــ[09 - 09 - 2009, 03:02 م]ـ
و أنا أسأل هل بدأت ا لدورة أم يمكنني الاشتراك؟
أجد أسمك دائما حيث يوجد المثابرة على طلب العلم وفقك الله أختي زهرة
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[09 - 09 - 2009, 11:58 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
أخواتي الحبيبات ... أوداج .... والرحمة .... الدورة من فترة طويلة قد بدأت ثم توقفت ... ثم تمّ الاستئناف فيها .... ولكنها في رمضان كذلك توقفت ... لعدم وجود الدكتور الفاضل حسين حسن طلافحة .... ولكن يمكنكم ... الاطلاع على الدورة على هذا الرابط
http://www.alfaseeh.net/vb/showthread.php?t=45851
وبالتأكيد ... ستكون أجمل بمشاركتكم ..... وبالحقيقة ... هي لم تفوتكم .... ولكن تابعوا ما فاتكم .... فأنا مثلكم جئتُ متأخرة .... ولكن أحاول المتابعة .....
وأخيرا ...... أنصحكم بمتابعتها ... فإنها جداً ... مفيدة ... وأسلوب الدكتور جدًا رائع وسلس وجميل ...
أختي الحبيبة ... الرحمة .... أشكر لكِ .... تعليقكِ الجميل .... بارك الله فيكِ ....
وللآن .... ما زلنا ننتظر دورة الإملاء .... فمن الصعوبة ... أن نجد أحد الجهابذة ... لإلقاء الدرورة ...
نريد ... منتدى الفصيح ... يتزين بأربع دورات .... وبالفعل ... هناك دورة فاعلة في العروض ... ودورة في فن النثر ... وإن شاء الله ... دورة النحو .... ستنطلق بعد رمضان .... ولكن ظلت ... دورة الإملاء ... ؟؟(/)
اعمل بهذه السُّنة ربما أول مرة تسمعها.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 07:29 م]ـ
روى النسائي بإسناد صحيح في كتابه عمل اليوم والليلة
أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الضحى قال:
رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مئة مرة
اعمل بهذه السنة في حياتك حتى تكتب من أهلها، تقبل الله منك وحشرك في زمرة نبيك صلى الله عليه وسلم.
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[16 - 08 - 2009, 11:47 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
جزاك الله خيرا أبا أيوب على ارشادك إيانا إلى سنة من سنن المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لم أسمعها إلى منك ..
الدال على الخير كفاعله ..
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 12:52 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
جزاك الله خيرا أبا أيوب على ارشادك إيانا إلى سنة من سنن المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لم أسمعها إلى منك ..
الدال على الخير كفاعله ..
أهلا بك أخي القاموس المحيط
مسرور جدا بمرورك وتفاعلك
جعلك الله من سكان الفردوس(/)
هكذا اقرأ كي تفهم القرآن. .
ـ[صاحب المعالي]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 12:53 ص]ـ
كنت أقرض الشعر الشعبي وأجيد فيه، بل كنت أحب المحاورة التي هي ميدان الشعراء الأقوياء فعلا، والتي تنم على الذكاء وقوة الشاعرية وحضور البديهة، ولكن حين اكتشفت لنفسي بعد ذلك أن الشعر الشعبي مع طرافته وظرفه أكبر خطر على اللغة العربية الفصيحة، وعلى القرآن الكريم بالذات، هجرته غير آسف عليه، وراثٍ للمستمرين فيه.
وإذا أردت أن تعرف كيف اكتشفت ذلك لنفسي وتريد أن أبرهن عليه فخذ قرآنا وضعه بين يدي مهتم بالشعر الشعبي ومتعمق فيه، بل وشاعر مجوّد فيه وانظر ما ذا يقول لك!
فعلت ذلك مع صديق كريم فقال: أنا لا أفهم اللغة العربية، وهي صعبة معقدة. قلت له: فكيف تقرأ القرآن إذن!
قال: كيف كيف أقرأه؟! قلت: هل تقرأه للعبادة فقط، أي للأجر والثواب والقربة إلى الله فقط، أم لتتذوق جمال تعبيره وأسلوبه في الخطاب! قال: هذه هي المرة الأولى التي أسأل فيها هذا السؤال، وعلى أية حال فأنا لا أفهم اللغة العربية وأشعر بأنها صعبة عسرة تكلف جهدا ومشقة لأجل فهمها، ولست أدري ماذا تريد من سؤالك عن قراءتي للقرآن!
ومثل صديقي هذا كثير، وذلك لأنه يقرأ العامية ويتأثر بها، ويعرف جماليات تعبيرها، أما القرآن فيحس بأن لغته بعيدة كل البعد عنه وصعبة شاقة عليه، مع أن الناس اعتادوا –وعلى رؤوسهم شعراء الشعر العامي ومتذوقوه- أن يتحدثوا في المجالس عن بلاغة وإعجاز وبيان القرآن من جهة التعبد والدين والكلام المقرر سلفا، وليس من جهة الإقناع ولا من جهة البلاغة والبيان، يجب أن نقر هذه الملاحظة قبل أن ننتقل إلى ما بعدها، وأريد أن تلاحظ أني استخدمت كلمتي "الإحساس –والشعور" حكاية لكلام صديقي الذي يحس ويشعر بأن اللغة العربية صعبة عسرة.
إن إدراك جمال اللغة العربية ومن ثم إدراك أسلوب القرآن ولغة تعبيره لا بد أن يأتي من تصور لأساليب التعبير لهذه اللغة، ولست أقصد تصور العلماء المبني على التحليل والدراسة والتقعيد، وإنما التصور المبني على القراءة الكثيرة للغة في شعرها ونثرها والتي تجعلك تتعايش معها وتحاول اكتشاف وجه تأثيرها في سامعها وفي أي مقام قيل أو كتب، بعيدا عن أي نظرة أخرى كالنظرة التعبدية أو الفوقية أو البيان والإعجاز المقرر بالعادة والتقليد.
إن صاحبي حين يقارن اللغة العربية الفصيحة بالعامية يستهون الثانية وينتقص منها، ويتحدث عنها حديث الناقم المزدري، وعن العربية حديث المجل المكبر، ويعظمها ويهيب بها، وهو حديث لا أثر له في نفس قائله قط، بله أنا وغيري من سامعيه، لأن صاحبنا يتحدث بهذا الحديث وهو شاعر عامي، بل ومبرّز فيه متقن له، وحاز على جوائز كثيرة به، بل إنه شاعر ألغاز، وهذه تحتاج إلى سعة اطلاع ومعرفة بأساليبه ومفرداته والعمق فيه، وتحتاج إلى ذكاء ودقة ملاحظة، وهو كذلك شاعر محاورة قوي، وهذه الأخرى تحتاج إلى منطق قوي وعارضة شديدة وبرهان ساطع.
وهذه المقارنة خاطئة في تصوري، لأن أساليب التعبير في اللهجات واللغات لا تتفاضل فيما بينها من ناحية التراكيب أو الكلمات أو الأسلوب عموما، فكل لغة أو لهجة لها خصائصها، وهي قادرة بها على التعبير عن حاجاتها، ومن الخطأ الفاحش أن نهوّن من شأن موهبة شعراء العامية ونقلل من قيمة شعرهم لأنهم لا يكتبونه بالفصحى، وذلك أن العامية لها خصائصها التعبيرية ومميزاتها التي تختلف بها عن أساليب التعبير الفصيحة، والشعراء فيها يتفاوتون ويتفاضلون بحسب اطلاعهم وثقافتهم، وهي كذلك كفيلة بالتعبير عن حاجاتها بدقة ووضوح. صحيح أن كل لغة تؤثر في نفس المتكلم بها وفي ثقافته وطريقة تفكيره وكذلك اهتمامه بناء على مضامينها، ولكن ليس لهذا شأن في تركيب اللغة وأساليب تعبيرها. أرجو أن أكون دقيقا واضحا في هذا، وأنا لست بصدد الحديث عن اللهجة واللغة بتصانيفها عند اللغويين كذلك، لا، أنا أريد أن أقول أن كل نظام تعبيري له مكوناته وخصائصه التي تميزه من غيره من الأنظمة التعبيرية الأخرى، أرجو أن أكون واضحا كل الوضوح في تعبيري عما أريد أن أقوله.
وإذا كانت اللغة العربية تتميز بأنها لغة القرآن الكريم، فليس هذا لأن له خصائص ومميزات أفضل من غيرها من اللغات التي كانت موجودة حين نزل القرآن، خاصة حين نعلم أن العرب كانوا أمة لا خطر ولا سيادة لهم على الأرض في ذلك الوقت، بل كانوا مغلوبين من قيصر وكسرى.
وبهذا ندرك عظم النعمة التي حباها الله للأمة العربية حيث قرن لغتها بدينه الباقي وبرسالته الأخيرة حتى يرث الأرض ومن عليها، فاللغة العربية باقية ما بقي هذا الدين، ومنتشرة ما انتشر هذا الدين، وبهذا العطاء الرباني تفضل اللغات الأخرى فقط، وهو فضل جاءها من خارج خصائصها ومكوناتها الأساسية.
ويأتي السؤال الآن، كيف ندرك جماليات التعبير القرآني؟. وكيف نقتنع بفصاحته وبلاغته وعجز العرب عن الإتيان بمثله، وكيف نفهم السبب الذي جعل العرب يقرّون بأنه معجز وبأنه يعلو ولا يعلى عليه.
لكي نجيب على هذا السؤال يلزمنا أن نقرأ كلام العرب في شعرها ونثرها قبل كل شيء، ونحاول أن نعرف ما ذا يقول صاحبه بالضبط، وكيف عبّر عما يريد، أي ما هو أسلوبه في التعبير، لنكن دقيقين وواضحين في قرائتنا ومتجنبين الوقوف عند قواعد النحو واللغة، ولنتصور أساليب الخطاب العربية الفصيحة ولنحاول التماس أسباب القول وأثره في سامعيه، ثم بعد ذلك سنجد أننا نقرأ القرآن قراءة ليست كقرائتنا التي تقرأ تعبدا فقط، ولكن سنقرأه من ناحية أدبية جمالية نستطيع من خلالها أن نقتنع بقوة بيان القرآن وندرك سرّ إعجازه اللغوي، ونستطيع بعد هذا كله أن نوقن أن العامية أشد خطرا على اللغة العربية من أي شيء آخر.
المعالي
www.alm3ali.wordpress.com
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السراج]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 07:44 ص]ـ
حديث رائع شائق ..
وفي طي سطورك الأخيرة جوابا لاستفهامك (القديم) ..
وكيف نقتنع بفصاحته وبلاغته وعجز العرب عن الإتيان بمثله، وكيف نفهم السبب الذي جعل العرب يقرّون بأنه معجز وبأنه يعلو ولا يعلى عليه.
لأنهم كانوا أصحاب فصاحة وبلاغة فطرية أدركوا - حين سمعوا القرآن - أنه معجز بلاغة وأنه يعلو ولا يعلى عليه ودليل ذلك قول الوليد بن المغيرة الذي سمع القرآن ووصفه بأحسن الأوصاف في نادي قومه وهو أعلم قومه باللغة ..
ـ[أنوار]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 09:04 م]ـ
جزاكم الله خيراً أخي صاحب المعالي ..
على هذا المقال الماتع .. والنقل القيّم
بوركتم
ـ[أبو طارق]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 09:59 م]ـ
مرحبًا بك صاحب المعالي
آنست الفصيح, وأنرته بحضورك
وما أجمل مصافحتك للفصيح
ونترقب ما لا يقل جماله عن ما صافحت به الفصيح
حياك وبياك
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:58 ص]ـ
وسعت كتاب الله لفظا وغاية **********وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة **********وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن **********فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
رحم الله شاعر النيل ..(/)
؟؟ .. !! .. تُؤلم .. !! .. ؟؟
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 12:28 ص]ـ
* عندما أفتح عينيّ يوما على واقع لا أريده .. !
* عندما أتمنى أن يعود زمن جميل انتهى!
* عندما أكتشف لا أحد حولي سواي ..
* عندما أقف أمام المرآة فلا أتعرف على نفسي .. !
* عندما أنادي بصوت مرتفع ولا يصل صوتي .. !
* عندما أشعر بالظلم وأعجز عن نصر نفسي .. !
* عندما أضطر إلى تغيير بعض مبادئي لمسايرة الحياة .. !
* عندما أضطر يوما إلى القيام بدور لا يناسبني ..
* عندما أضع أجمل ما لدي تحت .. ! كي أرتفع عالياً وأصل إلى القمة .. !
* عندما أنحني لذل العاصفة كي لا تقتلعني من مكاني الذي أحرص على بقائي فيه .. !
* عندما أشعر بأن هناك من الناس فرضت عليّ الحياة وجودهم معي .. !
* عندما أغمض عيني على حلم جميل وأستيقظ على وهم مؤلم .. !
* عندما أرى الأشياء حولي تتلوث وتتألم بصمت .. !
* عندما يداخلني إحساس قلق بأنني تسببت في ظلم إنسان ما .. !
* عندما أجد نفسي مع الوقت قد بدأت أتنازل عن أحلامي واحداً تلو الآخر .. !!!
* عندما أضحك بصوت عالٍ كي أخفض صوت بكائي .. !
* عندما أرتدي قناع الفرح كي أخفي ملامح الحزن عن وجهي .. !
.
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 12:33 ص]ـ
ماذا سأقول؟؟!!
لا يؤلم الجرح إلا من به ألم
إذا قلت لك جميع هذا طبقته ولم أزل أصارع البعض
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 11:19 م]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
هكذا هي الدنيا دار شقاء وتعب لذتها ممزوجة بمرارة وفرحها يعقبه الحزن ...
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 08:28 ص]ـ
ماذا سأقول؟؟!!
لا يؤلم الجرح إلا من به ألم
إذا قلت لك جميع هذا طبقته ولم أزل أصارع البعض
الإنسان في هذه الدنيا مبتلى، والعاقل من يأخذ أجرين وقت المصيبة:
أجر الصبر وأجر عدم الجزع.
يسر الله لك وأعانك الله.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 08:29 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
هكذا هي الدنيا دار شقاء وتعب لذتها ممزوجة بمرارة وفرحها يعقبه الحزن ...
صدقت
بارك الله فيك.(/)
خبر مؤسف!
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 08:36 ص]ـ
http://www.islammemo.cc/akhbar/arab/2009/08/16/86604.html
وقد أخبرني أحد المشايخ الفضلاء من الذين يتولون تنظيم رحلات العمرة في أحد المراكز الإسلامية في القاهرة بأن السلطات قد ردت عددا من المعتمرين أول أمس ممن تتراوح أعمارهم بين 25 إلى 65 عاما، كما ورد في الخبر، ولذلك قررت اللجنة الموكولة بهذا الشأن رد المبالغ المالية المدفوعة كمقدمات إلى أصحابها الذين هم خارج هذا النطاق، والسفارة السعودية لم تمتنع من إعطاء التأشيرات لأي فوج، وهذا ما قد يؤدي إلى ضياع أموال من تتم الشركات السياحية له الإجراءات، ومن ثم يتوجه إلى المطار فيفاجأ بقرار المنع، ولذلك وجب التنبيه على ذلك، لأن القرار ما زال ساريا إلى الآن، فالأصل إلى الآن سرعة المبادرة إلى استرداد المقدمات لمن هم خارج هذا النطاق إلى أن ترفع هذه النازلة، ولعل الله، عز وجل، أن يجعل لهم أجور المحصرين الذين صدوا عن البيت الحرام.
وإلى الله المشتكى.
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 09:46 ص]ـ
نعيش في عصر المتناقضات العصر الذي يجعل الحليم حيرانا ..
فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 11:59 ص]ـ
سبحان الله الناس يكدحون لكى يعتمروا ويحجّوا فحينما تسنح لهم الفرصة يجدوا ما يمنعهم من السفر، وأنا أقول لهم لعله خير وهذه مشيئة الله وبإذن الله ربنا سيؤجركم خيراً على نيتكم الصادقة فى السفر للاعتمار أو الحج.
ـ[ضاد]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 12:51 م]ـ
نسأل الله أن يلطف بنا من عمليات الاحتيال التي ربما ستتزايد في هذا العام.
ـ[فصيح البادية]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:17 م]ـ
حسبنا الله ونعم الوكيل(/)
من إحكام شريعة الإسلام
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 08:39 ص]ـ
شريعة الإسلام في الجنايات أكمل الشرائع عند التأمل في مآلاتها التي تحفظ بها الضروريات التي لا تستقيم الحياة إلا بحفظها: الدين والنفس والعرض والعقل والمال.
فتشريع القصاص، على سبيل المثال، مما تحفظ به الضرورة الثانية من ضرورات الدين إذ الأصل في دماء المسلمين الحرمة والتعظيم، وإن استبيحت على حد قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، فذلك وجه استباحتهم حرماتهم بأنفسهم، على حد حديث ثوبان، رضي الله عنه، مرفوعا وفيه: (وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)، ومن هانت عليه نفسه هان على غيره، فاستباح منه ما استباح من نفسه، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)، فذلك وجه استباحة غيرهم لحرماتهم. فما بلغ الأعداء من المسلمين ما بلغوا من أنفسهم.
والشاهد أن حقن الدماء المعصومة من كليات هذه الشريعة المحكمة، فكل دم معصوم، وإن كان دم ذمي معاهد لم ينقض عهده، لا تجوز استباحته إلا بما يوجب ذلك، فيكون ذلك من باب حفظ الكل بإهدار الجزء، وذلك من أبلغ صور الحكمة الإلهية التي غفلت عنها تشريعات أمم الأرض التي تحظر عقوبة الإعدام، صيانة للجزء وإن تعدى على الكل، فقتل القاتل لا يخلو من مفسدة جزئية وهي: إزهاق روحه، ولكن ذلك هدر في مقابل المصلحة الكلية التي تتحقق بذلك، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "حد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحا"، فامتثال أمر الشارع، عز وجل، في حد ذاته، أمر مراد لذاته، وإن لم يدرك العقل وجه المصلحة فيه، إذ قد سلم وانقاد لخبر الوحي الصادق، فعزل العقل عن منصب الولاية وصار تابعا للنقل يقتفي أثره على حد قول بعض أهل العلم: إذ جاء نهر الوحي بطل نهر العقل، ومن باب النافلة بعد الفريضة، يقال بأن وجه المصلحة الكلية المدركة في عالم الشهادة وهو: حفظ بقية الأنفس بإزهاق نفس من تعدى عليها عمدا، إذ ذلك يورث في نفس كل فاتك ما يزجره عن الولوغ في الدم الحرام، يقال بأن ذلك مما تهدر معه مصلحة حفظ نفس فرط صاحبها في حفظها إذ انتهك من الحرمة ما يوجب إتلافها، وقس على ذلك: دفع الصائل فإنه قد تعرض إلى إتلاف نفسه بتعديه على غيره، فإن لم يمكن دفعه إلا بقتله، قتل ولا دية له، سواء أكان الزمان زمان: أمن، أم كان زمان فتنة لا يرخص فيه في حمل السلاح صيانةً لدماء المسلمين فالأصل في قتال الفتنة: القعود والانكفاف لا سيما إن لم يظهر وجه الحق فيه، ومع ذلك صح حمل السلاح فيه دفعا للصائل الذي يغريه هرج الفتنة فيقدم على ما لا يجرؤ عليه حال الأمن، ولعل ما حدث في العراق مؤخرا خير شاهد على ذلك، إذ بسقوط البلاد في دوامة الفتنة: شاع الهرج فأقدم من أشعلها من أهل البدعة على ما أقدموا عليه من نهب
(يُتْبَعُ)
(/)
وسلب للممتلكات العامة حتى طال ذلك أسرة المستشفيات!، فضلا عن استباحة دماء أهل السنة، فصار قتل من يصول من أولئك على دماء وأعراض أهل السنة جائزا ما لم يندفع الصائل إلا به، والضرورة تقدر بقدرها، وليس من حمل السلاح فاقتحم دارك طلبا للفتك بك أو انتهاك عرضك كمن لم يجاهر بالعداوة وإن أبطنها، ولكل نازلة جزئية حكمها الخاص، وأهل مكة أدرى بشعابها، فليس من يجلس على أريكته، آمنا في سربه معافى في بدنه، ليكتب كلمات، كمن باشر الابتلاء، فعرف من حقيقته ما لم يعرف المعافى، وتلك فتن تمس الحاجة فيها إلى أقوال أهل العلم، لا سيما علماء المحلة التي نزلت بها النازلة فهم أقدر الناس على تصورها والحكم عليها، وإنما الغرض هنا الإشارة إلى أمر كلي مجمل لا تقرير حكم جزئي مفصل.
وقال أهل العلم أيضا: يجوز له دفع الصائل عن غيره خلافا لمن قصر ذلك على دفعه إذا صال عليه دون غيره، صيانة للدماء ما أمكن.
يقول ابن قدامة، رحمه الله، في "المغني":
"وَإِذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ صَائِلٍ، يُرِيدُ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ ظُلْمًا، أَوْ يُرِيدُ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا، فَلِغَيْرِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ مَعُونَتُهُ فِي الدَّفْعِ.
