لكلمات الله وإنعاماته فيقتضي أنه فاق فيهما جميع الخلق. والايمان والمعرفة يقتضيان الطاعات الظاهرة والباطنة فيكون قد فاق في الطاعة جميع الخلق وبهذا كان الاسم متضمنا لأكمل الثناء عليه بأنه أكمل عبد لله علما وعملا.
وهذان الاسمان الشريفان مرتبان في التسمية بهما للخلق والأسبق منهما عند قوم وهم الأكثرون هو أحمد وهو الذي سماه الله به في الإنجيل كما في سورة الصف: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. ثم محمد ااذي سماه به جده توفيقا من الله وهو اسمه في القرآن العظيم كما في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. فالسابق إذا هو أحمد. والذين يذهبون إلى هذا يقولون أن الترتيب بينهما في التسمية على حسب الترتيب الذي بين المقامين المدلولين لهما فإن المقام الأول هو مقام عبوديته وحمده لله، والمقام الثاني هو مقام كماله بأخلاقه وصفاته وأعماله. فهو قد حمد الله أكثر الحمد في مقام عبوديته فجازاه على ذلك بأن كان محمودا مكررا حمده في مقام كمالاته والجزاء من جنس العمل فهو ما كان محمدا حتى كان أحمد وهذا ترتيب ظاهر وجيه. ويكون وجه تقديم اسم محمد في هذا الحديث على هذا القول أنه أشهر أسمائه وأنه اسمه في القرآن العظيم.
وذهب قوم إلى أسبقية اسمه محمد، وأنه سمي به في التوراة، واستدلوا على هذا بأدلة ونقلوا من التوراة نقولا. ووجه التقديم لاسم محمد على هذا القول أنه نظر إلى أنه يوجد على فطرة الكمال ويشب على الكمالات والأخلاق الفاضلة التي يتكرر حمده عليها وقد حمده أهله صبيا رضيا، وحمده قومه شابا سريا وسموه بالأمين ثم لما أنعم الله عليه بالنبوة كان أحمد الخلق لله بما كان له حينئذ من العلم بكمالات الله وإنعاماته. وهو وإن كان مفطورا على الإيمان والعلم والكمال(2/301)
وقد كان حامدا لله من يوم إدراكه لكن حمد النبي الرسول ليس كحمد من لم يكن بعد نبيا رسولا. فعلى هذا النظر من الترتيب يظهر وجه الأسبقية لاسم محمد على هذا القول.
«وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ»: والمحو هو الإزالة. وفسر لنا- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الاسم دون الاسمين السابقين لأن اشتقاقهما كاف في ظهور معناهما، بخلاف الماحي فإنه قد يخفى المراد منه باعتبار الشيء الممحو ولذلك بينه بقوله الذي «يمحو الله بي الكفر».
وهذا المحو الذي كان به- صلى الله عليه وآله وسلم- علمي واما عملي وقد حصل المحو به- صلى الله عليه وآله وسلم- للكفر علميا وعمليا فأما الأول فقد جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بأدلة قاطعة وبراهين ساطعة على صدقه في كل ما جاء به من الحق والهدى والنور جاء من ذلك بما لم يأت به غيره وكل ذلك محو وإزالة للكفر في العالم العالمي. وأما الثاني فإنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء والأرض في ظلمة من الكفر بين ضلال أهل الكتاب ووثنية المشركين وأنواع أخرى من كفر الكافرين فدعا إلى الله وصبر وجاهد، فما مات - صلى الله عليه وآله وسلم- حتى انتشر الإسلام في جزبرة العرب كلها التي كانت سببا في إنقاذ البشربة ومصدرا لهدايتها فهذا محو عملي ومحو آخر وهو أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد زويت وطويت له الأرض حتى شاهد مشارقها ومغاربها وقيل له أنه ستبلغ دعوته إلى ما زوي له منها وقد كان ذلك. ففي الأمد القصير ظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وامحى سلطان الكفر وانهدت عروش الجبابرة عرش القياصرة بالشام وعرش الأكاسرة بالعراق وتتابع المحْو والإزالة.
قال: يمحو الله، لأن الخالق إنما هو لله. ويقول: بي لأنه هو السبب. ويفيد المضارع أن المحو يتجدد وكذلك كان فما زال المحو(2/302)
العلمي يتجدد فما نجمت ضلالة إلا وكان فيما جاء به حجة دامغة لها وما زال المحو العلمي كذلك يتجدد والإسلام ينتشر من نفسه انتشارا لا يلحقه فيه غيره ممن ينفقون في نشر نحلهم الأموال الطائلة ويسخرون القوات المتنوعة الهائلة وليس انتشاره في خصوص الأمم المنحطة بل في الأمم الراقية والذين سبقوا إليه منها هم علماء مما يدل على أن أكبر آيات الإسلام هي آياته العلمية الخالدة. فالمحو يتجدد تجددا مشاهدا مستمرا بهذا النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام.
«وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» الحشر: الجمع وتقدير الكلام على أثر قدمي وجمع الناس على أثر قدمه كناية عن اتباعهم له. والمعنى: أن الله يجمع الناس كلهم على شريعته جمعا تشريعيا فلا يقبل من أحد شيئا إلا باتباعه في شريعته والسير على أثر إقدامه، سواء أكان من أهل الملل الأخرى أو من أهل ملته فلا نجاة لكافر من ضلال الكفر إلا باتباع شريعته، ولا نجاة لمسلم من ضلال البدعة إلا باتباع سنته.
ويفيد المضارع في قوله (يحشر) أن هذا الجمع متجدد لأن شريعته دائمة وسنته باقية فما من جيل إلا وهو مكلف بالسير على قدمه وذلك معنى تجدد جمع الناس جمعا تشريعيا على اتباعه. وأسند الحشر لنفسه في قوله الحاشر لأنه الكاسب المباشر المبلغ عن الله شرعه لعباده وقال يحشر بإسناد الحشر إلى الله وحذف الفاعل للعلم به من المعنى وسياق الكلام، لأنه هو الخالق المشرع. على أوزان قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.
«وَأَنَا الْعَاقِبُ»: هو الذي يخلف شيئا ويأتي بعده، وهو صلى الله عليه وآله وسلم جاء بعد جميع الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة(2/303)
والسلام- وخلفهم. وقد جاء في رواية مسلم مفسرا فقال: «وأنا العاقب الذي لا نبي بعده» وعند غير مسلم «الذي لا نبي بعدي» وأفاد بالتفسير أنه لا يعقبه غيره فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
تقدم لنا في صدر الدرس أن قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أساء يقتضي اختصاصه بها وهو اقتضاء صحيح ومطابق للواقع فهذه الأسماء ليست إلا له إذ لم يسم الله نبيا ولا رسولا بواحد منها فهو مختص بالتسمية بها من الله بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام-.
نعم قد سمى بعض العرب أبناءهبم محمدا قبل البعثة بقليل، وهم نفر قليل ولم يعرفوا بنبوة، ومنهم من أسلم فكان من أتباع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان ذلك القليل النادر في حكم العدم، على أن القصود بتخصيصه تخصيصا من بين سائر الانبياء والشيء إنما يفضل بالنسبة لمن في منزلته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- لما تذكر فضائله وخصوصياته إنما تذكر بالنسبة للأنبياء والمرسلين فإذا قلنا أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خص بكذا بهذا الاسم مثلا فمعنى ذلك أننا لا نجده لمثله من الأنبياء والمرسلين. فهذا الاختصاص اللفظي بهذه التسمية.
وكذلك هو مختص بها من جهة معانيها فله من الكمالات التي يتحلى بها والإنعامات التي جعله الله سببا فيها والمواقف التي يقفها ما ليس لغيره، فليس ينال غيره من الحمد مثل ما يكون له من الله ومن الناس وهو يقابل تلك النعم الربانية عليه بالحمد، فلا يكون الحمد من أحد مثل الذي يكون منه لله. وكفى في هذا حديث الشفاعة الثابت المشهور فإنه لما يخر ساجدا لله يفتح عليه بأنواع من الحمد لم(2/304)
يكن يعرفها هو من قبل فقد بلغ في حمده لله مقاما لم يبلغه أحد. ولما يتقبل الله شفاعته العامة في فضل القضاء يحمده أهل الموقف كلهم في ذلك المقام المحمود، فقد بلغ من حمد الناس له مقاما لم يبلغه غيره. فبان اختصاصه- صلى الله عليه وآله وسلم- بمعنى الإسمين الشريفين محمد وأحمد دون جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وكذلك الاسم الثالث فإنه مختص بمعناه. وإذا راجعنا تواريخ الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- فإننا لا نجد أحدا منهم محي به من الكفر ما محي بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ولنقتصر على هذين النبيين الكريمين موسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- فأنتم تعرفون من القرآن ما قاسى موسى من بني إسرائيل الذين ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهه آلهة. وما تقصه كتبهم يدل أنهم لم ترسخ لهم قدم في الإيمان، فأي محو هنا؟ وأما عيسى- عليه الصلاة والسلام- فقد رفعه الله إليه وما آمن به إلا أفراد ثم بقيت دعوته مغمورة. وما انتشرت النصرانية المنسوبة إليه باطلا إلا بعد ثلاثمائة سنة على يد ملك بيزنطا قسطنطين. على أنهما- عليهما الصلاة والسلام- لم يرسلا رسالة عامة حتى يعم المحو بهما وإنما أرسلا رسالة خاصة لبني إسرائيل كما لم يأتيا من الآيات بمثل ما أتى به لمحو كل كفر وباطل، وكفى بآية القرآن الخالدة على الزمان المتجددة على الأجيال. فهذا يبين لكم أن المحو العلمي والعملي بأكمله وأشمله إنما هو خصوصية له عليه الصلاة والسلام.
ولعلكم تقولون أن العرب قد ارتدت بعد موته- صلى الله عليه وآله وسلم- فأين هو المحو؟ فالجواب: أن الردة لم تكن عامة، فإن الأكثر والأظهر هم الذين ثبتوا على الإسلام والطاعة لخليفة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يبدلوا شيئا، وطائفة كثيرة(2/305)
بقيت على الإسلام وإنما امتنعت عن أداء الزكاة، وهذه هي التي توقف عمر وغيره في قتالها وشرح الله صدر أبي بكر لقتالها ورجع الصحابة- رضي الله عنهم- إليه، وطائفة أخرى ارتدت عن الإسلام جملة كأصحاب طليحة وسجاح- راجعا الاسلام بعد- والأسود ومسيلمة وكان في غمار هؤلاء المرتدين أفراد من المؤمنين يقاومون وتوقفت طائفة تنتظر لمن تكون الغلبة.
وكان السر الأكمل في هذه الردة على تفصيلها أن يتبين للناس أن الذين اتبعوه اتبعوه لأنه نبي لا لأنه عربي.
لقد ثبت المحو به مباشرة في الأكثر الأظهر وثبت المحو بواسطة خليفته ومن معه ممن انطبق عليهم قول الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. والمحو على يد هؤلاء السادة محو به. وهكذا كل محو يقع على يد أتباعه إلى يوم الدين فهو محو به وله مثل حسنات مباشريه على قاعد السابق للخير والبارىء به والداعي إليه.
وكذلك الإسم الرابع فهو مختص بمعناه لأن الله لم يجمع الناس جمعا تشريعيا على نبي قبله فقد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل هو - صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس عامة.
وكذلك الإسم الخامس فهو المختصر، بختم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
هذه الأسماء الشريفة نأخذ منها حظ العلم وحظ العمل فأما حظ العلم فقد تقدم، وأما حظ العمل فعلينا إذ علمنا معنى اسمه محمد(2/306)
أن نستكثر من الأخلاق الطيبة والأعمال النافعة والمواقف الشريفة مما ننال به الحمد من الله والناس.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه أحمد أن نكثر من حمد الله على نعمه نعم الخلقة ونعم الهداية، فنحمده إجمالا وتفصيلا، ويتضمن هذا علمنا بهذا النعم وذلك يقتضي توسيع دائرة معلوماتنا بخلقه وبشرعه فنتناول كل ما نستطيع من العلوم والمعارف التي توصلنا إلى ذلك وقدلنا عليه.
