له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذا البلاد، فعرف النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ليس من تلك الأرض فسأله عن بلده وعن دينه فقال له أنه نصراني وأنه من أهل قرية نينوى من قرى الموصل فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فدهش عدَّاس، وقال له- صلى الله عليه وآله وسلم-: وما يدريك ما يونس بن متى وإنني فارقت نينوي وما يعرفه من أهلها إلا قليل فمن أين عرفت أنت هنا هذا وأنت أمي في أمة أمية فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي.
كان عدَّاس على يقين بما خبر من أهل تلك الأرض وعرف من جهلهم وأميتهم، من أنهم بعداء كل البعد عما شاهده من أدب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عند الأكل بذكر اسم الله، وما سمعه منه من العلم بيونس وبلدته فتحقق أن هذا ما وصل إليه إلا بوحي من الله فلم يتردد في تصديقه والإيمان به وأكب على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقبل رأسه ويديه وقدميه.
لم يكن عند عدَّاس مال يطغيه ولا جاه ينفخه ولا رئاسة يتعالى ويتعاظم بها ولا سلطة كهنوتية تفسد عليه إدراكه وتغل فكره فلذلك نظر نظراً صحيحاً وفكر تفكيراً مستقيماً فاستنتج من علم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم يعلمه الناس في أرض جهل وأمية أنه نبي موحى إليه من الله وكل من سلم من تلك القواطع التي سلم منها عدَّاس فهو أقرب الناس إلى قبول الحق واتباعه وما يتباطأ من يتباطأ عن قبول الحق والإذعان لأدلته إلا من تلك الموانع ويكون تباطؤه بقدر ما عنده منها.
بينما كان الغلام الصحيح العقل النقي القلب السليم الصدر الحر الضمير يستعمل فكره فيشرح الله صدره فيهتدي إلى الإسلام- كان(4/264)
ذانك الشيخان الضالان اللذان أطغاهما المال ونفخهما الجاه وأعماهما الحرص على الرياسة، عتبة وشيبة- يقول أحدهما للآخر: (أما غلامك فقد أفسده عليك).
رجع عدَّاس- وقد اهتدى- إلى الشيخين الضالين فقالا له: (ويلك يا عدَّاس ما لك تقبل رأس هذا الرجل- يتجاهلانه- ويديه وقدميه) فقال لهما: "يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي" فقالا له: "ويحك يا عدَّاس لا يصرفنك عن دينك- وقد كان عدَّاس نصرانياً- فإن دينك خير من دينه".
لا يسوءهما أن يكون عدَّاس على أي ملة وإنما يسوءهما أن يتبع محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يحسدانه ويخافان منه على رياستهما فحاولا أن يصرفاه عنه ويصداه عن اتباعه بما قالاه له، لكن عدَّاساً الذي عرف الحق بالدليل، وذاق حلاوة الإيمان وبرد اليقين، لم يقم لكلامهما وزناً، ولم يحر لهما جواباً، وأعرض عنهما كما يعرض عن الجاهلين وثبت على الدين الحق. وكذلد الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 11، ص 79 - 81 غرة صفر 1354ه -1935م.(4/265)
الراعي
من هذا الغلام العربي في عباءته؟ من هذا الراعي الصغير في غنيمته؟ من هذا الصبي الناشيء على الحمل والرعاية من طفولته؟ من هذا اليافع الذي يأبى إلا أن يعيش من كد يمينه، ويأكل خبزه إلا بعرق جبينه؟.
هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يتيم الأبوين مكفول عمه أبي طالب، الذي كان يرعى غنما لأهل مكة لقومه وأهل بلده بالقراريط حتى لا يكون كلا على عمه. هذا هو المهيأ برعايته الغنم، لرعاية الأمم، هذا هو المنشأ على الكد في العمل الصغير، إعداداً له للنهوض بأعباء العمل الكبير، هذا هو العربي على العمل بالفلس، ليشب على خلق الاعتماد على النفس، هذا هو المعد لختم النبوة والرسالة وإظهار أكمل مثال للبشربة، يحمل أعظم آية من وحي الله، ويدعو إلى السعادة الدنيوية والأخروية وأقصى ما يمكن أن يصل إليه الناس من كمال.
شب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في كفالة عمه، وكان عمه مقتراً في شظف من العيش، فأخذ محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يعمل بأجرة ليخفف على عمه ولما شب ضرب في الأرض تاجراً كعادة قومه، فلما ولد لأبي طالب عليٍّ كفله. وهو في الثلاثين، جزاء على كفالته. فكان في طفولته وشبابه وكهولته كواحد من قومه في عيشته وكسبه وأميته. وإن كان ممتازاً بينهم لخلقه وفضله حتى بعثه الله نبياً ورسولا بما يستحيل- وقد عرفوا طفولته وشبابه وكهولته- أن يكون شيء منه من عنده، ولذا أمره الله أن يحتج عليهم بقوله:(4/266)
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ميسراً من طفولته لما كان عليه اخوانه من الأنبياء والمرسلين- صلوات الله عليهم- قبله محفوظا مما حفظوا ملهماً ما ألهموا وقد ألهم الله الأنبياء قبله لرعي الغنم وهي حيوان ضعيف تمريناً على القيام على الضعاف بالحلم والرفق والشفقة وحسن الرعاية باختيار مسارحها ودفع العوادي عنها ودوام تعهدها وذلك كله تهيئة لم إلى ما يوكل إليهم من سياسة أمتهم.
وقد ذكر هو- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا العهد من طفولته وهذه العادة الربانية في مثله من إخوانه اعترافا بنعمة الله وتنبيهاً على ما في ذلك من الحكمة وما فيه من حسن القدوة فقال يوماً لأصحابه: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» رواه البخاري من طريق أبي هريرة- رضي الله عنهم- (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 11، ص 152 - 153 ربيع الأول 1354ه - جوان 1935م.(4/267)
خلوا بيني وبين ناقتي
كان الأعراب يجيئون للنبي- صلى الله عيه وآله وسلم- يسألونه ويستجدونه في غلظة وجفوة من القول فكان يعطيهم ويتجاوز عن جفائهم ويعذرهم ببداوتهم. فجاءه أعرابي يطلب منه شيئاً فأعطاه إياه ثم قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- «أأحسنت إليك؟» ليعرف ما عنده من الاعتراف بالإحسان أو ليعرف اكتفاءه بما أعطاه فقال له الأعرابي: (لا ولا أجملت) أي ما أتيت لا بحسن ولا بجميل. فغضب المسلمون وقاموا إليه ليوقعوا به جزاء سوء أدبه فأشار إليهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن كفوا ثم قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئا ثم قال له: «أأحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: "نعم. فجازاك الله به من أهل وعشيرة خيراً". هكذا توسل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى تأديبه واستخراج الاعتراف بالجميل منه ليتربى عليه وحمله على النطق بالكلام الطيب بزيادة الإحسان إليه. فاعترف بالإحسان ودعا الله بالجزاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بسبب إحسانه وشعر بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان له أهلا وعشيرة وهذه كلها معارف وآداب وشعور طيب جاء بها هذا الأعرابي الجافي بسبب تربيته بزيادة الإحسان إليه. وأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا يتركه يرى بين الصحابة- رضي الله عنهم- بالعين التي كانوا يرونه بها لجفائه وسوء أدبه وأن لا يترك في قلوبهم شيئاً عليه، فقال له: «إنك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في(4/268)
صدورهم عليك» دعاه بألطف القول وألينه دون أمر ولا إلزام فقال الأعرابي: "نعم" فلما كان الغد أو العشي جاء الأعرابي لمجلس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي. أكذلك، قال نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً».
ثم أراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يضرب مثلا لأصحابه- رضي الله عنهم- يبين لهم به كيف يكون رد الشارد وجذب النفور وتأليف الجافي، وأن المتصدي لتربية الناس أعرف من غيره بما يصلحهم وأن الرئيس المتبوع أعرف بطباع أتباعه وأحق بتأليفهم وتربيتهم من الاتباع بعضهم في بعض، فقال لهم- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أوفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت (بركت) وشد عليها رحلها واستوى عليها» ثم قال لهم: «وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» فقد استحق النار لو مات على تلك الحال فأشفق عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعالجه بما أنقذه منها وهكذا تكون رعاية الأفراد والأمم باللين والإحسان والإنقاذ من مصارع السوء والحمل بالرفق والعلم على السير في أحسن السبل فصلى الله عليه وسلم من نبي حريص على الخير رفيق بالخلق عليم بطبهم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (1)} (2).
__________
(1) ذكرها فى الشفاء وأصلها في البزار كلما ذكره الشراح.
(2) ش: ج 4، م 11، ص 207 - 208 غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1935م.(4/269)
كن خير آخد
قام قائم الظهيرة وأصهرت الأرض شمس الصحراء، فنزل الجيش ليقيل، وتفرق الصحابة تحت أشجار البادية يستظلون بها، وانتبذ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن أصحابه تحت ظل شجرة وانفرد بها فنزع سلاحه وعلق سيفه في غصن من أغصانها ونام.
كان غورث بن الحرث أحد شجعان العرب وفتاكهم يتتبع الجيش متخفياً، يتحين فرصة انفراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للفتك به، وقد واتته تلك الفرصة الآن، فجاء حيث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نائم وسيفه معلق بالشجرة، فاخترط السيف فانتبه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وغورث قائم على رأسه والسيف صلتا بيده. فصاح الفاتك بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: "أتخافني؟ " فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا» قال: "ومن يمنعك مني" فقال: «الله».
الاسم الأعظم ينطق به الرسول الأعظم، وهو أعزل من سلاحه إلا سلاح الإيمان، وقد شهر الباطل سيفه بيد ضال مغرور، يريد أن يصيبه في سيد أنصاره وأعظم أبطاله. فلو كان هذا الفاتك جبلا وقد صدعت كلمة الله سمعه لخشع وتصدع ولو كان قلبه من حديد لذاب وسال.
انخلع قاب الفاتك واضطربت يده وسقط السيف منها، فتناول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- السيف ورفعه على رأسه وقال لغورث: من يمنعك عني؟ فقال له غورث: كن خير آخذ.
إلتجأ الفاتك إلى حُلم الني- صلى الله عليه وآله وسلم- وعفوه(4/270)
وكرمه ودعاه إلى أن يكون خير آخذ لعدوه، وخير الآخذين هو الذي يعفو بعد القدرة، ويسمح بعد الغلب، وما دعى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى خير إلا أجاب ولا وقع بين أمرين إلا اختار أفضلهما، وما انتقم لنفسه قط، فترك غورثا وعفا عنه فرجع إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس.
في هذه القصة تجلت الثقة بالله في أجلى مظاهرها واندحرت قوة السيف أمام قوة الإيمان إيمان من لا يخاف إلا الله ولا يخاف غيره. ولو كان السيف صلتا على رأسه وضرب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- المثل الكامل في العفو والتجاوز وحسن التآلف للناس وجلبهم إلى الإيمان فلهذا العفو ولقول غورث لقومه: جئتكم من عند خير الناس، من الأثر في القلوب ما لا تفعله الجيوش من فتحها للإسلام أو كفها عن أذى المسلمين (1).
رزقنا الله الاقتداء بهذا النبي الكريم ذي القلب الرحيم والخلق العظيم (2).
__________
(1) أصل القصة في الصحيحين والشفاء ومسند أحمد وقد اختلف في إسلام غورث.
(2) ش: ج 5، م 11، ص 284 - 285 غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.(4/271)
لا أثر للعبودية مع الأحرار
أغارت خيل بني القين على أبيات بني معن فاحتملوا فيما غنموا زيد بن حارثة الكلبي، وقد جاء مع أمه سعدى عند أخواله، وهو غلام يفعة، فسبوه وباعوه في سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد فلما تزوجت بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وهبته له فصار عبداً لمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الهبة.
قدم ناس من قوم حارثة مكة فرأوا زيداً فعرفوه فلما رجعوا. أخبروا أباه وكان قد وجد على فقده وسبيه وجدا شديدا وكان دائم البحث عنه فما أن بلغه نبأ وجوده بمكة حتى خرج هو وأخوه كعب قاصدين إلى مكة ليفتديا زيداً من مالكه بما استطاعا من المال.
قدما لمكة وسألا عن محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يملك ابنهما فدلا عليه في المسجد بفناء الكعبة فدخلا عليه فقالا: (ابن عبد المطلب يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك تمن علينا وتحسن إلينا في فدائه، قال: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال: فهلا غير ذلك، قالا ما هو إلا ذاك، قال أدعوه فأخبراه فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي اختار على من أختارني أحداً، قالا قد رددتنا إلى النصف وأحسنت، فدعاه، فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال فأنا من قد علمت وقد رأيت محبتي فاخترني أو اخترهما؟ قال: زيد: ما كنت بالذي أختار عليك أحداً أنت مني مكان الأب والعم، فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على(4/272)
الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك، قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
كان زيد بحكم العادة عبداً مملوكا ولكنه لم يشعر مع محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- سيد الأحرار- وهذا قبل نبوته- بشيء من آثار العبودية. إنه لا يستبد بالناس، ويمتهنهم ويدوس كرامتم إلا من لم يستكمل معنى الإنسانية ولم يكن هو في نفسه حراً أما من كملت إنسانيته وخلصت حريته فإنه لا يستطيع أن يمتهن الإنسانية ولا يذل كرامتها وأن الوصايا التي أوصى بها الإسلام في شأن المملوك والخدم لا يشعر معها المملوك والخادم بشيء من العبودية وانحطاط المقام ومحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- المفطور على الرحمة والإحسان سيد الناس وسيد الأحرار لم يشعر معه زيد بشيء من أثر العبودية واختار البقاء معه على الأب والعم والأقارب.
جازى محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- زيداً على اختياره له على أبيه وعمه وأهله فأعلن بتبنيه فصار يدعى زيد بن محمد حتى أبطل الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} وزيد أحد السابقين للإسلام وما ظنك بمن ربي تحت جناح محمد- صلى الله عليه وآله وسلم (1) -
__________
(1) ش: ج 6، م 11، ص 351 - 352 غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.(4/273)
من خان قوما فليس منهم
ضربت الجيوش المحمدية نطاق الحصار على بني قريظة بعدما كانت نقضت عهدها يوم الأحزاب ورأت قريظة أنها مأخوذة وأنه نازلبها من الله عقاب الخائنين.
بعثوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وقد كانوا حلفاء الأوس ليستشيروه في أمرهم فلما جاءهم أبو لبابة قام إليه الرجال وجهِش إليه النساء والصبيان بالبُكاء وكانت عليهم منه رقة وبعث مشهدهم في قلبه رحمة أنسته ما كان منهم من خيانة لعهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والمسلمين، ومؤازرة العدو عليهم حتى أحيط بالمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم وحتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
استشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول من حصنهم على حكم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال لهم نعم. وعلم أنهم استحقوا بخيانتهم القتل وأنهم مقتولون فأشار لهم بيده إلى حلقه إشارة فهموا منها أنهم يذبحون.
قال أبو لبابة: "فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله" وذهب على وجهه وقد عرف عظم الجرم الذي ارتكب فذهب إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسلسلة إلى عمود من عمده وأقسم لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه وأقام على ذلك لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى يخر مغشياً عليه، وكانت تأتيه زوجته أو ابنته فتحله إذا حضرت الصلاة ثم يعود.
مضت عليه بضع عشرة ليلة أو سبعة أيام ورسول الله- صلى الله(4/274)
عليه وآله وسلم- يراه فيقول لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
ففي سحر ليلة نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- توبة الله التواب الرحيم على أبي لبابة وهو في بيت أم سلمة- رضي الله عنها- فبشر بالتوبة وثار الناس إليه ليطلقوه فأبى حتى يطلقه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بيده فلما مر به رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عند خروجه لصلاة الصبح أطلقه.
فرح أبو لبابة بتوبة الله عليه وجعل من توبته أن عاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا- وكانت له بها أموال- وأن لا يرى في بلد خان فيه الله ورسوله، وقال لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن من توبتي أن أهجر الدار التي أصبت فيها الذنب وأن انخلع من مالي، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يجزئك الثلث يا أبا لبالة.
العبرة:
إشارة خفيفة لقوم مغلوبين فيها بيان ما يقصد بهم، عدها هذا الصحابي البدري النقيب الجليل في هذه المنزلة من الخيانة حتى فزع لها هذا الفزع وخاف منها هذا الخوف وما اطمأن حتى تحقق توبة الله عليه فشكر ذلك بهجران موطن الخيانة وتصدق بثلث ماله، ذلك لاأنها خيانة في أمر عام وفي موقف حربي بين المسلمين وعدوهم وأعظم الخيانة ما كان في مثل ذلك وكان أبا لبابة رأى نفسه بتلك الخيانة للمسلمين لم يبق كواحد منهم فربط نفسه منفرداً عنهم حتى يطهر بالتوبة وفي الحق أن من خان قوماً فليس منهم بل هو شر عليهم من أعدائهم. فرضي الله عن أبي لبابة عدد سخطه ومقته للخائنين (9).
__________
(1) ش: ج 9، م 11، ص 499 - 500 غرة رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.(4/275)
من ذكريات بدر
حماس الشباب (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع (2) منهما. فغمزني (3) أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي، قال: أخبرت أنه يسب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده (4) حتى يموت الأعجل (5) منا فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال لي مثلها. فلم أنشب (6) أن نظرت إلى أبي جهل يجول (7) في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه (8) بسيفيهما يضربانه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله وقضى
__________
(1) القصة وهى في عيون الأثر 1/ 262 رواها مسلم عن يحيى بن يحيى عن يوسف بن الماجشون.
(2) أقوى وأشد.
(3) أشار له بطرفه أو وضع عليه يده.
(4) شخصي شخصه.
(5) الأقرب أجلا.
(6) البث.
(7) ينتقل بينهم لا يثبت في موضع يتفقدهم لأنه كان رأسهم.
(8) أسرعا إليه فناجزاه.(4/276)
بسلبه (1) لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وهما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح".
بيان وإيضاح:
شابان ملأ الإيمان قلوبهما، وعظمت على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غيرتهما، واشتد على مؤذيه حنقهما فهانت عليهما في سبيل الانتصار له والانتقام من عدوه الظالم نفوسهما، وكل واحد منهما يريد أن يفوز بهذا المقام من إرضاء الله ورسوله فيسأل الرجل الكهل الواقف ينهما ويكتم سؤاله عن صاحبه ويقسم أنه لو رأى عدو الله أبا جهل لما فارقه حتى يقتل أحدهما صاحبه. فيقف هذا الرجل الكهل الذي كان استصغرهما واستضعفهما وود لو كان بين رجلين أقوى منهما- متعجباً آمن أمرهما وما ظهر له من قوة قلبهما وتواردهما في السؤال على غاية واحدة لا يبالي كل واحد منهما في سبيلها بالموت الزؤام. وأراد الله أن يبلغهما تلك الغاية وأن يرى ذلك السيد الكهل تصديق فعلهما لقولهما فرأى أبا جهل يتنقل في الناس فأراهما إياه إراءة واحدة فانقضا عليه كبازيين على الفريسة فأغمدا فيه سيفيهما وشفيا- في الله- منه غيظهما وجاءا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يخبرانه بقتل رأس الكفر وأعظم الأعداء وأشدهم أذى يدخلان الفرح عليه ويبتغيان مرضاة الله ورسوله، وكل واحد منهما يرى أنه قد قتله لما علم من أثر سيفه فيه وصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- دعوى كل واحد منهما لما رأى من أثر دم عدو الله على سيفيهما وأعطى السلب أحدهما ولم يكن السلب قصدهما فخص- باختياره- من شاء منهما فذهبا طيبة بما صنعا نفوسهما راضية برضى الله ورسوله عنهما.
__________
(1) ما عليه من ثياب وسلاح.(4/277)
هذا هو الشباب الحي وهذا هو حماسه الدال على قوة حيويته وصدق عقيدته وهذا هو اندفاعه الذي ميزه الله به عن الكهول والشيوخ وهذه مظاهر حزمه ونشاطه في الإنجاز والتنفيذ، فنعم الشباب أولئك الشبان، ينقضون كالصواعق، ونعم الكهول أولئك الكهول، يثبتون كالجبال (1).
__________
(1) ش: ج 11، م 11، ص 594 - 595 غرة ذي القعدة 1354ه - فيفري 1936م.(4/278)
بئس حامل القرآن أنا إذاً
كان يوم اليمامة في حرب بني حنيفة- قوم مسيلمة الكذاب- من أشد أيام حروب الردة، وكان للقراء حملة القرآن فيه الموقف المشهودة، وكان القائد الأعلى سيف الله خالد بن الوليد- رضي الله عنه- يختار منهم من يعطيه على قسم من الجيش الراية، وحامل الراية لا تسقط من يده حتى يسقط ميتا، ولا تؤخذ منه حتى تؤخذ روحه فى دونها، وكانت راية المهاجرين مع عبد الله بن حفص بن غانم القرشي فثبت معها حتى قتل فأعطيت الراية لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه فقال لهم: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها؟ قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون أتخشى علينا من نفسك شيئا؟ قال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. تناول سالم الراية وهو يرى تناولها عهدا بينه وبين الله والمسلمين أن لا يفر حتى يصرع دونها فصدق ما عاهد الله عليه وجرى على سنة حملة القرآن إخوانه من قبله، فأمسكها بيمينه حتى قطعت يمينه، فأخذها بيساره حتى قطعت يساره فاعتنقها حتى صرع، فسأل أصحابه وهو صريع: ما فعل أبو حذيفة؟ يعني مولاه، فقالوا قتل فقال: أضجعوني بجنبه فجمعهما بطن الأرض شهيدين كما عاشا على ظهرها على الإسلام والهجرة والنصرة مجتمعين رضي الله عنهما.
العبرة:
القرآن راية الإسلام، فحامل القرآن حامل راية الإسلام، فلذلك كان يتقدم حملته لحمل الرايات تحت بارقة السيوف، يجودون بأنفسهم،(4/279)
والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ففي جميع مواطن البلاء، والشدة ومواقف الفزع والمحنة، هم أهل المتقدم إلى الأمام. هؤلاء هم حملة القرآن الذين حملوه حمل فهم وعلم وعمل، فاعتزوا به وأعزوا به الإسلام فأعزهم الله. وخلفت من بعدهم خلوف اتخذوه حرفة وتجارة، وجاءوا بقراءته على الأموات بوجوه من البشاعة والمهانة والحقارة فأذلوا أنفسهم وأذلُّوا اسم حامل القرآن بقبيح أعمالهم فأذلهم الله: على أن الله- ولله الحمد- لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة، ومستجيب لداعي الله في سلوك المحجة، فقد أخذ كثير من حملة القرآن يعرفون قيمة ما حملوا. وينهضون بما حمِّلوا، ويعملون لعز الإسلام ورفع راية القرآن، راية الحق والعدل والأخوة والإحسان لبني الإنسان. أيدهم الله وأنقذ بهم الإنسانية ومد بهم رواق السلام (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 13، ص 12 - 13 غرة محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.(4/280)
هكذا تكون النزاهة
رضي الله عنك يا عمر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- أميراً بالبصرة من طرف عمر- رضي الله عنه- فمر به عبد الله وعبيد الله ابنا عمر قافلين من الغزو في جيش كان بالعراق فرحب بهما وسهل وقال وددت لو أقدر على شيء أنفعكما به. ثم اهتدى إلى وجه نفعهما فقال: عندي مال من مال الله أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتباعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فيكون لكما الربح وتؤديان رأس المال لأمير المؤمنين فقبلا ذلك منه وكتب لعمر يعلمه. فلما قدما المدينة باعا ما اشتريا من العراق وربحا وجاءا لأمير المؤمنين برأس المال وأمسكا ربحهما.
رأى عمر أن أبا موسى حاباهما وأنه راعى جانب عمر أمير المؤمنين فيهما ولذا خصصهما بذلك دون غيرهما. وما كان عمر ليرضى أن يستغل مركزه في الأمة لنفعه بذلك الخاص ولا أن يستغله أحد من أهله فأراد أن يأخذ من ابنيه رأس المال والربح ويعرفهما أن أبا موسى حاباهما فقال لهما: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما.!! أدِّيا المال وربحه، فأما عبد الله وهو أفقه الإبنين- فسكت وأما عبيد الله- وهو أشدهما- فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو هلك هذا المال أو نقص لضمناه، فقال عمر: أدياه فراجعه عبيد الله ورأى أحد جلساء عمر أن يقطع النزاع بوجه يرضي عمر ويبعده عن المحاباة، فقال: يا أمير(4/281)
المؤمنين اجعله قراضا فقال عمر: قد جعلته قراضا فأخذ رأس المال وشطر الربح لبيت مال المسلمين، وأخذ ابناه- كعاملين في القراض- الشطر الآخر.
الأسوة الحسنة:
كل ذي علم أو إمارة أو منزلة عند الناس، ترى الناس يسرعون في مرضاته فينجر إليه وإلى من إليه فوائد ما كانت لتتجر لولا مكانه الخاص. فعلى الذين لا يحبون أن يأخذوا من الناس أكثر مما يعطونهم، ولا يحبون أن يستغلوا مراكزهم، أن يحتاطوا من هذه الناحية حتى لا ينالوا ولا ينال بأسمهم شيء زائد على ما يناله كل أحد من الناس مثلما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- وليس هذا من الورع الذي قد يكون المقصر فيه معذورا بعض العذر، بل هو من الواجب الذي يتحتم على كل ذي منزلة وقدر بين الناس فإن استغلال المنزلة والاختصاص بالمنافع العامة دون سائر الناس من الأكل بالباطل نسأل الله أن يجعل فينا ما ينفع عباد الله وأن يجعل ما نعطي أكثر مما نأخذ وما نعمل أكثر مما نقول آمين يا رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 13، ص 84 - 85 صفر 1356ه - أفريل 1937م.(4/282)
رقية الله
كان ضماد- وهو رجل من أزد شنؤة- من أطباء العرب في الجاهلية وكان يعالج بالطب والرقية. قدم مرة مكة، وقد بلغه نبأ الدعوة الجديدة فلما قدمها سمع من سفهائها ما كانوا يرمون به صاحب هذه الدعوة من الجنون فود لو رآه فرقاه لعل الله يشفيه على يديه، فعمل لذلك حتى لقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح - ريح الجنون- وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فما أجابه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بكلمة ترد عليه وما زاد على أن قال: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد" فما تركه ضماد يشرع فيما بعد أما بعد، فقد عملت هذه الكلمات الجوامع عملها من نفسه وأثرت أثرها في قلبه فبادره بقوله: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فأعادها عليه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثلاث مرات فتجلى لضماد من توحيد الله وتنزيهه والثقة به والاعتماد عليه والحمد له ما بهره منه المعنى الكبير الكثير، في اللفط البين القليل، وعرفه أن هذا لا يخرج من قلب مجنون. وكيف؟ وهو لم يطرق سمعه مثلهن فيما سمع من كلام الناس فقال، معلنا لإيمانه مبيناً لدليله وبرهانه: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاعوس البحر (كقاموس عمق البحر ولجته) ثم قال: هات يدك أبايعك على الإسلام فبايعه، فقال(4/283)
له رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: وعلى قومك؟ فقال: وعلى قومي (1).
العبرة:
جاء الضماد لا يحمل في قلبه على محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حقداً ولا بغضاً، بل كان ينظر إليه بعين الشفقة نظر الطبيب إلى المريض. فلما سمع الحق بلغ من قلبه ذلك المبلغ. فأعظم ما يحول بين الحق وبين الناس وما تنطوي عليه قلوبهم من بغض أو حقد على من دعاهم إليه. فعلى من يريد أن يعرف الحق أن يخلي قلبه- ما استطاع- من كل إحنة على من يريد أن يعرف ما عنده من الحق عندما يريد أن يعرف، وعلى كل داع إلى الحق أن يبذل كل جهده أن لا يظهر بمظهر العدو أو البغض لمن يدعوه. فإنه إذا سلم القلب، وحصل الفهم أثرت كلمة الحق أثرها لا محالة.
الأسوة:
كتاب الله ومثل هذا الكلام النبوي الوارد في هذه القصة المأخوذة، من كتاب الله، هو الدواء الناجع من أدواء النفوس وأمراض القلوب، وهو الرقية الشافية، - رقية الله- من وساوس الأهواء وهواجس الضلال، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يزد في استشفاء ضماد على أسماعه ذلك الكلام الجامع المختصر. فعلى الدعاة إلى الحق أن تكون دعوتهم بكلام الله ومثل هذه الكلمات من حديث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإن في ذلك الاتباع والانتفاع، وحصول الهداية إن شاء الله آمين (3).
