بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ومصحفٍ أن يحرق. قال زيد: فقدت آية من الاَحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنتُ أسمع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الاَنصاري: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (الاحزاب33: 23) فألحقناها في سورتها في المصحف» (1).
وهناك صور مختلفة وألفاظ شتّى لهذه الرواية، والملاحظ عليها جميعاً:
____________
(1) صحيح البخاري 6: 315 | 9.
===============
1 ـ كيف تفقد آية من سورة الاَحزاب، وقد اعتمد عين الصحف المودعة عند حفصة، والكاتب في الزمانين هو زيد بن ثابت؟ وقد كانت النسخة المعتمدة أصلاً كاملة إلاّ آخر براءة ـ كما تقدم ـ فهل كان الجمع الاَوّل فاقداً لهذه الآية التي من الاَحزاب ولسواها؟ أم أنّهم لم يعتمدوا النسخة التي عند حفصة؟ وهل ليس ثمة مصاحف وحفّاظ لهذه الآية إلاّ رجل واحد؟! من هذه الرواية وسواها تسرب الشكّ وبرزت الشبهة للذين يحلو لهم القول بتحريف القرآن، وقد رأيت أنّ مستندهم ضعيفٌ متهافتٌ لا يمكن الاعتماد عليه، ولا أدري هل من قبيل المصادفة أنّ الآية تضيع في زمان أبي بكر وتوجد عند خزيمة بن ثابت، وتضيع غيرها في زمان عثمان وتوجد عند خزيمة أيضاً، فهل كان خزيمة معدوداً في الذين جمعوا القرآن، أو الذين أمر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بأخذ القرآن عنهم؟
2 ـ هذه الرواية ومثيلاتها مضطربةٌ في تعيين من تولى الكتابة لمصحف عثمان، وكذا الذي تولّى الاِملاء، فصريح بعض الروايات أنّ عثمان عيّن للكتابة زيداً وابن الزبير وسعيداً وعبدالرحمن، وصريح بعضها الآخر أنّه عيّن زيداً للكتابة، وسعيداً للاِملاء، وصريح بعضها أنّ المملي كان أُبي بن كعب، وأنّ سعيداً كان يعرب ما كتبه زيد، وفي بعضها أنّه عيّن رجلاً من ثقيف للكتابة، وعين رجلاً من هذيل للاِملاء، وعن مجاهد: «أنّ المملي أُبي بن كعب، والكاتب زيد بن ثابت، والذي يعربه سعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث» (1).
3 ـ الملاحظ في جميع هذه الروايات، وكذا في الرواية المذكورة آنفاً،
____________
(1) أُنظر منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2: 43 ـ 52.
===============
أنّ زيد بن ثابت قد اعتمد رجلاً واحداً في الشهادة على الآية، وهو أمر باطلٌ؛ لاَنّه مخالف لتواتر القرآن الثابت بالضرورة والاجماع بين المسلمين.
ونحن لا نريد التشكيك في أنّ عثمان قد أرسل عدّة مصاحف إلى الآفاق، وقد جعل فيها عين القرآن المتواتر بين المسلمين إلى اليوم، ولكنّنا نخالف كيفية الجمع التي وصفتها الاَخبار ونكذّبها؛ لاَنّها تطعن بضرورة التواتر القاطع، ولا يشكّ أحد أنّ القرآن كان مجموعاً ومكتوباً على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ومدوناً قبل عهد عثمان بزمنٍ طويل، غاية مافي الاَمر أنّ عثمان قد جمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ، وهي القراءة المتعارفة بينهم والمتواترة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ومنعهم من سائر القراءات الاَُخرى التي توافق بعض لغات العرب، وأحرق سائر المصاحف التي تخالف القراءة المتواترة، وكتب إلى الاَمصار أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة.
قال الحارث المحاسبي: «المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجهٍ واحدٍ، على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والانصار، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات» (1).
ولم ينتقد أحدٌ من المسلمين عثمان على جمعه المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ؛ لاَنّ اختلاف القراءة يؤدّي إلى اختلاف بين المسلمين لا تحمد عقباه، وإلى تمزيق صفوفهم وتفريق وحدتهم وتكفير بعضهم بعضاً، غاية
____________
(1) الاتقان 1: 211.
===============
ما قيل فيه هو إحراقه بقية المصاحف حتى سمّوه: حَرّاق المصاحف، حيث أصرّ البعض على عدم تسليم مصاحفهم كابن مسعود.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد نقل في كتب أهل السنة تأييد أمير المؤمنين الامام عليّ (عليه السلام) لما فعله عثمان من جمع المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ، حيث أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ رضي الله عنه: «لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملاٍَ منّا؛ قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أنّ بعضهم يقول: إنّ قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفراً. قلنا: فما ترى؟
قال: أرى أن يُجْمَع الناس على مصحف واحد، فلا تكون خرقة ولااختلاف». قلنا: فنعم ما رأيت (1)!
وروي أنّه (عليه السلام) قال: «لو وليّت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان» (2)،
وبعد تأييد أمير المؤمنين (عليه السلام) وخيار الصحابة المعاصرين لهذا العمل، بدأ التحوّل تدريجياً إلى المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق، فاحتلّت مكانها الطبيعي، وأخذت بأزمّة القلوب، وبدأت بقيّة المصاحف التي تخالفها في الترتيب أو التي كُتِب فيها التأويل والتفسير وبعض الحديث والدعاء تنحسر بمرور الاَيام، أو تصير طعمة للنار، حتّى أصبحت أثراً بعد عين، وحفظ القرآن العزيز عن أن يتطّرق إليه أيّ لبس.
____________
(1) فتح الباري 9: 15.
(2) البرهان للزركشي 1: 302.
وهنا كا ترون ان اثباتهم لآية عن طريق شهود اثنين اي بلا تواتر بل وصريح بعض الروايات انها وضعت في المصحف ثم وزعت في البلدان اي قبل ان يشهدها التواتر او يوجد متواترون , وما خالفها احرق اي انهم يتوقعون ان يكون مخالفة لهذا المصحف المزبور فهل كان هذا تحريفا خارجيا ام انهم يحتملون ان توجد مخالفات للصورة الحالية واذا كان ما عندهم هو الصحيح وهو القرآن الحق فكيف يجوز احتمال ان يكون ثمت قرآن محرف؟!؟! عند الغير كي يؤمر بحرقه. هذا كله في الجمع فكيق بالترتيب.
هذه اشكالات يجب دفعها بغير الطرق الاستحسانية التي ذكرها الاخ لؤي نوره الله حيث نعلم ان كتاب الله تعالى اعز من تطرق التحريف اليه ولكن يجب اثبات ذلك بطريقة علمية وبراهين ساطعة كما يستحقها كتاب ربنا بلا ستحسانيات وومجرد اقوال لعلماء يغير حجة صارخة تكشف الحقيقة المسلمة في حفظ الكتاب العزيز هذا المصحف الشريف.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 03:34 ص]ـ
الأخ حبيب سلّمه الله ..
أردتَ أن تجرّد مقالتي من الأشواك كي تتجلّى الحقيقة ناصعة - على حدّ تعبيرك - فما وجدتُ في مقالتك إلا المزيد من الشوك! وإذا كان ما كتبته أنا استحساناً - على حد تعبيرك أيضاً - فإن ما سطرته أناملكم فيه ما يوحي إلى التشكيك ..
فقد وجدنا في تحليلك للرواية أعلاه خلطاً واضحاً. حيث نقلت لنا رواية لابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد في نسخ المصاحف زمن عثمان، والتي أدرجها في حديث أنس إلى فقدان زيد آية من سورة الأحزاب. ثم خلطتها برواية عن جمع الصديق التي تتحدث عن فقدان زيد آخر سورة التوبة.
فهناك إذن روايتان عن آيتين سقطتا في جمع القرآن، وتمّ إثباتهما بعد المراجعة. (انظر ابن أبي داود: ص29 - 30). الرواية الأولى صريحة بأن آخر سورة التوبة سقط في الجمع الأول زمن الصديق، والرواية الثانية لا تشير إلى زمن محدّد لفقدان آية من سورة الأحزاب، لكن ورودها بعد رواية نسخ المصاحف في خلافة عثمان "قد يوهم" أنها سقطت في هذا العمل الأخير.
ويبدو أن هذا الوهم كان بسبب إيراد روايات جمع القرآن ونسخه متداخلة في صعيد واحد (انظر ابن حجر: ج10، ص385). مع أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن ذلك كله كان في جمع الصديق (انظر ابن كثير: ص46. وفتح المنان لابن عاشر الأنصاري: ص34).
وإن ما يزيل هذا "الغموض" الذي تسببه رواية الزهري عن خارجة - والتي أدرجها في رواية أنس بن مالك عن توحيد المصاحف ونسخها في خلافة عثمان - هو ما يرويه مؤلف كتاب (المباني لنظم المعاني) في مقدمته. والتي ذكر فيها رواية عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه تتحدّث عن جمع القرآن في خلافة الصديق، وهي تشبه رواية الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد - المشار إليها سابقاً - إلا أنها تنفرد عنها بذكر خبر فقدان الآيتين في ذلك الجمع لا فقدان آية واحدة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد جاء في المقدمة ما يلي: "وفي لفظ الشيخ أبي سهل الأنماري - رحمه الله - حدثنا أبو يعقوب يوسف بن موسى قال: حدثنا محمد بن يحيى القطعي، قال: حدثنا عبيد بن عقيل، قال: حدثنا خارجة بن مصعب عن عمارة بن غزية عن الزهري، قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال: جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر .. (وذكر خبر جمع القرآن في خلافة الصديق ثم) .. قال (زيد): فعرضت واحدة فوجدتني قد أسقطت هذه الآية (الأحزاب) فسألت المهاجرين والأنصار فلم أجدها عند أحد منهم، وقد كنت أعرفها، وقد كان أملاها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أثبتها حتى يشهد معي غيري، فأصبتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فكتبتها، ثم عرضت عرضة أخرى، فوجدت قد أسقطت آيتين، وقد عرفتهما (التوية) حتى ختم الآيتين، فسألت عنهما المهاجرين والأنصار فلم أجدهما عند أحد منهم إلا خزيمة بن ثابت الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته فكتبتها في آخر براءة ".
وعلى هذا فإن العمل الذي قام به كل من زيد ومن معه في خلافة عثمان كان تاماً لم يحدث فيه فقدان شيء، ولم يكن يتعدّى الأساس الذي وضعه زيد في خلافة الصديق نقلاً عن القِطع التي كتب عليها القرآن العظيم في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إن تشكيكك في أن زيداً " قد اعتمد رجلاً واحداً في الشهادة على الآية، وهو أمر باطلٌ؛ لاَنّه مخالف لتواتر القرآن الثابت بالضرورة والاجماع بين المسلمين ". فهذا قد بان أيضاً زيفه من الرواية أعلاه، والتي مفادها أن خزيمة بن ثابت الأنصاري قد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين. وهو أمر كان معلوماً عند مَن عاصروه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين (انظر تفصيل قصة إجازة شهادته بشهادتين: ابن سعد: ج4، ص378. وج3، ص490. وابن حجر: ج4، ص388. والقسطلاني: ج1، ص53).
ـ[حبيب]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 10:27 ص]ـ
قال (زيد): فعرضت واحدة فوجدتني قد أسقطت هذه الآية (الأحزاب) فسألت المهاجرين والأنصار فلم أجدها عند أحد منهم، وقد كنت أعرفها، وقد كان أملاها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أثبتها حتى يشهد معي غيري، فأصبتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فكتبتها، ثم عرضت عرضة أخرى، فوجدت قد أسقطت آيتين، وقد عرفتهما (التوية) حتى ختم الآيتين، فسألت عنهما المهاجرين والأنصار فلم أجدهما عند أحد منهم إلا خزيمة بن ثابت الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته فكتبتها في آخر براءة ".
الاخ لؤي سلمه الله
هنا تكمن مشكلة لابد من تذليلها , حيث انك توردت خبرا يؤكد ان القرآن غير متواتر وانما اثبت بشهادة رجل شهادته بشهادتين , وحتى لو كانت بثلاثة او اربعة فهو لاعني انه تواتر وفرق بين البينة وبين التواتر يا اخي ,
ثم ان هذه البينة هي بينة بالاصطلاح الشرعي والا ففي عرف غيرنا من العقلاء البينة هي ما افادت الاطمئنان او القطع العرفي.
نعم الشارع نزل مثل هذه البينة منزلة الاطمئنان العرفي العادي ولكنه في الواقع لن يتغير عما هو عليه , او انه امرنا بتتميم كشف البينة الناقص وجعله كالتام او غير ذلك من التوجيهات الاصولية لكنها مع كل ذلك سوف لن تكون قطعا او اطمئنانا واقعيا تكوينيا , والشارع بما هو شارع لايتدخل في القضايا التكوينية.
وحتى لو اغمضنا النظر عن هذه الجهة او تلك ولكن القطع الشخصي الذي يحصل لزيد او عمرو لايعني حصول التواتر المطلوب حصوله عند العقلاء بما هم عقلاء لا عند متدينين متعبدين بالتصديق لهذا او ذاك.
فيا أخي انت فحصت اصابعك في طوامير الخبر وتركت محل الشاهد بل عززت قول المدعين:" ان القرآن لم بتواتر كله بآياته فكيف تدعون انه تواتر بحروفه فضلا عن مواضع آلايات في سورتها او مواضع آياته بين السور ".
والحال! انا نعلم علم اليقين ان كتاب ربنا حجة فوق كل الحجة ونورا يكشف به كل ظلام وهو برهان ساطع فهل ان التواتر هو الطريق الوحيد لاثبات حجيته؟ وهل ان التواتر ثابت له بجميع سوره بجميع آياتها متواترة آياتها في مواضعها بلا خلل في تسلسلها النزولي او التسلسل المأمور به من رسول الله صلى الله عليه واله.
اذن يا صديقي!
هل تريد منا ان نصك مسامعنا عن الاشكالات ام تريدنا لكي لا نضع الاشواك في طريقكم ان نغض عنها الطرف؟
بل العالم المحقق لايبالي بالاشواك وتزيده حرصا على التحقيق كي تبقى لؤلؤة الحقيقة صافية في نفسها مهما زاد التراب والعلائق عليها , بل هي تكشف عن قوتها حينئذ وسلامتها.
فيا صديقي انت الان عززت القل بصحة شهادة خزيمة!! والحال انا نؤكد للعقلاء بمؤمنيهم وكفارهم ان القرآن متواتر كله حتى بحروفه ومواضعها في الايات والسور مع انهم تعبدوا بصحة خبر خزيمة شرعيا!!!
وارجوا ان تلتفت الى مسئلة الدور التي لا اريد الان التطرق لها وعسى الا تدفعني لطرح اشكاله.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[حبيب]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 11:25 ص]ـ
اعتذر عن بعض الاخطاء المطبعية حيث حدث خلل فني في الجهاز لم استطع حينها التحرير(/)
جمع القرآن وتدوينه في ضوء القرآن (1)
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[20 - 10 - 2005, 03:09 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن القرآن الكريم يبيّن وضعه بنفسه، ويكشف القناع عن ترتيبه، ويعلن أنه مطابق تماماً لأصله في اللوح المحفوظ، ولا فرق بينه وبين الصحف التي بأيدي الملائكة المقرّبين. ولنتأمّل معاً هذه الآيات:
يقول تعالى: " كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ " (عبس: 11 - 16).
ويقول تعالى: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ " (الزخرف: 3 - 4).
ويقول تعالى: " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ " (البروج: 21 - 22).
ثم إن القرآن الكريم صريح في أن الله تعالى هو الذي تولّى جمعه وترتيبه، حيث يقول: " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " (القيامة: 16 - 19).
كما أنه تعالى جدّه تكفّل بحفظ هذا القرآن، فقال سبحانه: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (الحجر: 9).
ولا شكّ أن حفظ القرآن الكريم يتضمّن حفظ نظمه وترتيبه. فإن نظم الكلام جزء من الكلام. ولا معنى لحفظ الكلام بدون المحافظة على نظمه.
وإذا أمعنا النظر في قوله تعالى: " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " فلا يخفى على أحد أن هذه الآيات الكريمات تحتوي ثلاثة أمور:
الأول: أن القرآن سيُجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويُقرأ عليه بنسق واحد، فإنه لو أُنجزَ هذا الوعد بعد عهده صلى الله عليه وسلم لم يأمره باتباعه.
والثاني: أنه عليه الصلاة والسلام مأمور بالقراءة حسب هذه القراءة الثانية، التي تكون بعد الجمع. وليس له عليه الصلاة والسلام أن يلقى عليه شيء من الوحي، ولا يبلّغه الأمّة، فهذا لا يجوز عقلاً كما لا يجوز شرعاً، لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " (المائدة: 67).
وقد أمره تعالى أمراً عامّاً. فلا بدّ أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علّم الأمّة قاءته الأخيرة، التي عليها القرآن في اللوح المحفوظ، فإن العرضة الأخيرة لا بدّ أن تكون مطابقة للأصل.
والثالث: أن بعد هذا الجمع والترتيب بيّن الله ما شاء بيانه بتعميم وتخصيص وتكميل وتخفيف.
وقد وقعت هذه الأمور الثلاثة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عليهم سورة القرآن كاملة. وهذا لا يكون إلا بعد أن قُريء عليه بنسق خاصّ فأخذوها منه. وكان يأمرهم بوضع الآيات في محلّها الخاصّ بها. ثم بعد ذلك إذا أنزلت عليه آيات مبيّنة ضمّها إلى القرآن. فترى هذه المبيّنات ربّما وُضعت بجنب ما تبيّنه، وربّما وُضعت في آخر السورة إذا كانت متعلّقة بعمودها.
ونرى في أكثر هذه الآيات تصريحاً بأنها بيان من الله تعالى كقوله عزّ من قائل: " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ".
ثم عرض عليه جبريل الأمين العرضة الأخيرة بعد تمام القرآن، كما جاء في الخبر الصحيح المتفق عليه. وهذا يزيل أكثر معضّلات النظام.
تلك ملامح مختصرة تلوح للباحث من نصّ القرآن نفسه. وهي تفيد أن القرآن الكريم الذي بأيدينا هو نفس القرآن الذي في أم الكتاب لدى ربّنا سبحانه وتعالى، مصوناً عن أي زيادة أو نقصان، بريئاً من أي تقديم أو تأخير. والموضوع مفتوح للنقاش إن شاء الله تعالى.
ـ[حبيب]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 02:04 ص]ـ
حيث ان الموضوع مفتوح للنقاش كما ذكر الاخ المكرم لؤي فنحن نعزز بحثه التليد بما ذكره صاحب تفسير الميزان السيد الطباطبائي رحمه الله:
____________
(حبذا لو اختصرت ماتريد قوله دون رابط)
أبو سارة
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 03:47 ص]ـ
الأخ حبيب سلّمه الله ..
نحن بغنى - أخي الكريم - عن الصفحات الطوال من البحوث والنشرات والأقوال ..
فهل عندك ما يخالف طرحنا للقضية؟
ـ[حبيب]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 01:58 م]ـ
فصبر جميل
............................
اخي لؤي سلمه الله
انت تزعم هنا ان وضع السور وترتيب الايات فيها توقيفي وهو ينفي كون القرآن العزيز متواترا حتى بوضع الايات فيه في اماكنها من السور ومن ترتيبها النزولي فيها(/)
ماذا يسمى هذا الأسلوب؟ وتحت أي علم يندرج؟
ـ[أيمن الدوسري]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 01:15 ص]ـ
في هذا المثال
لما سئل بعضهم وكان بين أقوام، بعضهم يحب عليًا دون غيره، وبعضهم أبا بكر، وبعضهم عمر، وبعضهم عثمان، فقيل له: ايهم أحب إلى رسول الله؟ فقال: من كانت ابنته تحته.
ـ[أيمن الدوسري]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:01 م]ـ
يقال أن في هذا المثال ما يسمى بالكلام الموجه
فهل هو الأسلوب الحكيم؟ أم ماذا؟
جزاكم الله خيرا
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 04:57 م]ـ
أسلوب الحكيم --يكون فيه سؤال عن موضوع وإجابة عن الموضوع ولكن من زاوية أخرى غير التي كان السؤال عنها كقوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
أمّا سؤالك فهو من باب التورية --ومثالها ما جاء في السيرة الحلبية (وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الذى معك أى وفى رواية من هذا الذى بين يديك وفى رواية من هذا الغلام بين يديك أى بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول هذا الرجل يهدينى الطريق يعنى طريق الخير)
فالتورية أن يكون في الكلام معنى آخر غير الذي يقصده المتكلم فيفهم السامع المعنى غير المقصود--
ومثال لها أيضا قوله تعالى ((وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) فهذا من باب التورية أيضا لأن قوله تعالى (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) تعني أن أهل البيت ناصحون للطفل فهم يعرفون الطفل---
وتعني أيضا أن أهل البيت الذين سيكفلون الطفل ناصحون للملك ولا معرفة لهم بالطفل
لذلك سرعان ما استطاعت المرأة التي دلتهم التهرب من شك هامان من كونها تعرف الطفل فسألها إن كانت هي أو أهل البيت على معرفة بالطفل
فكانت إجابتها--هم ناصحون للملك---أو كما قيل
ـ[أيمن الدوسري]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:17 م]ـ
جزاك الله خيرًا أستاذي الكريم
ولدي سؤال آخر
هل الترديد من البديع أم من علم المعاني؟
فهناك اختلاف بين البلاغيين في هذا(/)
تحكّم وتكلّف
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 02:52 م]ـ
قال تعالى
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) المائدةقال صاحب الميزان فيها
(فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللاحقة لها في سياقها، و لا تتصل بها في سردها، و إنما هي آية مفردة نزلت وحدها.)
وهذا تحكم محض شبيه بقوله في آية التطهير والتي أراد نزعها من سياقها
وسياق الآية هو كما يلي (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ # يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ # قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)
ولو فرضنا جدلا أنّها نزلت وحدها وهذ مستبعد لعدم وجود نص على ذلك--فهو:= كان يتابع أمر تنسيق الآيات وضمّها إلى بعضها فكان يقول ضعوا هذه بعد تلك وهكذا
وكون الآية في هذا الموضع بالذات وحي آلهي لا شك فيه
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 04:13 م]ـ
أمّا لماذا لا يريدها صاحب الميزان أن تنتمي لسياقها فلهدف متكلف وهو جعل ما أٌمر الرسول:= بتبليغه هو إدّعاء متكلّف بتولية علي الإمامة بعد:=
مع أنّ الآية واضحة تماما بكون ما أمر بتيليغه هو مجموع الرسالة لا حكما مزعوما
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ---
ما هو الأمر الجلل الذي من المتوقع أن يثير غضب النّاس يا ترى؟؟
هل من المتوقع أن يغضب أصحاب الرسول:= إن بلغهم بإمامة عليّ بعده ليلحقوا الأذى بالرسول:= فيطمنّه عز وجل بقوله (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؟؟
قطعا الجواب بالسلب وهم الذين استجابوا لكافة ما بلغهم
إذن فالمتوقع أن يثير الغضب لدى النّاس فيتعرض للأذى منهم هو الرسالة التي جاءت لتخرج النّاس من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد القهّار
قال شيخنا الطبري فيها
(وَهَذَا أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بِإِبْلَاغِ هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ
الَّذِينَ قَصَّ اللَّه تَعَالَى قَصَصهمْ فِي هَذِهِ السُّورَة وَذَكَرَ فِيهَا مَعَايِبهمْ وَخُبْث أَدْيَانهمْ وَاجْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبّهمْ وَتَوَثُّبهمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ وَتَبْدِيلهمْ كِتَابه وَتَحْرِيفهمْ إِيَّاهُ وَرَدَاءَة مَطَاعِمهمْ وَمَآكِلهمْ ; وَسَائِر الْمُشْرِكِينَ غَيْرهمْ , مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِمْ مِنْ
مَعَايِبهمْ وَالْإِزْرَاء عَلَيْهِمْ وَالتَّقْصِير بِهِمْ وَالتَّهْجِين لَهُمْ , وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ , وَأَنْ لَا يُشْعِر نَفْسه حَذَرًا مِنْهُمْ
أَنْ يُصِيبهُ فِي نَفْسه مَكْرُوه , مَا قَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّه , وَلَا جَزَعًا مِنْ كَثْرَة عَدَدهمْ وَقِلَّة عَدَد مَنْ مَعَهُ , وَأَنْ لَا يَتَّقِي
أَحَدًا فِي ذَات اللَّه , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى كَافِيه كُلّ أَحَد مِنْ خَلْقه , وَدَافِع عَنْهُ مَكْرُوه كُلّ مَنْ يَتَّقِي مَكْرُوهه. وَأَعْلَمهُ تَعَالَى
ذِكْره أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ عَنْ إِبْلَاغ شَيْء مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ إِلَيْهِمْ , فَهُوَ فِي تَرْكه تَبْلِيغ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَبْلُغ مِنْهُ , فَهُوَ فِي
(يُتْبَعُ)
(/)
عَظِيم مَا رَكِبَ بِذَلِكَ مِنْ الذَّنْب بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ لَمْ يَبْلُغ مِنْ تَنْزِيله شَيْئًا)
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 08:59 ص]ـ
وإليكم أخواني نماذج لتفسير الشيعة لنفس الآية:
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
67
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون- وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى المنافقين من ذلك فبيّن سبحانه عظم الأمر بقوله ((وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ))، أي لم تبلّغ خلافة علي (عليه السلام) ((فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) حتى أنّ كل الرسالة رهن هذا التبليغ، وذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سُدى، وقد أمّنه الله سبحانه مما كان يخشى منه فقال ((وَاللّهُ يَعْصِمُكَ))، أي يحفظك ((مِنَ النَّاسِ)) فلا يتمكنون من الفتنة والانقلاب والإيذاء مما كان يخشاه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحين ذاك وعند منصرف الرسول من حُجّة الوداع في وسط الصحراء أمَرَ بنصب منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة، ثم أخذ بكف علي (عليه السلام) وقال: "مَن كُنتُ مولاه فهذا علي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله .. (إلخ) " وأنشد حسّان:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخُمٍّ وأسمِع بالرسول مناديا
(الأبيات)
((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك، ومعنى (لا يهديهم) أنه لا يلطف بهم اللُطف الزائد بعدما أعرضوا عن الحق عناداً واستكباراً، ولعلّ الارتباط بين الآية وطرفيها أنه كما أنّ الناس مأمورون بالقبول الرسول مأمور بالبلاغ، مع تلطيف جو الكلام، بتغيير الأسلوب في وسط المطلب، تفنّناً في البلاغ وتنشيطاً للأذهان كما تقدّم في آيات أُخر متشابهة
تفسير نور الثقلين
سورة المائدة
67
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
290 - في أصول الكافي محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين جميعا عن محمد بن اسمعيل بن بزيع عن منصور بن يونس عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام قال، سمعت أبا جعفر عليه السلام وذكر حديثا طويلا وفيه يقول عليه السلام: ثم نزلت الولاية وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة نزل الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وكان كمال الدين بولاية على بن أبي طالب عليه السلام، فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، امتى حديثو عهد إلى الجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمى يقول قائل ويقول قائل؟ فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني فأتتني عزيمة من الله بتلة1 أوعدني أن لم ابلغ أن يعذبني، فنزلت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد على عليه السلام فقال: يا ايها الناس انه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه فأوشك أن أدعى فأجيب وأنا مسئول وأنتم مسئولون فماذا انتم قائلون؟ فقالوا نشهد انك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين فقال: اللهم اشهد ثلاث مرات، ثم قال: يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدى فليبلغ الشاهد منكم الغائب قال ا
أبو جعفر عليه السلام كان والله أمين الله على خلقه وغيبه ودينه الذي ارتضاه لنفسه.
أما تفسير أهل السنة
تفسير القرطبي
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
(يُتْبَعُ)
(/)
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَظْهِرْ التَّبْلِيغ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام يُخْفِيه خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ , ثُمَّ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَأَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ يَعْصِمهُ مِنْ النَّاس , وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامه وَقَالَ: لَا نَعْبُد اللَّه سِرًّا ; وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: " يَا أَيّهَا النَّبِيّ حَسْبك اللَّه وَمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [الْأَنْفَال: 64] فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين تَقِيَّة , وَعَلَى بُطْلَانه , وَهُمْ الرَّافِضَة , وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسِرّ إِلَى أَحَد شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين ; لِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك ظَاهِرًا , وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: " وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته " فَائِدَةٌ , وَقِيلَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك فِي أَمْر زَيْنَب بِنْت جَحْش الْأَسَدِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَالصَّحِيح الْقَوْل بِالْعُمُومِ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس: الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك , فَإِنْ كَتَمْت شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته ; وَهَذَا تَأْدِيب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَأْدِيب لِحَمَلَةِ الْعِلْم مِنْ أُمَّته أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْر شَرِيعَته , وَقَدْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْر نَبِيّه أَنَّهُ لَا يَكْتُم شَيْئًا مِنْ وَحْيه ; وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْي فَقَدْ كَذَبَ ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول: " يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته " وَقَبَّحَ اللَّه الرَّوَافِض حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَيْهِ.
تفسير الجلالين
"يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ" جَمِيع "مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبّك" وَلَا تَكْتُم شَيْئًا مِنْهُ خَوْفًا أَنْ تُنَال بِمَكْرُوهٍ "وَإِنْ لَمْ تَفْعَل" أَيْ لَمْ تُبَلِّغ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إلَيْك "فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته" بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْع لِأَنَّ كِتْمَان بَعْضهَا كَكِتْمَانِ كُلّهَا "وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس" أَنْ يَقْتُلُوك وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَس حَتَّى نَزَلَتْ فَقَالَ: "انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه" رَوَاهُ الْحَاكِم
تفسير ابن كثير
يَقُول تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْده وَرَسُوله مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِ الرِّسَالَة وَآمِرًا لَهُ بِإِبْلَاغِ جَمِيع مَا أَرْسَلَهُ اللَّه بِهِ وَقَدْ اِمْتَثَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ أَتَمَّ الْقِيَام قَالَ الْبُخَارِيّ عِنْد تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ إِسْمَاعِيل عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُول " يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك " الْآيَة هَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي مَوَاضِع مِنْ صَحِيحه مُطَوَّلًا وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْإِيمَان وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي كِتَاب التَّفْسِير مِنْ سُنَنهمَا مِنْ طُرُق عَنْ عَامِر الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق بْن الْأَجْدَع عَنْهَا - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَة " وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه وَتَخْشَى النَّاس وَاَللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ " وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور الرَّمَادِيّ حَدَّثَنَا سَعِيد بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا عَبَّاد عَنْ هَارُون بْن عَنْتَرَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْت عِنْد اِبْن عَبَّاس فَجَاءَ رَجُل فَقَالَ لَهُ إِنَّ نَاسًا يَأْتُونَا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ عِنْدكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ " يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك " وَاَللَّه مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ. وَهَذَا إِسْنَاد جَيِّد وَهَكَذَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة أَبِي جُحَيْفَة وَهْب بْن عَبْد اللَّه السَّوْدَانِيّ قَالَ: قُلْت لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - هَلْ عِنْدكُمْ شَيْء مِنْ الْوَحْي مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن فَقَالَ لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيه اللَّه رَجُلًا فِي الْقُرْآن وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة قُلْت وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة قَالَ الْعَقْل وَفِكَاك الْأَسِير وَأَنْ لَا يُقْتَل مُسْلِم بِكَافِرٍ.
ولا تعليق.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 10:18 م]ـ
[ QUOTE= موسى أحمد زغاري] وإليكم أخواني نماذج لتفسير الشيعة لنفس الآية:
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
67
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون- وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى المنافقين من ذلك فبيّن سبحانه عظم الأمر بقوله ((وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ))، أي لم تبلّغ خلافة علي (عليه السلام) ((فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) حتى أنّ كل الرسالة رهن هذا التبليغ، وذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سُدى، وقد أمّنه الله سبحانه مما كان يخشى منه فقال ((وَاللّهُ يَعْصِمُكَ))، أي يحفظك ((مِنَ النَّاسِ)) فلا يتمكنون من الفتنة والانقلاب والإيذاء مما كان يخشاه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحين ذاك وعند منصرف الرسول من حُجّة الوداع في وسط الصحراء أمَرَ بنصب منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة، ثم أخذ بكف علي (عليه السلام) وقال: "مَن كُنتُ مولاه فهذا علي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله .. (إلخ) "
((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك،))
أيّ كذب هذا قوله (هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون)؟؟؟
وأيّ تحريف لمعنى الكفر قوله (((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك،)؟؟
قاتلهم الله لتحريفهم الكلم عن مواضعه
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:52 م]ـ
آيْاتُ الغَدِير
بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على
سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
توجد ثلاث مسائل في عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يعطها الباحثون حقها في تدوين سيرتهم، ودراسة أعمالهم:
المسألة الأولى: أن أصل مهمتهم عليهم السلام هو تبليغ الناس رسالة ربهم فقط. . فالمحور الذي تدور عليه أعمالهم هو التبليغ والأداء، من أجل إقامة الحجة لربهم عز وجل على عباده. .
فالرسول مبلغُ رسالة ومؤديها. . وهو يتقي ربه سبحانه ويخاف من غضبه وعذابه إن هو قصر في الأداء، أو خالف حرفاً مما كلف بأن يؤديه!
ولذا تراه يُشْهِدُ الناس على أنه أدى اليهم، ليشهدوا له عند ربه.
والرسول مبلغٌ، وليس له إجبار الناس على قبول الهدى، ولا على الإلتزام به. . ولا يمكنه ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
(4)
فلا إكراه في الدين الإلهي. . وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة، ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا. . ويلتزموا بالدين أو ينحرفوا عنه. . لأن ذلك معنى فتح مدرسة الحياة في هذه الدار، وامتحان الناس بالهدى والضلال، وإعطائهم القدرة على فعل الخير أو الشر. . ثم محاسبتهم في مرحلة لاحقةٍ في دارٍ أخرى.
وإجبارهم يتنافى مع أصول الإمتحان، وما يلزمه من حرية اختيار.
**
والمسألة الثانية: أن هدف الأنبياء والرسل عليهم السلام يتركز على القضايا (الكبرى) في حياة الناس ومسار المجتمعات. . فالرسول عليه السلام مهندسٌ رباني، ولكنه مهندسُ مدنٍ ومجتمع، ومسيرة تاريخ.
وأعماله يجب أن ينظر اليها بهذا المنظار، وأن تقاس بهذا المقياس، وأن يسأل الباحث نفسه: ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ، لو لم يبعث هذا الرسول، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته؟
أو يسأل نفسه: كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم، لو لم يبعث إبراهيم عليه السلام ويرسي أساس التوحيد، ويزرع كلياته في مسيرة المجتمع الإنساني؟!
أو كيف كانت حالة الجزيرة العربية، والبلاد العربية، والعالم في عصرنا، لو لم يبعث نبينا صلى الله عليه وآله، ولم يحدث هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة؟!
لقد كان عمله صلى الله عليه وآله تكوين أمة، ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم، بل في ريادتها. . بأحسن ما يمكن من مقومات الأمة، مضموناً وشكلاً ..
(يُتْبَعُ)
(/)
كان عمله إنشاء سفينة، وإطلاقها في بحر شعوب العالم وفي مجرى التاريخ. . وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته، الذين اصطفاهم الله وطهرهم، وأورثهم الكتاب. . ولكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم، فليكن الربان من يكون، حتى يبلغ الله أمره في هذه الأمة، ثم يبعث فيها المهدي الموعود عليه السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
(5)
والمسألة الثالثة: أن الجانب الذاتي في الرسول عليه السلام موجودٌ ومؤثرٌ دون شك، فهو مفكرٌ، نابغٌ، مخطط ٌ، فاعلٌ مختار. . ولكن الذاتية في عمله ضئيلة جداً!
وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية، فإن إطاعة الرسول عليه السلام لما يوحى اليه إنما هو عن قناعةٍ، وإيمانٍ، وتَعَبُّد.
الرسول يجتهد في أمورٍ، شخصية أو عامة. . ولكن مساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه، جزءٌ قليلٌ من مساحة عمله الواسع الكبير!
فمثله كمثل مهندسٍ أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير، وهو مقتنعٌ أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه، ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة، حتى لا يقع في أخطاء ضارة. . فهو يعمل ويفكر وينفذ، ولكنه على اتصالٍ دائم بمركزه، يأخذ منه مراحل الخارطة، ويستشيره في رفع إشكالات التنفيذ!
وهذا المثل لمهمة هذا المهندس، مصغرٌ آلاف المرات عن مهمة الرسول عليه السلام.
أما مركز هداية الرسول عليه السلام، فلا يقاس أحدٌ بالله سبحانه، ولا فعل أحدٍ بأفعاله.
**
وعلى هذا، يجب علينا في دراسة سيرة نبينا صلى الله عليه وآله أن ندخل في حسابنا هذه الأمور الثلاثة: أنه مبلغٌ ما أمر به. وأن عمله إنشاء أمة وإطلاقها في مسيرة التاريخ. وأن عمله دائماً بتوجيه ربه، وليس من عند نفسه. .
والمتأمل في سيرته صلى الله عليه وآله يلمس هذه الحقيقة لمساً، وأن الله تعالى كان يدير أمره من أول يومٍ الى آخر يوم، وكان هو يطيع وينفذ. . مسْلِماً أمره الى ربه، متوكلاً عليه، راضياً بقضائه وقدره. .
ولذا جاءت النتائج فوق مايتصور العقل البشري، وفوق ما يمكن لكل مهندسي المجتمعات، ومنشئي الأمم، ومؤسسي الحضارات. .
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة،
--------------------------------------------------------------------------------
(6)
وأقل كلفةٍ من الخسائر البشرية والمادية. . فرغم شراسة الأعداء والحروب لم تبلغ قتلى الطرفين ألف قتيل!!
وما ذلك إلا بسبب أن إدارة الرسول صلى الله عليه وآله كانت من ربه عز وجل. .
لقد كان القرآن يتنزل عليه باستمرار من أول بعثته الى قرب وفاته، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيه دائماً، بآيات قرآنٍ أو وحيٍ غير القرآن، وأوامر وتوجيهات وأجوبة. . الخ.
وما أكثر الأمثلة في سيرته صلى الله عليه وآله على ذلك، فهي مليئةٌ بالتدخل الآلهي والرعاية في كبير أموره وصغيرها. . وهي تدل على أنه صلى الله عليه وآله ما كان يتصرف من عند نفسه إلا في تطبيق الخطوط العامة التي أوحيت اليه، أو تنفيذ الأوامر التفصيلية التي بلغه إياها جبرئيل عليه السلام. . وكثيراً ما كان يتوقف عن العمل، ينتظر الوحي!
وقد ورد أنه صلى الله عليه وآله قال: أوتيت الكتاب ومثله معه، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن ـ الإيضاح|215، وأن جبريل كان ينزل عليه بالسنة كما ينزل بالقرآن ـ الدارمي: 1|145.
وكانت هذه التوجيهات كانت تشمل أموره الشخصية أيضاً صلى الله عليه وآله، من زواجه وطلاقه، ولباسه وطعامه، ونومه ويقظته، ووضوئه وسواكه، فضلاً عن عطائه ومنعه، وحبه وبغضه. . كما كانت شاملة لحالات حله وترحاله، ورضاه وغضبه. .
ـ روى في الكافي: 4|39،عن الإمام الصادق عليه السلام قصة شخص كافر جاء يحاج النبي صلى الله عليه وآله ويكذبه ويؤذيه ويتهدده، قال: (فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه، وتربد وجهه، وأطرق الى الأرض، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: ربك يقرؤك السلام ويقول لك: هذا رجلٌ سخيٌّ يطعم الطعام. فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه، وقال له:
لو لا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخيٌّ تطعم الطعام، لشردت بك، وجعلتك حديثاً لمن خلفك!
فقال له الرجل: وإن ربك ليحب السخاء؟
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(7)
فقال: نعم.
فقال: إني أشهد أن لا الَه إلا الله وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً. انتهى.
ـ وروى في الكافي: 1|289، أن شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام فقال:
حدثْني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟
فغضب! ثم قال: ويحك! كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف (لله) من أن يقول ما لم يأمره به الله! بل افترضها الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
ولا نطيل الكلام بأمثلة ذلك، فهي موضوع مهمٌّ لرسالة دكتوراه، بل لعدة رسائل.
**
والخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله موضوعٌ بسيطٌ وليس معقداً ..
فقد قال أهل البيت وشيعتهم إن النبي صلى الله عليه وآله نصب علياً عليه السلام ولياً للمسلمين من بعده، وأن ذلك كان بأمر ربه عز وجل، فلا مجال فيه لاختيار قريشٍ أو غير قريش.
وقالت قريش إنه لم ينصب أحداً، ولم يوص الى أحد، وأن (سلطانه) ترثه كل قبائل قريش الثلاث وعشرين، لأنه ابن قريش.
لذلك اختارت قريش بعده قرشياً من قبيلة تَيْم هو أبو بكر، ثم اختار أبو بكر قرشياً من قبيلة عَدِي هو عمر، ثم اختار عمر بواسطة الشورى قرشياً ثالثاً من بني أمية هو عثمان ..
ولم يختاروا خليفة من الأنصار، لأنه ليسوا قرشيين فلا حق لهم في سلطان محمد صلى الله عليه وآله، ولم يختاروا من بني هاشم، لأن حقهم في سلطانه ليس أكثر من غيرهم من قبائل قريش، ولم تخترهم أكثرية قبائل قريش!
إنه موضوع بسيط، يدور حول وجود النص وعدم وجوده. . ولكنه موضوعٌ شائكٌ لا تحب فتحه قريش، لأنه يضع نظام خلافتها تحت الإستفهام. . وإذا فتَحْتَهُ
--------------------------------------------------------------------------------
(8)
حذرك القرشيون وقالوا لك: إنه صعبٌ معقد، وأفتوا لك بأن الكلام فيه حرام!
وآيات الغدير، جزءٌ من مجموع الآيات التي نزلت في علي وأهل البيت عليهم السلام، وقد ألَّفَ قدماء المفسرين والمحدثين حتى السنيين منهم، كتباً خاصة في الآيات التي أنزلها الله تعالى في أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله، وفي الأحاديث التي قالها فيهم النبي صلى الله عليه وآله الذي لاينطق عن الهوى! نذكر منها كتاب الحافظ أبي نعيم الأصفهاني باسم (ما نزل في علي من القرآن)، وكتاب النسائي صاحب الصحيح باسم (خصائص أمير المؤمنين علي)، وهما كتابان معروفان مطبوعان ..
وأثناء بحثنا لآيات الغدير الثلاث: (بلغ ما أنزل اليك من ربك) و (اليوم أكملت لكم دينكم) و (سأل سائل بعذاب واقع) وجدناها مرتبطةً بخطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ارتباطاً وثيقاً، فكان لا بد أن يشمل موضوعنا بحوثاً في هذه الخطب الست! وما فيها من تبليغه صلى الله عليه وآله الأمة وجوب اتباع الثقلين من بعده: القرآن والعترة، وبشارته الأمة في خطبة عرفات بأن الله تعالى حل مشكلة الحكم فيها، واختار لها من بعده اثني عشر إماماً ربانياً ..
كذلك كان من اللازم أن نبحث العلاقة التي كانت قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وزعماء قريش في قضية حكم أهل بيته من بعده صلى الله عليه وآله.
وقد اخترنا للكتاب اسم (آيات الغدير) رغم اشتماله على هذه الموضوعات، لأنه الإسم الأنسب لها، وإن زادت عن تفسير آيات الغدير بالمعنى الإصطلاحي.
نرجو أن تكون بحوثاً مفيدة، وأن ينفعنا الله تعالى بها في آخرتنا، ويشملنا بسببها في شفاعة النبي وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله.
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
علي الكوراني العاملي
في الثالث عشر من رجب المكرم 1419
--------------------------------------------------------------------------------
(9)
الفصل الأول
بحوث تمهيدية لتفسير آية العصمة من الناس
خلاصة آيات الغدير الثلاث
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله قبل حجة الوداع، أن يدل أمته على حجهم، كما دلهم على صلاتهم، وزكاتهم، وصومهم، وأن يدلهم على إمامهم من بعده ويعلن عهده الى وصيه من عترته، وينصبه علماً لأمته. . لأنه تعالى لم يقبض نبياً من أنبيائه عليهم السلام إلا بعد أن يكمل له دينه، ويورث الكتاب الآلهي لوصيه، وينصبه علماً لأمته.
(يُتْبَعُ)
(/)
ودعا النبي صلى الله عليه وآله المسلمين الى الحج معه، ليعلمهم مناسك حجهم، ويقيم لهم علياً عليه السلام علماً من بعده. . ولكنه كان يخشى أن تعارض ذلك قريش، لحسدها القديم لبني هاشم، وأن يطعنوا في نبوته، ويتهموه بأنه يريد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر. . فيؤدي ذلك الى حدوث حركة ردة في الأمة.
وحج النبي صلى الله عليه وآله حجة الوداع، وبلغ الأمة فريضة الحج، وخطب في مكة وعرفات ومنى خمس خطب. . بين فيها للأمة معالم دينها، وبشرها بالأئمة الإثني عشر من أهل بيته عليهم السلام، وشدد على أنه لا أمان للمسلمين من الضلال إلا بالتمسك بالثقلين: القرآن والعترة.
--------------------------------------------------------------------------------
(10)
كما حذرهم من الأئمة المضلين، وأصحابه الذين سينقلبون من بعده على أعقابهم، فيمنعهم الله تعالى من ورود حوضه يوم القيامة.
وبسبب حساسية قريش، لم يكرس النبي صلى الله عليه وآله ولاية العترة الطاهرة بشكل رسمي ولم يأخذ البيعة من المسلمين لعلي عليه السلام.
وفي طريق عودته صلى الله عليه وآله من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه السلام بقوله تعالى بالآية الأولى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. .. الخ.) فأوقف النبي صلى الله عليه وآله المسلمين في الجحفة عند غدير خم، وبلغهم ما أمره به ربه، وأصعد علياً عليه السلام معه على المنبر، ورفع بيده معلناً ولايته من بعده، وأمر أن تنصب له خيمة، وأن يهنئه المسلمون بالولاية، فهنؤوه وبايعوه. . فنزلت عند ذلك آية إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية العترة الطاهرة، وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ... الخ. وذلك في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.
وقبل وصول النبي صلى الله عليه وآله الى المدينة وبعده، بدأت تحركات قريش والمنافقين، ولكن الله تعالى أحبطها، وعصم رسوله من ارتداد الأمة على نبوته في حياته، وذلك بوسائل متعددة، كان منها أن أنزل العقاب على عدد من المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله، وكان أحدهم جابر بن النضر بن الحارث من بني عبد الدار، الذي كان أبوه زعيم بني عبد الدار، وحامل لواء قريش يوم بدر.
قال أبو عبيد الهروي في كتابه غريب القرآن:
لما بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال:
يا محمد! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك. ثم لم ترض بذلك، حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟!
--------------------------------------------------------------------------------
(11)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: والله الذي لا إلَه إلا هو، إنَّ هذا من الله.
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائلٌ بعذابٍ واقع. . الخ.
ومع أن عدداً من مصادر السنيين توافقنا على تفسير الآيات الثلاث بقصة الغدير وإعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي والعترة الطاهرة عليهم السلام. . ولكن أكثر مفسريهم ومحدثيهم فسروها بوجوه أخرى، متعددةٍ ومتضاربة، كما سترى.
لذلك حررنا بعض البحوث التمهيدية اللازمة لتفسير هذه الآيات الكريمة.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(12)
--------------------------------------------------------------------------------
(13)
البحث الأول
خلافة النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحة في حياته
(يُتْبَعُ)
(/)
مضافاً الى منطق الأمور، توجد أدلةٌ ملموسةٌ تدل على أن الخلافة وولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحةً من أول بعثته والى آخر حياته الشريفة، وأن الكلام كان يجري في من يخلفه بشكل طبيعي. . لا كما تقول مصادر السنيين من أن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص الى أحد، وأن المسلمين لم يطرحوا هذا الموضوع معه أبداً، ولا سألوه عنه حتى مجرد سؤال!!
وهذه الأدلة غير ما ثبت من نصوص النبي صلى الله عليه وآله على إمامة العترة من بعده عليهم السلام.
الدليل الأول: ماورد في سيرة النبي صلى الله عليه وآله من أنه كان يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته، ويطلب منها أن تحميه لكي يبلغ رسالة ربه. . وأن بعض القبائل قبلت عرضه بشرط أن يكون الأمر لها من بعده، فأجابها النبي صلى الله عليه وآله بأنه مجرد رسول والأمر ليس له، بل هو لله تعالى يجعله لمن يريد!
وأبرز ما وجدنا من ذلك: حديث بني عامر بن صعصعة، وحديث كندة، وكلاهما في أول البعثة، وحديث عامر بن الطفيل، وهو في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله!
ـ ففي سيرة ابن هشام: 2|289:
أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم الى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال
--------------------------------------------------------------------------------
(14)
له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟
قال: الأمر الى الله، يضعه حيث يشاء.
قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه.
فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر الى شيخ لهم، قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتىً من قريش ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا الى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به الى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلافٍ؟! هل لذناباها من مُطَّلب؟! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم! انتهى.
ورواه الطبري في تاريخه: 2|84، وابن كثير في سيرته: 2|158، وحكاه في الغدير: 7| 134، عن سيرة ابن هشام: 2|32، والروض الأنف: 1|264، وبهجة المحافل لعماد الدين العامري 1|128، والسيرة الحلبية: 2|3، وسيرة زيني دحلان: 1|302، بهامش الحلبية، وحياة محمد لهيكل|152.
وأما حديث قبيلة كندة، فرواه ابن كثير في سيرته: 2|159 قال:
قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملك لله، يجعله حيث يشاء.
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به!. انتهى.
وأما حديث عامر بن الطفيل شيخ مشايخ قبائل غطفان، فرواه ابن كثير أيضاً في سيرته: 4| 114، قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(15)
عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه: فقال عامر بن الطفيل:
ـ يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمت؟
ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.
ـ قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت، من بعدك؟
ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك لك، ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل.
ـ قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، إجعل لي الوَبَر، ولك المَدَر.
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
ـ فلما قفل من عنده، قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً!
ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله.
ـ وفي ص 112، قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء!
(يُتْبَعُ)
(/)
قال فطَعَن (أصيب بالطاعون) في بيت امرأة فقال: أغُدَّةٌ كغدة البعير، وموتٌ في بيت امرأة من بني فلان! (وفي رواية في بيت سلولية) ائتوني بفرسي، فركب، فمات على ظهر فرسه!. انتهى.
الدليل الثاني: أن بيعة النبي صلى الله عليه وآله للأنصار تضمنت ثلاثة شروط:
الأول: أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم.
الثاني: أن يحموا أهل بيته وذريته مما يحمون منه أهل بيوتهم وذراريهم.
الثالث: أن لا ينازعوا الأمر أهله.
وهذا يعني أن يطيعوا من يختاره الله تعالى للقيادة بعد نبيه صلى الله عليه وآله، وأن مبدأ الإختيار الآلهي للأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله كان مفروغاً عنه من أول الرسالة.
--------------------------------------------------------------------------------
(16)
وقد وفت الأنصار بالشرط الأول خير وفاء، ولكنها حنثت بالشرطين الأخيرين حنثاً سيئاً مع الأسف!
ـ ففي صحيح البخاري: 8|122
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
ـ ورواه مسلم: 6|16 والنسائي: 7|137، بعدة روايات، وعقد باباً بعنوان
(باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله)
ـ ورواه ابن ماجة: 2|957، وأحمد: 5|316، وفي ص 415 وقال (قال سفيان: زاد بعض الناس: ما لم تروا كفراً بواحاً). ورواه البيهقي في سننه: 8|145.
ورووا روايات فيها الزيادة التي ذكرها سفيان، وزيادة أخرى. . كما في صحيح البخاري: 8|88 قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان. انتهى.
ورواه البيهقي في سننه: 8|145
ـ وروى أحمد في مسنده: 5|321: عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أنه لك. انتهى.
وهاتان الزيادتان محل شكٍ، لأن البيعة كانت قبل الهجرة، ولم يكن فيها استثناء من الطاعة، ولم تكن مسألة إثرة القرشيين على الأنصار مطروحة أبداً إلا بعد بيعة أبي بكر، واعتراض رئيس الأنصار صاحب السقيفة سعد بن عبادة، وما جرى له. . وهذا يوجب الاطمئنان بأن زيادتي الإستثناء والأثرة نشأتا من جو علاقة الأنصار مع الخلافة القرشية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
--------------------------------------------------------------------------------
(17)
ويلاحظ أن الصحاح القرشية أكثرت من رواية شرط النبي صلى الله عليه وآله على الأنصار أن لا ينازعوا الأمر أهله، لأجل أن تحتج عليهم بأنهم لا سهم لهم في الخلافة القرشية. . ولكنها لم تروِ شرط النبي صلى الله عليه وآله على الأنصار أن يمنعوا أهل بيته وذريته مما يمنعون منه أهليهم، لأن ذلك في غير مصلحة الخلافة القرشية، التي هاجمت بيت فاطمة وعلي عليهما السلام، وأشعلت فيه النار لتحرقه بمن فيه، إن لم يخرجوا ويبايعوا!
ـ قال في مجمع الزوائد: 6|49
عن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة قال: يا أيها الناس، هل تدرون على ما تبايعون محمداً صلى الله عليه وسلم؟ إنكم تبايعونه أن تحاربوا العرب والعجم، والجن والإنس! فقالوا: نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم.
قالوا: يارسول الله إشترط.
قال: تبايعوني على أن: تشهدوا أن لا إلَه إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، وأن لا تنازعوا الأمر أهله، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم.
وعن حسين بن علي قال: جاءت الأنصار تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة فقال: يا علي قم فبايعهم، فقال علي: ما أبايعهم يا رسول الله؟
قال: على أن يطاع الله ولا يعصى، وعلى أن تمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وذريته، مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم. انتهى.
وستأتي روايته من مصادر أخرى في (مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ).
الدليل الثالث: حديث الدار المعروف، الذي ورد في تفسير قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين).
(يُتْبَعُ)
(/)
ولا بد هنا من التنبيه على أمرٍ مهم، وهو أن مدوني السيرة النبوية الشريفة طمسوا مرحلة دعوة بني هاشم من السيرة، مع أنها منصوصة فيالقرآن، واخترعوا بدلها مرحلة ما قبل بيت الأرقم، وما بعد بيت الأرقم. .. ورووا فيها الصحيح وغير
--------------------------------------------------------------------------------
(18)
الصحيح، والمعقول وغير المعقول!
وتدل الآية الكريمة على أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله في المرحلة الأولى أن يدعو بني هاشم فقط. . فماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله في هذه المرحلة؟
وهل استمرت مدتها شهوراً، أو سنوات، حتى نزل الأمر بتوسيع نطاق الدعوة؟
وما معنى الأمر الإلَهي: أن تكون نبوة الرسول صلى الله عليه وآله أولاً لبني هاشم خاصة، وبعدها لقريش والعرب والناس عامة؟
وما معنى أن قريشاً اتخذت قراراً بمحاصرة بني هاشم، فالتفوا جميعاً حول النبي صلى الله عليه وآله، مؤمنهم وكافرهم، وتحملوا الحصار الشامل الذي استمر من السنة السادسة أو السابعة، الى السنة الحادية عشرة للبعثة. . ولم يقل أحد منهم آخ!
وما معنى أنه عندما كانت تقع شدائد على المسلمين، لا ينهض بحملها إلا بنو هاشم؟! فقد انهزم المسلمون جميعاً في أحد، ولم يثبت غير بني هاشم!
ثم انهزموا في حنين وهم عشرة آلاف .. فلم يثبت غير بني هاشم!!
إن هذه الحقائق والظواهر تفسر الحديث الذي روته مصادرنا (بعثت الى أهل بيتي خاصة، والى الناس عامة).
كما تدل آية (أنذر عشيرتك الأقربين) على أن إنذار بني هاشم كان مبرمجاً من الله تعالى. . ويدل حديث الدار على أن تعيين وصي النبي صلى الله عليه وآله وخليفته من بينهم، كان عملاً مبكراً، من ضمن ذلك البرنامج. .
ـ فقد قال السيوطي في الدر المنثور: 5|97
وأخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، من طرقٍ، عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك الأقربين، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ياعلي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليها حتى جاء
--------------------------------------------------------------------------------
(19)
جبريل فقال: يامحمد إنك إن لم تفعل ماتؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجعل لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به.
ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: كلوا بسم الله، فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما ترى إلا آثار أصابعهم!
والله إنْ كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم.
ثم قال: إسق القوم ياعلي، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً!
وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله!
فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما كان الغد قال: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعدْ لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب، ثم اجمعهم لي، ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئنكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يُوَازِرُنِي على أمري هذا؟
فقلت وأنا أحدثهم سناً: إنه أنا، فقام القوم يضحكون.
ثم رواها السيوطي بسند آخر عن ابن مردويه عن البراء بن عازب، قال: لما نزلت
--------------------------------------------------------------------------------
(20)
(يُتْبَعُ)
(/)
هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب، وهم يومئذ أربعون رجلاً. .. الخ. انتهى.
ولكن السيوطي بتر الحديث هنا، ولم يذكر بقية كلام النبي صلى الله عليه وآله. . وهو أسلوبٌ دأب رواة خلافة قريشٍ على ارتكابه في حديث الدار، لأن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله من ذلك اليوم أن يختار وزيره وخليفته من عشيرته الأقربين!
ـ قال الأميني في الغدير: 1|207
وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي قال في تاريخه: 2| 217 من الطبعة الأولى: إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
ـ وقال الأميني: 2|279
وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي، المتوفى 240، في كتابه نقض العثمانية، وقال: إنه روي في الخبر الصحيح.
ورواه الفقيه برهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء) |46 ـ 48
وابن الأثير في الكامل 2|24
وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1|116
وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3|37 (وبتر آخره)
وقال: ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.
والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره|390
--------------------------------------------------------------------------------
(21)
والحافظ السيوطي في جمع الجوامع، كما في ترتيبه 6|392
وفي|397، عن الحفاظ الستة: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي.
وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3|254. انتهى.
ثم شكا صاحب الغدير من الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه، ولكنه أبهم كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام فقال: ثم قال: إن هذا أخي، وكذا وكذا!!.
وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: 3 |40، وفي تفسيره: 3|351. انتهى.
ـ وقال في هامش بحار الأنوار: 32|272: وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين ... راجع تاريخ الطبرى: 2|321، كامل ابن الأثير: 2|24، تاريخ أبي الفداء: 1|116، والنهج الحديدي: 3|254، ومسند الإمام ابن حنبل: 1|159، وجمع الجوامع ترتيبه: 6| 408، وكنز العمال: 6|401.
وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل، إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة (الحلف) ولم يكن للنبي صلى الله عليه وآله أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفةً غيره، ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه، كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم.
ولذلك ترى رسول الله صلى الله عليه وآله حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة، فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله: يؤاخي بين عمر وأبي بكر، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي (راجع سيرة ابن هشام: 1|504 المحبر| 71 ـ 70 البلاذرى: 1|270) يقول لعلي عليه السلام:
--------------------------------------------------------------------------------
(22)
والذى بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي، وأنت معي في قصري في الجنة.
ثم قال له: وإذا ذاكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر (الرياض النضرة: 2|168 منتخب كنز العمال: 5|45 و 46).
(يُتْبَعُ)
(/)
ولذلك نفسه تراه صلى الله عليه وآله حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا اليه رؤوسهم، ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال لرسول الله: أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟
قال: الأمر الى الله يضعه حيث يشاء.
قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه (راجع سيرة ابن هشام: 1|424 الروض الأنف: 1|264 بهجة المحافل: 1|128، سيرة زيني دحلان: 1|302 السيرة الحلبية: 2|3). فلولا أنه صلى الله عليه وآله كان تعاهد مع علي عليه السلام بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل قبل ذلك، لما ردهم بهذا الكلام المؤيس، وهو بحاجة ماسة من نصرة أمثالهم. انتهى.
ـ وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: 1|15
وروينا أيضاً عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه أنه قال: لما أنزل الله عز وجل: وأنذر عشيرتك الأقربين، جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن، وإن فيهم يومئد عشرة ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق، وهم بضع وأربعون رجلاً، فأكلوا حتى صدروا وشربوا حتى ارتووا، وفيهم يومئذ أبو لهب، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله:
يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري؟
--------------------------------------------------------------------------------
(23)
فسكتوا، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً، ليس منهم أحد يقبله، حتى لم يبق منهم أحد غيري، وأنا يومئذ من أحدثهم سناً، فعرض عليَّ فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: نعم، أنت يا علي.
فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب: لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب: قد قدم ابنك اليوم عليك. انتهى.
ولا بد أن تكون حادثة دعوة النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم قد شاعت في قريش، ثم في العرب، فقالوا إن النبي الجديد جمع عشيرته وأنذرهم ودعاهم الى دينه، وإنه طلب منهم شخصاً يكون له وزيراً وخليفةً من بعده، فأجابه ابن عمه الشاب الغلام. . فاتخذه وزيراً وخليفة!
**
فهذه النصوص تدل على أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحةً ومنظورةً للناس، من أول بعثته الى آخر حياته صلى الله عليه وآله. . وأن كل الناس كانوا يعرفون أن مشروع النبوة ودعوة الناس اليها، هو مشروع تكوين دولة يرأسها النبي صلى الله عليه وآله، وتحتاج الى خليفة له بعده. ولذلك كان ممثلو القبائل يحاولون أن يأخذوا منه وعداً بأن يكون لهم الأمر من بعده، ومنهم ممثلون لقبائل يمانية وعدنانية، وزعيم قبائل نجد المتنقلة. . فكيف يصدق عاقلٌ ما زعمه زعماء قريش، من أنهم لم يطرحوا مسألة الخلافة مع النبي صلى الله عليه وآله، حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجب المسلمين من بعده!!
وكيف يقبل عاقل أنهم يروون عنه صلى الله عليه وآله أحاديث عن مستقبل الأمة في كل الأمور، إلا في أمر الخلافة والإمام الشرعي من بعده؟!
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:54 م]ـ
البحث الثاني
النبي صلى الله عليه وآله يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده
في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عنده صلى الله عليه وآله، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده، كما هي سنته تعالى في أنبيائه، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ..
ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم، ولا نبوة بعده، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب ..
وعترته وذريته صلى الله عليه وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم السلام وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم، وأورثهم الحكم والكتاب (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ... ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ... ).
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج، والتلويح والتصريح، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده، بل قد لمس صلى الله عليه وآله مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم، فأجابهم بغضب نبوي!
وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام، واتساع الدولة الإسلامية، والمخاطر المحيطة بها، وإعلان النبي صلى الله عليه وآله قرب رحيله الى ربه. . إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده.
--------------------------------------------------------------------------------
(26)
بل تدل النصوص ومنطق الأمور، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي صلى الله عليه وآله، وتعمل لمنع إعلان ذلك! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم السلام بشكل رسمي، وأخذ البيعة لهم من الأمة!
ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها .. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة .. بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع .. فقد ذكرت المصادر أنه صلى الله عليه وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف. . ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية. قال في السيرة الحلبية: 3|333:
خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر بمنى، والرابعة يوم القر بمنى، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً. انتهى.
وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب، من التعارض والتضارب، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها!!
وكل ذنب خطب الوداع أن النبي صلى الله عليه وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وأقام عليهم الحجة، كاملةً غير منقوصة!
ولكن رغم كل التعتيم القرشي، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده .. صلى الله عليه وعليهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(27)
ونذكر منها فيما يلي: حديث الأئمة الإثني عشر، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وآله طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع!
ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور، ومنها حديث الثقلين: الكتاب والعترة، وحديث: حوض النبي صلى الله عليه وآله، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه، ويؤمر بهم الى النار!
ـ روى البخاري في صحيحه: 8|127:
جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش!
ـ وفي صحيح مسلم: 6|3:
جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش!
ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها (ثم تكلم بشيء لم أفهمه).
ثم روى ثالثة، جاء فيها (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). انتهى.
ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات، وقد قلده غيره في ذلك، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه!
ففي مسند أحمد: 5|93 و 96 و 99 (عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال ... ) وفي ص 87 (يقول في حجة الوداع). وفي ص 99 منه (وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب بمنى). انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
وستعرف أن النبي صلى الله عليه وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات، وفي منى عند الجمرة، وفي مسجد الخيف .. ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم!
**
--------------------------------------------------------------------------------
(28)
فما هي قصة الأئمة الإثني عشر؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمعٍ للمسلمين، وهو يودع أمته؟!
يجيبك البخاري: إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله تجب طاعتهم، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما، وأنه صلى الله عليه وآله قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم، وأنهم جميعاً من قريش، لا من بني هاشم وحدهم، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش! وليس فيهم من الأنصار، ولا من قبائل العرب الأخرى، ولا من غير العرب .. وهذا كل ما في الأمر!!
وتسأل البخاري: لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك؟!
يجيبك البخاري: بأن الموضوع مجرد إخبار فقط، فقد أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته بذلك، لكي تأنس به .. فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي!!
والنتيجة: أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة، واضحة مفهومة، تبين كيف احترمها النبي صلى الله عليه وآله، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها!
**
أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله!
ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى الله عليه وآله، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا .. وملايين الضحايا .. وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها .. الى أن .. انهارت خلافتها وخلفاؤها!
--------------------------------------------------------------------------------
(29)
ولكن رواية مسلم تقول: كلا لم تحل المشكلة، لأن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عنهم إخباراً مجملاً! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير: من هم يا رسول الله؟!
وياليت أحدهم سأله فحددهم، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع؟!
يقول مسلم كما قال البخاري: كلا، كلا .. إنهم فقط أناسٌ ربانيون، يعز الله بهم الإسلام .. وهم من قريش .. من قريش!!
**
وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر .. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب، وقالا لك مقولة قريش: إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط، فشمها واسكت!
ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما!
فقد روى أحمد في مسنده: 5|92، عن نفس الراوي جابر السوائي قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون (بعدي) ...
وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. قال ثم رجع الى منزله، فأتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. انتهى.
ففي الروايتين كلمة (بعدي) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين، وأن القصة في المدينة، لا في حجة الوداع، فاحفظ ذلك لما يأتي!
وقد وردت كلمة بعدي، ومن بعدي، في عدد من روايات الحديث، منها ما رواه أحمد أيضاً في: 5|94، عن نفس الرواي (يكون بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم .. )
--------------------------------------------------------------------------------
(30)
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي: 5|99 و 108 عن السوائي أيضاً (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، فتكلم فخفي علي، فسألت الذي يليني أو الى جنبي، فقال: كلهم من قريش).
وفي سنن الترمذي: 3 |340
(يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثم تكلم بشىَ لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال قال: كلهم من قريش).
وفي تاريخ البخاري: 1|446 رقم 1426: عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال: يكون بعدي اثنا عشر خليفة .. انتهى.
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر |20 قال:
خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. انتهى.
**
إذن، فقد طرح النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع أمر الحكم من بعده، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر!
ولكن ذلك لا يحل المشكلة، بقدر ما يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها:
السؤال الأول: لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد، هو جابر السوائي، الذي كان صغيراً في حجة الوداع، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات! ألم يسمعها غيره؟ ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين؟! أم أن غيره رواها ولكن رواية جابر فازت لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية، فاعتمدتها، وسمحت بتدوينها!
السؤال الثاني: كان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن صغير الأمور وكبيرها، حتى في أثناء خطبته، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر عقائدي، عملي، مصيري، مستقبلي، وتدعي أنه أبهمه إبهاماً، ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن
--------------------------------------------------------------------------------
(31)
هؤلاء الأئمة الربانيين، وما هو واجب الأمة تجاههم؟!
وإذا كانت (قريش) قد ذهبت الى النبي صلى الله عليه وآله في بيته في المدينة، كما يقول نفس الراوي، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد هؤلاء الإثني عشر، فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم، وعما يكون في زمانهم!
وهل تعلم أن قريشاً في المدينة تعني عمر وأبا بكر فقط؟!
وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع، لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ولا عما يكون قبلهم، وبعدهم، وعن واجب الأمة تجاههم؟!
السؤال الثالث: لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه؟
ثم رووها عن النبي صلى الله عليه وآله في المدينة أيضاً، فخفيت نفس الكلمة!
ثم لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وعن عمر بن الخطاب فقط؟!. .. الى آخر الأسئلة التي ترد على نص هذا الحديث، وتلحُّ على الباحث بالسؤال.
أليس من حق الباحث أن يشك في الأمر .. وأن يبحث بنفسه عن هذه كلمة السر المفقودة في أسواق الحديث والتاريخ؟!
سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية، تسليط الضوء على هذا السر المفقود!!
الأولى: هل أن أصل كلهم من قريش: كلهم من عترتي!
ماهو السبب في غياب الكلمة على الراوي؟ ومن الذي سأله عنها فشهد له بها؟
ـ جاء في مسند أحمد: 5|100 و 107 أن الراوي لم يفهم الكلمة، وخفيت عليه قال
(ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال؟ قال: قال كلهم من قريش)
ـ وفي مستدرك الحاكم: 3|617 (وقال كلمة خفيت علي، وكان أبي أدنى اليه مجلساً مني فقلت ما قال؟ فقال كلهم من قريش).
--------------------------------------------------------------------------------
(32)
ـ وفي مسند أحمد: 5|90 و98 أن النبي صلى الله عليه وآله أخفاها وخفض بها صوته، وهمس بها همساً! (قال كلمة خفية لم أفهمها، قال قلت لأبي ما قال؟ قال قال كلهم من قريش).
ـ وفي مستدرك الحاكم: 3|618 (ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال ياعم؟ قال قال يابني: كلهم من قريش).
ـ وفي معجم الطبراني الكبير: 2|213 ـ 214 ح 1794
عن جابر بن سمرة عن النبي قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله صلى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: كلهم من قريش).
(يُتْبَعُ)
(/)
بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس، فالناس ـ المحرمون لربهم في عرفات، المودعون لنبيهم صلى الله عليه وآله، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه ـ صاروا كأنهم في سوق حراج، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين، فيضجون، ويكبرون، ويتكلمون، ويلغطون، ويقومون، ويقعدون!!
ـ ففي سنن أبي داود: 2|309 (قال فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية، قلت لأبي يا أبة ما قال؟ قال كلهم من قريش). ومثله في مسند أحمد: 5|98.
ـ وفي مسند أحمد: 5|98 (ثم قال كلمة أصمنيها الناس، فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلهم من قريش) وفي رواية مسلم المتقدمة (صمنيها الناس).
وفي ص 93 (وضج الناس).
وفي ص 99 (فسمعته يقول: لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ... ثم لغط القوم وتكلموا، فلم أفهم قوله بعد كلهم، فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد كلهم؟ قال: كلهم من قريش).
وفي نفس الصفحة (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، ينصرون على من ناواهم عليه الى اثني عشر خليفة. قال فجعل الناس يقومون ويقعدون ... )!
--------------------------------------------------------------------------------
(33)
أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم الى قريش، متوقفةً على وثاقة سمرة أيضاً! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم، وغيرهما.
ولكن في رواية أحمد: 5|92 (بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم كلهم فقالوا: قال كلهم من قريش). ونحوه في ص 90، وفي ص 108 (يكون بعدي اثنا عشر أميراً، قال ثم تكلم فخفي على ما قال، قال فسألت بعض القوم، أو الذي يلي، ما قال؟ قال: كلهم من قريش).
ـ وفي: 5|99 (فخفي علي فسألت الذي يليني) ونحوه في: 5|108
ـ وفي معجم الطبراني الكبير: 2|277 ح 2044، أن ابن سمرة قال إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم من قريش! قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، ثم تكلم بشىَ لم أسمعه، فزعم القوم أنه قال: كلهم من قريش).
والواقع أنه يصعب على الإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله، وفي مثل ذلك الجو الهادىء المنصت في عرفات! ثم لايسأل أحدٌ النبي صلى الله عليه وآله عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع!
هذا وقد روى ابن سمرة نفسه أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته الى الجميع!
ففي مسند أحمد: 5|87 (ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وكان أبي أقرب الى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني!
بل رووا أنه النبي صلى الله عليه وآله أمر شخصاً جهوري الصوت، فكان يلقي خطبته جملةً جملة، ويأمره أن (يصرخ) بها ليسمعها الناس!
ـ ففي مجمع الزوائد: 3|270
عن عبد الله بن الزبير قال: كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى
--------------------------------------------------------------------------------
(34)
الله عليه وسلم: أصرخ ـ وكان صيِّتاً ـ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا؟ فصرخ، فقالوا: نعم الشهر الحرام، قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا.
ثم قال: أصرخ: هل تدرون أي بلد هذا ... الخ.
وعن ابن عباس ... فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته، وكان رجلاً صيتاً فقال: أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ... الخ. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انتهى.
والذي يزيد في الشك أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغٍ غير متشابهة، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى نفسها لا تتغير ..
بل رووا عنه أنه صدر من النبي صلى الله عليه وآله في المدينة، وليس في حجة الوداع في عرفات .. ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها، وهي هوية الأئمة الإثني عشر!!
ـ ففي مسند أحمد: 5|97 و 107
(يُتْبَعُ)
(/)
عن جابر بن سمرة قال: جئت أنا وأبي الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لابي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش. انتهى.
ثم رووه عنه، والنبي صلى الله عليه وآله يخطب في المسجد النبوي في المدينة، وهو مسجد صغير محدود، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب فأخبره بها!
ـ ففي معجم الطبراني الكبير: 2|286 ح 2073 عن جابر بن سمرة (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب على المنبر ويقول: إثنا عشر قيماً من قريش، لا يضرهم عداوة من عاداهم، قال فالتفتُّ خلفي، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي، في ناس، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت). انتهى.
ـ وقال عنه في مجمع الزوائد: 5|191: رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده، وزاد
--------------------------------------------------------------------------------
(35)
فيه: ثم رجع يعني النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته، فأتيته فقلت: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. ورجاله ثقات. انتهى.
فصار الحديث: اثني عشر قيماً والناس يعادونهم. وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه! فقد تغيرت صيغة الحديث ومكانه والشخص الذي سأله عنه الكلمة المفقودة، لكنها ما زالت نفسها مفقودة!!
والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر، هو أبو جحيفة، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً!! ولكنه سأل عنها عمه، وليس أباه!
ـ ففي مستدرك الحاكم: 3|618
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة، ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ماقال ياعم؟ قال قال يابني: كلهم من قريش. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 5|190: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى.
نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في كل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله!!
مما يدل على أن أمر هذا الحديث مهمٌّ جداً، وأن نصه وظروفه ليست طبيعية .. وأن في الأمر سراً، يكمن في كلمة قريش!!
ويرى الباحث من حقه أن يحتمل أن الراوي الأصلي للحديث هو عمر، وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له، وأمره أن يرويه هكذا!
فقد روى هذا الحديث الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر|90، عن عمر وحده، بدون ابن سمرة وأبيه، وبدون أبي جحيفة وعمه، قال:
حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي، عن شيث بن غرقده العدوي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، عن شريك بن عبد الله، عن المفضل بن حصين، عن
--------------------------------------------------------------------------------
(36)
عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، ثم أخفى صوته فسمعته يقول: كلهم من قريش.
قال أبو المفضل: هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد، وكتبت عنه ببجارا يوم الأربعاء، وكان يوم العاشور، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث. انتهى.
الثانية: لا يصح الوعد الإلَهي بقيادة مجهولة!
إن الوعد النبوي بالإثني عشر من بعده، وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيمٍ خبير بأئمة بعد رسوله صلى الله عليه وآله، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة، ورحمةٌ بهذه الأمة لحل
أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق!
فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله بأن يدل أمته على قادة مجهولين؟!
نحن نرى أن الله تعالى قد وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه السلام برسولٍ يأتي من بعده بأكثر من خمس مئة سنة، ومع ذلك سماه باسمه فقال (يأتي من بعدي اسمه أحمد) صلى الله عليه وآله، فكيف يعقل أن يعد خاتمة الأمم على لسان نبيها بقادتها الربانيين (القيمين على الأمة) ثم لا يسمي أولهم على الأقل، ولا يسمي أسرتهم، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة متنازعة على الأمور الصغيرة التي هي أقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات؟!
(يُتْبَعُ)
(/)
إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة الى الله عز وجل، والى ساحة رسوله الحكيم المنزه صلى الله عليه وآله! وهو أمرٌ لا يجرأ عليه مسلم، بل حتى مستشرقٌ منصف!!
نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله بإلقائها عامة تثير السؤال، حتى إذا سأله الناس عنها بيءَنها لهم، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لها في نفوسهم .. ولكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة، وأجوبة نبيهم صلى الله عليه وآله!
إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة!
--------------------------------------------------------------------------------
(37)
الثالثة: من قريش، لكن من عترة النبي صلى الله عليه وآله
لو غضينا النظر عن كل االإشكالات على الحديث، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وآله بصيغته التي صححوها في مصادرهم .. فهو إذن يقول: إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة، وإنهم من قريش.
ويأتي هنا السؤال: من أي قريش اختارهم الله تعالى؟
إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة .. وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب، واختار هاشماً من قريش .. فهل يعقل بعد أن اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه صلى الله عليه وآله القيمين على أمته، من معدن أقل فضلاً ودرجةً من بني هاشم؟!!
ـ ففي صحيح مسلم: 7|58
عن واثلة بن الأسقع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. انتهى.
ورواه الترمذي: 5|245 (هذا حديث حسن صحيح غريب) وقال عنه في ص 243 (هذا حديث حسن صحيح) ثم روى عدة أحاديث بمضمونه، منها:
عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يارسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض (والكبوة المزبلة!)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً. هذا حديث حسن. وروى بعده نحوه بسند آخر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.
ـ وفي صحيح البخاري: 4|138
باب قول الله تعالى: واذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وإذ
--------------------------------------------------------------------------------
(38)
قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة. إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين، الى قوله يرزق من يشاء بغير حساب. قال ابن عباس: وآل عمران: المؤمنون من آل ابراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، صلى الله عليه وسلم.
ـ وفي نهج البلاغة: 1|82: والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حِيزِنا، فكانوا كما قال الأول:
أدَمْتَ لعمري شُرْبَكَ المحضَ صابحاً * وأكلكَ بالزُّبد المقشَّرةَ البُجْرا
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن * علياً، وحُطْنَا حولك الجرد والسمرا
ـ وفي صحيح البخاري: 5|6
عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة!! انتهى.
ويطول لكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم، واصطفائهم، وتفضيلهم، وحقهم على الأمة. وكل ذلك بسبب أن عترة النبي صلى الله عليه وآله منهم، لأنهم جوهرة معدن هاشم، بل جدهم وهم جوهرة كل بني آدم.
الرابعة: أحاديث النبي صلى الله عليه وآله تفسر حديث الإثني عشر
من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً. بل ذلك أصلٌ عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها، فإن أيءَ أمةٍ تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده، ولا تعرفهم من هم، تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله، لكي تعرف بواسطتها هؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه!
(يُتْبَعُ)
(/)
وإذا نظرنا الى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله في حق عترته: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم السلام، مما اتفق عليه المسلمون، وحكموا بصحته .. لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم هو صلى الله عليه وآله في مناسبات
--------------------------------------------------------------------------------
(39)
عديدة، وبين للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته، وطهرهم من الرجس تطهيراً، وأوجب على المسلمين مودتهم، وأن يصلوا عليهم معه في صلواتهم، وحرم عليهم الصدقة، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة، وجعلهم وصيته في أمته، وسماهم مع كتاب الله الثقلين .. ..
ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيه، بل تكفي الإشارة الى ما هو
إن المتفق عليه بين المسلمين مما صدر في حقهم من النبي صلى الله عليه وآله من المديح والتعظيم، والتحذيرهم من مخالفتهم وظلمهم .. فيه عبرةٌ لمن كان له قلب، وكفايةٌ لمن ألقى السمع، وشهادةٌ لمن أراد الحجة من الله تعالى، والشهادة من رسوله صلى الله عليه وآله.
الخامسة: اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً
ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع، أن النبي صلى الله عليه وآله ذكر الأئمة الإثني عشر، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض، وقرأ آية: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً .. ففي صحيح البخاري: 5|126:
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. انتهى. ورواه أيضاً في: 5|204، و: 6|235، وكذا أبو داود في: 1|435، وأحمد في: 5|37
ـ ورواه في مجمع الزوائد: 3|265، بصيغة أقرب الى أسلوب النبي صلى الله عليه وآله من رواية البخاري، جاء فيها (ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) انتهى.
وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن قصده صلى الله عليه وآله إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم، وأن وضع التوقيت والزمن قد رجع الى هيئته الأولى، فلا نسيء
--------------------------------------------------------------------------------
(40)
بعد اليوم .. ولكنه تفسير غير مقنع، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك، حتى يرجع الزمن الى حالته الأولى بإلغاء النسيء!
كما أني لم أجد دليلاً على ارتباط استدارة الزمان بالنسىَ في كلامه صلى الله عليه وآله
ولا يبعد أن تكون استدارة الزمان موضوعاً مستقلاً عن النسيء.
وبما أن النبي صلى الله عليه وآله في مقام توديع أمته، وبيان مرحلة مابعده من الهدى والضلال، والعقائد والأحكام، وطريق الجنة والنار .. فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن: أن مرحلةً جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده، من قوانين الهداية والإضلال الإلهي، ومعالم ذلك هم الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام، الذين ينسجم وجودهم مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض.
ويؤيد ذلك: قداسة عدد الإثني عشر في القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً ..
وأنه بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده ..
ويؤيده: أنه صلى الله عليه وآله أخبر الأمة بوجود أئمة مضلين من بعده، وشدد على التحذير منهم، وبين أن أخطرهم الإثنا عشر منافقاً من أصحابه!
فمقابل كل إمام هدىً إمامُ ضلالٍ، كما أن مقابل كل نبيٍّ عدوٌّ من المجرمين، يعمل لإضلال الناس! قال الله تعالى:
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا.
يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا.
لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا.
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا. الفرقان 27 ـ 31
ـ وفي صحيح مسلم: 8|122 ـ 123:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(41)
يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة، وأربعةٌ لم أحفظ ما قال شعبة فيهم!
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي ـ قال شعبة: وأحسبه قال حدثني حذيفة، وقال غندر: أراه قال في أمتي ـ اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة، سراجٌ من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم.
حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟!
قال فقال له القوم: أخبره إذ سألك.
قال: كنا نُخْبَرُ أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. انتهى. ورواه أحمد في: 4|320، وغيرها، ورواه كثيرون.
والنتيجة: أنه لا يبعد أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر المسلمين بأن الله تعالى أقام الحياة البشرية من يوم خلق السماوات والأرض، وخلق الجنس البشري، على قانون الهداية والضلال بإتمام الحجة، وإمهال الناس ليعملوا بالهدى أو بالضلال .. فكان لا بد من وجود عنصري الهدى وعناصر الضلال معاً، كعنصري السلب والإيجاب في الطاقة، فألهم النفس البشرية فجورها وتقواها، وأنزل آدم الى الأرض ومعه إبليس، وبعث الأنبياء عليهم السلام ومع كل نبي عدو مضلٌّ أو أكثر، وجعل بعدهم أئمة ربانيين يهدون، وأئمة ضلال منافقين يضلون .. وعدد كل منهم في هذه الأمة اثنا عشر .. وأنه قد بدأت بهم دورةٌ جديدةٌ من الهدى والضلال، كما بدأت بآدم وإبليس .. ولذلك استدار الزمن كهيئته في أوله بانتهاء الفترة، ووضوح الحجة.
ويؤيد ذلك ما ورد من طريق أهل البيت عليهم السلام في تفسير آية (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً).
--------------------------------------------------------------------------------
(42)
السادسة: راوي الحديث جابر السوائي
روت مصادر السنيين حديث الأئمة الإثني عشر عن عدة رواة، وهم عبد الله بن مسعود، وأبو جحيفة، وجابر بن سمرة السوائي، وهذا الأخير أهمهم، لأن الصحاح اعتمدت روايته، كما تقدم.
وهو جابر بن سمرة بن جنادة. وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب: 2|35 (يقالين) في نسبه، فقال (يقال: ابن عمرو بن جندب بن حجير ابن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي. ويقال: من قبيلة عامر بن صعصعة).
ويؤيد هذا الشك أن الذهبي قال في ترجمته: 3|187 (وهو وأبوه من حلفاء زهرة) ولو كان من بني عامر بن صعصعة، لم يحتج أن يكون حليفاً!
وسمرة هذا من الطلقاء، فقد قال في تهذيب التهذيب: 4|206 (وقرأت: بخط الذهبي إنما مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر، وأما سمرة فقديم. وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم). انتهى.
لكن البخاري قال في التاريخ الكبير: 4|177: إن لسمرة هذا صحبة. انتهى.
أما جابر ابنه فهو فرخُ طليقٍ، فقد كان صغيراً عند فتح مكة، لأنه توفي سنة 76، ولأنه يروي أن النبي صلى الله عليه وآله مسح على خد الصبيان المصلين وكان منهم (سير أعلام النبلاء: 3|187).
ولعل أباه سمرة توفي في حياة النبي صلى الله عليه وآله أو بعده بقليل، فعاش جابر في كنف خاله سعد بن أبي وقاص في المدينة، وقد روي أنه اشترك في فتح المدائن، ولعله كان شاباً حينذاك، ثم سكن الكوفة وابتنى بها داراً (أسد الغابة: 1|254).
وعلى هذا فيكون جابر في حجة الوداع صبياً صغيراً أو مراهقاً، ويكون الراوي الوحيد المعتمد في الصحاح لحديث أئمة هذه الأمة بعد نبيها .. هذا الصبي الطليق من حلفاء قريش!
--------------------------------------------------------------------------------
(43)
فاعجب لشيوخ الأمة، وكبار الصحابة، حيث لم يكن عندهم ذكاء هذا الصبي الطليق، واهتمامه بمستقبل الأمة، وأئمتها الربانيين!
أو فاعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي عند السنيين، فلم تسمح بتدوين حديثٍ في الأئمة الإثني عشر، الذين بشر بهم نبي الأمة صلى الله عليه وآله إلا حديث هذا الصبي!!
(يُتْبَعُ)
(/)
السابعة: درجات الصحة التي أعطوها للأحاديث الثلاثة
في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الإثني عشر، وثلاثة رواة:
وقد اتفقوا على تصحيح حديث جابر بن سمرة، وعلى تحسين حديث أبي جحيفة المشابه له، وبعضهم صححه. واختلفوا في تصحيح حديث ابن مسعود الذي يختلف عنهما، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد، الذي لم يوثقه إلا النسائي وبعض علماء الجرح والتعديل، وضعفه آخرون.
ولا بد أن نضيف الى رواة الحديث راويين آخرين هما: سمرة السوائي والد جابر وعمر بن الخطاب، لأن الروايات تقول إنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها.
بل لا بد أن نعد عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً، كما تقدم في رواية كفاية الأثر ..
واليك جانباً من كلماتهم في حديث ابن مسعود:
ـ قال في مجمع الزوائد: 5|190: باب الخلفاء الإثني عشر: عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبدالله وهو يقرئنا القرآن فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل. رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
ـ وقال الحاكم: 4|501، بعد رواية هذا الحديث: لا يسعني التسامح في هذا الكتاب عن الرواية عن مجالد وأقرانه، رحمهم الله. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(44)
ـ ولكن ابن حجر حسنه فقال في الصواعق المحرقة|20 ح 3 فقال: وعن ابن مسعود بسند حسن.
وكذا السيوطي في تاريخ الخلفاء|10 حيث قال (وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود).
وكذا البوصيري كما نقل عنه في كنز العمال: 6|89 (رواه مسدد وابن راهويه وابن ابي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن).
وقد روت مصادرهم حديث ابن مسعود مثل أحمد: 1|398 و 406،
وكنز العمال 6|89، عن طبقات ابن سعد وابن عساكر، وفي 12|32، عن أحمد، والطبراني، وابن حماد .. وغيرهم.
وإذا كانت علة رواية ابن مسعود عندهم وجود مجالد، فقد روته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد، كما في كتاب الإختصاص للصدوق|233، وكفاية الأثر للخزاز|73، والغيبة للنعماني|106، وسيأتي بعض ذلك.
ولكن ذلك لا يشفع للحديث عند إخواننا السنيين ولا يجعله يستحق أكثر من لقب (حسن)! بل يبدو أن هذه الدرجة من الصحة ثقيلة عليهم، لأن مشكلة هذا الحديث الأصلية عندهم أنه لم يذكر عبارة (كلهم من قريش) وأنه يفهم منه أن هؤلاء الأئمة الربانيين يجب أن يكونوا حكام الأمة بعد نبيها، ويضع علامة استفهام كبيرة على ماتم في السقيفة في غياب بني هاشم، وانشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله!!
الثامنة: تضارب متون الأحاديث الثلاثة
روت مصادر السنيين حديث جابر بن سمرة بصيغتين، وجاء حديث أبي جحيفة بإحداهما، وانفرد حديث ابن مسعود بصيغته .. فتكون الصيغ ثلاثاً:
الأولى: مفادها أن هؤلاء الموعودين يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم من قريش. وهذا مضمون أكثر روايات ابن سمرة. وقد عرفت أن أنهم صححوا هذه الصيغة، وقد صححها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1075.
--------------------------------------------------------------------------------
(45)
الثانية: أنهم يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش، وأن الإسلام لا يزال عزيزاً مدة حكمهم، ثم يضعف ويذل، أو ينهار. وهي صيغة عدد من روايات جابر بن سمرة، وكل روايات أبي جحيفة أيضاً. وقد صححها كثير من علمائهم، ومنهم الألباني في سلسلته أيضاً برقم 376، عن ابن سمرة، وحسن رواية أبي جحيفة، وجعل رواية ابن مسعود شاهداً على صحتهما، ورد زيادة أبي داود وغيره التي تصف هؤلاء الأئمة بأن الأمة تجتمع عليهم، ووصف هذه الزيادة بأنها منكرة.
الثالثة: أنهم يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله كأوصياء موسى وعيسى عليهم السلام بدون ذكر قريش. وهي صيغة أكثر روايات حديث ابن مسعود.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأهم ملاحظة على هذه الأحاديث وصيغها: تفاوتها واضطرابها، وهو أمر غير مقبول في حديث من هذا النوع .. فإنا لو وجدنا نصاً شبيهاً به يروونه عن شيخ قبيلة صغيرة، قاله لقبيلته وهو يودعها قبل موته، ويخبرها بفراسته عن شيوخها الذين سيحكمونها من بعده .. لقلنا بوقوع تحريفٍ في كلامه!
فكيف نقبل بذلك لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسيد البلغاء، وهو يودع خاتمة الأمم، ويخبرها عن ربه بأئمتها من بعده، وعلى أوسع ملأٍ من جماهيرها!!
وتتوجه التهمة بالدرجة الأولى الى احتمال تحريف هوية هؤلاء الأئمة، والمتهم به هو السلطة التي حكمت بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنها هي المستفيدة من ذلك، وهي التي أبعدت أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله عن الحكم، بل بادرت الى بيعة السقيفة بدون أن تخبرهم، مغتنمةً انشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله!!
ويتأكد الشك عندما نجد أن التفاوت والتعارض، قد تركز على صفة هؤلاء الأئمة الموعودين، ومقامهم الإلهي، وهويتهم، ونسبهم، ووقتهم، ومدتهم!
وهو تعارض ليس قليلاً قابلاً للحل، لأنه موجودٌ حتى في الصيغ والألفاظ المنقولة عن الراوي الواحد!
--------------------------------------------------------------------------------
(46)
وهو أمرٌ يوجب تضعيف الثقة بصيغ الحديث في مصادر السنة، ويقوي الثقة بصيغه المتوافقة، المجمع على مضمونها، الواردة في مصادرنا، والتي تقول إنه صلى الله عليه وآله قال إنهم عليٌّ والحسن والحسين، وتسعةٌ من ذرية الحسين عليهم السلام
التاسعة: الأئمة الإثنا عشر لا يحتاجون الى اختيار ولا بيعة
وهو أمرٌ واضح، فما دام الله تعالى قد اختارهم، فواجب الأمة أن تطيعهم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) فهم يستمدون شرعيتهم من رب الأمة، ورب الناس ومالكهم، وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده .. واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم، وألزم.
فالأئمة الإثنا عشر من هذه الناحية مفروض الطاعة من الله تعالى شبيهاً بالأنبياء عليهم السلام، والنبي لا يكون بالإنتخاب، ولا يحتاج الى أن يبايعه الناس .. بل لو لم يبايعه أحد من الناس، وآذوه وقتلوه .. فإن ذلك لا ينقص من وجوب طاعته شيئاً!
ولو بايعه كل الناس لكان معناه اعترافهم بحق الطاعة الذي جعله الله له، وإعلان التزامهم به، لا أكثر.
فبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام إنما هي بيعة اعترافٍ والتزامٍ بحقهم في الإطاعة، وهي تؤكد هذا الحق، ولا تنشئه.
وهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأخذ البيعة على المسلمين في المنعطفات الهامة في حياة الأمة، ليؤكد بذلك عليهم الإلتزام بإطاعته في السراء والضراء، والحرب والسلم، وفيما أحبوه أو كرهوه!
وهذا هو السبب نفسه في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن بلَّغ الأمة ولاية علي عليه السلام في غدير خم، أمر بأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها .. أن يهنئوه تهنئةً، ثم يبايعوه ..
--------------------------------------------------------------------------------
(47)
فالإختيار الإلَهي قد تمَّ، وهو يحتاج الى قبولٍ وتهنئةٍ، ولا يحتاج الى مشورتهم ولا الى بيعتهم، لكن لو طلبها النبي صلى الله عليه وآله منهم وجبت عليهم .. ولو طلبها عليٌّ عليه السلام منهم، وجبت عليهم أيضاً.
ولهذا لا تنفع مناقشة المناقشين بأن ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين في الغدير كان مجرد التهنئة لعلي عليه السلام بالولاية، ولم يكن البيعة .. لأن صدور الأمر الإلهي بولايته يُفْرِغ البيعة البشرية من القوة الإنشائية، ويحصر قيمتها في الإعتراف والإلتزام بالأمر الإلهي، كلما طلبها منهم النبي صلى الله عليه وآله أو الولي عليه السلام.
والقاعدة الكلية في هذا الموضوع: أن الأمة إنما تملك الولاية على نفسها واختيار حكامها ـ في حدود ماثبت في الشريعة المقدسة ـ في حالة عدم اختيار الله تعالى لأحد .. أما إذا اختار عز وجل إماماً فقد قضي الأمر، ولم يبق معنىً لاختيار الأمة لحاكم آخر، إلا أنها تتفلسف في مقابل ربها عز وجل، وتخالف اختيار مالكها الحكيم سبحانه ..
العاشرة: قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر
(يُتْبَعُ)
(/)
ومما ينبغي تسجيله هنا: أن الذي رفع راية (أن الخليفة من قريش والخلافة لا تكون إلا في قريش) هو الخليفة عمر بن الخطاب، فقد احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قوم النبي صلى الله عليه وآله وقبيلته فهم أحق بسلطانه! وكان هدفه من ذلك تسكيت الأنصار، الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم، حتى لا يقولوا نحن نصرناه ونحن أولى بخلافته!!
وقد نجح عمر بهذا المنطق القبلي في السقيفة، بسبب تفرق كلمة الأنصار، رغم مخالفة رئيسهم سعد بن عبادة مخالفةً عنيفة.
ولكن عمر نفسه عند وفاته تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة، وألقى به في البحر، وأكد أنه لو كان سالم الفارسي مولى أبي حذيفة الأموي حياً، لعهد اليه بالخلافة!!
--------------------------------------------------------------------------------
(48)
ـ ففي تاريخ المدينة: 3|140:
عن عبد الله بن بريدة: لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له: لو استخلفت؟ قال: لو شهدني أحد رجلين استخلفته ـ أني قد اجتهدت ولم آثم ـ أو وضعتها موضعها: أبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة!!
ـ وفي مجمع الزوائد: 4|220
عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستنداً الى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال: إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً، ولم أستخلف من بعدي أحداً، وأنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله عز وجل.
فقال سعيد بن زيد: أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين لائتمنك الناس، وقد فعل ذلك أبو بكر، وائتمنه الناس.
فقال عمر: قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً، وإني جاعلٌ هذا الأمر الى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
ثم قال: لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت هذا الأمر اليه لوثقت: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح. انتهى.
وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة وغيره، لكي يلغوا هذا الشرط من الخلافة الإسلامية، وقد استفاد من فتواه السلاجقة والمماليك، ثم تبنى العثمانيون مذهب أبي حنيفة، ونشروا فقهه بسبب فتواه هذه، وتسموا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله.
موقف الوهابيين من شرط القرشية في الحاكم
نشترط نحن الشيعة الإمامية في الأئمة أن يكونوا من قريش من عترة النبي صلى الله عليه وآله بسبب ثبوت النص عليهم بأسمائهم وعددهم، فالإمامة عندنا لا تثبت إلا بالنص فقط، والنص إنما هو على هؤلاء الإثني عشر عليهم السلام.
وبما أن خاتمهم الإمام المهدي عليه السلام غائب، فالحكم في الأمة في عصرنا يكون
--------------------------------------------------------------------------------
(49)
بالوكالة عنه، والوكيل لا بد أن تتوفر فيه شروط الفقاهة والعدالة وغيرها .. ولا نشترط فيه أن يكون قرشياً .. وبذلك نلتقي عملياً لا نظرياً مع الذين يسقطون شرط القرشية في الحاكم العادل.
أما إخواننا الشيعة الزيديون، فالإمامة عندهم غير محصورة بالائمة الإثني عشر عليهم السلام بل هي مفتوحةٌ لكل عالم من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، فهم يشترطون في الإمام الشرعي أن يكون قرشياً علوياً.
وأما المسلمون السنيون، فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في عصرنا، عملاً بقول الخليفة عمر، وفتوى أبي حنيفة ..
ومنهم غير عربٍ ولكنهم متعصبون لقريش أكثر من عمر، وملكيون أكثر من الملك .. ومن هؤلاء أئمة الوهابية، مثل الألباني، حيث صحح حديث اشتراط القرشية في الإمام في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 1552، وقال في آخره 4|70:
ولذلك فعلى المسلمين إذا كانو صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية، أن يتوبوا الى ربهم ويرجعوا الى دينهم، ويتبعوا أحكام شريعتهم، ومن ذلك أن الخلافة في قريش، بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه.
أما في: 3|7، فقد صحح حديث الخلافة في قريش برقم 1006، وقال في آخره: قلت: وفي هذه الأحاديث الصحيحة ردٌّ صريحٌ على بعض الفرق الضالة قديماً، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً.
وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في (الدولة
(يُتْبَعُ)
(/)
الإسلامية) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة، إلا هذا الشرط، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها، ولمَّا ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع. ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية.
--------------------------------------------------------------------------------
(50)
وسواءً كان هذا أو ذاك، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم. انتهى.
والطريف أن الألباني صحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول:
(الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة) وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أيِّ قبائلها كان، وأن يكون الوزراء من الأنصار .. وأن يكون وزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة، والأحوط أن يكون من أثيوبيا!!
ذلك أن الوجوب الذي استفاده من الحديث وأفتى به بوجوب القرشية في الحاكم، تتساوى فيه الخلافة، والوزارة، والدعوة!!
لقد فات هذا الشيخ أن فقه الحديث أهم من سنده، وأنه متقدمٌ عليه رتبةً، وأن مثل هذا الحديث بعيدٌ عن منطق النبي صلى الله عليه وآله، ولو صح فهو يحكي عن ظرفٍ معين، وليس تشريعاً الى يوم القيامة!
الحادية عشرة: تخبط الشراح في تفسير الأئمة الإثني عشر
إذا أردنا أن نكون أمناء مع النص النبوي، يلزم أن نقول: إن كلمة (من بعدي) في الحديث الشريف تدل على أن إمامة هؤلاء الإثني عشر تبدأ بعد وفاته صلى الله عليه وآله مباشرة، ولا تدل على أنهم سيحكمون من بعده، لأنها إخبارٌ عن وجودهم فقط، سواءً كانوا حكاماً أو محكومين. بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود، على أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الإثني عشر وتعاديهم، وذلك يشمل إبعادهم عن الحكم، ولكنه ذلك لا يضرهم شيئاً.
وقد تقدم في رواية تفسير الطبري (يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم ... إثنا عشر قيماً من قريش لا يضرهم عداوة من عاداهم)
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:56 م]ـ
وبذلك لا تجد مانعاً من انطباق الحديث على الأئمة الإثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله حتى لو لم يحكموا، أو لم يحكم منهم إلا علي والحسن عليهما السلام، وسيحكم منهم المهدي الموعود من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله.
كما أن الأحاديث التي تذكر مايكون بعدهم تدل على أن مدتهم طويلة، فبعضها ذكر أنه يكون بعدهم الهرج والفوضى والنفاق، وأشار الى انهيار الأمة .. وبعضها ذكر أن زمنهم يمتد مادامت الأرض، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها .. وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة عليهم السلام الى آخر الدنيا، كما نصت أحاديثنا.
ـ قال أبو الصلاح الحلبي المتوفى سنة 437 في كتابه تقريب المعارف|173:
ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى مجاشع، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزال هذا الدين قائماً الى اثني عشر من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها. انتهى. ونحوه في إعلام الورى|364، وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالى في أرضه في كل عصر ..
ـ ففي الكافي: 1|179 و 534
عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.
عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني واثنا عشر من ولدي وأنت يا علي زرُّ الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها، ولم ينظروا. انتهى.
وعلى هذا التفسير الذي يساعد عليه نص الحديث، يكون هدف النبي صلى الله عليه وآله من طرح الأئمة الإثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع، هو: توجيه الأمة اليهم لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم!
بل يمكن القول: إنه يتعين تفسير الحديث بالائمة الإثني عشر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، لأن كل تفسير له بغيرهم لا يصح لكثرة الإشكالات التي ترد عليه.
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(52)
ـ قال الكنجي الشافعي في ينابيع المودة|446
قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة .. . فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك، عن جابر، وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم.
ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية، لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم الآية: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، وحديث الكساء.
فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأكرمهم عند الله ....
ويؤيد هذا المعنى، أي أن مراد النبي صلى الله عليه وآله الأئمة الإثني عشر من أهل بيته، ويشهد له ويرجحه: حديث الثقلين، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب، وغيرها ....
وفي نهج البلاغة من خطبته على كرم الله وجهه: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم .. بنا يستعطى الهدى، وبنا يستجلى العمى.
وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر.
--------------------------------------------------------------------------------
(53)
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن عملهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، وهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق. انتهى.
**
ولكن عامة الشراح السنيين لا يقبلون هذا التفسير، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على الأئمة الإثني عشر من عترته!!
ويقولون لأتباعهم: إن حديث الأئمة الإثني عشر صحيحٌ مئة بالمئة، لكن لا تقبلوا تفسير الشيعة، ونحن إن شاء الله نفسره لكم تفسيراً صحيحاً ..
ولكنهم الى يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث، ولن يستطيعوا .. لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الإثني عشر على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن الزبير، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان، ثم بني العباس .. وربما غيرهم من أمويي الأندلس، والسلاجقة، والمماليك، والأتراك!!
وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب، يلجؤون الى الفرضيات، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين، والعباسيين ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين، فيثبتون هذا ويحذفون ذاك! اختياراً وحذفاً (كيفياً) لمجرد تكميل العدد!
وبعضهم لا يكمل معه العدد ممن اختارهم فيقول: إن الباقين سوف يأتون!
ومن الواضح أنها تطبيقاتٌ لا تقف عند حد، ولا تستند الى أساس، وأن الذي يسلكها يكلف نفسه شططاً، كمن يكلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين، ويقول عنهم إنهم قادةٌ ربانيون اختارهم الله تعالى، ووعد الأمة بهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله!
--------------------------------------------------------------------------------
(54)
ولو أن العلماء السنيين فكروا أكثر لما جشموا أنفسهم هذه العقبة:
(يُتْبَعُ)
(/)
أولاً: لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالى، فلا بد أن يكونوا متفقين، لأنهم جميعاً على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم.
بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون ..
فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام وأن بعضهم يكيد للآخر ويفسقه ويكفره، ويذبحه ذبح الخروف، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه!!
وثانياً: لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالى للخليفة الذي يحبونه، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب .. الى السلطان سليم العثماني، يصيرون ملكيين أكثر من الملك، وخليفيين أكثر من الخليفة، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه!
فلو كان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالى مبشراً به من رسوله .. لعرف نفسه وادعى هو ذلك! حيث لا يمكن أن يكون شخص إماماً وحجة لله على عباده وحاكماً باسمه .. ثم لا يعرف هو نفسه مقامه الإلَهي العظيم!!
ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعى أنه إمامٌ من الله تعالى غير الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله.
وثالثاً: ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم يكونون من بعده، ولم يقل إنهم يحكمون .. فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور على الأئمة الإثني عشر الموعودين في الحكام فقط .. وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لا يلزم فيها، فقد تورط فيها وأقام في ورطته!
ورابعاً: إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين، مبشراً بهم من رب العالمين، قد ثبت أن أكثرهم قد لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله!!
فهل رأيتم أمةً يحكمها بأمر الله تعالى الملعونون على لسان نبيها؟!!
وكيف يلعن الله تعالى أشخاصاً ويحكم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين، هداةً لعباده، وحكاماً لبلاده!!
--------------------------------------------------------------------------------
(55)
فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي صلى الله عليه وآله قد لعن الحكم وابنه مروان، ونفاهما من المدينة حتى أعادهما عثمان، وأنه رأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر، فلعن الراكب والقائد والسائق (راجع مجمع الزوائد: 1|113) الى آخر هذا البحث الذي لا يتسع له موضوعنا، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين!
**
ولهذه الأسباب كثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً .. ! وكلها معلولة ينقضها الحديث الشريف، وينقض بعضها بعضاً:
ـ ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 11| 361، قال:
وأما: الخلفاء اثنا عشر، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره: إن آخرهم عمر بن عبد العزيز، فذكروا الخلفاء الأربعة، ثم معاوية، ثم يزيد ابنه، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم عبد الملك ابنه، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن العزيز. وكانت وفاته على رأس المائة. انتهى.
ولكن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي صلى الله عليه وآله، وخذفوا بني أمية، كلاً أو بعضاً!
ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي عليه السلام مع أنه مبشرٌ به بأحاديث صحيحة عندهم، ويشمله قول جده صلى الله عليه وآله (من بعدي اثنا عشر إماماً).
كما حذفوا اسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ماعدا أهل الشام وحكم ستة أشهر، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم.
بل كان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين عليهما السلام لأن النبي صلى الله عليه وآله شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.
--------------------------------------------------------------------------------
(56)
(يُتْبَعُ)
(/)
بينما أثبت هذا التفسير اسم يزيد بن معاوية، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله، وهي درجةٌ لا يطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء، لأنهم الى اليوم يكافحون لإثبات إسلام يزيد، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتكبها في كربلاء، وفي استباحة المدينة، وفي هدم الكعبة!
كما عدوا منهم على هذا التفسير معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد، فخطب خطبته الأولى والأخيرة، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية! وشهد بأن الخلافة حقٌّ شرعي لعلي عليه السلام، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه، ثم عزل نفسه عنها، فقتله بنو أمية!
فلو كان هذا الشخص من الأئمة الإثني عشر الربانيين لعرف هو ذلك، وما خلع نفسه وعرَّضها لغضب أسرته الحاكمة الباطشة!
كما أن هذا التفسير تجاهل حديث (سفينة) الثابت عندهم القائل إن الخلافة ثلاثون سنة، وبعدها الملك العضوض، وقد صححه المحدثون، وأخذ به المفسرون الآخرون .. الى آخر الإشكالات عليه!
ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي محاولات كبار علمائهم تفسير الحديث الشريف، ولكن الذي يسهل الأمر أن كلامهم في ذلك متشابه، وأنه ما زال الى اليوم يدور في محور التفسير الأموي!!
وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها:
ـ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء |10:
قال القاضي عياض: لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس الى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة، زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم، الى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(57)
قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري: كلام القاضي عياض أحسن ما
قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: كلهم يجتمع عليه الناس.
قلت: وعلى هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة: الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية.
ويحتمل أن يضم اليهم المهتدي من العباسيين، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الإثنان المنتظران: أحدهما المهدي، لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
**
ولكن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة (وكلهم تجتمع عليهم الأمة) التي تقدم أنها لم تثبت، وأن الألباني الوهابي وغيره قالوا إنها منكرة.
كما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة! وبذلك يصير المطلوب لهم أحد عشر حاكماً في ثلاثين سنة، ويبطل انتقاء أحد من الحكام الأمويين والعباسيين!
مضافاً الى أن نقل السيوطي لكلام عياض وابن حجر لم يكن دقيقاً مع الأسف! فقد تجاهل كلام ابن حجر الذي عدهم الى الثاني عشر من بني أمية، فقال (والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية الى ثمانية، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس!! .. واليك فقرات من كلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه! قال:
قال ابن بطال عن المهلب: لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث يعني بشىَ معين! فقوم قالوا: يكونون بتوالي إمارتهم.
وقوم قالوا: يكونون في زمن واحد كلهم يدعي الإمارة!
--------------------------------------------------------------------------------
(58)
قال: والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً!
قال: ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا، فلما أعراهم من الخبر، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى (أي كلام ابن بطال). وهو كلام من لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي الرواية الأخرى صفة أخرى وهو أن كلهم يجتمع عليه الناس، كما وقع عند أبي داود، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه عن جابر بن سمرة بلفظ: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة. وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن الأسود بن سعيد عن جابر بن سمرة بلفظ: لا تضرهم عداوة من عاداهم.
وقد لخص القاضي عياض ذلك فقال: توجه على هذا العدد سؤالان:
أحدهما: أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً. الثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي.
والثاني: أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد.
قال والجواب عن الأول: أنه أراد في حديث سفينة: خلافة النبوة، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك.
وعن الثاني: أنه لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر، وإنما قال يكون اثنا عشر، وقد ولي هذا العدد، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم.
قال: وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي، وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة.
--------------------------------------------------------------------------------
(59)
وقد قيل: إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة، ومعهم صاحب مصر، والعباسية ببغداد، الى من كان يدعى الخلافة في أقطار الأرض، من العلوية والخوارج.
قال: ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم: ستكون خلفاء فيكثرون.
قال: ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق: كلهم تجتمع عليه الأمة، وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس الى أن أضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم الى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم. وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر.
قال: وقد يحتمل وجوهاً أخر .. والله أعلم بمراد نبيه. انتهى. (أي كلام عياض)
والإحتمال الذي قبل هذا، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة، هو الذي اختاره المهلب كما تقدم. وقد ذكرت وجه الرد عليه، ولو لم يرد إلا قوله كلهم يجتمع عليه الناس، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الافتراق، فلا يصح أن يكون المراد.
ويؤيد ما وقع عند أبي داود: ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به، لأن ألفاظه مختلفة، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار اليه، ثم وجدت كلاماً لأبي الحسين بن المنادي وكلاماً لغيره.
--------------------------------------------------------------------------------
(60)
فأما الوجه الأول، فإنه أشار الى ما يكون بعده وبعد أصحابه، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنه أشار بذلك الى عدد الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله: لا يزال الدين أي الولاية الى أن يلي اثنا عشر خليفة، ثم ينتقل الى صفة أخرى أشد من الأولى.
وأول بني أمية يزيد بن معاوية، وآخرهم مروان الحمار، وعدتهم ثلاثة عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير، صحت العدة.
وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة، حتى استقرت دولة بني العباس، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً.
قال: ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث بن مسعود رفعه: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. (لا أعرف من صححه غير الألباني)
(يُتْبَعُ)
(/)
قلت: لكن يعكر عليه أن من استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين، الى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، أزيد من تسعين سنة .. .
قال: وأما الوجه الثاني فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معنى حديث: يكون اثنا عشر خليفة، أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً، كل واحد منهم إمام مهدي.
قال ابن المنادي: وفي رواية أبي صالح عن بن عباس: المهدي اسمه محمد بن
--------------------------------------------------------------------------------
(61)
عبد الله، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة، يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب ويصرف بعدله كل جور، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم، ثم يموت فيفسد الزمان.
وعن كعب الأحبار: يكون اثنا عشر مهدياً، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال.
قال: والوجه الثالث: أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام الى يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم.
ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير، من طريق أبي بحر أن أبا الجلد حدثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة. وعلى هذا فالمراد بقوله: ثم يكون الهرج، أي الفتن المؤذنه بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج الى أن تنقضي الدنيا. انتهى كلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة. (وتابع ابن حجر:)
والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض، فكأنه ما وقف عليه، بدليل أن في كلامه زيادة لم يشتمل عليها كلامه.
وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده
بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: كلهم يجتمع عليه الناس.
وإيضاح ذلك أن المراد بالإجتماع انقيادهم لبيعته. والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، الى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الإختلاف، الى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل بن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني
--------------------------------------------------------------------------------
(62)
عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على بن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس، الى أن قتل.
ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته، مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها الى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، الى أن لم يبق من الخلافة إلا الإسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة. ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك.
فعلى هذا يكون المراد بقوله: ثم يكون الهرج، يعني القتل الناشيء عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان. والله المستعان.
(يُتْبَعُ)
(/)
والوجه الذي ذكره بن المنادي ليس بواضح، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده رفعه: سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القطحاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه. فهذا يرد على ما نقله بن المنادي من كتاب دانيال.
وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً، وكذا عن كعب ....
فالأولى أن يحمل قوله: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، على حقيقة البعدية فإن
--------------------------------------------------------------------------------
(63)
جميع من ولي الخلافة من الصديق الى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وتغيرت الأحوال بعده، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون.
ولا يقدح في ذلك قوله: يجتمع عليهم الناس، لأنه يحمل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير، مع صحة ولايتهما، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل بن الزبير. والله أعلم.
وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة الى الإستقامة نادر. والله أعلم.
وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث تدور رحى الإسلام، فقال: المراد بقوله: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين، انتقال أمر الخلافة الى بني أمية وذلك أن قيام معاوية عن علي بصفين حتى وقع التحكيم، هو مبدأ مشاركة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة، فكان أول ماظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة، وساق ذلك بعبارة طويلة، عليه فيها مؤاخذات كثيرة، أولها دعواه أن قصة الحكمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر، وكانت سنة سبع وثلاثين. والذي قدمته أولى بأن يحمل الحديث عليه. والله أعلم. انتهى.
**
وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه اليه السيوطي ..
ورأيت تحيرهم جميعاً وكثرة احتمالاتهم، وتضاربها! وأن أكثرهم أخذوا زيادة
--------------------------------------------------------------------------------
(64)
(تجتمع عليه الأمة) محوراً لتفسيرهم، مع أنها لم تثبت واستنكرها عدد منهم ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشىَ، بل ذكر وجوهاً عديدة بكلمة قيل ويحتمل .. وأن ابن حجر رجح الإحتمال الثالث منها، فقال (وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجهٌ أرجحها الثالث من أوجه القاضي).
والنتيجة التي يخرج منها القارىء لتفاسيرهم: أنهم يضيعون عليه الحديث الذي أرادوا أن يفسروه، وهو حديث صحيحٌ عندهم صريحٌ بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين، هداةٍ مهديين، قيمين على الأمة، ولكنهم يصرون على تلبيس الحديث لحكام بني أمية، وعلى خلطه بزيادةٍ وأحاديث غير ثابتة، لا يستقيم لها معنى، ولا أثر فيها للبلاغة النبوية!!
**
وإذا أردت مزيداً من الأمثلة على ضياعهم فاقرأ عون المعبود 11|362 ـ 364:
قال: بعض المحققين: قد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة. وقيل: إنهم يكونون في زمانٍ واحد يفترق الناس عليهم.
وقال التوربشتي: السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى، أن يحمل على المقسطين منهم، فإنهم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء.
وإن قدر أنهم على الولاء، فإن المراد منه المسمون على المجاز! كذا في المرقاة.
وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين: وقد استشكل في حديث: لا يزال هذا الدين ظاهراً الى أن يبعث الله اثني عشر خليفةً كلهم من قريش، ووجه الإستشكال: أن هذا الحديث ناظرٌ الى مذهب الإثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً.
والأصل أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت من حديث عبد
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(65)
الله بن مسعود: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة، أو ست وثلاثين سنة، أو سبع وثلاثين سنة، فإن يهلكوا فسبيل من قد هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقيم سبعين سنة مما مضى.
وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث، ونحن نقول ما فهمناه على وجه التحقيق:
إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة .. .!!
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين ....
ولكن الله تعالى بعد ذلك جعل أمر الخلافة منتظماً، وأمضى الجهاد الى ظهور بني العباس، وتلاشي دولة بني أمية .. .
فتارةً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خلافة النبوة، وخصصه بثلاثين سنة، والتي بعدهم عبرها بملكٍ عضوضٍ، وتارة عن خلافة النبوة، والتي تتصل بها كليهما معاً، وعبرها باثني عشر خليفة .. .
فالتحقيق في هذه المسألة: أن يُعتبروا بمعاوية وعبد الملك وبنيه الأربع (كذا) وعمر بن عبد العزيز، ووليد بن يزيد بن عبد الملك، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين.
وقد نقل عن الإمام مالك أن عبد الله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه، ولنا فيه نظر، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبةٌ من مصائب الأمة، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء ابن الزبير الى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: أجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فرد ذلك عليه، فقال له عمر: في الثالثة أو التي تليها: أقعد في بيتك، والله إني لأجد بطرف المدينة منك وأصحابك أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم.
--------------------------------------------------------------------------------
(66)
فمن لفظه بطرف المدينة، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا، بل المراد خروجه للخلافة، والى هذا المعنى قد أشار علي رضي الله عنه في قصة جواب الحسن رضي الله عنه، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه.
ويزيد بن معاوية ساقطٌ من هذا البين، لعدم استقراره مدة يعتد بها، وسوء سيرته. والله أعلم. انتهى.
وأنت ترى أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملك بني أمية ملكٌ عضوضٌ، وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة .. ومع ذلك فسر بهم الحديث، وطبق عليهم البشارة النبوية بالائمة الإثني عشر الربانيين القيمين بأمر الله تعالى على أمة نبيه!
كما ترى أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهم السلام، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالك وآخرون .. . الخ.!
وهو مع ذلك ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول (وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة، ويحل المشكلة!!
ثم اقرأ ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية: 3|248:
ذكر الأخبار عن الأئمة الإثني عشر الذين كلهم من قريش. وليسوا بالإثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا، وليس له وجودٌ ولا عين ولا أثر.
بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث: الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الإثني عشر. انتهى.
ولعله يقصد بالقولين القول بتتابعهم زمنياً، وعدمه، ولكنهما وجهان في كل واحد منهما عددٌ من الأقوال .. وقد ذكر هو جملةً منها، ثم أشار ابن كثير الى
--------------------------------------------------------------------------------
(67)
(يُتْبَعُ)
(/)
الإحتمالات، وركز منها على مناقشة البيهقي فقال: فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الإثني عشر المذكورين في هذا الحديث، هم المتتابعون الى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد، فإنه مسلكٌ فيه نظر، وبيان ذلك: أن الخلفاء الى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة:
الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع، لأن علياً أوصى اليه وبايعه أهل العراق، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة، في صحيح البخاري. ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبةً على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام، حتى الرافضة يعترفون بذلك.
فإن قال: أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعدَّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما.
فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداً للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام، فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن
--------------------------------------------------------------------------------
(68)
هذا لا يمكن أن يسلك، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة، بل والشيعة، ثم هو خلاف ما دل عليه نصاً حديث سفينة عن رسول الله أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً. وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة، وقد بينا دخول خلافة الحسن، وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً، ثم صار الملك الى معاوية لما سلم الأمر اليه الحسن بن علي.
وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقاً، بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا راشد بن سعد، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال: يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكاً من بني أمية، قيل له: خلفاء؟ قال: لا، بل ملوك.
وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة، عن أبي بحر قال: كان أبو الجلد جاراً لي، فسمعته يقول يحلف عليه: إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل البيت، أحدهما يعيش أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة.
ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد، وهذا عجيب منه!
وقد وافق أبا الجلد طائفةٌ من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا.
وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: إن الله تعالى بشر ابراهيم بإسماعيل، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً. انتهى.
ويقصد ابن كثير ما هو موجود في التوراة الفعلية ـ العهد القديم والجديد 1|25 ـ طبعة مجمع الكنائس الشرقية ـ في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر، قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(69)
18 ـ وقال ابراهيم لله ليت اسماعيل يعيش أمامك.
19 ـ فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه اسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده.
(يُتْبَعُ)
(/)
20 ـ وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة.
21 ـ ولكن عهدي أقيمه مع اسحق، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية. انتهى.
وقد وردت ترجمتها عن كعب الأحبار (قيماً) وترجمها بعضهم (إماماً) ..
فالنص موجودٌ في التوراة، وفي مصادر السنة، والشيعة، وهو مؤيدٌ لبشارة نبينا صلى الله عليه وآله، ولكنه لا يحل مشكلة المفسرين السنيين، بل يزيدها!
**
ومن أعقل هؤلاء الشراح وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع: ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل الى طريق مسدود، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً لأن الموجود منه لا يفهم له معنى .. قال:
روى أبو عيسى عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش. صحيح.
فعددنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا: أبا بكر، عمر، عثمان، علي، الحسن، معاوية، يزيد، معاوية بن يزيد، مروان، عبد الملك، مروان بن محمد بن مروان، السفاح، المنصور، المهدي، الهادي، الرشيد، الامين، المأمون، المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتضد، المكتفي، المقتدر، القاهر، الراضي، المتقي، المستكفي
--------------------------------------------------------------------------------
(70)
المطيع، الطائع، القادر، القائم، المقتدي، أدركته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد الى المستظهر أحمد ابنه، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين.
وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة الى سليمان بن عبد الملك.
وإذا عددناهم بالمعنى، كان معنا منهم خمسة: الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز، ولم أعلم للحديث معنى، ولعله بعض حديث!! انتهى.
**
وقد اتضح أن المفسرين السنيين بذلوا كل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الإثني عشر الموعودين في التوراة على لسان ابراهيم، ثم على لسان نبينا صلى الله عليه وآله، على ملوك بني أمية، ولكنهم واجهوا ثلاثة مشاكل أساسية لا حل لها:
الأولى: زيادة عدد هؤلاء (الخلفاء) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله بل خلفاء الهواء! على الإثني عشر، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لا ضابط لها، ولا آخر!
والثانية: أنهم يشعرون أن هذا الثوب الالَهي لايمكن إلباسه لجماعتهم .. وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء (الخلفاء غير الخلفاء) وتستروا على تاريخهم، ففيهم مفضوحون، لابد من الإعتراف بسوئهم، ولا يمكن أن يكون أحدهم إماماً ربانياً، وقيماً عظيماً على الأمة، موعوداً من الله تعالى على لسان أعظم الأنبياء عليهم السلام.
والثالثة: أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوك منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم! فيصيرون بذلك كمن يدعي نبوة لنبيٍّ، والنبي المزعوم ينكرها!!
وأخيراً، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لا يأخذوا بتفسير الشيعة، ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره كثيراً، وراوحوا مكانهم ..
--------------------------------------------------------------------------------
(71)
فمن حق السني أن يعود على بدء، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه صلى الله عليه وآله الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً، ربانياً، ملهماً، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوكه، قيماً من ربه على الأمة .. يكونون جميعاً على هدىً واحد، وخطٍ واحد ..
ومن حقنا أن نقول لهم: إذا لم تفسروه، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين صلى الله عليه وآله، وأولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي الموعود عليه السلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: بنا بدأ الله وبنا يختم.
تورط الشراح في حديث سفينة
سفينة مولى أم سلمة، وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون، وروى عنه البخاري وغيره من أصحاب الصحاح حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه.
ـ قال الترمذي: 3|341
(يُتْبَعُ)
(/)
عن سعيد بن جمهان قال حدثني سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك (عضوضٌ).
ثم قال لي سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر، ثم قال وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال أمسك خلافة علي، فوجدناها ثلاثين سنة.
قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟
قال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوكٌ من شر الملوك.
وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً. هذا حديث حسن، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان، لا نعرفه إلا من حديثه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 5|220، و221، بدون كلام سفينة عن ملوك بني أمية. وقال عنه الحاكم: 3|71 وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً الى النبي 9. انتهى.
ـ ورواه ابن كثير في البداية والنهاية: 3|198 ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خلافة نبوة ثلاثون عاماً، ثم
--------------------------------------------------------------------------------
(72)
يؤتي الله ملكه من يشاء، فقال معاوية: رضينا بالملك!!. انتهى.
وإذا صح حديث سفينة فهو إخبارٌ نبويٌّ عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة، وعدم شرعية الحكم فيها.
وبما أن عدد الحكام في هذه الفترة لم يزيدوا عن خمسة، فلا بد أن يكون الأئمة الإثنا عشر من غير الحاكمين، أو تكون تكملتهم من غيرهم!
فحديث سفينة يحكم بخطأ جعل الأئمة الإثني عشر من الحكام، كما هو واضح.
ولكن أكثر الشراح أشربوا في قلوبهم حب بني أمية، وارتكبوا كل تناقض لجعل ملكهم العضوض إمامةً ربانية، وجعل حكامهم المعروفين بسلوكهم وبطشهم، أئمةً ربانيين، مبشراً بهم على لسان رسول رب العالمين!!
والذي يزيدك اطمئناناً بما قلناه، أنهم قبلوا حديث سفينة (الخلافة ثلاثون سنة) وقد فسره راويه ونفى الخلافة عن بني أمية، وقال إنهم ملوكٌ شر ملوك!
ومع ذلك جعلوهم أئمة ربانيين، اختارهم الله تعالى لقيادة هذه الأمة!
ومنهم من حاول نفي تفسير سفينة وقال إنه زيادةٌ لم تثبت، مثل الألباني! وكذلك لم يثبت عندهم كل ما في تاريخ بني أمية من ظلمٍ عضوضٍ للناس!!
ـ قال العيني في عمدة القاري: 16|74
فإن قلت: يعارض حديث سفينة ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة: لا يزال هذا الدين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، الحديث.
قلت: قيل إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وأراد بهذا خلافة النبوة، ولم يرد أنه لا يوجد غيرهم.
وقيل: هذا الحديث فيه إشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلين من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز، ومنهم المهتدي بأمر الله العباسي، ومنهم المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان. انتهى.
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:57 م]ـ
فانظر الى هذا التصرف بالألفاظ من أجل مصلحة الأمويين، حيث جعل الخلافة الشرعية نوعين: خلافة نبوة وهي التي كانت لمدة ثلاثين سنة، وخلافةً شرعية ليست خلافة عن النبي صلى الله عليه وآله! بل هي خلافةٌ عن بني تبعٍ وبني حِمْيءر مثلاً، وهي التي امتدت بعد الثلاثين، وهي التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله بقوله: اثنا عشر خليفة أو إماماً!!.
وقد تمسك الشراح المحبون لبني أمية بهذا الإبتكار وفرحوا به، لأنه يبقي لهم إمكانية التلاعب بالحديث، وتفسيره بأئمتهم الربانيين من بني أمية!!
ـ قال ابن كثير في البداية والنهاية: 3|198
فإن قيل: فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا، وبين حديث جابر بن سمرة، المتقدم في صحيح مسلم؟ ...
فالجواب: أن من الناس من قال: إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيطٌ بعدهم في زمان بني أمية.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقال آخرون: بل هذا الحديث فيه بشارةٌ بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء (التتابع) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز!
ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي.
والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت، واسمه محمد بن عبد الله، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض. انتهى.
فترى أن ابن كثير لا جواب عنده على إشكال حديث سفينة، ولذلك قال: من الناس من قال. . وقال آخرون. . ومنهم من ذكر! وليته أكمل الرواية عن سفينة كما
--------------------------------------------------------------------------------
(74)
وردت في مصادرهم!
أما مدحه لعمر بن عبد العزيز أو المهدي العباسي، فلا يصير دليلاً على أنه أحد الأئمة الربانيين المبشر بهم مهما كثر! وإلا لاستحق كل ممدوح مثلهما أن يكون منهم! فإن دخول أحدٍ في عداد أشخاصٍ بشر بهم أنبياء الله تعالى يحتاج الى دليل على أنه مقصودٌ بهذا النص، وأنه واحدٌ من هؤلاء الربانيين الذين أختارهم الله تعالى وأعطاهم مقاماً فوق مدح المادحين من البشر!
وأما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي من سرداب سامرا، من المكذوبات علينا، فنحن ننتظر ظهور المهدي عليه السلام من مكة كما ينتظره هو، وسرداب سامرا بيته وبيت أبيه وجده عليهم السلام، وهو مكانٌ مباركٌ، نصلي فيه ونتبرك به.
ـ وقال في هامش عون المعبود: 11|361
ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله ... حديث: الخلافة بعد وثلاثون سنة، وحديث اثنا عشر خليفة، ثم قال: فإن قيل: فكيف الجمع؟
قيل: لا تعارض بين الحديثين، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة كما في حديث أبي بكرة. انتهى.
ولم يقل ابن قيم ولا غيره إذا لم تكن خلافة بني أمية خلافة نبوة فهي خلافة ماذا ياترى؟؟ وهل تبقى لها صفة إسلاميةٌ وربانية، بعد أن وصفها النبي صلى الله عليه وآله بأنها ملكٌ عضوضٌ، كما اعترف صاحب قرة العينين وغيره!
وهل يعني إقرارهم بأنها ملك عضوض، ونفيهم عنها صفة الخلافة الإسلامية، إلا أنها خلافةٌ جاهليةٌ عضوضة؟ فهل يتصور عاقلٌ أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله يبشران الأمة بأئمة جاهليين، يعضونها بظلمهم؟!
ولو أن ابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين وأمثالهم. . اكتفوا بتعصبهم لبني أمية، لكان خطبهم أسهل، ولكنهم مع الأسف أصروا على تسخير الأحاديث النبوية لنصرتهم، وتطبيق بشائر الأنبياء عليهم السلام على ملوكهم!!
--------------------------------------------------------------------------------
(75)
ومن طريف عمل الألباني في الحديث، أنه صحح عدة أحاديث عن الإنحراف والأئمة المضلين، الذين سيحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله، ومنها حديث برقم 2982 (إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه!).
وحديث برقم 2864 (إنه سيلي أموركم من بعدي رجالٌ يطفئون السنة ويحدثون بدعة).
وحديث برقم 2865 (إني ممسكٌ بحجزتكم عن النار، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، ويوشك أن أرسل حجزتكم ... ) الخ.
وحديث برقم 1749 أول من يغير سنتي رجلٌ من بني أمية. وجعل هذا الحديث الأخير تحت عنوان من أعلام نبوته الغيبية، وقال بعده: ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة. والله أعلم.
وحديث برقم 744 (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً عباد الله خولاً ومال الله دولاً).
كما صحح حديث سفينة برقم 459، ولكنه جعله تحت عنوان: خلافة النبوة!
(يُتْبَعُ)
(/)
ومع كل هذه الأحاديث التي صححها، قال مدافعاً عن الأمويين: فلا ينافي مجىء خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة. فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم! كما هو واضح!! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة: ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء، وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء. .الخ. انتهى.
فقد أفتى تبعاً لإمامه ابن تيمية، بأن الأئمة الإثني عشر المبشر بهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم. . معاوية ويزيد وبنو الحكم بن أبي العاص، الذين صحت فيهم أحاديث ذمٍّ قاصعة!!
وكأنه لا يعرف أنه بسبب غلوه في بني أمية يعطي الحجة على ربه سبحانه، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله!!
--------------------------------------------------------------------------------
(76)
فماذا يقول إذا قال له مستشرقٌ مثلاً: إنكم أيها المسلمين تقولون إن ربكم مزاجي ونبيكم مزاجي أيضاً، لأنهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم. . ثم يتغير مزاجهما فيرضيان عنهم، ويعلنان للمسلمين: إنا نبشركم بهم وبأولادهم، إنهم صفوة البشر، أئمةٌ، ربانيون، معصومون، قيمون على الأمة!!
وهل دخل المستشرقون الخبثاء، وهل دخل سلمان رشدي وأمثاله، وطعنوا في الإسلام، إلا من أبواب أحاديث التعصب لقريش وبني أمية، وكعب الأحبار؟!
الثانية عشرة: نماذج من أحاديثنا في الأئمة الإثني عشر عليهم السلام
ـ روى الصدوق في الخصال|466 ـ 467، حديث ابن مسعود المتقدم بعدة أسانيد فيها مجالد بن سعيد، وأسانيد أخرى ليس فيهما مجالد، قال:
حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي قال: حدثنا محمد بن عبدوس الحراني قال: حدثنا عبدالغفار بن الحكم قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن مطرف، عن الشعبي، عن عمه قيس بن عبد قال: كنا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال: أيكم عبد الله بن مسعود؟
فقال عبد الله: أنا عبد الله بن مسعود.
قال: هل حدثكم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون بعده من الخلفاء؟
قال: نعم، اثنا عشر، عدد نقباء بني إسرائيل.
حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الوراميني الحافظ قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل، ومحمد بن عبيد الله بن سوار قالا: حدثنا عبد الغفار بن الحكم قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن مطرف عن الشعبي.
قال: عتاب بن محمد: وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير، عن أشعث بن سوار عن الشعبي. قال عتاب بن محمد:
--------------------------------------------------------------------------------
(77)
وحدثنا الحسين بن محمد الحراني قال: حدثنا أيوب بن محمد الوزان قال: حدثنا سعيد بن مسلمة قال: حدثنا أشعث بن سوار، عن الشعبي، كلهم قالوا عن عمه قيس بن عبد.
قال أبو القاسم عتاب: وهذا حديث مطرف قال: كنا جلوساً في المسجد، ومعنا عبد الله بن مسعود، فجاء أعرابي فقال: فيكم عبد الله؟
قال: نعم أنا عبد الله، فما حاجتك؟
قال: يا عبد الله أخبركم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون فيكم من خليفة؟
قال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق، نعم، اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل.
قال: أبو عروبة في حديثه: نعم عدة نقباء بني إسرائيل. وقال جرير عن الأشعث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله قال: الخلفاء بعدي اثنا عشر، كعدد نقباء بني إسرائيل. انتهى. (ورواهما في كمال الدين وتمام النعمة|271، بنفس السند)
وأكبر عملٍ حديثي قام به قدماء علمائنا في هذا الموضوع، بل هو أجلُّ ما وجدته في الموضوع من الأعمال العلمية المقارنة، تأليف المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي، من علماء أوائل القرن الرابع وكتابه القيم (كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر) وقد ذكر منهجه في مقدمته فقال في ص 7:
(يُتْبَعُ)
(/)
أما بعد: فإن الذي دعاني الى جمع هذه الأخبار، عن الصحابة والعترة الأخيار، في النصوص على الأئمة الأبرار، أني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم، متحيرين في ذلك ومتعجزين، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم، وزمرات المعتزلة، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه، حتى آل الأمر بهم الى أن جحدوا أمر النصوص عليهم، من جهةٍ لا يقطع بمثلها العذر، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر ... . فلما رأيت ذلك كذلك، ألزمت نفسي الإستقصاء في هذا الباب موضحاً ما عندي من البينات، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات، تحرياً لمرضاة الله، وتقرباً الى رسوله والأئمة من بعده.
--------------------------------------------------------------------------------
(78)
وأبتدىء بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين مثل عبد الله بن العباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأبي أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن أسيد، وعمران بن الحصين، وسعد بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وأبي قتادة الأنصاري، وعلي بن أبي طالب، وابنيه الحسن والحسين عليهم السلام.
ومن النساء: أم سلمة، وعائشة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم، مما يوافق حديث الصحابة، في النصوص على الأئمة، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به، ولا يكونوا كما قال الله سبحانة (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب، ويقطع بها العذر، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا اليه. انتهى.
ثم عقد قدس الله نفسه باباً لما روي عن كل واحد من الصحابة الذين ذكرهم، وأورد فيه حديثه أو أحاديثه، بسند متصل منه اليه، الى رسول الله صلى الله عليه وآله، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت في مصادر إخواننا السنيين، أو تشتتت في مصنفاتهم، أو بقي منها أجزاء مجزأة، وأحياناً بقي الحديث بكامله!
ونورد فيما يلي نماذج منها:
ـ قال في ص 23 في باب ما جاء عن عبد الله بن مسعود:
أخبرنا محمد بن عبد الله رحمه الله قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمارة الثقفي قال: حدثني أحمد بن عبدالجبار العطاردي قال: حدثنا محمد بن الحسان الضرير التومني قال: حدثنا علي بن محمد الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الكريم، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حبش بن المعتمر، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش.
--------------------------------------------------------------------------------
(79)
وهذا عبد الله بن مسعود روى عنه السائب، ومسروق، وقيس بن سعد، وحبش بن المعتمر.
أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله قال حدثنا أبو علي محمد بن زهير بن الفضل الأبلي قال: حدثنا أبو الحسين عمر بن الحسين بن علي بن رستم قال: حدثني ابراهيم بن يسار الرمادي قال: حدثني سفيان بن عتبة، عن عطا بن السائب، عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديهم.
وقال في ص 73 في باب ما جاء عن أنس بن مالك:
حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي قال: حدثنا بن حماد، عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى. فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟
قال: عدد نقباء بني اسرائيل.
فقال: كلهم من أهل بيتك؟
قال: كلهم من أهل بيتي، تسعة من صلب الحسين، والمهدي منهم.
وقال في ص 113 في باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد:
(يُتْبَعُ)
(/)
أخبرنا أبو المفضل الشيباني قال: حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قال: حدثنا محمد بن مسعود، عن يوسف بن السخت، عن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيدة أياس بن مسلمة بن الأكوع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا سيد الأنبياء، وعلي سيد الأوصياء، وسبطاي خير الأسباط ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة.
فقام اليه أعرابي فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟
--------------------------------------------------------------------------------
(80)
قال: عدد الأسباط، وحواري عيسى، ونقباء بني إسرائيل.
وقال في ص 120 في باب ما جاء عن عمار بن ياسر:
أخبرنا محمد بن عبدالله بن المطلب الشيباني قال: حدثنا محمد بن الحسين بن حفص الحثعمي الكوفي قال: حدثنا عباد ابن يعقوب قال: حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبدالله، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن أبيه، عن جده عمار قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض غزواته، وقتل علي عليه السلام أصحاب الألوية وفرق جمعهم، وقتل عمراً بن عبد الله الجمحمي، وقتل شيبة بن نافع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له: يا رسول الله صلى الله عليك إن علياً قد جاهد في الله حق جهاده. فقال: لأنه مني وأنا منه، وارث علمي وقاضي ديني، ومنجز وعدي، والخليفة بعدي، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض، حربه حربي وحربي حرب الله، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله، ألا إنه أبو سبطيَّ، والائمه من صلبه، يخرج الله تعالى الأئمة الراشدين، ومنهم مهدي هذه الأمة.
فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا المهدي؟
قال: يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد اليَّ أنه يخرج من صلب الحسين تسعة، والتاسع من ولده يغيب عنهم، وذلك قوله عز وجل: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم، ويثبت عليها آخرون، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وهو سميي، وأشبه الناس بي.
يا عمار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه. يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين: الناكثين والقاسطين ثم تقتلك الفئة الباغية.
قلت: يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك؟
قال: نعم على رضا الله ورضاي، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.
--------------------------------------------------------------------------------
(81)
فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر الى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أخا رسول الله، أتاذن لي في القتال؟
قال مهلاً رحمك الله، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله، فأعاد عليه ثالثاً فبكى أمير المؤمنين وقال: إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فنزل أمير المؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عماراً وودعه، ثم قال:
يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيراً، فنعم الأخ كنت، ونعم الصاحب كنت. ثم بكى عليه السلام وبكى عمار.
ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم خيبر: يا عمار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه، وستقاتل الناكثين والقاسطين، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فلقد أديت وأبلغت ونصحت.
ثم ركب وركب أمير المؤمنين عليه السلام ثم برز الى القتال، ثم دعا بشربةٍ من ماء فقيل له ما معنا ماء، فقام اليه رجل من الأنصار فأسقاه شربةً من لبن، فشربه ثم قال: هكذا عهد الي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربةٌ من لبن.
ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً، فخرج اليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل رحمه الله.
فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين عليه السلام في القتلي، فوجد عماراً ملقىً بين القتلى، فجعل رأسه على فخذه، ثم بكى عليه السلام وأنشأ يقول:
ألاأيها الموت الذي لست تاركي * أرحني فقد أفنيت كل خليلِ
أراك بصيراً بالذين أحبهم * كأنك تمضي نحوهم بدليلِ
ـ وقال في ص 180 في باب ما جاء عن أم سلمة:
(يُتْبَعُ)
(/)
حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة قال: حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلثمائة قال: حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة قال: حدثني عفان بن مسلم قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(82)
حدثني حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن سداد بن أوس قال: لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع علي ولا أكون عليه، وتوقفت عن القتال الى انتصاف النهار، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة، قالت: من أين أقبلت؟
قلت: من البصرة.
قالت: مع أي الفريقين كنت؟
قلت: يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال الى انتصاف النهار، وألقى الله عز و جل أن أقاتل مع علي.
قالت: نعم ما عملت، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله.
قلت: فترين أن الحق مع علي؟
قالت: إي والله، عليٌّ مع الحق والحق معه، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم، إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله، وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم، وأبرزوا حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله الى الفناء! والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لأمتي فرقة وجعلة، فجامعوها إذا اجتمعت، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا، وإن سالموا فسالموا، وإن زالوا فزالو معهم، فإن الحق معهم حيث كانوا.
قلت: فمن أهل بيته؟
قالت: أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم؟
قالت: هم الأئمة بعده كما قال: عدد نقباء بني إسرائيل: علي وسبطاه، وتسعة من صلب الحسين، هم أهل بيته هم المطهرون، والأئمة المعصومون.
قلت: إنا لله هلك الناس إذاً؟!.
قالت: كل حزب بما لديهم فرحون. انتهى.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(83)
البحث الثالث
الأسس الإسلامية في خطب الوداع
اتضح مما تقدم أن خطبة عرفات في حجة الوداع تضمنت بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الإثني عشر من بعده، ووصيته بهم. .
فماذا قال صلى الله عليه وآله في الخطب الخمس الباقية؟ في مكة يوم التروية، وفي منى يوم العيد، ووسط أيام التشريق، وفي مسجد الخيف يوم النفر. وفي غدير خم؟.
مع أن المصادر نقلت القليل من هذه الخطب وخلطت بين مضامينها. . لكنك تجد في رواياتها المتعددة أنه صلى الله عليه وآله طرح كل الأمور المهمة التي تحتاج اليها الأمة من بعده. . فقد تضمنت الخطب فقرات نبوية في المحاور أو الأسس الخمس التالية:
1ـ أساس المساواة الإنسانية
ـ مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر، وإلغاء التمايز القومي.
ـ مبدأ حسن معاملة النساء، وعدم ظلمهن.
2ـ أساس وحدة الأمة الإسلامية
ـ مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للاسلام.
ـ مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين.
ـ مبدأ احترام الملكية الشخصية ـ تحريم أموال المسلمين على بعضهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(84)
ـ مبدأ احترام حياة المسلم ـ تحريم دمائهم على بعضهم.
ـ مبدأ احترام عرض المسلم وكرامته ـ تحريم أعراضهم على بعضهم.
ـ مبدأ: من قال لا إلَه إلا الله، فقد عصم ماله ودمه.
ـ مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه وآله وختام الأمم بأمته.
ـ مبدأ شهادة النبي على الأمة في الآخرة، وموافاتها له على الحوض.
ـ مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال، التي تجر الى الإنحراف.
ـ مبدأ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله، والتحقيق فيما ينقل عنه.
3ـ أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين
ـ مبدأ أداء الأمانة
ـ قوانين الإرث
ـ قوانين الديات والقصاص
ـ تشريعات مناسك الحج (خذوا عني مناسككم)
4ـ مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله
ـ مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.
ـ مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة.
ـ مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة من بعده، والإمام الأول من الإثني عشر.
ـ مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم.
ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله
ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة
5ـ أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي
ـ مبدأ لعن من ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(85)
ولا يتسع المجال لبحث هذه الأسس والمبادىء الإلَهية بالتفصيل، لذا نكتفي بذكر نماذج من الخطب الشريفة، ثم نذكر فقرات الخطب المتعلقة بالمبادىء المذكورة، مع التوضيحات الضرورية.
ولا بد أن نشير أولاً الى أن للنبي صلى الله عليه وآله له في كل واحدة من هذه المبادىء بياناتٌ متعددةٌ في غير حجة الوداع، وأنها تشكل مع ما جاء منها في خطب الوداع الستة كلاماً موحداً، لا يمكن فصل بعضه عن بعض. . فكلامه صلى الله عليه وآله إن هو إلا وحيٌ يوحى يكمل بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، ويشكل في كل موضوع وحدةً عقيدية وتشريعية متكاملة البناء، في صرح الإسلام الرباني الشامل.
نماذج من نصوص خطب الوداع
ـ تحف العقول ص 30 لابن شعبة الحراني المتوفى حدود سنة 350
خطبته صلى الله عليه وآله في حجة الوداع:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلَه إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خير.
أما بعد: أيها الناس! إسمعوا مني ما أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام، الى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.
--------------------------------------------------------------------------------
(86)
وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب.
وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب.
وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية.
والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن ازداد فهو من الجاهلية.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك، فيما تحتقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إنما النسىء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطؤوا عدة ماحرم الله.
وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم، إلا بإذنكم، وألا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً.
أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.
--------------------------------------------------------------------------------
(87)
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم.
قال: فليبلغ الشاهد الغائب.
أيها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر.
(يُتْبَعُ)
(/)
من ادعى الى غير أبيه، ومن تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة الله.
ـ وقال الكليني في الكافي: 1|403
عن الحكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: إذهب بنا الى جعفر بن محمد، قال فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: ياأبا عبد الله حدثنا بحديثِ خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف.
قال: دعني حتى أذهب في حاجتى فإني قد ركبت، فإذا جئت حدثتك.
فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما حدثتني.
قال: فنزل، فقال له سفيان: مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته، فدعا به ثم قال:
أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف:
نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه.
ياأيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.
ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(88)
المؤمنون إخوةٌ تتكافى دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم.
فكتبه سفيان ثم عرضه عليه، وركب أبو عبد الله عليه السلام وجئت أنا وسفيان، فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت، حتى أنظر في هذا الحديث.
قلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً!
فقال: وأي شيء ذلك؟
فقلت له: ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، قد عرفناه. والنصيحة لأئمة المسلمين، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم؟ معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم؟
وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي الجماعة؟ مرجىء يقول: من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟!
أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل، ويكون ما شاء إبليس؟!
أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب، ويشهد عليه بالكفر؟!
أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده، ليس الإيمان شيء غيرها؟!
قال: ويحك، وأي شيء يقولون؟!
فقلت: يقولون: إن علي بن أبي طالب عليه السلام والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته. ولزوم جماعتهم: أهل بيته.
قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لا تخبر بها أحداً. انتهى.
ـ وفي تفسير علي بن ابراهيم: 1|171
وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة، فكان من قوله بمنى أن حمد الله واثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس: إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإني لا أدري لا ألقاكم بعد عامي هذا.
ثم قال: هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟
--------------------------------------------------------------------------------
(89)
قال الناس: هذا اليوم.
قال: فأي شهر؟
قال الناس: هذا.
قال: وأي بلد أعظم حرمة؟
قالوا: بلدنا هذا.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الى يوم تلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم.
ألا هل بلغت أيها الناس؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وكل مأثرةٍ أو بدعةٍ كانت في الجاهلية، أو دمٍ أو مالٍ، فهو تحت قدميَّ هاتين، ليس أحدٌ أكرم من أحدٍ إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب.
ألا وكل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوعٍ دم ربيعة.
ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!
--------------------------------------------------------------------------------
(90)
(يُتْبَعُ)
(/)
ألا أيها الناس: إن المسلم أخ المسلم حقاً، لا يحل لامرىء مسلم دم امرىء مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله.
ألا هل بلغت أيها الناس؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: أيها الناس: إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموه تنعشوا. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا، فإن فعلتم ذلك ـ ولتفعلن ـ لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ثم قال ـ إن شاء الله أو علي بن أبي طالب ـ
ثم قال: ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك.
ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وإنه سيرد عليَّ الحوض منكم رجالٌ فيدفعون عني، فأقول: رب أصحابي؟ فيقول: يامحمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك، فأقول: سحقاً سحقا.
فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نُعِيءتْ اليَّ نفسي، ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف، فاجتمع الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.
--------------------------------------------------------------------------------
(91)
ثلاث لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة المسلمين، ولزم جماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم.
المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم. أيها الناس: إني تارك فيكم الثقلين.
قالوا: يارسول الله وما الثقلان؟
قال: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترفا حتى يردا عليَّ الحوض، كإصبعي هاتين ـ وجمع بين سبابتيه ـ ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى، فتفضل هذه على هذه.
فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم الى مكة ودخلوا الكعبة، وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً!
فأنزل الله على نبيه في ذلك: أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون ... انتهى.
**
ـ وفي صحيح البخاري: 5|126
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
أي شهر هذا.
قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(92)
أليس ذو الحجة؟
قلنا: بلى.
قال: فأي بلد هذا؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:
أليس البلدة؟
قلنا: بلى.
قال: فأي يوم هذا؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:
أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم ـ قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم ـ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم.
ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه. انتهى. ويلاحظ أن فيه كلمة ضلالاً بدل كفاراً في غيره.
ـ وفي صحيح البخاري: 1|24
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه ذكر النبى صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، ثم قال:
أي يوم هذا؟
فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.
قال: أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى.
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:58 م]ـ
قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
فقال: أليس بذي الحجة؟
قلنا: بلى.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.
ـ وفي صحيح مسلم: 4|41
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن كسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله.
وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات.
--------------------------------------------------------------------------------
(94)
ـ ورواه ابن ماجة: 2|1024، وفيه:
ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ..
ـ وفي مستدرك الحاكم: 1|77
وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض، وإن سعته مابين الكوفة الى الحجر الأسود، وآنيته كعدد النجوم، وإني رأيت أناساً من أمتي لما دنوا مني، خرج عليهم رجلٌ فمال بهم عني، ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!
فقال أبو بكر: لعلي منهم يا نبي الله؟!
قال لا، ولكنهم قوم يخرجون بعدكم ويمشون القهقرى!. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد حدث به الحجاج بن محمد أيضاً عن الليث ولم يخرجاه.
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1016
حدثنا إسماعيل بن توبة، ثنا زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات، فقال:
أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا؟
قالوا: هذا بلدٌ حرام وشهر حرم ويوم حرام.
قال: ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا.
ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي.
ألا وإني مستنقذٌ أناساً، ومستنقذ مني أناس، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! في الزوائد: إسناده صحيح.
--------------------------------------------------------------------------------
(95)
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1300
باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض:
عن جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في حجة الوداع استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
عن الصنابح الأحمسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني فرطكم على الحوض وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي.
في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
ـ وفي سنن الترمذي: 2|61
سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
قال: قلت لأبي أمامة: منذ كم سمعت هذا الحديث؟
قال: سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ـ وفي مسند أحمد: 5|412
عن مرة قال حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، فقال:
أتدرون أي يومكم هذا؟
قال قلنا يوم النحر.
قال: صدقتم يوم الحج الأكبر. أتدرون أي شهركم هذا؟
قلنا ذو الحجة.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال: صدقتم شهر الله الأصم. أتدرون أي بلد بلدكم هذا؟
--------------------------------------------------------------------------------
(96)
قال قلنا: المشعر الحرام.
فقال: صدقتم، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أو قال كحرمة يومكم هذا وشهركم هذا وبلدكم هذا، ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً، ومستنقذٌ مني آخرون، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!!
ـ وفي مجمع الزوائد: 3|265
(باب الخطب في الحج) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فقال: يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟
قالوا: في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الى يوم تلقونه.
ثم قال: إسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفس منه.
ألا وإن كل دم وماء ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه الى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل.
ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب. لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة
--------------------------------------------------------------------------------
(97)
حرم ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم.
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم.
واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوانٌ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً أن لايوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ـ قال حميد قلت للحسن ما المبرح؟ قال: المؤثر ـ ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة بالله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل.
ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.
وبسط يده وقال ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟
ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.
قال حميد قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.
قلت: روى أبو داود منه ضرب النساء فقط رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقة أبو داود وضعفه ابن معين. وفيه علي بن زيد وفيه كلام.
وعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبى صلى الله عليه وسلم في وسط أيامالتشريق فقال:
يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربى، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى.
أبلغت؟
قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: أي يوم هذا؟
قالوا: يوم حرام.
--------------------------------------------------------------------------------
(98)
ثم قال: أي بلد هذا؟
قالوا: بلد حرام.
قال فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم ـ قال ولا أدري قال وأعراضكم أم لا ـ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
أبلغت؟
قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ليبلغ الشاهد الغائب. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (أحمد: 5|72)
وعن ابن عمر قال نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق فعرف أنه الموت، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب فوقف للناس بالعقبة، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
(يُتْبَعُ)
(/)
أما بعد أيها الناس، فإن كل دمٍ كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب.
أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، رجب مضر الذى بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، إنما النسىَ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ماحرم الله. كانوا يحلون صفر عاماً ويحرمون المحرم عاماً فذلك النسىَ.
يا أيها الناس: من كانت عنده وديعةٌ فليؤدها الى من ائتمنه عليها.
أيها الناس: إن الشيطان أيس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال.
أيها الناس: إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن
--------------------------------------------------------------------------------
(99)
بكلمة الله، لكم عليهن حق ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإن ضربتم فاضربوا ضرباً غير مبرح.
لايحل لامرىَ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.
أيها الناس: إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به.
أيها الناس: أي يوم هذا؟
قالوا: يوم حرام.
قال: فأي بلد هذا؟
قالوا: بلد حرام.
قال: فأي شهر هذا؟
قالوا: شهر حرام.
قال: فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذااليوم وهذا الشهر وهذا البلد. ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم. ثم رفع يديه فقال: اللهم اشهد. قلت في الصحيح وغيره طرف منه ـ رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
ـ وفي مجمع الزوائد: 3|272
وعن فهد بن البحيرى بن شعيب بن عمرو بن الأزرق قال: خرجت الى مكة فلما صرت بالصحرية، قال لي بعض إخواني: هل لك في رجلٍ له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، قال صاحب القبة المضروبة في موضع كذا وكذا، فقلت لأصحابى: قوموا بنا إليه، فقمنا فانتهينا الى صاحب القبة، فسلمنا فرد السلام فقال: مَنِ القوم؟
قلنا: قومٌ من أهل البصرة بلغنا أن لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت تحت منبره يوم حجة
--------------------------------------------------------------------------------
(100)
الوداع، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل، إلا بالتقوى.
يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجىَ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً.
قلنا: ما اسمك؟ قال: أنا العداء بن خالد بن عمرو بن عامر، فارس الضحياء في الجاهلية. رواه الطبراني في الكبير بأسانيد هذا ضعيف. وتقدم له إسناد صحيح في الخطبة يوم عرفة.
وعن أبي قبيلة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس في حجة الوداع فقال: لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم. رواه الطبراني في الكبير، وفيه بقية وهو ثقة ولكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات.
ـ وفي سنن الدارمي: 2|47
فلما كان يوم التروية وجه الى منى فأهللنا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلاً حتى إذا طلعت الشمس، أمر بقبة من الشعر تضرب له بنمرة، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار، لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية في المزدلفة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزلها، حتى إذا زاغت يعني الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:
(يُتْبَعُ)
(/)
إن دماء كم وأموالكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول
--------------------------------------------------------------------------------
(101)
دم وضع دماؤنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يؤطين فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون؟
قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة فرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى وقف، فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخيرات .. .
ـ وفي سنن الدارمي: 2|67
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، لا أدري جمل أو ناقة، وأخذ إنسان بخطامه، أو قال بزمامه
فقال: أي يوم هذا؟
قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.
فقال: أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى.
قال فأي شهر هذا .. .. الخ.
الأساس الأول: المساواة الإنسانية
لا نطيل في هذا الأساس لوضوحه، وقد تقدمت عدة فقرات تتعلق به في نماذج النصوص من خطبه صلى الله عليه وآله.
--------------------------------------------------------------------------------
(102)
الأساس الثاني: وحدة الأمة الإسلامية
وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادىَ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرةٍ وحفظوها وكرروها، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع!
والسبب في ذلك: أن المجتمع العالمي كان في عصره صلى الله عليه وآله مجتمع تمييز حاد على أساس قومي وقبلي وطبقي .. كما أنه كان مجتمع (قانون الغلبة والقوة) فالغالب على حق دائماً، سواء كان حاكماً، أو قبيلة، أو فارساً، أو صعلوكاً .. لأنه استطاع أن يقهر الآخرين، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم، أو يغصبها منهم عنوةً، أو يحتال عليهم بحيلة!
فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع، وتحرم كل أنواع الإعتداء على الحقوق الشخصية، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته.
فالأمر الذي جعلهم يحفظونها أكثر من غيرها من كلمات النبي صلى الله عليه وآله، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها، وكونها تمثل الحل لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها في الجاهلية القريبة.
وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلَهية والنبوية البليغة، تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعافاً مضاعفة عما وصل اليه من سوء، ولعادت النظرة الى الإنسان والتصرف معه الى الحالة الجاهلية مئة بالمئة!!
والملاحظ بعد النبي صلى الله عليه وآله أن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة، هم عترته وأهل بيته الطاهرون، فعلي عليه السلام هو الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يستعمل قانون الطوارىَ أو الأحكام العرفية، ولا أي قانون استثنائي، حتى مع
--------------------------------------------------------------------------------
(103)
خصومه والممتنعين عن بيعته، بل حتى في حالات الحرب .. مع أنه ابتلي بثلاثة حروب استوعبت مدة خلافته كلها!
بينما استعمل أبو بكر وعمر منطق القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار، وهموا بقتل سعد بن عبادة، ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وكانوا في تعزية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله! بل روي أن جنازته كانت مسجاةً لم تدفن بعد! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب وأحرقوا الباب .. الخ.!!
**
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما المبدأ السادس من هذا الأساس (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه) فقد جاء في رواية تفسير علي بن ابراهيم القمي بصيغة (وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وهو مبدأ له ثلاثة أبعاد:
الأول: أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم، يحرم ماله ودمه وعرضه، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية، أو المفسد في الأرض، أو قتل أحداً عمداً، أو ارتد عن الإسلام، أو زنى وهو محصن .. .
الثاني: أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة، والموقف منهم في الحرب والسلم حسب أحكام التعايش الإسلامية الخاصة بهم.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وآله أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل، ولم يتعداه .. فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة، ولم يؤمر بقتال المنحرفين، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين، لأن ذلك قتالٌ على التأويل، يكون من بعده، لا في عهده.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(104)
وأما المبدأ السابع (ختام النبوة به صلى الله عليه وآله وختام الأمم بأمته) فقد ورد في رواية مجمع الزوائد المتقدمة وغيرها (فقال لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم).
وهو مبدأ هيمنة شريعته صلى الله عليه وآله على شرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام. . وردُّ مدعي النبوة الكذابين، الذين ظهر بعضهم في زمنه صلى الله عليه وآله، وظهر عددٌ منهم بعده.
كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء عليهم السلام، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى.
وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر .. ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ماحفظه من كلامه صلى الله عليه وآله ونسي بعضه كالزكاة والحج.
ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحدٍ بدون شروط، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق .. وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر، فيكون مقصوده الإثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى، الذين بشر الأمة بهم.
**
وأما المبدأ الثامن (شهادة النبي صلى الله عليه وآله على الأمة في الآخرة، وموافاتها له على الحوض) فقد ورد في مصادر متعددة كما مر، وفي بعضها (ألا وإني فرطكم علىالحوض وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي) وفي بعضها (وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي) وهو أسلوبٌ نبوي فريدٌ في التأكيد على الأمة في وداعها، بأنها ستوافي نبيها بين يدي ربها، ويكون كل فردٍ منها بحاجة ماسةٍ الى أن يسقى من حوض الكوثر، شربةً لا يظمأ الإنسان بعدها أبداً، ويصلح بها بدنه لدخول الجنة.
فهذا التوجيه منه صلى الله عليه وآله كمثل أبٍ يقول لأولاده: إعملوا بوصيتي، فإني مسافرٌ عنكم، وسوف أرجع اليكم وآتي بأموالٍ كثيرة، وتكونون في حالة فقرٍ شديدة، وسأعرف من يعمل بوصيتي منكم، ومن يخالفني!
--------------------------------------------------------------------------------
(105)
وأما المبدأ التاسع (تحذير الأمة من محقرات الأعمال) ففيه إلفاتٌ الى قاعدة مهمة في السلوك الفردي والإجتماعي، وهي أن الإنحراف يبدأ بأمر صغير، أو أمور تبدو بسيطة، يحتقرها الإنسان ولا يراها مهمةً في ميزان التقوى .. وإذا بها تستتبع أموراً أخرى، وتجره الى هاوية الهلاك الأخروي، أو الدنيوي!
وهو أمرٌ مشاهد سواءً في حالات الهلاك الفردي أو الإجتماعي ..
فقد يتسامح المسلم في النظر الى امرأة أجنبية تعجبه، ويتسامح في الحديث معها، ثم في التصرف .. حتى ينجر أمره الى الفاحشة!
وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء، ولا ينصت الى صوت ضميره الديني، ونصح ناصحيه .. حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس، أو بحر انحرافه ورذيلته!
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها، أو في نفوذهم السياسي، أو الإقتصادي أو الثقافي في بلادها .. فينجر الأمر الى تسلطهم على مقدراتها، وسيطرتهم عليها!
أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه، أو في فئة من فئاته ..
أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه، ووزرائه وقضاته، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم .. فينجر ذلك الى شمول الفساد في المجتمع، وتسارع هلاكه!
فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة، لشجرة شرٍّ كبيرة، على المستوى الفردي أو الإجتماعي!!
وبهذا ورد تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وآله في مصادر الطرفين ..
ـ ففي الكافي 2|288، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتوا بحطبٍ، فقالوا: يارسول الله نحن بأرضٍ قرعاء ما بها من حطب! قال: فليأت كل إنسانٍ بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات
--------------------------------------------------------------------------------
(106)
من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. انتهى.
ـ وفي سنن البيهقي: 10|188
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الأعمال، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجىَ بالعويد، والرجل يجىَ بالعويد، حتى جمعوا من ذلك سواداً، ثم أججوا ناراً، فأنضجت ما قذف فيها. انتهى.
وهذان الحديثان الشريفان ناظران الى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة، وكيف تتحول الى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع.
وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين الى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع، وشخصيتهما ..
ـ ففي الكافي: 2|287
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر! قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك!
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1417
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً. في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. انتهى. ورواه الدارمي: 2|303، وأحمد: 6|70 و 151
ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي: أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة، يتجه الى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات! (ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها (سنن ابن ماجة: 2|1015)
--------------------------------------------------------------------------------
(107)
فقد كان الإسلام الذي أنزله الله تعالى، وبناه رسوله صلى الله عليه وآله صرحاً كبيراً وقلعةً محكمة، يئس الشيطان من قدرته على هدمها، فاتجه الى إقناع شخص من أهلها بسحب حجر واحدٍ صغير من جنب الجدار، ثم حجرٍ آخر .. وآخر .. حتى يفرغ تحت الأساس فينهار الصرح على من فيه!
ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن ابراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادةٌ له، فالذين يبدؤون بالإنحراف في مجتمع، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى، وهم بدعوتهم الى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى الى عبادة الشيطان .. (ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!).
كما أن شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة، وهدم صرحها عن طريق المحقرات .. وهو ينفع في تفسير قوله تعالى: ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. سبأ ـ 20
(يُتْبَعُ)
(/)
أما أهل البيت عليهم السلام فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وصراعها عليها، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد نبيها .. ففي بحار الأنوار: 28|217 عن الإمام الباقر عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس قال: ذلك والله يوم قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أمير! انتهى.
**
وأما المبدأ العاشر (تحذير النبي صلى الله عليه وآله من الكذب عليه) فقد ورد في روايتي أحمد المتقدمتين وغيرهما، ووردت فيه أحاديث كثيرة مشددة في مصادر الشيعة والسنة، تدل على أن هذه المشكلة كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وآله، وأنه أخبر بأنها ستزداد من بعده، ويكثر الكذابون عليه!
--------------------------------------------------------------------------------
(108)
والمتأمل في هذه المشكلة ينفر من هؤلاء الكذابين، لأن عملهم عملٌ شيطاني من شأنه أن يشوه الإسلام ويزوره، ويمنع وصوله الى الأجيال .. خاصة أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن مأموراً بفتح جبهة داخلية مع أصحابه أبداً، ولم يؤمر بفضح هؤلاء الكذابين ولا بمعاقبتهم على كذبهم الماضي أو الآتي!!
فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين، وتحذير الأمة منهم؟!
من الواضح أن ذلك العلاج لا يؤثر إلا تقليل حجم المشكلة الكمي، ولذا فإن تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجودها، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم، علاجاً كافياً ..
وقد كان العلاج وجوب عرض أحاديثه التي تروى عنه على الثقلين اللذين تركهما في الأمة وأوصاها بهما .. فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرفٌ باطل، يستحيل أن يكون صادراً من النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لا يقول مايخالف القرآن .. وكل حديث يخالف ماثبت عن عترته الذين هم مع القرآن، فهو باطلٌ أيضاً لأنهم مع القرآن دائماً، ولأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وآله والمبينون علومه للأمة من بعده.
الأساس الثالث: وحدة شريعة المسلمين وثقافتهم
وقد وردت مبادىَ هذا الأساس في فقرات متعددة من خطب حجة الوداع، ذكرنا منها أداء الأمانة وتشريعات الإرث والديات والحج .. ويوجد في الخطب الشريفة تشريعاتٌ أخرى أيضاً.
ومن الواضح أن العامل الأساسي في وحدة ثقافة الأمة الإسلامية على اختلاف بلادها وقومياتها، هو وحدة عقيدتها وشريعتها .. وأن كل الدول والحضارات لم تستطع أن تحقق بين الشعوب التي شملتها ماحققه الإسلام من وحدة في التصور والسلوك، مازالت قائمة الى اليوم بين شعوبه، رغم كل العوامل المضادة!
--------------------------------------------------------------------------------
(109)
الأساس الرابع: مبادىَ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله
ـ مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.
ـ مبدأ التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة.
ـ مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده، والإمام الأول من الإثني عشر.
ـ مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.
ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش على حصار بني هاصم.
ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله.
ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة.
وقد تقدم البحث في حديث الأئمة الإثني عشر، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع.
والعاقل لا يمكنه أن يقبل أن النبي صلى الله عليه وآله قد أخفى هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر المعينين من الله تعالى .. أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة لمجرد إخبارها بوجودهم، كما تدعي قريش ورواتها!
وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس (التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة) فقد روتها مصادرنا في خطبة الغدير، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع، كما تقدم في رواية تفسير علي بن ابراهيم.
أما مصادر السنيين فقد روت بشكل واسع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله على الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط، وصححوا روايتها، وقد تقدم أن الطبري المعروف قد ألف كتاباً من مجلدين جمع فيه أحاديث الغدير وطرقها وأسانيدها.
(يُتْبَعُ)
(/)
أما في بقية خطب حجة الوداع، فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه: 5 | 328 عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول:
يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل
--------------------------------------------------------------------------------
(110)
بيتي. وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد. هذا حديث غريب حسن، من هذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان، وغير واحد من أهل العلم. انتهى.
ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بالكتاب وحده، بدون العترة!
ففي صحيح مسلم: 4|41 (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله) ومثله في أبي داود: 1|427، وسنن البيهقي: 5|8، ونحوه في ابن ماجة: 2|1025، وفي مجمع الزوائد: 3|265: بصيغة (أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به).
والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من الرواية التي رواها هؤلاء، إما لنسيان الراوي، أو بسبب رقابة قريش على خطب نبيها صلى الله عليه وآله!
والدليل على ذلك: أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع، روته تاماً في غيرها، فيحمل الناقص على التام!
فقد روى مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة، وصية النبي صلى الله عليه وآله بالقرآن والعترة معاً، وتأكيداته المتكررة على ذلك ..
ـ ففي صحيح مسلم: 7|122:
عن زيد بن أرقم (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:
وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
--------------------------------------------------------------------------------
(111)
فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟
قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال: ومن هم؟
قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟
قال: نعم. انتهى.
ورواه البيهقي في سننه 7|30 و 10|114.
وفي مجمع الزوائد: 1|170: عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني تركت فيكم خليفتين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات). ورواه بنحوه: 9|162 وقال: رواه أحمد وإسناده جيد.
وأما أبو داود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين، ولكنه عقد في سننه: 2|309 كتاباً باسم (كتاب المهدي) وروى فيه حديث الأئمة الإثني عشر وبشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً). انتهى.
والذي يؤكد ما ذكرناه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع: أن الكلام النبوي الذي هو جوامع الكلم، له خصائص عديدة يتفرد بها .. ومن خصائصه أنه يستعمل تراكيب معينة لمعان معينة، لا يستعملها لغيرها، فهو بذلك يشبه القرآن. وتركيب (ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) خاصٌّ لوصيته للأمة بالقرآن والعترة، لم يستعمله صلى الله عليه وآله في غيرهما أبداً .. كما أن تعبير: إني تارك فيكم الثقلين لم يستعمله في غيرهما أبداً.
ولذلك عندما قال لهم في مرض وفاته: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً .. فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته
--------------------------------------------------------------------------------
(112)
(يُتْبَعُ)
(/)
بشكل مكتوب، فرفضت ذلك بصراحةٍ ووقاحةٍ! وقد روى البخاري هذه الحادثة في ست أماكن من صحيحه!! وروت المصادر أن عمر افتخر في خلافته، بأنه بمساعدة قريش حال دون كتابة ذلك الكتاب!!
وغرضنا هنا أن نلفت الى أن ورود هذا التركيب في أكثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة، يخالف الأسلوب النبوي، وتعبيره المبتكر في الوصية بهما معاً .. خاصةً وأن الترمذي رواهما معاً!
والنتيجة أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله لأمته في حجة الوداع بالائمة الإثني عشر، ووصيته بالثقلين، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الإتباع، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين .. لا ينكره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش، في مقابل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله.
وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس (إعلان علي ولياً للأمة من بعده) فهو صريح حديث الغدير، ولا يتسع موضوعنا لذكر أسانيده ونصوصه، ودلالتها على ذلك .. وقد تكفلت بذلك المصادر الحديثية والكلامية، ومن أقدمها كتاب (الولاية) للطبري السني، ومن أواخرها كتاب الغدير للعلامة الأميني.
وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس (تأكيده صلى الله عليه وآله على أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر) فقد تقدم ذكره في فقرات الأساس الثاني، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى (أطيعوا وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بأن غير المعصوم لا يمكن أن يأمرنا الله تعالى بطاعته بدون شرط، لأنه يكون بذلك أمرَ بالمعصية! فلا بد أن يكون أولوا الأمر في الآية معصومين .. وكذلك الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع، وغيرها.
وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس (تخليده صلى الله عليه وآله مكان تعاهد قريش على حصار بني هاشم) فقد رواه البخاري في صحيحه: 5|92 قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(113)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. انتهى.
ورواه في: 4|246 و: 8|194 ورواه في: 2|158، بنص أوضح، فقال:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم!!. انتهى.
ورواه مسلم: 4|86، وأحمد: 2|322 و 237 و 263 و 353 و 540
ورواه البيهقي في سننه: 5|160، بتفاوت وقال (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي) وقد رواه مسلم عن الأوزاعي، ولكن البخاري لم يروه عنه، بل عن أبي هريرة، ولم نجد في طريقه الأوزاعي، فهو اشتباهٌ من البيهقي، أو سقطٌ من نسخة البخاري التي بأيدينا.
وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة (أن لا يناكحوهم، ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين عن مكان نزوله في منى، فرواية البخاري تذكر أنه أعلن ذلك في منى بعد عرفات، بينما تذكر رواية الطبراني أنه أعلن ذلك في مكة قبل توجهه الى الحج .. وهذا أقرب الى اهتمامه صلى الله عليه وآله بالموضوع، وحرصه على تركيزه في أذهان المسلمين، خاصةً أنه نزل في هذا المنزل، وبات فيه ليلة عرفات، وهو في طريقه اليها، وقد تقدم ذلك في رواية الدارمي، ثم نزل فيه طيلة أيام التشريق! قال في مجمع الزوائد: 3|250:
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم: منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن، حيث استقسم المشركون. رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(114)
والمسألة المهمة هنا: هي هدف الرسول أن يذكِّر قريشاً والمسلمين بحادثةٍ عظيمة وقعت فيهذا المكان، قبل نحو أربع عشرة سنة من ذلك اليوم فقط! هذه الحادثة التي تريد قريش أن تدفنها وأن ينساها الناس، ويريد الله ورسوله أن تخلد في ذاكرة المسلمين والتاريخ، وكلها عارٌ على قريش، وفخرٌ للنبي صلى الله عليه وآله وبني هاشم .. وهي صورةٌ عن جهود فراعنة قريش، حيث استطاعوا أن يحققو إجماع قبائلهم، ويقنعوا قبائل كنانة القريبة من الحرم بتنفيذ مقاطعة تامة على بني هاشم!!
وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً، حتى يتراجع محمد عن نبوته، أو يسلمه بنو هاشم الى قريش ليقتلوه!!
وقد اعتبر الفراعنة يومذاك أنهم نجحوا نجاحاً كبيراً وحققوا إجماع قريش وكنانة على هذا الهدف الشيطاني، وكان مؤتمرهم لذلك في المحصب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا باللات والعزى على هدفهم، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذه، واستمر حصارهم ومقاطتهم نحو أربع سنوات الى قبيل هجرته صلى الله عليه وآله من مكة!!
وقد تضامن بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وآله مسلمهم وكافرهم وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذى والإهانة، في شعب أبي طالب، ولم يشاركهم في ذلك أحد من المسلمين .. حتى فرج الله عنهم بمعجزة!
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يوعي المسلمين الجدد على تاريخ الإسلام، وتكاليف الوحي، ليعرفوا قيمته .. ويوعيهم على معدن الإسلام ومعدن الكفر ليعرفوهما!
كما أراد أن يبعث بذلك رسالةً الى بقية الفراعنة، الذين مازالوا أحياء من زعماء قريش، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم منه، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم في فتح مكة تحت سيوف الأنصار وسيوف بني هاشم، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل .. وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله، وهم كارهون!!
لقد أهلك الله تعالى عدداً قليلاً من أبطال ذلك الحلف الشيطاني، من سادة
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:00 ص]ـ
مؤتمر خيف المحصب، بالموت، وبسيف علي بن أبي طالب .. ولكن العديد مثل سهيل بن عمرو، وأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم من زعماء قريش وكنانة .. مازالو أحياءً ينظرون، وكانوا حاضرين مع النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع يسمعون كلامه ويذكرون ماضيهم بالأمس القريب جيداً، ويتعجبون من عفوه عنهم واكتفائه بإقامة الحجة الدامغة عليهم!
وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية، ومنطق الأمور، وشهادة أهل البيت، ومجرى التاريخ .. تدل على فرحهم بأن النبي صلى الله عليه وآله يعلن قرب موته ورحيله عنهم، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار بني هاشم الجديد!!
فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يذكرهم بخطتهم في حصارهم القديم، وكيف أحبطه الله تعالى! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً!!
وأما المبدأ السابع من هذا الأساس (تحذيره قريشاً أن تطغى من بعده وتفسد) فقد ذكرته أحاديث مصادرنا، وذكرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري، الذي استمع على مايبدو الى خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً) انتهى.
ونشكر الله تعالى أن فهدا البحيري هذا كان بدوياً، ولم يكن قرشياً ولا كنانياً، وإلا لوضع هذه الرواية في رقبة بني هاشم، وأبعدها عن قريش، كما فعل الرواة القرشيون! فجعلونا نقرأ في مصادر إخواننا السنيين عشرات الأحاديث (الصحيحة) في تحذير النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم وبني عبد المطلب وذمهم!! وعشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تكون القيادة فيهم!! ولا تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد أحبطوا معناه بحديث آخر، أو حولوه الى مدحٍ لقريش!!
--------------------------------------------------------------------------------
(116)
وحديث ابن البحيري في حجة الوداع تحذيرٌ نبويٌّ لقريش في محله تماماً .. لأن قريشاً ذات موقع مميزٍ في العرب .. وهي المتصدية لقيادة عرب الجزيرة في حياة النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده .. فالخطر على أهل بيته من قريش وحدها .. والتحريف الذي يخشى على الإسلام .. والظلم الذي يخشى على المسلمين إنما هو من قريش وحدها .. وبقية الناس تبعٌ لها!
والنبي صلى الله عليه وآله إنما هو مبلغٌ عن ربه، ومقيمٌ لحجة ربه، وعليه أن يحذر وينذر، ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس (تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة) فقد روته مصادر الجميع بصيغتين: مباشرة، وغير مباشرة ..
أما غير المباشرة فهي قوله صلى الله عليه وآله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد في سننه: 2|1300 باباً تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وآله (استنصت الناس فقال ... ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... فلا تقتتلن بعدي).
وهذا يعني أن ذلك سوف يقع منهم، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون، ولكنه صلى الله عليه وآله استعمل كل بلاغته وكل عاطفته، وكل موجبات الخوف والحذر .. ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا: لماذا لم تحذرنا!
والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة لا غير .. لا غير .. لا اليهود ولا القبائل العربية، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة ..
فالدولة الإسلامية كانت قائمة، وقد حققت مركزيتها على كل الجزيرة، والخوف من الإقتتال بعد النبي صلى الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للاسلام طوعاً أو كرهاً، مهما كانت كبيرةً وموحدةً مثل هوازن وعطفان .. فهي لا تستطيع أن تطمح الى قيادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح، إلا بواسطة الصحابة ..
--------------------------------------------------------------------------------
(117)
(يُتْبَعُ)
(/)
واليهود قد انكسروا وأجلى النبي صلى الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر .. ومكائدهم وخططهم مهما كانت قويةً وخبيثةً، فلا حظَّ لها في النجاح إلا .. بواسطة الصحابة ..
وزعماء قريش، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش، فهم لا يستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنهم كلهم طلقاؤه، يعني كان للنبي صلى الله عليه وآله الحق في أن يقتلهم، أو يتخذهم عبيداً، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم .. فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة، من القرشيين المهاجرين ..
وبذلك يتضح أن تحذيره صلى الله عليه وآله من الصراع بعده على السلطة، ينحصر بالصحابة المهاجرين، ثم بالأنصار فقط .. وفقط!!
وهنا يأتي دور التحذير المباشر، الذي لا ينقصه إلا الأسماء الصريحة .. وقد جاء هذا الإعلان النبوي على شكل لوحةٍ من الغيب، عن النتيجة والمصير الذي يمشي اليه هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرِّفون!
لوحةٌ أخبره بها جبرئيل عليه السلام عن الله تعالى، يومَ يجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله رئيس المحشر، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد، فيدفعه النبي الى علي بن أبي طالب، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة، ويكون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد صلى الله عليه وآله .. ويفتخر به آدم عليه السلام، حتى يدعى أبا محمد .. صلى الله عليه وآله.
ويعطي الله تعالى رسوله الشفاعة وحوض الكوثر، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر، ليتغير بذلك الكأس تركيبهم الفيزيائي، وتصلح أجسادهم لدخول الجنة، والخلود في نعيمها ..
وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة:
يأتي النداء الإلهي بمنع النبي صلى الله عليه وآله من الشفاعة لهم، ومنعهم من ورود الحوض، ويؤمر ملائكة العذاب بأخذهم الى جهنم!!
هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة على لسان أصدق الخلق!!
--------------------------------------------------------------------------------
(118)
إنه صورةٌ رهيبةٌ، جاء بها جبرئيل الأمين، لكي يبلغها النبي صلى الله عليه وآله الى الأمة في حجة الوداع!!
إنها أعظم كارثةٍ على صحابةِ أعظم رسول صلى الله عليه وآله .. ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده أعظم ... كارثة!!
ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل (همل النعم) كما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة .. وهو تعبيرٌ نبويٌّ عجيب، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع، الخارجة على راعيه! وهو يدل على أن قطيع الصحابة في النار، وهملهم الذي يفلت منهم، يفلت من النار الى الجنة!!
بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله أن الصحابة الجهنميين زمرتان، مما يدل على أنهم خطان من صحابته لاخطٌ واحد، وتقدم قول الحاكم عن حديثه: صحيحٌ على شرط الشيخين، وفيه (ثم أقبلت زمرةٌ أخرى، ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!)
إنها مسألةٌ مذهلةٌ .. صعبةُ التصور والتصديق، خاصةً على المسلم الذي تربى على حب كل الصحابة، وخير القرون، والجيل الفريد، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .. وعلى الصور واللوحات الرائعة للصحابة، التي كبر معها وكبرت معه .. فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم!!
لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدوٌّ للإسلام ولرسوله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول .. صلى الله عليه وآله.
ولكن المتكلم هو .. الرسول صلى الله عليه وآله .. بعينه .. بنفسه .. وكلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه، حتى تقول قريش إنه يتكلم في الرضا والغضب، وكلامه في الغضب ليس حجة .. بل هو وحيٌ نزل عليه من رب العالمين!!
إنها حقيقةٌ مرةٌ .. ولكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوةً كما نشتهي .. وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا، مطابقاً لموروثاتنا؟!
وماذا نصنع إذا كانت أحاديث الصحابة المطرودين، المرفوضين، الممنوعين من
--------------------------------------------------------------------------------
(119)
ورود الحوض مستفيضةٌ في الصحاح، وهي في غير الصحاح أكثر .. وهي تصرح بأنه لاينجو منهم إلا مثل الهمل!!
ـ قال الجوهري في الصحاح: 5|1854
(يُتْبَعُ)
(/)
والهمل بالتحريك: الإبل التي ترعى بلا راع، مثل النفش، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً، والهمل يكون ليلاً ونهاراً. يقال: إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل.
وتركتها هملاً أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع.
وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل. والمرعي الذي له راع. انتهى.
ولكن السؤال هو: لماذا طرح الرسول صلى الله عليه وآله موضوعهم في حجة الوداع؟!
الجواب: لأن الله تعالى أمره بذلك، فهو لا ينطق عن الهوى، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة!!
والسؤال الآخر: وماذا فعل الصحابة بعد الرسول؟ هل كفروا وارتدوا كما يقول الحديث؟ هل حرفوا الدين؟ هل اقتتلوا على السلطة والحكم؟!
والجواب: إقبل ما يقوله لك نبيك صلى الله عليه وآله، واسكت، ولا تصر رافضياً!
والسؤال الآخر: لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير، ولم يهلك هؤلاء الصحابة، الذين سينحرفون، أو يأمر رسوله بقتلهم، أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم!
والجواب: هذه سياسته سبحانه وتعالى في إقامة الحجة كاملة على العباد، وترك الحرية لهم .. ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة .. ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون .. فهو سبحانه مالكهم له حق سؤالهم، وهو لا يفعل الخطأ حتى يحاسب عليه .. وهو أعلم، وغير الأعلم لا يمكنه أن يحاسب الأعلم ويسأله!
والسؤال الآخر: ماذا كان وقع ذلك على الصحابة والمسلمين؟! ألم يهرعوا الى الرسول صلى الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أكثر، ويعين لهم من يتبعونه بعده، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون؟!
--------------------------------------------------------------------------------
(120)
والجواب: لقد عين لهم الثقلين من بعده: كتاب الله وعترته، وبشرهم باثني عشر إماماً يكونون منهم بعده ..
وقبل حجة الوداع وبعدها، طالما حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، حتى أن الأحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم كساءً يمانياً، وقال للمسلمين: هؤلاء عترتي أهل بيتي!!
ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم، وأخذ بيد علي عليه السلام وبلغ الأمة إمامته من بعده، ونصب له خيمةً، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ويباركوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالى .. فهنؤوه جميعاً وباركوا له، وأمر النبي صلى الله عليه وآله نساءه وكن معه في حجة الوداع، أن يهنئن علياً فجئن الى باب خيمته وهنأنه وباركن له .. معلناتٍ رضاهن بولايته على الأمة.
ثم أراد صلى الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة على الأمة بوثيقةٍ مكتوبة، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .. ولكنهم رفضوا ذلك بشدة! وقالوا له: شكراً أيها الرسول، لقد قررنا أن نضل، عالمين عامدين مختارين!! لأنا لانريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً، ثم حسناً، ثم حسيناً، ثم تسعة من ذرية الحسين!
فهل تريد من نبيك صلى الله عليه وآله أن يقيم الحجة أكثر من هذا؟!
الأساس الخامس: عقوبة المخالفين للوصية النبوية بأهل بيته عليهم السلام
وهي عقوبةٌ أخروية، تتناسب مع مسؤولية النبي صلى الله عليه وآله في التبليغ، والشهادة على الأمة .. وقد جاءت شديدةً قاطعة، بصيغة قرارٍ من الله تعالى بلعن المخالفين لرسوله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، وطردهم من الرحمة الإلهية، وحكماً بعدم قبول توبتهم نهائياً واستحقاقهم العذاب في النار.
وربما يزيد من شدتها، أنها كانت آخر فقرة من خطبته صلى الله عليه وآله!!
--------------------------------------------------------------------------------
(121)
وقد تقدم نص هذه اللعنة النبوية في رواية تحف العقول من مصادرنا، وقد نصت مصادر السنيين على أنها صدرت من النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع.
ـ ففي سنن ابن ماجة: 2|905
عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته، وإن راحلته لتقصع بجرتها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال ... ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ. أو قال: عدلٌ ولا صرفٌ.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ وفي سنن الترمذي: 3|293
عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع .... ومن ادعى الى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه، فعليه لعنة الله التابعة الى يوم القيامة.
ـ وفي مسند أحمد: 4|239
عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته، وإني لتحت جران ناقته، وهي تقصع بجرتها، ولعابها يسيل بين كتفي، فقال: ألا ومن ادعى الى غير مواليه رغبةً عنهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ورواه أحمد: 4|187 بلفظ: ألا ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً. انتهى. ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها، وفي ص 238 و 186، ورواه الدارمي في سننه: 2|244 و344، ومجمع الزوائد: 5|14، عن أبي مسعود، ورواه البخاري في صحيحه: 2|221، و: 4|67
ولعلك تسأل: ماعلاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته؟! فهي تنصب على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه الى شخص آخر، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد
--------------------------------------------------------------------------------
(122)
لشخص آخر، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه، ويدعي أن ولاءه لشخص آخر!
فهذا هو معنى (من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه)!
والجواب: أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة: أبوته هو المعنوية للأمة، وبالولاء: ولايته وولاية أهل بيته عليها، وليس مراده الأبوة النسبية وولاء المالك لعبده!
والدليل على ذلك: لو أن ولداً هرب من أبيه، وسجل نفسه باسم والدٍ آخر، ثم تاب من فعلته وصحح هويته، واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل!
ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ الى شخص، وادعى أنه سيده، وبعد مدة رجع الى سيده واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل.
بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه وآله مصبوبٌ عليه الغضب الإلهي الى الأبد! (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). والصرف هو التوبة، والعدل الفدية، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك.
فهذه العقوبة الإلهية المذكورة في خطب حجة الوداع، إنما تصح لحالات الخيانة العظمى، مثل الإرتداد وشبهه، ولا يعقل أن تكون لولدٍ جاهلٍ يدعو نفسه لغير أبيه، أو لعبدٍ مملوكٍ أو مظلومٍ يدعو نفسه لغير سيده!
ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك، وخروجه من الإسلام! كما في سنن البيهقي: 8|26، ومجمع الزوائد: 1|97، وكنز العمال: 5|872. وفي كنز العمال: 10 | 324 (من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. أحمد عن جابر).
ـ وفي|326 (من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة)
ـ وفي|327 (من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس).
ـ وفي: 16|255 (ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله. ش)
--------------------------------------------------------------------------------
(123)
ولا نحتاج الى تتبع هذه الأحاديث في مصادرها وأسانيدها، لأنها مؤيداتٌ لحكم العقل القطعي بأن مقصوده صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يكون الأب النسبي، ومالك العبد.
ويؤيد ذلك أيضاً: أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد، ليس فيها ذكر للولد والوالد، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه، ولم تخففها!
ويؤيد ذلك أيضاً: أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة، بعد ذكر ماميز به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام من مالية خاصة هي الخمس، وحرم عليهم الصدقات والزكوات!
ـ ففي مسند أحمد: 4|186
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، وأخذ وبرةً من كاهل ناقته، فقال: ولا ما يساوي هذه، أو ما يزن هذه. لعن الله من ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه. انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
ورواه في كنز العمال: 5 | 293، وفي كنز العمال: 10|235 (ومن تولى غير مواليه، فليتبوأ بيتاً في النار. ابن عساكر عن عائشة) انتهى.
أما في مصادر أهل البيت عليهم السلام فالحديث ثابتٌ عنه صلى الله عليه وآله في خطب حجة الوداع في المناسك .. وهو أيضاً جزءٌ من حديث الغدير ..
ـ ففي بحار الأنوار: 37|123
عن أمالي المفيد، عن علي بن أحمد القلانسي، عن عبدالله بن محمد، عن عبد الرحمان بن صالح، عن موسى بن عمران، عن أبي إسحاق السبيعي، عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم يقول: إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، لعن الله من ادعى الى غير أبيه، لعن من تولى الى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر، وليس لوارث وصية.
--------------------------------------------------------------------------------
(124)
ألا وقد سمعتم مني، ورأيتموني .. ألا من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة، فلا تسودوا وجهي.
ألا لأستنقذن رجالاً من النار، وليستنقذن من يدي أقوامٌ.
إن الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة.
ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. انتهى.
وروى نحوه في|186، عن بشارة الإسلام.
ـ وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة|344
وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبى صلى الله عليه وآله: لعن الله من انتمى الى غير أبيه، أو توالى غير مواليه، فهي من أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين عليه السلام والأمر بولائه دون غيره، يريد بقوله: من تولى غير مواليه يعني نفسه صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام بعده، بدليل ماتقدم من الصحاح من غير طريق، في فصل مفرد مستوفى، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، ثم قال مؤكداً لذلك: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فمن كان النبى صلى الله عليه وآله مولاه فعلي مولاه، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً، بدليل ماتقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي صلّى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال له عمر: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة. وفي رواية: مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن.
وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى، ثم جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام بدليل قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون ...
وقوله صلى الله عليه وآله: من انتمى الى غير أبيه فالمراد به: من انتمى الى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الولاء، مأخوذٌ من قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فعلى عاق والديه لعنة الله. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(125)
كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث جزءٌ مما كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي صلى الله عليه وآله الذي ورَّثه لعلي عليه السلام .. فقد رواه البخاري في صحيحه: 4|67، ومسلم: 4|115، و 216، بعدة روايات، والترمذي: 3|297 .. ورواه غيرهم أيضاً، وأكثروا من روايته، لأن الراوي ادعى فيه على لسان علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله لم يورث أهل بيته شيئاً من العلم، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف!!
وقد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وآله أطلق هذه اللعنة في مناسبة رابعة، عندما كثر طلقاء قريش في المدينة، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقالوا: (إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا، أي مزبلة) فبلغ ذلك النبي فغضب، وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم!!
ـ فقد روى في بحار الأنوار: 38|204
عن أمالي المفيد، عن محمد بن عمر الجعابي، عن ابن عقدة، عن موسى بن يوسف القطان، عن محمد بن سليمان المقري، عن عبد الصمد بن علي النوفلي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة قال:
(يُتْبَعُ)
(/)
لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة، وجماعة معنا، فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال: يقول لكم أميرالمؤمنين: انصرفوا الى منازلكم، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت، وخرج الحسن وقال: ألم أقل لكم: انصرفوا؟ فقلت: لا والله ياابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: فبكيت، ودخل فلم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت.
--------------------------------------------------------------------------------
(126)
فقال لي: لا تبك يا أصبغ، فإنها والله الجنة.
فقلت له: جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير الى الجنة، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً، قال:
نعم يا أصبغ: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً فقال لي: ياعلي انطلق حتى تأتي مسجدي، ثم تصعد منبري، ثم تدعو الناس إليك، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاةً كثيرة، ثم تقول:
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى الى غير أبيه أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
فأتيت مسجده وصعدت منبره، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاةً كثيرةً، ثم قلت:
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي، على من انتمى الى غير أبيه، أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
قال: فلم يتكلم أحدٌ من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال: قد أبلغت يا أبا الحسن، ولكنك جئت بكلامٍ غير مفسر، فقلت: أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.
فرجعت الى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال: إرجع الى مسجدي حتى تصعد منبري، فاحمد الله وأثن عليه وصل علي، ثم قل:
أيها الناس، ما كنا لنجيئكم بشيء إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإني أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم. انتهى.
وقد وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً، فقد روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره|392 قال: حدثنا عبد السلام بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن
--------------------------------------------------------------------------------
(127)
أحمد قال: حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال: حدثنا الحكم بن سنان الباهلي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسين: أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث، واحتج به على الناس.
قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله كان نازلاً بالمدينة، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله فريضة يستعين بها على من أتاه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك.
قال: فأطرق النبي صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ، وإن أمرت به أعلمتكم.
قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يامحمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك، وقد أنزل الله عليهم فريضة: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.
قال فخرجوا وهم يقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء، وتخضع الرقاب مادامت السماوات والأرض لبني عبد الطلب.
قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله الى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل: أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى الى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال: فقام رجلٌ وقال: يا أبا الحسن ما لهن من تأويل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره، فقال رسول الله: ويلٌ لقريشٍ من تأويلهن، ثلاث مرات! ثم قال: يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين. انتهى.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(128)
--------------------------------------------------------------------------------
(129)
البحث الرابع حاجة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس
ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من المحدثين والمفسرين، خطأين أساسيين في تفسير آية التبليغ، فشوهوا بذلك معناها:
الخطأ الأول، في مفهوم تبليغ الأنبياء عليهم السلام ومنهم نبينا صلى الله عليه وآله.
والخطأ الثاني، محاولتهم إخفاء واقع قريش بعد الفتح، وإبعاد الآية عنها، وأن يصوروا للمسلمين أن قريشاً المشركة منجم الفراعنة وأتباعهم، قد تحولت بين عشية وضحاها، الى قبيلة مسلمةٍ مؤمنةٍ تقيةٍ، تقود الناس بالإسلام والهدى!
معنى التبليغ في القرآن
مفهوم التبليغ في القرآن مفهومٌ بسيط، فتبليغ الرسل يعني بيانهم الرسالة الإلهية للناس .. ثم الناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا، أو يتولوا، وحسابهم على الله تعالى، وليس على أنبيائه!
ومن هذا الأساس العميق تتفرع عدة مبادئ:
أولاً: أن النبي يحتاج الى ضمان حرية التعبير عن الرأي، لكي يتمكن من إيصال رسالة ربه الى العباد وإبلاغهم إياها. وقد كان ذلك مطلب الأنبياء عليهم السلام الأول من أممهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(130)
ثانياً: مهمة الأنبياء عليهم السلام هي التبليغ فقط (الإبلاغ) حتى أن الجهاد لم يكن مفروضاً على أحد من الأنبياء قبل ابراهيم عليهم السلام وقد فرضه الله تعالى عليه وعلى الأنبياء من ذريته (وكل الأنبياء والأوصياء بعده من ذريته) من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ، أو رد اعتداءات الكفار على الذين اختاروا الدين الإلهي وإقامة حياتهم على أساسه.
ثالثاً: لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة.
رابعاً: الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده، واضحة كاملة تامة .. حتى لا يقولوا يوم القيامة: لم يقل النبي لنا، لم يبلغنا ذلك، لم نعرف ذلك، وكنا عنه غافلين. فإقامة الحجة في الدين الإلهي محورٌ أصلي دائم في عمل الأنبياء عليهم السلام سواء على مستوى الكافرين، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم.
فالمهم عند النبي عليه السلام أن يوصل العقيدة والأحكام الى الناس .. أن يقول لهم، ويبين لهم، ويوضح لهم ويفهمهم .. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل .. وبذلك يؤدي ما عليه، ويسقط المسؤولية عن عاتقه.
أما استجابتهم أو تكذيبهم .. وأما عملهم وسلوكهم، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه، بل هو من اختصاص الله تعالى.
قال الله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين. الأنعام ـ 149
وأدلة هذه الحقائق التي ذكرناها كثيرة، من آيات القرآن وأحاديث السنة، نشير منها الى ماذكره الله تعالى من قول نوح عليه السلام: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون. الأعراف ـ 62
وقول شعيب عليه السلام: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. الأعراف ـ 93
--------------------------------------------------------------------------------
(131)
وقول هود عليه السلام: فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ. هود ـ 57
وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهم السلام:
فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. النحل ـ 35
قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. يس 16 ـ 17
(يُتْبَعُ)
(/)
ولايتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث، فهي أجزاء مشرقة من (نظرية متكاملة) نشير منها الى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال: هذا بلاغٌ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلَ~ه واحد وليذكر أولو الألباب. ابراهيم ـ 52
وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يَبْلُغها الإسلام:
قل أي شيء أكبر شهادةً؟ قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. الأنعام ـ 19
وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته، رغم مقاومة الناس واستهزائهم، فقال عز وجل: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا. الأحزاب ـ 39
كما وصف سبحانه عملية تلقي الوحي وتبليغه بأنه من الأعمال الدقيقة الخطيرة التي تحتاج الى شخصيات من نوع خاص، وحراسة ربانية خاصة لهم أيضاً، فقال:
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا. الجن 26 ـ 28
مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ
والذي يتصل بموضوعنا مباشرةً هو تبليغ نبينا محمد صلى الله عليه وآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. المائدة ـ 92
--------------------------------------------------------------------------------
(132)
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين. النور ـ 54
فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد. آل عمران ـ 20
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ. الشورى ـ 48
فقد أرسل الله نبينا صلى الله عليه وآله على أساس نظام الرسالة والتبليغ الإلهي، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام وهو قاعدة: إقامة الحجة وإتمامها على الناس، وعدم إجبارهم على العمل. وهذا هو معنى (فإنما عليك البلاغ) فقط، وفقط!
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم.
فالإجبار الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين، وليس على الدخول في الإسلام، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام .. وما عداه متروكٌ للأمة، داخل هذا الإطار، يطيع منها من يطيع، ويعصي من يعصي، ويهتدي منها من يهتدي، ويضل من يضل .. والمحاسب هو الله تعالى.
ومن الطبيعي إذن، أن تحتاج مهمة التبليغ الى حماية للنبي صلى الله عليه وآله حتى يؤديها وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم، سرعان ما يدبرون قتله، أو تشويه سمعته وعزله، وحجب الناس عن سماع صوته.
ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه عليهم السلام كثيرة ومتنوعة، وما خفي عنا منها أعظم مما عرفناه، أو ما يمكن أن يبلغه فهمنا .. لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك حمايتهم للأسباب (الطبيعية) مضافاً الى تلك الألطاف.
ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلى الله عليه وآله من الجرح والقتل، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها .. وقد تقدمت النصوص الدالة على استمرار حراسته صلى الله عليه وآله الى آخر حياته، ونضيف هنا ما رواه الجميع من أنه صلى الله عليه وآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه.
--------------------------------------------------------------------------------
(133)
ـ ففي سيرة ابن هشام: 2|23 عن ربيعة بن عباد، قال:
إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به. انتهى. ورواه الطبري في تاريخه: 2|83، وابن كثير في سيرته: 2|155
ـ وقال اليعقوبي في تاريخه: 2|35:
(يُتْبَعُ)
(/)
وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل، حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به! انتهى.
كذلك نصت المصادر على أنه صلى الله عليه وآله طلب البيعة من الانصار، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم .. ففي سيرة ابن هشام: 2|38: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا الى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
ـ ورواه في تاريخ الطبري: 2|92، وأسد الغابة: 1|174، وعيون الأثر: 1|217، وسيرة ابن كثير: 2|198، ورواه أحمد: 3|461، وقال عنه في مجمع الزوائد: 6|44: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن اسحق وقد صرح بالسماع. ورواه في كنز العمال: 1|328، و 8|29
**
--------------------------------------------------------------------------------
(134)
الى هنا يتسق الموضوع .. فقد طلب النبي صلى الله عليه وآله الحماية لتبليغ رسالة ربه على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء عليهم السلام وحصل عليها من الأنصار، ونصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج، وامتدت الى أطراف الشام، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين .. وها هو صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس!!
فما عدا مما بدا، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ، وصار النبي صلى الله عليه وآله الآن وهو قائد الدولة القوية، بحاجة الى حماية وعصمة من الناس!!
إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلى الله عليه وآله الى الحماية المادية، لأن الله تعالى أراد أن تجري بالأسباب الطبيعية، ووفرها على أحسن وجه .. فلا بد أن تكون العصمة في الآية من نوع الحماية المعنوية.
والباحث ملزمٌ ثانياً، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغُ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس .. وأن يفسر الناس الذين يثقل عليهم ذلك بالمنافقين من المسلمين، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية.
وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى، إلا العصمة من الطعن في نبوته، إذا بلغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلى الله عليه وآله.
فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها:
يأيها الرسول: إنما أنت رسول مبلغ، ولست مسؤولاً عن النتيجة وما يحدث، بل هو من اختصاص ربك تعالى.
بلغ ما أنزل اليك من ربك: وأمرك به جبرئيل في علي، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع، فشوش المنافقون عليك.
--------------------------------------------------------------------------------
(135)
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته: ولم تكمل إقامة الحجة لربك، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك، وإن ظنه المنافقون كذلك، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة، وإذا انتفى الجزء انتفى الكل.
والله يعصمك من الناس: من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ، وإن كان ثقيلاً عليها .. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه .. وسوف تمر المسألة بسلام ولا يكون تشويش عليك في التبليغ ولا ردة .. وبذلك تكون بلغت عن ربك، وأتممت له الحجة على أمتك .. ولكن علياً سوف يحتاج الى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله!
إن الله لا يهدي القوم الكافرين: الذين يظلمون عترتك من بعدك، ويظلمون الأمة بذلك، ويبدلون نعمة الله كفراً، ويحلون الأمة دار البوار!
**
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:01 ص]ـ
\
البحث الخامس
قريش هي السبب في حاجة نبينا صلى الله عليه وآله الى عصمة إضافية
(يُتْبَعُ)
(/)
تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي صلى الله عليه وآله لرسالة ربه في عترته عليهم السلام كان من شأنه أن يحدث زلزلة في الأمة وتهديداً لنبوته صلى الله عليه وآله!
فما هو السبب، وما هي الظروف التي كانت قائمة؟!
إن مصدر الخطر على ترتيب النبي صلى الله عليه وآله لأمر الخلافة من بعده، كان محصوراً في قريش وحدها .. فلا قبائل العرب غير قريش، ولا اليهود، ولا النصارى. . يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه!
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله كان آيساً من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع، بدليل أنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي!!
والسبب في ذلك طبيعة قريش وتركيبتها القبلية!
قريش منجم الفراعنة
زعماء قريش الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وآله ـ إذا صحت أنسابهم الى إسماعيل عليه السلام ـ فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة، وقد جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من أبناء عمهم إسحاق، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة!
--------------------------------------------------------------------------------
(138)
وقريش، باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم، منجماً للتكبر! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً، بالجمع لا بالمفرد، فقال تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولا. فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا. المزمل ـ 15 ـ 16
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر:
جزاكم الله من عصابة شراً! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً.
ثم التفت الى أبي جهل بن هشام، فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحِّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى!!
(حلية الأبرار: 1|127، أمالي الطوسي: 1|316، وعنه البحار: 19|272 ح 11 وكذا في مجمع الزوائد: 6|91).
ـ وروى ابن هشام في: 1|207 قول أبي جهل:
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه! انتهى. ورواه في عيون الأثر: 1|146، وابن كثير في سيرته: 1|506.
ـ وفي تفسير القمي: 1|276
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لقريش: إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك اليكم، فأجيبوني الى ما أدعوكم اليه تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فقال أبو جهل: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم، حسداً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، نحمل إذا حملوا، ونطعن إذا طعنوا، ونوقد إذا أوقدوا، فلما استوى بنا وبهم الركب، قال قائل منهم: منا نبي! لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم، ولا يكون في بني مخزوم!!
--------------------------------------------------------------------------------
(139)
ـ وقال الأبشيهي في المستطرف: 1|58
قال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم أمرأة! فقال: أجهلُ من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فاهدنا اليه.
ـ وقال البياضي في الصراط المستقيم: 3|49
قال معاوية: فضل الله قريشاً بثلاث: وأنذر عشيرتك الأقربين، ونحن الأقربون. وإنه لذكرٌ لك ولقومك، ونحن قومه. لإيلاف قريش، ونحن قريش.
فقال رجلٌ أنصاري: على رسلك يامعاوية، قال الله: وكذب به قومك، وأنت من قومه. إذا قومك عنه يصدون، وأنت من قومه. إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وأنت من قومه!! فهذه ثلاثٌ بثلاث، ولو زدتنا لزدناك!! فأفهمه. انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفرعون وقومه عندما أخذهم الله بالسنين، طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو لهم ربه .. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا ربه على قريش فأخذهم الله بالسنين، وأصيبوا بالفقر والقحط، حتى أكلوا العلهز. . وما استكانوا لربهم وما يتضرعون!!
ـ قال الحاكم في المستدرك: 2|394
عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، قد أكلنا العلهز! يعني الوبر والدم، فأنزل الله عز وجل: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.
ولكن أتباع الخلافة الأموية لا يعجبهم هذا الحديث، ولا يفسرون به الآية، ويقولون إن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا، ودعا لهم الرسول صلى الله عليه وآله!! فانظرالى ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية: 6|101.
--------------------------------------------------------------------------------
(140)
لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصدت كل شيء، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز. ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم!!. انتهى.
ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة أبي سفيان، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة، يعرف أن مجىَ أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي صلى الله عليه وآله على حالة قريش، وأرسل اليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال، لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله، فاغتنموا لفتة القلب النبوي الرحيم، وبعثوا أبا سفيان بمشروع (صلح) مع النبي صلى الله عليه وآله من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا، فرفضه النبي صلى الله عليه وآله وذهب أبو سفيان الى علي وفاطمة عليهما السلام يرجوهما التوسط الى النبي صلى الله عليه وآله فلم يقبلا، وعرض عليهم أن يكون هذا (الصلح) باسم الحسن والحسين عليهما السلام حتى يكون فخراً لهما في العرب، فقالا: إنا لا نجير أحداً على رسول الله صلى الله عليه وآله!!
ـ قال في معجم البلدان: 3|458
والعلهز: دم القراد والوبر، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب! وقال آخرون: العلهز دم يابس يدق مع أوبارالإبل في المجاعات. وأنشد بعضهم:
وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ * فأقبح بهذا ويحَ نفسك من فعلِ!
قبائل قريش
وكانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها:
بنو هاشم بن عبد مناف
بنو أمية بن عبد شمس
بنو عبد الدار بن قصي
بنو مخزوم بن يقظة بن مرة
بنو زهرة بن كلاب
بنو أسد بن عبد العزى
--------------------------------------------------------------------------------
(141)
بنو الحارث بن فهر بن مالك
بنو عامر بن لؤى
بنو سهم بن عمرو
بنو جمح بن عمرو
بنو أنمار بن بغيض
بنو تيم بن مرة بن كعب
بنو عدي بن كعب ... الخ.
ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير. . فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل (مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) فقال في 2|331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:
من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.
ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.
ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.
ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.
ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.
ومن بني جمح: أمية بن خلف.
ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:
إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.
--------------------------------------------------------------------------------
(142)
قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ... الخ.
ـ وقال في: 2|488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:
وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.
ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.
ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.
واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:
ـ قال البيهقي في سننه: 6|364:
عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي الله عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب ... فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.
ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.
ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين ... فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(143)
ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.
ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.
ثم دعا مخزوم يتلونهم.
ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.
ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.
ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟!
فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.
قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.
وشجر بين بني سهم وعدي شىَ في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.
**
وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم. . وأن جمهور القبائل والملوك كانوا
--------------------------------------------------------------------------------
(144)
يحترمونهم احتراماً خاصاً. . حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.
فقد رتب هاشم (رحلة الصيف) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.
وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.
وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!
ولكن بيت هاشم لم ينطفىَ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.
**
وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما السلام.
(يُتْبَعُ)
(/)
وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار ـ بسبب شحة الماء في مكة ـ ساقي الحرم والحجيح!
--------------------------------------------------------------------------------
(145)
ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.
ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.
وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!
ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه السلام، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة. . الخ.
وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.
وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!
وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى الله عليه وآله ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في
--------------------------------------------------------------------------------
(146)
فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى الله عليه وآله، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم (أحيمق مخزوم) كما سماه ابن أخيه محمد (أبا جهل)!!
ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله. . ففشلوا!
ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة. . وفشل زعماء قريش!
ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع. . فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!
وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى الله عليه وآله، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر. . فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!
وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود. . ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى الله عليه وآله وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!
فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق. . ففشلوا!
وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم. . ففشلوا!
وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى الله عليه وآله في السنة الثامنة من هجرته. . ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى الله عليه وآله!
--------------------------------------------------------------------------------
(147)
وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى الله عليه وآله والى جيشه. .
وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:
(يُتْبَعُ)
(/)
خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ * فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ
ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ * ويذهلُ الخليلَ عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله
فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل)! (البيهقي في سننه: 10|228، ونحوه الترمذي: 4|217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1|235)
فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم. . ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.
ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!
**
وأعلن الرسول صلى الله عليه وآله الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم. . وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله. .
--------------------------------------------------------------------------------
(148)
ـ قال الطبري في تاريخه: 2|337:
عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:
لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...
يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). . الآية.
يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟!
قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.
ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.
فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.
لقد خيرهم صلى الله عليه وآله بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!
ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!
**
ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة
--------------------------------------------------------------------------------
(149)
3|307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4|31 ـ 32، وعنه الطبري في التاريخ 3|120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4|300 ـ 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.
وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات. .
وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد. . أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى الله عليه وآله؟! فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم (الطلقاء) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.
ـ فقد روى البخارى في صحيحه: 5|105 ـ 106
قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا ...
ـ وفي مسلم: 3|106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!
ونحوه في: 5|196 ونحوه في مسند أحمد: 3|190 و 279
والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.
ـ وفي مسند أحمد: 4|363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4|80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10|15:
رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي الله عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.
--------------------------------------------------------------------------------
(150)
ـ وقال الشافعي في كتاب الأم: 7|382
قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.
قال أبو يوسف رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:
من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.
قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.
وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7|321، ومبسوط السرخسي: 10|39، ومسند أحمد: 3 | 279، وسنن البيهقي: 6|306، و: 8|266 و: 9|118، وكنز العمال: 12|86.
ـ وفي كنز العمال: 5|735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لايصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً ـ ابن سعد. انتهى.
وكذلك الأمر في مصادرنا:
ـ ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3|30 في جواب علي عليه السلام لمعاوية:
وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.
وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.
هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.
ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك
--------------------------------------------------------------------------------
(151)
القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر. . وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.
ـ وفي الكافي: 3|512
من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده ... وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر ... وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.
قريش بعد فتح مكة
ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟
من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم. . ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا .. فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.
أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!
من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى الله عليه وآله وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!
فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!
--------------------------------------------------------------------------------
(152)
(يُتْبَعُ)
(/)
لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده. .
لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى الله عليه وآله. . وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين. .!!
إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!
لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وآله ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عددجيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى الله عليه وآله الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!
وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون. . وكتب الله النصر.
وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى الله عليه وآله!
نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3|691:
كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
(153)
فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟
قلت: لبيك.
قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟
قال: فأقبلت إليه سريعاً.
فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!
قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.
قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.
وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة. . وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!
ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!
ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا. . فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى الله عليه وآله نواياهم!!
بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!
ـ ففي سيرة ابن هشام: 4|46
قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه
--------------------------------------------------------------------------------
(154)
وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل ـ قال ابن هشام كلدة بن الحنبل ـ وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!
قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:
(يُتْبَعُ)
(/)
فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شىَ حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.
وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها (دار) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى الله عليه وآله ليقتله!
إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى الله عليه وآله، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها. . وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:
إذا كان السيف فوق رؤوسهم!
أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!
لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى الله عليه وآله بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا. .
ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى الله عليه وآله حتى عجزوا. .
ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى الله عليه وآله ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا. .
ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى الله عليه وآله لأنه من قبائل قريش!!!
ـ قال في مناقب آل أبي طالب: 2|239
قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى الله عليه وآله لما نص على أمير المؤمنين
--------------------------------------------------------------------------------
(155)
بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب. . فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!
فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله: ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.
فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.
عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يارسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك. . الآية. انتهى. (والحديث الأول في تنزيه الأنبياء|167)
**
قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو
رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى الله عليه وآله أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم. . الخ.
لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان. .!!
وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا (أمجاد) حربه مع محمد صلى الله عليه وآله، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى الله عليه وآله فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!
--------------------------------------------------------------------------------
(156)
أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً. . فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط. .
وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى الله عليه وآله.
وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي (سيرة ابن هشام: 2|489)، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.
وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه .. ففي تاريخ الطبري: 2|82: أن النبي صلى الله عليه وآله قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.
وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.
وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.
وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.
وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى الله عليه وآله بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.
وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى الله عليه وآله في أحد والخندق وغيرهما.
--------------------------------------------------------------------------------
(157)
ـ قال في سير أعلام النبلاء: 1|194
يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم ... وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.
وكان سمحاً جواداً مفوهاً.
وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.
وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى الله عليه وآله في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة (رسول الله) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.
وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.
وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1|242: عن قتادة في قوله (وقاتلوا أئمة الكفر ... ) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.
وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى الله عليه وآله ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى الله عليه وآله يأبيان عليه ذلك!!
ولكنه قبل هدية النبي صلى الله عليه وآله في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى الله عليه وآله ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!
--------------------------------------------------------------------------------
(158)
إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله!! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!
**
وكان النبي صلى الله عليه وآله قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!
والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي. . وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى الله عليه وآله فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلَهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.
لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين (يعبدون) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!
فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!
(يُتْبَعُ)
(/)
وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى الله عليه وآله: أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!
(راجع سيرة ابن هشام: 4|1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد).
سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!
اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى الله عليه وآله محكوم بالفشل. .
--------------------------------------------------------------------------------
(159)
فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش. .
ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى الله عليه وآله يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي. . ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة. . وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم. . لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى الله عليه وآله. . فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد (اليهم) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى الله عليه وآله ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!
قال سهيل للنبي صلى الله عليه وآله نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!
وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!
ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف. . تريد من النبي صلى الله عليه وآله الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ودينه ودولته!!
ـ روى الترمذي في: 5|298
عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يارسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.
--------------------------------------------------------------------------------
(160)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يامعشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يارسول الله؟
فقال له أبو بكر: من هو يارسول الله؟
وقال عمر: من هو يارسول الله؟
قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.
ـ وروى أبو داود: 1|611
عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!
فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!
وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.
ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى الله عليه وآله بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!
ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!
--------------------------------------------------------------------------------
(161)
ولو كانت قبل فتح مكة وقبل (دخول) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين (سنفقههم) فهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الاسلام وفقه الإسلام!
كما أن بعض الروايات قد صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة!
ـ قال الحاكم في المستدرك: 2|138
عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة، أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا!
فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله!
فقال لعمر ما ترى؟ فقال مثل قول أبي بكر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يامعشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للايمان، فيضرب رقابكم على الدين!
فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟
قال: لا.
قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟
قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد، وقد كان ألقى نعله الى علي يخصفها .. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى نحوه في 4|298، وصححه على شرط مسلم وفيه (لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أتاه ناس من قريش ... يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين، ثم قال: أنا، أو خاصف النعل، قال علي: وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله) انتهى. ورواه في كنز العمال: 13|174، وقال: (ش وابن جرير، ك، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال).
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:03 ص]ـ
في هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة:
الأولى: أنهم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وآله الى المدينة .. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف، وعتق النبي صلى الله عليه وآله لرقابهم، وما فعلوه في حرب حنين .. جاؤوا الى (محمد) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي .. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة!!
صلى الله عليه وآله وقالوا له صلى الله عليه وآله (يا محمد) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم! وكما في سنن أبي داود: 1|611 ولكن رواية الترمذي جعلتها (يارسول الله)!
وقد مر مايدل على أن الحادثة كانت في المدينة ففي مسند أحمد: 3|82
عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، قال: فقمنا معه فانقطعت نعله، فتخلف عليها علي يخصفها، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمتَ ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله!! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: لا، ولكنه خاصف النعل! قال فجئنا نبشره قال: وكأنه قد سمعه. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 9|133 (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة). انتهى.
الثانية: أنهم اعتبروا أن فتح مكة (ودخولهم) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي صلى الله عليه وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية، بل هو تحالف مع النبي صلى الله عليه وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها، والى حد ما ضد الروم والفرس. فهو تحالف الند للند، وإن كان تم بفتح مكة بقوة السيف!!
وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف، فحاربوا معه صلى الله عليه وآله في حنين، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل! وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك: أن يعيد هؤلاء الفارين اليه من أبنائهم وعبيدهم! يعيدهم من دولته الى دولتهم!!
--------------------------------------------------------------------------------
(163)
الثالثة: أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله ـ ماعدا بني هاشم ـ وافقوهم على ذلك! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة!!
وتتفاوت الروايات هنا في التصريح في موافقة أبي بكر وعمر على مطلب قريش فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال (صدقوا يا رسول الله!) وقال عمر مثل قوله: صدقوا يارسول الله ردهم اليهم!!
وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش! كما في رواية الترمذي المتقدمة، وكما في مستدرك الحاكم: 3|122، وكما في مجمع الزوائد: 9|134 و: 5|186، وقال (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح).
وقد غير بعض الرواة القرشيين (الأذكياء) اسم الشيخين الى (ناس) رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وكذا في كنز العمال: 10|473 وقال الهندي عن مصادره: أبو داود وابن جرير وصححه، ق ض).
وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة! كما رأيت في سنن أبي داود، وكما في كنز العمال: 11|613، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد، وعن مصادر متعددة، وليس فيه ذكر لأبي بكر وعمر!
الرابعة: يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح؟!
ويتساءل: مادام النبي صلى الله عليه وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم وهددهم بالحرب ثانية، بل وعدهم بها .. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع؟!
على أي حال، إن أقل ما تدل عليه النصوص: أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم:
--------------------------------------------------------------------------------
(164)
رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله.
وسهيل بن عمرو العامري، زعيم المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأبو بكر التيمي وعمر العدوي، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش، ولكن لشخصيتيهما وزناً مهماً لصحبتهما للنبي صلى الله عليه وآله وقد أيدا مطلب سهيل!
ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر، ثم جاء وأبو بكر معهم الى النبي صلى الله عليه وآله لمساعدتهم على مطلبهم.
الخامسة: تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر:
الأول، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل.
الثاني، يأس النبي صلى الله عليه وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد بني عمها إسحاق وفرعنتهم، وتخضع للحق، إلا بقوة السيف!!
ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم: 2|125 (فقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا) أي على الإسلام! وكذا رواه أبو داود: 1|611، والبيهقي في سننه: 9|229، وكنز العمال: 10|473! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا، ولن يسلموا إلا تحت السيف!!
الثالث، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم، لأنهم ذاقوا منه الأمرين، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر!
ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين، بأنه أنا أو رجل مني (مجمع الزوائد: 9|133) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال (أنا أو خاصف النعل ـ كنز العمال: 7|326 وغرضه من التكنية ثم التسمية، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها!
--------------------------------------------------------------------------------
(165)
بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً الى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش!
وغرضه صلى الله عليه وآله من تعبير (مني) أن يبين مكانة علي عليه السلام، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده، وتموت منه غيضاً!!
فلو أنه صلى الله عليه وآله قال لهم: إن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن بعد ربع قرن، كما قاتلتها أنا على تنزيله بالأمس، لطمعت قريش وقالت: إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان، ولكل حادثٍ حديث!
بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح: أن علياً عليه السلام كان يعلن في زمان النبي صلى الله عليه وآله تهديده لقريش، ولكل من يفكر بالردة، بأنه سوف يقاتلهم الى آخر نفس، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة! قال في مجمع الزوائد: 9|134
وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لا والله .. إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني؟!
ـ وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى الله عليه وآله هدد قريشاً بعلي عليه السلام بعد فتح مكة مباشرةً، قال: وعن عبد الرحمن بن عوف قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف الى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها، ثم أوغل روحةً أو غدوةً، ثم نزل ثم هجَّرَ فقال:
يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتى خيراً، وإن موعدكم الحوض. والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة، أو لأبعثن اليهم رجلاً مني، أو لنفسي، فليضربن أعناق مقاتليهم، وليسبين ذراريهم.
قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر، وأخذ بيد علي فقال: هذا هو. رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر، وثقه ابن معين في رواية، وضعفه الجوزجاني، وبقية رجاله ثقات.
--------------------------------------------------------------------------------
(166)
(يُتْبَعُ)
(/)
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات ذلك. ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى الله عليه وآله (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش) وقوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين، مما يدل على أنهم ليسوا عليه. بل لا يسكتون عنه إلا تحت السيف!!
ولكن الفقهاء يريدون دليلاً أكثر لمساً، وقد أعطاهم إياه النبي صلى الله عليه وآله فأبى أن يرد عليهم عبيدهم المملوكين، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى!
فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين، وكانت ملكيتهم محترمة، فكيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكيتهم، وهو أتقى الأتقياء، وهو القائل: لايحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفسه .. والقائل: إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام .. الخ.
أثر هذه الحادثة على قريش
الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى الله عليه وآله باستقلالها السياسي، ولو بصيغة التحالف معه صلى الله عليه وآله، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته! فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة؟
الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية، والإسلام المفصل بمقصات رواتها .. يقولون: من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة، وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة!
ولكن النبي صلى الله عليه وآله قال (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش)!! وطبيعة قريش، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة!!
نعم .. لقد رأت قريش أن حديدة النبي صلى الله عليه وآله حامية، وأن التفكير بالإستقلال السياسي عنه صلى الله عليه وآله تفكيرٌ خاطىَ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها، ومعه الأوس والخزرج، الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش ..
--------------------------------------------------------------------------------
(167)
لقد تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد صلى الله عليه وآله، وتأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا اليه .. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب!
إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم، لكي ترث قريش كل دولة محمد! صلى الله عليه وآله
فمحمد من قريش، وقريش أولى بسلطان ابنها، ولا كلام للأنصار اليمانية، ولا لغيرهم من القبائل.
أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى الله عليه وآله العترة والقربى، وتنزل عليه فيهم آيات القرآن، ويصدر فيهم الأحاديث، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة .. فلا بد من معالجة أمرهم بأي طريقة ممكنة!
نعم .. هذا ما وصلت اليه قريش التي أعتقها النبي صلى الله عليه وآله من القتل والرق!
وهذا ماجازته به في حياته صلى الله عليه وآله!
وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه!!
الخليفة عمر يشهد بفساد قريش!
ـ قال الطبري في تاريخه: 3|426:
عن الحسن البصري قال: كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان، إلا بإذنٍ وأجل، فشكوه، فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً، ثم بازلاً، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان.
ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائمٌ دون شعب الحرة، آخذٌ بحلاقيم قريش
--------------------------------------------------------------------------------
(168)
وحجزها أن يتهافتوا في النار!! انتهى. ورواه في كنز العمال: 13|75، وفي تاريخ المدينة لابن شبة: 2|779، وفيه (ألا وإني آخذٌ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم). انتهى. ونحوه في: 2|401.
وهذا الموقف من الخليفة عمر يتضمن عدة أمور، نكتفي بالإشارة اليها:
(يُتْبَعُ)
(/)
فهو أولاً، كلام زعيمٍ لا يشك أحدٌ في ولائه لقريش، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى الله عليه وآله في مقابل الأنصار وبني هاشم، وخاض صراعاتٍ شديدة، حتى خلَّص الخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله وقدمها على طبقٍ الى قبائل قريش!
وهو ثانياً، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام!!
وإذا كان حال القرشيين المسلمين المهاجرين هذا، فما هو حال الطلقاء؟!
وهو ثالثاً، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدةٍ قليلة، وكأن الإسلام دورةٌ سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد اليها، ثم تنتهي!
وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة، ويهجرها أهلها وتخرب!!
ولعله اقتنع بهذا الرأي من كعب الأحبار .. وهو بحثٌ خارجٌ عن موضوعنا.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(169)
الفصل الثاني
آية الأمر بالتبليغ
نص الآية مع سياقها
* وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين.
* ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
* يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين.
* قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، فلا تأس على القوم الكافرين.
--------------------------------------------------------------------------------
(170)
* إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
* لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً، كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون. المائدة 64 ـ 70
مكان الآية في القرآن
إذا قلنا بحجية السياق القرآني، فلا بد أن نأخذ في تفسيرالآية أمرين:
الأول، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن.
والثاني، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب.
والنتيجة: أن الآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله: بلغ ولا تخف أهل الكتاب، فنحن متكفلون بعصمتك منهم، فلن يستطيعوا أن يضروك.
ولكن هذا التفسير لا يقبله علماء المسلمين، لا السنة منهم ولا الشيعة، لأنه صلى الله عليه وآله لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين اللذين عاشهما بعد الآية شيئاً إضافياً بارزاً ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال، وقد خضعوا لحكمه.
وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية، وهل أن هذا مكانها من الأصل؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة؟
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن .. والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم، أو من المصادفات.
أقوال العلماء السنيين
اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها، على أقوال عديدة، أهمها سبعة أقوال، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام، وستة مخالفة .. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها:
--------------------------------------------------------------------------------
(171)
القول الأول
أنها نزلت في أول البعثة، حيث خاف النبي صلى الله عليه وآله على نفسه فامتنع عن تبليغ الاسلام، أو تباطأ! فهدده الله تعالى وطمأنه .. فقام النبي صلى الله عليه وآله بالتبليغ!
وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة!
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة (يقال) مما يدل على أنه غير مطمئن اليه قال في كتاب الأم: 4|168:
قال الشافعي رحمه الله: ويقال والله تعالى أعلم: إن أول ما أنزل الله عليه: إقرأ باسم ربك الذى خلق، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين، فمرت لذلك مدة. ثم يقال: أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم الى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول، فنزل عليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما مر به، فاستهزأ به قوم فنزل عليه: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.
ويكفي للرد على هذا القول:
أولا، أن الآية في سورة المائدة، وقد عرفت أنها آخر مانزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل مانزل!!
وثانياً، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال، ولم ينسبه الى النبي صلى الله عليه وآله، بل لم يتبناه.
وثالثاً، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة السيئة للنبي صلى الله عليه وآله بأنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل، حتى جاءه التهديد الإلَهي بالعذاب، والتأمين من الأذى، فتحرك وبلغ!!
فهذا التصور لا يناسب شخصية المسلم العادي، فضلاً عن النبي المعصوم صلى الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعةً.
--------------------------------------------------------------------------------
(172)
كما تعارضه الآيات التي تصف حرصه صلى الله عليه وآله على تبليغ الرسالة، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه.
روايات (يقال) التي ذكرها الشافعي
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|298
أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لإبلغن أوليعذبني، فأنزل: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. (وكذا في أسباب النزول: 1|438)
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله: والله يعصمك من الناس، فاستلقى ثم قال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت: بلغ ما أنزل اليك من ربك، قال: يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس؟! فنزلت: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته!. انتهى.
ـ ورواه الواحدي في أسباب النزول: 1|139، والطبري في تفسيره: 6|198 ـ وقال النيسابوري في الوسيط: 2|208: وقال الأنباري: كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه والى أصحابه .. . انتهى.
ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً الى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلى الله عليه وآله، أنها روايات غير مسندة، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم، لا أكثر. وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، وخاف أن يرويها على حقيقتها!
روايات (يقال) تتحول الى رأي يتبناه العلماء!
مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر
--------------------------------------------------------------------------------
(173)
الأموي، أو روايات ضعيفة السند. لكن مع ذلك .. تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً 23 سنة! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي!
والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين:
(يُتْبَعُ)
(/)
إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلى الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس! وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لايؤيدها التاريخ، ولا يساعد عليها نص الآية، كما سترى.
ـ قال الزمخشري في الكشاف: 1|659
والله يعصمك: عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة، والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك .. .
فإن قلت: أين ضمان العصمة، وقد شُجَّ في وجهه يوم أحد؟! ... قلت المراد: أنه يعصمه من القتل!.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً، فأوحى الله الي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت. انتهى. ونحوه في الوسيط: 2|208
ـ وقال الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|48 ـ 50
يا أيها الرسول بلغ .. . روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني، واليهود والنصارى، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية، زال الخوف بالكلية .. ..
في قوله: والله يعصمك من الناس سؤال: وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه، وكسرت رباعيته.
والجواب من وجهين: أحدهما أن المراد يعصمه من القتل .. . وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(174)
ومما يلاحظ على الرازي أنه قد لم يراعِ الأمانة في النقل، فقد حشر في نقله عن الحسن البصري اليهود والنصارى، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى، ويبعدها عن قريش!! ولا نلومه على حبه لقريش ولجده أبي بكر بن أبي قحافة، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية! فقد تتبعت المصادر التي نقلته عن البصري فلم أجد ذكراً لليهود والنصارى! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير!!
وقد شت ابن كثير كثيراً، فزاد على الرازي وغيره، قال في البداية: 3|53:
روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً، وادع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل، فذكر القصة نحو ما تقدم، الى أن قال: وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال: أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لسن العباس.
ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك، قلت: أنا يا رسول الله! قال: أنت .. .
ومعنى قوله في هذالحديث: من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي، يعني إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة الى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. الآية.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده
--------------------------------------------------------------------------------
(175)
عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج .. . انتهى. وذكره بلفظه تقريباً في السيرة: 1|460
ويلاحظ أنه خلط في كلامه كثيراً، وتعصب أكثر ..
فقد بتر حديث (أنذر عشيرتك الأقربين) وحذف منه اختيار النبي صلى الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى، وأورد بدله حديثاً محرفاً، وفسر الحديث المحرف بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه، فقبل ذلك علي عليه السلام، ثم انتفت الحاجة الى ذلك بنزول الآية!!
(يُتْبَعُ)
(/)
لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط، ولم يكن مأموراً بعدُ بدعوة قريش وبقية الناس! فلا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى!
ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين، ولم أجد أحداً سبقه اليه، ولا ذكر من أين أخذه؟!
وكأن المهم عنده أن يحرِّف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حديث الدار ونصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده! ويبعد الآية عن سورة المائدة ويوم الغدير!!
وهذا قليلٌ من كثير من عمل ابن كثير، وإليك الحديث الذي بتره:
ـ قال الأميني في الغدير: 1|207:
وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي:
قال في تاريخه: 2|217 من الطبعة الأولى:
إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(176)
فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
ـ وقال الأميني: 2|279:
وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفرالاسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية، وقال: إنه روي في الخبر الصحيح.
ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء|46 ـ 48
وابن الأثير في الكامل 2|24
وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1|116
وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3|37 (وبتر آخره) وقال: ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.
والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره|390
والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6|392 نقلاً عن الطبري
وفي|397، عن الحفاظ الستة: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردوية، وأبي نعيم، والبيهقي.
وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3|254. انتهى.
ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش، ومنهم الطبري، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه، لكنه أبهم كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام، فقال: ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا. وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: 3|40، وفي تفسيره: 3|351. انتهى.
القول الثاني
أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد، فاستغنى بها النبي صلى الله عليه وآله عن حراسة عمه أبي طالب، أو عمه العباس!
--------------------------------------------------------------------------------
(177)
وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين، ورواياته نوعان: نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً، وأنه في مكة.
ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله لحراسته فحملناه عليه، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة، كما ستعرف.
فالنوع الأول: كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور: 2|298 ـ 299، قال:
أخرج ابن مردوية والضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟
فقال: كنت بمنى أيام الموسم، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. قال فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لا إلَه إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، وتنجوا، ولكم الجنة.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهى، ويقولون كذاب صابىَ، فعرض علي عارضٌ فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم، كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني الى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.
قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس .. ..
وأخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه، حتى نزلت والله يعصمك من الناس، فذهب ليبعث معه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي الى من تبعث!!
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردوية وابن عساكر عن
--------------------------------------------------------------------------------
(178)
ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه، فقال: ياعم إن الله عصمني لا حاجة الى من تبعث! انتهى. والرواية في معجم الطبراني الكبير: 11|205
ـ وفي مجمع الزوائد: 7|17:
قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، عن أبي سعيد الخدري قال: كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس. رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.
وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبوطالب كل يوم رجالاً من بني هاشم، حتى نزلت هذه الآية: ياأيها الرسول بلغ ماأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس.
رواه الطبراني وفيه النضربن عبد الرحمن وهو ضعيف.
والنوع الثاني: أصله ما رواه الترمذي في سننه: 4|317: عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس، حتى نزلت هذه الآية: والله يعصمك من الناس، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله. هذا حديث غريب.
وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، ولم يذكروا فيه عن عائشة. انتهى.
ـ ورواه الحاكم في المستدرك: 2|313 عن عائشة أيضاً وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.
والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى (فأخرج رأسه من القبة) أي من الخيمة التي كان فيها، وقال لحراسه انصرفوا.
--------------------------------------------------------------------------------
(179)
ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه: 9|8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال: قال الشافعي: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل اليك فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم فنزل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.
ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره: 2 جزء 4|160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردوية عن ابن عباس، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال: روى الترمذي وأبو الشيخ .... أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية .. .
وكذلك ذكر غيره، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة، فلعل كلمة في مكة حذفت من نسخة الترمذي الفعلية!
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور: 2|291 عن حديث عائشة:
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن مردوية، عن عائشة .. .
وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة، فجعلناه في القول الثالث.
قال في الدر المنثور: 2|298 ـ 299: وأخرج الطبراني وابن مردوية عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتى نزلت آية العصمة: والله يعصمك من الناس. انتهى.
وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة فقد ذكره الزمخشري في الكشاف: 1|659، وكأنه قبله، وكذلك فعل الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|50! مع أنهما
--------------------------------------------------------------------------------
(180)
قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله!
ـ وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف: 2|290، والقسطلاني في إرشاد الساري: 5|86، وابن العربي في شرح الترمذي: 6 جزء 11 |174، والعيني في عمدة القاري7 جزء 14|95، وابن جزي في التسهيل: 1 |244، والنويري في نهاية الإرب: 8 جزء 16|196، و 19 جزء 18|342، والنيسابوري في الوسيط: 2|209، والدميري في حياة الحيوان: 1|79 .. وغيرهم، وغيرهم.
ـ وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية: 3|327 وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال: حراسه صلى الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: والله يعصمك من الناس .. .. سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش. انتهى.
وبذلك ناقض صاحب الحلبية نفسه وجاء بدليل على ضد مراده، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر!
على أن الظاهر أنه لم يكن للمسلمين عريشٌ في بدر! وقد روى الحاكم رواية وصححها على شرط مسلم، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلى الله عليه وآله في بدر، وهو أمر معقول، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة. قال الحاكم: 2|326: عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال، قال: فينا يوم بدر نزلت، كان الناس على ثلاث منازل، ثلثٌ يقاتل العدو، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه .. .. فجعله الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقسمه على السواء. انتهى.
ويدل على بطلان هذا القول: أولاً، ما تقدم في القول الأول.
ثانياً: نفس روايات القول الثالث وغيره، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة، وليس في مكة.
--------------------------------------------------------------------------------
(181)
ثالثاً، أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة، ورواية حراسة العباس .. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضحٌ، وأنه صلى الله عليه وآله كان مستغنياً في مكة عن حراسة أبي طالب.
كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلى الله عليه وآله في مكة بدل أبي طالب، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس!
وقد كان دور العباس قبل الهجرة دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلى الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا، ولم يهاجروا معه الى المدينة مثل علي وحمزة.
ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر وأسلم عند فكاك الأسرى.
هذا مضافاً الى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية، وما تشاهده من ضعف متنها وركته.
ثالثاً: ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلى الله عليه وآله ونفي كل مايدل على إلغائها ومن ذلك رواية القبة، وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها الى عائشة.
القول الثالث
أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ! فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله للحراسة، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها، أن نزولها كان في المدينة.
ـ قال في الدر المنثور: 2|298 ـ 299:
وأخرج الطبراني وابن مردوية عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، حتى نزلت: والله يعصمك من الناس فترك الحرس.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: يا أيها الرسول
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(182)
الى قوله: والله يعصمك من الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إن ربي قد عصمني.
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، فخرج فقال: يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه، حتى أنزل الله: والله يعصمك من الناس، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس.
وأخرج عبد بن حميد وابن مردوية عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه، حتى نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك الآية .. . انتهى.
ـ ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة: 1|301، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي. ورواه الطبري في تفسيره: 6|199، عن عبد الله بن شقيق. وابن سعد في الطبقات: 1 جزء 1|113. والبيهقي في دلائل النبوة: 2|180.
ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة:
أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم .. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة، لما احتاج الى شيء من ذلك!
وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلى الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه، وبيعتهم على ذلك!
ثم .. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلى الله عليه وآله وأنها كانت في مكة والمدينة، خاصة في الحروب، الى آخر حياته صلى الله عليه وآله!
--------------------------------------------------------------------------------
(183)
ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ، لأنها تدعي إلغاءها في السلم والحرب والسفر والحضر!
وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وآله في بدر!
وقد روى أحمد: 2|222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف اليهم فقال لهم .. . الخ.
ورواه في كنز العمال: 12|430، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال عنه في مجمع الزوائد: 10|367: رواه أحمد ورجاله ثقات. انتهى.
وغزوة تبوك كانت في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وآله.
وفي الفصول التي عقدها المحدثون، وكتَّاب السيرة لحراسته صلى الله عليه وآله وقصصها، وحراسه وأسمائهم وقصصهم .. ما يكفي لرد هذه المقولة!
والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة، ثم يقول إنه صلى الله عليه وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة، أو بعد الهجرة! وكأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير!!
ـ قال صاحب عيون الأثر في: 2|402
حرسه يوم بدر حين نام في العريش: سعد بن معاذ، ويوم أحد: محمد بن مسلمة، ويوم الخندق: الزبير بن العوام. وحرسه ليلة بنى بصفية: أبو أيوب الأنصاري بخيبر، أو ببعض طريقها، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني. وحرسه بوادي القرى: بلال، وسعد بن أبي وقاص، وذكوان بن عبد قيس. وكان على حرسه عباد بن بشر، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس، ترك الحرس!!. انتهى.
وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى الله عليه وآله في تبوك، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته!
--------------------------------------------------------------------------------
(184)
قال في: 1|119: وفي حديث عمرو بن شعيب: فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى .. . والمراد والله أعلم: ينتظرون فراغه من الصلاة! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، فقد كان انقطع منذ نزلت: والله يعصمك من الناس، وذلك قبل تبوك. والله أعلم. انتهى.
ولكنه تفسير مخالفٌ لنص الرواية في الحراسة!
وعلى كل حال، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة!
والنتيجة أن دعوى إلغائه صلى الله عليه وآله للحراسة لا دليل عليها من سيرته صلى الله عليه وآله، بل الدليل على خلافها، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة، الى آخر عمره الشريف.
وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويقعون في التناقض مع الواقع!
القول الرابع
أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد.
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|291: وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.
فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أبي: أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه!
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:04 ص]ـ
قال: إذن أقبل، فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، الى أن بلغ الى قوله: والله يعصمك من الناس ... انتهى.
ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة، ويضاف اليه أن روايته من كلام عطية بن سعد ولم يسندها الى النبي صلى الله عليه وآله، والآيات المذكورة فيها هي الآيات 1 الى 67 من سورة المائدة، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة!
القول الخامس
أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلى الله عليه وآله، وقد تناقضت رواياتهم في ذلك، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع، وأن شخصاً جاء الى النبي صلى الله عليه وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله إياه بكل سهولة. .! أو كان علقه وغفل عنه، أو دلى رجليه في البئر الخ.
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|298 ـ 299
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه! فقال غورث بن الحرث: لأقتلن محمداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال أقول له أعطنى سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به!
فأتاه فقال: يامحمد أعطني سيفك أشِمْهُ، فأعطاه إياه فرعدت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حال الله بينك وبين ما تريد، فأنزل الله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، الآية.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه،
--------------------------------------------------------------------------------
(186)
قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله: والله يعصمك من الناس!
وأخرج ابن حبان وابن مردوية عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك، ضع عنك السيف فوضعه، فنزلت: والله يعصمك من الناس. انتهى.
وقال بعضهم: إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلى الله عليه وآله فقبضوا عليه: ففي الدر المنثور: 2| 299: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترع، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي. . انتهى.
**
ومما يدل على بطلان هذا القول وأن الآية لم تنزل في قصة غورث أو شبهها:
أولاً، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة (سيرة ابن هشام: 3|225) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ، وبعضها غير معقول!
ثانياً، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع، لم تذكر نزول آية العصمة فيها، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي صلى الله عليه وآله حتى في الصلاة، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها!
أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ... (سيرة ابن هشام: 3|227، تحقيق السقا) ولكن ذلك لا يصح، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً!
وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة!
--------------------------------------------------------------------------------
(187)
ـ قال في صحيحه: 5|53:
(يُتْبَعُ)
(/)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً! فقال لي من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هو ذا جالسٌ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أبى سلمة عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلقٌ بالشجرة، فاخترطه فقال له: تخافني؟ فقال لا. قال فمن يمنعك مني؟ قال الله. فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين.
وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحرث. انتهى.
ـ وروى الحاكم نحوه: 3|29، وذكر فيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة! وقال عن الحديث: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكذلك روى أحمد قصة غورث في: 3|364، و390، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية! وراجع أيضاً: 4|59، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد: 9 من|8، وفيها تفصيلاتٌ كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية!!
ـ وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث، قال في الكافي: 8|127:
أبان عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل
--------------------------------------------------------------------------------
(188)
من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف ثم قال: من ينجيك مني يامحمد؟ فقال: ربي وربك، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ السيف، وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد! فتركه، فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم. انتهى.
وهكذا لا تجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع، أو في قصة غورث، بل تلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة! فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول، أن النبي صلى الله عليه وآله لم يطمئن قلبه فأمر بتشديد الحراسة؟!
ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك، وأن الآية نزلت قبلها!!
فأجابه ابن حجر: لا، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس، أما قبلها فكان أحياناً يضغف إيمانه فيتخذ الحرس، وأحياناً يقوى فيلغيه، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك!!
ـ قال في فتح الباري: 8|2752
قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر.
ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدمت الإشارة الى مكان شرحه.
قال القرطبي: هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى: والله يعصمك من الناس.
--------------------------------------------------------------------------------
(189)
(يُتْبَعُ)
(/)
قلت: قد تقدم ذلك قبل أبواب، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، وذلك فيما أخرجه بن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها فنزل تحت شجرة، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: الله، فأنزل الله: والله يعصمك من الناس، وهذا إسناد حسن. فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال: كان مخيراً في اتخاذ الحرس، فتركه مرةً لقوة يقينه فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية، ترك ذلك. انتهى.
فاعجب لابن حجر الذي لم يلتفت الى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر، وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع، وأن مجىَ أبي هريرة الى المدينة سنة سبع، وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع، وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف!!
وما ذلك إلا لأن ذهنه مملوء بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة، لإبعادها عن الغدير!!
وأخيراً، فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلى الله عليه وآله في تبوك، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات، ونضيف اليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة، بنحو أربع سنوات، فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي صلى الله عليه وآله حينئذ! قال في صحيحه: 5|91: عن هشام عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان ما هذه، لكأنها نيران عرفة؟! فقال بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو! فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(190)
ونضيف الى ذلك أسطوانة الحراسة التي مازالت في المسجد النبوي الشريف، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام: 4 | 214، تحقيق السقا.
القول السادس
لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية، ولا ربطوها بالحراسة، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي صلى الله عليه وآله وجوب تبليغ الرسالة، وإلا فإنه لم يبلغها!
ـ ففي الدر المنثور: 2|299: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت فقال: والله لا يدع الله عقبي للناس ما صاحبتهم. انتهى.
وهذا القول يشبه القول الأول، ويرد عليه ما تقدم، وأن رواياته غير مسندة، وأنه لا ينطبق على معنى الآية، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها، كما ستعرف.
القول الموافق لرأي لأهل البيت عليهم السلام
ـ قال في الدر المنثور: 2|298: وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ـ أن علياً مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس! انتهى.
ـ المعيار والموازنة|213
وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا: أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ويخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه
--------------------------------------------------------------------------------
(191)
وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.
فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم. انتهى. وقال في هامشه:
(يُتْبَعُ)
(/)
وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم ...
أقول: ورواه أيضاً بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث 211 وتواليه من شواهدالتنزيل 1 | 157. ورواه أيضاً ابن عساكر في الحديث (585 ـ 586) من ترجمة أميرالمؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: 2|85 ط 1.
وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب، فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم ....
ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرناً بعد قرن مثل رسالة الحافظ ابن عقدة، وحديث الغدير للطبري المفسر والمورخ الشهير، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني، والذهبي، وعبيد الله الحسكاني، ومسعود السجستاني وغيرهم. وعليك بكتاب الغدير، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار، فإن فيهما ما تشتهيه الأنفس. انتهى.
ـ وفي تفسير الميزان: 6|54
وعن تفسير الثعلبي قال قال جعفر بن محمد: معنى قوله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، في فضل علي، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
--------------------------------------------------------------------------------
(192)
وعنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب، أمر الله النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
ـ وفي الغدير: 1|214
نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة ن سنة حجة الوداع (10هـ) لما بلغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله غدير خم، فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار فقال: يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ في علي ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، الآية. وكان أوائل القوم وهم مائة ألف أو يزيدون قريباً من الجحفة فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، وأن يقيم علياً عليه السلام علماً للناس، ويبلغهم ما أنزل الله فيه، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس.
وما ذكرناه من المتسالم عليه عند أصحابنا الإمامية، غير أنا نحتج في المقام بأحاديث أهل السنة في ذلك. انتهى.
وقد ذكر الأميني رحمه الله ثلاثين مؤلفاً من السنيين رووا أن الآية نزلت في ولاية علي عليه السلام نذكر عدداً منهم باختصار:
1 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310، أخرج بإسناده في كتاب (الولاية) في طرق حديث الغدير، عن زيد بن أرقم قال: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع، وكان في وقت الضحى وحر شديد، أمر بالدوحات فقمَّت، ونادى الصلاة جامعة، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال: إن الله تعالى أنزل إلي: بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ....
2 ـ الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي المتوفى 327.
--------------------------------------------------------------------------------
(193)
3 ـ الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفى 330، أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عباس ...
4 ـ الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي المتوفى 407، روى في كتابه ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين، بالإسناد عن ابن عباس ...
5 ـ الحافظ ابن مردويه المولود 323 والمتوفى 416، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب، وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنه قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ـ أن علياً مولى المؤمنين ...
(يُتْبَعُ)
(/)
6 ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427، روى في تفسيره الكشف والبيان. .
7 ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى 430، روى في تأليفه: ما نزل من القرآن في علي ....
8 ـ أبو الحسن الواحدي النيسابوريالمتوفى 468، روى في أسباب النزول|150 ....
9 ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477، في كتاب الولاية بإسناده من عدة طرق عن ابن عباس ....
10 ـ الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى في شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وجابر ....
11 ـ الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الشافعي المتوفى 571، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري ....
12 ـ أبوالفتح النطنزي أخرج في الخصائص العلوية، بإسناده عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق ...
13 ـ أبو عبد الله فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى 606، قال في تفسيره الكبير 3
--------------------------------------------------------------------------------
(194)
| 636: العاشر: نزلت الآية في فضل علي، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه ....
14 ـ أبو سالم النصيبي الشافعي المتوفى 652، في مطالب السؤول|16 ...
15 ـ الحافظ عز الدين الرسعني الموصلي الحنبلي المولود 589 ....
16 ـ شيخ الإسلام أبوإسحاق الحمويني المتوفى 722، أخرج في فرايد السمطين عن مشايخه الثلاثة: السيد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني، والشيخ الإمام مجد الدين عبدالله بن محمود الموصلي، وبدرالدين محمد بن محمد بن أسعد البخاري، بإسناد هم عن أبي هريرة: أن الآية نزلت في علي.
17 ـ السيد علي الهمداني المتوفى 786، قال في مودة القربي: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما كان بغدير خم نودي الصلاة جامعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وأخذ بيد علي، وقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
فقال: ألا من أنا مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئاً لك يا علي بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وفيه نزلت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. الآية.
18 ـ بدرالدين بن العيني الحنفي المولود 762 والمتوفى 855، ذكره في عمدة القاري في شرح صحيح البخارى 8|584 في قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل. عن الحافظ الواحدي ....
الوهابيون وحديث الغدير
من العجيب أن يبقى القول الموافق لأهل البيت عليهم السلام في سبب نزول آية التبليغ حياً في مصادر إخواننا السنيين، لأنه ينسف الأسس التي بذل القرشيون جهودهم ليقنعوا بها المسلمين في مسألة الإمامة والخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله!
--------------------------------------------------------------------------------
(195)
ولهذا السبب تجد النواصب يغيظهم وجود حديث الغدير، وحديث هذه الآية وأمثاله، ويودون لو أن شيئاً منها لم يكن موجوداً في الصحاح والمصادر. . وتراهم بدل أن يبحثوها بحثاً علمياً على ضوء القرآن والمتفق عليه من السنة. . يكيلون التهم والسباب للشيعة وعلمائهم لأنهم اطلعوا عليها، وأخرجوها لهم من مصادرهم!!
قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث االصحيحة 5|644:
عصمته في من الناس.
كان يحرس حتى نزلت هذه الآية: والله يعصك من الناس، فأخرج رسول الله في رأسه من القبة، فقال لهم: ياأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله).
أخرجه الترمذي: 2|175، وابن جرير: 6|199، والحاكم: 2|3، من طريق الحارث بن عبيد عن سعيد الجريري، عن عبد بن شقيق، عن عائثة قالت: فذكره.
وقال الترمذي: حديث غريب. وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي يحرس. . ولم يذكروا فيه: عن عائشة.
قلت: وهذا أصح، لأن الحارث بن عبيد ـ وهو أبو قدامة الأيادي ـ فيه ضعف من قبل حفظه، أشار إليه الحافظ بقوله: صدوق يخطىَ.
وقد خالفه بعض الذين أشار إليهم الترمذي، ومنهم إسماعيل ابن علية الثقة الحافظ، رواه ابن جرير بإسنادين عنه عن الجريري به مرسلاً.
قلت: فهو صحيح مرسلاً، وأما قول الحاكم عقب المسند عن عائشة: صحيح الإسناد فمردود، لما ذكرنا، وإن تابعه الذهبي.
(يُتْبَعُ)
(/)
نعم الحديث صحيح، فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دنا من النبي وهو نائم فأيقظه، فقال: يا محمد من يمنعك مني الليلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: الله. فأنزل الله: يا
--------------------------------------------------------------------------------
(196)
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تقعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. الآية. أخرجه ابن حبان في صحيحه 1739 موارد وابن مردويه كما في ابن كثير 6| 198، من طريقين عن حماد بن سلمة: حدثنا محمد بن عمروعن أبي سلمة عنه. قلت. وهذا إسناد حسن. وذكر له ابن كثير شاهداً ثانياً من حديث جابر رواه ابن أبي حاتم.
وله شاهدان آخران عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي مرسلاً.
واعلم أن الشيعة يزعمون ـ خلافاً للأحاديث المتقدمة ـ أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير خم في علي رضي الله عنه ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها، ومنها عن أبي سعيد الخدري ولايصح عنه كما حققته في الضعيفة (4922) والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في مراجعاته|38 دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في سرد أحاديث كتابه، لأن غايته حشد كل ما يشهد لمذهبه سواء صح أو لم يصح، على قاعدتهم: الغاية تبرر الوسيلة! فكن منه ومن رواياته على حذر، وليس هذا فقط، بل هو يدلس على القراء ـ إن لم أقل يكذب عليهم ـ فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج أبي سعيد هذا المنكر بل الباطل: أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام الواحدي. .!
ووجه كذبه: أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة، وإنما هو مفسر يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف! كما هو مبين في المكان المشار إليه من الضعيفة.
وهذه من عادة الشيعة قديماً وحديثاً، أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة عملاً في كتبهم وخطبهم، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية، كما صرح بذلك الخميني في كتابه كشف الأسرار، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب ولذلك قال أعرف الناس بهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الشيعة أكذب الطوائف وأنا
--------------------------------------------------------------------------------
(197)
شخصياً قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم، وبخاصة عبد الحسين هذا، والشاهد بين يديك فإنه فوق كذبته المذكورة أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته، وادعائه كثرة طرقه.
وقد كان أصرح منه في الكذب الخميني فإنه صرح في الكتاب المذكور|149 أن آية العصمة نزلت يوم غدير خم بشأن إمامة علي بن أبي طالب، باعتراف أهل السنة، واتفاق الشيعة. كذا قال عامله الله بما يستحق. وسأزيد هذا الأمر بياناً في الضعيفة، إن شاء الله تعالى. انتهى.
ونقول للباحث الألباني: أولاً: دع عنك التهم والشتائم وإصدار الأحكام، وتصنيف من هم أصدق الطوائف الإسلامية ومن هم أكذبها، فإن السنيين والشيعيين فيهم أنواع الناس. . ولكن النواصب لهم حكم خاص. .
ولا تنس أيها الباحث أن ابن تيمية الذي لم ينصف علي بن أبي طالب عليه السلام لا يمكنه أن ينصف شيعته. . وقد دافعتَ أنت عن علي عليه السلام ورددت ظلم ابن تيمية وإنكاره حديث الغدير (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) فصححت الحديث واعترفت مشكوراً بالحق، وكتبت صفحات في ذلك في أحاديثك الصحيحة 5|330 برقم 1750، ثم قلت في|344:
إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته: أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعَّف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها، ويدقق النظر فيها. والله المستعان.
(يُتْبَعُ)
(/)
أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله قال في علي رضي الله عنه: إنه خليفتي من بعدي، فلا يصح بوجه من الوجوه، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دل الواقع التاريخي على كذبها، لأنه لو فرض أن النبي قاله لوقع كما قال لأنه (وحي يوحى) والله سبحانه لا يخلف وعده!! انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(198)
ونلاحظ أن الشيخ الألباني تسرع أخيراً وجعل الإخبار التشريعي إخباراً غيبياً! وشتان ما بينهما. . فلو صح ذلك لانتقض حديثه الذي صححه وأحكمه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهو أيضاً (وحيٌ يوحى) فوجب على قوله أن يكون علي ولياً لكل المسلمين وسيداً لهم، وأن يكونوا معه كالعبيد كما كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله. . ولكن ذلك لم يتحقق، بل لقد هاجموا بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني لوفاة النبي صلى الله عليه وآله أو الثالث، وهددوا المعتصمين بإحراقه عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا. . ثم أجبروا علياً إجباراً على البيعة كما هو معروف. .
فقوله صلى الله عليه وآله: عليٌّ خليفتي من بعدي مثل قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، وإذا كان الأول إخباراً عما سيقع فكذلك الثاني، فكيف تحقق عكسه وصار معنى: من كنت سيده فعلي سيده، أنَّ الرعية أجبروا سيدهم على بيعتهم؟!
إن الإخبار في الحديثين تشريعي أيها المحدث، وبيانٌ لتكليف المسلمين وما يجب عليهم، وليس هو إخباراً غيبياً، حتى لا يصح وقوع غيره!
ونقول له ثانياً: عندما ضعَّفت حديث سبب نزول آية (والله يعصمك من الناس) هل جمعت طرقه ودققت النظر فيها فقلت (مراسيل ومعاضيل أكثرها)؟
هل رأيت طرق الثعلبي، وأبي نعيم، والواحدي، وأبي سعيد السجستاني، والحسكاني، وأسانيدهم؟ فوجدتها كلها مرسلةً أو ضعيفةً أو معضلةً، ووجدت في رواتها من لم تعتمد أنت عليهم! أم وقعت فيما وقع فيه ابن تيمية مما انتقدته عليه؟!
على أي حالٍ، لم يفت الوقت، فنرجو أن تتفضل بملاحظة ماكتبناه في تفسير الآية، وأن تدقق الطرق والأسانيد التي قدمناها، وتبحثها بموازينك التي تريدها، بشرط أن لا تناقض ماكتبته في كتبك، ولا تضعِّف راوياً هنا لأنه روى فضيلةً لعلي، وقد اعتمدت عليه وقبلت روايته في مكان آخر!
ونذكر فيما يلي أسانيد مصدرٍ واحد هو: كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني
--------------------------------------------------------------------------------
(199)
عبيد الله بن عبد الله بن أحمد العامري القرشي، تلميذ الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك. قال في كتابه المذكور، بتحقيق المحمودي: 1|250 ـ 257:
244 ـ أخبرنا أبو عبد الله الدينوري قراءة (قال:) حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق (بن ابراهيم) السني قال: أخبرني عبد الرحمان بن حمدان قال: حدثنا محمد بن عثمان العبسي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا علي بن عابس عن الاعمش عن أبي الجحاف (داود بن أبي عوف) عن عطية: عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).
245 ـ أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ جملة (قال: أخبرنا) علي بن عبد الرحمان بن عيسى الدهقان بالكوفة قال: حدثنا الحسين بن الحكم الحبري قال: حدثنا الحسن بن الحسين العرني قال: حدثنا حبان بن علي العنزي قال: حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل: يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك الآية (قال:) نزلت في علي أمر رسول الله صلى الله عليه أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
246 ـ رواه جماعة عن الحبري وأخرجه السبيعي في تفسيره عنه فكأني سمعته من السبيعي ورواه جماعة عن الكلبي.
وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب دعاء الهداة الى أداء حق الموالاة من تصنيفي في عشرة أجزاء.
(يُتْبَعُ)
(/)
247 ـ أخبرنا أبو بكر السكري قال: أخبرنا أبو عمرو المقري قال: أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثني أحمد بن أزهر قال: حدثنا عبد الرحمان بن عمرو بن جبلة قال: حدثنا عمر بن نعيم بن عمر بن قيس الماصر قال: سمعت جدي قال: حدثنا عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم وتلا هذه
--------------------------------------------------------------------------------
(200)
الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ثم رفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ثم قال: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال: اللهم اشهد.
248 ـ أخبرنا عمرو بن محمد بن أحمد العدل بقراءتي عليه من أصل سماع نسخته قال: أخبرنا زاهر بن أحمد قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا المغيرة بن محمد قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: حدثني أبي قال: سمعت زياد بن المنذر يقول: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الاعشى ـ كان يروي عن الحسن البصري ـ فقال له: يا ابن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك). فقال: لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف إن جبرئيل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم، فدلهم عليها. ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم، فدلهم عليها. ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم، فدلهم. ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على حجهم، ففعل. ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة في جميع ذاك. فقال رسول الله: يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية، وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليهم، وإني أخاف، فأنزل الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) يريد فما بلغتها تامة (والله يعصمك من الناس) فلما ضمن الله (له) بالعصمة وخوفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثم قال: يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه.
--------------------------------------------------------------------------------
(201)
قال زياد: فقال عثمان: ما انصرفت الى بلدي بشىَ أحب إلي من هذا الحديث.
249 ـ حدثني علي بن موسى بن إسحاق عن محمد بن مسعود بن محمد قال: حدثنا سهل بن بحر قال: حدثنا الفضل بن شاذان، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح: عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابا ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم.
250ـ حدثني محمد بن القاسم بن أحمد في تفسيره قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفقيه قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي عن أبيه عن خلف بن عمار الاسدي عن أبي الحسن العبدي عن الاعمش عن عباية بن ربعي: عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وساق) حديث المعراج الى أن قال: وإني لم أبعث نبياً إلا جعلت له وزيراً وإنك رسول الله، وإن علياً وزيرك. قال ابن عباس: فهبط رسول الله فكره أن يحدث الناس بشىَ منها إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية، حتى مضى (من) ذلك ستة أيام، فأنزل الله تعالى: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك، فاحتمل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالاً حتى يؤذن في الناس أن لا يبقى غداً أحداً إلا خرج الى غدير خم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس من الغد فقال: يا أيها الناس إن الله أرسلني
(يُتْبَعُ)
(/)
إليكم برسالة، وإني ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله علي بعد وعيد، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال: أيها الناس الله مولاي وأنا مولاكم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. وأنزل الله (اليوم أكملت لكم دينكم). انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(202)
رأي أهل البيت عليهم السلام في الآية
ـ في تفسير العياشي: 1|331
عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله أن ينصب علياً عليه السلام علماً للناس، ويخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله اليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. .
ـ وفي الكافي: 1|290:
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين جميعاً، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمساً، أخذوا أربعاً وتركوا واحدة، قلت: أتسميهن لي جعلت فداك؟
فقال: الصلاة، وكان الناس لا يدرون كيف يصلون، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم.
ثم نزلت الزكاة فقال: يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم.
ثم نزل الصوم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يوم عاشورا بعث الى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال.
ثم نزل الحج، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم.
ثم نزلت الولاية .... وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله: أمتي حديثو عهدٍ بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني، فأتتني عزيمة من الله عز وجل بتلة، أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني، فنزلت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي
--------------------------------------------------------------------------------
(203)
القوم الكافرين، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي عليه السلام فقال: أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أدعى فأجيب، وأنا مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك، فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين.
فقال: اللهم اشهد، ثلاث مرات.
ثم قال: يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي، فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
ـ وفي بحار الأنوار: 94|300
ومن الدعوات في يوم عيد الغدير ما ذكره محمد بن علي الطرازي في كتابه رويناه بإسنادنا الى عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدثنا هارون بن مسلم عن أبي الحسن الليثي، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال لمن حضره من مواليه وشيعته: أتعرفون يوماً شيد الله به الإسلام، وأظهر به منار الدين، وجعله عيداً لنا ولموالينا وشيعتنا؟
فقالوا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، أيوم الفطر هو يا سيدنا؟
قال: لا.
قالوا: أفيوم الأضحى هو؟ قال: لا، وهذان يومان جليلان شريفان، ويوم منار الدين أشرف منهما وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما انصرف من حجة الوداع، وصار بغدير خم، أمر الله عز وجل جبرئيل عليه السلام أن يهبط على النبي وقت قيام الظهر من ذلك اليوم، وأمره أن يقوم بولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأن ينصبه علماً للناس بعده، وأن يستخلفه في أمته، فهبط إليه وقال له: حبيبي محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: قم في هذا اليوم بولاية علي ليكون علماً لأمتك بعدك يرجعون إليه، ويكون لهم كأنت. فقال النبي صلى الله عليه وآله: حبيبي جبرئيل، إني أخاف تغير أصحابي لما قد وتروه، وأن يبدوا ما يضمرون فيه، فعرج وما لبث أن
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(204)
هبط بأمر الله فقال له: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ذَعِراً مرعوباً خائفاً من شدة الرمضاء وقدماه تشويان، وأمر بأن ينظف الموضع ويقمَّ ما تحت الدوح من الشوك وغيره ففعل ذلك، ثم نادى بالصلاة جامعة فاجتمع المسلمون، وفيمن اجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وسائر المهاجرين والأنصار، ثم قام خطيباً، وذكر الولاية فألزمها للناس جميعاً، فأعلمهم أمر الله بذلك.
ـ وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: 1|14
وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلى الله عليه أن رجلاً قال له: يابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري، وخشيت أن يكذبني الناس، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني.
قال له أبو جعفر: فهل حدثكم بالرسالة؟
قال: لا.
قال: أما والله إنه ليعلم ما هي، ولكنه كتمها متعمداً!
قال الرجل: يا بن رسول الله جعلني الله فداك وما هي؟
فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه صلى الله عليه وآله أن يبين لهم كيف يصلون.
فأخبرهم بكل ماافترض الله عليهم من الصلاة مفسراً ...
وأمر بالزكاة، فلم يدروا ما هي، ففسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته، وبينه لهم.
وفرض عليهم الصوم، فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون، ففسره لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وبين لهم ما يتقون في الصوم، وكيف يصومون.
وأمر بالحج فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم كيف يحجون، حتى أوضح لهم ذلك في سنته.
--------------------------------------------------------------------------------
(205)
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون، ففرض الله ولاية ولاة الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم ما الولاية، مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، فصدع بأمر الله وقام بولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم، ونادى لذلك الصلاة جامعة، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب.
وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا.
قال أبو جعفر: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض.
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: أوصي من آمن بالله وبي وصدقني: بولاية علي بن أبي طالب، فإن ولاءه ولائي، أمٌر أمرني به ربي، وعهدٌ عهده إليَّ، وأمرني أن أبلغكموه عنه.
ـ وروى الحديث الأول في شرح الأخبار: 1|101، ونحوه في: 2|276، وفيه:
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية، وأخاف عليهم أن يرتدوا، فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ في علي ـ فإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس.
فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله بداً من أن جمع الناس بغدير خم فقال: أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم؟
--------------------------------------------------------------------------------
(206)
(يُتْبَعُ)
(/)
قالوا: بلى، فأخذ بيد علي عليه السلام فأقامه ورفع يده بيده وقال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت وليه فهذا علي وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: فوجبت ولاية علي عليه السلام على كل مسلم ومسلمة. انتهى.
ورواه بنحوه في تفسير العياشي: 1|333، وفيه:
كنت عند أبي جعفر محمد بن على عليه السلام بالأبطح وهو يحدث الناس، فقام اليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى، كان يروي عن الحسن البصري .. الخ. وقد تقدمت بعض رواياته في آية إكمال الدين، وهي في مصادرنا كثيرة وصحيحة.
ملاحظات عامة حول الأقوال المخالفة
الملاحظة الأولى:
مع أن البخاري عقد للآية في صحيحه بابين: الأول في: 5|88، وروى فيه حديثاً عن عائشة في التبليغ وعدم الكتمان، والثاني في: 8|9، وروى فيه عن الزهري في التبليغ، كما روى حديثين تضمنا الآية في: 6|50، وفي: 8|210، وكذا مسلم: 1|110
. مع هذا فلم يرويا ولا روى غيرهما من أصحاب الصحاح شيئاً في تفسير الآية، ما عدا رواية الترمذي في الحراسة، والتي قال عنها إنها غريبة.
ونحن لا نرى أن عدم روايتهم لحديثٍ دليلاً ولا مؤشراً على ضعفه، فكم من حديثٍ هو أصح مما في الصحاح لم يرووه، وكم من حديثٍ روته الصحاح، وذكر له علماء الجرح والتعديل عللاً كثيرة.
لكنا نريد القول: إن أصحاب الصحاح حريصون على رد مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهم يعرفون أن آية التبليغ هذه يستدل بها أهل البيت وشيعتهم على مذهبهم، فلو كان عندهم روايةٌ قويةٌ في ردها لرووها وكرروها، حتى لا تبقى روايات الشيعة بلا معارض قوي.
--------------------------------------------------------------------------------
(207)
فمن ذلك نستكشف أن سبب تركهم روايتها ليس ضعف سندها، بل ما رأوه من ضعف متنها، وتعارض صيغها، وورود الإشكالات على كل واحدةٍ منها! فاضطروا الى عدم الرد على روايات الشيعة، وما وافقها من روايات السنة!!
الملاحظة الثانية:
أن روايات السنيين في تاريخ نزول الآية قد غطَّت الثلاث وعشرين سنة، التي هي كل مدة بعثة النبي صلى الله عليه وآله ما عدا حجة الوداع التي نزلت فيها سورة المائدة!
وهو أمر يوجب الشك في أن الغرض من سعة تلك الروايات واستثنائها تلك الفترة وحدها، هو التهرب من الفترة التاريخية التي نزلت فيها السورة!
الملاحظة الثالثة:
أن سبب نزول الآية في مصادرنا سببٌ واحد، بتاريخ واحد، على نحو الجزم واليقين. أما في مصادر إخواننا السنيين فأسبابٌ متعددة، بتواريخ متناقضة، وعلماؤهم منها في شكٍّ وحيرة. وفي رواياتهم ما يوافق قول أهل البيت عليهم السلام وإن لم يقبله خلفاء قريش!
وعندما نواجه من كتاب الله تعالى آيةً يتفق المسلمون على أنها نزلت مرة واحدة في تاريخ واحد، ونجد أنهم يروون تاريخاً متفقاً عليه، وفيهم أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله ويروي بعضهم أسباباً أخرى متعارضة مختلفاً فيها. . فإن السبب المجمع على روايته يكون أقوى وأحق بالإتباع والفتوى.
تقييم الأقوال المخالفة على ضوء الآية
في الآية خمس مسائل لا بد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها:
المسألة الأولى: في المأمور به في الآية:
لا يستقيم معنى الآية الشريفة إلا بحمل (أنزل) فيها على الماضي الحقيقي، لأنها قالت (بلغ ما أنزل اليك) ولم تقل: بلغ ما سوف ينزل اليك. . وبيان ذلك:
--------------------------------------------------------------------------------
(208)
أولاً، ظهور الفعل في الماضي الحقيقي، وعدم وجود قرينةٍ توجب حمله على ما سوف ينزله الله تعالى في المستقبل. بل لم أجد استعمال (أنزل) في القرآن لما سوف ينزل أبداً، على كثرة وروده في الآيات.
ثانياً، أن الآية نزلت في آخر شهور نبوته صلى الله عليه وآله، وإذا حملنا الفعل على المستقبل يكون معناها: إنك إن لم تبلغ ما سوف ننزله عليك في هذه الشهور الباقية من نبوتك، فإنك لم تبلغ رسالة ربك أبداً! وهو معنى لم تجىء به رواية، ولم يقل به أحدٌ من علماء الشيعة، ولا السنة!
وإذا تعين حمل لفظ (أنزل اليك) على الماضي الحقيقي، دلَّ على أن الله تعالى كان أنزل على رسوله أمراً ثقيلاً، وأمره بتبليغه فكان الرسول يفكر في ثقله على الناس، وفي كيفية تبليغه لهم، فجاءت الآية لتقول له: لا تتأخر في التنفيذ، ولا تفكر في موقف الناس، هل يؤمنون أو يكفرون. . ولكن نطمئنك بأنهم سوف لن يكفروا، وسنعصمك منهم. وهذا هو تفسير أهل البيت عليهم السلام وما وافقه من أحاديث السنيين.
المسألة الثانية: فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ:
وقد اتضح ذلك من المسألة الأولى، وأنه لا معنى لقولك: يا فلان بلغ رسائلي التي سوف أرسلها معك، فإنك إن لم تفعل لم تبلغ رسائلي! لأنه من المعلوم أنه إن لم يفعل، فلم يبلغ رسائلك، ويكون كلامك من نوع قول الشاعر:
وفسر الماء بعد الجهد بالماءِ!
نعم يصح أن تقول له عن رسالة معينة فعلية أو مستقبلية: إن هذه الرسالة مهمة وضرورية جداً، وإن لم تبلغها، فإنك لم تبلغ شيئاً من رسائلي!
ـ قال في تفسير الميزان: 6|49:
فالكلام موضوع في صوره التهديد وحقيقته بيان أهميه الحكم، وأنه بحيث لو لم يصل الى الناس ولم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين.
فقوله: وإن لم تفعل فما بلغت، جملة شرطية سيقت لبيان أهميه الشرط وجوداً
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:05 ص]ـ
وعدماً، لترتب الجزاء الأهم عليه وجوداً وعدماً، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا، فإنا نستعمل إن الشرطيه طبعاً فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، وحاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه، وأن لا يبلغ! انتهى.
المسألة الثالثة: في نوع تخوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ولا بد من القول بأن الخوف الذي كان عند النبي صلى الله عليه وآله كان خوفاً على الرسالة، وليس على شخصه من القتل أو الأذى، وذلك لعصمته وتقواه وشجاعته صلى الله عليه وآله.
فإن الله تعالى كان أخبر رسوله صلى الله عليه وآله من الأيام الأولى لبعثته، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة، وجسامة تبعاتها .. وكان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه على كل ذلك، فلا معنى لأن يقال بأنه تلكأ بعد ذلك أو تباطأ أو امتنع في أول البعثة، أو في وسطها أو في آخرها، حتى جاءه التهديد والتطمين!!
وقد تبين مما تقدم أن الخوف على الرسالة الذي كان يعيشه النبي صلى الله عليه وآله عند نزول الآية، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده.
المسألة الرابعة: في معنى الناس في الآية:
ـ قال الفخر الرازي في تفسيره: 6 جزء 12|50:
واعلم أن المراد من (الناس) ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الكافرين .. . لا يمكنهم مما يريدون. انتهى.
ولا يمكن قبول ذلك، لأن نص الآية العصمة من (الناس) وهو لفظ أعم من المسلمين والكفار، فلا وجه لحصره بالكفار ..
وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لا يهديهم الله تعالى، وأن المعنى: إن الله سيعصمك من الكفار ولا يهديهم. ولكنه تصورٌ خاطىَ، لأن ربْط عدم هدايته تعالى للكفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة .. فقد يكون المعنى: سيعصمك من كل الناس، ولا يهدي من يقصدك بأذى لأنه كافر. أو يكون المعنى: بلغ وسيعصمك الله
--------------------------------------------------------------------------------
(210)
من الناس، ومن أبى ما تبلغه فهو كافر، ولا يهديه الله تعالى. وقد ورد شبيه هذا المعنى في البخاري: 8|139 قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قالوا: يا رسول الله ومن يأبى! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى. انتهى.
فإبقاء لفظة (الناس) على إطلاقها وشمولها للجميع، يتناسب مع مصدر الأذى والخطر على النبي صلى الله عليه وآله الذي هو غير محصور بالكفار، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاً. بل عرفت أن الخطر كاد يكون عند نزول الآية محصوراً فيهم.
ولكن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن المنافقين، وإبعاد الأمر الإلَهي فيها عن تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام!
المسألة الخامسة: في معنى العصمة من الناس:
وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلَهية الموعودة في الآية، لابد أن تكون متناسبة مع الخوف منهم، ويكون معناها عصمته صلى الله عليه وآله من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابى أسرته واستخلف عترته، وقد كان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً صلى الله عليه وآله يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم، ويحرم قبائل قريش .. !!
وكأنه صلى الله عليه وآله هو الذي يملك النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه!!
فهذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول صلى الله عليه وآله وأنه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي عليه السلام.
فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذى، كما ادعت الأقوال المخالفة. ولذلك لم تتغير حراسته صلى الله عليه وآله بعد نزول الآية عما قبلها، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي كان يواجهها، بل زادت.
والقدر المتيقن من هذه العصمة حفظ نبوة النبي صلى الله عليه وآله في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره، وقرروا مخالفته. والغرض منها بقاء النبوة، وتمام الحجة لله تعالى.
وهي غير العصمة الإلَهية الأصلية للرسول صلى الله عليه وآله في أفعاله وأقواله وكل تصرفاته!
--------------------------------------------------------------------------------
(211)
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد وفى الله سبحانه لرسوله صلى الله علية وآله بما وعد، فقد أعلن صلى الله عليه وآله في يوم الغدير خلافة علي والعترة عليهم السلام ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنؤوه بالولاية الإلَهية عليهم .. ففعلوا! ولم يخدش أحد منهم في نبوة النبي صلى الله عليه وآله.
ولكنهم عندما توفي فعلوا مايريدون، وأقصوا علياً والعترة عليهم السلام! بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم على بيعة صاحبهم!!
مسألتان تتعلقان بآية العصمة من الناس
يوجد مسألتان ترتبطان بالآية الشريفة، نتعرض لهما باختصار:
المسألة الأولى: محاربة علي عليه السلام بآية تبليغ ولايته:
يشهد جميع المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ عن ربه كل ما أمره به، ونصح لأمته، وتحمل أكثر من جميع الأنبياء صلى الله عليه وآله.
لكنك تجد في مصادر السنيين تهمةً للشيعة بأنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله كتم أشياء ولم يبلغها الى الأمة، والعياذ بالله. ويستدلون لردهم بآية (بلغ ما أنزل اليك).
ـ قال القرطبي في تفسيره: 6|243
من قال إن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب الله تعالى يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه. انتهى.
ـ وقال القسطلاني في إرشاد الساري: 7|106
وقال الراغب فيما حكاه الطيبي: فإن قيل: كيف قال: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت!
قيل: معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل اليك، تكون في حكم من لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله، بخلاف ما قالت الشيعة إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية!. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(212)
والظاهر أن قصة هذه التهمة وبيت القصيد فيها هو حديث عائشة القائل: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كتم شيئاً من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية. وقد رووه عنها وأكثروا من روايته .. وقصدهم به الرد على علي عليه السلام وتكذيبه!
فقد كان علي عليه السلام يقول إنه وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وإن عنده غير القرآن حديث النبي صلى الله عليه وآله ومواريثه .. فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج اليه الناس حتى أرش الخدش.
وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته وإحراقه، وإجباره على بيعتهم، وأنه أمره في كل ذلك بأوامره ..
ونحن الشيعة نعتقد بكل ذلك، وتروي مصادرنا، بل ومصادر السنيين عن مقام علي عليه السلام وقربه من النبي صلى الله عليه وآله ومكانته عنده، وشهاداته صلى الله عليه وآله في حقه ما يوجب اليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً من الله تعالى أن يعد علياً إعدادا خاصاً، ويورثه علمه .. مضافاً الى ما أعطى الله علياً عليه السلام من صفات ومؤهلات وإلهام ..
ونعتقد بأن علياً عليه السلام طاهرٌ مطهر، صادقٌ مصدق، في كل ما يقوله ولو كان شهادةً لنفسه وعترته.
قال السيوطي في الدر المنثور: 6|260
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والواحدي، وابن مردوية، وابن عساكر، وابن النجاري، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك، ولا أقصيك، وأن أعلمك، وأن تعي وحقٌّ لك أن تعي. فنزلت هذه الآية: وتعيها أذن واعية. انتهى.
ثم ذكر السيوطي رواية أبي نعيم في الحلية وفيها: فأنت أذُنٌ واعيةٌ لعلمي. انتهى.
وإذا كان حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وآله وهو من أتباع علي عليه السلام، فإن علياً هو صاحب أسرار النبي صلى الله عليه وآله وعلومه.
وقد روى الجميع أنه صلى الله عليه وآله عهد اليه أن يقاتل على تأويل القرآن من بعده، وأخبره أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين!
--------------------------------------------------------------------------------
(213)
(يُتْبَعُ)
(/)
بل الظاهر أن وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي كان بعضها معروفاً في حياته، ومن ذلك وصيته له بأن يسجل مظلوميته ويقيم الحجة على القوم، ولا يقاتلهم من أجل الخلافة .. فلو لم يكونوا يعرفون ذلك، لما كانت عندهم جرأة أن يهاجموا علياً في بيته بعشرين مسلح أو خمسين، ويقتحموا داره، ثم يلقوا القبض عليه، ويجروه بحمائل سيفه الى البيعة!!
لقد كان علي عليه السلام معجزةً وأسطورةً في القوة والشجاعة، وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس .. وأكثر الذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب .. ولم يكن أحدٌ منهم ولا من غيرهم يجرأ أن يقف في وجه علي عليه السلام إذا جرد ذا الفقار!!
ولكنهم كانوا مطمئنين أن إطاعته للنبي صلى الله عليه وآله تغلب شجاعته وغيرته، وأنه سيعمل بالوصية، ولن يجرد ذا الفقار، حتى لو ضربت الزهراء عليها السلام وأسقط جنينها!!
والحاصل أن الخلافة القرشية قد ردت أقوال علي بأن عنده مواريث النبي صلى الله عليه وآله وعلمه، ونفت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله ورث عترته شيئاً لا علماً ولا أوقافاً ولا مالاً! وبذلك صادر أبو بكر مزرعة فدك، التي كان النبي صلى الله عليه وآله أعطاها الى فاطمة عليها السلام عندما نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقه)!
بل زادت السلطة على نفي كلام علي، وحاولت أن تستفيد من آية الأمر بالتبليغ التي هي موضوع بحثنا فقالت: من قال إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغه وحده أموراً وأحكاماً، ولم يبلغهاالى الأمة عامة، فقد اتهم النبي صلى الله عليه وآله بأنه قصر في تبليغ الأمة، وهو نوع من الكفر به صلى الله عليه وآله!! ومقولة عائشة المتقدمة هي مقولة السلطة في رد قول علي عليه السلام ..
ـ قال البخاري في صحيحه: 5|188:
باب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وآله كتم شيئاً مما أنزل عليه، فقد كذب، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. الآية. انتهى. ثم كرر البخاري ذلك في: 6|50 و8|210، ومسلم: 1|10، والترمذي: 4|328 .. . وغيرهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(214)
ولكن هذه العملية من السلطة تتضمن مغالطتين: في توسيع معنى المأمور بتبليغه وفي توسيع معنى المأمور بتبليغهم!
كما تتضمن تحريفاً لمقولة علي عليه السلام وشيعته!
فليس كل شيء قاله الله تعالى لرسوله أوجب عليه أن يبلغه .. فإن علوم النبي صلى الله عليه وآله وما أوحى الله اليه، وما ألهمه إياه، وما شاهده في إسرائه ومعراجه .. أوسع مما بلغه لعامة الناس، بأضعافٍ مضاعفة، ولا يمكن أن يوجب الله تعالى عليه تبليغها، لأن الناس لا يطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين!
ولا كل شيء أمره أن يبلغه، أمره أن الى كل الناس بدون استثناء .. فهناك أمورٌ عامةٌ لكل الناس، وقد بلغها لهم، وأمور خاصةٌ لأناسٍ خاصين مؤمنين أو كافرين، وقد بلغها لأصحابها، مثل قوله تعالى (قل لهم في أنفسهم قولاً بليغا) .. الخ.
ولم يقل عليٌّ عليه السلام ولا أحدٌ من شيعته إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبلغ، بل قالوا إنه كلم الناس على قدر عقولهم، وعلى قدر تحملهم وتقبلهم، وأنه لذلك بلغ علياً عليه السلام أكثر من غيره واستودعه علومه، كما أمره الله تعالى ..
وليس في هذا تهمة بعدم التبليغ، كما زعم القرطبي والقسطلاني. بل هي قولٌ بتبليغ إضافي خاصٍ بعلي والزهراء والحسنين عليهم السلام!
بل إن علياً وشيعته قالوا إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغ الأمة أموراً كثيرة، تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا .. فتبليغه عندهم أوسع مما يقول به القرشيون.
ولكن القرشيين يظلمون علياً عليه السلام ويفترون عليه، ويتغاضون عن تصريح عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا! كما تقدم في آية إكمال الدين!!
والنتيجة أن الأمر بالتبليغ وامتثاله، لا يتنافى مع تخصيص النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام بعلومٍ عن غيره، لأن ذلك مما أمره بتبليغه له.
كما لا يتنافى مع التقية التي قد يستعملها النبي صلى الله عليه وآله مع قريش أو غيرها، لأنه مأمورٌ بالعمل بالحكمة لأهداف الإسلام، وبالتقية ومداراة الناس ..
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(215)
ـ ففي الكافي: 2|117، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض.
ـ وفي مجمع الزوائد 8|17
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد الى الناس.
وعن بريدة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربه، فلما قام قال: يا بريدة أتعرف هذا؟
قلت: نعم، هذا أوسط قريش حسباً، وأكثرهم مالاً، ثلاثاً.
فقلت يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه، فأنت أعلم.
فقال: هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً.
وقد عقد البخاري في صحيحه أكثر من باب لمدارة الناس، قال في: 7|102
باب المداراة مع الناس. ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم .. . عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت يارسول الله: قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول؟! فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس، اتقاء فحشه. انتهى.
ـ وفي وسيط النيسابوري 2|208
وقال الأنباري: كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه اشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه، والى أصحابه .. . انتهى.
المسألة الثانية: الرد بالآية على من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد سُحِر:
فقد استدل عددٌ من علماء الفريقين بالآية على كذب الروايات التي تزعم أن يهودياً قد سحر النبي صلى الله عليه وآله فأخذ مشطه صلى الله عليه وآله وبعض شعره، وجعل فيه سحراً ودفنه
--------------------------------------------------------------------------------
(216)
في بئر .. وزعموا أن ذلك السحر أثَّر في النبي صلى الله عليه وآله فصار يتخيل أنه فعل الأمر ولم يفعله!! وأنه بقي مدةً على تلك الحالة رجلاً مسحوراً! حتى دله رجل أو ملك أو جبرئيل، على الذي سحره وعلى البئر التي أودع المشط والمشاطة، فذهب النبي صلى الله عليه وآله الى البئر، ولكنه لم يستخرج المشط منها، لأنه كان شفي من السحر، ولم يرد أن يثير فتنة، فأمر بدفن البئر!!
فقد روى البخاري هذه التهمة عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه، ففي: 4|91:
عن عائشة قالت: سُحِرَ النبى صلى الله عليه وسلم، وقال الليث كتب الى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل اليه أنه يفعل الشىَ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر:
ما وجع الرجل؟
قال: مطبوب!
قال: ومن طَبَّهُ؟
قال: لبيد بن الأعصم؟
قال: في ماذا؟
قال: في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر!
قال: فأين هو؟
قال: في بئر ذروان!
فخرج اليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها روس الشياطين!
فقلت: استخرجته؟
فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً، ثم
--------------------------------------------------------------------------------
(217)
دفنت البئر!! انتهى. ورواه في: 4|68، و: 4|28 ـ 29 و164، ورواه مسلم في: 7|14، وغيره .. وغيره.
وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً، وقد تجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها! ومما استدلوا به آية (والله يعصمك من الناس).
ـ قال الطوسي في تفسير التبيان: 1|384
(يُتْبَعُ)
(/)
ماروي من أن النبي صلى الله عليه وآله سحر ـ وكان يرى أنه يفعل مالم يفعله ـ فأخبار آحادٍ لايلتفت اليها، وحاشا النبي صلى الله عليه وآله من كل صفة نقصٍ، إذ تنفر من قبول قوله، لأنه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علمٍ منه، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة، ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى: والله يعصمك من الناس، وقد أكذب الله من قال: إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً فقال: وقال الظالمون إن يتبعون إلا رجلاً مسحورا. فنعوذ بالله من الخذلان.
ـ وقال ابن إدريس العجلي في السرائر: 3|534
والرسول عليه السلام ما سُحِر عندنا بلا خلاف، لقوله تعالى: والله يعصمك من الناس. وعند بعض المخالفين أنه سُحر، وذلك بخلاف التنزيل المجيد!
ـ وقال المجلسي في بحار الأنوار: 60|38
ومنها سورة الفلق، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرض ثلاث ليال.
ومنها ما روي أن جارية سحرت عايشة، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده!
فإن قيل: لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين، ولحصلوا لأنفسهم (على) الملك العظيم، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الله: والله يعصمك من الناس، ولا يفلح الساحر حيث أتى! وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله بأنه مسحور، مع القطع بأنهم كاذبون. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(218)
وممن رد هذه التهمة من السنيين: النووي في المجموع: 19|243، قال:
قلت: وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وآله .. . تنبيه: قال الشهاب بعد نقل في التأويلات: عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه.
ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس، وقال: ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولأن تجويزه يفضي الى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا الى ضرر جميع الأنبياء والصالحين. انتهى.
ـ والرازي في تفسيره: 16 جزء 32|187 قال: قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبى صلى الله عليه وآله فى إحدى عشرة عقدة .. . فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم. وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس .. . قال الأصحاب: هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل .. . الخ. انتهى.
ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم!!
وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده .. وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة، في التوحيد والنبوة والشفاعة .. ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية .. ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وآله التي رواها البخاري عن عائشة!
وقد تحيروا فيها كما رأيت، ولم يجرأ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة، أو من خيالات النساء ..
--------------------------------------------------------------------------------
(219)
والرد الصحيح أن تهمة السحر تتنافى مع أصل النبوة، وأنها تهمة الكفار التي برأ الله نبيه صلى الله عليه وآله، منها بنص القرآن، كما تقدم.
أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.
وأما على تفسيرنا للآية، فقد عرفت أن القدر المتيقن من العصمة فيها عصمته صلى الله عليه وآله من ارتداد قريش والمسلمين في حياته، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده .. فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من الكلام في هذا الموضوع، وتجشموا احتمالات كثيرة .. كل ذلك بسبب تفسيرهم الخاطىَ للآية وتصورهم أنها تفيد عصمته صلى الله عليه وآله من القتل والسم والجرح والأذى.
ومن ذلك أنهم تصوروا أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته صلى الله عليه وآله استند الى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها اليه اليهودية، ثم أتاه جبريل عليه السلام فأخبره فامتنع عن الأكل، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه ..
ـ قال في هامش الشفا 1|317:
فإن قيل: ما الجمع بين قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة، لأن موته عليه السلام بالسم الصادر من اليهودية؟
والجواب: أن الآية نزلت عام تبوك، والسم كان بخيبر قبل ذلك.
**
ومن ذلك ما تحيروا فيه من أن النبي صلى الله عليه وآله قد تمنى القتل في سبيل الله تعالى، مع أنه الآية تدل على عصمته من القتل، فهل يجوز أن يتمنى النبي شيئاً وهو يعلم أنه لا يكون؟! قال في فتح الباري في شرح البخاري: 8|2644: عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول .. والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ....
--------------------------------------------------------------------------------
(220)
استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب بن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة.
والذي يظهر في الجواب: أن تمنى الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: وددت لو أن موسى صبر، كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال بن التين: وهذا أشبه.
وحكى شيخنا بن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله (ولوددت) مدرج من كلام أبي هريرة، قال: وهو بعيد. ونحوه في عمدة القاري: 7 جزء 14|95
. ونقول: لو ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وآله لكان تمنياً حقيقياً، لأن الآية إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته صلى الله عليه وآله، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(221)
الفصل الثالث
قصة الغدير
قريش في حجة الوداع
رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي صلى الله عليه وآله في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته عليهم السلام فبشر الأمة بالائمة الإثني عشر منهم .. وبلغها أن الله تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن، فسماهم مع القرآن (الثقلين)، وأنه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي: الخمس .. الخ.
لقد كانت خطبه صلى الله عليه وآله في الحج، وما رافقها من أعماله وأقواله، في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم، و (حرمان) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء لبني هاشم!!
ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع.
ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك .. فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن
--------------------------------------------------------------------------------
(222)
قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي صلى الله عليه وآله؟! وأن سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبا الأعور السلمي .. . وغيرهم، وغيرهم .. كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم، وأنهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين، من غير بني هاشم لمعالجة هذا الإتجاه النبوي الخطير؟!!
(يُتْبَعُ)
(/)
أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع، وأن نشاطهم زاد في منى في أيام التشريق، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا (الصحيفة الملعونة) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة!
وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفيةً من منى الى مكة، ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة!
فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم، ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى .. بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي صلى الله عليه وآله، باسم الإسلام!!
وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وآله على هذه الصحيفة، فأخبر أصحابها بفعلتهم، فارتعدت فرائصهم!
ولكنه صلى الله عليه وآله اكتفى بإتمام الحجة عليهم، وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الأنبياء عليهم السلام وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده!
وإذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى الله عليه وآله في عرفات، عندما وصل الى نسب الأئمة الإثني عشر من بعده ـ إذا كان ذلك واحداً من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم ـ فلا بد أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أنبهم عليه أيضاً، وعرفهم أنه مطلعٌ عليه جيداً!!
--------------------------------------------------------------------------------
(223)
نتائج حجة الوداع
على أي حال، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً، فقد تحدث النبي صلى الله عليه وآله كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة، وعن اختيار الله تعالى لهم، وللأئمة منهم، وعن تحريم الصدقات عليهم، وفرض الخمس لهم .. ولكنه لم يتخذ إجراءً عملياً والحمد لله، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير العترة، بصفته الإمام الأول من العترة!
أما النبي صلى الله عليه وآله فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك .. فقد وصل الأمر عندها الى آخر حدود الصبر، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم، شبيهاً بملك كسرى وقيصر!!
وبذلك تستطيع قريش أن تقود حركة ردة في العرب، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وآله، ملك يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة الى يوم القيامة!
وقد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات، على ألسنة زعماء قريش! وكأن الملك ملك محمد صلى الله عليه وآله وكأنه هو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته عليهم السلام!!
الوحي يضغط على النبي صلى الله عليه وآله من السماء وقريش من الأرض
كان جبرئيل عليه السلام في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي صلى الله عليه وآله بأوامر ربه، وقد يكون رافقه طوال موسم الحج، وأملى عليه عبارات خطبه .. .
وكان مما قال له في المدينة:
يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك، وإني مستقدمك عليَّ، ويأمرك أن تدل أمتك على حجهم، كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(224)
وحج النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين، وعلمهم حجهم، وواصل تركيز مبادىَ الإسلام في نفوسهم، ومكانة الأئمة من عترته، كما مر في حديث الأئمة الإثني عشر، وحديث الثقلين، وحديث فرض الخمس لهم، وتحريم الصدقات عليهم .. الخ.
وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل عليه السلام أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم، فاعهد عهدك، واعمد الى ماعندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه، وأقمه للناس علماً، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي .. .
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يفكر في طريقة الإعلان، نظراً الى وضع قريش المتشنج، وقال في نفسه: أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل، ويقول قائل! لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الإلَهي الجديد في عترته، بعد رجوعه الى المدينة، بالتمهيد المناسب، وبمعونة الأنصار ..
الوحي يوقف القافلة النبوية
(يُتْبَعُ)
(/)
ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، كما أمره ربه تعالى.
لكن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل الى كراع الغميم، وهو كما في مراصد الإطلاع: موضع بين مكة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال .. جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار، وقال له: يامحمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين).
فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه، وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلَهي المشدد، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي .. !
--------------------------------------------------------------------------------
(225)
قال صلى الله عليه وآله للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي .. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين اليه، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون اليه ..
ونزل صلى الله عليه وآله عن ناقته، وكان جبرئيل الى جانبه، ينظر اليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ .. ووعدٌ ووعيدٌ .. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة!
وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي صلى الله عليه وآله فإذا على يمينه دوحة أشجار، فودع جبرئيل ومال اليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.
قال بعض المسلمين: فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله .. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.
ونادى منادي النبي صلى الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها (صلاة) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر.
إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون، وقال فيهم قائلون .. فقد شدد عليه ربه في ذلك: وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه .. وأنك إن كنت تخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم، فاصدع بما تؤمر!!
ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلك الهجير، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر، ليشرف على الناس ..
ورتب المسلمون المكان والمنبر، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً، وحسناً ..
--------------------------------------------------------------------------------
(226)
وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه، واستقوا، وتوضؤوا .. وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة، فجلس كثير منهم في الشمس، أو استظل بظل ناقته ..
عرف الجميع أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب .. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط!
كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى .. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها ..
والذين هم مع الرسول صلى الله عليه وآله عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً .. نحو عشرة آلاف .. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير:
العجب مما لقي علي بن أبي طالب! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين!! الوسائل: 18|174
.
**
(يُتْبَعُ)
(/)
لم يدم طويلاً تطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي صلى الله عليه وآله وما سيقوله .. فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالى، وأخذ يرتل قصيدةً نبويةً في حمد الله تعالى، والثناء عليه .. ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه.
ثم قدم لهم عذره، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر .. ولا انتظر بهم وقت الصلاة، بل ناداهم قبل وقتها، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة ..
--------------------------------------------------------------------------------
(227)
وأخبرهم أنه نزل عليه جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف، وأمره أن يقيم علياً للناس .. ثم قال لهم: إن الله عز وجل بعثني برسالةٍ فضقت بها ذرعاً، وخفت الناس أن يكذبوني، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني: أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي، يقول قائل، ويقول قائل! فأتتني عزيمة من الله بتلة (قاطعة) في هذا المكان، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني.
وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس، وهو الكافي الكريم، فأوحى إلي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين.
ثم قال صلى الله عليه وآله: لا إلَه إلا هو، لا يؤمن مكره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحى إلي، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لا يدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.
أيها الناس: إني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟
فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.
فقال: أليس تشهدون أن لا إلَه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق؟
قالوا: يا رسول الله بلى.
فأومأ رسول الله الى صدره وقال: وأنا معكم.
ثم قال رسول الله: أنا لكم فرط، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته مابين صنعاء الى بصرى، فيه عدد الكواكب قدحان، ماؤه أشد بياضاً من الفضة .. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فقام رجل فقال: يارسول الله وما الثقلان؟
قال: الأكبر: كتاب الله، طرفه بيد الله، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.
--------------------------------------------------------------------------------
(228)
والأصغر: عترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
أيها الناس: ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأني أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: قم يا علي. فقام علي، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، وقال:
من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.
فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير.
فقام أحدهم فسأله وقال: يارسول الله ولاؤه كماذا؟
فقال صلى الله عليه وآله: ولاؤه كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه!
وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا عليَّ حوضي
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه .. فشهدوا له ..
وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب .. فوعدوه وقالوا: نعم ..
وقام اليه آخرون فسألوه .. . فأجابهم ..
**
--------------------------------------------------------------------------------
(229)
(يُتْبَعُ)
(/)
وما أن أتم خطبته، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ألله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بعدي .. .
ونزل عن المنبر، وأمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم .. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته، فجئن الى باب خيمته وهنأنه!
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!
وجاء حسان بن ثابت، وقال: إئذن لي يارسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فأنشد حسان:
يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديءا
بقول فمن مولاكمُ ووليُّكُمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلَهك مولانا وأنت ولينا * ولم ترَ منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليُّ فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياً معاديا
أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل: كمال الدين وتمام النعمة للصدوق|276، والإحتجاج للطبرسي: 1|70، وروضة الواعظين للنيسابوري|89، والمسترشد|117، وغيرها.
وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني.
ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه: 7|122 قال:
عن يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، الى زيد بن أرقم، فلما جلسنا اليه قال له حصين:
--------------------------------------------------------------------------------
(230)
لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً.
حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين:
أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:
وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟
قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال: ومن هم؟
قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
قال: كل هؤلاء حرم الصدقة
قال: نعم. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2|366، وغيره .. وغيره.
ـ وقال الحاكم في المستدرك 3|148
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض.
هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(231)
وقد رأيت أن مسلماً رواه، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلى الله عليه وآله الى يوم القيامة.
ـ وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته: 5|408، قال:
لما تفرغ النبي من بيان المناسك، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري، فجمع فيه مجلدين، وأورد فيها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب، متحاملين عليه في أنفسهم، فأوقف النبي المسلمين صلى الله عليه وآله في غدير خم، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه، فذكر فضله وقربه منه (وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه) وبين في خطبته (أشياء) من هذا القبيل! وكان الله يحب المحسنين!
إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا .. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب!
فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه؟!
لماذا الجحفة وغدير خم
والسؤال هنا: لماذا الوحي في طريق المدينة .. والصحراء والظهيرة؟
والجواب: أن الله تعالى قال بذلك لرسوله: المدينة أيها الرسول مثل مكة، فإن بلغت ولاية عترتك فيها، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها! فموقفها من عترتك جازم، ومستميت .. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ، وإنما بعثت للتبليغ، فهو ممكنٌ هنا .. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى، فبلغ ولا تؤخر.
--------------------------------------------------------------------------------
(232)
ومن أجل أن تكمل التبليغ وتوصل لهم رسالتي .. سوف أعصمك من قريش، وأمسك بقلوبها وأذهانها، وألجم شياطينها الحاضرين، وأعالج آثار التبليغ، وأحفظ نبوتك فيها .. ثم أملي لها بعدك، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك .. حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد! ولا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.
**
والسؤال هنا: كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله من قريش، فلم يحدث تشويش، ولم يقم معترض .. ! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى الله عليه وآله، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم! فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة؟! ثم أشهدها النبي صلى الله عليه وآله على تبليغ ذلك .. فشهدت.
ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين .. فوعدت.
ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية، وإمرة المؤمنين!!
الجواب: أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل، وللحجة أن تقام، وأن يبقى رسوله صلى الله عليه وآله محفوظ الشخصية سالم النبوة .. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم.
والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع .. وأن النبي صلى الله عليه وآله مازال حياً .. فإن مات، فلكل حادثٍ حديث ..
وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها، وتخطو خطوةً نحو الردة .. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته!! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة!
أما النبي صلى الله عليه وآله فكان تفكيره رسولياً، وليس قرشياً ..
--------------------------------------------------------------------------------
(233)
لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره، واتقى غضب ربه وعذابه ..
واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها ..
كان النبي صلى الله عليه وآله في عيدٍ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه، فرضي عنه، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق .. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي، أو كلمة علي، أو بني هاشم.
ولم تحدث حركة عصيان منظمة، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى الله عليه وآله قبل وفاته بأربعة أيام، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .. ولم تحدث حركة ردة نهائياً، والحمد لله!
(يُتْبَعُ)
(/)
ارتاح ضمير النبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره .. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها، فخاف ربه وصدع بها .. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها، ولم يخبرهم ما هي! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري، من الفرس وغيرهم، يراوغون فيها وفي أمثالها، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى الله عليه وآله!
كان النبي صلى الله عليه وآله يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة .. يفكر على مستوى الأمر الإلَهي والإختيار الإلَهي، الذي لا خيرة فيه لأحد، ولا محل فيه للبيعة، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي، فتجب.
فهذا هو منطق التبليغ، وحسب!
ولذلك لم يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله في بيعة علي، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم، ولا بيعتهم، ولا رضاهم ..
لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله أن يشاورهم ليتألفهم، ويسيروا معه في الطريق الصحيح .. أما إذا عزمت فتوكل، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق!
--------------------------------------------------------------------------------
(234)
أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه صلى الله عليه وآله، وقال لنبيه بلغ ولا تخف، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى .. فهل يبقى للمشاورة محلٌّ من الإعراب! وهل يبقى للبيعة محلٌّ من الإعراب!
لقد طلب منهم الرسول صلى الله عليه وآله تهنئة علي عليه السلام إقراراً بالإختيار الإلَهي، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة، وألزم منها للأعناق .. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم .. فإنما على النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغهم، وحسابهم على من يملك كل الأوراق، ويملك الدنيا والآخرة، ويفعل ما يريد .. سبحانه وتعالى!
وتدل رواياتنا على أنه صلى الله عليه وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه السلام .. فأعلنوا!
ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية، لا يختلف، سواء أمرهم النبي صلى الله عليه وآله ببيعة علي عليه السلام أم أمرهم بتهنئته فقط .. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة، والتهنئة أقوى من البيعة .. فالتبليغ اصطفاء، والتهنئة خضوع، والبيعة وعدٌ بالإلتزام.
لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة .. وبسبب عنصر المفاجأة، وظرف المكان والزمان.
ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل ..
ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد!
وحتى البيعة المأمور بها من النبي صلى الله عليه وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى الله عليه وآله من بعده!
فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف!!
المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً
نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى الله عليه وآله.
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:07 ص]ـ
ـ ففي مجمع الزوائد: 5|202
عن عبدالرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟
فاستوى جالساً فقال: أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال: أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي!
جعلت لكم عهداً من بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي، فكلكم ورم لذلك أنفه، رجاء أن يكون الأمر له!
ورأيت الدنيا أقبلت، ولما تقبل، وهي خائنة، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون النوم على الصوف الأذربي، كأن أحدكم على حسك السعدان (يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك).
والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا.
ثم قال: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن.
(يُتْبَعُ)
(/)
فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته، وإن أغلق على الحرب.
ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، أبي عبيدة أو عمر، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة، أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإلا كنت ردءاً ومدداً.
وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(236)
ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي، لم أكن أحرقته، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً.
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل.
وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن:
فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله.
ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب؟
ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما حاجة. انتهى.
وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله (وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه!
وخلاصة القصة: أن أبا بكر أرسل الى علي عليه السلام يطلب منه أن يبايعه، فامتنع علي عن بيعته، وأجابهم جواباً شديداً، اتهمهم فيه.
وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما السلام، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم، إن لم يخرجوا ويبايعوا!
وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره، وهددوا علياً وفاطمة عليهما السلام والذين كانوا في البيت ـ ومنهم مؤيدون لموقف علي، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى الله عليه وآله ـ هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه!
وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي!!
ولم يشأ علي عليه السلام أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وآله، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث، وأمره فيه بأوامره .. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء عليها السلام
--------------------------------------------------------------------------------
(237)
فأهانوها وضربوها، حتى أسقطت جنينها .. الى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم ..
في ذلك الظرف، قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة، التي شرط عليهم النبي صلى الله عليه وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فبايعوه على ذلك!
وكانت فاطمة عليها السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها، فأركبها علي عليه السلام على دابة، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها، وكلمتهم فاطمة عليها السلام فكان قول أكثرهم: يا بنت رسول الله، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر، ما عدلنا بعلي أحداً! فقالت الزهراء عليها السلام:
وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً!! (الخصال|173)
إن منطق الزهراء عليها السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله تماماً .. فهي بضعةٌ منه، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم .. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية، ولذلك قال عنها أبوها (إن الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها!) ذلك أنها ليس لها شخصيتان: واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً .. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير .. صلى الله عليه وآله.
وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها، وبعد وفاته ..
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة، في جميع الأمور، ومن أعظمها حق زوجها علي، وولديها الحسن والحسين عليهم السلام الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها!
--------------------------------------------------------------------------------
(238)
بهذا المنطق قالت الزهراء عليها السلام للأنصار: إن جوابكم لي جواب سياسي .. ومنطق الحجة الإلَهية أعلى من منطق اللعب السياسية، ومهيمنٌ عليه، ومتقدم عليه رتبةً، وفاضحٌ له .. فقد بلَّغَ أبي صلى الله عليه وآله عن ربه، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر، وجعل لأمة رسوله ولياً .. فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمراً، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً!!
فالحجة عليكم تامةٌ من أبي، والآن مني، ونعم الموعدُ القيامة، والزعيمُ محمد صلى الله عليه وآله وعند الساعة يخسر المبطلون!
**
لقد كان إعلان غدير خمٍّ عملاً ربانياً خالداً، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية .. وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية، وفرض الأمر الواقع .. والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي .. ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة! ولو استمرت سنين، أو قروناً، أو الى ظهور المهدي الموعود عليه السلام.
**
--------------------------------------------------------------------------------
(239)
الفصل الرابع
آية إكمال الدين
آخر مانزل من القرآن
ليس من المبالغة القول: إن البحث الجاد في أسباب نزول آيات القرآن وسوره، من شأنه أن يحدث تحولاً علمياً، لأنه سيكشف العديد من الحقائق، ويبطل بعض المسلمات التي تصور الناس لقرون طويلة أنها حقائق ثابتة!
ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى ..
فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية، وكل واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها، وهي متناقضة في المكان أو الزمان أو الحادثة .. فلا يمكنك أن تقول كلها مقبولة وكل رواتها صحابة، وكلهم نجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا ..
بل لابد أن يكون السبب وأحداً من هذه الأسباب، أو من غيرها، والباقي غير صحيح!
ولهذه الطبيعة المحددة في سبب النزول، كانت مادة أسباب النزول مادة حاسمةً في تفسير القرآن .. وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها، بل قد تزيد عليه أحياناً، لكثرة التشويش والتناقض والوضع في رواياتها!
--------------------------------------------------------------------------------
(240)
ومهما يكن الأمر، فلا بد للباحثين في تفسير القرآن وعلومه، أن يدخلوا هذا الباب بفعاليةٍ وصبر، ويقدموا نتائج بحوثهم الى الأمة والأجيال، لأنها ستكون نتائج جديدة ومفيدة في فهم القرآن والسيرة، بل في فهم العقائد والفقه والإسلام عموماً ..
وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول.
* *
ليس من العجيب أن يختلف المسلمون في أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وآله، لأنهم لم يكونوا مسلمين آنذاك .. ثم إنهم باستثناء القلة، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيهم في حياته، فاختلفوا بعده في أحاديثه وسيرته.
ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أول ما أنزله الله تعالى من كتابه: أنه سورة إقرأ. وأنه سورة المدثر. وأنه سورة الفاتحة. وأنه البسملة .. كما في الإتقان للسيوطي: 1|91
ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيها، وقد أعلن لهم نبيهم صلى الله عليه وآله أنه راحلٌ عنهم عن قريب، وحج معهم حجة الوداع، ومرض قبل وفاته مدةً، وودعوه وودعهم!!
فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه صلى الله عليه وآله؟!!
الجواب: أن الأغراض الشخصية والسياسية لم تدخل في مسألة أول مانزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه .. كما سترى!!
سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن
يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير الى أن سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن .. وأن آية (اليوم أكملت لكم دينكم) نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض .. وأن بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى، وبدل آية إكمال الدين، آيات أخرى!
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(241)
رأي أهل البيت عليهم السلام
ـ قال العياشي في تفسيره: 1|288
عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي، حتى وقفت وتدلى بطنها، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وعملنا. انتهى.
ويقصد علي عليه السلام بذلك: أن المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب، وليس غسلهما، لأن المسح نزل في سورة المائدة، وعمل به النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون ولم ينسخ. ورواه في تفسير نور الثقلين: 1|582 و: 5|447
ـ وفي الكافي: 1|289
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وتخوف أن يرتدوا عن دينهم، وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، فصدع بأمر الله تعالى ذكره، فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب ـ
--------------------------------------------------------------------------------
(242)
قال عمر بن أذنية: قالوا جميعاً غير أبي الجارود ـ وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
ـ وفي تاريخ اليعقوبي: 2|43
وقد قيل إن آخر ما نزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، وهي الرواية الصحيحة، الثابتة الصريحة.
مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت عليهم السلام
ـ الدر المنثور: 2|252
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن أبي ميسرة قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة، وإن فيها لسبع عشرة فريضة.
ـ المحلى: 9|407
روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه. وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة، وصح أنها محكمة.
ـ المحلى: 7|389
فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن جري بن كليب، عن جبير بن نفير قال: قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم؟ قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 6|188، ورواه البيهقي في سننه: 7|172 عن ابن نفير، ونحوه عن عبد الله بن عمرو. ورواه في طبقات الحنابلة: 1|427، ورواه الحاكم: 2| 311 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
--------------------------------------------------------------------------------
(243)
ثم روى عن عبد الله بن عمرو أن آخر سورة نزلت سورة المائدة وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وستعرف أنهما لم يخرجاه مراعاة لعمر حيث ادعى أن آخر ما نزل من القرآن غير المائدة.
ـ وفي مجمع الزوائد: 1|256
(يُتْبَعُ)
(/)
وعن ابن عباس أنه قال: ذكر المسح على الخفين، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر، فقال عمر: سعد أفقه منك، فقال عبد الله بن عباس: ياسعد إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة، فإنها أحكمت كل شيء، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن، ألا تراه قال .. .
فلم يتكلم أحد.
رواه الطبراني في الأوسط، وروى ابن ماجة طرفاً منه، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب. انتهى.
يقصد الهيثمي أن الرواية ضعيفةٌ بهذا الراوي، الذي هو ثقة عند ابن حبان، ولكنه يروي روايات غريبة، أي مخالفة لمقررات المذهب الرسمي الذي يقول إن الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء، ويقول إن المائدة ليست آخر سورة نزلت!
ـ وفي الدر المنثور: 2|252
وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المائدة (من) آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. انتهى.
ويشك الإنسان في كلمة (من) التي تفردت بها هذه الرواية، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة، وجعلته مشهوراً.
ـ وفي تفسير التبيان: 3|413
وقال عبد الله بن عمر: آخر سورة نزلت المائدة.
--------------------------------------------------------------------------------
(244)
ـ وفي الغدير: 1|228
ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة: أن المائدة آخر سورة نزلت. انتهى.
ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت عليهم السلام أن آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة .. وأنه مؤيدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة، في مصادر إخواننا .. بل يمكن القول بأن آية (اليوم أكملت لكم دينكم) وحدها تكفي دليلاً على أنها آخر نزلت في آخر ما نزل من كتاب الله تعالى، لأنها تنص على أن نزول الفرائض قد تمت بها، فلا يصح القول بأنه نزل بعدها فريضة، على أنه وردت نصوصٌ بذلك كما تقدم عن الإمام الباقر عليه السلام، وكما سيأتي من رواية الطبري والبيهقي وقول السدي. وعليه، فكل ما نزل بعدها من القرآن، لا بد أن يكون خالياً من الفرائض والأحكام، لأن التشريع قد تم بنزولها، فلا حكم بعدها!
الآراء المخالفة والمتناقضة
ولكن هذا الأمر المحدد الواضح، صار غير واضحٍ ولا محددٍ عندهم!! وكثرت فيه الروايات وتناقضت! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم! وأنها آراء صحابةٍ كبارٍ لايجرؤون على ردهم!
ولعل السيوطي استحى من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن، فأجملها إجمالاً، ولم يعددها أولاً وثانياً كما عدد الأقوال الأربعة في أول مانزل!!
ونحن نعدها باختصار، لنرى أسباب نشأتها!
1 ـ أن آخر آية هي آية الربا، وهي الآية 278 من سورة البقرة.
2 ـ أن آخر آية هي آية الكلالة، أي الورثة من الأقرباء غير المباشرين، وهي الآية 176 من سورة النساء.
3 ـ أن آخر آية هي آية (واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله .. ) البقرة ـ 281.
--------------------------------------------------------------------------------
(245)
4 ـ أن آخر آية هي آية (لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ) التوبة ـ 128.
5 ـ أن آخر آية هي آية (وما أرسلنا من قبلك من رسول .. .) الأنبياء ـ 25.
6 ـ أن آخر آية هي آية (فمن كان يرجو لقاء ربه .. .) الكهف ـ 110.
7 ـ أن آخر آية هي آية (ومن يقتل مؤمنا متعمداً .. .) النساء ـ 93.
8 ـ أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة.
9 ـ أن آخر سورة نزلت هي سورة النصر.
هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي 1|101، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد، لمن يتتبع المصادر!!
كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة
القصة التالية تعطينا ضوءً على نشأة هذا الإضطراب والضياع:
سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا، فلم يعرفها فقال: أنا متأسف، لأن هذه الآية آخر آية نزلت، وقد توفي النبي ولم يفسرها لي!
ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط، وشوشت على سورة المائدة، وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين المائدة، وبين آيات الربا!
(يُتْبَعُ)
(/)
ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن: في الآيتين 275 ـ 276 من سورة البقرة والآية 161 من سورة النساء، والآية 39 من الروم، والآية 130 من آل عمران .. . وبعض هذه السور مكي وبعضها مدني! فأي آيةٍ منها قصد الخليفة؟!
وتبرع المبررون للخليفة وقالوا إن مقصوده الآية 278 من سورة البقرة! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة، التي نزلت في أول الهجرة! وصار مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي، لأنه نزل بعد آية إكمال الدين! ولعلهم يتصورون أنه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي، مادام هدفهم هدفا شرعياً صحيحاً هو الدفاع عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله!
--------------------------------------------------------------------------------
(246)
ـ قال الإمام أحمد في مسنده: 1|36:
عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي الله عنه: إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة!! ورواه في كنز العمال: 4|186 عن (ش وابن راهويه حم هـ وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية ق في الدلائل).
ـ وقال السرخسي في المبسوط: 2|51 و 12|114:
فقد قال عمر رضي الله عنه: إن آية الربا آخر ما نزل، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها!
ـ وقال السيوطي في الإتقان: 1|101
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله .. . وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر مانزل آية الربا. انتهى.
ولكن إضافة (من) في هذه الرواية لا تحل المشكلة، كما لم تحلها في سورة المائدة، لأن الروايات الأخرى ليس فيها (من) وهي نص على أن آية الربا آخر مانزل!
قصة ثانية!
وذات يومٍ بل ذات أيام .. لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة، وتحير فيها، واستعصى عليه فهمها، الى آخر عمره! فقال وقالوا عنه: إنها آخر آية نزلت، وتوفي النبي قبل أن يبينها له، أو بينها له بياناً ناقصاً!
ـ ففي البخارى: 5|115
عن البراء رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... ونحوه في: 5|185
ـ وقال السيوطي في الإتقان: 1|101
فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، وآخر سورة نزلت براءة.
--------------------------------------------------------------------------------
(247)
ـ وفي مسند أحمد: 4|298
عن البراء قال: آخر سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك .. . الى آخر السورة .... الى آخره!
ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخط، وشاركت في التشويش على سورة المائدة! وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين آيات الربا والكلالة، وبقية المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس، وإكمال الدين!
وقد راجعت ما تيسر لي من مصادر إخواننا في مسألة الربا والكلالة، فهالتني مشكلة الخليفة معهما، خاصةً مسألة الكلالة، حتى أنه جعلها من القضايا الهامة على مستوى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى، وكان يطرحها من على منبر النبي صلى الله عليه وآله واستمر يطرحها كمشكلة كبرى، حتى ساعات حياته الأخيرة، وأوصى المسلمين بحلها! الأمر الذي يدل على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين، لعدم تمكنه من استيعابها!! ففي صحيح البخاري: 6|242
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. انتهى. ورواه مسلم في: 2|81، بتفصيل أكثر، وروى نحوه في: 5|61 و8| 245، ورواه ابن ماجة في: 2|910، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور: 2|249: وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن عمر ...
ويدل هذا الصحيح المؤكد، على أن عمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عن الكلالة.
وقد صرح بذلك صحيح الحاكم الذي رواه في المستدرك: 2|303، فقال:
(يُتْبَعُ)
(/)
محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ أحب إلي من حمر النعم: عن
--------------------------------------------------------------------------------
(248)
الخليفة بعده، وعن قوم قالوا نقرُّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك، أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.
ولكن في صحيح مسلم أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مرراً!!
ـ قال مسلم في: 5|61: عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر ثم قال: إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة! ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟! وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. انتهى.
يعني أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مراراً فوضحها له مراراً، ولكنه كرر سؤاله حتى غضب عليه النبي صلى الله عليه وآله لعدم فهمه لشرحه إياها!
بل يدل الصحيحان التاليان على أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عمر أنه سوف لن يفهم الكلالة طول عمره، أو دعا عليه بذلك!
ـ ففي الدر المنثور: 2|250
وأخرج العدني والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن حذيفة قال: نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إياه. فلما كان في خلافة عمر، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً. انتهى.
ـ وفي كنز العمال: 11|80 حديث 30688 عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يورث الكلالة؟ قال: أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة .. .الى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم!
--------------------------------------------------------------------------------
(249)
فأنزل الله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .. الى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم! فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس، فاسأليه عنها فقال: أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها أبداً!!
فكان يقول: ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال!! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردوية صححه.
ـ بل روى السيوطي في الدر المنثور: 2|249 أن النبي صلى الله عليه وآله قد كتبها لعمر في كتف! قال: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردوية عن طاوس، أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فسألته فأملاها عليها في كتف، وقال: من أمرك بهذا أعمر؟ ما أراه يقيمها، أو ما تكفيه آية الصيف؟!!
قال سفيان: وآية الصيف التي في النساء: وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ .. . فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت الآية التي في خاتمة النساء. انتهى.
فانظر الى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة، وكلها صحيحة!
ولاحظ أن الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبينها للأمة، ولا سأل عمر النبي عنها .. مع أن روايتهم الصحيحة تقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد كتب الكلالة لعمر في كتف!
وأما المسألة الثانية التي هي الخلافة، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله دعا بدواة وكتف ليكتب للأمة الإسلامية كتاباً لا تضل بعده أبداً، ولكن عمر أبى ذلك ..
وأما المسألة الثالثة، وهي أبواب الربا، فيستحيل أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله قد بينها وشرحها للمسلمين أيضاً، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً!!
دلالة هاتين القصتين
تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحثٍ أن يقبلها جميعاً، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها.
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(250)
وكيف يمكن لعاقلٍ أن يقبل في موضوعنا أن عمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عن الآية لأنها آخر آية نزلت .. وأنه سأله عنها مراراً، حتى دفعه بإصبعه في صدره، وغضب منه، الخ!!
وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية، وآيات الربا آخر آيات .. الى آخر التناقضات التي ذكرناها، وأكثر منها فيما لم نذكره!
وتدل القصتان على أن سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادعاءه غير المعقول معقولاً! وأن المهم عندهم تكييف تفسير القرآن، وأحداث نزول آياته، وأسبابها، وفق ما قاله الخليفة، حتى لو تناقضت أقواله، وحتى لو لزم من ذلك إثارة شبهة التناقض في دين الله تعالى، وفي أفعاله تعالى!
وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته!.
وتدل القصتان في موضوعنا على أن آيات الربا وإرث الكلالة، وربما غيرهما، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين، ومعنى ذلك أن الله تعالى قال للمسلمين: اليوم أكملت لكم دينكم، ولكنه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل!!
إن من يحترم نفسه لا يمكنه أن يقبل منطقاً يجادل عن إنسان غير معصوم ليبرئه من التناقض، حتى لو استلزم ذلك نسبة التناقض الى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله!
**
بقية الأقوال:
لا نطيل في ذكر بقية الأقوال، وأحاديثها الصحيحة عندهم، بل نجملها إجمالاً:
ـ ففي صحيح البخارى: 5|182
قال سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها الى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم (النساء ـ 93) هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.
--------------------------------------------------------------------------------
(251)
ـ وفي البخاري: 6|15
عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه الى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينخسها شيء.
ـ وفي الدر المنثور: 2|196
وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيها .... هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وأخرج أحمد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن ماجة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، والطبراني من طريق سالم بن أبى الجعد، عن ابن عباس .. . قال: لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟
قال: وأنى له بالتوبة؟!.
ـ وفي مجموع النووي: 18|345
قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها .. الآية.
في صحيح البخارى .. . هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الآية فقال: ما نسخها شيء. انتهى.
فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات (الصحيحة) من البخاري أو غيره، ومن ابن عباس أو غيره، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإِسلام، نزل بعد آية إكمال الدين!
**
--------------------------------------------------------------------------------
(252)
ـ وفي مستدرك الحاكم: 2|338
عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: آخر ما نزل من القرآن: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وهذه الرواية (الصحيحة) على شرط الشيخين تقصد الآيتين 128 ـ 129، من سورة التوبة.
ـ وفي الدر المنثور: 3|295
وأخرج ابن أبي شيبة، واسحق بن راهويه، وابن منيع في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، من طريق يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ـ وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن ـ لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى آخر .. الآية.
(يُتْبَعُ)
(/)
* وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مروديه، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهداً بالله ـ وفي لفظ بالسماء ـ هاتان الآيتان: لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. الى آخر السورة.
ـ الدر المنثور: 3|295
واخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وابن الضريس في فضائله، وابن أبي دؤاد في المصاحف: وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، والخطيب في تلخيص المتشابه، والضياء في المختارة، من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم أبي بن كعب، حتى انتهوا الى هذه الآية من سورة براءة: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم .. .قوم لا يفقهون، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب: إن النبى صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين: لقد
--------------------------------------------------------------------------------
(253)
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم، فإن تولوا فقل حسبى الله لا إلَه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. فهذا آخر مانزل من القرآن. قال فختم الأمر بما فتح به بلا إلَه إلا الله، يقول الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحي اليه أنه لا إلَه إلا أنا فاعبدون.
وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك اليه.
فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد به شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما!
فقالوا: ما هما؟
قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم .. الى آخر السورة.
فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟
قال: إختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. انتهى.
وشبيه به في سنن أبي داود: 1|182، وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن.
**
ـ وفي صحيح مسلم: 8|243
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم ـ وقال هارون تدري ـ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟
--------------------------------------------------------------------------------
(254)
قلت نعم، إذا جاء نصر الله والفتح. قال: صدقت.
وفي رواية ابن أبي شيبة: تعلم أي سورة، ولم يقل آخر.
ـ وفي سنن الترمذي: 4|326
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت: إذ جاء نصر الله والفتح.
ـ وفي الغدير: 1|228: وروى ابن كثير في تفسيره: 2|2
عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح (يعني النصر).
ـ وفي الدر المنثور: 6|407
وأخرج ابن مردوية والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: إذا جاء نصر الله والفتح، قال: علمٌ وحدٌّ حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونعى اليه نفسه، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردوية عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً: إذا جاء نصر الله والفتح.
**
ـ وفي المجعم الكبير للطبرانى: 12|19
عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله. انتهى. وهي الآية 281 من سورة البقرة!
**
ونذكر في آخر ادعاءاتهم في آخر آيةٍ من القرآن: أن معاوية بن أبي سفيان أدلى بدلوه في هذا الموضوع، ونفى على المنبر أن تكون آية (اليوم أكملت لكم دينكم .. ) آخر ما نزل، وأفتى للمسلمين بأن آخر آيةٍ نزلت هي الآية 110 من سورة الكهف، وأنها وكانت تأديباً من الله لنبيه!! ففي المعجم الكبير للطبراني: 19|392:
عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية: اليوم
--------------------------------------------------------------------------------
(255)
(يُتْبَعُ)
(/)
أكملت لكم دينكم .. قال: نزلت يوم عرفة في يوم جمعة، ثم تلا هذه الآية: فمن كان يرجو لقاء ربه ... وقال: إنها آخر آية نزلت .... تأديباً لرسول الله .. انتهى.
وقد التفت السيوطي الى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن، وحجة الوداع، وغدير خم .. فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر! ولكنه مرَّ بذلك مروراً سريعاً، على عادتهم في التغطية والتستر والروغان!
قال في الإتقان: 1|102
من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي، فقال: لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها!
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون! انتهى.
ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي: أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض، ونحصره بتحرير مكة فقط، حتى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا وحديث معاوية في آخر آية في (تأديب النبي)!!
إنها فتوى تتكرر أمامك من العلماء السنيين بوجوب قبول كلام الصحابة ـ ماعدا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ـ حتى لو استلزم ذلك تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها! فهم عملياً يعطون الصحابة درجة العصمة، بل يعطونهم حق النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله، لأنهم يجعلون كلامهم حاكماً عليه!
ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك، وتصمَّ سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة!!
--------------------------------------------------------------------------------
(256)
ونتيجة هذا المنطق: أن آية اليوم أكملت لكم دينكم ليست آخر آية، ولا سورتها آخر سورة، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام، بل أكملت لكم فتح مكة!
وأن معنى (اليوم) في الآية ليس يوم نزول الآية، بل قبل سنتين من حجة الوداع!
وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية: يوم نزولها، وليس يوم فتح مكة! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية، كما سيأتي.
نص الآية الكريمة
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ـ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ـ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم. المائدة 2 ـ 3
**
آية إكمال الدين واللحوم المحرمة
أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية .. ثم يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرمة، وكأنها حشرت حشراً في وسطها، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء، بل لاتصل السياق!!
--------------------------------------------------------------------------------
(257)
فما هي الحكمة من هذا السياق؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة؟!
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب: ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة؟
ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن، فوضعوها هنا.
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم .. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم! فإذا قال الله تعالى: أكملت لكم دينكم، فقد تمت الأحكام، فكيف يقول بعدها مباشرة: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإن الله غفور رحيم؟! ثم يقول بعدها مباشرة: يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم .. . الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات: إنه قد أكمله وأتمه؟!!
ـ قال في الدر المنثور: 2|259:
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.
ـ وقال في: 2|257
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس .... فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله: اليوم أكملت لكم دينكم، يقول حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.
والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة، وقد مر بعضها، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها .. ويؤيده ماذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام
--------------------------------------------------------------------------------
(258)
ـ قال الزبيدي في تاج العروس: 8|103:
(الكمال: التمام) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى اليوم: أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، وبسطه في العناية، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل: التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي، وفيه ثلاث لغات (كمل كنصر وكرم وعلم) قال الجوهري والكسر أردؤها، وزاد ابن عباد: كمل يكمل مثل ضرب يضرب، نقله الصاغاني (كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل) جاؤوا به على كمل.
وقال في ص 212: (وتمام الشىَ وتمامته وتتمته ما يتم به) وقال الفارسي: تمام الشىَ ماتم به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة، وتتمة هذه المائة.
قال شيخنا: وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.
وقال جماعة: التمام الإتيان بما نقص من الناقص، والكمال الزيادة على التمام، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه، ويفهم من كامل، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة، فهو أخص.
وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً، وعليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.
وقيل التمام يستدعي سبق نقص، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح، وابن الزملكاني في شرح التبيان، وغير واحد.
--------------------------------------------------------------------------------
(259)
قلت وقال الحراني: الكمال: الإنتهاء الى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه. وقال ابن الكمال: كمال الشىَ: حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.
وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها، وسبب نزولها .. وفي ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول
قول أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة، في رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم، قبل أن تتشعب بهم الطرق، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم:
فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي: 1|289
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام وفيه (وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ وعن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كنت عنده جالساً فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟
فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف (لله) من أن يقول ما لم يأمره به الله!! بل افترضه الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
ـ وفي الكافي: 1|198
أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر
--------------------------------------------------------------------------------
(260)
الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم عليه السلام ثم قال:
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل: ما فرطنا في الكتاب من شيء، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
وأمر الامامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم؟!
إن الامامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أويقيموا إماماً باختيارهم.
إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة، مرتبةً ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: إني جاعلك للناس إماماً، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين.
فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:09 ص]ـ
آمنوا والله ولي المؤمنين، فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الاَصفياء الذين آتاهم الله العلم والاِيمان، بقوله تعالى: قال الذين أوتوا العلم والاِيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث، فهي في ولد علي عليه السلام خاصة الى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله.
فمن أين يختار هؤلاء الجهال!. انتهى.
القول الثاني
قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام:
وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات، وفيها صحاح من الدرجة الاَولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه (الولاية) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين، وتنص رواياتها على أن النبي صلى الله عليه وآله أصعد علياً معه على المنبر، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما، وبلغ الاَمة ما أمره الله فيه ... الخ. وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير، التي يحتج بها الشيعة عليهم، ويجادلوهم بها عند ربهم!
وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.
(يُتْبَعُ)
(/)
لكن ينبغي الاِلتفات الى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير، لم يقبلوا الاَحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية، أنها نزلت يوم عرفة، كما سيأتي.
وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الاَنوار، والشيخ الاَميني في كتاب الغدير، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الاَزهار.
--------------------------------------------------------------------------------
(262)
وقد أورد صاحب الغدير عدداً من الروايات من مصادر السنيين، ذكرت أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير، بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام ..
ـ وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير: 1|230:
ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أميرالمؤمنين عليه السلام قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا .... ثم ذكر الاَميني رحمه الله عدداً من المصادر التي روتها، نذكر منها:
1 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام ...
2 ـ الحافظ ابن مردوية الاَصفهاني المتوفى 410، روى من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري ... ثم رواه عن أبي هريرة ...
3 ـ الحافظ أبو نعيم الاِصبهاني المتوفى 430، روى في كتابه (ما نزل من القرآن في علي) ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس الى علي في غدير خم، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما، حتى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية .. الخ.
4 ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463، روى في تاريخه 8|290 ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية.
5 ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري ...
6 ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483، روى في مناقبه عن أبي بكر
--------------------------------------------------------------------------------
(263)
أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبوالحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال: حدثني أبومحمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي، قال: .. عن أبي هريرة ....
7 ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني .... عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم، قال: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.
8 ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى 571، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردوية، عن أبي سعيد وأبي هريرة، كما في الدر المنثور 2| 259.
9 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568، قال في المناقب|80 .... عن أبي سعيد الخدري إنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلي غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس الى إبطيه، حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية ...
وروى في المناقب|94 .... عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الوارق. الى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سندآ ومتناً.
10 ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر|43، وعن الخدري وجابر الاَنصاري ...
(يُتْبَعُ)
(/)
11 ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل: وبالاِسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم، بغدير خم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.
--------------------------------------------------------------------------------
(264)
12 ـ شيخ الاِسلام الحمويني الحنفي المتوفى 722، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر، قال: أنبأني الشيخ تاج الدين ... الخ. انتهى.
القول الثالث
قول الخليفة عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة، وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخارى في صحيحه: 1|16
عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا!! قال أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ بعرفة، يوم جمعة.
ـ وفي البخاري 5|127
عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر: أية آيةٍ؟
فقالوا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.
فقال عمر: إني لا علم أي مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ...
عن طارق بن شهاب: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً!
فقال عمر: إني لاَعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة ـ قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة، أم لا ـ اليوم أكملت لكم دينكم.
--------------------------------------------------------------------------------
(265)
وفي البخاري: 8|137:
عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا .. لاتخذنا ذلك اليوم عيداً!
فقال عمر: إني لاعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة. سمع سفيان من مسعر، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً. انتهى.
وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة، وأخذ بها أكثر علمائهم، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة، مثل سفيان الثوري والنسائي! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام، التي تقدمت .. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار.
ـ قال السيوطي في الاِتقان 1|75 عن الآيات التي نزلت في السفر:
منها: اليوم أكملت لكم دينكم. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وله طرقٌ كثيرة.
لكن أخرج ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت يوم غدير خم.
وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لا يصح. انتهى.
وقال في الدر المنثور: 2|259
أخرج ابن مردوية، وابن عساكر بسند ضعيف، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.
وأخرج ابن مردوية، والخطيب، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(266)
(يُتْبَعُ)
(/)
وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين .. ولكنه لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير كما تقدم، بل يقولون إن حديث الغدير صحيحٌ، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم، تمسكاً بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم، حتى لو خالفه حديثٌ صحيحٌ، وحتى لو خالفه الحساب والتاريخ!
ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور: ابن كثير، وهذه خلاصة من تفسيره: 2|14:
قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير.
ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال:
قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: اليوم أكملت لكم دينكم الآية.
وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة، لا يشك في صحتها، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير ... عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال: قال كعب لو أن غير هذه الاَمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه!!
فقال عمر: أي آيةٍ يا كعب؟
فقال: اليوم أكملت لكم دينكم.
فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ .... (ورواه في مختصر تاريخ دمشق 2 جزء 4|309)
--------------------------------------------------------------------------------
(267)
وقال ابن جرير: .... حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة ...
وقال ابن جرير: وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس!!
ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس. قال: وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره (الى) حجة الوداع.
ثم قال ابن كثير:
قلت: وقد روى ابن مردوية من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.
ولا يصح لا هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الاِسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنه، وأرسله الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحد من الاَئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله. انتهى.
وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الاِعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة، لاَن ذلك يخالف قول عمر، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه!!
ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره: 4|111 مما لم يذكره ابن كثير قال:
--------------------------------------------------------------------------------
(268)
حدثنا ابن المثنى قال: ثنا عبد الوهاب قال: ثنا داود قال قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟!
فقال عامر: أو ما حفظته؟
قلت له: فأي يوم؟
قال: يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة!!
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاِثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
(يُتْبَعُ)
(/)
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق قال: أخبرنا محمد بن حرب قال: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، ودخل المدينة يوم الاِثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، ورفع الذكر يوم الاِثنين.
ثم قال الطبري: وأولى الاَقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده وهي أسانيد غيره. انتهى.
الموقف العلمي في سبب نزول الآية
بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجة الوداع، لاَن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق، وإعدادٍ نبوي واسع .. وقد حضره مابين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين، ونقلوا العديد من من أحداث حجة الوداع، وأقوال النبي صلى الله عليه وآله وأفعاله فيها، بشىٍَ من التفصيل، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر .. وسجلوا يوم حركته من المدينة، والاَماكن التي مر عليها أو توقف فيها، ومتى دخل مكة، ومتى وكيف أدى المناسك .. ثم رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها .. الى أن دخل الى المدينة المنورة وعاش فيها نحو شهرين بقية عمره الشريف صلى الله عليه وآله.
--------------------------------------------------------------------------------
(269)
وعلى هذا، فإن عنصر التوقيت والتاريخ حاسمٌ في المسألة، وهو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح من الرأيين المتعارضين.
وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم السلام والروايات السنية الموافقة لهم، مضافاً الى المرجحات الاَخرى المنطقية، التي تنضم اليه كما يلي:
أولاً: أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً كما توهموا .. بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وبين قولٍ للخليفة عمر.
فإن الاَحاديث التي ضعفوها هي أحاديث نبوية مسندة، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر، لم يسنده الى النبي صلى الله عليه وآله!
فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر .. وإن لم يصح رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة، وجمع بين الموثوق منها أِن أمكن الجمع، وإلا رجح بعضها وأخذ به، وترك الباقي .. ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الاَسف!
ثانياً: لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم السلام في سبب نزول الآية والاَحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لاَهل البيت ومن أيدهم في ذلك، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه .. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع، وهو كما في مسند أحمد: 3|14: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تاركٌ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(270)
ورواه أيضاً في: 3|17 ـ 26 و59، و: 4|366، و371، والدارمي: 2|431، ومسلم 7|122، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين وغيرهما في: 3|109 و 148، والبيهقي في سننه: 2|148، وغيرهم.
وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته صلى الله عليه وعليهم، أو يدل على الاَقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم!
ثالثاً: أن الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة، وتعارضها يوجب التوقف في الاَخذ بها، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس، وليس يوم جمعة. قال النسائي في سننه: 5|251:
أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال: أنبأنا عبدالله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر: لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً: اليوم أكملت لكم دينكم.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات!
والطريف أن النسائي روى عن عمر في: 8|114، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة!
رابعاً: تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة (قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا .. ) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان، بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة، وإنما قال (أشك) مداراةً لجماعة عمر، الذين رتبوا كل الروايات لاَحداث حجة الوداع، بل وأحداث التاريخ الاِسلامي كلها .. على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة، كما ستعرف.
خامساً: أن عيد المسلمين هو يوم الاَضحى، وليس يوم عرفة، ولم أجد روايةً
--------------------------------------------------------------------------------
(271)
تدل على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي، فالقول بذلك مما تفرد به الخليفة عمر، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين! وهو عند السلفيين يدخل في باب البدعة!
أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس، وأن الآية نزلت ليلة عرفة .. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء، ولا يحتاج الاَمر الى قانون إدغام الاَعياد الاِلَهية المتصادمة، كما ادعى الخليفة!.
فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين، فلم نتخذ يومها عيداً!
وهذا كلام متهافت!
سادساً: أن قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً .. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الاِسلام وختمه في يوم نزول الآية، وقبل عمر منه هذا التفسير .. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم.
مع أن الخليفة عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة، وأحكام الاِرث، وغيرها، كما تقدم .. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي: ليس معنى الآية كما ظننت، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً!
وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض، فلا بد من التوقف فيها جميعاً، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن، وفي وقت نزول آية إكمال الدين!
ومن جهة أخرى، فقد أقر الخليفة أن (اليوم) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكة، أو يأتي بعد شهور
--------------------------------------------------------------------------------
(272)
مثلاً. فهو يستوجب رد قول الطبري الذي تعمد اختياره ليوافق عمر، ويستوجب رد كل الروايات التي تريد تعويم كلمة (اليوم) في الآية، أو تريد جعله يوم فتح مكة.
قال القرطبي في تفسيره: 1|143
وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم.
وقال في: 2|61
واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم.
سابعاً: أن جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم!
فإن كان يقصد الاِعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد، ولذلك لم نتخذ يومها عيداً!
فيمكن لليهودي أن يجيبه: لماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم؟!
وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة، حتى صار جزءً منه!
فمن حق سائلٍ أن يسأل: هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد، مشتركاً مع عرفة .. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم، إلا عند الشيعة؟!
وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة، فأدغم فيهما وذاب، أو أكلاه وانتهى الاَمر!
فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين، وهو يعلم أنهما سيأكلانه!
(يُتْبَعُ)
(/)
فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد، أم أنه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد، فتدارك المسلمون الاَمر بقرار الدمج والاِدغام، أو التنصيف!!
ثم من الذي اتخذ قرار الاِدغام؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر!
--------------------------------------------------------------------------------
(273)
ومابال الاَمة الاِسلامية لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الاَعياد الربانية في عرفات، حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم! فأخبره الخليفة عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله، وأخبره وأخبر المسلمين بقصة تصادم الاَعياد الاِلَهية في عرفات! وأن الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الاِدغام لمصلحة العيد السابق، أو إطعام العيد اللاحق للسابق!
وهل هذه الاَحكام للاَعياد أحكامٌ إسلامية ربانية، أم استحسانية شبيهاً بقانون تصادم السيارات، أو قانون تصادم الاَعياد الوطنية والدينية؟!!
إن المشكلة التي طرحها اليهودي، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه، لاَن الخليفة لم يقدم لها حلاً .. وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها، ولم يقل إنه سمعها من النبي! صلى الله عليه وآله
. فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين، لاَنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الاِسلام، وأتمَّ فيه النعمة على أمته، ورضيه لهم ديناً يدينونه به، ويسيرون عليه، ويدعون الاَمم اليه.
وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للاَمة الاِسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه، في صف أعيادها الشرعية الثلاث: الفطر والاَضحى والجمعة، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله، لاَعلنته عيداً ربانياً، وكان من حقها ذلك شرعاً ..
لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كل هذا، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً، يضاف الى عيدي الفطر والاَضحى السنويين وعيد الجمعة الاَسبوعي.
إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة (آية علي بن أبي طالب) من ناحيتين: فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر مانزل من القرآن .. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية الى يوم القيامة!! وصار من حق المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين، ولا في حياتهم، ولا في مصادرهم .. إلا .. عند الشيعة!
--------------------------------------------------------------------------------
(274)
ثم .. إن الاَعياد الاِسلامية توقيفية، فلا يجوز لاَحد أن يشرع عيداً من نفسه .. وحجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً، أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أن يوم الآية أي يوم الغدير عيدٌ شرعي، وأن جبرئيل أخبره بأن الاَنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً.
فماهي حجة الخليفة في تأييد كلام اليهودي، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الاِسلامية! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد .. الخ.
فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً، فهو تشريع وبدعة، وإن كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله، فلماذا لم يذكره، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية، إلا ما رواه الشيعة؟!
ثامناً: لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله، لصلى النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الجمعة، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر!
والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر، فقد جعل في سننه: 1| 290 عنواناً باسم (الجمع بين الظهر والعصر بعرفة).
وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى الى بطن الوادي خطب الناس، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً!! انتهى.
ـ وكذلك روى أبو داود في سننه: 1|429
(يُتْبَعُ)
(/)
عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الاِمام الذي ينزل بعرفة،
--------------------------------------------------------------------------------
(275)
حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة. انتهى.
وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلى الله عليه وآله صلاة الجمعة، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع!
وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى: 7|272:
مسألة: وإن وافق الاِمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة، لاَن النص لم يأت بالنهي عن ذلك، وقال تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى.
وروينا ... عن عطاء بن أبي رباح قال: إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة، جهر الاِمام بالقراءة ... فإن ذكروا خبراً رويناه ... عن الحسن بن مسلم قال: وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه السلام فقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب ... فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية: ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل، ثم هو مرسل، وفيه عن ابن الزبير، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، ثم الكذب فيه ظاهر، لاَن يوم التروية في حجة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس، وكان يوم عرفة يوم الجمعة، روينا ذلك من طريق البخارى ...
فإن قيل: إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر؟
قلنا: نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها! وليس في شيَ من الآثار أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والجهر أيضاً ليس فرضاً، وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(276)
وجواب ابن حزم: أنه صادر على المطلوب، لاَنه رد الرواية لمجرد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة!
فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس، وروايته صحيحة؟
أو بقول النسائي والثوري، والاَقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره؟
ولو صح ماقاله من أن النبي صلى الله عليه وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لاَنه جهر فيهما، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح (أتوماتيكياً) صلاة جمعة!
بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه صلى الله عليه وآله صلى الجمعة في منى، وهي أقرب الى حساب سفره صلى الله عليه وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لاَربع بقين من ذي القعدة، ووصوله الى مكة يوم الخميس لاَربع مضين من ذي الحجة، وأن أول ذي الحجة كان يوم الاِثنين، فيوم عرفة يوم الثلاثاء، وعيد الاَضحى الاَربعاء، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي .. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات، مع أنها كانت بعده!
تاسعاً: إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه صلى الله عليه وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين!
فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الاَول ومن 9 ذي الحجة الى 12 ربيع الاَول أكثر من تسعين يوماً .. فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في 28 من صفر، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير 18 ذي الحجة.
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|59
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.
ـ وذكر نحوه في: 2|257 عن البيهقي في شعب الاِيمان.
--------------------------------------------------------------------------------
(يُتْبَعُ)
(/)
(277)
ـ وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي: 7|3
وروى أبو عبيد، عن حجاج، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم إلا إحدى وثمانين ليلة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 12984، ورواه الطبري في تفسيره: 4|106 عن ابن جريح قال: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم.
ـ وقال القرطبي في تفسيره: 20|223:
وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم. فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً. ثم نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا. انتهى.
ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي صلى الله عليه وآله، واقترب من القول بنزولها في الغدير!!
ـ وقال الاَميني في الغدير: 1|230
وهو الذي يساعده الاِعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي: 3|529 عن أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي: 3|523، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته صلى الله عليه وآله في الثاني عشر من ربيع الاَول، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاِثنين وثمانين يوماً، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة ..
--------------------------------------------------------------------------------
(278)
وعلى أي فهو أقرب الى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الاَيام حينئذ. انتهى.
كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة، رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الاِثنين .. ففي دلائل البيهقي: 7|233: عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، ونبىَ يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، وفتح مكة يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم وتوفي يوم الاِثنين.
ـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1|196
رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه: وفتح بدراً يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح. انتهى.
وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة .. ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر، كما صرح به السيوطي وابن كثير! فقد قال ابن كثير في سيرته: 1| 198: تفرد به أحمد، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة، وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضاً: وكانت وقعة بدر يوم الاِثنين. وممن قال هذا يزيد بن حبيب. وهذا منكرٌ جداً!! قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدراً ونزول: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة وصدق ابن عساكر. انتهى.
وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر، وقول معاوية! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة، بل قال إنه مخالفٌ للمحفوظ، أي المشهور عندهم، وهو قول عمر.
وينبغي الاِلفات الى أن الاِشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الاِثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به، وإلا فنحن لا نقبل أنه صلى الله عليه وآله لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً
--------------------------------------------------------------------------------
(279)
لاَن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الثامن والعشرين من صفر، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس، وفي رواية يوم الجمعة، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله كانت يوم الاِثنين، وأن علياً عليه السلام صلى معه يوم الثلاثاء، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الاِثنين أيضاً، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الاِثنين أي أكثرها، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك، ومنها آية التبليغ، وآية إكمال الدين.
عاشراً: إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلى الله عليه وآله من المدينة، وأنه كان يوم الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة. وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت عليهم السلام، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.
وذلك، لاَن سفر النبي صلى الله عليه وآله كان في يوم الخميس، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة، لاَربع بقين من ذي القعدة هي: الخميس والجمعة والسبت والاَحد .. ويكون أول ذي الحجة يوم الاِثنين، ووصول النبي صلى الله عليه وآله الى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع، كما في رواية الكافي: 4|245، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم السلام في ذلك:
ـ ففي وسائل الشيعة: 9|318
محمد بن إدريس في (آخر السرائر) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، ودخل مكة لاَربعٍ مضيْن من ذي الحجة، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين، وخرج من أسفلها.
ـ وفي الكافي: 4|245
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين حجة ... إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله عز وجل عليه: وأذن في الناس بالحج
--------------------------------------------------------------------------------
(280)
يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يحج في عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاَعراب، واجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى الى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر، وعزم بالحج مفرداً، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الاَول فصف له سماطان، فلبى بالحج مفرداً، وساق الهدي ستاً وستين أو أربعاً وستين، حتى انتهى الى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام، ثم عاد الى الحجر فاستلمه ...
ـ وفي المسترشد|119:
العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا الناس الى علي عليه السلام بغدير خم، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس الى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. انتهى.
**
ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام ماروته مصادر الفريقين من أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يبدأ سفره إلا يوم الخميس، أو قلما يبدأه في غيره، كما في صحيح البخاري: 4|6 وسنن أبي داود 1|586، وتنص رواية ابن سيد الناس في عيون الأثر: 2|341 على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس.
--------------------------------------------------------------------------------
(281)
وروى في بحار الأنوار: 16|272 عن الكافي بسندٍ مقبول عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد، دخل يوم الجمعة. انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلى الله عليه وآله كانت لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، كما يأتي من سيرة ابن كثير.
بل يؤيده أيضاً، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى الله عليه وآله كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة، بدون تحديد يوم راجع البخاري: 2|146 و 184 و 187 و: 4|7 وفيه (وقدم مكة لاَربع ليالٍ خلون من ذي الحجة)، والنسائي: 1|154 و 208 و: 5|121، ومسلم: 4|32، وابن ماجه: 2|993، والبيهقي: 5|33، وغيرها.
ويؤيده أيضاً أن مدة سيره صلى الله عليه وآله من المدينة الى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه، والذي هو في حدود 400 كيلو متراً، وملاحظة سرعة السير، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها.
وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً.
وملاحظة روايات رجوعه ووصوله الى المدينة أيضاً، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير .. الخ.
ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على وصوله الى مكة في الرابع من ذي الحجة. كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم السلام ورواية البخاري الآنفة.
وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجة، كما في عمدة القاري، وإرشاد الساري، وابن حزم، وهامش السيرة الحلبية: 3|257، لاَنها تستلزم أن تكون مدة السير الى مكة عشرة أيام!
* *
--------------------------------------------------------------------------------
(282)
وبهذا يتضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت عليهم السلام الذي اعتمد أصحابه رواية (خمس بقين من ذي القعدة) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت، ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس.
وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات: 2|124، والواقدي في المغازي: 2| 1089 وكذا في هامش السيرة الحلبية: 3|3، والطبري: 3|148، وتاريخ الذهبي: 2|701، وغيرهم.
وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي: السبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاَربعاء، ويكون أول ذي الحجة الخميس، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة، وتكون مدة السير الى مكة تسعة أيام، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً، فظهر ناقصاً.
وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول، فقال في سيرته: 4|217:
وقال أحمد ... عن أنس بن مالك الاَنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف، في حجة الوداع. تفرد به أحمد من هذين الوجهين، وهما على شرط الصحيح. وهذا ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً.
ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لاَنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لاَنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت (بالتواتر والاِجماع) من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع.
فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً: ليلة الجمعة والسبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاِربعاء. فهذه ست ليال. وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر
--------------------------------------------------------------------------------
(283)
أنه يوم الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الاَربعاء واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس. ويؤيده ما وقع في رواية جابر: لخمس بقين أو أربع.
وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه. والله أعلم. انتهى.
ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات، لاَنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري، وتشكيك النسائي. وجزم ابن حزم بأن سفره صلى الله عليه وآله كان يوم الخميس.
(يُتْبَعُ)
(/)
ونلاحظ أن ابن كثير استدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال (لما ثبت بالتواتر والاِجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة) فأي تواترٍ وإجماعٍ يقصد، وما زال في أول البحث؟!
كما أنه استدل على أن سفر النبي صلى الله عليه وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام بأن بدء سفره كان الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة!
وتقدمت الرواية عندنا أنه صلى الله عليه وآله صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة.
ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة، ثم صلى العصر في ذي الحليفة، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة، وواصل سفره صلى الله عليه وآله
**
والنتيجة: أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ، سواء في منطقه، أم في تاريخه وتوقيته .. تستوجب من الباحث المنصف أن يتوقف ولا يأخذ به.
--------------------------------------------------------------------------------
(284)
فيبقى رأي أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض، لاَن المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه .. والمتن الكسيح لا ينفع معه السند الصحيح!!
وفي الختام: فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلَهيٌّ عظيمٌ (عيد إكمال الدين وإتمام النعمة) بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه أعظم الاَعياد الاِسلامية على الاطلاق، ودليله المنطقي واضحٌ، حيث ارتبط العيد الاَسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم، وارتبط عيد الاَضحى بعبادة الحج .. أما هذا العيد، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الاِسلام كله على الاَمة، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته ..
وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الاَحكام، ونعمة الحل الاِلَهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الاِمامة الى يوم القيامة، في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله.
ومادام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الاَمة أعظم أعيادها، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته، ولا مراسمُ تناسب شرعيته وقداسته؟!
فهل يستجيب علماء إخواننا السنة الى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب .. وإعادته الى حياة كل المسلمين، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم!
**
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:10 ص]ـ
الفصل الخامس
آية: سأل سائل بعذاب واقع
قال الله تعالى في مطلع سورة المعارج:
سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج .. . الى آخر السورة الكريمة التي تبلغ 44 آية.
أحداث كانت وراءها قريش
نمهد لتفسير الآية بذكر فهرس عددٍ من الأحداث الخطيرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله .. ثبت أن قريشاً كانت وراء بعضها، وتوجد مؤشرات توجب الظن بأنها كانت وراء الباقي.
الأولى: محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في حنين .. وقد تقدم في البحث الخامس اعتراف بعض زعماء قريش بها!
الثانية: محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في العقبة في طريق رجوعه من تبوك، وقد كانت محاولة متقنةً، نفذتها مجموعةٌ منافقة بلغت نحو عشرين شخصاً، وقد عرفوا أن النبي صلى الله عليه وآله سيمر ليلاً من طريق الجبل بينما يمر الجيش من طريقٍ حول الجبل، وكانت خطتهم أن يكمنوا فوق الطريق الذي سيمر فيه الرسول صلى الله عليه وآله، حتى إذا وصل
--------------------------------------------------------------------------------
(286)
الى المضيق ألقوا عليه ما استطاعوا من صخورٍ لتنحدر بقوةٍ وتقتله، ثم يفرون ويضيعون أنفسهم في جيش المسلمين، ويبكون على الرسول، ويأخذون خلافته!
(يُتْبَعُ)
(/)
وقد تركهم الله تعالى ينفذون خطتهم، حتى إذا بدؤوا بدحرجة الصخور، جاء جبرئيل وأضاء الجبل عليهم، فرآهم الرسول صلى الله عليه وآله وناداهم بأسمائهم، وأراهم لمرافقيْه المؤمنيْن: حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وأشهدهما عليهم، فسارع المنافقون ونزلوا من الجهة الثانية من الجبل، وضيعوا أنفسهم في المسلمين!!
أما لماذا لم يعلن الرسول أسماءهم؟!
فلا جواب إلا أنهم من قريش، ومن المعروفين فيها .. وإعلان أسمائهم يعني معاقبتهم، ومعاقبتهم تعني خطر ارتداد قريش عن الإسلام، وإمكان إقناعها بعض قبائل العرب بالإرتداد، بحجة أن محمداً أعطى كل شيء من بعده لبني هاشم، ولم يعط لقريشٍ والعرب شيئاً!
وهذا يعني السمعة السيئة للإسلام، وأن نبيه صلى الله عليه وآله بعد أن آمن به أصحابه اختلف معهم، وقاتلهم وقاتلوه!
ويعني الحاجة من جديد الى بدرٍ وأحدٍ والخندق وفتح مكة!
ولن تكون نتائج هذه الدورة للإسلام أفضل من الدورة الأولى!
فالحل الإلَهي هو: السكوت عنهم ما داموا يعلنون قبول الإسلام، ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله، وينكرون فعلتهم.
ومن الملاحظ أن روايات مؤامرة العقبة ذكرت أسماء قرشية معروفة، وقد ضعَّفها رواة قريش طبعاً، لكن أكثرهم وثقوا ابن جميْع وغيره من الرواة الذين نقلوا عن حذيفة بن اليمان أسماء هؤلاء الزعماء المشاركين فيها!
كما أنهم رووا عن حذيفة وعمار رواياتٍ فاضحةٍ لبعض الصحابة الذين كانوا يسألونهما عن أنفسهم: هل رأياهم في الجبل ليلة العقبة؟! ويحاولون أن يأخذوا منهما براءةً من النفاق والمشاركة في المؤامرة!
--------------------------------------------------------------------------------
(287)
ورووا أنهم كانوا يعرفون الشخص أنه من المنافقين أم لا، عندما يموت .. فإن صلى حذيفة على جنازته فهو مؤمن، وإن لم يصل على جنازته فهو منافق.
ورووا أن حذيفة لم يصل على جنازة أي زعيمٍ من قريشٍ مات في حياته!!
الثالثة: قصة سورة التحريم، التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وآله أسرَّ بحديثٍ خطيرٍ الى بعض أزواجه، وأكد عليها أن لا تقوله لأحد، ولا بد أن الله تعالى أمره بذلك لحِكَمٍ ومصالح يعلمها سبحانه .. فخالفت (أم المؤمنين) حكم الله تعالى، وأفشت سر زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعملت مع صاحبتها لمصلحة (قريش) ضد مصلحة زوجها الرسول .. فأطْلع الله تعالى نبيه على مؤامرتهما، فأخبرهما بما فعلتا، ونزل القرآن بكشف سرهما وسر من ورائهما، وهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط، اللتين خانتاهما، فدخلتا النار!!
أما رواة الخلافة القرشية فيقولون إن المسألة كانت عائلية، تتعلق بغيرة النساء من بعضهن، وببعض الأخطاء الفنية الخفيفة لهن مع النبي صلى الله عليه وآله!
إنهم يريدونك أن تغمض عينيك عن آيات الله تعالى في سورة التحريم، التي تتحدث عن خطرٍ عظيمٍ على الرسول صلى الله عليه وآله والرسالة، وتحشد أعظم جيشٍ جرارٍ لمواجهة الموقف فتقول (إن تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه، فإن الله هو مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير)
فلمن صغت قلوبهما، ولمصلحة من تعاونتا على الرسول صلى الله عليه وآله؟!
وما هي القضية الشخصية التي تحتاج معالجتها الى هذا الجيش الإلَهي الجرار، الذي لا يستنفره الله تعالى إلا لحالات الطوارىَ القصوى؟!
أما ابن عباس الذي يصفونه بحبر الأمة، فكان يقرأ الآية (زاغت قلوبكما) وبذلك تكون اثنتان من أمهات المؤمنين احتاجتا الى تجديد إسلامهما!
الرابعة: حادثة هجر النبي صلى الله عليه وآله لنسائه شهراً، وشيوع خبر طلاقه لهن .. وذهابه بعيداً عنهن وعن المسجد، الى بيت مارية القبطية الذي كان في طرف المدينة أو خارجها ..
--------------------------------------------------------------------------------
(288)
فقد صورت الروايات القرشية هذه الحادثة على أنها حادثةٌ شخصية .. شخصيةٌ بزعمهم وشغلت النبي صلى الله عليه وآله والوحي والمسلمين!
وادعوا أن سببها كثرة طلبات نسائه المعيشية منه صلى الله عليه وآله، وأكدوا أنه لا ربط للحادثة بقضايا الإسلام المالئة للساحة السياسية آنذاك، والشاغلة لزعماء قريش خاصة ..
(يُتْبَعُ)
(/)
الخامسة: تصعيد عمل قريشٍ ضد علي بن أبي طالب عليه السلام لإسقاط شخصيته، وغضب النبي صلى الله عليه وآله وشدته عليهم في دفاعه عن علي، وتركيزه لشخصيته .. ولهذا الموضوع مفرداتٌ عديدة في حروب النبي وسلمه وسفره وحضره صلى الله عليه وآله، ونلاحظ أنها كثرت في السنة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وآله، وغضب بسببها مراراً، وخطب أكثر من مرة، مبيناً فضل علي عليه السلام وفسق أو كفر من يؤذيه!
ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي الكاسحة، التي روتها مصادر السنيين بطرقٍ عديدة، وأسانيد صحيحة عالية، وكشفت عن وجود شبكة عملٍ منظم ترسل الرسائل وتضع الخطط ضد علي عليه السلام، وسجلت إدانة النبي صلى الله عليه وآله الغاضبة لهم، وتصريحه بأن علياً وليكم من بعدي، وحُكمه بالنفاق على كل من ينتقد علياًوكل من لا يحب علياً، ولا يطيعه .. !
وهي حادثةٌ تكفي دليلاً على ظلم زعماء قريش وحسدهم لعلي عليه السلام .. . الخ.!
السادسة: منع تدوين سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته .. أما القرآن فقد كان عامة الناس يكتبونه من حين نزوله، وكان النبي صلى الله عليه وآله يأمر بوضع ما ينزل منه جديداً بين منبره والحائط، وكان يوجد هناك ورقٌ ودواةٌ، لمن يريد أن يكتبه.
وكان علي عليه السلام يكتب القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وآله الذي يأمره بكتابته.
وكان آخرون يكتبون حديث النبي صلى الله عليه وآله، ومنهم شبانٌ قرشيون يعرفون الكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص ..
وقد أحست قريش بأن ذلك يعني تدوين مقولات النبي صلى الله عليه وآله العظيمة في حق عترته وبني هاشم، ومقولاته في ذم عددٍ كبيرٍ من فراعنة قريش وشخصياتها ..
--------------------------------------------------------------------------------
(289)
فعملت على منع كتابة سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته، في حين أن بعض زعمائها كان يكتب أحاديث اليهود، ويحضر درسهم في كل سبت!! وقد وثقنا ذلك في كتاب تدوين القرآن.
وقد روت مصادر السنيين أن عبد الله بن عمرو شكى الى النبي صلى الله عليه وآله أن (قريشاً) نهته عن كتابة حديثه، لأن أحاديثه التي فيها غضبٌ عليها ليست حجة شرعا!
قال أبو داود في سننه: 2|176:
عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش (؟) وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه الى فيه فقال: أكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق!. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2| 192، و215، والحاكم في المستدرك: 1|105 و: 3|528، وصححه.
السابعة: محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في طريق عودته من حجة الوداع عند عقبة هرشى، وقد كشف الوحي المؤامرة، وكانت شبيهةً الى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى الله عليه وآله في العقبة، في طريق رجوعه من مؤتة!
الثامنة: تصعيد قريش انتقادها لأعمال النبي صلى الله عليه وآله لتركيز مكانة عترته عليهم السلام وأسرته بني هاشم في الأمة، واعتراض عددٍ منهم عليه بصراحةٍ ووقاحةٍ، ومطالبتهم بأن يجعل الخلافة لقريش تدور في قبائلها، أو يشرك مع علي غيره من قبائل قريش، وقد رفض النبي صلى الله عليه وآله كل مطالبهم، لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى، ولم يعط شيئاً من عنده حتى يمنعه، وإنما هو عبدٌ ورسولٌ مبلغ!! صلى الله عليه وآله.