وعلينا إذا علمنا معنى اسمه الماحي أن نعمل على محو الكفر والضلال والشر والباطل وكل ما ينهي عنه الإسلام وما ابتدعه المبتدعون وحملوه إياه. نمحو ذلك كله من أنفسنا وحيثما استطعنا ولا سبيل إلى هذا المحو إلا بالعلم والعمل وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح فأعظم ما محى به الكفر سلفنا الصالح هو هديهم وسلوكهم وتطبيقهم للإسلام تطبيبقا صحيحا على الحياة في أنفسهم وفي غيرهم في جميع الأحوال.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه الحاشر أن نتقيد بشريعته وسنته فلا نقول ولا نعمل ولا نعتقد إلا مالا يخرج عنهما فيكون قولنا دائما ماذا قال محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وماذا فعل وكيف كان في مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال في كل ما نقفه من مواقف وما يعترضنا من أحوال وبهذا نكون قد حشرنا أنفسنا على اثره. وعلينا أن ندعو الناس إلى اتباع شريعته وسنته بما نبين لهم من براهين الحق وأدلة الصدق وبما نذكر لهم من محاسنه ومحاسن ما جاء به وبذلك نكون قد عملنا على حشر ما استطعنا من الناس على شريعته وجمعنا ما أمكننا من القلوب على تعظيمه ومحبته، وفي ذلك الخير والسعادة للناس أجمعين.
وعلينا إذ علمنا معنى اسمه العاقب وهو الخاتم أن نرد كل ما يحدثه(2/307)
المحدثون من زيادة في شريعته، ونعد كل من يأتي ذلك ويتظاهر بالإسلام دجالا من الدجاجلة وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يكون بعده دجاجلة وكذابون وأولهم مسيلمة والمتنبؤون الكذبة فلا قول إلا قوله ولا هدى إلا هديه ولا إسلام إلا ما جاء به.
...
ها ان مالكا- رحمه الله تعالى ورضي عنه وجازاه عنا أحسن الجزاء- قد ختم كتابه الجليل بهذا الحديث الشريف المشتمل على هذه- الأسماء النبوية الكريمة فهل هنالك من نكتة؟
إن هذا الموطأ هو أقدم كتاب لنا ألفه إمام عظيم من أتباع التابعين، وهو كتاب يعلمنا العلم والعمل ويعرفنا كيف نفهم وكيف نستنبط وكيف نبني الفروع على الأصول، يعطينا هذا كله وأكثر منه بصريح بيانه وبأسلوب ترتيبه للأحاديث والآثار والمسائل. وإن شراح هذا الكتاب الجليل لم يوفوه حقه- في نظري القاصر- من هذه الناحية وهي من أعظم نواحيه.
ومما هو مشهور من ابتكار مالك في كتابه هذا الكتاب الجامع الذي ختم به الموطأ، فإنه نظر إلى مسائل عديدة من أمهات الشريعة في العقائد والأخلاق والآداب والأحكام وغيرها فنظمها في سلك واحد وسماها بالكتاب الجامع، وهذه الأصول التي نظمها في هذا الباب بنى عليها من جاء بعده فروعا وعقد عليها أبوابا كالبخاري وغيره.
وإن مالكا لم يذكر في موطئه كتابا خاصا بالسيرة النبوية كما فصل ذلك غيره ممن جاء بعده ولكنه ذكر أسماءه الشريفة- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه وذكر أسمائه متضمنا لسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه في ذكر حياته- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذكر أسماءه.(2/308)
ولما كانت سيرته من بدايتها إلى نهايتها هي المثال الصادق للشريعة كلها والسفر الجامع للدِّين الإسلامي كله- ختم كتابه بهذا الحديث المشتمل على هذه الأسماء المتضمنة لها. وهو كالتحصيل بعد التفصيل.
ونكتة أخرى وهو أن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية. والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في سيرته الطيبة فهذا الحديث بعد ما تقدمه من الكتاب كله مثل الغاية من الوسيلة.
فسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- هي الجامعة لمحاسن الإسلام والغاية لكل كمال.
ومن أبدع المناسبة لختم الكتاب أن كان آخر هذه الأسماء الشريفة هو العاقب والعاقب هو الخاتم، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الآل والتابعين أفضل الصلاة وأزكى التسليم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج7، م 15، ص 332 - 344 غرة رجب 1348هـ - أوت 1939م.(2/309)
آثار وأخبار (1).
استقر رأي الأعضاء الإداريين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على تخصيص الصفحة الأولى من جريدة الجمعية بهذا الباب: باب الآثار والأخبار.
والمنقول في هذا الباب هو الحديث المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، والأثر المروي عن أحد الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين-، والقول المنسوب إلى إمام من أئمة الدين أو صالح من صلحاء المؤمنين رحمة الله عليهم أجمعين.
ويختار من الآثار والأخبار ما قل لفظه ليسهل على القارىء حفظه، ودل مع ذلك على ترغيب أو ترهيب أو تربية أو تسلية.
وعلى القارىء أن يحفط ما يجده في هذا الباب من الآثار. وعلى الكاتب أن يعقب كل أثر بتعليق يشير فيه إلى ما حضره من فوائد تؤخذ من ذلك الأثر، ولا بأس أن يكون التعليق منقولا أيضا. فإن المقصود هو أن يحرص الكاتب على إفادة القارىء سواء في ذلك إفادته بما فهمه هو أو بما فهمه غيره.
1 - شكوى علماء الدين من الأرذال المفسدين:
روى ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الحسن البصري أحد كبار علماء التابعين أنه قال:
__________
(1) اخترنا أن نلحق هذه المقلات بقسم الحديث لأنها تدور حوله في أغلبها.(2/310)
اللهم إليك نشكو هذا الغثاء الذي كنَّا نحدث عنه، إن أجبناهم لم يفقهوا، وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عي شديد. والله لولا ما أخذ الله على العلماء في علمهم ما أنبأناهم بشي أبدا (1: 6).
تعليق:
الغثاء في الأصل ما يخالط زبد السيل من أعشاب وأوراق، والمراد به- هنا أرذال الناس وسقطهم.
وقد أفاد الأثر أولا: أن علماء الدين المرشدين كانوا من قديم الزمان يعانون متاعب في الإرشاد ويتحملون إذايات المفسدين، ويتلقون اعتراضات من أدعياء العلم المفتونين.
وثانيا: أن تلك المتاعب والإذايات والاعتراضات لا تسقط عن العالم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنجيه من تبعة الكتمان الثابتة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} وقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-، «من سئل علما علمه فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» رواه ابن عبد الله في الجامع وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم بروايات متحدة المعنى متقاربة الألفاظ.
وثالثا: أن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائها لمستحقيها. وليس العلم ملكا لهم يستغلونه فيكتمونه إن رأوا الكتمان أوفق بمصالحهم الشخصية، وينشرون منه ما لا يصادم أهواء العامة بل يزيدهم جاها لديهم. ولا أبخس صفقة ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة.(2/311)
2 - حكم طلب العلم:
روى ابن عبد البر في جامعه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- «أطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» (1: 7).
تعليق:
أفاد الحديث أمرين: أحدهما وجوب طلب العلم، وثانيهما عدم اعتبار المشقة في طلبه مانعا من وجوبه، بلغت المشتقة ما بلغت.
والحديث رواه ابن عبد البر من طرق متعددة ثم قال ( ... في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافا متقاربا).
ومثار الخلاف الذي أشار إليه ابن عبد البر ما في لفظة العلم من الإجمال، فإن المراد من العلم العلم الديني قطعا، لكن مسائل الدين منها ما هو فرض ومنها ما هو غير فرض ومنها ما هو فرض عيني ومنها ما هو فرض كفاءي.
وقد أورد ابن عبد البر أقوال الأئمة في معنى الحديث، فروى عن اسحاق بن راهويه أنه قال: " معناه أنه يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته، إن كان له مال، وكذلك الحج وغيره، وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه، وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه ".
وروى عن مالك أنه سئل: عن طلب العلم أهو فريضة على الناس فقال: لا، ولكن يطلب من المرء ما ينتفع به في دينه.
وروى عن ابن المبارك أنه سئل عن معنى هذا الحديث فقال: فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه.(2/312)
وروى عن ابن عيينة أنه قال: فريضة على جماعتهم، ويجزىء فيه بعضهم عن بعض وتلا هذه الآية: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}.
ثم أورد ابن عبد البر جملة من المسائل الواجبة وجوبا عينيا، وجملة من الواجبات الكفائية، ونحن لا نرى لزوما للتفصيل فإنه يلوح من كلام الأئمة المتقدم أن طلب العلم على وجهين: أحدهما الاشتغال بتحصيل مسائله والانقطاع إلى تعلم قواعده. وهذا هو الواجب كفاية. وثانيهما السؤال عن حكم ما نزل به من أمر دينه واستفتاء أهل العلم فيه وهذا واجب عينا فاحفظ هذا الضابط واعتبر به مسائل دينك يسهل عليك الفرق بين ما هو واجب على عموم المسلمين يسقط عنهم بوجود عالم بينهم، وما هو واجب عليك في خاصة نفسك لا تبرأ منه ذمتك إلا بمعرفته (1).
3 - براءة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ممن غير دينه:
روى مالك في الموطأ، وروى غيره أيضا عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- خرج إلى القبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا. فقالوا: يارسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: كلا أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. وأنا فرطهم على الحوض.
__________
(1) الصراط السنة الأولى العدد 12 يوم الإثنين 16 شعبان 1352هـ ديسمبر 1933م، ص1 ع1 و2 و3 ص2 ع1(2/313)
فقالوا: يارسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: قال يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم: فيقال إنهم قد بدلوا بعدك؟ فأقول: فسحقا فسحقا فسحقا».
تعليق:
قد أتينا هذه المرة بحديث فيه طول. ولكن ما فيه من الفوائد نعتقد أنه يكون حافزا للقارىء إلى حفظه. وليس حفظ الحديث الجليل بكثير على همة المستفيدين.
وفوائد هذا الحديث أولاها: جواز زيارة القبور، غير أن الجواز مقيد بكونها على الصفة التي وقعت من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ومن أصحابه- رضوان الله عليهم-. وصفة الزيارة في هذا الحديث مركبة من ثلاثة أشياء: أحدها حق الدعاء للموتى، ثانيها الاعتبار بحالهم، ثالثها دعاء الزائر لنفسه بحسن الخاتمة. الأول مستفاد من جملة السلام عليكم. والثاني مستفاد من جملة وإنا بكم لاحقون. والثالث مستفاد من جملة إن شاء الله. فقد قال أبو القاسم الجوهري معناه: " لا نبدل ولا نغير، نموت على ما متم عليه إن شاء الله تعالى" نقله الباجي في شرح الموطأ.
الفائدة الثانية: تسميته- صلى الله عليه وآله وسلم- لمن لم يره من أمته بإخوانه. فنحن من أخوانه- صلى الله عليه وآله وسلم- وكفى بهذه النسبة شرفا. فما على المسلم إلا أن يعمل بسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تتحقق فيه هذه النسبة. وليس من الأدب ومن الإيمان أن يستضعف المسلم هذه النسبة ويحاول(2/314)
تقويتها بنسبة أخرى إلى شخص آخر ككونه خوني فلان أو حبيبه أو درويشه (1).
وعدم تسميته- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه بالإخوان يدل على فضل الصحبة وإن لها مزية زائدة على مطلق الأخوة. وهذا لا خلاف فيه.
الفائدة الثالثة: عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة كما كان حريصا على هدايتهم في الدنيا يدل لهذه العناية قوله: وأنا فرطهم على الحوض. قال الباجي في شرحه: يريد أنه يتقدمهم إليه ويجدونه عنده. رواه ابن حبيب عن مالك. يقال فرطت القوم: إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيء لهم الماء والرشاء.
الفائدة الرابعة: إن عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة خاصة بالثابتين على سنته منهم، فأما المبتدعون الذين بدلوا سنته وأحلوا محلها بدعتهم فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- يبعدهم عنه بقوله: فسحقا فسحقا فسحقا.
ثم هذا الإبعاد معناه الحرمان من ماء الحوض في وقت شدة الحاجة إليه. فإن كان الابتداع والتبديل بالمروق من الدين فالإبعاد حرمان من الشفاعة أيضا، ويبقى ذلك المبتدع مخلدا في النار وإن كان الابتداع لا يخرج من الدين، فالإبعاد عن الحوض لا يمنع المبتدع أن تناله الشفاعة، غير أن في الإبعاد عن الحوض عذابا بالظمأ وخزيا بالطرد.