__________
(1) القصة في صحيح مسلم.
(2) ش: ج 3، م 13، ص 127 - 128 غرة شعبان 1356ه - 2 ماي 1937م.(4/284)
نعوذ بالله من السلب بعد العطاء
كان ممن قدم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من بني حنيفة سنة الوفود الرَّجَّال بن عنفوة فأسلم وقرأ وفقه في الدِّين. وكان يرى عليه من الخشوع والخير وملازمة قراءة القرآن شيء عجيب. حتى بعثه معلما لأهل اليمامة وبينما هو جالس يوما من الأيام في رهط من الصحابة منهم أبو هريرة خرج عليهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: "لضرس أحدكم- أيها المجلس- في النار يوم القيامة أعظم من أحد".
فلما ارتدت بنو حنيفة باليمامة وتبعت مسيلمة الكذاب أرسل أبو بكر إلى الرَّجَّال فأوصاه بوصيته وبعثه يشغب على مسيلمة وهو يظن منه الصِّدْق فلما لحق باليمامة لحق بمسيلمة وشهد له أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أشركه في الأمر وأن هذا نبي وهذا نبي فاستجاب له من كان أسلم من بني حنيفة وصدَّقوه وكان أشد وأعظم فتنة عليهم من مسيلمة نفسه، بما كانوا يعلمون من حاله وثبت على ردته حتى قتل، قتله زيد بن الخطاب.
قال أبو هريرة: "مضى أؤلئك الرهط لسبيلهم وبقيت أنا والرجال فما زلت لها متخوفا حتى سمعت بمخرج الرجال فآمنت وعرفت أن ما قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- حق".
هذا سلف الناكصين- وبئس السلف لبئس الخلف- وهذه عاقبتهم جكمة الله وعدله فيهم: يسلبهم ما أعطاهم وهو أعلم بهم،(4/285)
ويجعلهم فتنة لمن عداهم ليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم الصادقين ويعلم الكاذبين ثم تكون العاقبة للمتّقين (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 5، ص 68 - 69 غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.(4/286)
وأنا أغتنمها ...
المصلحة العمومية فوق الحزازات الشخصية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
رجل عظيم له أثر جليل في فتح الجزائر "المغرب الوسط" فهو أول من وطئت معه خيول الإسلام هذه الأرض، ولكنه مغمور في التاريخ، لا يجرى ذكره على الألسنة، ولا تعني بتفصيل حياته الكتب. ذلك هو أبو المهاجر دينار مولى مسلمة بن مخلد الأنصاري رحمه الله.
إستعمله مولاه مسلمة بن مخلد- والي مصر من قبل معاوية- على فتح إفريقيا وعزل عقبة بن نافع عنها. كان المغرت الأدنى قد تم فتحه فوجه أبو المهاجر همه إلى فتح المغرب الأوسط، بعد أن تولى الأمر من يد عقبة وأساء عزله ولكنه خلاه حراً طليقاً.
كان كسيلة من ملوك الأمازيغ بالمغرب الأوسط قد جمع جموعاً كثيرة وزحف بها لقتال المسلمين فكانت بينه وبين أبي المهاجر معارك انتهت بانتصار المسلمين وانهزام كسيلة وجموعه وظفر أبي المهاجر به.
أسلم كسيلة فاستبقاه أبو المهاجر وقربه، وانتهى أبو المهاجر من غزوه إلى تلمسان وقفل راجعاً إلى القيروان العاصمة الإسلامية التي كان أسسها عقبة، فبنى مدينة أخرى قربها نقل إليها مركز الجيش والإمارة، فصارت القيروان في حكم الخربة.
أفضت الخلافة إلى يزيد بن معاوية فأعاد عقبة إلى إمارة إفريقيا فقدمها سنة 62 فتناول الإمارة من يد أبي المهاجر وعزله وزاد فاعتقله ونكب صاحبه كسيلة الذي كان اعتصم بالإسلام ورجع مركز الجيش والإمارة إلى القيروان.
سار عقبة في جيشه في المغرب الوسط وكانت له فيه حروب،(4/287)
إذ لم تكن غزوة أبي المهاجر إلا تمهيداً للفتح، ثم توجه إلى المغرب الأقصى حتى انتهى إلى المحيط الأطلانطيقي، ولم يكن هذا الفتح السريع المدهش قد استأصل قوة جموع الوطن أيضاً، ففي عودة عقبة إلى القيروان من هذا الفتح هبطت إليه كاهنة جبل أوراس في جموع كثيرة وهو في قلة من أصحابه فكانت الوقعة الكبرى التي استشهد فيها عقبة وصاحبه وقال فيها أبو المهاجر كلمته الكبيرة الخالدة التي جعلناها عنوانا لهذه القصة.
كان عقبة في فتوحه مستصحباً معه أبا المهاجر وصاحبه كسيلة معتقلين، وكان يذيق كسيلة أنواع الإهانة والإذلال وكان أبو المهاجر يحذره عاقبة تلك المعاملة المخالفة لما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في معاملته للأسرى ولعظماء الناس.
لقد صدق ظن أبي المهاجر فإن كسيلة لما رأى قلة جماعة عقبة لرجوع الجيوش قبله إلى القيروان أرسل إلى قومه يعلمهم بذلك فجرأهم ذلك على ملاقاته والنزول إلى قتاله بعد ما كان الخوف والرعب قد ألجأهم إلى شعاب الجبال، فكانت تلك الوقعة.
علم عقبة أنه مستشهد لا محالة فسرح أبا المهاجر من معتقله وأمره باللحوق بالقيروان ليتولى أمر الناس لعلمه بسهولة الوصول عليه لحسن علاقته مع كسيلة وحسن سمعته عند قومه ويغتنم عقبة الشهادة فنسي أبو المهاجر كل ما كان فيه وكل ما لحقه من عقبة وقال له: "وأنا أغتنمها أيضا" ونزل المعترك كأصحابه واختاروا الموت الشريف على الأسر والهوان (1) فاستشهدوا عن آخرهم وكانوا زهاء ثلائمائة من الصحابة والتابعين رضي الله.
العبرة:
عندما تكمل في القادة أخلاق الرجولة ويتحدون في الإيمان
__________
(1) راجع "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" للأستاذ الميلي.(4/288)
بالمصلحة المشتركة العليا، وفي السعي لغاية واحدة - لا يحول بينهم وبين القيام بجلائل أعمالهم والبلوغ إلى غاياتهم، ما تقل السلامة منه بين البشر من الحزازات الشخصية وإن نالهم من ذلك ما لا بد منه من أثره السيء في طريق سعيهم وسرعة وصولهم.
فسوء معاملة أبي المهاجر لعقبة كانت نتيجة معاملة عقبة له التي تجاوزتها في الإهانة، حتى ارتكب عقبة ذلك المركب القبيح الوخيم العاقبة في معاملة كسيلة، لكن القائدين العظيمين كانا يؤمنان إيمانا واحدا بالمصلحة المشتركة العليا، ويعملان لغاية واحدة هي إعلاء كلمة الإسلام واغتنام الشهادة في سبيله، فلم يأل أبو المهاجر في نصح عقبة وهو تحت قيود الاعتقال ولم يتوقف عقبة في سراح أبي المهاجر ليتولى الإمارة بالقيروان ولكن الغاية الكبرى عند أبي المهاجر- كما هي عند مثله- هي الموت في سبيل الله والفوز بالشهادة فقال: "وأنا أغتنمها أيضاً" وما كانت تلك الوقعة التي خسر بها الجيش الإسلامي أولئك الأبطال إلا أثراً لازماً لتلك الحزازات الشخصية والنقائص البشرية. ولكل شيء أثره في هذه الحياة.
القدوة:
ضرب أبو المهاجر القائد العظيم أسمى مثل في نسيان النفس، والزهد التام في الحياة الدنيا ورئاستها، والرغبة الصادقة في نيل الشهادة، كما ضرب أسمى مثل في الشجاعة والإقدام والتضامن التام مع الأصحاب في وقت الشدَّة، وطرح كل أمر شخصي إزاء الصالح المشترك العام. فرحمه الله وجازاه الله وجازى من معه عن الإسلام وعنا خير الجزاء (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 15، ص 116 - 118 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.(4/289)
مصرع ظالم
ولي يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف وكاتبه إمارة إفريقية من قبل يزيد بن عبد الملك الخليفة الأموي، فقدمها سنة إحدى ومائة, فأراد أن يسير في الأمازيغ سيرة مولاه الحجاج فيمن أسلم من أهل سواد العراق، فإن الحجاج ردهم من الأمصار إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم كما كانت تؤخذ منهم قبل أن يسلموا، فلما عزم يزيد على ذلك في أهل إفريقية تآمروا على قتله فقتلوه، وولوا مكانه عليهم محمد بن يزيد مولى قريش الذي كان عاملاً عليهم قبل يزيد، وكتبوا إلى أهل يزيد بن عبد الملك: "إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة ولكن يزيد ابن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك".
إباء وعدالة:
سيم خطة خسف شنيعة هؤلاء الأفارقة فيما أرادهم به هذا العامل الظالم فأبوا وأوردوه مورد الظالمين أمثاله.
ورأى الخليفة صدق طاعتهم وعدل حكمهم فأقرهم على ما فعلوا, في قتل من قتلوا وولاية من ولوا.
ولقي هذا الظالم من الأفارقة ما لم يلقه مولاه وأستاذه الحجاج بالعراق.
عبرة في مقتله:
كان الوضاح بن أبي خيثمة حاجب عمر بن عبد العزيز الخليفة(4/290)
الأموي الراشد. فلما مرض عمر أمره بإخراج المحابيس فأخرجهم سوى يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاز وكان إذ ذاك سجيناً، فلما مات عمر هرب الوضاح إلى إفريقية خوفاً من يزيد بن عبد الملك الخليفة بعد عمر فبينما هو بإفريقية إذ قيل قدم يزيد بن أبي مسلم والياً فهرب منه الوضاح لما يعلم من حقده عليه من يوم تركه في السجن دون سائر المحابيس فطلبه يزيد حتى ظفر به فلما حمل إليه ورآه قال له طالما سألت الله أن يمكنني منك فقال له الوضاح: وأنا طالما سألت الله أن يعيذني منك، فقال له يزيد: ما أعاذك الله والله لأقتلنك, ولو سابقني فيك ملك الموت لسبقته، ثم دعا بالسيف والنطع فأتي بهما وأمر بالوضاح فأقيم بالنطع وكتف وقام وراءه رجل بالسيف وأقيمت الصلاة فخرج يزيد إليهما فلما سجد أخذته السيوف سيوف أولئك الأباة من الأفارقة فقتلوه جزاء ظلمه وخروجه فيهم عن حكم الإسلام، ثم أدخل على الوضاح من قطع كتافه وأطلق سراحه.
وهكذا جاء الفرج بعد الشدة, وقلب الله أمر الرجلين في فترة قصيرة جداً, فأمسى الأمير قتيلاً, والمكتوف في النطع حراً طليقاً، ونجَّى الله حاجب الإمام العادل، وأهلك الظالم مولى الظالم.
والحمد لله رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 4 م 15، ص 169 - 170 غرة ربيع الثانى 1358ه - ماي 1939م.(4/291)
السر كل السر في الأرواح
قد ينبثق الفرعان من أصل واحد ويهبط الإخوان من صلب واحد وتجمعهما رحم واحدة ويعيشان عيشة واحدة ثم يكون هذا في مستوى وهذا في مستوى دونه بمنازل.
ما ذلك الإختلاف مع ذلك الإتفاق إلا لسر في النفس هو خفي كحقيقة النفس ..
وهذه القصة التي ننقلها عن ابن أبي الحديد في الأخوين الكريمين الشريفين العظيمين: أبي الحسن الرضي وأبي القاسم المرتضى- عبرة بالغة في ذلك. قال: "حكى أبو حامد بن محمد الأسفرايني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة "من بني بويه" فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بين يديه من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم- رضي الله عنه- فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الإكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلاً وسأله أمراً فقضاه ثم انصرف.
قال أبو حامد: فتقدمت إليه وقلت: أصلح الله الوزير، هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما، وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة وكنت مجمعاً على الإنصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن انفضَّ الناس(4/292)
واحداً فواحداً فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه دعا بالطعام فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي، إتصل بي أنه قد ولد له ولد فنفذت إليه ألف دينار وقلت هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فأقرأه.
قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد ومن جملته: "إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة".
قال الوزير: فهذا هذا، وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادوريا "بالجانب الغربي من بغداد" تقسيطاً نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكاً للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهماً ثمنها دينار واحد، وقد كتب إليَّ منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب، فأقرأه.
قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه.
قال الوزير فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل، هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟ فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقاً، والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه، ولا أحله إلا في محله، وقمت فانصرفت.
وفي هذه القصة إلى ما قصدناه منها نموذج من مجالس الوزراء(4/293)
وآدابهم ومعاملتهم للناس على منازلهم وضبطهم لمكاتبهم والعناية بالري وحفر الأنهار مما ازدهر به عماران (1) العراقي من الناحية في تلك العصور أي ازدهار وآثار تلك العناية باقية على الزمان إلى اليوم (2).
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: عمران العراق.
(2) ش: ج 5، م 15، ص 213 - 215 غرة جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.(4/294)
عاآثار ابن باديس
قسم الرحلات(4/295)
للتعارف والتذكير
عرفتني تنقلاتي في بعض قرى ما في قلوب عامة المسلمين الجزائريين من تعظيم للعلم وانقياد لأهله إذا ذكروهم بحكمة وإخلاص.
ما حللت بقعة إلا التف أهلها حولي يسألون ويستمعون في هدوء وسكون وكلهم أو جلهم منتمون للطرق من مقدم وشاوش وخوني.
ما كنت أدعوهم في جميع مجالسي إلا لتوحيد الله والتفقه في الدين والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ورفع الأمية والجد في أسباب الحياة من فلاحة وتجارة وصناعة وإلى اعتبار الأخوة الإسلامية فوق كل مذهب وطريقة وجنس وبلد، وإلى حسن المعاملة والبعد عن الظلم والخيانة مع المسلم وغير المسلم، وإلى التزام القوانين الدولية التي لا بد منها لحفط النظام.
كنت أذكرهم بهذا كله وأقرأ على وجوههم سمات القبول والإذعان وأنا على يقين من بقاء أثر نافع لذلك بصدق وعد قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
الحروش:
بهاته القرية مسجد السيد لمعاوي علي ولكن القرية تقتضي جامع جمعة فذكرناهم في شأنه واتفقت كلمة الجمع على أن الذي يقدر على إنهاض الناس لبنائه هو السيد أحمد بن حربي والسيد بوقادوم فوعدا بالعمل وفقهم الله لإنجازه.
زيادة على المجالس العامة كان التذكير في المسجد إثر الظهر بفقه(4/297)
تكبيرة الإحرام والسلام، وبعد العصر بالاهتمام بالشؤون العظيمة وأخذ ذلك من قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} واستطردنا إلى تفسير سورة: {أَلَمْ نَشْرَحْ}.
عزابة:
لقينا إلى محطة السانشارل في سيارتين قاضيها العلامة الشيخ صالب علاوة بن الجودي وبعض النواب البلديين وأعيانها فيممناها إلى حانوت الأديب السيد محمد جلواجي وحانوته مجمع أهل الفضل من القرية ونواحيها ولا نطيل بتفصيل ما لقيناه من إكرام وعناية نكل ثوابهم عليهما إلى الله وإنما نذكر ما يتعلق بالتذكير والإرشاد.
كان الدرس العام بعد العشاء بالمسجد وهو- محل مكترى- في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} واستطردنا إلى مظاهر تلك الأخوة في الصلاة وحكمة بناء المساجد، وذكرناهم بإتمام ما كانوا وضعوا أساسه من بناء جامع الجمعة، وقد علمنا بعد سفرنا أنهم شرعوا في العمل وفقهم الله للتمام.
كنت أجيب عندما أسأل عن المقدمين بأن الذي يستحق التقديم هو من يكون عارفاً معرفاً داعياً إلى التوحيد والاتحاد متمسكاً بالسنة وأشرح لهم ذلك ولقد لقيت من المقدمين من هو موصوف بهذه الصفات أو عامل على أن يتصف بها فمنهم السيد حسن ابن سيدي حمادي ومنهم السيد معطي الله محمود وقد دعانا السيد حسن إلى منازله خارج عزابة وكان التذكير بدرس في الأصول العشرة التي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا بها وهي مما لا تختلف فيه فرق الإسلام. وكان الشيخ قائماً بنفسه على خدمتنا داعيا أتباعه إلى الاهتداء بما أمليناه عليهم من دلائل الكتاب والسنة.(4/298)
ودعانا السيد بومعيزة بلقاسم قائد دوار الزاوية وهو من أعيان بيت بومعيزة الشهيرة في تلك النواحي، وهو رجل مرضي عليه من جميع الناس هنالك في دينه وأخلاقه ومخزنيته.
سكيكدة:
كان غالب جلوسنا في حانوت السيد محمد قلمين النائب البلدي وكان الناس من جميع طبقاتهم يترددون علينا للسؤال وسماع التذكير وكان المكلف بدعوة الناس للمسجد وقع له شغل فلم يقم بما عهد إليه فلم يكن درس عام.
سانطارنو (1):
حللنا بالبناية التي أسسها الشاب الأديب السيد محمد بن الموفق للتعليم والتهذيب بتأييد فضلاء البلد وهنا هيئة بارزة منهم فيهم العلامة الشيخ القاضي معيزة أحمد والسيد البجاوي حسن والسيد حكيمي أحمد والسيد ابن دالي مصطفى وغيرهم ينسى أسماؤهم الذهن ولا ينسى ودَّهم القلب.
كان التذكير في مجلس عام بالسوق في اسمه تعالى: {الصَّمَدُ} وفي تفسير مختصر لسورة الفاتحة، وكان التذكير ليلا في مجلس حافل بالمدرسة الموفقية في لزوم التعلم ورفع الأمية واستطردنا إلى تفسير صدر سورة العلق.
مجاز الدشيش- وسيدي مزريش:
لقينا في سيارة إلى محطة الحروش آل بوصاع القائد عمار والسيد بولخراص والشيخ محمد بن دويدة ووصلنا إلى مجاز الدشيش فنزلنا
__________
(1) تسمى هذه البلدة الآن بالعلمة.(4/299)
عند السيد الزيتوني بوصاع وسألنا عن الإسلام الصحيح فأجبنا بأنه ما في القرآن والسنة بَيَّنا القرآن وَبَيَّنا أثر القرآن في العرب وكيف تطوروا به ذلك التطور الغريب السريع من انحطاط الجاهلية إلى رقي الإسلام وما يناسب هذا من التذكير.
ثم امتطينا السيارة إلى قرية سيدي مزريش فوجدنا الناس قد جاءوا من الجهات للقائنا فكانت مجالس عديدة للتذكير وكانت الصلاة في مسجد القرية الذي أسسه القائد عمار بوصاع من خالص ماله وحبس عليه ما يقوم بنفقته. وألقينا به أثر صلاة العصر درساً في فقه أعمال الصلاة وحكمها وسمعت هذا الرجل وهو قائد يخاطب الناس يا أولادي ورأيتهم يعتبرونه كأب فتراه- مع شدة احترامهم له ونفوذ كلمته التامة لهم- كأنه واحد منهم يجلس في مجالس التذكير في أخريات الناس. حقاً إن الاحترام الحقيقي هو احترام القلوب التي لا تملك إلا بالإحسان.
لقد كان الفضلاء الذين نحلُّ عندهم يقومون بأنفسهم لجمع اشتراكات "المجلة" ممن له قدرة وعنده رغبة بدون أن نتحمل أدنى تعب في ذلك. منهم السيدان الواعر محمد وكربوش السعيد بالحروش والسيد جلواجي والشيخ حسن بعزابة والسيدان محمد بن عيسى وبلقاسم بن عبادة بالسكيكدة والسيدان محمد بن الموفق وبدور اسماعيل وغيرهما بسانطارنو والسيد محمد قرفي بسيدي مزريش فشكر الله لهم سعيهم (1).
عين مليلة:
حللت لها يوم السباق فوجدتها تموج بالخلق موجا وكان نزولي
__________
(1) ش: ج 7، م 5، ص 37 - 41 غرة ربيع الأول 1348ه - أوت 1929م.(4/300)
بالمكتب القرآني الذي أسسه السيد أحمد بن المولود في محل تبرع به للتعليم السيد المعراضي الميزابي الشهير فرأيت من تلامذة المكتب ذَكاة وإقبالا لو كان مثله عند جميع سكان البلدة لما كفى أبناءهم أكبر من ذلك المكتب أضعافا.
اجتمع عليَّ بذلك المكتب أعيان البلدة وأهل العلم الذين صادفتهم بها فاقترح السيد أحمد بن المولود إلقاء درس في قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «الدين النصيحة» فلما فرغت منه ألقى الشيخ عبد اللطيف القنطري المتطوع بجامع الزيتونة والشيخ الشريف حجازي والشيخ الحاج مسعود القسني والشيخ بلقاسم البسكري المقري السبعي والشيخ أحمد بن المولود خطابات بمقاصدي من هذه الرحلة والدعوة إلى الاستفادة منها. وختم الحفلة السيد دنيا زيدان بأبيات في الحث على التعلم والاتحاد والتنويه رقيقة كان لها أجمل وقع في قلوب الحاضرين وهي هذه:
إلى فائق الأنداد مجداً وسؤدداً … أزف قصيداً كاد أن يبلغ المدى
أعرني بياناً- أيها الحبر- كافياً … يكون لديَّ الشعر منه مؤيدا
فأربو على ذاك الفخور بقوله … (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا)
فيالك من شيخ حكيم مفضَّل … نضا لخطوب الدهر سيفاً مجردا
وقام بدين الله في كل موقف … ينادي ألا يا قوم سيروا إلى الهدى،
وحارب جيشاً للجهالة عاملا، … بعلم كموج البحر فاض وأزبدا
وجيش من قول فصيح فيالقا … تخرُّ لها الأعداء في الأرض سجدا
فصان حقوق الله من كل جائر … ولم يخش قول المفسدين من العدا
وأسكت "أشيلي ربير" مبيناً … فضائل ذا الإسلام شرعة أحمدا
إذا ما رماه الدهر يوما بريبة … تنادى شجاعا: ايه يا دهر بالردى
فأهلا بندب حل بلدتنا التي … تمد إلى"عبد الحميد" يد الندا(4/301)
ورغب الجماعة مني إلقاء محاضرة في النادي فألقيتها من الغد في ضرورة الاجتماع للبشر وفوائده وتطبيق ذلك على قواعد الإسلام الخمس وكان لها- إن شاء الله- أثرها الحسن المقصود.
في عين مليلة جامع جمعة أسسه منذ سنوات السيد عمر بن شعلال دار حوله كلام لعدم تسجيل التحبيس تسجيلا قانونيا حتى عزم جماعة من أهل البلدة برئاسة السيد المعراض على تأسيس جامع آخر وعينوا الأرض وشرعوا بالفعل في جمع المال فلما اجتمع بنا السيد عمرو حادثناه في ذلك أكد لنا أنه عازم على التسجيل الرسمي وأنه فوض توفيق الرسم للعلامة الشيخ الصالح بن الموفق قاضي الخروب فقلنا لمن حضر من الجماعة إذا تم عمل السيد عمر كما أردتم فإننا لا نرى وجهاً لتأسيس جامع آخر مستغنى عنه. وخير للبلدة لو أسسوا بدله مكتبا نظاميا للتعليم.
مكثت يومين في البلدة ضيفا على السيد أحمد بن المولود ودعيت للغداء في اليوم الثاني عند السيدين بكير وسليمان أبناء السيد إبراهيم وهما من أصدق من رأيت في محبة التآخي والاتحاد.
أم لباقي:
قد رأيت في عدة بلدان سوء أثر الانتخابات بالفرقة التي تركتها بين المسلمين ولكن أقبح مظهر رأيته منها هو مظهر هاته البلدة فهي على حزبين متعاديين متقاطعين وهما حراكتة بنو أصل واحد، وقد شملت هذه الفرقة طلبة العلم الذين ينتظر منهم إزالتها فكانوا من صلاتها. ويقول هؤلاء الطلبة أنهم لو سعوا في الصلح وأظهروا تسامحا مع "العدو" لنبذهم قومهم وربما آذوهم. وهم لا يستطيعون تحمل الأذى في سبيل الله. ولو كان لهذه القرية جامع لأمكن- بإذن الله- تقريبهم من بعضهم بتذكيرهم بالله، ولكن هذه القرية لا جامع لها،(4/302)
بلى لها جامع هو رمال وحجارة مكدسة على قطعة أرض منذ سنوات حالت أدواء الفرقة بين القوم وبين المبادرة في بنائه. وهو اليوم في عهدة رئيس جمعية الجامع السيد معمر بن غراب النائب المالي لقسم- البيضاء تبسة خنشلة- وفقه الله إلى تنجيز بنائه فهو أفضل أعماله.
تلقاني للمحطة السيد بلقاسم الزغداني التلميذ بجامع الزيتونة ضيفا في دار أبيه السيد محمد الطاهر أحد أعيان الحراكتة وفضلائهم وذوي الدين ومحبة العلم والتعليم منهم. وتغذيت من الغد عند القائد السيد الباشا من آل بني حسين أعيان "الخنقة" بيت مجد قديم يروون عن أوائلهم اتصال نسبهم ببني أمية والقائد يمثل بأخلاقه وسيرته المجمع على حسنها وامتيازها- ما يصدق ذلك المجد وينميه.
صادفت بهاته القرية افتتانا برجل جريدي ذى لباس وسخ مستقذر زعموا أنه يحدثهم عن ماضيهم وسوابقهم وأنه كان بقسنطينة معظما عند أعيانها وحُكامها وأنه من الأولياء الصالحين وأنه ... وأنه ... فألقيت على من حضر العشاء في بيت السيد الزغداني من القياد والأعيان درسا في بيان معنى الولي وأنه لا يكون إلا مؤمنا تقيا وأن حظ كل أحد من ولاية الله على قدر حظه من الإيمان والتقوى وأن الأخبار عن الماضي من عمل الكهان وهم ملعونون ملعون من يأتيهم. وفارقت القرية والرجل فيها. فلما بلغت إلى قرية أخرى كبيرة وجدت أخباره فيها عما سلبه من أموالهم بالدجل عليهم وهم يعضون أصابع الندم على ما كان من غفلتهم وغرورهم- حاشا بعضهم- به. وصفة هذا الدجال أنه أسمر اللون مربوع القامة عريض الأكتاف قذر الثياب لهجته جريدية، فليكن الناس منه ومن مثله على حذر.
عين البيضاء:
عاصمة الحراكتة ومركز تجارتهم. حللتها ضيفاً على الأديب السيد(4/303)
العربي موسوى الصايغي الوكيل الشرعي بها وأنزلني ببيث الضيوف من جامعها الذي كانت توسعته وتأثيثها من آثار هذا الرجل ومن وازره من أهل الخير والدين كما ضفت عند فضيلة الشيخ القاضي سيدي عبود الونيسي آخ شيخي وأستاذي العلامة الفقيه سيدي حمدان الونيسي دفين الطيبة عليه الرحمة والرضوان. وعند الشاب السري السيد عبد الرحمن بن الشيخ الكامل بن عزوز رحمه الله.
في هذه البلدة جماعة من أهل العلم والأدب منهم الشيخ السعيد الزموشي المدرس- تطوعا- بجامعها ومنهم الشيخ حسن بولحبال ومنهم الشيخ الطاهر بن الأمين ومنهم السيد العربي المذكور ومنهم الشيخ عبود الونيسي قاضيها والشيخ الزواوي بن معطي إمام الجامع وغيرهم وبها نشء علمي متهيء لطلبه.