وَلَوْ عَرَضَ اللُّصُوصُ لِقَافِلَةٍ، جَازَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَافِلَةِ الدَّفْعُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا}.
وَفِي حَدِيثٍ: {إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْفَتَّانِ}.
وَلِأَنَّهُ لَوْلَا التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ؛ لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَالِ إنْسَانٍ لَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْكُلِّ، وَاحِدًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ". اهـ
إذ لو قصر الحكم على هذا النحو لاستباح اللصوص وقطاع الطريق ديار المسلمين دارا دار دون أن يتعرض لهم بقية أهل المحلة حتى يأتي دورهم!، على طريقة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وهذا حال المسلمين اليوم على مستوى الجماعات والأفراد، فسياسة: "الأنا مالية" هي السياسة المعتمدة في أوساط أمة قال عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، وكل منا على تفاوت في ذلك، لا يهتم إلا بإصلاح شأنه الفردي أو الجماعي، فـ: "مصر للمصريين"! وقس على ذلك بقية الأمصار، وأهل المحافظة أو المحلة الواحدة ينتصرون لبعضهم على حد: حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، ولو في المشاجرات التي تقع في وسائل النقل!، بل أهل الحي الواحد ينتصرون لبعضهم في المشاجرات التي تقع رحاها مع الأحياء الأخرى، وأهل العمارة لا يهمهم إلا إصلاح شأنهم وإن فسد شأن بقية سكان الحي، ويصل الأمر إلى أن سكان كل شقة لا يهتمون إلا بتنظيف عتبات منزلهم، وإن قذر ذلك بقية الدرج! فهو هرم متدرج قمته: أصحاب الولايات العامة، وقاعدته: الأفراد، فكل لا يسعى إلا فيما يعود عليه بالنفع الخاص وإن أهدرت المصلحة العامة المعتبرة شرعا في سبيل ذلك.
والصائل على الأديان أشد فتكا من الصائل على الأبدان، ولذلك شرع حد الردة الذي يسعى العلمانيون جاهدين في نسخه!، فهو من الناحية العملية معطل لا أثر له في عالم الشهادة، فلو وجد لانكف كثير من المرتدين المعاصرين عن الجهر بزندقتهم ولآووا إلى جحورهم فرارا من سيف الشرع الحاسم الذي لا يقيم الحدود به إلا إمام جامع، فليس ذلك لآحاد المكلفين لئلا تشيع الفتنة، فتدرء المفسدة وإن كانت عظيمة إذ أي مفسدة أعظم من مفسدة قدح مرتد في الملة وفي نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتدرء تلك المفسدة بمفسدة أعظم، إذ ضرر الفتنة عام لا يسلم منه أحد من أفراد الجماعة المسلمة. وشرع، أيضا، تعزير المبتدع المحدث في الدين، فإن لم يندفع شره إلا بالقتل جاز لولي الأمر قتله تعزيرا، والشاهد أن ذلك من صور إحكام هذه الشريعة الخاتمة، إذ تعارض أصلان فقدم أولاهما بالاعتبار حفظا للمصلحة الأعظم، فحفظ
(يُتْبَعُ)
(/)
الدين مقدم على حفظ النفس، ولذلك شرع الجهاد ذبا عن الملة بالدفع ونصرة لها بالطلب إذا كان للمسلمين به طاقة، وهو مظنة إتلاف النفس، إذ ضرورة حفظ الدين آكد من ضرورة حفظ النفس، ولو نظرنا إليها من وجهة نظر عملية، من باب النافلة بعد فريضة التسليم لحكم الشرع اللازم، فإن حفظ الدين في حقيقته: حفظ للنفوس عامة، بل حفظ لكل الضروريات الأخرى، فبالدين تنزجر النفوس عن التعدي على الحرمات والأموال، فإذا حفظ كان ذلك بمنزلة حفظ القانون العام الذي يحفظ أمن المجتمع، فيعود ذلك بالنفع العام على أفراده، وذلك بطبيعة الحال أولى بالاعتبار من حفظ نفس غير معصومة جاهر صاحبها بما يبيح دمه درءا لفتنته، ومع ذلك شرعت استتابته لعله يرجع عن غيه، فإذا تكررت ردته فحكمه القتل عند جمع من أهل العلم إذ تلاعبه بالدين مظنة الزندقة والسكوت عنه مظنة إغراء غيره من الجبناء الذين استتروا بمقالاتهم، فلا يظهرونها إلا في أزمنة الضعف، كما هو الحال في الأعصار المتأخرة.
وكذلك يقال في السارق، فإن يده قبل السرقة شريفة عظيمة القدر، في قطعها، القصاص، أو نصف الدية إن عفا المقطوع: 500 دينار من الذهب، والدينار يساوي بالمقياس المعاصر أربعة جرامات ونصف، وتلك ثروة وإن كانت لا تساوي اليد المقطوعة، ولذلك لم يعدل عن القصاص إلا برضا صاحبه، وهي بعد السرقة: مهينة حقيرة القدر تقطع في ربع دينار فقط، حفظا لضرورة المال التي لا تعتبر معها حرمة اليد إن فرط فيها صاحبها. وبذلك رد أهل العلم على "كلب معرة النعمان" كما يسميه ابن القيم، رحمه الله، في "طريق الهجرتين": التائه الحائر الضال: أبي العلاء المعري، الأديب المعروف، الذي أوتي من اللسان قدرا شريفا، ولم يؤت في الديانة إلا دينا رقيقا وإلى طرف من ذلك أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
"وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله، وقلة عقله فقال:
يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ ******* ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار
تَناقض ما لنا إلا السكوت له ******* وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ
ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه الفقهاء فهرب منهم. وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي، رحمه الله، أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب". اهـ
وما أكثر كلاب المعرة!، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ممن اقتدوا بإمامهم إبليس فعارضوا نصوص التنزيل الصحيحة الصريحة بأقيسة العقول الفاسدة المريضة، فلسان مقال إبليس: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، ولسان مقالهم إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم: عقولنا خير من التنزيل فدلالتها قطعية جازمة، ودلالة التنزيل ظنية محتملة، ولكل من خالف التنزيل نصيب من ذلك القياس الإبليسي الفاسد.
والله أعلى وأعلم.
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:40 م]ـ
طرح رائع أستاذنا المفضال وفى موازين حسناتك ونحن نتشوق لمزيد من موضوعاتك المتميزة والقيمة، دمت مبدعاً متألقاً أستاذ مهاجر ولا حرمنا مشاركاتك.(/)
من أجمل ما سمعت عن الاستعداد لرمضان
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 01:59 م]ـ
خطة الفوز في رمضان
الشيخ جابر عبد الحميد
محاضرة رائعة فعلا
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=62823 (http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=62823)#
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 04:58 م]ـ
بارك الله فيكم
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 07:45 م]ـ
و فيكم بارك الله
ـ[أبو طارق]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 10:10 م]ـ
اختيار موفق أبا دجانة
سلمتَ لنا أخي
ـ[كعب بن زهير]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 10:16 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
شكرا
ـ[السراج]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 10:20 م]ـ
بارك الله فيك
ـ[د. مصطفى صلاح]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 11:48 ص]ـ
وفيكم بارك الله
شكرا لمروركم الطيب:)(/)
نداء إلى إخوة الإيمان .. بين يَدَي (شهر رمضان)
ـ[أبو آلاء]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 03:58 م]ـ
نداء إلى إخوة الإيمان .. بين يَدَي (شهر رمضان):
... بيننا وبين (شهر رمضان) ساعاتٌ وأيَّام:
فَلْنَبتَهْل لَحَظاتِهِ وساعاتِهِ ...
فقد يكونُ هذا -لنا- آخِرَ عام!
إنَّهُ شهر الصيام والقيام ...
إنَّه شهر التَّقوى والإيمان ...
إنَّه شهرُ البرِّ والجود والإحسان ..
إنَّه شهر الذِّكر والقرآن ...
إنَّهُ الشهر الذي يُسلسل فيه الشيطان ...
إنَّهُ شهر مُراجعةِ النفس، ومُحاسبتِها ...
إنَّه شهرُ تفتيح الجِنان، وإغلاق النيران ...
إنَّه شهر الشفاعةِ، وباب الرَّيَّان.
إنَّهُ شهرُ كفِّ الأذى، وبذلِ النَّدى ...
إنَّهُ شهر الرَّغَب والرَّهَب، لا شهر الرَّفَث والصَّخَب ...
إنَّهُ شهر الصِّدق والاحتِساب ...
إنَّهُ شهر الجنَّة، والاتِّقاء ...
إنَّهُ شهر التفرُّغ والدُّعاء ...
إنَّهُ شهر العِتْق مِن النار ...
إنَّهُ شهر التصحيح والإصلاح ...
إنَّه شهر الصبر والعطاء ...
إنَّهُ شهرُ إقبال دُعاة الخير، وإدبار دُعاة الشرّ ..
إنَّه شهرُ التنافُس في الخيرات، والتَّسابُق إلى الطاعات ..
إنَّه شهر تكفير الذنوب، ومغفرة السيِّئات، والصَّفح عن الزَّلاّت ...
إنَّهُ شهر عِفَّة القَوْل، وحِفظ الجوارح، والأركان ...
إنَّهُ شهرُ صَوْنِ القلوبِ، وصيانةِ اللِّسان ...
إنَّهُ شهر مُجاهدة النُّفوس، ومُناقضة الهوى ..
إنَّهُ شهر الفَرَح بالطاعة، والحُبُور بالاستقامة ..
إنَّهُ شهرُ مُجانبة قول الزُّور، وترك العَمَل به ..
إنَّهُ شهرُ الخير، والالتزام به، والدعوة إليه ...
إنَّهُ شهرُ السَّكِينةِ والاستعانة ...
إنَّهُ شهرُ التوبةِ والإنابة، والحقِّ والإصابة، والعَوْدِ والاستجابة ...
... فَلْنُجاهِد أنفُسَنا ...
ولْنَكْبَح جِماحَ أقلامِنا ...
ولْنَقْطَع انْفِلات ألسنتِنا ...
ولْنُراقِب حركاتِ أقلامِنا، ومواضعَ أقدامِنا ..
... فالرابحُ مَن أقبلَ على الخير وأبوابِه، وعلى الهُدى وأسبابِه ...
والخاسرُ مَن أتْبَعَ نفسَهُ هواها، واتَّبَعَ شيطانَه؛ فأرداها ...
فاللهمَّ سَلِّم سَلِّم ...
الموضوع للشيخ علي حسن الحلبي
منقول
ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 04:19 م]ـ
بوركت يا أبا آلاء وجزاك الله كل خير على نقلك المتميز.(/)
أربعون وسيلة لاستغلال شهر رمضان
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:02 م]ـ
أربعون وسيلة لإستغلال شهر رمضان
إبراهيم بن عبد الله الدويش
http://img197.imageshack.us/img197/4839/ramadanubdm1.gif
توجيهات وأفكار عامة أي للناس عامة
الوسيلة الأولى
هل تحب أن تصوم رمضان مرتين؟ كيف؟
الإجابة تكون فى حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه: «من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنّه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً».
وهناك صور متعددة يمكنك من خلالها الحصول على هذا الأجر العظيم من تفطير الصائمين فى المساجد
وهذه مشهورة في كثير من مساجد وأحياء هذه البلاد – بفضل الله عز وجل – ولكن تحتاج أيضاً التخطيط والتنظيم فلو رافق هذا التخطيط والتوجيه والإرشاد وعقد الدروس قبل الإفطار على الأقل بساعة لكان هذا شيئاً جيداً، وخاصة فى هذا الوقت الذى تكون القلوب فيه منشرحة والأذان صاغية لسماع ما يلقى عليها
وهناك أيضاً صورة أخرى وهي: تفطير الأقارب والجيران، وفي هذا كما ذكرنا صيام في رمضان مرتين، وفيه صلة رحم وبر وحسن جوار.
الوسيلة الثانية
حث المحسنين وأهل الخير على الإنفاق في هذا الشهر الذي تضاعف فيه الحسنات
فالقلوب مهيئة لجميع إعمال الخير، وفي رمضان تكثر المناسبات خاصة فى الإفطار لكثير من الأسر.
وهذه المناسبات تجمع أعداداً كبيرة من الرجال والنساء فلم لا يستغل هذا الجمع؟ كيف؟
يستغل بالتذكير بفضل الصدقة وأحوال إخواننا المحتاجين في كل مكان، فتجمع الصدقات بالتنسيق مع الهيئات والمؤسسات الخيرية من خلال صناديق صغيرة توضع عند الرجال وعند النساء. ولا شك أن هذا باب عظيم من أبواب الخير.
وقد جربه أحد الشباب ونجح نجاحاً باهراً مع أسرته نسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
فلعلنا نحرص على هذا الأمر فإن حال المسلمين اليوم في كل مكان وفي كل صقع من أصقاع المعمورة حالة يرثى لها، وإن كانت هناك مبشرات ولله الحمد والمنة، ولكننا أيضاً نريد أن نشعر بالجسد الواحد وأن نقف مع المسلمين وقفة صادقة لنكون كما أخبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم بذلك المثل «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
الوسيلة الثالثة
التوجه إلى القرى والهجر
إستغلال أخر أسبوع من رمضان، فرمضان أربعة أسابيع نريد من الشباب أصحاب السواعد الفتية والعضلات القوية فى نهاية كل إسبوع من أسابيع رمضان أن يتوجهوا للقرى والهجر في توزيع الإعانات وإطعام الطعام للمساكين في تلك القرى والهجر وتوعية أهلها، عبر الكلمات، وخطب الجمع، وتوزيع الأشرطة والرسائل نتمنى حقيقة أن نجد من أصحاب الهمم والسواعد الفتية ومن الشباب الإسلامى ومن تعلق قلبه بالجنان ألا يترك إسبوع من أسابيع رمضان في هذا الشهر إلا وتنطلق فئات من الشباب محملون بكل خير ولو نظم هذا الأمر أيضاً وخطط له وطرح بقوة ورتب له من قبل وزارة الشؤون الإسلامية ممثلة بمكاتب الدعوة والجمعيات الخيرية لرأينا شبابنا أفواجاً فإننا نحسن الظن فيهم ولله الحمد والمنة.
وقد رأينا كثيراً من نشاطاتهم ولكننا نريد أن نستغل توجه القلوب إلى الله جل وعلا فى هذا الشهر المبارك، فلا نريد الخمول والكسل والجلوس بين الأولاد والأزواج وترك هذا الأمر العظيم ونترك المسلمين من أهل القرى والبوادى فى جهل عظيم.
الوسيلة الرابعة
زيارة تجمعات الشباب
وهي من الإقتراحات العامة الزيارات من قبل الدعاة وطلبة العلم والصالحين ومحبي الخير من شباب الصحوة للأرصفة وتجمعات الشباب والجلوس معهم وتقديم الهدايا والأشرطة والكتيبات لهم.
فإن هؤلاء الشباب يشكون هجركم أيها الأحبة بل ويتهمونكم بالتقصير، وإنكم سبب كبير في غفلتهم وبعدهم عن الله كما ذكر ذلك كثير منهم ويعتذرون بالخجل والحياء منكم وإلا لجاءوا بأنفسهم إليكم كما قال بعضهم.
وأتمنى أيضاً لو قامت مكاتب الدعوة والإرشاد بالإعلانات عن مثل هذا المشروع قبل رمضان وتسجيل أسماء الراغبين في المشاركة وترتيب جدول للزيارات ويكون ذلك قبل دخول شهر رمضان.
الوسيلة الخامسة
هدنة مع وسائل الإعلام
(يُتْبَعُ)
(/)
وهي من التوجيهات العامة أيضاً إذ كنت ممن ابتلي ببعض وسائل الإعلام في بيتك فلماذا لا تفكر يا أخي الحبيب ويا ولي الأمر؟ لماذا لا تفكر بعقد هدنة مع أهلك وأولادك خلال هذا الشهر المبارك بهجرها والإبتعاد عنها وعزلها؟ وذلك بالترغيب والكلمة الطيبة وبالتذكير بعظمة هذه الأيام؟
على الأقل خلال هذا الشهر ولعلها أن تكون إن شاء الله بداية النهاية ولا شك أن رمضان من أعظم المناسبات لتربية النفوس وإن لم تستطع خلال هذا الشهر أن تعزل أهلك ولو لشهر واحد من السنة فمتى إذن؟
خاصة وأن النفوس كما ذكرنا مهيئة والشياطين مصفدة.
فحاول يا أخي الحبيب واستعن بالله تعالى وكن صادقاً من قلبك فستجد إن شاء الله العون والإجابة من الأهل والأولاد.
وأيضاً أتمنى أن تتوقف خلال هذا الشهر المبارك عن قراءة المجلات والجرائد حتى ولو كانت مباحة.
فإن السلف الصالح رضوان الله عليهم ومن سار على نهجهم يهجرون مجالس التحديث وطلب العلم ليتفرغوا في رمضان لقراءة القرآن والنظر فيه والعبادة وقيام الليل.
أفلا تستطيع أن تهجر المجلات والجرائد ووسائل الإعلام ولو خلال هذا الشهر.
الوسيلة السادسة
الدعاء قبل الإفطار
أوقات الإفطار وقبل الآذان بدقائق لحظات ثمينة ودقائق غالية هي من أفضل الأوقات للدعاء وسؤال الله سبحانه وتعالى وهي من أوقات الإستجابة كما جاء في الحديث «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر».
والعبد الصائم مقبل على الله منكسر نفسه ومع ذلك يغفل كثير من الناس عن هذه اللحظات خاصة الأسر عند الإجتماع على الإفطار بالحديث والذهاب وبالإياب وتجهيز وجبات الإفطار فلماذا لا نتذاكر أيها الأحبة بفضل وإستغلال هذه اللحظات والحرص عليها برفع الأيدي والأكف إلى الله سبحانه وتعالى.
راقب هذه اللحظات وستجد الغفلة العجيبة عند كثير من الناس.
والعجيب أيضاً أننا نرى التجمعات والجلسات في الطرقات وعند الأبواب من بعض الشباب بل ومن بعض الآباء وإذا مررت بأحد الشوارع فانظر يمنة ويسرة فستجد تلك التجمعات حتى قبيل الغروب إن لم يكن إلى الأذان.
سبحان الله هذه اللحظات الغالية أوقات الدعاء والإستجابة والتفرغ يغفل عنها أهل التوحيد؟! وكلنا بحاجة إلى الدعاء وسؤال الله سبحانه وتعالى والموفق من وفقه الله.
الوسيلة السابعة
بر الوالدين
بر الوالدين والقرب منهما وقضاء حوائجهما وطاعتهما ومحاولة الإفطار معهما فبعض الشباب تجده كثير الإفطار في بيته أو عند أصحابه ولا يجلس مع والديه ولا يفطر معهما إلا قليلاً، ولا شك أن برهما من أعظم القربات إلى الله تعالى كيف لا وقد قرن حقهما بتوحيده وعبادته وحده جلا وعلا.
ومن صور التقصير أيضاً في حق الوالدين خلال هذا الشهر المبارك أن بعض الفتيات تكثر من النوم في النهار والسهر في الليل أو حتى في الخروج أو حتى في قراءة القرآن والأم وحدها في المطبخ لإعداد وجبات الإفطار والسحور وربما لو أمرت الأم أو نهت تلك الفتاة بأمر ما لصاحت وانهالت على أمها بالكلام، إنها غافلة عن هذه العبادة العظيمة التي يجب أن نحرص عليها لاستغلال هذا الشهر المبارك ولا شك أن الأجر مضاعف في هذا الشهر فلعل مثل هذا الأمر ينتبه إليه إن شاء الله.
الوسيلة الثامنة
الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر
النوم في ليالى رمضان يعين كثيراً على استغلال الأوقات الفاضلة كبعد صلاة الفجر مثلاً أو وقت السحر. ونحن نرى المساجد بعد صلاة الفجر بدأت تهجر بعد أن كانت في رمضانات مضت تمتلئ بالتالين والذاكرين، مما يشجع الكثير من الناس على المكوث بعد صلاة الفجر في المسجد. لكننا نرى المساجد في مثل هذا الوقت شبه خاوية لسرعة خروج المصلين.
ولو أن الإنسان نام شيئاً من الوقت في ليل رمضان لكسب الكثير من الأوقات ولأحيا هذه السنة المباركة في الجلوس بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس ثم يصلي ركعتين فيحصل على أجر حجة وعمرة تامة كما في الحديث «من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة».
الوسيلة التاسعة
تدريب النفس على هجر المعاصي
(يُتْبَعُ)
(/)
ومازلنا في التوجيهات والوسائل العامة، إذا كنت ممن إبتلى بمعصية أو فتنة أو إعتادت عليها النفس وألفتها وأصبح الفراق عليها صعباً وثقيلاً، فإن رمضان فرصة عظيمة للصبر والمثابرة ومجاهدة النفس عن تلك الفتنة فالشياطين مصفدة والنفس منكسرة والروح متأثرة والناس من حولك صيام قيام إذن فالأجواء والظروف كلها مهيئة للإبتعاد عن الفتنة وهذه المعصية فمثلاً: التدخين، شهر رمضان فرصة عظيمة للمدخنين لهجر وترك التدخين وتدريب النفس على هجرها والإبتعاد عنها.