وقد تقدم نص تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى|167، وفيه (جاءه قوم من قريش فقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن الناس قريبو عهد بالإسلام، لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب. فلو عدلت به الى غيره لكان أولى.
--------------------------------------------------------------------------------
(290)
فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله: ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي.
فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا يخالف الناس عليك.
(يُتْبَعُ)
(/)
التاسعة: أن النبي صلى الله عليه وآله عندما كان مريضاً شكل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وجعل تحت إمرته كل زعماء قريش غير بني هاشم، وعقد اللواء لأسامة بن زيد، وأمره أن يسير الى مؤتة في الأردن لمحاربة الروم .. أراد بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثار شهداء مؤتة، وأراد أن يفرغ المدينة من المعارضين لعلي عليه السلام قبيل وفاته صلى الله عليه وآله!
فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة، ولكن زعماء قريش أحبطوا خطة النبي صلى الله عليه وآله بتتثاقلهم عن الإنضمام الى جيش أسامة، وتأخيرهم من استطاعوا عنه، ثم طعنوا في تأمير النبي صلى الله عليه وآله لأسامة الأفريقي الشاب، بحجة صغر سنه، وواصلوا تسويفهم الوقت، والذهاب الى معسكر أسامة ثم الرجوع الى المدينة .. حتى صعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر وشدد على إنفاذ جيش أسامة، وأبلغ المسلمين صدور اللعنة من ربه عز وجل ومنه صلى الله عليه وآله على كل من تخلف عن جيش أسامة!!
العاشرة: تصعيد قريش فعاليتها في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله، وقرارها الخطير بمواجهته صلى الله عليه وآله مباشرةً إذا أراد أن يستخلف علياً وأهل بيته من بعده رسمياً!
وبالفعل فقد قام بمهمة المواجهة زعيم قريش الجديد عمر بن الخطاب، وذلك عندما جمع النبي صلى الله عليه وآله زعماء قريش والأنصار في مرض وفاته، وأخبرهم أنه قرر أن يكتب لأمته كتاباً لن تضل بعده أبداً، فعرفوا أنه يريد أن يثبت ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام على الأمة بصورة مكتوبة، فواجهه عمر بصراحة: لا نريد كتابك وأمانك من الضلال، ولا سنتك ولا عترتك، وحسبنا كتاب الله! وحتى تفسيره من حقنا نحن لا من حقك، وحق عترتك!!
--------------------------------------------------------------------------------
(291)
وأيده القرشيون الحاضرون ومن أثَّروا عليه من الأنصار، وصاحوا في محضر نبيهم صلى الله عليه وآله: القول ما قاله عمر!!
وانقسم المودعون لنبيهم في آخر أيامه، وتشادوا بالكلام فوق رأسه صلى الله عليه وآله!! منهم من يقول قربوا له قلماً وقرطاساً يكتب لكم أماناً من الضلال. وأكثرهم يصيح: القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شيئاً، ولا تدَعُوهُ يكتب!!
ولعل جبرئيل حينذاك كان عند النبي صلى الله عليه وآله فقد كثر نزوله عليه في الأيام الأخيرة، فتشاور معه وأخبره أن الحجة قد تمت، والإصرار على الكتاب يعني دفع قريش نحو الردة، والحل هو الإعراض عنهم، وإكمال تبليغهم بطردهم!!
فطردهم النبي صلى الله عليه وآله وقال لهم: قوموا فما ينبغي عند نبي تنازع! قوموا، فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه .. !!
وحديث إيتوني بدواةٍ وقرطاسٍ حديث معروفٌ، وقد سمى ابن عباس تلك الحادثة (رزية يوم الخميس)، وقد رواها البخاري في ست مواضع من صحيحه!
الحادية عشرة: كان النبي صلى الله عليه وآله مصاباً بحمى شديدة في مرضه، وكان يغشى عليه لدقائق من شدة الحمى ويفيق .. فأحس بأن بعض من حوله أرادوا أن يسقوه دواء عندما أغمي عليه، فأفاق ونهاهم، وشدد عليهم النهي بأن لا يسقوه أي دواء إذا أغمي عليه .. ولكنهم اغتنموا فرصة الإغماء عليه بعد ذلك، وصبوا في فمه دواء فرفضه، ولكنهم سقوه إياه بالقوة!!
فأفاق النبي صلى الله عليه وآله، ووبخهم على عملهم! وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء، ماعدا بني هاشم!!
ورووا أن الجميع شربوا من (ذلك) الدواء!!
هذه الحادثة المعروفة في السيرة بحادثة (لَدّ النبي) صلى الله عليه وآله ينبغي أن تعطى حقها من البحث والتحقيق، فربما كانت محاولةً لقتل النبي صلى الله عليه وآله بالسم!!
--------------------------------------------------------------------------------
(292)
إن وكل واحدة من هذه الحوادث تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة دكتوراه .. ولكنا أردنا منها التمهيد لتفسير آية (سأل سائل) في مطلع سورة المعارج.
وإذا أردت أن تعرف الأبطال الحقيقيين لهذه الحوادث، والأدمغة المخططة لها .. فابحث عن قريش!!
وإذا أردت أن تفهم أكثر وتتعمق أكثر، فابحث .. عن علاقة قريش باليهود!! فاعجب من ذلك، وافهم كيف عصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله من أن ترتد قريش في حياته، وتعلن كفرها بنبوته!
(يُتْبَعُ)
(/)
ولكنه لم يعصمه من أذاها ومؤامراتها .. فذلك هو طريق الأنبياء عليهم السلام وتكاليفه .. لا تغيير فيها!
استنفار قريش بعد الغدير
تحركت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة .. وسكن قلب النبي صلى الله عليه وآله واطمأن .. ولكن قريشاً لم تسكن، بل صارت في حالة غليانٍ من الغيظ!
هكذا تقول الأحاديث، ومنطق الأحداث .. فقريش لا تسكت حتى ترى العذاب الأليم! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لا ينطق إلا وحياً صلى الله عليه وآله: لا أراكم منتهين يا معشر قريش!!
إن آية العصمة من الناس كما قدمنا، لا تعني أن الله تعالى جعل الطريق أمام رسوله صلى الله عليه وآله ناعماً كالحرير، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً طائعاً ..
إن قدرته تعالى لا يمتنع منها شيء .. ولكنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده، أو معصيته ..
وهذا يستوجب أن تبقى لها القدرة على معصيته .. أما على الردة في حياته وفي وجهه .. فلا.
إن قدرتها تصل الى حد قولها لنبيها صلى الله عليه وآله: لا نريد وصيتك ولا سنتك ولا عترتك، حسبنا كتاب الله!!
--------------------------------------------------------------------------------
(293)
لكن ما بعدها ذلك خطٌّ أحمر .. هكذا أراد الله تعالى!!
لقد تحققت عصمة النبي صلى الله عليه وآله من قريش في منعطفات كثيرة في حجة الوداع .. في مكة، وعرفات، وفي ثلاث خطبٍ في منى، خاصةً خطبة مسجد الخيف ..
وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيله صلى الله عليه وآله دون أن يطالبها بالبيعة لعلي!
ولكن الله تعالى لم يكتف بذلك، حتى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة، في صحراء ليس فيها كلأ لخيولهم وجمالهم، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً، إلا دوحةٌ من بضع أشجار على قليل من ماء .. وذلك بعد مسير ثلاثة أيام، ولم يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل، بل كان أول القافلة وصل الى مشارفها، فبعث اليهم وأرجعهم الى صحراء الغدير!
كل ذلك لكي يصعد الرسول صلى الله عليه وآله المنبر في غير وقت صلاة، ليرفع بيد ابن عمه وصهره علي عليه السلام ويقول لهم: هذا وليكم من بعدي، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين، ثم تسعة من ذرية الحسين! عليهم السلام
هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان .. فقد كمَّمَ الله تعالى أفواه قريش عن المعارضة، وفتح أفواههم للموافقة، فقالوا جميعاً: نشهد أنك بلغت عن ربك .. وأنك نعم الرسول .. سمعنا وأطعنا .. وتهافتوا مع المهنئين الى خيمة علي .. وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية (اليوم أكملت لكم دينكم)!
ثم أصغوا جميعاً الى قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي صلى الله عليه وآله، وإبلاغه عن ربه ولاية علي عليه السلام من بعده.
واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر الى ماشاء الله .. ومن بعد صلاة المغرب والعشاء تتابع عدد من المهنئين في العتمة، حتى طلع قمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة .. فقد بات النبي صلى الله عليه وآله في غدير الإمامة، وتحرك الى المدينة بعد صلاة فجره .. وقيل بقي فيه يومان!
--------------------------------------------------------------------------------
(294)
أما كيف سلب الله تعالى قريشاً القدرة على تخريب مراسم الغدير .. وكيف كف ألسنتها .. وهي السليطةُ بالإعتراض .. الجريئةُ على الأنبياء؟!
وكيف جعلها تفكر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد صلى الله عليه وآله يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء؟! فذلك من عمله عز وجل، وقدرته المطلقة .. المطلقة!
هذا هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالى أعظم.
أما الأسلوب الثاني فكان لغة العذاب السماوي، التي تفهمها قريش جيداً، كما كان يفهمها اليهود في زمان أنبيائهم!!
أحجار من السماء للناطقين باسم قريش
ورد في أحاديث السنة والشيعة أسماءٌ عديدةٌ لأشخاصٍ اعترضوا على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام في غدير خم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ويفهم منها أن عدداً منها تصحيفات لاسم شخص واحد، ولكن عدداً آخر لايمكن أن يكون تصحيفاً، بل يدل على تعدد الحادثة، خاصة أن العقاب السماوي في بعضها مختلف عن الآخر .. وهم:
جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ..
والحارث بن النعمان الفهري ..
والحرث بن النعمان الفهري
وعمرو بن عتبة المخزومي ..
والنضر بن الحارث الفهري ..
والحارث بن عمرو الفهري
والنعمان بن الحارث اليهودي
والنعمان بن المنذر الفهري
--------------------------------------------------------------------------------
(295)
وعمرو بن الحارث الفهري
ورجل من بني تيم
ورجل أعرابي .. .
ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة.
وكل هؤلاء قرشيون إلا الربيعي واليهودي إذا صحت روايتهما! وليس فيهم أنصاري واحد، إذ لم يعهد من الأنصار اعتراضٌ على الإمتيازات التي أعطاها الله تعالى لعترة رسوله صلى الله عليه وآله! وإن عهد منهم عدم الوفاء لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله
وخلاصة الحادثة: أن أحد هؤلاء الأشخاص ـ أو أكثر من واحد ـ اعترض على النبي صلى الله عليه وآله واتهمه بأن إعلانه علياً عليه السلام ولياً على الأمة، كان عملاً من عنده وليس بأمر الله تعالى! ولم يقتنع بتأكيد النبي صلى الله عليه وآله له، بأنه ما فعل ذلك إلا بأمر ربه!
وذهب المعترض من عند النبي صلى الله عليه وآله مغاضباً وهو يدعو الله تعالى أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر من عنده .. فرماه الله بحجرٍ من سجيلٍ فأهلكه! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته!
وهذه الحادثة تعني أن الله تعالى استعمل التخويف مع قريش أيضاً، ليعصم رسوله صلى الله عليه وآله من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها .. وبذلك تعزز عند زعماء قريش الإتجاه القائل بفشل المواجهة العسكرية مع النبي صلى الله عليه وآله، وضرورة الصبر حتى يتوفاه الله تعالى!
**
وفي هذا الحديث النبوي، والحادثة الربانية، مسائل وبحوث عديدةٌ أهمها:
المسألة الأولى: في أن مصادر السنيين روت هذا الحديث
لم تختص بروايته مصادرنا الشيعية بل روته مصادر السنيين أيضاً، وأقدم من رواه من أئمتهم: أبو عبيد الهروي في كتابه: غريب القرآن.
--------------------------------------------------------------------------------
(296)
ـ قال في مناقب آل أبي طالب 2|240:
أبو عبيد، والثعلبي، والنقاش، وسفيان بن عينيه، والرازي، والقزويني، والنيسابوري، والطبرسي، والطوسي في تفاسيرهم، أنه لما بلَّغَ رسول صلى الله عليه وآله بغدير خم ما بلَّغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد: جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال:
يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: والذي لا إلَه إلا هو إن هذا من الله.
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل اليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع .. الآية. انتهى.
وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات، وصاحب الغدير، وصاحب إحقاق الحق، وصاحب نفحات الأزهار، وغيرهم .. عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم، فزادت على الثلاثين .. نذكر منهم اثني عشر:
1 ـ الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى بمكة 223، في تفسيره (غريب القرآن)
2 ـ أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى 351، في تفسيره.
3 ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427، في تفسيره (الكشف والبيان)
4 ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب (أداء حق الموالاة)
5 ـ أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى 567، في تفسيره
6 ـ شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى 654 في تذكرته
7 ـ شيخ الإسلام الحمويني المتوفى 722، روى في فرائد السمطين في الباب
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(297)
الثالث عشر قال: أخبرني الشيخ عماد الدين الحافظ بن بدران بمدينة نابلس، فيما أجاز لي أن أرويه عنه إجازة، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد الأنصاري إجازة، عن عبد الجبار بن محمد الحواري البيهقي إجازة، عن الإمام ابي الحسن علي بن أحمد الواحدي قال: قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره: أن سفيان بن عيينة سئل عن قوله عز وجل: سأل سائل بعذاب واقع فيمن نزلت فقال .. ..
8 ـ أبو السعود العمادي المتوفى 982، قال في تفسيره 8|292: قيل هو الحرث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله عليه السلام في علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، قال .. ..
9 ـ شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977، قال: في تفسيره السراج المنير: 4|364: اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس: هو النضر بن الحرث، وقيل: هو الحرث بن النعمان .. ..
10 ـ الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي المتوفى 1044، روى في السيرة الحلبية: 3|302 وقال: لما شاع قوله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحرث بن النعمان الفهري .. .. الى آخر لفظ سبط ابن الجوزي.
11 ـ شمس الدين الحفني الشافعي المتوفى 1181، قال في شرح الجامع الصغير للسيوطي: 2|387 في شرح قوله صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه.
12 ـ أبوعبد الله الزرقاني المالكي المتوفى 1122، في شرح المواهب اللدنية، | 13. انتهى. وسيأتي ذكر بقية مصادر الحديث في بحث أسانيده.
المسألة الثانية: هل أن سورة المعارج مكية أو مدنية
يلاحظ القارىَ أن الجو العام للسورة الشريفة الى آية 36، أقرب الى جو السور
--------------------------------------------------------------------------------
(298)
المدنية وتشريعات سورة النور والمؤمنين، وأن جو الآيات 36 الى آخر السورة أقرب الى جو السور المكية، التي تؤكد على مسائل العقيدة والآخرة.
ولذلك لا يمكن معرفة مكان نزول السورة من آياتها، حسب ما ذكروه من خصائص للسور المكية والمدنية، وضوابط للتمييز بينها .. على أن هذه الخصائص والضوابط غير دقيقة ولا علمية!
وإذا صح لنا أن نكتفي بها، فلا بد أن نقول إن القسم الأخير من السورة من قوله تعالى (فما للذين كفروا قبلك مهطعين) الى آخرها، نزلت أولاً في مكة، ثم نزل القسم الأول منها في المدينة، ووضع في أولها!!
ولكن ذلك ليس أكثر من ظن! والطريق الصحيح لتعيين مكيتها أو مدنيتها هو النص، والنص هنا متعارضٌ سواءً في مصادرنا أو مصادر السنيين، ولكن المفسرين السنيين رجحوا مكيتها وعدوها في المكي.
ولا يبعد أن ذلك هو المرحج حسب نصوص مصادرنا أيضاً.
ـ فقد روى القاضي النعمان في شرح الأخبار 1|241
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: نزلت والله بمكة للكافرين بولاية علي عليه السلام. انتهى.
والظاهر أن مقصوده عليه السلام: أنها نزلت في مكة وكان مقدراً أن يأتي تأويلها في المدينة عند اعتراضهم على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.
ـ وقال الكليني في الكافي 5|450:
قال: سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق، فقال له: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة، أتزعم أنها حلال؟
قال: نعم.
قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك؟
فقال له أبو جعفر: ليس كل الصناعات يرغب فيها، وإن كانت حلالاً، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ، أتزعم أنه حلال؟
--------------------------------------------------------------------------------
(299)
فقال: نعم.
قال: فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكتسبن عليك؟
فقال أبو حنيفة: واحدةٌ بواحدة، وسهمك أنفذ.
ثم قال له: يا أبا جعفر إن الآية التي في سأل سائل، تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله قد جاءت بنسخها؟
فقال له أبو جعفر: يا أبا حنيفة إن سورة سأل سائل مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة ردية.
فقال له أبوحنيفة: وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة؟
فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟
فقال أبو جعفر: لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب، ثم توفي عنها ما تقول فيها؟
قال: لا ترث منه.
قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث. ثم افترقا. انتهى.
وقول أبي حنيفة إن سورة سأل سائل تنطق بتحريم المتعة، يقصد به قوله تعالى في السورة (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم).
فأجابه مؤمن الطاق بأن السورة مكية وآية (فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن) مدنية، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟
ولكن الجواب الأصح: أن المتمتع بها زوجةٌ شرعية، فهي مشمولةٌ لقوله تعالى (إلا على أزواجهم) وقد أفتى عدد من علماء السنيين بأنه يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حتى لو كان ناوياً أن يطلقها غداً، وهو نفس المتعة التي يشنعون بها علينا.
بل أفتى أبو حنيفة نفسه بأن الرجل لو استأجر امرأة لخدمته وكنْس منزله وغسل ثيابه، فقد جاز له مقاربتها بدون عقد زواج، لا دائمٍ ولا منقطع!! بحجة أن عقد
--------------------------------------------------------------------------------
(300)
الإجارة يشمل ذلك! وهذا أوسع من المتعة التي يقول بها الفقه الشيعي، لأن عقد الزواج شرطٌ فيها، وإلا كانت زنا.
والنتيجة أن المرجح أن تكون سورة المعارج مكية، ولكن ذلك لا يؤثر على صحة الحديث القائل بأن العذاب الواقع هو العذاب النازل على المعترض على النبي صلى الله عليه وآله عندما أعلن ولاية علي عليه السلام، لأن ذلك يكون تأويلاً لها، وإخباراً من جبرئيل عليه السلام بأن هذه الحادثة هي من العذاب الواقع الموعود.
فقد تقدمت رواية شرح الأخبار في ذلك، وستأتي منه رواية فيها (فأصابته الصاعقة فأحرقته النار، فهبط جبرئيل وهو يقول: إقرأ يا محمد: سأل سائلٌ بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع). وهي كالنص في أن جبرئيل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وآله بتطبيق الآية أو تأويلها.
بل يظهر من أحاديثنا أن ما حل بالعبدري والفهري ما هو جزءٌ صغيرٌ من (العذاب الواقع) الموعود، وأن أكثره سينزل تمهيداً لظهور الإمام المهدي عليه السلام أو نصرةً له ..
ـ وقد أوردنا في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام: 5|458 عدة أحاديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام في تفسير العذاب الواقع بأحداثٍ تكون عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام.
ـ منها ما رواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره: 2|385 قال:
سأل سائلٌ بعذاب واقع، قال: سئل أبو جعفر عليه السلام عن معنى هذا، فقال: نارٌ تخرج من المغرب، وملكٌ يسوقها من خلفها حتى تأتي دار بني سعد بن همام عند مسجدهم، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها، ولا تدع داراً فيها وترٌ لآل محمدٍ إلا أحرقتها، وذلك المهدي عليه السلام.
ـ ومنها مارواه النعماني في كتاب الغيبة|272 قال:
حدثنا محمد بن همام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الحسن بن علي، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد
--------------------------------------------------------------------------------
(301)
الله جعفر بن محمد عليهما السلام في قوله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع، قال: تأويلها فيما يأتي عذابٌ يقع في الثوية يعني ناراً حتى تنتهي الى الكناسة كناسة بني أسد، حتى تمر بثقيف لا تدع وتراً لآل محمد إلا أحرقته، وذلك قبل خروج القائم عليه السلام. انتهى.
والأمكنة التي ذكرتها الروايتان، من أمكنة الكوفة التي ثبت أن الإمام المهدي عليه السلام سيتخذها عاصمةً له.
وقول الإمام الصادق عليه السلام (تأويلها فيما يأتي) يدل على أن مذهب أهل البيت عليهم السلام أن العذاب الواقع في الآية وعيدٌ مفتوحٌ منه ما وقع فيما مضى على المشركين والمنافقين، ومنه ما يقع فيما يأتي على بقيتهم .. وهو المناسب مع إطلاق التهديد في الآية، ومع سنة الله تعالى وانتصاره لدينه وأوليائه.
المسألة الثالثة: هل العذاب في سورة المعارج دنيوي أم أخروي
المتأمل في السورة نفسها بقطع النظر عن الأحاديث والتفاسير .. يلاحظ أن موضوعها ومحور كل آياتها هو العذاب الأخروي وليس الدنيوي.
(يُتْبَعُ)
(/)
كما أن آياتها لا تنص على ذم السائل عن ذلك العذاب، فقد يكون مجرد مستفهمٍ لا ذنب له، وقد يكون السائل بالعذاب هنا بمعنى الداعي به، وقد رأيت أن القرطبي ذكر قولاً بأن السائل بالعذاب نبي الله نوح عليه السلام، وقولاً آخر بأنه نبينا صلى الله عليه وآله!
ولذلك يرد في الذهن سؤال: من أين أطبق المفسرون الشيعة والسنة على أنها تشمل العذاب الدنيوي، وأن ذلك السائل بالعذاب سأل متحدياً ومكذباً؟!
والجواب: أن سر ذلك يكمن في (باء) العذاب، وأن (سأل به) تعني التساؤل عن الشيىء المدعى وطلبه، استنكاراً وتحدياً!
فكلمة: سأل به، تدل على أن السائل سمع بهذا العذاب، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان ينذرهم بالعذاب الدنيوي والأخروي معاً .. فتساءل عنه، وأنكره، وتحدى أن يقع!
وقد أجابه الله تعالى بالسورة، ولم ينف سبحانه العذاب الدنيوي لأعدائه، وإن كان ركز على العذاب الأخروي وأوصافه، لأنه الأساس والأكثر أهميةً واستمراراً،
--------------------------------------------------------------------------------
(302)
ولأن صفته الجزائية أكثر وضوحاً.
فكأن السورة تقول: أيها المستهزؤون بالعذاب الذي ينذركم به رسولنا .. إن كل ما أنذركم به من عذاب دنيوي أو أخروي سوف يقع، ولا دافع له عن الكفار .. فآمنوا بالله ليدفعه عنكم، بحسب قوانينه تعالى في دفع عذابه عن المؤمنين.
فقوله تعالى (للكافرين ليس له دافع) ينفي إمكان دفعه عن الكافرين، فهو ثابت لمن يستحقه منهم، وهو أيضاً ثابتٌ لمن يستحقه من الذين قالوا آمنا، لكن دافعٌ هو التوبة والإستغفار مثلاً.
كما أن (الكافرين) في الآية لا يبعد أن تكون بالمعنى اللغوي، فتشمل الكافرين ببعض آيات الله تعالى، أو بنعمه، ولو كانوا مسلمين.
وعندما نشك في أن كلمة استعملت بمعناها اللغوي أو الإصطلاحي، فلا بد أن نرجح المعنى اللغوي، لأنه الأصل، والإصطلاحي يحتاج الى قرينة.
وقد وقع المفسرون السنيون في تهافتٍ في تفسير السورة، لأنهم جعلوا (العذاب الواقع) عذاباً أخروياً أو لغير المسلمين، وفي نفس الوقت فسروه بعذاب النضر بن الحارث العبدري بقتله يوم بدر، فصار بذلك شاملاً للعذاب الدنيوي!
ويلاحظ الباحث في التفاسير السنية أنه يوجد منهجٌ فيها، يحاول أصحابه دائماً أن يفسروا آيات العذاب الواردة في القرآن الكريم ـ خاصة التي نزلت في قريش ـ بالعذاب الأخروي، أو يرموها على أهل الكتاب، ويبعدوها عن المسلمين، حتى المنافقين منهم! وقد أوجب عليهم هذا المنهج في تبرئة قريش، أن يتهموا النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا ربه بالعذاب على قومه، فلم يستجب له! بل وبخه الله تعالى بقوله: ليس لك من الأمر شيء .. الخ ..
وهكذا ركزت الدولة القرشية مقولة اختيار الله لقريش، وعدم سماحه بعذابها، وجعلتها أحاديث نبوية، ولو كان فيها تحطئةٌ وإهانةٌ للنبي صلى الله عليه وآله، وأدخلتها في مصادر التفسير والحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
(303)
أما عندما يضطرون الى الإعتراف بوقوع العذاب الدنيوي لأحد فراعنة قريش، فيقولون إنه خاصٌ بحالة معينة، مثل حالة النضر بن الحارث، وقد وقعت في بدر وانتهى الأمر!
ـ فقد اختار الفخر الرازي في تفسيره: 30|122
أن العذاب المذكور في مطلع السورة هو العذاب الأخروي، وأن الدنيوي مخصوص بالنضر بن الحارث، قال: (لأن العذاب نازل للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، وقد وقع بالنضر لأنه قتل يوم بدر) ثم وصف هذا الرأي بأنه سديد .. وهو بذلك يتبع جمهور المفسرين السنيين، مع أن السورة لا تشير الى انتهاء أي نوع من العذاب الموعود!!
على أن منهج المفسرين في إبعاد العذاب عن قريش، أقل تشدداً من منهج المحدثين الرسميين، فهولاء لايقبلون (العذاب الواقع) لأحدٍ من قريش، حتى للنضر بن الحارث، وحتى لأبي جهل! بل هم الذين فتحوا باب تهمة النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا على قومه، فخطَّأَهُ الله تعالى ووبخه!!
ـ فقد روى البخاري في صحيحه: 5|199
(يُتْبَعُ)
(/)
عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. ورواه البخاري في عدة أماكن أخرى، ورواه مسلم في: 8|129 ..
وإذا أردت أن تقرأ ما لا تكاد تصدقه عيناك، فاقرأ ما رووه في تفسير قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) فهي آيةٌ تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله كل أنواع الألوهية والشراكة لله تعالى، ولكنها في نفس الوقت لا تسلب عنه شيئاً من مقامه النبوي وخلقه العظيم وحكمته، وحرصه على هداية قومه .. ولكن انظر كيف صور المحدثون النبي صلى الله عليه وآله في تفسيرها بأنه ضيق الصدر، مبغضٌ لقريش، يريد الإعتداء عليها وظلمها .. !!
--------------------------------------------------------------------------------
(304)
فنزل الوحي مدافعاً عن هذه القبائل المقدسة، ورد عدوانية نبيها!!
ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا الموضوع، ولكن القارىَ السني يجد نفسه متحيراً بين ولاء المفسرين لقريش كمجاهد الذي يسمح بكون قتل بعض فراعنتها كالنضر عذاباً لها، وبين ولاء المحدثين لقريش كالبخاري الذي يقول إن قتل النضر وأبي جهل ليس هو العذاب الإلَهي، فهؤلاء قومٌ برزوا الى مضاجعهم، فقد رفع الله عذابه عن قريش، ووبخ رسوله، لأنه دعا عليها!!
**
وأخيراً يمكن للباحث أن يستدل لنصرة رأي المفسرين القائل بأن العذاب السورة يشمل العذاب الدنيوي، بما رواه ابن سعد في الطبقات، من قصة اختلاف طلحة والزبير وابنيهما على إمامة الصلاة في معسكر عائشة في حرب الجمل، قال:
ولما قدموا البصرة أخذوا بيت المال، وختماه جميعاً طلحة والزبير، وحضرت الصلاة فتدافع طلحة والزبير حتى كادت الصلاة تفوت، ثم اصطلحا على أن يصلي عبد الله بن الزبير صلاةً ومحمد بن طلحة صلاةً، فذهب ابن الزبير يتقدم فأخره محمد بن طلحة، وذهب محمد بن طلحة يتقدم فأخره عبد الله بن الزبير عن أول صلاة!! فاقترعا فقرعه محمد بن طلحة، فتقدم فقرأ: سأل سائل بعذاب واقع!! انتهى. فقد فهم محمد بن طلحة القرشي التيمي من السورة أنها تهديدٌ بعذاب دنيوي ولذلك هدد بها ابن الزبير. وهو دليلٌ على أن الإرتكاز الذهني عند الصحابة المعاصرين للنزول، أن العذاب في السورة يشمل العذاب الدنيوي أيضاً.
المسألة الرابعة: موقف السنيين من الحديث
ولكن الذين ذكروا الحديث من السنيين ليس موقفهم منه واحداً، فمنهم من قبله ورجحه على غيره كأبي عبيد والثعلبي والحمويني، ومنهم من نقله بصيغة: روي أو قيل. ومنهم من رجح غيره عليه، ولكن أحداً منهم لم يطعن فيه .. وأقل موقفهم منه أنه حديثٌ موجودٌ، قد يكون سنده صحيحاً، ولكن غيره أرجح منه، كما سترى.
--------------------------------------------------------------------------------
(305)
إن العالم السني يرى نفسه ملزماً باحترام هذا الحديث، بل يرى أنه بإمكانه أن يطمئن اليه ويأخذ به، لأن الذين قبلوه من أئمة العلم والدين قد يكتفي العلماء بمجرد نقل أحدهم للحديث وقبوله له، كأبي عبيد وسفيان بن عيينة ..
وقد رأينا المحدث الألباني الذي يعتبره الكثيرون المجتهد الأول في التصحيح والتضعيف في عصرنا، ربما يكتفي في سلسلته أحاديثه الصحيحة للحكم بصحة الحديث بتصحيح عالمين أو ثلاثة من قبيل: ابن تيمية والذهبي وابن قيم.
مضافاً الى أن المحدثين السنة ذكروا له طرقاً أخرى، عن حذيفة، وعن أبي هريرة وغيرهما.
وتجد ترجمات هؤلاء الأئمة مفصلةً في مصادر الجرح والتعديل السنية، وفي عبقات الأنوار، والغدير، ونفحات الأزهار، من مصادرنا.
نماذج من تفسيرات السنيين لآية: سأل سائل
ـ قال الشوكاني في فتح القدير: 5|352:
وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل يوم بدر صبراً.
وقيل: هو أبو جهل. وقيل: هو الحارث بن النعمان الفهري. والأول أولى لما سيأتي. انتهى.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقصده بما يأتي ما ذكره في ص 356، من رواياتهم التي تثبت أن السورة مكية وأن صاحب العذاب الواقع هو النضر، وليس ابنه جابراً، ولا الحارث الفهري قال: وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردوية عن ابن عباس في قوله: سأل سائل، قال: هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء. انتهى.
ولم يذكر الشوكاني الحديث المروي في جابر والحارث، ومن رووه، ولماذا رجح عليه حديث النضر؟ هل بسبب السند أو الدلالة .. . الخ.
--------------------------------------------------------------------------------
(306)
ولو أنه اقتصر على ذكر ما اختاره في سبب نزولها لكان له وجهٌ، ولكنه ذكر القولين، وذكر رواية أحدهما دون الآخر، وبذلك ابتعد عن إنصاف العالم الباحث.
لكن شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى سنة 977، صاحب التفسير المعروف، كان أكثر إنصافاً من الشوكاني، فقد ذكر السببين معاً، فقال كما نقل عنه صاحب عبقات الأنوار: 7|398:
سأل سائل بعذاب واقع: اختلف في هذا الداعي، فقال ابن عباس: هو النضر بن الحارث. وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه، ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته في الأبطح ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك .. .الخ .. انتهى.
أما أبو عبيد المتوفى سنة 223، فقد جعل الحديث سبباً لنزول الآية على نحو الجزم، لأنه ثبت عنده، ولعله لم يثبت عنده غيره حتى يذكره، فقال كما في نفحات الأزهار: 7|291
لما بلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغَ، وشاع ذلك في البلاد، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال:
يا محمد! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلاالله وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم والحج، والزكاة، فقبلنا منك .. ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟!
فقال رسول الله: والله الذي لا إلَه إلا هو إنَّ هذا من الله.
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع .. الآية. انتهى.
ـ وقال القرطبي في تفسيره: 18|278
أي سأل سائل عذاباً واقعاً. للكافرين: أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث
--------------------------------------------------------------------------------
(307)
حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزل سؤاله. وقتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه (من كنت مولاه فعلي مولاه) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح .. الى آخره، بنحو رواية أبي عبيد. ثم قال:
وقيل: إن السائل هنا أبو جهل، وهو القائل لذلك، قاله الربيع.
وقيل: إنه قول جماعةٍ من كفار قريش.
وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب، وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام الى قوله تعالى: فاصبر صبراً جميلاً أي: لا تستعجل فإنه قريب. انتهى.
وبذلك نلاحظ أن المفسرين السنيين وإن كانوا يرجحون تفسير الآية بالنضر بن الحارث العبدري، ويرحجون أن العذاب الموعود فيها هو قتله في بدر .. ولكنهم في نفس الوقت يذكرون تفسيرها بوقوع العذاب على من اعترض على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية علي عليه السلام من بعده في غدير خم.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومجرد ورود هذا التفسير في مصادرهم بصفته قولاً محترماً في تفسير الآية، ولو رجحوا عليه غيره، يدل على وجود إعلان نبوي رسمي بحق علي، ووجود اعتراضٍ عليه! فالمسلم لا يحتاج الى أكثر من اعتراف المفسرين بذلك، سواءً وقعت الصاعقة على المعترض أم لم تقع، وسواء نزلت سورة المعارج عند هذه الحادثة أو لم تنزل!! فلا بد للشيعي من توجيه الشكر لهم، وإن ناقشهم في الوجه الآخر الذي رجحوه. وأهم االإشكالات التي ترد عليه: أن روايته ليست مرفوعة الى النبي صلى الله عليه وآله، بينما تفسير الشيعة مرفوع.
--------------------------------------------------------------------------------
(308)
ورواية تفسيرهم عن ابن عباس ومجاهد لا تحل المشكلة، خاصةً إذا كانت من راويه عكرمة المجروح عندنا وعندهم.
ويرد على تفسيرهم أيضاً: أن من المتفق عليه عندهم تقريباً أن السؤال في الآية حقيقي وليس مجازياً، فقد حدث أن سأل النضر بن الحارث بالعذاب، وطلب نزوله فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فعذبه الله في بدرٍ بالقتل.
مع أن آية مطر الحجارة من سورة الأنفال التي نزلت مع أحكام الأنفال، بعد بدر وبعد قتل النضر .. ومن البعيد أن يكون جواب قول النضر نزل في سورة مكية قبل الهجرة، ونفس قوله نزل في سورة مدنية، بعد هلاكه.
ويرد عليه أيضاً: أن قولهم (اللهم إن كان هذا هوالحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء) أكثر تناسباً وانطباقاً على تفسيرنا، وأصعب انطباقاً على تفسيرهم .. لأن معناه على تفسيرهم: اللهم إن كان هذا الدين منزلاً من عندك فأمطر علينا حجارة. ومعناه على تفسيرنا: اللهم إن الحكم لآل محمد صلى الله عليه وآله من بعده منزلاً من عندك، فأمطر علينا حجارة .. وهذا أكثر تناسباً، لأن الدعاء بحجارة من السماء لا يقوله قائله إلا في حالة اليأس من التعايش مع وضع سياسي جديد، يتحدى وضعه القبلي المتجذر في صميمه!!
ويرد عليه أيضاً: أنه لو صح، فهو لا يمنع من تفسيرنا، فلا وجه لافتراضهم التعارض بينهما .. فأي تعارض بين أن يكون العذاب الواقع هوالعذاب الذي وقع على النضر بن الحارث في بدر، ثم وقع على ولده جابر بن النضر، كما في رواية أبي عبيد، ثم وقع ويقع لى آخرين من مستحقيه!
وينبغي أن نشير هنا الى قاعدة مهمة في تفسير القرآن والنصوص عامة، وهي: ضرورة المحافظة على إطلاقات النص ما أمكن وعدم تضييقها وتقييدها .. فالآية الكريمة تقول إن أحدهم تحدى وتساءل عن العذاب الموعود، الذي أنذر به
--------------------------------------------------------------------------------
(309)
النبي صلى الله عليه وآله، فأجابه الله تعالى إنه واقعٌ بالكفار لا محالة كما أنذركم به رسولنا صلى الله عليه وآله حرفياً، في الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ في الكفار وفي من آمن، حسب القوانين الخاصة التي وضعها له الله تعالى.
وعليه فيكون عذاب الله تعالى لقريش في بدر والخندق من ذلك العذاب الواقع الموعود، وعذابهم بالجوع والقحط منه أيضاً، وعذابهم بفتح مكة وتسليمهم وخلعهم سلاحهم منه أيضاً .. ويكون عذاب المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية عترته من بعده منه أيضاً!
فلا موجب لحصر الآية بالنضر وحده، ولا لتضييق العذاب المنذر به بقتل شخص، ولو كان من الفراعنة، ولا حصره في عصر دون العصور الآتية، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..
وكم تجد عند المفسرين السنيين من هذه التضييقات في آيات العذاب والرحمة حيث يحصرون أنفسهم فيها بلا موجب، ويحصرون فيها كلام الله المطلق، بلا دليل!
المسألة الخامسة: موقف النواصب من حديث حجر السجيل
أما النواصب المبعضون لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فلم نعثر على أحدٍ منهم رد هذا الحديث وكذبه قبل ابن تيمية، فقد هاجمه بعنف وتخبط في رده! وتبعه على ذلك من المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه تفسير المنار .. ومن الملاحظ أن هذا الشخص متأثرٌ بابن تيمية وتلميذه ابن قيم المدرسة الجوزية، بل مقلدٌ لهما في كثير من أفكارهما، وقد أدخلها في تفسيره، واستفاد لذلك من اسم أستاذه الشيخ محمد عبده رحمه الله وادعى أنه ميز بين أفكاره وأفكار أستاذه!
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن يقرأ تفسير المنار يلمس الفرق بين الجزءين الأولين اللذين كتبهما في حياة الشيخ محمد عبده، واستفاد مما سجله من دروسه، وفيهما من عقلانيته رحمه الله واعتقاده بولاية أهل البيت عليهم السلام .. وبين الأجزاء التي أخرجها الشيخ رشيد رضا بعد
--------------------------------------------------------------------------------
(310)
وفاة الشيخ محمد عبده، أو أعاد طباعتها، وفيها الكثير من الأفكار الجامدة والناصبة لأهل البيت عليهم السلام.
وقد نقل صاحب تفسير المنار في 6 |464 وما بعدها عن تفسير الثعلبي:
أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله في موالاة علي شاع وطار فى البلاد، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي صلى الله عليه وآله على ناقة وكان بالابطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك .. . ثم ذكر سائر أركان الإسلام .. . ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا منك أم من الله! فقال صلى الله عليه وآله: والله الذي لا إلَه إلا هو هو أمر الله.
فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجاره من السماء أو ائتنا بعذاب اليم! فما وصل الى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع الحديث .. .
وهذه الرواية موضوعةٌ، وسورة المعارج هذه مكية، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجره وهذا التذكير في سورة الأنفال، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد، ولم يعرف في الصحابة، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم الى مكة، بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع الى المدينة. انتهى.
وكأن رشيد رضا اغتاظ من هذا الحديث، وحاول تكذيبه من ناحية سنده فلم يجد ما يشفي غليله، ولما وجد تكذيب ابن تيمية له بنقد متنه فرح به وتبناه، ولكنه لم ينسبه اليه!
وعمدة ما قاله ابن تيمية وصاحب المنار: أن مكان الرواية الأبطح، وهو مكان في
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:11 ص]ـ
مكة، والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع بعد الغدير الى مكة .. وقد جهلا أو تجاهلا أبطح المدينة المشهور!
ثم قالا: إن الرواية تدعي أن الآية نزلت في المدينة، مع أن سورة المعارج مكية .. وقد تجاهلا أن جوَّ السورة الى الآية 36 على الأقل مدني، وأن هذا الحديث دليل على مدنيتها.
ثم لو صح كونها مكية، فقد يتكرر نزول الآية لبيان تفسيرها أو تأويلها، فتكون الحادثة تأويلاً لها. وقد روى المفسرون نزول آية (إنا أعطيناك الكوثر) في عدة مواضع تسليةً لقلب الرسول صلى الله عليه وآله.
فما المانع أن يكون تأويلها قد تحقق في (عشيرة العذاب الواقع) فتحقق في الأب النضز بن الحارث عندما قتله النبي صلى الله عليه وآله في بدر، ثم تحقق في الإبن جابر عندما قتله الله بحجر من السماء في أبطح المدينة، وأن يكون جبرئيل عليه السلام أكد الآية كلما تحقق تأويلها.
ثم من حق الباحث أن يقول لهما: لو سلمنا أن ذكر نزول الآية في الحادثة خطأ، أو زيادة، فما ذنب بقية الحديث! ولماذا يردونه كله ولا يقتصرون على رد زيادته وهو نزول الآية بمناسبته؟!
ـ وقد ناقش صاحب تفسير الميزان 6|54 تضعيف صاحب المنار للحديث فقال:
وأنت ترى ما في كلامه من التحكم. أما قوله إن الرواية موضوعة وسورة المعارج هذه مكية، فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، وليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، والجميع آحاد.
سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياتها، فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية؟ فلتكن السورة مكية والآيتان خاصة غير مكيتين.
كما أن سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنية نازلة في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وقد
--------------------------------------------------------------------------------
(312)
(يُتْبَعُ)
(/)
وضعت فيها الآية المبحوث عنها، أعني قوله تعالى: ياأيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، الآية، وهو كغيره من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة! ...
وأما قوله وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش الى آخره، فهو في التحكم كسابقه، فهب أن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين، فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها، كما وضعت آيات الربا وآية: واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله: البقرة ـ 281، وهي آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله عندهم، في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة، وقد نزلت قبلها ببضع سنين؟
ثم قوله إن آية: وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق، الآية، تذكيرٌ لما قالوه قبل الهجرة، تحكمٌ آخر من غير حجة، لو لم يكن سياق الآيه حجة على خلافه، فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعني قوله: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، لاشتماله على قوله: إن كان هذا هو الحق من عندك بما فيه من اسم الاشاره وضمير الفصل والحق المحلى باللام، وقوله من عندك، ليس كلام وثني مشرك يستهزىء بالحق ويسخر منه، إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، ويرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه وأن الشرائع مثلاً تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب الى الله تعالى يدعي مدع أنه الحق لا غيره، وهو لا يتحمل ذلك ويتحرج منه، فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.
وأما قوله: وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد، ولم يعرف في الصحابة، تحكمٌ آخر، فهل يسع أحداً أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله، وآمن به، أو آمن به فارتد!
وإن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.
وأما قوله والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم الى مكة، فهو يشهد
--------------------------------------------------------------------------------
(313)
على أنه أخذ لفظ الأبطح اسماً للمكان الخاص بمكة، ولم يحمله على معناه العام وهو كل مكان ذي رمل .. ولا دليل على ما حمله عليه، بل الدليل على خلافه وهو القصة المسرودة فى الرواية وغيرها ...
قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة: كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح ....
على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي، وليس فيه ذكر من الأبطح، وهي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور وغيرها.
وبعد هذا كله، فالرواية من الآحاد وليست من المتواترات، ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمه أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية، على طبق الميزان العام العقلائي، الذي عليه بناء الإنسان في حياته، وإنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة. انتهى.
**
وكلام صاحب الميزان في رد تضعيف رشيد رضا للحديث كلامٌ قوي، لكن ليته بدل أن يضعِّفه هو بدعوى أنه من أخبار الآحاد، اطلع على مصادره ورواته .. وعلى بحث الأميني حوله في المجلد الأول من الغدير، وبحث السيد النقوي الهندي في عبقات الأنوار: 7 و 8، وغيرهما.
ـ ونورد فيما يلي خلاصةً لما كتبه صاحب الغدير رحمه الله في: 1|239، قال:
ومن الآيات النازلة بعد نص الغدير، قوله تعالى من سورة المعارج: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج.
وقد أذعنت به الشيعة وجاء مثبتاً في كتب التفسير والحديث لمن لا يستهان بهم من علماء أهل السنة، ودونك نصوصها.
--------------------------------------------------------------------------------
(314)
ثم أورد صاحب الغدير نصوص ثلاثين مؤلفاً رووا الحديث بعدة طرق، وفيهم محدثان أقدم من الثعلبي كما تقدم .. ثم أفاض في رد الوجوه التي ذكرها ابن تيمية في كتابه منهاج السنة: 4|13، وأجاب عنها، ونورد فيما يلي خلاصتها، قال:
(يُتْبَعُ)
(/)
الوجه الأول: إن قصة الغدير كانت في مرتجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وقد أجمع الناس على هذا، وفي الحديث: أنها لما شاعت في البلاد جاءه الحارث، وهو بالأبطح بمكة، وطبع الحال يقتضي أن يكون ذلك بالمدينة، فالمفتعل للرواية كان يجهل تاريخ قصة الغدير.
الجواب: أولاً ما سلف في رواية الحلبي في السيرة، وسبط ابن الجوزي في التذكرة، والشيخ محمد صدر العالم في معارج العلى، من أن مجئ السائل كان في المسجد ـ إن أريد منه مسجد المدينة ـ ونص الحلبي على أنه كان بالمدينة، لكن ابن تيمية عزب عن ذلك كله، فطفق يهملج في تفنيد الرواية بصورة جزمية .... فحسب اختصاص الأبطح بحوالي مكة، ولو كان يراجع كتب الحديث ومعاجم اللغة والبلدان والأدب لوجد فيها نصوص أربابها بأن الأبطح كل مسيل فيه دقاق الحصى
ـ روى البخاري في صحيحه: 1|181، ومسلم في صحيحه: 1|382
عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها.
الوجه الثاني: أن سورة المعارج مكية باتفاق أهل العلم، فيكون نزولها قبل واقعة الغدير بعشر سنين أو أكثر من ذلك.
الجواب: أن المتيقن من معقد الإجماع المذكور هو نزول مجموع السورة مكياً، لا جميع آياتها، فيمكن أن يكون خصوص هذه الآية مدنياً، كما في كثير من السور.
ولا يرد عليه أن المتيقن من كون السورة مكية أو مدنية، هو كون مفاتيحها كذلك أو الآية التي انتزع منها اسم السورة، لما قدمناه من أن هذا الترتيب هو ما اقتضاه التوقيف، لا ترتيب النزول، فمن الممكن نزول هذه الآية أخيراً، وتقدمها
--------------------------------------------------------------------------------
(315)
على النازلات قبلها بالتوقيف، وإن كنا جهلنا الحكمة في ذلك، كما جهلناها في أكثر موارد الترتيب في الذكر الحكيم، وكم لها من نظير ومن ذلك:
1 ـ سورة العنكبوت، فإنها مكية إلا من أولها عشرة آيات، كما رواه الطبري في تفسيره في الجزء العشرين|86، والقرطبي في تفسيره 13|323
. 2 ـ سورة الكهف، فإنها مكية إلا من أولها سبع آيات، فهي مدنية ... كما في تفسير القرطبي 10|346، وإتقان السيوطي 1|16 ...
ثم عدد الأميني سبع عشرة سورة مكية فيها آيات مدنية، وسوراً مدنية فيها آيات مكية ..
الوجه الثالث: أن قوله تعالى: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، نزلت عقيب بدر بالإتفاق قبل يوم الغدير بسنين.
الجواب: كأن هذا الرجل يحسب أن من يروي تلك الأحاديث المتعاضدة يرى نزول ما لهج به الحارث بن النعمان الكافر من الآية الكريمة ... في اليوم المذكور.
والقارئ لهاتيك الأخبار جد عليم بمينه في هذا الحسبان، أو أنه يرى حجراً على الآيات السابق نزولها أن ينطق بها أحدٌ، فهل في هذه الرواية غير أن الرجل المرتد الحارث أو جابر تفوه بهذه الكلمات؟ وأين هو من وقت نزولها، فدعها يكن نزولها في بدر أو أحد، فالرجل أبدى كفره بها كما أبدى الكفار قبله إلحادهم بها!
لكن ابن تيمية يريد تكثير الوجوه في إبطال الحق الثابت.
الوجه الرابع: أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون بمكة، ولم ينزل عليهم العذاب هناك لوجود النبي صلى الله عليه وآله، لقوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
الجواب: لا ملازمة بين عدم نزول العذاب في مكة على المشركين، وبين عدم نزوله هاهنا على الرجل، فإن أفعال المولى سبحانه تختلف باختلاف وجوه الحكمة.
--------------------------------------------------------------------------------
(316)
ثم أورد الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله فعذبهم الله تعالى، ثم قال: ولو كان وجود الرسول صلى الله عليه وآله مانعاً عن جميع أقسام العذاب بالجملة، لما صح ذلك التهديد، ولما أصيب النفر الذين ذكرناهم بدعوته، ولما قتل أحد في مغازيه بعضبه الرهيف، فإن كل هذه من أقسام العذاب، أعاذنا الله منها.
الوجه الخامس: أنه لو صح ذلك لكان آيةً كآية أصحاب الفيل، ومثلها تتوفر الدواعي لنقله، ولما وجدنا المصنفين في العلم من أرباب المسانيد والصحاح والفضايل والتفسير والسير ونحوها، قد أهملوه رأساً فلا يروى إلا بهذا الإسناد المنكر، فعلم أنه كذب باطل.
(يُتْبَعُ)
(/)
الجواب: إن قياس هذه التي هي حادثة فردية، لا تحدث في المجتمع فراغاً كبيراً يؤبه له، وورائها أغراض مستهدفة تحاول إسدال ستور الإنساء عليها كما أسدلوها على نص الغدير نفسه ... مجازفةٌ ظاهرةٌ، فإن من حكم الضرورة أن الدواعي في الأولى دونها في الثانية ....
وأما ما ادعاه ابن تيمية من إهمال طبقات المصنفين لها، فهو مجازفة أخرى، لما أسلفناه من رواية المصنفين لها من أئمة العلم، وحملة التفسير، وحفاظ الحديث، ونقلة التاريخ ....
لم نعرف المشار إليه في قوله: بهذا الإسناد المنكر! فإنه لا ينتهي إلا الى حذيفة بن اليمان الصحابي العظيم، وسفيان بن عيينة المعروف بإمامته في العلم والحديث والتفسير، وثقته في الرواية.
وأما الإسناد إليهما، فقد عرفه الحفاظ والمحدثون والمفسرون المنقبون في هذا الشأن، فوجدوه حرياً بالذكر والإعتماد، وفسروا به آيات من الذكر الحكيم، من دون أي نكير، ولم يكونوا بالذين يفسرون الكتاب بالتافهات.
نعم: هكذا سبق العلماء وفعلوا، لكن ابن تيمية استنكر السند، وناقش في المتن لأن شيئاً من ذلك لا يلائم دعارة خطته.
--------------------------------------------------------------------------------
(317)
الوجه السادس: أن المعلوم من هذا الحديث أن حارثاً المذكور كان مسلماً باعترافه بالمبادئ الخمسة الإسلامية، ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً من المسلمين لم يصبه عذاب على العهد النبوي.
الجواب: إن الحديث كما أثبت إسلام الحارث، فكذلك أثبت ردته برده قول النبي صلى الله عليه وآله وتشكيكه فيما أخبر به عن الله تعالى، والعذاب لم يأته حين إسلامه، وإنما جاءه بعد الكفر والإرتداد ... على أن في المسلمين من شملته العقوبة لما تجرؤوا على قدس صاحب الرسالة ... ثم ذكر الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين، منهم من ذكره مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع: أن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وآله بشماله، فقال: كل بيمينك. قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت! قال: فما رفعها الى فيه بعد .. الخ.!
الوجه السابع: أن الحارث بن النعمان غير معروف في الصحابة، ولم يذكره ابن عبد البر في الإستيعاب وابن مندة وأبو نعيم الإصبهاني وأبو موسى في تآليف ألفوها في أسماء الصحابة، فلم نتحقق وجوده.
الجواب: إن معاجم الصحابة غير كافلةٍ لاستيفاء أسمائهم، فكل مؤلف من أربابها جمع ما وسعته حيطته وأحاط به إطلاعه، ثم جاء المتأخر عنه فاستدرك على من قبله بما أوقفه السير في غضون الكتب وتضاعيف الآثار، وأوفى ما وجدناه من ذلك كتاب الإصابة بتمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، ومع ذلك فهو يقول في مستهل كتابه: ومع ذلك فلم يحصل لنا من ذلك جميعاً الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة الى ما جاء عن أبي زرعة الرازي قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان، من رجل وامرأة، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية ....
وبعد هذا كله فالنافي لشخصٍ لم يجد اسمه في كتب هذا شأنها خارجٌ عن ميزان النصفة، ومتحايد عن نواميس البحث، على أن من المحتمل قريباً أن مؤلفي معاجم الصحابة أهملوا ذكره لردته الأخيرة. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(318)
ونضيف الى ما ذكره صاحب الغدير رحمه الله وما تقدم:
أولاً: أن من الأدلة القوية على صحة هذا الحديث أنه لايمكن أن ينشأ من فراغ، وأن احتمال وضعه من قبل رواة الخلافة القرشية غير معقول، لأنهم لا يقدمون على وضع حديث يثبت أن ولاية علي عليه السلام نزلت من السماء قبل بيعة أبي بكر في السقيفة وأن الله تعالى عاقب من اعترض عليها بحجر من السماء، كما عاقب أصحاب الفيل الكفار!
كما أن القول بتسرب الحديث من مصادر الشيعة الى مصادر السنة بابٌ خطيرٌ عليهم .. فلو قبلوا بفتحه لانهار بناء صحاحهم كلها، ثم انهارت الخلافة القرشية وسقيفتها! وذلك لأن رواة هذه الأحاديث (الشيعية) هم رواة أصول عقيدة الخلافة القرشية وبناة قواعدها .. فهم مجبورون على توثيقهم وقبول رواياتهم، ومنها هذه الروايات التي تضر أصول مبانيهم!
(يُتْبَعُ)
(/)
ثانياً: أن المتفق عليه في مصادر الشيعة والسنة أقوى من المختلف فيه .. لأنك عندما ترى أن مذاهب المسلمين كلها تروي حديثاً، يقوى عندك احتمال أن يكون صدر عن النبي صلى الله عليه وآله، وعندما يرويه بعضها ويرده بعضها تنزل عندك درجة الإحتمال ومما يزيد في درجة احتمال الصحة: أن يكون الطرف الراوي للحديث متضرراً منه ضرراً مؤكداً، ومتحيراً في كيفية التخلص منه!
وحديثنا من هذا النوع، فهو حديثٌ يتضرر منه أتباع خلافة قريش من المسلمين ويبغضه عَبَدَةُ قبيلة قريش من النواصب.
أما أتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فيحتجون به، وتخبت له قلوبهم.
ثالثاً: أن الإختلاف في اسم الشخص الذي نزل عليه حجر السجيل، لا يضر في صحة الحديث، إذا تمت بقية شروطه .. خاصةً أن اسمه صار سوأةً على أقاربه وعشيرته، ولا بد أنهم عملوا على إخفائه ونسيان أمره، حتى لا يعيرهم به المسلمون، كما قال الاميني.
--------------------------------------------------------------------------------
(319)
على أن للباحث أن يرجح أن اسم المعترض هو: جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، وليس الحارث بن النعمان الفهري .. بدليل أن الحافظ أبي عبيد الهروي المتوفى سنة 223، ضبطه في تفسيره بهذا الإسم، وكل العلماء السنيين يحترمون علم أبي عبيد، وخبرته بالأحاديث، وقدم عصره.
وجابر بن النضر شخصيةٌ قرشية معروفة، لأنه ابن زعيم بني عبد الدار، حامل لواء قريش يوم بدر .. فلا يبقى لابن تيمية والنواصب حجةٌ في رد الحديث!
على أن الباقين الذين وردت أسماؤهم في روايات الحديث، كالحارث الفهري وغيره، ترجم لهم المترجمون للصحابة أيضاً، أو ترجموا لمن يصلحوا أن يكونوا أقارب لهم.
المسألة السادسة: طرق وأسانيد حديث حجر الغدير
أولاً: طرق وأسانيد المصادر السنية
الطريق الأول: حديث أبي عبيد الهروي في كتابه: غريب القرآن، وقد تقدم، وهو بمقاييس أهل الجرح والتعديل السنيين بقوة المسند المقبول.
الطريق الثاني: حديث الثعلبي عن سفيان بن عيينة .. وله أسانيد كثيرة، وأكثر الذين ذكرهم صاحب الغدير، رووه عن الثعلبي بأسانيدهم اليه، أو نقلوه من كتابه.
ـ وذكر السيد المرعشي عدداً منهم في إحقاق الحق: 6|358، قال:
ـ العلامة الثعلبي في تفسيره (مخطوط): روى بسنده عن سفيان بن عيينة رحمه الله سئل عن قوله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع، فيمن نزلت؟ فقال للسائل: لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، حدثني أبي، عن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي رضي الله عنه وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك فطار في البلاد، وبلغ ذلك الحارث (خ. الحرث) بن النعمان الفهري، فأتي رسول الله
--------------------------------------------------------------------------------
(320)
صلى الله عليه وسلم على ناقة له، فأناخ راحلته ونزل عنها، وقال: يا محمد أمرتنا عن الله عز وجل أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصوم رمضان وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله عز وجل؟!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي لا إلَه إلا هو إن هذا من الله عز وجل.
فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل الى راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله عز وجل (سئل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج).
ـ ومنهم العلامة الحمويني في فرائد السمطين (المخطوط) قال:
(يُتْبَعُ)
(/)
أخبرني الشيخ عماد الدين عبد الحافظ بن بدران بن شبل المقدسي بمدينة نابلس فيما أجازني أن أرويه عنه، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد بن محمد الأنصاري إجازة، عن عبدالجبار بن محمد الخوارزمي البيهقي إجازة، عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي رحمه الله قال: قرأت على شيخنا الأستاد أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله في تفسيره أن سفيان بن عيينة .. فذكر الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.
ـ ومنهم العلامة الزرندي في نظم درر السمطين|93 ط. مطبعة القضاء:
روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.
ـ ومنهم العلامة ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة|24 ط. الغري
روى الحديث نقلاً عن الثعلبي بعين ماتقدم عن تفسيره بلا واسطة.
ـ ومنهم العلامة عبد الرحمن الصفوري في نزهة المجالس 2|209 ط. القاهرة:
روى الحديث نقلاً عن تفسير القرطبي بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.
--------------------------------------------------------------------------------
(321)
ـ ومنهم العلامة السيد جمال الدين عطاء الله الشيرازي الهروي في الأربعين حديثاً
(مخطوط) روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي، لكنه زاد بعد قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله: وأدر الحق معه حيث كان، وفي رواية اللهم أعنه وأعن به وارحمه وارحم به، وانصره وانصر به.
ـ ومنهم العلامة عبدالله الشافعي في المناقب|205 مخطوط
روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.
ـ ومنهم العلامة القندوزي في ينابيع المودة|274 ط. اسلامبول
روى الحديث عن الثعلبي بعين ما تقدم عنه في تفسيره.
ـ ومنهم العلامة الأمرتسري في أرجح المطالب|568 ط. لاهور
روى الحديث من طريق شهاب الدين الدولت آبادي، والسيد السمهودي في جواهر العقدين، وجمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب في أربعينه
ـ وعبد الرؤوف المناوي في فيض القدير
ـ ومحمد بن محمد القادري في الصراط السوي
ـ والحلبي في إنسان العيون
ـ وأحمد بن الفضل بن محمد باكثير في وسيلة الامال
ـ ومحمد بن إسماعيل الامير في الروضة الندية
ـ والحافظ محمد بن يوسف الكنجي في كفاية الطالب بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي. انتهى.
سندا القاضي الحسكاني الى ابن عيينة
ـ قال في شواهد التنزيل: 2|382
1030 ـ أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي أخبرنا أبو بكر الجرجرائي، حدثنا أبو أحمد البصري قال: حدثني محمد بن سهل حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصاري،
--------------------------------------------------------------------------------
(322)
حدثنا محمد بن أيوب الواسطي، عن سفيان بن عينية، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: عن علي قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. طار ذلك في البلاد، فقدم على رسول الله النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه معلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟!!
فقال: أمرٌ من عند الله.
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو إن هذا من الله؟
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو إن هذا من الله.
قال: فولى النعمان وهو يقول (اللهم) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله تعالى (سأل سائل).
1031 ـ حدثونا عن أبي بكر السبيعي، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر أبو جعفرالضبعي، قال: حدثني زيد بن إسماعيل بن سنان، حدثنا شريح بن النعمان حدثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياً يوم غدير خم (و) قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فطار ذلك في البلاد. الحديث به، سواء معنى.
الطريق الثالث: للقاضي الحسكاني عن جابر الجعفي
ـ قال في شواهد التنزيل: 2|382
(يُتْبَعُ)
(/)
1032 ـ و (رواه أيضاً) في (التفسير) العتيق (قال): حدثنا إبراهيم بن محمد الكوفي قال: حدثني نصر بن مزاحم، عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن محمد بن علي قال: أقبل الحارث بن عمرو الفهري الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنك أتيتنا
--------------------------------------------------------------------------------
(323)
بخبر السماء فصدقناك وقبلنا منك. فذكر مثله الى قوله: فارتحل الحارث، فلما صار ببطحاء (مكة) أتته جندلة من السماء فشدخت رأسه، فأنزل الله (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين) بولاية علي عليه السلام.
وفي الباب عن حذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عباس.
الطريق الرابع: للقاضي الحسكاني عن حذيفة بن اليمان
ـ قال في شواهد التنزيل: 2|383
1033 ـ حدثني أبو الحسن الفارسي، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسماعيل الحسني، حدثنا عبد الرحمان بن الحسن الأسدي، حدثنا إبراهيم.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد البغدا دي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الشيباني، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن الأسدي، حدثنا إبراهيم بن الحسن الكسائي، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان بن سعيد، حدثنا منصور، عن ربعي، عن حذيفة بن اليمان قال: لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي: من كنت مولاه فهذا مولاه. قام النعمان بن المنذر الفهري (كذا) فقال: هذا شيء قلته من عندك أو شيء أمرك به ربك.
قال: لا، بل أمرني به ربي.
فقال: اللهم أنزل علينا حجارة من السماء. فما بلغ رحله حتى جاءه حجرٌ فأدماه فخر ميتاً، فأنزل الله تعالى (سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع) و (الطريقان) لفظهما واحد.
الطريق الخامس: للقاضي الحسكاني عن أبي هريرة
ـ قال في شواهد التنزيل: 2|383
1034 ـ وأخبرنا عثمان أخبرنا فرات بن إبراهيم الكوفي قال: حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البحلي قال: حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهدي، حدثنا
--------------------------------------------------------------------------------
(324)
محمد بن أبي معشر المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضد علي بن أبي طالب يوم غدير خم، ثم قا ل: من كنت مولاه فهذا مولاه. فقام إليه أعرابي فقال: دعوتنا أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فصدقناك، وأمرتنا بالصلاة والصيام فصلينا وصمنا، وبالزكاة فأدينا، فلم يقعنك إلا أن تفعل هذا! فهذا عن الله أم عنك؟
قال: عن الله، لا عني.
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو لهذا عن الله لا عنك؟!
قال: نعم، ثلاثاً، فقام الأعرابي مسرعاً الى بعيره، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، الآية، فما استتم الكلمات حتى نزلت نارٌ من السماء فأحرقته، وأنزل الله في عقب ذلك: سأل سائل، الى قوله دافع. انتهى.
وقد ذكر الحسكاني كما رأيت طريقين آخرين الى سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، ولم يذكر سندهما .. ولعلهما الطريقان الموجودان في تفسير فرات الكوفي.
**
ثانياً: طرق وأسانيد مصادرنا الى سفيان بن عيينة
أسانيد فرات بن ابراهيم الكوفي الى سفيان بن عيينة
ـ تفسير فرات الكوفي ص 505
3 ـ فرات قال: حدثني محمد بن أحمد ظبيان معنعناً: عن الحسين بن محمد الخارفي قال: سألت سفيان بن عيينة عن: سأل سائل، فيمن نزلت: قال: يا ابن أخي سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، لقد سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن مثل الذي سألتني عنه، فقال: أخبرني أبي عن جدي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما كان يوم غدير خم، قام رسول الله صلى الله عليه وآله خطيباً فأوجز في خطبته، ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام فأخذ بضبعه ثم رفع بيده حتى رئي بياض إبطيهما وقال: ألم أبلغكم
--------------------------------------------------------------------------------
(325)
(يُتْبَعُ)
(/)
الرسالة؟ ألم أنصح لكم؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. ففشت في الناس فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فرحل راحلته ثم استوى عليها ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله إذ ذاك بمكة ـ حتى انتهى الى الأبطح، فأناخ ناقته ثم عقلها ثم جاء الى النبي صلى الله عليه وآله فسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا محمد إنك دعوتنا أن نقول لا إلَه إلا الله فقلنا! ثم دعوتنا أن نقول إنك رسول الله فقلنا، وفي القلب ما فيه، ثم قلت صلوا فصلينا، ثم قلت صوموا فصمنا فأظمأنا نهارنا وأتعبنا أبداننا، ثم قلت حجوا فحججنا، ثم قلت إذا رزق أحدكم مأتي درهم فليتصدق بخمسة كل سنة، ففعلنا.
ثم انك أقمت ابن عمك فجعلته علماً وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، أفعنك أم عن الله؟! قال: بل عن الله ـ قال فقالها ثلاثاً ـ قال: فنهض، وإنه لمغضب وإنه ليقول: اللهم إن كان ما قال محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، تكون نقمة في أولنا وآية في آخرنا، وإن كان ما قال محمد كذباً فأنزل به نقمتك.
ثم أثار ناقته فحل عقالها ثم استوى عليها، فلما خرج من الأبطح رماه الله تعالى بحجر من السماء فسقط على رأسه وخرج من دبره، وسقط ميتاً فأنزل الله فيه: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج. انتهى.
أسانيد محمد بن العباس الى سفيان بن عيينة
ـ تأويل الآيات: 2|722
قال محمد بن العباس رحمه الله: حدثنا علي بن محمد بن مخلد، عن الحسن بن القاسم، عن عمر بن الأحسن، عن آدم بن حماد، عن حسين بن محمد قال: سألت سفيان بن عيينة عن قول الله عز وجل: سأل سائل، فيمن نزلت؟ فقال ... بنحو رواية فرات الأخيرة.
--------------------------------------------------------------------------------
(326)
سند الشريف المرتضى الى سفيان بن عيينة
ـ مدينة المعاجز: 1|407
270 ـ السيد المرتضى في عيون المعجزات: قال: حدث أبو عبد الله محمد بن أحمد قال: حدثنا أبي قال: حدثني علي بن فروخ السمان قال: حدثني يحيى بن زكرياء المنقري قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثني عمر بن أبي سليم العيسى، عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه عليهما السلام قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياً يوم غدير خم وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه ...
قلت: قد ذكرت في معنى هذا الحديث رواية المفضل بن عمر الجعفي، عن الصادق عليه السلام في كتاب البرهان في تفسير القرآن بالرواية عن أهل البيت في قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة من سورة الأنعام.
وفي سورة المعارج في قوله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع، رواية اخرى.
سند منتجب الدين الرازي الى سفيان بن عيينة
ـ الأربعون حديثاً لمنتجب الدين الرازي ص 82
الحكاية الخامسة: أنا أبو العلاء زيد بن علي بن منصور الأديب والسيد أبوتراب المرتضى بن الداعي بن القاسم الحسني قال: أنا الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد الواعظ الحافظ املاءً: أنامحمد بن زيد بن علي الطبري أبو طالب بن أبي شجاع البريدي بآمل بقراءتي عليه، أنا أبو الحسين زيد بن إسماعيل الحسني، أنا السيد أبوالعباس أحمد بن إبراهيم الحسني، أنا عبدالرحمن بن الحسن الخاقاني، أناعباس بن عيسى، نا الحسن بن عبد الواحد الخزاز، عن الحسن بن علي النخعي، عن رومي بن حماد المخارقي قال: قلت لسفيان بن عيينة: أخبرني عن (سأل سائل) فيمن أنزلت ط قال: لقد سألتني عن مسألة ماسألني عنها أحد قبلك، سألت عنها جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام قال: لما حج النبي صلى الله عليه وآله حجة الوداع فنزل بغدير خم، نادى في
--------------------------------------------------------------------------------
(327)
الناس فاجتمعوا فقال: ياأيها الناس ألم أبلغكم الرسالة؟ قالوا: اللهم بلى. قال: أفلم أنصح لكم؟ قالوا: اللهم بلى. قال: فأخذ بضبع علي عليه السلام فرفعه حتى رؤي بياض إبطيهما، ثم قال: أيها الناس من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال: فشاع ذلك، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري، فأقبل يسير على ناقة له حتى نزل بالأبطح فأناخ راحلته وشد عقالها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا رسول الله والله الذي لا إلَه إلا هو إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إلَه إلا الله فشهدنا، ثم أمرتنا أن نشهد أنك رسوله فشهدنا، ثم أمرتنا أن نصلي خمساً فصلينا، ثم أمرتنا أن نصوم شهر رمضان فصمنا، ثم أمرتنا أن نزكي فزكينا، ثم أمرتنا أن نحج فحججنا، ثم لم ترض حتى نصبت ابن عمك علينا، فقلت: من كنت مولاه فهذا علي مولاه. هذا عنك أو عن الله تعالى؟!
قال النبي صلى الله عليه وآله: لا بل عن الله.
قال: فقام الحارث بن النعمان مغضباً وهو يقول: اللهم إن كان ما قال محمد حقاً فأنزل بي نقمة عاجلة.
قال: ثم أتى الأبطح فحل عقال ناقته واستوى عليها، فلما توسط الأبطح رماه الله بحجر فوقع وسط دماغه وخرج من دبره، فخر ميتاً، فأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع. وقد أورد أبو إسحاق الثعلبي إمام أصحاب الحديث في تفسيره هذه الحكاية بغير إسناد.
سند الطبرسي الى سفيان بن عيينة
ـ تفسير الميزان: 6|58
وفي المجمع أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال: أخبرنا أبو بكر الجرجانى قال: أخبرنا أبو أحمد البصرى قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى
--------------------------------------------------------------------------------
(328)
الأنصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينه، عن جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياً يوم غدير خم قال من كنت مولاه فهذا على مولاه ....
**
ثالثاً: طرق وأسانيد من مصادرنا من غير طريق سفيان بن عيينة
أسانيد محمد بن يعقوب الكليني
ـ الكافي: 1|422
47 ـ علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين (بولاية علي) ليس له دافع.
ثم قال: هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله. انتهى.
ومعنى قوله عليه السلام (هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله: أنه نزل بتأويلها، وهذا مثل قول ابن مسعود المتقدم في آية التبليغ أنهم كانوا يقرؤون على عهد النبي صلى الله عليه وآله (بلغ ما أنزل اليك ـ في علي) وما ورد عن ابن عباس في آيات الخندق أنه كان يقرأ (وكفى الله المؤمنين القتال ـ بعلي) فهذه ليست قراءات، لأنه لا يجوز إضافة أي حرفٍ الى نص كتاب الله تعالى، بل كلها تفاسير من الصحابة، أو تفسيرٌ نزل به جبرئيل عليه السلام فبلغهم إياها النبي صلى الله عليه وآله فكانوا يقرؤونها كالذي يشرح آيةً، أو كتبوها في تفاسيرهم كالهامش.
ـ وفي الكافي: 8|57
18 ـ عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالساً إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إن فيك شبهاً من عيسى بن مريم، ولو لا أن تقول فيك طوائف من
--------------------------------------------------------------------------------
(329)
أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك قولاً لا تمر بملأٍ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة.
قال: فغضب أعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدةٌ من قريش معهم، فقالوا: ما رضي أن يضرب لابن عمه مثلاً إلا عيسى ابن مريم، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله فقال: ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون، وقالوا ءآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون، إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ـ يعني من بني هاشم ـ ملائكة في الأرض يخلفون. قال: فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك أن بني هاشم يتوارثون هرقلاً بعد هرقل، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا ب أليم .... الى آخره، ولعل في متنه اضطراباً، وفيه:
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم قال له: يا بن عمرو إما تبت وإما رحلت.
فقال: يا محمد، بل تجعل لسائر قريش شيئاً مما في يديك، فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم!
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ليس ذلك إلي، ذلك إلى الله تبارك وتعالى.
فقال: يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة، ولكن أرحل عنك، فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة، أتته جندلةٌ فرضخت هامته، ثم أتى الوحي الى النبي صلى الله عليه وآله فقال: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ـ بولاية علي ـ ليس له دافع، من الله ذي المعارج.
أسانيد فرات بن ابراهيم الكوفي
ـ تفسير فرات الكوفي ص 503
1ـ قال: حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البجلي قال: حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهتدي قال: حدثنا محمد بن معشر المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: طرحت الأقتاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم
--------------------------------------------------------------------------------
(330)
قال فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب عليه السلام فاستلها فرفعها، ثم قال: اللهم من كنت مولاه فعلي فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال: يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إلَه إلا الله فشهدنا وأنك رسول الله فصدقنا، وأمرتنا بالصلاة فصلينا، وبالصيام فصمنا، وبالجهاد فجاهدنا، وبالزكاة فأدينا، قال: ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤس الأشهاد، فقلت: اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله! فهذا عن الله أم عنك؟!
قال: هذا عن الله، لا عني.
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو لهذا عن الله لا عنك؟!
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو لهذا عن الله لا عني.
ثم قال ثالثة: الله الذي لا إلَه إلا هو لهذا عن ربك لا عنك؟
قال: الله الذي لا إلَه إلا هو لهذا عن ربي لا عني.
قال: فقام الأعرابي مسرعاً الى بعيره وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
قال: فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نارٌ من السماء فأحرقته، وأنزل الله في عقب ذلك: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج.
2 ـ قال فرات: حدثني جعفر بن محمد بن بشروية القطان معنعناً، عن الأوزاعي، عن صعصعة بن صوحان والأحنف بن قيس قالا جميعاً: سمعنا ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دخل علينا عمرو بن الحارث الفهري قال: يا أحمد أمرتنا بالصلاة والزكاة أفمنك هذا أم من ربك يا محمد؟ قال: الفريضة من ربي وأداء الرسالة مني، حتى أقول: ما أديت إليكم إلا ما أمرني ربي.
--------------------------------------------------------------------------------
(331)
قال: فأمرتنا بحب علي بن أبي طالب، زعمت أنه منك كهارون من موسى، وشيعته على نوق غر محجلةٍ يرفلون في عرصة القيامة، حتى يأتي الكوثر فيشرب ويسقي هذه الأمة، ويكون زمرة في عرصة القيامة، أبهذا الحب سبق من السماء أم كان منك يا محمد؟
قال: بلى سبق من السماء ثم كان مني. لقد خلقنا الله نوراً تحت العرش!
فقال عمرو بن الحارث: الآن علمت أنك ساحر كذاب! يا محمد ألستما من ولد آدم؟
قال: بلى، ولكن خلقني الله نوراً تحت العرش قبل أن يخلق الله آدم باثني عشر ألف سنة، فلما أن خلق الله آدم ألقى النور في صلب آدم، فأقبل ينتقل ذلك النور من صلب الى صلب، حتى تفرقنا في صلب عبد الله بن عبد المطلب وأبي طالب، فخلقنا ربي من ذلك النور، لكنه لكن لا نبي بعدي.
قال: فوثب عمرو بن الحارث الفهري مع اثني عشر رجلاً من الكفار، وهم ينفضون أرديتهم فيقولون: اللهم إن كان محمد صادقاً في مقالته فارم عمراً وأصحابه بشواظٍ من نار.
قال فرمي عمرو وأصحابه بصاعقة من السماء، فأنزل الله هذه الآية: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج. فالسائل عمرو وأصحابه.
(يُتْبَعُ)
(/)
4 ـ فرات قال: حدثنا أبو أحمد يحيى بن عبيد بن القاسم القزويني معنعناً، عن سعد بن أبي وقاص، قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله صلاة الفجر يوم الجمعة، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم الحسن وأثنى على الله تبارك وتعالى، فقال: أخرج يوم القيمة وعلي بن أبي طالب أمامي، وبيده لواء الحمد، وهو يومئذ من شقتين شقة من السندس وشقة من الإستبرق، فوثب إليه رجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة، فقال: قد أرسلوني إليك لأسألك، فقال: قل يا أخا البادية.
قال: ما تقول في علي بن أبي طالب، فقد كثر الإختلاف فيه؟
--------------------------------------------------------------------------------
(332)
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ضاحكاً فقال: يا أعرابي، ولم يكثر الإختلاف فيه؟ عليٌّ مني كرأسي من بدني، وزري من قميصي.
فوثب الأعرابي مغضباً ثم قال: يا محمد إني أشد من علي بطشاً، فهل يستطيع علي أن يحمل لواء الحمد؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله: مهلاً يا أعرابي، فقد أعطي علي يوم القيامة خصالاً شتى: حسن يوسف، وزهد يحيى، وصبر أيوب، وطول آدم، وقوة جبرئيل. وبيده لواء الحمد وكل الخلائق تحت اللواء، يحف به الأئمة والمؤذنون بتلاوة القرآن والأذان، وهم الذين لا يتبددون في قبورهم.
فوثب الأعرابي مغضباً وقال: اللهم إن يكن ما قال محمد فيه حقاً فأنزل علي حجراً. فأنزل الله فيه: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج.
سندا محمد بن العباس
ـ تأويل الآيات: 2|722
ـ وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن القاسم، عن أحمد بن محمد السياري، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه تلا: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ـ بولاية علي ـ ليس له دافع، ثم قال: هكذا هي في مصحف فاطمة عليها السلام.
ـ ويؤيده: ما رواه محمد البرقي، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ـ بولاية علي ـ ليس له دافع، ثم قال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله. انتهى.
وقد تقدم أن عبارة (بولاية علي عليه السلام) تفسيرٌ للآية، وكانوا يكتبون ذلك في هامش مصاحفهم، كما ورد عن مصحف ابن عباس أنه كان فيه: وكفى الله المؤمنين القتال، بعلي عليه السلام.
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:13 ص]ـ
سند جامع الأخبار
ـ بحار الأنوار: 33|165
42 ـ جامع الأخبار: أخبرنا علي بن عبد الله الزيادي، عن جعفر بن محمد الدوريستي، عن أبيه، عن الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن زرارة قال: سمعت الصادق عليه السلام قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله الى مكة في حجة الوداع فلما انصرف منها ـ وفي خبر آخر: وقد شيعه من مكة اثنا عشر ألف رجل من اليمن وخمسة آلاف رجل من المدينة ـ جاءه جبرئيل في الطريق فقال له:
يا رسول الله إن الله تعالى يقرؤك السلام، وقرأ هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك .. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل إن الناس حديثو عهد بالإسلام فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا .....
فقال له: يا جبرئيل أخشى من أصحابي أن يخالفوني، فعرج جبرئيل ونزل عليه في اليوم الثالث وكان رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع يقال له غدير خم، وقال له: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس.
فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي، وأمر أن ينصب له منبر من أقتاب الإبل وصعدها وأخرج معه علياً عليه السلام وقام قائماً وخطب خطبة بليغة، وعظ فيها وزجر، ثم قال في آخر كلامه: يا أيها الناس ألست أولى بكم منكم؟
فقالوا: بلى يا رسول الله ....
فلما كان بعد ثلاثةٍ، وجلس النبي صلى الله عليه وآله مجلسه أتاه رجل من بني مخزوم يسمى عمر بن عتبة ـ وفي خبر آخر حارث بن النعمان الفهري، فقال:
يا محمد أسألك عن ثلاث مسائل.
فقال: سل عما بدالك.
--------------------------------------------------------------------------------
(334)
(يُتْبَعُ)
(/)
فقال: أخبرني عن شهادة أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله، أمنك أم من ربك؟
قال النبي صلى الله عليه وآله: أُوحِيَ إلي من الله، والسفير جبرئيل، والمؤذن أنا، وما أذنت إلا من أمر ربي.
قال: فأخبرني عن الصلاة والزكاة والحج والجهاد، أمنك أم من ربك؟
قال النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك.
قال: فأخبرني عن هذا الرجل ـ يعني علي بن أبي طالب عليه السلام ـ وقولك فيه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه .. الى آخره، أمنك أم من ربك؟
قال النبي صلى الله عليه وآله: الوحي إليَّ من الله، والسفير جبرئيل، والمؤذن أنا، وما أذنت إلا ما أمرني.
فرفع المخزومي رأسه الى السماء فقال: اللهم إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأرسل علي شواظاً من نار، وفي خبر آخر في التفسير فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، وولى، فوالله ما سار غير بعيد حتى أظلته سحابة سوداء، فأرعدت وأبرقت فأصعقت، فأصابته الصاعقة فأحرقته النار! فهبط جبرئيل وهو يقول: إقرأ يا محمد: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع.
فقال النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه: رأيتم؟!
قالوا: نعم.
قال: وسمعتم؟
قالوا: نعم.
قال: طوبى لمن والاه والويل لمن عاداه، كأني أنظر الى علي وشيعته يوم القيامة يزفون على نوقٍ من رياض الجنة، شبابٌ متوجون مكحلون لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قد أيدوا برضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم، حتى سكنوا حظيرة القدس من جوار رب العالمين، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون، ويقول لهم الملائكة: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
--------------------------------------------------------------------------------
(335)
سند مدينة المعاجز للبحراني
ـ مدينة المعاجز: 2|267
العلامة الحلي في الكشكول: عن محمد بن أحمد بن عبد الرحمان الباوردي ....
فقال النضر بن الحارث الفهري: إذا كان غداً اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أقبل أنا وأتقاضاه ما وعدنا به في بدء الإسلام، وانظر ما يقول، ثم نحتج، فلما أصبحوا فعلوا ذلك فأقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم، وأخوك سيد العرب، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين، وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وعمك حمزة سيد الشهداء، وابن عمك ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء. وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك، وشيبة له السدانة، فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب؟!
فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا مالك وعلينا ما عليك.
فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال:
أما أنا والله ما فعلت بهم هذا، بل الله فعل بهم هذا فما ذنبي؟!
فولى النضر بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.
يعني الذي يقول محمد فيه وفي أهل بيته، فأنزل الله تعالى: وإذ قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم .. الى قوله: وهم يستغفرون.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله الى النضر بن الحارث الفهري وتلا عليه الآية فقال: يا رسول الله إني قد سررت ذلك جميعه أنا ومن لم تجعل له ما جعلته لك ولأهل بيتك من الشرف والفضل في الدنيا والآخرة، فقد أظهر الله ما أسررنا به.
أما أنا فأسألك أن تأذن لي أن أخرج من المدينة، فإني لا أطيق المقام بها! فوعظه النبي صلى الله عليه وآله إن ربك كريم، فإن أنت صبرت وتصابرت لم يخلك من مواهبه، فارض
--------------------------------------------------------------------------------
(336)
وسلم، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره، ويخفف عمن يشاء، وله الخلق والأمر، مواهبه عظيمة، وإحسانه واسع.
فأبى الحارث، وسأله الإذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله فأقبل الى بيته وشد على راحلته وركبها مغضباً، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
(يُتْبَعُ)
(/)
فلما صار بظهر المدينة وإذا بطيرٍ في مخلبه حجرٌ، فأرسله إليه فوقع على هامته، ثم دخلت في دماغه وخرج من جوفه ووقع على ظهر راحلته وخرج من بطنها، فاضطربت الراحلة وسقطت وسقط النضر بن الحارث من عليها ميتين، فأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ـ بعلي وفاطمة والحسن والحسين وآل محمد ـ ليس له دافع من الله ذي المعارج. انتهى.
وقال في هامشه: لم نجد كتاب الكشكول للعلامة الحلي رحمه الله بل هو للمحدث الجليل العلامة السيد حيدر بن علي الحسيني الآملي من علماء القرن الثامن الهجري أوله: أما البداية فليس بخفي من علمك ولا يستتر عن فهمك وآخره: والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. انتهى.
رواية المناقب لابن شهر آشوب
ـ بحار الأنوار: 31|320
17 ـ قب: أبو بصير عن الصادق عليه السلام لما قال النبي صلى الله عليه وآله: يا علي لولا أنني أخاف أن يقول فيك ما قالت النصارى في المسيح لقلت اليوم فيك مقالة لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدمك. الخبر.
قال الحارث بن عمرو الفهري لقوم من أصحابه: ما وجد محمد لابن عمه مثلاً إلا عيسى بن مريم يوشك أن يجعله نبياً من بعده. والله إن آلهتنا التي كنا نعبد خيرٌ منه! فأنزل الله تعالى: ولما ضرب بن مريم مثلاً الى قوله: وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم.
--------------------------------------------------------------------------------
(337)
وفي رواية: أنه نزل أيضاً: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه الآية. فقال النبي صلى الله عليه وآله:
يا حارث اتق الله وارجع عما قلت من العداوة لعلي بن أبي طالب.
فقال: إذا كنت رسول الله وعلي وصيك من بعدك وفاطمة بنتك سيدة نساء العالمين والحسن والحسين ابناك سيدا شباب أهل الجنة، وحمزة عمك سيد الشهداء، وجعفر الطيار ابن عمك يطير مع الملائكة في الجنة، والسقاية للعباس عمك، فما تركت لسائر قريش وهم ولد أبيك!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك يا حارث ما فعلت ذلك ببني عبد المطلب، لكن الله فعله بهم!
فقال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية.
فأنزل الله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله الحارث فقال: إما أن تتوب أو ترحل عنا.
قال: فإن قلبي لا يطاوعني الى التوبة، لكني أرحل عنك!
فركب راحلته فلما أصحر، أنزل الله عليه طيراً من السماء في منقاره حصاة مثل العدسة فأنزلها على هامته وخرجت من دبره الى الأرض، ففحص برجله وأنزل الله تعالى على رسوله: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ـ بولاية علي.
رواية علي بن ابراهيم القمي
ـ تفسير القمي: 2|385
أخبرنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن علي، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي الحسن عليه السلام في قوله: سأل سائل بعذاب واقع قال: سأل رجل عن الأوصياء وعن شأن ليلة القدر، وما يلهمون فيها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: سألت عن عذابٍ واقع، ثم كفرٍ بأن ذلك لا يكون، فإذا وقع فليس له من دافع.
--------------------------------------------------------------------------------
(338)
وهناك أسانيد أخرى، يصعب استقصاؤها فراجع شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي، وكنز الحقائق للكراجكي، والفضائل لشاذان بن جبرئيل، وتفسير القمي، والمناقب لابن شهراشوب، وغاية المرام للبحراني .. وغيرها.
النتيجة صحة أصل الحديث، وتعدد العقاب الإلَهي
المتأمل في روايات العقاب الإلَهي العاجل لمن اعترض على ولاية علي عليه السلام يصل الى نتيجتين:
الأولى: أن أصل الحديث مستوفٍ لشروط الصحة .. فمهما كان الباحث بطيء التصديق، ميالاً للتشكيك، وأجاز لنفسه القول إن الشيعة وضعوا هذا الحديث ودونوه في مصادرهم .. فلا يمكنه أن يفسر وجوده في مصادر السنة بذلك، لأن عدداً من أئمتهم المحدثين قد رووه وتبنوه، كما رأيت.
نعم قد يعترض متعصبٌ بأن هؤلاء الأئمة السنيين، قد رووا ذلك عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
(يُتْبَعُ)
(/)
وجوابه أولاً، أن مقام أهل البيت عليهم السلام عند السنة لا يقل عن مقام كبار أئمتهم، خاصةً مثل الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام اللذين يروي عنهما مباشرةً أو بالواسطة عددٌ من كبار أئمتهم، مثل أبي عبيد والسفيانين والزهري ومالك وأحمد .. وغيرهم.
والحساسية التي قد تراها عند السنيين من أحاديث أهل البيت عليهم السلام إنما هي مما نرويه نحن الشيعة، أما ما يرويه عنهم أئمتهم، فقد قبلوه ودونوا عدداً منه في صحاحهم.
وجوابه ثانياً، أن طرق الحديث ليست محصورةً بأهل البيت عليهم السلام فقد تقدم طريق الحاكم الحسكاني عن حذيفة، وأبي هريرة، وغيرهما أيضاً.
والنتيجة الثانية: أن الحادثة التي وردت في الأحاديث المتقدمة وغيرها لا يمكن أن تكون حادثة واحدة، بل هي متعددة .. وذلك بسبب تعدد الأسماء، ونوع العقوبة والأمكنة، والأزمنة، والملابسات المذكورة في روايات الحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
(339)
فرواية أبي عبيد والثعلبي وغيرها تقول إن الحادثة كانت في المدينة أو قربها، وأن العذاب كان بحجرٍ من سجيل .. ورواية أبي هريرة وغيرها تقول إن الإعتراض كان في نفس غدير خم بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله، وأن العقوبة كانت بنارٍ نزلت من السماء .. وبعضها يقول إنها كانت بصاعقة ..
والأسماء الواردة متعددة أيضاً، والتصحيف يصح في بعضها، لكن لا يصح في جميعها.
المسألة السابعة: عشيرة سأل سائل بعذاب واقع
بقيت عدة مسائل وبحوث، تتعلق بموضوعنا:
منها، عدد المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله بعد الغدير، وهوياتهم .. ونوع العقوبة الالَهية، التي وقعت عليهم ..
ومنها، ما أحدثه الإعلان النبوي عن ولاية العترة من تأثيرٍ على المسلمين عامة، وعلى قريشٍ خاصة .. وما يتصل به من الجو العام في الشهرين الأخيرين من حياة النبي صلى الله عليه وآله، والآيات التي نزلت، والأحداث التي وقعت .. ومن أهمها تشاور الأنصار وعرضهم على النبي صلى الله عليه وآله أن يخصصوا له ولعترته ثلث أموالهم لمصارفهم، ونزول آية (قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) وزيادة حساسية قريش بسبب ذلك.
ومن أهمها أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وآله قرر أن يرسل كل شخصيات قريش المؤثرين في جيشٍ الى مؤتة، وأمَّر عليهم شاباً أسود البشرة من أصل إفريقي عمره تسع عشرة سنة، هو أسامة بن زيد! وهدفه من ذلك أن يوجه نظر الأمة الى الجبهة الخارجية، ويفرغ المدينة من المخالفين لعترته، حتى إذا توفي صلى الله عليه وآله لم يكن فيها إلا علي والأنصار .. الى آخر الأحداث والأوضاع التي كانت في هذه الفترة الحاسمة ..
--------------------------------------------------------------------------------
(340)
ومنها، بحث محاولتي اغتيال النبي صلى الله عليه وآله بعد إعلان الغدير، في طريق رجوعه في عقبة هرشى، وفي قصة لده وإعطائه الدواء عندما أغمي عليه من الحمى في مرضه رغم أنه كان نهاهم عنه!
ومنها، قصة الصحيفة الملعونة الثالثة، التي ورد في مصادرنا أن المعارضين لإعلان ولاية علي عليه السلام كتبوها في المدينة، وتعاهدوا ضد آل النبي صلى الله عليه وآله!
ومن البحوث المفيدة أيضاً، بحث فضل يوم الغدير، وما ورد في مصادر الفريقين من استحباب صومه، والشكر وإظهار السرور فيه .. الخ.
ومع أنها جميعاً بحوث مفيدة، ترتبط بموضوعنا .. لكن فضلنا عدم الإطالة بها، واقتصرنا على أولها، وهو عشيرة بني عبد الدار القرشية، التي ورد عند الفريقين أن آية (سأل سائل بعذاب واقع) نزلت في رئيسها النضر بن الحارث، وفي ابنه جابر بن النضر .. وغرضنا من هذا البحث أيضاً أن يكون مكملاً للتصور الصحيح عن قبائل قريش، وحسدها الشديد للنبي وأهل بيته الطاهرين، صلى الله عليه وعليهم.
الحسد القديم وحلف لعقة الدم
كانت الجزيرة العربية مجتمعاتٍ قبلية، ومعظم مناطقها تحكمها القبائل وليس فيها حكومةٌ مركزية.
وكانت الصراعات والحروب، والتحالفات القبلية أمراً شائعاً بين قبائلها، ومنها قبائل قريش.
(يُتْبَعُ)
(/)
ومن أهم الأحلاف القرشية التي سجلتها مصادر التاريخ، حلف الفضول الذي دعا اليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله .. وسمي حلف المطيبين، لأنهم أكدوا تحالفهم بغمس أيديهم في جفنة طيبٍ صنعتها لهم بنت عبد المطلب.
وكانت أهم بنود هذا الحلف: أن يحموا الكعبة الشريفة ممن يريد بها شراً، ويمنعوا الظلم فيها، وينصروا المظلوم حتى يصل الى حقه.
--------------------------------------------------------------------------------
(341)
وهو الحلف الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وآله، وكان عمره الشريف نحو عشرين سنة .. بل تدل بعض الأحاديث على أنه صلى الله عليه وآله أمضاه بعد بعثته، كما في مسند أحمد: 1| 190 قال: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلامٌ، فما أحب أن لي حمر النعم ... وصححه الحاكم: 2|220
وكان هذاالحلف جواباً لحلف مضادٍ، دعا اليه بنو عبد الدار، فأجابتهم بعض قبائل قريش، وعرف حلفهم باسم (لعقة الدم) لأنهم ذبحوا بقرة، وأكدوا تحالفهم بأن يلعق ممثل القبيلة لعقةً من دمها!
وقد اختلفت النصوص في سبب الحلفين ووقتهما، فذكر بعضها أنه عند بناء الكعبة بسبب اختلافهم على القبيلة التي تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في موضعه.
وذكر بعضها أنه كان بسبب شكاية بائع مظلوم، اشترى منه قرشي بضاعة، وأراد أن يأكل عليه ثمنها ..
والأرجح ما ذكره ابن واضح اليعقوبي من أن بني عبد الدار حسدوا عبد المطلب، فدعوا الى حلف لعقة الدم، فدعا عبد المطلب في مقابلهم الى حلف المطيبين.
ـ قال اليعقوبي في تاريخه: 1|248
ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار الى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبد مناف .... فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين.
فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة.
وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً.
--------------------------------------------------------------------------------
(342)
وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة. انتهى.
ـ وقال اليعقوبي: 2|17
حضر رسول الله صلى الله عليه وآله حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعدما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت اليه اليوم لأجبت.
وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير، وما بلَّ بحرٌ صوفة.
وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه ...
فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريبٌ ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي.
وكانت الأحلاف هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، والحارث بن فهر، فقالت قريش:
هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. انتهى.
ـ وفي سيرة ابن هشام: 1|85
فكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، مع بني عبد الدار.
ويفهم من هذه النصوص وغيرها أن حركة التحالف بدأها بنو عبد الدار حسداً لعبد المطلب، فسعوا للتحالف ضده، فبادر عبد المطلب ومؤيدوه الى عقد حلف المطيبين قبلهم، ثم عقد بنو عبد الدار ومؤيدوهم حلف لعقة الدم.
ويفهم منها، أن أهداف حلف عبد المطلب حماية الكعبة ونصرة المظلوم، بينما هدف حلف بني عبد الدار مواجهة المطيبين!
--------------------------------------------------------------------------------
(343)
بنو عبد الدار أصحاب لواء قريش
(يُتْبَعُ)
(/)
وذكر المؤرخون أن بني عبد الدار ورثوا من جدهم قصي دار الندوة التي كانت شبيهةً بمركز لمجلس شيوخ قريش، تبحث فيها الأمور المهمة، وتتخذ فيها القرارات، كما ورثوا لواء الحرب، فكانوا هم أصحاب لواء قريش في حروبها ..
ـ قال البلاذري في فتوح البلدان 60
فلم تزل دار الندوة لبني عبد الدار بن قصي، حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، من معاوية بن أبي سفيان، فجعلها داراً للإمارة. انتهى.
وقد قتل علي عليه السلام من بني عبد الدار كل من رفع لواء قريش في وجه رسول صلى الله عليه وآله، فبلغوا بضعة عشر، وروي أن بعضهم قتلهم عمه حمزة بن عبد المطلب!
ـ قال ابن هشام في: 3|587: واصفاً تحميس أبي سفيان وزوجته لبني عبد الدار في أحد:
قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه!
فهمُّوا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم اليك لواءنا؟!! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع! وذلك أراد أبو سفيان.
فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:
ويهاً بني عبد الدار * ويهاً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
--------------------------------------------------------------------------------
(344)
ـ وفي سيرة ابن هشام: 3|655
قال ابن هشام: أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح أبا الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، صاحب لواء المشركين يوم أحد:
لله أيُّ مذببٍ عن حرمةٍ * أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخولا
سبقت يداك له بعاجلِ طعنةٍ * تركت طليحة للجبين مجدلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالجر إذ يهوون أخول أخولا. انتهى.
وقد تتابع على حمل لواء المشركين يوم أحد تسعة من بني عبد الدار، وقيل أكثر وركزوا حملاتهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله بعد أن تركه المسلمون وهربوا صعوداً في الجبل، وثبت الرسول صلى الله عليه وآله ومعه علي عليه السلام في وجه حملات قريش، التي تواصلت الى ما بعد الظهر!
وكان النبي صلى الله عليه وآله يقاتل في مركزه، وعلي عليه السلام يحمل عليهم، يضرب مقدمتهم، ثم يغوص فيهم يضرب يميناً وشمالاً، حتى يصل الى العبدري حامل لوائهم فيحصد رأسه، فتنكفئ الحملة ..
ثم يتحمس عبدريٌّ آخر فيحمل لواء الشرك، ويهجمون باتجاه الرسول صلى الله عليه وآله فيتلقاهم علي عليه السلام وهو راجلٌ وهم فرسان .. حتى قتل من فرسان قريش عشرات، ومن العبدريين أصحاب ألويتهم تسعة! فيئسوا وانسحبوا، ونادى مناديهم كذباً: قتل محمد!
وقد أصابته صلى الله عليه وآله بضع جراحات، وأصابت علياً عليه السلام بضع وسبعون جراحة! منها جراحاتٌ بليغة، روي أن النبي صلى الله عليه وآله مسح عليها بريقه فبرأت.
بنو عبد الدار علموا قريشاً فناً في الدفاع
ومن طريف ما ذكره المؤرخون عن بني عبد الدار الشجعان، أنهم أول من علم قريشاً أسلوباً في الدفاع عن نفسها في الحرب أمام بني هاشم، فقد ابتكروا طريقة للإستفادة في الحرب من ترفع بني هاشم وسموهم الأخلاقي!
--------------------------------------------------------------------------------
(345)
ـ روى ابن كثير في السيرة: 3|39، ناقلاً عن ابن هشام:
لما اشتد القتال يوم أحد، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل الى علي: أن قدم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، وهو صاحب لواء المشركين: هل لك ياأبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم.
فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه!
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟
فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر بن أبي أرطاة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته، فرجع عنه.
(يُتْبَعُ)
(/)
وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضاً. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر:
أفي كل يوم فارسٌ غير منتهٍ * وعورته وسْطَ العجاجةِ باديءهْ
يكفُّ لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاوية
النضر بن الحارث رئيس بني عبد الدار
ـ قال ابن هشام: 1|195
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العدواة، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم الي فأنا
--------------------------------------------------------------------------------
(346)
أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟!
قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله.
قال ابن اسحاق: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن، قول الله عز وجل: إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.
وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن. انتهى.
وذكر ابن هشام 1|239 قول النضر عن النبي صلى الله عليه وآله (وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتبتها كما اكتتبتها!!).
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور: 3|181
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: نزلت في النضر: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وسأل سائل بعذاب واقع!
قال عطاء رضي الله عنه: لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله. انتهى.
ـ وروى نحوه في: 5|297، عن عبد بن حميد.
ـ وقال عنه في تفسير الجلالين 540
وهو النضر بن الحارث، كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول: إن محمداً يحدثكم أحاديث عادٍ وثمود، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن! انتهى.
وقد عرفت أن مصادرنا وعدداً من مصادر السنيين ذكرت أن السائل بالعذاب الواقع هو جابر بن النضر بن الحارث، أو الحارث الفهري. وأن أكثر مصادر السنيين رجحت أنه أبوه النضر بن الحارث، اعتماداً على روايات عن ابن جبير وابن عباس غير مرفوعة. فقد روى الحاكم في المستدرك: 2|502: عن سعيد بن جبير، سأل سائل
--------------------------------------------------------------------------------
(347)
بعذاب واقع، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة، قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور: 6|263: أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردوية، عن ابن عباس ... الخ.
ولم أجد في مصادر السيرة والتراجم عن الإبن غير قصة هلاكه بحجر من السماء، لكفره وبغضه لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، ولعله كان شاباً، أو أنهم عتَّموا على ذكره حسداً لأهل البيت عليهم السلام. ويدل الموجود في مصادر السيرة على أن الأب أسوأ من الإبن بكثيرٍ، لأنه من كبار الفراعنة الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وآله، ولعل ابنه لو عاش لفاق أباه في كفراً وعتواً!!
وكان النضر عضو مجلس الفراعنة المتآمرين على النبي صلى الله عليه وآله
ـ قال ابن هشام: 1|191
قال ابن اسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين.
ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة .... اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم ...
(يُتْبَعُ)
(/)
قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، قال بعضهم لبعض: إبعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا اليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقالوا له:
--------------------------------------------------------------------------------
(348)
يا محمد، إنا قد بعثنا اليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمرٌ قبيحٌ إلا قد جئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا ـ فان كنت إنما جئت بهذا الحديت تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً ـ فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مابي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم ... الى آخر مناظرتهم.
ـ وقال ابن هشام: 2|331
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة ... وقد اجتمع فيها أشراف قريش: من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوسفيان بن حرب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدى، وجبير ابن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بنى عبد الدار بن قصي: النضر ابن الحارث بن كلدة ... الخ.
فقال أبوجهل بن هشام: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟
قال: أرى أن نأخذ من كان قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل
--------------------------------------------------------------------------------
(349)
فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا اليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم. انتهى.
ورواه الطبري في تاريخه: 2|98
وكان النضر رسول قريش الى اليهود
ـ جاء في سيرة ابن هشام: 1|195
قام النضر بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ... فقال:
يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقة، ولا وسوسته، ولا تخليطه.
يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم ....
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط الى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؟.
فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وان لم يفعل فالرجل متقول، فَرَوْا فيه رأيكم.
--------------------------------------------------------------------------------
(يُتْبَعُ)
(/)
(350)
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟
فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجلٌ متقول، فاصنعوا في أمره
ما بدا لكم ... الى آخر القصة. ورواها في عيون الأثر: 1|142
كاتب الصحيفة الملعونة الأولى ضد بني هاشم
ـ قال ابن هشام: 1|234
اجتمعوا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشل بعض أصابعه.
ـ وقال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه: 2|31
وهمت قريش بقتل رسول الله، وأجمع ملأها على ذلك، وبلغ أبا طالب فقال:
والله لن يصلوا اليك بجمعهم * حتى أغيَّبَ في التراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا
فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم، ولا ينا كحوهم، ولا يعاملوهم، حتى يدفعوا اليهم محمداً فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا، وختموا على الصحيفة بثمانين
--------------------------------------------------------------------------------
(351)
خاتماً، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، فشلت يده.
ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب أبي طالب ست سنين من مبعثه.
فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين، حتى أنفق رسول الله ماله، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا الى حد الضر والفاقة.
ثم نزل جبريل على رسول الله فقال: إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم، إلا المواضع التي فيها ذكر الله!
فخبَّر رسول الله أبا طالب بذلك، ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله وأهل بيته حتى صار الى الكعبة فجلس بفنائها، وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق الى قومك، وتدع اللجاج في ابن أخيك.
فقال لهم: يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجاً وسبباً لصلة الأرحام وترك القطيعة، وأحضروها وهي بخواتيمهم.
فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها؟
قالوا: نعم.
قال: فهل أحدثتم فيها حدثاً؟
قالوا: اللهم لا.
قال: فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقاً ماذا تصنعون؟
قالوا: نكف ونمسك.
قال: فإن كان كاذباً دفعته اليكم تقتلونه.
قالوا: قد أنصفت وأجملت.
--------------------------------------------------------------------------------
(352)
وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله عز وجل.
فقالوا: ما هذا إلا سحر، وما كنا قطُّ أجدَّ في تكذيبه منا ساعتنا هذه!!
وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم، وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا اليه. انتهى.
وقد وردت رواية شعر أبي طالب (ودعوتني وعلمت أنك ناصح) وهو الأنسب لجو القصيدة، وإيمان أبي طالب رحمه الله، وقد بحثنا افتراءات قريش عليه في المجلد الثالث من العقائد الإسلامية.
وكان النضر من المطعمين جيش قريش في بدر
وقد تقدم في البحث الخامس أن النضر أحد الرهط الذين كانوا يطعمون جيش قريش في حرب بدر، وقد عده النبي صلى الله عليه وآله من أفلاذ أكباد مكة، عاصمة قريش! (ابن هشام: 2|488، وتاريخ الطبري: 2 |142)
نهاية الأول من فراعنة سأل سائل
ـ سيرة ابن هشام: 2|206 ـ 207
(يُتْبَعُ)
(/)
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً الى المدينة، ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث .... قال ابن اسحاق: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب، كما خبرني بعض أهل العلم من أهل مكة.
قال ابن اسحاق: ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة ابن أبي معيط.
(راجع أيضا سيرة ابن هشام: 2|286 و 527، وتاريخ الطبري: 2|157 و 286).
ـ وفي معجم البلدان: 1|94
الأثيل: تصغير الأثل موضعٌ قرب المدينة، وهناك عين ماء لآل جعفر بن أبي طالب، بين بدر ووادي الصفراء، ويقال له ذو أثيل .... وكان النبي صلى الله عليه
--------------------------------------------------------------------------------
(353)
وسلم، قتل عنده النضر بن الحارث بن كلدة، عند منصرفه من بدر، فقالت قتيلة بنت النضر ترثي أباها، وتمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا راكباً إن الأثيل مظنةٌ * من صبحِ خامسةٍ، وأنت موفقُ
بلغ به ميتاً، فإن تحيةً * ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني اليه، وعبرةً مسفوحةً * جادت لمائحها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر، إن ناديته * إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تشقق!
أمحمد! ولإنت ضنء نجيبة * في قومها، والفحل فحل معرق
لو كنت قابل فدية، فلنأتيـ * ن بأعز ما يغلو لديك وينفق
ما كان ضرك لو مننت وربما * منَّ الفتى، وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلةً * وأحقهم، إن كان عتق يعتق
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شعرها رق لها، وقال: لو سمعت شعرها قبل قتله لوهبته لها. انتهى.
ومن الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان أكره الناس للقتل، وأنه لم يقتل أحداً إلا عند اللزوم والضرورة .. وحسبك أن جميع القتلى في جميع حروبه صلى الله عليه وآله ومن أقام عليهم الحد الشرعي لا يبلغون سبع مئة شخص، وبذلك كانت حركته العظيمة صلى الله عليه وآله أعظم حركة في نتائجها، وأقل حركة في كلفتها!
لهذا لا يبعد أن يكون قتله للنضر تم بأمر الله تعالى، لأنه جرثومة شرٍ وفساد! وكذلك صديق النضر وشريكه في الشر، عقبة بن معيط الأموي، وكان صاحب خمارة ومبغى في مكة، وكان معروفاً بإلحاده.
وإذا صح ما قاله صلى الله عليه وآله لبنت النضر الشاعرة، فلا ينافي أن قتله لأبيها كان بأمر الله تعالى، لأن معناها أنه صلى الله عليه وآله لو سمع هذا الشعر منها وما فيه من قيم واستعطاف، قبل أن يقتله، لطلب من ربه عز وجل أن يأذن له بأن يهب هذا الفرعون لابنته، ويكفي المسلمين شره، كما أمكنهم منه فأسروه.
--------------------------------------------------------------------------------
(354)
النضير بن الحارث أخ النضر ووارثه
ذكرت مصادر السيرة والتاريخ أن لواء قريش بعد النضر كان بيد آخرين من بني عبد الدار، ولم تذكر أن أخاه النضير كان فارساً مثله، ويظهر أنه صار بعد أخيه النضر رئيس بني عبد الدار، وإن لم يكن شجاعاً صاحب اللواء، فقد وصفه رواة قريش وأصحاب السير بالحلم، إشارة الى أنه كان سياسياً محباً للدعة .. وعدُّوه من رؤساء قريش والمؤلفة قلوبهم، الذين أعطى النبي 9 كل واحد منهم مئة بعيرٍ من غنائم حنين.
ـ قال الطبري في تاريخه: 2|358
فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مائة بعير ...
ونحوه في سيرة ابن هشام: 4|929، وابن كثير: 3|682 وتاريخ اليعقوبي
وقد تقدم ذكره في البحث الخامس، واعترافه بأنه خطط مع زعماء قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله في حنين، ولم يتمكنوا من ذلك!
وقد اختلط اسم النضير عند بعضهم باسم أخيه النضر، قال الرازي في الجرح والتعديل: 8|473:
النضر بن الحارث بن كلدة العبدري من مسلمة الفتح، ويقال نضير وليست له رواية، سمعت أبي يقول ذلك.
(يُتْبَعُ)
(/)
وقال في هامشه: وهذا هو الصواب إن شاء الله، لأن النضر بن الحارث قتل كافراً إجماعاً، وإنما هذا أخوه، واحتمال أن يكون مسمى باسمه أيضا بعيد، وأثبت ماجاء في الروايات أن هذا هو (النضير) راجع الإصابة الترجمتين. انتهى.
--------------------------------------------------------------------------------
(355)
رواة قريش يجعلون النضير مسلماً مهاجراً شهيداً!
وعلى عادة رواة قريش، فقد جعلوا من الحارث أو النضير شخصيةً اسلامية، وعدوه في المهاجرين وشهداء اليرموك .. ويظهر أنهم جعلوا كل الذين كانوا في الشام من القرشيين وماتوا في طاعون عمواس، مثل سهيل بن عمرو والعبدريين، جعلوهم شهداء، وعدوهم في شهداء اليرموك!
ـ قال السمعاني المحب لقريش وبني أمية، في أنسابه: 3|110
الرهيني: بفتح الراء وكسر الهاء بعدهما الياء الساكنة آخر الحروف وفي آخرها النون، هذه النسبة الى رهين، وهو لقب الحارث بن علقمة ويلقب بالرهين، ومن ولده محمد بن المرتفع بن النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي الرهيني، يروي عن عبد الله بن الزبير، روى عنه سفيان بن عيينة.
فأما جده النضير بن الحارث فكان من المهاجرين، وكان يعد من حلماء قريش، قتل يوم اليرموك شهيداً، وهو أخو النضر بن الحارث الذي قتله علي بن أبي طالب بالصفراء صبراً يوم بدر، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نزلت سورة (سأل سائل بعذاب واقع) وقالت بنته أبياتاً من الشعر ...
وتبعه في إكمال الكمال: 1|327، وغيره.
هل اعترض النضير على النبي صلى الله عليه وآله مثل أخيه وابن أخيه؟
روت مصادرنا مناقشة غريبة لأحدهم مع النبي صلى الله عليه وآله في المدينة، وسمته النضر بن الحارث الفهري، ويحتمل أن تكون كلمة الفهري تصحيف العبدري، نسبةً الى بني عبد الدار، والنضر تصحيف النضير ..
وإذا صحت نسبتها اليه، فتكون صدرت منه في المدينة بعد حجة الوداع.
ـ وقد تقدمت من كتاب مدينة المعاجز للبحراني: 2|267، وفيها:
أقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي صلى الله عليه وآله فقال:
--------------------------------------------------------------------------------
(356)
يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم، وأخوك سيد العرب، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين، وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وعمك حمزة سيد الشهداء، وابن عمك ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك، وشيبة له السدانة .. فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب؟!
فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا مالك وعلينا ما عليك.
فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله طويلاً، ثم رفع رأسه فقال:
أما أنا والله ما فعلت بهم هذا، بل الله فعل بهم هذا، فما ذنبي؟! ....
فوعظه النبي صلى الله عليه وآله وقال له: إن ربك كريم، فإن أنت صبرت وتصابرت، لم يخلك من مواهبه، فارض وسلم، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره، ويخفف عمن يشاء، وله الخلق والأمر، مواهبه عظيمة، وإحسانه واسع. فأبى الحارث. انتهى.
ـ وقد نص ابن هشام: 2|488، على أن النضير هذا يسمى الحارث أيضاً باسم أبيه، وسماه اليعقوبي في تاريخه: 2|63 (الحارث بن الحارث بن كلدة) وهو أمر يوجب الشك، لأنه يستغرب أن يكون لشخصٍ اسمان معاً، خاصةً إذا كان أحدهما باسم أبيه، لأن العوائل المالكة في القبائل تحترم اسم الأب ولا تغيره الى اسمٍ آخر، ولا تضيف معه اسماً آخر، لأنه يضعفه!
وهذا يفتح باب الإحتمال أن يكون الحارث أخاهم الثالث، وأن يكون هو الذي ورد اسمه في بعض الروايات أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية علي والحسنين من بعده عليهم السلام فرماه الله بصاعقةٍ أو حجرٍ من سجيل!
وبذلك يكون العذاب الواقع نزل بثلاثة أشخاص من هذه الأسرة: الأب في بدر، وولده جابر الذي نص عليه أبو عبيد، والحارث هذا .. ويكون اسم عشيرة العذاب الواقع مثلث الإنطباق على هذه القبيلة!!
كما يحتمل أن يكون صاحبنا النضير بن الحارث، أو الحارث بن الحارث
--------------------------------------------------------------------------------
(357)
(يُتْبَعُ)
(/)
العبدري، هو الحارث المعترض، لكن لم تنزل عليه العقوبة، لأنهم ذكروا وفاته في الشام، وليس بالعذاب الواقع.
ومهما يكن، فإن من المؤكد أنه يوجد حارثٌ غيره اعترض على النبي صلى الله عليه وآله حيث ورد ذكره في تفسير الثعلبي، وعدد من مصادرنا باسم الحارث بن النعمان الفهري، وأنه هو صاحب حجر السجيل، كما تقدم.
وكذلك تقدم اسم الحارث بن عمرو الفهري، في رواية الحاكم الحسكاني، ورواية الكافي والمناقب.
ومما يؤيد أنه حارثٌ آخر، أنهم ترجموا لشخصٍ وأولاده قد ينطبق عليه، ولم يذكروا عنه شرحاً، ولا ذكروا سبب موته! قال ابن كثير في سيرته: 2|499:
عامر بن الحارث الفهري، كذا ذكره سلمة عن ابن اسحاق وابن عائذ. وقال موسى بن عقبة وزياد عن ابن اسحاق: عمرو بن الحارث.
وقال في ص 502: عمرو بن عامر بن الحارث الفهري، ذكره موسى بن عقبة. انتهى.
ـ وذكر نحوه في عيون الأثر: 1|358
وعليه، يكون الحارث صاحب حجر السجيل فهرياً، وليس عبدرياً.
ويكون جابر بن النضر العبدري الذي ورد في رواية أبي عبيد، صاحب حجر سجيلٍ آخر .. والله العالم.
الأفجران من قريش أو ... الأفجرون؟
ورد في مصادر الحديث أن أسوأ قبائل قريش، وأشدها على النبي صلى الله عليه وآله هم بنو أمية، وبنو المغيرة، وهم فرع أبي جهل من مخزوم، وورد وصفهم بالأفجريْن ..
ولا بد أن نضيف اليهم بني عبد الدار فيكونون الأفجرون بالجمع .. وإن كان الإنسان بعد أن يستثني بني هاشم والقلة الذين معهم من قريش، يشك في من هو الأحسن والأفجر من الباقين!!
--------------------------------------------------------------------------------
(358)
ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 4|85
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردوية، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: ألم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفراً، قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا الى حين!. انتهى.
ويشبه أن يكون ذلك كلاماً نبوياً ردده عمر، وإذا صح ذلك عنه، يتوجه اليه السؤال: لماذا ولَّى معاوية الأموي على حكم الشام، وأطلق يده ولم يحاسبه أبداً، ثم رتب الخلافة من بعده في شورى جعل فيها حق النقض لصهر عثمان الأموي، فأكمل بذلك تسليم الدولة الإسلامية لأحد الأفجريْن من قريش؟!
**
**
ـ[عاشق جمال الفصحى]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 12:15 ص]ـ
قام باعدادهذا البحث مركز المصطفى للدراسات الاسلامية
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 04:55 ص]ـ
هل من الممكن أن يقرأ شخص 335 صفحة ألكترونية في رابط؟؟
مالكم كيف تحكمون؟؟
أنت لم تخدم رافضيتك في هذا العمل بل أسأت لها؟؟
ثمّ ألم يخطر في بالك أنّ هناك حدّ معين لاستيعاب المنتدى من الصفحات الألكترونية---فعملك هذا قد يؤدي إلى مشاكل تقنيّة
أرجو من المشرف أن يلاحظ ذلك فهناك ما يسمّى ملف مضغوط
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 08:37 م]ـ
خالف هذا الموضوع قانون المنتدى لذا سنضطر لإغلاقه
* ألا تتعارض المقالات المنشورة هنا مع مبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ومعتقدات أهل السنة والجماعة.
* ألا تستهدف المقالات المنشورة إثارة النعرات الطائفية أو التعصب الديني أو النقاشات الدينية الساخنة أو إهانة معتقدات الأشخاص الآخرين.
نرجو المعذرة(/)
ما الفرق بين التشبيه التمثيلي و التشبيه الضمني؟!
ـ[عشق عربي]ــــــــ[21 - 10 - 2005, 03:13 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
لدي سؤال يؤرقني .... فأرجو من الذي عنده إجابه افادتي ...
وله الشكر الجزيل ....
كيف لي أن أفرق بين التشبيه التمثيلي والتشبيه الضمني؟!
مع تحياتي ....
عشق عربي ....
ـ[حافظ عبدالمنان]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 04:26 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفرق بين التشبيه التمثيلي والضمني:
(1) التشبيه التمثيل: وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أمور. وهذا مذهب جمهور البلاغيين.
ولا يشترط فيه تركيب الوجه سواء كان الوجه فيه حسيا، أم عقلياً، حقيقيا أو غير حقيقي.
مثاله قول الله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمقل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
فالمشبه: حال من ينفق قليلا في سبيل الله.
والمشبه به: حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل.
ووجه الشبه: هو صورة من يعمل قليلا فيجني من ثمار عمله كثيرا، وهو منتزع من أمور شتى: (حبة، وإنباتها سبع سنابل، وكون مائة حبة في كل سنبلة).
(2) التشبيه الضمني: هو تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة - أي من غير أركان التشبيه - بل يلمحان من السياق والمعنى والتركيب، والقسم هذا من التشبيه يؤتى ليفيد أن الحكم المضاف إلى المشبه ممكن.
مثاله: قول الشاعر:
لا تنكري عطَل الكريم من الغنى السيل حرب للمكان العالي
يريد الشاعر أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريباً، لأ قمم الجبال - وهي أعلى الأماكن - لا يستقر فيها ماء السيل.
ففي هذا الكلام تشبيه ضمني، ولو أتى بصورة معروفة للتشبيه لقال: إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل.
ولكن لم يقل الشاعر ذلك بصراحة، وإنما أتى بجملة مستقلة متضمنة هذا المعنى.
فالفرق بينهما ظاهر، بأن الأول تذكر فيه أركان التشبيه على طريقة معروفة دون الثاني حيث لا يذكر فيه شيء منها. مع أن وجه الشبه في كلا النوعين يفهم من أمور أو كلام لا بلفظ خاص.
والله أعلم.
ـ[عشق عربي]ــــــــ[26 - 10 - 2005, 10:07 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
لك الشكر الجزيل أستاذي على التوضيح ....
جزاك الله خيرا ....
تحياتي ....
عشق عربي ....
ـ[مجدى مختار]ــــــــ[04 - 08 - 2008, 01:17 ص]ـ
شكرا على مجهودك الرائع و جزاك الله خيرا.
ـ[بَحْرُ الرَّمَل]ــــــــ[05 - 08 - 2008, 01:29 م]ـ
التشبيه الضمني بكل بساطة تشبيه تمثيلي ولكن بأداة محذوفة
مثلا:
من يهن يسهل الهوان عليه ..... ما لجرح بميت إيلام
شبه صورة من يرضى الذل والهوان ولا يتأثر
بصورة الميت الذي لا يؤثر فيه جرح
ولكن لا أداة تشبيه .... والتشبيه الضمني قمة البلاغة في الشعر برأيي
ـ[عربية وافتخر]ــــــــ[21 - 09 - 2009, 06:43 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفرق بين التشبيه التمثيلي والضمني:
(1) التشبيه التمثيل: وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أمور. وهذا مذهب جمهور البلاغيين.
ولا يشترط فيه تركيب الوجه سواء كان الوجه فيه حسيا، أم عقلياً، حقيقيا أو غير حقيقي.
مثاله قول الله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمقل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
فالمشبه: حال من ينفق قليلا في سبيل الله.
والمشبه به: حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل.
ووجه الشبه: هو صورة من يعمل قليلا فيجني من ثمار عمله كثيرا، وهو منتزع من أمور شتى: (حبة، وإنباتها سبع سنابل، وكون مائة حبة في كل سنبلة).
(2) التشبيه الضمني: هو تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة - أي من غير أركان التشبيه - بل يلمحان من السياق والمعنى والتركيب، والقسم هذا من التشبيه يؤتى ليفيد أن الحكم المضاف إلى المشبه ممكن.
مثاله: قول الشاعر:
لا تنكري عطَل الكريم من الغنى السيل حرب للمكان العالي
يريد الشاعر أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريباً، لأ قمم الجبال - وهي أعلى الأماكن - لا يستقر فيها ماء السيل.
ففي هذا الكلام تشبيه ضمني، ولو أتى بصورة معروفة للتشبيه لقال: إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل.