إقترح الأستاذ السعيد الزموشي علي إلقاء درس في قوله تعالى:
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} فألقيت درساً بالجامع في الآية المذكورة فبينت دعوة الله عباده إليه ودعوة الخلق إلى خالقهم ودعوتهم خالقهم وأن الدعاء عبادة وأن العبادة لا تكون إلا لله فدعاء غير الله ضلال ودعاء غيره معه شرك وسأل الشيخ المدني الخنقي عن التوسل وهو قول الداعي "اللهم إنني أتوسل إليك بفلان" فأجبنا جواز ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- لحديث الأعمى وأما غيره فلا نقيسه عليه. وبينت أن المراد من دعاء الكافرين عبادتهم ودعاؤهم لطواغيتهم وأما دعاء الكافر إذا كان مظلوما فإنها مستجابة كدعوة كل مظلوم لأن الله تعالى حرم الظلم من كل أحد على أي أحد.
بعد ما فرغ السيد موسوي العربي من إصلاح المسجد الجامع أخذ(4/304)
في إصلاح مسجد آخر كان زاوية، وهو من حبس السيد خليفة حمه علي أبي شاعر الشباب السيد محمد العيد فأزال منه الصناجق والأعلام التي كان وجودها ذريعة لتمسح العوام بها كما يتمسحون بتوابيت المقابر وأحجارها مما هو بدعة منكرة شبيهة بأعمال الوثنيين سرت إلينا من اليهود الذين يقبلون القبور والستور. ولولا العزم على السفر ولزوم تخفيف الإقامة لإتمام برنامج الرحلة لأتممت للسيد العربي رغبته في إلقاء درس بهذا المسجد، ولبينت للناس حسن صنيعه به.
مسكيانة:
أخذني من البيضاء إلى مسكيانة الشاب المهذب الماجد السيد السعيد بن زكرى خوجة حاكمها ونزلت في بيت جامعها ولقيت مزيد العناية من إمامه الشيخ مامي الشريف وأضافنا قائدها السيد إبراهيم آل بن بو زيد بيت الحراكتة من قديم والسيد أحمد بن فجني معين الطبيب وبالغ أهلها في الاحتفاء والاعتناء وكانت لنا مجالس في عدد من محلاتهم التجارية لم تخل من تعليم وتذكير. وألقيت بجامعها بعد العشاء الليلة الأولى درساً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى- فَاصْبِرْ} فذكرت حاجة الأعمال العظيمة إلى الجد والنهوض والصبر والثبات وإن أعظم محصل للصبر هو إخلاص العمل لله، وما يجب لله من تكبير وما يجب للخلق من نفع وما يجب للنفس من تطهير حسي ومعنوي وما في الآية من بديع الترتيب. وألقيت الليلة الثانية درساً في قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} وذكرت شرف هذا الإسم وهذه التسمية وما تقتضيه من صفات السِّلم والسلامة والإسلام أي الإنقياد بالأعمال الشرعية لله والإخلاص فيها له (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 5، ص 40 - 44 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.(4/305)
جولة صحافية
عقدنا رحلة بالشهر الماضي إلى الناحية الغربية من العمالة لخدمة المجلة وكانت الرحلة على هذا الترتيب: سطيف. البرج. تازمالت. آقبو. زاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي بسيدي عيش (1). بجاية. عزازقة، تيزيوزو. دلس. تاقزيريت. آزفون. فورناسيونال. (الأربعاء): ميشلي (عين الحمام) إلى تازمالت. محطة القطار إلى قسنطينة. ولقد لقينا في كل محل دخلناه ما عرف به شعبنا الجزائري العظيم من كرم وأريحية. وخصوصا من أهل سيدي عيش بني وغليس الأكارم ومن أهل آقبو ومن أهل دلس. فلهم شكرنا وجميل دعائنا دعاء المؤمن لأخيه.
وما كان أشد أسف الناس في جميع هاته البلدان لما كنت أرد طلبهم من إلقاء بعض الدروس الدينية، معتذرا بالمنع الحكومي الذي كنا نشرناه وقد كنا بالسنة الماضية ننشر ما نلقيه من الدروس على صفحات المجلة تعميما للفائدة وليكون ما نقول معلوما عند الحكام أما هذه المرة فلم ننشر شيئا لأننا لم نقل شيئا وهذا هو جوابنا لبعض المحبين الذين (2) رغبوا مني أن ننشر لهم مثل السنة الماضية. وقد شرف الإدارة عدد الأفاضل (3) في أيام غيبتي فأسفت لعدم الاجتماع بهم منهم الشيخ محمد الثميني ومنهم السيد مدير رصيفتنا جريدة
__________
(1) كذا في الأصل وهى واقعة في قمة جبال جرجرة بالقبائل الكبرى.
(2) في الأصل: الذي.
(3) كذا في الأصل ولعله: عدد من الأفاضل.(4/306)
[صورة: الشيخ الإمام ابن باديس بين جمع من رجال الإصلاح في بجاية بجبل أم فراية]
...
البلاغ الجزائري الغراء. وتأخرنا عن رد مكاتبات وإجابة أسئلة بسبب هذه الغيبة فنعتذر لأصحابها (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 6، ص 444. غرة ربيع الأول 1349ه - أوت 1930م.(4/307)
في بعض جهات الوطن
تكرر الطلب علينا من أصدقائنا
ومريدينا أن ننشر لهم شيئا
عن رحلاتنا الصيفية
فلخصناها فيما يلي:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
بعد ما انتهينا من دروس السنة الماضية وقبل انعقاد مجلس إدارة جمعية العلماء في شهر ربيع الأول رأينا أن نعقد رحلة من العاصمة الجزائر إلى وهران فما بينهما من البلدان فاخترت للرفقة من أبنائي التلامذة السيد الفضيل آل الشيخ الحسين الورتلاني والسيد محمد آل الصادق الجندلي فأممنا من قسنطينة العاصمة فأقمنا بضعة أيام ثم شرعنا في رحلتنا فأتممناها في نحو عشرين يوما، وحللنا في مليانة ثم خميس مليانة، ثم الأصنام، ثم غيليزان، ثم مستغانم، ثم أرزيو، ثم وهران وكان الحديث في مجالسنا حيثما حللنا يدور على جمعية العلماء ومقاصدها ومنافع الأمة منها والتنويه بفضل الحكومة بالإذن بتأسيسها مع ما يتخلل ذلك من تذكير بالله وتنبيه على مصالح الدنيا والآخرة وتحريض على التآخي والتآزر وحسن الجوار والمعاملة مع جميع الأجناس المتساكنة في هذا الوطن، وكنا نرى في جميع المجالس إقبالاً وقبولاً مما لا شك معه في بقاء الأثر الطيب في القلوب إن شاء الله.
بعض التفصيل:
مليانة: ممن عرفنا بها المفتي الشيخ وكال محمد عالم قرأ سنوات بالأزهر وأعجبني منه أنني وجدته يطالع شرح تجريد أحاديث البخاري(4/308)
فشكرت له عنايته بالسنة وقلت له أننا نعرف عقلية الرجل من معرفتنا بالكتب التي يطالعها فمن لا نرى له عناية بكتب السنة فإننا لا نثق بعلمه في الدين، واجتمعنا بالعالم المفكر المثقف الثقافة الصحيحة الشيخ أحمد السبيع الباش عدل وبالعالم الزكي الخبير الشيخ أحمد آل حاج حمو القاضي وبغيرهما من الفضلاء وأضافنا الشيخ السبيع والسيد عبد القادر بن عبد الوهاب وكان مجلس التذكير في بيت الشيخ المفتي أولا ثم كان قبيل المغرب بالمسجد. وقد ظهر لي أن عامة مليانة قليلة الرغبة في العلم فيها فتور وخمود قيض لهم من يوقظهم.
خميس مليانة: ممن عرفنا بها السيد عليش من طلبة العلم النشيطين وهو داعية من دعاة النهوض بالعلم في تلك النواحي بعقل صحيح وعقيدة سليمة، والشيخ الفقيه ابن علي الإمام بالمسجد وأممنا المسجد، فكان المجلس غالباً معموراً بالسامعين، وكان الشيخ ابن علي متصدياً لإلقاء الأسئلة العديدة المتنوعة بأسلوب هو غاية في الأدب واللطف وعقدنا مجلساً عاماً للتذكير حضره جمع غفير من الناس فأزال عنا ما شاهدناه في الخميس من النشاط والرغبة والإقبال ما حملناه من الهم من فتور عامة مليانة وخمودهم، وأضافنا بالخميس السيد عليش والسيد بن علي والسيد عمر بن خلادي والسيد بوكراع الحاج محمد النائب البلدي.
الأصنام: ممن عرفنا من فضلائها مفتيها العالم الماجد الشيخ الوانوغي بن الشيخ بومزراق الزعيم المقراني المشهور والشيخ يمثل شهامة أسرته وكرمهم وهمتهم إلى معارف أكسبته إياها الأسفار والتجارب وهو القائم بالخطبة والتدريس في جامعها، والعلامة الألمعي الشيخ طالب شعيب القاضي بها (والقاضي الآن بالعاصمة) فما شئت من علم وأخلاق وفصاحة واطلاع على شؤون الوقت وعدالة ونزاهة وعقدنا مجلس التذكير بساحة الجامع مساء بحضرة الشيخ المفتي(4/309)
والعلامة الشيخ ابن عشيط واغتنم الشيخ المفتي فرصة الاجتماع فذكر للشيخ ابن عشيط مسائل شاذة جداً كان يقول بها وناقشه فيها فأبى الشيخ ابن عشيط إلا التمسك بها فقلت له أنني أعظمك وأحبك ولتلك المحبة أرغب منك أن تسكت عن هذه المسائل فلا تذكرها ولا تتحمل مسؤوليتها فرأيت من حضرته انعطافا لقولي وقبولا له. وبلدة الأصنام بلدة تجارية وفي أهلها ذكاء وفهم وقبول للتعليم، وأضافنا فيها قاضيها ومفتيها المعظمان ..
غليزان: أول من اجتمعنا به من فضلائها الأخ الشيخ مولاي محمد أحد أهل العلم وشيخ الزاوية بها وهذا من شيوخ الزوايا الذين لهم رغبة في نشر العلم وهداية الناس وسعة صدر في سماع الحق وأدلته وذهب بنا إلى دكان التاجر النشيط المهذب السيد ابن منصور مصطفى التلمساني ثم اجتمعنا بقاضي البلد العالم الماجد الهمام الشيخ بوخلوه آل بوعبد الله، رجل شهامة وعمل وكرم، واجتمعنا بالسيد المنور كلال رجل يتقد ذكاء ويفيض معرفة ويفوح أدباً ولطفاً، وكنت مشتاقاً للإجتماع بالشيخ سيدي الحاج العربي التواتي وبلغني أنه كان بغليزان ثم بلغني أنه سمع بنا ورآنا ولم يشأ أن يجتمع بنا فعجبنا لذلك وأسفنا ثم زال عجبنا لما بلغنا أن في قلبه شيئاً على جمعية العلماء، وقاها الله شر كل ذي شر- وقلنا لية تنازل فاجتمع بنا فكنا لا نفترق- بإذن الله تعالى- إلا على محبة وخير ورجوع للحق، ولهذا الأخ الشيخ العربي كتاب عندنا يعاتبنا فيه على دعوتنا للتوحيد ويخلط فيه بين دعاء المخلوق وطلب المؤمن الدعاء من أخيه ولعلنا نجد فرصة لنشر هذا الكتاب والتعليق عليه، ووجدنا بغليزان السيد مهدي بن الشيخ بوعبد الله آل بوعبد الله في انتظارنا وهو شاب نجيب تلميذ بجامع الزيتونة فرافقنا إلى تمام الرحلة بوهران ورأينا منه آداباً وأخلاقاً شريفة .. وزارنا في المنزل الأخ العالم الفاضل الشيخ محمد آل سيدي عدة(4/310)
فأكد علينا في القدوم إلى تيارت وقد كنت عازماً على الذهاب إليها من قبل واستدعانا إلى النزول ضيوفاً عندهم فشكرنا له كرمه ولطفه ووعدناه بالقدوم إليهم. واستدعانا إخواننا المزابيون إلى محلهم وأقاموا لنا احتفالاً حضره جميع أفرادهم واستدعوا بعض أعيان البلد فشاهدنا من أدبهم وكرمهم وحسن اقتبالهم لجمعية العلماء ما سرنا بهم كثير السرور وبلدة غليزان مثل بلدة الأصنام من ناحية التجارة بل أكثر ومثل مليانة من ناحية المعارف، وقد أضافنا فيها فضيلة الشيخ القاضي والشيخ مولاي محمد.
مستغانم: قصدنا من المحطة إلى مسجد الأخ الشيخ بلقاسم ابن حلوش لما بيننا من سابق المعرفة بالمكاتبة وروابط المودة المتأكدة ولأن ابنه الشيخ مصطفى أحد مريدينا ومن أعزهم علينا فتلقيانا بالحفاوة والسرور الزائدين وأنزلنا على الرحب والسعة ومن غده دعا للعشاء معنا أعيان البلد منهم فضيلة الشيخ المفتي سيدي عبد القادر بن قارة مصطفى وسماحة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة شيخ الطريقة المشهورة وكان هذا أول تعرفنا بحضرتهما فكان اجتماعاً حافلاً بعدد كثير من الناس، ولما انتهينا من العشاء ألقيت موعظة في المحبة والأخوة ولزوم التعاون والتفاهم على أساسهما وأن لا نجعل القليل مما نختلف فيه سبباً في قطع الكثير مما نتفق عليه، وأن الإختلاف بين العقلاء لا بد أن يكون ولكن الضار والممنوع المنع البات هو أن يؤدينا ذلك الاختلاف إلى الافتراق وذكرنا الدواء الذي يقلل من الاختلاف ويعصم من الافتراق وهم تحكيم الصريح من كتاب الله والصحيح من سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم-. فاستحسن الشيوخ الحاضرون ذلك وحل من الجميع محل القبول، والحق يقال أن أغلب الناس ممن رأينا صاروا يشعرون بألم الافتراق وينفرون منه ويصغون إلى دعوة الوفاق والتحاب، وما افترق المجلس حتى دعانا الشيخ سيدي أحمد بن عليوة(4/311)
إلى العشاء عنده والشيخ الحاج الأعرج بن الأحول شيخ الطريقة القادرية إلى الغداء فلبينا دعوتهما شاكرين، فكانت حفلة الغداء في دار الشيخ سيدي الحاج الأعرج ثم كانت حفلة العشاء عند الشيخ سيدي أحمد بن عليوة حضرها من أعيان البلد ومن تلامذة الشيخ ما يناهز المائة وبالغ الشيخ في الحفاوة والإكرام وقام على خدمة ضيوفه بنفسه فملأ القلوب والعيون وأطلق الألسنة بالشكر، وبعد العشاء قرأ القارىء آيات، ثم أخذ تلامذة الشيخ في إنشاد قصائد من كلام الشيخ ابن الفارض بأصوات حسنة ترنحت لها الأجساد، ودارت في أثناء ذلك مذاكرات أدبية في معاني بعض الأبيات زادت المجلس رونقا. ومما شاهدته من أدب الشيخ مضيفنا وأعجبت به أنه لم يتعرض أصلاً لمسألة من محل الخلاف يوجب التعرض لها على أن أبدي رأيي وأدافع عنه فكانت محادثاتنا كلها في الكثير مما هو محل اتفاق دون القليل الذي هو محل خلاف. لكن السيد أحمد بن اسماعيل صاحب مخازن الاتاي- وكان جالسا على شمالي في المجلس- شاء أن يخرق هذا السياج ويدخل في موضوع ليس حضرته- وله الاحترام- من أهل الكلام فيه فقال: "هؤلاء المفسدون الذين يسمون أنفسهم مصلحين ينكرون الولاية" فرأيت في وجه الشيخ أحمد بن عليوة الإنكار لهذا الكلام الخارج عن الدائرة ووجدت نفسي مضطراً للبيان فقلت له: "إسمع يا سيد أحمد الولاية الشرعية قد جاءت فيها آية صريحة قرآنية" وتلوت له قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية وتكلمت على شيء من معناها فمن أنكر هذه الولاية. فلفظة مفسد قليل في حقه وحقه أن يقال فيه ملحد. وأما لفحظة مصلح فهي أعلى من هذا وأشرف من هذا كله، وأن المسألة ليست هنا وإنما المهم هو أن جميع علماء الإسلام من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين وشيوخ الزهد المتقدمين تتسع صدورهم لأن يؤخذ(4/312)
من كلامهم ويرد إلا العامة المنتمين إلى التصوف فإنهم يأبون كل الإباء أن يسمعوا كلمة نقد أو رد في أحد من الشيوخ مع أن غير المعصوم معرض للخطأ دائما في قوله وأفعاله فكأنهم بهذا يعتقدون فيهم العصمة. وقد سئل إمام الطائفة الجنيد: أويزني الولي؟ فأطرق ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} فهذا يدلنا على ما كان عليه شيوخ الزهد من تعليم الناس بأنهم غير معصومين دفعاً لغلو الغالين وعلى أن فكرة العصمة أو ما يقرب منها موجودة في الأذهان وهي مثار مثل هذا السؤال، فلو أن إخواننا المنتمين للتصوف قبلوا أن يوزن كلام الشيوخ بميزان الكتاب والسنة مثل غيرهم من علماء الإسلام ورضوا بالرجوع الحقيقي لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} لبطل الخلاف أو قل" فرضي أهل المجلس هذا الكلام وسكت السيد أحمد بن اسماعيل وقال الشيخ سيدي أحمد هذا مما لا يخالف فيه أحد فقلت له مثلكم من يقول هذا وتكلم الشيخ المفتي بما فيه تأييد لما قلناه ثم عاد المجلس إلى الإنشاد والمذاكرات الأدبية حتى انتهت السهرة وانصرف المدعون ونحن من جملتهم شاكرين فضل حضرة الشيخ وأدبه ولطفه وعنايته كما شكرنا أدب تلامذته وعنايتهم بضيوف أستاذهم وخصوصا الشيخ عبده ابن تونس تلميذ الشيخ الخاص.
أهل مستغانم أهل ذكاء وحسن نية وإقبال على العلم والشيخ مصطفى بن حلوش قائم في مسجده بالتعليم والإرشاد للعامة بدروس ليلية وساع في تحصيل رخصة من الحكومة لتعليم الصغار. وقد أضافنا فيها الشيخ ابن حلوش أبو مثوانا والشيخ الحاج بن الأعرج والشيخ أحمد بن عليوة والسيد الجيلاني التدلوتي عائلة دين وفضل وعمل، ولو اتسعت المدة لكنا تشرفنا بكثير غيرهم منهم صاحب الفضيلة(4/313)
الشيخ المفتي العالم المطلع المنصف الذي كاد أن لا يسامحنا بالسفر في اليوم الذي عيناه.
في اليوم الأول من وصولي قصدت إلى دار الحكومة لزيارة السيد السوبريفي م ماصلو الذي كان كاتباً عاماً بدار العمالة بقسنطينة فلقينا ببشر ولطف وسأل عن أهل قسنطينة مما يدل على ما يحمله لهم من الذكر الجميل فأبلغناهم كذلك عواطفهم ودار الحديث على سبب الرحلة ومقصود الجمعية فكان مما قلنا له أننا نريد للمسلمين أن يبلغوا في المعارف والفلاحة والتحارة والصناعة إلى مستوى إخوانهم الفرنسويين ليتعاون الجميع بقوى متكافنة على خدمة الجزائر تحت الراية الفرنسوية ويكونوا مثل جيرانهم اوادم (1) على الحقيقة وتكون حالتهم مناسبة لسمعة فرنسا أم الرقي والمدنية ثم انصرفنا من عنده شاكرين له ما رأينا منه من إقتبال.
زاوية الشيخ ابن طكوك: لزاوية الشيخ ابن طكوك في مستغانم وكيل بلغه أنني أرغب في الذهاب إلى الزاوية للتعرف بأهلها وتعريفهم بالجمعية ومقاصدها فجاءنا بالسيارة إلى المنزل فامتطيناها إلى الزاوية في بوقرات فتلاقانا السيد الحاج مصطفى أحد الإخوة الثلاثة أصحاب الزاوية وشيخ الزاوية السيد عبد القادر كان غائباً وأخوه الشيخ محمد كان متمرضاً فأكرم نزلنا وبتنا ليلة وودعناهم في صبيحتنا، وحدثناه عن الجمعية فأظهر ابتهاجه بها وقدم مائتي فرنك لإعانتها.
واحتفل بنا في مستغانم جماعة إخواننا الإباضية ولقينا منهم من الإكرام مثل ما كنا نلقاه دائماً منهم في رحلتنا (2).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) ش: ج 11، م 7، 663 - 671 غرة رجب 1350ه - نوفمبر 1631م.(4/314)
في بعض جهات الوطن
-2 -
قرية آرزيو:
نزلنا ضيوفاً على العالم الأديب الشيخ أبو عبد الله آل أبي عبد الله، عالم فصيح اللسان صحيح الإدراك مستقيم الفكر مهيب الطلعة معترف له بالعلم والفضل، وصادف قدومنا يوم الجمعة فصليناها خلفه وألقينا درساً أثرها وتوافد الناس علينا مساء من تلك النواحي فوسعهم كلهم كرم الشيخ أبي عبد الله وباتوا في ضيافته وقدم إلينا فضيلته قصيدة بليغة في ذكر جمعية العلماء سنحلي بها بعض الأجزاء القادمة.
وهران:
لما وصلنا وجدنا في انتظارنا جمعاً من أعيانها منهم فضيلة المفتي الشيخ الحبيب بوخالفة وفضيلة الشيخ الطيب المهاجي وغيرهما، وكانت حفلة الفطور في بيت آل المهاجي الكريم وكانت حفلة العشاء عند الجمعية الخيرية الإسلامية بمحلها وكانت حفلة حفلى دعيت إليها طبقات الناس وكنا يومنا الثاني في ضيافة الشيخ المفتي، وكنا في كل حفلة من هذه الحفلات نلقي ما يسر الله من الوعظ والتذكير وخصوصا في حفلة الجمعية الخيرية وكان الذي افتتح الحفلة مرحباً بالضيوف بلسان الجمعية العالم الألمعي السلفي الشيخ الطيب المهاجي. ولقد رأيت من أهل هذه العاصمة الغربية لقطرنا الجزائري تعطشا للعلم وإقبالاً على سماعه ولقيت فيها نخبة الفضلاء ذوي المعارف المتعلمين(4/315)
بالفرنسية على جانب من الدين والقومية، وما كان اليومان اللذان أقمناهما بتلك العاصمة الكبيرة، ليكفيا في التعرف عليها وكمال الغرض من الاجتماع بفضلاء أهلها وقفلنا منها إلى الجزائر العاصمة لنحضر اجتماع مجلس إدارة جمعية العلماء، وقصصت على إخواني بالمجلس حديث رحلتي وما كان من نشر دعوة الجمعية وما كان من إقبال الناس عليها وما كان من شبه عرضت لبعض فيها فأزلناها لما سألونا عنها (1).
__________
(1) ش: ج 12، م 7، ص 773 - 774 غرة شعبان 1350ه - ديسمبر 1931م.(4/316)
رحلتنا إلى العمالة الوهرانية
باسم الجمعية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
لما كان مقصود الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية وكانت طريقة الوعظ والإرشاد بالهداية القرآنية هي أنجع دواء لذلك عند المسلمين قررت أن ترسل أفراداً من أهل العلم بنواحي القطر للقيام بهذه المهمة العظيمة ورأت أن تبتدىء بالعمالة الوهرانية، فكلفت هذا العاجز أن يقوم بذلك وأن يستعين في رحلته بكل من يكون في طريقه من أهل العلم فقبلت بذلك واستعنت بالله.
تاريخ بداية الرحلة ونهايتها:
سافرت من العاصمة يوم الأربعاء 27 محرم وحللت بها صبيحة الثلاثاء 1 ربيع الأول.
البلدان التي زرتها:
المدية البرواقية، قصر البخاري، الجلفة، الأغواط، آفلو، سوقر، تيارت، فرنده، معسكر، سعيده، البيض، وهران، سيدي بلعباس، تموشنت، تلمسان، مغنية، الغزوات، ندرومه، آرزيو، بريقو، مستغانم، زاوية الشيخ ابن طكوك، غليزان.
ماذا كنت أقوم به في كل بلدة:
كنت أزور في الأكثر قبل كل شيء المسجد لأن البداءة به هي السنة ولألفت نظر الأمة إلى حرمة المسجد وفضله وأنه هو الأحق بأن يقصد(4/317)
عند الملمات للوقوف بين يدي الله والحصول على أقرب أحوال العبد إلى مولاه وهي السجود فإن العامة فيما رأيت من كثير منهم يفزعون إلى البناءات المضروبة على الأضرحة ويظهرون فيها من الخشوع والخضوع ما لا أراه منهم في بيوت الله ومن ذا الذي يسوي بيت الخالق ببيت المخلوقين لولا انتشار الجهل وكثرة الغفلة والسكوت عن الحق وقعود من لا يجوز لهم القعود عن التعليم والتبيين ثم أزور ممثل الحكومة في البلدة من بريفي أو سوبريفي أو متصرف ثم أزور ممثل الأمة الفرنسية والعربية وهو المير إذا كان بالبلدة مير ثم ألقي الدرس العام في المسجد.
موضوع الدرس ومادته:
كانت الدروس كلها حثاً على الفضائل وتنفيراً من الرذائل وبياناً لحقائق الدين التي بمعرفتها يكمل الإنسان في إسلامه وفي إنسانيته ودعوة للتوحيد والاتحاد والإحسان إلى جميع العباد وحثاً على التآلف والتعاون مع جميع السكان على اختلاف الأجناس والأديان، وكانت مادة الدرس دائما آية من كتاب الله مشفعة بحديث رسوله عليه وآله الصلاة والسلام، وكنت بعد الدرس أعرف الناس بالجمعية ومقاصدها حسبما هو مبين في قانونها الأساسي، وألخص لهم وصايا الجمعية في هذه الكلمات الثلاث: تعلموا- تحابوا- تساموا- وأشرحها لهم وأذكر لهم فوائدها ثم أبين لهم أن الجمعية للجميع وأنها ليست ضداً لأحد لا للزوايا ولا لغيرها وأن غرضها هو نشر العلم والفضيلة بين الجميع ثم أذكر لهم فضل الحكومة التي أذنت لهذه الجمعية وفضل رجالها الذين لاقينا منهم حسن المقابلة والتأييد.
الإشاعات الباطلة:
قد منيت هذه الجمعية بمن يحاربها بالباطل ويعرقلها بالإفك ويستحل(4/318)
في إذايتها العظائم فأشاعوا عنها كل إشاعة شنيعة ورموها بكل نقيصة ورذيلة حتى قالوا أنها جمعية تنكر البعث والنشور دع ما هو دون ذلك، ولكننا كنا- والحمد لله- لا نفرغ من الدرس العام حتى تنحل عقد الشيطان كلها ويقول الناس بلسان قالهم أو حالهم: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
الأسئلة والأجوبة:
أكثر ما سئلنا عنه بوجه عام هو التصوف والولاية والكرامة والتوسل فكنا نجيب بأن ما كان من باب تزكية النفس وتقويم الأخلاق والتحقق بالعبادة والإخلاص فيها فهو التصوف المقبول وكلام أئمته فيه ككلام سائر أئمة الإسلام في علوم الإسلام لا بد من بنائه على الدلائل الصحيحة من الكتاب والسنة ولا بد من الرجوع عند التنازع فيه إليهما وكنت أذكر ما يوافق هذا من كلام أئمة الزهد المتقدمين كالجنيد وأضرابه، وكنا نجيب بأن الولاية من الإيمان فأكمل الناس إيماناً أكملهم ولاية وأن الكرامة حق بحقيقتها وشروطها المذكورة في كتب الأئمة وأن تحققها هو التوقف على وجود الصلاح الشرعي فيمن ظهرت على يده لا أن تحقيق الصلاح متوقف عليها وكنا نجيب بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخ العبادة كما جاء في الحديث الأول عند أصحاب السنن وأحمد من حديث النعمان بن بشير والثاني عند الترمذي من حديث أنس وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله فلا يدعى غير الله ولا يدعى أحد مع الله ولكن يجوز أن تدعو الله وتتوسل إليه برسول الله عليه وآله الصلاة والسلام كما في حديث الأعمى الذي كنا كتبنا عليه في جزء مضى من الشهاب.
طريفتان في الموضوع:
الأولى: من العجيب أن بعض أهل العلم أبى أن يسلم أن الدعاء(4/319)
هو العبادة رغم أنه صريح الحديث مع أن أهل المجلس من غير أهل العلم أدركوا بفطرتهم العربية ما في لفط الحديث من البيان الصريح وإن لم يعرفوا كيف يعبرون عن الحصر وطرقه فزادني هذا يقينا بما كنت أقوله كثيراً في دروسي ومجالسي: من نعمة الله عليكم أيها الجزائريون (1) أنكم تنطقون بالعربية وأن أساليبها لا تزال مستعملة في ألسنتكم فهذا مما يقربكم من فهم كلام الله وكلام رسوله عليه وآله الصلاة والسلام، فيسهل عليكم الاهتداء بالكتاب والسنة.