وكذلك مشاهدة الحرام، أو الغيبة والنميمة، أو إستماع الغناء، أو بذاءة اللسان، أو غيرها من السيئات أسأل الله أن يحفظنا وإياكم وأن يعين أصحابها على هجرها وتركها إن شاء الله.
فأقول يا أخي الحبيب إستعن بالله تعالى وكن صاحب عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشهوة. أيجوز أن تكون مسلماً موحداً مصلياً وتغلبك سيجارة، والله إن هذه هي دنائة الهمة والخور والضعف.
أسأل الله العافية.
ثم أيضاً عليك بالدعاء واللجوء إلى الله تعالى وأصبر وصابر وحاسب النفس فستجد إن شاءالله أنك تغلبت على هذه الشهوات.
الوسيلة العاشرة
السواك في رمضان
السواك سنة مؤكدة في كل وقت في رمضان لعموم الأدلة لكنها كغيرها من العبادات في مضاعفة الأجر وطلب الثواب لمناسبة الزمان وهي من أهم أبواب الخير التي يُغفل عنها في رمضان.
ومنافع السواك كثيرة وفيه من الأجر والثواب العظيم والكثير وكما ذكرنا يغفل عنه الكثير، خاصة من النساء فإنك لا تكاد ترى أو تسمع عن هذه السنة بين النساء وأنت تنظر لزوجك أو بناتك أو أخواتك وترى قلة وجود السواك بين الأصابع، وقد كانت كثير من الصالحات والصحابيات رضوان الله تعالى عليهن وممن سار على دربهن يداومن على هذه السنة ومن الطريف ما يروى عن علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه أنه دخل يوماً على زوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوجد في فمها عوداً من الأراك فأراد أن يداعبها. والشاهد أنها كانت تستاك رضي الله تعالى عنها وهذه قصة ومثال نسوقه لأخواتنا من الصالحات ولبناتنا لعلهن إن شاء الله يقتدين بتلك الصالحات. فأراد أن يداعبها رضي الله تعالى عنه فقال هذين البيتين وهو يخاطب عود الأراك:
لقد فزت يا عود الأراك بثغرها ... أما خفت يا عود الأراك أراكا
ولو قام أهل الخير والمحسنين بتوفير أعداد كبيرة من السواك في هذا الشهر المبارك وتوزيعها بين المسلمين في المساجد خلال هذا الشهر لكان ذلك إحياء لهذه السنة التى غفل عنها كثير من الناس
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:07 م]ـ
الوسيلة الحادية عشر
العمرة في رمضان
وهي تعدل حجة مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم في ثوابها ولم يقيدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعشر الأواخر، كما يصر الكثير من المسلمين أن تكون في العشر الأواخر من رمضان ولا شك أن هذا يزيد في الأجر، ولكن إذا نظرنا إلى بعض الأحوال كالغلاء الفاحش مثلاً في المساكن هناك، ووجود النساء بكثرة وتبرجهن، والإزدحام في الحرم وكثرة المتسكعين في الأسواق المجاورة للحرم وأيضاً إزدحام الناس بشدة، كل هذه الظروف تجعلنا نقول لعلنا نحرص على العمرة في أوائل أيام شهر رمضان تحاشياً لهذه الأمور.
ولا شك أنه من الأنسب خاصة إذا نظرنا لهذه الظروف أن نحرص على العمرة في العشرين الأول.
ومن فوائد أداء العمرة في العشرين الأوائل أنها تتيح لك فرصة إستغلال العشر الأواخر بالإعتكاف، أو القيام على الأهل وحاجتهم والوالدين والجلوس معهما أو حتى بنفع المسلمين في الوقت الذي إرتحل فيه كثير من الدعاة والمصلحين وطلبة العلم عن أحيائهم وتركوا مساجدهم بدون موجه أو مرشد بحجة أداء العمرة.
الوسيلة الثانية عشر
نشر العلم فى القرى والهجر
توجه بعض الشباب ليؤموا الناس في القرى والهجر وللدروس والتوجيه وهذه تختلف عن الوسيلة الأولى، لأن الوسيلة الأولى في نهاية الأسبوع ولتوزيع الطعام.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولكن هذه الفكرة هي أن يتوجه عدد كبير من الشباب إلى القرى والهجر خلال هذا الشهر ليؤموا الناس هناك ولإلقاء الدروس وتوجيه الناس وإرشادهم، فإن الجهل كما ذكرنا هناك عظيم وكما تعلمون فكم من المسلمين في هذه الأماكن لا يجدون حتى من يصلي بهم، وإن وجدوا فخذ اللحن والأخطاء في كتاب الله جل وعلا. وإن وجدوا أيضاً من يصلي بهم لا يجدون الموجه الذي يبين لهم كثيراً من الأحكام الفقهية التي يحتاجون إليها. ولو نظرنا لسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل مكثوا في المدينة؟ لا ولكن تفرقوا في البلاد لنشر هذا الدين ولم يبق منهم في المدينة إلا العدد القليل. توجهوا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لبث الدعوة ونشر الإسلام وتوجيه الناس. وقد يتثاقل بعض الشباب عن مثل هذا الأمر فأقول لا بأس من التعاون في التناوب بين بعض الشباب في هذه الأماكن وسد إحتياجاتها حتى ولو تناوب في القرية الواحدة ثلاثة أو أقل أو أكثر. ولو قامت أيضاً مكاتب الأوقاف لشؤون المساجد بالتعاون مع مكاتب الدعوة والإرشاد بالتخطيط لهذه الفكرة وقام المحسنون أيضاً برصد المكافأت المالية لأولئك الشباب المحتسبين، لوجدنا ورأينا أثر هذا الأمر على هذه الأماكن. ولقد سمعت ولله الحمد أن وزارة الشئون الإسلامية ممثلة بمكاتب الأوقاف وشؤون المساجد قد وضعت مكافأة مالية قدرها 2000 ريال لأولئك الذين يؤمون الناس في تلك المساجد الشاغرة، سواء في داخل المدينة أو خارجها، إذن فما هو عذركم أيها الشباب والسبل كلها مهيئة.
الوسيلة الثالثة عشر
عصر يوم الخميس
وهي آخر التوجيهات والوسائل العامة. وهو إقتراح موجه لمكاتب الدعوة أيضاً، وعندما أقول لمكاتب الدعوة راجياً أن ينتفع من هذه الوسائل الناس عموماً في هذه البلاد أو في غيرها.
وهذه الفكرة هي إستغلال عصر الخميس في كل أسبوع من رمضان في إقامة المحاضرات العامة أو الندوات أو المسابقات الثقافية الكبيرة.
لماذا عصر الخميس بالذات؟
لأن الناس في إجازة وقد أخذوا قسطاً كبيراً من الراحة، بالإضافة إلى أن الغالب متفرغون لا شغل لهم فيقبلون لا شك على مثل هذه المشاريع ويعلن عنها فهل نرى ذلك قريباً إن شاء الله.
الوسيلة الرابعة عشر
تنويع الحديث بعد صلاة العصر
فلينتبه أئمة المساجد بارك الله فيهم فإن المسؤولية عليهم عظيمة، فلو أنهم أخلصوا النية لله وقاموا بشيء من واجبهم لوجدنا الأثر الكبير لا أقول في المدن بل في كل مكان. ويظن بعض أئمة المساجد أن الوظيفة هي الصلاة بالناس وينتهى الأمر. لا والله. بل إن الأمر عظيم والمسؤولية أكبر. ولعل هذه الأمور أن تعينهم إن شاء الله. فهذه التوجيهات لأئمة المساجد لإستغلال هذا الشهر المبارك لنفع الناس بكل وسيلة ومنها:
الإهتمام بحديث الصلاة بعد العصر وذلك بتنويعه والتجديد فيه، فتارة في أحكام الصيام، وتارة في الرقائق، وتارة في أخطاء يقع فيها الناس، وتارة بفتح الحوارات مع المصلين والأباء وكبار السن، وليس من اللازم أن يكون الحديث دائماً من الإمام بل ينبغى التنويع بإستضافة بعض طلبة العلم أو الدعاة فى بعض الأيام. فأقول: يا أيها الإمام لماذا لا تضع خطة لشهر رمضان؟ خطة كاملة في المواضيع والمشاريع التي ستنفذها خلال الشهر بدلاً من اللامبالاة والتخبط في المواضيع التى يقرأها بعض الأئمة على جماعتهم، أو القراءة من أي كتاب قريب لديه بدون إعداد ولا تعليق، بل تعال واسمع كثرة الأخطاء واللحن في كثير من النصوص، ولا تجزع إذا لم تُعط طاعة وإذا لم يقدر لك قدر أيها الإمام مادمت لا تبالي ولا تهتم في هؤلاء الناس الذين أمامك لكن افعل ذلك، وستجد التكريم والتقدير من جماعة المسجد والإحترام الذي فرضه عليهم إخلاصك لله سبحانه وتعالى ونشر هذا الدين فضلاً عن التحلي بالأخلاق وما يرونه من نشاط تقوم به.
الوسيلة الخامسة عشر
وهي الثانية بالنسبة للأئمة: قراءة كتاب الصيام من أمهات الكتب
لماذا لا يقرأ الإمام على جماعته كتاب الصيام من أحد كتب الفقه المعتمدة كالزاد مثلاً أو المغني أو العدة أو غيرها من كتب الفقه المعتمدة، فالناس بحاجة عظيمة للتفقه في شهرهم وفي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام فلا شك أنهم يجهلون كثير من أحكام الصيام.
(يُتْبَعُ)
(/)
لماذا لا تأخذ على نفسك عهداً على أن تبدأ من أول يوم من رمضان إلى آخر رمضان بتقسيم كتاب الصيام، ولا بأس من إضافة بعض التوجيهات أو الشروح عليه من خلال بعض الشروح الموجودة وليس شرطاً أن يكون بعد صلاة العصر، فاجعل مثلاً ما بعد صلاة العصر للمواضيع العامة، وما بعد صلاة الفجر للدرس الخاص مثلاً فمن أراد أن يجلس يجلس ومن أراد أن يذهب يذهب ولم يبق بعد صلاة الفجر إلا واحداً أو اثنين فقط لكفى، تفقيه للنفس وجلوس في المسجد إلى شروق الشمس، وعلم ينتفع به،
أو بعد صلاة الظهر أو ما شئت من الأوقات. فهذا مجرد إقتراح ونسأل الله عز وجل أن ييسره قريباً في مساجدنا من خلال أئمتنا.
الوسيلة السادسة عشر
صندوق للفتاوى
وضع صندوق للفتاوى عند الرجال والنساء خاصة في هذا الشهر، ثم جمعها وإعداد الإجابات عليها كل فترة، فإن لدى الناس كثيراً من الأسئلة – خاصة في رمضان – يحتاجون إليها في أمور دينهم لكنهم لا يجدون من يسألون فيتهاونون ويتكاسلون في ذلك.
ومثل هذه الصناديق لا شك أنها ستكون إن شاء الله عوناً وميسراً لهم لمعرفة كثير من المسائل والإستفسارات، وجرب هذا وستجد أثر ذلك على نفسك وعلى جماعة مسجدك.
الوسيلة السابعة عشر
لوحة الإعلانات
الإهتمام بلوحة الإعلانات والتوجيهات في المسجد. أقول الإهتمام بها والتجديد فيها والإثارة في عرض المواضيع والدعاية والإعلان الملون وغيره فإنها من وسائل التوجيه والإرشاد والدعوة.
الوسيلة الثامنة عشر
هدية رمضان
توزيع الأشرطة والكتيبات ولو ليوم واحد في الأسبوع وإستغلال المناسبات التي يكثر فيها المصلون. وإن لم يكن هذا دائما في كل أسبوع، فلا أقل من أن تقدم هدية تسمى بهدية رمضان لأهل الحي مكونة من شريط ورسالة أو كتيب وبعض الأحكام أو النشرات للعلماء الموثوق بهم ترسل إلى بيوت الأحياء معنوناً لها بهدية رمضان.
الوسيلة التاسعة عشر
الأسرة المسلمة
إقامة مسابقة الأسرة المسلمة ويعلن عنها في بداية شهر رمضان وتوزع الجوائز في آخر ليلة وهي ليلة العيد وذلك بطرح المسابقات النافعة الهادفة بعنوان " مسابقة الأسرة المسلمة "، وتوزع على أهل الحي ويشارك فيها الجميع كباراً وصغاراً نساءً ورجالاً ثم تعلن النتائج في آخر ليلة من رمضان ولا بأس أن يشارك الأئمة والمأمومون في الحي أو في المسجد كل بما يستطيع. هذا يساعد في إعداد الأسئلة، وهذا بتوزيعها وبعض التجار من المحسنين يرصد مبالغ للجوائز في ليلة العيد.
وهكذا يتكاتف المسلمون بإحياء رمضان بالدعوة ونشر الفقه في الدين وإشغال الأوقات بما يعود بالنفع على الجميع، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
الوسيلة العشرون
كلمة يسيرة من الدعاة
إستضافت بعض الدعاة وطلبة العلم في بعض الأحياء لتوجيه كلمات يسيرة لبضع دقائق بعد صلاة التروايح مثلاً أو بعد صلاة العصر أو غيرها من الأوقات.
http://img197.imageshack.us/img197/4839/ramadanubdm1.gif
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:09 م]ـ
http://img197.imageshack.us/img197/4839/ramadanubdm1.gif
الوسيلة الحادية والعشرون
إحياء سنة الإعتكاف
دعوة أهل الحي للإعتكاف ولو ليوم واحد لإحياء هذه السنة ونشر الألفة والترابط بين جماعة المسجد الواحد. فيحدد يوم في بداية العشر ويقال في المسجد من أراد أن يشارك في الإعتكاف فإننا ننوى إن شاء الله الإعتكاف في مسجدنا ليلة كذا، فإن هذا فيه خير عظيم وهو من باب التعاون على البر والتقوى.
الوسيلة الثانية والعشرون
إفطار جماعي
دعوة أهل الحي أو الجماعة للإفطار في المسجد ولو ليوم واحد خلال الشهر، فإن هذا يزيد الألفة والترابط والمحبة بين جماعة المسجد.
الوسيلة الثالثة والعشرون
التودد للذين لا يشهدون الصلاة إلا في رمضان
إغتنام فرصة حضور المتخلفين عن صلاة الجماعة في غير رمضان لأنهم يحافظون على الصلاة في رمضان فقط وهذا أمر محزن وخطير، كأن هذا الصنف من الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان وبئس رجل لا يعرف الله إلا في رمضان.
(يُتْبَعُ)
(/)
فيجب إغتنام فرصة وجود هؤلاء والذين لا تراهم إلا في رمضان، وذلك بتنبيههم إلى خطورة هذا العمل وفداحة أمر التهاون بالصلاة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»، وذلك بعد كسب قلوبهم بحسن التخلق معهم والسلام عليهم وأيضاً بالتودد لهم بزيارتهم وإهدائهم بعض الهدايا وذلك لإبعاد الوحشة والنفرة التي يوقعها الشيطان في قلوبهم.
الوسيلة الرابعة والعشرون
حفل لتوزيع جوائز المسابقة
إقامة حفل مصغر بمناسبة العيد لأهل الحي ليكن مثلاً في ليلة العيد أو في أي ليلة يراها جماعة المسجد.
وفي هذا الحفل توزع جوائز المسابقة التي تكلمنا عنه في الوسيلة التاسعة عشر، ويوزع فيها أيضاً شيء من الهدايا على الصغار والكبار. ولا شك أن إقامة مثل هذا الأمر فيه إحياء لأهل الحي وترابط عجيب وألفة ومحبة بين جماعة المسجد الواحد.
وسائل وأفكار وتوجيهات في الإهتمام بالقرآن وهي تقريباً أربع وسائل
الوسيلة الخامسة والعشرون
حلقات للكبار لتحسين التلاوة
نسمع كثيراً ممن يقرؤون القرآن في المساجد من العامة، بل ومن الموظفين وغيرهم وهم كحاطب ليل في القراءة، وقد يسمعهم من بجوارهم يخطئون ويلحنون ومع ذلك يخجل من تقويمهم والرد عليهم، فيظل كثير من الناس على حالهم مع كتاب الله بلحنهم وأخطائهم.
فلماذا لا تقوم جماعات المساجد وأئمة المساجد بإقامة حلقات للكبار لتحسين التلاوة، لا نقول للحفظ وإنما لتحسين التلاوة ويكون ذلك أيضاً بعد صلاة الفجر أو الظهر أو العصر، الأوقات المناسبة التي يتفقون عليها. ويُعلن عن ذلك من قبل جماعة المسجد مع حث الجميع على المشاركة خلال شهر رمضان وتذكيرهم بفضل تلاوة القرأن وفضل الماهر بالقرآن. وهكذا ستكون هذه بداية خير لكثير إن شاء الله ممن يشارك في مثل هذه الحلقات. فهل نرى ونسمع هذه الإعلانات من أئمة المساجد بالتنسيق مع جمعيات تحفيظ القرآن لتطبيق هذه الفكرة؟ فلا شك أننا سنجد خيراً كثيراً لو وجدنا مثل هذه الأمور منتشرة في مساجد أحيائنا.
الوسيلة السادسة والعشرون
عقد حلقة في البيت لتلاوة القرآن
نحن نرى كثيراً من الأباء يجلسون بعد صلاة العصر لتلاوة القرآن وهذا لا شك أمر محمود نسأل الله تعالى ألا يحرمهم الأجر، ولكن لو سألته وقلت له أين أولادك الآن؟ ماذا تفعل بناتك الأن فى البيت؟ ربما لا يعلم وربما أنهم نيام وربما أمام التلفاز وربما في الشارع وربما في غير ذلك. فنقول: لم لا يتوجه الأب بعد صلاة العصر مباشرة إلى بيته فيعقد حلقة لتلاوة القرآن مع أولاده وبناته. ويرصد لهم ولمن يرى فيهم الحرص على الإستمرار جوائز وهدايا تشجيعية. وبهذا العمل تحصل مكاسب عظيمة ومن هذه المكاسب:
أولاً: حفظ الأولاد من البرامج المسمومة الموجهة لهم وقتل أعظم أيامهم وأفضلها.
ثانياً: مشاركة البنات اللاتي يذهبن ضحية الغفلة عن ترتبيتهن والمحافظة على أوقاتهن.
ثالثاً: إحياء البيت بذكر الله وملئه بالجو الإيماني الروحاني بدل إماتته وملئه بالأغاني وبرامج التلفاز ومسلسلاته خاصة في شهر رمضان.
رابعاً: تقوية الإرتباط الأسري الوثيق بين الأب وأولاده وبناته.
أيضاً خامساً: محاولة ختم القرآن لأهل البيت جميعاً وإستغلال رمضان من جميع أهل البيت.
الوسيلة السابعة والعشرون
تدبُر القرآن
يمر علينا رمضان تلو رمضان وربما ختمنا القرآن كثيراً وربما كان همُ أحدنا متى يصل إلى نهاية السورة ومتى يصل نهاية القرآن.
ولا شك أن في ذلك أجراً عظيماً، فقد كان السلف يكثرون من ختم القرآن في رمضان.
ولكن لماذا لا نضع خطة خلال هذا الشهر أن نقرأ القرآن بتدبر ونقف مع آياته بالرجوع إلى كتب التفسير وتقييد الخواطر والفوائد منها.
كان ابن تيمية رحمه الله يقول: " ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير! ثم أسأل الله الفهم وأقول يا مُعلم آدم علمنى. . .".
فنتمنى أن نرى شبابنا في المساجد يقرؤن القرآن وبجوارهم كتب التفاسير، ينظر في هذا تارة وفي هذا تارة. ونغفل أيضاً عن الأحاديث الرمضانية والنظر فيها وفي شروحها وتقييد الشوارد والفوائد منها، فإنه يُفتح على الإنسان في هذا الشهر لمناسبة الزمان ما لا يُفتح عليه في غيره.
الوسيلة الثامنة والعشرون
درس على الرصيف
(يُتْبَعُ)
(/)
وهي موجهة للتجماعات والشلل الشبابية سواء على الأرصفة أو في الإستراحات أو في الخيام أو في غيرها، والتي تقضي ساعات الليل في لعب الورق تارة وفي الإسترخاء ومشاهدة التلفاز تارة أخرى وفي الأحاديث والثرثرة تارة، وهكذا تقتل ليالى رمضان دون أي إستشعار لعظمة هذه الأيام وفضلها. فأقول لهؤلاء الشباب: لماذا لا يفكرون ولو في ليالي رمضان من إدخال بعض البرامج النافعة؟ نتمنى أن يغير البرنامج كاملاً ويستبدل بما فيه نفع لهم ولأمتهم بدلاً من تضييع الاوقات فيما لا فائدة فيه. نسأل الله لهم الصلاح والهداية، فإن كان لابد من هذه الجلسات فلنحاول الإصلاح قدر الإستطاعة وذلك بإدخال بعض البرامج النافعة كما ذكرت آنفاً وذلك مثل: الإجتماع على تلاوة القرآن ولو لمدة نصف ساعة.