نسأل الله أن يحيينا على سنة رسوله الكريم وأن لا يحرمنا من ماء حوضه العذب ولا من شفاعته المرجوَّة (2).
__________
(1) خوني وحبيب ودرويش مترادفة معناها: مريد.
(2) الصراط: السنة الأولى العدد 13 يوم الإثنين 23 شعبان 1352 هـ الموافق 11 ديسمبر 1933م، ص1 ع1 و2 و3 بقية ص2 أسفلها. ص2 أسفلها.(2/315)
4 - الترغيب في الذكر
قال الحسن البصري وأبو العالية والسدى والربيع بن أنس: «إن الله يذكر من ذكره ويشكر من شكره ويعذب من كفره».
نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره (1: 360).
تعليق:
الأحاديث والآثار في فضل الذكر والترغيب فيه كثيرة، وليس فيها على كثرتها ما يدل على احتياج الذاكر إلى إذن في ذكره من غيره. وليس فيها على كثرتها ما يدل على أن الله قد نصب بعض عباده لإعطاء الإذن في ذكره لمن يريده.
فاذكروا الله أيها المؤمنون. ولا تتخذوا وسطاء بينكم وبين الله في الإذن بالذكر ولا في قبوله. وما أصدق قول الناس: "باب الله ما عليه بواب".
5 - ما هو الذكر ومن هو الذاكر؟
عن خالد بن أبي عمران قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلَّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن. ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن».
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان، نقل ذلك السيوطي في الدر المنثور (1: 149).
وعن سعيد بن جبير أنه قال في جواب مسائل سأله عنها عبد الملك ابن مروان: "وتسأل عن الذكر فالذكر طاعة الله. فمن أطاع الله فقد ذكر الله،(2/316)
ومن لم يطعه فليس بذاكر وأن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن". نقله ابن غيلان في شرحه على حلية الأبرار للنووي (1: 15).
تعليق:
قد جمعنا بين الحديث المرفوع والأثر الموقوف على سعيد بن جبير من كبار علماء التابعين لاتحادهما في المعنى وورودهما على غرض واحد، وقدمنا الحديث لأنه الأصل، وأخرنا الأثر لأنه الفرع الشاهد المقوي لسند ذلك الحديث ..
وقوله في الحديث: وإن قلت صلاته ... الخ. يريد صلاة التطوع وصيام التطوع، أما من قلت صلاته الواجبة أو صيامه الفرض فإنَّه عاص لا يوصف بالطاعة.
وبهذا الحديث وذلك الأثر تعلم المراد من الآيات الآمرة بالذكر. كقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. فليس المراد من الذكر في أمثال هاتين الآيتين خصوصا الذكر اللساني. بل المراد الطاعة بجميع أنواعها من صلاة وصيام وصدقة وتلاوة قرآن وتسبيح وتحميد وتهليل وغير ذلك. فإن المطيع إنما أطاع الله لكونه ذكره بقلبه أو بلسانه.
وغرضنا من تقديم هذين الحديث والأثر إلى القراء أن يعلموا أولا: أن معنى الذكر أوسع مما يتخيلون، وأن بعض من يمدونهم من العباد في غير الذاكرين هم في عرف الشرع من الذاكرين.
وأن يعلموا ثانيا: أن ما عليه كثير من العوام من الاعتماد على السبح (1) دون الطاعة هو غرور في غرور وأن كثيرا ممن يعد نفسه ويعده الناس من الذاكرين هو في عرف الشرع من الغافلين.
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: التسبيح.(2/317)
فيا أيها المسلمون تثبتوا في الحقائق الشرعية واطلبوا تفسيرها من صاحب الشريعة أو ممن قرب زمنه من زمنه. ولا تعتمدوا في فهم حقائق دينكم على عرفكم وعادتكم فإن الجهل بالسنة وخروج أمر العامة من يد العاملين بها مما ابتليت به الأمة الإسلامية قديما.
6 - هل ينفع الذكر مع تصدي حدود الله؟
عن أبي هند الداري عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- «قال الله اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فمن ذكرني وهو مطيع فحق عليَّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره بمقت».
أخرجه الديلمي وابن عساكر. ونقله السيوطى في الدر المنثور (1: 148).
وعن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه قيل له: أرات (1) قاتل النفس وشارب الخمر والزاني يذكر الله، وقد قال الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؟ قال: " إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت".
اخرجه عبد الله بن حميد وابن أبي حاتم نقله في الدر المنثور (1: 149)
تعليق:
إن في ذلك الحديث وهذا الأثر لذكرى لقوم يؤمنون. كثيرا ما يعظ المسلم أخاه وينكر عليه تكاسله في الواجبات ونشاطه في المنهيات فيجيبه بقوله إن الله غفور رحيم، أو نحن أخذنا الورد عن
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: أرأيت.(2/318)
سيدي فلان وقد ضمن لمن يذكر ورده الجنة. فليعلم المسلمون أن ذكر الله على هاته الصفة ونحوها مما يوجب مقت الله ولعنته.
أيها المسلمون من وعظ منكم فليتعظ، ومن نهى عن منكر فلينته. ومن أمر بمعروف فليأتمر {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
7 - الحث على القرآن:
عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-:
«خيركم من تعلم القرآن وعلمه». أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن.
تعليق:
قد تقاصرت همم المسلمين في هذه المدة الأخيرة عن تعليم القرآن وتعلمه. فقل الحافظون له؛ فعلى كل من نصب نفسه لإرشاد المسلمين في دينم أن يحثهم على العناية بحفظ كتاب ربهم، وعلى الكتَّاب أن يطرقوا هذا الموضوع الكثير النواحي. هذا يأتيه من ناحية فضيلة القرآن- وذلك من ناحية اختيار المعلمين وما هي الصفات المطلوبة فيهم؟ والآخر من ناحية أسلوب التعليم وما هو الأقرب إلى التحصيل من أي الأساليب؟ ورابع من ناحية تحسين حال المعلمين وتوفير أجرتهم، وكل من هذه النواحي يلزم أن تتعدد فيها الكتابة حتى تحدث تأثيرا في المجتمع وتكون رأيا عاما في الموضوع. وحسبنا في هذا الباب باب الآثار والأخبار ما أرشدنا إليه.
__________
(1) الصراط السنة الأولى العدد 14 يوم الإثنين 1 رمضان 1352هـ 18 ديسمبر 1933م، ص 1ع 1 و2 و3 ص 2 ع1.(2/319)
والحديث صريح في فضل من جمع بين تعلم القرآن وتعليمه لغيره وأنه خير من غيره، وإنما ثبتت له هذه المزية لأن المراد من متعلمه من حفظه وفهمه وعمل به والمراد من معلمه من يلقنه غيره ويفسره له ويرشده إلى العمل به. وإذا كان هذا النوع الممدوح في الحديث المفضل على غيره بشهادة الصادق المصدق مفقودا من بيننا أو كالمفقود، فالواجب علينا السعي في تكوينه ولهذا دعونا الكتاب إلى العناية بهذا الموضوع.
قال الحافظ ابن حجر في بيان وجه خيرية معلم القرآن ومتعلمه:
" ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدى. - ولهذا كان أفضل. وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهذا أشرف الجميع".
هذا كلام ابن حجر. ثم أفاد أن ليس المراد بهذا الحديث من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرأه أو يقرئه.
8 - الإعتصام بكتاب الله:
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «أتاني جبريل فقال يا محمد أمتك مختلفة بعدك! قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: في كتاب الله. به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا ومن تركه هلك (مرتن) قول فصل(2/320)
وليس بالهزل. لا تخلقه الألسن ولا تفنى عجائبه. فيه نبأ من كان قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم».
أخرجه الإمام أحمد. نقله الحافط ابن كثير أوائل كتابه فضائل القرآن الذي ختم به تفسيره.
تعليق:
صدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقد وقع الاختلاف. وقد دعونا الناس إلى المخرج وهو كتاب الله وسنة رسوله المبينة له. فقال المعاندون ما قالوا إلاَّ من كان يؤمن بأن محمدا رسول الله فليمتثل إرشاده. وقد أرشدنا إلى المخرج من هذا الاختلاف فلنعمل بإرشاده وهدانا إلى طريق الحق عند الإلتباس فلنهتد.
وقد وصف الله كتابه بقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فهو هدى بين واضح لا يلتبس على مديد الحق التماس الهدى منه.
وإذا كانت طباعنا العربية وسلائقنا في فهم لسان العرب قد حالت وفسدت وصعب علينا أو تعذر فهم كلام ربنا، فإن في تعلم اللغة العربية وعلومها ما يجعل لنا سلائق مكتسبة، وأن فيما كتبه أئمة التفسير قبلنا ما يجبر نقص السليقة الكسبية عن السليقة الفطرية.
وقد أوصل الجهل بكتاب الله بعض أدعياء العلم إلى أن جعلوا الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ضروب الشرك طريقة خاصة بابن تيمية على معنى أنها بدعة حصلت بعد انعقاد الاجماع! فمن سلك هذه الطريقة فقد عرض دينه للخطر! ولو نظروا في كتاب الله وتأملوه لوجدوا جل آياته دعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك.
وإذا ذكرت لهم هذا قالوا-: تلك آيات نزلت في مشركي مكة،(2/321)
فكيف تطبقونها على من يشهد الشهادتين. وهذا نوع آخر من جهالاتهم وتلبيس إبليس عليهم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} قال المفسرون معناه من بلغه القرآن فتخصيص إنذاره بمشركي مكة تعطيل للقرآن.
قال الغزالي في الإحياء: " وينبغي للتالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن.
فإن سمع أمراً أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور. وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا. وكذا ما يقف عليه من القصص فالمقصود به الاعتبار.
قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. قال محمد بن كعب القرظي: "من كلمه القرآن فكأنما كلمه الله عز وجل" أ. هـ كلام الغزالي (1).
9 - مدح العامل بالقرآن:
عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-:
__________
(1) الصراط: السنة الأولى العدد 15 الاثنين 8 رمضان 1352هـ 25 ديسمبر 1933م، ص1، ع 1 و2 و3، ص 2 ع1 و1/ 2 من الثاني أسفله.(2/322)
«المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب. والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنطة طعمها مر وريها مر». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
تعليق:
جعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- طيب الطعم دائرا مع العمل. وجعل طيب الرائحة صفة التلاوة. والمجدي على المرء هو عمله. أما التلاوة وحدها لا تجدي فالمنافق يتلو القرآن ولكنه في الدرك الأسفل من النار.
وقد دل الحديث على أن العمل بالقرآن درجتين (1) أعلاهما الجمع بين التلاوة والعمل. ودل على أن المخالفة لأوامره ونواهيه دركتين (2) أدناهما الجمع بين الأعراض عن حفظه والإضراب عما دعا إليه.
والعمل بالقرآن يقتضي فهم معانيه وكذلك كان المخاطبون بهذا الحديث فإن القرآن بلغتهم نزل. ولهذا لم يقل في الحديث:
((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويفهمه ويعمل به)) لأن ذكر الفهم لأولئك المخاطبين حشو، تتحاشى عنه البلاغة النبوية.
فيا أيها القراء المؤمنون تطلبوا معاني ما تقرأون واعملوا بما تفهمون كي تكونوا أترجة، ويا أيها المؤمنون الأميون اسألوا أهل الذكر والعلم بكتاب ربكم وتحروا العمل بما دعاكم إليه كي تكونوا ثمرة.
وقد دلت مقابلة القارىء العامل بالقارىء المنافق على تسمية من يخالف ما يقرأه منافقا والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وهم
__________
(1 و2) كذا فى الأصل وصوابه: درجتان، دركتان.(2/323)
أخس صنوف الكفار. ولكنا نجد من الناس من لا يختلف في إيمانه ثم هو يخالف ما يقرأه. وقد قال العلماء: إن هذا النوع من المؤمنين يسمي نفاقهم نفاق عمل لا نفاق كفر. ويسمون منافقين مجازا لأن فيهم خصلة من خصالهم وهي مخالفة للأوامر.
فالقارىء إن لم يعمل بما يقرأه فهو منافق حقيقة أو مجازا. أعاذنا الله وإياكم من النفاق حقيقته ومجازه وجعلنا ممن يتلو كتابه عالما بمعانيه عاملا بما يفهمه منه.