الثانية: أن أحد الشيوخ المنتمين إلى الطريق لما سمعني أستدل بكلام الجنيد على لزوم وزن الأعمال والأقوال والأحوال والفهوم بالكتاب والسنة قال لي: "وما الجنيد إلا واحد من الناس" وما صار الجنيد واحداً من الناس إلا يوم استدللت بكلامه ومن العجيب أن هذا الذي يقول هذا ليرد ما ذكرته من كلام الجنيد الذي هو ثابت في نفسه بأدلته من كلام الله وكلام رسوله- يريد أن يثبت التصوف في الكون للمخلوقات حتى في قفزة الهر على الفأر مستنداً في ذلك إلى كلام رجل لا مستند له من كتاب ولا سنة وينسى أن يقول فيه أنه واحد من الناس، وبعد هذا فأنا غير آيس من مثل الأخ الأول والأخ الثاني أن تكون مذاكرتنا معهما منبهة لهما على لزوم فهم الدين بفهم الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من الأئمة وفهم كلام العرب وأساليب العربية فمثلهم من اعتنى بذلك واهتدى به ودعا إليه.
مظاهر الاتحاد:
كنا إذا حللنا بلدة فيها من إخواننا الميزابيين يهرعون إلينا مثل بقية إخوانهم من أهل البلدة وفي بعض البلدان تسبق ضيافتهم ضيافة غيرهم ثم تجد الضيافة عندهم تشمل أهل البلدة وأعيانها وتجد الضيافة عند
__________
(1) في الأصل (الجزائريين).(4/320)
غيرهم تشملهم كذلك فتشاهد في مجامع الكرم أبناء الإسلام ترفرف على رؤوسهم روح الأخوة والاتحاد، هذا بين المسلمين، ثم إننا في أكثر البلدان أجد النواب المسلمين مع مير البلدة في غاية الوئام والمودة وكثيراً ما حضر معنا أفراد من الفرنسيين واليهود في مجالس القهوة والشاي وبعض الضيافات فنرى مصافاة واتحاداً، ولا شك أن ما كنا نقوله في مجالسنا ودروسنا مما يزيد ذلك الاتحاد قوة ومتانة.
تعلق الأمة بحكومتها:
إرتباط الجزائر بفرنسا اليوم صار من الأمور الضرورية عند جميع الطبقات فلا يفكر الناس اليوم إلا في الدائرة الفرنسية ولا يعلقون آمالهم إلا على فرنسا مثل سائر أبنائها ورغبتهم الوحيدة كلهم هي أن يكونوا مثل جميع أبناء الراية المثلثة في الحقوق كما هم مثلهم في الواجبات وهم إلى هذا كله يشعرون بما يأتيهم من دولتهم مما يشكرونه ومما قد ينتقدونه وقد كنا نؤكد لهم هذا التعلق ونبين لهم فوائده ونبين لهم في المناسبات أن فرنسا العظيمة لا بد أن تعطيهم يوما- ولا يكون بعيداً- جميع ما لهم من حقوق وكنا لا نرى منهم لهذا إلا قبولا حسنا وآمالاً طيبة.
كرم الأمة وإقبالها:
لقد كان تنازع الناس على ضيافتنا كتزاحمهم على دروسنا ومجالسنا وكان تسارعهم إلى إكرامنا يضاهي تسارعهم إلى مقابلتنا وقد كان أكثر البلدان يتلقانا أهلها قبل الوصول إليها ويشيعونا (1) إلى البلدة التي تليها فلله هذه الأمة المسلمة العربية في تعظيمها للعلم وإكرامها للضيف تراثاً جليلا حافظت عليه أجيالا وأحقاباً، وأن أمة تحافط على
__________
(1) كذا في الأصل والصحيح (وشيعوننا).(4/321)
أخلاقها الكريمة وسجاياها الموروثة مثل هذه المحافظة لجذيرة بالمدح والثناء حقيقة بالخلود والبقاء خليقة بالخدمة والاعتناء.
فضل الحكومة ورجالها:
العلم والفضيلة هما كل ما يحتاج إليه الإنسان في كماله وسعادته وهما كل ما ترمي إليه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بسعيها، فللحكومة الفضل العظيم بفتحها السبل لهذه الجمعية حتى تتوصل إلى نشرهما باتصال رجالها من أهل العلم بالأمة في مساجدهم ومجامعهم وحيثما كانوا فللحكومة في هذا من الفضل بقدر ما فيه للأمة من النفع ولقد كان رجال الحكومة الذين لقيناهم في جميع البلدان يلاقوننا بمزبد الإكرام ويزودوننا بعبارات التأييد والتنشيط ويقول لنا الكثير منهم إننا مستعدون لمساعدتكم في كل ما تريدونه بدائرتنا ولا شك أنهم يتكلمون بلسان الحكومة ويعربون عن نياتها ومقاصدها، وأي مقصد أشرف وأي نية أنفع من تعاون الحكومة من العلماء لتهذيب الأمة وتعليمها هذا أعظم ما قامت به فرنسا في أول القرن الثاني نحو أبنائها المسلمين الجزائريين الذين كانوا معها في جميع المواقف مواقف الحياة ومواقف الموت.
فضل الصحافة العربية والفرنسية:
كانت الصحف الفرنسوية تتبع رحلتنا وتنشر الفصول عنها وتذكر الجمعية بكل تعظيم وتبجيل مثل ما كانت تفعله مع أكبر جمعية فرنسوية ورئيسها فبرهنت على أن الفكر العام الفرنسي يقدر للمسلمين مشاريعهم ويساعدهم عليها ويرد لهم الرقي والتقدم، وقد كانت الصحافة العربية النجاح والنور والمرصاد قامت بواجبها نحو قومها وملتها فلجميع الرصيفات الفرنسية والعربية شكر الأمة والوطن وشكر الجمعية والعلم. وإذا كانت ثم صحيفة واحدة شذت عن الجميع فإننا نقابلها بالمسامحة(4/322)
والتجاوز لأننا نرى واجباً على من وقف نفسه لخدمة أمة أن يتلقى بالقبول كل ما يأتيه منها من مدح أو قدح من حق أو باطل، من عقل أو غيره ويستعمل ميزان عقله ويستعين بأهل الرأي من المخلصين معه في قبول ما يجب من أي ناحية جاء ورد ما يجب رده من أي شخص كان فللرصيفات كلها - إذاً جميل الشكر والإكرام.
فضل الرفاق علينا:
رافقني من بداية الرحلة إلى آخرها إبننا الشيخ محمد الصادق الجندلي ومن معسكر إلى غليزان الشيخ عبد القادر آل زيان ومن معسكر إلى آرزيو الأديب الكبير الشيخ السعيد الزاهري ومن وهران إلى غليزان العالم النفاع الشيخ عبد القادر المهاجي ومن أرزيو إلى باريقو العالم الجليل الشيخ أبو عبد الله البوعبدلي ومن سيق إلى تموشنت ثم أرزيو الشيخ فرحات الليشاني ومن تلمسان إلى أرزيو الشريف الغطريف الشيخ مولاي علي الحسني وغيرهم ممن رافقنا في بعض الطريق وقد كانوا كلهم الرفقة الكريمة الموفقة نسينا بهم الأهل والمقر واستطبنا معهم عناء السفر فجازاهم الله أحسن ما جازى رفيقاً عن رفيقه وصديقا عن صديقه.
خدماتنا بهذه الرحلة:
قد خدمنا الأمة الإسلامية بما دعوناها إليه من علم وفضيلة ومحبة وتسامح وما عرضناه على اسماعها من علوم القرآن وهدايته وما رغبناها فيه من قراءته وتفهمه والعمل به وخدمنا المسلمين وغيرهم بما دعونا إليه من اتحاد وتعاون وتراحم وتفاهم والتزام للأمن والنظام واحترام للقوانين الدولية وأوامر الحكام، وخدمنا الحكومة بما نوهنا به من فضلها بفتح باب العلم بما أذنت به من تأسيس هذه الجمعية وما أذنت به من فتح مكاتب عربية وما سهلت من سبيل لاتصال علماء(4/323)
الأمة ومرشديها بها لوعظها وإرشادها وخدمنا الجمعية بما بينا من أغراضها وما دفعنا من الإشاعات الباطلة عنها وما قربنا من منزلتها وما رفعنا من قدرها في قلوب الأمة وحكومتها.
حاصل ما تيقنته من هذه الرحلة: أولا: إستعداد الأمة لكل خير. ثانيا: مساعدة الحكومة عليه. ثالثا: تمركز الجمعية عندهما وثقتهما بها.
هذا كلام موجز على الرحلة على وجه العموم، وسنتكلم- إن شاء الله تعالى- في الجزء الآتي على البلدان التي زرناها بالتفصيل.
دفع توهم:
الإسلام يدعو إلى النظام وينهي عن الفوضى فلا بد للمسلمين من التزام القوانين الدولية التي بها حفط النظام وصلاح المجتمع والضرب على أيدي المجرمين نقول هذا وندعو إليه دفعا لا توهم من بعض ما نشر في جزء ماضي- على أنه عند صادق التأمل لا يبقى وجه للتوهم (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 8، م 8، ص 401 - 409 غرة ربيع الأول 1351ه - أوت 1632م.(4/324)
في سبيل الوحدة:
في تونس العزيزة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حقا أن لتونس هوى روحياً بقلبي لا يضارعه إلا هوى تلمسان أعرف ذلك من انشراح في الصدر، ونشاط في الفكر، وغبطة في القلب، لا أجد مثلها إلا في ربوعهما. ومن نعم الله عليَّ في العهد القريب أن يسر لي التردد بين الخضراء والبهجة مرتين، وقد كانت أخراهما في تونس ذات مظهر ممتاز ومغزى سام.
حللت بتونس في منتصف أشرف ربيعي العام لأحضر حفلة الذكرى التي أقيمت للرجل العظيم السيد البشير صفر رحمه الله، وكنت ممن تشرفوا فيها بالخطابة ثم دعتني جمعية التلامذة الجزائريين الزيتونيين والجمعية الودادية الجزائرية بتونس إلى الخطابة فما وسعني إلا الإجابة وحظيت بلقاء الكثيرين من رجال العلم والأدب والسياسة ورجال الأعمال والعمال، من كل من كانت تونس بهم وبأمثالهم عروس الشمال الإفريقي وواسطة عقد وحدته وقد كانت من الأمة التونسية الكريمة وصحافتهما وبعض الصحافة الفرنسية عناية ظاهرة بما كان ظاهرا من مقاصد الرحلة، وقد رغب إليَّ بعض الإخوان أن أنشر عليهم ما ألقيته في الخطبة الأولى والثانية فاعتذرت عن نفس النص لأنني لم ألقهما إلا ارتجالا ولكنني رجحت إلى ما نشرته منهما وعنهما بعض الرصيفات الكريمة فأثبته هنا تخليداً له- لما اشتمل عليه من مبدأ وغاية- في هذه المجلة التي ما أسست إلا على ذلك المبدأ ولتلك الغاية.
قالت (النهضة) الناهضة:
"ثم تلاه ضيف تونس الأستاذ ابن باديس الذي وفد خصيصاً(4/325)
[صورة: منصة الاحتفال بإحياء ذكرى البشير صفر بتونس]
...
من القطر الجزائري الشقيق ليحضر هذه الحفلة وألقى خطاباً ارتجالياً بفصاحة نادرة وامتلاك لناصية الموضوع أثر كثيراً على الحاضرين وهز مشاعرهم وذكرهم ببعض خصال الفقيد المحتفل بذكراه لأن الخطيب هو من تلاميذه المعترفين بفضله والمقرين بجميله الذي لا يزول وبعد هذا الخطاب الذي قوبل بعاصفة من الهتاف الحار جاء دور شيخ الأدباء الأستاذ الشيخ العربي الكبادي".
قالت (الزهرة) الزاهرة:
"وأحيلت الكلمة إلى حضرة الأستاذ الجليل والمصلح الكبير فضيلة الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس (ممثل الجزائر) فتقدم وارتجل خطاباً فياضاً بالشعور الإسلامي الصميم والعاطفة الإفريقية السامية.(4/326)
إفتتحه بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه ورسوله ومصطفاه وآله وصحبه ومن والاه. ثم قال:
أيها الإخوان الكرام
أيتها الأخوات الكرائم:
أرجو أن تعتبروني جنديا من جنود الإسلام والعروبة في القطر الجزائري لا أكثر ولا أقل وإني أحمل تحيات الأمة الجزائرية إلى شقيقتها الأمة التونسية ومشاركة الجزائر لتونس في هذه الذكرى الطيبة وهذا الحفل الكريم، كما أقدم مشاركتي الخاصة.
وأن الروابط عديدة بين تونس والجزائر، بل بين المغرب العربي بصفة عامة: طرابلس، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، كالروابط العلمية والروابط السياسية التي ذاقت بها هذه الأقطار حلاوة الاستقلال تحت ظل الإسلام والتاريخ يشهد بذلك.
وأنا شخصياً أصرح بأن كراريس البشير صفر الصغيرة الحجم الغزيرة العلم هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر.
وهذه الذكرى التي تقام اليوم إنما هي تقام لرجل واحد كان سببا في حياة أمة والقصد منها هو اعتراف بالجميل وهو من أعظم مظاهر الكمال الإنساني والشكر كما لا يخفاكم سبب في المزيد عند الله عز وجل، وعند عباده.
وطالما وصفت الأمم الشرقية بكفران النعم، وعدم تقديرها لعظمائها.
وها نحن نقيم الدليل بهذه الذكرى وأمثالها على أننا من الشاكرين للنعم لا الكافرين بها!(4/327)
ثم أخذ الأستاذ ابن باديس بعد هذه المقدمة المفيدة في ذكر نواحي الفقيد المحتفل بذكراه فقال: إن لهذا السيد العظيم البشير صفر نواحي ثلاثا جديرة بالتنويه أذكرها لكم فيما يلي:
أولا- أنه رجل بنى ما أخذه من العلوم باللغات الأجنبية على ثقافة إسلامية عربية، وبذلك استطاع أن يخدم أمته وأن يحتل قلبها.
ثانيا- أن هذا الرجل لما تخرج من الصادقية ورجع بما رجع به من الديار الباريسية من العلم عرض عليه الوظيف فأباه ..... ولم يقبله حتى أشار عليه بقبوله الوزير المرحوم السيد العزيز بوعتور فقبل إذ ذاك الوظيف وجعله آلة لنفع أمته لا آلة لإشباع معدته.
ثالثا- أنه دخل الوظيف فلم يكن الوظيف له سجنا أو قفصا أو قيداً - كما قد يقصد به- إذ الوظيف لا يكون إلا (1) بمثابة السجن والقيد إلا للصغار من الناس لا لعظماء الرجال. فلقد أدى السيد البشير صفر- وهو في الوظيف- للصحافة والفلاحة والمعارف أجل الخدمات.
فهذه هي نواحي الكمال الثلاث التي يمجد بها الرجل. لكنه لما دخل العمل المخزني قصر في العمل، ولعله كان معذورا وقد عذرته الأمة.
وختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه الارتجالي البليغ ببسطة عن مشاركة المرحوم الشيخ النخلي للفقيد في تشييد النهضة العلمية المباركة ومقاومة الركود والجمود وقال: هذان الرجلان العظيمان نقدمهما لأبنائنا لينحوا نحوهم ويقتفوا أثرهم لنصل إلى سعادة البشرية كلها لا سعادة الشمال الإفريقي أو تونس فقط.
والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) كذا في الأصل ويمكن أن يكون التعبير: لا يكون بمثابة السجن والقيد إلا للصغار.(4/328)
وبأثر انتهاء خطاب الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس الذي قوبل وقوطع بعواطف متوالية من تصفيق الاستحسان" (1).
__________
(1) كذا في الأصل والجملة غير تامة.
ش: ج 5، م 13، ص 225 - 228 غرة جمادى الأولى 1356ه - جوليت 1937م.(4/329)
محاضرة الأستاذ عبد الحميد بن باديس:
الحركة العلمية والسياسية
في القطر الجزائري الشقيق
لمندوبنا الخاص
(نقلا عن جريدة "الزهرة"
الغراء عدد 21 و22 ربيع الأول)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عشية يوم السبت قام حضرة ضيف تونس الكريم الزعيم الإسلامي العظيم الأستاذ الكبير الشيخ السيد "عبد الحميد بن باديس" بمحاضرة فائقة بقصر الجمعيات الفرنسية تحت إشراف كل من جمعية الطلبة الجزائريين بتونس والجمعية الودادية الجزائرية الإسلامية بتونس.
وقد وقع إقبال عظيم جداً على سماع هذه المحاضرة الكبرى. وكان الأستاذ ابن باديس يتوسط المسرح وعن يمينه حضرة العالم الفاضل الشيخ السيد الشاذلي بن القاضي صاحب وصيفتنا (المجلة الزيتونية) الفيحاء والسري الأمثل السيد حسان بوجدرة.
كما كان عن يسار الأستاذ المحاضر رئيسا الجمعيتين المذكورتين السيدان الشاذلي المكي، وقلش الزين.
وقبل أن يشرع الأستاذ المحاضر في الكلام قام الأديب السيد الشاذلي المكي وارتجل كلمات لطيفة قال فيها: إن الشيخ ابن باديس لا يحتاج لتقديم إذ هو أشهر من أن يترجم له أو يقدم.
وقد افتتح الأستاذ محاضرته بحمد الله والصلاة على الرسول الكريم،(4/330)
وذكر أن هاتين الجمعيتين قد طلبتا منه القيام بهذه المحاضرة- وهو يشعر بتعب- ولكنه لم يسعه إلا تلبية دعوة الجمعيتين إذ هما لسان الشباب ومن الواجب تلبية نداء الشباب الذي هو نتيجة الماضي وزهرة الحاضر وآمال المستقبل وعدة الحياة.
ثم قال الأستاذ: إن الجمعيتين اختارتا أن يكون الكلام عن الجزائر، وأنا أحب أن يكون الحديث عن عموم المغرب العربي لأني أؤمن بأن هذا الشمال الإفريقي لا ينهض إلا بتضامنه مع بعضه بعضا. لكن إذا تحدثت عن الجزائر فإنما أتحدث عن جزء من كل وأذكر عن الأخ ما يسر إخوانه.
وكلامنا اليوم عن العلم والسياسة معاً وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة. مع أنه لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بجد.
وإني أحدثكم لا بصفتي رئيساً لجمعية العلماء الجزائريين تلك الجمعية الدينية المحضة التي لا دخل لها في السياسة، وإنما أحدثكم اليوم بصفتي شخصا خدم الصحافة 12 عاما وخدم العلم 25 سنة فباسمي الخاص فقط أتكلم.
ثم بيَّن الأستاذ المحاضر أن الجزائر لم تقصر عن إخواتها بلاد الشمال الإفريقي وأشار إلى أن عواصمها الزاهرة شاهدة بذلك، كما أشار إلى العهد القريب أيام كان أبناء الجزائر يتولون أعلى المناصب مع الأتراك وعرج على نبغاء الجزائر وبين أنهم منتشرون- في الماضي والحاضر- في أرضها وفي الشمال الإفريقي وفي بلاد المشرق.
وبمد أن أنهى الأستاذ بسط مقدمته المحكمة وعرج بالثناء الجزيل على الزعيم الكبير الأستاذ عبد العزيز الثعالبي وبين أنه ليس بزعيم(4/331)
تونسي فحسب بل هو زعيم عالمي. شرع في التحدث عن النقطة الأولى من محاضرته فقال مرتجلا:
الحالة العلمية:
العلوم في الجزائر كما أظنها في غيرها، منها علوم تؤخذ باللسان العربي وهي علوم الدين واللسان، ومنها علوم تؤخذ باللسان الأجنبي وهي علوم الأكوان والعمران.
وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على تيه وضلال. فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجاراً ... وأولئك يعتبرون هؤلاء كفاراً ...
هكذا كانت الجزائر في الحركة العلمية إلى أن مرت عليها مائة عام وأنشئت جمعية العلماء الجزائريين فتولت إفهام كل طرف قيمة الطرف الآخر وبينت للجميع أنهم مهما نطقوا بأي لسان فهم من الجزائر وإلى الجزائر ولا تنهض الجزائر إلا بهم ولا ينهضون إلا بها.
ولقد وضعت هذه الجمعية برنامجا صالحا لتعليم الصغار اللسان العربي وتكميل معلومات من تعلموا باللسان الأجنبي كما خصصت درواسا للكبار.
ولكن ما كادت هذه الجمعية تخطو خطوتها حتى تنكرت لها الحكومة وأقيمت أمامها العراقيل حتى من طرف بعض المسلمين فأوذيت وصودمت وأصبحت حديث الجرائد الكبرى الفرنسية حتى اليوم ولكن الجمعية كانت تقابل هذه المقاومات بالثبات العظيم. وقد تأسست رغم تلك المقاومات المدارس وفتحت الأندية لإلقاء المحاضرات وزرعت نواة الكلية وما زالت المبحثات العلمية تتكون وتتوالى إلى جامع الزيتونة المعمور.(4/332)
والخلاصة أن الحالة العلمية بالجزائر اليوم هي علم مبني على روح إسلامية عربية لا يمكن أن يقاومها مقاوم أو يعارضها معارض ولا يمكن للظلم أن يقف في طريقها!
الحالة السياسية:
كانت مطالب الجزائر قبل انعقاد المؤتمر الجزائري الشهير مطالب متفرقة يقوم بها أفراد موزعون.
ولما تأسس المؤتمر الجزائري في السنة الفارطة توجهت الأمة بمطالب عامة- سياسية، اقتصادية، علمية، عربية قومية- ومطالب الجزائر لا تزال في حيز الانتظار إلى الآن كما لا تزال مطالب تونس في حيز الانتظار. ورحم الله من قال:
ونحن في الشرق والفصحى ذوو رحم … ونحن في الجرح والآلام إخوان.
وقد حدث شيء بعد ذلك وهو مشروع فيوليت الذي هو شيء واحد من المطالب التي قدمناها وهو يعطى حق الانتخاب لعشرين ألف وبضعة آلاف وحق التصوت في جملة الفرنسويين.
ولقد صعب تنفيذ هذا المشروع لما اشترطه المؤتمر من المحافظة على الصفة الشخصية الإسلامية العربية، وها هو الآن في مهب الريح يمكن أن يتم ويمكن أن لا يتم.
ومسيو فيوليت رجل فرنسي قبل كل شيء، رأى من مصلحة فرنسا أن يقرب إليها الجزائريين ووجد برنامجه للمعارضة من طرف الكولون المعمرين لأنهم تأبى نفوسهم أن نجتمع معم على مائدة واحدة فكيف يرضون أن نجتمع بهم في البرلمان؟ كما أنهم لما رأوا أن المؤتمر وضع(4/333)
ثقته في الواجهة الشعبية خافوا أن يصير نواب الجزائر كلهم من أنصار الواجهة الشعبية.
وقد قبلت أكثرية الأمة مشروع فيوليت بالشرط المذكور وباعتباره أقل المطالب، أما الأقلية فقد أبت قبوله تماما لأنها تخشى بعض الألاعيب التي لا تدري متى تكون.
ونحن نحترم رأي هذه الأقلية ونؤمل بقاءها على رأيها، وهي تطالب بالاستقلال وأي إنسان يا سادة لا يحب الاستقلال؟ إن البهيمة تحن إلى الاستقلال الذي هو أمر طبيعي في وضعية الأمم.
أما موقف الحكومة التي أعطيناها ثقتنا من أول يوم فهو موقف التريث والتردد، تشاهد المعارضة من الرجعيين أصحاب المال الأقوياء، ونشاهد مطالب الجزائريين الضعفاء فتارة تعد كما قال م. فيانو وتارة تتوعد كما قال م. أوبو الذي يقول إذا أردنا الاحتفاظ على الشمال الإفريقي فلنحافط على القوة وقد أخطأ في ذلك، ولو كانت الحكومة تقبل نصيحتي كإنسان لنصحتها باستعمال الإحسان، الذي يمكنها به المحافظة على صداقة هذا الشمال الإفريقي.
والخلاصة أننا قلنا نحن لنا ثقة في الواجهة الشعبية ولا زلنا نقول ذلك، وقلنا ننتظر وها نحن ننتظر، ولكن للإنتظار حد محدود، وإذا خاب أمل الأمة الجزائرية فإنها لا تخيب وحدها بل تخيب معها فرنسا أيضا.
وختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس محاضرته الكبرى بقصيدة من شعره البليغ مطلعها:
شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبه ينتسب
من قال حاد عن أصله … أو قال مات لقد كذب
أو رام إدماجا له … رام المحال من الطلب(4/334)
ومنها:
من كان يبغي ودنا … فعلى الكرامة والرحب
أو كان يبغي ذلنا … فله المهانة والعطب
وقد ختمها بهذا البيت الرائع:
فإذا هلكت فصيحتي: … تحيا الجزائر والعرب!
وقد قوبلت المحاضرة والقصيدة بعواصف من التصفيق والهتاف.
وما كاد الأستاذ المحاضر ينتهي من كلامه حتى وقف الشاب الأديب السيد الشاذلي المكي رئيس جمعية الطلبة الجزائريين بتونس وقال: لئن اعتاد الخطباء شكر المحاضرين بعد انتهائهم من محاضراتهم فأنا قد اعتدت بأثر كل محاضرة لأستاذي العزيز الشيخ عبد الحميد بن باديس أن أضع على جبينه قبلة حارة.
ثم تقدم وقبله باسم الطلبة الجزائريين فقام الأستاذ الطيب بن عيسى وطلب منه أن يقبله مر ثانية باسم التونسبين فكان ذلك ودوت القاعة بالتصفيق والهتاف المتواليين.
وبأثر ذلك وقف حضرة العالم الفاضل الأستاذ الشيخ السيد الشاذلي بن القاضي المدرس بالجامع الأعظم دام عمرانه وصاحب رصيفتنا (المجلة الزيتونية) الغراء وارتجل خطابا قيما قدم فيه خالص الشكر للأستاذ ابن باديس بالنيابة عن الريتونيين وأثنى على هذا المصلح الكبير والزعيم الإسلامي العظيم الذي تتمثل فيه الناحيتان العلمية والسياسية، وقال في هذا الصدد أن الجزائر إذا اعتمدت اليوم فإنما تعتمد على هذا الشيخ الجليل. ثم قال الأستاذ بن القاضي:
ونحن إن شاء الله مقتفون خطوات هذا الأستاذ في خدمة العروبة(4/335)
والإسلام، وإذا قال الأستاذ أن العلم يجب أن ترافقه السياسة، فإننا نقول أن لنا علماء ضربوا في الحركة السياسيه بسهم مصيب.
وأذكركم بأن أول كلمة صدرت في بناء الدستور كان مصدرها العالم الكبير الأستاذ الشيخ السيد الصادق النيفر.
وختم خطابه بقوله: فتونس تحيا بحياة رجالها وحياة معهدها أدام الله لها رجالها وأدام لها معهدها (1).
__________
(1) البصائر: السنة الثانية العدد 71 الجمعة 9 ربيع الثانى 1356ه 18 جوان 1937م. ص4، ع 1 و2 و3 وص 5، ع 1 و2.(4/336)
الشيخ عبد الحميد بن باديس في قالمة
يوم الخميس 29/ 1/ 57 و31/ 3/ 38 على الساعة العاشرة صباحا نزل بقالمة فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قادما من قسنطينة إلى قالمة بقطار الضحى إجابة لدعوة أهل المدينة.
وقد تلقاه بالمحطة عند النزول بعض أعيان المدينة وطلبتها، وبعد التحية والترحيب بفضيلته توجه الجميع إلى مركز شعبة الجمعية حيث تقرر على أثر الوصول برنامج أعمال الرئيس التي قدم خصيصا لها في ذلك اليوم وليلته المقبلة.
ونظراً لضيق حجم هذه الجريدة وكثرة موادها فإني أستسمح القراء الكرام أن أغفلت وصف مهرجانات الاحتفاء والاحتفال بقدوم الرئيس العظيم الأستاذ ابن باديس إلى قالمة وإكرامهم مثواه فقد كان اقتبال أهل قالمة له وسرورهم به بالغا الغاية وكان لما أسدى إليهم اليوم من نصائح وإرشادات قيمة في محاضرته ودرسه الجامعين المانعين الأثر الحميد في نفوسم، وإلى القراء الأفاضل خلاصة المقصود من زيارة الأستاذ إلى قالمة وما عمله بها.