أو أننا نقول كما يقول بعض الشباب أن قراءة القرآن " لا تصلح إلا للمطاوعة؟! " لأنني أذكر أني طرحت هذه الفكرة على طلابي في الكلية وقلت: لماذا لا يتجرأ أحدكم على زملائه ويقول: لنحرص يا شباب على أن نجلس نصف ساعة مع كتاب الله نقرأه. فالقرآن ليس حكراً على الصالحين فهو كلام الله جلا وعلا وكتاب الله سبحانه وتعالى، وهو لنا جميعاً وإن عصينا أو وقعنا في كبائر الذنوب، فالباب مفتوح للجميع. وقراءة القرآن من الحسنات وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». فلماذا لا نقترح على هؤلاء الشباب أو يقترح بعضهم على بعض أن يكون من البرنامج قراءة القرآن ولو لنصف ساعة أو إستماع شريط أو غيرها من البرامج الجادة النافعة، فكما ذكرنا أن حب القرآن والإقبال عليه ليس حكراً على الصالحين فقط. فهل نرى إن شاء الله ذلك بين شبابنا قريباً.
توجيهات ووسائل للجادين خاصة
الوسيلة التاسعة والعشرون
الحرص على تكبيرة الإحرام
أقول: لو نظرنا لأنفسنا وحرصنا على الصلاة والتبكير إليها لوجدنا التقصير الواضح خاصة ممن يوُسم بالخيرية والإلتزام، فلما لا يكون رمضان فرصة عظيمة لمحاولة تصحيح هذا الخطأ؟ وذلك بمعاهدة النفس ألا تفوت تكبيرة الإحرام أبداً خلال هذا الشهر. فإذا نجحت فحاول أن تستمر على ذلك لمدة عشرة أيام بعد رمضان ليكون العدد أريبعين يوماً فتحصل على برائتين من النار وبراءة من النفاق، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان من النار وبراءة من النفاق»، ثم حاول أن تحسب كم من المرات فاتتك تكبيرة الإحرام في شهر رمضان؟ ولعلك أن تنجح إن شاء الله في تصحيح هذا الخطأ. ثم لماذا لا تحرص على تطبيق اليوم الإسلامي بالكامل خلال رمضان وذلك بالحرص على النوافل والطاعات وإحياء السنن، فلا تفوت عليك السنن والرواتب خلال هذه الثلاثين يوماً، ولا تغفل عن لسانك وحبسه عن الغيبة والنميمة وغيرهما، وأيضاً لا تغفل عن صلاة الليل والقيام ولا عن قراءة جزء واحد من القرآن على الأقل، والحرص على الصدقة وصلة الرحم، وقضاء حاجات الناس من الفقراء والمساكين، وزيارة المرضى والمقابر، والإستغفار والدعاء وكثرة ذكر الله في كل لحظة فإن هذه غنيمة باردة.
وهذا الشهر فرص ومواسم تفوت ولا ترجع، وبإختصار أقول إحرص على كل عمل صالح وإن كنت تفعل ذلك في غير رمضان فإنه يتأكد في رمضان لمضاعفة الحسنات ومناسبة الزمان وفقنا الله وإياك للعمل الصالح.
الوسيلة الثلاثون
تذكير الغافلين
لماذا لا يُستغل تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران و إنكسار النفوس ورقة القلوب في هذا الشهر. لماذا لا يستغل من الجادين في توجيه طلابنا وزملائنا في الفصول والقاعات الدراسية، وذلك بعد صلاة الظهر مثلاً أو في أماكن العمل والدراسة. فأين الكلمة الصادقة الناصحة في نهار رمضان من المدرس لطلابه أو من الطالب أو الموظف لزملائه؟ أين الجلسات الإنفرادية بالزملاء الغافلين والتحدث معهم ونصحهم لإستغلال شهر رمضان وهذه الأيام وإهدائهم الشريط والكتاب أو غير ذلك من الهدايا النافعة، فإن النفوس كما ذكرنا مهيئة ورغم أنف ثم رغم أنف من أدرك رمضان ثم لم يغفر له كما جاء فى الحديث.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:13 م]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
الوسيلة الحادية والثلاثون
وهي أيضاً للجادين خاصة وللمسلمين عامة
الصدقة في السر
الصدقة في رمضان لها منزلة خاصة عند المسلمين وهي من دواعى قبول الأعمال والعبادات.
وأنت يا أخي الحبيب بحاجة ماسة شديدة لنفعها وأجرها وظلها يوم القيامة، فلما لا تجعل لك مقدار من الصدقة تعاهد نفسك على أن تخرجها كل ليلة وتداوم عليها، ثم أيضاً تنوعها فتارة مالاً وتارة طعاماً، وليلة ثالثة لباساً، وليلة رابعة فاكهة أو حلوى، وتتحسس بيوت المساكين والفقراء بنفسك لتوصلها إليهم. وأنصحك أيضاً بألا يعلم عن هذا العمل أحد غيرك فإنك بحاجة إلى عمل السر بينك وبين الله، فكم من الأجر العظيم ينالك بهذا الفعل. ولا يخفى عليك أن من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، وقد ورد مثل هذا عن عدد كبير من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم كعمر بن الخطاب وعلى بن الحسين زين العابدين وغيرهم ممن حرصوا على التسلل في ظلم الليالى للقيام على الأرامل والمساكين «فالساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» فهل تفعل ذلك وتحرص على هذه العبادة العظيمة في السر بينك وبين الله؟
الوسيلة الثانية والثلاون
السحر من أجمل الأوقات ومناجاة المولى جلا وعلا
وفي رمضان لا شك نستيقظ للسحور فأين أنت من ركعتين تركعهما في ظلمة اليل تناجي فيهما ربك، فكثير من الناس عن هذا الوقت المبارك غافلون.
وبعض الناس يتصور أنه إذا صلى التروايح مع الناس وأوتر في أول الليل إنتهت صلاة الليل وإكتفى بذلك وحرم نفسه من هذه الأوقات الثمينة والدقائق الغالية ..
فالله الله في إستغلال السحر ما دمت فيه يقظان، فإن من صفات أهل الجنة التي ذكرها الله تعالى في سورة آل عمران {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
ثم أيضاً ذكر سبحانه وتعالى في سورة الذاريات أن من صفات المتقين أصحاب الجنات والعيون قال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
هذه من صفات المتقين فهل تستغل هذه الاوقات في الإستغفار؟ فإن قلت نعم فأقول عليك بسيد الإستغفار، وعليك أيضاً بكثرة التكرار مائة أو سبعين مرة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كل ليلة وفي كل وقت من أوقات السحر خلال هذا الشهر المبارك وأخيراً لا تنس أن من السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». فاحرص يا أخي الحبيب على هذا الوقت الثمين وأحرصي يا أختي المسلمة على هذا الوقت العظيم ألا يفوت علينا، خاصة وأننا في شهر رمضان وأننا ممن قام للسحور فجميعنا يقظان، فلنستغل هذه الدقائق في هذه العبادة العظيمة.
توجيهات وأفكار موجهة للمرأة فى رمضان
الوسيلة الثالثة والثلاثون
إستحضار النية وكثرة الذكر أثناء عمل البيت
فالمرأة في رمضان يذهب الكثير من وقتها خلال هذا الشهر المبارك في مطبخها خاصة في الساعات المباركة مثل ساعات الغروب وأوقات الإستجابة وكذلك ساعات السحر في وقت السحور، ولكن حتى لا تعتبر هذه الساعات الطويلة ضياعاً فعليها أن تنتبه لهذه الأمور:
وعلينا نحن أن ننبه زوجاتنا وبناتنا ونساءنا إلى مثل هذه الأمور حتى يكتب لها وقتها ولا يضيع عليها ومنها:
أ - إستحضار النية والإخلاص في إعداد الفطور والسحور وإحتساب التعب والإرههاق في إعدادها، فعن أنس رضى الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا يوماً منزلنا حاراً وأكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».
إذن فيا أيتها المسلمة .. إن عملك لا يضيع أبداً، بل هل تصدقين إن قلت لك أن هذا العمل حرم منه كثير من الرجال؟ لأن القائم على الصائم له أجر عظيم فما بالك وأنت صائمة، ثم أنت أيضاً تعدين هذا الطعام وتقضين كثيراً من وقتك في إعداده فلا شك أنك على خير، المهم إستحضار هذه النية من طاعة للزوج ورعاية للأولاد وغير ذلك ولن يضيع الله عملك إن شاء الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
ب - يمكنها إستغلال هذه الساعات في الغنيمة الباردة وهي كثرة الذكر والتسبيح والإستغفار والدعاء وهي تعمل. . فبدلاً من أن يضيع عليها وقتها في رمضان بدون فائدة فإنها تجمع بين الحسنيين إستحضار النية وكثرة الذكر والدعاء وهي تعمل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ت - الإستماع للقرآن والمحاضرات عبر جهاز التسجيل الخاص بالمطبخ وأقول الخاص بالمطبخ لأحث الرجال والإخوان على الحرص على توفير جهاز تسجيل خاصاً بالمطبخ. . لماذا؟ لأن المرأة تقضي كثيراً من وقتها في المطبخ فلعلها أن تستغل هذا الوقت في مثل هذه الأمور تارة بإستماع شريط وتارة بالتسبيح والتهليل والتحميد وأيضاً بالإحتساب وإستحضار النية الخالصة في إطعامها وعملها وتعبها لها ولأولادها وزوجها.
الوسيلة الرابعة والثلاثون
شراء ملابس وحاجيات العيد في بداية رمضان
وفي ذلك مكاسب منها:
إستغلال أيام وليالي رمضان وخاصة العشر الأواخر فما الذي يحدث؟ يضيع وقت كثير من النساء وكذلك أولياء أمورهن في الذهاب للخياط تارة أو الذهاب للمعارض أو الأسواق، وهكذا تضيع الأوقات الثمينة في أمور يمكن قضائها والإنتهاء منها قبل دخول الشهر أو في أوله، حيث تكون الأسواق شبه فارغة والأسعار رخيصة فلماذا ننتظر إلى وقت الزحام وغلاء لأسعار؟!
أمر أخر وهو تفريغ الزوج وعدم إشغاله في أعظم الأيام وهي العشرة الأواخر. لماذا أفتن ولدي أو زوجي أو غيره بمخالطة النساء المتبرجات في مثل هذه الأيام الفاضلة؟!
الوسيلة الخامسة والثلاثون
صلاة التراويح في المساجد
صلاة التراويح من السنن الجماعية ومن الآثار النبيلة التي تعطي هذا الشهر الكريم روحانية متميزة، فتجد صفوف المسلمين والمصلين متراصة وتسمع التسبيح والبكاء والتشنيج.
إلا أن هذا الخير قد تحرمه بعض نسائنا لا إهمالاً منها وإنما إنشغالاً بالأولاد والجلوس معهم، وهي بهذا بين أمرين كلاهما ثقيل أولاً: إما بالذهاب إلى المسجد وأخذ صغارها وقد يؤذون المصلين فتنشغل بهم أو بين الجلوس فى البيت وحرمان النفس من المشاركة مع المسلمين وربما حاولت الصلاة في بيتها، ولكنها تشكو من ضعف النفس وقلة الخشوع وكثرة الأفكار والهواجس فماذا تفعل إذن؟
أسوق هذا الإقتراح: لم لا تتفق مع بعض أخواتها بالإجتماع في أحد البيوت للصلاة جماعة مع إهتمام إحداهن بالصغار أو تجلس إحداهن مع الصغار والأخريات يذهبن للصلاة في المسجد، وهكذا إذا إتفقت الأخوات على أن تقوم واحدة منهن كل ليلة بالإهتمام بالصغار فإنها على الأقل ستكسب كثيراً من أيام وليالي رمضان مع المسلمين، أما أن تخسرها بهذه السهولة فلا.
وأقول: على الأزواج والأباء الحرص على حث أزواجهم وأخواتهم وبناتهم على الذهاب معهم إلى المساجد. فإلى متى ونحن نترك المرأة أيها الأخيار وحدها في البيت ونحرمها من الدروس والتوجيه والروحانية في الصلاة مع المسلمين وسماع الخير الكثير، فإن في ذهابها خيراً كثيرا إذا خرجت بصفة شرعية غير متعطرة ولا متجملة أو متبرجة. كما ينبغى عليها ألا تخضع بالقول وألا ترفع صوتها في المسجد فتؤذي المصلين. وعليها أن تتجنب الحديث في المسجد لغير حاجة خشية أن تقع في المحرم من غيبة أو نميمة. وخلاصة القول أنه ينبغي أن يعلم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل، وخروجها للمسجد لتحصيل منافع لا يمكن تحصيلها في البيت وإلا فبيوتهن خير لهن.
ولا ننسى أن في صلاح المرأة صلاح المجتمع، فلذلك نحث الأباء والأخوة على الحرص على أخذ أزواجهم وبناتهم إلى المساجد وألا يُتركن في البيت، لأنهن إن تركن في البيت بلا عون ولا توجيه وإرشاد أصبحن عرضة للغفلة «فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».
الوسيلة السادسة والثلاثون
وضع جدول غذائي منتظم
إذا نظرنا إلى المأكولات الكثيرة والمشروبات وتنوع أصنافها على سفرة الإفطار، فإنك تضطر إلى أن تقول لماذا يا أيتها المرأة المسلمة لا تجعلى لك جدولاً غذائياً منتظماً لتقسيم هذه الأصناف على أيام الأسبوع. فهل يشترط أن نرى جميع الطعام في كل يوم؟ لا يشترط هذا. وهل يشترط أن نرى جميع أنواع العصيرات في كل يوم؟ أيضاً لا يشترط، ولا شك أننا بهذا التنظيم نكسب أموراً كثيرة منها:
أولاً: عدم الإسراف في الطعام والشراب وقد نهينا عن ذلك.
ثانياً: قلة المصاريف المالية وترشيد الإستهلاك.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثالثاً: التجديد في أصناف المأكولات والمشروبات وإبعاد الروتين والملل بوجود هذه الأصناف يومياً.
رابعاً: حفظ وقت المرأة وطلب راحتها وإستغلاله بما ينفع خاصة في هذا الشهر المبارك، فهذا شيء من الثمار ومن الفوائد في تطبيق هذا الإقتراح. فيا ليت أن بعض الأخوات يفعلن مثل هذه الجدول ولعلهن أن ينفعن غيرهن من أخواتهن في توزيعه في مدراسهن وأماكن اجتماعهن فإن فعل ذلك كما ذكرنا فيه فوائد جمة.
ثم أختم الإقتراح الخاص بالمرأة بتحميلها المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى عن الإسراف في بيتها فهي المسؤولة الأولى عن الإسراف في الطعام والشراب وتعدد الانواع.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. .» ثم قال: «والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها».
الوسيلة الثامنة والثلاثون
تشجيع الصغار على المحافظة على الصلاة
إقتراح لأئمة المساجد الإهتمام بالصغار وتشجيعهم على المحافظة على الصلوات والتبكير للمسجد، وتعويدهم على صلاة التروايح كذلك، وذلك بأن يعلن إمام المسجد لأهل الحي من أول يوم فى رمضان عن رصد عشر جوائز تقل أو تكثر لأحسن عشرة صغار يحافظون على صلاة الجماعة ويبكروا لها ويحافظوا على صلاة التروايح أيضاً. ومن الجميل مشاركة بعض جماعة المسجد بالتشجيع كبعض التجار بالجوائز القيمة، ومشاركة بعض الأباء بطرح بعض المبالغ المالية لشراء جوائز قيمة لتشجيع هؤلاء. ولا بأس من تعاون الشباب مع إمام المسجد بمتابعة هؤلاء الصغار أو تكوين لجنة خاصة تتابعهم لتفرز في نهاية الشهر هؤلاء العشرة أو عن العدد الذي يحدد ثم في نهاية الشهر أي في ليلة العيد توزع الجوائز على هؤلاء الصغار. ولك أن ترى أثر ذلك على الصغار بل والكبار بل والحي كله ولو كان في المسجد لوحة للمثاليين كل شهر لرأيت عجباً من الأبناء والأباء.
الوسيلة التاسعة والثلاثون
مسابقات في حفظ القرآن والسنة
وهي خاصة أيضاً بالصغار وذلك بطرح مسابقات رمضانية لهم، إما بحفظ بعض الأجزاء من القرأن الكريم أو الأحاديث النبوية أو بمعرفة سيرة الصحابة معرفة شاملة أو غيرها من المسابقات النافعة وتوزيع الجوائز في الليلة الأخيرة من رمضان. ولك أيضاً أن ترى أثر ذلك على الصغار وإستغلال أوقاتهم وحفظهم من الشوارع ووسائل الإعلام وإنشغالهم بالبحث والقراءة والنظر والحفظ من خلال هذه المسابقات في ليلة العيد. إذن أصبحت ليلة العيد حقاً ليلة العيد. وفي ختام شهر رمضان نسأل الله أن يبلغنا ذلك – تجد أن المسجد قامت فيه مثل هذه الأنشطة نشيطاً وحياً، وترى أثر ذلك على أهل الحي جميعاً – لا أقول على الصغار فقط ولكن على الآباء بل على النساء أيضاً في البيوت، وإننا لنسمع تشجيع كثير من الأمهات والأخوات لكثير من الصغار لمثل هذه الأمور إذا طرحت من جماعة المسجد فهل يقوم أئمة المساجد بدورهم الحقيقى في الحي.
الوسيلة الأربعون والأخيرة
تعويد الصغار على الصيام وفعل الخيرات
وهي تعويد الصغار على الصيام والقيام، وتشجيع الأب بصحبتهم للمسجد تارة وبالثناء تارة وبالكلمة الطيبة وبالجوائز، بل وتعويدهم على الصدقة وبذل الطعام وتوزيعه على الفقراء والمساكين المجاورين.
وعندما تعطي الطفل الصغير ليوزعه بنفسه للجيران وللفقراء والمساكين وتذكره بالأجر وبفضل هذه الأعمال، فإن ذلك يُنشئه نشأة صالحة. تقول إحدى الأمهات لصغيرها بعد أن وزع بعض الأشياء على بيوت بعض الجيران، قالت له وكان وقت وجبة الغداء قالت له: تغذيت؟ قال: نعم تغذيت أجراً!! فنتمنى حقيقة أن يعيش صغارنا مثل هذه المعاني الجميلة التي تربيهم وتنشئهم تنشئة صالحة والأمر كما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
وتقول الربيع بنت معوذ عن صيام عاشوراء: " فكنا نصومه بعد ونُصومه صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن (أي من القطن) فإذا بكى أحدهم على الطعم أعطيناه ذلك (أي اللعبة) حتى يكون عند الإفطار ".
أي حتى يُتم صومه ذلك اليوم تُشغله بهذه اللعبة وفي ذلك تمرين لهم. وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الفعل لأنه فعله بحضرته فهو أيضاً من السنن التقريرية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
خاتمة
هذه أربعون وسيلة لإستغلال شهر رمضان، وهذه الوسائل منها ما هو معلوم ومنها ما هو جديد، وما بقي أيها الأحبة إلا أن نحرص على هذه الوسائل وننشرها بين الناس كافة، ومحاولة الوقوف مع أئمة المساجد لإحياء مساجدنا وأحيائنا بمثل هذه الأفكار والإقتراحات وغيرها مما يفتح الله به على بعض المهتمين. جعلنا الله وإياكم من مفاتيح الخير فى كل مكان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما ذكرنا وأن يوفقنا للعمل الصالح والعلم النافع ونسأله جل وعلا أن يبلغنا شهر رمضان. . اللهم بلغنا شهر رمضان. . اللهم بلغنا رمضان. . اللهم بلغنا رمضان وإجعلنا من الصائمين القائمين فيه يا أرحم الراحمين، اللهم إجعلنا من الصالحين المصلحين اللهم إنفعنا وأنفع بنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
http://img197.imageshack.us/img197/4839/ramadanubdm1.gif
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 08:34 ص]ـ
أحسن الله إليك وكتب لك الأجر أختي الكريمة.
ـ[عربية وافتخر]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 11:47 ص]ـ
بارك الله فيك
موضوع مميز
لي عودة في رمضان ان شاء الله
ـ[جلمود]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 01:17 ص]ـ
بارك الله فيكم،
وجزاكم الله خيرا!(/)
سلسلة .. وردك في رمضان
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:40 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
سلسلة .. وردك في رمضان ( http://www.islamstory.com/pagination.php?type=articles&cat_id=321)
منقول للفائدة
http://www.islamonline.net/arabic/daawa/2004/10/images/pic03.jpg
الورد اليومي لأعمال رمضان
ماذا ستفعل في الليلة الأولى من رمضان؟
افعل خمسًا .. واترك واحدة!!
افعل:
·انظر إلى الهلال .. وتذكَّر الدعاء المأثور، الذي رواه الترمذي
وأحمد والدارمي والحاكم وابن حِبَّان و عَنْ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
"اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ
(وجاءت بصيغة: الأمن عند الحاكم والدارمي)
وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ .. رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" ..
·راسل كل أحبابك مهنِّئًا، ومُحَمِّسًا لهم على استباق الخيرات.