10 - ذم المباهي والمتعيش بالقرآن:
عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-:
«تعلموا القرآن واسالوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسأون به الدنيا. فإن القرآن يتعلمه ثلاتة نفر: رجل يباهي به ورجل يستأكل به ورجل يقرأه لله (1).
رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وصححه الحاكم، نقله الحافظ في فتح الباري (9: 82).
تعليق:
حديث أبي سعيد أخرجه الإمام أحمد بلفط آخر وفي آخره: ((ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر)) وفسر الراوي عن أبي سعيد الفاجر بمن يتأكل بالقرآن، فقوله في رواية أبي عبيد (ورجل يستأكل به) بمعنى الفاجر في رواية الإمام أحمد، ويكون حينئذ قوله في رواية أبي عبيد (رجل يباهي به) بمعنى قوله في الرواية الأخرى (ومنافق).(2/324)
وقد دل الحديث على ذم المباهي بتلاوته. وكثيرا ما يقصد قراء زماننا المباهاة بأصواتهم والفخر بحفظهم، ولا سيما إذا كانوا يتلون مجتمعين بصوت واحد، فليحذر من يجد هذا من نفسه، وليعلم أن كتاب الله هداية تخشع لها القلوب وتستسلم إليها الجوارح.
ودل أيضا على ذم المسترزق بالقرآن وكثير من قراء زماننا لا يقصدون من حفظه إلا التوسل به للتلاوة على الموتى بأجرة ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية المحضة.
ولا يتناول هذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا كانت في مقابلة تعبه وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة بل على هذا المعلم- إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هو نفسه عاملا بكتاب الله وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به.
11 - الغاية من قراءة القرآن:
عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يقول: ((أنزل عليهم القرآن ليعملوا به، فاتخذوا درسه عملا. أن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به)).
نقله الثعالبي في تفسيره (1: 9)
تعليق:
ذم ابن مسعود من اتخذ تلاوة القرآن عملا. فكيف حال من آجر نفسه للتلاوة وباع عمله ذلك؟
وللفقهاء خلاف في حصول الأجر لمن يقرأ القرآن من غير فهم ولا(2/325)
تأمل. وهذا إذا قصد التالي بتلاوته وجه الله تعالى لأن الإخلاص شرط شرعي لترتيب الثواب الأخروي فهل هذا الذي يتلو القرآن من غير فهم بأجرة مخلص لله في تلاوته حتى يختلف في إثابته على التلاوة؟
وقد فتحنا بابا للبحث في موضوع "الفداوي" (1) واللبيب يكفيه ما اقتصرنا عليه (2).
12 - معنى ليلة القدر:
قال الشوكاني:
" قيل: سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، وقيل: لعظيم قدرها وشرفها، وقيل: لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ- أي ضيق-}.
تفسير الشوكاني (5: 459).
تعليق:
هذا كلام الشوكاني حذفنا منه كلمات قليلة لا تؤثر في فهم الرأي. والأقوال الثلاثة، الأول ذكرها أيضا محي السنة أبو محمد البغوي في تفسيره.
ولا أرى مانعا من صدق هذه الأقوال مجتمعة، فهي ليلة قدر
__________
(1) هو الذي يقرأ على الموتى.
(2) الصراط: السنة الأولى العدد 16 الاثنين 15 رمضان 1352هـ 1 جانفي 1934م، ص 1، ع 1 و2 و3، ص 2، ع 1(2/326)
بمعنى تقدير الأرزاق والآجال وغيرها لوقوع هذا التقدير فيها، وهي ليلة قدر وشرف لنزول القرآن فيها. وللطاعات فيها قدر وفضل على الطاعات في غيرها، وهي ليلة تكثر فيها الملائكة بالأرض كثرة لا تكون في غيرها لقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}. وعلى تفسير القدر بمعنى تقدير أمور الخلق يقال: كيف يتجدد هذا التقدير كل سنة وقدر الله أزلي؟ وقد نقل البغوي جواب هذا السؤال في تفسيره فقال:
" قيل للحسن بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: نعم. قيل: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير التي خلقها إلى المواقيت تنفيذاً للقضاء المقدر". وقد استبان من هذا أن الليلة التي تقدر فيها أمور الخلق هي الليلة التي قال الله فيها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وسماها في آية الدخان مباركة إذ قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. فليلة القدر والليلة المباركة إسمان لليلة واحدة، هي ليلة إنزال القرآن. وهذه الليلة في رمضان لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وليست في شعبان كما يظنه العوام الذين يفرقون (1) بين ليلة القدر والليلة المباركة ويعتقدون اعتقادا مخالفا للقرآن، أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وبعض العوام يسمون ليلة النصف من شعبان ((ليلة قسام الأرزاق)) ولهم في هذه الليلة خرافات يبنونها على أساس الجهالات. وغرضنا من هذا التنبيه إرشاد المسلمين إلى معرفة هذه الليلة معرفة صحيحة كما نطق الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبهذه المعرفة على هذا الوجه تتطهر عقولهم من خرافات وتزول عنهم جهالات.
__________
(1) في الأصل يفوقون.(2/327)
13 - معنى خيرية ليلة القدر:
عن أنس قال: " العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر" أخرجه عبد الله بن حميد، نقله في الدر المنثور (6: 370).
تعليق:
بين هذا الأثر- وفي معناه آثار كثيرة- أن خيرية ليلة القدر راجعة إلى تفضيل الطاعة فيها والعمل الصالح على غيرها من الليالي والأيام. وهذا يفيد أن المسلم الذي يتطلب ليلة القدر إنما يتطلبها ليعمل صالحا ويجد في العبادة، فالمؤمن اإنما يطلبها للدين لا للدنيا، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
14 - الدعاء ليلة القدر:
عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (1).
رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. نقله ابن كثير في تفسيره (9: 261).
تعليق:
ليلة القدر من أوقات الاستجابة فينبغي للمؤمن أن يكثر فيها من(2/328)
الدعاء ولهذا سألت عائشة- رضي الله عنها- عن صيغة تدعو بها تلك الليلة. وقد بيَّن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لزوجه الكريمة عليه صيغة الدعاء، فيتعين أن يكرر المسلم هذا الدعاء ليلة القدر وأن يفضله على ما سواه لأنه لفظ أفضل الخلق الذي علمه لأحب زوجاته.
ثم هذا يؤكد ما قدمناه من أن ليلة القدر تراد للدين لا للدنيا، وكثير من العوام يتمنى لو يعلم ليلة القدر ليطلب بها دنياه فلتب إلى الله من وقع له هذا الخاطر السيء. فإن الله يقول في كتابه العريز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. وكثير من العوام يعتقدون في بعض البيوتات الغنية أن مؤسس ذلك البيت رأى ليلة القدر فسأل الله أن يجعل ماله ونسله خيرا من مال الناس ونسلهم فكان ذلك ثم يجعلون هذه الميزة الدنيوية دليل (1) على ولاية ذلك الداعي وصلاح ذريته.
وحديث عائشة- رضي الله عنها- وآية من كان يريد حرث الآخرة وما في معنى ذلك من الآيات والآثار شاهدة بفساد ذلك الاعتقاد وضلال تلك الأفكار، وأن الفرق بين التقي والفاجر هو الإقبال على الآخرة أو الإقبال على الدنيا.
ولسنا ننكر على من يطلب الدنيا بأسبابهها التي جعلها الله تعالى وإنما ننكر على من يكون همه الدنيا دون الآخرة حتى أنه يترصد ليلة القدر ليطلب فيها الدنيا غافلا عن الآخرة. ثم يعتقد أن من نال ثروة دنيوية بغير أسباب ظاهرة ليديه فإنما ذلك لولايته ودعائه ليلة القدر!.
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: دليلا.(2/329)
15 - علامات ليلة القدر:
عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال في ليلة القدر:
«ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء».
أخرجه أبو داود الطيالسي نقله ابن كثير (9: 257)
تعليق:
الأحاديث في تعيين ليلة القدر كثيرة متضاربة، والصحيح أنها في رمضان. والراجح أنها في العشر الأواخر منه.
وهذه العلامات التي ذكرها الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- ليلة القدر ليس فيها أن السماء تنشق وأنه يظهر فيها ألوان من نور كل نور له لون خاص إلى غير ذلك من خرافات العوام.
وان مما يؤسف المؤمن ان الأوقات المفضلة في ديننا قد غمرناها بالخرافات وصرفنا نفوسنا عما يراد فيها من الطاعات، فحرمنا من خير كثير وقلما تجد وليا صالحاً أو وقتا فاضلا ألا وهو محاطا بخرافات تعين ابليس على إبراز قسمه في الاغراء. وتقف حجر عثرة أمام الداعي المرشد إلى الصراط المستقيم. وان مما يؤسف المؤمن ان هذا الشهر، شهر رمضان، الذي جمع الله لنا فيه بين الصيام والقيام، وأودع فيه أفضل ليالي العام يقطعه أكثرنا في اللهو والقمار والنوم والشجار.
أيها المسلمون: طهروا عقولكم من الخرافات ونوِّروا قلوبكم بالطاعات، وانتهزوا فرصة الأوقات المفضلات، ولا تهملوها فتعود عليكم بالحسرات.(2/330)
اللهم صلي على من أنزلت عليه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.
انتهى بحمد الله الجزء الثاني من المجلد الأول ويليه الجزء الأول من المجلد الثاني
__________
(1) الصراط: السنة الأولى العدد 17 الاثنين 22 رمضان 1352هـ
8 جانفى 1934م، ص1 ع 1 و2 و 3 وص 2 ع 1 و2(2/331)
كتاب آثار ابن باديس
الجزء الأول من المجلد الثاني
مقالات اجتامعية تربوية أخلاقية دينية سياسية
إعداد وتصنيف
دكتور عمار الطالبي
الشركة الجزائرية لصاحبها الحاج عبد القادر بوداود(3/1)
جميع الحقوق محفوظة
الشركة الجزائرية لصاحبها الحاج عبد القادر بوداود
الطبعة الأولى 1388 هجرية = 1968 ميلادية
الطبعة الثنية 1403 هجرية = 1973 ميلادية
الطبعة الثالثة 1417 هجرية = 1997 ميلادية(3/2)
آثار ابن باديس 3(3/3)
[صورة: العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس
رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي
وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر](3/7)
هذا هو الجزء الأول من المجلد الثاني من كتاب آثار ابن باديس، وهو مجموعة من المقالات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية، دبجها يراع العلامة الإمام ابن باديس في مختلف المناسبات.
وقد قامت لجنة من كبار العلماء- بتكليف من دار اليقطة العربية- بالإشراف على طبع هذا الكتاب وتصحيحه، ليأتي سليماً من الأخطاء، خالياً من التحريف، كسفر له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية والوثبة العربية في المغرب الإسلامي.(3/8)
آثار ابن باديس:
قسم الإصلاح والثورة ضد البدع(3/9)
يتكلمون بما لا يعلمون
إن الجاهل بالشيء جاهل به ولو كان من أعلم الناس بغيره، وما علمه بما علم برافع جهله فيما جهل، أن هذه لحقيقة من الوضوح بمكان. ولكن يحتاج إلى تكرار ذكرها بقدر ما يتكرر من وقوع مخالفتها. أن الناس قسمان: الجاهلون بكل علم، والعالمون وليس منهم من يعلم كل علم. ومن العجيب أن أهل الجهل اعرف بجهلهم فلا يتكلمون فيما لا يعلمون. وأما أهل العلم فكثير منهم يتجاوزون حدود علمهم فيتكلمون بما لا يعلمون. فكأن الجاهلين آيسوا من العلم ولم تكن لهم شبهة فاحجموا وكأن هؤلاء اغتروا بما عندهم فقالوا فيما غاب عنهم فاقدموا وذلك هو الغرور المبين.