إن القصد من زيارة الأستاذ ابن باديس قالمة اليوم- وفق رغبة سكانها المسلمين- هو حث عامة هذه النواحي على التآخي والتعاون على الخير ونصرة المشاريع الإسلامية النافعة والتضامن في كل ما يهم المسلمين ونبذ كل خلاف ينسيهم روابط الأخوة الإسلامية التي جمعهم الله بها على الهدى والحق وأن يعلموا حق العلم أن لا حزبية بينهم إزاء(4/337)
القضايا العامة والمشاريع الهامة التي هم مسؤولون أمام الله ورسوله والناس أجمعين عن حقها عليهم وما حقها عليهم سوى تعاونهم على إحيائها تعاونا مستمدا من وحي الضمير!
بعد ظهر اليوم المذكور نادى مناد في المدينة أن الأستاذ ابن باديس يلقي محاضرة بفسحة إلى السينما بعد صلاة العصر، وما أزفت الساعة المعينة حتى اكتظت ردهة المحل وشغلت جميع كراسيه بالوافدين الذين من بينهم من جاءوا من أماكن بعيدة لسماع محاضرة الأستاذ وعلى أثر ذلك صعد فضيلته منصة الخطابة وشرع يمتع السامعين بما تهفو إليه أرواحهم وتنجذب إليه عواطفهم وتستعذبه مشاعرهم من خالص النصح وسديد الإرشاد وبديع الخطاب.
بدأ الأستاذ محاضرته بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم تطرق إلى التحدث إلى سامعيه عن محاسن الإسلام التي تجل عن الوصف فأبان لهم ما يجب عليهم للمحافظة على الإسلام الثمين وكتابه الإلهي ذي اللسان العربي المبين. بيانا هو الشمس وضوحا والحق نوراً فقال:
إن هذا الإسلام هو رحمة من الله لبني آدم فانظروا رحمكم الله قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كيف كرر الله عز وجل لفظ الرحمة أربع مرات في موطن واحد ولم يقل لنا "القهار الجبار" مع أنه عز وجل قهار جبار كل ذلك لنستشعر سعة رحمة الله بخلقه، فإذا كان رب الناس الذي هو المالك لهم على الحقيقة يعامل عباده بمقتضى هذه الرحمة التي وسعت كل شيء فأحرى أن يتخلق عباده بأخلاقه وتظهر عليهم آثار هذه الأخلاق في معاملة بعضهم لبعض وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من لا يَرحم لا يُرحم».(4/338)
ثم إن الإسلام بقدر ما فيه من رحمة للبشرية ورأفة واحترام لها فهو يمقت الظلم والجبروت والطغيان أشد المقت ويندد بالمتصفين بهذه الصفات من العباد أمر تنديد فهو لا ربوبية فيه لأحد على أحد، لا ربوبية بالمال ولا ربوبية بالعلم ولا ربوبية باسم الدين بل الربوبية الحقيقية هي لرب العالمين وحده على عباده، وهذا هو السر في سرعة انتشار الإسلام في جل أقسام المعمورة في مدة 25 عاما، وبفضل هذا الإسلام، أيها السادة اهتدى أوائلنا العظام واهتدينا نحن! لما تضمنته مبادئه السامية من رحمة وسماحة وعدل يغبط عليه، نعم بفضل هذه الخصال الكريمة ونظائرها في الإسلام تحول العرب من الجهل إلى العلم، والقسوة إلى الدين، ومن الهمجية إلى المدنية التي مدنوا بها الأمم يومئذ، وكان للعرب بها الفضل على سواهم رغم أنف من جحد منهم وما يجحد بها إلا كُلُّ أفَّاك أثيم. وفي ما كان للعرب من رحمة أكسبها إياهم الإسلام السمح، قال قوستاف لوبون: (لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين)! فهذا الإسلام أمانة عندنا وبه سعادتنا وعزنا فلنحافظ عليه وذلك بالمحافظة على كتابه الكريم ولسانه العربي المبين تعلماً وتعليماً، أيها السادة كما تلقيناه من آبائنا وأجدادنا، وكل من عارضنا في هذا التعليم رددنا معارضته رد الأباة الكرام وأولى الناس بالمحافظة على القرآن هم حفاظه الذين استحقوا به لقب"السياد" أن عملوا!.
إن قواعد الإسلام التي شرعها الله لعباده جعلت عواطفنا وشعورنا مطبوعة على أن لا نحس إلا احساساً متحداً {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}؟ فالصائمون- مثلا - يحسون إحساساً واحداً بما ينشأ لهم من الصوم من جوع وعطش وقس على ذلك فديننا دين الرحمة والاتحاد على الخير ونحن مسلمون لا نتحد على الشر أبدا ولا نضمره لأحد من الناس، كما لا نقبله من أي أحد منهم كائنا من كان.(4/339)
هذه محاضرة الأستاذ ابن باديس نقلناها نقلا اختزاليا أثناء إلقائها لها على المنصة وحافظنا على ألفاظها ومعانيها حتى لا يفلت من ذلك شيء وهي نفس الخطاب الذي ألقاه ليلا بنادي الشباب الإسلامي القالمي بعد أن أفرغها في قالب يناسب طبع الشباب ومزاجه الكهربائي الذي عبر عنه الأستاذ بالشعلة المقدسة وتفنن فيه ما شاء له البيان وأراد وزاد على ذلك مخاطبا الشبان ومرغبا في الاستزادة من العلم النافع بأي لغة كان ومن أي شخص وجد، والاعتراف (1) بجميل من يكون لهم واسطة في نيل العلم خالصا من شوائب المس والدس فقال:
إن طلاب العلم عندنا ثلاثة أقسام، قسم طلبوا العلم من الغير فنالوه إلا أن الغير طبعهم بطبعه فهو عوض أن يأتونا به مطبوعاً بطابعنا الفطري الذي هو حبل الاتصال بين أفراد أمتنا وبين جامعتهم القومية أصبحوا متأثرين بطابع الغير.
وقسم نالوا العلم ولم يحسنوا التصرف فيه لنفع مجتمعهم ووسطهم.
وقسم نالوا العلم من الغير وأحسنوا التصرف فيه ونفعوا به بلادهم وقومهم فهذا الفريق هو الذي نحتاجه اليوم وعلى يديه يكون رقي البلاد وخيرها.
فأرجوكم أيها الشبان الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان وعن أي شخص وجدتموه وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الإنتفاع المطلوب كما أخذه الأروباويون من أجدادنا وطبعوه بطابعهم النصراني وانتفعوا به وهم إذا أنكر بعضهم اليوم فضلنا عليهم فذلك شأنهم أما نحن فلا ننكر فضل من أسدى إلينا الخير الخالص ونعترف له بالجميل الذي لا يراد به سوى الجميل ولا علينا فيمن {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا
__________
(1) في الأصل: ولا اعتراف.(4/340)
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولا يكن في صدرنا من حالهم حرج فصدورنا بالإيمان بالله والثقة به أوسع وعقولنا أرجح وديننا أرحم وأكمل (1).
( ..... ) (2)
__________
(1) البصائر عدد 109 السنة الثالثة. قسنطينة يوم الجمعة 21 صفر 1357ه الموافق ليوم 22 أفريل 1938م الصفحة 3 كلها.
(2) لم يذكر الناقل لهذا الخطاب اسمه.(4/341)
آثار ابن باديس
قسم تطور الشهاب(4/343)
خاتمة المجلد الخامس
بهذا الجزء تمت أجزاء المجلد الخامس إثنى عشر جزءاً. وانقضى عام على "الشهاب" مجلة شهرية، وإذا لم يكن يجب أن يكون فقد كان على نهاية ما استطاع، وقد كان قرر أن يشعر قراءه بروح الأخوة الإيمانية التي تربط بينهم مهما اختلفت أفكارهم، وقد نجح في هذا إلى حد بعيد. فهو بهذه النعمة الربانية جد مغتبط ومسرور. معتزما على شكرها باستمرار العمل حاسبا إياها أعظم جزاء على ما عمل، وأكبر معز ومصبر عما يلقاه من مكاشحة"العدو" وتقصير الصديق.
علم الله أننا لا نجني من هذه المجلة ثمرة مادية، وإنما نعود عليها بمالها. ولو كثر مالها لكبر حجمها وغزرت موادُّها، ورغم ذلك فقد بلغت صفحاتها ستة وخمسين بعد ما كانت اثنتين وثلاثين في الجزء الأول، وستصدر في سنتها الجديدة- إن شاء الله تعالى- في أربعة وستين، وسنوسع في أبوابها حسبما نستطيع من التوسيع.
ليس لنا- بعد عون الله تعالى- إلا همم إخواننا المسلمين عموما والمشتركين معنا في المجلة خصوصاً، فنحن ندعوهم إلى مؤازرتنا على ما نتوخاه لِلْجَميع من خير وصلاح، ونستحث المقصِّرين والمتخلفين إلى أداء واجب اشتراكهم القليل.
وقد رأينا- والحمد لله- من كثير من إخواننا مؤازرة ومساعدة، شكرا لله لهم ما عملوا وأثابهم عليه ووفق غيرهم إلى الاقتداء بهم فيه، والله ولي العون والتوفيق للجميع (1).
__________
ش: ج 12، م 5، ص 56. غرة شعبان 1368ه - جانفي 1930م.(4/345)
فاتحة المجلد السادس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
نحمد الله الذي أمدنا بروح، منه حتى قطعنا السنة الماضية، وأبقى فينا الثقة والرجاء لقطع السنة الحالية، والسنوات التالية، ثم نتقدم لقراء "الشهاب" ومشتركيه ومناصريه الفضلاء الأكارم بالإشادة بحسن الثناء، والدعاء بجميل الجزاء، واعدين حضرتهم بالمضي على ما عرفوا من خطتتا: ننشر هداية القرآن وندعو إليها، ونعتصم برابطة الأخوة ونحافظ عليها. داعين إلى العلم والعمل والتقدم في نظام وسلام قاصدين الخير وساعين فيه لصالح الجميع.
ثبت الله القصد، وأيد العمل، وقرب الغاية، إنه الولي النصير.
__________
ش: ج 1، م 6، ص 1 - غرة رمضان 1348ه - فيفري 1930م.(4/346)
خاتمة المجلد السادس
قد انتهى بهذا الجزء المجلد السادس، فالحمد لله على نعمته وتيسيره وما أمكن لنا إنهاؤه بعد ذلك إلا بهمم أولئك الأخوان الكرام المشتركين والمؤازرين الذين لولا مثلهم لما كان لمجلة علمية أن تعيش في الجزائر إلى اليوم، فهم أصحاب هذه المجلة وهم أصحاب الفضل بها.
وإذا كان حقا علينا أن نذكر هؤلاء السادة الذين يعملون على حياة هذه المجلة فإن حقا آخر علينا أن نذكر قوماً آخرين من الذين يعملون على قتلها من حيث لا يشعرون وأولئك هم الذين يتأخرون بدفع بدل الإشتراك الزهيد بعد مكاتبتهم وتذكيرهم السبع والثماني مرات فلا هم يدفعون ولا هم يعتذرون ولاهم يجيبون فيحملون الإدارة ة بمصاريف المكاتبة مع بدل الإشتراك المتأخر ضغثا على ابالة وليست هذه الأبالات ذوات الأضغاث بالشيء القليل الذي يتحمله كاهل الإدارة على ضعفها بل هي بمجاوزتها للمائتين قد صارت عبئا ثقيلا لا تنوء به الإدارة إلا بجهد جهيد.
لقد كنا- لولا هؤلاء السادة المتأخرين- عازمين على زيادة توسعة وتحسين في نطاق المجلة ووضعها. ولكنهم تأخروا فتأخرنا، وعسى الله أن يجعل بعد العسر يسرا وبعد الشح سخاءا وبعد الإهمال اعتناء فنبلغ بهذه المجلة حيث نأمله لها من رقي في خدمة الدين والعلم والوطن.
والله يسدد خطى الأمة- ونحن في جملتها- إلى ما فيه سعادتنا وفلاحها في الدنيا والآخرة بلطف منه وتيسيره إنه اللطيف الخبير (1).
__________
(1) ش: ج 12 م 6 غرة شعبان 1349ه - جانفي 1930م ص 782.(4/347)
تنبيه
ما ينشر في باب رسائل ومقلات هو على عهدة كاتبيه فمن رأى فيه ما لا يوافق عليه فليباحث فيه صاحبه وباب المباحثة والمناظرة في المجلة مفتوح لهما. لا نقول هذا تبريا من كتابنا أو فرارا من مسئولياتهم وإنما نقوله:
أولا- لثقتنات بكفائتهم في تحمل مسؤولية كتاباتهم والجواب عن أنفسهم بالعلم والأدب والإنصاف.
ثانيا- لفتح مجال البحث والمناقشة العلمية النزيهة بين الكتَّاب فنعم المشحذ للذهن والمظهر للحقيقة هي:
دعانا إلى كتابة هذا أن بعض الناس اندهش مما كتبه صاحب مناظرة المصلح والمحافط في مسألة الأفعال النبوية، ومسألة تقسيم البدعة، ومسألة لزوم الحق لجانب الكثرة وعوض أن يوجه بحثه وسؤاله إلى كاتب المناظرة وجهه إلى صاحب "الشهاب" الذي وقف اسمه كالشجا في حلقه فلم يسطع أن يذكره. وصاحب "الشهاب" يرد لو أن هذا الباحث يوفق إلى الإتيان إلى قسنطينة فيفيده هذه المسائل من كتبها بدلائلها وأقوال الأئمة فيها ويعتقد أنه لو وفق إلى هذه السفرة لحمد غب سراه وعدها من خير أيامه ويعيذه بالله من أن ينفخ الشيطان في أوداجه فينكبر عن الرحلة للعلم وتحصيله. وأما الجواب في الصحيفة فإنه يدعه لصاحب المناظرة لأنه يرى أن الجواب على بحث يتعلق بمناظرته تعد عليه خارج عن سياج الأدب.
والأمر المهم أكثر من هذا كله الذي يجب علي أن أنبهك عليه(4/348)
وحرم علي إقرارك عليه هو كذبك وافتراؤك- والله يغفر لك إن تبت- في الحديث الشريف فإنك قلت هكذا بالحرف: "وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن أمتي لم تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم" وهذا المتن لا وجود له في البخاري ولا في مسلم البتة. فبأي شيء نسمي صنعك هذا وجرأتك عليه ومن كان قدوتك فيه ... أأنت الذي سميت نفسك في إمضائك (أحد كتاب أهل السنة) ترتكب هذا الافتراء على السنة أهكذا كتاب السنة يكونون؟ أهذا هو القدر الذي عندك من السنة التي أضفت نفسك إليها؟
هداك الله أيها الأخ وعرفك قدرك ورزقك احترام السنة التي ألصقت نفسك بها ثم بعد ما نبهتك فهل تعترف بالحق وتنشره حيث نشرت الباطل؟ أم تسكت أنت الآخر. ويخنقك الكبر عن لفظ الحقيقة نصيحتي لك أيها الأخ ولأمثالك أن تقرأوا العلم وتلتزموا الصدق وتتقدموا حينئذ للعمل فأما هذا الخبط وهذا الكذب وهذا التجري فشيء نعوذ بالله منه، ونسأل الله أن يقينا والمسلمين شر غائلته وسوء عاقبته (1).
__________
(1) ش: ج 12، م 8، ص 623 - 624 غرة شعبان 1351ه - ديسمبر 1932م.(4/349)
فاتحة المجلد التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يخطو الشهاب خطوته التاسعة، نحو غايته الشريفة السامية، بقدم ثابتة- إن شاء الله تعالى- وأمل كبير يذكر أنصاره ومؤازريه، بالثناء الجميل ويرجو لهم ولغيرهم كل خير يدعو في مستقبله كما دعا في ماضيه- إلى الله، بكتاب الله وسنة رسول الله مهتديا- إن شاء الله- هدى السلف الصالحين والأئمة الهادين المهديين ويعرض للمسائل الجزائرية في حق ونزاهة وشيء كثير من الرفق واللين، داعيا إلى المساواة بين جميع المتساكنين، داعيا إلى التعارف والتقارب والتفاهم بين سكان الجزائر أجمعين، داعيا إلى حفظ النظام، ومراعاة الجوار واحترام القوانين سائلا من الله تعالى العون والتوفيق للعمل الخالص المثمر النافع للجميع (1).
__________
(1) غرة رمضان 1351ه جانفي 1933م، الجزء 1، المجلد 9 ص 1.(4/350)
مجلة الشهاب والحركة الإصلاحية
الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأبنائه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد فإن مجلة (الشهاب) تفخر بأنها أنشئت للحركة الإصلاحية ورافقتها في جميع مراحلها وأنها هاجمت البدع في معاقلها وواثبت الخرافات في أيام عزها واشتدادها، وساورت الأباطيل على احتفالها واستعدادها لم تهن لها عزيمة في موقف من المواقف التي تخور فيها العزائم وترجف الأفئدة، ولم يكتب لها قلم في ميدان من الميادين التي تنعقد فيها الألسنة وتجبل القرائح.
وهي اليوم تعلن فخرها واغتباطها بما وصلت إليه الحركة الإصلاحية من نتائج اتسع مداها وطبق الخانقين صداها، مكتفية من الجزاء بهذه الغاية ومن الآيات على إثمار عملها بهذه الآية وقد كان من الاجتماع السنوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في هذه السنة ما أقام على ما ادعيناه الدليل- وقطع على المكابرين السبيل، وعلى ذلك فمجلة الشهاب تعد من المساهمة لجمعية العلماء المسلمين إلى الابتهاج بالنتائج الصالحة التي تجلت في اجتماعها الأخير، أن تتقدم إلى قرائها بهذا العدد خاصا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومخلدا لوصف ذلك الاجتماع الرهيب، وما قيل فيه كما تقدمت إليهم بالعدد الذي قبله خاصا بالطلبة تنشيطا لهم وتقوية لعزائمهم واستفزازا للهمم لإعانتهم في جهادهم العلمي (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 10، ص 370 غرة جمادى الأولى 1353ه - 12 أوت 1934م.(4/351)
بعد عقد من السنين
في يوم النحر من ذي الحجة خاتمة شهور عام ثلاثة وأربعين وثلاثمائة وألف برزت جريدة "المنتقد" تحمل فكرة الإصلاح الديني بتنزيه الإسلام عما أحدثه فيه المبتدعون وحرفه الجاهلون. وبيانه كما جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة وعمل به السلف الصالحون معلنة أن المسلمين بذلك وحدة تصفو عقائدهم وتزكو نفوسهم وتستقيم أعمالهم وينبعثون عن قوة وبصيرة في الأخذ بأسباب الحياة الراقية والمدنية الطاهرة. مشاركين لأمم الدنيا في خدمة الإنسانية وترقية وتوسيع العمران، سالمين مما تشكو منه أمم الحضارة التي غلبت عليها المادية والأنانية وتفشت فيها أمراض ليست من التمدن الحقيقي في كثير ولا قليل.
برزت جريدة (المنتقد) تحمل هذا وتلفت الجزائريين المسلمين إلى حقيقة وضعيتهم بين الأمم بأنهم أمة لها قوميتها ولغتها ودينها وتاريخها فهي بذلك أمة تامة الأهمية لا ينقصها شيء من مقومات الأمم. وأنهم إلى ذلك مرتبطون بأمة عظيمة ذات تاريخ مجيد ومدنية راقية وحكومة منظمة وأن عليهم أن يراعوا هذا كله في حياتهم فيحترموا قوميتم ولغتهم ودينهم وتاريخهم والأمة التي هم مرتبطون بها والحكومة التي هم مسيرون بقوانينها.
ثم ما كاد يبرز العدد الثاني منها حتى ظهر في الجزائر كتابه لم يجدوا مجالاً لأقلامهم قبلها فانضموا إلى تحريرها وأوجدوا بهيئتهم أول حزب المصلحين.
مضت الجريدة على خطتها حتى سقطت في الميدان بقرار التعطيل(4/352)
بعد ما برز منها (18) ثمانية عشر عددا كانت في بنيان النهضة ثمانية عشر سندا. صدرت جريدة (الشهاب) إثر تعطيل المنتقد على مباديه وخطته فلاقت ما لاقت في سبيلهما من العناء والبلاء فثبتت وصبرت وصابرت وثابرت على العمل تشتمد مرة وتلين أخرى وصدمتها في سنتها الرابعة أزمة مالية كادت تقضي عليها فصدرت مجلة شهرية فوق ما كانت يوم ذلك تستطيع قوتها ثم تدرجت حسب تيسير الله حتى تممت اليوم العقد الأول من حياتها.
فالحمد لله وشكرا لمن عاشت هذه الصحيفة بإيمانهم ومؤازرتهم وإذا كان لها أثر فيما دعت إليه من إصلاح وما أعلنته وخدمته من حقيقة وضعية هذه الأمة. فالفضل في ذلك لله ثم لهم وإذا كان من شيء وراء ذلك الأثر تغتبط به فهو- أولا- أنها كانت تقصد الصواب عن نظر وصدق وإخلاص فإذا ظهر لها خطأ رجعت وأعلنت عن خطئها واعترفت به. كان هذا بضع مرات مع أصحابها وخصومها وثانيا- أنها ما خطت حرفا إلا بوحي ضميرها واقتناع منها لا بوحي ناحية ولا لإرضائها وما انفقت فلسا إلا من مالها وكيسها لا من مال ذى غاية ولا من كيس أية هيئة.
وها هي اليوم تخطو إلى العقد الثاني من عمرها على خطتها ومبدئها مستعينة بالله متكلة عليه معتضدة برجالها وأنصارها العاملين الصادقين، والله ولي الجميع (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 11، ص 1 - 3 محرم 1345ه - أفريل 1935م.(4/353)
في العشيرة الصحافية:
ثناء كرام
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(لا يجوز أن نعمل للثناء، ولكن الثناء الذي يأتي عفوا من أهل الصدق والخبرة يسرنا، إذ يشعرنا بأن معنا في طريق العمل من يرانا ويسمعنا ويتبع أعمالنا، فيدعونا ذلك إلى الجد في العمل والإتقان، وشدة التوقي للخطأ والزلل، على أن ما يقال في المجلة ليس خاصا بفرد ولكنه يصيب كل المشاركين في النهوض بها. وعلى هذا الذي قلنا رأينا نشر ما قالته بعض الرصيفات الكريمات في هذه المجلة شاكرين للرصفاء الفضلاء عطفهم وتشجيعهم).
• • •
ما جاء في "البلاغ" الذائع
نفحة من الجزائر:
وصل إلى يدي عدد من مجلة الشهاب، وهو العدد الخاص بالاجتماع السنوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو عدد طريف يشتمل على فوائد كثيرة تصور الحياة العلمية في الجزائر ومن أدق ما فيه ما قرأته من إصرار العلماء هناك على إلقاء عظاتهم باللغة الفصيحة، واحتجاجهم بأن البلاغة تلقن عن طريق السماع كما تكتسب بالدرس، ومعنى ذلك أن العامة يكتسبون الذوق الأدبي بفضل الإكثار من سماع الكلام الفصيح، كما يكتسبه المتعلمون بكثرة الاطلاع على الكلام الفصيح.
ذلك يقع في الجزائر، والعامية هناك بعيدة بعدا شديدا من اللغة(4/354)
الفصيحة، فليعرف ذلك الواعظون في مصر، وعامية أهل هذه البلاد قريبة كل القرب من الكلام المعرب الفصيح.
وفي ذلك العدد من الشهاب قصائد تدل على أن هناك نهضة شعرية منها هذه الأنشودة التي ألقاها الأستاذ أبو اليقظان:
أهزار الروض غرد … بنشيد الوطنية
أحكام الأيك غن … بحياة العربية
بلبل الدوح تنغم … لي بألحان شجية
فوق لبات الغصون … أهد للجمع التحية
وهي أنشودة طويلة، ومنها قصيدة الأستاذ الهادي السنوسي في خطاب أعضاء الجمعية:
حياك شعبك إقليما وسكانا … يا هيئة قد زكت علما وعرفانا
ادركت من روحه الطهرى حشاشته … من بعد ما قيل حين الشعب قد حانا
شعب أضاع كثيرا من مفاخره … لولاك أصبح في الأيام نسيانا
وحرص أهل الجزائر على اللغة العربية هو من أظهر ما هم عليه من الشهامة والرجولة والإباء. فإليهم، على بعد الدار، أطيب التحيات.
- زكي مبارك-
• • •
ما جاء في "القلم" البليغ
وصلنا عدد خاص من مجلة الشهاب الغراء التي تصدر في قسنطينة بالجزائر وقد زين العدد المذكور بصور طلبة صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحميد بن باديس وقد تصدر حضرته الصورة الأولى من تلك الصور فإذا بنا نرى جلالا ومهابة في وجه الشيخ ذي الأيادي(4/355)
البيضاء على العلم واللغة في تلك البلاد المنكودة الحظ التي لولا حضرة الشيخ وأمثاله لماتت اللغة العربية في الجزائر لا محالة.
فإلى حضرة الشيخ الفاضل الكريم تحيتنا القلبية وتمنياتنا الطيبة.
• • •
ما جاء في "الزهرة" الزاهرة
الشهاب النير
في عقده الثاني الحفيل
إستقبلت رصيفتنا "الشهاب" الزاهرة التي تصدر عن قسنطينة من القطر الجزائري الشقيق عامها الحادي عشر أو عقدها الثاني بعدد حافل بالمواضيع المهمة والبحوث المفيدة في تحرير نفيس وأسلوب ممتع كثيرا ما ألف لها ولحضرات السادة محرريها وبالمقدمة حضرة العالم الجليل صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس السلفي الصميم.
والعدد على ورق صقيل في 64 صفحة متقن الطبع جميع التنسيق طيه صور شمسية للأستاذ ابن باديس تمثله ممسكا لمصحف إيماءة لطيفة إلى لزوم التمسك بالقرآن الكريم وتعاليمه الحكيمة وتتقدم ذلك كلمة المجلة وما تضمنته: (فالحمد لله وشكرا لمن عاشت هذه الصحيفة بإيمانهم ومؤازرتهم وإذا كان لها أثر فيما دعت إليه من إصلاح وما أعلنته وخدمته من حقيقة وضعية هذه الأمة فالفضل في ذلك لله ثم لهم).
تهنئة حارة للزميلة فيما توفقت لانتهاجه نحو إشاعة الإسلام وبث تعاليمه وما غنمته الجزائر بآثارها البارزة في ميادين العرفان المنبثقة عن أشعة ذلك (الشهاب النير ومشكاته الوضيئة وفي الوقت نؤمل له مزيد التقدم واطراد الرواج حتى يثمر الأمل المرغوب).
• • •(4/356)
ما جاء في " الزهو" العذبة
مجلة "الشهاب" الغراء
إستأنفت الصدور هذه المجلة الراقية بعد أن أدخلت عليها إدارتها تحسينات جمة وترقيات صيرتها من أرقى المجلات في العالم العربي وقد قررت طبع هدايا مع كل عدد بمناسبة دخولها لعامها (11) لأشهر مشاهير القطر الشقيق الجزائري وجاء فعلا مع الجزء المتحدث عنه رسم جميل للأستاذ العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيس تحرير (الشهاب) فنهني الزميلة الكريمة بعامها ونرجو لها طول العمر وعظيم الرواج والانتشار في كافة الأقطار (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 11، ص 103 - 106 غرة صفر 1354ه - ماي 1935م.(4/357)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم
فاتحة العام الثاني من العقد الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــــ
على اسم الله نخطو هذه الخطوة نحو الغاية التي نعمل إليها من ترقية المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائريته التي بها يكون عضوا حيا عاملا في حقل العمران البشري.
وليس ما ندعو إليه ونسير على مباديه من الإصلاح بالأمر يخص المسلم الجزائري ولا ينتفع به سواه، كلا، فإن صحة العقيدة، واستنارة الفكر، وطهارة النفس، وكمال الخلق، واستقامة العمل- وهذا هو الإصلاح كله- مما يشترك في الانتفاع به جميع المسلمين بل جميع بني الإنسان. وإنما نذكر المسلم الجزائري لأنه هو الذي قدر أن يكون منا ونكون منه كما يكون الجزء من كله والكل من جزئه فحاجته أشد وحقه أوجب، فكان المقصود بالقصد الأول. على أنه لم يذكر لتخصيصه وإنما ذكر ليشعر بنفسه فيعمل لإسلامه وجزائريته فيكون ذا قيمة ومنزلة في الجموع.