ولكن لم يقل الشاعر ذلك بصراحة، وإنما أتى بجملة مستقلة متضمنة هذا المعنى.
فالفرق بينهما ظاهر، بأن الأول تذكر فيه أركان التشبيه على طريقة معروفة دون الثاني حيث لا يذكر فيه شيء منها. مع أن وجه الشبه في كلا النوعين يفهم من أمور أو كلام لا بلفظ خاص.
والله أعلم.
الكلمات التي باللون الاحمر تحتاج الى تصحيح
وبارك الله فيكم
موضوع مفيد
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[برناردشو]ــــــــ[24 - 09 - 2009, 08:12 ص]ـ
أخي الكريم
التشبيه التمثيلي: أداة التشبيه موجودة
التشبيه الضمني: أداة التشبيه غير موجودة
تحياتي
ـ[طويل العمر]ــــــــ[28 - 09 - 2009, 02:53 ص]ـ
دمتم بود على التوضيح الجميل هنيئا لكم
ـ[عبد الله إسماعيل]ــــــــ[18 - 10 - 2009, 08:54 ص]ـ
[ QUOTE= حافظ عبدالمنان;45470] [ b] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفرق بين التشبيه التمثيلي والضمني:
(1) التشبيه التمثيل: وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أمور. وهذا مذهب جمهور البلاغيين.
ولا يشترط فيه تركيب الوجه سواء كان الوجه فيه حسيا، أم عقلياً، حقيقيا أو غير حقيقي.
مثاله قول الله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
فالمشبه: حال من ينفق قليلا في سبيل الله.
والمشبه به: حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل.
ووجه الشبه: هو صورة من يعمل قليلا فيجني من ثمار عمله كثيرا، وهو منتزع من أمور شتى: (حبة، وإنباتها سبع سنابل، وكون مائة حبة في كل سنبلة).
(2) التشبيه الضمني: هو تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة - أي من غير أركان التشبيه - بل يلمحان من السياق والمعنى والتركيب، والقسم هذا من التشبيه يؤتى ليفيد أن الحكم المضاف إلى المشبه ممكن.
مثاله: قول الشاعر:
لا تنكري عطَل الكريم من الغنى السيل حرب للمكان العالي
يريد الشاعر أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريباً، لأ قمم الجبال - وهي أعلى الأماكن - لا يستقر فيها ماء السيل.
ففي هذا الكلام تشبيه ضمني، ولو أتى بصورة معروفة للتشبيه لقال: إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل.
ولكن لم يقل الشاعر ذلك بصراحة، وإنما أتى بجملة مستقلة متضمنة هذا المعنى.
فالفرق بينهما ظاهر، بأن الأول تذكر فيه أركان التشبيه على طريقة معروفة دون الثاني حيث لا يذكر فيه شيء منها. مع أن وجه الشبه في كلا النوعين يفهم من أمور أو كلام لا بلفظ خاص.
والله أعلم .....................
أرجو ذكر المصادر التي تعتمدون عليها ............ جزاكم الله خيرا.
ـ[تلميذ الحياه]ــــــــ[30 - 10 - 2009, 03:55 م]ـ
بارك الله فيكم ورفع درجاتكم ان شاء الله
ولله ابداع في ابداع كلكم مبدعين
نورتو طريقي في هذه الدروس نور الله طريقكم في الدنيا والاخره
وشكرا
ـ[حمادي الموقت]ــــــــ[30 - 10 - 2009, 11:14 م]ـ
الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم
وبعد
فارتباطا بموضوع التشبيه أقول: إن التشبيه نوعان:
مفرد وله أصناف عديدة هي المفصل والمجمل والبليغ والمرسل والمؤكد
ومركب وهو صنفان: تمثيلي وضمني
فأما التمثلي فهو تشبيه صورة بصورة أو هيئة بهيئة أو حال بحال ووجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أي أن وجه الشبه ليس مفردا بل مؤلفا ومركبا من أشياء متعددة. ومثاله قول الله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء. إذ شبه الله تعالى المنفقين كالحبة التي أنبتت سبع سنابل، أما وجه الشبه هنا فالبركة والعطاء
أما التشبيه الضمني فهو تشبيه غير صريح ولايستفاد إلا من سياق الكلام، وغالبا ما يكون المشبه قضية والمشبه به هو الدليل عليها. فالمثال الذي أورده أخي "السراج" من أن قول المتنبي: ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
هو تشبيه تمثيل فهذا غير صحيح بل هو ضمني، إذ المشبه هنا هو المهان أي القضية والمشبه به هو الميت أي الدليل، بحيث أن الميت لايؤذى إذا جُرح وكذلك من اعتاد الهوان
إذن هو تشبيه ضمني لم نفهمه إلا من سياق الكلام، ودون وجود أركان التشبيه المعروفة
مع تحيات: أبو ريحانة
ـ[أبو سمية]ــــــــ[31 - 10 - 2009, 09:44 م]ـ
السلام عليكم، أيها الإخوة أرجو التوضيح فهل في قول الشاعرالآتي تشبيه ضمني؟:
سيدكرني قومي إذا جدّ جِدُّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
أرجو الإفادة أثابكم الله
ـ[عمر المعاضيدي]ــــــــ[02 - 11 - 2009, 04:29 م]ـ
السلام عليكم، أيها الإخوة أرجو التوضيح فهل في قول الشاعرالآتي تشبيه ضمني؟:
سيدكرني قومي إذا جدّ جِدُّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
أرجو الإفادة أثابكم الله
وعليكم السلام ورحمة الله
الشطر الأول فيه مجاز لغوي حيث أتى بالمصدر جدّهم
أما الشطر الثاني فقد شبه حال قومه في نكبتهم بالليل وهذا جاء على اللسان العربي
وعزاؤنا الوحيد في الليل هو البدر الذي شبه نفسه به.
هذا والله اعلم
لأن احتمال خطئي وارد
ـ[المصراوي]ــــــــ[15 - 11 - 2009, 10:22 م]ـ
السلام عليكم، أيها الإخوة أرجو التوضيح فهل في قول الشاعرالآتي تشبيه ضمني؟:
سيدكرني قومي إذا جدّ جِدُّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
أرجو الإفادة أثابكم الله
نعم هناك تشبيه ضمني في هذا البيت
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[فهد عبد الرحمن الصلوح]ــــــــ[25 - 11 - 2009, 12:53 م]ـ
نعم هناك تشبيه ضمني في هذا البيت
نعم هذا تشبيه ضمني، يريد أن يقول: إن قومه سيذكرونه حين تدلهم الخطوب، وسيفتحون عيونهم فلا يجدونه، ودليله: أن الناس يتطلعون إلى البدر في الأيام الحالكلة، ليبصورافلا يجدون البدر، إن الشاعر لم يشبه حاجة قومه إليه في الأزمات كحاجة الناس للبدر في الليالي الحالكات، ولكنه ألمح لهذا المعنى إلماحاوضمن بيته هذه التشبيه.
ـ[العنتريس]ــــــــ[31 - 03 - 2010, 07:46 ص]ـ
إن من أعظم ما يشتمل عليه التشبيه الضمني من إمكانات تعبيرية يفتقدها التشبيه التمثيلي تقديمه للحجة مع الدليل الواضح البين مثل
ما قاله المتنبي في وصف ممدوحه: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال، فهنا المتنبي يرى أن ممدوحه يفوق البشر وإن كان منهم، ولما احتاج كلامه لدليل لكي لا يعد ضربا من الهذيان أتى بدليله الدامغ أن المسك ماهو إلا دم إلا أن قيمته أهم من بقية الدم، وأعلى قيمة، ومن ثم نخلص إلى أن التشبيه الضمني لا يكتفي بإعطاء صورة مشابهة للمشبه وإنما يتعدى ذلك بإعطاء صورة ودليل وحجة وبرهان يزرع الممكن في ماسبق ويزيح أي غشاوة أو رد على ما تقدم.
ـ[عبود]ــــــــ[05 - 07 - 2010, 05:26 ص]ـ
شكرا(/)
الجاحظ واللفظ والمعنى
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 04:34 م]ـ
السلام عليكم
استحسن أبو عمر الشيباني بيتان هما
لا تحسبنّ الموت موت البلى
فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكنَّ ذا
أشدُّ من ذاك على كل حال
فقال الجاحظ معلقا على ذلك في البيان والتبيين
: ((وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير)).
هذا هو قول الجاحظ الذي يتضح منه كونه من مدرسة اللفظيين لا من مدرسة المعنى والنظم.
أمّا شيخنا الجرجاني فيقول: ((… ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى "اللفظ" على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلةَ إلى "اللفظ" مثل قولهم: "لفظ متمكن غير قلق، ولا نابٍ به موضعه" … فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا "اللفظ"، وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصةَ التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: "وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدويّ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير".))
وفي رأيي أنّه ناقد معرض بقول الجاحظ--فكيف يقال أنّه أخذ منه نظرية النظم أو المعاني؟
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 07:46 م]ـ
ما نقلته دليل قاطع على أنّ الجاحظ من مدرسة اللفظ بل هو إمامها وأنّ الجرجاني مخترع مدرسة النظم أو المعنى
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 06:25 ص]ـ
:::
الجاحظ لمن لا يعرفه هو: عمرو بن بحر الجاحظ، البصري الأديب المتكلم المعتزلي (ت 225 هـ). مؤسس علم البلاغة حقاً، فهو أول اديب عربي، فيما نعلم، يقوم بجمع ما يتصل بهذا العلم من كلام من سبقوه وعاصروه، ويضيف إليه ما عدله من أفكار وأراء ثم يتوسع بدراسته، ويعزز مسائله بالأمثلة.
وقد تناول مفهوم ((البلاغة)) فحملها على أكثر من معنى، منها ((مطابقة الكلام لمقتضى الحال)) فلكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء. فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والإسترسال في موضع الإسترسال. وهو الذي ينظر إليه البلاغيون والنقاد على انه مقياس من مقاييس البلاغة والنقد، ذلك أن الحكم على بلاغة الكلام مرتبط بمطابقة الكلام لما يتطلبه الموضوع أو الموقف الذي يقال فيه، ولما يقتضيه حال السامعين.
وأولى عنايته بمسألة اللفظ والمعنى وبقضية النظم، فقرر أن الكلام البليغ هو الذي يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق إلى معناه إلى قلبك.
يقول الجاحظ: وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، ومنزهاً عن الاختلال، ومصوناً عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة.
ونصَّ على أن الألفاظ المترادفة مختلفة في الدلالة، فليس هنالك لفظ يساوي لفظاً آخر مساواة تامة في دلالته ومعناه، وإذا كلنت الألفاظ من واد واحد، فإن كلا منها يستقل بمرتبة من مراتب المعنى، ويدل على ظل من ظلاله، فألفاظ الشجاع والبطل والبُهْمَةُ والأليس -- مثلاً -- إنما هي ظلال متدرجة لمعنى الشجاعة من بدايتها إلى غايتها.
وأشار إلى أن لكل قوم ألفاظاً حظيت عندهم، وأن كل بليغ في الأرض وصاحب كلام منثور، وكل شاعر في الأرض، وصاحب كلام موزون، لا بد له أن يكون قد ألف ألفاظاً بأعيانها لُيديرها في كلامه، حتى لو كان واسع العلم، غزير المعاني، كثير اللفظ.
وذهب إلى أن البلاغة تبرز من خلال المزاوجة أو الملائمة بين اللفظ والمعنى، وتتمثل في الأسلوب القوي المحكم، أو نظم الألفاظ التي يتطلبها المعنى على نحو يتيح لجوهر المعنى أن يبدو كاملاً واضحاً مؤثراً، وقرر -- لذلك -- أن إعجاز القرآن هو تأليفه ونظمه.
واهتم الجاحظ بالبيان العربي، وتأثر به تأثراً ظاهراً، ورأى أن القدرة على الإفهام والتبيين بلاغة، ولعل هذا الإهتمام والتأثر والرؤية حملته على أن يسمي درة مصنفاته: ((البيان والتبيين)).
وأخذ عنه أئمة العلماء كابن قتيبة وابن المعتز والمبرد وابن عبد ربه وقدامة ابن جعفر والرماني وأبي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، وبهذا فإنه يحق لنا أن نعده مَعْلَمَاً ظاهراً من معالم نشأة علم البلاغة وارتقائه.
أما بالنسبة لقوله:
" نظم الألفاظ التي يتطلبها المعنى على نحو يتيح لجوهر المعنى أن يبدو كاملاً واضحاً مؤثراً " فإنه يركز على المعنى في سياق الجملة، لا على نظرية النظم كما بينها عبد القاهر الجرجاني.
ويجدر الذكر أن الرأي الآفن من بين الآراء وأبعدها عن الصواب رأي إبراهيم النَظَّام صاحب المذهب الذي يُنسب إليه (مذهب الصَّرفة) إذ قال:
إنَّ القرآن ليس معجزاً بفصاحته وبلاغته، وإنَّ العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، لكن الله صرفهم عن ذلك تصديقاً لنبيه، وتأييداً لرسوله حتى يؤدي رسالات ربه.
فانبرى للرد عليه جم غفير من العلماء من بينهم الجاحظ صاحب مذهبه في الإعتزال، والباقلاني إمام الأشاعرة في زمانه، وإمام الحرمين، والفخر الرازي، وناضلوا نضالهم المحمود الذي خُلد لهم في بطون الأسفار، فكتبوا الفصول الممتعة مبينيين خطل رأيه وفساد مذهبه، بما أملته عليهم قرائحهم الوقادة، وأفكارهم النقادة، حتى لم يبق في القوس منزع، ولا زيادة لمستزيد.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 10:06 م]ـ
الأخ موسى
أنت تمتّعنا بفرائد مفيدة---أودّ أن أعرف منك شيئا---أين انتقد الباقلاني القول بالصرفة؟؟
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 02:44 ص]ـ
الأخ الحبيب جمال ..
يقول الإمام الباقلاني في نقد هذه الفكرة: " على أن ذلك لو لم يكن معجزاً على ما وصفناه من جهة نظمه، لكان مهما حُطّ من رتبة البلاغة فيه، ووُضع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صُرفوا عن الإتيان بمثله، ومُنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يُستغنى عن إنزاله على نظمه البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب ".
ويقول أيضاً: " على أنه لو كان صُرفوا لم يكن مَن قبلهم مِن أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنهم لم يُتَحَدَّوْا، ولم تلزمهم حجّته، فلمّا لم يوجد في كلام مَن قبله عُلم أن ما ادّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان ".
إعجاز القرآن للباقلاني، تحقيق الأستاذ أحمد صقر: ص41 - 42.
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 07:43 ص]ـ
وإليك أخي جمال هذه الفسيلة:
إعجاز القرآن للباقلاني
بطلان القول بالصرفة ص10
ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة: أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزاً، وإنما يكون المنع معجزاً؛ فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.
وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب، لو تعلموه لوصلوا إليه به.
ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر، وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد
مذهب بعض المخالفين ص93
وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل، فصار القرآن معجزاً لنزوله على هذا الوجه، ومن قبله لم يكن معجزاً .. وهذا قول أبي هاشم وهو ظاهر الخطأ، لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن، وإن لم يتعذر عليهم فعل مثله، وإنما تعذر بإنزاله، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله، وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله على مثله، فهو قولنا.
وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بينا، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله، وكان ذلك متعذراً قبل نزوله وبعده.(/)
رسالة في أعجاز سورة الكوثر للزمخشري
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 08:17 م]ـ
هذه الرساله منقولة من مجلة تراثنا العدد 13
(195)
رسالة في إعجاز سورة الكوثرللزمخشري
تحقيق
حامد الخفاف
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
مما لا مجال للشك فيه أن عهد نزول القرآن في حياة العرب يمثل ذروة اهتمام المجتمع القبلي في الجزيرة العربية ببلاغة الكلمة وفصاحة المنطق ودقة الحس البياني، أكثر من أي وقت مضى، فليس غريبا عنا ما كانت توليه القبيلة من احترام وتقدير لاصحاب اللسان الماشق والحس المرهف، فترى الشاعر سيف القبيلة الناطق، الذي تجرده بوجه أعدائها، وتقدمه درعا واقيا يرد عنها سهام الكلام، حتى أن أبياتا من الشعر تحوي من قارص الكلم أشده يمكن أن تفعل فعلها أشد من السنان وأمضى من المهند المصقول.
وذاك سوق عكاظ، نادي الادباء العرب ـ إن صح التعبير ـ يجتمعون فيه، لتتصارع الكلمة في حلبة البلاغة، وليتبارز البيان بسيوف الفصاحة، تشد إليه الرحال، وتعقد عليه الآمال، كل ذلك كان يعمق في الجزيرة العربية حقيقة كونها مجتمع الكلمة الذي لم يعرف اللحن له طريقا، ولا العجمة سبيلا.
وجاء القرآن، كلام الله المجيد، ينشر من أريجه عطر القداسة، ويضم بين دفتيه ما يحير العقول، ويأخذ بالالباب، انظروا إلى عدو الله الوليد بن المغيرة
(196)
المخزومي، فاغرا فاه، يتمتم بحيرة: «والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق، وإنه ليعلو وما يعلى».
جاء ليتحدى كبرياء الكلمة في عقر دارها، وشموخ البيان في عنفوانه: «قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا»، فكانت المعجزة التي ألقت لها الفصاحة قيادها، وكأن دولة البلاغة العظمى كانت تنتظر ملكها بلهفة وشوق، وهكذا كان.
وكتابنا الصغير هذا، جواب من الزمخشري ـ رجل البلاغة والفصاحة ـ على عدة إشكالات، وردت من صديق له حول إعجاز القرآن، بصورة رسالة بعثها إليه، سائلا إياه الاجابة، فتصدى المؤلف للجواب عنها، باسلوبه الشيق الرفيع، برسالة حول إعجاز سورة الكوثر، هي كما قال عنها: «رسالة من أبلغ الرسالات، اورد فيها مقدمة في إعجاز القرآن الكريم، في فضل اللسان العربي على كل لسان، على وجه عجيب، واسلوب على طرف الثمام قريب غريب» مضيفا بذلك للمكتبة الاسلامية جهدا رائعا يشار إليه بالبنان، حاولنا أن نضفي عليه بتحقيقنا إياه من روعة الاخراج ما نتمكنه، ومن متطلبات التحقيق ما يحتاجه، وعلى الله التكلان.
* * *
(197)
ترجمة المؤلف
هو العلامة جار الله أبوالقاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري الخوارزمي، كبير المعتزلة، صاحب الكشاف والمفصل (1)، أمره في الاشتهار أوضح من الشمس وأبين من الامس.
ولادته وبلده:
ولد الزمخشري في يوم الاربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة بزمخشر خوارزم، على مانقله القفطي عن ابن اخته أبي عمر عامر بن الحسن السمساري (2)، وقال أيضا: «ونقلت من كتاب محمد بن محمد ابن حامد قال: كان مولده ـ يعني الزمخشري ـ في سابع عشر شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة» (3).
يقول الزمخشري: «وأما المولد فقرية من قرى خوارزم مجهولة، يقال لها:
____________
(1) توجد ترجمته في: الانساب 6: 297، معجم البلدان 3: 147، معجم الادباء 19: 126|41، الكامل في التاريخ 11: 97، إنباه الرواة 3: 265|753، وفيات الاعيان 5: 168|711، ميزان الاعتدال 4: 78|8367، العبر 2: 455، سير أعلام النبلاء 20: 151|91، تذكرة الحفاظ 4: 1283، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 228|173، مرآة الجنان 3: 269، البداية والنهاية 12: 219، لسان الميزان 6: 4، بغية الوعاة 2: 279|1977، طبقات المفسرين 104|127، طبقات المفسرين للداودي 2: 314|625، شذرات الذهب 4: 121، روضات الجنات 8: 118|711، الكنى والالقاب 2: 297، هدية العارفين 2: 402، وعن هامش السير: نزهة الالباء: 391، المختصر في أخبار البشر 3: 16، إشارة التعيين: الورقة 53 و54، البدر السافر: ورقة 193، تاريخ الاسلام: وفيات 538، دول
(يُتْبَعُ)
(/)
الاسلام 2: 56، تلخيص ابن مكتوم: 243، الجواهر المضية 2: 160، العقد الثمين 7: 137، طبقات المعتزلة: 20، طبقات ابن قاضي شهبة 2: 241، النجوم الزاهرة 5: 274، تاج التراجم: 71، طبقات الفقهاء لطاش كبرى: 94 و95، مفتاح السعادة 2: 97، أزهار الرياض 3: 282، الفوائد البهية: 209، كنوز الاجداد: 291، تاريخ بروكلمان 5: 215.
(2) إنباه الرواة 3: 266.
(3) إنباه الرواة 3: 271.
(198)
زمخشر، سمعت أبي قال: اجتاز بزمخشر أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل له: زمخشر والرداد، فقال: لا خير في شر ورد، ولم يلمم بها» (4).
وزمخشر ـ بفتح أوله وثانيه، ثم خاء معجمة ساكنة، وشين معجمة، وراء مهملة ـ: قرية جامعة من نواحي خوارزم (5)، وقال القفطي: سمعت بعض التجار يقول: إنها دخلت في جملة المدينة، وإن العمارة لما كثرت وصلت إليها وشملتها، فصارت من جملة محالها (6).
وقال فيها الشريف أبوالحسن علي بن عيسى بن حمزة الحسني المكي عند مدح الزمخشري:
تبوأها دارا فداء زمخشرا * جميع قرى الدنيا سوى القرية التى
إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرى (7) * وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ
وبعد نشوئه تنقل الزمخشري في بلدته يجوب الاقطار طلبا للعلم وسعيا وراء المعرفة، فطاف الآفاق وتنقل ما بين بغداد ونيسابور، ثم أقام بمكة المكرمة، ولذلك لقب نفسه جار الله لمجاورته البيت العتيق، وكان أين ما حل وارتحل محل احترام وتقدير.
مكانته العلمية:
يعتبر الزمخشري شخصية بارزة في عالم الفصاحة والبلاغة والادب والنحو، نتلمس ذلك جليا في مصنفاته وآثاره من جهة، ومن إطراء وتبجيل كل من ترجم له من جهة اخرى.
يقول القفطي: وذكره صاحب الوشاح ـ ذكره بألقاب وسجع له على عادته ـ فقال: «استاذ الدنيا، فخر خوارزم، جار الله العلامة أبوالقاسم محمود
____________
(4، 5) معجم البلدان 3: 147.
(6) إنباه الرواة 3: 265.
(7) إنباه الرواة 3: 268.
(199)
الزمخشري، من أكابر الامة، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الازمة، واتفقت على إطرائه الالسنة، وتشرفت بمكانه وزمانه الامكنه والازمنة، ولم يتمكن في دهره واحد من جلاء رذائل النظم والنثر، وصقال صوارم الادب والشعر، إلا بالاهتداء بنجم فضله، والاقتداح بزند عقله، ومن طار بقوادم الانصاف وخوافيه، علم أن جواهر الكلام في زماننا هذا من نثار فيه، وقد ساعده التوفيق والاقبال، وساعفه من الزمان الماضي والحال، حتى اختار لمقامه أشرف الاماكن، وجمع بجوار بيت الله الحرام بين الفضائل والمحاسن، وودع أفراس الامور الدنياوية ورواحلها، وعاين من بحار الخيرات والبركات سواحلها، وقد صغر في عيون أفاضل عهده ما رأوه ورووه، وملك في قلوب البلغاء جميع ما رعوه ووعوه، وإن كان عدد أبياته التي ذكرتها قليلا فكماله صار عليها دليلا» (8).
ولما قدم الزمخشري إلى بغداد قاصدا الحج زاره الشريف أبوالسعادات هبة الله بن الشجري مهنئا له بقدومه، فلما جلس إليه أنشده متمثلا:
كانت مسألة الركبان تخبرني * عن أحمد بن دواد أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت * أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وأنشد أيضا:
فلما التقينا صغر الخَبَرَ الخُبْرُ (9) * وأستكبر الاخبار قبل لقائه
وكان الزمخشري ممن يضرب به المثل في علم الادب والنحو واللغة (10)، وما دخل بلدا إلا واجتمعوا عليه وتلمذوا له، واستفادوا منه، وكان علامة الادب، ونسابة العرب، تضرب إليه أكباد الابل، وتحط بفنائه رحال الرجال، وتحدى باسمه مطايا الآمال (11).
وقال ياقوت: كان إماما في التفسير والنحو واللغة والادب، واسع العلم،
____________
(8) إنباه الرواة 3: 268.
(9) معجم الادباء 19: 128.
(10) الانساب 6: 297.
(11) طبقات المفسرين للسيوطي: 105، إنباه الرواة 3: 266.
(200)
كبير الفضل، متفننا في علوم شتى (12).
ولا نريد الاطالة في سرد العبارات الواردة في مدح المصنف والثناء عليه، ففي ما ذكرناه كفاية لمن يقنع بالتلميح عن التصريح.
مؤلفاته:
1 ـ الكشاف في تفسير القرآن.
2 ـ الفائق في غريب الحديث.
3 ـ نكت الاعراب في غريب الاعراب، في غريب إعراب القرآن.
4 ـ كتاب متشابه أسماء الرواة.
(يُتْبَعُ)
(/)
5 ـ مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة.
6 ـ الاصل، لابي سعيد الرازي إسماعيل.
7 ـ الكلم النوابغ، في المواعظ.
8 ـ أطواق الذهب، في المواعظ.
9 ـ نصائح الكبار.
10 ـ نصائح الصغار.
11 ـ مقامات في المواعظ.
12 ـ نزهة المستأنس.
13 ـ الرسالة الناصحة.
14 ـ رسالة المسامة.
15 ـ الرائض في الفرائض.
16 ـ معجم الحدود.
17 ـ المنهاج في الاصول.
18 ـ ضالة الناشد.
____________
(12) معجم الادباء 19: 126.
(201)
19 ـ كتاب عقل الكل.
20 ـ النموذج، في النحو.
21 ـ المفصل، في النحو.
22 ـ المفرد والمؤلف، في النحو.
23 ـ صميم العربية.
24 ـ الامالي في النحو.
25 ـ أساس البلاغة، في اللغة.
26 ـ جواهر اللغة.
27 ـ كتاب الاجناس.
28 ـ مقدمة الادب، في اللغة.
29 ـ كتاب الاسماء، في اللغة.
30 ـ القسطاس، في العروض.
31 ـ حاشية على المفصل.
32 ـ شرح مقاماته.
33 ـ روح المسائل.
34 ـ سوائر الامثال.
35 ـ المستقصى، في الامثال.
36 ـ ربيع الابرار، في الادب والمحاضرات.
37 ـ تسلية الضرير.
38 ـ رسالة الاسرار.
39 ـ أعجب العجب في شرح لامية العرب.
40 ـ شرح المفصل.
41 ـ ديوان التمثيل.
42 ـ ديوان خطب.
(202)
43 ـ ديوان رسائل.
44 ـ ديوان شعر.
45 ـ شرح كتاب سيبويه.
46 ـ كتاب الجبال والامكنة.
47 ـ شافي العي من كلام الشافعي.
48 ـ شقائق النعمان في حقائق النعمان، في مناقب الامام أبي حنيفة.
49 ـ المحاجاة ومتمم مهام أرباب الحاجات، في الاحاجي والالغاز.
50 ـ المفرد والمركب، في العربية (13).
51 ـ رسالة في إعجاز سورة الكوثر، وهي الرسالة التي بين يديك.
تلامذته والرواة عنه:
يظهر مما ذكره القفطي في إنباه الرواة: «وما دخل بلدا إلا واجتمعوا عليه وتلمذوا له» (14) كثرة تلاميذه وانتشارهم باعتبار كثرة سفره وتجواله في الاقطار، نذكر منهم ما استطعنا العثور عليه خلال استقراء عاجل لمظان ترجمته:
1 ـ أبوالمحاسن إسماعيل بن عبد الله الطويلي.
2 ـ أبوالمحاسن عبد الرحيم بن عبد الله البزاز.
3 ـ أبوعمر عامر بن الحسن السمسار.
4 ـ أبوسعد أحمد بن محمود الشاشي.
5 ـ أبوطاهر سامان بن عبد الملك (15).
6 ـ الشيخ علي بن محمد الخوارزمي.
7 ـ الشيخ محمد بن أبي القاسم بن ياجوك البقالي الخوارزمي اللغوي.
____________
(13) انظر معجم الادباء 19: 134، وفيات الاعيان 5: 168.
(14) إنباه الرواة 3: 266.
(15) الانساب 6: 298.
(203)
8 ـ الشيخ أبوالفتح ناصر بن عبدالسيد بن المطرز (16).
شيوخه وأساتذته ومن سمع منهم:
1 ـ أبومضر محمود بن جرير الضبي الاصبهاني.
2 ـ أبوالحسن علي بن المظفر النيسابوري.
3 ـ شيخ الاسلام أبومنصور نصر الحارثي.
4 ـ أبوسعد الشقاني (17).
5 ـ أبوالخطاب بن البطر (18).
شعره:
ورد شعر الزمخشري متفرقا في المصادر التي تعرضت لترجمته، فحاولنا جهد الامكان أن نجمع شتات ما استطعنا العثور عليه فيها من الابيات الشعريه سواء كان قطعي الصدور عنه أو كان منسوبا إليه، ونذكر مع كل قطعة شعرية مصدر النقل:
قال الزمخشري:
وسواه في جهلاته يتغمغم * العلم للرحمن جل جلاله
يسعى ليعلم أنه لا يعلم * ما للتراب وللعلوم وإنما
وقال أيضا:
يدعي الفوز بالصراط السوي * كثر الشك والخلاف وكل
ثم حبي لاحمد وعلي * فاعتصامي بلا إله سواه
كيف أشقى بحب آل نبي؟! * فاز كلب بحب أصحاب كهف
____________
(16) روضات الجنات 8: 123.
(17) معجم الادباء 19: 127.
(18) العبر 2: 455، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 228.
(204)
وقال في مدح تفسير الكشاف:
وليس فيها لعمري مثل كشافي * إن التفاسير في الدنيا بلا عدد
فالجهل كالداء والكشاف كالشافي (19) * إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته
وقال يرثي استاذه أبا مضر النحوي:
تساقطها عيناك سمطين سمطين * وقائلة ما هذه الدرر التي
أبومضر اذني تساقط من عيني (20) * فقلت هو الدر الذي قد حشابه
وقال أيضا يرثيه:
ستعلم بعد الموت أيهما أحرى * أيا طالب الدنيا وتارك الاخرى
وذكرت بالآيات لو تنفع الذكرى * ألم يقرعوا بالحق سمعك؟! قل: بلى
كأنك في اذنيك وقر ولا وقرا * أما وقر الطيش الذي فيك واعظ
أم الله لم يودعك لبا ولا حجرا * أمن حجر صلد فؤادك قسوة
(يُتْبَعُ)
(/)
وموت فريد العصر قد خرب العصرا * وما زال موت المرء يخرب داره
فشبهت بالخنساء إذ فقدت صخرا (21) * وصك بمثل الصخر سمعي نعيه
وقال أيضا:
وأكتمه؛ كتمانه لي أسلم * إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به
ابيح الطلا وهو الشراب المحرم * فإن حنفيا قلت، قالوا بأنني
ابيح لهم أكل الكلاب وهم هم * وإن مالكيا قلت، قالوا بأنني
ابيح نكاح البنت والبنت تحرم * وإن شافعيا قلت، قالوا بأنني
ثقيل حلولي بغيض مجسم * وإن حنبليا قلت، قالوا بأنني
يقولون تيس ليس يدري ويفهم * وإن قلت من أهل الحديث وحزبه
فما أحد من ألسن الناس يسلم * تعجبت من هذا الزمان وأهله
____________
(19) معجم الادباء 19: 129.
(20) معجم الادباء 19: 124، إنباه الرواة 3: 267.
(21) إنباه الرواة 3: 267.
(205)
على أنهم لا يعلمون وأعلم (22) * وأخرني دهري وقدم معشرا
وله أيضا:
من وصل غانية وطيب عناق * سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
أشهى وأحلى من مدامة ساق * وتمايلي طربا لحل عويصة
أحلى من الدوكاء والعشاق * وصرير أقلامي على أوراقها
نقري لالقي الرمل عن أوراقي * وألذ من نقر الفتاة لدفها
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي (23) * أأبيت سهران الدجى وتبيته
وقال أيضا:
وما تطيبنا النجل من أعين البقر * ألا قل لسعدى ما لنا فيك من وطر
عيونهم والله يجزي من اقتصر * فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت
ولم أر في الدنيا صفاء بلا كدر * مليح ولكن عنده كل جفوة
إلى جنب حوض فيه للماء منحدر * ولم أنس إذ غازلته قرب روضة
أردت به ورد الخدود وما شعر * فقلت له: جئني بورد وإنما
فقلت له: هيهات ما في منتظر * فقال: انتظرني رجع طرف أجئ به
فقلت له: إني قنعت بما حضر (24) * فقال: ولا ورد سوى الخد حاضر
وله أيضا
فالاواقي لماء وجهي أواقي (25) * لاتلمني إذا وقيت الاواقي
وقال أيضا في ذم متابعة النساء:
ولن يسود فتى أعطى النسا رسنه * اعص النساء فتلك الطاعة الحسنه
____________
(22) مقدمة الفائق 1: 9.
(23) مقدمة الفائق 1: 8.
(24) وفيات الاعيان 5: 172، سير أعلام النبلاء 20: 155، وقال الذهبي معلقا: هذا شعر ركيك لارقيق.
(25) روضات الجنات 8: 126.
(206)
ولو سعى طالبا للعلم ألف سنه (26) * تعوقه عن كمال في فضائله
ومما ينسب إليه قوله:
فيا ليتني قد مت قبل التزوج * تزوجت لم أعلم وأخطأت لم أصب
ولكنني أبكي على المتزوج (27) * فوالله ما أبكي على ساكني الثرى
وينسب له في مدح الخمول:
غيرك يطلب أساميا وكنى * اطلب أبا القاسم الخمول ودع
تبرزه إن كنت عاقلا فطنا * شبه ببعض الاموات نفسك لا
واجعل له من خموله كفنا * ادفنه في البيت قبل ميتته
إذ أنت في الجهل تخلع الرسنا (28) * علك تطفي ما أنت موقده
ومن شعره:
أأنت أخو ليلى؟ فقال: يقال * أقول لظبي مر بي وهو راتع:
يقال: أخو ليلى؟ فقال: يقال * فقلت: وفي حكم الصبابة والهوى
يقال: ويستسقى؟ فقال: يقال (29) * فقلت: وفي ظل الاراكة والحمى
وقال أيضا:
مرء وإلا فعيشه كدر * لا بد في غفلة يعيش بها الـ
ما لا يبالي بمثله الحذر * أما رأيت الصحيح يؤلمه
وله أيضا
من ليس يبلغه لنا تسليم * أشمال ويحك بلغي تسليمي
ليكون فيك من الحبيب نسيم * مري به وتعلقي بردائه
____________
(26) روضات الجنات 8: 127.
(27) روضات الجنات 8: 127.
(28) الكنى والالقاب 2: 268.
(29) شذرات الذهب 4: 121.
(207)
ولقد عهدتك بي وأنت رحيم * قولي له: ما بال قلبك قاسيا
والله يعلم أنني مظلوم (30) * إني أجلك أن أقول ظلمتني
وأجاب الزمخشري الامير شبل الدولة أبوالهيجاء مقبل بن عطية البكري الذي مدحه بعدة أبيات فقال:
فاعتلى منه نبات الجسد * شعره أمطر شعبي شرفا
بات مسقيا بنوء الاسد * كيف لا يستاسد النبت إذا
وقال أيضا في قصيدة طويلة يمدح بها الوزير مجير الدولة الاردستاني:
ويا حبذا أين استقل خيامها * أيا حبذا سعدى وحب مقامها
وعزي وذلي وصلها وانصرامها * حياتي وموتي قرب سعدى وبعدها
وإن كان لايقرا علي سلامها * سلام عليها أين أمست وأصبحت
وروض أرضا سام فيه سوامها * رعى الله سرحا قد رعى فيه سرحها
فقد أرغم المسك الذكي رغامها * إذا سحبت سعدى بأرض ذيولها
تنكس واستعلى عليها قوامها (31) * وإن ما يست قضبان بان رأيتها
(يُتْبَعُ)
(/)
قال القفطي: وأنشدني أفضل الدين أميرك الزبياني له من قصيدة فيها:
إذا التحبت فيها ذلاذل ريح * يفوح كفوح المسك فاغم نشرها
مقيما على تلك الصبابة فوحي * يقول لها الطش السماوي والصبا
مناجم قيصوم منابت شيح * مضاجع سعدان مغارس حنوة
يجاوبه قمريها بمليح * اذا ملح المكاء رجع صغيره
على وتر للموصلي فصيح (32) * كأن بديحا والغريض تطارحا
____________
(30) إنباه الرواة 3: 270.
(31) إنباه الرواة 3: 267.
(32) إنباه الرواة 3: 269.
عقيدته:
أطبقت المصادر التي تعرضت لترجمة المصنف أنه كان حنفي المذهب معتزلي العقيدة، ويقال انه لما صنف كتابه الكشاف استفتح الخطبة بالحمد لله الذي خلق القرآن. فقيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس فغيره بالذي أنزل القرآن، وقيل: هذا اصطلاح الناس لا اصطلاح المصنف (33).
يقول فيه الذهبي: «صالح، لكنه داعية إلى الاعتزال، أجارنا الله، فكن حذرا من كشافه» (34).
وقال ابن كثير «وكان يظهر مذهب الاعتزال، ويصرح بذلك في تفسيره ويناظر عليه» (35).
ويظهر أن الزمخشري كان يعتد بما يذهب إليه كثيرا، فقد ذكر ابن العماد الحنبلي ما لفظه: «وكان الزمخشري معتزلي الاعتقاد متظاهرا به حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول، يقول لمن يأخذ له الاذن، قل له: أبوالقاسم المعتزلي بالباب» (36).
إلا أن الامير محمد حسين الحسني الحسيني الاصفهاني ذهب ـ على ما نقله عنه صاحب الروضات ـ إلى أن الرجل تشيع في أواخر حياته، بدليل ما ورد في «ربيع الابرار» من نصوص تشعر بهذا المعنى، فقال: «فإنه لا ريب في كونه على مذهب أهل السنة والجماعة في مبادئ أمره، كما يفصح عنه تصفح الكشاف، فإنه سلك فيه مسلك الاعتساف في مسألة الامامة وما يتعلق بها، ولذلك أجمعت الامامية على كونه من العامة ولم يجوز أحد من العلماء استبصاره ورجوعه، ولكنه
____________
(33) انظر مرآة الجنان لليافعي 3: 270.
(34) ميزان الاعتدال 4: 78.
(35) البداية والنهاية 12: 219.
(36) شذرات الذهب 4: 121.
(209)
لما اتفق لي مطالعة كتابه المسمى بـ «ربيع الابرار» وعثرت على كلام له صريح في التشيع لا يقبل التأويل ثم تصفحت وتفحصت فيه عما يؤكد ذلك فظفرت على غيره من الشواهد مما لا يجتمع مع قواعد العامة وتأويلاتهم من نحو ذكره لفضائل السيد الحميري وأشعاره الرائقة في فضائل أهل البيت عليهم السلام» (37) ثم ذكر عدة موارد من الكتاب تأكيدا لما يذهب إليه.
وعلق السيد الخوانساري على الابيات التي قالها في مدح آل النبي صلى الله عليه وآله قائلا: «وفيه أيضا من الدلالة على تشيع الرجل ـ ولو في آخر عمره ـ ما لا يخفى» (38).
ولا نريد في هذه العجالة الخوض في لجج هذه المسألة، بقدر ما قصدنا الاشارة إليها.
وفاته:
توفي الزمخشري بعد رجوعه من مكة المكرمة ليلة عرفة من سنة 538 هـ في جرجانية خوارزم، وهي بضم الجيم الاولى وفتح الثانية وسكون الراء بينهما وبعد الالف نون مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها مفتوحة مشددة ثم هاء ساكنة، قال ياقوت: يقال لها بلغتهم كركانج، وقد عربت فقيل لها الجرجانية وهي على شاطئ جيجون.
وأوصى أن تكتب على لوح قبره هذه الابيات:
في ظلمة الليل البهيم الاليل * يا من يرى مد البعوض جناحها
والمخ في تلك العظام النحل * ويرى عروق نياطها في نحرها
ما كان منه في الزمان الاول * اغفر لعبد تاب من فرطاته
____________
(37) روضات الجنات 8: 120.
(38) روضات الجنات 8: 127.
(210)
نحن والرسالة:
من الطريف أن كل من ترجم للزمخشري وذكر مصنفاته، لم يذكر رسالتنا هذه ولم يتعرض لها، مما يضفي على هذه الرسالة أهمية خاصة لا تخفى على ذوى الالباب، إلا أن هذه الحقيقة تفتح الابواب مشرعة أمام من يتسأل عن صحة نسبة الرسالة للزمخشري، وجوابنا هو ما يلي:
1 ـ إن اسلوب كتابة الرسالة من المتانة اللغوية والبلاغية بمكان، يكاد يقطع كل من يطالعها إلى أنها ترتقي بمستواها إلى اسلوب الزمخشري الرفيع.
2 ـ توجد هناك مجموعة من التعابير المجازية المستخدمة في الرسالة وجدتها بألفاظها ومعانيها في كتاب «أساس البلاغه» للزمخشري، وفي هذا من الدلالة ما لا يستهان به.
(يُتْبَعُ)
(/)
3 ـ قول السائل في مقدمة الرسالة التي بعثها للمؤلف: «ساعات سيدنا الامام الزاهد الحبر العلامة جار الله شيخ العرب والعجم» وقوله أيضا: (بعد أن جشم خاطره في «الكشاف عن حقائق التأويل») يدل دلالة واضحة على أن مؤلف الرسالة هو الزمخشري صاحب الكشاف، ويدل أيضا على أن تأليفها كان بعد تأليف كتاب الكشاف، ولعل هذا يفسر عدم ذكر المصنف لهذه الرسالة في تفسير سورة الكوثر في كتابه الكشاف.
منهج التحقيق:
اعتمدت في تحقيق الرسالة على نسخة واحدة قام باستنساخها سماحة العلامة السيد عبد العزيز الطباطبائي عن النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق في تاريخ 17 ربيع الاول سنة 1383 هـ، حيث تفضل علي بها مشكورا، والنسخة المذكورة كان قد نقلها محمد سعيد بن عمر كرامة عن نسخة موجودة في المكتبة العارفية في المدينة المنورة، صدرها بقوله: «رسالة في إعجاز سورة الكوثر التي هي
(211)
أقصر السور للعلامة الطائر الصيت جار الله الزمخشري «وتوجد في النسخة حواشي كتبها الناسخ، نقلت منها في ثلاثة موارد فقط رامزا لها بـ «هـ م» أي هامش المخطوط، حفظا للامانة العلمية.
وحاولت جهد الامكان أن أقدم نصا مضبوطا للقارئ، أقرب ما يكون لما تركه المؤلف على أنه لم تقع في يدي أكثر من نسخة واحدة، وفي ذلك من المصاعب ما لا يخفى على أصحاب الخبرة في هذه الميدان، فسعيت لتحقيق هذا الغرض بتخريج أغلب الالفاظ الصعبة من المعاجم اللغوية، ولا يفوتني أن أشكر أخي الاستاذ أسد مولوي الذي استفدت من ملاحظاته في هذا المضمار، وترجمت لاغلب الاعلام الواردين في الرسالة، وشرحت الامثال التي أقحمها المؤلف في سياق كلامه مع ذكرها مصادرها، وتعرضت لشرح المصطلحات البلاغية والكلامية كـ «الالتفات» و «الصرفة» متوخيا بذلك تبسيط النص، وخرجت النصوص الواردة من آيات وأحاديث وآثار، ذيلت كل ذلك في هامش الكتاب الذي يعتبر ساحة عمل المحقق.
آملا بعملي هذا أن يكون قد قدمت جهدا متواضعا يصب في خدمة المكتبة الاسلامية، ورافدا لمسيرتها المباركة، بما هو نافع من تراثنا المعطاء، والحمد لله رب العالمين.
حامد الخفاف21 رجب 1408 هـ
(212)
هذه الرسالة المعروضة إلى العلامة الزمخشري من بعض معاصريه التي كانت رسالته الآتية جوابا عنها بيانا لما في ضمنها.
بسم الله الرحمن الرحيم
ساعات سيدنا الامام الزاهد الحبر العلامة جار الله شيخ العرب والعجم، أدام الله إمتاع المسلمين ببقائه، وإن كانت مقصورة على الاستعداد للمعاد، مستغرقة في اتعاب خاطره الوقاد في فنون الاجتهاد، لا يفتر طرفة عين عن تصنيف ينفث فيه سحره، ويلفظ للغواصين فيه دره، بعد أن جشم خاطره في «الكشاف عن حقائق التأويل» وأجال رويته في البحث عن وجوه التأويل، مدئبا في الفكر مطاياه، متغلغلا في علم البيان إلى زواياه وخباياه، حتى ارتفع كتابا ساطعا بيانه، جليا برهانه، مشحونا بفوائد لا يدركها الاحصاء، ومحاسن لا يقصرها الاستقصاء، لكنه مع هذا يتوقع من دينه المتين وفضله المبين أن يتصدق على معشر الداعين لايامه، الشاكرين لانعامه، بالجواب عن اعتراضات تنزاح بسببه شبه المرتابين، ليتوصلوا بنتائج خاطره، وبركات أنفاسه، إلى ثلج الصدور وبرد اليقين، والله تعالى ولي توفيقه في مايكسبه جزيل المثوبة في العقبى، وحسن الاحدوثة في الدنيا إن شاء الله.
فمنها: سأل سائل فقال: ذكرتم أن لغة العرب لها من الفضيلة ما ليس لسائر اللغات، فقلتم قولا غفلا ساذجا من غير أن تشيروا إلى بيان وجه التفضيل، وتبينوا الخواص التي لاجلها أحدث وصف الفضيلة والشرف، وتعدوها فصلا فصلا، وتشيروا إليها شيئا فشيئا، وما أنكرتم على من قال لكم: إن لغة العرب وغيرها من اللغات المختلفة كالسريانية والعبرانية والهندية والفارسية كلها على
(213)
السواء، لا فضيلة لبعضها على البعض، وإنما هي مواضعات ورسوم واصطلاحات وضعت لاجيال الناس للافهام والاعلام، لتكون دلالات على المقاصد والاغراض.
(يُتْبَعُ)
(/)
وذكرتم أن في لغة العرب دقائق وأسرارا لا تنال إلا بجهد التأمل وفرط التيقظ، فلا يخفى أن هذه الاسرار والدقائق لا يمكن دعواها في الاسماء المفردة والافعال المفردة والحروف المفردة، وإنما يمكن دعوى هذه الاسرار على تقدير ارتباط الكلم، وجعل بعضها يتصل بسبب بعض وينتظم، ومثل هذا موجود في كل لسان إذا ربطت بعض الكلم ببعض، وراعيت في ربطها الاليق فالاليق، حصل لك المقرر والمقصود، وقارن في هذه القضية لغة العرب وغيرها من اللغات على السواء.
ومنها: أنه لا يخفى أن القرآن سيد معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام، والعلم بكونه معجزا علم ضروري، ولكن الشأن في بيان إعجازه، فمن قائل يقول وهو النظام (1) ومن تبعه: إن الآية والاعجزية في القرآن اختصاصه بالاخبار عن الغيوب بما كان ويكون، وبمنع الله العرب أن يأتوا بمثله. قال: وأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد، لو لا أن الله تعالى منعهم وأعجزهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم.
ومن قائل يقول: وجه الاعجاز في القرآن أنه اسلوب من أساليب الكلام، وطريقة ما عهدها العرب ولا عرفوها، ولم تكن مقدورة لهم.
ومن قائل يقوله: وجه الاعجاز فيه علمنا بعجز العرب العاربة عن أن
____________
(1) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري، أبوإسحاق النظام، من أئمة المعتزلة، تبحر في علوم الفلسفة، واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين، وانفرد بآراء خاصة ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل، تابعته فيها فرقة من المعتزلة، سميت «النظامية» نسبة إليه، أما شهرته بالنظام فبعض يقول:
إنها من إجادته نظم الكلام، وبعض يقول: إنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، توفي سنة 231 هـ.
انظر «أمالي المرتضى 1: 132، تأريخ بغداد 6: 97، الملل والنحل 1: 56، سفينة البحار 2: 597، الاعلام 1: 43».
(214)
يأتوا بمثله، وتركهم المعارضة مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم، فإذا عجز العرب عن ذلك فنحن أولى بالعجز.
ومن قائل يقول: وجه الاعجاز فيه هو ما اختص به من الفصاحة والبلاغة التي بهرم عند سماعها، وطأطأوا رؤوسهم عند طروقها، وعليه الاكثرون.
فإن عسى اعترض المعترض وقال:
ماذا أعجزهم؟ وما ذا أبهرهم؟ ألفاظ القرآن أم معانيه؟! إن قال: أردت الالفاظ مع شيء منهما لا يجب فضل البته على تقدير الانفراد، لان الالفاظ [لا] تراد لنفسها، وإنما تراد لتجعل دلالات على المعاني، ولان الالفاظ التي نطق بها القرآن ليست إلا أسماء وأفعالا وحروفا مرتبطا بعضها ببعض، ويستعملونها في مخاطباتهم، وكذلك الجمل المنظومة.
وإن قال: أعجزهم المعاني. يقال له: أليس انهم كانوا أرباب العقول وأهل الحجى، يدركون غوامض المعاني بأفهامهم، ولهم المعاني العجيبة، والتمثيلات البديعة، والتشبيهات النادرة.
وإن قال: بهرم النظم العجيب. يقال له: أليس. معنى النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض، وهي الاسماء والافعال والحروف، ومعرفة طرق تعلقها، كتعلق الاسم بالاسم، بأن يكون خبرا عنه أوصفة له أو عطف بيان منه، أو عطفا بحرف عليه، إلى ماشاكله من سعة وجوهه، وكتعلق الاسم بالفعل، بأن يكون فاعلا له، أو مفعولا، إلى سائر فروعه واتباعه، وكتعلق الحرف بهما كما هو مذكور في كتب النحو، وهم كانوا يعرفون جميع ذلك، وكانوا يستعملونه في أشعارهم وخطبهم ومقاماتهم، ولو لم يعرفوا وجوه التعلق في الكلم، ووجوه التمثيلات والتشبيهات، لما تأتي لهم الشعر الذي هو نفث السحر.
فحين تأتي لهم ذلك، ومع هذا عجزوا عن المعارضة، دل على أن الله تعالى أحدث فيهم عجزا ومنعا.
(215)
قال: ولان الاعجاز في القرآن لو كان لمكان اختصاصه بالفصاحة والبلاغة لنزل القرآن من أوله إلى آخره في أعلى مراتب الفصاحة، ولكان كله على نسق قوله تعالى: «وقيل يا ارض ابلعي مائك ويا سماء اقلعي وغيض الماء. . .» (2). وليس كله نزل على هذا النسق، بل فيه ما هو في أعلى مراتب الفصاحة كما ذكرنا، وما هو دونه كقوله تعالى: «تبت يدا أبي لهب وتب» و «اذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ» و «قُلْ يَا اَيُّهَا الْكَافِرُونَ».
(يُتْبَعُ)
(/)
ولان الحال لا تخلو إما أن يقال لارتبة في الفصاحة أعلى من رتبة القرآن، كما ذهب إليه بعض أهل العدل، فقالوا: لو كان في المقدور رتبة أعلى منها لانزل الله سبحانه وتعالى عليها القرآن، إذ لا يحسن أن يقتصر المكلف على أدنى البيانين مع قدرته على أعلاهما، ولان في أعلى البيانين وجه الدلالة على صدق الرسول أقوى.
واما أن يقال: بأن القرآن وإن كان فصيحا بليغا ففي مقدور الله تعالى ما هو أعلى منه مرتبة في الفصاحة. فيقول المعترض فهلا أنزله من أوله إلى آخره على أعلى مراتب الفصاحة التي ليس وراءها منتهى.
قال: فهذا دليل على أن العمدة في الاعجاز ليس اختصاصه بالفصاحة والبلاغة لكن عجز ومنع أحدثهما الله تعالى فلم يشتغلوا بالمعارضة.
ومنها: ان الله تعالى أنزل القرآن وأودع فيه من العلوم ما علم أن حاجة الخلق تمس إليه إلى قيام الساعة، لاجرم بذل العلماء في كل نوع منه مجهودهم، واستفرغوا فيه جهدهم ووسعهم، فأهل الكلام ـ خصوصا أهل العدل والتوحيد ـ استظهروا في ما ذهبوا إليه من العدل والتوحيد بالآيات الواردة فيه على صحة ما اعتقدوه، وعلى [إبطال] ما ذهب إليه أهل الاهواء والبدع وفساد ما انتحلوا.
وأهل الفقه غاصوا في بحور النصوص فاستنبطوا منها المعاني وفرعوا الاحكام عليها.
____________
(2) سورة هود 11: 44.
(216)
وأهل التأويل خاضوا في محكمها ومتشابهها، ومجملها ومفصلها، وناسخها ومنسوخها.
وأهل النحو بسطوا الكلام في تصانيفهم بسطا فكل أنفق على قدر ما رزق، ثم لم يبلغنا عن واحد منهم أنه شمر ذيله وادرع ليله (3) في بيان وجه الاعجاز على التفصيل سورة فسورة وآية فآية، فابتدأ مثلا بفاتحة الكتاب فكشف عن وجه الاعجاز في ثلاث آيات منها، ثم ترقى إلى ثلاث آيات اخر فكشف عنها أيضا وجه الاعجاز إلى أن ينتهي إلى آخرها، مع شدة الحاجة إلى ذلك في كل زمان، إذ حجة الله تعالى قائمة، ومعجزته على وجه الدهر باقية.
وكذلك لم ينقل أنهم صنفوا في هذا الباب على هذا الوجه تصنيفا مع تهالكم وولوعهم، والعجب أنهم صنفوا في حلي الصحابة والتابعين وهيئاتهم، فذكروا الطوال منهم والقصار، ومن ابتلي منهم بالعمى والعور والعرج والعجمة والزمانة والشلل، مع أن بالخلق مندوحة وغنية عن ذلك.
وهذا أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ (4) صنف كتبا في الجد والهزل تكاد لا تعد ولا تحصى، فصنف كتابا سماه «القعرة والشفرة» (5) وآخر سماه «مفاخرة الشتاء والصيف» إلى أشباه هذا كثيرة، صعد فيها وصوب، وشرق وغرب،
____________
(3) يقال: «شمر ذيلا وادرع ليلا» أي استعمل الحزم واتخذ الليل جملا. «الصحاح ـ درع ـ 3: 1207». (4) عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبوعثمان، الشهير بالجاحظ: كبير أئمة الادب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، ولد سنة 163 هـ، وكان مشوه الخلقة، وفلج في آخر عمره، له تصانيف كثيرة ذكرت في مظان ترجمته، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه، مات في البصرة سنة 255 هـ.
انظر «تأريخ بغداد 12: 212، وفيات الاعيان 3: 470|506، لسان الميزان 4: 355|1042، ميزان الاعتدال 3: 347|6333، شذرات الذهب 2: 121، الاعلام 5: 74».
(5) إمرأة قعرة وقعيرة: بعيدة الشهوة؛ عن اللحياني، وقيل: هي التي تجد الغلمة في قعر فرجها، وقيل: هي التي تريد المبالغة، وقيل: نعت سوء في الجماع «لسان العرب ـ قعر ـ 5: 109».
والشفرة والشفيرة من النساء: التي تجد شهوتها في شفرها فيجيء ماؤها سريعا، وقيل: هي التي تقنع من النكاح بأيسره، وهي نقيض القعيرة «لسان العرب ـ شفر ـ 4: 419».
(217)
وحشاها بما لا حاجة للخلق فيه إلى معرفته، ثم لما آل الامر إلى بيان وجه الاعجاز على التفصيل آية فآية وسورة فسورة، ضم شفتيه ضما، وختم على لسانه ختما، فلم ينبس بكلمة أو كلمتين، ورضي من الغنيمة بالاياب (6).
(يُتْبَعُ)
(/)
وإذ صح أن السلف رحمهم الله مع تقدم الخواص منهم في علم البيان، والتبحر في الاحاطة بحقائق المعاني، وصدق رغبتهم في إحراز الثواب، وحاجتهم إلى أن يكون لهم لسان صدق في الآخرين ممر الاحقاب، لم يشتغلوا ببيان الاعجاز على التفصيل في كل آية منه، بل أعرضوا من ذلك بواحدة مع أنهم أشاروا إلى ذلك على سبيل الاجمال، والحال لا تخلو إما أن يقال خفي عليهم وجه الاعجاز على التفصيل على هذا الوجه، فلم يقفوا عليه ولم يهتدوا إليه أولا. فإن قيل:
خفي عليهم ولم يقفوا عليه ولم يجدوا طريقا إليه. فيقال: إذن مؤنة البحث والتنقير عنهم ساقطة، ووجوه العذر لهم في الاعراض عن ذلك ظاهرة.
ولئن لم يخف عليهم فلم لم يصرفوا معظم همهم إلى هذا الامر العظيم، والخطب الجسيم، فيصنفوا ويشرحوا كما صنفوا في فروع الاحكام من الحلال والحرام، وصنفوا في فروع الكلام، فلم يبق إلا أن يقال: أحدث في الكل منعا منعهم عن ذلك لمصلحة رآها فيه.
فهذه عدة أسئلة فليتفضل أدام الله علوه بالاجابه عنها، والله يعصمه من الخطأ والزلل، ويوفقه لاصابة القول والعمل، إنه على ما يشاء قدير. تمت.
* *
____________
(6) مثل سائر، أول من قاله امرؤ القيس بن حجر في بيت له، وهو:
وقد طوفت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالاياب
يضرب عند القناعة بالسلامة، «مجمع الامثال 1: 295|1560».
(218)
بسم الله الرحمن الرحيم
نمقت يد الاخ في الله الامام الصمصام زاده الله في الدين طمأنينة وثلجا (7)، وفي مواقف الجدل فوزة وفلجا (8)، صحيفة قد احتبى في تجويدها وتربع، وتبدع في إنشائها وتبرع، ولم يألها تمليحا وترشيقا، وما ادخر عنها توشيحا وتطويقا، وخرج سؤالات لوصك بها ابن الاهتم لهتمت أسنانه (9)، أو ابن المقفع (10) لقفعت بنانه، أو ابن القرية (11) لبقى خابطا في مرية (12)، وإن أفرغ
____________
(7) يقال: ثلجت نفسي بالامر تثلج ثلجا، وثلجت تثلج ثلوجا إذا اطمأنت إليه وسكنت، وثبت فيها ووثقت به «النهاية ـ ثلج ـ 1: 219».
(8) الفالج: الغالب أو المنتصر، انظر «النهاية ـ فلج ـ 3: 468».
(9) صكه ضربه شديدا، ومنه قوله تعالى: «فصكت وجهها»، وابن الاهتم هو عمرو بن سنان الاهتم، وإنما لقب أبوه سنان بالاهتم لانه هتمت ثنيته يوم الكلاب أي كسرت، يقال: هتمت الثنيه إذا كسرتها، وهتمت هي إذا انكسرت.
وعمرو هذا من أكابر سادات بني تميم وشعرائهم وخطبائهم في الجاهلية والاسلام وهو بليغ القول، فصيح العبارة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إن من البيان لسحرا» لما سمع منه ما قاله في حق الزبرقان بن بدر. انظر شرح رسالة ابن زيدون عند الكلام على قوله: (وعمرو بن الاهتم إنما سحر ببيانك). «هـ م».
(10) عبد الله بن المقفع: من أئمة الكتاب، وأول من عنى في الاسلام بترجمة كتب المنطق، ولد في العراق مجوسيا، وأسلم على يد عيسى بن علي (عم السفاح)، وولي كتابة الديوان للمنصور العباسي، وأنشأ وسائل غاية في الابداع، واتهم بالزندقة فقتله في البصره أميرها سفيان بن معاوية المهلبي سنة 142 هـ، وأما المقفع أبوه فاسمه المبارك، ولقب بالمقفع لان الحجاج ضربه فتقفعت يده أي تشنجت.
انظر «أمالي المرتضى 1: 94، لسان الميزان 3: 366، الاعلام للزركلي 4: 140».
(11) هو أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة الهلالي: أحد بلغاء الدهر، خطيب يضرب به المثل، يقال: «أبلغ من ابن القرية» والقرية جدته، قتله الحجاج سنة 84 بعد أن أسره في وقعة دير الجماجم بعد أن قال له: والله لازيرنك جهنم! قال: فأرحني فإني أجد حرها! فأمر فضربت عنقه. ولما رآه قتيلا قال: لو تركناه حتى نسمع كلامه. وأخباره كثيرة.
انظر «وفيات الاعيان 1: 250|106، الكامل في التاريخ 4: 498 الاعلام 2: 37».
(12) المراء: الجدال، والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة «النهاية ـ مرا ـ 4: 332».
(219)
صماخ قريته (13)، وهكذا جحاجحة العرب، لا تتخطاهم في رشق أصابه، ولا تسقط لنازعهم في قوس نشابه (14).
(يُتْبَعُ)
(/)
وسألني الاجابة عن تلك السؤالات بنظم رسالة من أبلغ الرسالات، تقع من السائل موقع الفرات (15) من الحران (16)، وتنزل منه منزلة السداد من الحيران، وكرر الطلب وردد، وألح فيه وشدد، وضيق علي الامر وعوصه، وقال: أنت الذي عينه الله وشخصه، حتى لم أجد بدا من إجابته إلى ما أراد، وإسعافه بما ابدأ فيه وأعاد، وكان أمثل الامرين أن الجم نفسي وأحجرها، وأن القمها حجرها، ولا أفغر بمنطق فما، ولا أبل بجواب قلما، وليس بين فكي لسان دافع، وليس في ماضغي ضرس قاطع، ولا بين جنبي نفس حركة نشيطة، ولكن حردة (17) مستشيطة، لما أنا مفجوع به من مفارقة كل أخ كان يسمع مني الكلمة الفذة فيضعها على رأسه، ويعض عليها بأضراسه، ويتقبلها بروحه، ويلصقها بكبده، ويجعلها طوقا في أعلى مقلده، ويسكنها صميم فؤاده، ويخطها على بياض ناضره بسواده، لولا خيفة أن تسول له نفسه أنني أقللت الاكتراث بمراسلته، وأخللت الاحتفال بمسألته، وأن يقول بعض السمعة ـ ممن يحسب لساني لسان الشمعة ـ:
أقسم بالله قسما ما وجد في ديسم (18) دسما، فمن ثم ضرب عنه صفحا، وطوى
____________
(13) أفرغ: صب، وصماخ ككتاب: الاذن، وكغراب: الماء، وقرية: الحوصله. والمراد بها ما اشتهر به من البلاغة حتى صارت له كالعلم، كما صار اسم حاتم للكرم، والتفسير عليها دون القرية واحدة القرى، ودون القربة سقاء الماء واللبن، أي وإن صب اذن حافظته، أو استنزف ماء قريحته، كناية عن إجهاد نفسه في البيان، وخنق فرسه في الميدان، فهذه الاسئلة إن قرعت له سمعا يضيق بها ذرعا، ويبقى خابطا في الشك والجدل، لا حول له بها ولا حيل. «هـ م».
(14) لا تسقط أي لا تخطئ، ونزع القوس مدها، ونشابه أي نبله، أي هذه السؤالات كما يقصر عنها المذكورون من أئمة الادب، فإنها تصيب بلاغة سادات العرب، ولا تخطئ نبل متقوسهم في ارب. «هـ م».
(15) الفرات: أشد الماء عذوبة «لسان العرب ـ فرت ـ 2: 65».
(16) الحران: العطشان «مجمع البحرين ـ حرر ـ 3: 264».
(17) يقال: حرد الرجل حرودا إذا تحول عن قومه وانفرد. انظر «النهاية ـ حرد ـ 1: 362».
(18) الديسم: بالفتح ولد الدب، قال الجوهري: قلت لابي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة،
==
(220)
عنه كشحا، ولم يوله لمحه طرف، ولم ينطق في شأنه بحرف.
أما العرب فقد صح أن لغتها أصح اللغات، وأن بلاغتها أتم البلاغات، وكل من جمح في عنان المناكرة، وركب رأسه في تيه المكابرة، ولم يرخ للتسليم والاذعان مشافره (19) فما أفسد حواسه ومشاعره! وهو ممن أذن بحرب منه لعقله الذي هو إمامه في المراشد، ولتمييزه الذي هو هاديه إلى المقاصد.
إعلم يا من فطر على صلابة النبع، وامد بسلامة الطبع، ووفق للمشي في جادة العدل والانصاف، وعصم من الوقوع في عاثور الجور والاعتساف، فإن واضع هذا اللسان الافصح العربي من بين وضاع الكلام، إن لم يكن واضعه رافع السماء وواضع الارض للانام، فقد أخذ حروف المعجم التي هي كالمادة والعنصر، وبمنزلة الاكسير والجوهر، فعجمها مبسوطات فرائد، ودافها (20) الواحد فالواحد، وتقلقلت في يده قبل التأليف، تقلقل الدنانير في أيدي الصياريف (21)، حين تراهم ينفون زيفها وبهرجها (22)، ويصطفون إبريزها وزبرجها، فتخير من بينها أطوعها مخارج، وتنخل منها أوطأها
____________
==
فقال: ما هو إلا ولد الدب، وقال في المحكم: إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة، وهو أغير اللون وغبرته ممتزجه بسواد، وحكمه تحريم الاكل على كل تقدير. «الحيوان 1: 343».
(19) الشفر: بالضم، وقد يفتح، حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر «النهاية ـ شفر ـ 2: 484».
(20) داف الشيء دوفا وأدافه: خلطه «لسان العرب ـ دوف ـ 9: 108».
(21) لم يرد جمع الصيرفي أي النقاد على هذه الصيغة إلا في الشعر قال ابن منظور: «الجمع صيارف وصيارفة، والهاء للنسبة، وقد جاء في الشعر الصيارف، فأما قول الفرزدق:
تنفى يداها الحصى في كل هاجرة * نفي الدراهيم تنقاد الصيارف
فعلى الضرورة لما احتاج إلى تمام الوزن أشبع الحركة ضرورة حتى صارت حرفا».
(يُتْبَعُ)
(/)
وقال الفيروز آبادي: «وقد جاء في الشعر صياريف» ولعل ما أورده الزمخشري تبعا لاقتضاء سجع العبارة ظاهرا، انظر «لسان العرب 9: 190، القاموس المحيط 3: 162، مادة صرف».
(22) البهرج: الباطل، واللفظة معربة. وقيل كلمه هنديه أصلها نبهله، وهو الردئ، فنقلت إلى الفارسية، فقيل نبهره، ثم عربت فقيل: بهرج. «النهاية ـ بهرج ـ 1: 166».
(221)
مدارج وميز أسلسها على الاسلات (23)، وأعذبها على العذبات (24)، وأحلاها في الذوق وأسمحها، وأبهاها عند السبر وأملحها، وأبعدها من مج الاسماع، وأقربها امتزاجا بالطباع، وأوقعها لفحول الامة الناغمة بأجراسها، وأحسنها طباقا لطرق أنفاسها.
ولما انتقل من انتقاء وسائطها، بعد انتقاد بسائطها، إلى أن يؤلف ويركب، ويرصف ويرتب، عمد في عمل التراكيب إلى أشرف الانماط والاساليب، فألف أنماطا تستهش (25) أنفس الناطقين، وكلمات تتحلب (26) لها لهى (27) الذائقين، وتجول في فجوات الافواه، فتتمطق (28) بها مستلذات، ويطرق بها الآذان فتهوي بها مغذات (29)، وما طنت على مسامع أحد من أجيال الاعاجم، وأخياف الطماطم (30) إلا أصغى إليها متوجسا، وأصاخ لها مستأنسا، وأناس (31) فوديه (32) مستعجبا، وأمال عطفيه مستغربا، وقال: ما هذا اللسان المستلذ على الصماخ (33) إيقاعه، المحولى في مخارق الآذان استماعه، المفارق لجميع اللغات والالسنة، المصون من الحروف الملكنة.
____________
(23) الاسلات: جمع أسلة، وهي طرف اللسان «النهاية ـ أسل ـ 1: 49».
(24) عذبة اللسان: طرفه، والجمع «عذبات» كقصبة وقصبات. «مجمع البحرين ـ عذب ـ 2: 117».
(25) يقال: استهشني أمر كذا فهششت له أي استخفني فخففت له «لسان العرب ـ هشش ـ 6: 364».
(26) تحلب العرق وانحلب أي سال «الصحاح ـ حلب ـ 1: 115».
(27) جمع لهاة، وهي اللحمات في سقف أقصى الفم «النهاية ـ لها ـ 4: 284».
(28) يقال: ذاقه فتمطق له إذا ضم شفتيه إليه وألصق لسانه بنطع فيه مع صوت «أساس البلاغة: 432».
(29) مغذات: مسرعات.
(30) أخياف أي مختلفون، والطماطم جمع طمطم، وهو الذي في لسانه عجمة لايفصح. انظر «أساس البلاغة ـ خيف ـ 124، الصحاح ـ طمم ـ 5: 1976».
(31) ناس الشيء ينوس نوسا ونوسانا: تحرك وتذبذب متدليا. «لسان العرب ـ نوس ـ 6: 245».
(32) الفَوْدُ: معظم شعر الرأس ممايلي الاذن، ووفودا الرأس جانباه «لسان العرب ـ فود ـ 3: 340».
(33) صماخ الاذن بالكسر: الخرق الذي يفضي إلى الرأس، وهو المسيع، وقيل هو الاذن نفسها «مجمع البحرين ـ صمخ ـ 2: 437».
(222)
وما ذاك إلا لان حكم المسموعات حكم المبصرات والممسوسات، وغيرها من سائر المحسوسات، فكما أن الاعين فارقة بين المناظر العثاث والملاح، والاوجه القباح والصباح، والانوف فاصلة بين الاعطار الفوائح، وبين مستكرهات الروائح، والافواه مميزة بين طعوم المآكل والمشارب وبين المستبشعات منها والاطائب، والايدي مفرزة لما استلانت مما استخشنت، ولما استخفت مما استرزنت (34)، كذلك الآذان تعزل مستقيمات الالحان من عوجها، وتعرف مقبول الكلام من ممجوجها، والالسن تنبسط إلى ما أشبه من الكلام مجاج الغمام (35)، وتنقبض عما يشاكل منه اجاج (36) الجمام (37)، وهذه طريقة عامية يسمعها ويبصرها ويسلمها ولا ينكرها من يرى به شيء من طرف، أو يرامق (38) بأدنى عرف.
وأما الطريقة الخاصية التي تضمحل معها الشبه، ويسكت عندها المنطق المفوه، فما عنى بتدوينه العلماء، ودأب في تضييفه العظماء، في ألفاظ العربية وكلمها، من بيان خصائصها ونوادر حكمها، مما يتعلق بذاوتها، ويتصل بصفاتها، من العلمين الشريفين، والعلمين المنيفين، وهما علم الابنية وعلم الاعراف، المشتملان على فنون من الابواب، وناهيك بكتاب سيبويه (39) الذي
____________
(34) رزنت الشيء أرزنه رزنا، إذا رفعته لتنظر ما ثقله من خفته، وشيء رزين أي ثقيل «الصحاح ـ رزن ـ 5: 2123».
(35) مجاج الغمام: مطره. انظر «لسان العرب ـ مجج ـ 2: 362».
(36) ماء اجاج أي ملح؛ وقيل: مر، وقيل: شديد المرارة؛ وقيل: الاجاج: الشديد الحرارة. «لسان العرب ـ أجج ـ 2: 207».
(يُتْبَعُ)
(/)
(37) الجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه، والجمع الجمام. «الصحاح ـ جمم ـ 5: 1890».
(38) رمقه بعينه رمقا: أطال النظر إليه «مجمع البحرين ـ رمق ـ 5: 173».
(39) هو عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث، يكنى أبا بشر وأبا الحسن، الملقب بـ «سيبويه» ومعناه بالفارسية: رائحة التفاح، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة فلزم الخليل ابن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المعروف بـ «كتاب سيبويه» في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، توفي سنة 180 هـ، وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف.
انظر «انباه الرواة 2: 346|515، وفيات الاعيان 3: 463|504، تأريخ بغداد
==
(223)
هو الكتاب، يطلق فلا تضله الالباب، وهو الديوان الاقدام، والميزان الاقوم، والقانون الذي هو لكل محتذ مثال، والمعقل الذي لكل منضو تمثال، وكأنه الرأس الذي هو رئيس الاعضاء، والراز (40) الذي بيده مطمر (41) البناء، والامام الذي إن نزلت بك شبهة أنزلتها به، وإن وقعت بك معضلة أوردتها على بابه، والحكمة التي قيدت بها الفلاسفه فهي حاجلة (42) فراسفه (43).
وأحربأن تعتاص تلك وتشتدا * حشا غامضات سيبويه كتابه
فلم يجدوا من مرجع القهقرى بدا * إذا وقع الاحبار فيها تحيروا
آخران:
على عمرو بن عثمان بن قنبر * ألا صلى المليك صلاة صدق
بنو قلم ولا أبناء منبر * فإن كتابه لم يغن عنه
ثم لا تسأل عن تناسق هذه اللغة وتتاليها، وعن تجاذب أطرافها وتجاليها، وما ينادي عليه طرق اشتقاقها من حسن تلاؤمها واتفاقها، يصادف المشتق الصيغ متناصره، آخذا بعضها بيد بعض متخاصره، ووراء ذلك من الغرائب ما لا ينزف وإن نزف البحر، ومن الدقائق ما لا يدق معه الكهانة والسحر، ولايعرف ذلك إلا من فقه فيها وطب (44)، وزاولها مذ شب إلى أن دب، وضرب آباطها (45)، حتى بلغ نياطها (46).
____________
==
12: 195|6658، الاعلام 5: 81».
(40) الراز: رأس البنائين «النهاية ـ روز ـ 2: 276».
(41) المطمر: الزيج الذي يكون مع البنائين «الصحاح ـ طمر ـ 2: 726».
(42) الحجل والحجل: القيد، يفتح ويكسر، والحجل: مشي المقيد، وحجل يحجل حجلا إذا مشى في القيد «لسان العرب ـ حجل ـ 11: 144».
(43) الرسف: مشي المقيد، ورسف في القيد: مشى مشي المقيد، وقيل: هو المشي في القيد رويدا، فهو راسف «لسان العرب ـ رسف ـ 9: 118».
(44) رجل طب بالفتح، أي عالم «الصحاح ـ طبب ـ 1: 171».
(45) من المجاز قولهم: نزل بإبط الرمل، وهو مسقطه، وبإبط الجبل، وهو سفحه، وضرب آباط المفازة، وتقول: ضرب آباط الامور ومغابنها واستشف ضمائرها وبواطنها «أساس البلاغة ـ أبط ـ 1».
(46) النوط: عرق غليظ علق به القلب من الوتين، قال أبوطالب في رسول الله صلى الله عليه وآله:
==
ولا أذكر لك ما في كلام فصحائهم، من خطبائهم وشعرائهم، من طرق فصاحة انتهجوها، وخيل بلاغة ألجموها وأسرجوها، وما وجد في مراكضهم ومضاميرهم، من سبقهم ومحاضيرهم، من الافتنان في بابي الكناية والمجاز، وإصابة مواقع الاشباع والايجاز، والابداع في الحذف والاضمار، والاغراب في جملة اللطائف والاسرار، فإنك تعارضني بأن هذه الاشياء أشرك الله فيها العقلاء، ورأينا الاعاجم قد صنفوا فيها معاجم، فكم في الفرس من الفرسان، وما أهل خراسان بالخرسان، على أني لو قلت تلك (47) لوجدت مقالا، وصادفت لفرسي مجالا، ولاصبت فيه وجها من الاحتجاج، وردا للشغب واللجاج، فإن هذه الاشياء لا تجمل ولا تجزل ولا تنبل ولا تفحل، ولا تحسن ولا تبهى، ولا تختال ولا تزهى، إلا واقعة في هذا اللسان، دائرة بين أظهر هذا البيان، ومثل ذلك مثل الوشي الفاخر، والحلي من سري الجواهر، تلبسها الحسناء فتزيدها حسنا إلى حسن، وتعطيها زينا إلى زين، فإن نقلتها إلى الشوهاء تخاذل أمرها وتضاد، وتناقض وتراد، وعصف بنصف حسنها وزينها، ما تطلعه الشوهاء من قبحها وشينها، وكفاك بما عددت عليك أدلة متقبلة، وشهودا معدلة، على أن هذا اللسان هو الفائز بالفصل، الحائز للخصل (48)، وأن ما عداه شبه (49) إلى العسجد، وشب (50) إلى زبرجد.
ثم اسمع بفضلك، فقد آن أن أفذلك (51)، وأختم هذا الفصل بما يحلق
____________
==
(يُتْبَعُ)
(/)
بني أخي ونوط القلب مني * وأبيض ماؤه غدق كثير
ومن المجاز: مفازة بعيدة النياط أي الحد والمتعلق، ولا يخفى ما في المتن من تعبير مجازي، انظر «أساس البلاغة ـ نوط ـ 476».
(47) الكلمه قلقة في هذه العبارة.
(48) يقال: أصاب خصله واحرز خصله: غلب على الرهان، وقال بعضهم: الخصلة الاصابة في الرمي «لسان العرب ـ خصل ـ 11: 206».
(49) الشبه والشبه: النحاس الاصفر، انظر «لسان العرب ـ شبه ـ 13: 55».
(50) الشب: حجر معروف يشبه الزاج، وقد يدبغ به الجلود «النهاية ـ شبب ـ 2: 439».
(51) يقال: فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه، «القاموس المحيط ـ فذلك ـ 3: 315».
(225)
الحلاقم (52) ويَجز الغلاصم (53)، وهو أن الله تعالى ادخر لمحمد عليه صلاته وسلامه كل فضيلة، وزوى عنه كل رذيلة، واختصه بكل توقير، وبعد حاله من كل تحقير، واختار له كل ما يقع عليه الاختيار، وخوله ما يطول به الافتخار، فجعل ذاته خيرة الانس، وصفوة الانبياء، وسيد الاموات والاحياء، والامة التي انتضاه منها خير امة، والائمة الذين استخلفهم بعده خير أئمة، وكتابه الذي أنزل عليه خير كتاب، وأصحابه الذين قرنهم به خير أصحاب، وزمانه الذي بعثه فيه خير زمان، ولسانه الذي نطق به خير لسان، ولا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول، ومن لم يعقل عن الله تعالى: (بلسان عربي مبين) (54) فلا عقل، ومن لم ينقل: (خير اللسان العربي) فلا نقل، ثم هو لسان أهل الجنة، وذلك طول من ذي الطول والمنة.
ووجدت العرب كما يتباهون بالشدة في مواطن الحرب، وبالنجدة في مقاوم الطعن والضرب، وبدقهم في النحور صدور الرماح، وحطمهم في الرقاب متون الصفاح، يتحلقون فيعدون أيامهم في الجاهلية والاسلام، ووقائعهم في أشهر الحل والاحرام، كذلك حالهم في التباهي بالكلام الفحل، والتباري في المنطق الجزل، والافتخار بالالسن اللد، وإرسالها في أودية الهزل والجد، وبثبات الغدر (55) في مواقف الجدل والخصام، وعند مصاك الركب ومصاف الاقدام، ليسوا في مجالدتهم بأشد منهم في مجادلتهم، ولا في مقاتلتهم بأحد منهم في مقاولتهم، ولقد نطقت بذلك أشعارهم، وشهدت به آثارهم.
____________
(52) الحلقوم: الحلق، وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم وهو موضع النفس وفيه شعب تتشعب منه، وهو مجرى الطعام والشراب «المصباح المنير ـ حلق ـ 146».
(53) الغلصمة: رأس الحلقوم بشواربه وحرقدته، وهو الموضع الناتئ في الحلق، والجمع الغلاصم، وقيل: الغلصمة اللحم الذي بين الرأس والعنق. وقيل: متصل الحلقوم بالحلق إذا ازدرد الآكل لقمنه فزلت عن الحلقوم، وقيل: هي العجرة التي على ملتقى اللهاة والمريء، «لسان العرب ـ غلصم ـ 12: 441».
(54) سورة الشعراء 26: 195.
(55) يقال: رجل ثبت الغدر: أي ثابت في قتال أو كلام «الصحاح ـ غدر ـ 2: 766».
(226)
قال لبيد (56):
ببياني ولساني وجدل * ومقام ضيق فرجته
زل عن مثل مقامي وزحل (57) * لو يقوم الفيل أو فياله
ورأيتهم يسؤون بين الجبناء واللكن، ولا يفصلون بين العي والجبن، ويستنكفون من الخطأ واللحن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واسترضعت في سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن» (58).
ويتحرون أن ينطقوا بالكلم الفصاح، وأن يمضوا فيها على الاساليب الصحاح، باحثين عن مفرق الصواب، ومصيبين منحر الاعراب، متيقضين لما يستفصح، متنبهين على ما يستملح، يسمعون الكلمة العيناء فيشرئبون لها، واللفظة العوراء فيشمئزون منها.
قال بعض امراء العرب لاعرابي رأى معه ناقة فأعجب بها: هل أنزيت عليها؟ قال: نعم أضربتها أيها الامير! قال: أضربتها؛ قد أحسنت حين أضربتها، نعم ما صنعت إذ أضربتها، فجعل يرددها.
قال الراوي: فعلمت أنه إنما يريد أن يثقف بها لسانه.
____________
(56) لبيد بن ربيعة بن مالك، أبوعقيل العامري، أحد الشعراء الفرسان الاشراف في الجاهلية من أهل عالية نجد، أدرك الاسلام، ووقد على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويعد من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم، وترك الشعر، فلم يقل في الاسلام إلا بيتا واحدا، قيل هو:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه * والمرء يصلحه الجليس الصالح
(يُتْبَعُ)
(/)
وسكن الكوفة، وعاش عمرا طويلا، وهو أحد أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها
توفي سنة 41 للهجرة. «الاعلام 5: 240». (57) زحل الشيء عن مقامه: أي زل عن مكانه «لسان العرب ـ زحل ـ 11: 302» وفيه البيت الثاني عن البيد.
(58) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال 11: 404 |31884 باختلاف يسير.
(227)
وسمعت أنا كوفيا يسأل بدويا عن ماوان (59) وقد شارفناها، فقال: هي ميهة. فقال الكوفي: أميه مما كانت؟ قال: إي والله أموه مما كانت. كأنه يصححها عليه.
ورأيت الخلق في المسجد الحرام يترادون الكلام في اللغات الفصحى، ويتعادون من له في ميدان البلاغة الخطا الفسحى، ويتذاكرون الكلمات التي تزيغ فيها الحاضرة (60) عن السنن ولا ينقحونها من العجر (61) والابن (62) كأن أفواههم للحكمة ينابيع، وهم على ذلك مطابيع.
هذا، ولما سمعت العرب القرآن المجيد ملات الروعة قلوبهم وملكت نفوسهم، وهز الاستعجاب مناكبهم، وأنغض رؤوسهم، وبقي أذلقهم لسانا، وأعرقهم بيانا، كالمحجوج إذا أبكتته الحجة، فأخذته الرجة، وكالياسر إذا أصبح مقمورا مقهورا، فقعد مبهوتا مبهورا، وكالصريع إذا عن له من لا يبالي بصراعه، وكالمرتبع (63) إذا غلبه من لا يلتفت إلى ارتباعه، ولقد قابلوه بأفصح كلامهم، فقال منصفوهم: جرى الوادي فطم على القري (64)، ومن يعبأ بالعباء مع الوشي العبقري (65).
____________
(59) ماوان: واد فيه ماء بين الفقرة والربذة فغلب عليه الماء فسمي بذلك الماء ماوان. قال في المعجم: فأما ماوان السنور فليس بينه وبين مساكن العرب مناسبة ولعل أكثرهم ما يدري ما السنور: وهي قرية في أودية العلاة من أرض اليمامة، انظر «معجم البلدان 5: 45، مراصد الاطلاع 3: 1222».
(60) أي أهل الحضر لانهم مظنة اللحن.
(61) العجر: جمع عجرة، وهي العقدة في عود وغيره، ويقال: في كلامه عجر فيه وتعجرف أي جفوة «أساس البلاغة ـ عجر ـ 294».
(62) الابن: العقد تكون في القسى تفسدها وتعاب بها «النهاية ـ ابن ـ 1: 17».
(63) ربع الحجر وارتباعه إشالته ورفعه لاظهار القوة «النهاية ـ ربع ـ 2: 189».
(64) مثل سائر، معناه: جرى سيل الوادى فطم، أي دفن، يقال: طم السيل الركية: أي دفنها، والقري: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان و «على» من صلة المعنى: أي أتى على القري، يعني أهلكه بأن دفنه، انظر «مجمع الامثال 1: 159|823».
(65) الوشي من الثياب معروف، والعبقري: الديباج، انظر «الصحاح ـ وشي ـ 6: 2524، النهاية ـ عبقر ـ
==
(228)
وقال الوليد بن المغيرة المخزومي (66): والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق (67)، وإنه ليعلو وما يعلى (68).
وبلغنا أن أعرابيا صلى خلف ابن مسعود (69) رضي الله عنه فتعتع في قراءته، فقال الاعرابي: ارتبك الشيخ، فلما قضى ابن مسعود صلاته، قال: يا أعرابي إنه والله ما هو من نسجك ولا من نسج آبائك، ولكنه عزيز من عند عزيز نزل، وهو الحمال ذو الوجوه، والبحر الذي لاتنقضي عجائبه. قال الله لموسى عليه السلام: إنما مثل كتاب محمد في الكتب كمثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت زبده.
فحينما عجزوا عن المماتنة (70)، فزعوا إلى المفاتنة، ولما لم يقدروا على المقابلة أقبلوا على المقاتلة، فكان فزعهم إلى شيء، ليس من المتحدى فيه في
____________
==
3: 173».
(66) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أبوعبد شمس، من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش، ومن زنادقتها، أدرك الاسلام وهو شيخ هرم فعاداه وقاوم دعوته، ذكره ابن الاثير في الكامل تحت عنوان: ذكر المستهزئين ومن كان أشد الاذى للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهو والد خالد بن الوليد، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون، انظر «الكامل في التاريخ 2: 71، الاعلام 8: 122».
(67) أي له شعب وجذور، وفي بعض المصادر: لمغدق، وهو من الغدق أي الماء الكثير، وفي بعضها الآخر: لعذق، والعذق: النخلة، وهو استعارة من النخلة التي ثبت أصلها.
(يُتْبَعُ)
(/)
(68) ورد باختلاف في لفظه في دلائل النبوة 2: 198، تأريخ الاسلام: 155، السيرة النبوية 1: 289، الوفا بأحوال المصطفى: 55، وأخرجه الحاكم النيسابوري في مستدركه 2: 506، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط البخاري، ولم يخرجاه.
(69) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) السابقين إلى الاسلام، وولي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان، فتوفي فيها عن نحو ستين عاما في سنة 32 هـ.
انظر «الاصابة في تمييز الصحابة 2: 368|4954، تهذيب التهذيب 6: 24|43، معجم رجال الحديث 10: 322|7160، الاعلام 4: 137».
(70) المماتنة: المعارضة في جدل أو خصومة «تاج العروس ـ متن ـ 9: 340».
(229)
شيء، دليلا قاطعا على تمام المعجزة، وشاهد صدق لصحة النبوة بظهور المعجزة، على أن عداوة المتحدي هي العجز بعينه، والتقصير بذاته، لان كل ذي منقبة إذا توقل (71) في مرتبة قد عجز عنها مدعوها، ولم يقدروا أن يطلعوها، كان نتيجة عجزهم أن يشتملوا على الغيظ والضجر، وقرينة تقصيرهم أن يقصدوه بالنكاية والضرر، وأن يقشوروه (72) بالعصا ويرجموه بالحصا.
والذي طولبوا به فعجزوا عنه هو الاتيان بسورة لو كتبت بين السور، لم تكن مشخلبة (73) بين الدرر، ولكن كواحدة منهن في حسنها وبهائها، ونورها وضيائها، وبيانها الباهر، وديباجها الفاخر، حتى لو عرضت على صيارفة المنطق ونقاده، المميز بين زيوفه وجياده، لقالوا هي منها بالقرب، لم يقولوا ليس عليها ابهة دار الضرب، والجهة التي أتاهم العجز عنها امتياز السورة عن هذه الاجناس، التي تتقلب في أيدي الناس، من خطب يحبرونها (74)، وقصائد يسيرونها، ورسائل يسطرونها، كما أن كل واحد من هذه الاجناس له حيز، وبعضها عن بعض متميز، وكل مستبد بطريق خاص إليه ينتحي وإياه ينتهج، ومثال ومنوال عليه يحتذي وعليه ينتسج، فلو تحدي الرجل بقصيدة شاعرة فجاء بخطبة باهرة أو رسالة نادرة، أو تحدي بخطبة أو رسالة غراء فعارض بقصيدة حذاء (75)، لم يكن على شاكلة التحدي عاملا، ونسب إلى قلة التهدي عاجلا، وتمثل له بقوله:
فحرم فينا لحوم البقر * شكونا إليه خراب السواد
____________
(71) التوقل: الاسراع في الصعود «النهاية ـ وقل ـ 5: 216».
(72) قشوره بالعصا: ضربه «القاموس المحيط ـ قشر ـ 2: 117».
(73) قال الليث: مشخلبة كلمة عراقية ليس على بنائها شيء من العربية، وهي تتخذ من الليف والخرز أمثال الحلي «لسان العرب ـ شخلب ـ 1: 486».
(74) يقال حبرت الشيء تحبيرا إذا حسنته «النهاية ـ حبر ـ 1: 327».
(75) الحذو: من أجزاء القافية، حركة الحرف الذي قبل الردف، يجوز ضمته مع كسرته ولا يجوز مع الفتح غيره، قاله ابن منظور في «اللسان ـ حذا ـ 14: 170» عن ابن سيده.
(230)
اريها السها (76) وتريني القمر (77) * فكنا كما قال من قبلنا
ذلك أن الشعر كلام ذو وزن وقري (78)، وقافية وروي، أكثره تمويهات وتخاييل، وأكاذيب وأباطيل، ومن ثم سموه سحرا، وزعموا أن لكل شاعر جنيا، وأنه معه رئيا، وأن ذلك الجني يخطره بجنانه ويلقنه إياه ويلقيه على لسانه.
والخطب والرسائل لا يمس طنب القريض أطنابها، ولا تقرع يده أبوابها، والسورة أبعد شوطا منها في التميز، وأعلى فوقا في المباينة والتحيز، بديباجتها الخاصة وذوقها وندائها على أن لا منظوم بطوقها، وعلى أنها ليست من القريحة، المعتصر لها ثرى السجيحة (79)، المستعان فيه بالروية والفكر، المستملى من لسان الزكن (80) والحجر (81)، وأن مثلها معه مثل الحيوان الذي هو تسوية الله وتقديره، مع التماثيل التي هي نقش المصور وتصويره، عليها ضياء الجلالة الربانية، وسيمياء (82) الكتب السماوية، وابهة المسطور في اللوح المنزل في اللوح (83) وآئين (84) الملقن منه وهو
____________
(76) السها: كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم «لسان العرب ـ سها ـ 14: 408».
(يُتْبَعُ)
(/)
(77) مثل سائر، ذكره الميداني في مجمع الامثال 1: 291 | 1545، تحت عنوان «اريها استها وتريني القمر» وذكر قصته، وقال: وبعضهم يرويه «اريها السها وتريني القمر»، يضرب لمن يغالط فيما لايخفى.
(78) قال الزمخشري وغيره: أقراء الشعر: قوافيه التي يختم بها، كأقراء الطهر التي ينقطع عندها، الواحد قرء، وقرء، وقري، لانها مقاطع الابيات وحدودها. «النهاية ـ قرا ـ 4: 32».
(79) السجيحة: الطبيعة «الصحاح ـ سجح ـ 1: 373».
(80) الزكن والازكان: الفطنة، والحدس الصادق. «النهاية ـ زكن ـ 2: 307».
(81) الحجر: العقل واللب، لامساكه ومنعه وإحاطته بالتمييز، وفي التنزيل: هل في ذلك قسم لذي حجر. «لسان العرب ـ حجر ـ 4: 170».
(82) السومة والسيمة والسماء والسيمياء: العلامة. «لسان العرب ـ سوم ـ 12: 312».
(83) اللوح الاول بالفتح: هو اللوح المحفوظ، والثاني بالضم: الهواء. «لسان العرب ـ لوح ـ 2: 585».
(84) آئين: كلمة فارسية بمعنى الزينة، استعملها الجاحظ في البخلاء في قصة محمد بن أبي المؤمل فيما حكاه عن لسانه: وكانوا يعلمون أن إحضار الجدي إنما هو شيء من آئين الموائد الرفيعة
==
.
(231)
لسان الروح، كأنك إذا قرأتها مشاهد سبحات (85) وجه فاطرك، ومعاين لملائكة عرشه بناظرك.
عن جعفر الصادق (86) رضي الله تعالى عنه: والله لقد تجلى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكنهم لم يبصروه (87).
والمعاني التي تستودع الكتب والرسائل، من معانيه ومؤدياته على مراحل، وقد انطوت رصانة هذه المعاني والمقاصد تحت سلس الالفاظ العذبة الموارد، مع
____________
==
وفي تاريخ العتبي عند شرح هذا البيت في رثاء الصاحب بن عباد:
لم يبق للجود رسم منذ بنت ولا * للسؤدد اسم ولا للمجد آئين
قال: وكأنه تعريب آئين، وهو أعواد أربعة تنصب في الارض وتزين بالبسط والستور والثياب الحسان، ويكون ذلك في الاسواق والصحارى وقت قدوم ملك.
أقول: هو قوس النصر في مصطلح عصرنا هذا «هـ م».
(85) سبحات الله: جلاله وعظمته، وهي في الاصل جمع سبحة، وقيل: أضواء وجهه «النهاية ـ سبح ـ 2: 332».
(86) أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإليه ينمى المذهب الجعفري، لقب بالصادق لصدق حديثه، ولد في 17 ربيع الاول سنة 80 هـ، أمره في الشرف والفضل والعلم والعصمة أجل من أن يذكر في سطور، قال ابن حجر: «نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في البلدان» وجمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل، ذكرهم الحافظ ابن عقدة في كتاب رجاله، وذكر مصنفاتهم فضلا عن غيرهم، استشهد عليه السلام مسموما لعشر سنين خلت من خلافة المنصور العباسي سنة 148 هـ، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده عليهم السلام.
انظر «أعيان الشيعة 1: 659، حلية الاولياء 3: 192، وفيات الاعيان 1: 327|131، الجرح والتعديل 2: 487 | 1987، رجال صحيح مسلم 1: 120|221، تهذيب الكمال 5: 74|950، ميزان الاعتدال 1: 414|1519، تهذيب التهذيب 2: 88|156، سير أعلام النبلاء 6: 255|117».
(87) رواه الشهيد الثاني في كتابه أسرار الصلاة: 36، ونقله عنه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 2: 247، وفيهما: ولكنهم لا يبصرون. وفي المصدرين أيضا، عنه عليه السلام: وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خرمغشيا عليه فلما أفاق قيل له في ذلك، فقال: ما زلت اردد الآية على قلبي وعلى سمعي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته.
قال الفيض: وفي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة ولذة المناجاة.
(232)
تكاثر نكت علم البيان وفقره، ومحاسن حجوله وغرره، وغرائب وشيه وأعلام حبره، تنثال ارسالا على الناظر البصير، وتزدحم أسرابا على الناقد النحرير.
(يُتْبَعُ)
(/)
وأنا اضرب لك سورة الكوثر ـ وهي أقصر السور ـ مثالا أنصبه بين يديك، وأجعله نصب عينيك، فأنت أكيس الاكياس، ومعك نهية (88) كشعلة المقباس، وتكفيك الرمزة وإن كانت خفية، والتنبيهة وإن كانت غير جلية، فكيف إذا ذللت بأنور من وضح الفلق، وأشهر من شية (89) الابلق.
أقول وبالله التوفيق: ورد على رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدو الله العاص بن وائل (90) ما يهدم مقاله، ويهزم محاله (91)، وينفس عن رسوله، وينيله نهاية سؤله، فأوحى إليه سورة على صفة إيجاز واختصار، وذلك ثلاث آيات قصار، جمع فيها مالم يكن ليجتمع لاحد من فرسان الكلام، الذين يخطمونه بالخطام (92) ويقودونه بالزمام، كسحبان (93) وابن عجلان، وأضرابهما من الخطباء المصاقع والبلغاء البواقع (94) الذين تفسحت في هذا الباب خطاهم، وتنفس في ميادينه مداهم.
انظر إلى العليم الحكيم كيف حذا ثلاث الآيات على عدد المسليات، من
____________
(88) النهية: العقل «لسان العرب ـ نهى ـ 15: 346».
(89) الشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره، وأصله من الوشي. «النهاية ـ شيه ـ 2: 522».
(90) العاس بن وائل بن هاشم السهمي، من قريش، أحد الحكام في الجاهلية، كان نديما لهشام بن المغيرة وأدرك الاسلام، وظل على الشرك ويعد من المستهزئين ومن الزنادقة الذين ماتوا كفارا وثنيين، وهو والد عمرو بن العاص صاحب معاوية. «الاعلام 3: 247».
(91) يقال: رجل يماحل: أي يدافع ويجادل، من المحال، بالكسر، وهو الكيد، وقيل: المكر، وقيل: القوة والشدة، انظر «النهاية ـ محل ـ 4: 303».
(92) الخطام: الزمام. وخطمت البعير: زممته «الصحاح ـ خطم ـ 5: 1915».
(93) سحبان بن زفر بن اياس الواثلي، من باهلة، خطيب يضرب به المثل في البيان، يقال: «أخطب من سحبان» و «أفصح من سحبان» اشتهر في الجاهلية وعاش زمنا في الاسلام، وكان إذا خطب يسيل عرقا ولا يعيد كلمة، أسلم في زمن النبي ولم يجتمع به.
«الاصابة 2: 109|3663، بلوغ الارب 3: 156، مجمع الامثال 1: 249، الاعلام 3: 79».
(94) الباقعة: الرجل الداهية. «لسان العرب ـ بقع ـ 8: 19».
(233)
إجلال محل رسول الله وإعلاء كعبه؛ وإعطائه أقصى ما يؤمله عند ربه (95)، ومن الايعاز إليه أن يقبل على شأنه من أداء العبادة بالاخلاص (96)، وأن لا يحفل بما ورد عليه من ناحية العاص، ولا يحيد عن التفويض إليه محيدا، فلا يذره وائبا وحيدا، ومن الغضب له بما فيه مسلاته من الكرب، من إلصاق عار البتر بالكلب (97)، والاشعار بأن كان عدو الله بورا، ولم يكن إلا هو صنبورا (98).
ثم انظر كيف نظمت النظم الانيق، ورتبت الترتيب الرشيق، حيث قدم منها ما يدفع الدعوى ويرفعها، وما يقطع الشبهة ويقلعها، ثم لما يجب أن يكون عنه مسببا، وعليه مترتبا، ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع العدو في مغواته (99) التي حفر، وصليه بحر ناره التي سعر، ومن الشهادة على إلصاقه بالسليم عيبه، وتوريكه على البريء ذنبه (100).
وتأمل كيف أن من اسند إليه إسداء هذه العطية، وإيتاه هذه الموهبة السنية، هو ملك السماوات والارض، ومالك البسط والقبض، وكيف وسع العطية وكثرها، وأسبغها ووفرها، فدل بذلك على عظم طرفي المعطى، وعلى جلال جنبي المسدي والمسدى، وقد علم أنه إذا كان المعطي كبيرا، [كان] العطاء كثيرا، فيالها من نعمة مدلول على كمالها، مشهود بجلالها.
وأراد بالكوثر أولاده إلى يوم القيامة من امته، جاء في قراءة عبد الله: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم وأزواجه امهاتهم» (101) وما أعطاه الله
____________
(95) إشارة إلى قوله تعالى: «إنا أعطيناك الكوثر».
(96) إشارة إلى قوله تعالى: «فصل لربك وانحر».
(97) إشارة إلى قوله تعالى: «إن شانئك هو الابتر».
(98) أي أبتر لا عقب له «النهاية ـ صنبر ـ 3: 55».
(99) مغواة: حفرة كالزبية تحفر للذئب، ويجعل فيها جدي إذا نظر إليه سقط عليه يريده. ومنه قيل لكل مهلكة مغواة. «النهاية ـ غوا ـ 3: 398». (10) ورك عليه ذنبه: حمله عليه «أساس البلاغة ـ ورك ـ 497».
(يُتْبَعُ)
(/)
(101) قال المصنف في الكشاف 3: 251: وفي قراءة ابن مسعود: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم»، وقال القرطبي في الجامع لاحكام القرآن 14: 123: ثم إن في مصحف ابي بن كعب
==
(234)
في الدارين من مزايا الاثرة ولتقديم في الدارين من مزايا الاثرة والتقديم، ووضع في يديه من نواصي التفضيل والتكريم، والثواب الذي لم يعرف إلا هو كنهه، ولم يعط إلا الملك شبهه، ومن جملة الكوثر ما اختصه به من النهر الذي حاله المسك (102)، ورضراضه التوم (103)، وعلى حافاته من أواني الذهب والفضة ما لا يعاده النجوم.
ثم تبصر كيف نكت في كل شيء تنكيتا، يترك المنطيق سكيتا، حيث بنى الفعل على المبتدأ فدل على الخصوصية، وجمع ضمير المتكلم فأذن بعظم الربوبية، وصدر الجملة المؤخرة على المخاطب أعظم القسم، بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم، ما ورد الفعل بالفظ الماضي، على أن الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، دلالة على أن المتوقع من سيب (104) الكريم في حكم الواقع، والمترقب من نعمائه بمنزلة الثابت النافع. وجاء بالكوثر محذوف الموصوف، لان المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الابهام والشياع، والتناول على طريق الاتساع، واختار الصفة المؤذنة بافراط الكثرة، المترجمة عن المعطيات الدثرة، ثم بهذه الصفة مصدرة باللام المعرفة، لتكون لما يوصف بها شاملة، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة.
وعقب ذلك بفاء التعقيب، مستعارة لمعنى التسبيب، يشتقها معنيان، صح تسبيب الانعام بالعطاء الاكثر، للقيام بما يضاهيه من الشكر الاوفر، وتسليمه
____________
==
«وأزواجه امهاتهم وهو أب لهم» وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب [لهم] وأزواجه [أمهاتهم]».
وقال الطبرسي في مجمع البيان 4: 338: وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أراد غزوة تبوك، وأمر الناس بالخروج، قال قوم: نستأذن آباءنا وامهاتنا فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابي وابن مسعود وابن عباس أنهم كانوا يقرؤون «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم وهو أب لهم» وكذلك هو في مصحف اُبَيٌ، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
(102) حاله المسك: أي طينه المسك. «النهاية ـ حول ـ 1: 464». (103) الرٌضْراض: الحصى الصغار، والتوم: الدر. «النهاية ـ رضرض ـ 2: 229». (104) السيب: العطاء. «الصحاح ـ سيب ـ 1: 150».
(235)
لترك المبالاة بقول ابن وائل، وامتثال قول الله عز من قائل، وقصد باللامين (105) التعريف بدين العاص وأشباهه، ممن كانت عبادته ونحره لغير إلهه، وتثبيت قدمي رسول الله على صراطه المستقيم، وإخلاصه العبادة لوجهه الكريم، وأشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات، وصنفي الطاعات، أعني الاعمال البدنية التي الصلاة إمامها، والمالية التي نحر البدن سنامها، ونبه على ما لرسول الله من الاختصاص بالصلاة التي جعلت لعينه قرة (106) وبنحر البدن التي كانت همته بها المشمخرة.
روينا بالاسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لابي جهل في أنفه برة (107) من ذهب (108). وحذف اللام الاخرى لدلالته عليها بالاولى، مع مراعاة حق التسجيع، الذي هو من جملة صنعة البديع، إذا ساقه قائله مساقا مطبوعا، ولم يكن متكلفا أو مصنوعا، كما ترى اسجاع القرآن وبعدها عن التعسف، وبراءتها من التكلف.
وقال: «لربك»، وفيه حسنان، وروده على طريقة الالتفات (109) التي هي ام من الامهات، وصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر، وفيه إظهار لكبرياء شأنه، وانافة لعزة سلطانه، ومنه أخذ الخلفاء قولهم: يأمرك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة، وينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة.
____________
(105) أي بلام «لربك»، واللام المحذوفة في قوله «وانحر» أي وانحر له، كما سيصرح بذلك «هـ م».
(106) إشاره إلى قوله صلى الله عليه وآله: حببت إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عني في الصلاة. «الخصال: 165|218».
(107) البرة: حلقة تجعل في لحم الانف، وربما كانت من شعر. «النهاية ـ بره ـ 1: 122».
(108) أخرجه البيهقي في سننه 5: 230.
(يُتْبَعُ)
(/)
(109) قال ابن حمزه العلوي في الطراز 2: 132: الالتفات: هو العدول من اسلوب في الكلام إلى اسلوب آخر مخالف للاول، وهذا أحسن من قولنا: هو العدول من غيبة إلى خطاب، ومن خطاب إلى غيبة، لان الاول يعم سائر الالتفاتات كلها، والحد الثاني إنما هو مقصور على الغيبة والخطاب لاغير، ولا شك ان الالتفات قد يكون من الماضي إلى المضارع وقد يكون على عكس ذلك فلهذا كان الحد الاول هو أقوى دون غيره.
(236)
وعن عمر بن الخطاب (رض) أنه حين خطب الازدية أتى أهلها فقال لهم: خطب إليكم سيد شباب قريش مروان بن الحكم، وسيد أهل المشرق حسن بن بجيلة ويخطب إليكم أمير المؤمنين ـ عنى نفسه ـ.
وعلم بهذه الصفة أن من حق العبادة أن يخص بها العباد ربهم ومالكهم، ومن يتولى معايشهم ومهالكم، وعرض بخطأ من سفه نفسه ونقض قضية لبه، وعبد مربوبا وترك عبادة ربه.
وقال: «إن شانئك» فعلل الامر بالاقبال على شانه، وقلة الاحتفال بشنآنه، على سبيل الاستئناف، الذي هو جنس حسن الموقع رائعه، وقد كثرت في التنزيل مواقعه، ويتجه أن يجعلها جملة للاعتراض، مرسلة إرسال الحكمة لخاتمة الاغراض، كقوله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الامين» (110).
وعنى بالشانئ السهمي المرمي بسهمه، وإنما ذكره بصفته لاباسمه، ليتناول كل من كان في مثال حاله، من كيده بدين الحق ومحاله، وفيه أنه لم يتوجه بقلبه إلى الصدق، ولم يقصد به الافصاح عن الحق، ولم ينطق إلا عن الشنآن الذي هو توأم البغي والحسد، وعن البغضاء التي هي نتيجة الغيظ والحرد (111)، وكذلك وسمه بما ينبئ عن المقت الاشد، ويدل على حنق الخصم الالد، وعرف الخبر ليتم له البتر، كأنه الجمهور (112) الذي يقال له الصنبور، وأقحم الفصل لبيان أنه المعين لهذه النقيصة، وأنه المشخص لهذه الغميصة (113)، وذلك كله مع علو مطلعها، وتمام مقطعها (114)، ومجاوبة عجزها لهاديتها (115)،
____________
(110) سورة القصص 28: 26.
(111) الحرد: الغضب. «تاج العروس ـ حرد ـ 2: 334».
(112) كذا.
(113) يقال: اغتمصت فلانا اغتماصا: احتقرته «لسان العرب ـ غمص ـ 7: 61».
(114) مقاطع القرآن: مواضع الوقوف.
(115) في الحديث: «طلعت هوادي الخيل» يعني أوائلها، والهادي والهادية: العنق؛ لانها تتقدم على البدن، ولانها تهدي الجسد. «النهاية ـ هذا ـ 5: 255».
(237)
وسبيبها (116) لناصيتها، واتصافها بما هو طراز الامر كله من مجيئها، مع كونها مشحونة بالنكت الجلائل، مكتنزة بالمحاسن غير القلائل، خالية من تصنع من يتناول التنكيت، وتعمل من يتعاطى بمحاجته التبكيت (117)، وكأنها كلام من يرمي به على عواهنه، ولا يتعمد إلى إبلاغ نكته ومحاسنه، ولا يلقاك ذلك إلا في كلام رب العالمين، ومدبر الكلام والمتكلمين، فسبحان من لو أنزل هذه الواحدة وحدها، ولم ينزل ما قبلها وما بعدها، لكفى بها آية تغمر الاذهان، ومعجزة توجب الاذعان، فكيف بما أنزل من السبع الطوال، وما وراءها إلى المفصل (118)، والمفصل، يالها من معجزة كم معجزات في طيها، عند كل ثلاث آيات تقر الالسن بعيها، لو أراد الثقلان تسلية المغيظ المحنق؛ لاخذت من أفاصحهم بالمخنق، إن هموا بإنشاء سورة توازيها، وثلاث آيات تدانيها. هيهات قبل ذلك يشيب الغراب، ويسيب الماء كالسراب.
ودع عنك حديث الصرفة (119)، فما الصرفة إلا صفرة (120) من النظام، وفهة (121) منه في الاسلام، ولقد ردت على النظام صفرته، كما ردت عليه طفرته، ولو صح ماقاله لوجب في حكمة الله البالغة، وحجته الدامغة أن ينزله على أرك نمط وأنزله، وأفسل (122) اسلوب وأسفله، وأعراه من حلل البلاغة وحليها،
____________
(116) السبيب: شعر الذنب «لسان العرب ـ سبب ـ 1: 459».
(117) بكته بالحجة أي غلبه «لسان العرب ـ بكت ـ 2: 11».
(118) المفصل من القرآن السبع الاخير، وذلك للفصل بين القصص بالسور القصار، والفواصل آواخر الآي «مفردات ألفاظ القرآن ـ فصل ـ 381».
(يُتْبَعُ)
(/)
(119) الصرفة: هي مما ذهب إليه النظام المعتزلي في إعجاز القرآن، وهو صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا؛ حتى لو خلاهم سبحانه لكانوا قادرين على أن ياتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما. انظر «الملل والنحل 1: 58».
(120) يقال: إنه لفي صفرة، للذي يعتريه الجنون، إذا كان في أيام يزول فيها عقله، لانهم كانوا يمسحونه بالزعفران. «الصحاح ـ صفر ـ 2: 714».
(121) الفهة: السقطة والجهلة. يقال: فه الرجل يفه فهاهة وفهة، فهوفة وفهيه: إذا جاءت منه سقطة من العي وغيره «النهاية ـ فهه ـ 3: 482».
(122) الفسل: الرديء من كل شيء. «مجمع البحرين ـ فسل ـ 5: 440».
(238)
وأخلاه من بهي جواهر العقول وثريها، ثم يقال لولاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه، ولارباب آنقه طريقة وأحسنه: هاتوا بما ينحو نحوه، وهلموا بما يحذو حذوه، فيعترضهم الحجز، ويتبين فيهم العجز، فيقال قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين، وأيسر ما كانوا عليه قادرين، ألم ترهم كيف كانوا يعنقون (123) في المضمار فوقفوا، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا (124)، ولا يقال الله قادر على أن يأتي بما هو أفصح وأفصح، وأملح لفظا ومعنى وأملح، فهلا أتى بذلك المتناهي في الفصاحة والمتمادي في الملاحة، فإن الغرض اتضاح الحجة وقد اتضحت، وافتضاح الشبهة وقد افتضحت، وإذا حصل الغرض فليس وراءه معترض.
وأما إغفال السلف لما نحن بصدده، وإهمالهم الدلالة على سننه، والمشي على جدده (125)، فلان القوم كانوا أبناء الآخرة، وإن نشأوا في حجر هذه الغادرة، ديدنهم قصر الآمال، وأخذ العلوم لتصحيح الاعمال، وكانوا يتوخون الاهم فالاهم والاولى فالاولى والازلف فالازلف من مرضاة المولى، ولانهم كانوا مشاغيل بجر أعباء الجهاد، معنين (126) بتقويم صفات أهل العناد، معكوفي الهمم على نشر الاعلام لنصرة الاسلام، فكان ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام لتعليمه وتلقينه، وارسل للتوقيف عليه وتبيينه، أهم عندهم مما كانوا مطبوعين على معرفته، مجبولين على تبين حاله وصفته، وكان إذ ذاك البيان غضا طريا، واللسان سليما من اللكنة بريا، وطرق الفصاحة مسلوكة سائرة، ومنازلها مأهولة عامرة، وقد مهد عذرهم تعويلهم على ما شاع وتواتر، واستفاض وتظاهر، من عجز العرب وثبات العلم به ورسوخه في الصدور، وبقائه في القلوب على ممر العصور.
____________
(123) يعنقون: أي يسرعون. انظر «لسان العرب ـ عنق ـ 10: 273».
(124) القطاف: تقارب الخطو في سرعة، من القطف: وهو القطع. «النهاية ـ قطف ـ 4: 84».
(125) الجدد: الارض الصلبة، وفي المثل: «من سلك الجدد أمن العثار». «الصحاح ـ جدد ـ 2: 452».
(126) معنين: أي متعبين. انظر «لسان العرب ـ عنن ـ 13: 290».
(239)
وبعد انقراض اولئك العرب، المالئة دلو البلاغة إلى عقد الكرب (127)، وبقاء رباعها (128) بغير طلل (129) ورسم (130)، وذهابها ذهاب جديس وطسم (131)، لم يبق من هذا العلم إلا نحو الغراب الاعصم (132)، والنكتة (133) البيضاء في نقبة الادهم (134)، وجملة تلك البقية قد اتبعوا سنن الاولين، وكانوا على عجز العرب معولين، ولم يقولوا كم بين إيمان السحار وبين إيمان النظار، ثم ادرج هذا العلم تحت طي النسيان، كما يدرج الميت في الاكفان.
ولو لا أن الله أوزعني أن أنفض عليه لمتي (135)، وألهمني أن أنهض إليه بهمتي، حتى أنفقت على النظر فيه شبابي، ووهبت له أمري، وكانت إجالة الفكر في غوامضه دهري، لم تسمع من أحد فيه همسا، ولم تلق من ينبس منه بكلمة نبسا، والله أسأل أن يهديني سبل الاصابة، ويثيبني على ذلك احسن إثابة، فما نويت بما لقيت فيه من عرق الجبين، إلا التوصل إلى ما فيه من ثلج اليقين، وإلا
____________
(127) مثل سائر مأخوذ من قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب حيث يقول:
من يساجلني يساجل ماجدا * يملا الدلو إلى عقد الكرب
وهو الحبل الذي يشد في وسط العراقي ثم يثنى، ثم يثلث، ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير. يضرب لمن يبالغ فيما يلي من الامر انظر «مجمع الامثال 2: 421 |4715».
(يُتْبَعُ)
(/)
(128) الربع: المنزل ودار الاقامة، وربع القوم محلتهم، والرباع جمعه «النهاية ـ ربع ـ 2: 189».
(129) الطلل: ما شخص من آثار الدار، والجمع أطلال وطلول. «الصحاح ـ طلل ـ 5: 1752».
(130) الرسم: الاثر، انظر «مجمع البحرين ـ رسم ـ 6: 72».
(131) جديس: قبيلة من العرب العاربة البائدة، كانت مساكنهم اليمامة والبحرين، وكان يجاورهم طسم، وهي قبيلة من العرب العاربة أيضا، تنتسب إلى طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، وقد انقرضت. انظر «معجم قبائل العرب 1: 172 و2: 680، ومصادره».
(132) الغراب الاعصم: الذي في جناحه ريشة بيضاء لان جناح الطائر بمنزلة اليد له. «الصحاح ـ عصم ـ 5: 1986».
(133) النكتة، بالضم: النقطة. «القاموس المحيط ـ نكت ـ 1: 159».
(134) الدهمة: السواد. يقال: فرس أدهم، وبعير أدهم، وناقه دهماء، إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه. «الصحاح ـ دهم ـ 5: 1924».
(135) اللمة: الهمة، والخطرة تقع في القلب «النهاية ـ لمم ـ 4: 273».
(240)
استبانه حجة الله وبرهانه واستيضاح أنوار قرآنه، وأنه يوفقني للخير وطلبه، وأن ينظمني في زمره أهله ويختم لي به ـ تمت.
* * *
مصادر التحقيق
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ أساس البلاغة: تأليف العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ)، تحقيق عبد الرحيم محمود، اوفست مكتب التبليغات الاسلامي، قم.
3 ـ أسرار الصلاة: للشهيد الثاني، المطبوع ضمن «مجموعة الرسائل» على الحجر سنة 1305 هـ، اوفست المكتبة المرعشية قم 1404 هـ.
4 ـ الاصابة في تمييز الصحابة: لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني (ت 852)، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الاولى 1328 هـ.
5 ـ أعيان الشيعة: للسيد محسن الامين، تحقيق ولده حسن الامين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات.
6 ـ الامالي: للسيد المرتضى الشريف أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين (ت 436 هـ)، تصحيح وتعليق السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي، الطبعة الاولى 1325 هـ، اوفست مكتبة السيد المرعشي في قم 1403 هـ.
7 ـ إنباه الرواة على أنباه النحاة: تأليف جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي (ت 624 هـ)، تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم، الطبعة الاولى 1406 هـ، دار الفكر العربي، القاهرة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
8 ـ الانساب: تأليف أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني (ت 562 هـ)، تحقيق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، الطبعة الثانية 1400 هـ، نشر محمد أمين دمج، بيروت.
9 ـ البداية والنهاية: تأليف الحافظ أبي الفداء عماد الدين اسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي (ت 774 هـ)، نشر دار الفكر، بيروت، 1402 هـ.
10 ـ بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، الطبعة الاولى 1384 هـ.
11 ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: تأليف السيد محمود شكري الآلوسي البغدادي، تصحيح محمد بهجة الاثري، الطبعة الثانية دار الكتب العلمية، بيروت.
(242)
12 ـ تاج العروس من جواهر القاموس: تأليف محمد مرتضى الزبيدي، الطبعة الاولى 1306 هـ، دار مكتبة الحياة، بيروت.
13 ـ تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام: تأليف الحافظ شمس الدين محمد ابن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 747هـ)، تحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الاولى 1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
14 ـ تأريخ بغداد: للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي بيروت، نشر دار الكتاب العربي.
15 ـ تذكرة الحفاظ: تأليف الحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي (ت 748هـ)، تصحيح عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، نشر دار إحياء التراث العربي.
16 ـ تهذيب التهذيب: تأليف الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 582هـ) الطبعة الاولى 1404هـ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
17 ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال: تأليف الحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي (742هـ)، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الثانية 1403هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(يُتْبَعُ)
(/)
18 ـ الجرح والتعديل: تأليف الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ)، الطبعة الاولى، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن ـ الهند، 1371هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
19 ـ حلية الاولياء وطبقات الاصفياء: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الاصبهاني (ت 430هـ) الطبعة الرابعة 1405هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
20 ـ حياة الحيوان الكبرى: تأليف الشيخ كمال الدين الدميري، دار الفكر، بيروت.
21 ـ الخصال: للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، نشر جماعة المدرسين ـ قم.
22 ـ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: تأليف أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ)، تحقيق الدكتور عبدالمعطي قلعجي، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الاولى 1405هـ.
23 ـ رجال صحيح مسلم: تأليف المحدث أبي بكر أحمد بن علي بن منجويه
(243)
الاصبهاني (428هـ) تحقيق عبد الله الليثي، الطبعة الاولى 1407هـ، دار المعرفة، بيروت.
24 ـ روضات الجنات: للعلامة المتتبع الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الاصبهاني، نشر مكتبة اسماعيليان، طهران 1390هـ.
25 ـ سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار: تأليف الشيخ عباس القمي، دار التعارف بيروت.
26 ـ السنن الكبرى: تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458هـ)، دار المعرفة، بيروت.
27 ـ سير أعلام النبلاء: تأليف شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ) الطبعة الثالثة 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
28 ـ السيرة النبوية: لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وابراهيم الابياري وعبد الحفيظ حلبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
29 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابي الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي، بيروت، دار الآفاق الجديدة.
30 ـ الصحاح: لاسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، بيروت، دار العلم للملايين.
31 ـ طبقات المفسرين: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ)، ضبط لجنة من العلماء، نشر دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الاولى 1403هـ.
32 ـ طبقات المفسرين: للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي (945هـ)، ضبط لجنة من العلماء، نشر دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الاولى 1403هـ.
33 ـ الطراز المتضمن لاسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز: تأليف يحيى بن حمزة ابن علي بن ابراهيم العلوي اليمني، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.
34 ـ العبر في خبر من غبر: للحافظ الذهبي (ت 748هـ) تحقيق أبوهاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الطبعة الاولى 1405هـ دار الكتب العلمية بيروت.
35 ـ الفائق في غريب الحديث: تأليف العلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538هـ)، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبوالفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار
(244)
المعرفة، بيروت.
36 ـ القاموس المحيط: تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، دار الفكر، بيروت 1403هـ.
37 ـ الكامل في التأريخ: تأليف الشيخ أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني المعروف بابن الاثير، دار صادر، بيروت 1402هـ.
38 ـ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل: تأليف العلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538هـ)، دار المعرفة، بيروت.
39 ـ كنز العمال في سنن الاقوال والافعال: تأليف علاء الدين علي المتقى بن حسام الهندي البرهان فوري (ت 975)، ضبط وتصحيح الشيخ بكري حياتي والشيخ صفوه السقا، الطبعة الخامسة 1405هـ، مؤسسة الرسالة بيروت.
40 ـ الكنى والالقاب: تأليف الشيخ عباس القمي، مطبعة العرفان صيدا 1358.
41 ـ لسان العرب: لابي الفضل جمال الدين أحمد بن مكرم بن منظور الافريقي المصري، قم، نشر أدب الحوزة.
42 ـ لسان الميزان: تأليف الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، الطبعة الثانية 1390هـ، نشر مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت، اوفست على الطبعة الاولى المطبوعة في حيدر آباد سنة 1329هـ.
(يُتْبَعُ)
(/)
43 ـ مجمع الامثال: تأليف أبي الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن ابراهيم النيسابوري الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثالثة 1393هـ، دار الفكر، بيروت.