·أدخل السرور على الأطفال؛ ليرتبط دخول رمضان عندهم
بالفرحة.
·لا تنس من أول ليلة في رمضان (صلاة التراويح) ..
·استجمع لرمضان (خمس نيَّات) فعلى عظمة النية يعظم الأجر
إن شاء الله ..
1. نية الصوم.
2. العودة الصادقة إلى الله .. والتوبة النصوح من صغائر الذنوب
وكبائرها ..
3. نية الترقي في العبادة.
4. نية تعميق جُذور الأخُوَّة.
5. نية الدعوة إلى الله.
اترك:
·الجدال السنوي المعتاد حول رؤية الهلال ..
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:41 ص]ـ
برنامج اليوم والليلة في رمضان
خمس نصائح قبل البداية:
1. حاول أن تكون الصلاة هي الفاصل بين أي مرحلتين من البرنامج.
2. اقض ما فاتك خلال نفس اليوم .. أو في اليوم التالي .. مباشرة ودون تسويف.
3. بإمكانك تعديل هذا الجدول بحسب ظروفك؛ فما هو إلا مقترح ..
4. انتبه بشدة للفراغات البينية خلال اليوم (مواصلات - انتظار - بين الأذان والإقامة ..... ).
5. أشرك معك إخوانك وأصدقاءك وأهلك في برنامجك؛ حتى لا تفتر؛ فيد الله مع الجماعة ..
معلومة هامَّة:
إمكانياتك أكثر بكثير من توقعاتك، وقد أودع الله عزَّ وجلَّ في الإنسان طاقات هائلة .. وكل ما سنعرض له في هذا اللقاء داخل في حدود القدرة البشريَّة، وفعله كثير من الصالحين .. فاجعل أهدافك عالية، وارتق بأحلامك إلى أحلام الصدِّيقين!
أولاً: وقت السحر ..
ولنا في هذا الوقت الشريف أعمال ثلاثة:
1. ركعتان خفيفتان
2. السحور
3. الاستغفار بالأسحار
ثانيًا: صلاة الفجر .. (أعمال عشرة!!)
(وهذه الأعمال تنطبق على سائر الصلوات الخمس ..
مع التعديل المناسب لكل صلاة)
1. ترديد الأذان
2. التبكير إلى المسجد فور سماع النداء ..
3. دعاء الطريق إلى المسجد .. روى مسلم عن عبد الله بن عباس يصف خروج النبي r إلى صلاة الفجر ..
يقول: " .. فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا وَمِنْ أَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا"
4. نية الاعتكاف.
5. دعاء دخول المسجد .. روى ابن ماجة (وصححه الألباني) عن فاطمة بنت رسول الله قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد يقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك" .. وإذا خرج قال: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
6. ركعتا النافلة القبليَّة.
7. بين الأذان والإقامة:
- قراءة ربعين من القرآن
- دعاء
- ذِكْر
8. الخشوع في الصلاة.
9. أذكار ما بعد الصلاة.
10.الاستماع للدرس بعد الصلاة.
ثالثًا: من بعد الفجر إلى ما بعد الشروق:
· قراءة القرآن منفردًا أو مع بعض إخوانك.
· الذكر المطلق بشتى أنواعه .. وخاصَّةً أذكار الصباح ..
· الدعاء ..
· ركعات الضحى التي وصَّى بها رسول الله
(ركعتان .. أربع .. ستٌّ .. ثمانٍ).
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:41 ص]ـ
رابعًا: فترة العمل ..
1. إتقان العمل عبادة ..
2. اجعل صيامك دافعًا للمزيد من حُسْن الخُلُق وسَعَةِ الصدر لكل المتعاملين معك.
(يُتْبَعُ)
(/)
3. لا تنظر لفترة عملك على أنها ضياع لفرص الطاعة الرمضانية؛ فلو أديت عملك على النحو الذي يُرضي ربك لكانت كلُّ دقيقة في يوم عملك .. عبادة خالصة ترجو ثوابها.
4.احرص على صلاة الظهر في جماعة مع زملائك ..
ملاحظة هامة:
ينبغي في فترة عمل الزوج أن تنشغل الأم خاصة - والنساء في البيت عامة - بإعداد طعام الإفطار .. سواء للأسرة أو للضيوف المدعوين .. وهنا لابد من ست ملاحظات هامة للأسرة عامة، وللزوجة المسلمة خاصة:
· استشعار نية تفطير الصائمين.
· تدريب الأبناء (والبنات خاصة) على عون الأم
· لا داعي للتكلُّف في الطعام ..
· ما أجمل أن تجعل الأسرة المسلمة لنفسها في رمضان وردًا (يومياً أو أسبوعيًّا) .. حسب الطاقة تصنع فيه طعامًا للفقراء ..
وما أروع أن يشارك الأبناء جميعًا في إعداده وتوزيعه.
· حبَّذا لو تقتصد الأسرة جدًا في طعام يوم من أيام الأسبوع، ثم تُخرج ثمن الإفطار في هذا اليوم إلى فلسطين أو لبنان ..
أو إلى أي بلد مسلم يحتاج إلى عون أو نُصرة ...
ولا بد أن نشرح للأطفال هذا الأمر ليعيشوا هموم أمَّتهم منذ الصِّغر.
· من المفيد أثناء إعداد الطعام أن تنشغل الأم بالذكر أو الاستغفار أو سماع القرآن والمحاضرات النافعة ..
خامسًا: بعد العمل حتى العصر ..
هي فترة القيلولة: من ساعةٍ .. إلى ساعة ونصف.
سادسًا: من العصر إلى المغرب ..
1. صلاة العصر في جماعة.
2. اجتماع الأسرة:
- يبدأ بتلاوة القرآن.
- ثم دراسة شيء من السيرة النبويَّة الشريفة.
- والتعرُّف على بعض قصص الصالحين.
- ولا مانع من إقامة بعض المسابقات النافعة للأطفال.
- إلى جانب تفقُّد عبادات الأسرة.
3. أذكار المساء.
4. الدعاء الجماعي أو الفردي
(خاصة عند الختمة القرآنية لأحد أفراد الأسرة).
سابعًا: من المغرب إلى العشاء ..
· يُستحبُّ الإفطار على بعض التمرات أو الماء.
· الدعاء المأثور "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ .. "
· الدعاء مستجاب عند الإفطار.
·صلاة المغرب في جماعة ..
·يُفَضَّل تأخير الطعام الرئيسي إلى ما بعد صلاة التراويح، والاكتفاء بعد المغرب باليسير من الطعام حتى يتسنَّى الحضور القلبي والعقلي في صلاتي العشاء والقيام ..
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:42 ص]ـ
ثامنًا: صلاة العشاء والقيام ..
1. احرص على الصلاة في مسجد يختم القرآن كاملاً في القيام (يقرأ جزءًا يوميًّا)
2. يُسْتَحَبُّ أن يكون المسجد قريباً قدر المستطاع حتى لا تفقد الكثير من الوقت، وحتى تستفيد بلقائك مع أهل حيِّك في تقوية الروابط، والدعوة إلى الله.
3. حبذا لو ذهبت النساء دون أطفال يشوِّشون على المصلين.
4. التركيز الكامل في معاني الآيات التي يقرؤها الإمام.
5. التركيز في الدرس الذي بين التراويح؛ فهو مجلس علم في بيت الله.
تاسعًا: من بعد القيام .. إلى النوم
(في الحادية عشرة مساء)
ويمكن أن تُقضَى هذه الفترة:
· إمَّا في طعام لا إسراف فيه (إذا كنت نفَّذت اقتراح تأخير الطعام).
·أو في مذاكرة وطلب علم ..
· كما يمكن أن تُقضى هذه الفترة في استكمال ورد قرآني، أو ذِكْرٍ فائت من أعمال اليوم ...
· أو في متابعة لشئون الأسرة الداخلية والخارجية .. أو صلة الرحم ..
أو قضاء بعض المصالح والحوائج الهامة والتي لا تتسبَّب
(بقدر الإمكان) في تأخير موعد نومك.
· ........................
عاشرًا: النوم!!
كيف يكون نومك عبادة وطاعة من طاعات يومك الرمضاني؟
· بأن تنوى بنومك استعدادًا وقوة على طاعات جديدة في غدك.
· باتباع السنَّة في آداب النوم من حيث:
1. النوم على طهارة.
2. الاضطجاع على شقك الأيمن.
3. أذكار النوم.
ملاحظة:
إذا كانت هذه فقرات اليوم والليلة في رمضان .. فإن هناك أعمالاً عامة هي من معالم رمضان وإن لم تكن مقتصرة على وقت معين .. ولكن لا بد من الاهتمام القوي بها مثل:
· قراءة القرآن.
· والدعاء.
· وإصلاح ذات البين .. بين المتخاصمين .. وليس بالضرورة أن تكون أنت أحدهم.
· والصدقات العامة .. كن كالريح المرسلة بالخير ..
كما كان حبيبك حين كان يُدارس جبريلَ القرآن في شهر رمضان.
· من الأفضل إتمام تجهيزات العيد (من مشتريات وغير ذلك)
قبل دخول العشر الأواخر؛ حتى نتفرَّغ فيها للعبادة كما سنرى ..
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:42 ص]ـ
يوم الجمعة
لا بد في يوم الجمعة من التركيز على بعض الأعمال الهامة مثل:
1. التبكير لصلاة الجمعة، والغُسل والتطيُّب ..
2. قراءة سورة الكهف.
3. الإكثار من الصلاة على الحبيب.
4. تحرِّي ساعة الإجابة.
5. استكمال الأعمال الفائتة من سائر أيام الأسبوع.
العشر الأواخر
هناك العديد من النصائح لا بد أن نأخذها مأخذ الجد في هذه العشر المباركات:
· اجعل حظًا من إجازتك السنوية في هذه العشر (كلها أو بعضها).
· لا تنسَ الاعتكاف!!
· ابدأ مع العشر الأواخر ختمة قرآنية خاصة.
· حافظ على صلاة التهجُّد
· أقلل من الأكل والنوم والكلام فضلاً عن الجدال واللغو والمزاح
· تحرَّ ليلة القدر؛ فهي خير من ألف شهر!! ..
·لا تنس إخراج زكاة الفطر في موعدها المحدد (قبل صلاة العيد)
· استكمل تجهيزات العيد قبل دخول العشر الأواخر.
اللحظات الأخيرة في رمضان
مع نهاية اليوم الأخير من الشهر الكريم، ومع دخول ليلة العيد، فإن أمامنا واجبات كثيرة منها:
1. الاتصال بالأهل والأصحاب للتهنئة بالعيد المبارك قائلين: "تقبَّل الله منا ومنكم"
2. إدخال السرور على الأطفال بتحضير الملابس الجديدة وإعطاء النقود وشراء اللعب، وإشعارهم أن هذا عيد للمسلمين حقًّا.
3. التوسعة على الأسرة وعلى الزوجة وعلى الأبناء في الهدايا والطعام والشراب.
4. إدخال السرور على الفقراء والتصدُّق عليهم بما تستطيع ليشعروا معك بفرحة العيد العظيم.
5. إصلاح ذات البين بينك وبين من خاصمت قبل ذلك وإصلاح ذات البين بين المسلمين عمومًا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:44 ص]ـ
ما بعد رمضان ..
· صيام الست من شوال: كرمز واضح على تعلُّق قلبك بطاعة ربك التي قدمتها في رمضان ..
· الاستقامة على درجات رمضان التي ارتقيتها .. فقد أنشأ الله الكريم لك هذا الموسم لتتأكد بنفسك أنك تقدر – بعونه تعالى – على ارتقاء الدرجات العلا في طاعته .. وبحوله وقوَّته تيسَّرت لك الطاعة ..
فتشبَّث بالرجاء منه أن يثبِّتك على طاعته فكما أنه رب رمضان فهو رب العام كله ..
· تأكَّد من تحقيق التقوى في قلبك؛ فهي ثمرة الصيام المرجُوَّة .. "لعلَّكم تتَّقون".
وتذكر في الختام:
من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى!!
ومن كان يعبد الله .. فإن الله حي لا يموت
جزاكم الله الجنة
وكل عام وانتم الي الله اقرب
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
إعداد
فريق رسالة حياة
ـ[القاموس المحيط]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 12:54 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
جزاكِ الله خيرا ياحامل القرآن ..
أسأل الله أن يجعلكِ ممن يحملون كتابهم بيمينهم يوم القيامة ..
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 02:41 م]ـ
http://www.redcodevb.com/smiles/smiles/33/www.hh50.com-Gallery-Pictures-Signatures-Ramadan-0316.gif
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم "من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة" رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم "عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء" رواه ابن عباس.
http://www.redcodevb.com/smiles/smiles/33/www.hh50.com-Gallery-Pictures-Signatures-Ramadan-0297.jpg
ثواب قارئ القرآن
أما عن الثواب الذي يناله قارئ القرآن فعن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حرفاً من
كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم
حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " رواه الترمذي
فهذا الحديث الشريف يبين فضل وعظمة هذا القرآن
العظيم ويبين أيضاً الجزاء الأوفى والأجر العظيم الذي
يناله قارئ القرآن الكريم فبمجرد القراءة يأخذ الإنسان
هذا الأجر فما بالنا بمن قرأ وأحسن وجود القرآن
وعمل بما فيه فإن الله تعالى يعظم له الأجر كما قال
تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)
http://www.redcodevb.com/smiles/smiles/33/www.hh50.com-Gallery-Pictures-Signatures-Ramadan-0338.gif
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[19 - 08 - 2009, 02:51 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزااااك الله خيراً .... أختي الحبيبة ... يا حامل القرآن ... وجعلها الله في موازين حسناتك .... اللهم آمين
ـ[جلمود]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 01:09 ص]ـ
جزاك الله خيرا كثيرا!
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 08:57 م]ـ
[ QUOTE= ياحامل القرآن;364417] [ CENTER] السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
سلسلة .. وردك في رمضان ( http://www.islamstory.com/pagination.php?type=articles&cat_id=321)
منقول للفائدة
http://www.islamonline.net/arabic/daawa/2004/10/images/pic03.jpg
الورد اليومي لأعمال رمضان
ماذا ستفعل في الليلة الأولى من رمضان؟
افعل خمسًا .. واترك واحدة!!
[ FONT=Comic Sans MS] افعل:
·انظر إلى الهلال ..
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
رؤية الهلال من فروض الكفاية على المسلمين , فإن قام به بعضهم سقط وجوبه
على البقية , وبقيت عليهم سنيته , وعليه فرؤية هلال رمضان من السنن
المندوبة من حيث الجملة , وتكون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان على قول
الجمهور , ومن العلماء قال: ليلة التاسع والعشرين , ووجوب رؤية الهلال
على البعض لكونه سببا في واجب , وهو صيام رمضان , وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب.
وقد تربص له الرسول صلى الله عليه وسلم ,وكذا صحبه ومن بعده , وأمر
برؤيته , فقال: " صوموا لرؤيته .. " , " لا تصوموا حتى تروا الهلال .. "
, " فإذا رأيتم الهلال فصوموا ... " , فهذه الأخبار تتضمن الطلب.
وتذكَّر الدعاء المأثور، الذي رواه الترمذي
وأحمد والدارمي والحاكم وابن حِبَّان و عَنْ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
"اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ
(وجاءت بصيغة: الأمن عند الحاكم والدارمي)
وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ .. رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" ..
[ SIZE=5]
[B][COLOR="red"] قلتُ: قال أبو داود - رحمه الله تعالى -: لم يصح في الباب حديث مسند ,
فكل ما نُسب للنبي صلى الله عليه وسلم من أذكار عند رؤية الهلال ضعيف بذاته
, ولم يصح طريقه بمفرده , وبعضها أصح من بعض , وأصحها اللفظ المذكور,
ولذا فإن العلماء حسنوا هذا اللفظ بمجموع الشواهد الواردة.
والله الموفق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 09:13 م]ـ
[ QUOTE= ياحامل القرآن;364418] [ CENTER] برنامج اليوم والليلة في رمضان
خمس نصائح قبل البداية:
1. حاول أن تكون الصلاة هي الفاصل بين أي مرحلتين من البرنامج.
2. اقض ما فاتك خلال نفس اليوم .. أو في اليوم التالي .. مباشرة ودون تسويف.
3. بإمكانك تعديل هذا الجدول بحسب ظروفك؛ فما هو إلا مقترح ..
4. انتبه بشدة للفراغات البينية خلال اليوم (مواصلات - انتظار - بين الأذان والإقامة ..... ).
5. أشرك معك إخوانك وأصدقاءك وأهلك في برنامجك؛ حتى لا تفتر؛ فيد الله مع الجماعة ..
معلومة هامَّة:
إمكانياتك أكثر بكثير من توقعاتك، وقد أودع الله عزَّ وجلَّ في الإنسان طاقات هائلة .. وكل ما سنعرض له في هذا اللقاء داخل في حدود القدرة البشريَّة، وفعله كثير من الصالحين .. فاجعل أهدافك عالية، وارتق بأحلامك إلى أحلام الصدِّيقين!
قلتُ: تُغير هذه الكلمة بـ " رجاء ".
أولاً: وقت السحر ..
ولنا في هذا الوقت الشريف أعمال ثلاثة:
1. ركعتان خفيفتان
قلتُ: ومن أوتر مع إمامه هل يصلي هاتين الركعتين؟
2. السحور
3. الاستغفار بالأسحار
ثانيًا: صلاة الفجر .. (أعمال عشرة!!)
(وهذه الأعمال تنطبق على سائر الصلوات الخمس ..
مع التعديل المناسب لكل صلاة)
1. ترديد الأذان
2. التبكير إلى المسجد فور سماع النداء ..
3. دعاء الطريق إلى المسجد .. روى مسلم عن عبد الله بن عباس يصف خروج النبي r إلى صلاة الفجر ..
يقول: " .. فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا وَمِنْ أَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا"
4. نية الاعتكاف.
5. دعاء دخول المسجد .. روى ابن ماجة (وصححه الألباني) عن فاطمة بنت رسول الله قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد يقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك" .. وإذا خرج قال: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
6. ركعتا النافلة القبليَّة.
7. بين الأذان والإقامة:
- قراءة ربعين من القرآن
- دعاء
- ذِكْر
8. الخشوع في الصلاة.
9. أذكار ما بعد الصلاة.
10.الاستماع للدرس بعد الصلاة.
ثالثًا: من بعد الفجر إلى ما بعد الشروق:
· قراءة القرآن منفردًا أو مع بعض إخوانك.
· الذكر المطلق بشتى أنواعه .. وخاصَّةً أذكار الصباح ..
قلتُ: وهل أذكار الصباح من الذكر المطلق أم المقيد الحالي؟
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 09:30 م]ـ
· [/ color] يُفَضَّل تأخير الطعام الرئيسي إلى ما بعد صلاة التراويح، والاكتفاء بعد المغرب باليسير من الطعام حتى يتسنَّى الحضور القلبي والعقلي في صلاتي العشاء والقيام .. [/ size][/font][/center]
قلتُ: ما الدليل الشرعي على هذه الأحكام؟
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 09:42 م]ـ
[ QUOTE= ياحامل القرآن;364420]
ثامنًا: صلاة العشاء والقيام ..
[ center]
[font=comic sans ms][size=5]1. احرص على الصلاة في مسجد يختم القرآن كاملاً في القيام (يقرأ جزءًا يوميًّا)
قلتُ: الحرص يكون على مسجد يقيم السنة , ولا عبرة بختم القرآن في الليلة
الواحدة إذا كان المسجد من مساجد المبتدعة.2. يُسْتَحَبُّ أن يكون المسجد قريباً قدر المستطاع حتى لا تفقد الكثير من الوقت، وحتى تستفيد بلقائك مع أهل حيِّك في تقوية الروابط، والدعوة إلى الله.
قلتُ: فإن تعارضت هذه المندوبة مع السابقة , فما العمل؟
3. حبذا لو ذهبت النساء دون أطفال يشوِّشون على المصلين.
قلتُ: ولمه تحرمين الأطفال من الخير , وأنت تحثين على ذلك؟ , وهل عندك
دليل أن النساء كن يذهبن للمساجد بلا أطفال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وسلف الأمة؟
[ font=comic sans ms][size=5] كيف يكون نومك عبادة وطاعة من طاعات يومك الرمضاني؟
قلتُ: وهل النوم يكون عبادة فحسب في رمضان؟
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 09:47 م]ـ
يوم الجمعة
لا بد في يوم الجمعة من التركيز على بعض الأعمال الهامة مثل:
1. التبكير لصلاة الجمعة، والغُسل والتطيُّب ..
2. قراءة سورة الكهف.
3. الإكثار من الصلاة على الحبيب.
4. تحرِّي ساعة الإجابة.
5. استكمال الأعمال الفائتة من سائر أيام الأسبوع.
العشر الأواخر
[ center] مع نهاية اليوم الأخير من الشهر الكريم، ومع دخول ليلة العيد، فإن أمامنا واجبات كثيرة منها:
1. الاتصال بالأهل والأصحاب للتهنئة بالعيد المبارك قائلين: "تقبَّل الله منا ومنكم"
2. إدخال السرور على الأطفال بتحضير الملابس الجديدة وإعطاء النقود وشراء اللعب، وإشعارهم أن هذا عيد للمسلمين حقًّا.