قد لا أكون أنا كاتب هذه السطور سالما من هذا العيب، ولكن ذلك لا يمنعني من لأن أذكره لاحذره واحذر منه. خصوصا إذا رأيت شره قد مس العزيزين عليَّ: ديني، ووطني، وقد رأيت ذلك هذه الأيام من ثلاث جهات فأردت أن أعرض لها في هذا الفصل:
الجهة الأولى:
نشرت "مجلة الرابطة الشرقية" في عددها الثالث من المجلهد الثاني مقالا بامضاء (علوي) عرض فيه كاتبه للخلاف الواقع بين العلويين الاشراف الحضارمة، والإرشاديين في جاوة وسنغافورة وقبل أن يدخل في موضوعه ذكر "الجزائر" لينظر بها فقال:
"إليك نبأ عن الجزائر فإن في أرجائها حركة تحسبها حركة نهوض(3/11)
لشعبها العربي الذي … إلى صورة مشوهة من العجمة بالعسف والجهل وعدم المعونة على سلوك سبيل الحياة.
وتدهش إذ تعلم أن الحركة الجزائرية بمظاهرها من نقاش على صفحات الصحف والمجلات هي حركة مفاضلة بين شيخين من شيوخ الطرق الصوفية هنالك، أيهما أصح نسبا وأنفذ أمرا وأقدر على الكرامات والخوارق؟.
الحقيقة التي يعلمها كل أحد أن هذه الحركة الأدبية ظهرت واضحة من يوم برزت جريدة "المننقد" المعطلة بقرار وزاري، فمن يوم ذلك عرفت الجزائر من أبنائها كتابا وشعراء ما كانت تعرفهم من قبل. ولم تكن الجريدة أسست للدفاع عن أحد، وإنما أسست للمبدئين الذين لا يزالان مكتوبين على سفر هاته المجلة إلى اليوم. ثم كانت مخاصمات ضرورية في مبدأ كل نهوض ثم تقررت المباديء وعرفت الخطط ورجع الجميع- في الغالب- إلى العمل في دائرة الاإخاء والتسامح والتفاهم بالحسنى. ولم تكن قط في الجزائر هاته الصورة التي ذكرها الكاتب من الخصومة على المفاضلة بين شيخين ولكن صاحبنا تخيل فخال، وجازف المقال. وبدل أن يقتصر في كتابته على جاوة التي يعرفها- إن كان يعرفها- جاوزها إلى الجزائر التي لا يعرفها فكان من الخاطئين.
الجهة الثانية:
كتب الأستاذ سلامة موسى في كتاب "تاريخ الفنون وأشهر الصور" في فصل "الفنون الإسلامية" يقول: "وقد نزع الإسلام نزعة توحيدية وجعل للتوحيد المقام الأول في الإيمان فتأثرت الفنون من هذه الناحية بحذف كل ما يختص برسم الإنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما. وذلك لأن الصور والتماثيل تومىء إلى الأوثان التي يخشى(3/12)
على التوحيد منها. ولكنا نجد أمتين إسلاميتين هما: الفرس، ومصر (مدة الفاطميين) تسمامحتا بعض التسامح في الرسم والنحت حتى كانت ترى في قصور الفاطميين مناظر الرقص والصيد والغزلان، وكانت كتب الفرس وقصورهم تزين أيضا بصور الحيوان والنبات. ولكن هذا لا يطعن فيما نثبته من معأرضة الإسلام لهذين الفنين بل هو أجدر أن يؤيد ما قلناه، وذلك لأن فارس ليست سنية وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية. والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين".
لا شك أن حضرة الكاتب يجهل أن جمعا كبيرا من علماء الإسلام لا يمنعون من الصور ما كان مثل رقم في ثوب، وإنما يمنعون ما كان تمثالا تام التصوير، وليس جهله بهذا هو الذي يدعونا إلى الإنكار عليه. ولكن قوله: "والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام" هو الجدير بكل إنكار. فقد حسب نفسه لما عرف شيئا من تاريخ الفنون أنه عارف بمذاهب الإسلام، فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه. وهذا الكاتب لم يكفه أن ينفي- في أكثر ما يكتب- عن الإسلام كل ما يحسبه فضيلة حتى جاء يحأول أن ينفي عنه أمما كاملة من أبنائه ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح الغرور.
الجهة الثالثة:
قوم من بني جلدتنا مرقوا من جنسنا- وهم أحرار فيما يفعلون، ورفضوا شريعتنا- وهم أحرار فيما يفعلون. ثم نصبوا دعاية لهذا الرفض وهذا المروق يزعمون أن ما فعلوه مما لا يأباه الإسلام، ويرمون كل من لم يوافقهم بالجمود والتعصب.
ليعلموا - أولا- أن كاتب هذه السطور وبني دينه وجلدته يحترمون جميع الأجناس البشرية، ويقدرون الحق والعدل في جميع(3/13)
القوانين الأممية، ويدعون لهؤلاء السادة وما اختاروه لأنفسهم غير أنهم. ينكرون هذه الدعاية العريضة التي يتقول فيها على الإسلام بغير علم ويرمي فيها علماءه بالجهل والتعصب والجمود.
أيها السادة- مع احترامي لكم ولما اخترتموه لأنفسكم- أقول لكم بغاية الصراحة: إنكم تجهلون أصول الإسلام لأنكم لم تتعلموها، وإنكم- بضرورة ذلك- مخطئون فيما تنسبونه إليه، وأن الناس، لعلمهم بذلك منكم، لا يغترون بشيء مما تقولون.
خير لكم- أيها السادة- أن تسلكوا في دعايتكم مسلك البيان للمنافع الدنيوية التي تحصل للناس بموافقتكم- إذا كانت ثم منافع- وتضربوا الأمثال لذلك بما حصل لكم بالفعل من الميزان كان قد حصل، وتدعوا أمر الدين والفتوى لأهلهما، وأنتم لو سلكتم مسلك الدعاية بالدنيا لما عرضت لكم. ولكن لما أخذتم تدعون باسم الدين لم يسعني إلا تنبيهكم بهذه الكلمات، وعساكم- لما كنتم ترغبون من علماء الدين أن يجاوبوكم- أن تتلقوا مني هذه الآية القرآنية الكريمة، وهذا الحديث النبوي الشريف، كتحقيق لرغبتكم واعتبار لها. وثقوا مع ذلك باحترامي لأشخاصكم، وتقديري لما هنالك بيننا من روابط شخصية أو عمومية هي غير ما نحن بصدده:
قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وأين الرفض من هذا التسليم.
وقال سيدنا ومولانا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-:
« .. مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ الله مِنْهُ يوم القيامة عَدْلاً وَلَا صَرْفاً»(3/14)
رواه مسلم والبخاري في صحيحهما من طريق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الحليم الكريم (1).
__________
(1) ش: ج1، م 6، ص 27 - 30 غرة رمضان 1348هـ - فيفري 1930م.(3/15)
ما هكذا عهدنا أدب صروف
وقفت في جزء فيفري الماضي من مجلة "المقتطف" الكبرى على مقال من قلم تحريرها تحت عنوان "مفاخر اور الكلدانيين" جاء فيه قول كاتبه: " لقد جاء في بعض الخرافات العربية القديمة أن عاصفة من الرمل طمرت مدينة عاد فأصبحت بعد العاصفة ولا عين لها ولا أثر".
لا نشك أن كاتب المقال ليس مسلما، كما لا نرتاب أنه لا يجهل أن قصة عاد من قصص القرآن، فتعبيره عنها بالخرافة من سوء الأدب الذي ما عهدنا في المرحوم الدكتور صروف الذي كان في علمه وفلسفته وشدة تحقيقه ديِّنًا صحيح التدين محترما لكتب الأديان، هذا من الوجهة الأدبية، وأما من الوجهة العلمية فإن الحكم على قصة مشهورة متواترة عند أمة بأنها خرافة بدون بحث ولا تدليل ليس من شأن العلماء المحصلين.
ثم- بعد هذا- نقول في تحقيق هذه القصة القرآنية: أن القرآن العظيم كما يسلك في أدلته العقلية أقرب طريق وأوضحه كذلك يسلك في تذكيره أصدق المواعظ وأبلغها. وأنه كان يخوِّف العرب أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم، ولقد خلت قبلهم أمم كثيرة جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا فأخذهم الله بالعذاب الشديد، ولكن القرآن كان يذكرهم ويخوفهم بمن هم أقرب الأمم إليهم ممن كانوا في أرضهم العربية، قد تواترت لديهم أخبارهم، ومثلت أمامهم آثارهم من قوم عاد سكان الأحقاف وقوم ثمود سكان الحجر. وقد كان للتذكير
__________
(1) كذا في الأصل.(3/16)
بأحوال تلك الأمم التي هي في أرضهم ومن جنسهم أبلغ الأثر في نفوسهم، كما كان من حديث عقبة بن ربيعة الذي رواه أصحاب السير: تلا عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حم فصلت إلى قوله صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة بيده على فم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأناشده الرحم أن يكف. وما كان محمد الرجل العظيم، والمصلح الحكيم، والرسول الكريم ليجعل تذكيره الذي يريد التأثير به على سامعيه مما لا حقيقة له ولو أنه خاطبهم بما لا يعرفونه من أخبار تلك الأمم وتيقنوه لأسرعوا إلى تكذيبه فيما يقول. فسكوتهم- وهم أسرع (1) الناس إلى مجادلته بالباطل- دليل قاطع على أن القصة كانت عندهم مما هو معلوم بالقطع من تواتر الخبر، ومشاهدة الأثر (2).
__________
(1) في الأصل: أسرع
(2) ش: ج3، م 6، ص 166 - 167 غرة ذي القعدة 1348هـ - أبريل 1930م.(3/17)
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
في عامها الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
كنا نعلم من يوم تأسيس هذه الجمعية رغم تفاؤلنا، ما ستلقاه مثل كل مشروع عظيم من صعوبات وعقبات، ولكننا ما كنا نحسب أن حظها من ذلك يكون (1) إلا من خارجها ولكن الواقع جاء بخلاف ذلك وكانت مصاعب الجمعية ومتاعبها من داخلها، حصلت نفرة بين أعضاء مجلس الإدارة ورئيس لجنة العمل فأدت إلى ما أدت إليه من فرقة وفتنة وقى الله شرها. وقد علم الناس حقيقة الحال من البيان الرسمي الذي نشره مجلس إدارة الجمعية أثر انتخابه مما لا حاجة إلى إعادته وإن كنا سنشير إلى أشياء منه لزيادة البيان.
بأي نية ذهبت للأجتماع العمومي: ذهبت عازماً على إصلاح ذات البين وعلى تسيير انتخاب الجمعية على مقتضى قانونها الأساسي والوقوف معه مهما كان الحال. وعرفت من الاجتماعات التي كانت قبل يوم الانتخاب ومن محأولاتي الخاصة أن الصلح غير ممكن وأنه لم يبق علي إلا المحافظة على الجمعية قبل كل شيء وكنت رغم ما يأتيني من أنباء بما يدبر من أمور، مطمئنا على الجمعية لأنني كنت أعتقد أن الاجتماع العمومي سيضم جمعا عظيما من أهل العلم وحسبي بعلمهم هاديا لهم إلى ما فيه خير وسداد للجمعية والأمة. فدخلت صبيحة الإثنين 18 محرم الماضي إلى نادي الترقي وأنا على هذا الاعتقاد.
__________
(1) كذا في الأصل ويبدو أنه (لا يكون).(3/18)
ماذا كان يدبر للاستيلاء على الجمعية:
كان رئيس لجنة العمل قد سعى سعيا شديدا في تكوين عدد كثير ممن يوافقونه على القائمة التي يقدمها للانتخاب، وكانت مكاتبات لبعض الجهات في الحث على القدوم يوم الانتخاب وأصبح مكتب الدعاية منعقدا على الساعة الخامسة في مدرسة السلام يديره رئيس لجنة العمل وشيخ زاوية بمستغانم- كما اعترف لي بذلك رئيس اللجنة في الحديقة العمومية أمام جماعة- وأصبحت الوصولات توزع على كل من يقال فيه طالب ليأتي للجمعية العمومية وينتخب من كتبت أسماؤهم في ورقة سلمت له.
نكتة المسألة:
القائمة التي أعطيت من طرف السيدين المذكورين فيها ثلاثون شخصا الأعضاء الأقدمون مع ضرب على أسماء بعضهم وزيادة عليهم والسيد رئيس اللجنة هو أحد الثلاثين وحضرته- بلا مؤاخذ ومع الاحترام- ليس من أهل العلم ولا من الطلبة، وإذا كانت الأعمال والأقوال هي التي تدل على المقصود والنوايا فلا نكون ظالمين إذا استدللنا بهذا العمل على ما يدل عليه مفوضين العلم بذلك والجزاء عليه إلى الله تعالى.