عمل الماضي:
ونحن- بحمد الله- ما عزمنا على مد خطوة إلى الأمام والتفتنا إلى ما كان من أثر سيرنا وما مضى من خطواتنا- إلا وجدنا ذلك الشعور قد نما وألفينا العمل بمقتضاه قد زاد. وها نحن نعرض صورة السنة الماضية لنرى فيها مصداق ما قلناه:(4/358)
التعليم:
ولا أدل على وجود روح الحياة في الأمة وشعورها بنفسها ورغبتها في التقدم من أخذها بأسباب التعليم: التعليم الذي ينشر فيها الحياة ويبعثها على العمل ويسمو بشخصيتها في سلم الرقي الإنساني ويظهر كيانها بين الأمم. وقد تأسست في السنة الماضية جمعيات وفتحت مكاتب وتأسست نوادي ونهض المصلحون في العاصمة بابي النوادي كلها، نادي الترقي، نهضة جديدة إصلاحية خالصة. وطلبت عدة جهات معلمين للمساجد غير الحكومية واشتريت بتلمسان وقسنطينة وميلة دور للتعليم وتزايد عدد الوافدين من الطلاب على الجامع الأخضر وعلى جامع الزيتونة وعلى الجهات التي فيها دروس منتظمة.
وهذا والمساجد ما تزال مغلقة في وجوه العلماء ورخص التعليم الحر ما تزال غير معطاة لهم ولولا ذلك لكانت النهضه العلمية أكثر بكثير مما كانت.
الإصلاح:
بقدر ما كان تمسك الأمة بأسباب العلم كان رفضها للجمود والخمود والخرافات والأوضاع الطرقية المتحدرة للفناء والزوال حتى أصبح القطر الجزائري كله يكاد لا تخلو بيت من بيوته ممن يدعو إلى الإصلاح وينكر الجمود والخرافة ومظاهر الشرك القولي والعملي وأصبحت البدع والضلالات تجد في عامة الناس من يقاومها وينتصر عليها.
ومن أجمل مظاهر انتشار الإصلاح وانتصاره أن خصومه بعد ما كانوا يقاومون ما يدعو إليه من نشر التعليم بالعرقلة والتزهيد أصبحوا لا يستطيعون أن يظهروا للأمة إلا بمظهر المعلمين. فهم لأجل(4/359)
حفط مراكزهم اليوم مضطرون لتأييد العلم- ولو ظاهرا- العلم الذي يقضي عليهم في المستقبل بإذن الله.
نعم هنالك طائفة من المنتسبين للعلم ومن طلبة القرآن معروفون عندنا بأسمائهم يتسترون باسم العلم والقرآن، ويبثون في الناس ما يتبرأ منه العلم والقرآن ولعل هذه السنة تكون سنتهم فيستنزلهم المصلحون للميدان ليعرفوا الحق فيكونوا من أنصاره أو يكابروا فيه فيعرفهم الناس فيحذروهم ويتقوا شرهم.
أمل المستقبل:
إذا نطرنا في عمل الماضي الذي قدمنا انبعث فينا الرجاء والأمل فيما نستقبل، وأصدق الأمل ما انبنى على عمل، فنتقدم- بإذن الله- للعمل في سبيل ترقية المسلم الجزائري داعين إلى العدل والإحسان والألفة والرحمة بين جميع المتساكنين بهذا القطر وإلى التفاهم والتعاون على ما فيه هناء وسعادة الجميع (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 12، ص 1 - 4 غرة محرم 1355ه - أبريل 1936م.(4/360)
فاتحة السنة (13)
بسم الله الرحمن الرحيم- وصلى الله على محمد وآله وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بهذا الجزء نستفتح السنة الثالثة عشرة من سنوات هذه المجلة، حامدين الله تعالى على ما يسر من عمل للإسلام والجزائر، شاكرين لكل من أعان على هذه الخطوات في هذه السبيل.
وسنخطو هذه الخطوة- إن شاء الله تعالى- على ما عرفه الناس من مبدئنا في الإصلاح الديني من ناحية العقائد والأخلاق والأفكار والأعمال، تصحيحا وتهذيبا وتنويرا وتقويما. كل ذلك في دائرة الإسلام كما نزل به القرآن وبينته السنة ومضى عليه- علما وعملا- السلف الصالح من هذه الأمة. وعلى ما عرفوه من مبدئنا في الإصلاح السياسي، وهو المحافظة التامة على جميع مقوماتنا ومميزاتنا كأمة لها مقوماتها ومميزاتها، والمطالبة بجميع حقوقنا السياسية والاجتماعية لجميع طبقاتنا دون الرضى بأي تنقيص أو أي تمييز كما قمنا بما أوجب علينا. والتعاون على هذين الأساسين مع كل أحد من أي جنس وأي دين مدَّ يَدَهُ للتعاون معنا.
وقد بلغنا- والحمد لله- من النجاح في الإصلاح الديني أن أصبح الذين كانوا يعارضوننا لا يستطيعون أن يروجوا لأنفسهم إلا باسم العلم والكتاب والسنة. وفقهم الله إلى ما يصدقهم. وبلغنا- والحمد لله- من النجاح في الإصلاح السياسي أن أصبح أمر المحافظة على شخصيتنا أمرا اجماعيا حتى ممن كان لا يباليه أو لا يشعر به، ومعترفا به- رسميا- شيئا ضروريا في كل برنامج يوضح للجزائر.(4/361)
هذا وإذا كان شيء يؤلمنا حقا ويوجب شكوانا لمن يهمهم بقاء هذه المجلة- فهو تأخر نحو شطر المشتركين عن أداء اشتراكهم أكثر من سنة مع علمهم بأن هذه المجلة لا مورد لها إلا منهم فقط، وقد عزمنا على قطعها- مع الأسف- عن جميع المتخلفين إلا المعتذرين.
وإلى هذا فنحن نجدد شكرنا لأولئك الذين وازرونا- ماديا وأدبيا- حتى أمكننا- بإذن الله- البقاء إلى اليوم. وإننا عندما نشعر بثقتنا بالله ثم بهم نجد في أنفسنا القوة التي نندفع بها إلى الأمام في جميع الأعمال. والله المستعان، وعليه التكلان (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 13 1 محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.(4/362)
بيان واعتذار
وردت علينا رسائل من قراء الشهاب الأفاضل المعتنين بجمع مجلداته طالبين للأجزاء المتأخرة فوجب علينا أن نبين ما صدر من الأجزاء في المجلد الرابع عشر.
صدر الأول في 19 صفر 1357
صدر الثاني في 28 ربيع الأول 57
صدر الثالث في 7 جمادى الأولى 57
صدر الرابع والخامس خصصا لما قيل وما كتب بمناسبة ختم التفسير وقد تم طبعه وهو الآن بين يدي الأستاذ الإبراهيمي للمراجعة.
وصدر الجزء السادس في 5 رجب 57
وصدر الجزء السابع في 17 شعبان 57
وصدر الجزء الثامن في 19 رمضان 57
وصدر الجزء التاسع في 8 ذي القعدة 57
وبه أنهينا المجلد الرابع عشر ودخلنا المجلد الخامس عشر عازمين على إصدار كل جزء في وقته وستكون أجزاؤه عامرة- إن شاء الله- تعوض على القراء وترضي ضميرنا بما لهم من الحق علينا (1).
__________
11) ش: ج 9، م 14، ص 174 غرة رمضان 1357ه - نوفمبر 1938م.(4/363)
فاتحة السنة الرابعة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بحمد الله وتوفيقه وإعانته ثم بشكر المشتركين بعقولهم أو مالهم وتأييدهم- نخطو خطوة جديدة بهذه المجلة في ميدان الحياة، على ما عرفه القراء منا من صراحة في الرأي، وصلابة في الحق، ورغبة في الخير نعمل لصلاح الأمة في دينها ودنياها على نور الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح فتتمسك الأمة بإسلامها وعروبتها وتحافظ على قوميتها وتاريخها وتتناول أسباب الحياة والتقدم من كل جنس وكل لغة، وتحمل مع كل عامل لخير البشربة وسعادة الإنسان.
على هذه الأصول وفروعها مضت الثلاث عشرة سنة من حياة هذه المجلة وقد شاهدت من آثار تلك الأصول في الأمة- بحمد الله- ما زادها إيمانا بهذه الأصول وفروعها وثباتاً فيها وصبراً على ما تلقاه في سبيلها. ولأجل أن يشاركنا الجدد من قرائنا في هذا الإيمان نعرض شيئا من تلك الآثار نقتطفها من الماضي بنظرة مختصرة.
الشباب:
أعلن "الشهاب" من أول يومه- و"المنتقد" الشهيد قبله- أنه "لسان الشباب الناهض في القطر الجزائري" ولم يكن يوم ذاك من شباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده وقبح له دينه وقومه، وقطع له من كل شيء- إلا منه- أمله، وحقره في نفسه تحقيراً، وإلا شباب جاهل أكلته الحانات والمقاهي والشوارع، ومن وجد العمل منه لا يرى نفسه إلا آلة متحركة في ذلك العمل(4/364)
لا هم له من ورائه في نفسه فضلاً عن شعوره بأمر عام. وإلا شباب حفظه الله للإسلام والعروبة فأقبل على تعلمها لكنه تعلم سطحي لفظي خال من الروح لا يعتز بماض، ولا يألم بحاضر، ولا يطمع لمستقبل اللهم إلا أفراداً قلائل جداً هنا وهنالك.
أما اليوم فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونواد باسم الشباب والشبيبة والشبان ولا تجد شابا- إلا نادرا- إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات وشعار الجميع: الإسلام، العروبة، الجزائر.
الوطن:
وأعلن (الشهاب) من أول يومه- و (المنتقد) الشهيد من قبله- أن (الوطن قبل كل شيء) وما كانت هذه اللفظة يومئذ تجري على لسان أحد بمعناها الطبيعي الاجتماعي العام لجهل أكثر الأمة بمعناها هذا وعدم الشعور به، ولخوف أقلها من التصريح به. أما اليوم فقد شعرت الأمة بذاتيتها وعرفت هذه القطعة من الأرض التي خلقها الله منها ومنحها لها، وأنها هي ربتها وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها، سواء اعترف لها به من اعترف أم جحده من جحد، وأصبحت كلمة (الوطن) إذا رنت في الآذان حركت أوتار القلوب، وهزت النفس هزاً.
فرنسا:
أعلن (الشهاب) من أول يومه- و (المنتقد) الشهيد من قبله- أنه (يعمل لسعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرانسا الديموقراطية) فصور بكلمته هذه الحقيقة الواقعة عارية من براقش الخيال وحجب التلبيس والتضليل، فوضع الأمة الجزائرية بإزاء الأمة الفرنسية، إذ كل منهما لها ذاتيتها ومقوماتها ومميزاتها القلبية والعقلية والنفسية(4/365)
والتاريخية، التي يستحيل معها أن تندمج في أمة أخرى، وضعها بإزائها على أنها تابعة لها مرتبطة بها محتاجة إلى مساعدتها.
على هذه الحقيقة ناهض (الشهاب) التجنس والاندماج وناضل عن الشخصية الإسلامية غير مبال بما يعترضه من غلاة الاستعمار أكلة الأمم، ولا من صرعاهم من ضعاف النفوس، ولا من صنعائهم خربي الذمم، حتى أصبحت الأمة اليوم وهي مجمعة بجميع طبقاتها على لزوم المحافظة على شخصيتها وعدم التنازل عن شيء منها ولو حرمت كل حق بيد الظلم والعدوان، مع بقائها على فكرة الارتباط بفرنسا ومطالبتها بإنصافها قبل أن تنصفها الأيام وقبل أن تحل نقمة الله الذي جرت سنته بالانتقام من الظالم للمظلوم ولو طال الزمان.
الإدارة:
عانى (الشهاب) من الإدارة بسبب صراحته وجرأته ما عانى، ولكنه صبر حتى ألفت الإدارة تلك الصراحة وتلك الجرأة، وقد عرفتها الأيام أن صراحة (الشهاب) صراحة الحق والصدق وأن لا غرض وراءها إلا خدمة الصالح العام، وأن جرأته جرأة الواثق بصدق قوله وحسن قصده لا المغتر بنفسه ولا المستهين بمقام غيره، وهي اليوم تعتني بالشهاب عناية خاصة، وتتولاه أقلام للترجمة عديدة، أعلاها قلم الأستاذ ماسينيون في وزارة الداخلية، وقد اشترك فيه م سارو لما أنيطت به إدارة إفريقيا الشمالية ونحن نعلم أنه يعتبر في الدوائر الحكومية العبر الحقيقي عن الجزائر العربية المسلمة، الذي لا يثنيه عن تصوير الحقيقة خوف ولا طمع، ولا يحجبها عنه غرض، ولا يبعده عنها خيال. وأن (الشهاب) ليغتبط بهذا ويرجو من الله تعالى أن يثبته عليه حتى يخدم أمته من هذه الناحية لدى الحكومة ويكون أداة تعريف صحيح وواسطة خير للجميع.(4/366)
الأمة:
برغم ما في الأمة الجزائرية من أصول الحيوية القومية، فقد عركتها البلايا والمحن حتى استخذت وذلت، وسكتت على الضيم، ورئمت للهوان، وبرغم ما بينها من روابط الوحدة المتينة- فقد عملت فيها يد الطرقية المحركة تفريقاً وتشتيتاً، حتى تركتها أشلاء لا شعور لها ببعضها ولا نفع، تتخطفها وحوش البشرية من هنا ومن هنالك بسلطان القوة على الأبدان، أو شيطان الدجل على العقول والقلوب.
أما اليوم فقد نفضت الأمة عن رأسها غبار الذل وأخذت تنازل وتناضل، وتدافع وتعارض، وشعرت بوحدتها فأخذت تطرح تلك الفوارق الباطلة، وتتحلى بحلل الأخوة الحقة، وتنضوي أفواجاً أفواجاً تحت راية الإسلام والعروبة والجزائر.
العلماء:
كان الذين يتسمون بالعلم- إلا قليلا- بين جامد خرافي تستخدمه الطرقية وما يحرك الطرقية في التخدير والتضليل، وقد لا يدري المسكين ما يدس به للأمة من كيد، وحاذق دنيوي قد غلبه الوظيف واستولى حبه على قلبه فأنساه نفسه وأنساه ذكر الله. وكان العلماء الأحرار المفكرون- على قلتهم- مغمورين مشتتين، فلما برز (المنتقد) الشهيد فـ (الشهاب) هب أولئك العلماء الأحرار المفكرون للعمل، وتكونت النواة الأولى لجمعية العلماء، وأصبح اليوم اسم العلماء يحمل في أثنائه كل معاني الجد والتضحية في سبيل الحياة الحقيقية دنيا وأخرى.
النواب:
مجلدات (الشهاب) الماضية سجل يحفط اسم كل نائب وقف موقفاً مشرفاً، يطلب حقا أو يدافع باطلا فـ (الشهاب) ينوه بكل عامل(4/367)
ويشيد بذكره ويهيب دائماً بلزوم المحافظة على شخصية الأمة وعدم التساهل في شيء منها والمصارحة في كل موقف بأنها أمة لها لغتها ولها دينها ولقد كان من يرى السكوت عن هذه الناحية أقرب للمجاملة، وكان من يرى التسامح فيها والمساهلة، وكان من يصارح ويتصلب في هذه الناصية وإن تساهل في ناحية أخرى.
أما اليوم فقد أصبحت الأمة ولا يستطيع أحد أن يتقدم للنيابة عنها إلا إذا أقنعها بالمحافظة على شخصيتها والدفاع عن دينها ولغتها.
وإننا لنغتبط جد الاغتباط أن نرى نواب الأمة- إلا قليلا- قد أخذوا يشعرون بما عليهم من المسؤولية في الدفاع عن الإسلام والعربية، وأن نسمعهم- وقد سمعنا بعضهم- يرصعون خطبهم العامة بكلمات: إسلام، عربية، تاريخ، وطن، أمة وإنا لنرجو أن تكون لهم مواقف في هذه الناحية كما كانت لهم مواقف في النواحي الأخرى هذه الناحية في نظر الأمة، وفي الواقع أجل وأعز منها.
المصلحون:
ليس المصلحون حزبا- وربما يكونونه يوما من الأيام- وإنما هم العاملون على الأصول التي ذكرناها آنفا، وتحدثنا عن آثارها.
كانوا يوم رفع (الشهاب) وقبله (النتقد) الشهيد دعوة الإصلاح قليلا، وهم اليوم لا يأخذهم العدو لا تخلو بقعة من نواحي القطر منهم، قد ملأوه من أقصاه إلى أقصاه، وقد تجلت قوتهم في الانتخابات الكثيرة بعمالة قسنطينة وعمالة وهران وهم لم ينتظموا انتظام الأحزاب فكيف لو انتظموا؟
الطرقية:
كان الناس كأنهم لا يرون الإسلام إلا الطرقية، وقد زاد ضلالهم(4/368)
ما كانوا يرون من الجامدين والمغرورين من المنتسبين للعلم من التمسك بها والتأييد لشيوخها، فلما ارتفعت دعوة الإصلاح في (المنتقد) و (الشهاب) حسب الناس أن هدم تلك الأضاليل التي طال عليها الزمان، ورسخها الجهل، وأيدها السلطان، محال. ولقد صمد (الشهاب) للطرقية يحارب ما أدخلته على القلوب من فساد عقائد وعلى العقول من باطل أوهام، وعلى الإسلام من زور وتحريف وتشويه، إلى ما صرفت من الأمة عن خالقها بما نصبت من أنصاب، وشتت من كلمتها، بما اختلقت من القاب، وقتلت من عزتها، بما اصطنعت من إرهاب، حتى حقت للحق على باطلها الغلبة، فهي اليوم معروفة عند أكثر الأمة حقيقتها، معلومة غايتها، مفضوحة دوافعها ... إذا دعاها داعي السلطان لبت خاضعة مندفعة، وإذا دعاها داعي الأمة ولت على أعقابها مدبرة. ومن نكاية الله بها أن جعل أكبر فضيحتها على يد من يريد ممن توالتهم من دون الأمة مددها بما لها من مزايا عليه.
لا يهمنا اليوم أن تجهز على الجريح المثخن الذي لم يبق منه إلا ذماء، وإنما يهمنا أن نبين موقفنا مع البقية من شيوخها ونسمعهم صريح كلمتنا.
حاربنا الطرقية لما عرفنا فيها- علم الله- من بلاء على الأمة من الداخل ومن الخارج فعملنا على كشفها وهدمها مهما تحملنا في ذلك من صعاب، وقد بلغنا غايتنا والحمد الله وقد عزمنا على أن نترك أمرها للأمة هي التي تتولى القضاء عليها ثم نمد يدنا لمن كان على بقية من نسبته إليها لنعمل معاً في ميادين الحياة على شريطة واحدة وهي: أن لا يكونوا آلة مسخرة في يد نواح اعتادت تسخيرهم، فكل طرقي مستقل في نفسه عن التسخير فنحن نمد يدنا له للعمل في الصالح العام. وله عقليته لا يسمع منا فيها كلمة وكل طرقي- أو غير طرقي- يكون أذنا سماعة، وآلة مسخرة فلا هوادة بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله.(4/369)
قد نبذنا إليكم على سواء ... {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
هذا عرض سريع لصور من الماضي والحاضر، لنواح عديدة من الأمة والوطن وما يتصل بهما، يبين ما كان من تأثير تلك الأصول الإسلامية التي تمسك بها "الشهاب" فيها. فالله نرجو أن يثبتنا على الحق ويعيننا على الصدع به، وصدق تنفيذه، وحسن تبليغه، حتى يبلغ المسلمون كل خير وسعادة وكمال (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 2، م 14، ص 1 - 7 غرة محرم 1357ه - مارس 1938م.(4/370)
فاتحة السنة الخامسة عشرة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على الرسول وآله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه أول خطوة نخطوها- إن شاء الله تعالى- إلى العام الخامس عشر من حياة هذه المجلة حامدين الله على عونه وتوفيقه وتيسيره، شاكرين لأسرة المجلة- من مشتركيها ومحرريها وطابعيها وناشريها- أعمالهم التي هي أعمال في سبيل الإسلام والعروبة والجزائر، ذاكرين كل ذي خير بكل خير.
هذا وإننا نجدد العهد بيننا وبين قرائنا على السير على ما عرفوه فينا من صدق وصراحة وقصد للخير، غير متملقين لأحد ولا متحاملين عليه، مع المحافظة التامة على شخصيتنا وكل مقوِّماتنا الكريمة مما به كنا- وبه بقينا، وبه نكون، دون تفريق في العدل والإحسان بين الأجناس والأديان.
والمجد للإسلام والعروبة والجزائر، والسعادة للعاملين من الأفراد والأمم لخير الإنسان (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 15؛ ص 1 غرة محرم 1358ه - فيفري 1939م.(4/371)
آثار ابن باديس
قسم الصلاة على النبي(4/373)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-1 -
تمهيد، مكانتها، ثمرتها. القسم العلمي، معناها لغة، معناها شرعا، مزية لفظها، من تكون منه، من تكون عليه، نفي الاشتراك عنها، تفسيرها باللازم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول الأذكار في الإسلام ومن أعظمها، فإن الله- تعالى- أمر بها المؤمنين على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب، وجعلها من الأذكار اليومية المتكررة في الصلوات، وهي ذكر لساني بتلاوة لفظها، وقلبي بتدبر معانيها، ومثرة لرسوخ الإيمان وشدة المحبة وتمام التعظيم له- صلى الله عليه وآله وسلم- المثمرين لأتباعه، المحصل لمحبة الله عبده، وتلك غاية سعادة المخلوق ونهاية كماله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فمما يتأكد على كل مسلم أن يكون على شيء من العلم بهذا الكنز العظيم، وسنأتي من ذلك بما يفتح الله تعالى به في هذا المقال.
القسم العلمي:
الصلاة في لسان العرب قبل الإسلام وردت بمعنى الدعاء، قال الأعشى:(4/375)
وصَهْبَاءَ طَافَ يَهُودِيُّهَا … وأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا … وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
قال صاحب اللسان: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد.
وقال الأعشى أيضاً:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي … يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
أي دعوت، فالدعاء هو معناها اللغوي الأصلي وعليه جاءت كلمات كثيرة في الكتاب والسنة فمنها "وصلوات الرسول" أي دعواته "وصل عليهم"، أي أدع لهم وحديث «إذا دعي أحدكم لطعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل» أي فليدع لأرباب الطعام و"الصلوات لله" أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها لا تليق بأحد سواه كما في "اللسان".
جاءت هذه الكلمات وأمثالها على المعنى اللغوي الأصلي، وجاء مثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقوله- صلى الله عليه وسلم- «لا صلاة لجار المسجد في غير المسجد» مراداً به عبادة مخصوصة ذات أقوال وأفعال وتروك على هيئة خاصة من جملة أجزائها الدعاء، ولا شك أن إطلاقها على هذا المعنى إنما هو إطلاق شرعي ولكنه غير خارج عن أساليب كلام العرب فإنه من باب تسمية الشيء باسم جزئه فإطلاق هذا اللفظ على هذه العبادة المخصوصة حقيقة شرعية مجاز لغوي وليس هذا هو مرادنا هنا. وقد كان الظاهر لما كانت بمعنى الدعاء أن تتعدى بالكلام ولكنها تعدت بعلى لما فيها من معنى العطف فصلى عليه يؤدي معنى قولنا: دعا له عاطفاً عليه وهذا هو السر في اختيار لفظها على لفظه لتؤدي(4/376)
المعنيين: الدعاء والعطف، وإن كان لفظ الدعاء يقتضي عطفاً فذلك بطريق الاستلزام، وهو دون دلالة التضمن.
تكون هذه الصلاة من المخلوق على المخلوق ومن الخالق على المخلوق. فمن الأول صلاة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على المؤمنين كما في آيتي سورة التوبة المتقدمتين ومنها قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «اللهم صل على آل أبي أوفى» فقد دعا لهم وسأل الله تعالى أن يصلي عليهم. وصلاته على نفسه في تشهده في الصلاة، ومنه صلاة الملائكة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما في آية الصلاة من سورة الأحزاب، وصلاتهم على المؤمنين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ويفسر هذه الآية قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وهذا منهم دعاء عام. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
وهذا دعاء خاص. وكما في حديث «من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة عشرا» وحديث «إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه». ومنه صلاة المؤمنين على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الأنبياء وعلى الملائكة وعلى عامة المؤمنين بطريق التبع فهي سؤالهم من الله تعالى ودعاؤهم إياه أن يصلي على نبيه ومن ذكر قبل معه فهذه كلها من القسم الأول وهو صلاة المخلوق على المخلوق وكلها لم تخرج عن معنى الدعاء.
وأما القسم الثاني وهو صلاة الخالق على المخلوق فمنها صلاته(4/377)
على المؤمنين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وصلاته على الصابرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وعلى نبيه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
قد تنوعت عبارات العلماء سلفاً وخلفاً في تفسير صلاته تعالى على من ذكر من خلقه ففسرت بالرحمة- والجمع في قوله {صَلَوَاتٌ} باعتبار أنواع آثارها ومواقعها وقوله بعدها {وَرَحْمَةٌ} نوع منها خاص- وفسرت بالمغفرة، وفسرت بثنائه عند ملائكته على المصلي عليه- من باب ذكرته في ملاء خير منه- وفسرت بإعطائه وإحسانه، وفسرت بتعظيمه، ولا خلاف في الحقيقة بين هذه التفاسير، فإن مغفرته من رحمته وأن ثناءه من رحمته وأن إعطاءه وإحسانه من رحمته وأن تعظيمه من رحمته. فرجعت كلها إلى تفسيرها بالرحمة.
لو قلنا بعد هذا أن الصلاة لها معنيان الدعاء والرحمة لكانت من باب المشترك، والاشتراك خلاف الأصل فلذا نقول- كما قال جماعة من المحققين- إن الصلاة معناها واحدة وهو الدعاء فأما من المخلوق فبدعائه الخالق وهو ظاهر، وأما من الخالق فبدعائه ذاته لإيصال الخير والنعمة للمصلي عليه على تفاوت المراتب، ومن لازم هذا رحمته له بالمغفرة والثناء والتعظيم وأنواع العطاء والإحسان. فالذين فسروا الصلاة من الله بالرحمة فسروها باللازم والذين فسروا بغير الرحمة،(4/378)
فسروا بمقتضيات ذلك اللازم فلها إذن معنى واحد وهو الدعاء ولكنه يحمل في كل واحد من الجانبين على ما يليق به (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 5، ص 1 - 5. غرة محرم 1348ه - جوان 1929م.(4/379)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-2 -
تاريخ مشروعيتها، آية مشروعيتها، شيء من تفسير الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أذكار الصلاة ولكنها لم تشرع يوم شرعت الصلاة بمكة بل كانت مشروعيتها بعد بضع سنوات من الهجرة، وذلك يوم نزلت آية الأمر بها من سورة الأحزاب وهي سورة مدنية، ففي الترمذي وغيره- عن كعب بن عجرة-: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ... الآية} قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، فعلمهم حينئذ كيفيتها كما يأتي بيانه.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، هو آية الأمر بالصلاة على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب. فمن التأكد للأمر التوطئة له بجملتين: الجملة الإسمية المصدرة بحرف التأكيد، والجملة الفعلية الندائية، ومن أعظم الترغيب في امتثال هذا الأمر جعل امتثاله اقتداء بالله وملائكته.
وفي عطف الملائكة عليه تعالى تنبيه على ثمرة الامتثال والاقتداء، وهي نيل أشرف المنازل العليا، فإن الملائكة- عليهم السلام- بإمتثالهم أمر ربهم واقتدائهم به- جل اسمه- في الصلاة على أكرم خلقه-(4/380)
صلى الله عليه وآله وسلم- نالوا شرف اقتران اسمهم باسمه، وفي هذا ووراءه من الشرف والسعادة ما فيه.
وقوله- تعالى-: {يُصَلُّونَ}، على معناه اللغوي والأصلي وهو الدعاء، غير أن الملائكة يدعون ربهم له - صلى الله عليه وآله وسلم- والله تعالى يدعو نفسه، والمراد- وتذكر ما قدمنا- لازم ذلك وهو إنعامه الخاص الذي يرضاه لأكرم خلقه، وتقصر عقولنا عن الإحاطة به وقد عبر الناس عنه بعبارات نقلنا بعضها في القسم الأول.