3. التوسعة على الأسرة وعلى الزوجة وعلى الأبناء في الهدايا والطعام والشراب.
4. إدخال السرور على الفقراء والتصدُّق عليهم بما تستطيع ليشعروا معك بفرحة العيد العظيم.
5. إصلاح ذات البين بينك وبين من خاصمت قبل ذلك وإصلاح ذات البين بين المسلمين عمومًا.
قلتُ: ما الدليل على وجوب ما ذكرتِ شرعًا؟
والله الموفق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 10:18 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
جزاك الله خير ... أختي الكريمة ياحامل القرآن .... على سعيك لنشر العلم
الأستاذ الفاضل .... السلفي
ما قالته الأخت الفاضله .... هو ما يقوله أكثر المشايخ ويدعون به .... وهي عندما قالت ذلك إنما هو لكي نتبع الأفضل ....
جزى الله الجميع
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 10:57 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..... وبعد: ـ
جزاك الله خير ... أختي الكريمة ياحامل القرآن .... على سعيك لنشر العلم
الأستاذ الفاضل .... السلفي
ما قالته الأخت الفاضله .... هو ما يقوله أكثر المشايخ ويدعون به .... وهي عندما قالت ذلك إنما هو لكي نتبع الأفضل ....
جزى الله الجميع
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك أختي الكريمة ,وبارك فيك.
أختصر كلمتي في النقاط التالية:
أولاً: ما ذكرتِ من كون أكثر المشايخ يدعون بما قد علقتُ عليه, فيه:
(1) أنه ليس بحجة شرعية على صحة الكلام والأحكام , فصحة الكلام في
الدين والأحكام إنما تكون بالدليل الشرعي المعروف عند أهله.
(2) من هم أكثر المشايخ الذين قالوا بما ذُكر مع دليلهم الذي ساقوه؟
(3) ما ذكر في جملته إن صلح لبلد لا يصلح لآخر ,وإن صلح لفرد لا يصلح
لأفراد , وذلك لاختلاف العادات والطباع والأشغال وأنظمة البلاد ,
فمثلاً: قد يصلح جملة ما ذكر لعموم أهل المملكة السعودية أما بمصر ,فهيهات
هيهات هيهات.
ثانيًا:قولك: "وهي عندما قالت ذلك إنما هو لكي نتبع الأفضل " فيه:
(1) إذا كانت الدعوة إلى الأفضل بعلم سقيم فلا يجوز , فإن الشريعة توجب
على المسلم إحسان الوسيلة والقصد ولا تعترف بالقاعدة الغربية الوضعية:
" الغاية تبرر الوسيلة " , بل الدين ينظر إليهما في الإصلاح على حد سواء ,
وإن خفف في الوسيلة ما لم يكن في المقصد فبشرط عدم التصادم مع
المنصوصات.
(2) الدعوة إلى الأفضل لو كان منها ما يرجع للعرف فلا بد أن نعتبره , فما
كان فاضلاً في عرف فلا يكون كذلك في أعراف , وما ذكرت الأخت منه ما يتوقف
على الأعراف.
(3) الدعوة إلى الأفضل لا تكون بصيغ ومصطلحات الوجوب عند أهل الفن.
ثالثًا: تقرير العدل والصواب في العلم لا يتوقف على المشاعر والأحاسيس
والعواطف , فالعلم علم له قواعده ومبادئه ومنهجيته , فليس مرتعًا يرتع فيه من
يشاء ويقول ما يقول. وليس كلامًا يُرمى به على أي وجه ,
وخصوصًا علم الدين الذي هو توقيع عن الله تعالى رب العالمين.
رابعًا: وهو أهم ما يكون هنا , إذا كنتِ ترين غلطًا فيما ذكرتُه - أنا - من
تعليق فلك الرد عليه بمنهجية أهل الفن , ولك تبيين عورته وضعفه , فإذا فعلتِ
أغنى تمامًا عن أي كلام , وأنا في الانتظار.
خامسًا: ما يراه غير أهل الصنعة سهلاً وغير مهم قد يراه أهل الصنعة عظيمًا ,
فما يراه أهل الصنعة لايراه غيرهم , ولذا جاء الأمر بسؤال أهل الذكر.
فقد يسهل عند غير أهل النحو أن يقول: " فعل مضارع مرفوع , وعلامة رفعه الفتحة " ,
وهو عند أهل النحو والصنعة سيف على رقابهم.
سادسًا:ليتك تتركين التعليقات التي لا تقدم ولا تؤخر شئيًا , وليتك تبقين على
المفيد.
والله الموفق.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 11:00 م]ـ
بسم الله.
خامسًا: ليتك تتركين التعليقات التي لا تقدم ولا تؤخر شئيًا , وليتك تبقين على
المفيد.
والله الموفق.
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزاك الله خير
ـ[السلفي1]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 11:21 م]ـ
ا
لحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد: ـ
جزاك الله خير
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أحسن الله تعالى إليك أخيتي الكريمة , وجزاكِ الله تعالى من الخيرات ,
ما رأيتِ من كلامي إلا ما علقتِ عليه؟! , فليتك وضعتِ ما عندك من علم حول
ما ذكرتُه من تعليق على كلام الأخت , لأستفيد , ويستفيد الجميع.
هذا هو همي الأول , لأصحح ما عندي من خطإ.
والله الموفق.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 11:56 م]ـ
[ quote= ياحامل القرآن;364417]
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
(يُتْبَعُ)
(/)
رؤية الهلال من فروض الكفاية على المسلمين , فإن قام به بعضهم سقط وجوبه
على البقية , وبقيت عليهم سنيته , وعليه فرؤية هلال رمضان من السنن
المندوبة من حيث الجملة , وتكون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان على قول
الجمهور , ومن العلماء قال: ليلة التاسع والعشرين , ووجوب رؤية الهلال
على البعض لكونه سببا في واجب , وهو صيام رمضان , وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب.
وقد تربص له الرسول صلى الله عليه وسلم ,وكذا صحبه ومن بعده , وأمر
برؤيته , فقال: " صوموا لرؤيته .. " , " لا تصوموا حتى تروا الهلال .. "
, " فإذا رأيتم الهلال فصوموا ... " , فهذه الأخبار تتضمن الطلب.
[ center] بارك الله فيكم على المعلومات الطيبة ربنا ينفعكم بما علمكم.
سبحان الله الكلام لا يذكر الوجوب فلم يذكر (واجب على كل مسلم) وإنما قد ذكر فى طيات الحديث وكلها من باب التذكرة فقط ولا تعنى الوجوب
سبحان الله أخى الكريم حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له المولى عز وجل (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)
وكل ما فى الموضوع تذكرة ليست إلا وتنافس فى الخيرات
وتذكَّر الدعاء المأثور، الذي رواه الترمذي
وأحمد والدارمي والحاكم وابن حِبَّان و عَنْ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
"اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ
(وجاءت بصيغة: الأمن عند الحاكم والدارمي)
وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ .. رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" ..
[ b][color=red] قلتُ: قال أبو داود - رحمه الله تعالى -: لم يصح في الباب حديث مسند ,
فكل ما نُسب للنبي صلى الله عليه وسلم من أذكار عند رؤية الهلال ضعيف بذاته
[ size=5], ولم يصح طريقه بمفرده , وبعضها أصح من بعض , وأصحها اللفظ المذكور,
ولذا فإن العلماء حسنوا هذا اللفظ بمجموع الشواهد الواردة.
والله الموفق.
بارك الله فيكم لبيان تحسين لفظ الحديث الذى ذكر ونفعكم الله بما علمكم.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 12:19 ص]ـ
[ quote= ياحامل القرآن;364417]
خمس نصائح قبل البداية:
1. حاول أن تكون الصلاة هي الفاصل بين أي مرحلتين من البرنامج.
2. اقض ما فاتك خلال نفس اليوم .. أو في اليوم التالي .. مباشرة ودون تسويف.
3. بإمكانك تعديل هذا الجدول بحسب ظروفك؛ فما هو إلا مقترح ..
4. انتبه بشدة للفراغات البينية خلال اليوم (مواصلات - انتظار - بين الأذان والإقامة ..... ).
5. أشرك معك إخوانك وأصدقاءك وأهلك في برنامجك؛ حتى لا تفتر؛ فيد الله مع الجماعة ..
معلومة هامَّة:
إمكانياتك أكثر بكثير من توقعاتك، وقد أودع الله عزَّ وجلَّ في الإنسان طاقات هائلة .. وكل ما سنعرض له في هذا اللقاء داخل في حدود القدرة البشريَّة، وفعله كثير من الصالحين .. فاجعل أهدافك عالية، وارتق بأحلامك رجاءا أن يبلغك الله إلى أحلام الصدِّيقين!
قلتُ: تُغير هذه الكلمة بـ " رجاء ".
تم بإذن الله بارك الله فيكم ونفعكم بما علمكم
أولاً: وقت السحر ..
ولنا في هذا الوقت الشريف أعمال ثلاثة:
1. ركعتان خفيفتان
قلتُ: ومن أوتر مع إمامه هل يصلي هاتين الركعتين؟
[ center]
فإذا أراد المرء أن يتهجد بعد القيام فقد ذكر العلماء ثلاثة أحوال:
الأول: لا يوتر مع الإمام لأنه لو أوتر مع الإمام لخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا». [متفق عليه].
الثاني: يوتر مع الإمام ولا يتهجد بعده؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة». وفي هذا إشارة إلى أن الأولى الاقتصار على الصلاة مع الإمام لأنه لم يرشدهم إلى أن يدعوا الوتر مع الإمام ويصلوا بعده في آخر الليل وذلك لانه يحصل له قيام الليل كأنه قامه فعلا فيكتب له أجر العمل مع راحته وهذه نعمة من الله على العبد.
الثالث: يتابع إمامه في الوتر ويشفعه بركعة؛ أي أنه إذا سلم الإمام من الوتر قام فأتى بركعة وسلم، فيكون صلى ركعتين أي لم يوتر، فإذا تهجد في آخر الليل أوتر بعد التهجد فيحصل له في هذا العمل متابعة الإمام حتى ينصرف ويحصل له أيضا أن يجعل آخر صلاته بالليل وترا وهذا عمل طيب.
2. السحور
3. الاستغفار بالأسحار
(يُتْبَعُ)
(/)
ثانيًا: صلاة الفجر .. (أعمال عشرة!!)
(وهذه الأعمال تنطبق على سائر الصلوات الخمس ..
مع التعديل المناسب لكل صلاة)
1. ترديد الأذان
2. التبكير إلى المسجد فور سماع النداء ..
3. دعاء الطريق إلى المسجد .. روى مسلم عن عبد الله بن عباس يصف خروج النبي r إلى صلاة الفجر ..
يقول: " .. فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا وَمِنْ أَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا"
4. نية الاعتكاف.
5. دعاء دخول المسجد .. روى ابن ماجة (وصححه الألباني) عن فاطمة بنت رسول الله قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد يقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك" .. وإذا خرج قال: "بسم الله، والسلام على رسول الله .. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
6. ركعتا النافلة القبليَّة.
7. بين الأذان والإقامة:
- قراءة ربعين من القرآن
- دعاء
- ذِكْر
8. الخشوع في الصلاة.
9. أذكار ما بعد الصلاة.
10.الاستماع للدرس بعد الصلاة.
ثالثًا: من بعد الفجر إلى ما بعد الشروق:
· قراءة القرآن منفردًا أو مع بعض إخوانك.
· الذكر المطلق بشتى أنواعه .. وخاصَّةً أذكار الصباح ..
قلتُ: وهل أذكار الصباح من الذكر المطلق أم المقيد الحالي؟
[ b] والله الموفق.
أذكار الصباح من الذكر المقيد بإذن الله
ونفعكم بما علمكم
والذكر المطلق هو:- ما لم يقيد بزمان ولا مكان، ولا وقت ولا حال، ولا قيام ولا قعود، فالمؤمن يذكر ربه في كل حال حتى لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {فاذكُرُوني أذكُرْكُم} [البقرة: 152]. وقوله تعالى: {يُسَبِّحون الليل والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 12:30 ص]ـ
قلتُ: ما الدليل الشرعي على هذه الأحكام؟
والله الموفق.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياحامل القرآن;364419
ينبغي في فترة عمل الزوج أن تنشغل الأم خاصة - والنساء في البيت عامة - بإعداد طعام الإفطار ..
·يُفَضَّل تأخير الطعام الرئيسي إلى ما بعد صلاة التراويح، والاكتفاء بعد المغرب باليسير من الطعام حتى يتسنَّى الحضور القلبي والعقلي في صلاتي العشاء والقيام .. [/ size][/font][/center][/I]
ما قيل مرة أخرى من باب التفضيل سواء بالنسبة للاستعداد للإفطار
و فى اليسير من الطعام حتى يتسنى لنا بإذن الله الحضور والاستعداد الطيب للعبادة وبخاصة صلاة التراويح (وبحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)
فأظن كثيرا ما أنهكنا الإفطار عن الصلاة وأثقلنا فيها ولم نستشعر لذتها بسبب ثقل ما تناولناه فى الإفطار
بوركتم ونفعتم بما علمكم الله
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 12:45 ص]ـ
[ quote= ياحامل القرآن;364420]
ثامنًا: صلاة العشاء والقيام ..
[ center]
[font=comic sans ms]1. احرص على الصلاة في مسجد يختم القرآن كاملاً في القيام (يقرأ جزءًا يوميًّا)
قلتُ: الحرص يكون على مسجد يقيم السنة , ولا عبرة بختم القرآن في الليلة
الواحدة إذا كان المسجد من مساجد المبتدعة.
ربنا يرزق المسلمين فى شتى بقاع الأرض بمساجد بإذن الله تقيم السنة وتختم بجزأ بإذن الله فهو ولى ذلك والقادر عليه
2. يُسْتَحَبُّ أن يكون المسجد قريباً قدر المستطاع حتى لا تفقد الكثير من الوقت، وحتى تستفيد بلقائك مع أهل حيِّك في تقوية الروابط، والدعوة إلى الله.
قلتُ: فإن تعارضت هذه المندوبة مع السابقة , فما العمل؟
[ size=5] فهى مندوبة كما قلتم فلا ضرر بإذن الله
3. حبذا لو ذهبت النساء دون أطفال يشوِّشون على المصلين.
قلتُ: ولم تحرمين الأطفال من الخير , وأنت تحثين على ذلك؟ , وهل عندك
دليل أن النساء كن يذهبن للمساجد بلا أطفال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وسلف الأمة؟
لا أريد حرمناهم أستاذانا الفاضل ما قيل يفضل أيضا حضرتك إذا سألت إحدى الأخوات عن العناء الذى يسببه الأطفال فى المساجد وبخاصة فى التراويح لعلمت سبب هذا الكلام , كما أن الأخت نفسها لا تعرف تصلى
ويارب بإذن الله يملأ مساجدنا بالأطفال والنساء والرجال والشيوخ
فهو ولى ذلك والقادر عليه
[ font=comic sans ms][size=5] كيف يكون نومك عبادة وطاعة من طاعات يومك الرمضاني؟
قلتُ: وهل النوم يكون عبادة فحسب في رمضان؟
والله الموفق.
يكون عبادة دائما بإذن الله مع احتساب النوايا بإذن الله ولكن سياق الحديث هنا عن الضيف الغالى (رمضان)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 12:59 ص]ـ
فى النهاية
بارك الله فيكِ أختى الغالية زهرة:):)
وبوركتم أستاذنا الفاضل:- السلفى ونفعكم الله بما علمكم
أخونا الفاضل كل ما أردته ونقلته يعلم الله نيتى منه وسعدت جدا بنقدكم ولله الحمد أبدا لا أغضب من أى نقد وبخاصة فى أمور الدين وفى الغالب لا أرد على أى نقد لسبب واحد ألا أدخل فى جدال
قال صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا) قال الألباني (حسن) صحيح الترغيب والترهيب [3/ 6]
طالما توضحون الخطأ والصواب فمرحبا بأى نقد.
لا يوجد أى مشكلة فى الاستفسار وبيان خطأ وصواب المنقول والشيوخ لا يمنع عنهم الخطأ ولكن نشكر لهم جهدهم وغرضنا القربة من الله عز وجل
وأغلب ما ذكر من باب التفضيل وعلى شكل نصائح نعم لم يذكر العديد من الأدلة من باب شئ واحد هو التخفيف على القارئ فحضرتك ممكن تبحث وراء الدليل ولكن هناك من يريد معرفة الخيرات والمسارعة لها دون مدراستها
واحترم وجهه نظركم جدا.
وبخاصة هيهات أن الكلام هذا يطبق لدينا فى مصر ولله الحمد هذا العمل يقوم به كثيرين وأعرفهم سواء على مستوى المقربين منى أو فى العمل التطوعى وربنا يجعلنا منهم بإذن الله
أى نقد أرحب به
وهدفنا واحد
المسلم عابد عالم سابق فى الخيرات ذو بصمة فى دنياه
وكل عام وأنتم بألف خير آل الفصيح
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:05 ص]ـ
[ quote= ياحامل القرآن;364757
بارك الله فيكم على المعلومات الطيبة ربنا ينفعكم بما علمكم.
سبحان الله الكلام لا يذكر الوجوب فلم يذكر (واجب على كل مسلم) وإنما قد ذكر فى طيات الحديث وكلها من باب التذكرة فقط ولا تعنى الوجوب
سبحان الله أخى الكريم حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له المولى عز وجل (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)
وكل ما فى الموضوع تذكرة ليست إلا وتنافس فى الخيرات
بسم الله.
قلتُ ,وبالله تعالى التوفيق والسداد:
أختي الكريمة.
كلامي الذي علقتِ عليه هو بيان لحكم رؤية الهلال , ولم أذكر في هذه النقطة
بخصوصها أنك أوجبتِ ما لم يوجبه الشرع , ليتك تفهمين الكلام على وجهه ,
وذلك بأساليب الفهم التي سددها أئمة الفن والصنعة.
إنما أوجبت ما لم يوجبه الشرع في المواطن التي أشرتُ فيها ,
وفي هذه النقطة خصوصًا (رؤية الهلال) تفصيل , بينه كلامي , ولم يكن في
كلامك , الإجمال في موطن التفصيل غلط.
ولتعلمين أن الدعوة علم ومنهجية , ولا يغني أحدهما عن الآخر , والقصد الحسن
لا يصحح الظاهر الفاسد عند أهل السنة , بل هو كذلك عند المرجئة والصوفية ,
فلو كان قصدك حسنًا ودعوتك بعلم غير صحيح فإن القصد الحسن لا يشفع لسقم
العلم , ولا يُجوّزُ لك الدعوة , وقد ذكرتُ هذا الكلام للأخت زهرة.
وقد دفع القصد الحسن في الدعوة فرقًا لوضع الحديث على الرسول صلى الله
عليه وسلم , وقالوا: نحن نكذب له لا عليه , وهذا معلوم بكتب الحديث , وهو
ضلال مبين , فالقصد الحسن لا يصحح الخطأ.
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:25 ص]ـ
[ quote= ياحامل القرآن;364766]
فإذا أراد المرء أن يتهجد بعد القيام فقد ذكر العلماء ثلاثة أحوال:
الأول: لا يوتر مع الإمام لأنه لو أوتر مع الإمام لخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا». [متفق عليه].
الثاني: يوتر مع الإمام ولا يتهجد بعده؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة». وفي هذا إشارة إلى أن الأولى الاقتصار على الصلاة مع الإمام لأنه لم يرشدهم إلى أن يدعوا الوتر مع الإمام ويصلوا بعده في آخر الليل وذلك لانه يحصل له قيام الليل كأنه قامه فعلا فيكتب له أجر العمل مع راحته وهذه نعمة من الله على العبد.
الثالث: يتابع إمامه في الوتر ويشفعه بركعة؛ أي أنه إذا سلم الإمام من الوتر قام فأتى بركعة وسلم، فيكون صلى ركعتين أي لم يوتر، فإذا تهجد في آخر الليل أوتر بعد التهجد فيحصل له في هذا العمل متابعة الإمام حتى ينصرف ويحصل له أيضا أن يجعل آخر صلاته بالليل وترا وهذا عمل طيب.
بسم الله.
قلتُ: وهل كلامك الأول (صلاة ركعتين) شمل هذا التفصيل؟
وعليه: فطلبك للركعتين - دون هذا التفصيل - يوقع المسلم في حرج , لأنه
ربما يكون أوتر مع الإمام , فإن صلى الركعتين خالف كل الأقوال المذكورة فوقع
في الحرج , وإذا أراد أن يضلي الركعتين لم يكن عنده الوصف الشرعي
لصلاتها المتمثل في القول الثالث ,وهكذا ,
فإن الدعوة ليسن أوامر ًا ونواهٍ ترمى دون ضبط وحيطة وحذر ووصف شرعي.