كيف كنا وكيف كانوا:
بينما كان السيدان يعملان عملهما ويقويان حزبهما كنا تاركين للمسألة حالها تسير بطبيعتها ولو كنا على شيء من سوء النية أو القصد إلى الاستيلاء بالأغلبية لكنا دعونا تلامذتنا دعوة عامة للحضور- وهم كثر وكلهم من أهل العلم- فملؤوا نادي الترقي والشوارع المتصلة به ولا فخر ولكن ما كنا- والحمد لله- لنقصد إلى التكثر ولا إلى العصبية والتحزب وإحداث الفرقة بين الناس.(3/19)
صبيحة يوم الإثنين وما صبيحة الإثنين:
اكتظ النادي على سعته بالناس وألقيت خطاب الافتتاح والترحيب وعرَّفت الجمع بأن المنتخبين لا بد أن يكونوا من أهل العلم كما تنص عليه المادة السابعة من القانون الأساسي للجمعية التي تقول: "الأعضاء العاملون هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري بدون تفريق بين الذين تعلموا ونالوا الإجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية وبين الذين تعلموا بالعاهد العلمية الإسلامية الأخرى" وعرفت الجمع بأن مجلس الإدارة عين لجنة لتقيد أسماء من ينطبق عليهم هذا الوصف المذكور في المادة وأنها تقبل من كانت له شهادة أو كان باشر التعليم أو كان يشار إليه بالعلم في قومه وأنه بعد تقييد أسماء المنتخبين يكون الانتخاب. وهنا قامت القيامة واضطربت أركان القاعة بالضجيج وأبى القوم إلا الانتخاب في الحين دون اعتبار للمادة القانونية ولا اعتبار لتقييد أسماء المنتخبين، واستمر ذلك الاضطراب وذلك الهياج إلى قرب الزوال فافترقنا- بعد أن وقفنا على شفا حفرة من الهلاك فأنقذنا الله منها- على أن نجتمع مساء على الساعة الثانية بعد الزوال.
لوازم واستاجابات:
عرفنا بما رأينا في ذلك الجمع وما سمعنا فيه أن أهل العلم قد حشر فيهم من ليس منهم وكان معهم من لم يتخلق بأخلاقهم ولا تأدب بآدابهم وأن ما وقع صباحا سيقع مساء وأن ذلك مفض ولا محالة إلى عاقبة سيئة ربما قضت على الجمعية وعلى النادي الذي نحن ضيوف فيه وأن المسؤولية تكون على رئيس الجمعية فلزمني إذاً أن أخبر إدارة الشرطة لترسل أعوانها لحفظ النظام فأعلمتها وعرفت بما رأيت وما سمعت أنه يراد الاستيلاء على الجمعية بطريق غير مشروع(3/20)
وبعدد كبير لا تنطبق عليه المادة القانونية، ولذلك فر من فر من الوقوف أمام اللجنة وهي لجنة تعريف وسؤال لا لجنة امتحان، فلزمني أن أحافط على شرف الجمعية العلمية من أن يسيطر عليها غير أهل العلم.
مساء الإثنين:
ما جاءت الساعة الواحدة بعد الزوال حتى امتلأت سقائف النادي ورحابه والدرج المصعدة إليه- فما أكثر العلماء في ذلك اليوم- وبقي الناس في انتظار الساعة الثانية لفتح باب النادي وجاء أعوان الشرطة وفتح النادي، وعاد الحال إلى ما كان عليه في الصباح ولما رأيت الأمر لا يزيد إلا هياجا وارتباكا أعلنت بارتفاع الجلسة ووقف الشرطة محافظين على النظام حتى خرج الناس. ولا والله ما أهان الشرطة أحداً ولا زادوا على إسكاتهم للغوغاء وحفظهم للنظام وأحسب أنه لولا وجود الشرطة عند الإعلام برفع الجلسة لكانت وجوه خاصة رأيتها ثم تفعل ما لا تحمد عقباه. ولا أشك أن التهويل الذي أثاره بعض الناس في بعض النشريات على استدعاء الشرطة والتقبيح لذلك أمام الفكر العام والتعديِّ بالباطل على أعوان الحكومة ورميهم بأنهم أهانوا العلماء، لا أشك أنهم ما حملهم على ذلك إلا شدة تأسفهم على ما فاتهم من كيد دبروه كانوا ينفذونه لولا وجود أعوان الشرطة، مع ما يقصدون من الحط من مقام الجمعية. فنحن بقدر ما تقولوا على أعوان الشرطة وسبوهم نشكرهم على حفظهم للأمن والنظام وقيامهم بواجبهم ونعترف بأنه لولاهم- بعد حفظ الله- لكانت الجمعية في خبر كان.
يوم الثلاثاء:
أصدرت الجمعية منشورا ونشرت في الصحف الفرنسية بما وقع وأعلمت أن الانتخاب يكون من الغد يوم الثلاثاء فجاء(3/21)
الناس صبيحة الثلاثاء وكان الانتخاب مساءها على ما هو مبين بالصحف وبيان الجمعية. وكان يوم هدوء ونظام وتأمين. وشاهد أعوان الشرطة ورجال الخفية الفرق بين يوم الإثنين الذي حضرته الغوغاء ومن حشر في أهل العلم ويوم الثلاثاء الذي لم يحضره أولئك- ولا أعني بكلامي هذا أن كل من تخلف عن يوم الثلاثاء فهو ليس من أهل العلم كلا- فقد تخلف بعض أهل العلم الذين لم يستطيعوا بما شاهدوا من فظاعة يوم الإثنين أن يعودوا إلى الاجتماع أو لم يحسبوا يوم الثلاثاء إلا مثل يوم الإثنين.
كيف كان الترشيح للإنتخاب:
قدم مجلس الإدارة القديم قائمة هذه صورتها: الشيوخ ابن باديس، الإبراهيمي، العقبي، الميلي العمودي، الفضيل (من مجلس الإدارة القديم وكانوا حاضرين)، المهاجي (منه وكان غائبا لقدومه من الحج) ابن عربية، أبو اليقظان خير الدين، التبسي، المكي، القاسمي (هؤلاء جدد وكانوا حاضرين) أبو عبد الله البوعبدلى (جديد وكان غائبا واعتذر ببرقية يقول فيها: اعتبروني، معكم في كل شيء) وأعلن للمنتخبين أن لهم الحرية في أن ينتخبوا القائمة كلها أو يرفضوها كلها أو يختاروا بعضها دون بعض فجرى الانتخاب على الوجه القانوني على تفاوت في عدد الأصوات وفاز الشيوخ المذكورون إلا واحداً فاز عليه الزاهري بنحو العشرين صوتا.
عناصر مجلس الإدارة:
لقد جاء مجلس الإدارة مؤلفا من جميع عناصر الأمة الجزائرية ممثلا لها خير تمثيل ففيه من العلماء المنتمين للزوايا كالمهاجي وأبي عبد الله والفضيل وفيه من العلماء الموظفين كابن(3/22)
عربية القاضي والمعمودي الوكيل الشرعي وفيه من علماء القبائل الفضيل وفيه من علماء الإباضية أبو اليقظان، أفبعد هذا يقول قائل يلتزم الصدق: أن الجمعية إنما تمثل طائفة.
رئاسة الجمعية:
شاء الإخوان أن يجددوا لهذا العاجز حمل مسؤولية الرئاسة رغم امتناعه ووالله لقد كنت أود لو صرفت عني ووالله لولا خوفي من عظيم المسؤولية عند الله ما قبلت من إخواني ذلك رغم شدة احترامي لإرادتهم، وتقديري لإشارتهم، فالله نسأل لنا ولهم أن يعيننا جميعا على القيام بقوة وأمانة وإخلاص بهذا العبء الثقيل (1).
__________
(1) ش: ج 8، م 8، ص 395 - 409 غرة ربيع الثانى 1351هـ - أوت 1632م.(3/23)
بواعثنا - عملنا- خطتنا- غايتنا
رأينا كما يرى كل مبصر ما نحن عليه معشر المسلمين من انحطاط في الخلق وفساد في العقيدة وجمود في الفكر وقعود عن العمل وانحلال في الوحدة وتعاكس في الوجهة وافتراق في السير. حتى خارت النفوس القوية وفترت العزائم المتقدة، وماتت الهمم الوثابة ودفنت الآمال في صدور الرجال، واستولى القنوط القاتل واليأس المميت فأحاطت بنا الويلات من كل جهة وانصبت علينا المصائب من كل جانب.
رأينا هذا كله كما رآه المسلمون كلهم وذقنا منه الأمرَّين مثلهم ففزعنا إلى الله الذي لم تستطع هذه الأهوال والمصائب كلها أن تمس إيماننا به، وتزعزع ثقتنا فيه، فاستغثنا واستجرنا واستخرنا، وتوسلنا إليه جل جلاله بالإيمان وبسابق آلائه، وجأرنا إليه بأسمائه، فهدانا- وله المنة- إلى النور الوضَّاء الوهاج الأتم، والمنهاج الواضح الأقوم، هدانا إلى سنة سيدنا الأكرم، وقدوتنا ألأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
عرفنا- مما هدانا إليه ربنا- الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والهدى الذي ما بعده إلا الضلال وسبيل النجاة التي ما في كل مخالفتها إلا الهلاك، والدواء الذي بدونه لا تبرأ النفوس من أدوائها ولا تظفر بالقليل من شفائها، فحمدنا الله على ما هدانا وعقدنا العزم على المحافظة على هذه النعمة وشكرها، وما شكرها إلا في العمل بها وبنشرها وأشفقنا على أنفسنا من تبعة الكتمان وما جاء فيمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه من ضعف الإيمان، فأخذنا على(3/24)
أنفسنا دعوة الناس إلى السنة النبوية المحمدية وتخصيصها بالتقدم والأحجية فكانت دعوتنا- علم الله- من أول يوم إليها والحث على التمسك والرجوع إليها ونحن اليوم على ما كنا سائرون وإلى الغاية التي سعينا إليها قاصدون وقد زدنا من فضل الله، أن أسسنا هذه الصحيفة الزكية. وأسميناها (السنة النبوية المحمدية) لتنشر على الناس ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في سيرته العظمى، وسلوكه القويم، وهديه العظيم، الذي كان مثالا ناطقا لهدي القرآن وتطبيقا لكل ما دعا القرآن إليه بالأقوال والأفعال والأحوال مما هو المثل الأعلى في الكمال والحجة الكبرى عند جميع أهل الإسلام فالأئمة كلهم يرجعون إليها، والمذاهب كلها تنطوي تحت لوائها، وتستنير بضوئها، وفيها وحدها ما يرفع أخلاقنا من وهدة الانحطاط ويطهر عقيدتنا من الزيغ والفساد ويبعث عقولنا على النظر والتفكير، ويدفعنا إلى كل عمل صالح ويربط وحدتنا برباط الأخوة واليقين ويسير بنا في طريق واحد مستقيم ويوجهنا وجهة واحدة في الحق والخير ويحيي منا النفوس والهمم والعزائم ويثير كوامن الآمال ويرفع عنا الإصر والأغلال ويصيرنا-حقا- خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
فها نحن اليوم نتقدم بهذه الصحيفة للأمة كلها على هذا القصد وعلى هذه النية: عملنا نشر السنة النبوية المحمدية وحمايتها من كل ما يمسها بأذية. وخطتنا الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية المحمدية دون تفريق بينهم. وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال، والأفعال، والسير، والأحوال حتى يكونوا للناس كما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم مثالا أعلى في الكمال.(3/25)
والله نسأل التوفيق والتسديد في القصد والقول والعمل لنا وللمسلمين أجمعين (1).
الرئيس عبد الحميد بن باديس
__________
(1) السنة الأولى، العدد الأول، الإثنين 8 ذي الحجة- 1351هـ- 1932م، ص1.(3/26)
((عبداويون))! ثم ((وهابيون))!
ثم ماذا؟ لا ندري. والله!
بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعببة العلماء المسلمين الجزائرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 32 وعزمنا على القيام بالتدريس أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها والتفسير والحديث والأصول ومبادئ التاريخ ومبادئ الجغرافية ومبادئ الحساب وغير هذا ورأينا لزوم تقسيم المعلمين إلى طبقات واخترنا للطلبة الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضعتها وزارة المعارف المصرية وأحدثنا تغييرا في أساليب التعليم وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي ونحبب الناس في فهم القرآن وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين ومؤلفات المعاصربن، لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود وصاروا يدعوننا (1) للتنفير والحط منا "عبداويين" دون أن أكون- والله- يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرة سوادهم وشدة مكرهم وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشء علمي لم نخلط به غير. من عمل آخر فلما كملت العشر
__________
(1) كذا فى الأصل والصواب: يدعون.(3/27)
وظهرت- بحمد الله- نتيجتها رأينا واجبا علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح إلى الكتاب والسنة وهدى صالح سلف الأمة وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات فكان لزاما أن نؤسس لدعوتنا صحافة تبلغها للناس فكان المنتقد وكان الشهاب ونهض كتاب القطر ومفكروه في تلك الصحف بالدعوة خير قيام وفتحوا بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وكانت هذه المرة غضبة الباطل أشد ونطاق فتنته أوسع وسواد اتباعه أكثر وتمالأ على دعاء الحق الجمود والبدعة وعليها بنيت صروح من الجاه، ومهما جرت أنهار من المال، وأصبحت الجماعة الداعية إلى الله يدعون من الداعين إلى أنفسهم "الوهابيين" ولا والله ما كنت أملك يومئذ كتابا واحدا لابن عبد الوهاب ولا أعرف من ترجمة حياته إلا القليل ووالله ما اشتريت كتابا من كتبه إلى اليوم، وإنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لا يعرفون ويحأولون من إطفاء نور الله ما لا يستطيعون وسنعرض عنهم اليوم وهم يدعوننا "وهابيين" كما أعرضنا عنهم بالأمس وهم يدعوننا "عبداويين" ولنا أسوة بمواقف أمثالنا مع أمثالهم من الماضين.
ولما كان من سنة القرآن الحكيم التنبيه على مشابهة اللاحقين من الناس للسابقين في منازعهم وأهوائهم وكثير من أحهوالهم حتى كان التاريخ يعيد نفسه بإعادة ذلك منهم وجاء ذلك في مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ} وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وغيرها، لما كان هذا من سنة القرآن فتحنا هذا الباب من الصحيفة تحت عنوان: "التاريخ يعيد نفسه" لننشر فيها- ما أمكننا النشر- قصصا عن حياة رجال السنة المصلحين مع دعاة البدعة المبطلين، تزيد العالم المصلح ثباتا على الحق والقاريء(3/28)
الصادق تبصرة في الأمر و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
ولسنا نقصد في وضع قصصنا إلى وضع تأليف ولا نخص هذا النقل بكاتب معين أو كتاب مختص، وبين أيدينا الآن كتاب "الاعتصام" لمؤلفه علامة العقول والنقول أبي إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 790، فرأينا أن ننقل منه الفصل التالي الذي يذكر فيه أبو إسحاق ما رمي به من مثل ما رمينا به حتى كأنا في زمان واحد، قال رحمه الله: "فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا، فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما روي عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أنه قال لو خرج رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي فكيف لو كان اليوم، قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان. وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان فقلت: ما أغضبك؟ فقال: "والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا". وعن أنس بن مالك قال: "ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا بلى يا أبا حمزة؟ قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وعن أنس قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في المنكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب(3/29)
دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعرض أجرا عظيما، وكذلك فكونوا إن شاء الله.
وعن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف، ما عرف غير هذه القبلة.
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وإنما تتكاثر على توالي الدههور إلى الآن.
فتردد النظر بين- أن اتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل- وبين أن اتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد، وأعد المؤالفين، لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوَّق إلى العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وأني لو التمسك لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن، رقي بي مرتقا صعبا، وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفهت السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب(3/30)
أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أني لم التزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلي الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم- بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطباء للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة فلا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل فدعاؤه للغزاة والمرابطين قال ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وأما أن يكون شيئا يعمد إليه في خطبته دائما فإني أكره ذلك. ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم. وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على المسائل ويوافق هواه، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره.
وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب "الموافقات" (1) وتارة إلى معاداة أولياء الله، وسببب ذلك أني
__________
(1) كتاب للمصنف في الأصول وحكم الشريعة هو فيه نسيج وحده (المؤلف).(3/31)
عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلي مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية- ما- عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك وأوهموا والحمد لله على كل حال.
انتهى كلام أبي إسحاق وسننقل عنه في العدد الآتي ما ذكره من حال بعض الأئمة الذين كانوا قبله ووقع لهم ما وقع له (1).
__________
(1) السنة الأولى العدد 3 ص الإثنين 29 ذي الحجة 1351 هـ.(3/32)
الدعاء منه عادة ومنه عبادة (1)
"الدعاء: هو النداء لطلب شيء من المدعو ولذلك لا يدعي إلا العاقل أو ما نزل منزلته مجازا من الجمادات أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات، وإذا كان لشيء معظم ليطلب منه ما وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشربة فهو عبادة. ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضا لغرض من الأغراض".
الشهاب ج 12، م 6، شعبان 1349.
"يجب أن نمهد لمناقشته- (الشيخ الدجوي) -: بيان معنى الاستغاثة وتقسيمها، فالاستغاثة هي طلب الغوث، وهو تخليص من شدة أو إعانة على دفع مشقة فهي من أقسام النداء والدعاء، وتكون من المخلوق لخالقه عبادة وتكون من المخلوق لمثله عبادة، فيدعو المخلوق ويستغيث به فيما هو مقدوره كقولك يا زيد أسقني ماء ويا عمرو أدعوك لتنصحني وإنني في عسر مالي فأغثني وفرج عني بما تقرضني وعلى هذا جاء قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، فقد طلب منه أن ينصره عليه بما عنده من القوة البدنية، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ولم يطلب منه أن (يتصرف) له فيه بتصرف باطن وعليه جاء قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي
__________
(1) فيه الرد على ما نشر بالبلاغ عدد 282.(3/33)
طلبوا منكم النصرة بالقوة التي في يديكم من العدد والعدة لا أنهم طلبوا منكم أن تنصروهم بطريق الغيب و"التصرف".
ويدعو المخلوق خالقه ويستغيثه، في تيسير الأسباب العادية وفيما هو وراء تلك الأسباب من الألطاف الخفية وما هو فوق الطاقة البشرية وعلى هذا جاء قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فتوجهوا إليه بالدعاء وطلب التخليص من المكروه بالنصر على الأعداء وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظهرانيهم فلم يستغيثوه لعلمهم أن الاستغاثة فيما وراء الأسباب لا تكون إلا لله.
فعلم من هذا أن الاستغاثة قسمان: إستغاثة بما هو في طوق البشر ودائرة الأسباب وهذه تكون للمخلوق لأنها عادة واستغاثة فيما هو خارج عن طوق البشر ودائرة الأسباب، وهذه لا تكون إلا للخالق لأنها عبادة، وعلى هذين القسمين نزلنا آيات التنريل.
أفخفي هذا على فضيلته حتى أخذ يستدل بآية الاستغاثة العادية التي تكون بين المخلوقين على الاستغاثة التعبدية التي لا تكون إلا لله. إن خفاء هذا على مثله لعجيب.
ثم هذا التقسيم الذي ذكرنا في الاستغاثة هو بنفسه يجري في الدعاء وما الاستغاثة إلا نوع منه فما كان منه لشيء معظم ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشرية فهو عبادة ولا يكون من المخلوق إلا لخالقه وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم لبعض لغرض من الأغراض ومن الأول قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فنصره الله تعالى بما ليس من صنع البشر ومن الثاني قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فدعا موسى قومه وطلب منهم ما هو في مكنتهم.(3/34)
جهل هذا كله من كلامنا أو تجاهله بعض الطلبة فادعى علينا بالباطل وكتب في بعض الصحف يقول: (والملخص مما يدور عليه كلامكم هو كون الدعاء عبادة بإطلاق) ثم أخذ بناء على دعواه هذه المبنية على جهله أو تجاهله يندد ويشنع ويتعجب، وقد وجد مادة - د ع و - وأمَامَه واسعة فنقل معظمها فانتفخ بها بطن المقال دون أن تكون به حاجة إليها في المقام.
ج 6، م 7 صفر 1350.
لا يجوز دعاء غير الله ولا أحد مع لله.
الدعاء عبادة، وكل عبادة فإنها لا تكون إلا لله: فالدعاء لا يكون إلا لله هذا قياس من الضرب الأول من الشاكل الأول مقدمته الصغرى دليلها من نفسها لأنها من لفظ الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره ومقدمته الكبرى معلومة من الدين بالضرورة ومن أدلتها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإذا كان سيدي الطالب له إلمام بقواعد المنطق الأولية فهذا يكفيه وإذا أراد التوسع فليتفهم ما نقلناه سابقا من المجلد السادس والسابع وليراجع بقية ردنا على الشيخ الدجوي في المجلد السابع وبقية مجالس التذكير في المجلد السادس وليجد الفهم فيما كتبناه في الدعاء، بالمجلد الثامن.
من دعا غير الله فقد عبده.
لما كان الدعاء عبادة فمن دعا فقد عبد ومن دُعي فقد عبد، ولهذا تواردت نصوص الآيات والأحاديث على النهي عن دعاء غير الله دون استثناء لشيء من مخلوقاته، مثل قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} {أَمَّنْ(3/35)
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. وقال عليه وآله الصلاة والسلام في وصيته لابن عباس- رضي الله عنهما-: «وإذا سألت فاسأل الله» رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهو في الأربعين النووية فإذا أراد سيدي الطالب أن يزداد بصيرة فليطالع شراحها.
فإن قلت أن الداعي للمخلوقات لا يسمى دعاؤه عبادة قلت أن من فعل ما يسميه الشرع عبادة كان فعله عبادة لأن العبرة بتسمية الشرع لا بتسميته، ولأن العبرة في التسمية الشرعية بالعمل، لا بتسمية العامل كمن حلف بغير الله فقد أشرك بتسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منه شركا في قوله: «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وإن لم يسمّ الحالف فعله ذلك شركا. وراجع ص 20 - 721 من المجلد السادس من الشهاب تزدد علما.
التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غير دعائه.
دعاؤه هو الطلب منه قضاء الحوائج وهذا ممنوع بالأدلة المتقدمة والتوسل به أن تطلب من الله وتسأله به صلى الله عليه وآله وسلم، مثل أن تقول اللهم إنني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة مثل ما في حديث الأعمى الذي تكلمنا عليه في الجزء الثالث من المجلد الثامن وذكرنا دلالته على جواز التوسل به عليه الصلاة والسلام ومن التوسل به التشفع أو لاستشفاع به، وكله بمعنى الطلب من الله به فالله هو المدعو وهو المطلوب منه، وهذا كله جائز لا كلام لنا فيه غير أن سيدي الطالب لم يفرق بين دعائه والتوسل به فذهب يستدل بالجائز على(3/36)
الممنوع مسويا بينهما، وما ذكره عن البيهقي وفي العتبي- على تسليم صحته وعلى ما في سنده- لا يخرج عن التوسل والاستشفاع به صلى الله عليه وآله وسلم وهو غير دعائه وطلب الحوائج منه الذي قامت الأدلة على منعه من كل مخلوق لأنه من العبادة التي لا تكون إلا للخالق، وما نقله من كلام الشيخ ابن تيمية هو في بيان أن استجابة دعاء الداعي لا تكون دليلا على أن دعاءه مشروع كما هو صريح كلامه، ويكفي دليلا على مراده هذا هذه العبارة الأخيرة مما نقله من كلامه وهي قوله: "فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر إما أنه يدل على حسن حال المسائل فلا" وكون السؤال وقع من بعض الناس له مخالفين أمره وقوله إذا سألت فاسأل الله، شيء وكونه شرعه لنا ودعانا إليه شيء آخر وقد خفي على سيدي الطالب هذا القدر من الفرق ما بينهما فجعل سؤال بعض الناس دليلا على المشروعية ولو تأمل الفصل الطويل الذي نَقلَ بعضه من كلام الشيخ ابن تيمية لظهر له الفرق جليًا.
نصيحة بنصيحة.