وفي صيغة الفعل المضارع دليل على تجدد هذه الصلاة. فالملائكة- عليهم السلام- لا يفتؤون يصلون ويدعون، والله- تعالى- لا تنقطع انعاماته على النبي الكريم، وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الإنعامات الربانية لا يزال أبدا مترقيا في درجات الكمال، ويؤيد هذا عموم قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. وفي هذا ترغيب للمؤمنين في مداومة الصلاة عليه حسب الجهد والطاقة في الصلاة وغيرها.
وقيل هنا {عَلَى النَّبِيِّ} ولم يقل على الرسول. وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- نبي ورسول. ذلك لأن الرسول هو المبعوث لأداء الرسالة من الخالق إلى الخلق فالجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى التلقي والأخذ عن الذي أرسله، والنبي هو المخبر المبلغ للرسالة إلى الخلق من الخالق، والجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى إعلام الخلق وإرشادهم وهدايتهم بما جاء به من عند خالقهم. فاختير اسم النبي هنا على اسم الرسول لوجهين.
الأول: التنبيه على أنه قام بأعباء الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الخلق ونفعهم فجازاه الله على هذا العمل العظيم بهذا الجزاء العظيم وكما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- معلنا بتوحيد الله(4/381)
وتسبيحه وتقديسه وحمده أمام العالم بأسره، كذلك أعلن الله فضله ومكانته بصلاته عليه أمام جميع خلقه، وفي هذا تنييه للمؤمنن على عظم الجزاء عند عظم العمل، وعلى إعلائه- تعالى- شأن العاملين على إعلاء كلمته على قدر جهادهم في سبيله وإخلاصهم في ابتغاء مرضاته.
الثاني: أنه بذلك التبليغ قد جلب للمؤمنين أعظم النفع وأكمل الخير وهو سعادة الإيمان في العاجل والآجل. فمن بعض حقه عليهم أن يقوموا- لتعظيمه وتكريمه- بالصلاة عليه. فتكون صلاتم عليه- وهي سبب أجر عظيم ونفع كبير لهم- كالجزاء لعظيم إحسانه، والاعتراف بجزيل جميله.
فاسم {النَّبِيِّ} بهذين الوجهين، أنسب بالمقام، وأدخل في التأكيد والترغيب ولهذا اختير.
وقوله- تعالى-: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أمر ثان معطوف على الأمر الأول فيفيد النَّسق طلب الجمع بين مدلوليهما في الامتثال. ولذاكره العلماءُ إفراد الصلاة عن السلام.
وسلم: يأتي بمعنى الانقياد ويتعدى باللام، ومنه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ويأتي بمعنى قال له السلام عليكم ويتعدى بعلى ومنه قوله- تعالى-: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، ومنه هنا {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي حيوه بتحية الإسلام. وقد ثبت عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم لما سألوه عن كيفية الصلاة،(4/382)
قالوا له السلام قد علمنا فبين لهم كيفيتها وقال لهم والسلام كما قد علمتم، وقد كان علمهم كيفية السلام في التشهد وهي: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته))، كما في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح. وبعد هذا لا يبقى وجه لتجويز حمل التسليم هنا على معنى الانقياد كما زعمه الجصاص وغيره، ويا لله من الجري وراء الاحتمالات، والغفلة عن التفسير النبوي الصحيح الثابت المأثور. وقوله تعالى: {تَسْلِيمًا}، مصدر مؤكد، والتأكيد بالصدر يكون لرفع احتمال المجاز كما في "قتلته قتلا" دفعا لتوهم المجاز عن الضرب الشديد، ويكون لتثبيت معنى الفعل من جهة الحدث ببيان أنه فرد كامل من نوعه لا نقص فيه كما في "أكرمت زيدا إكراماً" بمعنى أن الذي كان منك له هو إكرام لا شبهة فيه- والتأكيد هنا من هذا النوع- فإن المسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكمل سلامه إلا إذا طابق قلبه ولسانه وجرى على مقتضاهما عمله، فلم تكن منه للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا السلامة في دينه وكتابه وأمته، وهذا هو الذي يقال فيه أنه سلم تسليما.
ونظير هذا ما في الآية الأخرى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فيكون منهم الإنقياد التام لحكمه في الظاهر والباطن بلا أدنى شبهة في العقل ولا أدنى حزازة في القلب ولا أدنى توقف في العمل.
فقد أمرنا بالآيتين بالتسليم الكامل بمعنييه، ليكون هو الغاية التي نرمي إليها، ونسعى في تحصيلها، وحتى إذا أخطانا مرة أصبنا مرات وإذا انحرفنا رجعنا إلى الجادة من قريب ومن داوم على القصد أعين على الوصول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. ومن لازم التوبة أتحف بالقبول، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.(4/383)
وفي قول المربي الأكبر، عليه وآله الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا»، وقوله «سددوا وقاربوا»، جماع السلوك الإسلامي كله إلى غايات الكمال، والله المستعان (1).
__________
(1) ج 6، م 5، ص 1 - 5 غرة صفر 1348ه - جويلية 1929م.(4/384)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-3 -
توقف الصحابة- رضي الله عنهم-، وجوه توقفهم، سؤالهم، أول من سأل منهم، ما يستفاد من هديهم في هذا المقام، لزوم الاقتداء بهم، حديث بيان الكيفية، رواته، ألفاظه، الجمع بينها، الإقتصار على الصحيح من الروايات، كلام الحافظ ابن العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما سمع الصحابة- رضي الله عنهم- الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- من الآية المتقدمة فهموا أنهم أمروا بالدعاء له لأن الدعاء هو معنى الصلاة لغة كما قدمنا.
وإنما الذي أشكل عليهم هو كيفية هذا الدعاء، ووجه هذا الإشكال أمور:
الأول: - علمهم بكمال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ورفعة مقامه عند ربه، وجزيل إنعامه لديه فلم يدروا ما هو النوع الأكمل من الإنعام اللائق بمنصبه الرفيع ليدعوا له به.
الثاني: - إن ألفاظ الدعاء كثيرة وصفاتها مختلفة فما هو أنسبها بمقامه الشريف؟
الثالث: - إن الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر تعبدي والعبادات لا سبيل إليها إلا التوقف. وأكد لهم هذا أن الصلاة قد قرنت بالسلام وقد تقدم لهم التوقيف في السلام فترقعوا مثله في الصلاة.(4/385)
فلما أشكل عليهم الأمر طلبوا منه- صلى الله عليه وآله وسلم- البيان. ففي الترمذي عن كعب بن عجرة لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} الآية، قلنا يارسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، وقوله: "لما" يفيد أن سؤالهم كان عند النزول وقوله "قلنا" يفيد أن السؤال كان من جميعهم ولو كان السائل المتكلم واحد فإنه يتكلم بلسان الجميع لأنهم له موافقون. ومثل هذا قول أبي حميد "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك" وقول أبي سعيد "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي" وأول من سأله- فيما أرى- بشير بن سعد الأنصاري- لأنه لما سأله- صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نصلي عليك"- سكت ثم أجابه بالبيان. والظاهر أن سكوته كان لانتظار الوحي إليه فلما أوحى إليه بالبيان، بين. وجاء البيان متأخرا عن نزول الآية واقعا بعد سؤالهم لأنه من البيان التفسيري وجائز تأخره على الصحيح وهذا من أمثلته.
وهنا نكت من هدى الصحابة- رضوان الله عليهم- في هذا المقام ينبغي التنبه لها والتدبر فيها، فمنها شدة تعظيمهم للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتمام تحريهم في إجلال ذكره واحترام كل ما يتصل بجنابه. ومنها حرصهم على الإتيان بعين ما يختاره الله لهم ويرضاه منهم عن اللفط الأكمل الأفضل الذي يتقربون به إليه في تعظيم حبيبه ومصطفاه- صلى الله عليه وآله وسلم-. ومنها شدة تحريهم لدينهم بتوقفهم فيما كان عندهم محتملا ولم يقطعوا فيه بشيء. ومنها شدة عنايتهم بالعلم، فبادروا إلى طلب البيان ومنها وقوفهم في باب العبادة عند حد التوقيف لأنه لا مجال فيها للرأي ولا مدخل فيها للقياس.
كل هذا من هديهم- رضوان الله عليهم- حق على المسلمين أن يتدبروه ويتبعوهم فيه وينظروا في أمورهم ما هو منها موافق لهديهم(4/386)
أو قريب منه وما هو مباين له بعيد عنه فلا وربك لا يكون الخير إلا في موافقتهم ولا غيره إلا في مخالفتهم. وكل امرئ- بعد هذا- بنفسه بصير.
عدنا إلى حديث بيان كيفية الصلاة. ونقتصر من متونه على الصحيح الثابت المتفق عليه مما في الوطأ والصحيحين. وقد جاء فيها عن أربعة من الصحابة- رضوان الله عليهم-.
الأول: أبو حميد الساعدي عند الثلاثة والشيخان خرجاه عنه من طريق مالك، قال- رضي الله عنه- "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" وفي رواية مسلم "وعلى أزواجه" بزيادة"على" في الموضعين.
الثاني: أبو مسعود الأنصاري في الموطأ وصحيح مسلم ومن طريق مالك رواه مسلم قال: "أتانا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد "ابن ثعلبة" أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك قال فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تمنينا أنه لم يسأله "لأنهم كانوا يكرهون كل ما يرونه أنه يكرهه أو يشق عليه" ثم قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم". وفي بعض روايات الموطأ "كما صليت على إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم" بدون لفظة"آل" في الموضعين وفي بعضها بدونها في الأول.
الثالث: كعب بن عجرة في الصحيحين قال- رضي الله عنه-(4/387)
"سألنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" هكذا أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء من كتاب بدع الخلق. وخرجه في سورة الأحزاب من كتاب التفسير وفي كتاب الدعوات هكذا: "كما صليت على آل إبراهيم" و "كما باركت على آل إبراهيم" بدون "على إبراهيم" في الموضعين وعلى هذا الوجه خرجه مسلم.
الرابع: - أبو سعيد الخدري عند البخاري في أحاديث الأنبياء والتفسير قال- رضي الله عنه-: "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وفي رواية أخرى للبخاري "كما صليت على آل إبراهيم" بزيادة لفظة "آل" وليس في آخرها وعلى آل إبراهيم.
وهذه المتون الصحيحة كلها قد اتفقت واختلفت اتفقت في عمود الكلام وصلب المعنى ومعظم الكلمات واختلفت في كلمات قليلة. فمنها لفظة "على" كما في حديث أبو حميد وهي كلمة ذكرها كحذفها من جهة المعنى لأن حرف العطف مغن عنها فقد تكون في الأصل وأسقطها الراوي نسيانا أو اختصارا وقد لا تكون وزادها من زادها نسيانا أو بيانا ومنها لفظة "الآل" في حديث أبي مسعود فهي ثابتة في رواية من أثبتها وتحتمل السقوط على وجه النسيان في رواية من أسقطها ويحتمل أنه كذلك سمع بدونها وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مرة ذكرها ومرة حذفها. ومنها زيادة عبدك ورسولك(4/388)
في حديث أبي سعيد وزايدة في العالمين في حديث ابن مسعود وذكر الأزواج والذرية، بدون الآل في حديث أبي حميد. والظاهر في هذه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنوع بيانه في المقامات فاختلفت الروايات وهي مختلفة غير متناقضة فتفيد المعاني المتغايرة غير المتضاربة. وهي بهذا نظير اختلاف القراءات في صحيح الروايات.
هذا الذي ذكرناه من الروايات هو الصحيح المتفق على صحته وثبوته ووراءها روايات ليست في درجتها رأينا الاكتفاء بالصحيح عنها. وقد قال الإمام الحافظ ابن العربي في تفسير سورة الأحزاب من أحكامه، بعدما ذكر ثماني روايات- من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما روى مالك "حديث أبي حميد وحديث أبي مسعود فاعتمدوه". ورواية من روى غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها "غير الرحمة" لا يقوى. وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم وهم لا يأخذون في البيع دينارا معينا وإنما يختارون السالم الطيب. كذلك في الدين لا يؤخذ من الروايات عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا ما صح سنده لئلا يدخل في خبر الكذب على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين".
وسنتكلم على كيفية استعمال هذه الروايات المتقدمة عند الذكر والصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في القسم العملي، إن شاء الله تعالى وبه المستعان (1).
__________
(1) ج 7، م 5، ص 1 - 6 غرة ربيع الأول 1348ه - أوت 1929م.(4/389)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-4 -
صيغ الصلاة الثابتة، تفسير الصيغ، لفظ البركة، الأزواج، الذرية، الآل، معناه، اشتقاقه، موارد استعماله، توجيه الخلاف في تفسيره، الراجح منها، آل إبراهيم، تفسيره، دخول إبراهيم فيه، توجيه في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قد حصل لنا مما تقدم في روايات حديث بيان الصلاة أربع صيغ لها:
الأولى: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
الثانية: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين. إنك حميد مجيد".
الثالثة: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
الرابعة:، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على(4/390)
إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم".
فأما الصلاة المطلوبة من الله تعالى في جميع هذه الصيغ فهي مغفرته وثناؤه وتعظيمه وإحسانه وإعطاؤه وكلها ترجع إلى رحته- كما تقدم.
وأما البركة المطلوبة في جميعها أيضا فهي- لغة- النماء والزيادة والمقصود هنا زيادة الخير والكرامة وتكثير الأجر والمثوبة. وفسرت بدوام ذلك وثباته لأن أصل مادة بارك يدل على الثبوت ومنها بروك الإبل وثبوتها على الأرض. وقد يعتبر في الشيء الثابت قوته وزكاوة أصله فيستلزم ذلك كثرته ونماؤه. وعلى هذا الاعتبار جاء لفظ البرك (كحبل) اسما للإبل الكثيرة، في قول متمم بن نويرة:
إِذَا شَارِفٌ مِنْهُنَّ قَامَتْ وَرَجَّعَتْ … حَنِيناً فَأَبْكَى شَجْوُهَا الْبَرْكَ أَجْمَعَا
فتفسيرها بالنماء والزيادة مأخوذة فيه ثباتها ورسوخها فلا يكون خارجا عن المعنى الأصلي للمادة.
وأما أزواجه في الصيغة الأولى فهن أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات عليهن الرضوان.
وأما ذريته فيها أيضا فهم من كان للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، ولادة عليه من ولده وولد ولده ممن آمن به.
وأما الآل في جميعها فهو- لغة- أهل الرجل وعياله، وهو أيضا الاتباع ومن الأول قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- "إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس" ولا خلاف أن المراد بالآل هنا ذوو قرابته من بني هاشم والمطلب أو من بني هاشم فقط أو من بني قصي أو قريش كلها على اختلاف بين الفقهاء في تحديد القرابة المرادة. ومن(4/391)
الثاني قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} والمراد هنا اتباعه في ملته وملكه وسلطانه. ومنه قول الأعشي:
فَكَذَّبُوهَا بِمَا قَالَتْ فَصَبَّحَهُمْ … ذُو آلِ حَسَّانَ يُزْجِي السَّمَّ والسَّلَعَا
قال في "اللسان" يعنى جيش تبع.
وفسر هنا بجميع أمته ممن آمن به، وإليه ذهب مالك، قال النووي: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين.
وفسر بقرابته:
وفسر بأهل بيته- صلى الله عليه وآله وسلم- أزواجه وذريته. وتحقيق هذه المسألة أن لفظة "آل" أصله أول من مادة- ا- و-ل- وقد ثبت تصغيره على أويل فرد التصغير ألفه إلى الواو أصلها فعرفت بذلك مادته المذكورة.
وزعم بعضهم أن أصله أهل وادعوا أنه صغر على أهيل. ولا حجة لهم في ذلك لأننا نسلم مجيء أهيل عن العرب وتمنع أن يكون تصغيرا لآل بل هو تصغير لأهل. وكونه تصغيرا لأهل ظاهر ملفوظ وكونه تصغيرا لآل دعوى لا دليل عليها. وما كان في نفسه دعوى بلا دليل لا يصلح أن يكون دليلا لدعوى أخرى فلم يقم حينئذ دليل على أن آل أصله أهل يعارض الدليل الذي قام على أن أصله أول.
وإذا ثبت أن آل من مادة- ا- و-ل-، وهي بمعنى الرجوع- تقول آل إلى خير بمعنى رجع إلى خير- فئال الشيء هو ما يرجع إلى ذلك الشيء وينتهي إليه بوجه من الوجوه. وعلى هذا جاء استعماله في كلام العرب.(4/392)
قال الفرزدق:
نَجَوْتَ وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْكَ طَلَاقَةً … سِوَى رَبَّةُ التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا
عني فرسا من نسل اعوج وهو فحل مشهور في خيل العرب تنسب إليه الاعوجيات فئاله نسله لأنه يرجع إليه بالنسب.
وقال عبد المطلب بن هاشم- في قصة أبرهة الحبشي لما جاء لهدم البيت داعيا ومستنصرا الله على أبرهة وجنده:
لا هم ان العبد يمـ … ـنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم … ومحالهم غذوا محالك
وانصر على آل الصليب … وعابديه اليوم آلك
فئال الصليب هم الحبشة النصارى عباد الصليب فرجعوا إليه بوجه العبادة والتعظيم.
وآل الله هم قريش سدنة بيته وقطان حرمه، وأواة حجيجه فرجعوا إلى الله تعالى بهذه الأسباب فاتباعه- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقاربه وأزواجه وذريته- كل يصدق عليه آل لأنهم كلهم يرجعون إليه.
وإنما الخلاف في ترجيح المعنى الذي ينبغي حمل اللفط عليه في أحاديث الصلاة فمن فسره بالأزواج والذرية قال لأنهم هم المصرح بهم في الرواية الأولى فحمل إحدى الروايتين على الأخرى.
ومن فسره بالأقارب حمل حديث الصلاة على حديث تحريم الصدقة. والآل هنالك بمعنى الأقارب فلا خلاف. فرجع بالمخنلف فيه إلى المتفق عليه.
ومن فسره بالاتباع رأى أن أتباعه بالإيمان به أمر لا بد منه في(4/393)
الدخول تحت لفط الآل هنا، فإن من كان من أقاربه غير متبع له- كأبي لهب- غير داخل في لفط الآل هنا قطعا. فحمل اللفظ على الاتباع لأنه المعنى المشتمل على الوصف الذي لا بد منه في هذا المقام. وروى أيضا أن هذا المعنى أعم فهو الأنسب بمقام الدعاء.
وكما أن مساق حديث الصدقة عيَّن معنى الأقارب هنالك كذلك مقام الدعاء يرجح معاني الاتباع هنا.
ولا معارضة بين الروايات التي فيها لفط الآل مراد به الاتباع، والرواية التي فيها الأزواج والذرية، لأن تلك جاءت بالمعنى العام وهذه خصصت بالذكر نوعا من ذلك العام لمزية فيه.
فأزواجه وذريته- رضوان الله تعالى عليهم- مصلى عليهم في اللفظ العام على وجه العموم، وباللفظ الخاص على وجه الخصوص لما لهم من مزيد الاختصاص.
ولهذه الأدلة نرى هذا التفسير ارجحها.
وأما آل إبراهيم فقد قال قوم هم ذريته وقال ابن عباس- رضي الله عنه- هم اتباعه على ملته. ونزع بقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} واقتصر على قوله ابن جرير الطبري في تفسير الآية من تفسيره الكبير.
فابن عباس في تفسيره الآل بالاتباع هو سلف مالك في تفسيره له بذلك. وابن جرير في ترجيحه لقوله هو سلفنا في الترجيح.
قال الإمام ابن عبد البر: "آل إبراهيم يدخل فيه إبراهيم وآل محمد يدخل فيه محمد". ومن هنا جاءت الآثارة مرة بإبراهيم ومرة بآل إبراهيم وربما جاء ذلك في حديث واحد. ومعلوم أن قوله تعالى:(4/394)
{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أن فرعون داخل فيهم.
وهذا من طريق مفهوم الإضافة الأحروي لأن المضاف إذا تعلق به حكم بعلة الإضافة فالمضاف إليه أحرى بذلك الحكم وأولى كما تقول: - ما ثبت للتابع بعلة التابعية فالمتبوع أحرى به وأولى. فإذا كان آل إبراهيم مصطفين ومصلى عليهم لأنهم آله أي اتباعه- فهو مصطفى ومصلى عليه بطريق الأحرى للوجه الذي ذكرنا (1).
__________
(1) ج 8، م 5، ص 1 - 6 غرة ربيع الثانى 1348ه - سبتمبر 1929م.(4/395)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-5 -
معنى العبد في اللغة، استعماله فيها، ما أقره الإسلام وما أبطله، معنيا الملك. عموم العبودية، وجها إضافة العبد لله، معنى العبادة، لمن تكون؟ مقام العبودية، أكمل العباد، أصدق وصف المخلوق، تواضعه، معنى الرسول، توجيه الترتيب. حديث الإطراء ومعناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أما قوله "عبدك" في حديث أبي سعيد عند البخاري فالعبد - قال الأئمة- "خلاف الحر" والحر من لا ملك لأحد عليه، فالعبد هو المملوك، والعبودية هي طاعته مع الخضوع والتذلل (1). والملوكية التي هي أصل المعنى مستلزمة لها. وجاء في كلامهم مضافا إضافة ملك للبشر فقالوا عبد زيد أي مملوكه. وإلى الخالق تعالى مالك الجميع فقالوا عبد الله، وإلى معبوداتهم الباطلة فقالوا عبد العزى وعبد اللات بناء على شركهم وزعمهم أن طواغيتهم تملك مع الله وإن كان هو مالك الجميع، كما كانوا يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك".
جاء الإسلام فأقر إضافتين وأبطل واحدة، وذلك أن الملك أما ملك
__________
(1) قال بعضهم أن العبد مأخوذ من الطريق المعبد أي المدلل بوطيء الأقدام. وهذا ليجعلوا الذل من مفهوم العبد. وأنا أرى أن الذل لازم لمفهوم العبد وهو المملوك وأنه هو أصل المادة وأن المعبد- اسم مفعول مشتق- هو المأخوذ منه فمعبد معناه مذلل كما يذلل العبد.(4/396)
حقيقي ثابت بالخلق والحفظ والإنعام وهذا ليس إلا لله فكل أحد فهو عبد الله. وأما ملك مجازى متنقل بسبب معاوضة أو عطية أو إرث وهذا هو ملك العباد وعلى هذا المعنى يقال عبد زيد أي مملوكه. وأما الطواغيت فلا ملك لها بالوجهين فلا تجوز إضافة العبد إليها. وقد جاء في إضافة الملك المجازي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي، ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي" والنهي عن هذا لما فيه من التطاول والتعاظم والارتفاع ولا بأس به إذا كان في النادر للبيان والتعريف.
العبودية لله وصف عام ثابت في كل مخلوق، فكل مخلوق هو عبد لله مملوك له، في دائرة خلقه، وقبضة أمره، خاضع ذليل منقاد لتصرفات قدره.
والعبد يضاف لله تعالى بهذا المعنى إضافة عامة لا فرق فيها بين بر وفاجر، وقد قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.
ويضاف إليه إضافة خاصة إذا كان العبد قد عرف عبوديته لربه علماً، وقام بواجبها عملاً، فأطاع مولاه طاعة المملوك لمالكه عن علم واختيار. بذل وخضوع وانكسار، بلا امتناع ولا اعتراض ولا استكبار، وقد جاء على هذا قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ومنه قوله {عبدك} هنا.(4/397)
والعبد المضاف إلى الله تعالى بهذا الوجه هو المملوك المطيع، وطاعته بذل وخضوع هي عبادته. ولما كان ليس مملوكا إلا لله فلا تكون طاعته إلا لله فلا يجوز لأحد أن يطيع أحداً إلا في طاعة الله فتكون طاعته في الحقيقة لله، فطاعتنا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هي- بالقطع- طاعة لله، وطاعتنا لغيره لا تجوز إلا إذا عرفنا أنها في مرضاة الله. وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» رواه الشيخان وأبو داوود والنسائي عن علي رضي الله عنه وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه، عن عمران والحكم بن عمر والغفاري رضي الله عنه.
ولما كانت الطاعة- التي هي العبادة- بها يحصل الكمال الإنساني للفرد في عقله وأخلاقه وأعماله، وللنوع في اجتماعه وعمرانه، وهذا الكمال هو سعادة الدنيا- المفضية إلى السعادة الكبرى في الحياة الأخرى - كانت العبودية أشرف حال وأعظم مقام وأفضل وصف للإنسان، وكان أفضل إنسان أرسخ الناس قدما في هذا المقام. ولما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك كان أفضل الخلق وكان- كما قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «سيد ولد آدم ولا فخر» - ولهذا ذكر بوصف العبودية في مقام التقريب والتكريم في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وفي مقام الترفيع والتعظيم في آية الإسراء وجعل على مقتضى ذلك وصفه به في ذكر الصلاة ومقام الثناء والدعاء.
ولفط العبد كما أنه أكمل وصف للإنسان على ما بينا- هو أصدق وصف له وأشده بعدا عن الكبرياء والعظمة والترفع.(4/398)
ولذا لما خير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين أن يكون نبياً عبداً، فإن الملك لا بد له من مظاهر السيادة والسلطان، وإن كان بعدل وحق كملك داوود وسليمان- عليهما الصلاة والسلام- فاختار النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكون نبيا بدون هذا المظهر وكان الذي اختار أفضل.
وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- في جميع حياته على أكمل حال في التواضع الذي هو من مظاهر كمال عبوديته لربه وكان يقول - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».
وأما قوله "ورسولك" في الحديث المذكور فإن الرسول هو من بعثه الله تعالى- فضلا منه- ليبلغ شريعة، وقيامه بأعباء الرسالة هو من طاعته وعبوديته لربه.
فقدم لفط العبد على لفط الرسول تقديم العام على الخاص، وتقديم (1) الشرط على المشروط فإن الرسالة لا يفضل بها الله تعالى إلا أكمل عباده و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وتقديم الترتيب لأنه كان عبداً قبل أن كان رسولاً، ولأن العبودية للخالق، والرسالة فيها انصراف- بأمر الله- للخلق.
والعبودية والرسالة هما الوصفان اللذان أمرنا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا نتجاوز حدهما في الثناء عليه. فقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» فنهانا عن إطرائه في المدح وهو
__________
(1) لا تنس أن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود فلا يلزم من وجود كمال العبادة- فرضا- وجود الرسالة لأن النبوة لا تكتسب.(4/399)
المبالغة والغلو بوصفه بما لا يجوز كما غلت النصارى في عيسى- عليه الصلاة والسلام- فادعت فيه الألوهية ونسبت إليه ما لا يكون إلا لله، وبين لنا طريقة مدحه- صلى الله عليه وآله وسلم- بذكر كل ما لا يخرج به عن كونه عبداً من كل كمال، وبذكر كل ما يليق برسالته من عظيم الخصال. عليه وآله الصلاة والسلام (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 5، ص 1 - 5 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.(4/400)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-6 -
مبلغ صلاة الله على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وجهان في معنى التشبيه، نكتة التشبيه، سؤال على الوجه الثاني وجوابه، نكتة أخرى في التشبيه، معنى في العالمين، معنى حميد مجيد، نكتة الختم بهذه الجملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: "كما صليت على آل إبراهيم" و"كما باركت على آل إبراهيم" في حديث أبي حميد وابن مسعود. و"كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" في حديث كعب بن عجرة- يفيد أن المصلي يسأل من الله تعالى صلاة وبركة لمحمد وآله في المستقبل مثل ما كان منه تعالى من صلاة وبركة على إبراهيم وآله في الماضي، هذا يسأله المصلي في كل مرة من صلاته ويستجاب سؤاله كلما سأل، فكم تكون صلوات الله تعالى وبركاته على محمد وآله في المستقبل، وهي أثر كل صلاة مصل تكون مثل ما حصل في الماضي منه تعالى لإبراهيم وآله، أن مقاديرها - على هذا- تبلغ إلى ما تعجز عن حصره العقول، وهي لا تزال متزايدة بقدر صلاة المصلين تزايداً فوق متصور البشر.