44 ـ مجمع البحرين: للشيخ فخر الدين الطريحي، تحقيق السيد أحمد الحسيني، الطبعة الثانية، طهران.
45 ـ المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء: تأليف المحدث الكبير محمد بن المرتضى المدعو بالمولى محسن الكاشاني (ت 1091هـ)، تصحيح علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الاسلامي ـ قم.
46 ـ مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان: تأليف أبي محمد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي (ت 768هـ) الطبعة الثانية، 1390هـ، نشر مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، اوفست على الطبعة الاولى المطبوعة في حيدر آباد 1337هـ.
(245)
47 ـ مراصد الاطلاع على أسماء الامكنة والبقاع: تأليف صفي الدين عبد المؤمن بن عبدالحق البغدادي (ت 739هـ) تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة الاولى 1373هـ، دار المعرفة بيروت.
48 ـ المستدرك على الصحيحين في الحديث: تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري (ت 405هـ)، دار الفكر بيروت 1398هـ.
49 ـ المستفاد من ذيل تأريخ بغداد: للحافظ محب الدين أبي عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي (ت 643هـ) انتقاء كاتبه أحمد بن أيبك بن عبد الله الحسيني المعروف بابن الدمياطي (749)، تحقيق الدكتور قيصر أبوفرح، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
50 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: تأليف العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (ت 770هـ) اوفست دار الهجرة في إيران 1405هـ.
51 ـ معجم الادباء: تأليف أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (ت 626هـ) الطبعة الثالثة 1400هـ، دار الفكر، بيروت.
52 ـ معجم البلدان: تأليف شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، دار صادر، بيروت 1399هـ.
53 ـ معجم رجال الحديث: لآية الله العظمى السيد الخوئي (دام ظله)، الطبعة الثالثة، بيروت 1403هـ.
54 ـ معجم قبائل العرب القديمة والحديثة: تأليف عمر رضا كحالة، الطبعة الثالثة 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
55 ـ المفردات في غريب القرآن: تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهاني (ت 502هـ) تحقيق محمد سيد كيلاني، الطبعة الثانية، المكتبة المرتضوية.
56 ـ الملل والنحل: تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تخريج محمد فتح الله بدران، الطبعة الثانية، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة.
57 ـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال: تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ)، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
58 ـ النهاية في غريب الحديث والاثر: لابي السعادات المبارك بن محمد الجزري
(246)
(ابن الاثير)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناجي، نشر المكتبة الاسلامية.
59 ـ هدية العارفين: تأليف إسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر 1402هـ.
60 ـ الوفا بأحوال المصطفى: تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597هـ) تحقيق مصطفى عبد الواحد، الطبعة الاولى 1386هـ، دار الكتب الحديثة.
61 ـ وفيات الاعيان وأنباء أبناء الزمان: تأليف أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (ت 681هـ)، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر بيروت (1398هـ).
* * *
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 08:28 م]ـ
هذه الرسالة لأخونا في الله سبحانه له الحمد
العجوري
وليعذرنا على القصور
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 07:16 ص]ـ
:::
الكشاف الزمخشري
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤدياً".
سورة الكوثر
مكية، وآياتها ثلاث
بسم اله الرحمن الرحيم
(يُتْبَعُ)
(/)
"إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر،" في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أنطيناك بالنون. وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: "وانطوا الثبجة" والكوثر فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة. وقيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. قال: وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
وقيل الكوثر نهر في الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال: "أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربي، فيه خير كثير" وروي في صفته: أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد؛ حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء. وروي: لا يظمأ من شرب منه أبداً، أول وارديه فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبره. وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إن ناساً يقولون: هو نهر في الجنة! فقال: هو من الخير الكثير. والنحر: نحر البدن؛ وعن عطية: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقيل: صلاة العيد والتضحية. وقيل: هي جنس الصلاة. والنحر: وضع اليمين على الشمال، والمعنى: أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك من منن الخلق، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفاً لهم في النحر للأوثان إن من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هو الأبتر لا أنت؛ لأن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له أبتر: وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن. وكانوا يقولون: إن محمداً صنبور: إذا مات مات ذكره. وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقد سماه الأبتر، والأبتر: الذي لا عقب له. ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه".
ـ[منسيون]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 11:21 م]ـ
اشكرك يا اخي الكريم
وجزاك الله خيرا(/)
الزمخشري ينتقد القول بالصرفة
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 08:38 م]ـ
ذهب النظام من شيوخ المعتزلة إلى القول بالصرفة فيما يتعلق بإعجاز القرآن والتي تعني منع إمكانية المعارضة لدى النّاس--أي النّاس قد صرف عنهم الله دواعي معارضة القرآن أو الإتيان بمثله
فقال الزمخشري المعتزلي أيضا في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر ما يلي
(ودع عنك حديث الصرفة، فما الصرفة إلا صفرة من النظام، وفهة منه في الاسلام، ولقد ردت على النظام صفرته، كما ردت عليه طفرته، ولو صح ماقاله لوجب في حكمة الله البالغة، وحجته الدامغة أن ينزله على أرك نمط وأنزله، وأفسل) اسلوب وأسفله، وأعراه من حلل البلاغة وحليها،
وأخلاه من بهي جواهر العقول وثريها، ثم يقال لولاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه، ولارباب آنقه طريقة وأحسنه: هاتوا بما ينحو نحوه، وهلموا بما يحذو حذوه، فيعترضهم الحجز، ويتبين فيهم العجز، فيقال قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين، وأيسر ما كانوا عليه قادرين، ألم ترهم كيف كانوا يعنقون في المضمار فوقفوا، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا، ولا يقال الله قادر على أن يأتي بما هو أفصح وأفصح، وأملح لفظا ومعنى وأملح، فهلا أتى بذلك المتناهي في الفصاحة والمتمادي في الملاحة، فإن الغرض اتضاح الحجة وقد اتضحت، وافتضاح الشبهة وقد افتضحت، وإذا حصل الغرض فليس وراءه معترض))
والحقّ مع الزمخشري فكيف تتحدّى من كبّلت يديه ورجليه في ملاكمة ما---وهذا ما حصل فالله عزّ وجل تحدّاهم أن يأتوا بمثله فهل يتحدّاهم ثم يصرفهم عن الإتيان بمثله بقدرة منه--؟؟
كيف تطلب الكلام ممن قطعت لسانه؟؟
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 10:35 م]ـ
خالف هذا الموضوع قانون المنتدى لذا سنضطر لإغلاقه
* ألا تتعارض المقالات المنشورة هنا مع مبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ومعتقدات أهل السنة والجماعة.
* ألا تستهدف المقالات المنشورة إثارة النعرات الطائفية أو التعصب الديني أو النقاشات الدينية الساخنة أو إهانة معتقدات الأشخاص الآخرين.
نرجو المعذرة(/)
تنبيه مهم لمرتادي منتدى البلاغة
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 09:36 م]ـ
السلام عليكم
من نظام منتدى الفصيح هذا البند
* ألا تستهدف المقالات المنشورة إثارة النعرات الطائفية أو التعصب الديني أو النقاشات الدينية الساخنة أو إهانة معتقدات الأشخاص الآخرين.
والآن أجد بعض المشاركات تخترق هذا القانون.
لذا أرجو الالتزام وعدم مخالفة الشروط التي وافقتم عليها وسنقوم بتتبع كل المشاركات وسنقفل ما خالف النظام.
وشكرا لكم
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 09:46 م]ـ
أخي القاسم
ألسنا في معقل من معاقل أهل السنّة البررة؟؟
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[22 - 10 - 2005, 09:51 م]ـ
بلى أستاذي الكريم
ومن أجل ذلك نرفض كل مشاركة تعارض مذهب أهل السنة والجماعة
ويتبعه كل نقاش يجرنا إلى الحوار الطائفي الذي لا ينفع أحدا لأن كل حزب بما لديهم مستمسكون
كما أن هذه المشاركات تخرج منتدى الفصيح عن هدفه الأصلي وهذا ما لا نرضى به.
وفقك الله
ـ[د. حجي إبراهيم الزويد]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 03:37 م]ـ
الأستاذ الفاضل القاسم أعلى الله مقامه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن منتدى الفصيح يعتبر من أفضل المنتديات - إن لم يكن أفضلها - فيما يرتبط باللغة العربية وعلومها المختلفة, ففيه كنوز في غاية الجمال, في مختلف فنون اللغة العربية و ولأكون صريحا مع شخصك الكريم فقد شعرت بالسعادة منذ اليوم الأول في دخول بهذا المنتدى, فاحببته واحببت من فيه.
وبات هذا المنتدى الجميل محطة لا استطيع الغياب عنها ولو ليوم واحد, حيث دأبت على المشاركة في واحات كثيرة منه وفي مختلف علوم اللغة من نحو وبلاغة ولغويات , كما انني استفدت من كتابات الاخرين ومداخلاتهم, و بل سعيت إلى ماهو أكثر من ذلك, حيث بات هذا المنتدى الجميل محط حديثي أينما اتوجه. ... في محل عملي ..... وفي الجلسات الخاصة, وذلك لتشجيع عشاق العربية للاستفادة مما يحتويه هذا الموقع الجميل من إضاءات لا غنى لكل عاشق للغة عنها.
الفاضل القاسم:
علمت أنك مؤسس هذا المنتدى, وهذا شيء عظيم, استوقفني فدعوت لك بالخير, وأن يجازيك الله أعظم الجزاء, لما قدمته للعربية من هدية عظمى, في إخراجك هذا المنتدى إلى عالم النور.
الأستاذ الفاضل:
لقد ابتعدتُ عن هذا المنتدى لأنني رأيت أن المنتدى - وبالأخص منتدى البلاغة والإعجاز القرآني - قد انحرف عن الخط, حيث باتت محطة لإذكاء نار الطائفية وإشعال فتيل المذهبية الحارق, بما يعرض فيها من مشاركات هي بعيدة كل البعد عن خط الفصيح الذي أنشأ هذا المنتدى من أجله, فبات منتدى البلاغة و الإعجاز القرآني محطة استفزاز للآخرين بما يطرح فيه من مشاركات تطعن بشكل صريح ومباشر في عقائد الآخرين, وتحط من قدر علمائهم.
الفاضل القاسم
في إحدى المنتديات العامة بالمملكة العربية السعودية وهو منتديات المنطقة الشرقية, كتب مشرف المنتدى الإسلامي ما يلي:
1. إيماناً منا بحرية التعبير واحتراماً لرأي الآخر دون التقليل من شأن أي طائفة أو مذهب إسلامي، ورغبة منا في سد باب الخلاف بين جميع الطوائف الإسلامية، وتحقيقا لرغبة المشرف العام، سوف يتم حذف أي مشاركة تؤدي إلى خلاف مذهبي أو طائفي أو تفتح باباً للأخذ والرد الغير مجدي بين المذاهب المختلفة. "
قرأت هذا في منتدى عام, ثم قارنت بينه وبين ما آلت إليه الأمور في الفصيح مؤخرا من محاولة طرح مواضيع لا هدف لها إلا إذكاء نار الفتنة بين المسلمين من خلال التعرض لعقائدهم بشكل يبعث على الاستفزاز.
أخي الفاضل القاسم:
لقد نأينت بنفسي بعيدا فلم يسجل لي أي حضور في تلك المواضيع, التي هي من وجهة نظري, إضاعة للوقت.
الأستاذ القاسم:
أشد على أيديكم الكريمة في خطوتكم المباركة في رفض ما يثير النعرات الدينية بقولكم الكريم:
" ألا تستهدف المقالات المنشورة إثارة النعرات الطائفية أو التعصب الديني أو النقاشات الدينية الساخنة أو إهانة معتقدات الأشخاص الآخرين."
سائلا الله سبحانه وتعالى أن يسدد خطاكم في عملكم هذا خدمة للإسلام والقرآن الكريم بصفة خاصة واللغة العربية بصفة عامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 09:47 م]ـ
الأخ القاسم المحترم
لقد دخل الشيعة المنتدى لابسين لبوس الوداعة ناشرين أسماء لكتب لهم ومراجع--وناقلين منها أحيانا أبحاثا طويلة
فماذا نفعل إزاء ذلك؟
كان علينا أن نبين لجمهور أهل السنّة أن تلك الأسماءمخطئة في تفسيراتها وأرائها----والقضيّة بسيطة ملخصها--إن عدتم عدنا
والسلام
ـ[أبو سارة]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 03:29 ص]ـ
السلام عليكم
مع تقديرنا الكامل لآراء جميع الإخوة
منتديات الفصيح مفتوحة للجميع دون استثناء، أعني بذلك جميع المذاهب بل وكافة الأديان، شريطة أن لا تمس هذه المشاركات ثوابت الإسلام وفق مذهب أهل السنة والجماعة من قريب أو بعيد.
وخير الكلام ماقل ودل، والله من وراء القصد.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 08:35 ص]ـ
السلام عليكم
أيها الأخوة في إدارة منتدى الفصيح، إن جماعة الشيعة قد تجرؤا على كثير مما يمس معتقدات اهل السنة والجماعة، ولقد شرعوا بكتب التفسير، وكتب الحديث، ولم يتبقى عليهم إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واكابر الصحابة، لذا أرى شطب مشاركات كل من يجرؤ منهم على المس بعقيدتنا ورموزها وأعلامها بل منعه الدخول إلى رياضنا.
والله الموفق.
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 07:59 م]ـ
السلام عليكم
بورك فيكم أيها الإخوة
انتهى الأمر من قبل أن يبدأ
لقد أسسنا هذا المنتدى واتفقنا على أن يكون خاصا بالفصحى ولم يغب عنا أن في الناس من يذهب في غير مذهبنا ولذا شرعنا في نظام المنتدى أن لا تخالف المشاركات مذهب أهل السنة والجماعة ولم يغب عنا ما نراه في المنتديات الأخرى من حوارات طائفية لا تفيدنا هنا وقد تحول المنتدى عن هدفه الأساسي فوضعنا من ضمن القانون منع هذه الحوارات ليس بغضا بالطوائف الأخرى ولا تعصبا لمذهبنا وإنما حفاظا على منتديات الفصيح من التشوه بالحوارات التي لا تفيد أحدا بل كلها هجوم وتراشق بما يليق وما لايليق ونحن ننأى بالفصيح أن يكون مسرحا لنلك المهازل.
إن أي موضوع يخالف ثوابت أهل السنة والجماعة مخالف لقانون المنتدى وعلى الأعضاء التبليغ عنه وعلى كل من قرأه يجب ذلك لأن المشرفين أساسا غير متفرغين بالكامل للمنتدى وعملهم تطوعي جزاهم الله خيرا وليس بإمكانهم قراءة كل المشاركاتوترك أعمالهم وذويهم ومن له الأولوية في حساباتهم.
نحن نحب أن نرى السني والمعتزلي والأشعري والشيعي والصوفي وغيرهم يتناقشون في لغتنا غير منطلقين من منطلقات مذهبية ولا متوجهين نحو تحقيق انتصار عقائدي وخلاف ذلك يحول النقاش إلى حرب طاحنة لن تهدأ.
من أراد الحوارات الساخنة والطائفية فليبعد عن ساحتنا فلها المنتديات المختصة التي شرعت أبوابها لذلك وهي أرحب صدرا و أوسع مجلسا فلا يضايقنا ولا يثر أعصابنا ولا ينغص راحتنا ولا يكدر صفو محبتنا.
بارك الله فيكم
ـ[معالي]ــــــــ[04 - 11 - 2005, 12:23 م]ـ
من أراد الحوارات الساخنة والطائفية فليبعد عن ساحتنا فلها المنتديات المختصة التي شرعت أبوابها لذلك وهي أرحب صدرا و أوسع مجلسا فلا يضايقنا ولا يثر أعصابنا ولا ينغص راحتنا ولا يكدر صفو محبتنا.
عين العقل!!
ـ[البصري]ــــــــ[21 - 11 - 2005, 08:03 م]ـ
ولا تنسوا قول المولى ـ جل وعلا ـ: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ... " الآية ... وقوله ـ تعالى ـ: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقوله ـ سبحانه ـ: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وسنة الله في خلقه الابتلاء، والتدافع بين أهل الحق والباطل " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[21 - 11 - 2005, 08:58 م]ـ
أحسنتم.
إنما قام الفصيح من أجل علوم اللغة العربية على المنهج الحق: منهج النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنهج الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـ[بدر البدور2005]ــــــــ[15 - 12 - 2005, 03:02 م]ـ
جزيتم خيرا على منعكم مثل تلك الحوارات التي لا طائل من ورائها ..
ودعونا نستمتع بروعة البلاغة القرآنية المعجزة
ـ[الجابري]ــــــــ[18 - 02 - 2006, 12:41 ص]ـ
بعد خالص تقديري للجهود المبذولة في هذا المنتدى الكريم الا اني ارى ان ما يذكره بعض الاخوة من شرطية كون الموقع على ما يذهب اليه جمهور المسلمين قد يفقد الموقع حيويته , فمن حق المسيحي ان كان عربيا يسال عن اعجاز اللغة في القران الكريم وان يحصل على جواب
وما اراه هو ان تكون جميع المشاركات تحت تقييم المشرف فان وجد فيها ما يسوء الى ثوابت الدين بشكل عام كان له حذفها
اما اذا كانت المشاركات تعرض اراء المذاهب في الاطار العلمي فهذا حق يجب علينا احترامه وتنميته للاستفادة من جميع الاراء شريطة كونها في الاطار العلمي
وكما اشرت يترك التقدير للمشرف وعليه ان يكون منصفا في عرض المشاركات
وفقكم المولى
ـ[عبد الله المسلم]ــــــــ[06 - 04 - 2006, 06:41 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نسال الله الفائدة لديننا
جزاكم الله عنا خير الجزاء على ما تقدمونه من فائدة عظيمة ولكن ارجو من الاعضاء الاعزاء الابتعاد عن الطائفية وعن الديانة لان هذا علم وهو من حق الجميع ان يتعلم ونسال الله ان يكون هداية لما يرضاه الله
والسلام عليكم
ـ[أبو حلمي]ــــــــ[07 - 04 - 2006, 05:33 م]ـ
أخي عبد الله المسلم: إن الدين عند الله الإسلام، وأعلم أنك تعلم ذلك، لكن لا يمكن البعد عن الديانة وهي كلمة بحاجة الى دقة وتدقيق، وما خلق الكون إلا لمعرفة الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[01 - 05 - 2006, 01:03 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله ..
قد كثُرت في الآونة الأخيرة موضوعات في الأسماء والصفات ..
وإذ قد عرف الإخوة والأخوات، أنّ الهدف الذي قام من أجله هذا المنتدى، هو نشر جواهر البلاغة العربية ودررها، وما تعلّق بها من لطائف القرآن المعجزات، فاعلموا - وفقكم الله - أنّه سيتمّ حذف كلّ مشاركة تُخلّ بمسائل العقيدة والاعتقاد، وتخالف مذهب أهل السنّة والجماعة الثقات ..
ودمتم برعاية الله وتوفيقه ..
وشكراً ..(/)
قال تعالى"من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم *صدق الله العظيم
ـ[عزام محمد ذيب الشريدة]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 12:27 م]ـ
قال تعالى:"لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم*صدق الله العظيم. في هذه الاّية أمور ثلاثةيمكن مناقشتها، أولها:
قوله تعالى"لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار" يترتب من الخاص إلى العام بالأهمية والفضل والشرف، حيث بدأ بالنبي ثم بالمهاجرين ثم بالأنصار.
ثانيها: قوله تعالى"من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم "يتعارض مع القاعدة النحوية التي تنص على التالي: إذا تأخر الاسم الظاهر (اسم كاد) عن أن والفعل المضارع فإن كاد تكون فعلا تاما، كقوله تعالى" من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم"،والأصل فيه"من بعد ما كاد قلوبُ فريق منهم يزيغُ"،وفي هذه الحالة يكون فاعل (كاد) المصدر المؤول من أن والفعل المضارع، إلا أن هذه القاعدة لا تنطبق على هذه الاّية من ناحيتين:
1 - لا يوجد فاعل للفعل كاد، حيث لا يوجد مصدر مؤول.
2 - دخول الفعل على الفعل، والقاعدة تقول: لا يدخل فعل على فعل.
وهذا يعني أن المعنى أهم من القاعدة، لأن الاّية القراّنية قدمت الفعل (يزيغ) بسبب الحاجة وقوة العلاقة المعنوية مع الفعل (كاد) للدلالة على قرب وقوع الزيغ، كما أن بقاء الفعل (يزيغ) متأخرا يثير اللبس، لاحظ كيف تؤول الجملة مع التأخير: (من بعد ما كاد قلوب فريق منهم يزيغ) مما يعني أن الفريق هو الذي يزيغ وليست القلوب، كما أن التعبير يصبح قلقا وغير متاّلف، مما أدى إلى العدول عن الأصل للهدف المعنوي وأمن اللبس.
3 - تجرد الفعل (يزيغ) من (أن) لأن دلالتها مستقبلية بعيدة، وهذا يتنافى مع المعنى الذي تريده الاّية وهو معنى القرب الشديد للزيغ، مما أدى إلى حذف أن من أجل أن يتصل الفعل مع الفعل، لإفادة هذا المعنى.
ثالثها: في قوله تعالى في نهاية الاّية"إنه بهم رؤوف رحيم"تناسب معنوي بين الفاصلة القراّنية ومحتواها الذي يتحدث عن الرضا والتوبة.
والله أعلم
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[23 - 10 - 2005, 10:02 م]ـ
عندي مشاكسة وهي
في قوله تعالى (:"لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم*)
ما الدّاعي لذكر التوبة عليهم مرتين كما هو موضّح باللون الأحمر؟؟
ـ[يوسف صباح]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 02:39 ص]ـ
لدي ملاحظة على قولك أن يزيغ تعود على فريق لا على قلوب عند التقدير (كاد قلوب فريق منهم يزيغ)، ليس من المنطقي أن تعود على فريق لأن فريق مضاف إليه وهي مجرورة، فلا يستقيم المعنى ولا تكتمل الجملة إلا إذا كانت يزيغ مرتبطة بالقلوب.
فعلى سبيل المثال قبل أن تدخل كاد على الجملة كانت (قلوب فريق يزيغ) فإذا كانت يزيغ مرتبطة بالقلوب تكون الجملة غير مكتملة فأين خبرها؟ أما إذا كانت مرتبطة بقلوب تكتمل الجملة وتصبح الجملة الفعلية يزيغ خبراً لقلوب.
هذا محض اجتهاد فلست نحوياً.
مع كل محبة وتقدير
ـ[عزام محمد ذيب الشريدة]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:51 ص]ـ
أخي يوسف:
عندما نقول: كاد قلوب فريق منهم يزيغ، فإن كلمة (يزيغ) تحتمل تعلقها بفريق، على أساس أنها صفة له وليست خبرا عن كاد وعندها لن تكون الجملة كاملة كما قلت فلا بد لها من خبر، ومن أجل رفع هذه الاحتمال تم العدول عن الاصل من أجل أن تتعلق (يزيغ) بالفعل كاد، لأن الفعل كاد هو الأقرب إليها معنويا من غيرها.
والله أعلم(/)
تحكّم وتكلّف
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 05:03 ص]ـ
قال تعالى
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) المائدة
قال الرافضي صاحب الميزان فيها
(فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللاحقة لها في سياقها، و لا تتصل بها في سردها، و إنما هي آية مفردة نزلت وحدها.) وهذا تحكم محض شبيه بقوله في آية التطهير والتي أراد نزعها من سياقها
وسياق الآية هو كما يلي (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ # يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ # قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)
ولو فرضنا جدلا أنّها نزلت وحدها وهذ مستبعد لعدم وجود نص على ذلك--فهو كان يتابع أمر تنسيق الآيات وضمّها إلى بعضها فكان يقول ضعوا هذه بعد تلك وهكذا
وكون الآية في هذا الموضع بالذات وحي آلهي لا شك فيه
أمّا لماذا لا يريدها صاحب الميزان أن تنتمي لسياقها فلهدف متكلف وهو جعل ما أٌمر الرسول بتبليغه هو إدّعاء متكلّف بتولية علي الإمامة بعد
مع أنّ الآية واضحة تماما بكون ما أمر بتيليغه هو مجموع الرسالة لا حكما مزعوما
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ---
ما هو الأمر الجلل الذي من المتوقع أن يثير غضب النّاس يا ترى؟؟
هل من المتوقع أن يغضب أصحاب الرسول إن بلغهم بإمامة عليّ بعده ليلحقوا الأذى بالرسول فيطمنّه عز وجل بقوله (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؟؟ قطعا الجواب بالسلب وهم الذين استجابوا لكافة ما بلغهم
إذن فالمتوقع أن يثير الغضب لدى النّاس فيتعرض للأذى منهم هو الرسالة التي جاءت لتخرج النّاس من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد القهّار
قال شيخنا الطبري فيها
(وَهَذَا أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بِإِبْلَاغِ هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ
الَّذِينَ قَصَّ اللَّه تَعَالَى قَصَصهمْ فِي هَذِهِ السُّورَة وَذَكَرَ فِيهَا مَعَايِبهمْ وَخُبْث أَدْيَانهمْ وَاجْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبّهمْ وَتَوَثُّبهمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ وَتَبْدِيلهمْ كِتَابه وَتَحْرِيفهمْ إِيَّاهُ وَرَدَاءَة مَطَاعِمهمْ وَمَآكِلهمْ ; وَسَائِر الْمُشْرِكِينَ غَيْرهمْ , مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِمْ مِنْ
مَعَايِبهمْ وَالْإِزْرَاء عَلَيْهِمْ وَالتَّقْصِير بِهِمْ وَالتَّهْجِين لَهُمْ , وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ , وَأَنْ لَا يُشْعِر نَفْسه حَذَرًا مِنْهُمْ
أَنْ يُصِيبهُ فِي نَفْسه مَكْرُوه , مَا قَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّه , وَلَا جَزَعًا مِنْ كَثْرَة عَدَدهمْ وَقِلَّة عَدَد مَنْ مَعَهُ , وَأَنْ لَا يَتَّقِي
أَحَدًا فِي ذَات اللَّه , فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى كَافِيه كُلّ أَحَد مِنْ خَلْقه , وَدَافِع عَنْهُ مَكْرُوه كُلّ مَنْ يَتَّقِي مَكْرُوهه. وَأَعْلَمهُ تَعَالَى
ذِكْره أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ عَنْ إِبْلَاغ شَيْء مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ إِلَيْهِمْ , فَهُوَ فِي تَرْكه تَبْلِيغ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَبْلُغ مِنْهُ , فَهُوَ فِي
عَظِيم مَا رَكِبَ بِذَلِكَ مِنْ الذَّنْب بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ لَمْ يَبْلُغ مِنْ تَنْزِيله شَيْئًا)
__________________
ثمّ أنظروا ماذا قال رافضيّ آخر في
(تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
67
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون- وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى المنافقين من ذلك فبيّن سبحانه عظم الأمر بقوله ((وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ))، أي لم تبلّغ خلافة علي (عليه السلام) ((فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) حتى أنّ كل الرسالة رهن هذا التبليغ، وذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سُدى، وقد أمّنه الله سبحانه مما كان يخشى منه فقال ((وَاللّهُ يَعْصِمُكَ))، أي يحفظك ((مِنَ النَّاسِ)) فلا يتمكنون من الفتنة والانقلاب والإيذاء مما كان يخشاه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحين ذاك وعند منصرف الرسول من حُجّة الوداع في وسط الصحراء أمَرَ بنصب منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة، ثم أخذ بكف علي (عليه السلام) وقال: "مَن كُنتُ مولاه فهذا علي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله .. (إلخ) "
((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك،))
أيّ كذب هذا قوله (هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون)؟؟؟
إلّا إذا كان يقصد إجماع مفسّري الروافض طبعا
وأيّ تحريف لمعنى الكفر قوله (((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك،)؟؟
فعلى معنى كلامه فكل أهل السنة من الكافرين!!
قاتلهم الله لتحريفهم الكلم عن مواضعه
__________________
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 07:38 ص]ـ
وحيث أن الشيعة يستخدمون المنتدى لنشر مذهبهم، فمساعدتهم واجبة فإليكم إخواني هذا الرابط، وأرجوكم أن تدخلوا بالذات قسم السمعيات والبصريات
ولا حول ولا قوة إلا بالله
أين إدارة المنتدى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
http://www.fnoor.com/
ـ[محمد التويجري]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 08:41 م]ـ
خالف هذا الموضوع قانون المنتدى لذا سنضطر لإغلاقه
* ألا تتعارض المقالات المنشورة هنا مع مبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ومعتقدات أهل السنة والجماعة.
* ألا تستهدف المقالات المنشورة إثارة النعرات الطائفية أو التعصب الديني أو النقاشات الدينية الساخنة أو إهانة معتقدات الأشخاص الآخرين.
نرجو المعذرة(/)
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 05:22 م]ـ
:::
قوله تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) (69 الأحزاب
ترى ما التهمة التي برأ الله موسى منها؟
هل اتهموه بعيب جسدي؟
أم اتهموه بأمر أخلاقي "خلقي"؟
ذكر القرطبي ما يلي
(وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك وتعالى "فبرأه الله مما قالوا" أخرجه البخاري ومسلم بمعناه)
وليس عندنا غير حديث الرسول:= تفسيرا للآية الكريمة---ولا نقبل ما قيل عن تواطؤ قارون مع امرأة سوء على اتهام موسى بالزنا ولكنّها لم تنطق بالإتهام إنّما نطقت بالحقيقة---ولا نقبل ما قيل عن اتهامهم إيّاه بقتل أخيه هارون الذي مات طبيعيا فحملته الملائكة إليهم ليروا أن لا جرح فيه--
نعم نضرب صفحا عن كل ما لا دليل عليه
ـ[حبيب]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:23 م]ـ
بأي ميزان ترى يقبل هذا ولايقبل ذاك
هل مجرد الرواية في ما يسمى بصحيح البخاري ومسلم
ايه ايه يا رب
اتهام لأمة موسى النبي المرسل صلوات الله عليه بأنهم يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى عورات بعض!!!
والنبي عليه السلام بمرأى منه ومسمع ولاينكر فعلتهم فدل على انه جائز!!!
فهل الوجدان والفطرة والاخلاق الانسانية تقبل ان يجيز الله تعالى ان ينظر الرجال بعضهم الى عورة بعض؟!؟!؟ بل يوجد اطلاق في الامة الشاملة حتى للنسوة والاطفال!!
تصوروا المنظر القبيح البشع وابشع منه تصوير الدين الالهي يقر هذا.
ولكنهم مهدوا لشطر من المسلمين ان يقبلوا بذلك حيث علموهم انكار الحسن والقبح الفطريين والعقليين.
والاشنع من ذلك ان اتهامهم لنبي ان في خصيته انتفاخا يوجب على الله ان يبرأه من قولتهم فيظهر عورته بين الامة ;)
وان الحجر يركض بثيابه بامر الله - على ما زعموا نسبته لنبي الفطرة وسلامة الوجدان (صلى الله عليه واله)
فإذا كان كذلك فهلا كف موسى ع عن ضرب حجر برئ يطيع الله تعالى؟!؟: mad:
ومال موسى عليه السلام يركض لاجل خرقة ثياب بين امته افلا كان ينادي على احدهم ان ياتيه بما يستر عورته
ام ان الخرقة اعز عليه من ستر عورته؟!!؟!؟!؟ ( ops
دين يبنى على انكار التحسين والتقبيح العقليين هكذا يكون بلا ريب
ولو لا انكارهم التحسين والتقبيح العقليين لانكرت الامة عليهم الكثير مما فعلوا وقرروا.
افلا سترتم هذه القبائح التي لايجوز نسبتها الى النبي الاعظم والى الدين قبل ان يطلع عليه العقلاء والمفكرين الاحرار
ايها العقلاء هل تقبلون دينا لايقبل العقل بل لايقبل الفطرة بل يقبل الشنائع والقبائح البشعة؟!؟!
وعجبي لا ينقضي لأئمة تفسيرهم كيف اوردوا حديث ابي هريرة الذي صدقوه ولم يقولوا اشتبه رغم مخالفته للمقطوع المعروف من دين الله دين النزاهة والطهارة والفطرة وجعلوه التفسير الوحيد , علما ان التفسير للاية بمعناها الكلي مما قد لايحتاج الى حديث , نعم غاية الامر بيان ما قاله اليهود وهذا ليس من صلب تفسير الاية في شئ , الذي هو يمعنى تبرئة الانبياء مما قالوا في حقهم من قذف واعابة.
ثم بالله عليكم هل كان الله تعالى يبرأ نبيه موسى من القول بالانتفاخ المذكور ولكن لايبرأ نبيه من نسبة الركض له وراء حجر لاجل خرقة ظاهرة عورته بين الامة ينظرون له ثم بعد ذلك يصلون وراءه وقد عرفوا شكلها وحجمها و و و و.
والله ان نسبة هذا القول المقيت الذي حاشا لرسولنا ان يتفوه به اولى بالتبرئة من القول بالانتفاخ في الموضع الكذائي.
ـ[حبيب]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:32 م]ـ
وانقل رواية عن موسى بن جعفر امام الرافضة والشيعة واعلم ان روايته هذه تثقل علىهم حيث لاتثقل عليهم رواية العراة:
(يُتْبَعُ)
(/)
......................................
- تحف العقول- ابن شعبة الحراني ص 384:
يا هشام بن الحكم إن الله عزوجل أكمل للناس (1) الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ودلهم على ربوبيته بالادلاء، فقال: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (2) " إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار " - إلى قوله - لآيات لقوم يعقلون (3) ". يا هشام قد جعل الله عزوجل ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4) ". وقال: " حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (5) " وقال: " ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي بعد الارض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (6) ". يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: " وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (7) ". وقال: " وما اوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خيرا وأبقى أفلا تعقلون (8) ". يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزوجل: " ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون (9) ". يا هشام ثم بين أن العقل مع العلم فقال: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (10) ". يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (11) " وقال: " إن
* (هامش) * (1) في بعض النسخ [اكمل الناس]. (7) سورة الانعام آية 32. (2) سورة البقرة آية 162. (8) سورة القصص آية 60. (3) سورة البقرة آية 163. (9) سورة الصافات آية 137، 138. (4) سوة النحل آية 12. (10) سورة العنكبوت آية 43. (5) سورة الزخرف آية 1، 2، 3. (11) سورة البقرة آية 165. (6) سورة الروم آيه 23. (*) / صفحة 385 /
شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (1) ". وقال: " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (2) ". ثم ذم الكثرة فقال: " وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله (3) ". وقال: " ولكن أكثرهم لا يعلمون (4) ". وأكثرهم لا يشعرون (5) ". يا هشام ثم مدح القلة فقال: " وقليل من عبادي الشكور (6) ". وقال: " وقليل ما هم (7) " وقال: " وما آمن معه إلا قليل (8) ". يا هشام ثم ذكر أولي الالباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية، فقال: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالباب (9): يا هشام إن الله يقول: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب (10) ". يعني العقل. وقال: " ولقد آتينا لقمان الحكمة (11) " قال: الفهم والعقل.
.................................
هامش) * (1) سورة الانفال آية 22. ومثلها قوله تعالى في سورة البقرة آية 41، 166. وسورة يونس آية 43 وسورة الفرقان آية 46. وسورة الحشر آية 14. (2) هذه الاية في سورة لقمان آية 24 وفيها " بل اكثرهم لا يعلمون " كما في بعض نسخ الكافي ولعله سهو وغفلة من الراوى أو اشتباه من النساخ. (3) سورة الانعام آية 116. (4) سورة الانعام آية 37. ونظيرها قوله تعالى: " بل اكثرهم لا يعلمون " سورة النحل آية 77 و آية 103. وسورة الانبياء آية 24. وسورة النمل آية 62. وسورة لقمان آية 24. وسورة الزمر آية 30. وكذا قوله تعالى: " بل اكثرهم لا يعقلون " سورة العنكبوت آية 63. وقوله تعالى: " واكثرهم لا يعقلون " سورة المائدة آية 102. (5) مضمون مأخوذ من آى القرآن. (6) سورة سبأ آية 13. (7) سورة ص آية 23. (8) سورة هود آية 42. (9) سورة البقرة آية 272. ونظيرها قوله في سورة آل عمران آية 187. وسورة الرعد آية 19 وسورة ص آية 28 وسورة الزمر آية 12. وسورة المؤمن آيه 56. (10) سورة ق آية 36. (11) سورة لقمان آية 11. إلى هنا في الكافي تقديم وتأخير. (*
.................................... تم
تم
ـ[حبيب]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:50 م]ـ
ان هذه الروايات وامثاله يجب عرضها على كتاب الله تعالى فما وافق يؤخذ به وما خالف فيضرب به عرض الجدا ر
ولكن هذا انما هو معمول به عند الروافض والشيعة اما غيره فلايرى في الرواية مشكلة اذا صح اسنادها مع ان الاسناد غاية ما يعطيه الظن بصحة الصدور , وعندما نرجع الى اليقينيات عندنا فإذا خالفها لايمكن الركون للظن وترك اليقين الراجع الى الضرورات , نعم العقل ليس له الاحاطة بالملاكات الواقعية ولكنه يستطيع ان يدرك القبيح فلايجوز مخالفته.
.............................................
- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقى ج 1 ص 226:
14 - باب حقيقة الحق 150 - عنه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه، عن علي (ع) قال: إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله فدعوه. .............
.................................
- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي ج 27 ص 112:
(33351) 18 - وعنه عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا، أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا، حتى يستبين لكم.
(33352) 19 - قال الكليني في أول الكافي: اعلم يا أخي! أنه لا يسع أحد تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم (عليه السلام) بقوله: اعرضوهما على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه،
.............................. تم
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 11:15 م]ـ
نترك للأخوة الحكم على مدى الحقد لديهم على البخاري ومسلم
ـ[أبو سارة]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 04:07 ص]ـ
الأستاذ حبيب
لقد أسرفت بالقول أي إسراف، وأظهرت من الخطأ مالا تحتمله الأعذار، واعلم يا أستاذ أن المناظرة بين السنة والشيعة لاتصح إطلاقا، لأن الأصول تختلف، إذا لايوجد أصل يُرجع إليه بين الفريقين، ومؤدى هذا أن المناظرة في هذه الحال مستحيلة بل باطلة!
و النقل يا أستاذ حبيب مقدم على العقل، ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدين يؤخذ بالعقل لكان مسح باطن الخُف أولى من ظاهره.
هذا أمر!
والأمر الأهم هو أنك عندما تأتي هنا وتتجاسر على مثل هذه الأقاويل حول كل من صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله، فالمعنى أنك لم تعر أي اهتمام للقراء في هذا المنتدى وجلهم من أهل السنة!
واعلم أنه ليس لدينا عجز لتبيين الأصول الهشة التي بني عليها مذهبكم الذي هو "أوهى من بيت العنكبوت" فضلا عن هذه المسألة التي هي من آحاد مسائل أخرى، لكننا نصفح عن هذه المسائل مراعاة لبعض خواطر الإخوة "أصحاب العقول المعتدلة" من أصحاب مذهبكم، ولا نحب أن نخرج عن أصل منتدى الفصيح، إذ هذه المسائل منثورة في كتب المتقدمين في بسط تعقم أرحام النساء عن الإتيان بمثل الفحول الذين خاضوا بحره.
وحيث أنه تم إغلاق وحذف بعض الموضوعات بسبب تكرار هذه التصرفات منك، لذا أرجو أن تجدد الالتزام بشروط المنتدى في المشاركات القادمة، والأمر بين يديك.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 04:36 ص]ـ
إيه وربي ..
لقد طفح الكيل ..
وكل ما أتيتنا به يا حبيب ما هو إلا زخرفة لا تستحق الجواب ..
ولمثل هذا فليعمل المزخرفون ..
ثم أين الدّين مما تكتب؟
وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟
ولو كان العقل يُكتفى به .. لما كان للوحي فائدة ولا غَناء ..
فالنبي مبعوث يُوحى إليه .. وأما أنت أيها الفيلسوف العقلاني .. فمبعوث إليه ..
وعليك أن تتّبع النبي .. وليس على النبي أن يتبعك .. أنت وترهاتك العقلية ..
فتأمل! واعتبر!
ـ[حبيب]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 04:41 م]ـ
لم تكن مناظرة
لم تكن اهانة للبخاري ولا مسلم ولو تزاحم الامر بين اهانة الانبياء واهانة مسلم وصاحبه فالخيار واضح لاهل الدين
انتم هنا لم تثر حميتكم مطلقا لهذا التجني العظيم على اعاظم الانبياء ولو ان واحدا احتج عليكم برواية صحيحة السند على بسر بن ارطاة او معاوية لضربتم تلك الرواية عرض الحائط.
فالعجب لكم تثور عصبيتكم لبعض صحابة الانبياء ولا تثور حميتكم وغيرتكم للانبياء انفسهم.
اذا كانت لدينا اصول هشة فتعال بينها واعطني الحرية كي انظر فيها وهيهات ان تفعلوا.
القرآن العظيم هو الحكم العدل بيننا والعقل البديهي الفطري.
لقد ذكرت ولكن هيهات ان تطالعوا لمخالفكم جيدا الا حيث تريدون الادانة.
العقل تارة يقال انه يدرك الملاكات الواقعية للاحكام وهيهات ذلك الا ربما نادرا فلايمكنه ان يعرف لم صلاة الصبح ركعتان والظهر اربع.
وتارة العقل يرى الافعال - فيستطيع في الجملة لا بالجملة- ان يدرك قبحها او حسنها.
وانت هنا زعمت ان العقل لايدرك ذلك يعني لو ان احدا احرق نبيا فذراه بعد ان يقطعه اربا اربا ثم يجعله في زق خمر ويشربه لايستطيع ان يدرك العقل قبح هذا الا اذا تدخل الشرع فقال هو قبيح!!!.
ولو ان ان شخصا اكرم عجوزا فأطعمها من جوع وسقاها من ضمأ وكساها من عري وآمنها من ذعر لم يكن ليدرك العقل حسن ذلك لولا تدخل الشرع , هكذا تزعمون؟!؟!.
اذن هذا الموقع السني او الواقع السني لايختلف كثيرا عن الوهابية كي يلتفت المحسنون الظن بكم الى ان الفرق بين ما يسمى باهل السنة لايختلف الا في بعض تراتيش الصورة عن حقيقة الوهابية المعاندين.
فهل هذا الموقع السني يهدد بالطرد شيعيا ثارت غيرته على نبي عظيم نؤمن به ونقدسه
ولا ينبه عضوا سنيا ينقل كلاما فيه توهين عظيم لسادة الانبياء.
لقد اقمنا عليكم الحجة فدين لايؤمن بالعقل رغم مئات الايات الشريفة في كتاب الله تحث عليه!! ما أعجبه؟!؟
دين يقبل بتوهين الانبياء بزعم رواية صحيحة السند التي تعني انكم صدقتم الراوي في الطعن بالنبيين!! ولو جاءكم شيعي ينقل رواية صحيحة السند وكان ثقة قبل ذلك تطعن بشكل واقعي في صاحب صحبة ولو يوما او ساعة اعتمادا على رواية ايضا لسقطت ثقته في النفوس عندكم فشنان والله شتان حيث تسقط ثقوية شخص موثوق اذا نقل رواية صحيحة تطعن بمن لديه صحبة عابرة لنبي ولايسقط لو أ سقط نفس النبي بزعم رواية صحيحة.
يا قوم انتم لا تطيقون عقلا ولا نقلا يخالفكم لقد وجدتم اباءكم هكذا وانتم على اثارهم تهرعون.
فالوداع الوداع قبل ان تهددوا بالطرد وسوف انشر كلماتكم هذه في اعظم شبكات الشيعة (هجر) فيحكموا لي او لكم والله من فوقنا شهيد وهو الحكم العدل سبحانه
فإن كنتم قصرتم واسأتم فغفر الله لكم وان كنت اسأت فاستغفر الله.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 07:49 م]ـ
ما هو دور العقل؟
وما هو دور النقل؟
هما موقفان عند المسلمين--موقف أعطى العقل صلاحية التقبيح والتحسين وهم المعتزلة--وتابعهم على ذلك الشيعة
وموقف جزم بأن القبيح ما قبّحه الشرع والحسن ما حسنه الشرع--وهو موقف أهل السنّة--
حيث دور العقل عندهم هو فهم النصوص ودلالاتها لا التشريع
ويحيّرني موقف الشيعة الذين يمجدون العقل---كيف تقبل عقولهم أن يختفي إمامهم الأخير في سرداب منذ حوالي 1500 عام ولا يزال حيّا فيه؟؟؟
ـ[أبو سارة]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 07:52 م]ـ
أرحب بهذه الموادعة الوديعة
واعلم -هداك الله - أننا لانعرف الأنبياء ولا الرسل إلا عن طريق القرآن و أصحاب الحديث، ونعلم طرق أصحاب الحديث وجهودهم الكبيرة في علم -مصطلح الحديث - بما فيه علم الجرح والتعديل، ونقد الرجال، ولايسعنا إلا أخذها بالقبول، وهذا من صميم الديانة عندنا.
الأمر الآخر هو جهلك بمفهوم "الوهابية" فالوهابية هو "لفظ" يطلقه أعداء أهل السنة للتنفير من دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وماالوهابية إلا السنة على أصولها، أما الجاهل فعليه التحقيق والتمحيص قبل اطلاق الكلام على علاته.
ولكل عاقل أن يسأل نفسه، ماهي المسائل التي تفرد بها الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله - وخالف بها علماء الإسلام؟
الحقيقة ... لاشيء، إذ لم تكن دعوته إلا تجديد للدين على ماقال به العلماء وصحت به الأحاديث، ولم ينفرد عنهم ولو بمسألة واحدة، وإذا كنت تملك مايخالف ذلك، فأفدنا أفادك الله، وإن أصمتك العجز!،فنحن نطالبك بعودة "وديعة" إلى العقل وعدم التفوه بما لم تحط به علما!
وهذه تأصيلات قد تنفعك:
الأصل بالعبادات - يا أستاذ حبيب- التحريم، إلا ما ماجاء عليه دليل من الكتاب والسنة على أنه حلال.
والأصل بالمباحات، أنها حلال، إلا ماجاءت نصوص الكتاب والسنة بتحريمه.
والأصل بالكلام، أنه ممنوع، إلا ماتحققت فائدته والمصلحة في قوله.
ويعلم الله أننا لم ننتقص أحدا من المنتدين بسبب مذهب أو دين، ولم نجبر أحدا على الانقياد لمذهب السنة، ومن لم نجتمع معه على دين أو مذهب، فلا بأس أن نجتمع معه على العلم والمعرفة والإنسانية، ومع هذا فلم نسلم من تطاولات بعض الأشقياء الزائغين.
والله المستعان(/)
نظرية الاوتار الفائقة هل هي من الاعجاز القراني؟
ـ[الثعالبي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 08:26 م]ـ
مقالة تتحدث عن نظرية جديدة في العلم ... يرى الكاتب انه ربما يدعي اصحاب الاعجاز ان اصلها في القران ..
عنوان المقالة:
نظرية الاوتار الفائقة ... سبقناهم
للكاتب عزيز ابوخلف
http://www.saaid.net/arabic/56.htm
جاء في المقالة:
شهد العلم الحديث تطورات هائلة في أفكاره كان بعضها أشبه بالثورات العارمة، وقد صاحب ذلك اختراعات واكتشافات لا تقل أهمية عن النظريات التي أسست لها أو انبثقت عها. واكثر ما يشغل العلم ولا يزال تركيب الكون والقوانين التي تحكمه، حيث انطلق من تأملات الأقدمين مروراً بقوانين الحركة والنظرية الذرية واجزاء الذرة والنسبية والكوانتا والحقول، وأخيرا، وربما آخراً!، نظرية الاوتار الفائقة. وقلنا آخراً ولم نقل وليس آخراً، لأن من أبدع هذه النظرية يرى أنها تفسر كل شيء أي هي بمثابة النظرية الأم. ولكن لا تتعجلوا، وكالعادة ووفق قاعدة سبقناهم، فلن نعدم من يزعم ان علماءنا أشاروا أو نبهوا إلى هذه النظرية كما نبهوا إلى غيرها. وأيضا لن نعدم جانباً من الإعجاز العلمي سبقناهم إليه في آيات القرآن أو أحاديث المصطفى عليه السلام.
ما هي نظرية الاوتار الفائقة؟
نظرية الأوتار الفائقة superstring theory هي أفكار جديدة حول تركيب الكون من إبداع الفيزياء النظرية، تستند في صلبها إلى معادلات رياضية معقدة، تحاول تفسير أمور مجربة. تقول هذه النظرية ان الأشياء مكونة من أوتار حلقية أو مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات يتحدد بناء عليها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والالكترون وغيرها. وتكمن ميزة هذه النظرية في أنها تأخذ في الحسبان كافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الأم.
الكون في تصور هذه النظرية هو عالم ذو عشرة أبعاد، على خلاف الأبعاد الأربعة التي نحس بها. ويقول أصحاب هذه النظرية بأن الأبعاد الأخرى متكورة على نفسها فهي غير محسوسة لنا، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل كميات هائلة من الطاقة تحتاج إلى مسرعات نووية بحجم المجرة!. فهذه النظرية تقدم تصوراً جميلاً للكون ضمن إطار موسيقي يقول لنا بأن كل شيء هو نتاج نغمات وذبذبات لأوتار صغيرة. ما نحن إذاً إلا نتاج الموسيقى وفق هذه النظرية الحديثة. ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه النظرية هي نظرية في حد ذاتها، أي ليست تخبر عن واقع تجريبي، والتأكد منها يحتاج إلى جهود جبارة من الطاقة توازي ما حدث في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم.
تابعوا بقية المقالة على الرابط اعلاه.
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 09:30 م]ـ
حتّى الآن هي نظرية---فلينتظر هذا الكاتب---وسواء ثبتت أو لم تثبت فليس القرآن كتاب علم ولا فيزياء
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 12:38 ص]ـ
أيها الناس القرآن كتاب هداية ونور وتشريع، بلسان عربي مبين، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولاخلفه.
وهو معجز ببلاغته على اغلب الأقوال، وهو ما نؤمن به، والقرآن ليس بمائل ويحتاج إلى ترهات علمية تسنده حتى لا يقع -- حاشا لله --. القرآن حق مبين وقول متين، ونور جاء من عند رب العالمين، على يدي الهادي الأمين، نقطة انتهى.
ـ[الثعالبي]ــــــــ[26 - 10 - 2005, 08:20 م]ـ
شكرا للاخوين جمال وموسى ..... لكن من الواضح ان الكاتب لا يتبنى النظرية ولكنه استخدم اسلوب التهكم بان بعض المسلمين قد يسارع ويتبنى النظرية على راي من يقول: سبقناهم!
لكنه يشن هجوما على نظرية الجوهر الفرد اليونانية كما قال فقد تبناها المسلمون من قبل ولم تات بنتيجة مفيدة.
اخي جمال وانت اشعري هل ترى ان نظرية الجوهر الفرد قد انتهت فعلا؟
وما بال منتدى الاصلين قد اغلق ابوابه هذه الايام؟
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[26 - 10 - 2005, 09:16 م]ـ
# أخي الثعالبي---الموقع من شأنه مناقشة التفسيرات والنقاط البلاغيّة في الآيات
ولا شأن له بمناقشة الأراء المتعلقة في بنية الكون
# أنا لا أستطيع الإنفكاك عن طريقة تفكير الغالبية العظمى من علماء هذه الأمة
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 04:51 ص]ـ
أخي الثعالبي
وضعت نظرية الأوتار لجمع نضريه الكم مع نظريه أينشتاين
وسقطت نظربه الأوتار منذ زمن بعيد
و الآن تدرس مره تانيه مدارس جديده وقديمه في نظريات علماء الروس
وعليك بكتابات هوبكنز لعلها تفيدك
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 05:22 ص]ـ
كلام غريب جدا--لم أسمع به وأنا الخبير في علم الفيزياء
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 05:36 م]ـ
أسف هوكنك(/)
::: روعة البلاغة النبوية:: (هل من مساعد لي)
ـ[كل الزين]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 10:58 م]ـ
:::
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 00شكرا لكل القائمين على هذا الصرح الرائع، والمفيد، واثابكم الله على مساعداتكم في تسهيل العلوم وتوصيلها وشرحها 00
000000000000000000000000000000000
البيان النبوي يقف على قمة البيان البشري , لانه مقتبس من بيان القرآن الكريم 00
والبلاغة النبويه ماده تتعلق بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وتدرس المعاني البليغة في حديثه _صلى الله عليه وسلم _ 00
فأطلب ممن يجد الإستطاعه لمساعدتي بذكر:/
* أسماء مراجع ومصادر تفيد هذه المادة وتخدم هذه المادة0
* او موضوع متعلق بمادة البلاغة النبوية 0كأن يشمل على حديث ومن ثم شرح بلاغته ومعانيه البليغه
وطريقته:= في عرض هذه المعاني البليغه0
وأسال الله العلي العظيم أن يجعل مساعدتكم لي بموازين أعمالكم 0
وشكرا ( ops
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 11:13 م]ـ
الإيضاح في علوم البلاغة
جلال الدين القزويني
تجده كاملا في موقع الورّاق
http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=308&page=1
في كلّ باب فيه يتناول حديثا أو حديثين فعليك به
مثال منه
(روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحدكم إذا تتصدق بالتمرة من الطيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - جعل الله ذلك في كفه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد ". والمعنى فيهما على انتزاع الشبه من المجموع، وكل هذا يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة)
ـ[كل الزين]ــــــــ[24 - 10 - 2005, 11:21 م]ـ
شكرا لك أخي العزيز 00
واذا كانت هناك اضافات من الإخوان فلامانع:)
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 12:23 ص]ـ
لا كمال وراء قول جمال **** حقاً وصدقاً ذاك محال(/)
من يجيب؟
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 01:40 ص]ـ
ما هي اسرار البلاغة في هذه الآية الكريمة؟
قال تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (27) السجدة.
من لها يا أيها الفصحاء؟
موسى
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 02:53 ص]ـ
أولاً:
يروا - نسوق - نخرج - تأكل: جاءت الأفعال الأربعة مضارعة للمطابقة لمقتضى الحال.
أولم يروا: استفهام تقريري وإلزامي.
نسوق: آثر المضارع لأن سوق الماء يتكرّر دائماً حسب حاجة العباد وتدبير الله الحكيم.
نخرج: آثر المضارع لإفادة التجدّد والتكرار.
تأكل: آثر المضارع للتكرار لأن المقام من أغراضه الامتنان، وهو يقتضي تكرار الانتفاع بالنعمة.
ثانياً:
أنا نسوق الماء: توكيد بـ (إن) واسمية الجملة لأن مضمونه حقيقة عظيمة راسخة فعبّر عنها بأسلوب عظيم مثلها.
زرعاً: جاءت منكرة للتكثير والتعظيم والتنويع بدلالة المقام.
تأكل منه أنعامهم وأنفسهم: قدّم الأنعام على الأنفس لأن الأنعام تنتفع بها الأنفس فهي ثمرة من ثمرات الماء والزرع.
ثالثاً:
أفلا تبصرون: بخلاف الآية التي سبقتها (أفلا تسمعون)، ختمت فاصلة هذه الآية بـ (أفلا تبصرون)، لأنه لما كانت الرؤية في صدر الآية بصرية ناسب أن تكون الفاصلة (يبصرون).
والله أعلم(/)
دراسات وأبحاث قرآنية
ـ[محبة العربية]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 01:50 ص]ـ
هنا بحث عن أسرار الأسماء في القرآن وبحوث أخرى
بحوث ودراسات ( http://www.islamnoon.com/studies.html)
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[25 - 10 - 2005, 08:48 ص]ـ
الأخت الكريمة محبة العربية، الموقع اسمة (نون)، وهو موقع لبحوث ــ ترهات ــ الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وقد كان لي تعليق حول هذا الموضع البارحة. شاكرون لك حُسن النوايا.
وإليك النص:
أيها الناس القرآن كتاب هداية ونور وتشريع، بلسان عربي مبين، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولاخلفه.
وهو معجز ببلاغته على اغلب الأقوال، وهو ما نؤمن به، والقرآن ليس بمائل ويحتاج إلى ترهات علمية تسنده حتى لا يقع -- حاشا لله --. القرآن حق مبين وقول متين، ونور جاء من عند رب العالمين، على يدي الهادي الأمين، نقطة انتهى.
ـ[معالي]ــــــــ[08 - 11 - 2005, 07:55 ص]ـ
والقرآن ليس بمائل ويحتاج إلى ترهات علمية تسنده حتى لا يقع -- حاشا لله --. القرآن حق مبين وقول متين، ونور جاء من عند رب العالمين، على يدي الهادي الأمين.
أستاذنا الفاضل ..
أفهم من قولك هذا أن لكم نظرة خاصة في ما يُعرف بـ (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) ..
ولأني قرأتُ في فترة غابرة آراءً حول الإعجاز العلمي والبحوث الصادرة عن هيئة الإعجاز العلمي ترى فيها ليًّا لأعناق بعض النصوص خدمة للإعجاز العلمي، إلا أن ما قرأته قد علاه الغبار بفعل تقادم العهد!!
فلو أشرت_وفقك الله_ لهذه الآراء التي ذكرتُ ..
لقلمك السيال وفكرك المتوقد
تحية تليق بهما
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[08 - 11 - 2005, 03:25 م]ـ
فلو أشرت_وفقك الله_ لهذه الآراء التي ذكرتُ ..
لقلمك السيال وفكرك المتوقد
تحية تليق بهما
الأخت الكريمة معالي (مكة زادها الله تكريما) حفظك الله بحفظه.
الحق أُخيتي أنك قد أخجلتي تواضعي، فلست إلا طالب علم، أكد لكي ألحق بركب العلماء، والصالحين.
ومن بعد:
فإن موضوع الإعجاز وبخاصة الإعجاز العلمي والعددي وغيرها، سأضمنها بحثي الموسوم بـ إعجاز القرآن / دراسة استطلاعية.
وذلك في حينه، وبارك الله جهودك، أيتها الأخت الكريمة. معالي مكة.
ـ[معالي]ــــــــ[08 - 11 - 2005, 06:59 م]ـ
أستاذنا الكريم ..
بلغكم الله اللحاق بالركب الذي تحبون ..
لعلكم قصدتم ببحثكم الذي ذكرتم ما هو موجود في هذا الرابط:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=8540
أتابع الموضوع هناك باهتمام بالغ ..
لعلكم تكملون مابدأتموه ..
بارك الله فيكم وجزاكم خيرًا
فيض تحية(/)
أعينوني .. أعانكم الله.
ـ[الموسوعة]ــــــــ[26 - 10 - 2005, 08:33 م]ـ
:::
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أعزائي ..
ماهي المراجع التي قد تفيدني لكتابة بحث عن بلاغة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وبالأخص (التكرار المعنوي) في حديثه ..
ـ[الموسوعة]ــــــــ[30 - 10 - 2005, 08:38 م]ـ
;)
أين أنتم؟؟
ـ[أبو سارة]ــــــــ[31 - 10 - 2005, 04:28 ص]ـ
المراجع هي: كتب الحديث، وما أكثرها(/)
مساعدة
ـ[الكاتبة]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 05:24 ص]ـ
مرحبااااااااااأعزائي .. عزيزاتي
أرجو مساعدتي حول المقصود بالتضمين؟
كما أتمنى إرشادي حول مراجع عن دلالات الأساليب النحوية كالشرط / استخدان صيغ جمع المؤنث السالم؟
وشكراااااا لكم
الكاتبة
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 07:29 ص]ـ
أنقل لك ما جاء عند القزويني وإن شئت نتحاور
(التضمين:
وأما التضمين فهو أن يضمن الشعر شيئاً من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء، كقول بعض المتأخرين قيل هو ابن التلميذ الطبيب النصراني:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراكب عرف المحل فبات دون المنزل البيت الثاني لمسلم بن الوليد الأنصاري وقول عبد القاهر بن طاهر التميمي
: إذا ضاق صدري وخفت العدى تمثلت بيتاً بحالي يليق
فبالله أبلغ ما أرتجي وبالله ادفع ما لا أطيق
وقول ابن العميد:
وصاحب كنت مغبوطاً بصحبته دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريح إقبال فطار بها نحو السرور وألجاني إلى الحزن
كأنه كان مطوياً على إحن ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
لا تعاد الناس في أوطانهم قلما ترعى غريب الوطن
وإذا ما شئت عيشاً بينهم خالق الناس بخلق حسن
البيت لأبي تمام وكقول الحريري:
على أني سأنشد عند بيعي أضاعوني وأي فتى أضاعوا
المصراع الأخير قيل هو للعرجي وقيل لأمية بن أبي الصلت، وتمام البيت: ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا حاجة إلى تقديره لتمام المعنى بدونه، ومثله قول الآخر
: قد قلت لما أطلعت وجناته حول الشقيق الغض روضة آس
أعذاره الساري العجول ترفقاً ما في وقوفك ساعة من باس
المصراع الأخير لأبي تمام، وكقول الآخر
: كنا معاً أمس في بؤس نكابده والعين والقلب منا في قذى وأذى
والآن أقبلت الدنيا عليك بما تهوى فلا تنسني إن الكرام إذا
أشار إلى بيت أبي تمام ولا بد من تقدير الباقي منه لأن المعنى لا يتم بدونه، وقد علم بهذا أن تضمين ما دون البيت ضربان وأحسن وجوه التضمين أن يزيد المضمن في الفرع عليه في الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه في قول صاحب التحبير:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي مجر عوالينا ومجرى السوابق
المصراعان الأخيران لأبي الطيب، ولا يضر التغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام كقول بعض المتأخرين في يهودي به داء الثعلب:
أقول لمعشر غلطوا وغضوا عن الشيخ الرشيد وأنكروه
هو ابن جلا وطلاع الثنايا متى يضع العمامة تعرفوه
البيت لسحيم بن وثيل، وأصله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني وربما سمي تضمين البيت فما زاد استعانة وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعاً وتارة رفواً.)
------------------------------------------------------------------
الإيضاح في علوم البلاغة
جلال الدين القزويني
ـ[د. حقي إسماعيل]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 01:36 م]ـ
أنقل لك ما جاء عند القزويني وإن شئت نتحاور
(التضمين:
وأما التضمين فهو أن يضمن الشعر شيئاً من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء، كقول بعض المتأخرين قيل هو ابن التلميذ الطبيب النصراني:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراكب عرف المحل فبات دون المنزل البيت الثاني لمسلم بن الوليد الأنصاري وقول عبد القاهر بن طاهر التميمي
: إذا ضاق صدري وخفت العدى تمثلت بيتاً بحالي يليق
فبالله أبلغ ما أرتجي وبالله ادفع ما لا أطيق
وقول ابن العميد:
وصاحب كنت مغبوطاً بصحبته دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريح إقبال فطار بها نحو السرور وألجاني إلى الحزن
كأنه كان مطوياً على إحن ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
لا تعاد الناس في أوطانهم قلما ترعى غريب الوطن
وإذا ما شئت عيشاً بينهم خالق الناس بخلق حسن
البيت لأبي تمام وكقول الحريري:
على أني سأنشد عند بيعي أضاعوني وأي فتى أضاعوا
المصراع الأخير قيل هو للعرجي وقيل لأمية بن أبي الصلت، وتمام البيت: ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا حاجة إلى تقديره لتمام المعنى بدونه، ومثله قول الآخر
(يُتْبَعُ)
(/)
: قد قلت لما أطلعت وجناته حول الشقيق الغض روضة آس
أعذاره الساري العجول ترفقاً ما في وقوفك ساعة من باس
المصراع الأخير لأبي تمام، وكقول الآخر
: كنا معاً أمس في بؤس نكابده والعين والقلب منا في قذى وأذى
والآن أقبلت الدنيا عليك بما تهوى فلا تنسني إن الكرام إذا
أشار إلى بيت أبي تمام ولا بد من تقدير الباقي منه لأن المعنى لا يتم بدونه، وقد علم بهذا أن تضمين ما دون البيت ضربان وأحسن وجوه التضمين أن يزيد المضمن في الفرع عليه في الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه في قول صاحب التحبير:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي مجر عوالينا ومجرى السوابق
المصراعان الأخيران لأبي الطيب، ولا يضر التغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام كقول بعض المتأخرين في يهودي به داء الثعلب:
أقول لمعشر غلطوا وغضوا عن الشيخ الرشيد وأنكروه
هو ابن جلا وطلاع الثنايا متى يضع العمامة تعرفوه
البيت لسحيم بن وثيل، وأصله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني وربما سمي تضمين البيت فما زاد استعانة وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعاً وتارة رفواً.)
------------------------------------------------------------------
الإيضاح في علوم البلاغة
جلال الدين القزويني
الأخت السائلة الكريمة.
الأخ الأستاذ جمال حسني الشرباتي.
في ما يخص سؤالك، وفي ما يخص إجابتك، كانت الإجابة على غير المطروح في السؤال، فالسؤال جلي في ميدان النحو، والإجابة جلية أنها في ميدان البلاغة والأدب، وهنا اختلف المستويان، وسأفيدك أختي الكريمة.
التضمين اصطلاح نحوي ظهر في القرن الأول الهجري، ثم توسع حتى استعمله البصريون والكوفيون على السواء، ثم انطمر هذا الاصطلاح عند البصريين، واستبدله الكوفيون بمصطلح (إشراب) على أن تُشرب الكلمة معنى كلمة أخرى في تصنيفها النحوي (للاستزادة راجعي كتاب المطالع السعيدة في شرح الفريدة للسيوطي 911 هجري).
أخي جمال.
صحيح أن البلاغة تمثل الطراز العالي في النحو، لكن هذا في باديء الدراسات، أما اليوم فقد اختلف الوضع وصار لكل علم اتجاهاته وأسسه وقواعده وأصوله .... وإجابتك جاءت متداخلة ..
أختي الكريمة ... سأجيبك عن باقي السؤال اليوم بإذن الله لآني سأدخل محاضرة الآن ...
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 02:28 م]ـ
الأخ الطيب المجيب
لا يمكن حتّى لأفضل النابهين وأرقاهم أن يعرف مقصودها---
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 04:04 م]ـ
الأخ الدكتور الطيّب المحترم
تبين لي الموضوع بعد مراجعة ابن هشام "مغني اللبيب"
ولقد عقد فصلا سمّاه (قد يُشربون لفظاً معنى لفظ
فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً
وناقش فيه الأمثلة التالية
# قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهمْ الى أموالكم) فهنا ضمن الأكل معنى الضم--قال (أي ولا تضموها إليها آكلين)
# قوله تعالى (الرَّفَث الى نِسائكمْ) فتعدية الرفث بإلى ضمنه معنى الإفضاء لأنّ الأصل به أن يعدّى بالباء
# وقوله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح) والأصل هو " عزم على" فلمّا عدي بنفسه أشرب العزم معنى النيّة
أرجو أيّها الدكتور الفاضل أن تبين لي الخيط الرفيع بين النحو والبلاغة لأنّي ما رأيت في هذه الأمثلة غير البلاغة
ـ[د. حقي إسماعيل]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 06:14 م]ـ
الأخ الكريم الأستاذ جمال.
تحية لا أضمر فيها شيئا، ولا يحمل كلامي أي تورية.
قلت: (لا يمكن حتّى لأفضل النابهين وأرقاهم أن يعرف مقصودها) وأعتقد ليس لك الحكم على الآخرين؛ لأنك لا تعرفهم، وربما قست هذا الكلام على نفسك؛ لأن الكلام صفة المتكلم، وأتمنى أن تكون من النابهين وأرقاهم.
وقلت: (أرجو أيّها الدكتور الفاضل أن تبين لي الخيط الرفيع بين النحو والبلاغة لأنّي ما رأيت في هذه الأمثلة غير البلاغة)
قلت أيها الدكتور الفاضل وكان الأفضل أن تذكر الاسم بدل كلمة أيها التي تثير الاستغراب والاشمئزاز، لأن لكل حديث أصوله والنبي (صلى الله عليه وسلم) دفع إلى التصريح وليس الكناية، ومن المعقول أن نلتزم بأقواله وأفعاله ومن يخالفها؟؟؟؟؟؟؟؟، وإذا أردت أن تعرف الخيط الرفيع بين البلاغة والنحو ـ وبين يديك كتاب الإيضاح للقزويني ومغني اللبيب لابن هشام ـ ولم تستطع أن تستخرج الفرق فتلك ـ لعمري ـ مصيبة المصائب.
شكرا لك، ويبدو أنك من الأعلام التي تتهافت إليها الناس. أكتفي بهذا الرد
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 07:18 م]ـ
أخي الدكتور الفاضل حقي
# أحبّ أن تعلم علم اليقين أنني طالب علم في بداية الطلب مع أنني بلغت من الكبر عتيّا
# عندما استفسرت عن الخيط الرفيع بين البلاغة والنحو كنت أستفسر صدقا وحقّا فقد رأيت من الأمثلة المعروضة في كتاب المغني نماذج راقية على البلاغة فأحببت أن أستفسر منك
# نسيت أن أرحب بك في ملتقى أتمنى أن تغمرنا فيه بمشاركاتك الماتعة
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[د. حقي إسماعيل]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 10:20 م]ـ
أخي الأستاذ جمال.
ما بودك أن تسأل عنه فسل، وسأجيب بما عرفني ربي.
شكرا لترحيبك، وكلنا لم نخط الخطوة الأولى بعد
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 10:40 م]ـ
بارك الله بك أخي الدكتور الفاضل-
-وما زلت على عدم التيقن من قضيّة التضمين بمعنى أن تجعل الكلمة تؤدّي معنيين--هل هي قضيّة لغوية نحوية---أم بلاغيّة
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 10:56 م]ـ
لقد اختلف البلاغيون والبيانيون في هذه المسألة النحوية البيانية.
فهل الأفعال والحروف ينوب بعضُها عن بعض؟ أو يتضمّن بعضُها بعضاً؟ أو لا ينوب ولا يتضمّن، وإنما لكل فعل أو حرف معنى محدّد؟
المقصود بالتناوب - هنا - أن ينوب فعل مذكور عن فعل غير مذكور في المعنى وفي العمل النحوي، فيؤدّي الفعل المذكور معنى وعمل الفعل غير المذكور. وأن ينوب الحرف المذكور عن حرف غير مذكور، فيؤدّي معناه ويعمل عمله.
وأما التضمين فهو أن يؤدّي الفعل أو الحرف المذكور معناه ويعمل عمله، ويؤدّي بالإضافة إلى ذلك معنى وعمل فعل أو حرف آخر.
فانقسم البيانيون من النحويين والبلاغيين أمام هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب:
أصحاب المذهب الأول: نفوا التناوب بين الأفعال والحروف، كما أنهم نفوا التضمين أيضاً، وذهبوا إلى أن كل حرف يؤدّي معناه، وكل فعل يؤدّي معناه. ويمثل أصحاب هذا المذهب الدكتور محمد عواد - أستاذ النحو في كلية الآداب بالجامعة الأردنية، وله كتاب بحث فيه هذه المسألة بعنوان " تناوب حروف الجرّ في لغة القرآن ".
أصحاب المذهب الثاني: قالوا بالتناوب بين حروف الجر في القرآن الكريم. وجلّ من يمثّل هذا المذهب الكوفيون ومَن معهم - مثل ابن هشام الأنصاري الذي مال إلى ذلك في " مغني اللبيب "، ومثل عباس حسن في كتابه الجامع " النحو الوافي ".
أما أصحاب المذهب الثالث: فنفوا القول بالتناوب، واستعاضوا عنه بالقول بالتضمين. ويمثّل هذا المذهب البصريون ومَن معهم من جمهور النحويين والبلاغيين، مثل ابن جنِّي وأبي هلال العسكري وأبي سليمان الخطابي وابن تيمية وابن القيّم. كما ودافعت عنه وانتصرت له - في العصر الحديث - الدكتورة عائشة عبد الرحمن - بنت الشاطيء. وضرب الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي أمثلة رائعة لمسألة التضمين في كتابه القيّم " إعجاز القرآن البياني ".
وفي هذا الرابط تجد مثالاً موضحاً لهذه المسألة من القرآن الكريم ( http://www.alfaseeh.net/vb/showpost.php?p=41438&postcount=20)
ـ[الكاتبة]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 01:20 ص]ـ
إلى أخوتي الأعزاء ...
شكرا لمروركم الجميل وحواركم الأجمل .. في الحقيقة أود أن أوضح أمرا حول سؤالي الأول وهو التضمين وكنت أريد به الجانب البلاغي وكانت إجابة أخي جمال كافية شافية ألا أني أردت مرجعا من المراجع الحديثة وليست التراثية القديمة ..
وأعتذر عن اللبس الناتج عن عدم توضيحي عن المقصود من الجانب البلاغي أم الجانب النحوي؟؟؟
ولكم خالص الود والتقدير
الكاتبة
ـ[أنا البحر]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 02:07 ص]ـ
كما أتمنى إرشادي حول مراجع عن دلالات الأساليب النحوية كالشرط / استخدان صيغ جمع المؤنث السالم؟
ننتظر مع السائلة إجابة هذا الشق من السؤال.
ـ[الكاتبة]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 04:35 ص]ـ
يعطيك العافية مشرفتنا / أنا البحر(/)
قال تعالى"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ....... *
ـ[عزام محمد ذيب الشريدة]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 10:11 ص]ـ
قال تعالى:"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون."* (اّل عمران 55)
قوله تعالى" إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا " يترتب من العام إلى الخاص، لأن الله أراد أن يطهره فأبعده من جوارهم، فقام برفعه إلى السماء، فالتطهير نتيجة والرفع سبب، وقد ربط الله سبحانه وتعالى بين السبب والنتيجة، والتطهير يكون للحي وليس للميت، ثم رفعه الله إليه، فيكون الله قد عصمه من أن يقتله الكفار، ثم يتوفاه الله، وقد جاء هذا العدول من أجل أمن اللبس.
ويؤيد هذا ما قاله تعالى في سورة النساء" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ........... وما قتلوه يقينا"* وقوله تعالى"بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما".* (النساء157 - 158) فالقراّن الكريم لا يناقض بعضه بعضا.
والله أعلم
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 10 - 2005, 07:22 م]ـ
لو سمحت يا أخ عزّام---أرجو أن تزيدنا من علمك حول هذا الموضوع
ـ[عزام محمد ذيب الشريدة]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 01:33 م]ـ
أخي جمال
الأمور التي ذكرها الله تعالى في هذه الأية لا يمكن أن تحدث دفعة واحدة مما يعني وحود الترتيب بينها، فقوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون."* (اّل عمران 55) يترتب من العام إلى الخاص، عدولا عن الأصل، والأصل أن تترتب بالزمن من الخاص إلى العام كالتالي: إذ قال الله يا عيسى إني جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ومطهرك من الذين كفرواورافعك إليّ و متوفيك ....... "ولكن مجيء الأصل هذا يجعل عمليتي الرفع والوفاة بعدعملية التطهير ومسببتين عنها، وليس معقولا أن يطهره الله ثم يقوم برفعه ووفاته. وكيف يطهره إن لم يكن قد رفعه؟ والصحيح هو العكس حيث رفعه الله فحصلت له عملية التطهير، فالتطهير مسبب عن الرفع والرفع سابق للتطهير.
وإذا كانت الوفاة قد تمت قبل عملية التطهير، فكيف يطهره الله إن كان قد توفاه؟ وما الحكمة من رفعه بعد الوفاة؟ ولماذا يرفعه إن كانت عملية التطهير قد تمت قبل الرفع؟.
كما كان في تأخير قوله تعالى"إلى يوم القيامة" اتصال مع قوله"ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم.
والله أعلم
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 04:06 م]ـ
# قولك (وكيف يطهره إن لم يكن قد رفعه؟) لا محل له فلا يعجزه عز وجل أن يطّهره دون أن يرفعه--لكنّي فهمت مقصودك بكون التطهير مسبب عن الرفع --فهو رفع ليتطهر
# المهم--افهم من كلامك أنّك تقول برفعه حيّا ثمّ وفاته"موته" بعد رفعه--أليس كذلك؟؟
# ألا يمكن أن تكون متوفيك بمعنى موفيك أي معطيك ما تستحقه كاملا؟؟
# ألا يمكن أن يكون التطهير بمعنى منع تدنيس الكفّار لجسده الكريم إن تمكّنوا منه--بالتالي فالرفع تطهير بمعنى منعهم من تدنيسه؟؟؟
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 07:28 م]ـ
الحق أن المفسرين قد اختلفوا في تفسير هذه الآية أيّما اختلاف.
فبينا لنا يرحمكما الله.
ـ[عزام محمد ذيب الشريدة]ــــــــ[30 - 10 - 2005, 10:25 ص]ـ
أخي جمال:
قال تعالى قبل هذه الأية"ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
فرفع الله لسيدنا عيسى هو عبارة عن رد من الله على مكرهم، ولهذا رفعه إليه من أجل أن يبعده عنهم، وحتى يعصمه منهم.
والله أعلم
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 08:19 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مهمة رسالة المسيح عليه السلام لو عرضت على أي حكيم لم يسبق له أن قرأ القرآن لأدرك أن من تمام الحكمة أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه وذلك بناء على بديهيات تفرضها الحكمة ألخصها كما يلي:
(يُتْبَعُ)
(/)
1) إن الله عزيز حكيم، والعزيز الحكيم إذا أراد أن يبرز قدرته فإنه يبرزها على أتم وجه وبكل الفرضيات الممكنة، لو كان إظهار الحق في أية قضية يتم بأكثر من حل وجاء بحل واحد فقط فكأنه أتى بنصف الحقيقة وليس كل الحق، ومن يأتي بنصف الحقيقة لا يعتبر حكيما، والله سبحانه هو العزيز الحكيم إذا قضى أمرا فإنه يقضيه على التمام والكمال.
رسالة المسيح عليه السلام أبرز الله بها للناس حتمية قيام الساعة،
والذي ينكر الساعة ما أنكرها إلا لأنه كذب بحياة أخرى بعد الموت، فبعث الله عيسى عليه السلام بمعجزة إحياء الموتى كبرهان على أن الساعة حق: (وإنه لعلم للساعة)، فمن يقول: أإذا كنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون خلقا جديدا؟ أجابهم الله بأن جعل المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.
والإنسان لو تفكر في نفسه أنه لم يكن شيئا مذكورا قبل أن يأتي إلى الوجود لما أنكر البعث، والبعث هو إعادة الحياة بتجميع ما بلي، فهو أهون من الخلق من عدم. ولقد نبه الله على ذلك في آخر سورة القيامة بسؤال: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ثم أعقب ذلك بسؤال فيه الإجابة فقال: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟
فحتى هذه المسألة نجد أن الله ضربها مثلا في المسيح نفسه، فهو عليه السلام لم يكن شيئا مذكورا ثم كان بكلمة الله (كن). أما نحن فكنا نطفة من مني يمنى.
إذن فقد ضرب الله مثلا بعيسى وما جاء به للحياة بعد الموت ليعلم الإنسان أن الساعة حق، وفي ذلك يقول تعالى: وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم.
نأتي الآن إلى معجزة إحياء الموتى.
هذه القضية لها فرضيتان، وذلك لأن الإنسان الحي هو: عنصر أرضي (جسد) + عنصر سماوي (روح).
الحياة تنشأ بإحدى الطريقتين:
1) نزول الروح من السماء لتحل في الجسد.
2) صعود الجسد إلى السماء لتحل فيه الروح.
والله تعالى (عزيز حكيم)، والحكمة تقتضي أن يتم الأمر بكل الافتراضات الممكنة لإحقاق الحق كله.
أما إحياء الموتى بنزول الروح من السماء لتحل في الجسد، فقد حققه الله لرسوله عيسى عليه الصلاة والسلام.
وأما إحياء الموتى بصعود الجسد إلى السماء لتحل فيه الروح. فذلك رفعة وتشريف لا ينبغي أن يكون إلا لمن كان عند الله وجيها، والحكمة تقتضي أن يري الله الآية لعيسى في نفسه كما رآها تحقق في الآفاق (في غيره).
كنت قد كتبت عن هذا الموضوع في الرابط التالي:
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=2191&highlight=%DE%C7%E1+%C7%E1%E1%E5+%DA%ED%D3%EC+%C5%E4%ED+%E3%CA%E6%DD%ED%DF
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 10:39 ص]ـ
الأخ الحسن
هل تقصد أنّ الله عز وجلّ قد توفّاه بمعنى قبض روحه ثمّ رفع جسده إلى السماوات العلى وهناك أعاد إليه روحه؟؟
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 11:13 ص]ـ
نعم يا أخي جمال، أقصد أن المسيح عليه السلام رفع إلى السماء: الروح عرجت بقانونها، والجسد لوحده، ثم عند وصولهما أعيدت الروح إلى الجسد، فهو حي في السماء.
وما من رسول إلا ويؤتيه الله آية في نفسه تطابق آيته للناس.
آية موسى عليه السلام لفرعون هي العصا، وآيته في نفسه هي اليد تخرج بيضاء من غير سوء.
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 01:33 م]ـ
أخي الحسن
الحقيقة أنّ الرفع للروح أولا ثمّ للجسد ثانيا مما لا دليل عليه ولا يؤيده النص---لأنّ الضمير في " رافعك " راجع إلى عيسى بلا شك وعيسى كلّ متكامل جسد وروح --فالرفع لهذا الكل في آن واحد--ثمّ مسألة إعادة الحياة لجسد عيسى في الأعلى مما لا دليل عليه أيضا
ما المسوغ ليتم فصل روحه عن جسده في الدنيا فيرفع الروح ثمّ يرفع الجسد ليعيد المولى وصلهما في السماوات العلى---؟؟
أليس مقنعا أكثر أن يتم رفع لعيسى جسدا وروحا في نفس الوقت؟؟
أعذرني فإمّا أن تدعم كلامك بأدلّة يطمئن لها المرء أو تلتزم برأي أفذاذنا في المسألة
ـ[سليم]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 06:48 م]ـ
السلام عليكم
الاخ جمال احسنت في ردك وكعادتك دائماً تأتينا بالاجود, وسؤالي للاخ الحسن الهاشمي ما هو دليلك على ان الله عزوجل رفع روح المسيح عليه السلام ومن ثمه جسده ,وما هي حكمة الله في ذلك؟؟؟
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[02 - 11 - 2005, 10:20 ص]ـ
اقتباس:
=======================================
أخي الحسن
الحقيقة أنّ الرفع للروح أولا ثمّ للجسد ثانيا مما لا دليل عليه ولا يؤيده النص---لأنّ الضمير في " رافعك " راجع إلى عيسى بلا شك وعيسى كلّ متكامل جسد وروح --
==================================
أخي جمال: كل عام وأنت بخير.
جوهر الإنسان هو الروح، ألم تر أن الله لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم إلا بعدما نفخ فيه الروح؟
هل المصباح هو الطاقة أم الكهرباء هو الطاقة؟
المصباح ما هو إلا واسطة يرى بها أثر الطاقة، وانكسار المصباح لا يعني أن الطاقة لم تعد موجودة.
كذلك فإن الروح هو العنصر العاقل، أما الجثة بدون روح فهي شيء ميت لا يسمع ولا يرى ولا يعقل ولايحس ...
إذن ففقدان الحياة لا تعني انتهاء الإنسان كليا وإنما الذي انتهى هو جسده، فهو باق بروحه، يفهم عن الله، فإذا تكلم الله عن أرواح الناس أو خاطبها فإنه يتكلم معها بالضمير كما لو أنهم أحياء بأجسادهم.
قال تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح (لهم) أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين.
لاحظ ما بين القوسين: (لهم)، لم يقل الله: لا تفتح (لأرواحهم)، مع أن الآية تتكلم عن أرواح الكافرين التي لا تفتح لها أبواب السماء.
وهذا مثل آخر:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل (أحياء) عند ربهم (يرزقون)، (فرحين) بما (آتاهم) الله من فضله (ويستبشرون) بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
لاحظ ما بين الأقواس: (يرزقون)، تكلم الله عنهم بالضمير كما لو أنهم بأجسادهم مع أنهم بلا أجساد، ونفس الكلام في (فرحين)، لم يقل: أرواحهم فرحة، ولم يقل: أرواحهم تستبشر، وإنما قال (ويستبشرون).
إذن فعالم الروح لا نعلم عنه إلا قليل القليل، وما أدرانا أن الروح يخلقل لها جسما أثيريا نورانيا يناسب طبيعتها، فهي من طبيعة الملائكة تستطيع أن تعرج إلى السماء بنفس سرعة الملائكة لتقطع مليارات المليارات السنين الضوئية في لحظة.
أنا لم أقل إن الله توفى عيسى عليه السلام فحملت الملائكة نعشه إلى السماء ثم حلت فيه الروح من جديد، وإنما انتقل جسده كما انتقل عرش بلقيس من اليمن إلى القدس.
والقضية التي يجب أن نأخذها في الاعتبار هي كالآتي:
1) إن قضية الدين وقضية التكليف هي: امتحان للعقل.
2) إن الله لا يكلف العقل إلا في حدود إدراكه وهو الأخذ بالأسباب، إذا كانت قضية من قضايا الدين قد قدرها بالأسباب فإن الله يترك المجال للعقول أن تتدبر لأنه يعلم أن العقل إذا فكر بالحكمة فإنه سيهتدي إلىاالحق.
أما إذا كانت قضية قدرها بلا أسباب فإن العقول لن تهتدي إلى إدراكها وبالتالي فإن الله يبينها لأنها فوق طاقة العقل. مثلا:
إبراهيم عليه السلام رماه قومه في النار فأنجاه الله من النار، لو لم يقل الله (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) لقال بعض الناس إن النجاة كانت بأن ألقى شبه إبراهيم على أحد غيره فاحترق مكانه، ولقال آخرون إن النجاة كانت بتمكن إبراهيم من الهرب، ولقال آخرون إن النجاة كانت بالمطر الذي أطفأ النار، إذن فلن يفكر أحد في أن النار يمكن ألا تحرق، هنا وجب بيان الكيفية من الله لأن الله عطل الأسباب.
مثل آخر:
رجل يعيش في الصحراء أو في أي مكان لم يختلط فيه بالناس، هذا الرجل مرض فاستدعى مرضه إجراء عملية جراحية، فخاف من إجراء العملية لأنه ظن أنه سيتألم من العملية الجراحية فهولم يسمع بشيء اسمه بنج إذا حقن به فإنه سيذهب في غيبوبة ولن يشعر بأي ألم. هنا من واجب الطبيب أن يطمئنه ويشرح له أن العملية ستتم بعد حقنه بالبنج لكي لا يحس بأي شيء، فيقول له: إني مبنجك و مجري لك العملية.
كذلك فإن الله علم الإنسان العلم الذي أدرك به أن المادة لايمكنها أن تصل إلى سرعة الضوء إلا إذا تحولت إلى طاقة، وأن الإنسان إذا تحول إلى طاقة فإنه سيموت لأن جسمه سيتلاشى نهائيا.
إذن فعروج الإنسان حيا بجسمه إلى السماء بنفس سرعة الملائكة يعتبر أمرا يشبه مرور جمل من ثقب إبرة.
نحن نعلم أن الله على كل شيء قدير، ومسألة صعود المسيح تحتاج إلى بيان من الله، أقدرها بالأسباب أم بغير أسباب.
فبين الله أنها قدرت بالأسباب التي يعرفها أهل العلم، والقرآن فصلت آياته لقوم (يعلمون).
اقتباس:
==================================
وسؤالي للاخ الحسن الهاشمي ما هو دليلك على ان الله عزوجل رفع روح المسيح عليه السلام ومن ثمه جسده ,وما هي حكمة الله في ذلك؟؟؟
===================================
أخي سليم: كل عام وأنت بخير.
وأنا أسأل أولائك الذين قالوا بأن الوفاة هنا مجاز يعني النوم أن يبينوا القرينة التي تثبت صحة كلامهم، أليس الكلام يؤخذ على حقيقته إن لم توجد قرينة يعرف بها أن اللفظ استعمل مجازا؟
أليس اليقين يتحقق بالإقناع؟ فالقول بأن الوفاة تعني النوم أو الإيفاء تحتاج إلى إقناع لم يستطيعوا أن يثبتوه. فالله تعالى يقول: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، والقول بأن الوفاة هنا مجاز ولو لم توجد قرينة يفهم منه أن القرآن ليس يسيرا للذكر.
أما الحكمة في وفاة المسيح وصعوده إلى السماء فلكي تتحقق الفرضية الثانية، فإحياء الموتى له فرضيتان:
1) نزول الروح من السماء ليحل في الجسد فتنشأ الحياة.
2) صعود الجسد إلى السماء ليحل فيها الروح فتنشأ الحياة.
وتحقيق إحدى الفرضيات دون الأخرى لا يعتبر تحقيقا لكل الحق وإنما
يعتبر جزءا من الحق. والله تعالى هو العزيز الحكيم إذا قضى أمرا فإنما يقضيه على أتمه.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[02 - 11 - 2005, 12:57 م]ـ
الأخ الحسن
ما زلت غير مقتنع بتأويلاتك وارى أنّك بعدت وتباعدت بما لا يمكن أن تتقبله معاني النصوص---وليست أمثلتك قريبة من المطلوب ---بل لا حاجة لها هنا
وإليك التفصيل
قولك (جوهر الإنسان هو الروح) غير مسلم به --كما أنّ تعليلك مثله --فسجود الملائكة لم يكن للروح لوحدها ولا للجسد بل لهما معا--وما ذكرته من كون الله قد أمرهم بالسجود بعد نفخ الروح دليل لنا إذ لم يكتمل المخلوق إلّا بالمكونين معا
ويشكل على قولك آيماننا بعذاب القبر وما في القبر إلّا الجسد مع اختلاف في أقوال العلماء حول الإحياء وعدمه داخل القبر
-----------------
قولك (فإذا تكلم الله عن أرواح الناس أو خاطبها فإنه يتكلم معها بالضمير كما لو أنهم أحياء بأجسادهم.
قال تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح (لهم) أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين.)
غير مسلم أيضا فالآية ليس موضوعها انفتاح أبواب السماء للأرواح التي فارقت الأجساد--إنما موضوعها الوعيد والتهديد لما يلقاه الكفار يوم القيامة--وأنت تعرف أن يوم القيامة نخرج من الأجداث سراعا كلا متكاملا جسدا وروحا
قال إبن كثير فيها (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ) 40 الأعراف
(قَوْله " لَا تُفَتَّح لَهُمْ أَبْوَاب السَّمَاء " قِيلَ الْمُرَاد لَا يُرْفَع لَهُمْ مِنْهَا عَمَل صَالِح وَلَا دُعَاء قَالَهُ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَرَوَاهُ الْعَوْفِيّ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس) وصحيح أنّ بعض المفسرين قالوا لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء--إلّا أن قوله تعالى بعدها (وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ) دليل قوي لما أورده إبن كثير وإثبات راجح على أن موضوع الآية يوم القيامة
وحتّى نعود إلى موضوعنا وهو قضية عيسى فنحن ما زلنا نرى نفس قول أخيارنا بأنّ الله توفاه أي استوفاه عمله ورفعه إلى السماء كلّا كاملا جسدا وروحا وهو حيّ هناك---وعليك أن تترك موضوع الطاقة والمصباح وغيره من الأمثلة فلا ندري عن الروح شيئا والتزم بالنص---فإذا استدللت بواسطته على الرفع المجزأ فلك شبهة دليل--ودعك من المبررات العقليّة فما من مبرر إلّا ولدينا نقيضه--بل المبررات ضدك لأن الله لا يعوزه أن يرفعه "بالتقسيط"
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[02 - 11 - 2005, 03:09 م]ـ
إخواني، إليكم هذه المشاركة:
قال القرطبي
وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى: "إني متوفيك ورافعك إلي" على التقديم والتأخير؛ لأن الواو لا توجب الرتبة. والمعنى: إنى رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء.
وروي عن قتادة في قوله تعالى إني متوفيك ورافعك قال: هذا من المقدم والمؤخر: أي رافعك إلي ومتوفيك.
وفي هذه الآية يقول الله عز وجل:
"إذ قال الله" ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله "إني متوفيك" أي مستوفي أجلك. معناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار؛ ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف أنفك لا قتيلاً بأيديهم "ورافعك إلي" إلى سمائي ومقر ملائكتي "ومطهرك من الذين كفروا" من سوء جوارهم وخبث صحبتهم. وقيل متوفيك: قابضك من الأرض، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته: وقيل: مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن: وقيل: متوفي نفسك بالنوم من قوله: "والتي لم تمت في منامها" الزمر: 42، ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب [/ [ COLOR="SeaGreen"]
وأما بالنسبة لحرف الواو فهو لا يفيد الترتيب وإليكم قول صاحب الكشكول
العاملي:
الواو للجمع المطلق لا تقتضي الترتيب بدليل قوله تعالى: "فكيف كان عذابي ونذر" والنذارة قبل العذاب بدليل قوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" وقوله تعالى حكاية عن منكري البعث: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى" وإنما يريد نحيى ونموت وقوله تعالى: "إني متوفيك ورافعك إلي" فإن وفاته عليه السلام لا تقع إلا بعد الرفع.
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[02 - 11 - 2005, 11:03 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
أهنئكم جميعاً بحلول عيد الفطر المبارك ..
وأسأله تعالى أن يعيده عليكم وعلينا بالخير والنصر إنه على ذلك قدير ..
ثم أعود إلى ما تفضّل به الإخوة الأفاضل في مداخلاتهم .. فأقول: لقد كان لميلاد المسيح عليه السلام ضجّة، وكذلك كان لمسألة وفاته ضجّة .. واقتران الضجّتين معاً في رسالة المسيح عليه السلام يدلّنا على أن العقل يجب أن يكون له وحدة تفسيرية.
فحين يسمع العقل عن قضية ميلاد ابن مريم عليهما السلام لا بدّ أن يستشعر أنها جاءت على غير سنّة موجودة ..
وحين يبلّغنا الحقّ أن بني إسرائيل بيّتوا النيّة لقتل عيسى بن مريم عليهما السلام وأن الله رفعه إليه، هنا تكون المسألة قد جاءت أيضاً بقضية مخالفة ..
إذن ميلاد المسيح عليه السلام لم يكن في حدود تصوّر العقل، لولا بلاغ الحقّ سبحانه وتعالى لنا .. وكذلك الوفاة لا بدّ أن تكون مقبولة في حدود بلاغ الحقّ لنا ..
والقرآن الكريم يبيّن لنا أن الميلاد والنهاية لعيسى عليه السلام كل منهما عجيبة من عجائب الله ..
ولا بدّ أن نفهم أن العجيبة الأولى في الميلاد كانت تمهيداً إلى أن عيسى بن مريم عليهما السلام دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب. فلماذا لا يخرج منها أيضاً بأمر عجيب؟
فقصّة عيسى عليه السلام بدأها الله بمعجزة، وهي أنه وُلد من أم دون أب. فإن كنا قد صدّقنا بالمعجزة في الميلاد، فلماذا لا نصدّق بها في مسألة الرفع؟ وأي حكم يبقى للعقل من هذه وتلك؟
إن مبدأ المقارنة هنا هو مبدأ وجود بشر في السماء ..
وهل منّا من يكذّب بأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قد عُرج به إلى السماء وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى؟
فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء هو أمر وارد، والخلاف يكون من المدة الزمنية فقط ..
والمدّة الزمنية لا تنقض مبدأ. سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حياً بقانون الأحياء حين عُرج به إلى السماء .. ثم ظلّ صلى الله عليه وسلم مدّة وجيزة في السماء .. ثم نزل إلينا ..
إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حيّ وما يزال حياً ثم ينزل إلى الأرض .. هذه المسألة ليست عجيبة.
ويبقى الخلاف بين رفع عيسى عليه السلام وصعود محمد صلى الله عليه وسلم بالمعراج، هو خلاف في المدّة، والخلاف في المدّة لا يقتضي خلافاً .. المهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته وظل فترة من الزمن بحياته ..
فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدّة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية ..
ولا أدري لماذا يزعم البعض أن الله قد أمات عيسى عليه السلام، فرفع جسده الطاهر إليه، ثم أعاد إليه روحه هناك في السماء؟
مع أن ظاهر النصّ القرآني يرفض مثل هذا التأويل ..
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[05 - 11 - 2005, 12:27 م]ـ
السلام عليكم. كل عام وأنتم بخير.
الإخوة الكرام، أقدر جهودكم، وأنا مثلكم أبحث عن الحق، والحق يعرف بالحكمة.
الأخ جمال يقول: التزم بالنص.
نعم فأنا ملتزم بالنص، والنص يقول: إني متوفيك ورافعك إلي ...
و (متوفيك) لا تحتاج إلى تأويل فهي تعني مميتك إلا إذا وجدت قرينة
تثبت أن اللفظ استعمل مجازا وأريد به النوم، وحيث أنه لا توجد قرينة
فإن اللفظ يؤخذ على حقيقته.
كما أن (متوفيك) لا تعني استوفاه عمله، لو كان الله يريد ذلك لقال (موفيك).
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي فسر الآية لكان هو الحق، لكن الذين فسروا الآية رجال جاءوا من بعده لم يعاصروا المسيح عليه السلام فكيف عرفوا أن (متوفيك) لا تعني (مميتك).
أليس الحق يكون بالإقناع الذي تستيقنه الأنفس؟ وأنا لم أقتنع بما قيل في تفسير هذه الآية، وأي مفسر لكتاب الله مهما علا قدره ومهما بلغت شهرته فإن عليه أن يقنع بالدليل ليثبت صحة ما يقول.
ماذا لو كانت كلمة (متوفيك) تعني (مميتك) ثم فسرناها بغير معناها ألا نخشى أن نكون قد حرفنا كلام الله عن معناه بغير علم؟
مازلت أقول: إن تفسير قوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي) تعني: إني مميتك ورافعك إلي. وسآتيكم بأقوى دليل تستيقنه الأنفس.
أعد بذلك غذا أو بعد غذ إن شاء الله.
المسيح عليه السلام هو أكثر الرسل الذي كتبت عنهم حقائق ومعلومات لم يقل بها أحد من قبل، لذلك فهو أكثر الأنبياء الذي أراه في المنام.
وما كنت أعلم من الكتاب إلا قراءة لسان حتى رأيته أول مرة.
وليس رؤيا المسيح في المنام تعني أني أفتري عليه الكذب وإنما تعبيرها هو: وكذلك أوحينا إليك (روحا من أمرنا) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ...
والمسيح روح من أمر الله.
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 12:59 ص]ـ
أعد بذلك غذا أو بعد غذ إن شاء الله.
أولا: أيها الموحى إليه من جديد، اضبط لسانك العربي.
المسيح عليه السلام هو أكثر الرسل الذي كتبت عنهم حقائق ومعلومات لم يقل بها أحد من قبل، لذلك فهو أكثر الأنبياء الذي أراه في المنام.
وما كنت أعلم من الكتاب إلا قراءة لسان حتى رأيته أول مرة.
وليس رؤيا المسيح في المنام تعني أني أفتري عليه الكذب وإنما تعبيرها هو: وكذلك أوحينا إليك (روحا من أمرنا) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ...
والمسيح روح من أمر الله.
ثانياً: أيها الموحى إليه {روحاُ من امرنا} لها تفسير آخر لا يحيط به عقلك، وهو شريعة من أمرنا.
ثالثاً: لعلك تود أيها الموحى إليه في حلقة قادمة الدعوة لعبادة المسيح، أو ربما لنفسك. من يدري؟
رابعاً: وما بال سيدنا محمد لا يأتيك في المنام؟ آآآآه يظهر ان محمدأ صلى الله عليه وعلى نبى الله عيسى، لا يفقه في اللغة أكثر من أخيه عيسى.
حسبنا الله ونعم الوكيل، أين أنتم أيها الفصحاء؟
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 09:06 ص]ـ
اقتباس:
========================
أولا: أيها الموحى إليه من جديد، اضبط لسانك العربي.
===================================
أيها الفصيح: من أول رد تتهمني أني أدعي الوحي!!
أنا أقصد الرؤيا الصادقة التي ترى لأي إنسان فهي وحي من الله، قد تراها أنت وغيرك، فماذا تسمى؟ أهي وحي من الشيطان أم هي وحي من الله.
أنت تحصر كلمة (الوحي) فقط في الهدى الذي يأتي للرسل، كل أمر يوفق فيه الإنسان بعون من الله فهو بوحي من الله، وحتى شارون لو رأى رؤيا صادقة فإن ذلك لا يكون إلا بوحي من الله، وملك مصر الذي رأى السبع بقرات فإن ذلك كان بوحي من الله. فهل يقال عن ملك مصر إنه ادعى الوحي!!؟
أنا أعلم أن الخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله ضربه الله مثلا للإنسان، وقد فسر ابن سيرين الرؤى بالقرآن وبالسنة، فهل اعترض عليه أحد؟
أنا اعتبرت أن الرؤيا وحي من الله وأن المسيح روح من أمر الله، إذن فيمكن أن تعبر رؤيا أي أحد لا يعلم القرآن أو أنه في شك من دينه رأى المسيح في المنام بقوله تعالى:
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمر نا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.
اقتباس:
=======================================
لعلك تود أيها الموحى إليه في حلقة قادمة الدعوة لعبادة المسيح، أو ربما لنفسك. من يدري؟
===============================
أستغفر الله العظيم، أنا فقط أبين ما أعلمه عن المسيح عليه السلام، ولا أدعو إلا لعبادة الله الحي الذي لا يموت، أما المسيح فلو كان إلها
لما مات كما يموت أي مخلوق.
اقتباس:
-====================================
وما بال سيدنا محمد لا يأتيك في المنام؟ آآآآه يظهر ان محمدأ صلى الله عليه وعلى نبى الله عيسى، لا يفقه في اللغة أكثر من أخيه عيسى.
=====================================
الظاهر أنك أنت الذي تحتاج أن تفقه اللغة.
أإذا قلت (فهو أكثر الأنبياء الذي أراه في المنام.)
هل تفهم من كلامي هذا أنني لا أرى غيره؟
ذكرت رؤيا عيسى عليه السلام لعلاقتها بما سأكتب عنه من معلومات
جديدة ولست أحصن بها نفسي من النقذ، فإن كان ما سأقوله مناقض للحكمة والمنطق فإني أرجوك وغيرك أن تصححه بالحكمة التي تستيقنها الأنفس.
أما سؤالك: ما بال سيدنا محمد لا يأتيك في المنام؟
وما أدراك أني لا أراه في المنام؟ هل اطلعت على الغيب؟
نعم أراه صلى الله عليه وسلم، رأيته مرات عديدة، و كان هو أول من رأيت من الأنبياء. وأرى إبراهيم الخليل عليه السلام.
وأما بنعمة ربك فحدث.
يا موسى أحسن الظن بالناس يحسن الله إليك.
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 10:34 ص]ـ
هنيئاً لك
ـ[أبو سارة]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 02:40 م]ـ
السلام عليكم
فيما أعلم -والله أعلم وأحكم - أنه لو جاء رجل وقال أنه رأى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الرؤية فيها نظر مالم يكن الرجل على علم تام بصفة الرسول -عليه السلام - التي ذكرها العلماء في صفاته وشمائله.
وللعلماء في هذا الأمر كلام دقيق.
وإذا كان هذا الأمر خاص بمحمد -صلى الله عليه وسلم - والعلماء قد أكثروا من نعت صفاته وأوصافه، فكيف بالسابقين من الأنبياء الذين لانعلم إلا النزر اليسير من صفاتهم.
يجب أن نسير على منهج التحقيق الصارم في مثل هذه الأشياء ونترك التساهل بها.
والله من وراء القصد، وعليه التكلان.
ـ[سليم]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 05:50 م]ـ
السلام عليكم
لم اعلق هلى هذا الموضوع لأن العمالقه كانوا قد ادلوا بدلوهم ,ولكن لي ملاحظه وهي أن الله عزوجل قال في محكم كتابه:"كل من عليها فان",وهذا ينطبق على كل البشر بمن فيهم الانبياء وعيسى عليه السلام, ومن طريف من نُقل من السلف في التفسير ان الايه فيها تقديم وتأخير اي معنى الآيه يصبح ان الله رفعه واماته.
وعلى كل الاحوال الاماته وارده.
والله اعلم
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 06:36 م]ـ
إيه وربي ..
وأما بنعمة ربك فحدّث ..
الأخ الهاشمي ..
هلا وصفت لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - كما رأيته في المنام ..
فإن كلام أخينا أبي سارة - حفظه الله - يؤخذ مأخذ الجدّ ..
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 09:11 م]ـ
الأخ الحبيب سليم
قوله تعالى
(:"كل من عليها فان)
يعنى أنّ نهاية كل إنسان وحيوان في هذه الدنيا هي الفناء---أي حتما سيموت كل كائن حيّ عليها--ولكن السؤال هو متى مات أو متى سيموت--فنحن لا نقول أنّه حي لا يموت بل هو حيّ عند ربه سيموت آخر الزمان
ـ[لخالد]ــــــــ[06 - 11 - 2005, 10:50 م]ـ
السلام عليكم
اسمحوا لي أن أتطفل على منتداكم المتخصص لأقول كلمة متتبع بسيط التفكير:
لا أحد يكذب الأخ الحسن الهاشمي المختار في كونه يرى الأنبياء في منامه ,لكن في نفس الوقت هذا ليس دليلا يعتد به في مناقشة علمية.
فبإمكان أي شخص يجلس خلف شاشة و اسم مستعار أن يقول أنه رأى النبي و أن هناك أمورا و "معلومات جديدة" عنه.
فالفاسدون لم يتركوا مجالا للصالحين , و لا نستطيع أن نترك ثغرة كهاذه.
بارك الله فيكم
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[سليم]ــــــــ[07 - 11 - 2005, 02:20 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, والصلاة والسلام على سيدنا محمد اشرف المرسلين, واغفر زلاتنا وخطايانا واجعلنا من التوابين.
اخي جمال اشكرك على ما لفتَ نظري اليه فيبدو انني تسرعت في الاجابة وبعد البحث في كتب التفاسير وجدت الاتي:
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ",ويصبح معنى الاية: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. و هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. ويؤكد ذلك قول الله عز وجل: "وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا "، رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا , وينزل كهلا. وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها. وايضاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: " إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة.
والله اعلم
عسى ان يغفر الله لنا خطأنا وسهونا.
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[07 - 11 - 2005, 07:31 ص]ـ
الحمد لله العزيز الحكيم
لبيان الحكمة في وفاة المسيح عليه السلام والحكمة من رفعه إلى السماء أقول:
إن كل أمر لله هو أمر حكيم، والله تعالى إذا تكلم عن قصة عيسى فإنه يقول: إن هذا لهو القصص الحق وما من إلله إلا الله وإن الله لهو (العزيز الحكيم). ويقول: بل رفعه الله إليه وكان الله (عزيزا حكيما).
لنتكلم عن الحكمة من الرفع.
الحكمة من رفع المسيح إلى السماء هو أن الله تعالى يعلم أن بشرا سيفتري الكذب على رسوله عيسى، وسيدعي أنه هو المسيح وأنه هو رب العالمين، وسيكون معه من السحر ما يخدع به الأبصار فيظن الناس أنه يحيي الموتى وأنه ينزل الغيث ... فكان من الحكمة أن ينزل المسيح الحقيقي ليبين الحق ولتكون كلمة الله هي العليا، وعيسى عليه السلام هو كلمة الله التي افترى عليها وانتحلها الدجال.
هل من الحكمة أن يرفع الله رسوله عيسى إليه بعد انتهاء رسالته إلى بني إسرائيل دون أن يتوفاه بالموت؟
كل الرسل توافهم الله بعد أداء رسالات ربهم، والمسيح عليه السلام أحد الرسل الذين بلغوا الرسالة؛ فكيف تكون وفاة المسيح؟
بما أن المسيح هو الرسول الذي آتاه الله البينات التي هي من خصوصيات الله كإحياء الموتى بإذن الله، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، ويعلم ما يأكل الناس وما يدخرون، إذن فهذه الآيات التي أوتيها عيسى قد تفتن الناس فيتخذوه إلها، وهو بالفعل ما حصل من بعده، فقد جاءهم الشيطان فأوحى إليهم أن المسيح ما فعل تلك الآيات العجيبة إلا لأنه ابن الله أو هو الله نفسه.
فكان من الحكمة أن يترك الله للناس آية يهتدون بها إلى الحق، والآية التي تكذب من يدعي أن المسيح إله هي آية (الموت)، فالله وحده هو الحي الذي لا يموت، فكيف يكون المسيح إلها وقد مات كما يموت أي إنسان!!
لو لم يتوف الله المسيح عليه السلام لترك للشيطان مبررا ليضل به الناس فيوحي إليهم أن المسيح هو الله الحي الذي لا يموت.
إذن فالحكمة تفرض أن يتوفى الله المسيح.
كيف تكون وفاة المسيح؟
يجب أن تكون وفاة المسيح عليه السلام وفاة مؤكدة لكل الناس يستيقن فيها الناس أنه قد مات، يجب أن يشهرها الله بحيث تصبح حقيقة تاريخية لا جدال فيها، لو أن الله توفى المسيح وفاة طبيعية لم يعلم بها كل الناس ثم رفعه إليه وجاء الناس فلم يجدوا له قبرا لشك الناس في الأمر ولسرت إشاعات بين الناس أن المسيح لم يمت ولنفخ الشيطان في الإشاعة حتى يتقبلها الناس فيصدقوا أن المسيح هو الله الحي الذي لا يموت. لكن الله تعالى شاء أن يوثق وفاة المسيح بجعلها وفاة غير طبيعية.
إذن فقصة وفاة المسيح يجب أن تكون أشهر وفاة في التاريخ البشري لكي يهتدي الناس أنه لم يكن إلها، فالإله لا يموت. إلا أن الناس ظنوا أنه قتل، وما قتل المسيح وما صلب وإنما الله هو الذي توفاه.
(يُتْبَعُ)
(/)
خلاصة القول:
إن من أهم الأمور التي تفرضها الحكمة في رسالة عيسى عليه السلام هي وجوب موته في ختام تبليغ رسالته لكي تكون حجة على الناس الذين قالوا إن الله هو المسيح حتى لا يقولوا إنه لم يمت فظننا أن المسيح هو الله لأنه هو وحده الذي لا يموت.
يجب أن تؤكد وفاة المسيح للناس بحيث لا يختلف اثنان في كونه قد فقد الحياة، وأنسب طريقة لتوثيق هذه الحجة هي أن يتوفى الله المسيح أمام أعين الناس فلا يختلفون إلا في كونه أمات أم قتل. وكلاهما يعنيان فقدان الحياة.
قلت من قبل إن الله يؤتي الرسل الآيات ومثلها في أنفسهم، وكون المسيح عليه السلام يموت موتتين فذلك موافق لما أتى به من آيات.
فقد مات عازر فأحياه عيسى بإذن الله فعاش ما شاء الله ثم مات موتته الثانية والأخيرة. وهكذا كل الذين أحياهم عيسى عليه السلام عاشوا ثم ماتوا موتتهم الثانية والأخيرة.
إذن فمن الحكمة أن تطبق آية عيسى في نفسه فيموت ثم يحيى ثم يموت.
ولما افتتن اليهود بعزير فزعموا أن عزيرا ابن الله أماته الله 100 عام ثم بعثه وفي ذلك آية أنه لو كان ابنا لله لما أماته الله.
فعزير مات هو الآخر موتتين.
لقد كانت وفاة المسيح سلاما لم يتألم فيها ولم يكسر له فيها عظم كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، وذلك هو مكر الله الذي رد به الله على مكر أعداءه. لم يتألم من أثر المسامير، فإذا كان الإنسان اخترع شيئا اسمه البنج يستطيع بواستطته أن يبتر أي عضو من أعضاء الجسم دون الإحساس بالألم فما بالك ب (حتة مسمار)!!
لقد شبه للناس أن المسيح تألم على الصليب فمات بسبب ذلك، (وهذا هو القتل) بينما الحق هو ما قاله الله في أنه توفي بسلام.
قال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
ونفي الشيء له معنيان:
عدم وقوعه بالفعل. أو وقوعه بالفعل مع عدم تأديته الغرض المطلوب. مثلا: إذا قلت لك: إنك لم تغلق الباب. فهناك احتمالان:
إما أنك لم تغلق الباب بالفعل، أم أنك لم تغلقه بإحكام كما ينبغي.
إذا رسب ابني في الامتحان فإني أقول له: ما ذاكرت دروسك حتى لو كنت قد رأيته يذاكر دروسه قبل الامتحان لأن النتيجة لم تتحقق التي هي النجاح.
وقد ينفى وقوع الشيء حينما يرد تحقيقه إلى من لو يشاء لما تحقق.
قال تعالى: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) نفى الله عن المؤمنين قتل الكفار لأن الله هو الذي وفقهم فلو شاء لما تحقق القتل.
كذلك القول في: وما رميت إذ رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
إذن فقوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) تحتمل إحدى الفرضيتين:
إما أنه لم يحصل لا قتل ولا صلب. أو أن الصلب وقع بالفعل ولكنه لم يحقق هدفه الذي هو القتل،
ماذا عن قوله تعالى (شبه لهم)؟
إذا بني فعل (شبه) للمجهول وأريد به أن يعني (وقع الشبه على رجل آخر) فلا بد من ذكر المشبه به، كأن يقول: ولكن شبه لهم بأحد رجالهم.
وبما أن المشبه به لم يذكر في الآية فإننا لا نأتي به من عند أنفسنا إلا إذا كان قد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن لم يقل بذلك رسول الله فعلى المدعي البينة، وأنى له أن يأتي بالبينة وهو لم يشهد حادثة وفاة المسيح.
وحيث أنه لا توجد بينة فإننا نأخذ (شبه لهم) على قاعدتها التي تستعمل في الكلام مثل قولي بعدما رسب ابني في الامتحان: ما ذاكر ابني دروسه ولا راجعها ولكن شبه لي). قلت هذا الكلام لأني كنت أرى ابني فاتحا كتابه يقرأه.
ولو أن الله تعالى أنجى إبراهيم من النار وأخفاه عن قومه فظنوا أنهم أحرقوه لكان كلامنا صحيحا إذا قلنا عن قومه: وما أحرقوه وما أضرموا فيه النار ولكن شبه لهم.
على أي حال سيتبين لنا اليقين حينما نعرض (الشبيه) على شهادة الله التي تبدأ من الآية 157 إلى الآية 158 من سورة النساء.
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[08 - 11 - 2005, 12:20 م]ـ
ليس بيننا شاهد عيان لما حدث لعيسى عليه السلام سوى رواية أهل الكتاب وشهادة الله في القرآن.
فإن كان ما أجمع عليه النصارى قد حدث حقا فإن القرآن جاء تصديقا لما بين يديه من الحق، وإن كان كذبا فإننا سنجد تكذيبا لهم في القرآن.
أجمع النصارى أن المسيح قبض عليه جنود الرومان بتحريض من علماء اليهود وبوشاية من أحد تلاميذه الخونة، وأنه سيق إلى الصليب
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو يدعو الله لتكن مشيئتك، وصلب معه لصان، أحدهما استهزأ به قائلا: إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا. أما اللص الآخر فكان مؤمنا حيث طلب من عيسى أن يذكره متى انتقل إلى الملكوت، فأجابه:
الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس. ثم دعا الله أن يغفر لقومه فإنهم لا يعلمون ...
فهل حقا هذا ما حصل للمسيح عليه السلام؟
لا توجد طائفة واحدة من النصارى تقول إن شبيها لعيسى هو الذي صلب مكانه، ولو كان الشبيه هو الذي صلب لانكشف للناس حقيقته بجزعه وإنكاره أنه المسيح، ولبقيت طائفة من النصارى تقول بعكس ما تقوله باقي الطوائف لأن الله لا يطمس الحق.
شهادة الله هي الفصل في هذه القضية، وهذه القضية أطرافها ثلاثة:
1) الصالب: وهم جنود الرومان والذين كفروا من اليهود.
2) المصلوب: وهو الشخص الذي علق على الصليب.
3) الجمهور: وهم جموع الناس الذين حضروا حادثة الصلب.
وشهادة الحق يجب أن تبين انطباع وشعور كل الأطراف الثلاثة. إن تحدث فقط عن طرفين دون الثالث فإن الشهادة لا تعتبر شهادة بالحق لأنها شهادة ناقصة، والله تعالى هو العزيز الحكيم فهو الذي يقص علينا انطباع وشعور كل أطراف القضية.
أما الطرف الأول (الصالب) الذين قاموا بعملية الصلب فإن الله قال عنهم: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.
وأما المصلوب فهو الضمير المتصل (ه): صلبو (ه) و قتلو (ه)، وهو أيضا الضمير المستتر نائب الفاعل لفعل (شبه) المبني للمجهول.
وأما الطرف الثالث (الجمهور) الذي شاهدوا الحادثة فينبغي أن يكونوا هم الذين قال الله عنهم: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا.
اختلاف هؤلاء هو الذي سيتبين لنا منه إن كان هناك شبيه أم لا.
فيم كان الاختلاف والشك؟
أجابنا الله: وما قتلوه يقينا. هذا هو حكم الله في ما يختلفون فيه.
لو كانوا يختلفون في شخص المصلوب لحكم الله في ذلك وقال: وما صلبوه يقينا. ونفي الصلب ينفي معه القتل من باب أولى. لكن الله قال: وما قتلوه يقينا، ونفي القتل لا ينفي الصلب.
وحتى لو افترضنا أنه كان هناك شبيه وأن الحاضرين كلهم جميعا ظنوا أنه هو المسيح فلماذا يجعل الله قتل الشبيه محل خلاف وهو الذي أراد أن يصلب رجل آخر بدلا من المسيح؟
إذن لم يكن هناك شبيه وإنما المسيح عليه السلام هو الذي نفى عنه الله القتل الذي كان محل خلاف بين المشاهدين، فريق يقول: قتل، وفريق آخر يقول: توفي لأنهم يعلمون أن المسامير لوحدها لا يتحقق بها القتل إلا إذا طبقت عملية الصلب كما ينبغي أن تكون وذلك بكسر ساق المصلوب فيموت من أثراالنزيف.
و بعد أن نفى الله القتل (وما قتلوه يقينا) قال بعدها: بل رفعه الله إليه
وكان الله عزيزا حكيما. فترك الأمر للعقل أن يتدبر، فحتى لو كان الجسد أمامهم بدون روح فإن الروح رفعه الله إليه، ويصح أن يتكلم الله عن روح المسيح بالضمير في (رفعه) فالمسيح سماه الله (روح منه). ويفهم من (بل رفعه الله إليه) أن الله توفاه باعتبار أن قاريء القرآن قد قرأ سابقا (إني متوفيك ورافعك إلي).
ما الحكمة في أن تكون نجاة عيسى عليه السلام من القتل بهذه الكيفية التي أرادها الله؟ وإذا تسائل أحد: لماذا لم تكن النجاة بعدم تمكين أعداءه منه؟
الجواب: لأن الله يقابل مكرا بمكر (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)، كما قابل كيد قوم إبراهيم بكيده فتمكن قوم إبراهيم من إلقاءه في النار فأنجاه الله منها بقوله (كوني بردا وسلاما على إبراهيم). والأنبياء هم أشد الناس بلاء فنالوا الدرجات العلا لأنهم أوذوا في سبيل الله.
ويريد الله أن يقيم الحجة على المرسل إليهم لكي لا يفتنهم أحد فيتخذوا المسيح إلها بأن جعل المسيح غير قادر على نصر نفسه،
: (أم لهم (آلهة) تمنعهم من دوننا لا يستطيعون (نصر أنفسهم) ولا هم منا يصحبون).
وكذلك يذكر الله المرسل إليهم بالبرهان لكي لا يضلوا فيتخذوا المسيح إلها بأن أمات المسيح فتأكدوا من ذلك، فكأن الله يقول لهم: إن الإله هو الذي يملك الحياة فلا يموت، ولو كان المسيح إلها لما مات، ولو كان إلها لقال لأعداه موتوا فماتوا لا أن يتمكنوا منه، إذن فهو لا يملك حياة ولا موتا ولا نشورا: (واتخذوا من دونه (آلهة) لايخلقون شيئا وهم يخلقون ولايملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولايملكون (موتا) ولا (حياة) ولا (نشورا).
أكتفي بهذا.
والسلام.
ـ[الحسن الهاشمي المختار]ــــــــ[10 - 11 - 2005, 11:01 ص]ـ
إن مثل الناس في الحياة الدنيا كمثل التلاميذ في المدرسة، والرسل هم المعلمون، والمنهج هو الهدى الذي يأتي به الرسل.
وكما أن التلاميذ لا يمتحنون إلا بعد أن تفسر لهم الدروس فيفهمونها،
كذلك الله تعالى لا يمتحن قوما بعد هدايتهم حتى يبين لهم ما يتقون.
فكان من الحكمة أن يبين الله لقوم عيسى عليه السلام كل ما يتقوا به الفتنة التي سيوحيها لهم إبليس بزعمه أن الله هو المسيح تجسد في عيسى. والدرس الذي يريد الله أن يفقهه قوم عيسى هو أن المسيح عبد لله مثل سائر البشر، والآية التي أظهرها الله في عازر وكل من أحياهم الله بدعاء من عبده عيسى يجب أن تطبق في المسيح نفسه لكي يتذكر الناس أنه لو كان إلها لما فعل به كما فعل بعازر فيستيقنوا أن المسيح عليه السلام ما هو إلا عبد أنعم الله عليه، لذلك كان من الحكمة أن يعلن الله وفاة عيسى ويؤكدها بكيفية تجعل كل الناس يستيقنوا موته، وأنسب كيفية لتحقيق ذلك هو جعل وفاته أمام الناس (أنصاره وأعداءه)، فكانت عملية الصلب هي التي يتحقق منها مراد الله، وتلك هي الحجة التي أراد الله أن يقيمها على الناس لعلهم يتذكرون.
فلو كان إلها لنصر نفسه ولما وقع بأيدي أعداءه، أيكون إلها وهو لا يستطيع نصر نفسه!!؟ أيكون إلها ولا يميتهم!!؟ أيكون إلها ولا يملك حياة!!؟ أيكون إلها ولا يملك نشورا!!؟ لو كان يملك نشورا لأحيى نفسه وعاد إلى قومه.
ومع كل هذه الحجج استطاع إبليس أن يضلهم فأوحى إليهم أن المسيح هو الله وهو ابن الله في نفس الوقت،
لقد كانت شهادة الله كافية شافية تبين منها الحق كله بحيث لا تحتاج لإضافة أقوال أخرى، وكفى بالله شهيدا.