ما لم يقيد بزمان ولا مكان، ولا وقت ولا حال، ولا قيام ولا قعود، فالمؤمن يذكر ربه في كل حال حتى لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {فاذكُرُوني أذكُرْكُم} [البقرة: 152].
قلتُ: هذه الآية دليل على الذكر عمومًا المطلق والمقيد ,ولا تختص بالمطلق كما
صنعت , فلابد من فهم الدلالة من النص على الحكم , والاستدلال الصحيح
بالدليل.
وقوله تعالى: {يُسَبِّحون الليل والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
قلتُ: هذه الآية لا يصح الاستدلال بها , فهي في حق الملائكة ,والبشر لا
يقاسوا على الملائكة , فما يثبت في حقهم لا يثبت في حق البشر على الأصل.
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:34 ص]ـ
color=darkorchid] ما قيل مرة أخرى من باب التفضيل سواء بالنسبة للاستعداد للإفطار [/ color][/size][/font]
و فى اليسير من الطعام حتى يتسنى لنا بإذن الله الحضور والاستعداد الطيب للعبادة وبخاصة صلاة التراويح (وبحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)
فأظن كثيرا ما أنهكنا الإفطار عن الصلاة وأثقلنا فيها ولم نستشعر لذتها بسبب ثقل ما تناولناه فى الإفطار
بوركتم ونفعتم بما علمكم الله [/ color][/b][/center]
بسم الله.
قلتُ: التفضيل من الأحكام الشرعية كما صنفه الأصوليون , ومن ثم فهو يحتاج
إلى دليل شرعي لإثباته , ولا يصلح لإثباته ظنك , فهل ربُ العزة تبارك
وتعالى شرع حكمًا من الأحكام بناء على ظن أحد من البشر حتى تجعلي ظنك
دليلاً للأحكام الشرعية ,
فما ذكرتِ لا علاقه له ألبته بتأصيل حكم شرعي ,
ولعلك تراجعين كتب الأصول في باب الأدلة والأحكام لتقفي على صنيعك
هل يوافق أهل الصنعة أم لا؟
والله الموفق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:44 ص]ـ
فهى مندوبة كما قلتم فلا ضرر بإذن الله ,
قلتُ: هذا كلام غير صحيح , لأن الطاعات (الواجبة والمندوبة) إذا
تعارضت فاضل المسلم بينها , ففعل الأعلى وترك الأدنى , وفي التفضيل بين
العبادات رسائل للدكتوراة ,
وقالوا في الأصول:
فإن تزاحم عدد المصالح ... يقدم الأعلى من المصالح.
يكون عبادة دائما بإذن الله مع احتساب النوايا بإذن الله ولكن سياق الحديث هنا عن الضيف الغالى (رمضان)
[/ center]
قلتُ: تخصيص العام تشريع يحتاج لدليل , وتعميم الخاص تشريع يحتاج
لدليل , وتقيد المطلق , وإطلاق المقيد تشريع يحتاج لدليل ,
فصنيعك تخصيص للعام فلا يصح , وهذا هو منهجية العلم التي ذكرتها مرارًا,
وهذا هو صنيع أهل الصنعة ,والتزام أصول الفن , وليس العلم بالكلام المرمى به
بلا ضوابط وقيود واحترازات.وليتك تراجعين أبواب أساليب النصوص بكتب
الأصول.
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 04:06 ص]ـ
[ QUOTE= ياحامل القرآن;364782] [ center] فى النهاية
بارك الله فيكِ أختى الغالية زهرة:):)
وبوركتم أستاذنا الفاضل:- السلفى ونفعكم الله بما علمكم
[ font=comic sans ms][size=5] أخونا الفاضل كل ما أردته ونقلته يعلم الله نيتى منه
بسم الله.
قلتُ: حسن المقصد لا يصحح العمل الجارحي الفاسد , بل لا بد من تصحيح
النية والقصد مع تصحيح العمل , فلا يغني أحدهما عن الآخر ,
فمن حسنت نيته وساء عمله , فإن حسن النية لا يشفع لسوء العمل ,
ودليله:
قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ... الحديث " ,
فهذا النص يلزم المسلم بحسن المقصد والنية ,
وقوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ,
وفي لفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ,
وهذا النص يلزم المسلم بحسن العمل , فلم يكتفِ الشرع بأحدهما دون الآخر ,
ومن المعلوم عند أهل العلم أن حسن النية يكفي عن صلاح العمل , ويصحح
العمل الفاسد هو مذهب المرجئة والصوفية ,
أما مذهب أهل السنة فكما بينتُ.
وسعدت جدا بنقدكم ولله الحمد أبدا لا أغضب من أى نقد وبخاصة فى أمور الدين وفى الغالب لا أرد على أى نقد
[ COLOR="Blue"] قلتُ: وهذا غلط , فإن النقد قد يكون غلطًا , فلو تركتِ دون رد فقج تركتِ
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , فلم تغيري منكرًا هو في مقدورك ,
ولقد ردت السيدة عائشة على كثير من الصحابة أغلطهم , بل وتعلم على يديها
أكابر الصحابة , فلها من الفضل في نشر العلم ما لم يكن لغيرها.
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 04:27 ص]ـ
فى النهاية
بارك الله فيكِ أختى الغالية زهرة:):)
وبوركتم أستاذنا الفاضل:- السلفى ونفعكم الله بما علمكم
أخونا الفاضل كل ما أردته ونقلته يعلم الله نيتى منه وسعدت جدا بنقدكم ولله الحمد أبدا لا أغضب من أى نقد وبخاصة فى أمور الدين وفى الغالب لا أرد على أى نقد لسبب واحد ألا أدخل فى جدال
قال صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا) قال الألباني (حسن) صحيح الترغيب والترهيب [3/ 6]
طالما توضحون الخطأ والصواب فمرحبا بأى نقد.
لا يوجد أى مشكلة فى الاستفسار وبيان خطأ وصواب المنقول والشيوخ لا يمنع عنهم الخطأ ولكن نشكر لهم جهدهم وغرضنا القربة من الله عز وجل
وأغلب ما ذكر من باب التفضيل وعلى شكل نصائح نعم لم يذكر العديد من الأدلة من باب شئ واحد هو التخفيف على القارئ فحضرتك ممكن تبحث وراء الدليل ولكن هناك من يريد معرفة الخيرات والمسارعة لها دون مدراستها
واحترم وجهه نظركم جدا.
وبخاصة هيهات أن الكلام هذا يطبق لدينا فى مصر ولله الحمد هذا العمل يقوم به كثيرين وأعرفهم سواء على مستوى المقربين منى أو فى العمل التطوعى وربنا يجعلنا منهم بإذن الله
أى نقد أرحب به
وهدفنا واحد
المسلم عابد عالم سابق فى الخيرات ذو بصمة فى دنياه
وكل عام وأنتم بألف خير آل الفصيح
قلتُ: سأكمل الحديث حول هذا الكلام في الصباح - إن شاء الله - لصلاة الفجر.
والله الموفق.
ـ[رحمة]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 02:17 م]ـ
جزاك الله خيرا أختي جعله الله في ميزان حسناتك باذن الله
و كل عام و انتم بخير و تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:20 م]ـ
( ops[QUOTE= ياحامل القرآن;
364782لسبب واحد ألا أدخل فى جدال [/ color][/size][/font]
قال صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا) قال الألباني (حسن) صحيح الترغيب والترهيب [3/ 6]
بسم الله.
قلتُ: هذا مذهب غلط , لبسه الشيطان على أصحابه - المذهب- , وأظهره
على أنه عبادة وحنكة ,وهو بخلاف ذلك , وبيانه:
الجدال مأمور به على الأصل الشرعي ,
فقال تعالى:
" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
وقال:
" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ",
فقد أمر الله تعالى بالجدال , وجعله من مراتب الدعوة ومن وسائلها ,
وقد جادل الرسول صلى الله عليه وسلم ,وجادل صحبُه من بعده , والعلماءُ إلى
يومنا هذا و وجادل الأئمة الأربعة , وكان بعض العلماء يطلب الجدال والمناظرة
في بعض مسائل الدين ,وألفوا في فن الجدال والمناظرة ,ووضعوا أصول هذا
الفن ,وألفوا في مسائل الخلاف ,وسبروا المسائل الخلافية , وتجادل الفقهاء
فما من كتاب فقه متقدم إلا ويعتج بالخلاف ,وانشغل بعضهم بالترجيح في مسائل
الخلاف بعد عرض ومناقشة أدلة المتجادلين , والمناظرات بين العلماء أشهر من
أن تذكر ,
وهذا كله هو ما يسميه العلماء بالجدال المحمود المأمور به , وهو جدال بالحق
وفي الحق ,
أما الجدال بالباطل في الباطل, والجدال بالحق الذي لا يصل منه المجادل إلى
نتيجة , فهما اللذان يشملهما النص الذي ذكرتِ.
والله الموفق.
وأغلب ما ذكر من باب التفضيل وعلى شكل نصائح
قلتُ: ذكرتُ مرارًا أن التفضيل هو فرع من المندوب ,والمندوب من الأحكام
الشرعية التكليفية , فلا بد له من دليل ,ولا يخضع بحال للرأي والمزاج والتذوق.
نعم لم يذكر العديد من الأدلة من باب شئ واحد هو التخفيف على القارئ فحضرتك ممكن تبحث وراء الدليل ولكن هناك من يريد معرفة الخيرات والمسارعة لها دون مدراستها [/ color][/size][/font]
قلتُ: ما عُلم العلم الشرعي إلا بالدليل , ولا علم إلا بدليل , فمن الممكن سياق
الأدلة الخفيفة الواضحة البينة السهلة القصيرة , ولو لم تذكر الأدلة فلتكن الإشارة
إلى فحواها بعبارة علمية منهجية سليمة لا مغمز فيها ولا مصادمة للنصوص.
والله الموفق.
ـ[السلفي1]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 05:39 م]ـ
[ QUOTE= ياحامل القرآن;364782 font=comic sans ms][size=5][color=purple] وبخاصة هيهات أن الكلام هذا يطبق لدينا فى مصر ولله الحمد هذا العمل يقوم به كثيرين وأعرفهم سواء على مستوى المقربين منى أو فى العمل التطوعى وربنا يجعلنا منهم بإذن الله [/ color
بسم الله.
قلتُ: هذا الأمر يطول الكلام فيه جدًا ,وذلك لأن الدليل فيه إنما يكون بالنظر
والتجربة , والدراسة الاجتماعية , وأنا لا أريد إطالة الكلام , لأن المسألة ليست
جوهرية في الدين ,
ولكن أخبركِ أني في باب الدعوة لله تعالى على ما يربوا من عشرين عامًا -
والحمد لله تعالى - , وقد طفتُ بألوان وأشكال في الدعوة , وأعلم جيدًا وضع
بلدي , فما ذكرتُه هو عين الصواب , وما ذكرتِ ما ينطبق إلا على قليل ينعدم ,
والقليل النادر لا حكم له , فلا ينطبق كلامك إلا على ما كان بالدول الخاجية ,
ونزل مصر لقضاء إجازته , فهو خال من المشاغل والأعمال , ولا أطيل ,
فإذا أردت البيان فليكن عن طريق الرسائل الخاصة أفضل ,
والله الموفق.
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[22 - 08 - 2009, 06:04 م]ـ
سلسلة وردك اليومى فى رمضان
على ملف ( Video )
للتحميل ... megaupload
http://www.megaupload.com/?d=RVMHXUB8
وكل عام وأنتم بخير(/)
الحريّةُ فيكَ وَما تُبصِرُ. .
ـ[لون السماء]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 06:27 م]ـ
الحريّةُ فيكَ وَما تُبصِرُ. .وَمنْ هوى نفسكَ تحرّر كي تَشْعر
الحمد والشكر للذي نبدأ بإسمه الرحمن الرحيم ..
وأفضل الصلاة على نبينا محمد وأفضل التسليم ..
يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
دواؤك فيك وما تُبصر وداؤك منك وما تشعر
وأنت الكتاب المنير الّذي بآياته يظهر المُضمر
أتحسبُ أنّك جُرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
غريب أن نسقم ونبحث عن الدواء هنا وهناك ونجهل وجوده في أنفسنا.!
غريب أن يضمر النور ونحن مصدره .. !
وغاية الغرابة في أن ينطوي فينا العالم الأكبر ونحن لا نعلم.!
منذ أن تفجر تاريخ الإنسانية على وجه الأرض والإنسان هو عامود الحياة وسرها ..
وهو الدافع والمحرك لظروفها ..
وقد خُلق الإنسان حرًا طليقًا .. بفكره .. واستقلاليته الإنسانية
بفطرة سليمة متجردة من القيود ..
تُرى ماذا حصل لنا اليوم؟
من سلب حرياتنا؟
الحرية اليوم نبحث عنها عند الحكّام والرؤساء
والأجدر بنا أن نبحث عنها في انفسنا. ونقدر مدى الحرية التي يتمتع فيها الفكر والعقل ..
إننا اليوم نواجه قوة داخلية تسلب الحرية منا ..
فكيف ذلك؟
سلب الحريات من الذات يكون بفرض القيود التي لا ترتكز الى طبيعة الإنسان ودوره في الحياة الطبيعية ..
فالحرّ هو الذي يتحرر من شرور نفسه ..
إننا لا نتللذ بطعم الحرية ونحن منقادين في طرق شيطانية تدعو الى التحرر من الحرية .. !!
وهذا ما يتناقض مع طبيعة البشر التي خلقها الله فينا وفطرنا عليها ..
إن الحرية تكون في العبودية لله ...
منذ أن خلق الله آدم وهو يصارع من أجل حرية نفسه ..
حين غره الشيطان وسيطر على هوى نفسه حتى قيّد الشيطان حرية آدم وأنزله الله في الأرض
لتكون له مستقرًا يصارع فيها الشيطان من أجل حريته .. وتجرده لله وحده ..
وإلى اليوم ونحن نصارع هوى أنفسنا التي يدفعنا الشيطان لها!
**
عمليًا نحن لا نعمل اليوم بحرية ..
فهناك طاقات وقدرات مكنونة داخلنا فرضت عليها قيود الزمن والإنسان ..
فمنا من ينسى أن يفكر في قدرته على فعل شيء ما .. لأنه اشتغل في أمور ثانوية أخرى ..
فمن النادر أن تجد من يقدر ذاته ويتأملها ويرى ماذا تريد منه ... ؟
إن في ذواتنا حريات مسلوبة ونحن من سلبناها بغض الطرف عنها وتجاهلها.!
ونحن من تخلينا عن جوهر الحياة الروحانية التي أدى الى حدوث فجوة في الوجود الإنساني .. !
وحرية النفس والذات هي منبع الحرية التي نستمدها من طاقات أخرى
عجبًا أن نتعجب بتاريخ صنعوه أجدادنا بعلو همتهم وحرية فكرهم
ونحن اليوم ماذا صنعنا .. ؟؟
لا شيء.!
يقول الشاعر:
قُلْ لِمَنْ لاَ يَرَى اُلمُعَاصِرَ شَيْئًا
وَيَرَى لِلأَوَائِلِ اُلتَّقْدِيمَا
إِنَّ ذَاكَ اُلْقَدِيمَ كَانَ حَدِيثَا
وَسَيَبْقَى هَذَا اُلْحَدِيثُ قَدِيمَا
فأين الحرية الفكرية التي تنطلق بلا قيود ... ولا أسوار تحيطها وتمنع عنها الهواء الذي تستمتد طاقتها منه.!
فقد عاش من هم قبلنا عصرهم بجديّة وجهدوا في أن يجعلوا حديثهم قديمًا.!
وتكون صورة عصرهم مشرقة واضحة الطريق ... وبليغة المعنى
فإن لم نكن قادرين على أن نصنع التاريخ بأنفسنا فكيف نكسر القيود ونتحرر منها .. !
وكيف ستكون صورتنا غدًا .. ؟!
أم سيندثر حديثنا كما اندثرت ذاتنا وقدراتنا وفقدت الفرصة التي قد نكون قادرين على اتاحتها لها ولم نتحها!
إن ما يشغلنا عن الحرية اليوم معتقدات وأفكار خاطئة سيطرت على عقولنا ..
على سبيل المثال
معتقد الديمقراطية الذي غطى على ديمقراطية الذات ..
فكيف تكمن الديمقراطية ونحن لغير الله منقادين ولغير طريقه قاصدين.!
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
إن الحرية تعني أن يكون الإنسان حرًا بمبادئه السامية التي تصب من نبع الإسلام ومنهجه الحر ..
الذي نهج للإنسان أخلاقيات لا يتسم بها إلا الأحرار ..
وكلمة حرّعربية قديمة الإستخدام وتعني أن الإنسان يكون حرًا حين يتصف بصفات نبيلة وبهذا يحدد كونه حرًا أو عبدًا.!
يرى ابن عربي أن الإنسان الحر هو الذي لا يستعبده امتلاك أو رتبة، إنه يحكم الأشياء كلها ولا تحكمه
(يُتْبَعُ)
(/)
وبالنسبة له فإن الإنسان هو عبد لله فقط لا لأحد أو شيء غيره أيا كان ومهما كان
وعلى هذا فالحرية الحقيقية تكمن في العبودية الحقيقية لله
واليوم المكان والزمان يحركنا ويتملكنا ونحن منقادون وراءه ... !
حين أرسل الله نبينا الكريم أراد أن يحرر الناس من عبادة العباد للخضوع لعبادة رب العباد .. !
فلو لم تكن العبودية التي ترتكز على قاعدة (لا اله الا الله) قاعدة الحريات ما أرسل الله نبيًا من أجلها
ليحرر العالم أجمع ويبلغ رسالات ربه بأن الإنسان حر بأخلاقه ومبادئه وفطرته الحرة التي خلق عليها.
ونبذ الظلم الذي يستبد حريات المظلوم والظالم في انقياده وراء مرضه (الظلم) الذي يسلب حرية ذاته الطبيعية!
ومن الغريب أن نجعل شعور السيكوباتية (1) يهيمن على مصدر الخير فينا حتى ينعكس ذلك على بناء الحياة من حولنا ...
وليكن سيدنا ابراهيم مثالًا لنا في حرية الذات في رفضه بأن يخضع لأصنام لا يعتقد بها ولا يشعر بروحانيتها
وجاهد نفسه في التأمل والتفكر في من خلق تلك الحرية في نفسه وفكرته ورفضه لهذه العبادة الوثنية ...
حتى وصل لغايته وكشف الله عنه ستار الغموض الذي أحاط الكون في نظره!
فحرر نفسه وفكره وعبوديته بعبوديته لله وحده .. !
صورة من سلب حرياتنا الفطرية:
في حياتنا اليومية ومن خلال تعاملنا مع الناس نختلف مع بعضنا كثيرًا
ونتصارع من أجل أشياء لا شيء بالنسبة لما اجتمعنا علينا من قرابة أو صلة أو حتى ما اشتركنا به كبشر .. !
إلا أن البيروقراطية (2) تسيطر على عقولنا بحيث تكون نظرتنا لهؤلاء نظرة ثانوية لا تعد الأساس في التعامل معهم
وبهذا نكون قد سلبنا حرية المنطلق الذي انطلق منه تعاملنا ..
وهو الحب والوئام والألفة التي جمعتنا
فتدمرها امور ثانوية لا تعني شيء أمام الامور الاساسية!
فحين نقطع الصلة بأقارب تسببوا في أذيتنا حينها سيطرت على أفكارنا أن من الكرامة أن نقاطعهم ...
وذلك لعدم الإيمان بالغاية النبيلة التي يمكن أن نتنازل من أجلها
ألا وهي صلة الأرحام المتصلة بعرش الرحمن
فهذه طريقة ميكافيلية (3) تبرر لنا تنازلنا عن الأمور الثانوية الذي هو وسيلة التواصل من أجل غاية أكبر وأعظم.
**
إذن الحرية هي أن تحرر نفسك الفردية من قيود شرورها وبعد ذلك طالب بالحرية الإجتماعية
**
فما الذي يقيد حريتك الفردية الذاتية؟؟
قد تكون مثلًا الأغاني قيدًا يسلب حرية التأمل والتمتع بصفو معاني القرآن الكريم ووقعه على النفس ..
فلا يقع اثر القرآن على قلب صدأته الذنوب .. إلا بجلي القلب
كما تجلى المرآة التي تشووها ذرات التراب .. !
ولنعلم يقينًا أن الخير والشر مشقوقي الطريق في نفس الإنسان
وله الحرية في الإختيار ...
لذلك جعل الله الإنسان مخيرًا غير مسير في اموور كثيرة ...
وأن الخير صورة مشرقة في قلب كل إنسان يبحث عنه في أعماق نفسه!
وأخيرًا وليس آخرًا ..
أرجو أن تطلقوا كامل حريّاتكم في التعبير عن حريتكم الذاتية
ولو بكلمة بسيطة ...
ولكم كامل الحرية في النقد والتعليق على الموضوع.!
وذلك من باب اطلاق الحرية للقلم القادر على الكتابة الذي هيمنة عليه كلمة (لا اقدر ولا استطيع) وسلبت حريته وانطلاقته ..
فاطلقوا العنان لذاتكم واجعلوا القلم أداتكم.