والكاف في قوله "كما" تفيد التشبيه والإلحاق وهذا يحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن يكون ذلك في أصل الصلاة بقطع النظر عن مقدارها فلكل ما يناسب مقامه في الفضل والأفضلية من المقدار.(4/401)
كما تقول لمن تقدمت منه عطية لبعض أقاربه: أعط هذا القريب الأقرب كما أعطيت ذاك القريب، تقصد أصل العطاء دون مقداره ضرورة أن ما يستحقه القريب الأقرب أكثر مما يستحقه القريب، وجاء على هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. فالمقصود أن يكون منه إحسان كما كان من الله تعالى إليه، ولا يمكن أن يكون ما يصدر منه من إحسان مماثلاً لما لله عليه منه.
وتكون نكتة التشبيه إلحاق المتأخر وهو الصلاة والبركة المسؤولتان لمحمد وآله بالسابق المشتهر وهو الصلاة والبركة المعطاتان لإبراهيم وآله، فالمقصود أن تكون هاته ظاهرة مشتهرة في الخلق كما كانت تلك فيهم.
الوجه الثاني: أن يكون التشبيه في مقدار الصلاة والبركة ويكون المطلوب هو المقدار المماثل كما تقول لمن أعطى زيدا عشرة دراهم: أعط عمرا كما أعطيت زيدا. ونكتة التشبيه في هذا الوجه هي نكتته في الأول.
وعلى هذا الوجه يقال كيف يطلب له- صلى الله عليه وآله وسلم- صلاة وبركة مثلما حصل لغيره وهو أفضل من غيره وبمقتضى كونه أفضل لا يطلب له إلا ما هو أفضل، ويجاب بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان شديد التعظيم لأبيه إبراهيم- عليه السلام- والتواضع في جانبه، فكان هذا الطلب على مقتضى ذلك التعظيم وذلك التواضع، وفي ذلك تعليم وتأديب لأمته.
ثم في هذا التشبيه إشادة بذكر إبراهيم- عليه السلام- وإبقاء له على ألسنة هذه الأمة، وفي هذا اعتراف بفضل هذا النبي القانت الحنيف الذي هو على ملته، واحتجاج على أهل الكتاب الذين يعظمونه مثلنا وقد حادوا عن ملته الحنيفية بذهابهم في أودية الشرك واتخاذ بعضهم(4/402)
بعضاً أرباباً من دون الله، وجزاء له - عليه السلام- في دعوته لنبينا فيما حكاه القرآن بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وقوله "في العالين" أي في أجناس الخلق- يفيد أن صلاته تعالى وبركاته على إبراهيم وآله كانت ظاهرة مشتهرة- علماً وأثراً- في أجناس المخلوقات، وقد سئل في صيغة الصلاة أن تكون صلاته وبركاته على محمد وآله مثل ذلك.
ولفط "في العالين" مذكور في القسم الثاني قسم البركة دون القسم الأول قسم الصلاة وأرى ذلك من الإيجاز بالحذف من الأوائل لدلالة الأواخر.
وقوله "حميد" من الحمد إما بمعنى حامد، حول ليفيد التكثير وهو جل جلاله يحمد فعل الخير من عباده ويثيبهم على القليل بالكثير.
ومناسبة اسم "حميد" لختم هذه الصلاة أن هؤلاء من عبادك المتقين الذين تتفضل عليهم بحمدك، فمن حمدك لهم أن تصلي وتبارك عليهم.
وإما بمعنى محمود ومناسبته حينئذ أنك ذو الكمال والإنعام اللَّذين تحمد عليهما فمن إنعامك وإحسانك صلاتك وبركتك.
وقوله "مجيد" من المجد والشرف بمعنى ماجد يفيد عظمة مجده وشرفه في ذاته وصفاته وأفعاله.
ومناسبته للإسم السابق أن حمده لخلقه- وطاعتهم بفضله وتيسيره- من مجده وشرفه، أو أن كماله وإنعامه اللذين يحمد عليهما هما فوق كل كمال وفوق كل إنعام على ما يليق بمجده وشرفه.(4/403)
ومناسبة ختم الصلاة بهذا الإسم أن من مجده وشرفه- جل جلاله- هذه الإنعامات العظيمة والخيرات الجسيمة المتوالية على مخلوقاته ومنها هذه الصلاة والبركة المسؤولتان لأكرم خلقه وجميع آله.
وبهذا التقرير يظهر أن جملة "إنك حميد مجيد" هي تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما هو عام ومشتمل على معناه- فإن الصلاة والبركة من مقتضى الحمد والجد- نظير قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1).
__________
(1) ش: ج 10، م 5، ص 1 - 5 غرة جمادى الثانية 1348ه - نوفمبر 1929م.(4/404)
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
-7 -
القسم العملي: حكمها، القصد بها، أفضلها، استعمال صيغها المحافظة على الوارد منها، التحذير من الغفلة، من اللحن، من تركها عند ذكره، من ذكرها للغضبان، من ذكرها للزغرته، من هجر الوارد، من كتاب التنبيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم العملي:
الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- واجبة مرة في العمر، وذهب الشافعي إلى وجوبها في التشهد الثاني من الصلاة وقيل بوجودها عند ذكره، وثبت الترغيب فيها أثر حكاية الأذان ويوم الجمعة وليلتها، وعند الدعاء ثم ما شاء حسب الطاقة.
ويقصد المصلي بصلاته امتثال أمر الله ورجاء ثوابه والتقرب إليه بذكر نبيه على وفق أمره وقضاء بعض حقه والمكافأة بقدر جهدنا لبعض إحسانه وإظهار تمام المحبة فيه والاحترام له وصحة العقيدة في دينه.
وصيغ الصلاة كثيرة والأمر فيها واسع وأرفعها قدراً وأعظمها نفعاً هي الصيغة التي قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه - وقد سألوه- في معرض البيان وبيانه لهم بيان لجميع الأمة بعدهم وهو أعلم الناس بما ينفع وأحرص الناس على جلبه لأمته، فلا أنفع ولا أرفع مما جاء به من عند ربه واختاره لأمته.(4/405)
والأكمل أن يحفط الصيغة النبوية بروايتها ويستعملها مرة برواية ومرة بغيرها حتى يكون قد استعملها كلها ولو اقتصر على بعضها لكان كافياً.
وعندما يأتي بالصلاة النبوية بإحدى رواياتها يحافظ على لفظها بدون زيادة شيء من عنده عليها ولا أن ينقص شيئا منها لأن الصيغة الواردة توقيفية متعبد بها والتوقفي في العبادات يؤتى بنص لفظه بلا زيادة ولا تنقيص ولا تبديل.
وأصل هذا حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- في الصحيح لما قال: "وبرسولك الذي أرسلت" قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا، وبنبيك الذي أرسلت» فلم يقره على تبديل لفظ النبي بلفظ الرسول على تقاربهما لأن الصيغة متعبد بها والحديث في باب "إذا بات طاهراً" من كتاب الدعوات من صحيح البخاري.
التحذير:
مظهر الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كسائر الأذكار وهو اللسان وثمرتها في الأعمال ومنبتها هو القلب فليحذر المصلي من الغفلة عند جريان الصلاة على لسانه.
والصلاة النبوية صيغة تعبدية فليحذر من اللحن فيها.
وجاء وعيد فيمن تركها عند ذكر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فليحذر من تركها عنده وخصوصاً من اعتياد تركها.
وقد اعتاد بعضهم أن يقول لصاحبه عند الغضب "صل على النبي" وهذا وضع لها في غير محلها وتعريض للإسم الشريف إلى ما لا يليق من قد يكون عند جنون الغضب من تقصير أو سوء أدب فليحذر من هذا ومثله.(4/406)
وقد جرت عادة بعض الناس في ليالي زرداتهم أن يرفعوا أصواتم مرة على مرة "الصلاة على النبي" فتجيبهم النساء من وراء الحجاب برفع أصواتهن بالزغرتة حتى يرتج المكان، ومن أبشع المنكر أن تستعمل عبادة من أشرف العبادات في إثارة هذه المعصية النسوانية فليحذر من ذلك وليغيره بما قدر عليه.
وقد هجر الناس الصلاة النبوية التوقيفية واقتصروا على غيرها، وزاد بعضهم فقال أن غيرها أنفع منها، فليحذر من هذا الهجر ومن هذا القول، فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أنفع الخلق وأرفعهم، وفعله أرفع الأفعال وأنفعها، وقولها أرفع الأقوال وأنفعها، فليجعل أصل صلاته الصلاة النبوية المروية وليجعل بعدها ما شاء.
ومن الكتب المشهورة بين الناس في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كتاب تنبيه الأنام وفيه موضوعات كثيرة لا أصل لها فبينما قارئه في عبادة الصلاة إذا هو في معصية الكذب فليكن منه على حذر.
والله يفتح علينا في العلم ويوفقنا في العمل له الحمد في الأولى والآخرة رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 11، م 5، ص 7 - 9 غرة رجب 1348ه - ديسمبر 1929م.(4/407)
آثار ابن باديس
قسم الفقه والفتاوى(4/409)
الأسئلة والأجوبة
-1 -
1 - س: هل يجوز كراء الأسواق العامة، وأخذ ثمن الدخول على أرباب المواشي والسلع؟ (سائل من الميلية)
ج: المعروف أن هذه الأسواق هي ملك للبلدية وإذا قلنا هي ملك للبلدية فهي ملك للعامة التي تنوب عنها البلدية فللبلدية أن تبيع منفعتها بثمن معلوم إلى أجل معلوم فيجوز اكتراؤها منها ذلك. ويجوز للمكتري أن يكري الانتفاع بها كذلك فيجوز له أن يأخذ على كل داخل لماشيته أو سلعته أجرا في مقابلة انتفاع ذلك الداخل بالمكان الذي يحل فيه والذي هو مملوك المنفعة لصاحب السوق. ونظيره من اكترى اصطبلا ثم يأخذ على أرباب المواشي أجرة بقاء مواشيهم في إصطبله مدة محدودة.
2 - س: إمام جمعة يسكن بقرية بعيدة عن قرية الجمعة بنحو خمسة وثلاثين كيلو، هل تصح إمامته بالقرية التي يؤم بها للجمعة وهو ليس من سكانها؟ (سائل من فج مزالة)
ج: المسافر هاته المسافة لا يقصر الصلاة فإذا حل بقرية جمعة فالجمعة عليه واجبة فتصح إمامته بها. والمسافر الذي لا تصح إمامته للجمعة هو الذي يكون مسافرا مسافة القصر لأن الجمعة حينئذ لا تجب عليه، فإمامته بها تصير صلاة أهل القرية خلفه كصلاة مفترض خلف متنقل وذلك لا يصح، ولهذا إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام صحاح(4/411)
وجبت عليه الجمعة وصحت منه الإمامة (1).
-2 -
3 - س: هل يجوز تولي خطة الكتابة عند القائد وأخذ الأجرة عليها، وهل يجوز كذلك ما في معناها من رتبة الدائرة والعساس أم لا يجوز؟ (سائل من القرارم)
ج: كل خطة من مثل ما ذكر في السؤال إذا لم يكن فيها ظلم ولا إعانة ظالم فجائز توليها وأخذ الأجرة في مقابلة القيام بها.
4 - س: إذا ضرب إنسان دجاجة أو شاة بحجر أو عمود فأصابها وبقيت تتخبط من ذلك الضرب فبادر إليها الضارب أو غيره فذبحها فهل تؤكل أم لا؟ (منه أيضا)
ج: إذا أدركها غير منفوذة المقاتل فإنه يذكيها ويأكلها اتفاقا. وإذا كانت منفوذة القاتل فالذكاة لا تفيد فيها في مشهور مذهب مالك وتفيد فيها في مذهب الشافعي وجماعة من المالكية وهي فسحة ينبغي اعتمادها.
5 - س: هل نصاب الزيت معتبر بالحب أو بالزيت وما هو مقدار نصابه والقدر الذي يخرج من حبه أو زيته؟ (منه أيضا)
ج: النصاب معتبر بالحب وهو خمسة أوسق وفي الوسق ستون صاعا وفي الصاع أربعة أمداد والمد ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين وهذا تقريب فيه تسهيل على الناس في هذا الأمر العام
__________
(1) ش: ج 1، م 6، ص 58. غرة رمضان 1348ه - فيفري 1930م.(4/412)
ليس فيه تشديد بالنقير والقطمير والحبة والقمحة فلا تكن من المتنطعين. والإخراج يكون من زيته إلا أن يكون باعه حبا فيخرج من ثمنه أو أهداه أو أكله حبا فيخرج من قيمته والقدر المخرج هو العسر إلا إذا كان سقاه بآلة فنصف العشر.
6 - س: هل يجوز للمرأة أن تستعمل دواء يمنعها من الحمل لأنها ضعيفة بالمرض؟ (منه أيضا)
ج: أصل هذه المسألة هو العزل أي عدم إنزال الرجل المني في الفرج وهذا كرهه بعض، والمشهور في المذهب جوازه بإذن المرأة الحرة لحقها في الوطء والإنزال من تمام لذتها وفي العزل منع للولادة فيقاس عليه شرب الدواء لمنع الولادة فيجوز ما لا يلحق ضررا بالجسم إذا كان بإذن الزوج لأن له حقا في الولد وإذا كانت ضعيفة عن الولادة فلا تتوقف على إذنه.
7 - س: هل يجوز للمرأة الحامل المطلقة أن تتزوج في عدتها قبل وضع حملها إذا لم تجد ما ينفق عليها؟ (سائل من جبل عياض)
ج: إن المواعدة في العدة حرام وكذلك النفقة عليها لأنها في حكم صريح المواعدة فكيف بالتزوج فهو حرام بلا خلاف لنص الآية.
تنبيه:
وقع لنا في السؤال الثاني في الجزء الماضي خطأ، وصوابه أن من
كان خارجا عن فرسخ من قرية الجمعة لا تصح إمامته إلا إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح سواءا كان بعيدا على مسافة القصر أو دونها (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 6، ص 128 - 129 غرة شوال 1348ه - مارس 1930م.(4/413)
المباحثة والمناظرة:
كراء الأسواق
من الإجارة لا من المكس (1)
-1 -
المكس في اللغة هو النقص ويطلق على ما يؤخذ من بائع السلعة ظلماً والمكاس هو الآخذ لذلك، وجاء في شأنه من الوعيد حديث «لا يدخل الجنة صاحب مكس» رواه أبو داوود وغيره. وقد كانت الأسواق ملكاً مشاعا بين الناس يقفون فيها بسلعهم فكان أخذ فرد المكس منهم ظلما لهم هذه هي حالة الأسواق في العهد القديم، أما اليوم فإن أوضاع الأسواق صارت على شكل آخر وذلك أن العامة الذين هم ملاك الأسواق وغيرها من الأماكن العامة يحتاجون في القيام بمصالحهم المدنية من تنظيف أقنية وإنارة شوارع وتعبيد طرقات ونظام أمن، وغير ذلك من المرافق التي تتولاها المجالس البلدية فكانت البلدية تتصرف في الأسواق التي هي ملك للعامة في مصلحة العامة وكانت العامة المالكة لتلك الأسواق قد نوبت عنها نوابا فوَّضت لهم أن يتصرفوا في ممتلكاتها لأجل مصلحتها فأولئك النواب الذين هم وكلاء العامة هم أعضاء البلدية يعرض السوق للكراء بالمزاد فيكتريه زيد أو عمر فهذا المكتري قد اكترى شيئا معينا بثمن معين من نواب مالكيه، وهم العامة فقد وجدت أركان عقد الإجارة كلها فكان هذا العقد لذلك صحيحا جائزاً.
__________
(1) أعيد هذا المقال في ش: ج 3، م 9، ص 151 - 153 غرة ذي القعدة 1351ه - مارس 1933م.(4/414)
ثم إن هذا المكتري يقف عند باب سوقه في أيام السوق، فكل من يريد الدخول لمحله- وهو السوق الذي يملك منفعته بالعقد السابق - يدفع أجرة الانتفاع بالبقعة التي يقف فيها بسلعته مدة بقاء السوق في ذلك اليوم سواء أباع تلك السلعة أم لم يبعها، فهذا أيضا عقد على الانتفاع بالبقعة مدة معلومة بثمن معلوم فهو صحيح جائز.
لا يقال إن المكتري لا يلاحط منفعة البقعة وإنما يلاحظ ما يأخذه عن ثمن المبيعات لأننا نرى أن البقعة هي المقصودة لا ثمن المبيعات بدليل أنه يأخذ أجرة البقعة سواء أباع أم لم يبع وسواء أباع بالقليل أم بالكثير. ولا يقال أن المكتري للسوق يأخذ عن كل ما يأتي للبلد ولو كان بعيدا عن السوق لأن كلاً منا فيمن يأخذ عن الموضع الذي اكتراه بحدوده وأما الأخذ في غير المكان المكتري بحدوده فهو غير داخل في كلامنا. وليس الفتوى فيه. ولا يقال أن العقد الأول فيه غرر لأن مكتري السوق قد تساعده الأحوال فيربح وقد تعاكسه فيخسر لأننا نقول! هذا الشأن في التجارة بيعاً واكتراء، ولا يضر هذا إذا كان ثمن البيع والكراء معلوماً كما هو في موضوعنا، ومثل هذا من اكترى فندقاً فإنه قد يربح وقد يخسر ولا يقال أنه فرق بين كراء بقعة لتقف فيه الدابة حتى يأتيها صاحبها، ويكون صاحب البقعة حارساً لها، وبين كراء البقعة لتقف فيها الدابة لتباع وصاحبها هو حارسها-، لأننا نقول المقصود هو الانتفاع يالبقعة منفعة صحيحة سواء كانت وضع سلع أو وقوف دابة لأي غرض كان، إذ الجميع انتفع بالبقعة، ودعوى الفرق بين ثمرات الانتفاع لا وجه لها. من هذا البيان يعلم أننا لا نريد تحليل المكس "عياذاً بالله" وإنما نريد أنه غير منطبق على كراء الأسواق واكتراء الانتفاع بالوقوف فيها يوم السوق، وأن العقد الأول ما بين صاحب السوق ونواب العامة والثاني بين صاحب السوق ومريد الوقوف فيه بسلعته، من عقود الإجارة الصحيحة الجائزة.(4/415)
الدواء لمنع الحمل والعزل:
قيل لنا أنكم أجزتم الدواء لمنع الحمل للمرض والضعف وعدم القدرة على الحمل قياساً على جواز العزل مع أن العلة وهي المرض والضعف وعدم القدرة على الحمل موجودة في المقيس دون المقيس عليه. فقلنا وجود هذه العلة في الفرع يجعله أحرى بالجواز من أصله. فسقط السؤال ولو لم تكن هذه العلة المذكورة لما كان فرق بين العزل واستعمال الدواء للامتناع من الحمل. اللهم إلا أن يكون من جهة أن الدواء قد يؤدي إلى ضرر بدني أو إلى منع الحمل بتاتا وحينئذ يكون منع استعمال الدواء لسبب آخر، غير أصل استعماله وهذا ليس هو الواقع في السؤال الذي كان عليه الجواب (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 6، ص 234 - 236 غرة ذي الحجة 1348ه ماي 1930م.(4/416)
كراء الأسواق
-2 -
تكلمنا على هذه المسألة في جزء رمضان سنة 1348 ثم في جزء ذي الحجة من السنة نفسها وكنا نعلم أن المسألة نظرية تحتاج إلى أخذ ورد بين أهل العلم وكنا ننشر ما يأتينا منهم لو أتانا منهم شيء كما هي عادتنا. واليوم بعد مضي ثلاث سنوات نشر الشيخ الحافظي مقالا في المسألة ونحن نرحب بكل بحث علمي مخلص نزيه غير أننا نقول لحضرة الشيخ ما أخَّرك عن إبداء رأيك في المسألة إلى اليوم والشهاب من أقرب الصحف إليك، وقد نشر لك في هذه السنوات الثلاث عدة مقالات. وقد استشعرت هذا السؤال الذي يتبادر من نفسه إلى ذهن كل أحد فقلت في مقالك هكذا: "قد كان لزاما أن يرد عليها في الحال لو أن هذا العدد من المجلة موجود تحت يدي والآن حيث عثرت عليه بادرت إلى إبطال هذا القول" سبحان الله ما هذا الجواب يا حضرة الأستاذ؟. إن الشهاب من يوم تأسيسه ما زال يرسل هدية إليكم إلى يومنا هذا فكيف يغيب عنكم إلى اليوم، دعنا من هذا فللناس عقول تعرف بها وتميز.
ولما كان كلامنا في المسألة قد نشر منذ مدة طويلة فإننا نعيد نشره لتعلم وجهة نظرنا ولينظر أهل العلم في المسألة وأقوال الطرفين فيها ويكتبوا ما يظهر لهم ونحن نتكفل بنشره.
وإليك نص السؤال وجوابه من جزء رمضان سنة 1348ه(4/417)
1 - س: هل يجوز كراء الأسواق العامة، وأخذ ثمن الدخول على أرباب المواشي والسلع؟ للسائل من الميلية.
ج: المعروف أن هذه الأسواق هي ملك للبلدية وإذا قلنا هي ملك للبلدية فهي ملك للعامة التي تنوب عنها البلدية فللبلدية أن تبيع منفعتها بثمن معلوم إلى أجل معلوم فيجوز اكتراؤها منها ذلك. ويجوز للمكتري أن يكري الانتفاع بها كذلك فيجوز له أن يأخذ على كل داخل لماشيته أو سلعته أجراً في مقابلة انتفاع ذلك الداخل بالمكان الذي يحل فيه والذي هو مملوك المنفعة لصاحب السوق ونظيره من اكترى اصطبلا ثم يأخذ على أرباب المواشي أجرة بقاء مواشيهم في إصطبله مدة محدودة.
__________
ش: ج 3، م 9، ص 151 غرة ذي القعدة 1351ه - مارس 1933م.(4/418)
قسم الفتوى
-1 -
سؤال:
سادتي العلماء الأعلام، حمال الشريعة، ما قولكم حفظكم الله وأعلى مناركم في عرش من سكان البادية يحتوي على مائتين وخمس وثلاثين دارا "قرى صغيرة وديارا متفرقة"، وستمائة رجل متوغلين في البداوة ذوي غلظة وفظاظة يخاف الراكب أن يجوب وأصقاعهم نهارا.
رأى بعض المصلحين أن ينقذهم مما هم فيه ويستل منهم أخلاقا فاسدة وعوائد ممقوتة ولا سبيل إلى ذلك إلا ببناء مسجد يجمعهم ومعلم حادق يعلمهم واجبات دينهم ويربيهم تربية شرعية إصلاحية ويغرس في نفوسهم روحاً وطنية وشهامة عربية وأخلاقاً دينية، فعود الشيوخ وأن عسى، فإن فنن الكهول لين وغصن الشباب لا زال رطباً مياداً تهزه نسمات الصبا ولا يحرك عواطفه ريح السموم فأرشدهم إلى بناء مسجد يصلون فيه، ويتعلمون واجبات دينهم فأجاب كلهم بالسلب إلا أن تصح وتقام فيه الجمعة، ورأى أن لا بد من إجابة رغبتهم وإلا فإنهم لا يرجعون عما هم فيه ولأن الجمعة هي التي تجمعهم، فبنوا مسجد جمعة منذ عامين وأقاموا فيه درارا (1) ومدرسا قام فيهم بالوعظ والإرشاد والدروس العلمية النافعة فحصلت النتيجة والحمد لله، فقام بعض من يبغونها عوجا ويودون لو يبقى هذا العرش المسكين في غفلة
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: دارا.(4/419)
وتيه من الجهالة ليأكل من لحمه ويشرب من دمه ويودع فيه سمومه القتالة وأمراضه الوبئة شأن من ينتسب إلى الولاية المزعومة والدعاية الفارغة وحكم ببطلان الجمعة محتجا بأن المسجد لم يكن وسط القرية ولم ينعكس عليه دخانها.
المسجد وإن لم يكن في وسط القرية حقيقة فهو فيها حكما لأن ديار العرش وقراه مسترسلة وحائطة بالمسجد من كل جهة هذه أثر هذه وأقرب دار إليه تبعد عنه بعشر مترات.
وما هي فائدة انعكاس الدخان إذا حصل المطلوب، أو قرب الدار إذا لم يكن نافعا.
على أن قرب الدار ليس بنافع … إذا لم يكن للمرء في الدين وازع
والمسجد لا ينفك مفعما بالمصلين مملوءة بهم رحابه، والعرش إن حكمنا عليه ببطلان الجمعة تفرق شذر مذر ورجع إلى سيرته الأولى. وعاثت فيه يد الدجالين بالسلب والنهب.
أفيدونا الجواب أجركم الله لينزجر الكائد ويطمئن الرائد.
برج الغدير: مسترشد
الجواب:
ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث وإنما ترجع المسألة للنظر، وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال ولكن الإمام الآبي تلميذ ابن عرفة بعد ما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم فقال: "والأظهر أنهم إن كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا لأنهم- وهم كذلك- بحكم القرية المتصلة البنيان" وما قاله الآبي نقظه الحطاب وسلمه وزاده(4/420)
تأييدا بما نقل من جزم صاحب الطراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت، وما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعاون فإذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وإن انفصلت بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال إذا كانت بيوتها على هذا الوجه فإنها تجمع ولا يضرها الانفصال.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: س 1 العدد 30 الجزائر يوم الجمعة 12 جمادى 1/ 1355ه الموافق ليوم 31 جوليت 1936م، الصفحة: 6 العمود 3 والأول من ص 7.(4/421)
قسم الفتوى
-2 -
"كنا أعلنا حسب قرار المجلس الإداري للجمعية أن من أراد السؤال عن أي مسألة تهمه فليراجع فيها الأستاذ (عبد الحميد بن باديس) وهو يتولى الجواب عن سؤاله إما بالكتابة إليه رأسا أو بنشره على صفحات هذه الجريدة، ولكن لا يزال كثير من الناس يوجهون أسئلتهم إلينا ونحن بالطبع نحيلها إلى الأستاذ ابن باديس ولذلك قد يتأخر الجواب عنها، وقد جاءنا من الأستاذ الأجوبة الآتية عن أسئلة موجهة إلينا ننشرها فيما يأتي، (1):
سؤال عن حديث: يا بن آدم مرضت فلم تعدني.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد فالمراد من الحديث تأكيد حقوق العباد على العباد بأنها من حقوق الله وأن الله آمر بها ومجاز عليها ووجه التأكيد هو جعل ما يكون منهم من الطلب كأنه منه وأنه حاضر عند الإحسان وذلك بحضور جزائه وسرعته والله أعلم.
قاله وكتبه خادم العلم وأهله:
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ليس من كلام ابن باديس.(4/422)
وسأل سائل عن جواز لباس الرجال مثل لباس النساء، وظهورهم في زيهنَّ على خشبة المسرح، فكان الجواب من رئيس الجمعية كما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل، رواه أبو داوود وغيره بسند رجال الصحاح وروى أصحاب السنن عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهون (1) من الرجال بالنساء، وبهذه الأحاديث النبوية علم أن تزيي الرجل بزي المرأة الواضح من السؤال حرام لأن اللعن لا يكون إلا على المحرم.
عبد الحميد بن باديس
وسأل آخر هل اتصال البنيان في القرية شرط في صحة الجمعة فكان الجواب ما يأتي:
ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث إنما مرجع المسألة للنظر وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال ولكن الإمام الآبي تلميذ ابن عرفة بعد ما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم قال: والأظهر أنهم إن كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا. لأنهم- وهم كذلك- بحكم القرية المتصلة البنيان. وما قاله الآبي نقله الحطاب وسلمه وزاده تأييدا بما نقله من جزم صاحب الطراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت، ولما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعاون فإذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وإن انفصلت
__________
(1) كذا فى الأصل وصوابه: والمتشبهين.(4/423)
بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال إذا كانت بيوتها على هذا الوجه فإنها تجمع ولا يضرها الانفصال.
عبد الحميد
وسأل أحد أهالي بلدة (ميشلي) عن أبناء التجنسين بالجنسية الفرنسوية هل يجوز دفنهم في مقابر المسلمين فكان الجواب منه حسبما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد فابن (المطورني) إذا كان مكلفا ولم يعلم منه إنكار ما صنع أبوه والبراءة منه فهو مثل أبيه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإن كان صغيرا فهو مسلم على فطرة الإسلام يدفن معنا ونصلي عليه.
قاله وكتبه خادم العلم وأهله عبد الحميد بن باديس
الجزائر 25 جمادى الأولى 1354ه
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 79، ص 6 ع 1 و2، الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه - 20 أوت 1937م.(4/424)