فماذا تقولون أيها الإخوة؟
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[سليم]ــــــــ[10 - 11 - 2005, 01:21 م]ـ
السلام عليكم
اخي الحسن الهاشمي, ان ما ذهبت اليه هو من الغيبيات ,ونحن كمسلمين نؤمن بها بالادلة النقليه من القرآن او السنة, فالله سبحانه وتعالى لم يُشهدنا خلقه ولم يُشهدنا ما حدث مع المسيح عليه السلام إلا ما ورد في القرآن, وان ما ذكرته من تحليلات عن سبب حدوث الصلب يذكرونه ايضاً نصارى هذا الزمن.
وشكراً(/)
لطيفة--تردَّى ثياب الموتِ حْمراً
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 05:47 ص]ـ
------------------------------------------------------------------------------------------
تردَّى ثياب الموتِ حْمراً فما أتىَ لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خُضْرُ
ومعنى البيت أنه ارتدى الثياب الملطخة بالدم، فلم ينقض يوم قتله، ولم يدخل في ليلته إلا وقد صارت الثياب خضراً من سندس الجنة.
البيت لأبي تمام الطائي، من قصيدة من الطويل، يرثي بها أبا نهشل محمد بن حميد حين استشهد، وأولها:
كذا فليجلّ الخطبُ وليفدحِ الأمرُ وليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
تُوفيتِ الآمالُ بعد محمدٍ فأصبح في شعل عن السفَرِ السفْر
وما كان إلا مالَ من قلَّ مالهُ وذُخراً لمن أمسى وليسَ لهُ ذُخرُ
وما كانَ يدرى مَنْ بَلاَ يُسْرَ كفهِ إذا ما استهلَّتْ أنهُ خُلق العسرْ
-----------------------------
[المهم ---هناك نقد وجيه جدا للبيت
ترى من يعرفه---أو من يستخرجه؟؟
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 07:49 م]ـ
وإليكم النقد --والناقد هو العباسي في كتابه
"معاهد التنصيص على شواهد التلخيص "
-----------------------------------------------------------
أقول: ولو قال أبو تمام: تردَّى ثياب الموت حمراً فما اختفى عن العين إلا وهيَ من سندسٍ خضرُ
لكان أبلغ في القصد وأبدع، فإنه جعل غاية تبديلها بالسندس دخوله في الليل، وهذا ليس بمعلوم، فإن الميت إذا غيب بالدفن عن الأعين تبدلت أحواله إلى خير أو شر، والعياذ بالله تعالى،
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 02:05 ص]ـ
لعلمك يا جمال، هذا الكتاب فيه رسالة دكتوراة لأستاذنا (يوسف الريماوي). فيا ليتك تطلع عليه.
موسى(/)
كتاب مجاز القران
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 09:28 م]ـ
:::
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
المقدمة 5
الفصل الأول: مجاز القرأن في الدراسات المنهية 9
1 ـ مجاز القرآن عند الرواد الأوائل 11
2 ـ مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام 17
3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل 23
4 ـ مجاز القرآن في دراسات المحدثين 44
الفصل الثاني: مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية 55
1 ـ حقيقية المجاز بين اللغة والاصطلاح 57
2 ـ وقوع المجاز في القرآن 61
3 ـ تقسيم المجاز القرآني 69
4 ـ مجاز القرآن: عقلي ولغوي 79
الفصل الثالث: مجاز القرآن وخصائصه الفنية 83
1 ـ خصائص المجاز الفنية 85
2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن 88
3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن 96
4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن 105
الفصل الرابع: المجاز العقلي في القرآن 115
1 ـ تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب 117
2 ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والاسناد 120
3 ـ قرينة المجاز العقلي في القرأن 125
4 ـ علاقة المجاز العقلي في القرآن 132
الفصل الخامس: المجاز اللغوي في القرآن 139
1 ـ المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل 141
2 ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن 146
3 ـ علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن 154
خاتمة المطاف 165
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
الدكتور محمد حسين علي الصغير
اُستاذ الدّراسات القرآنية في جامعة الكوفة
--------------------------------------------------------------------------------
(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
هذه دراسة منهجية لمعلم بارز من معالم البلاغة القرآنية، تحتضن «مجاز القرآن» في خصائصه الفنية وبلاغته العربية، وتمتد لجذوره الأولى بالبحث والكشف، وتستوعب أصنافه البيانية بالإيضاح والإبانة، أخذت من القديم أصالته وروعته، واستلهمت من الحديث تطوره ومرونته، فانتظم هذا وذاك في مناخ تصويري متكامل، يعنى من مجاز القرآن بالعبارة حينا، وبالأسلوب حينا آخر، وبألفاظ فيما بينهما، ويخلص في مهمته الى رصد القدرة الإبداعية الناصعة، ولمس الأداء التعبيري المتطور في لغة القرآن العظيم.
ويعود السبب في اختيارنا «مجاز القرآن» مادة لهذا البحث، جدة موضوعة، ودقة أبعاده، ووفرة خصائصه، مما يوصلنا الى المغلق في هذا الفن، ويوقفنا على المجهول من هذا المنظور. لقد بحث مجاز القرآن على صعيد لغوي خالص عند القدامى، ولم تمتد يد الباحثين الى قيمته البلاغية عملا مستقلا، ولم نجد من حقق القول في حدّه الاصطلاحي أو بعده الموضوعي، أو أصالته البيانية، بل كان موضوعه في البحث باعتباره أصلا لغويا في المفردات، ومعبرا تفسيريا للكلمات تلك مظنة كتب معاني القرآن، ومعاجم غريب القرآن.
وكان لا بد لهذه القاعدة أن تشذ، ولهذا الإطراد أن يتزلزل، فجاء «تلخيص البيان» للشريف الرضي (ت: 406 هـ) متخصصا في مجازات القرآن، ولكنه المجاز بالمعنى العام الذي يشمل الأستعارة والتمثيل والتشبيه والكناية والتورية في جملة ما ورد عرضه فيه مؤكدا الأستعارة ان لم يكن
--------------------------------------------------------------------------------
(6)
قاصدا اليها بالذات باسطلاح المجاز. وباستثناء هذه البادرة التي أفردت المجاز القرآني بالمعنى الموما إليه في كتاب خاص، فقد وجدنا «مجاز القرآن» في مصنفات الرواد الأوائل، قد ورد عرضا في الاستطراد، أو جاء فصلا من باب، أو استغرق بابا في كتاب.
ومن هنا كانت القيمة الفنية لم تتوافر مظاهرها على الأقل في جهد متميز في «مجاز القرآن» فلم تتضح أجزاؤه البلاغية في كتب المفسرين والبيانيين معا، لأنه يبحث جزءا من كلي إعجاز القرآن، وحسن نظمه، وجودة تأليفه، واشتماله على مفردات بلاغة العرب في أفضل الوجوه، وذلك عند علماء التفسير وإعجاز القرآن، وقد يفرد في فصل عائم في الخضم البلاغي المتلاطم باعتباره أحد أمثلة البيان، والبيان والمعاني والبديع أركان البلاغة عند البالغيين القدامى.
(يُتْبَعُ)
(/)
أما الدراسات الحديثة فمع اهتمامها بالقرآن، الا أنها فيما يبدو لي أهملت مجازه إهمالا ملحوظا يحسّ به الباحث لدى الأستقراء، وقد لا يكون هذا الإهمال مقصودا اليه، وإنما جاء نتيجة طبيعية لدراسته ضمن فصول البيان العربي وهي: المجاز والتشبيه والأستعارة والكناية، فكان فرعا من أصل، ومفردة من علم، ولم يحظ بدراسة مستقلة تهدف الى سبر حسّه النقدي، وإيحائه اللفظي، وثروته اللغوية، وعمقه البياني، وتنميته الجمالية، وهو ما تحاوله هذه الدراسة.
وكانت منهجية هذه الدراسة تتمثل في خمسة فصول:
الفصل الأول: وهو بعنوان: مجاز القرآن في الدراسات المنهجية، وهو فصل تاريخي بلاغي بآن واحد، تتبع مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل، وتمحض له بإطاره البلاغي العام، ووقف عند ثمراته في مرحلة التأصيل، وتحدث عنه في جهود المحدثين.
الفصل الثاني: وهو بعنوان: مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية، وهو فصل تحليلي في ضوء النقد الموضوعي، بحث: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح، ووقوع المجاز في القرآن الكريم، وتقسيم المجاز القرآني وتعدد القول فيه، والخلوص الى ان مجاز القرآن: عقلي ولغوي فحسب،
--------------------------------------------------------------------------------
(7)
وحدد بذلك هويته، وأرسى أسس منهجيته.
الفصل الثالث: وهو بعنوان: مجاز القرآن والخصائص الفنية، وكان هذا الفصل غنيا بالأصول النقدية، وحافلا بالاستنباط البياني، فبحث بعمق وتنظير: خصائص المجاز الفنية، وكانت تلك الخصائص في مجاز القرآن: أسلبية ونفسية وعقلية.
الفصل الرابع: وهو بعنوان: المجاز العقلي في القرآن، وكان هذا الفصل ثريا ببيان وبلاغة المجاز القرآني في ضوء: تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب، ورصد المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد ومعانيه قرينة المجاز العقلي في القرآن، وتوجيه علاقات المجاز العقلي في القرآن.
الفصل الخامس: وهو بعنوان: المجاز اللغوي في القرآن، وكان هذا الفصل ميزانا لقيمة الثروة الإضافية التي سيّرها مجاز القرآن، ومعيارا لسيرورة البلاغة العربية التي حفل بها مجاز القرآن، وذلك من خلال مباحثه التطبيقية: المجاز اللغوي بين الأستعارة والإرسال، انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن، ملامح عن علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن.
هذه الفصول الخمسة بما اعتمدته من منهج عربي تراثي، اختص الأول منها بمسيرة المجاز القرآني منذ نشوء الحديث عنه حتى العصر الحاضر، واستلهم الفصل الثاني منها حدود المجاز الاصطلاحية، وتقسيماته البيانية، وأبعاده الموضوعية، ووقف الفصل الثالث منها عند الخصائص الفنية الكلية في مجاز القرآن، وتمحض الرابع والخامس لشؤون البلاغة العربية في مجاز القرآن، فطرح ما هو طارىء عليها، وأكد على الموروث القرآني بخاصة.
وكانت مصادر هذا البحث ومراجعه، تهتم بالأصيل عند القدامى والجديد عند المحدثين، فكانت كتب البلاغة والتفسير واللغة واليقد والأدب وعلوم القرآن، رافدا يستمد منه البحث ريادته في استقراء الحقائق، واستكناه المجهول، وإضاءة المنهج.
--------------------------------------------------------------------------------
(8)
ولا أدعي لهذا البحث الكمال، فالكمال لله وحده، ولكنه ألق من شعاع القرآن، ونفح من عبير أياته، وقبس من رصين عباراته، أخلصت فيه القصد لله عزّ وجلّ، عسى أن ينتفع به الناس وأنتفع:
(يَوْمَ لا ينفع مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاّ مَنْ أتى الله بِقَلّبِ سَلِيمِ*).
وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
النجف الأشرف.
الدكتور
محمد حسين علي الصغير
أستاذ في جامعة الكوفة
--------------------------------------------------------------------------------
(9)
الفصل الأول
مجاز القرآن في الدراسات المنهجية
1 ـ مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل
2 ـ مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام
3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل
4 ـ مجاز القرآن في دراسات المحدثين
--------------------------------------------------------------------------------
(10)
(يُتْبَعُ)
(/)
--------------------------------------------------------------------------------
(11)
1 ـ مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل:
سحر العرب بجمال القرآن وجلالته، وبهروا بروعته وحسن بيانه، ووقفوا عند جزئياته البلاغية، واستعذبوا نوادر استعمالاته في فن القول، ذلك ما شكل عندهم ذائقة لغوية متأصلة، وأمدّهم بحاسة نقدية متمكنة تتجه بالبيان العربي الى موكب الزحف الدلالي المتطور، وتدفع بالمنهج البلاغي الى المناخ الموضوعي المطمئن، فحدب علماؤهم على هذا العطاء، الجديد يقتطفون ثماره، وعمدوا الى هذا السبيل يجددون آثاره، فكان نتيجة لهذا الجهد المتواصل البنّاء .. رصد المخزون الحضاري في تراث القرآن البلاغي واللغوي، وبدأ التصنيف في هذا المخزون يتجدد، والتأليف بين متفرقاته يأخذ صيغة الموضوعية، فنشأ عن هذا وذاك حشد بياني من المصطلحات، وتبلور فضل تدقيق في شتى المعارف الإنسانية، وتوارث الخلف عن السلف محور الأصالة في التحقيق، كانت عائديته الأبتعاد بالتراث اللغوي عن التعقيد والغرابة والأسفاف، والصيانة له عن الانحطاط والتدهور والضياع، والأزدلاف به عن الوحشي والتنافر والدخيل.
وكان القرآن الحكيم أساس هذا الإصلاح، ومادة هذا التطور في مثله اللغوية وأسراره العربية؛ وما دام الأمر هكذا فالعرب والمسلمون بإزاء الكشف عن خبايا هذا الكتاب وكنوزه، ودراسة مختلف قضاياه الفنية.
وقد كان الأمر كذلك، وكان التوجه للقرآن الكريم بهذه النظرة الفاحصة منذ عهد مبكر، فعكف المسلمون على جمعه وتدوينه وتوحيد قراءاته، وكان أن ضمّت جميع آياته الى سوره، وجمعت كل سوره في المصحف وبدأ تدارسه في نزوله وأسبابه وتشكيله، وحفظه في الصدور وعلى السطور، فكان ما فيه متواترا دون ريب، وسليما دون منازع، تحقيقا
--------------------------------------------------------------------------------
(12)
لقوله تعالى (إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون *) (1).
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.
كان هذا الجهد المتميز قد بدأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات، فكان الأثر مصانا، والتنزيل، كما هو ـ لا زيادة فيه ولا نقصان , والكتاب في سلامة بكل تفصيلاته التدوينية والجمعية والشكلية (2).
وبدأت مدارس التفسير الأولى في كل من مكة والمدينة والكوفة والبصرة، ترفد العالم الإسلامي بسيل من المعارف لا ينضب، وتنير أمام الدارسين الدرب بمصابيح من الهداية لا تخبو.
وكان الأئمة والصحابة والتابعون ومن اتبعهم بإحسان، يعبّدون الطريق بين يدي المتعلمين والباحثين والمصنفين، حتى اتسع مجال التفسير، وتعدد منهج التأويل، وكثر طلاب العلم، وأخذ كل بمبادرة التّحصيل، فوضح السبيل، وانتشرت الثقافات (3).
وكان وراء هؤلاء جهابذة اللغة، وفحول العربية يحققون ويتتبّعون، غير عابئين بثقل الأمانة وفداحة الأمر، مشمرين السواعد لا يعرفون لينا ولا هوادة، متناثرين حلقات وجماعات وأفرادا، يسددون الخطى، ويباركون السعي، فبين مستشهد بالموروث المثلي عند العرب، وبين منظّر بالشعر الجاهلي، وبين مقتنص للشوارد والأوابد من كلمات القوم وحكمهم، وبين متنقل في الحواضر والبوادي والقصبات ومساقط المياه، يسأل ويدون، ويصنف ويستجمع، ويقارن ويقعّد، كل ذلك بهدف واحد هو الاعتداد بالقرآن وتراثيته، فضلا عن قدسيته وعظمته: كونه كتاب هداية وتشريع، ودستور السماء في الأرض الى يوم يبعثون.
كان ما أسلفنا موروثا حضاريا في القرنين الأول والثاني من الهجرة النبوية المباركة، حتى إذا أطل القرن الثالث وجدنا التوجه منصبا حول لغة
____________
(1) الحجر: 9.
(2) ظ: المؤلف، تاريخ القرآن، الفصول: جمع القرآن، نزول القرآن، سلامة القرآن. الدار العالمية، بيروت، 1983.
(3) ظ: المؤلف، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم، مراحل التفسير: 131 ـ 141.
--------------------------------------------------------------------------------
(13)
(يُتْبَعُ)
(/)
القرآن، ومعاني مفرداته، وسيرورة ألفاظه، وكانت دائرة هذا الجهد اللغوي، متشعبة في بدايات مسيرتها التصنيفية، وإن كانت متحدة في مظاهرها الدلالية، فالأسماء مختلفة والإنجازات متقاربة، حتى كأن العطاء واحد في جوهره، وإن تعددت عناوينه التي استقطبت الصيغ الآتية: «معاني القرآن» و «ومجاز القرآن» و «غريب القرآن».
وهذه الكتب على وفرتها تتحدث عن مسار اللفظ القرآني، ودلالته لغة، وتبادره مفهوما عربيا خالصا، فكان ذلك معنى: مجاز القرآن وغريبه ومعانيه في سيرورة مؤدي الألفاظ في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، ودون التأكيد على «المجاز» أو «المعاني» في الصيغة الاصطلاحية، أو الحدود المرسومة لدى علماء المعاني والبيان. لقد امتازت هذه الحقبة بالتدوين المنظّم لغريب القرآن وشوارده، وأثرت فيما بعد بالحركة التأليفية المتفتحة في اللغة والمجاز القرآني بمئات المصنفات القيمة، ولكن بالمعنى المشار اليه آنفا، دون المعنى البياني.
هناك جمهرة لامعة من كتب المعاني لأعلام العرب، وأئمة اللغة، وفطاحل النحو، تتوجه تلك الحقبة الذهبية، ويمكن ترتيبها على النحو الآتي:
1 ـ معاني القرآن. . . لأبي جعفر الرؤاسي
2 ـ معاني القرآن. . . لعلي بن حمزة الكسائي
3 ـ معاني القرآن. . . ليونس بن حبيب النحوي
4 ـ معاني القرآن. . . ليحيى بن زياد الفراء
5 ـ معاني القرآن. . . لمحمد بن يزيد المبرد
6 ـ معاني القرآن. . . لأبي فيد مؤرج السدوسي
7 ـ معاني القرآن. . . لثعلب، أحمد بن يحيى
8 ـ معاني القرآن. . . للأخفش، سعيد بن مسعدة
9 ـ معاني القرآن. . . للمفضل بن سلمة الكوفي
10 ـ معاني القرآن. . . لأبن كيسان
--------------------------------------------------------------------------------
(14)
11 ـ معاني القرآن. . . لابن الأنباري
12 ـ معاني القرآن. . . لأبي إسحاق الزجاج
13 ـ معاني القرآن. . . لخلف النحوي
14 ـ معاني القرآن. . . لأبي معاذ بن خلف النحوي
15 ـ معاني القرآن. . . لعلي بن عيسى الجراح
16 ـ معاني القرآن. . . لأبي عيينة بن المنهال (1).
وكل هذه الكتب لا علاقة لها بعلم المعاني، وإنما تبحث عن المعنى اللغوي.
وقد احتفظ لنا ابن النديم بطائفة من أسماء من ألفوا بغريب القرآن، وعلى نهج معاني القرآن بالضبط، وقد نجد من بين هذه المصنّفات من يسمي كتابه معاني القرآن ويسمى غريب القرآن أيضا، وذلك لعدم الفرق بين الإسمين عندهم:
1 ـ غريب القرآن. . . لابن قتيبة، عبد الله بن مسلم
2 ـ غريب القرآن. . . لأبي فيد مؤرج السدوسي
3 ـ غريب القرآن. . . لمحمد بن سلام الجمحي
4 ـ غريب القرآن. . . لأبي عبد الرحمن اليزيدي
5 ـ غريب القرآن. . . لأبي زيد البلخي
6 ـ غريب القرآن. . . لأبي جعفر بن رستم الطبري
7 ـ غريب القرآن. . . لأبي عبيد، القاسم بن سلام
8 ـ غريب القرآن. . . لمحمد بن عزيز السجستاني
9 ـ غريب القرآن. . . لأبي الحسن العروضي
10 ـ غريب القرآن. . . لمحمد بن دينار الأحول (2).
____________
(1) ظ: ابن النديم، الفهرست: 51 ـ 52.
(2) ظ: المصدر نفسه: 52.
--------------------------------------------------------------------------------
(15)
وقبل هؤلاء كان أبان بن تغلب الكوفي (ت: 141 هـ) قد ألف كتاب «الغريب في القرآن» وذكر شواهده من الشعر (1).
وبعد هذه الجريدة في معاني القرآن وغريب القرآن، يبقى «مجاز القرآن»، ويبدو أن التسمية بهذا العنوان كانت من سبق أبي عبيدة، معمّر بن المثنى الليثي (ت: 210 هـ) فكان من أوائل من كتبوا في هذا الأسم بالذات بالمؤشر الذي أوضحناه، فوضع كتابه «مجاز القرآن» على هذا النحو، وهو كتاب لغة وتفسير مفردات، لا كتاب بلاغة وبيان، والدليل على ذلك أنه قد يسمى «غريب القرآن» باعتباره ترادف الغريب والمجاز عندهم، كترادف الغريب والمعاني، وقد نص على تسميته بهذا الإسم «غريب القرآن» ابن النديم (2).
وقال إبن خير الأشبيلي:
«وأول كتاب جمع في غريب القرآن ومعانيه: كتاب أبي عبيدة: معمر بن المثنى، وهو كتاب المجاز» (3).
وقد أيّد الزبيدي هذا الاتجاه فقال:
(يُتْبَعُ)
(/)
«سألت أبا حاتم عن غريب القرآن لأبي عبيدة الذي يقال له المجاز» (4). وهذان النصان يؤيدان ما نذهب اليه أن لا علاقة لمجاز أبي عبيدة بالمجاز الصطلاحي، حتى قال محققه الدكتور سزكين: «ومهما كان من أمر فإن ابا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات: «مجاز» كذا» و «تفسير كذا» و «معناه كذا» و «وغريبه» و «تقديره» و «تأوليه» على أن معانيها واحدة أو تكاد.
ومعنى هذا أن كلمة «المجاز عنده عبارة عن الطريق التي يسلكها
____________
(1) ظ: الخوئي، معجم رجال الحديث: 1/ 32.
(2) ظ: ابن النديم، الفهرست: 52.
(3) ابن خير، الفهرست: 134.
(4) الزبيدي، طبقات النحويين:125.
--------------------------------------------------------------------------------
(16)
القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة لكلمة المجاز» (1).
ولا أدلّ على هذا المذهب من قول أبي عبيدة نفسه وهو بإزاء تحرير مجاز القرأن «وفي القرآن ما في الكلام العربي من وجوه الأعراب، ومن الغريب والمعاني» (2).
فهو بصدد هذا الملحظ الذي ذكره، وإن اشتمل مجموع ما أفاضه «مجاز القرآن» على جملة من أنواع المجاز الاصطلاحي، ولكنه إنما يقصد بالمجاز معناه اللغوي، وقد يقصد به أحيانا: الميزان الصرفي، وقد يعني به نحو العرب وطريقتهم في التفسير والتعبير، وهو الأعم الأغلب في مراده.
وبعد هذا «نستطيع ـ مطمئنين ـ ان نقرر أن كلمة «مجاز» إنما هي تسمية لغوية تعني التفسير، فالمعرفة بأساليب العرب، ودلالات ألفاظها، ومعاني أشعارها، وأوزان ألفاظها، ووجوه إعرابها، وطريق قراءاتها، كل ذلك سبيل موصلة الى المعنى، فمجاز القرآن يقصد أبو عبيدة به «المعبر» الى فهمه، فالتسمية لغوية وليست إصطلاحية» (3).
ومهما يكن من أمر فقد عالج ابو عبيدة في «مجاز القرآن» كيفية التوصل الى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في كلامهم وسننهم في وسائل الإبانة عن المعاني، ولم يعن بالمجاز ما هو قسيم للحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية: ما يعبر به عن الآية (4).
وكان سبيل أبي عبيدة في مجاز القرآن نفسه سبيل معاصره أبي زكريا الفرّاء (ت: 207 هـ) في «معاني القرآن» وجزءا من سبيل إبن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن» في حدود معينة، لأن كتاب ابن قتيبة (ت: 276 هـ) قد اشتمل على مباحث مجازية مهمة، كما سنشاهد هذا في مرحلة التأصيل، اذ عقد للمجاز ـ بمعناه العام حينا وبمعناه الاصطلاحي الدقيق
____________
(1) فؤاد سزكين، مجاز القرآن، المقدمة: 1/ 18.
(2) أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 8.
(3) مصطفى الصاوي الجويني، مناهج في التفسير: 77.
(4) ظ: أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 92.
--------------------------------------------------------------------------------
(17)
حينا آخر ـ بابا خاصا تناول فيه فصولا من المأهول المجازي في الاستعارة والمجاز والتمثيل (1).
والذي يبدو لي من تعقب هذه الحقبة أن الاتجاه المنظور اليه لدى العلماء في مصنفاتهم التي أوردناها كان البحث المنظّم والمفهرس في غريب القرآن، ومعانيه اللغوية، وشوارده العربية، ولم يكن لمجاز القرآن ولا لمعاينه بالاصطلاح البلاغي فيها أي إرادة مسبقة، وإن وردت بعض الإشارات البلاغية بإطارها العام مما لا بد منه في إيضاح المعنى اللغوي فالبلاغة جزء من علم اللغة.
2 ـ مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام:
يبدو أن الجاحظ (ت: 255 هـ) هو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، بل على معالم الصورة الفنية المستخلصة من اقتران الألفاظ بالمعاني، فهو كمعاصريه يعبر عن جمهرة الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، يعبر عنها جميعا بالمجاز، ويتضح هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البلاغية التي يطلق عليها اسم المجاز، وقد انسحب هذا على المجاز القرآني لديه (2).
ويعلل هذا التواضع عند الجاحظ ومعاصريه بأمرين:
الأول: إرجاع صنوف البيان العربي وتفريعاته الى الأصل، وهو عندهم: المجاز بمعناه الواسع.
(يُتْبَعُ)
(/)
الثاني: عدم وضوح استقلالية هذه المصطلحات بالمراد الدقيق منها في مفهومها ودلالتها كما هي الحال في جلائها بحدود معينة بعد عصر الجاحظ عند كل من ابن قتيبة (ت: 276 هـ) وعلي بن عبد العزيز المعروف بالقاضي الجرجاني (ت: 366 هـ) وعلي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ) وسليمان بن حمد الخطابي (ت: 388 هـ) وأبي هلال العسكري
____________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 76 وما بعدها.
(2) ظ: استعمالات الجاحظ لاطلاقات المجاز، الحيوان: 5/ 23 ـ 34.
--------------------------------------------------------------------------------
(18)
(ت: 395 هـ) مما قد يعتبر بدايات إصطلاحية في إطار ضيق، ولكنه قد يحدد بعض معالم الرؤية.
فالجاحظ حينما يتحدث عن المجاز القرآني فإنه ينظر له بقوله تعالى: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا *) (1).
ويعد هذا من باب المجاز والتشبيه على شاكلة قوله تعالى: (أكّالون للسّحت) (2). وعنده أن هذا قد يقال لهم، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبدة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وتمام الآية (إنّما يأكلون في بطونهم نارا) مجاز آخر. . . فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز (3).
والجاحظ هنا ينظر الى المجاز باعتباره في قبال الحقيقة، وهو قسيم لها، في تنظيره له، وتلك بداية لها قيمتها الفنية.
ويرى البعض أن إطلاق المجاز في معناه الدقيق إنما بدأ مع المعتزلة، وهم مجوزون له لوروده في القرآن، وقد أشار الى ذلك ابن تيمية، واعتبر المجاز دون مبرر أمرا حادثا، وفنا عارضا، لم يتكلم به الأوائل من الأئمة والصحابة والتابعين، فقال:
«وتقسيم الألفاظ الدالة على معانيها الى حقيقة ومجاز، وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظا الحقيقة والمجاز في المدلول أو الدّلالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين، ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ، وبكل حال فهذا التقسيم إصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثالثة الأولى. . وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز، هو أبو عبيدة معمّر ابن المثنى في كتابه،
____________
(1) النساء: 10.
(2) المائدة: 42.
(3) ظ: الجاحظ، الحيوان: 5/ 25 وما بعدها.
--------------------------------------------------------------------------------
(19)
ولكنه لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية ما يعبر عن الآية. . . وإنما هذا إصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (1).
ولا نريد أن نناقش إبن تيمية في نفيه لمصطلح المجاز في القرون الثلاثة الأولى، في حين استعمله بمعناه الاصطلاحي العام كل من الجاحظ (ت: 255 هـ) وابن قتيبة (ت: 276 هـ) وهما من أعلام القرن الثالث، لا نجادله يهذا لوضوح وروده، بقدر ما نؤيده في حدود أن المعتزلة كانوا مجدين في هذا المنحى، وإن كان الفضل الحقيقي في إرساء اسسه، واستكمال مناهجه يعود الى الشيخ عبد القاهر وهو ليس معتزليا.
وكان محمد بن يزيد المبرد (ت: 285 هـ) قد استعمل المجاز بالمؤدى نفسه الذي استعمله به أبو عبيدة من ذي قبل للدلالة على ما يعبر به عن تفسير لفظ الآية أو ألفاظها، ولا دلالة إصطلاحية عنده فيه (2).
على أن إبن جني (ت: 392 هـ) قد أشار الى حقيقة وقوع الكلام مجازا في عدة مواضع من «الخصائص» ونصّ عليه بل ذهب الى أولويته في الكلام، ووافق إبن قتيبة في موارد منه، وأخذ ذلك عنه، كما سنرى. يقول إبن جني في هذا السياق: «إعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة، وذلك عامة الأفعال، نحو: قام زيد، وقعد عمر، وانطلق بشر، وجاء الصيف، وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية. فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر، وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم انه لا يجتمع لأنسان واحد في وقت ولا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم، هذا محال عند كل ذي لبّ، فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة، وإنما هو وضع
(يُتْبَعُ)
(/)
الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير (3).
____________
(1) ابن تيمية، كتاب الأيمان: 34.
(2) ظ: المبرد: المقتضب في أغلب استعمالاته لإطلاق المجاز.
(3) ابن جني، الخصائص: 2/ 448.
--------------------------------------------------------------------------------
(20)
وهذا التعليل من ابن جني قائم على أساس نظرة الموحدين وأهل العدل في مقولتهم «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين». فالله سبحانه وتعالى موجد القوة في الإنسان على القيام، والإنسان يؤدي ذلك القيام، ولكن لا بحوله ولا قوته، فليس هو قائما في الحقيقة، بل الطاقة التي أوجدها الله تعالى عنده، هي وما خوله إياه كانا عاملين أساسين في القيام، فلا هو بمفرده قائم، ولا القيام بمنفي عنه، وإنما هو أمر بين أمرين، فكان القيام بالنسبة اليه مجازا.
ولا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا إشلرة إبن جني الى المجاز في عدة مواضع من الخصائص، لعل أهمها من يجعل فيه المجاز بعامة قسيما للحقيقة، متحدثا عنه وعن خصائصة بإطار بلاغي عام قد يريد به التشبيه والاستعارة والمجاز بوقت واحد، وذلك قوله: «إن الكلام لا يقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة هي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة» (1).
ولا نريد ان ننقاقش إبن جني في هذا الاتساع وذلك التوكيد أو التشبيه كما فعل إبن الأثير (ت: 637 هـ) في متابعته هذه الوجوه، فذلك مما يخرج البحث عن دائرته الى قضايا هامشية لا ضرورة اليها، بل نقول أن المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة في قيمتها الفنية، فكلاهما يهدف الى الفائدة المتوخاة من الكلام. قال الحسن بن بشير الآمدي (ت: 370 هـ) «الكلام إنما هو مبني على الفائدة في حقيقته ومجازه» (2).
وكان علي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ) وهو ممن عاصر ابن جني، ينظر الى الاستعارة باعتبارها استعمالا مجازيا، وعدّها أحد أقسام البلاغة العشرة، واكتفى بذكرها عن ذكر المجاز (3)، مما يعني أنه يرى فيما هو قسيم للحقيقة مجازا وذلك صريح قوله: «وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان ما لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه
____________
(1) المصدر نفسه: 2/ 442.
(2) الآمدي، الموازنة بين الطائيين: 179.
(3) ظ: الرماني، النكت في إجاز القرآن: 76.
--------------------------------------------------------------------------------
(21)
الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى. . . ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الأستعارة على جهة البلاغة» (1).
ومن هذا يبدوا أن الرماني قد لحظ المجاز بإطاره البلاغي العام، فكل ما كان غير حقيقي سواء أكان إستعارة أم مجازا فهو استعمال مجازي، وينظر لهذا بعشرات الآيات القرآنية، ويعطي المعنى الحقيقي، والمجازي بهذا المنظور الذي أوضحناه، شأنه بهذا شأن من سبقه الى النظرة نفسها. ففي قوله تعالى (ولمّا سكت عن موسى الغضب) (2). قال الرماني «وحقيقته إنتفاء الغضب، والأستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره» (3).
وفي قوله تعالى (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، (4) ينظر الرماني إلى المجاز في «ريبة» إلى أنه استعارة، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده، إذ عبر الله عن البنيان بأنه ريبة، وإنما هو ذو ريبة كما يرى ذلك الرماني، وإذا صير هذا الاطلاق عليه فهو مجاز، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء.
(يُتْبَعُ)
(/)
يقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة «وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقيته إعتقادهم الذي عملوا عليه، والاستعارة أبلغ لما فيهامن البينان بما يحس ويتصور، وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجا، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط» (5).
____________
(1) المصدر نفسه: 86.
(2) الأعراف: 154.
(3) الرماني: النكت في إعجاز القرآن: 87.
(4) التوبة: 110.
(5) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 91.
--------------------------------------------------------------------------------
(22)
فالرماني الذي يعبر عن المجاز بالاستعارة، ويضع الاستعارة في التطبيق موضع البحث، إنما ينظر اليها باعتبارها عملا مجازيا يستدل به على وقوع المجاز في القرآن من وجه، وعلى دلائل الإعجاز القرآني من وجه آخر.
ويبدو ان نظرة البلاغيين في القرن الرابع من الهجرة كانت متحدة في هذا المقياس بأطاره العام، فهذا أبو هلال العسكري (ت: 395 هـ) قد أشار الى المجاز بمعناه الواسع ونظر له من القرآن الكريم في صنوف الاستعارات القرآنية، وقد أوضح رأيه في التنصيص على ذلك بقوله: «ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة، وهي أصل الدلالة علة المعنى في اللغة» (1).
ويهمنا من هذا القول أنه جعل المجاز قسيما للحقيقة، واعتبر الاستعارة كذلك لا فرق بينهما وبين المجاز، وكانت تطبيقاته في هذا المنهج إستعارات القرآن.
والحق أن أبا هلال كان ذا حدس إستعاري، وحس بياني، وذائقة بلاغية ناضجة فيما أورده من شواهد قرآنية في هذا المقام، ففي قوله تعالى: (وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا *) (2). يقول أبو هلال: «حقيقته عمدنا، وقدمنا أبلغ، لأنه دلّ فيه على ماكان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائبا عنهم، ثم قدم فأطلع على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد الى إبطال الفاسد عدل، وأما قوله (هباءً منثورا) فحقيقته أبطلناه، حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج ما لا يرى الى ما يرى» (3).
وكان السيد الشريف الرضي (ت: 406 هـ) قد ألف كتابين في المجاز: لهما أهمية نقدية وبلاغية في البحث البياني في القرآن وعند العرب وهما: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» و «والمجازات النبوية»، وكان
____________
(1) العسكري، كتاب الصناعتين: 276.
(2) الفرقان: 23.
(3) العسكري، كتاب الصناعتين: 277.
(23)
إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، كما سيتضح فيما بعد، لكنه في عرضه الاصطلاحي أضيق دائرة من فضفاضية الاستعمال الجاحظي، وعموميته عند الرماني، واتساعه عند إبن جني والوقوف به عند الاستعارة فحسب عند أبي هلال.
وقد عبر إبن رشيق القيرواني (ت: 456 هـ) أن العرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها (1).
ونظرته في هذا نظرة من سبقه في المعنى العام.
إذن فمصطلح المجاز بمعناه الواسع عريق من ناحيتين:
الأولى: استعمال النقاد والبلاغيين العرب له من قبل أن تتبلور دلالته الاصطلاحية الدقيقة.
الثانية: وروده في المظان البيانية واللغوية والتفسيرية بمعنى يقابل الحقيقة، وإن اشتمل على جملة من أنواع البيان، أو قصدت به الاستعارة باعتبارها تقابل الحقيقة لأنها استعمال مجازي.
والذي نريد أن ننوه به أن هذا الأصل معرّف بالأصالة منذ عهد مبكر في خطوطه الأولى، وليس هو من ابتكار المعتزلة، بقدر ما لهم من فضل في المساهمة فيه شأنهم بذلك شأن البلاغيين فيما بعد عصر الرضي وعبد القاهر.
3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل:
يبدو أن إبن قتيبة (ت: 276 هـ) كان سباقا الى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابه «تأويل مشكل القرآن» ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب، بل شكّل بابا في الكتاب.
وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي (ت: 406 هـ) دورا حافلا، إذ كتب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع.
____________
(يُتْبَعُ)
(/)
(1) ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر: 1/ 265.
--------------------------------------------------------------------------------
(24)
وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 472 هـ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي، فعاد كلا منسجما، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز.
وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 هـ) فاعترف من بحري الرضي والجرجاني، ما قوّم به أوده، وصحّح منهجه، وأضاف دقة الأختيار، ولطف التنظير.
فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا الى مرحلة التأصيل، وبلغوا به شوطا الى قمة التأهيل، فعاد معلما بارزا في التشخيص، وعلما قائما يشار إليه بالبنان.
وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة، ولمسات إشارية عاجلة، مهمتها إعلام الجهود، وإنارة المعالم ليس غير.
ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام: الغض من منزلة الآخرين، أو بخس البلاغيين حقوقهم، ولكن التوسع في «مجاز القرآن» عند إبن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري، قد فاق في مرحلة التأصيل، واستقرار المصطلح المجازي، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم، وهو ما وقفنا عليه، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة، وألصق لحمة، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم.
ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث الى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال:
1 ـ عقد إبن قتيبة (ت: 276 هـ) بابا خاصا للمجاز في كتابه: «تأويل مشكل القرآن» (1). ويبدوا أن الهدف من ذلك كان كلاميا، لأن أكثر
____________
(1) حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات: مطبعة الحلبي.
--------------------------------------------------------------------------------
(25)
غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل، فتشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا الى سعة المجاز، فيحسم الأمر، وتتبسط الدلالات، لا أن يحملوا ماورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات.
وقد عمد أبن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم، وشرح في ضوئها ما يذهب اليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز، ليعود بذلك الى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا.
وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الأستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة، وعبارات قائمة لا يمكن تأويله إلا بالمجاز.
ولكن الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز، فتحار باعتباره المجاز أحيانا، والحقيقة مجازا، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع.
فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة: لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض:
(ائتيا طوعاً أو كرها) وقولهما: (أتينا طائِعين) (1). أو قوله لجهنم (هل امتلأت) فتقول: (هل من مّزيد) (2). لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح (3).
والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن، فهو يجيل فكره، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن.
ففي قوله تعالى (إن الذّين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
____________
(1) فصلت: 11.
(2) ق: 30.
(3) ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 27 وانظر مصادره.
--------------------------------------------------------------------------------
(26)
(يُتْبَعُ)
(/)
ودّاً *) (1) يرى أنه ليس كما يتأولون، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر، مهيبا، مذكورا بالجميل، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام: (وألقيت عليك محبّة مّنّي) (2)، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان (3).
ويستمر أين قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية، وتمرسه في طلاقة البيان العربي، فيذهب بالمجاز الى ابعد حدوده الاصطلاحية، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي.
ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى: (وجعلنا نومكم سباتا *) (4). فيذهب أن ليس السبات هنا النوم، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما، ولكن السبات الراحة، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمي يوم السبت، أي: يوم الراحة. وأصل السبت التمدد، ومن تمدد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، يقال: سبتت المرأة شعرها، إذا نفضته من العقص وأرسلته، ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدد يكون (5).
بهذا التذوق الدلالي، والنظر الموضوعي، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن، فهل كان من المؤصلين له، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز
____________
(1) مريم: 96.
(2) طه: 39.
(3) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.
(4) النبأ: 9.
(5) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.
--------------------------------------------------------------------------------
(27)
القرآن بما يعد من أروع البحوث المنجزة في الموضوع، وستقرأه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب، قد سبق الى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن:
الأولى: إشارته منذ عهد مبكر الى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم.
الثانية: إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره، وإن استخدام كلمة المجاز بمفهومها العام (1).
وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة، لأنه قسم الكلام الى حقيقة ومجاز (2).
وذهب الى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة (3). وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع.
2 ـ وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي (ت: 406 هـ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب، وعلوم القرآن، واللغة، والشعر، والنثر، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وتسميته لذلك بـ «نهج البلاغة» (4) وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه، دليل ريادته الأولى في الفن البلاغي، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة.
وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن» (5) حافل بالمجاز
____________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 15.
(2) المصدر نفسه: 78.
(3) المصدر نفسه: 101.
(4) طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(5) حققه الأستاد محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1955.
--------------------------------------------------------------------------------
(28)
اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة، ولكنه يؤكد فيه «الاستعارة» والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة؛ وهكذا الاستعارة في القرآن.
(يُتْبَعُ)
(/)
ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب، وما حفز صاحبه على تأليفه، ومنهجه في التأليف، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى (وطُبع على قلوبهم) (1).
وكان يمكن لو عثر على هذا المفقودة، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن (2).
ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) (3)، وهي الآية السابعة من البقرة، و (طبع على قلوبهم) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع، «لأن الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد» (4) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى (وعلى أبصارهم غشاوة) (5).
وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان إستقراء القرآن على ترتيبه المصحفي، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير،
____________
(1) التوبة: 87.
(2) ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 30.
(3) البقرة: 7.
(4) الشريف الرضي: تلخيص البيان: 113.
(5) البقرة: 7.
--------------------------------------------------------------------------------
(29)
وأجرى لقلمه العنان في حدود الأستعمال المجازي دون إيجاز مخل أو إطناب مملّ كما يقال.
وهو في ذلك منظر ومطبّق في آن واحد، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه، ويناقش فيه، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي، ومنهجه البلاغي، ومخزونه الثقافي المستفيض.
وكان هذا العمل سبقا فريدا الى الموضوع، لم يشاركه فيه أحد قبله، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم.
«ومن هنا كان «تلخيص البيان» أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض. فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته، ولم يأت عرضا في خلال كتاب، أو بابا من أبواب مصنّف» (1).
وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها.
1 ـ ففي قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) (2) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله «أي جهة التقرب الى الله، والطريق الدالة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه» (3).
2 ـ وفي قوله تعالى (الله وليّ الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات) (4).
____________
(1) محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 30.
(2) البقرة: 115.
(3) الشريف الرضي: تلخيص البيان: 118.
(4) البقرة: 257.
--------------------------------------------------------------------------------
(30)
فيذهب الرضي أن المراد منها «إخراج المؤمنين من الكفر الى الأيمان ومن الغي الى الرشاد، ومن عمياء الجهل الى بصائر العلم. وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات الى النور فالمراد به ماذكرنا. وذلك من أحسن التشبيهات. لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد. والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم: وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجلية» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
3 ـ ويحمل الرضي قوله تعالى (وقيل ياأرض ابلعي مآءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر) (2) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى، ويقول: «لأن الأرض والسماء لايصح أن تؤمرا أو تخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم. فالمراد إذن بذلك، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه، وسرعة مضي أمره، ونفاذ تدبيره نحو قوله (انما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون *) (3)، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة.
وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه (يا أرض ابلعي مآءك) أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة. . . وكذلك الكلام في قوله سبحانه (ويا سماء أقلعي) لأن لفظ الأقلاع ههنا أبلغ من لفظ الإنجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدل على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة» (4).
____________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 121.
(2) هود: 44.
(3) النحل: 40.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 162.
--------------------------------------------------------------------------------
(31)
وفي قوله تعالى (ففتحنا أبواب السمآء بمآء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر *) (1) يقول الشريف الرضي (المراد ـ والله أعلم ـ بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس، ولا يلفتها لافت. مفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله (فالتقى الماء على أمر قد قدر) أي: اختلط ماء الأمطار المنهمرة، بماء العيون المتفجرة، فالتقى ماءاهما على ماقدره الله سبحانه، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام، وأوقع العبارات عن هذه الحال» (2).
5 ـ وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع الى الجبل في قوله تعالى: (لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون *) (3) قال الشريف الرضي: «وهذا القول على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه، ولتصدع من عظم شأنه، وعلى غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحق بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، وعالما بصوادعه» (4).
وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره: أن لازم الخشوع والتصدع والخشية، والإدراك والمعرفة والسماع، والجبل لا يسمع ولا يعي، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال.
6 ـ قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الأستعمال، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي، لهذا كان «تلخيص البيان» حافلا
____________
(1) القمر: 11 ـ 12.
(2) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 318.
(3) الحشر: 21.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.
--------------------------------------------------------------------------------
(32)
في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك:
أ ـ في قوله تعالى (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون *) (1) قال الرضي: «وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج (2) ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه، على أحد وجهين: إما أن يكون رجوعا في الدنيا. فيكون المعنى: انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم، ومصرفهم ومدبرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال، وموفّى
(يُتْبَعُ)
(/)
الثواب والعقاب، والى حيث لا يحكم فيهم، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب، وتفرقهم في الطرائق، مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد، بقوم كانت بينهم، وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق، وشذب تلك الوصائل، فصاروا أخيافا (3) مختلفين، وأوزاعا مفترقين» (4).
ب ـ وفي قوله تعالى (ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) (5) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف، تشبيها بالقائم على جرف هار، وحرف هاو. يقول: «والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها،
____________
(1) الأنبياء: 93.
(2) الولائج: جمع وليجة، وهي بطانة الإنسان.
(3) يقال: هم أخوة أخياف، بمعنى: أمهم واحدة وآباءهم متعددون.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 232 ـ 233.
(5) الحج: 11.
--------------------------------------------------------------------------------
(33)
ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة، فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه» (1).
ج ـ وفي قوله تعالى (والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم) (2)، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي، وشخصيته في النّقد، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول:
«وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع. فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان. وهذا من صميم البلاغة، ولباب الفصاحة، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا. إلا ترى كم بين قولنا: استقروا في الإيمان، وبين قولنا: تبوؤا. وأنا أقول أبدا: إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها» (3).
وحديثنا عن «تلخيص البيان» قد يطول لو استرسلنا فيه، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين.
والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها:
1 ـ استقلاليتة في المنهج والفكر، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا، وكيانا قائما في مجاز القرآن.
2 ـ تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة: والله أعلم.
3 ـ هذه العبارة المشرقة، وهذا الأسلوب الحديث، وذلك التدافع في الألفاظ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري.
____________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 237.
(2) الحشر: 9.
(3) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.
--------------------------------------------------------------------------------
(34)
لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه: أبي عبيدة وابن قتيبة، في التعبير البلاغي، والأداء الأدبي، والذائقة الفنية، فقال:
«وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه، وعند ابن قتيبة في مشكله، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم، كان أغزر الثلاثة بيانا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة، يتضح فيها ذوق الأديب، ورقة الشاعر، وحسن البليغ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي، وعلم النحوي» (1).
...
(يُتْبَعُ)
(/)
3 ـ وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفينة (2) في كتابين الجليلين: «دلائل الإعجاز» (3)، و «أسرار البلاغة» (4). فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا، اعتنى باللباب من هذا العلم، وأكد فيه على الجانب الحي النابض، وابتعد عن الفهم العشوائي، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري، فماذا يجني الباحث والمتعلم، وهذا العلم نفسه، من الجفاف في الحد، او الغلظة في الرسم، أو الصرامة المضنية في القاعدة.
____________
(1) محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 48.
(2) المؤلف، أصول البيان العربي، رؤية بلاغية معاصرة: 18.
(3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة، ومحمد محمود الشنقيطي. القاهرة، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة، بتحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة 1984.
(4) حققه، وخرج آياته، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف، استانبول، 1954 م.
--------------------------------------------------------------------------------
(35)
انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة «علم البيان» والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر، ومنطق جزل، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول:
«ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من «علم البيان» الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدرر، وينفث السحر ويقري الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها ـ يد الدهر ـ صورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها، الى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء» (1).
لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات «علم البيان» وفي طليعتها المجاز، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني، وكرّ أيضا على المجاز. والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان: مجاز عن طريق اللغة، وهو المجاز اللغوي، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة.
ومجاز عن طريق المعنى والمعقول، وهو المجاز الحكمي، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد (2).
وحد المجاز الحكمي «أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز (3).
وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة، وقال: «أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة» (4). وكل من المجازين اللغوي
____________
(1) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 4.
(2) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(3) المصدر نفسه: 356.
(4) ظ: المصدر نفسه: 344.
--------------------------------------------------------------------------------
(36)
والعقلي لا يدرك الا في التركيب، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1).
وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا.
وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ) وأبي يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا.
فالرازي يقسم المجاز الى قسمين: مجاز في الإثبات، ومجاز في المثبت، وهما العقلي واللغوي، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد (2).
(يُتْبَعُ)
(/)
والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين: لغوي وعقلي، واللغوي الى قسمين: خال من الفائدة، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة. إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي، ويؤكد على اللغوي، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (3).
وفي «دلائل الإعجاز» نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره (4).
والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة، أن المجاز هو
____________
(1) ظ: فتحي أحمد عامر، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز: 123.
(2) ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 48.
(3) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 194 ـ 198.
(4) ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 293 وما بعدها، تحقيق: محمود شاكر.
(38)
الاستعارة، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وإنما الفرق أن «المجاز» أعم، من حيث أن كل استعارة مجاز، وليس كل مجاز استعارة (1).
ان الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي.
وستجد ـ فيما بعد ـ في كل من فصلي «المجاز العقلي في القرآن» و «المجاز اللغوي في القرآن» سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع، فهناك موضعها الطبيعي من البحث.
والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة.
انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي.
«وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن، فمنه قوله تعالى: (تؤتي أُكلها كلّ حين بإِذن ربّها) (2)، وقوله عز إسمه: (وإذا تُليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) (3)، وفي الأخرى: (فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانا) (4)، وقوله: (وأخرجت الأرض أثقالها *) (5)، وقوله عزّ وجلّ: (حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد مّيّت) (6).
أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا الى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل،
____________
(1) ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 462 تحقيق: محمود شاكر.
(2) إبراهيم: 25.
(3) الأنفال: 2.
(4) التوبة: 124.
(5) الزلزلة: 2.
(6) الأعراف: 57.
--------------------------------------------------------------------------------
(38)
ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها. . .
والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه أثبت لما لا يستحق، تشبيها وردا له إلى ما يستحق، وأنه ينظر من هذا الى ذاك، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق. . . (1).
4 ـ وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري (ت: 358 هـ) فسنرى له اليد الطولى في هذا المضمار، وبحدود كبيرة مما أفاده من تجارب الشريف الرضي (ت: 406 هـ) المجازية، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر (ت: 471 هـ) البلاغي.
وكان الزمخشري يهدف في جهوده المجازية إلى أمرين:
الأول: هو الهدف المركزي، وهو كشف بلاغة القرآن وتأكيد إعجازه، وإثبات تميزه في التعبير على كل نصّ أرضي وسماويّ.
الثاني: الهدف الهامشي في دعم الفكر المعتزلي القائل باتساع المجاز في القرآن وعند العرب بمنظور كلامي.
وأنا أذهب مذهبه في كلا الأمرين بأغلب وجهات نظره البيانية، لا على اساس معتزلي، فلا علاقة لي بهذا الملحظ، بل من خلال الذائقة البلاغية والفنية في تقويم النصوص العربية العليا ليس غير.
للزمخشري في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن والمأثور العربي كتابان مهمان هما:
1 ـ أساس البلاغة (2).
2 ـ الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
(يُتْبَعُ)
(/)
____________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 356 ـ 357.
(2) طبع طبعة منقحة فريدة بتحقيق: عبد الرحيم محمود، وتقديم: العلامة أمين الخولي، القاهرة 1953.
--------------------------------------------------------------------------------
(39)
التأويل (1). أما الأول، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة، فاتبع طريقة «الألفباء» في ترتيب مفرداته اللغوية، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة، وباستعمالها المجازي تارة أخرى، ويعطي معنى كل منهما، والذي يبدوا لنا من عمله هذا أنه يميل الى أن معظم مفردات العربية مجاز وان الباقي هو الحقيقة؛ وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية، ويقوم بفهرسة إحصائية لمجاز اللغة، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير الى هذه الحقيقة بقوله:
«ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح» (2).
ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا، والوقوف عند وجوه إعجازه، ولطائف أسراره فقال:
«ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق، وونت عنها خطا الجياد القرّح، كان الموفق من العلماء الأعلام. . . من كانت مطامح نظره، ومطارح فكره؛ الجهات التي توصل الى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء؛ والمخابرة بين متداولات ألفاظهم، متعاورات أقوالهم،. . . والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حظي، وفهمه فيه جاحظي. والى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير اليه محمود بن عمر الزمخشري، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة» (3).
ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة: أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه،
____________
(1) طبع عدة طبعات، وصورت طبعاته بالأوفست، وبين يدي طبعة دار المعرفة، بيروت (د. ت) وبحاشيتها كتاب الإنصاف لأحمد بن المنير.
(2) ظ: الزمخشري، أساس البلاغة، المقدمة.
(3) ظ: المصدر نفسه: مقدمة المؤلف.
--------------------------------------------------------------------------------
(40)
الذي زعم له نفسه هذه الميزة (1).
وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين:
الأولى: التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه.
الثانية: أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي، فالتزم طريقة «الألفباء» كما صنع الراغب (ت: 502 هـ) في المفردات من ذي قبل، ورفض طريقة المخارج في دقتها، والأبنية في تعقيدها، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره.
«وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا، وأسهله متناولا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التقتير عنها الى الإيجاف والإيضاح، والى النظر فيما لا يوصل الا بإعمال الفكر اليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه» (2).
بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه، ومهمته فيه التيسير، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية. وأما الكشاف، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني، وطلاوة رونقه، وعذوبة مخارجه، ودقائق استعمالاته، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة، وما ابتكره الشريف الرضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني.
لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة، والقرآني بخاصة، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية، وصيغ جمالية، ومعان إعجازية، وسيرورة بيانية، عاد فيها الكشاف كنزا لا
____________
(يُتْبَعُ)
(/)
(1) ظ: أمين الخولي: أساس البلاغة بين المعجم، تعريف بالكتاب في أوله.
(2) ظ: الزمخشري، أساس البلاغة، مقدمة المؤلف.
--------------------------------------------------------------------------------
(41)
تفنى فرائده، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله.
وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني، والتي توصل اليها بفكره النير، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر، وعائدية الضمائر، وأسلوب العبارة، والتركيب الجملي، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والإستعارة وأصناف المجاز، وهو كثيرا التنقل بالألفاظ القرأنية من الحقيقة الى المجاز مستعينا على ذلك بشؤون الكلام العربي في الحذف والإظهار، والتقدير والإضمار، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون.
صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة الى امثالها في تبيين روعة القرآن، وجمال عبارته، ودقة بلاغته.
ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا، ومن خلال هذا الإجمال، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث: الأول، تعقيبه على قوله تعالى (الرحمن على العرش أستوى *) (1)، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي، فيقول:
«ولما كان الأستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة. وقالوا أيضا ـ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ـ: ملك، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت: حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط، أو لم تكن له يد رأسا، قيل فيه: يده مبسوطة لمساواته
____________
(1) طه: 5.
--------------------------------------------------------------------------------
(42)
عندهم قولهم هو جواد. ومنه قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة)، أي هو بخيل (بل يداه مبسوطتان) (1)، أي هو جواد من غير تصور يد، ولا غل، ولا بسط. والتفسير بالنغمة، والتمحل للتثنية من ضيق العطف، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام» (2).
الثاني: تعقيبه على قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم. . .) (3)، قال: «فإن قلت: كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين. . فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح. . . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء (أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى) (4)، أتبعه بما يشاكله ويواخيه، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته» (5).
وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدوا لي، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب. نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من «حقائق التأويل» للشريف الرضي (ت: 406 هـ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير.
____________
(1) المائدة: 64.
(2) الزمخشري، الكشاف 2: 530.
(3) البقرة: 16.
(4) الزمخشري، الكشاف: 1/ 191 وما بعدها.
(يُتْبَعُ)
(/)
(5) توفي ظهر الأربعاء: 9/ 3/1966م عن واحد وسبعين عاما. وكان آخر لقائنا به في بغداد بتاريخ: 11/ 2/1966م حينما اشتركنا معا في مهرجان تأبين علامة العراق الشيخ محمد رضا الشبيبي في جامع براثا ببغداد.
--------------------------------------------------------------------------------
(43)
وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى (ت: 436 هـ) في أماليه (غرر الفوائد ودرر القلائد) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 406 هـ) في التبيان، وعند أبي علي الطبرسي (ت: 548 هـ) في مجمع البيان، وعند فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ) في مفاتيح الغيب، وعند أمثالهم من الأكابر، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف.
وأما الحديث عن ابن رشيق (ت: 463 هـ) في العمدة، وابن سنان (ت: 466 هـ) في سر الفصاحة، وابن الزملكاني (ت: 651 هـ) في كل من البرهان والتبيان، وابن أبي الأصبع (ت: 654 هـ) في بديع القرآن، وابن الأثير (ت: 637 هـ) في المثل السائر، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي (ت: 716 هـ) في الأكسير في علم التفسير، وشهاب الدين محمود الحلبي (ت: 725 هـ) في حسن التوسل، ويحيى بن حمزة العلوي (ت: 749 هـ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، وبدر الدين الزركشي (ت: 794 هـ) في البرهان، وجلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ) في الاتقان. وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا، بل جاء جزءا من كل، وتقاطيع في أبواب، لذا أشرنا إليهم، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب.
وهنا يجب أن نشير الى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) والخطيب القزويني (ت: 739 هـ) وسعد الدين التفتازاني (ت: 791 هـ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول ـ بآيات المجاز في القرآن، فكان ذلك دون شك: سراجهم الهادي ودليلهم الأمين.
ولا بد لي من الإشارة الهادفة الى ما قدمه أبو حيان، أثير الدين، محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 754 هـ) في تفسيره: (البحر المحيط) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات
--------------------------------------------------------------------------------
(44)
البلاغية في القرآن، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدوا لي.
4 ـ مجاز القرآن في دراسات المحدثين
كان لتعيين استاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي رحمه الله (1) أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية والنقدية في كلية الآداب في الجامعة المصرية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، كان له أثره الجليل في قلب المفاهيم التدرسية، ونقد المناهج العلمية، وتجديد الأساليب التفسيرية والبلاغية. كان ذلك إيذانا بحياة قرآنية في الجامعة لا عهد لها بها، وكان صاحبنا ذا منهج محدد يتحدث هو عنه: «فدخلت ميدان التجديد الأول، على خبرة به، ورأي ثابت عنه، وخطة بينة فيه، أدرت عليها عملي في درس البلاغة. وسواها. . . طفقت أتعرف معالم الدراسة الفنية الحديثة بعامة، والأدبي منها بخاصة، وأرجع الى كل ما يجدي في ذلك، من عمل الغربيين وكتبهم، واوازن بينه وبين صنيع اسلافنا، وأبناء عصرنا في هذا كله. . . . وكانت نظرتي الى القديم ـ تلك النظرة غير اليائسة ـ دافعة الى التأمل الناقد فيه، والى العناية بتأريخ هذه البلاغة، أسأله عن خطوات سيرها، ومتحرجات طريقها، أستعين بذلك على تبين عقدها، وتفهم مشكلاتها، ومعرفة أوجه الحاجة الى الإصلاح فيها. . . وبذلك كانت الطريقة التأريخية، مع الأستفادة بالحديث: منهج درسي للبلاغة في الجامعة. . مضيت في هذا الدرس المتأني، أمس مسائل البلاغة مسا رفيقا جريئا معاً، أقابل فيه القديم بالجديد، فأنقد القديم وأنفي غثه، وأضم سمينه الى صالح
(يُتْبَعُ)
(/)
جديد. . وتلك خطة لا تدوم في دراسة جامعية، اساسها التجدد، وحياتها في نماء متصل، لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم، بعدما ضممت خياره الى الجديد، فألفت منها نسقا كاملا، يرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها». فالخولي أستاذ للبلاغة قد وضع خطتاً لتطويرها، ورسم منهجا في تجديد معالمها، واستنّ طريقا لإغناء درسها.
وكانت الجامعة المصرية أول نشأتها، قد وجدت الحاجة في درس
____________
(1) أمين الخولي، فن القول: 8 وما بعدها.
--------------------------------------------------------------------------------
(45)
الأدب وتأريخه الى القول في القرآن، بما هو مادة لذلك التاريخ الأدبي، فجاء إذ ذاك أمين الخولي، وهو من شيوخ المدرسة القديمة فيما يرى في ختام حياته التعليمية، وغيّر في مناهجها ما غيّر، وجعل تفسير القرآن مادة دراسية فيها، وكان مفهوم التفسير عنده أو عند أمثاله لا يجاوز كثيرا تلك الكتب المتداولة فيه. . . وكلها يمكن أن يقال فيه: أنه لا يستطيع الوفاء ببيان ما في القرآن من قوة بلاغية؛ وكانت الحياة الأدبية الجامعية خصبة، متجددة، متطلعة، مستشرقة، فاتبعت وراء ما استشرف إليه المفسرون من حسّ العربية وذوقها، وبلاغة هذا الأسلوب؛ ماهو وراء ذلك وأبعد، على أن يكون لهذا التطلع ضابط من طبيعة اللغة وحيويتها، فراحت الجامعة تحول التفسير درسا أدبيا محضا، ويستعين بكل ما بلغته وستبلغه الثقافة الإنسانية الفنية من دقة وتطلع (1).
وكان صاحب هذا المنهج الجديد هو أمين الخولي باعتباره مدرسا لتفسير القرآن، وواضعا لمفرداته العلمية، فاستعان على ذلك بما كتبه في القرآن، وكان «تاريخ القرآن» مجموعة محاضراته فيه ـ ولم ينشر ـ وكان «التفسير. . معالم حياته. . منهجه اليوم» من أروع البحوث في دائرة المعارف الإسلامية / المجلد الخامس، وقد اشتمل عليه كتاب «مناهج تجديد» وكانت دراسته للقرآن العظيم بين هذا وذاك تشمل: حياة الألفاظ القرآنية، وتدرج دلالتها، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة، الواحدة، وكانت البلاغة القرآنية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال: اساس الدرس التفسيري مضافا إليها الغرض الديني والبعد العقائدي (2).
وكان بحثه الفريد «القرآن الكريم» في دائرة معارف الشعب المصرية في 1959 م مستوفيا لجملة من خصائص القرآن الأسلوبية في كل من المكي والمدني، وما يتميز به كل منهما بتمييز حال المخاطبين.
وكانت محاضراته في «أمثال القرآن» ـ وقد أملاها على طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ـ جوهرة ثمينة إجرى فيها تحقيقا لغويا لكلمة «المثل» وجمع الآيات التي تضمنت لفظ المثل، وقام
____________
(1) ظ: كامل سعفان في كتابه: أمين الخولي، 113 وما بعدها وانظر مصادره.
(2) ظ: أمين الخولي، مناهج تجديد: 293.
--------------------------------------------------------------------------------
(46)
بتصنيف بعض الأمثال وإرجاعها الى موضوعاتها مكتفيا بتمثيل الحياة الدنيا، والعمل الطيّب والخبيث، وصفات الله سبحانه وتعالى، وتمثيل المؤمنين والكفار واليهود والمنافقين، ومثل الجنة (1).
وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل للأستاذ أمين الخولي وأمثاله من الأساتذة ذوي الحمية على كتاب العربية الأكبر، أن أدخلوا «القرآن» في مختلف شؤونه الجمالية موضوعا بلاغيا وتفسيريا في الدراسات العليا بجامعة القاهرة، وفي كلية الأداب منها، وفي قسم اللغة العربية وآدابها بخاصة، فكتبت عشرات الرسائل بإشرافهم، وهي تتناول مجاز القرآن وبيان القرآن، واستعارة القرآن، وكناية القرآن، وإعجاز القرآن، وقصص القرآن، ومجموعة الصور الفنية في جمالياته بعامة إضافة الى التفسير وعلوم القرآن.
وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة المتطورة الحقة في ضوء القرآن الكريم، فكانت رسائل الماجستير والدكتوراه بداية عصر جديد في النهضة العلمية في الجامعات العربية، إذ اتخذت القرآن منهجا لاستنباط شتى مقومات البلاغة العربية.
لقد أفادت المكتبة القرآنية من هذا المنعطف الجديد بداية صالحة ـ على يد علماء متخصصين ـ لدراسات المحدثين في بلاغة القرآن.
(يُتْبَعُ)
(/)
وكان منهج الخولي يميل الى دراسة القرآن «موضوعا موضوعا، لا أن يفسر على ترتبيه في المصحف سورا، أو قطعا، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا، ويعرف بترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيما بعد لتفسّر وتفهم، فيكون ذلك التفسير أهدى الى المعنى، وأوثق في تجديده» (2).
وهذا يعني قيام «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» وأن يعنى المتخصصون بدراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن، ويستقصيها إحصاءً
____________
(1) ظ: المؤلف: الصور الفنية في المثل القرآني، 406، محمد جابر الفياض، الأمثال في القرآن الكريم، المقدمة: 10.
(2) ظ: أمين الخولي، دائرة المعارف الإسلامية، مادة: تفسيره: 368.
--------------------------------------------------------------------------------
(47)
لتكون هيكلا مترابطا يشكل وحدة موضوعية متكاملة، ثم يقوم بتفسيرها ودراستها بحسب منهجه العلمي.
وحينما عهد برئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة الى الأستاذ العلامة يوسف عبد القادر خليف في السبعينات، استجاب سيادته وأمثاله من الأساتذة الى هذا المنهج فوجهوا طلابهم هذا الوجه، فتخصص معظم البلاغيين العرب بجزء مهم من القرآن الكريم، فبحث إعجازه حينا، وقراءاته حينا آخر، وتشبيهاته تارة أخرى، وبلاغته وصوره الفنية تارة اخرى، وكان لي الشرف إن كنت أحدهم في هذا المضمار الكريم (1).
ان هذه الجهود التي أرسى أسسها أمين الخولي، قد وجدت آذانا واعية لدى الشباب المتحفز، فاتّسمت بحوث طائفة منهم بإشارات قيمة الى جملة من الصنوف البيانية في القرآن، واعتماد المنهج البلاغي في الكشف عن وجود الإعجاز القرآني، وكان ذلك متمثلا بالبحث حينا، وبالتطبيق حينا آخر.
وأما على سبيل الأستشهاد والتمثيل فلا أعلم بحثا قرآنيا يخلو من الأستناد الى مجازات القرآن وكناياته وتشبيهاته واستعاراته، إلا أن الذي يحز بالنفس إن لم أوفق على الوقوف على عمل مستقل بمجاز القرآن. نعم يمكن القول بأن جهود المحدثين في هذا المجال قد اتخذت طابعا ذا شعبتين في التوجه نحو بيان القرآن بعامة، ومجازه بخاصة: مجال التهيئة والدعوة الى خوض عباب القرآن، والكشف عن كنوزه وأسراره كما صنع الخولي، ومجال التأليف الجزئي في المجاز أو البيان ـ وصور القرآن الجمالية.
وسأقف عند هذين الجانبين بحدود ما لمسته حسيا، وتابعت أضواءه شخصيا، مما شكل انطباعا خاصا، قد يضاف غيره إليه.
____________
(1) كتب المؤلف رسالته للدكتوراه «الصور الفنية في المثل القرآني: دراسة نقدية وبلاغية» بإشراف الأستاذ الدكتور يوسف عبد القادر خليف في قسم اللغة العربية وأدبها في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
--------------------------------------------------------------------------------
(48)
ففي الجانب الأول، يبرز في الجامعات العراقية ـ مثلا ـ دور كل من:
1 ـ الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، فما زلت أتذكر ـ قبل ربع قرن أو أكثر ـ ونحن طلاب في الدراسات الأولية الجامعية، أنه كان يأخذنا أخذا شديدا في مدارسة النحو في ضوء القرآن كاشفا عن بلاغته ووجوه إعجازه، ومطابقة عباراته من خلال نظم المعاني لمقتضى الحال، وربما ضاق بعضنا ذرعا من جديته هذه فيتذرع بالقول: إن الغاية من النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال أو الكلام، فكان ـ رحمه الله ـ (1) يجيب: بأن هذا صحيح بالنسبة لعامة الطلاب، أما بالنسبة لكم فالغاية: خدمة القرآن العظيم.
وكان الجواري في هذا المنهج يصدر عن رأي استاذه الخولي، فما شوهد متحدثا إلا وآيات القرآن على شفتيه، ولا درّس إلا وشواهده من القرآن، وألف وهو معني بالنحو والقرآن معا: «نحو التيسير» «نحو القرأن» و «نحو الفعل» و «نحو المعاني» وفي كتبه شذرات قيمة من معاني القرآن وبيانه كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي واللغوي وإن كان النحو مضمارها.
(يُتْبَعُ)
(/)
2 ـ الدكتور جميل سعيد ـ عضو المجمع العلمي العراقي، وقد عني عناية خاصة بتدريس إعجاز القرآن وتصوير أبعاده الفنية والجمالية، وتمخض لهذا الجانب في الدراسات العربية العليا، وكان «دلائل الأعجاز» و «أسرار البلاغة» مضماره الأول في مظان التدريس، وهو بإزاء كشف البيان القرآني، وطالما كان يحث الكثيرين من تلامذة الدراسات العليا ـ وأنا منهم ـ على متابعة الاستنارة في القرآن، وعلى تحرير الرسائل الجامعية في ضوء هداه، وإبراز الوجهة الأدبية والبلاغية للبيان العربي من خلال معطياته البيانية الفريدة، وفضلا عن هذا المنهج فإن بحوثه العلمية غنية بالموروث القرآني العظيم.
____________
(1) توفي الدكتور الجواري فجأة عند باب داره ظهر الجمعة: 22/ 1 / 1988 م وهو في طريقه لأداء الصلاة، عن عمر يناهز خمسة وستين عاما.
--------------------------------------------------------------------------------
(49)
وفي الجانب الثاني من هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب الى ما حققه الدكتور مصطفى صادق الرافعي في كتاباته عن إعجاز القرآن، فقد كان من الرواد في بدايات النهضة الأدبية لهذا القرن في المقام، والى ما أنتجه بأصالة وعمق الدكتور بدوي أحمد طبانة في كتاباته البيانية المتشعبة، والى ما قدمه الدكتور مصطفى الصاوي الجويني في متابعاته البلاغية والتفسيرية والخدمات القرآنية، والى ما أبقاه السيد قطب في كل من «ظلال القرآن» و «مشاهد القيامة في القرآن» و «التصوير الفني في القرآن». والى ما أضافه الدكتور محمد عبد الله دراز في الشؤون الإعجازية والقرآنية، والى ما حققه الدكتور محمد المبارك في منهل الأدب الخالد، والى ما اكتشفه الأستاذ مالك بن نبي في «الظاهرة القرآنية»، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه «من بلاغة القرآن» والدكتور بكري الشيخ أمين في «التعبير الفني في القرآن».
فكل من هؤلاء قد أفرغ ما في كنانته من سهام مضيئة في التنوير العام بين يدي القرآن وأسلوبه البياني، وكان المجاز جزءا رصينا مما كتبوا، جزاهم الله خيرا عن كتابه المجيد.
وأقف عن كثب بمتابعة المجاز القرآني عند كل من:
1 ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» الأستاذة في كلية الآداب / جامعة عين شمس في القاهرة.
اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني، وكانت موفقة الى حد كبير يطمئن اليه، وسياق جليل في الاهتداء الى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في «التفسير البياني للقرآن الكريم» وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد، وبأسلوب جديد، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزئين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفاً لروح العربية ومزاجها، مستأنسا في كل لفظ، بل في كل حركة ونبرة، بأسلوب القرآن نفسه، محتكمة اليه وحده عندما يشجر الخلاف،
--------------------------------------------------------------------------------
(50)
ويلتوي الطريق، وتتكاثف الظلال، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن، والتدبر الواعي لدلالة سياقه، والإصغاء المتأمل الى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز. . . وقد قصدت بهذا الاتجاه الى توصيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف: «القرآن يفسر بعضه بعضا» (1).
تقول بنت الشاطئ: «فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية، ألفيت من الصعب أن أقدمه على النحو الذي يفي بجلالها، وتهيبت أن أؤدي بالمألوف من تعبيرنا، أسرارا من البيان المعجز تدق وتشف، حتى لتجل عن الوصف، وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء» (2).
وكان هذا التفسير ثمرة صالحة لجهود سابقة في جملة من قضايا البيان القرآني، توجتها بنت الشاطئ ببحوث لاحقة في الموضوع نفسه في جولات متعددة بين مشرق الإسلام ومغربه ضمن مؤتمرات علمية أشير الى بعضها:
(يُتْبَعُ)
(/)
أ ـ في مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي عام 1964 قدمت بحثا بعنوان: «مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم».
ب ـ في كلية الآداب بجامعة بغداد، في مارس 1965 قدمت بحثا بعنوان «من أسرار العربية في القرآن الكريم».
ج ـ في الكويت، في نوفمبر 1965 م حاضرت ببحث عن: «القرآن الكريم وحرية الإرادة».
د ـ في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1965، قدمت تفسيرا منهجيا لسورة العصر.
هـ ـ في عام 1968 قدمت محاضرات في البيان القرآني في جامعتي الرباط وفاس بالمغرب، وجامعة الجزائر.
____________
(1) ظ: بنت الشاطئ، التفسير البياني للقرآن الكريم: 1/ 18.
(2) المصدر نفسه: 2/ 7.
--------------------------------------------------------------------------------
(51)
وكان كتابها «الإعجاز البياني للقرآن» موضع إعجاب الباحثين، وقد أعطت فيه مجالا رحبا لمجاز القرآن.
2 ـ الدكتور أحمد مطلوب استاذ في كلية الآداب / جامعة بغداد، هذا الشاب المتحفّز، الذي يعتبر من شيوخ الصناعة اليوم، فقد تعقب في كتبه البلاغية كل أصناف البلاغة القرآنية، حتى يكاد لا يستشهد في نظرياته التطبيقية وآرائه البيانية، وتقسيماته للبلاغة العربية إلا بآيات القرآن الكريم باعتباره نصا إلهيا مقدسا من وجه، وباعتباره كتاب العربية الأكبرمن وجه آخر. عرض للمجاز القرآني وأثبت وقوعه في القرآن وفي اللغة العربية على حد سواء «لأن أية لغة لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية وأنه لا بد من انتقالها للدلالة على معان جديدة تتطلبها الحياة وتطورها. والمجاز كثير في اللغة العربية ويعد من مفاخرها، وهو دليل الفصاحة ورأس البلاغة. وفي القرآن الكريم كثير من هذا الفن وإن اختلف الباحثون في ذلك فرأى بعضهم أن كتاب الله كله حقيقة، وإذا كان معنى الحقيقة الصدق فذلك صحيح، أما إذا كان معنى المجاز العدول في اللفظ من معنى الى آخر، فليس الأمر كذلك لأنه جاء الكثير منه في كتاب الله. . . وعليه معظم البلاغيين» (1).
بحث الدكتور أحمد مطلوب المجاز في القرآن وفي العربية في أغلب كتبه القيمة، فاشتملت عليه «مصطلحات بلاغية» و «البلاغة عند السكاكي» و «القزويني وشروح التلخيص» ووقف عنده موقف الناقد البصير والعارض المنصف في «فنون بلاغية» وأعطى لتقسيماته الفنية بعدا إحصائيا مبتكرا على أساس معجمي حديث في «معجم المصطلحات البلاغية وتطورها»، وكرس جهدا قيما للموضوع في «مناهج بلاغية».
أخذ الله بيده لإكمال مسيرته البلاغية في ضوء القرآن الكريم. وهكذا نجد في دراسات المحدثين لقطات نادرة من أمثال المجاز القرآني، يستقطب بعضها البحث المشرق، ويسترشد بعضها الآخر الاستشهاد
____________
(1) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84 ـ 86.
--------------------------------------------------------------------------------
(52)
السائر، ويستخلص منها آخرون قواعد البلاغة وأسس البيان فتعرض على القرآن وتخضع له، ومع كل هذه الجهود المتناثرة فلم أقف على عمل خاص، وجهد قائم بذاته في مصنف منفرد في مجاز القرآن ـ كما أسلفنا ـ فجاء هذا البحث ـ بعون الله تعالى ـ متمحضا لهذا الغرض، ومتخصصا فيه.
وقد زعم الدكتور أحمد بدوي: «إن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة المجاز في القرآن الكريم، قد مضوا يلتمسون أمثلته، يبوّبونه ويذكرون أقساما كثيرة له، حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة، ومخالفة الذوق اللغوي» (1).
وهذا الزعم منحصر في جملة من النماذج التي لا تنهض دليلا قاطعا على صحة الرأي؛ إذ يعارضه: أن ما كتب في مجاز القرآن بمعناه الاصطلاحي لا يتجاوز الدراسات الأنموذجية القائمة على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء، والمثال قد يتكلف به، وقد يأتي طيعا متساوقا، وإذا كان الامر كذلك، فأختيار بعض البلاغيين للنماذج المقحمة لا يشكل حكما عاما بهذه السهولة. وكما لا نوافق على هذا الزعم، فكذلك لا نميل أيضا الى ما ذهب اليه الأستاذ عباس محمود العقاد من أن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية الى الكتابة بالحروف الأبجدية (2).
فلا دليل على هذا من أثر أو تاريخ، ولا وضوح في هذا الملحظ، وهو شبيه بادّعاء الأثر الإغريقي واليوناني في البلاغة العربية، فكلاهما لا يصدر عن نص موثوق، أو دليل قاطع، بل هي تكهنات لا تنهض مقياسا على صحة دعوى وأصالة رأي.
فالمجاز وإن استعمل في اللغات العالمية الحية ولكنه يدور معها في حدود معينة، وهو بخلاف هذا في لغة القرآن، إذ الاستعمال المجازي فيها أساسي وليس أمرا عارضا، لأنه أحد شقي الكلام وطرفيه، وهما الحقيقة
____________
(1) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 224.
(2) ظ: عباس محمود العقاد، اللغة الشاعرة: 26.
--------------------------------------------------------------------------------
(53)
والمجاز، ولما كان القرآن الكريم جاريا على سنن العرب كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام.
وها هي مسيرة المجاز القرآن لا تقف عند حدّ، ولا يستوعبها أحد، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآليه، تغذي العقول، وتربّ الأفئدة، خاشعة لها الأبصار؛ بدرا يدور به فلك من المعارف لا تنتهي فرائده، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا، ووهجا من تلك الأضواء، يصور جزئيات منتظمة، ويعكس نظريات قد تتبلور، والله المستعان.
فارس العربية الخـ زيد ـــــــــيل
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[16 - 11 - 2005, 04:38 ص]ـ
فارس العربية الخـ زيد ـــــــــــــيل(/)
كتاب مجاز القران 2
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 09:36 م]ـ
:::
الفصل الثاني
مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية
1ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
2ـ وقوع المجاز في القرآن
3 ـ تقسيم المجاز القرآني
4 ـ مجاز القرآن: عقلي ولغوي
--------------------------------------------------------------------------------
(56)
--------------------------------------------------------------------------------
(57)
1 ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت: 711 هـ) قول اللغويين:
«جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع (1).
وكان عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده: «مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما نوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا» (2).
وهو لايكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول: «ثم إعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا؛ وهو أن الأسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه» (3).
وهذا يعني مضافا لما سبق: مجانسة المعنى المنقول له اللفظ الى معناه الأولي حيث توافر المناسبة في وجه النقل كتسمية الاعتدال غصنا،
____________
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة: جاز.
(2) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 365.
(3) المصدر نفسه: 365.
--------------------------------------------------------------------------------
(58)
والقوام بانا، والحلم طودا، لافتراع الغصن استقامة، ورشاقة البان طولا، ورسوخ الطود ثباتا. فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء.
والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه الى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت:
كل كلمة جزت بها. ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها، فهي مجاز» (1).
وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا النص، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات.
ومن هنا يبدوا أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، فيقول:
«المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع» (2).
وهذا التحديد ـ كما تراه ـ لا يخلو من بعد منطقي في التعبير، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه.
____________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 325.
(2) السكاكي، مفتاح العلوم: 170.
--------------------------------------------------------------------------------
(59)
ويبدوا أن اللغويين والبلاغيين معا، لم يأتوا بجديد في الموضوع، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف، واتفقوا على الأصل، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني (ت: 392 هـ) في التوصل الى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله: «فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا؛ وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه، وهو الاجتياز والتخطي من موضع الى موضع، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا، فكما يجتاز الإنسان، ويتنقل في خطاه من موضع الى موضع، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع الى موقع، ويتجاوز اللفظ محله من معنى الى معنى، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك؛ فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (2).
وكان التحرر من الضيق اللفظي، والانطلاق في مجالات الخيال، والتأثر بالوجدان النفسي، والحنين الى العاطفة الصادقة، والاتساع في رحاب اللغة، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة: أساس هذا الاستعمال، فرارا من الجمود، وتهربا من التقوقع في فلك واحد، حول محور واحد.
وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث.
وليس هذا الفهم جديدا، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي،
____________
(1) ابن جني، الخصائص: 2/ 442.
(2) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 35.
--------------------------------------------------------------------------------
(60)
فالجاحظ (ت: 255 هـ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصور الفنية (1).
ولا يعتبر هذا رجوعا الى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة، ويتم ذلك بالنظر الى الكلام العربي عن كثب:
أ ـ فإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب ـ وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج ـ وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به؛ فهو الاستعارة (2).
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها الا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها
____________
(1) الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز، الحيوان 5: 23 ـ 34.
(2) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 40.
--------------------------------------------------------------------------------
(61)
وتواجدها، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية الى بقاع الأرض المختلفة، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يضفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة الى ميدان أوسع. والتطلع بها نحو أفق رحيب.
ولما كان القرآن العظيم اساس العربية ودستورها، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام، وهما: الحقيقة والمجاز.
(يُتْبَعُ)
(/)
وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا
2 ـ وقوع المجاز في القرآن
ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، فالقرآن كتاب العربية الأكبر، وهو ناموسها الاعظم، يحرس لغتها من التدهور، ويحفظ أمدادها من النضوب، ويقوّم أودها من الانحطاط. وقد كان إعجازه البياني موردا متأصلا من موارد إعجازه الكلي، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي، وبعده التشبيهي، ورصده الاستعاري، وتهذيبه الكنائي، وأعجبوا أيما إعجاب بوضع ألفاظه من المعنى المراد حيث يشاء البيان السّمح؛ والإرادة الاستعمالية المثلى، تأنقا في العبارة، وتحيزا للمعاني؛ فلا غرابة أن يكون القرآن مصدرا للثروة البلاغية الكبرى عند العرب، وأصلا لتفجير طاقات تلك البلاغة، والمجاز منها عقدها الفريد.
ولذلك يرى بعض البلاغيين: «إن المجاز هو علم البيان بأجمعه، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة؛ لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان» (1).
____________
(1) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84 وانظر مصادره.
--------------------------------------------------------------------------------
(62)
ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الأستعمال البياني.
فقد رد عبد القاهر (ت: 471 هـ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى:
أ ـ (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) (1).
ب ـ (وجاء ربّك) (2).
ج ـ (الرحمن على العرش استوى *) (3).
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان الى مكان، وصفة من صفات الأجسام، وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح الا في جسم يشغل حيّزا، ويأخذ مكانا، والله عزّوجلّ خالق الأماكن والأزمنة، ومنشيء كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة (4).
إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة، ومعانيها الإيحائية الأخرى، قد دلّه بالنظر العقلي الى مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن، وإلا وقعنا بالتجسيد تارة، واصطدمنا بإشغال المكان بالنسبة اليه تارة أخرى، وهذا باطل من الأساس في العقيدة، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية وبدراية بهذه النسبة المفتراة. انظر الى قوله تعالى:
(ومن كان في هذه اعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا *) (5).
____________
(1) البقرة: 210.
(2) الفجر: 22.
(3) طه: 5.
(4) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 362.
(5) الإسراء: 72.
--------------------------------------------------------------------------------
(63)
فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها، وهو عمى العين، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى العين، بل وأضل سبيلا!!
وفي هذا نسبة عين الظلم له تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فما هو ذنب من خلقه أعمى في الدنيا أن يحشره أعمى في الآخرة؟ وما هو المراد حينئذ بـ: أضل سبيلا، فهل هذا مكافأة على عماه البصري في الدنيا، فإن حملنا هذا على الظاهر فالأعمى في الدنيا ضال عن السبيل، وهو أضل له في الآخرة، ولا ملازمة بين العمى البصري وبين الضلال عن الدين على الاطلاق، إذن لا بد من حمل العمى على الاستعمال المجازي في الموردين، ليناسب مع الضلال، فيستقيم المعنى القرآني، وينزه الله تعالى، فيكون المعنى الثانوي هو المراد، وهو ـ والله العالم ـ من كان في حياته الدنيا ضالا عن الحق، متعاميا عن الصراط المستقيم، زائغا عن سنن رب العالمين، مكذبا لأنبيائه ورسله، مستهزئا بتعليماته وتشريعاته، فقد كتب له الضلال في الدنيا نتيجة تصرفه وسلوكه، فهو كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله، وأبصار الدين بين واضح ولكنه تعامى عنه، وإذا كانت هذه حالة في الدنيا، فهو في الآخرة أضل سبيلا فلا يهتدي الى نور يستنقذه، أو الى شفيع يأخذ بيده،
(يُتْبَعُ)
(/)
فهو في ظلمات متعاقبة، متداخلة، كمن وهب حاسة البصر ولم يعملها ويستفد منها في تمييز المرئيات فشأنه شأن فاقدها، فهو أعمى كما كان ذلك أعمى، وأذا عمي الانسان عن السبيل الحق في الدنيا، ولم يعمل عمله، كان في الآخرة أشد حيرة وضلالا، إذ قدم على ما عمل فوجده هباءً منثورا، ولما يقدم لنفسه في حياته ما يستنير به بعد وفاته. وهذا ما يوضح مجازية الآية، وبدلالة القرآن نفسه في قوله تعالى:
(ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى *) (1).
____________
(1) طه: 124 ـ 126.
--------------------------------------------------------------------------------
(64)
وفي الآيات هذه عدة شواهد على مجازية الآية السابقة، وعلى مجازية الآيات نفسها في عدة دلائل منها:
1 ـ إن المعنى: يحشر أعمى البصر، وقيل أعمى عن الحجة، أي لا حجة يهتدي إليها.
قال الفراء: «يقال أنه يخرج من قبره بصيرا في حشره» (1).
وفي ذلك دلالة على أن لا ملازمة بين العمى الحقيقي ـ في الآية السابقة ـ وبين الضلال. فقد يحشر البصير في هذه الدنيا أعمى في الآخرة، وهذا العمى قد يكون على ظاهره كما حمله أبو زكريا الفراء وقد يكون مجازه كما روى ذلك معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام ـ يعني الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عن رجل لم يحج وله مال، قال هو ممن قال الله (ونحشره يوم القيامة أعمى) فقلت سبحان الله أعمى، قال أعماه الله عن طريق الحق (2). قال الطبرسي (ت: 548 هـ) فهذا يطابق قول من قال: إن المعنى في الآية أعمى عن جهات الخير لا يهتدي لشيء منها (3).
2 ـ وكما حشر أعمى حينما أعرض في حياته الدنيا عن القرآن ودلائل الشريعة، وسنن النبوة، ونسي آيات الله، فقد صكّ (فكذلك اليوم تنسى) أيها الناسي، فتصير بمنزلة من ترك كالمنسي بعذاب لا يفنى.
3 ـ وقيل معناه: كما حشرتك أعمى، لتكون فصيحة؛ كنت أعمى القلب، فتركت آياتي ولم تنظر فيها، وكما تركت أوامرنا فجعلتها كالشيء المنسي، تترك اليوم في العذاب كالشيء المنسي (4).
فالمجازية في إضراب هذه الألفاظ متواترة الورود في الروايات ومقتضاة لضرورة المعاني.
والطريف أننا لو رجعنا الى المصادر التراثية في تفسير تلك الألفاظ وأمثلها، لكان ذلك وحده كافيا للاستدلال بوقوع المجاز في القرآن؛ وانظر الى جمهرة الأقوال في شتى شؤونها بالنسبة للآية موضوع البحث، وإنما أكدنا عليها لأن دلالتها واضحة تكاد لا تخفى على السواد، فكيف
____________
(1 ـ 4) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 4/ 34 ـ 35.
--------------------------------------------------------------------------------
(65)
بالعلماء، وهذه بعض مميزات النص القرآني أن يكون بعضه مفهوما بين الناس دون عناء.
ذكر في معنى قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضلّ سبيلا *) (1) عدة أقوال:
إن هذه إشارة الى ما تقدم ذكره من النعم، ومعناه: أن من كان في هذه النعم، وعن هذه العبر أعمى، فهو عما غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى. روي ذلك عن ابن عباس.
2 ـ إن هذه الإشارة الى الدنيا ومعناه: من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق، ذاهبا عن الدين، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة، أو عن الحجة إذا سئل، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا، يكون يوم القيامة منقطع الحجة، فالأول اسم، والثاني فعل من العمى.
3 ـ إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب، فإنه في الآخرة أعمى العين، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا، روي ذلك عن أبي مسلم، محمد بن بحر، قال فهذا كقوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى) (2). . . وعلى هذا فليس يكون قوله (فهو في الأخرة أعمى *) على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله: (وأضلّ سبيلا *) ويكون التقدير: وهو أضل سبيلا. قال: ويجوز أن يكون أعمى: عبارة عما يلحقه من الغم المفرط، فإنه إذا لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى، كما يقال: فلان سخين العين.
(يُتْبَعُ)
(/)
4 ـ وقيل معناه: من كان في الدنيا ضالا، فهو في الآخرة أضل، لأنه لا تقبل توبته، واختار هذا الرأي أبو إسحاق الزجاج: وقال تأويله أنه إذا عمي الدنيا وقد عرّفه الله الهدى، وجعل له الى التوبة وصلة، فعمي عن رشده ولم يثب فهو في الآخرة أشد عمى، وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا الى الهداية (3).
____________
(1) الإسراء: 72.
(2) طه: 124.
(3) ظ: الطبرسي، مجمع البيان 3/ 430.
--------------------------------------------------------------------------------
(66)
فكل هذه المعاني ـ كما رأيت ـ قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن.
«ومن قدح في المجاز، وهم أن يصفه بغير الصدق، فقد خبط خبطا عظيما، ويهدف لما لا يخفى» (1).
فهناك من أنكر المجاز في القرآن، وهناك من حمل جملة من الاستعمال الحقيقي على المجاز، وكلاهما قد تجاوز القصد، وجانب الاعتدال في المذهب.
وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) هؤلاء وهؤلاء: «وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى، وهم المنكرون للمجاز: إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع.
وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدىً وشفاء، ونورا وضياء، وحياة تحيا بها القلوب، وروحا تنشرح عنه الصدور، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به خلاف البيان، وفي حد الإغلاق، والبعد عن التبيان، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء، والمحاجي من الناس، كيف وقد وصفوه بأنه: (عربيٌ مبين) (2) (3).
وعبد القادر في هذا يشير الى الخلاف التقليدي في هذه المسألة، أهي واردة أم هي منتفية؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن، ووافقهم على هذا بعض الشافعية، وقسم من المالكية، وأبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة (4).
____________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 361.
(2) النحل: 103.
(3) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 363.
(4) ظ: الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/ 255.
--------------------------------------------------------------------------------
(67)
وقد جاء هذا الرفض بحجة أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزّه عنه، فإن المتكلم لا يعدل اليه الا اذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى (1).
وقد ثبت لدينا في ضوء ما تقدم، وفي ظلال ما سيأتي بيانه، أن المورد المجازي في الاستعمال القرآني لا تضيق في الحقيقة، أو عجز عن تسخيرها في تحقيق المعنى المراد، بل لغاية التحرر في الالفاظ، وإرادة المعاني الثانوية البكر، فيكون بذلك قد أضاف الى الحقيقية في الألفاظ إضاءة جديدة، والألفاظ هي هي، وهذا بعيد عن ملحظ الكذب في التقرير، أو العجز عن تسخير الحقيقة. ولو خلا منه القرآن لكان مجردا عن هذه الإضافات البيانية الاصيلة، وليس الأمر كذلك.
ويؤكد هذا الملحظ تعقيب الزركشي (ت: 794 هـ) على القول بمنع استعمال المجاز القرآني بقوله:
«وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن» (2).
فاستعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة اليه في بيان محسنات القرآن البلاغية، فهو والحقيقة يتقاسمان شطري الحسن في الذائقة البيانية كما أشار الزركشي.
ويبدو ضعف هذا المذهب ـ وهو يرفض وجود المجاز في القرآن ـ حينما نشاهد حرص الجمهور والإمامية، وأغلب المعتزلة، ومن وافقهم من المتكلمين على إثبات وقوعه في القرآن (3).
حقا إن ابن قتيبة (ت: 276 هـ) قد أشار منذ عهد مبكر الى مسألة
____________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان في علوم القرآن: 3/ 109.
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/ 255.
(يُتْبَعُ)
(/)
(3) ظ في هذا الشأن: الجاحظ، الحيوان: 1/ 212. ابن جني، الخصائص: 2/ 447 ـ457. الرضي، تلخيص البيان في جملة نصوصه، المرتضى في الأمالي، الزمخشري، الكشاف في أغلب مواضعه.
--------------------------------------------------------------------------------
(68)
الطعن على القرآن في هذه القضية، وناقشها مناقشة أدبية ونقدية بارعة، مؤيدا ذلك بموافقات اللسان العربي، ومستدلا على ما يراه بسنن القول عند العرب في سائر الاستعمالات حتى الساذجة البسيطة منها.
يقول ابن قتيبة: «وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز، فإنهم زعموا أنه كذب، لأن الجدار لا يريد، والقرية لا تسأل، وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم، وقلة إفهامهم، ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب الى غير الحيوان باطلا، كان أغلب كلامنا فاسدا، لأنا نقول: نبت البقل، طالت الشجرة، أينعت الثمرة، أقام الجبل، رخص السعر» (1).
وقد أيد هذا المنحى عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) بقوله: «وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك الى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة، وذلك قوله عزّ وجلّ: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدّنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) (2) وأمثال ذلك كثير» (3).
وقد أفرد المجاز بالتصنيف من الشافعية الشيخ عز الدين بن عبد السلام (ت: 660 هـ) في كتابه «الإشارة الى الإيجاز في بعض أنواع المجاز» (4).
وهناك كتاب قديم ذكره ابن النديم في الفهرست يخص هذا الجزء من البحث اسمه (الرد على من نفى المجاز من القرآن) للحسن بن جعفر (5). ولم أعثر فيما لدي من فهارس المخطوطات على إشارة الى مكان وجوده في مكتبات العالم، ولعله فقد فيما فقد من عيون التراث، ويبدوا أنه قد ألف لغرض إثبات وقوع المجاز في القرآن ردا على من نفى ذلك عنه، كما هو واضح من العنوان.
____________
(1) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 99.
(2) آل عمران: 117.
(3) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 361.
(4) طبع في استانبول، دار الطباعة العامرة، 1312 هـ.
(5) ابن النديم، الفهرست: 63، دار المعرفة، بيروت، 1978 م.
--------------------------------------------------------------------------------
(69)
والحق أن المجاز واقع في القرآن باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر بلاغته الإعجازية، كما سنشاهد هذا فيما بعد، عند التطبيق المجازي على عبارات القرآن الحكيم.
3 ـ تقسيم المجاز القرآني
لم يكن المجاز القرآني بمنأى عن الإطار العام لتقسيم المجاز في البيان العربي، شأنه بذلك شأن الأركان البلاغية الاخرى التي يقوم على أساسها الفن القولي، فقد استقطب القرآن الكريم شتى صنوفها ومختلف تقسيماتها، وحفلت سوره وآياته بأبرز ملامحها وأصدق مظاهرها، حتى عاد تقسيمها خاضعا لأحكام القرآن البلاغية، ولم يكن القرآن خاضعا لتلك التقسيمات في حال من الأحوال، لأنها مستمدة من هديه، وسائرة بركاب مسيرته البيانية المعجزة، وهكذا بالنسبة للمجاز فهو عند البلاغيين نوعان، لأنه في القرآن نوعان: مجاز لغوي ومجاز عقلي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكلي المجاز باعتباره عقليا أو لغويا.
هناك بعض الإضافات والمسميات عند القدامى تجاوزت هذا التحديد في نهجه البلاغي، نعرض إليه ونردّه الى أصوله:
هناك مجاز الحذف عند سيبويه (ت: 180 هـ) وعند الفراء (ت: 207 هـ) اورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف اليه إعراب المضاف (1).
وقد مثلوا له بقوله تعالى: (وسئل القرية) (2). وقد أضاف عز الدين إبن عبد السلام (ت: 660 هـ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه، وهو التشبيه المحذوف الأداة، وأوضح رأيه هذا بقوله:
«العرب إذا شبهوا جرما بجرم، أو معنى بمعنى، أو معنى بجرم، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان
____________
(1) ظ: سيبويه، الكتاب: 1/ 212. الفراء، معاني القرآن 1/ 363.
(2) يوسف: 82.
--------------------------------------------------------------------------------
(70)
ذلك تشبيها مجازيا» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
والثاني: مجاز التضمين، وهو أن تضمن اسما معنى إسم لإفادة معنى الإسمين، فتعديه تعديته في بعض المواطن (2).
ولقد قسم القزويني المجاز الى مفرد والى مركب، والمفرد الى لغوي وشرعي وعرفي، والمركب وهو التمثيل على سبيل الأستعارة الى مرسل واستعارة (3).
وهنا نعقب على هذه الإضافات ناظرين أصول المجاز في التقسيم.
فأما مجاز الحذف فشأنه كشأن مجاز الزيادة، والأول أشار إليه سيبويه والفراء، وقد أفاد من هذه التسمية القزوني (ت: 739 هـ) فضم إليها مجاز الزيادة، وعقد لذلك فصلا في الإيضاج سمّاه: المجاز بالحذف والزيادة (4).
أما مجاز الحذف، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساوات والأطناب في موضوعهما، ولا داع الى تكلف القول في الآية (وسئل القرية) (5). ان حكم القرية في الأصل هو الجر، والنصب فيها مجاز، باعتبار ان المضاف محذوف، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا.
وأما مجاز الزيادة، وقد مثلوا له بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (6)، على القول بزيادة الكاف، أي ليس مثله شيء، فإعراب «مثله» في الأصل هو النصب، فزيدت الكاف، فصار الحكم جرا، وهذا الجر مجازي على ما يصفون.
والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط، بل هو من
____________
(1) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة الى الإيجاز: 85.
(2) المصدر نفسه: 74.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 268. التلخيص: 293.
(4) ظ: القزويني، الإيضاح: 454، تحقيق: الخفاجي: 82.
(5) يوسف: 82.
(6) الشورى: 11.
--------------------------------------------------------------------------------
(71)
باب زيادة المعنى في زيادة المبنى، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد ـ والله العالم ـ ليس لما يمثل به مثيل، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا.
ويبدو أن مسألة مجاز الحذف والزيادة قد سبقت القزويني بقرون إذ تعقب عبد القاهر (ت: 471 هـ) فبالغ في إنكار هذا القول مجاز الحذف والزيادة، إذ لا يسمى كل حذف مجازا، ولا كل زيادة كذلك، إذ لم يؤد هذا أو ذاك الى تغيير حكم الكلام (1).
وأما ما أضافه عز الدين فليس من المجاز عند البلاغيين، فمجاز التشبيه عنده هو التشبيه المحذوف الأداة، فيسمى تشبيها بليغا، أو هو جار على سبيل الاستعارة لو حذف المشبه به مع أداة التشبيه.
وأما مجاز التضمين، فليس من المجاز في شيء، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي، بل المراد به: إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى: (وأخبتوا الى ربهم) (2)، فأنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا الى الإخبات، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا.
وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي، فالمجاز المفرد يكون، عقليا ويكون لغويا، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة الى ما بعدها، وتكتشف بالإسناد، كقوله تعالى: (والضحى * والليل إذا سجى *) (3) فكلمة «سجا» بالنسبة الى اللّيل مجاز عقلي مفرد، والليل لا يهدأ، وإنما ينسب الهدوء فيه الى غيره؛ ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء،
____________
(1) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 383 وما بعدها.
(2) هود: 23.
(3) الضحى: 1 ـ 2.
عبر عنه بـ «سجا» وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك.
والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدك إرادته.
والمجاز المفرد على أقسام: لغوي، وشرعي، وعرفي، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء.
والعرفي نوعان: العرفي الخاص كلفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحديث. والعرفي العام كلفظ (دابة) إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي بشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي: بشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور، لأمر واحد كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله) (2).
فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له، صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتبعاع (3). وهذا جار في الجاز المرسل الذي هو جزء من المجاز اللغوي.
إذن ما ابداه القزويني في هذا التفريع يعود الى الأصل في المجازين المذكورين ليس غير.
نعم هناك ادعاء مجاز جديد أرجأنا الحديث عنه الى هذا الموضع من البحث، لأن لها معه متابعة قد تطول، ولأن تشعباته وأنواعه كثيرة متشابكة، ولا بد لنا من الإشارة إليها جميعا لإثبات أنها ليست أنواعا جديدة على المجاز، ولا تخرج عن شقيه الأصليين العقلي واللغوي؛ هذا المجاز ذكره عز الدين بن عبد السلام (ت: 660 هـ) وسماه «مجاز
____________
(1) ظ: القزويني، الإيضاح: 395 تحقيق الخفاجي.
(2) الحجرات: 1.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 438 وما بعدها.
--------------------------------------------------------------------------------
(73)
اللزوم» (1)، ونحن نذكر أنواعه عنده وتعقب على كل نوع.
وقد أطنب في دكر أنواعه وتعدادها؛ وبعد مدارستها وجدناها من أجزاء المجازين العقلي واللغوي، واشتمل بعضها على جزء من الكناية، وهو يرفض أن تكون الكناية من المجاز (2).
أما أنواع «مجاز اللزوم» فهي عنده (3).
1ـ التعبير بالإذن عن المشيئة، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز، ومن ذلك قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) (4).
أي بمشيئة الله، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين، والمعنى «وما كان لنفس أن تموت الا بقول الله موتي».
وهذا من المجاز العقلي، وعلاقته السببية كما هو واصح، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا.
2 ـ التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى: (والله يدعوا الى الجنة والمغفرة بإذنه) (5).
أي بتسهيله وتيسيره. وهذا من المجاز اللغوي المرسل، وعلاقته السببية، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله.
3 ـ تسمية ابن السبيل في قوله تعالى: (وأبن السبيل) (6) لملازمته الطريق. وهذا من المجاز العقلي، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل، وذلك لكونه موجود في السبيل.
4 ـ نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله
____________
(1) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة الى الإيجاز: 79.
(2) المصدر نفسه: 85.
(3) المصدر نفسه: 79 ـ 85.
(4) آل عمران: 145.
(5) البقرة: 221.
(6) البقرة: 177.
--------------------------------------------------------------------------------
(74)
تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد) (5).
أي وفاء عهد أو تمام عهد، فنفى العهد لانتفاء ثمرته، وهو الوفاء والاتمام.
وهذا التعليل وإن كان واردا، ولكن المراد قد يكون ـ والله العالم ـ من باب الكناية، أي أن المشركون غدرة، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمه الله.
5 ـ التجوز بلفظ الريب عن الشك، لملازمة الشك القلق والاضطراب، فإن حقيقة الريب قلق النفس، ومن ذلك قوله تعالى: (لا ريب فيه) (2) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته.
وهذا ـ والله العالم ـ من باب الكناية، أي اطمئنوا للقرآن، ولا تقلقوا، ولا تضطربوا، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب.
(يُتْبَعُ)
(/)
والريب مصدر من رابني، بمعنى الشك، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم، وبمعنى الريبة، وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها، ومنه ما أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «دع ما يريبك الى ما لا يريبك»، فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة؛ اي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن» (3).
6 ـ التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني، وهو ملازم للجماع غالبا، ولكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالاختان والأصهار، والأولاد والأحفاد، ومثاله في قوله تعالى:
____________
(1) التوبة: 7.
(2) البقرة: 2.
(3) الزمخشري، الكشاف: 1/ 113.
--------------------------------------------------------------------------------
(75)
(محصنين غير مسافحين) (1) أي: غير مزانين.
وهذا أن كان الأمر كما ذكره، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها.
7 ـ التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير: باليد عن القدرة والاستيلاء، والعين عن الإدراك، والصدر عن القلب وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الألسن، وبالالسن عن اللغات، وبالقرية عو قاطنيها، وبالساحة عن نازليها، وبالنادي والندي عن أقلهما. وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم.
وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم، وهما جوهر المجاز القرآني. فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء، وبالعين عن الإدراك، وبالصدر عن القلب، وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الالسن، وبالألسن عن اللغات، كله من المجاز اللغوي المرسل، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته، وإضافة المعنى الجديد إليه.
والتعبير بالقرية عن قاطنيها، وتوابع ذلك، كله من المجاز العقلي، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها، فيكون التقدير أهل القرية، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية، وإنما بقرينة معنوية حالية، حكم بها العقل في الإسناد.
8 ـ التعبير بالإرادة عن المقاربة، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا، ومن ذلك قوله تعالى: (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه. . .) (2).
وهذا من المجاز العقلي، فليس الجدار كائنا مريدا، ولا هو بقادر على هذا الفعل، وقد أدركنا بالضرورة العقلية، ومن سياق الإسناد الجملي، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار، وكأنه يريد.
____________
(1) النساء: 24، المائدة: 5.
(2) الكهف: 77.
--------------------------------------------------------------------------------
(76)
قال أبو عبيدة: «وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته» (1).
9 ـ التجوز بترك الكلام عن الغضب، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا، ومنه قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) (2).
وهذا ـ والله العالم ـ تعبير بالكناية، ولا علاقة له بالمجاز، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة.
10 ـ التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار، كقوله تعالى: (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) (3).
وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم، وعدم رضاه عنهم، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم، فهو بصير بغير عين، وسميع بغير أذن وهو على العكس من قوله تعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة * الى ربها ناظرة *) (4) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم، فنظروا الى رحمته ورأفته، وتطلعوا الى حسن ثوابه ومجازاته، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته، فكان ذلك نظرا الى عظيم إحسانه، وكريم أنعامه، إذ ليس الله جسما، أو قالبا، أو مثالا، حتى ينظروا إليه، فعدم نظره تعالى الى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة.
وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية، وإرادة الإحتقار والإذلال، معنى جديدا الى عدم النظر، وهو عكسه في الآيتين التاليتين.
(يُتْبَعُ)
(/)
11 ـ الحادي عشر: التجوز باليأس عن العلم، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه، كقوله تعالى: (أفلم يأيئس الذين ءامنوا
____________
(1) أبو عبيدة، مجاز القرآن 1/ 410.
(2) البقرة: 174.
(3) آل عمران: 77.
(4) القيامة: 22 ـ 23.
--------------------------------------------------------------------------------
(77)
أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا). (1) فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي، أو هو ـ والله العالم ـ من قبيل استعمال الأضداد باللغة، فيأتي التيئيس بمعنى العلم، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز.
12 ـ التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بإمرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها، ومنه قوله تعالى:
(وربإبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم. . .) (2).
وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة، وليس من المجاز في شيء فاستعمل الدخول، وأراد لازمه وهو الوطء، تهذيبا للعبارة، وصونا للحرمات.
13 ـ وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى: (فذلك يومئذ يوم عسير *) (3).
وهذا من الجاز اللغوي / المرسل، وهو من باب إسناد الفاعلية، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي، فقد أسند العسرة الى اليوم ووصفه بها، واليوم دال على زمن من الأزمان، ولا تستند اليه صفة الفاعلية إلا مجازا، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد، والله سبحانه هو العالم.
14 ـ وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها، كقوله تعالى: (رب أجعل هذا البلد ءامنا) (4).
وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي، فالأمن لا يلحق بالبلد وإنما بأهل البلد، وما قيل في قوله تعالى: (وسئل القرية) (5)، يقال هنا.
____________
(1) الرعد: 31.
(2) النساء: 23.
(3) المدثر: 9.
(4) إبراهيم: 35.
(5) يوسف: 82.
--------------------------------------------------------------------------------
(78)
15 ـ «وصف الأعراض بصفة من قامت به، كقوله تعالى: (فإذا عزم الأمر) (1)، والعزم صفة لذوي الأمر. وقوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم) (2) وصف التجارة، وهو صفة للتاجر».
وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين:
فالمراد من الآية الأولى ـ والله العالم ـ عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر، فليس للأمر إرادة على العزم، وليس العزم مما يسند فعله الى الأمر، وفي الآية الثانية: الربح مجازي فيها، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة، والتجارة فيها مجازفة، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع. وإنما المراد بالربم تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة، فهو هناكما في الآية الأولى: مجاز عقلي.
16 ـ الكنايات كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة * ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وقد أقر أن هذا من الكناية وعقب عليه بقوله:
«والظاهر أن الكناية ليست من المجاز، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له، وأردت به الدلالة على غيره، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له» (3).
وبعد هذه الجولة مع توجيهات صاحب الإشارة الى الإيجاز «فمجاز اللزوم» لا لزوم له، لأنه ـ كما رايت ـ إما أن يكون خارجا من باب المجاز، وإما أن يكون تفريعا عن شقي المجاز، كما يبدو هذا من التعقيل على كل نوع من أنواعه.
____________
(1) محمد: 21.
(2) البقرة: 16.
(3) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة الى الإيجاز: 85.
--------------------------------------------------------------------------------
(79)
وهنالك أقسام أخرى تدور في هذا الفلك أعرضنا عن إيرادها، لأنها لا تعدو القسيمين المجازيين.
4 ـ مجاز القرآن: عقلي ولغوي
(يُتْبَعُ)
(/)
بعد هذا العرض والتحقيق نتمكن أن نقول مطمئنين ان المجاز في القرآن قسمان: لغوي وعقلي. فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأقل اللسان بما يتبادر اليه الذهن العربي عن الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأولي الى معنى ثانوي جديد. والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة من خلال أحكام طارئة، وقضايا يحكم بها العقل لدى إسناد الجملة. وسيأتي التحقيق في القسمين في موضعهما المناسب (1). والطريف أن نشاهد السكاكي (ت: 626 هـ) منكرا للمجاز العقلي تارة ومثبتا له تارة أخرى (2).
وقد وافقه على ذلك القزويني (ت: 739 هـ) وعدّه مجازا بالإسناد، وقد أخرجه من علم البيان، وأدخله في علم المعاني، متناسيا أن المجاز العقلي إنما يدرك بالإسناد بينما نجده معترفا به، ومعقبا لأقسامه وتشعباته بعد حين، مما يعني عدم وضوحه لديه (2).
وقد تابع هذا التأرجح صاحب الطراز فقال:
«والمختار أن المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية» (4).
وهذا الإخراج للمجاز العقلي لا يستند الى قاعدة بلاغية، وتعارضه دلائل الاحوال، لأن المجاز العقلي هو طريق البلاغيين في الأستنباط، وسبيلهم الى اكتشاف المجهول بنوع من التأول والحمل العقلي، ويتم ذلك
____________
(1) ظ: فيما بعد الفصل الرابع والفصل الخامس.
(2) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 194 ـ 198.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 97 وما بعدها.
(4) العلوي، الطراز: 1/ 25.
--------------------------------------------------------------------------------
(80)
بالاستجلاء لأحكام الجملة في التراكيب، وإن بقيت الكلمات على حقيقتها اللغوية دون تجوز. وإليه يميل الزركشي (ت: 794 هـ) بعده المجاز العقلي هو الذي يتكلم به أهل الصنعة بقوله عنه: «وهو أن تستند الكلمة الى غير ما هي له أصالة لضرب من التأويل، وهو الذي يتكلم به أهل اللسان» (1).
وقد كان عبد القاهر ـ كما سنرى فيما بعد ـ قد أولى هذا النوع من المجاز عناية فائقة، واعتبر كنزا من كنوز البلاغة، وهو مادة الإبداع عند الكتاب والشاعر، وسبيل الاتساع في طرق البيان، قال: «وهذا الضرب من المجاز على جدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكتاب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام، قريبا من الإفهام» (2).
وليس ملزما لأحد ما ذهب بعضهم من أن المجاز العقلي من مباحث علم الكلام، وأولى أن يضم إليه، لأنه من كما اتضح من تفصيلات عبد القاهر، وإشارات القزويني، يعد كنزا من كنوز البلاغة، وذخرا يعمد إليه الكاتب البليغ والشاعر المفلق والخطيب المصقع، وليس أدل على ذلك من أن القدماء استعملوا في كلامهم، وأن القرآن الكريم حفل بألوان شتى منه، وأن البلاغيين والنقاد أشاروا إليه وذكروا أمثلته، وإن لم يطلق عليه الإسم إلا موخرا على يد عبد القاهر. وهذا كله يدل على أن المجاز العقلي لون من ألوان التعبير، وأسلوب من أساليب التفنن في القول، ولا يخرجه من البلاغة إفساد المتأخرين له، وإدخال مباحث المتكلمين فيه عند تعرضهم للفاعل الحقيقي (3).
وقد كان سعد الدين التفتازاني (ت: 791 هـ) موضوعيا حينما رد القزويني لإدخاله المجاز العقلي في مباحث علام المعاني فقال: «لان علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال. وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من
____________
(1) الزركشي، البرهان: 2/ 256.
(2) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 295 تحقيق: محمود محمد شاكر.
(3) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 109.
--------------------------------------------------------------------------------
(81)
هذه الحيثية فلا يكون داخلا في علم المعاني. وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضا من أحوال المسند إليه أو المسند» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
وأما المجاز اللغوي فلا يختلف إثنان بأنه الأصل الموضوعي للمجاز؛ ولما كان المجاز اللغوي ـ كما أسلفنا ـ ذا فرعين في التقسيم البلاغي، لأن مجاله رحاب اللغة في مرونة الاستعمال، وصلاحيتها في الانتقال من معنى مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد لوجود المناسبة بينه وبينها، وتوافر الصلة بين المعنى الأولي والمعنى الثانوي، فأن كانت العلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي؛ فهو الاستعارة. ولا حديث لنا معها إلا لماما لأن التفريق الدقيق يقتضي رصدها بمفردها، لأنه حقيقة بذاتها، فهي استعارة وكفى، وإن لم يكن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة؛ فهو المجاز المرسل، وحديثنا عن المجاز اللغوي حديث عنه، وحديثنا عن المجاز القرآني سيكون مقتصرا عليه وعلى المجاز العقلي. لأننا قد وجدنا القرآن بحق قد استوعب نوعي المجاز العقلي واللغوي لدى التنظير، أو عندما تستخرج جواهرها من بحره المحيط.
وسنقف عند هذين النوعين وقفة الراصد المتأني، بعد أن نعطي صورة واضحة بقدر المستطاع عن الخصائص الفنية في مجاز القرآن بعامة.
____________
(1) التفتازاني، المطول: 54.
--------------------------------------------------------------------------------
(82)
--------------------------------------------------------------------------------
(83)
الفصل الثالث
مجاز القرآن وخصائصه الفنية
1 ـ خصائص المجاز الفنية
2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن
--------------------------------------------------------------------------------
(84)
--------------------------------------------------------------------------------
(85)
1 ـ خصائص المجاز الفنية
لاشك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة، تتمثل بالمعاني تارة، وإن حملنا المعاين على معاني النحو بخاصة، وبالبيان العربي تارة أخرى، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة: المجاز، التشبيه، الاستعارة، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص، وعماد تلك المزايا.
فالمجاز بقسمة: العقلي واللغوي. والتشبيه بأسسه: المشبه، المشبه به، وجه الشبه، أداة التشبيه. والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري: الحسيين، العقليين، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به، وبالعكس، مضافا الى أقسام الاستعارة، التمثلية، والتصريحة، والمكنية والأصلية، والتبعية،. . . الخ.
والكناية بتعبيرها المهذب، في أقسامها كافة، كناية الصفة، كناية الموصوف، كناية النسبة، وبأرتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز.
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشبعة المتطاولة، لو أردنا رطها واحد متميز، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده، إذ يصح إطلاقه ـ بإطاره العام ـ عليها، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله: «اللغة العربية لغة المجاز،
--------------------------------------------------------------------------------
(86)
لا لأنها تستعمل المجاز، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى المعاني المجردة، فيستمع العربي الى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
لذلك نميل الى أن اللغة العربية ـ دون سواها من لغات العالم ـ تتميز بخصائص بلاغية، والبلاغة العربية ـ وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي ـ تتمتع بخصائص فنية، والمجاز في صيغيته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا، لأن أصل البلاغة المجاز، واللغة العربية لغة المجاز، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت الى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شؤون الاستدلال قياسيا أو بديهيا.
ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب، له مقاييسه الفنية، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة، وهم يميلون الى هذا الموروث الحضاري، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشياء والنظائر بل في المعاني الثانوية، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا، الى وضع جديد طارىء عليه تجدده العلاقات الفنية، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة، وذلك بإضافة المعاني الجديدة الى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع، بل تضيفها اليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي؛ فقد يكون القمر وجها، والجبل وقارا، والغصن اعتدالا، والبان قواما، ولكن لا
____________
(1) عباس محمود العقاد، اللغة الشاعرة: 40.
--------------------------------------------------------------------------------
(87)
القمر يدا، ولا الجبل وجها، ولا الغصن عينا، ولا البان فما، مراعاة المناسبة ـ إذن ـ ووضوح القرينة، مانعان من الخلط المرتجل، وضابطان من المجاز المشوه.
لهذا كثر استعمال المجاز في لغة العرب شعرا ونثرا وصناعة من أجل توظيفه في شؤون الحياة الاجتماعية من جهة، ومن أجل إضافة مخزون تراثي متطور الى لغتهم المتطورة من جهة أخرى فعمدوا الى المعاني الرائعة فنظموها في معلقاتهم قبل الإسلام، ووقفوا عند الأغراض القيمة فصبوها بخطابتهم في الأسواق الأدبية الشهيرة، فكان للمجاز أثره في الإبداع، وللانتقال به الى المعاني الجديدة بادرته في التجديد اللغوي والبلاغي في فن القول ـ حتى عاد المجاز بحق معلما بارزا في تراثهم، بل ظلا شاخصا في حياتهم الأدبية، فهو عندهم معني بالثروة الاحتياطية للمعاني، والثورة الاحترازية للألفاظ. فالمجاز على هذا بخصائثه الفنية ثروة لغوية، وثورة فنية، هذه الثروة وتلك الثورة فيهما إشاعة روح اليسر والمرونة والسماح لتجاوز حدود الحقيقة اللغوية الى ما يجاورها ويقاربها، أو ما يضاف اليها إمعانا في الابتكار، وصيانة للتراث من التدهور والضياع. ولقد كانت النقلة في خصائص المجاز الفنية، نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، وأوجز لفظا، والألفاظ هي هي دلالتها الأولية.
هذه الحقائق متوافرة السمات في كلام العرب منذ عهد مبكر، ومصنفات الأعلام في المعلقات والأمالي والمنتخبات والحماسة غنية بأصول هذا الفن وبشائره الأولى في عصر ما قبل الإسلام وصدر الإسلام والعصر الأموي في الصناعتين.
فإذا وقفنا عند هذا المعلم في القرآن العظيم وجدناه من خلاله: يشيع الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، والحسن إلى الكائنات، ويحدب أيضاً على سلامة الألفاظ في المؤدى، وتهذيب العبارة في الخطاب، وتنزيه الباري عن الأنداد، وصيانة ذاته عن الجوارح، وعلوه عن الحركة المجيء والانتقال والتشبيه.
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن، فغذا استدرجه تذوقاً نطقياً، أو تجاوباً سمعياً، علمت
--------------------------------------------------------------------------------
(88)
مدى تعلقه بتهذيب المنطق، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان، ولا فهاهة في النطق، ولا خشونة في الألفاظ.
(يُتْبَعُ)
(/)
خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم تنطلق من مهمته الإبداعية، ومن مهمته الإضافية للتراث، ومن مهمته التهذيبية للنفس، ومن مهمته التنزيهية للباري .. هذه المهمات وظائف أساسية في منظور المجاز القرآني، وهو مؤشرات صلبة تحدد لنا تحرير الألفاظ، وتوجيه المعاني في خصائص المجاز القرآني التي لمسناها في الأسلوب والنفس، ومظاهر الاستدلال العقلي، وعلى هذا فسنقف عند الخصائص الأسلوبية، والنفسية، والعقلية للمجاز القرآني فحسب، فهي بعمومها تشكل المناخ الفني لخصائص هذا المجاز، ذلك من تتبع مجالات الاستعمال في الأعم الأغلب من مجاز القرآن.
2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي. في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيأة، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الاولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع الى الاستعمال المجازي، وبتطور ذهني، وتصور متبادر إليه، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة الى موقع أرق، وحدث أكبر، فهو في حالته المثبتة في معجمه الأجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي، وإنما بقي على ماهو عليه، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي الى سواه في الاستعمال المجازي، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية.
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي، يستغين بها المتلقي
--------------------------------------------------------------------------------
(89)
عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب، فلا حاجة الى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ويقل عنه تفريغا وتنويعا الى معان مبتكرة، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.