*
*
بقلم / لون السماء
__________
1 - السيكوباتية: الشعور بالعداء للآخرين ... والأهتمام بتنمية الشر داخل النفس ومحاربة الخير فيها ...
2 - البيروقراطية: تطلق غالبا على من يتمسك بالجزئيات الثانوية في التعامل مع الآخرين ...
3 - ميكافيلية: هي الأيمان بأن الغاية تبرر الوسيلة ..
ـ[لون السماء]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 09:00 ص]ـ
.......................
ـ[أبو طارق]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 05:13 م]ـ
بوركتِ على طرحكِ الطيب
وجزاكِ الله خيرًا(/)
سلسلة: التَّفَكُّر والتَّدَبُّر متنوعة ومتجددة
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 11:19 م]ـ
سلسلة التفكر والتدبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فبمناسبة قدوم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وحيث إن إنزال القرآن، إنما هو؛ لتدبره والتفكر في آياته، والعمل به.قال الله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته " وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "
وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".
فإني أقدم بين أيديكم موضوعات أدعو بها نفسي وإخواني وأخواتي بشدة إلى التفكر والتدبر لكتاب ربنا عز وجل؛ فإن الإنسان لو جاءته رسالة من حبيب غالٍ عنده، لأخذ ينظر فيها وفي كل كلمة ويتأملها، ولم يمل من ذلك!
والقرآن العظيم قد جاءنا من أعظم محبوب ولا أحد أحب منه، فلنجعل في هذا الشهر الكريم وقتا لتدبر كتاب ربنا. وسأنقل في هذه السلسلة إن شاء الله من كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة ما يشفي ويعين على التدبر والتفكر بإذن الله.
فنبدأ وبالله التوفيق:
(1) مقدمة في أهمية التفكر والتدبر لا يستغني عنها من أراد ذلك
ثبت عن بعض السلف أنه قال: تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة.
وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء رضي الله عنه عن عبادته. فقالت:كان نهاره أجمعه في بادية التفكر.
وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال الفضل: التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
وقيل لإبراهيم: إنك تطيل الفكرة. فقال: الفكرة مخ العقل. وكان سفيان كثيرا ما يتمثل:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وقال الحسن في قوله تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ". قال: أمنعهم التفكر فيها. وقال بعض العارفين لو طالعتْ قلوبُ المتقين بفكرها إلى ما قُدِّر في حُجُبِ الغيب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عيش، ولم تَقَرَّ لهم فيها عين.
وقال الحسن: طول الوحدة أتم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة.
وقال وهب: ما طالت فكرةُ أحد قط إلا عَلِم، وما علم امرؤ قَطُّ إلا عَمِل.
وقال عمر بن عبدالعزيز: الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة.
وقال عبد الله بن المبارك لبعض أصحابه وقد رآه مفكرا: أين بلغت؟ قال: الصراط.
وقال بِشْر الحافي: لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب.
وقال أبو سليمان: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة، وعقوبة لأهل الوَلاية. والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجلي القلوب.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به.
وقال الحسن: إن أهل العلم، لم يزالوا يعودون بالذِّكر على الفِكْر، والفكر على الذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة.
ومن كلام الشافعي: استعينوا على الكلام بالصمت. وعلى الاستنباط بالفكرة.
وهذا لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح. فكان عمله أشرف من عمل الجوارح. وأيضا: فالتفكر يوقع صاحبه من الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور، وظهورها له، وتميز مراتبها في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها، وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاوم تلك الأسباب، ويدفع موجبها، والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله، وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها، وبين السبب المانع حقيقة فيُشْتَغَل به دون الأول.
فما قَطَعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال، الذي هو مركبها. بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه.
وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة، وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة.
وكذلك إذا فكر في عواقب الأمور، وتجاوز فكرُه مباديَها وَضَعَها مواضِعَها، وعلم مراتبها.
فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة، فتجاوز فكرُه لَذَّتَه، وفَرَحَ النفسِ به إلى سوءِ عاقبتِه، وما يترتب عليه من الألم، والحزن الذي لا يُقاوِمُ تلك اللذةَ، والفرحةَ، ومن فكَّر في ذلك، فإنه لا يكاد يُقْدِم عليه.
وكذلك إذا ورد على قلبه وارِدُ الرَّاحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها، حتى عَبَرَ بفكرِه إلى ما يترتب عليها من اللذات، والخيرات، والأفراح التي تغمر تلك الآلام، التي في مباديها بالنسبة إلى كمال عواقبها.
وكلما غاص فكره في ذلك، اشتد طلبه لها، وسهل عليه معاناتها، واستقبلها بنشاط وقوة وعزيمة.
وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر إلى غاية ذلك بعين فكره، استحى من عقله ونفسه، أن يكون عبدا لذلك، كما قيل:
لو فكر العاشقُ في منتهى ... حُسْنِ الذي يسبيهِ لم يسبهِ
وكذلك إذا فكر في آخر الأطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس أشباه الأنعام، وما يصير أمرها إليه عند خروجها، ارتفعت همته عن صرفها إلى الاعتناء بها، وجعلها معبودَ قلبِه، الذي إليه يتوجَّهُ، وله يرضى ويغضب، ويسعى ويكدح، ويوالي ويعادي. كما جاء في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا، وإن قَزَّحَه ومَلَّحَه، فإنه يعلم إلى ما يصير، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر أمره، وكانت نفسُه حُرَّةً أَبِيَّةً ربأ بها (نزَّهها) أن يجعلها عبدا، لما آخره أنتنُ شيءٍ، وأخبثه، وأفحشه.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[ياحامل القرآن]ــــــــ[21 - 08 - 2009, 04:57 م]ـ
بارك الله فيكم
العبادة المهجورة
الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة
عصام بن عبد المحسن الحميدان
إن من العبادات التي هجرها الكثيرون في هذا الزمان عبادة التفكر في آيات الله تعالى الكونية التي دعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية والسلف الصالح.
وهذا الهجر سبّب خللا في الوعي الإسلامي، إذ أصبحنا نهتم بأمور هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة، ولعل ما تقوم به هيئة الإعجاز العملي في القرآن والسنة من البحوث والمؤتمرات والندوات والمقالات والتشجيع على البحث في مجالات علمية وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية يساهم في إحياء هذه العبادة العلمية التي هي من أولى العبادات الموصلة إلى الارتقاء بالمستوى الإيماني للمسلم المعاصر.
هل التفكر عبادة؟
والجواب بلا شك: نعم. وتعليل ذلك من وجوه:
التعليل الأول: لأن الله تعالى مدح المتفكرين في كتابه بقوله {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ، الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ} [آل عمران:190، 191].
وختم الله تعالى ثلاث عشرة آية من كتابة بلفظ {تتفكرون} أو {يتفكرون} مما يصور أهمية الأمر.
وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ} [الأعراف 184] وفال عز وجل: {وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات 21] والبصر هنا بمعنى التفكر.
وقال سبحانه {قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ} [سورة سبأ 46] فأمرهم بالقيام من اجل التهيؤ للتفكر، فالتفكر هو الموعظة المقصودة هنا بالرغم من وجود مواعظ أخرى.
والتعليل الثاني: لان الله ذكر في اكثر من 250 آية من القرآن الكريم صورا مختلفة للكون الذي يحيط بنا في سماواته وأرضه وفي جباله وبحاره وأنهاره وفي مخلوقاته من الجن والإنس والطير والدواب وفي هوائه وسحابه وأمطاره وفي أحداثه وتغيراته وفي حاضره وماضيه وفي مشاعره وتسبيحاته. أترى هذا الكم الكبير من الآيات – التي تفوق الآيات المتحدثة عن الأحكام الفقهية – ذكرت عرضا أو للقراءة المجردة فحسب؟!
والتعليل الثالث: إن الله تعالى ذم معطلي العقول والأفكار، وشن عليهم حملة في آيات عدة من كتابه العزيز؛ فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} (لقمان 21)، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ , قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ , فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ} [الزخرف 23 - 25].
فجعل تعطيل العقل – التقليد الأعمى – سببا للتكذيب والكفرثم سوء العاقبة.
والتعليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتفكر في آيات الله عز وجل، فيقلب وجهه في السماء، وقد قال مرة لأصحابه:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" [البخاري ومسلم].
وكان يأمر أصحابه بالتفكر فيقول:" تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/ 210 و الطبراني و البيهقي في الشعب عن ابن عمر و حسنه السخاوي , و له طرق أخرى.
وكان أصحابه رضي الله عنهم كذلك، قيل لأم الدرداء: ما كان افضل عمل أبي الدرداء؟ قالت التفكر.
وكان التابعون كذلك. قال بن القيم رحمه الله: قال بعض السلف: تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة [البخاري ومسلم].
وقال الحسن: إن من افضل العمل الورع والتفكير.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقال مولى سعيد بن المسيب: ما رأيت احسن مما يصنع هؤلاء، قال: وما يصنعون؟، قال: يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه حتى يصلي العصر، قال: ويحك! أما والله ما هي العبادة؛ إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/ 210 والطبراني، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر وحسنه السخاوي، وله طرق أخرى.
فوائد التفكر:
للتفكر الشرعي الذي أمر الله به فوائد عدة، فمن فوائده:
1) يجدد الإيمان ويزيده: قال ابن القيم رحمه الله: التفكر يكشف حقائق الأمور ويميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة المفضول من الفاضل، والتفكر يزيد الإيمان أكثر مما يزيده العمل.
2) التفكر من أعمال القلب، وأعمال القلب افضل من أعمال الجوارح باتفاق العلماء.
3) يبعث على التواضع أمام عظمة الله تبارك وتعالى، ويبعث على حسن الظن بالله عز وجل.
4) يؤدي إلى العمل بآيات كثيرة من كتاب الله تعالي والعمل بسنة النبي صلى الله عليه و سلم.
5) يفتح آفاق العلم و الإيمان مما لم يكن معلوما قبل ذلك؛ لان الفكرة تجر الفكرة.
ضوابط التفكر:
ينبغي ألا يصل التفكر إلى حد الخروج عما لم يحط الإنسان بعلمه، أو الخروج عما ينبني تحته عمل، أو تصور أمور لا يمكن تصورها لأنها لا تخضع لمقاييسنا كالقبر وما فيه والآخرة ما فيها والملأ الأعلى وما يخصه، فان ذلك قد يؤدي إلى الوسوسة والشك، وهذا ما حذر النبي صلى الله عليه و سلم منه في قوله:" تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله".
وقال عليه السلام:" إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السموات؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسوله" [أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/ 303 والإمام احمد في الزهد بسند صحيح].
وإذا كنا في حياتنا لا نفهم أشياء كثيرة نعايشها كالروح، والحواس وحدودها، والعقل وماهيته، والمشاعر والنفسيات، وكثيرا مما يحتويه الجسم من وظائف وأعضاء دقيقة، وبعض مراحل التخلق الجنيني، والرسالة النبوية وطبيعتها، والتخاطب عن بعد، والأقدار الإلهية، والرؤيا والأحلام .. وغيرها، فان هذا مما يمنعنا من التطاول فوق حدود المعقول
وختاما: ً
إن لكل غاية وسائل، إذا تعاطاها الإنسان وصل إلى تلك الغاية التي يريدها، ومن جملة ذرائع التفكر ما يأتي:
1) الممارسة والتعود، ولا ينبغي أن يكون كر الأيام وتتابع الأحداث المتشابهة عائقا لنا عن التفكر، فان في خلق الله عز وجل من العجائب ما لو وقف عليه المرء لأدرك عظمة خالقه واكتشف قدرته وإبداعه، إلا انه يحتاج إلى فكر ثاقب واجتهاد وخشية لله تعالى.
2) مخالطة العلماء الربانيين الذين أدركوا حقيقة التفكر المشروع، أو الاطلاع على أبحاثهم وكتبهم.
3) التخلص من الذنوب، والإقلال منها بقدر المستطاع؛ فان المعصية تحجب الفكرة.
4) الاجتهاد في الطاعة واستحضار الخشوع والبكاء من خشية الله.
5) ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأحوال والأعمال.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[23 - 08 - 2009, 12:52 ص]ـ
الحمد لله ربنا وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه وسلم
لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر
فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين.
وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه.
فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها.
فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة.
فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن.
وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تهذوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة
وروى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة إني أقرأ القرآن في ثلاث. قال: لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة، فأتدبرها، وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ.
والتفكر في القرآن نوعان:
تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه.
فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني.
الأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة.
ولهذا أنزل الله القرآن؛ ليتدبر، ويتفكر فيه، ويعمل به. لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه.
قال الحسن البصري رحمه الله: أُنزل القرآنُ؛ ليعمل به. فاتخذوا تلاوته عملا.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:05 م]ـ
كلام عظيم لابن القيم في فائدة التفكر والتدبر
لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة، وهو شديد الحاجة إليه، ثم قيل له: إنه مسموم، فإنه لا يقدم عليه؛ لعلمه بأن سوء ما تجنى عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة أكله.
فما بال الإيمان بالآخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة!
ما ذاك إلا لضعف شجرة العلم والإيمان بها في القلب، وعدم استقرارها فيه.
وكذلك إذا كان سائرا في طريق، فقيل له: إن بها قطاعا ولصوصا. يقتلون من وجدوه، ويأخذون متاعه. فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجهين: إما أن لا يصدق المخبر، وإما أن يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم، وإلا فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم، فإنه لا يسلكها.
ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من إيثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم إن إيثاره للعاجلة وترك استعداده للآخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانه أبدا
الحالة الثانية أن يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق، وأن هذه الدار طريق إلى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين إليه.
ويعلم مع ذلك أنها باقية، ونعيمها وعذابها لا يزول، ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل إليه إلا كما يدخل الرجل إصبعه في اليم، ثم ينزعها فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
فيثمر له هذا العلم إيثار الآخرة وطلبها والاستعداد التام لها، وأن يسعى لها سعيها.
قال الله تعالى: " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ".
وقال تعالى: " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ".
ويسمى التفكر تدبرا؛ لأنه نظر في أدبار الأمور، وهي أواخرها وعواقبها. ومنه تدبر القول وقال الله تعالى: " أفلم يدبروا القول " وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ".
وتدبر الكلام: أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة. والتذكر والتفكر له فائدة غير فائدة الآخر فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه؛ ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه.
ولهذا قال الحسن رحمه الله: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة. فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه، كما قال بعض السلف ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل.
فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم،
فإن كل من علم شيئا من المحبوب أو المكروه لا بد أن يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الإرادة توجب وقوع العمل.
فها هنا خمسة أمور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الإرادة وثمرتها العلم.
فالفكر إذاً هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له.
حتى قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة
فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور.
وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة.
فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منه الإرادات والعزوم، فيتولد منها العمل.
وأما إذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له، وفيما أمر به، وفيما هيء له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعا، وهذا كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكنا
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[26 - 08 - 2009, 01:10 ص]ـ
الحمد لله رب العالمين
أخي وأختي رعاكما الله، وأحل عليكما رضاه، وجنبكما سخطه وغضبه.
إذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه
أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته وصفات كماله، ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه.
فبهذا تَعرّف إلى عباده، وندبهم إلى التفكر في آياته، ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يُستدل بها على غيرها.
فمن ذلك خلق الإنسان وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه
كقوله تعالى: " فلينظر الإنسان مم خلق "، وقوله تعالى: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون "، وقوله تعالى: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ".
وقال تعالى: " أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى ".
وقال تعالى: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ".
وقال تعالى: " أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ".
وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ".
وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره
إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.
وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.
قال الله تعالى: " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ".
فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا؛ لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا؛ لنتكلم بها فقط ولا؛ لمجرد تعريفنا بذلك بل لأمر وراء ذلك كله.
هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت، وأنتنت!
كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها!
وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما!
وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه!
وكيف قدّر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جُعِل لهما قرارا مكينا. لا يناله هواءٌ يفسده، ولا بردٌ يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه،
ثم قَلَّب تلك النطفةَ البيضاءَ المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها،
ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينةً للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها!
وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، واليابس واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال!
وكيف كساها لحما ركبه عليها، وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا، وجعلها حاملة له مقيمة له. فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به!
وكيف صوَّرها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل!
(يُتْبَعُ)
(/)
وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء. كل واحد منها له قدر يخصه، ومنفعة تخصه!
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام ....
لحديث ابن القيم رحمه الله في التفكر في خلق الإنسان بقية تأتي إن شاء الله في المقال القادم.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 05:49 م]ـ
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن، وعمادا له!
وكيف قدرها ربه، وخالقها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والقصير، والمنحنى والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت والمجوف!
وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط!
وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها، ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته، لم يجعل عظامه عظما واحدا. بل عظاما متعددة!
وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه!
وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار، ورباطات أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له!
ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه، وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد؛ ليدخل فيها، وينطبق عليها فإذا أراد العبد أن يحرك جزءا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه!
وتأمل كيفية خلق الرأس، وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع!
وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه!
ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس، وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس!
وجعل حاسة البصر في مقدمه؛ ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن!
وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص، ومقدار مخصوص، ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع، أو زالت عن هيئتها وموضعها، لتعطلت العين عن الإبصار!
ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا، وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب، والأرض والسماء!
وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو ملكها، وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحراس. فتبارك الله أحسن الخالقين!
فانظر كيف حسّن شكل العينين، وهيأتها، ومقدارهما!
ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى، والقذا، والغبار، ويكنانهما من البارد المؤذي، والحار المؤذي!
ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة، ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة!
ثم أودعهما ذلك النور الباصر، والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض، ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب!
وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع أكنافها، وتباعد أقطارها!
وشق له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقه، وأبلغها في حصول المقصود منها!
فجعلها مجوفة كالصدفة؛ لتجمع الصوت، فتؤديه إلى الصِّمَاخ، وليحس بدبيب الحيوان فيها، فيبادر إلى إخراجه!
وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل، فتكسر حدته، ثم تؤديه إلى الصماخ.
ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان، فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ الإنسان، أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضا حكم غير ذلك!
ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه
أن جعل ماء الأذن مرا في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الأذن. بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه!
وجعل ماء العينين ملحا؛ ليحفظها، فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا!
وجعل ماء الفم عذبا حلوا؛ ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه. إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن من عرض لفمه المرارة استمر طعم الأشياء التي ليست بمرة،
كما قيل:
ومن يَكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجد مُرًّا به الماءَ الزُّلالا
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 05:58 م]ـ
(يُتْبَعُ)
(/)
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكله وهيأته ووضعه.
وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة، والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء، فيوصله إلى القلب، فيتروح به، ويتغذى به!
ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن؛ لئلا يمسك الرائحة، فيضعفها، ويقطع مجراها.
وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه، ثم تخرج منه!
واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدق من أسفله؛ لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات، فخرجت بسهولة؛ ولأنه يأخذ من الهواء ملأه، ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره، ولا يزعجه!
ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة، فإنه لما كان قصبة، ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس، ومجرى النفس الصاعد منه، جعل في وسطه حاجزا؛ لئلا يفسد بما يجري فيه، فيمنع نشقه للنفس. بل إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب، فيبقى الآخر للتنفس، وإما أن يجرى فيهما فينقسم، فلا ينسد الأنف جملة. بل يبقى فيه مدخل للتنفس!
وأيضا فإنه لما كان عضوا واحدا، وحاسة واحدة، ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما، فإنه ربما أصيبت إحداهما، أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها، فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة، وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا، فنصب فيه أنفا واحدا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجرى مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة، وهو واحد، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين!
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع، وأليقه به، وأودع فيه من المنافع، وآلات الذوق، والكلام، وآلات الطحن، والقطع ما يبهر العقول عجائبه!
فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانا لملك الأعضاء مبينا مؤديا عنه، كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه!
فالأذن رسوله، وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد!
واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر!
وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء، وألينها، وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف، ولغير ذلك من الحكم والفوائد!
ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هن جمال له، وزينة، وبها قوام العبد، وغذاؤه!
وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها، وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا!
وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما، وهما الشفتان، فحسّن لونهما، وشكلهما، ووضعهما، وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم، وطبقا له، وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام، ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطا، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة!
واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صرفا لا عظم فيه، ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مص الشراب، ويسهل عليه فتحهما، وطبقهما!
وخص الفك الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخف أحسن؛ ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة!
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والخشونة والملاسة، والصلابة واللين، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا!
ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميز البصير بينهم بصورهم، والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور!
وزين سبحانه الرأس بالشعر، وجعله لباسا له؛ لاحتياجه إليه!
وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير!
فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوسهما، وأحسن خطهما!
وزين أجفاف العينين بالأهداب!
وزين الوجه أيضا باللحية، وجعلها كمالا ووقارا، ومهابة للرجل!
وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وتحتهما من العنفقة!
وكذلك خلقه سبحانه لليدين ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.
(يُتْبَعُ)
(/)