وقد يقال: وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك. وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم، وهي لغة غير جامدة، تستمد معينها الثر مواصفات أكثر عمقا من سطحية التقول والأفتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة.
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية، ولأصبحت حالته متفردة، غير قابلة للتفاضل، واذا تحقق هذا، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها، والبيان العربي مميزاته، وحينما يكون المنظور الى الفن القولي متساويا، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ:
(وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين *) (1).
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان، وعدم
____________
(1) البقرة: 23.
(يُتْبَعُ)
(/)
الاتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله، فكان القرآن أعلاها دون ريب، وكان معجزا بحق. ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة وسبل هذه الطرق واضحة، وركيزتها الأركان الأربعة: المجاز، التشبيه، الاستعارة، الكناية، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام، وهو المراد. إذن الدلالة المجازية في الألفاظ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال، وتطورها عند الاستعمال. وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية، هذا التأنق في اختيار المعاني، وهذا الأكتفاء في مفردات الألفاظ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ. لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال في صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز «عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش» (1).
...
والمجاز بعد هذا: هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإراداتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار. وهما سمة لغة القرآن.
وهنا يجب أن لا يتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته
____________
(1) عبد الإله الصائغ، الصورة الفنية معيارا نقديا: 370.
--------------------------------------------------------------------------------
(91)
الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية، حتى وإن أريد بها معناها الأصل، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان، ودلالته البلاغية، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به الى مستوى التعبير الأدبي، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة اليه، وتمحلا، دون اتكاء البيان عليه، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم.
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه، والتمسك به، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن.
خذ مثلا قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم. . .) (1) فقد ذهب بعض الأستاذة المعاصرين: أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض، والمراد تعجبك وجوههم، لأن الأجسام لا ترى كلها، وإنما يرى الوجه فحسب، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية، فالجسم وإن كان لا يرى كله، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب، وقد لا تريد الآية: تعجبك وجوههم، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة (2).
هذه الملحوظة وما قاربها، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية، تصيدا لمعان قد لا تراد، ووجوه لا تستحسن، وعلاقات قد لا تستصوب.
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري الى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة، ونقده بأدب واتزان تامين، فمس النحاة والمفسرين مسا رقيقا، وعاتبهم عتابا جميلا، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافا الى الاستعمال القرآني الدقيق فقال: «ومن
____________
(1) المنافقون: 4.
(2) أحمد أحمد بدوي: من بلاغة القرآن: 224.
--------------------------------------------------------------------------------
(92)
(يُتْبَعُ)
(/)
لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا، أو على سبيل النعت أو الحال. قال تعالى في سورة الإسراء:
(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) (1).
وقال تعالى في سورة الكهف:
(فعسى ربّي أن يؤتين خيرا من جنّتك ويرسل عليها حسبانا من السّماء فبصبح صعيدا زلقا * أو يصبح ماؤُها غورا فلن تستطيع له طلبا *) (2).
والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل. وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ.
وقال تعالى في مورة الفرقان:
(وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا) (3) يقول الزمخشري: «هونا حال أو صفة للمشي،. . . إلا ان وضع المصدر موضع الصفة مبالغة» (4).
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله: «وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما الى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه، وإما الى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز. على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى الى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه» (5).
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن، لتأكيد حقيقة كبرى، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير، حتى
____________
(1) الإسراء: 47.
(2) الكهف: 40 ـ 41.
(3) الفرقان: 63.
(4) الزمخشري، الكشاف 3: 103.
(5) أحمد عبد الستار الجواري، نحو القرآن: 69 ـ 70.
--------------------------------------------------------------------------------
(93)
تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤكدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث الى غير فاعله، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا الى الحدث ذاته، والتفكير منحصرا في أبعاده دون النظر في الفاعل والمبدع له، أنى كانت نوعيته وكيفيته، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا. المظهر الأدل في مجاله، الحقيقي وتعبيره الأستعمالي الأصل:
1 ـ يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة، والتزلزل الكوني في العالم عندها، والتغيير المفاجىء لمعالم الدنيا البصرية والحسية، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الأيات بل مئاتها من القرآن، ولنقف عند سورة التكوير:
(إذا الشّمسُ كوّرتْ * وإذا النُّجوم انكدرتْ * وإذا الجبال سيّرت * وأذا العشار عطلّت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجّرت * وإذا النّفوس زوّجت * وإذا الموءودة سئِلت * بأيّ ذنب قتلت * وإذا الصّحف نشرت * وإذا السّماء كشطت * وإذا الجحيم سعّرت * وإذا الجنّة أُزلفت * علمت نفس مّا أحضرت *) (1).
وباستقراء هذه الآيات الاربع عشرة، نجد منها اثنتي عشرة أية قد بنيت أفعالها للمجهول، وطوي ذكر الفاعلى فيها وهي:
كورت، سيرت، عطلت، حشرت، سجرت، زوجت، سئلت، قتلت، نشرت، كشطت، سعرت، أزلفت.
والقارىء للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته، أو بأمره، أو بإرادته، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات، والمنظم لهذه المتفرقات، أوجدها وسخرها وأنطقها ورتبها، ولكن
____________
التكوير: ا ـ 14.
--------------------------------------------------------------------------------
(94)
الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، ولفت الأنظار حوله، والعناية به. لتكون العبرة أشد، واليقظة أعظم.
(يُتْبَعُ)
(/)
2 ـ وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهر، وكأن الفعل متلبس بالفاعل، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله، وإن يكن لهذا الفاعل حول أو طول، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى:
أ ـ (أقتربت السّاعة وأنشق القمر *) (1).
ب ـ (يوم تمور السّماء مورا * وتسير الجبال سيّرا *) (2).
ج ـ (اذا السّماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت *) (3).
د ـ (فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مّبين *) (4).
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا، وأن القمر لا ينشق ذاتيا، وأن الساء لا تمور إراديا، وأن الجبال لا تسير اختياريا، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها. وأنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث، وليتجه التفكير نحوه، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل وتأتي، فالساعة تقترب حتما، والقمر ينشق قطعا، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة، والجبال تسير لا شك في هذا، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها، ولا يحتاج كل هذا الى كبير أمر، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح الى الفاعل الحقيقي.
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ
____________
(1) القمر: 1.
(2) الطور: 9 ـ 10.
(3) الانفطار: 1 ـ 2.
(4) الدخان: 10.
--------------------------------------------------------------------------------
(95)
الدقيق، وهذه الظاهرة الأسلوبية النموذجية الى الخوض في تفصيلات الفاعل، وتأويل صدور الفعل عنه.
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن، ونحن نوافقها في هذا العرض، لأنه من صميم منهجنا البياني:
«وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعر، عن الالتفات الى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف، مع وضوحها الى درجة العمد والإصرار: وسرّها البياني دقيق جليل: فاطراد إسناد الحدث الى غير محدثة، بالبناء للمجهول، أو الإسناد المجازي، أو المطاوعة، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير، وأن الكائنات مسخرة بقوة لدلك الحدث، فما تحتاج فيها الى امر، ولا الى فاعل. . . وفيه كذلك، تركيز الانتباه في الحدث ذاته، وحصر الوعي فيه، فلا يتوزع في غيره» (1).
3 ـ وإذا جئنا الى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع.
تأمل في هوله تعالى: (والله محيط بالكافرين) (2) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة «محيط» غير متخلية عن المعنى الأصل، ولكنها على الصعيد المجازي، تحمل دلالة بارزة جديدة، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ، فليست إحاطته تعالى ههنا إحاطة مكانية، أو طلية، أو جسمية، كإحاطة القلادة بالجيد، أو السوار بالمعصم، أو الخاتم بالبنان، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له
____________
(1) بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 85.
(2) البقرة: 19.
--------------------------------------------------------------------------------
(96)
قوة، وذي الحول بمن لا حول له، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان، وإن استوعبت حدود كل مكان، لأن الله تعالى فوق حدود المكان، وإذا كان الأمر كذلك، ويبدوا أنه كذلك، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته، وحمله على المعنى الذي أشار اليه الزمخشري (ت: 538 هـ) في قوله: «والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة» (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي الى معنى ثانوي، وهو يهز المشاعر حينا، ويصون التراث حينا آخر، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد. وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن.
3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا، فالنفس جموح لا تهدأ، وغروف لا تكبح، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي، أو فن قولي، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي، والبعد النفساني المتوازن، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا.
النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النص أو عزوفا عنه. ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة الى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور، فإن أراد منهها في صيغتها الحقيقية. فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ
____________
(1) الزمخشري، الكشاف 1: 85.
--------------------------------------------------------------------------------
(97)
المركزي، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس، أو إلهاب العاطفة، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية.
أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على «قاصرات الطرف» في حكايتها المجازية من قوله تعالى:
(وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنّهن بيض مكنون *) (1). والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة، ولكنك ترى ما في الوصف، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة، دون التردد في النظر الى هذا وذاك، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه، وتزايد ستره، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار.
ب ـ وأما في التنفير، فتزداد النفس عزوفا، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي (ما تذر من شيء أتت عليه) من قوله تعالى: (وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم *) (2).
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا، وكيف نفر منها
____________
(1) الصافات: 48 ـ 49.
(2) الذاريات: 41 ـ 42.
--------------------------------------------------------------------------------
(98)
طبعك فرارا، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام (ما تذر) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة (أتت) حتى جاءت بعذاب الاستئصال. فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء (أتت عليه) كالورق الجاف المتحطم، نظرا لشدة عصفها، وسرعة تطايرها، وخفة مرورها.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي:
(يُتْبَعُ)
(/)
1 ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر، والفكر بالعاطفة، والعاطفة بالنفس.
وفي هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة الى النفس، ومناخ الاتساع الى الخيال، فهو طالما تجده يسند الاحساس الى الجماد، فيصفه بالفاعلية، لتتوجه النفس اليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء، فكأنها ناطقة تتكلم، فيصك بذلك أسماعا غير واعية، وآذانا غير صاغية ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه، وكأنه رائد متمكن. وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الاسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر، ويبعث الخواطر سواهما، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات، لأن في ذلك انتقالا في الصورة الى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة، ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى:
أ ـ (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان. . .) (1).
____________
(1) النحل: 112.
--------------------------------------------------------------------------------
(99)
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان.
وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى هذه القرية، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد، وذلك ما تهش إليه النفس، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا.
وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء، فكلاهما من الصور النفسية:
ب ـ (مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف. . .) (1).
فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما:
الأولى: إسناد الاشتداد الى الريح، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها، فهي فاعلة متحركة، دائبة، متموجة، طاغية، مطاوعة، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز، لأن تسخيرها بالله وحده، فلا إرادة للريح ولا طواعية، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية، فأعارها مناخا جديدا، وكأن الريح قائمة، والجري على أشده، والحركة ذاتية.
الثانية: إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل
____________
(1) إبراهيم: 18.
--------------------------------------------------------------------------------
(100)
الحقيقي، فقد أسند عصف الريح الى اليوم، وهو دال على زمان من الأزمان، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز، وهو كذلك، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم، وعصف ذلك اليوم، وحديث ذلك اليوم، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه.
وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم، مما يهم الإنسان، فارتبط الحدث به نفسيا، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى:
(فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا *) (1).
يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا:
(يُتْبَعُ)
(/)
«ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث، صح أن يسند الشيب إليه» (2).
2 ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة، وإذا بها ناطقة تتكلم، ومفصحة تعرب عما في الدخائل، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى:
(يومئذ تحدّث أخبارها *) (3).
والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة، وتقدير الكلام عندهم: تحدث الأرض أخبارها، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته، وذو اللسان بأداته، لا الجماد بعجمته، فهل هو تمثيل يعني: أن ما
____________
(1) المزمل: 17.
(2) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 223.
(3) الزلزلة: 4.
--------------------------------------------------------------------------------
(101)
يحدث في ذلك اليوم، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة، والشدائد تثير الهلع في النفس، والمنظور هنا نفساني لا شك، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان، بعد زلزلة الأرض، وإخراج الأثقال، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب: (وقال الأنسان ما لها *) (1) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها، والأرض بكل مواقعها:
(يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث، فهي تتحدث عنها، وتفصح عن أهوالها، كما يقال: رزء يعبّر عن كارثة، وخطب ينبي عن شدة، وليس الرزء معبرا حقيقة، ولا الخطب بمنبىء.
هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله: «والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان» (2). وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطىء:
«والذي نكمئن إليه، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في حرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة. ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء، فنحن نشهد صورة فنية معبرة، فنقول في إعجاب: إنها تكاد نتطق، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب، بل يجرد منه كذلك شخصية حية، فاعلة ناطقة مريدة مدركة» (3).
ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة، من قول كما في قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد *) (4).
أو فعل وقوة كقوله تعالى: (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور *
____________
(1) الزلزلة: 3.
(2) الزمخشري: الكشاف: 4/ 276.
(3) بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 92 وما بعدها.
(4) ق: 30.
--------------------------------------------------------------------------------
(102)
تكاد تميّز من الغيظ *. . .) (1)، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى:
(يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد *. . .) (2) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول، وتستمع وتجيب، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا.
وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور، أو تتميز من الغيظ.
وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب، حتى تضع كل ذلت حمل حملها.
إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر، وتوجيها للعقول، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها.
إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان. دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام.
(يُتْبَعُ)
(/)
جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى: (بأنّ ربّك أوحى لها *) (3).
والقضية تصور في مدرك عقلي محض، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (4).
____________
(1) الملك: 7 ـ 8.
(2) الحج: 1 ـ 2.
(3) الزلزلة: 5.
(4) ظ: د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي: 2/ 570.
--------------------------------------------------------------------------------
(103)
وإذا كان الوحي فعلا متميزا، فهو صادر عن فاعل مريد، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى، الى متلق ممتثل، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي، إذ طريق الوحي هو التلقي، والأرض غير قابلة للتلقي. لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال:
«أوحى لها بمعنى أوحى إليها، وهو مجاز كقوله تعالى: (أن نقول له كن فيكون) وكقول الشاعر: أوحى لها القرار فاستقرت (1).
وأصل الوحي هو: الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (2).
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (3). ومؤدى ذلك واحد، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين (4).
ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى، فقال: «فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام، وإن كان جمادا فهو تسخير» (5).
لهذا فقد ذهب الطبرسي (ت: 548 هـ) الى أن أوحى لها: أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها. . من جهة تخفى (6).
والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها؟ فاقتضى أن يأتيه
____________
(1) ظ: الزمخشري، الكشاف: 4/ 276.
(2) قارن بين ذلك في: الراغب، المفردات: 515. الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 37.
(3) ظ: ابن منظور، لسان العرب 20/ 258.
(4) ظ: المؤلف، ظاهرة الوحي والمستشرقون. «بحث» في كتاب: (المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه: مطبعة القضاء، النجف، 1986 م.
(5) الراغب، المفردات: 515.
(6) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 526.
الجواب (بأنّ ربّك اوحى لها *) (1).
تحدث به الأرض نفسها تلقائيا؛ فالإيحاء هنا مباشرة، ليلائم إسناد التحدث الى الأرض. وسر قوته في أنه كذلك (2).
3 ـ ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين، ولا تختص بأقوام دون آخرين، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وأيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز، كما في قوله تعالى: (والضّحى * والليل إذا سجى *) (3).
وسيأتي إبراز المجاز الإسنادي الحكمي لهذه الآية في محلها من فصل «المجاز العقلي في القرآن» والمهم هنا أن نبين أن القرآن العظيم كما توجه لإثارة النفس عند الناس، فكذلك توجه لتهدئة النفس الإنسانية عند ذي أقدس نفس بشرية، وهو الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك يستوعب المجاز القرآني، النفوس الاعتيادية والنفوس المقدسة الشريفة، وقد تنبهت الدكتورة بنت الشاطىء لهذا الملحظ ونحن نؤيدها فيه بحدود.
«المقسم به في آيتي الضحى، صورة مادية، وواقع حسي، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجا وسكن. يشهدون الحالين معا، في اليوم الواحد، دون أن يختل نظام الكون، أو يكون في توارد الحالين عليه مما يبعث على إنكار، بل دون أن يخطر على بال أحد، إن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها الى الظلمة الموحشة، بعد تألق الضوء في ضحى النهار».
فأي عجب في أن يجيء، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فترة سكون يفتر فيها الوحي، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يأتي بعد الضحى المتألق (4).
____________
(يُتْبَعُ)
(/)
(1) الزلزلة: 5.
(2) ظ: بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 97.
(3) الضحى: 1 ـ 2.
(4) بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 26.
--------------------------------------------------------------------------------
(105)
وهذا المناخ النفسي المتقلب بين الإيناس والإيحاش تؤيده قرائن الأحوال في إثارة توديع الله لنبيه من قبل المشركين، وما يصاحب هذا الإعلام المضاد من فزع وقلق وحزن، وما أعقبه بنزول السورة من فرح واغتباط وتطلع، فكانت الفترة بين إبطاء الوحي ونزوله، لم تكن عن ترك أو قلى، فكان الوحي كالضحى في تألقه وسطوعه، وانقطاعه كالليل في هدوئه وسكونه، وكلا الأمرين طبيعيان.
4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن
في التعبير القرآني بعامة قد يرد الظاهر، وهو ما لا يحتاج الى كبير جهد في معرفته عادة، فإن تطلب جهدا، فمعالم اللغة تيسره، ومصادر الأثر تفسره، وقرائن الأحوال تكشفه. وقد يرد فيه من الإيحاء والتلويح ما يتخطى حدود الظاهر الى ماوراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة، وأبعاد جديدة، فيد الله سبحانه، وعينه، ووجهه، وعرشه، وكرسيه، واستواؤه، ومجيئه، تعبيرات ذات ألوان وخطوط متعددة تضج بالحركة، وتشعر بالتمثيل، ولكنها تحمل أكثر من معناها الأولي دون ريب، وهذا الحمل مما يتطلب الكشف والإيضاح، ولقد شغل المفسرون بهذه الألفاظ وتوجيهها وذهبوا كل مذهب فيها، ولو أنهم اتجهوا نحو المجاز لوجدوا مهمة المجاز العقلية كفيلة بدرء الشبهات والوصول بهم الى ميناء سليم بما تسخره من طاقات كاشفة وتهيؤه من خصائص ثرة تستلهم هذا المناخ، وتسير الى بيان هذا الاتجاه.
ولا تقف الخصائص العقلية عند هذا المنحنى فحسب، بل تتخطاه الى شؤون الخبايا التي تكتشف بالنظر العقلي، فتعالج أبعادها معالجة بناءة. وقد تتجاوز هذين الحدين الى كل ما من شأنه الرصد العقلي أو إثارة العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير جاوفره، وتنبه مداركه، فيتحرك عن جموده، ويتمرد على إغلاله، ليكون مستقلا بالإرادة والاعتبار والنظر.
1 ـ حينما يتجه التعبير القرآني الى تنزيه الباري، وإفادة ديمومته غير المحدودة، فهو كائن قبل الكون، وخالد بعد الفناء، ومستمر في أمثولة البقاء، فهو حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، الباقي بعد فناء
--------------------------------------------------------------------------------
(106)
الأشياء، والأزلي في كل تقلبات الأحوال نشاهد توالي التعبير المجازي في مثل هذه المظاهر، وهي معبرة عن الخلود حينا، وعن التنزيه حينا آخر، ووصفه بما عبر عنه حقيقة لكان تجسيما، ولو أريد به ظاهره لكان تشبيها، ولو ترك وحاله لتعاورته الزمانية والمكانية وهكذا؛ وسيمر في فصل المجاز العقلي وفصل المجاز اللغوي، وما يشير الى هذا الموضوع من وجوه أخرى، ونشير إليه هنا بما يدفع هذه الشبهات ويصفي حسابها، ففي كل من قوله تعالى:
أ ـ (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام *) (1).
ب ـ (كل شيء هالك إلاّ وجهه) (2).
ج ـ (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) (3).
د ـ (تجري بأعيننا) (4).
هـ ـ (ثمّ استوى الى السماء فسوّاهن سبع سماوات) (5).
و ـ (وجآء ربّك والملك صفّا صفّا *) (6).
في هذه الآيات إطراء بالخلود تارة، وإشارة بالقوى والقدرة تارة أخرى، وإشعار بالعناية سواهما، وتشبث في الحركة والنقلة لمن حمل الأمر على ظاهره.
ولكن الموضوع ينقلب الى تنزيه عن الصفات التي يتمتع بها الناس، والابتعاد عن المتعارف من الجوارح والأحداث وذلك على طريقة العرب في الاستعمال وسنن الكلام.
في الآيتين (أ، ب) أطلق الوجه باعتباره أشرف الأعضاء لمن يتصف بها وهي قابلة له، وأريد به هنا الذات القدسية دون إرادة التجسيم أو التركيب أو الكيفية أو المواصفات في الوجه وأجزائه، وهذا ما يفسره لنا
____________
(1) الرحمن: 27.
(2) القصص: 88.
(3) المائدة: 64.
(4) القمر: 14.
(5) البقرة: 29.
(6) الفجر: 22.
--------------------------------------------------------------------------------
(107)
(يُتْبَعُ)
(/)
المجاز مستندا فيه الى العرف العربي من وجه، والى النظر العقلي من وجه آخر، أما العرف العربي فهو يطلق الوجه ويريد به الذات اتصفت بالوجه أو لم تتصف، باعتبار الوجه أشرف السمات الاعتبارية في حقائق الأشياء دون تصور جهة ما. وأما النظر العقلي فهو الدال على أن الباري فوق المحدثات والممكنات ولو كان له وجه حقيقة لكان محدثا أو ممكنا، وهو خلاف ذاته الأبدية والأزلية.
وفي الآية (جـ) تتحدث الآية عن يد ويدين، وليس لنا أن نتصور اليد ذات الأصابع، أو اليدين في رسغ ومعصم وذراع، وإنما هو التعبير بكلا الموضعين دون النظر الى الواحدة أو الاثنينية ـ عن القوة والسيطرة والقدرة والاستيلاء حينا، وعن الكرم والجود والإفاضة حينا آخر، وذلك لوجود علاقة ومناسبة بين هذه الصفات وهذه الملكات وبين اليد أو اليدين، فإن مظاهر العدة والقدرة والمقدرة إنما تصدر عن اليد وبها يتجلى مدى الاستيلاء المطلق، وأن الفضل والنعمة والعطاء إنما تصدر عن اليد أيضا وبها يتبين نوع الكرم والإيثار، والعرب على عادتهم قد يعبرون بأن لفلان عليّ يدا، ويريدون نعمة ودالة حتى وإن لم تكن له يد حقيقة كأن كان مقطوع اليد مثلا، وكذلك الحال هنا، فليس لنا أن نتصور لله يدا بالمعنى الحقيقي، كما أنه تعالى ليس له عين في الآية (د) بالمعنى الحقيقي أيضا، فهو بصير دون عين، وسميع دون أذن، والمراد بالآية: أي تجري بمرأى منا، وبتسديد من رعايتنا، وبنظرة من عنايتنا، دون تصور العين الباصرة، وما يقال بالنسبة للآيات المتماثلة التي تنص على ذكر الجوارح.
وفي الآية (هـ) ثم استوى الى السماء (الرحمن على العرش استوى *) (1) تعبير مجازي يؤكد الخصائص العقلية في مجاز القرآن، للإشارة الى الاستعلاء والسيطرة والتمكن والنفوذ والحاكمية المطلقة على العوالم كافة علوية وسفلية، مرئية وغير مرئية، دون تصور جلوس أو مكان أو كرسي يقبل إستواء الأجسام عليه، وقد تناسق الحديث عن الاستواء بما يقال عن معناه عند الشريف الرضي فقال: «أي قصد خلقها كذلك (أي
____________
(1) طه: 5.
--------------------------------------------------------------------------------
(108)
السموات)، لأن الحقيقة في إسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، واستقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات» (1).
وقد أورد في تعليل الاستواء السيوطي عدة وجوه لنفي التجسيم والكيفية يمكن النظر فيها (2).
وفي الآية (و) ينظر الى المعنى بهذا المدرك، فذاته القدسية لا تدرك ولا تعين ولا ترى، وليست جسما متنقلا، يقبل الحركة والذهاب والمجيء، وإنما ذلك مجيء أمره، وتجلي عظمته، وإنزال قضائه، وإرصاد إرادته الكائنة، وكأنه قادم ومتمثل في تلك اللحظات الحاسمة بذاته المتعالية على سبيل قوله تعالى: (هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله. . .) (3).
والإتيان ليس شأنه، ولا قابل عليه، ولا منظور إليه في السير أو التحرك أو الاتجاه، وعاينة العباد خير جارية عليه، فلا مكان، ولا مشادة، ولا نقلة، ولا مجيء، ولا إتيان، بل هو التحور اللغوي الذي أعطى الألفاظ معانيها الإضافية.
وهو عند الزمخشري «تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثاره قهره وسلطانه، بحال الملك إذا حضر بنفسه، وظهر بحضوره من آثار الهيبة السياسية ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه» (4).
ولا أميل الى هذا التمثيل إذ لا مقارنة بين رب الأرباب والعباد في وجه من الوجوه، بل أذهب فيه للمجازية على سنن كلام العرب، وأؤيد ما أورده أبو حيان بأن مجيء الله تعالى «ليس مجيء نقلة، والحركة عليه محال لأنها تكون من جسم، والجسم يستحيل أن يكون أزليا» (5).
2 ـ وحينما تكون الحقيقة القائمة أمرا حتميا، وكيانا مرئيا مع القدرة غير المتناهية، والخرق لعادات الأشياء ونواميس الطبيعة، يكون التجوز في
____________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 115.
(2) ظ: السيوطي، الاتقان: 3/ 15.
(3) البقرة: 210.
(4) الزمخشري، الكشاف: 4/ 253.
(5) أبو حيان، البحر المحيط: 8، سورة الفجر.
--------------------------------------------------------------------------------
(109)
(يُتْبَعُ)
(/)
القرآن قائما على أساس إضافة المعاني الجديدة لمن ليس شأنه أن يتصف بذلك، ولكنه ارتفع لذلك المستوى بالنظر العقلي بهذا التعبير الموحي، أو تلك الحركة من الألوان، تأكيدا على حقيقته، وكأنه كذلك، فالحياة توهب الى الأرض كما توهب الى الإنسان، وليس للأرض حياة، ولكن زهرتها ونضرتها، وحيويتها، وخضرتها، وازدهارها واهتزازها، كان على سبيل من الحياة، وكأن ذلك حياة في واقعه، وديمومة في الإيحاء بمقتضاه، وفي هذا الملحظ نقف عند كل من قوله تعالى:
أ ـ (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد مّيّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور *) (1).
ب ـ (ومن ءاياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنّه على كل شيء قدير *) (2).
ج ـ (ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزّل من السّماء ماءً فيحيء به الأرض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون *) (3).
ففي الآية (أ) ستجد الحياة قبال الموت بالنسبة للأرض، والحياة والموت لها غير حقيقيين ولكنهما مجازيين، وقد تجوز بهما النص القرآني لإعطاء صفة الحياة لمن لا حياة له، وذلك بإيجاد معالم الحياة من الزينة والاهتزاز والإنبات وأخراج الثمرات، فكان إضفاء صفة هذه المعالم على الأرض حياة لها، كما أن سلب هذه المظاهر موت لها، ذلك من أجل الاستدلال على الحقيقة الكبرى، وهي إحياء الموتى، وإثبات النشور عن طريق التمثيل والقياس البديهي العقلي، فكما كانت الأرض ميتة فأحياها، فهو يحيي الموتى بكمال القدرة، ذلك الإحياء بإرادة الكينونة المطلقة، وهذا الإحياء بإيجاد العوامل المسببة له، وكلا الإحيائين مصدره أمره الكائن.
والملحظ المدرك بهذا تنبيه العقل الإنساني وإثارة حوافزه من حناياه
____________
(1) فاطر: 9.
(2) فصلت: 39.
(3) الروم: 24.
--------------------------------------------------------------------------------
(110)
الخبيثة لتتيقظ عن طريق الاستدلال الفطري، فكما تحيا الأرض بعد موتها، يحيا الناس بعد موتهم سواء بسواء.
وفي الآية (ب) تتجلى عناية المجاز القرآني بتصوير هذه الظاهرة وتأكيدها بأمرين: إحياء الأرض وإحياء الموتى، وذلك بإيجاد العلاقة القائمة بين إحياء الأرض وهي موات، وإحياء الأجساد في البلى، فالقادر على هذا قادر على ذاك، فكل ما من شأنه أن يموت فالله قدير على إحيائه، والتحقيق العقلي والنظر عند العقلاء يقضيان بصحة هذه المعادلة، ولا يبعد أن ترصد الإشارة هنا الى الطبيعة الأرضية والأصل التركيبي في جسم الإنسان لدى خلقه الإعجازي من طين، أو لدى بعثه من الأرض بعد تلاشي عناصره بعناصرها ورجوعها الى أصلها الأول، ومن ثم فإنها تنشر وتعاد كما كانت أولا.
وفي الآية (جـ) كان الاستدلال بلحاظ النظر الجدي في إراءته للبرق بين الخوف والطمع، وإنزاله للمطر من السماء فيحيي به الأرض، بعد موتها، على سبيل المثال ما بيناه فيما سبق من إضفاء صفة الحسّ والنبض والحياة على من يؤهل له، وإطلاق ذلك عليه تجوزا من أجل التعقل والتدبر والتفكر بآيات الله وحججه الدامغة.
ومجال القرآن في حججه البالغة، وتنزيلاته العقلية متواترة متكاثفة يقتسمها المجاز والحقيقة معا.
3ـ وفي مقام الرد على المشركين، وتسفيه أحلامهم، والنعي على عقولهم المتحجرة، يقف المجاز مما يعبدون موقف المحكم للحس والوجدان لإبطال عباداتهم، وإثبات فساد أعمالهم، ففي قوله تعالى: (مثل الذين أتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت أتّخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون *) (1).
لمس الزمخشري أن الكلام قد أخرج بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز فكأنه يقول: وإن أوهن ما يعتمد عليه الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون (2).
____________
(1) العنكبوت: 41.
(2) ظ: الزمخشري، الكشاف: 3/ 455.
--------------------------------------------------------------------------------
(111)
(يُتْبَعُ)
(/)
وهو استخراج دقيق فيما أحسب، إذ كما يتلاشى هذا الجهد الضائع الذي تبذله العنكبوت وهي تتخذ لها بيتا ليست له مقومات البيوت في الوقاية، ولا أحكامها في العمارة، فكذلك جهدهم بعبادتهم الواهنة، ولما كان أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، فقد ثبت أن دينهم المخالف لعقيدة التوحيد هو أوهن الأديان وأعجزها، فعلق حمل الآية مجازا على قضية منطقية قياسية ذات طرفين صغروي وكبروي. ومن ثم كانت النتيجة: أن أوهن الأديان هو دينهم (1).
4 ـ وحين يريد المجاز القرآني تنبيه العقول، وتوجه المشاعر نحو الحدث بالذات، فإنه يشير إليه وحده ليثير الانتباه حوله، فيضفي صفة الفاعلية على غير الفاعل حينا، وسمة الإرادة على غير المريد حينا آخر، ويضيف ضجيج الحركة على غير المتحركة، فتقف خاشعا أمام الأسلوب العقلي وهو يستعمل صيغة الفاعل ويريد بها المفعول، وهو نوع من المجاز العقلي في علاقاته ووجوهه البيانية، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة * يقولون أءنا لمردودون في الحافرة * أءذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كره خاسرة * فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة *) (2).
فأنت أمام هذه الألفاظ: الراجفة، الرادفة، الحافرة، الخاسرة، الساهرة، وكلها بصيغة الفاعل مع أن الأصل أن تكون الأرض مرجفة لا راجفة، وأن التابعة مردفة لا رادفة، وأن حفرة القبر محفورة لا حافرة، وان الكرة خسر أصحابها، وأن الساهرة سهر أربابها، وعدول القرآن عن هذا الأصيل بمثل هذا الاطراد ظاهرة أسلوبية لا يهون إغفالها، قد يكون المراد وهي تتكرر في القرآن لفت النظر نحو الحدث بما له من طواعية وتلقائية مستغنيا فيه عن ذكر المحدث وهو الله تعالى، فالأرض راجفة وهي مرجوفة، والرادفة التابعة وهي مردوفة، وهكذا القول بالنسبة للحافرة والخاسرة والساهرة، فهنا طواعية تتمثل في أن ترجف الأرض ذاتها، وهنا
____________
(1) ظ: المؤلف، الصورة الفنية في المثل القرآني: 158.
(2) النازعات: 6 ـ 14.
--------------------------------------------------------------------------------
(112)
تلقائية تغني عن ذكر المحدث جل شأنه، بما أودع سبحانه في الأرض من قوة التسخير لما يريد لها، وهنا أيضا مباغتة، لا يدري معها الإنسان يوم القيامة، وتركيز للانتباه في أخذ الرجفة بحركة تلقائية، صائرة الى ما سخرت له (1).
في هذا المناخ يتيقظ العقل، ويصحو الضمير، وتتحرك العواطف، مستفيدة العظة والعبرة والإقلاع عن الغي، وكل ذلك من خصائص المجاز العقلية، لأن فيه توجها للحدث ذاته كما في قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفّاهن الموت *) (2) إذ اعتبر المتوفى هو الموت، والموت لا يتوفى، لأن المتوفى هو ملك الموت بأمر الله تعالى، وهو المتوفي الحقيقي «فنقل الفعل الى الموت على طريق المجاز والاتساع، لأن حقيقة التوفي هو قبض الأرواح من الأجسام». (3) ولكنه طوى ذكر الفاعل الحقيقي في هذا المجال، تأكيدا على حقيقة الموت وطواعية حدوثه، فكأنه يحدث ذاتيا، ويقع تلقائيا، وفي ذلك كبح للنفوس، وتهيؤ للمدارك، وضبط للشهوات.
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى:
(ومن خفّت موازينه فأولائك الّذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون *) (4) فنسبة الخسران الى النفوس، وإضافته إليها من المجاز العقلي، واستعمل له التنظير الحسي لتحريك العقل الإنساني من غفلته، فعمره بضاعة، ومراد البضاعة الربح، فمن تعرض لخسران هذه البضاعة حسيا، كمن خسر عمره وأضاعه عقليا، وقد نبه السيد الشريف الرضي على هذا الملحظ فقال:
«لأن الخسران في التعارف إنما هو النقص في أثمان المبيعات، وذلك يخص الأموال لا النفوس، إلا أنه سبحانه لما جاء بذكر الموازين
____________
(1) ظ: بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 116.
(2) النساء: 15.
(3) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 127.
(4) الأعراف: 9.
--------------------------------------------------------------------------------
(113)
(يُتْبَعُ)
(/)
وثقلها وخفتها جاء بذكر الخسران بعدها، ليكون الكلام متفقا، وقصص الحال متطابقا، فكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم. وذكر خسرانهم لأنهم عرضوها للخسار، وأوجبوا لها عذاب النار، فصارت في حكم العروض المتلفات، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان، الى حدّ الخسران في الأعيان» (1).
ويبدو مما تقدم أن الخصائص العقلية في المجاز القرآني قد اتخذت صيغا مختلفة الأبعاد ولكنها الإرادة، فقد استوعبت مختلفة الوجوه في الاستدلال العقلي الى المعرفة العلمية القائمة على أوليات ضرورية تنتهي الى نتائج حتمية، لها ما لهذه الأوليات من اليقين العلمي الثابت بأعتبار أن المقدمات الضرورية تنتهي بداهة الى نتائج ضرورية.
وقد تتخذ طابع درء الشبهات بإثبات الحقائق الناصعة فيما وراء التعبير الظاهري من إيحاء يتوصل إليه بالنظر العقلي في خرق عادات الأشياء ونواميس الكون.
وقد تكون تلك الخصائص مدعاة الى التأثير الوجداني في التوجه نحو الحدث، وتصور تلقائيته لتنبيه العواطف، وصحوة الضمير.
كل هذه شذرات تلتقط في مخزون الخصائص العقلية لمجاز القرآن.
____________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 142.
--------------------------------------------------------------------------------
(114)
--------------------------------------------------------------------------------
(115)
الفصل الرابع
المجاز العقلي في القرآن
1 ـ تشخيص المجاز العقلي في القرأن وعند العرب.
2 ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد
3 ـ قرينة المجاز العقلي في القرآن
4 ـ علاقة المجاز العقلي في القرآن
--------------------------------------------------------------------------------
(116)
--------------------------------------------------------------------------------
(117)
1 ـ تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب
المجاز العقلي هو الذي تتوصل إليه بحكم العقل، وضرورة الفطرة، وسلامة الذائقة، فيخلصنا من مآزق الالتباس، وشبهات التعبير، فتنظر اليه ـ وهو يثير الإحساس ـ مشخصاً عقليا، وكأنك تراه، وتلمسه ـ وهو يهز الشعور ـ شيئا مدركا، وكأنك تبصره، طريقة استعماله تنم عن نتائج إرادته، ودلالته في الجملة تكشف عن حقيقة مراده، فالالفاظ فيه لم تنقل عن أصلها اللغوي، فهي هي تدل على ذاتها الوضعية بذاتها، والكلمات لم تجتز موضعها في اللغة الى مقارب له أو مشابه، لا من قريب ولا من بعيد، لهذا يقتضي إزاحة الستار عن هذا المجاز لذائقة خاصة، وريادة متبلورة، فليس في المفردات مايدل على مجازية الاستعمال، وإنما يستشعر ذلك حسيا وعقليا معا عن طريق التركيب في العبارة، والإسناد في الجملة؛ فهو مستنبط من هيأة الجملة العامة، ومستخرج من تركيب الكلام التفصيلي دون النظر في لفظ معين، أو صيغة منفردة، وهذا ما يميزه عن المجاز اللغوي كما سترى؛ فهو إطار جديد، ونتاج جديد، بأسلوب جديد.
ويعود كشف هذا النوع من المجاز الى عبد القاهر (ت: 471 هـ) فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن الإصطلاحي، ومجازات العرب في أشعارها وتراثها، ويرجع الفضل فيه اليه في بيان أبعاده الحقيقية فهو رائده الأول كما يبدو لنا، وما يراه الدكتور طه حسين من ذي قبل (1).
____________
(1) ظ: طه حسين، مقدمة كتاب نقد النثر، لقدامة: 29.
--------------------------------------------------------------------------------
(118)
ويسمى عبد القاهر هذا المجاز بعدة أسماء متعددة، تعود الى معنى واحد، فحينما يسند اكتشافه الى العقل السليم يسميه: مجازا عقليا، وحينما يتوصل اليه بحكم العقل يسميه: مجازا حكميا، وحينما يراه في الإثبات دون المثبت يسميه: مجازا في الأثبات، وحينما يظهر له من إسناد الجملة يسميه: إسنادا مجازيا أو مجازا إسناديا (1)، وقد نبه يحيى بن حمزة العلوي (ت: 749 هـ) الى فكرة ابتكاره وتشخيصه وتسميته، أسندها الى عبد القاهر ليس غير، فقال:
(يُتْبَعُ)
(/)
«إعلم ان ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي، هو ما قرره: الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني، واستخرجه بفكرته الصافية، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة، كالزمخشري وابن الخطيب الرازي وغيرهما» (2).
وهذا التنبيه من صاحب الطراز في موقعه لأن من جاء بعد عبد القاهر قد استند اليه، ولم يزد عليه، بل بقي متأرجحا فيه بين عدة مداليل، وقد يلجأ الى التطبيق عليه دون النظر في المفهوم، ولنأخذ بذلك نموذجين:
الأول في التعريف: فقد ذهب السكاكي أن المجاز العقلي هو:
«الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بواسطة وضع، كقولك: انبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند، وبنى الوزير القصر» (3).
فالسكاكي هنا في مجال التعريف والتمثيل معا، لم يزد شيئا على ما حققه عبد القاهر في التعريف حينما قال عن المجاز العقلي:
«وحدّه أن كل كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه من العقل لضرب من التأويل فهو مجاز» (4).
____________
(1) ظ: عبد القاهر، دلائل الاعجاز: 227، أسرار البلاغة: 338.
(2) العلوي، الطراز: 3/ 257.
(3) السكاكي، مفتاح العلوم: 208.
(4) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 356.
--------------------------------------------------------------------------------
(119)
الثاني في التطبيق: ووفق هذا الفهم للمجاز العقلي عند عبد القاهر تجد الزمخشري (ت: 538 هـ) يخرج المعنى الكامل، مخرج المجاز في قوله تعالى:
(مثل الذّين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون *) (1).
فقد حملها على الإرادة المجازية في النظر العقلي، ناظرا التركيب الجملي دون اللفظ المفرد، من خلال تشخيص عبد القاهر للمجاز العقلي، فيتحدث عن الآية ويقول:
«أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لوكانوا يعلمون» (2).
وما دام عبد القاهر هو السبّاق لتشخيص المجاز العقلي، وما دام غيره، لم يزد عليه شيئا، فسيكون حديثنا منصبا حول ما أبدعه في هذا المضمار بالدرجة الأولى.
فلقد حقق عبد القاهر في المجاز الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند من بعده، ورأى أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل لدى استقراء الجمل في التركيب، والنظر في مجموعة المفردات المكونة للكلام، فهو يقول:
«واعلم أن طريق المجاز والاتساع. . إنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه، فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام مجازا على غير هذا السبيل. وهو: أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط، وتكون الكلمة
____________
(1) العنكبوت: 41.
(2) الزمخشري، الكشاف: 3/ 455.
--------------------------------------------------------------------------------
(120)
متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في نفسه، ومرادا من غير تورية ولا تعريض.
والمثال فيه قولهم: نهارك صائم وليلك قائم، ونام ليلي، وتجلى همي، وقوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم. . .) (1).
وقول الفرزدق:
سقاها خروق في المسامع لم تكن * علاطا ولا مخبوطة في الملاغم
وقد عقب على هذه النماذج بقوله:
«أنت ترى مجازا في هذا كله، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك: «نهارك صائم وليلك قائم» في نفس «صائم» «وقائم» ولكن في أن أجريتهما خبرين عن الليل والنهار، كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها، ولكن في إسنادها الى التجارة. وهكذا الحكم في قوله: سقاها خروق، ليس التجوز في نفس «سقاها» ولكن في أن أسندها الى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته؟ فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الربح، ولا بسقت غير السقي. .» (2).
(يُتْبَعُ)
(/)
فتشخيص المجاز العقلي إنما يتم بمعرفة الأحكام التي أجريت على الألفاظ في إسناد بعضها لبعض، والألفاظ بذاتها محمولة على ظاهرها لا تجوز فيها، واكتشف المجاز العقلي لدى اقترانها، وكان طريق ذلك العقل في حكمه على النصوص، إذا كان المجاز واقعا ومتحققا في الإثبات، وهو ما تبحثه الصفحات الآتية:
2 ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد
بعد وضع اللمسات الأولية على تشخيص المجاز العقلي في القرآن،
____________
(1) البقرة: 16.
(2) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز: 193.
--------------------------------------------------------------------------------
(121)
وعند العرب في الاستعمال والاستنباط، لا بد لنا من إجمال القول في أمرين مساعدين على اكتشاف المجاز العقلي في القرآن من خلال استعراض عبد القاهر لذلك في حالتي الإثبات دون المثبت، والإسناد في الجملة دون الألفاظ.
1 ـ ذهب عبد القاهر (ت: 471 هـ) أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة (1).
ومسألة الإثبات والمثبت أشرنا إليها في كتابنا: «أصول البيان العربي»، وهنا نلخص ما أوضحناه هناك وما استجد لدينا في فهمها من خلال النظر في التنظير:
أ ـ حينما نمعن النظر في قوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في ءاذانهم) (2).
نرى أن الجعل هنا هو الوضع، والوضع حاصل على حقيقته، ولا مجاز فيه، باعتباره جاريا على الأصل، ولو تحقق فيه فرضا لكان مجازا لغويا ولا شاهد لنا معه؛ وإنما المجاز في الإثبات دون المثبت، ولما كان الجعل مثبتا دون ريب، وضعنا أيدينا على الإثبات، وهو في الآية الأصابع، لأن المراد بهذا الوضع من الأصابع: ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع، وهو عادة: الأنامل فحسب، والأنامل بعض الأصابع، وهنا تحقق المجاز في الإثبات، وهو الأصابع لإرادة الأنامل منها، لأن المثبت، وهو أصل الوضع حاصل على حقيقته اللغوية، وقد اكتشف في الإثبات عن طريق الإسناد وبحكم الدلالة العقلية، على أن هذا الانطباق في المجاز العقلي قد يصدق أيضا في المجاز اللغوي في هذا الملحظ بالذات، ويكون ذلك من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء (3).
ب ـ وفي قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون *) (4).
____________
(1) ظ: عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 344.
(2) البقرة: 19.
(3) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي، رؤية بلاغية معاصرة: 45.
(4) الدخان: 16.
فارس العربية الخـ زيد ـــــــيل
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[16 - 11 - 2005, 04:39 ص]ـ
فارس العربية الخـ زيد ــــــــــيل
ـ[أبو ذكرى]ــــــــ[16 - 11 - 2005, 05:07 ص]ـ
شكر الله جهدك
أخي زيد الخيل
أغبطك على حماستك ومثابرتك وكثرة اطلاعك
وفقك الله
ـ[نائل سيد أحمد]ــــــــ[27 - 01 - 2007, 01:10 ص]ـ
مشاركة طويلة ترفع تسهيلاً للباحثين.(/)
كتاب مجاز القران 3
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[28 - 10 - 2005, 09:48 م]ـ
نلحظ أن البطش واقع لا محالة، ومن قبل الله سبحانه وتعالى، فهو جار على حقيقيته، وهذا هو المثبت، فالبطش إنما يقع حقيقة في اليد ذات الطول والقوة والتحطيم، فإذا أريد به المجازية نقلناه الى المعنى الذي يصدر عادة من الجوارح، وهو هنا ـ والله العالم ـ ليس كذلك إذ لا يصدر عن يد، ولا يخرج من جارحة، فالله منزه عن الجوارح، بدلالة عقلية وهنا يأتي الإثبات محل الإشكال، فهو بطش لا كالبطش المعتاد، وانتقام لا كالانتقام المتعارف، وهو واقع دون شك، ولكن بغير الأدوات المعتادة، وإذا كان واقعا فالإثبات فيه حاصل، بل وأكثر من ذلك فقد أسند للبطشة الكبرى ليشمل جميع أصناف البطش، ويستوعب أشد نماذجه وأقساها، فهو كبير من كبير، وليس مما اعتاده البشر، ولا سمع به الناس، ويكفي في الدلالة على غير ذلك نسبته الى ذاته القدسية (إنا منتقمون) لتأكيد صرامة هذا البطش، وقوة هذه الإرادة، دون استعمال الوسائل المعتادة في البطش البشري، بل فوق تصور الإنسان، بل وليس في مقدوره الإحاطة بكنهه المتطاول، وقد جاء في إثباته من الوعيد الصارم، والترهيب القاطع ما هو جلي عند أهل اللسان.
إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته وتوجيهاته في الحمل على الإرادة المجازية في النظر العقلي.
ج ـ وقد تنقلب الحال فيقع المجاز في المثبت، وتكون الحقيقة في الإثبات، فمثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى:
(أوَ من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس. . .) (1).
ويعقب عبد القاهر على ذلك، ويعده من باب المجاز اللغوي بناء على قاعدته السابقة: إذا وقع في الإثبات فالمجاز عقلي، وإذا وقع في المثبت فالمجاز لغوي، يقول:
«وذلك أن المعنى والله أعلم، على أن جعل العلم والهدى والحكمة
____________
(1) الأنعام: 122.
--------------------------------------------------------------------------------
(123)
حياة للقلوب على حد قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا. . .) (1).
فالمجاز في المثبت وهو الحياة، فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف الى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده. ومن الواضح في ذلك قوله تعالى: (فأحيينا به الأرض بعد موتها) (2) وقوله تعالى: (إن الذي أحياها لمحي الموتى) (3). جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها؛ فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على النسبية، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى، ولا حقيقة أحق من ذلك (4).
ويتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل بين المجاز اللغوي والعقلي، بما يشبه الحكم القاطع الذي لا تردد معه، فيقول:
ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته الى دلالة اللغة، وجعله مشروطا فيها محال، لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه (5).
...
2 ـ ولما كان المجاز العقلي إنما يعرف باعتبار طرفيه، وهما المسند والمسند إليه، لأنه إنما يقع في الجملة، والجملة تعرف بالتركيب، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، لأنه ليس من باب اللفظ المفرد فينظر له بالاستعارة، ولا يرى في الكلمة المنقولة عن الأصل فينظر له في المجاز المرسل، وإنما هومكتشف من الإسناد وما يؤول اليه المعنى في
____________
(1) الشورى: 52.
(2) فاطر: 9.
(3) فصلت: 39.
(4) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 343 وما بعدها.
(5) المصدر نفسه: 347.
--------------------------------------------------------------------------------
(124)
ضوئه، والإسناد يعرف بطرفيه، وهذان الطرفان في المجاز العقلي في القرآن لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي:
أ ـ الطرفان حقيقيان: ولا علاقة لهما بالمجاز منفردين إلا بضم بعضهما الى البعض الآخر كقوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها *) (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
فإن الإخراج حقيقي، والأرض حقيقة، ولا مجاز بهما وحدهما، ولكن المجاز العقلي مستنبط من أقترانهما، وبإسناد الإخراج الى الأرض، لأن المخرج حقيقة هو الله تعالى، وليس للأرض قابلية الإخراج، فلا إرادة لها، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلما أسند لها الإخراج علمنا ضرورة بمجازية الأستعمال إسنادا بحكم العقل.
ب ـ الطرفان مجازيان: نحو قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم. . .) (2).
فالربح هنا مجازي، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضائع، والتجارة هنا مجازية، فلا يراد بها المعاملات السوقية، وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة وعدم خسران الأعمار، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإنابة وصالح الأعمل.
ونظير هذا المجاز العقلي في طرفيه المجازيين كثير في القرآن الكريم، ومن أبرز مظاهره في مثالين بآية واحدة قوله تعالى: (أُولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين *) (3).
فالشراء هنا مجازي، ولا يراد به إجراء العقد في إنجاز صفقات البيع، والضلالة وإن كانت حقيقة، إلا أنها ليس مما يشترى بالهدى، ولا مما يباع به، وكلا الإسنادين مجازي، وبقية الآية تقدم فيها الكلام.
وكذلك قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم. . .) (4).
ج ـ الطرفان مختلفان كقوله تعالى: (تؤتي أُكلها كلّ حين) (5).
____________
(1) الزلزلة: 2.
(2) (3) البقرة: 16.
(4) البقرة: 90.
(5) إبراهيم: 25.
--------------------------------------------------------------------------------
(125)
فإن نسبة إيتاء الأكل الى الشجرة مجازية، لأن المؤتي هو الله تعالى، ولكن الأكل هنا حقيقة، وهو ثمرة الشجرة فكان أحد الطرفين مجازيا والثاني حقيقيا.
وعليه يحمل قوله تعالى في نموذجين مختلفين بآية واحدة، وهو قوله تعالى:
(بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون *) (1).
(فكسب) و (أحاطت) كلاهما مجازان، و (سيئة) و (خطيئة) كلاهما حقيقيان؛ ونسبة الكسب الى الإنسان في السيئات مجازية، لأن السيئات ليس مما يكتسب به الإنسان حقيقة، ولا هي قابلة لهذا الإعتبار، إلا أنها استعملت ونسبت عقليا بحكم الإسناد، وكأن صاحبها قد عمل فكان كسبه خسرانا لأن نتيجة هذا الكسب هو السيئات، وكذلك الحال بالنسبة لإسناد الإحاطة بالخطيئة، فالإحاطة تتطلب مكانا ومحلا يمكن الأستدارة عليه كإحاطة الخاتم بالأصبع، أو السوار باليد، أو السجن بالسجين، وهكذا، فكان الأول مجازا والثاني حقيقة، واكتشف المجاز العقلي من اقتران الطرفين.
3 ـ قرينة المجاز العقلي في القرآن
وانتشار المجاز العقلي في القرآن يوحي بأصالة كنهه البلاغي دون ريب في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق، وهو وإن كان متعلقا بالإسناد الجملي لا بألفاظ مجردة، ولكن لا بد من قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي، وقد قسموا هذه القرينة الدالة على ذلك الى:
1 ـ قرينة لفظية، وتستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضع المجاز باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات، حتى أنك بعد التحقيق لا يخامرك شك في إرادة المجاز، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم:
____________
(1) البقرة: 81.
--------------------------------------------------------------------------------
(126)
أ ـ قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) (1).
لقد عبر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة، على سبيل المجاز بـ «قيل» وإنما هي أمر كائن لا محالة، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل، وهو الجماد الذي لا يخاطب «يا أرض» و «يا سماء» إذ هو ليس مما يعي الخطاب، أو يدرك الإمثال، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.
ولك أن تقول أن الله قادر على أن يخاطب الجماد، ويجيب ذلك الجماد، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة، وحتى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز، فلا مانع منه، ويبقى المدرك مجازيا لأنه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلم، وإن سمع وأجاب وأمتثل على سبيل الإعجاز.
(يُتْبَعُ)
(/)
ب ـ وفي قوله تعالى: (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتّخذت عليه أجرا) (2).
يتجلى المجاز العقلي مستشرفا إذ الجدار ليس كائنا ذا إرادة، ولا هو بمريد شأن من يريد في الفعل أو الترك، ولكنه البعد المجازي الذي وهب الحياة للجماد، وأشاع الحسّ في الكائنات، وكذلك التعبير الموحي الذي أضفى صفة من يصدر عنه الفعل على من لا يصدر عنه الفعل، وحقيقة من يريد على من لا يريد في الأصل. وكانت قرينة هذا المجاز إرادة هذا الجماد وهو لا يريد.
وتلك طريقة العرب المثلى في هذا المنظار، وأنشدوا للحارثي: (3)
يرد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل
فإرادة الرمح ورغبته هنا كإرادة الجدار في الآية سواء بسواء.
قال أبو عبيدة: «وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذا كان
____________
(1) هود: 44.
(2) الكهف: 77.
(3) ظ: أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 410، ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 133.
--------------------------------------------------------------------------------
(127)
في هذه الحال من ربه فهو إرادته» (1).
وأنشد أبو زكريا الفراء (2):
إن دهرا يلف شملي بسلمى * لزمان يهم بالإحسان
فأنت ترى في هذه النماذج الإرادة والرغبة للرمح، والهم بالإحسان للزمان، كما شاهدت في الآية إرادة الجدار.
ولم تخرج هذه الألفاظ جميعها عن حقيقتها الأولى في اللغة، ولكنها خرجت الى المجاز في الإسناد، والقرينة فيها جميعا هي التي أفادت مجازا عقليا دلت عليه قرينة مقالية، لأن الجدار في واقع الحال لا يريد، والرمح لا يريد ولا يرغب، والزمان لا يهم بالإحسان واقعا، وإن هم به مجازا.
ج ـ وفي هذا السياق يجب أن نلاحظ ما لاحظه ابن قتيبة (ت: 276 هـ) من ذي قبل، من أن هذه الأفعال ونظائرها ـ ونعني بها أفعال المجاز كما في الأمثلة السابقة ـ أفعال لا تخرج منها المصادر، ولا تؤكد بالتكرار، فلا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، فليس هذا من كلام العرب، فإذا جاء التوكيد بالمصدر علمت أن ذلك مبني على الحقيقة، والله تعالى يقول: (وكلم الله موسى تكليما *) (3) فوكد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز. وقال تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون *) (4) فوكد القول بالتكرار، ووكد المعنى بإنما، فكان ذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز (5).
وهكذا الحال فيما سبق مما أنشدوا، فلا يقال: «أراد الرمح صدر أبي براء إرادة قوية، ولا همّ الزمان بالإحسان هما موكدا.
...
____________
(1) أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 410.
(2) ظ: العسكري، كتاب الصناعتين: 212، والبيت غير منسوب.
(3) النساء: 164.
(4) النحل: 40.
(5) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 111.
--------------------------------------------------------------------------------
(128)
2 ـ قرينة غير لفظية، وتستفاد من الجملة باستحالة صدور ذلك الشيء من فاعله عقلا، وإنما يكون من أمره، وفي نطاق مقدوره ودائرته، وقد ورد ذلك في القرآن العظيم بأكثر من موضع، وتكرر وجوده في مختلف الجزئيات بأكبر من ملحظ:
أ ـ قوله تعالى: (وجاء ربّك والملك صفا صفا *) (1).
فالمجيء هنا لأمر الله وقدرته وقوته وإرادته، وليس لذاته القدسية، لأنه لا يوصف بالذات المتنقلة: القادمة او الذاهبة او المتحركة. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وإنما هذا على سبيل من قوله تعالى: (فإذا جآء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون) (2).
وقوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربك. . .) (3) وقوله تعالى: (هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربّك) (4).
(يُتْبَعُ)
(/)
وهنا نكتة بلاغية جليلة، فالله سبحانه وتعالى كما لا يجوز عليه المجيء بالوجه الذي بيناه، فإن أمره لا يمكن أن يأتي أو يجيء إلا على وجه مجازي محض، فأمر الله تعالى يصدر، ولا يأتي، وينفذ ولا يجيء، ويطبق ولا يناقش، ولما جاء التعبير عنه بالقرآن بالإتيان تارة، والمجيء تارة أخرى، علمنا هنا من دلالة النص الفنية، وبذائقة فطرية خالصة أن تأكيد صدوره وكونه قدرا مقضيا، قد أكد بالإتيان والمجيء للتعبير عن حتمية وقوعه جزما، وتجسيد نفاذه فورا حتى شخص وكأنه قادم آت متمثل قائم.
ب ـ وفي كل من قوله تعالى:
(الرحمن على العرش أستوى *) (5).
____________
(1) الفجر: 22.
(2) غافر: 78.
(3) هود: 76.
(4) النحل: 33.
(5) طه: 5.
--------------------------------------------------------------------------------
(129)
(ثمّ استوى الى السّماء) (1).
(ثمّ استوى على العرش) (2).
مجاز عقلي تقتضيه ضرورة أن الله سبحانه وتعالى ليس قالبا حسيا، ولا مثالا مرئيا، ولا جسما متحركا يعرض للتنقل كأجسامنا، فاستواؤه هنا سيطرته وقدرته وإحاطته حتى لا يفوته شيء، كما يستوي صاحب الملك على أطراف مملكته، إذ ليس لمعنى الأستواء بالنسبة اليه تعالى تطبيق خارجي، أو مدرك وجودي ينطبق على ذاته القدسية، كانطباقه على إستوائنا وسيطرتنا من إحكام للأمر، أو ضبط للشؤون، بأسباب وحراس أو قوى وأجهزة مادية، وإنما ذلك بالنسبة للباري عزّ وجلّ فوق مدرك عقولنا إذ هو حقيقة تعبيرية عن الإحاطة المطلقة التي لا تفوتها الجزئيات غير المرئية، وتنظير للاستقطاب التام الذي لا يحتاج معه الى مساعد أو معين أو موقت، وتمثيل لاستيلائه على العوالم الكونية، والمكنونات العلوية والسفلية دون النظر في الوسائل والأسباب والمعدات، فيكفي أنه استولى على هذه الشؤون بهذه الشمولية في سيطرة فعلية أفادها معنى الاستواء بالنسبة اليه، وهذا لا يمانع أن يكون لفظ العرش في الآيتين قد جاء على طريقة المجاز اللغوي في نقله عن الأصل، للدلالة على الملك المطلق غير المحدود مراعاة لإدراكنا المحدود في تصور العرش حينما يجلس عليه ذو الملك وهو في أطراف دولته، أو جالسا على سرير مملكته، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفضهما. . .) (3) وذلك بلحاظ لفظ «الكرسي» فالعرب في سنن كلامها أن تعبر عن مظاهر الحكم، وملامح الملك، وتوليه الأمور بـ «الكرسي» وإن كان صاحبهما جالسا على الأرض، أو ليس لديه كرسي أصلا، فهو مستول على سرير الملك وكرسي الحكم، وهذا جار عند
____________
(1) البقرة: 29.
(2) الأعراف: 54.
(3) البقرة: 255.
--------------------------------------------------------------------------------
(130)
العرب الى اليوم، وقد يشاركهم فيه جملة من العالم في الشرق والغرب بهذا الفهم وهذا التعبير ليس غير، وهم يريدون ما تريد الآية من الإطلاق لدى التبادر الذهني العام، إذ ليس لله كرسي يجلس عليه هذه صفته بالكبر والاستطالة والتوسع، ولكنه ترحيل باللفظ الى المعنى المعبر عن مدى ملكه، واتساع مملكته، وترامي أطرف حكمه في المناحي السماوية والأرضية، والسياق القرآني يساعد على هذا الحكم العقلي، لنفي الجسمية والتشبيه والمكانية عنه عزّ وجلّ.
وهذه السعة المدركة عقليا بضم العبارة بعضها لبعض، لا تنافي أن يكون لفظ «الكرسي» بمفرده، من المجاز اللغوي، أو على سبيل الأستعارة، ليلتقي المجازان العقلي في العبارة، واللغوي في المفردة في التعبير عن تمكنه وسلطانه سبحانه وتعالى.
(يُتْبَعُ)
(/)
ج ـ وفي قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيّه الثّقلان *) (1)، نلمس مجازا عقليا نستفيده لا بقرينة لفظية مقالية، بل بقرينة معنوية حالية، أدركها العقل، وسلّمت بها الفطرة من خلال أحكام الألفاظ في العبارة، وسياق الإسناد في التركيب، فالله سبحانه وتعالى لا يشغله أمر عن أمر، ولا يلهيه شأن عن شأن، فهو قائم لا يسهو، وإنما أراد بهذا التفرغ، التوجه نحو الثقلين توجه المتفرغ الذي لا يعنيه غير هذا الموضوع في الوقت الذي يدير فيه جميع العالم، ويستوعب جميع صنوف التدبير، وذلك على طريقة العرب في سنن الكلام لدى التعبير عن التهيؤ والجد والتشمير، فهو قاصد إليهم بعد الترك في فسحة الحياة ومحيط بهم الإمهال قبل الموت، لا أنه كان مشغولا ففرغ، أو في كائنة وانتهى منها؛ وإنما هو المجاز بعينه الذي أشاع روح الرهبة في الوعيد، وانتهى بأجراس النقمة في المجازاة، دون شغل أو عمل صارفين.
د ـ وتبقى ميزة التعبير القرآني مقترنة بالأسلوب العربي المبين، في وضع المجاز بموضعه المناسب من الفن القولي، حتى يكتسب ذلك التعبير في مجازيته العقلية طائفة مشرقة من الاعتبارات الإيحائية، التي تلتصق
____________
(1) الرحمن: 31.
--------------------------------------------------------------------------------
(131)
بالمعاني الأصلية، أو هي مقاربة ومجاورة لها، كما هي الحال في استعمالات المجاز العقلي في القرآن، بما يتوصل اليه بقرينة ذهنية نصل معها الى مناخ مجازيته الفعلية بما أضفته من مسلك دقيق قد لا تتوصل اليه الا الأفهام الثاقبة، والطباع الرقيقة، كما في قوله تعالى: (والسماء ذات الرّجع * والأرض ذات الصّدع* إنه لقول فصل * وما هو بالهزل *) (1).
فأنت ترى أن الفصل والهزل، وهما ههنا وصفان للقرآن الكريم، والوصفية هنا قد تكون أدل على المعنى المراد من المصدرية؛ وذلك لأن الوصفية قد تغطي الدلالة الإيحائية مضافا الى الدلالة المركزية بأن: هذا الوصف فضلا عن كونه مصدرا فهو مما يصلح أن يوصف به هذا الكتاب العظيم، فيكون التأكيد على جديته وحاكميته أرقى من خلال التعبير النافذ، فيكون ذلك ألصق به، والمراد منه أشد وضوحا من إرادة المصدر بمفرده، فاشتمل على المعنيين بوقت واحد، وهذا أبرز معلم من معالم الاستعمال المجازي في القرآن.
وقد عقب أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري على هذا الملحظ الدقيق فقال مشيرا للنموذج القرآني الآنف:
«ولعل من أهم الأسباب التي ميزت أساليب العربية بمثل هذه المزية قدم اللسان العربي، وطول تداوله، وكثرة تصرفه في المعاني، بحيث تكتسب الألفاظ المفردة فيه معاني مضافة مجاورة لمعانيها الأصلية، فتمتد هذه فضل امتداد، حتى تصير المعاني المجاورة، بعد لأي وطول إلاف، كأنها جزء من تلك المعاني الأصلية، أو قرين مقارن مساو لها في الدلالة، وذلك هو الذي يعبر عنه علماء البلاغة بقولهم في (المجاز العقلي) أنه: إسناد الفعل أو ما هو بمنزلته (2).
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين *) (3). ومعلوم أن إسناد البكاء الى السماء والأرض معا،
____________
(1) الطارق: 11 ـ 14.
(2) أحمد عبد الستار الجواري، نحو المعاني: 124.
(3) الدخان: 29.
--------------------------------------------------------------------------------
(132)
وليس من شأن السماء البكاء، ولا من طبيعة الأرض أن تكون باكية، دلالة على إرادة الاستعمال المجازي عقلا، فالمساء على حقيقتها والبكاء على حقيقته وكذلك الأرض، ووصف السماء والأرض بأنهما يبكيان، أو نفي بكائهما كما في الآية، يقتضي أن هذا الإسناد ألصق في تصور الفجيعة، وأبلغ في تصوير النازلة، وذلك حينما أخذ هؤلاء على عجل دون أهبة أو استعداد.
ونظير هذا كثير في المجاز العقلي من القرآن.
4 ـ علاقة المجاز العقلي في القرآن
والمراد بعلاقة المجاز العقلي في القرآن ههنا، وجه الاستعمال المجازي وسببه الداعي اليه، والركيزة المقتضية التي يستند اليها هذا المجاز، ولك أن تتجوز في ذلك فتقول: إن العلاقة هنا هي المسوغ الفني، أو المبرر الاستعمالي لهذه الصيغة المجازية دون الأصل الحقيقي.
(يُتْبَعُ)
(/)
ولقد توسع علماء البلاغة القدامى والمحدثين ـ بالتبعية ـ في إيراد مبررات هذه العلاقة، وتفننوا بالتقسيمات المضنية، وتعللوا بالتخريجات المنطقية تارة، والكلامية أخرى، والنحوية سواهما، حتى بلغوا بذلك حد الإفراط، مما ذهب برونق هذه العلاقة المتينة وبهائها، فبدلا من حصرها، وتسليط الأضواء على مضمونها، لجأوا الى التفصيلات المملة، والأسماء المخترعة، فكانت السببية مثلا، والمسببية، والزمانية، والمكانية، والفاعلية، والمفعولية، والمصدرية وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز العقلي.
وكانت: تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل، وتسمية الجزء باسم الكل، وتسمية المسبب باسم السبب، وتسمية السبب باسم المسبب، وتسمية الشيء باسم ما كان عليه، وتسميته باسم ما يكون عليه أو يؤول اليه، وإسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان، ووضع النداء موضع التعجب، وإطلاق الأمر وإرادة الخبر به، وإضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي، والتغليب: بإعطاء الشيء حكم غيره، وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز اللغوي المرسل.
--------------------------------------------------------------------------------
(133)
ولا نريد أن نعيد هذا المعجم المشحون بنماذجه التطبيقية، إذ أفردناه فيما مضى بعمل بلاغي مستقل تابعنا فيه من سبق، فمن شاء فليرجع اليه ففيه الغنية والمزيد، من هذه الأبعاد الشاقة (1).
والذي نريد أن نشير اليه هنا، أن القرآن الكريم في نصه الإعجازي لم يكن ناظرا الى تلك التفصيلات لدى إيراده علاقة المجاز العقلي، وإنما كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق جديدة من التعبير الموحي والبيان الطلق، ومتحدثا الى الطبيعة الإنسانية بما يلائم فطرتها النقية، دون تزيد في المراد، أو عنت في الإداء، وكان انتشار العلاقة تابعا لمذاق الباحث في الاستنتاج، ولا تعنيه الأسماء والتقسيمات لأنها مع صنع البلاغيين، لهذا نجده في هذا الملحظ، وإن استخرج علماء البلاغة كل أصناف العلاقات من آياته الكريمة، يدور في فلك النفس فيملأ فراغها، ويسد نقصها، بما يجعلها أهلة لتلقي النص بذائقة سليمة، لهذا نجده يشيع الحس بالكائنات الصامتة، ويضفي القدرة على ما لا حول له ولا قوة، ويسند الفاعلية الى الجمادات، وإذا بها متحركة بعد سكون، ويستنطق المعالم المبهمة وإذا بها مبينة بعد سكوت، وما ذلك إلا من مظاهر الاعتداد بظاهرة المجاز البيانية، بعيدا عن التساؤلات المقحمة، أو الهذر في التفصيلات الأعجمية، وهو بهذا الملحظ يفجر روافد بلاغية جديدة، ذات إطار تجدّدي سليم، على مجموعة الممارسات البيانية الحسية والعقلية في اللغة العربية الكريمة، والتي يمكن أن ننظر لها بمجموعة فياضة من شتى العلاقات في المجاز العقلي للقرآن الكريم، دون اللجوء الى ظاهرة التعقيد أو التقعيد:
1 ـ في قوله تعالى: (إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون *) (2)، نسبت زيادة الإيمان الى آيات الله تعالى في قرآنه الكريم، ولما كان الأصل في الإيمان وزيادته هو التوفيق الإلهي الصادر عن الله عزّ وجلّ، علم بالضرورة أن نسبة زيادة الإيمان الى الآيات بإضافتها إليها، إعلاء منه تعالى لشأن هذه الآيات
____________
(1) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 48 ـ 56.
(2) الأنفال: 2.
--------------------------------------------------------------------------------
(134)
المجيدة، وكأنها المؤثر الحقيقي، وإن كان الأثر من الله، والتأثير بتوفيقه، وكان ذلك من المجاز المرصود عقليا لكون الإثبات سببا في زيادة هذا الإيمان، ولعل في ذلك إشارة واعية الى النتائج الإيجابية في تلاوة الآيات أو الاستماع إليها، أو الإنصات لدقائقها، فيكون الحث عليها بهذا الأسلوب الجديد، وكأنه أمر بصيغة الإخبار، وتحضيض عن طريق الإنباء.
(يُتْبَعُ)
(/)
2 ـ وفي قوله تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنّة يأيتها رزقها رغدا من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون *) (1)، عدة استعمالات مجازية متطورة، يتعلق بعضها بالمجاز العقلي، والآخر بالمجاز اللغوي في الاستعارة، ولا حديث لنا معه، والشأن في المجاز العقلي حيث وصف القرية بكونها أمنة مطمئنة، وقد علم بالضرورة أن الأمن والأطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها، فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل وهو القرية، على الحال فيها وهم الأهل والساكنون، وعبّر عن الرزق بأنه يأتي، الرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق إليها، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى تلك القرية أو هذه تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد فكأن الرزق يقصدها سائرا سادرا متوافرا.
وفلسفة هذا المثل القرآني الفريد، أن لا يكفر ذوو النعم بنعمهم، فيصيبهم ما أصاب هذه القرية من التلبس بالجوع والخوف والإذلال.
فالمجاز ـ إذن ـ وهو في سياق التشبيه التمثيلي المنتزع من صور متعددة من باب القياس التمثيلي، وذلك من خصائص المجاز الفنية.
3 ـ وفي قوله تعالى: (ألم تر الى الّذين بدّلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار *) (2)، أضافت الآية إجلال البوار الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وذلك بسبب من سوء أعمالهم وكفرهم وطغيانهم وكان ذلك
____________
(1) النحل: 112.
(2) إبراهيم: 28.
--------------------------------------------------------------------------------
(135)
نتيجة لكفرهم، ومظهر كفرهم إطاعتهم أكابرهم بالكفر، في حين أن الذي أحل هؤلاء وهؤلاء دار البوار ـ على سبيل العقوبة والمجازاة ـ هو الله تعالى جلّ شأنه. وهنا تلمس قيمة المجاز وتدرك خصائصه الفنية، وذلك حينما تعلم موقع تبديل النعم بالكفر في الإحلال بدار البوار، والكفر ـ بحد ذاته ـ ليس بقادر ولا متصرف ولا متمكن، ومع هذا فهو السبيل الى دار البوار بالقوة والفعل والعيان، وإن كان المحدث للأمر غيره دون ريب، فالمراد أجتنابه، والابتعاد عن دائرته، وإحلال الشكر محله، تطبيقا لقوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنّكم) (1).
4 ـ وفي قوله تعالى: (مثل الجنّة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتّقوا وعقبى الكافرين النار *) (2)، تجد جرسا موسيقيا، وتخامر لذة علوية، تأنس لها النفس، وتهش لها الطبيعة الإنسانية، وذلك عندما تتحدث الآية عن الملذات الحسية فضلا عن الملذات الروحية وأنت تتخيل الأنهار جارية، وحولها الضلال الفسيحة، والأكل الدائم، وفي الجنة التي وعد المتقون. والأنهار وعاء للماء ومستقر له، راكد أو سارب بأمر الله تعالى، وهي ثابتة غير متنقلة، فهي مكان الجري، وما يجري فيها هو الماء، فلما أسند الجري الى الأنهار علمنا عقلنا بالحكم عليه: أنه مجاز لأن الماء هو الجري إلا ان مكانه الأنهار، فعبّر عن جريان ذلك الماء بجري الأنهار نفسها بوصفها مكانا له، أو باعتبار الكثرة والغزارة في هذا الجري حتى ليخيل أن هذه الأنهار تجري بنفسها، وإنما اعتبر المكان باعتبار الإسناد إليه، والعامل الحقيقي غيره، وما يدريك فلعل في هذا الاستعمال ـ وهو كذلك ـ من القوة في الاندفاع، والسيطرة على النفس، وعظيم التصوير الفني، أضعاف ما في الاستعمال الحقيقي من الدلالة على المعنى المراد أداؤه بالضبط.
5 ـ وفي قوله تعالى: (والضحى * والليل إذا سجى *) (3)، تبرز
____________
(1) إبراهيم: 7.
(2) الرعد: 35.
(3) الضحى: 1 ـ 2.
--------------------------------------------------------------------------------
(136)
دلالة المجاز العقلي في إسناد العامل المؤثر الى الزمان، فسجى بمعنى سكن، والليل وإن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة الت قد توصف بالهدوء حينا، وبالفعالية حينا آخر، وإنما أراد به سكون الناس عن الحركات، وخلودهم الى السبات، واستسلامهم الى الراحة.
(يُتْبَعُ)
(/)
قال الراغب (ت: 502 هـ) «وهذا إشارة الى ما قيل: هدأت الأرجل»، (1) فهو يعني بذلك هدوء الناس بهدوء حركاتها المنطلقة من أرجلها وجوارحها حينا، ومن ضجيجها وصخبها حينا آخر.
وهذا لا يمانع من القسم برب الضحى والليل إذا سجى، أو بهما معا لما فيهما من عجائب الصنع، وعلى الإيجاد، وتقلب الكواكب، وعظم الإبداع.
6 ـ وقد يتوسع بعضهم في المجاز العقلي في القرآن حتى يخالف فيه الظاهر، أو يؤول تأويلا كلاميا، ونحن وإن أعرضنا عن الخوض في هذا الملحظ بالذات، لأن القرآن أسمى علاء وبيانا من الجزئيات الكلامية إلا أننا نورد هنا نموذجا من ذلك لئلا تكون ثغرة في البحث، عسى أن لا يقال ذلك فيه، والكمال لله وحده. ففي قوله تعالى: (إنّ الّذين ءامنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون *) (2)، قال الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ).
«وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح، ليس من الإيمان، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا، ثم عطف على كونهم مؤمنين. إنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها؟ قالوا: ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل، فقد ترك الظاهر. وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن: نحو قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان
____________
(1) الراغب، المفردات في غريب القرآن: 225.
(2) البقرة: 62.
--------------------------------------------------------------------------------
(137)
*) (1) ونحو قوله: (وإذ أخذنا من النّبيّن ميثاقهم ومنك ومن نوح) (2)، ونحو قوله: (والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا) (3)، وقوله: (حم *) (4).
قالوا: جميع ذلك مجاز.
ولو خلينا والظاهر، لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. فإن قالوا: أليس الإقرار والتصديق من العمل الصالح؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه، قلنا: عنه جوابان؟
أحدهما: أن العمل لا يطلق إلا على أفعال الجوارح، لأنهم لا يقولون: عملت بقلبي، وإنما يقولون: عملت بيدي أو برجلي.
والثاني: أن ذلك مجاز، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الإطلاق (5).
ولا نريد الاسترسال في تطبيق أمثلة الممارسات البيانية الجديدة في مجاز القرآن العقلي من خلال علاقته في وجوه الاستعمال بل نريد التأكيد مجددا أن تتبع شذرات هذا المجاز في هذا العطاء الضخم، قد مثل لنا الإرادة الاستعمالية المتطورة، والمناخ الفني المضيء، بما أفاده من قدرة خارقة في استيحاء التلازم الذهني بين الأصل وهو على طبيعته لم ينقل منها، وبين الفرع الذي هو المجاز في إداركه من خلال الترابط البياني لدى الانتقال من معنى الى معنى جديد بحكم الإسناد، لا بحكم الألفاظ، وتلك ميزة المجاز العقلي في القرآن العظيم، إفصاحا منها في ترجمة المشاعر ومسايرة العواطف، وصيانة اللغة والتراث والشريعة دفعة واحدة.
وبذلك يتحقق الغرض الفني والغرض الديني بلحاظ مشترك أنيق.
____________
(1) الرحمن: 68.
(2) الأحزاب: 7.
(3) الحديد: 19.
(4) محمد: 1.
(5) ظ: الطوسي: البيان في تفسير القرآن: 1/ 285.
الفصل الخامس
المجاز اللغوي في القرآن
1 ـ المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل
2 ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن
3 ـ علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن
--------------------------------------------------------------------------------
(140)
--------------------------------------------------------------------------------
(141)
1 ـ المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل
ليس جديدا أن يكون عبد القاهر (ت: 471 هـ) هو أول من تنبه شخصيا، ونبه الآخرين الى الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل في حديثه عن المجاز اللغوي، حينما قرن المجاز بالاستعارة، باعتبار علاقته غير المشابهة، وعلاقة الاستعارة هي المشابهة (1).
وقد سبق لنا القول فيما مضى من هذا الكتاب (2): إن المجاز اللغوي ذو فرعين في التقسيم البلاغي، لأن مجاله رحاب اللغة في الانتقال بالألفاظ من معنى الى معنى، مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد.
(يُتْبَعُ)
(/)
وحديثنا هو القرينة في علاقتها، فإن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة، فالمجاز يسمى إستعارة، وإن كانت العلاقة هي غير المشابهة، فهو المجاز المرسل.
ويتضح هذا التقسيم من خلال بلورة الحد الاصطلاحي لكل من الاستعارة المجاز المرسل بإيجاز حد الاستعارة كما يراه أبو عثمان الجاحظ (ت: 255 هـ) هو تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه (3).
وبديهي من تعريفه عنايته بالجانب اللغوي لعدم تجلي حدود هذه المعالم إصطلاحيا في عصره، وإن انطبق تعريفه على جزء المعنى الإصطلاحي.
وهناك حدود متقاربة المعنى، ومتشابكة المبنى في تعريف الاستعارة عند كل من:
____________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(2) ظ: تقسيم المجاز القرآني في هذا الكتاب.
(3) ظ: الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 153.
--------------------------------------------------------------------------------
(142)
ابن قتيبة (ت: 276 هـ) (1)
ثعلب (ت: 291 هـ) (2)
ابن المعتز (ت: 296 هـ) (3)
القاضي الجرجاني (ت: 366 هـ) (4)
علي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ) (5)
وهذه التعريفات وما تبعها من التفريعات متشابهة في الإشارة الى المصطلح حسنا، والى العناية بالموروث اللغوي للاستعارة حينا آخر (6).
ومع هذا فإننا نميل الى الكشف العلمي فيما أبانه: ابو الهلال العسكري (ت: 395 هـ) في تعامله مع المصطلح الاستعاري معاملة جديدة. إذ أعطى التعريف بوضوح مع التمثيل القرآني الدقيق فقال عن الاستعارة أنها:
«نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة الى غيره لغرض وذلك الغرض إما أن يكون: شرح المعنى وفضل الإبانة عنه؛ أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة اليه بالقليل من اللفظ؛ أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه.
وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة، ولولا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة، لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا» (7).
إن هذه الإبانة في تلخيص النقل للمعنى من لفظ الى لفظ، وإن عبّر
____________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 102.
(2) ثعلب، قواعد الشعر: 46.
(3) ظ: ابن المعتز، البديع: 2.
(4) ظ: القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه: 41.
(5) ظ: الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل: 79.
(6) ظ: تفصيلات ذلك عند المؤلف: أصول البيان العربي: 90.
(7) العسكري، الصناعتين: 274.
--------------------------------------------------------------------------------
(143)
عنه بالعبارة تجوزا، واستحداث معنى جديد في اللفظ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة، وإضافة الفائدة في النقل الاستعاري بدلا من الاستعمال الحقيقي، إنما هو جوهر الاستعارة وروحها، فضلا عن كونه كشفا جديدا متوازنا في صنوف الاستعارة وشؤونها؛ وهو متناسب مع ما أكده فيما ضربه من نموذج قرآني رفيع، شاهدا على ذلك بقوله:
«والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) (1) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وأن كان المعنيان واحدا، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج الى الجد في أمره: شمر عن ساقك فيه، وأشدد حيازمك له. فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك: جد في أمرك» (2).
وما ذهب اليه أبو هلال منتظم لما وجدنا عليه أرسطوا من ذي قبل حينما عدّ الاستعارة: من أعظم الأساليب الفنية، وأنها آية الوهبة التي لا يمكن تعلمها من الآخرين (3).
ويرى عبد القاهر (ت: 471 هـ) في الاستعارة: أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ (4). وهو هنا يتحدث عن عائدية الاستعارة وفضلها، ويعرفها بقوله:
«الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره، وتجيء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه» (5).
ويتضح من عايدية الاستعارة وتعريفها عند عبد القاهر: أن هناك لفظا ومعنى، وهناك معنى اللفظ، والاستعارة تختص بالألفاظ، ولكنه قد أشرك المضمون بالإضافة الى الشكل في جلاء الصورة الاستعارية، أو المعنى في
____________
(1) القلم: 42.
(يُتْبَعُ)
(/)
(2) العسكري، الصناعتين: 274.
(3) ظ: شكري عياد، أرسوط طاليس، فن الشعر: 176.
(4) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 31.
(5) المصدر نفسه: 53.
--------------------------------------------------------------------------------
(144)
إدراك مؤدي اللفظ، وكأنه يريد بذلك: معنى المعنى، أو المعاني الثانوية في الألفاظ.
إن ما أبداه عبد القاهر في الصيغة الإصطلاحية قد تتبعه بالإشارات بعده كل من:
فخرالدين الرازي (ت: 606 هـ) (1)
السكاكي (ت: 626 هـ) (2)
ابن الأثير (ت: 637 هـ) (3)
ابن أبي الأصبع (ت: 654 هـ) (4)
ابن مالك (ت: 686 هـ) (5)
الخطيب القزويني (ت: 739 هـ) (6)
حقا لقد استفاد هؤلاء من منهج عبد القاهر في تحديد الاستعارة. وقد خلص لنا مما أرساه أبو هلال، وما أبانه عبد القاهر: أن الاستعارة جارية في الألفاظ على سبيل النقل اللغوي لغرض تشبيهي.
أما المجاز المرسل فحقيقته جاءت على أساس عدم ارتباطه بعنصر المشابهة في ملابسته للمعنى بغير التشبيه، وتسميته جاءت لخلوه من القيود وسلامته من الحدود، فالإرسال لغة: الإطلاق. وأرسله بمعنى أطلقه، لا شك في هذا، ولما كانت الاستعارة مقيدة بادعاء أن المشبه من جنس المشبه به، كان المجاز المرسل مطلقا من هذا القيد، وحرا من هذا الأرتباط، فهو طليق مرسل وكفى.
ويبدوا أن السكاكي (ت: 626 هـ) هو أول من أطلق هذه التسمية
____________
(1) ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 82.
(2) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 174.
(3) ظ: ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 365.
(4) ظ: ابن أبي الأصبع، بديع القرآن: 19.
(5) ظ: ابن مالك، المصباح: 61.
(6) ظ: القزويني، الإيضاح: 278 ـ 407 تحقيق الخفاجي.
--------------------------------------------------------------------------------
(145)
عليه (1). وأن كان من سبقه قد أدرك الفرق بين الاستعارة وهذا النوع من المجاز، ولكنه لم ينص عليه إلا من خلال علاقة غير المشابهة كما هي الحال عند عبد القاهر (2).
وجاء الخطيب القزويني (ت: 739 هـ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا، فقال عنه:
«وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه، وما وضع له ملابسة غير التشبيه، كاليد إذا استعملت في النعمة، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة، ومنها تصل الى المقصود بها، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها، فلا يقال: اتسعت اليد في البلد، أو اقتنيت يدا، كما يقال: اتسعت النعمة في البلد، أو اقتنيت نعمة، وإنما يقال: جلّت يده عندي، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك» (3).
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى المجازي، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل. فبالنسبة لليد، وهي وإن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة، والبطش في مقام القوة، والضرب عند التأديب والانتقام، وبها يتعلق الأخذ والعطاء، والمنع والدفع، والصد والرد، وكل صادر عنها بعلاقة ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي، وإنما بالأثر والقوة والقدرة والوطئة، ولا مشابهة بين هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة.
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل، وعلاقة المشابهة للاستعارة، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما، فكما كانت الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير المشابهة بين الحقيقتين، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال الاستعاري بين المشبه والمشبه به
____________
(1) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 195 وما بعدها.
(2) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(3) القزويني، الإيضاح: 280، 397 تحقيق الخفاجي.
--------------------------------------------------------------------------------
(146)
في كلمة «نسلخ» من قوله تعالى: (وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار. . .) (1).
(يُتْبَعُ)
(/)
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل، بسلخ جلد الشاة، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ، فكما هو هناك فهو هنا، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيضا، ولكن بمنظور المشابهة، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل.
2 ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن، فذلك أمر له دلائله وشواهده في القرآن العظيم، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار، أن المجاز المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة، وهو وسيلة اللغة في الإضاءة والتنوير، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان، وانتشار ذلك في القرآن دربة لأهل اللغة من وجه، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر، ولعل في خصائص المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات، ومعبرة عن هذا المدرك نفسه بما لا مزيد عليه.
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي، كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية، وكيف تجوز بالاتساع الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل الذهن العربي الى أفق جديد، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية متسمة بالشمولية والإبداع.
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
____________
(1) يس: 37.
--------------------------------------------------------------------------------
(147)
سلامة أدائه، ودقة تعبيره، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية المتطورة.
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن رصده بعدة ظواهر إيحائية، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل مبحث علاقة المجاز بالجزء الآخر منها. وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان؛ هاتان الظاهرتان تلتمسان باعتبارهما دلائل فنية على صدق الدعوى، وبرمجة الموضوع، تلك الدلائل لا تعدو كونها إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا، وليست هي كل شيء، إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء، لأنه أمر قد يتعذر الوصول اليه، أو الوقوف عليه، لبعد أغواره، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب.
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وذيوعه، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه، إذ لا ضرورة لاتخام الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام.
الظاهرة الاولى: ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم منه، لحسم النزاع ورد الإشكال، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي، فلا عنت ولا تعسف ولا غلو، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله تعالى في كل من قوله تعالى:
أ ـ (ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب *) (1)
ب ـ (فلمّا زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (2) فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه، بدعوى أنها إن لم تكن منه تعالى فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها، وهذا ما لا يجوز عليه
____________
(1) آل عمران: 8.
(2) الصف: 5.
--------------------------------------------------------------------------------
(148)
سبحانه إلا على سبيل المجاز والاتساع، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان، ولا يوقع في الضلالة والكفران، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي.
وقد نصت الآية الثانية: أن الله تعالى يزيغ من زاغ، ونسبته اليه ظاهرة.
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر، ويدرأ هذه الشبهات بمرونة.
(يُتْبَعُ)
(/)
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن: ثبتنا بألطافك، وزد من عصمك وتوفيقك، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا، فنكون زائغين في حكمك، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه، لأنه لا يجوز أن يقال:
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ، وإن كانوا هم الفاعلين له، على مجاز اللغة، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ، وقادهم الى الاعوجاج والميل، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه، جاز أن يقال: قد أزاغهم كما قال سبحانه بالنسبة للسورة (فزادتهم رجسا الى رجسهم *) (1) وفيما اقتصه عن نوج عليه السلام (فلم يزدهم دعآءي إلاّ فرارا *) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال: أنه أزاغهم مجازا، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3).
ولقد وقف الشريف الرضي (ت: 406 هـ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير، والفاحص الرائد، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك، وأفاض برأيه بعد إيرادها، وحملها على الاتساع في اللغة، والمجاز من القول، ورد المتشابه من الآي الى المحكم منها، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره، لأنه يقودنا الى أن نقول: إن الله
____________
(1) التوبة: 125.
(2) نوح: 6.
(3) ظ: الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 19.
--------------------------------------------------------------------------------
(149)
سبحانه يضل عن الإيمان، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح، وهو غني عنه، وعالم باستغنائه عنه، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به، ولا يقودنا الى ما نهانا عنه، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها، فهو متشابه، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه، فوجب رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى، وهو قوله تعالى:
(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (1).
قال الشريف الرضي «فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، وأن الأول قبيح إذ كان معصية، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة، ولو كان الأول هو الثاني لم يكن للكلام فائدة، وكان تقديره:
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه، لأن العقوبة لا تكون من جنس المعصية إذ كانت المعصية قبيحة، والعقوبة عليها حسنة» (2).
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (3).
وكقوله تعالى: (وجزاؤُا سيّئةٍ سيئّةٌ مثلُها. . .) (4).
____________
(1) الصف: 5.
(2) الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 23 وما بعدها.
(3) البقرة: 194.
(4) الشورى: 40.
--------------------------------------------------------------------------------
(150)
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه، إذ ليس الجزاء اعتداء، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة، وليس ذلك سيئة، ولكنه سبب منها، فأطلقت عليه، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، فالأول زيغ عن الإيمان، والثاني العقوبة على الميل، والانحراف عن الهدى الى الضلال، فهو ليس من جنسه، وإنما سمي كذلك مجازا، وهو يعقب على ذلك، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول: «وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم، بل قال: (فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (1). فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم، وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به، ووقف عند حدّه،
(يُتْبَعُ)
(/)
وخلاّهم واختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال: (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم *) (2).
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل الى الأمر، وإن وقع مخالفا لأمره، لما كان وقوعه مقابلا لأمره، ويكشف عن ذلك قوله تعالى: (إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتّخذتموهم سخريّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون *) (3).
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا، وتنبيها وتحذيرا، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم، أنسوهم ذكر الله، فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به، وتخويفهم منه، ودعائهم إليه، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه.
وأقول: إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
____________
(1) الصف: 5.
(2) محمد: 17.
(3) المؤمنون: 109 ـ 110.
--------------------------------------------------------------------------------
(151)
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر، وإن لم يأمر به، بل أمر بضده، لما وقع مقابلا لأمره. فسمي من كان سبب الضلال مضلا، وإن لم يكن منه دعاء الى الضلال، ولا الى ضده فوقع الضلال عند دعائه، قال سبحانه: (وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ءامنا واجنبّني وبنيّ أن نّعبد الأصنام * ربِّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس فمن تبعني فإنّه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحّيم *) (1).
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد، لا يكون منها صرف عن طاعة، ولا دعاء الى معصية.
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب، والا لكان الفعلان واحدا، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان» (2).
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء هذا الجانب، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة.
الظاهرة الثانية: ـ
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه، واستمرارية الصفات وغلبتها، وملابسة الوقائع بعضها لبعض، وتأكيد بإطلاق ضده عليه، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني:
1 ـ ففي تصديق الخبر، وإبرام الأمر، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون *) (3).
____________
(1) إبراهيم: 35 ـ 36.
(2) الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 25 وما بعدها.
(3) آل عمران: 59.
--------------------------------------------------------------------------------
(152)
فإن لفظة كن تدل على الأمر، ولكن المراد بها الخبر والتقرير، والتقدير فيها يكون فيكون، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو يكون، والرأي لأبي علي الفارسي (1).
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد.
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات، وكون الشيء جزءا من الأصل، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى:
أ ـ (وكانت من القانتين) (2)
ب ـ (إلاّ امرأته كانت من الغابرين) (3)
ج ـ (فلولا أنّه كان من المسبّحين *) (4)
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال القانتين. وما يقال هنا يقال بالنسبة «للغابرين» فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له، وإذا كان كذلك فهو مجاز.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة، ولملازمة الصلاة للتسبيح، وكون التسبيح جزءا منها، فأطلق عليها تجوزا، والمعني الصلاة.
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه،
____________
(1) ظ: الزركشي، البرهان 2/ 290.
(2) التحريم: 12.
(3) الأعراف: 83. العنكبوت: 32.
(4) الصافات: 143.
--------------------------------------------------------------------------------
(153)
ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى: ـ (وأُشرِبوا في قلوبهم العِجل *) (1).
والعجل ليس موضع ذلك، بل المراد حب العجل، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة، إذ أنزل العجل منزلة الحب، لملابسته لهم في قلوبهم، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم، وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال.
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) (2).
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة، لا في مظاهر الشدة والعناء، وليس العذاب من مواطن الخير، حتى يبشر به العاصي، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي، أو السخرية والتهكم، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك.
وقد حمل أبو مسلم، محمد بن بحر قوله تعالى: (فبصرك اليوم حديد) (3) على هذا الملحظ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (4).
مما تقدم، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وكثرة ذيوعه وانتشاره، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب، ولكنها بالإضافة لما سبق من
____________
(1) البقرة: 93.
(2) آل عمران: 21.
(3) ق: 22.
(4) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 3/ 430 بتصرف وإيضاح.
--------------------------------------------------------------------------------
(154)
الفصول، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة.
3 ـ علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في علاقات مجازية قد تكون منفصلة حقا، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا، يصح أن يندرج تحت صنف فصل عنه أو هو في مجراه ومقتضاه، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة فلسفية أو منطقية لا ذائقة بلاغية، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر، ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة في مجاز القرآن اللغوي، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن: كالجزئية والكلية، والسببية والمسببية، والمحلية والحالية، والآلية والمجاورة، والملزومية واللازمية، والمطلقية والمقيدية، وأضراب ذلك من التفريعات المتشابكة، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط بها إلا جزئيا مما تقتضيه ضرورة البحث.
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته، ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة والفطرة الى دائرة الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك، سوى متابعة البيئات الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي، فانطبعت آثار تلك البيئات على مسميات مفردات البلاغة تصنيفا وتطويلا ليس غير.
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1).
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما
____________
(1) ظ: أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 111 ـ 118.
--------------------------------------------------------------------------------
(155)
(يُتْبَعُ)
(/)
يتناسب ومناخ التدقيق المنطقي للقضايا العقلية، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا الأمر (1).
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية، واستيعاب أكبر أجزائها ـ دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد المنهج البلاغي من ركابها، أو استدارته على عجلتها، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة المجدية، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى.
1 ـ في كل من قوله تعالى:
أ ـ (قم اللّيل إلاّ قليلا *) (2)
ب ـ (لا تقم فيه أبدا) (3)
ج ـ (ويبقى وجه ربّك) (4)
د ـ (كلّ شيء هالك إلاّ وجهه) (5)
هـ ـ (فتحرير رقبه مومنة) (6)
و ـ (وجوه يومئِذ خاشعة * عاملة نّاصبة *) (7)
ز ـ (واضربوا منهم كلّ بنان) (8)
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة، مما يدفع الى حملها على المجاز اللغوي المرسل، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال
____________
(1) ظ: المؤلف، الصورة الفنية في المثل القرآني: 162 وما بعدها.
(2) المزمل: 2.
(3) التوبة: 108.
(4) الرحمن: 27.
(5) القصص: 88.
(6) النساء: 92.
(7) الغاشية: 2 ـ 3.
(8) الأنفال: 12.
--------------------------------------------------------------------------------
(156)
حقيقيا، فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير، ولو لم تدرك العلاقة، لما صح لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز.
ففي قوله تعالى: (قم اللّيل إلاّ قليلا *) (1) وقوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا) (2) ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة والعائدية التعبيرية: هو الصلاة، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى: صلّ، والعلاقة في ذلك كون القيام ركنا أساسيا، وجزءا مهما في الصلاة، فعبّر به لهذا الملحظ.
وفي قوله تعالى: (ويبقى وجه ربّك. . .) (3) وقوله تعالى: (هو كلّ شيء هالك إلاّ وجهه) (4)، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية لله عز وجلّ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان والإحلال والعينية والمشاهدة، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على كل ذات، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل.
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى: (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة *) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته الأجساد بتمامها، لا الوجوه وحدها، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها.
وفي قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) (6) فإن المراد هو تحرير
____________
(1) المزمل: 2.
(2) التوبة: 108.
(3) الرحمن: 27.
(4) القصص: 88.
(5) الغاشية: 2 ـ 3.
(6) النساء: 92.
الرجل المؤمن أو العبد المؤمن، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة.
وفي قوله تعالى: (واضربوا منهم كلّ بنان) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة.
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني، وهو باب متسع فيه.
2 ـ وفي كل من قوله تعالى:
أ ـ (يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من) (2)
ب ـ (والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما) (3)
نلمس مجازا مرسلا، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة، لأن المراد بجعل الأصابع، هو وضع الأنامل في الآذان، وهو القدر الذي تستوعبه، وهي جزء من كلي الأصابع.
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء، ولا تشمل كلي الأيدي، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (أصابعهم) و (أيديهما) من الآيتين الكريمتين، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء، وإرادة الجزء ذاته فحسب.
3 ـ وفي كل من قوله تعالى:
أ ـ (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (4)
ب ـ (وجزاؤا سيّئةٍ سيئةٌ مثلها) (5)
(يُتْبَعُ)
(/)
____________
(1) الأنفال: 12.
(2) البقرة: 19.
(3) المائدة: 38.
(4) البقرة: 194.
(5) الشورى: 40.
--------------------------------------------------------------------------------
(158)
ج ـ (ونبلوا أخباركم) (1)
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي:
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء، وواضح أن الاعتداء الثاني في الآية غير الاعتداء الأول، لأن الاعتداء الأول جرم، والثاني جزاء، وفرق بين الجرم والجزاء، فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول، بل المراد المجازاة فقط، إذ لا يأمر الله بالاعتداء قطعا، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء الحقيقي، فكان التعبير عنه بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه.
قال القزويني (ت: 739 هـ) «وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن الاعتداء» (2).
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة، وفرق بين الذنب والاقتصاص، إذن فليس الاقتصاص سيئة، ولكنه مسبب عنها، فسمي باسمها، وهذا المعنى هو المعني بقولهم: تسمية المسبب باسم السبب، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان، وليس البلاء عرفانا، ولكنه مسبب عنه، فكأنه تعالى قد أراد: ونعرف أخباركم، لأن البلاء الاختبار، وفي الاختبار حصول العرفان، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب، فإنهم يقولون: رعينا الغيث، والغيث هو المطر، والمطر لا يرعى، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث.
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (3).
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
____________
(1) محمد: 31.
(2) القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة: 400 تحقيق الخفاجي.
(3) ظ: الزوزني، شرح المعلقات السبع: 178.
--------------------------------------------------------------------------------
(159)
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي، والجهل الثاني محمول على الوجه المجازي، لأنه ناجم عن الجهل الأول، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل وصدّه، وليس صدّ الجهل جهلا بل هو مكافأة له.
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله) (1) من الاستعمال المجازي، إذا أريد به العقوبة، لأن المكر سببها، وقيل: «ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله تعالى، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة» (2).
4 ـ وفي كل من قوله تعالى:
أ ـ (وينزل لكم من السّماء رزقا) (3)
ب ـ (إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا) (4)
ج ـ (وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون *) (5)
نرصد مجازا لغويا مرسلا، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته، وهو المعني بقولهم: تسمية السبب باسم المسبب، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات.
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن، وإنما ينزل الله المطر، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية.
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار،
____________
(1) آل عمران: 54.
(2) القزويني، الإيضاح: 400 تحقيق الخفاجي.
(3) غافر: 13.
(4) النساء: 10.
(5) الأعراف: 4.
--------------------------------------------------------------------------------
(160)
باعتباره يكون سببا لدخول النار واستحقاقها، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل، ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه بالنار ناظرا الى هذه الحقيقة.
(يُتْبَعُ)
(/)
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا، وذلك بقرينة «فجاءها بأسنا» إذ لا معنى لوقوع الإهلاك، ومجيء البأس بعده، وإنما يأتي البأس فيحدث الإهلاك عنده، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا، لأنه سبب الإرادة المقتضية للإهلاك، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه.
5 ـ وفي كل من قوله تعالى:
أ ـ (وءاتوا اليتامى أموالهم) (1)
ب ـ (إنه من يأت ربّه مجرما) (2)
مجاز لغوي مرسل، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه، ففي الآية (أ) المراد باليتامى الذي كانوا يتامى، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون بعد البلوغ، ولا يتم بعد البلوغ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ.
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة، بل باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام، فنظر الى ما كان عليه في السابق، وأطلقه هنا تجوزا، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان والعناد والإصرار والقوة، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة، وما أشبه ذلك، إذ ليس هو هناك في مثل تلك الحال، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان عليه من الإجرام في الدنيا.
____________
(1) النساء: 2.
(2) طه: 74.
--------------------------------------------------------------------------------
(161)
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ، فينظر إليه باعتبار ما سيكون عليه، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا، كما في قوله تعالى:
(إني أراني أعصر خمرا *) (1).
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر، أو الخمر بالنسبة الى العصر، والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه، وإنما العنب المتحول خمرا الذي يعصر، فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا، جاء على سبيل الاتساع، باعتبار ما سيؤول إليه العنب بعد العصر، وصيرورته خمرا.
6 ـ وفي كل من قوله تعالى:
أ ـ (فليدع ناديه *) (2)
ب ـ (وسئل القرية) (3)
ج ـ (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (4)
مجاز لغوي مرسل، ذكر فيه لفظ المحل، وأريد به الحال فيه، وهو المعني بقول الخطيب القزويني (ت: 739 هـ) تسمية الحال باسم محله. (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم، إذ لا تصح دعوة النادي لعدم قبوله الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض، وإنما دعي أهله وأصحابه.
____________
(1) يوسف: 36.
(2) العلق: 17.
(3) يوسف: 82.
(4) آل عمران: 167.
(5) القزويني، الإيضاح: 403 تحقيق الخفاجي.
--------------------------------------------------------------------------------
(162)
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية والساكنين فيها، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان.
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن، لأن القول لا يصدر إلا عن اللسان، ولما كان موقع اللسان هو الفم، عبّر بالأفواه تجوزأ عن الألسن الحالة فيه.
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل، وذلك نحو قوله تعالى:
(وأمّا الّذين ابيّضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون *) (1).
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة، لأن الخلود إنما يتم فيها، ولما كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة، والرحمة حالة بها، عبر عنها بما هو حال فيها، وهو الرحمة والمراد الجنة.
وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة، ووجوه ارتباطاته متشابكة، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد، عما توسع به البلاغيون من الأصناف.
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي، أهمل النحاة جانبه، فأكد البلاغيون التقليديون صلته بالبلاغة (2).
(يُتْبَعُ)
(/)
على أن في المعاني لمسات بلاغية، وشذرات بيانية، ولكن رأينا أنه بالنحو ألصق. فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل، وعددوا أصنافه، أشتاتا من مفردات علم المعاني، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا.
لقد أطنب الزركشي (ت: 794 هـ) في ذكر جملة من الأصناف
____________
(1) آل عمران: 107.
(2) ظ: المؤلف، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي.
--------------------------------------------------------------------------------
(163)
العديد للمجاز اللغوي المرسل، وادعى ورودها في كتاب الله (1).
وقد تفنن ابن قيم الجوزية (ت: 751 هـ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء، والإنشاء الى الخبر، والتقديم والتأخير من المجاز، وهي مباحث علم المعاني (2).
وقد عدّ التفتازاني (ت: 791 هـ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (3).
وقد ذهب بهاء الدين السبكي (ت: 773 هـ) الى تداخل علم البيان وعلم المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام من المجاز (4).
وقد عدّ السيوطي (ت: 911 هـ) خروج الخبر الى الإنشاء، والإنشاء الى الخبر من المجاز، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم والتأخير والالتفات والتغليب من المجاز (5).
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من البلاغيين التقليديين، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من المحدثين، يقول الدكتور أحمد مطلوب:
«ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل، لأنها شديدة الصلة به، بل لأنها ألوان بديعة من فنونه، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل، لأنه واسع الخطو فسيح المدى، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها» (6).
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه، ولكن من وجهة نظر متقابلة، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه
____________
(1) ظ: الزركشي، البرهان 2: 258 ـ 299.
(2) ابن قيم الجوزية، الفوائد: 82.
(3) التفتازاني، المطول: 235.
(4) السبكي، عروس الأفراح 1: 493.
(5) السيوطي، الأتقان في علوم القرآن: 2/ 36.
(6) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 120.
--------------------------------------------------------------------------------
(164)
التقسيمات الأجنبية، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى، وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب، لا الإضافات والزيادات، لتخامر البلاغة ذهنية العربي المعاصر، بدلا من هروبه عنها، لأن المراد هو التيسير، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات، فمما يدعو الى التعقيد في نظر إنسان اليوم الذي يريد الزبدة التطبيقية والتنظيرية، لا الرسوم والتفريعات.
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل في وجوه علاقاته، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة العربية من الإضافات المتكررة، أو الزيادات الوهمية.
على أننا لا نغالي إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع؛ لأنها ميدان العواطف في التجوز، ومضمار المشاعر في التنقل، وساحة اللغة في الأتساع، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق، ولكن هذا لا يمانع من نفي الشوائب، وتحاشي الفضول، وغربلة التراث، والله المستعان.
--------------------------------------------------------------------------------
(165)
«خاتمة المطاف»
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم، ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور، يمكن أن نشير بإيجاز كبير الى أهم ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام:
(يُتْبَعُ)
(/)
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة القرآن، ومعاني مفرادته، وسيرورة ألفاظه، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا في مصنفات «معاني القرآن» و «غريب القرآن» و «مجاز القرآن» وإرادة مؤدى الألفاظ منها في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، أو التأكيد على «المجاز» و «المعاني» في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان، كان هذا أولا.
ثانيا: ـ وقفنا عند مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، سواء أكان مجازا أو استعارة أو تمثيلا أو تشبيها بليغا، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا، أو فنا عارضا لم يتكلم به الأوائل، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من خلال هدف ديني لا غرض فني، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام، وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر.
ثالثا: ـ وحللنا مجاز القرآن في مرحلة التأصيل، فكان ابن قتيبة (ت: 276 هـ) والشريف الرضي (ت: 406 هـ) وعبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) وجار الله الزمخشري (ت: 538 هـ) أقطاب هذه المرحلة، وقادة هذا الفن، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن.
--------------------------------------------------------------------------------
(166)
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة، ووجدنا كتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن» سبقا فريدا، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة، فكان حجر الأساس لهذا المعلم، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف، وفي التورع عن القطع في الآراء، وفي العبارة البلاغية المشرقة، التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر.
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفنية في كتابيه الدلائل والأسرار، وأول من خطط المجاز في قسمين: عقلي ولغوي، وتتبعه لذلك في الإثبات والمثبت، وإدراكه لهما في التركيب، فكان الوعي المجازي عنده من أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المحدد الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن.
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر، فدأب في «أساس البلاغة» الى تتبع مجاز المفردات، وعمد في «الكشاف» الى استقراء جمال القرآن المجازي. ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر الدين الرازي، وسواهم من المفسرين والبلاغيين.
رابعا: ـ وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية، ونقد المناهج العلمية، فجمع بين أصالة القديم، ومنهج التجديد في العطاء الحديث، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة
--------------------------------------------------------------------------------
(167)
في القرآن الكريم، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالة في القرآن.
(يُتْبَعُ)
(/)
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية، وأسماعا مصغية لدى الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة من صنوف البيان القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة، وبالدعوة الى خوض عباب القرآن، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى.
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي:
أولا: ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي، إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة فيه للمعنى الأولي، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي من المعنى اللغوي، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين، فكما يجتاز الإنسان من موضع الى موضع، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد.
ثانيا: ـ ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء، والاستناد الى التعبير النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد، فأضاف
--------------------------------------------------------------------------------
(168)
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل.
ثالثا: ـ وبعد هذه الحقيقة الفنية، وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة، فهو في القرأن نوعان:
مجاز عقلي ومجاز لغوي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره عقليا ولغويا. وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى، وبعد جهد جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي، وكان ذلك جهدا فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى، مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير.
رابعا: ـ انتهينا أن مجاز القرآن: عقلي ولغوي، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان، بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى المعنى الجديد. والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة في الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها العقل عند الإسناد. والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول استخراجهما من بحره المحيط.
3 ـ في الفصل الثالث: أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند الى الكشف المضني، والاستقراء الدقيق، والملاحظة السليمة النافذة، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني: الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، وتضيف الحسّ الى الكائنات، فيصورها القرآن جميعا: ناطقة تتكلم، ورائدة تتصرف، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح، وتعاليه عن الحركة والانتقال. ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت:
--------------------------------------------------------------------------------
(169)
(يُتْبَعُ)
(/)
أولا: ـ الخصائص الأسلوبية في إدراك اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل، وإدراكه بمعناه، فالمعنى هو نفسه لم ينقص منه شيء، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع، وحينما أريد به الاستعمال المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر، وزحف بمعجمه من حدث إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر، هذه التركيبة الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم، فالإيجاز من جهة، والتطوير من جهة أخرى، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة ثالثة، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن، فكان حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار، فقد تجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله تعالى، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهرة، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو إرادة، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن.
ثانيا: ـ الخصائص النفسية في مسايرة النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب، فإن أريدت الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ الى ما هو أرجح معنى، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها، وإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ منه في صيغته الحقيقية، فكان ذلك مجالا فريدا، في تكييف النص الأدبي نحو المراد المولوي.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث.
ثالثا: ـ الخصائص العقلية في الإيحاء والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال تضج بالحركة،
--------------------------------------------------------------------------------
(170)
ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي توهم ببعض الشبه لدى الساذجين، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود الذهن الى ميناء سليم. وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي، أو إثارة مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير الحوافز، وتنبه المدارك، وتحرك المشاعر، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها.
4 ـ في الفصل الرابع، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن، بحثنا بإشباع:
أولا: ـ تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي، وهو مسميه بأسمائه المختلفة السمات والمتحدة المسميات.
ثانيا: ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة. وإنما يصار الى مجاز القرآن العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها لأنها حقيقة الألفاظ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على الإرادة المجازية في الإسناد الحملي، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة، ولا في الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل، وإنما يكتشف باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين، وقد يكونان مجازيين، وقد يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران الطرفين مجتمعين.
ثالثا: ـ قرينة المجاز العقلي في القرآن، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه لفظية أو غير لفظية، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية، وعن غير اللفظية بأنها حالية، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز. والقرينة غير العلاقة، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال المجاز.
--------------------------------------------------------------------------------
(171)
رابعا: ـ علاقة المجاز العقلي، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية، وعصر الفلسفة وعلم الكلام، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن.
5 ـ في الفصل الخامس، وهو بعنوان: المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه الفصل المتقدم.
كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث، الذي وقفنا عنده طويلا، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله، وأن ينفع به الباحثين والدارسين، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين.
فارس العربية الخـ زيد ــــــــــيل
(يُتْبَعُ)
(/)
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 04:17 م]ـ
السلام عليكم
أودّ أن أعرف عن الدكتور الصغيّر معلومات---هل تمدّني بها---
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 06:59 م]ـ
هاك هذا الموقع المهم جداً.
http://www.islamiyyat.com/quranic-articles.htm
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 07:58 م]ـ
علك لم تفطن إلى مغزى سؤالي أخي موسى
دعني أخبرك عن الدكتور الصغيّر كما لو أخبرك عن نفسه
قال في كتابه " (الفكر الإمامي من النص حتى المرجعية)
((هذه أوليات اعتقاد الإمامية، وهي مباديء أساسية وليست هامشية، فقد قام عليها إجماع الامامية منذ عهد رسول الله (ص) حتى اليوم" وأضاف:" ومن هنا، فقد نشأ الفكر الامامي في مبادئه الأولى التي لا تقبل نقضا ولا رداُ، فهي ليست فرضيات تطرح على بساط البحث فيُقبل منها ما يُقبل، ويُرفض منها ما يُرفض".) يقصد أصول الشيعة "التوحيد والنبوة والامامة والعدل والمعاد"
وقوله مغالاة في التعصب من حيث رفضه بحث هذه الأصول حتّى فيما بينهم---
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[29 - 10 - 2005, 09:56 م]ـ
أخي جمال، اختلط الحابل بالنابل نسأل الله السلامة.
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[30 - 10 - 2005, 06:40 م]ـ
أحاول في هذه التعقبات العشوائية
أن أرد على صاحب الكتاب في بعض هفواته وزلاته
فقال في أمثلة قرينة المجاز العقلي في القرآن:
أ ـ قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) (1).
لقد عبر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة، على سبيل المجاز بـ «قيل» وإنما هي أمر كائن لا محالة، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل، وهو الجماد الذي لا يخاطب «يا أرض» و «يا سماء» إذ هو ليس مما يعي الخطاب، أو يدرك الإمثال، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.
ولك أن تقول أن الله قادر على أن يخاطب الجماد، ويجيب ذلك الجماد، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة، وحتى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز، فلا مانع منه، ويبقى المدرك مجازيا لأنه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلم، وإن سمع وأجاب وأمتثل على سبيل الإعجاز.
قلت: النص ذكر (قيل) أي أن هناك آمرا ومتلقي ومعلوم لدينا أن الملائكة آمره لجميع الموجودات إلا الثقلين
فنعلم أن النص بالضرورة جاء الأمر الى الأرض والسماء من الملائكة وذلك تنفيذا لأمر الله سبحانه له الحمد
فالنص هنا لايحتمل التفسير بالمجاز العقلي
ولي عودة
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[30 - 10 - 2005, 07:33 م]ـ
ألأمر هنا الأمر التسخيري
ولي عودة إن شاء الله سبحانه له الحمد(/)
سؤال منقول من منتدى النحو والصرف
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[30 - 10 - 2005, 04:56 م]ـ
الوراق
فصيح جديد
تاريخ الانتساب: Oct 2005
البلد: النعيربة
المشاركات: 1
ارجو من الله ثم منكم توضيح البلاغة القرانية في سورتي الانعام اية 151 وسورة الاسراء31 وشكرا
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) الأنعام.
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) الإسراء.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 04:06 ص]ـ
الأخ موسى - حفظه الله ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
نلاحظ من الآيتين أن الله تعالى قدّم في الأنعام رزق المخاطَبين على رزق أولادهم المدلول عليه بعطف ضميرهم عليه، وفي الإسراء قُدّم رزق الأولاد على رزق المخاطَبين. والسر في ذلك - والله أعلم - أن الخطاب في الأنعام مع قوم فقراء يهمّهم رزقهم أولاً، ثم رزق أولادهم ثانياً، فقدّم رزقهم لأنه عندهم أهم.
أما في الإسراء فإن الخطاب مع غير الفقراء، لكنهم يخشون وقوع الفقر في المستقبل فيجوع أولادهم. فرزق أولادهم لأنه مظنّة القلّة المتوقّعة أهم عندهم من رزقهم، لأنهم حاصلون عليه أصلاً، فقدّم رزق أولادهم على رزقهم لأنه أهمّ.
والدليل على ذلك أن التعبير في الأولى كان: " من إملاق "، أي: فقر واقع فعلاً. وفي الثانية: " خشية إملاق "، أي: فقر متوقع.
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 11:13 م]ـ
كما عهدتك
مصيباً، على الحق.
وبارك الله فيك(/)
فانفجرت منه ..... فانبجست منه
ـ[الضاد1]ــــــــ[31 - 10 - 2005, 12:52 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
إخواني الأفاضل أرجو توضيح الفرق بأسلوبكم السلس مشكورين
توضيح الفرق بين: انفجرت، انبجست في الآيتين التاليتين:
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ: البقرة:60
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: الأعراف: 160
مثلاً يقول صاحب معجم الفرائد القرآنية:
الانبجاس: قريب من الانفجار، إلا أن الانبجاس أكثر ما يقال في الخارج من ضيق، والانفجار أعم، وبجس الشيء أي شقّه، وهذا يعني أن الانبجاس هو خروج الماء بعد أن يشق طريقه.
بارك الله بكم ولكم الشكر الجزيل
ـ[قمر لبنان]ــــــــ[31 - 10 - 2005, 01:20 ص]ـ
الانفجار أغزر وأكثر من الانبجاس
لكن السؤال المهم: لم قال " انفجرت " في آية وكذلك قال " انبجست " في أخرى؟؟
وهل من تناقض بين الآيتين؟؟
الجواب: أن كلا الأمرين قد حصل " فالانفجار " كان أولا، ثم قل الماء فأخذ ينبجس.
إذا الخروج الأول للمياه: " انفجار " وبعد أن خفت المياه أخذت " تنبجس " بأقل غزارة من الحالة الأولى
ولا تناقض بين التعبيرين لأنهما يصفان حالتين اثنتين:
الأول عند الانفجار
والثاني عند الانبجاس (بعد أن خفت غزارتها)
ـ[الضاد1]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 12:22 ص]ـ
بارك الله بك أخي الكريم قمر لبنان
هل هذا يعني أن موسى عليه السلام ضرب بعصاه مرتين: مرة لإنفجار الإثنتي عشرة عيناً، والأخرى لانبجاس
الإثنتي عشرة عيناً؟ وذلك لأن الواقعة واحدة، أي نفس الحدث.
وجزاكم الله خيراً
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 12:35 ص]ـ
ما أجمل استفساراتك يا عمّار
لا ليس المقصود ما ذكرت---هو انفجار تندفع المياه خلاله بشدة فانبجاس تنزّ المياه عنده من العيون نزّا
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[01 - 11 - 2005, 01:19 ص]ـ
نضيف فوائد أخر لما قد ذُكر ..
أولاً: نلاحظ في آية البقرة أن الذي استسقى ربه هو موسى عليه السلام، قال تعالى: " وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ "، فناسب إجابته بانفجار الماء الكثير الغزير ههنا. في حين أن الذي استسقى في آية الأعراف هم قوم موسى، قال تعالى: " إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ "، وعلى هذا فإن الحالة الأولى أكمل وأبلغ في النعمة.
ثانياً: نلاحظ أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام في آية البقرة: " فَقُلْنَا اضْرِب " ولم يوح إليه وحياً كما جاء في آية الأعراف في قوله تعالى: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى ... أَنِ اضْرِب "، فناسب في الحالة الأولى لفظ انفجار الماء وفي الثانية انبجاسه.
ثالثاً: نلاحظ أن الله تعالى جمع لهم في آية البقرة بين الأكل والشرب، فقال: " كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ "، ولم يرد في الأعراف ذكر الشرب، قال تعالى: " كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ "، فكان من المناسب أن يبالغ في ذكر الماء الكثير في البقرة.
ومن هنا - وبالإضافة إلى ما ذكره الاخوة الكرام - يتبيّن لنا الفرق بين الانفجار والانبجاس، وكيف أن كل تعبير ناسب موضعه الذي جاء فيه. فآية البقرة فيها تعداد لنعم الله على بني إسرائيل، وحيث إن المقام مقام تكريم فناسب أن يجيء بلفظ " انفجرت " .. وفي آية الأعراف روعي جانب الخطيئة فجيء بلفظ " انبجست ". فالماء أول ما انفجر كان غزيراً، ثم قلّ بعصيانهم .. فعبّر في مقام المدح بالانفجار وفي مقام الذم بالانبجاس.
ـ[الضاد1]ــــــــ[02 - 11 - 2005, 01:42 ص]ـ
بارك الله بكم جميعاً لما أبديتم معي هذا التجاوب
بقي تساؤل صغير لو سمحتم:
أن قوم موسى -وعلى كل الأحوال- هم الذين طلبوا السقيا ابتداءً ثم طلبها موسى من
الله تعالى. أليس كذلك؟
ـ[د. محمد الشافعي]ــــــــ[18 - 12 - 2007, 11:12 ص]ـ
جزاكم الله خيرا وجمعنا دائما على فهم القرآن الكريم وجعله شافعنا إن شاء الله، أضيف شيئا أن موسى عليه السلام لم يضرب ضربتين مرة للإنبجاس ومرة للانفجار بل واحدة في بدايتها انفجار والثانية بعد خفة حدتها انبجاس والله أعلم
ـ[الصياد2]ــــــــ[21 - 12 - 2007, 02:11 م]ـ
كل من يقول بالمرحلية انفجار فانبجاس ويعلل الآية لذلك غير موفق لان الفاء تفيد الترتيب والتعقيب فلو كان ان آية الانبجاس تعبير للمرحلة الثانية لو جب القول ثم انبجست لان هناك فاصلا زمنيا لا باس به حتى تاتي الانبجاسات المذكورة لذلك ارى ان كلام السيد لؤي الطيبي هو الموفق والاشد إقناعا وتفسيرا
(يُتْبَعُ)
(/)