نصحني سيدي الطالب إذا يسر الله لي زيارة القبر الشريف أن أسأله عليه وآله الصلاة والسلام الشفاعة، وقد يسر الله لي ذلك وله الحمد والمنة منذ عشرين سنة، وقد دعوت الله وحده وتوسلت له بنبيه وتوجهت إليه به أن يميتني على ملته، ويجعلني من أنصار سنته، وأهل شفاعته، إلى أشياء أخرى قد استجاب الله تعالى بعضه (1)، وأنا أرجو الاستجابة في الباقي وجزاء نصيحتك أيها الأخ أنني أنصحك بالتأمل الجيد فيما تقرأ وتكتب والتثبت التام فيما تعزو وتنقل فإننا
__________
(1) كذا في الأصل ولعله بعضها.(3/37)
لا ندين إلا بما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، من آية قرآنية أو سنة نبوية قولية أو فعلية، وما كان عليه السابقون مما رواه الأئمة في كتب الإسلام المشهورة، فعليك إذا نقلت أن تبين الكتاب وتعين المحل المنقول منه ليكون لقولك قيمة في مقام البحث والنظر، والله يتولى إرشادك وتسديد خطاك في سنن العلم والدين (1). الأستاذ عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 2، م 6، ص 92 - 96 غرة شوال 1351هـ- فيفري 1933م.(3/38)
كلمة كفر لو دري قائلها
لما كتبنا في الجزء الماضي في تحقيق العبادة الشرعية تحرينا الاستدلال بالكتاب والسنة وهدي الصحابة لأن المسألة مسألة دينية وهذه هي مآخذها، ولأنها جرى فيها خلاف والله تعالى يقول:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فقال عنا أحد الكاتبين في جريدة (آتي البيوت من ظهورها) فسمى إستدلالنا بالكتاب والسنة وهدي الصحابة إتيان للبيوت من ظهورها وهي كلمة مصادمة للآية القطعية المتقدمة وغيرها ولعل الكاتب لم يتفهمها ولم يدر مقتضاها وإلا فما كان لمسلم أن يقولها. ثم إذا كان الكتاب والسنة وهدي سادات الأمة ظهورا للبيوت فما هي- يا صوفي الزمان- أبوابها. ما عندنا- والله يا أخي- إلا هذه التي جعلتها ظهورا للبيوت، فإذا كانت لا ترضيكم- فـ {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (1).
__________
(1) ش: ج 2، م9، ص 96 غرة شوال 1351هـ - فيفري 1933م.(3/39)
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
جواب الرئيس للشيخ قدور الحلوي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى جناب المكرم المحترم سيدي قدور الحلوي السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد وقفت في بعض الجرائد على تقديمكم استعفاءكم لنا من عضوية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن رئاسة لجنتها الدائمة بالجزائر احتجاجا على البرقية المنشورة في بعض أعداد (الدفاع) الأخيرة بغير استشارة ولا موافقة غالب أعضاء الجمعية. وتحرجا مما نشر في مجلة الشهاب من مقال منقول عن مجلة المنار الإسلامي.
فأما استعفاؤكم من عضوية الجمعية فقد قبلته. وأما استعفاؤكم من رئاسة لجنتها الدائمة فهو واقع منكم في غير محله إذ حضرتكم لم تكونوا رئيس اللجنة في يوم من الأيام ورئيسها معروف منشور اسمه مع أعضائها في عدد (السنة) الذي نشر فيه الاجتماع العام الماضي ومن العجب أن يخفى عليكم هذا. وأعجب منه أن لا يعرف عضو في جمعية مركزه فيها، وأما البرقية المنشورة في (الدفاع) فهي برقية احتجاج على لجنة م ميرانت الوزارية التي ذهبت لتطعن المسلمين الجزائريين الطعنة النجلاء في مسألة المساجد والمكاتب والصحافة وهي مسائل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كتبت فيها صحفها- أيام كانت لها صحافة- ونشرت فيها بياناتها ووجهت فيها برقيات احتجاجها قبل تكوين هاته اللجنة، أتريد من الجمعية أن تسكت عن الاحتجاج لما احتج القطر كله بالمظاهرات والبرقيات مع جميع الجهات والطبقات؟ أفتخرج الجمعية عن إجماع المسلمين في مسائل هي(3/40)
المقصودة بها بالذات؟ وأما توجيه البرقية باسم الجمعية فلاعتماد الرئيس على التفويض المعطي له من المجلس الإداري في القيام بالدفاع عن الجمعية في جميع مسائلها وقد علم كل أحد أن هذه المسائل هي مسائل الجمعية التي ما زالت تدافع عنها وتضطهد فيها ومن أجلها. على أن أكثر أعضاء المجلس الإداري قد خاطبوا الرئيس يستحثونه على القيام بالاحتجاج. وستسمع يوم الاجتماع العام الآتي كيف يكون التصويت على تلك البرقية وغيرها بالإجماع ليعلم كل أحد أن هذه الجمعية متضامنة في جميع أعمالها لا يشذ عنها إلا من شذ. وأما جعلكم تحرجكم مما نشر بمجلة (الشهاب) السبب الثاني لاستعفائك، وعجب آخر من حضرتكم إذ مجلة الشهاب معروفة بخطتها الإصلاحية مستقلة بها من يوم نشأتها قبل وجود الجمعية بسبع سنوات فكيف تحملون مسؤوليتها على الجمعية.
فأما ما تهجمتم به على الجمعية في بقية مقالكم ولخصتم به ما كان يتقوله غيركم عن الجمعية وأنتم من أعضائها دون أن يحملكم على الخروج منها، فإنا لا نجيبكم عنه لأنا فرغنا منه قبل اليوم مع أناس بيتت حقيقتهم الأيام وضربهم الله بالتفرق والخذلان، فأين هم، وأين صحافتهم اليوم، وتلك عاقبة الظالمين ونهاية كيد الخائنين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
الجزائر: عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
__________
(1) ش: ج 7، م 10، ص 341 - 342 غرة ربيع الأول 1353هـ - 14 جوان 1934م.(3/41)
إنكار العلماء المتقدمين على المدعين المبتدعين
للأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كلما قام دعاة الإصلاح بالإنكار على البدع الفاشية، والضلالات الرائجة، وبينوا قبحها وضررها بالبراهين الساطعة وأفحموا أهلها بالأدلة القاطعة، صاح المتعيشون عليها في اتباعهم المغترين بهم: "لو كان ما نحن عليه باطلا لأنكره العلماء المتقدمون قبل أن ينكره هؤلاء (العصريون) لكن المتقدمين رحمهم الله رأوه وسكتوا عليه وأقرو. ورضوا به ومضى على ذلك الزمن الطويل وعاش عليه الجيل بعد الجيل، وقالوا مثل ما قال الأولون {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ولما كان هذا قد يغر الجاهل وشبه الجاهل فيحسب أن الأمر كما ذكروا وأن العلماء المتقدمين سكتوا وما أنكروا، أردنا أن ننقل لقراء (السنة) بعضا من إنكار أهل العلم على هؤلاء، المتسمين بالفقراء المدعين لطريقة الزهد المتمسكين بالبدعة ليعرفوا سنة العلماء في الرد عليهم والتقبيح لحالهم والتحذير من ضلالهم فيعلموا أن العلماء الإصلاحيين المعاصرين ما جاءوا إلا على سنة سلفهم المتقدمين وما قاموا إلا بما يفرضه عليهم الدِّين من نصح المسلمين وإرشاد الضالين والذبِّ عن سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعليهم وسلم.(3/42)
إنكار الإمام القشيري، صاحب الرسالة القشيربة، من أهل القرن الخامس:
قال في وصف المتشبهين بالصوفية المنتحلين لطريقتهم المباينين لسلوكهم: " فعدُّوا قلة المبالات بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارقفاق بما يأخذونه من السوقة وأصحاب السلطان".
إنكار الإمام أبي بكر الطرطوشي المالكي، من أهل القرن الخامس والسادس:
قال في خطبة كتابه الذي ألفه في إنكار البدع والمحدثات وعندنا منه نسخة خطية مكتوبة نحو القرن العاشر: "ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المؤمنين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والتغيير واعتقدته من الدين الذي يقربنا إلى الله عز وجل وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت به سييل المؤمنين وخالفت الفقهاء والعلماء وحماة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتي (1) عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق".
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: الفتوى.(3/43)
إنكار الإمام أبي حيان الأندلسي، من أهل القرن السابع والثامن:
قال في الجزء الرابع من تفسيره الكبير ص310، وهو يصف متصوفة زمانه مما ينطبق على أمثالهم في زماننا: "ولو عاش الحسن إلى هذا الزمن العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم أذكارا لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداما يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعود عنهم كرامات، ويرون لهم منامات يدونونها في أسفار، ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسنة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة، ونصب أيديهم للتقبيل، وقلة الكلام واطراق الرؤوس وتعيين خادم يقول: الشيخ مشغول في الخلوة، رسم الشيخ، قال الشيخ، رأى الشيخ، الشيخ نظر إليك، الشيخ كان البارحة يذكرك، إلى نحو من هذه الألفاط التي يخشون بها على العامة ويجلبون عقول الجهلة هذا ان سلم الشيخ وخادمه من الاعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذلك يكون منسلخا من شريعة الإسلام بالكلية والعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليهم الأوقاف وتخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به".
إنكار الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي، من أهل القرن الثامن:
قال في كتاب الاعتصام (1: 216) - يصف فقراء زمانه بالأندلس-: "فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها(3/44)
الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقلما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن فضلا عن غيرها ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة وتنزل فيها السكينة وتحف بها الملائكة. فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا فاقتدوا بالجهال أمثالهم، وأخذوا يقرأون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها، فخرجوا على الصراط المستقيم".
إنكار الإمام القلصادي المالكي، من أهل القرن التاسع:
قال في كتابه "لباب الأزهار اليمنية على الأنوار السنية" ص 35: " وكم من سنة دثرت وبدعة أقيمت وتوصل عليها بدلائل وذلك بسبب علماء السوء لأن البدعة في الغالب لا يحدثها عالم لكن إذا وقعت ينصرها من كان له غرض فاسد ويقيم الدَّليل على صحة ذلك ويحدث لذلك اتباع على ما هو مشاهد معلوم" وقال فيه ص 151: "وليس المراد بالذكر ادامته باللسان فقط وعدم التحلي به وذلك من تلبيس إبليس ويحسبون أنهم على شيء".
إنكار الشيخ عبد الرحمن الأخضري الجزائري، من أهل القرن العاشر:
لهذا العالم الصالح قصيدة تعرف بالقدسية مشهررة وصف فيها هذه الطائفة وصفا كاسفا فاضحا صورهم على الصورة التي يعرفها منهم كل من عرفهم ولا يستطيع أن ينكرها أحد حتى المتعصب لهم، ومما قال فيهم: وظهرت في هذه البلاد: طائفة البلع والازدراد .. الخ.
إنكار الشيخ عبد الكريم الفكون القسنطيني، من أهل القرن الحادي عشر:
قال في كتابه: "منشور الهداية في التعريف بحال من ادعى العلم(3/45)
والولاية" فلما رأيت الزمان بأهله تعثر وسفائن النجاة من أمواج البدع تتكسر وسحائب الجهل قد أضلت وأسواق العلم قد كسدت واضمحلت فصار الجاهل رئيسا والعالم في منزله يدعي من أجلها خسيسا وصاحب أهل الطريقة، قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولى عليه لائحة، تمسكوا من دنياهم بمناصب شرعية، وحالات كانت قدما للسادات الصوفية، فأوهموا العامة بأسماء ذهبت مسمياتها وأوصاف تلاشت أهلها منذ زمان وأعصار لبسوا باتنحالهم لها على أهل العصر أنهم من أهلها- وربما صارت الطائفة البدعية مقطعا للحقوق وقسما يقسم بهم في البر والعقوق- أعلنوا بأن سوابق الأقدار منوطة بإرادتهم وتأثيرات الأكوان صادرة عن اختيارهم فزادت بهم العامة شغبا إلى شغبهم وتشويشا دخل في قلوبهم واتخذت أتباعهم ألقابا باسم الشيخوخة، وزاد في إفصاج أحوالهم والحمل على بثها وإبدائها ما أحدثوه من أن من مات منهم بنوا عليه وشيدوا بناءات وجعلوا عليهم قبابا من العود وألواحا منقوشة بأسمائهم وما اختاروا من ألقاب التي لا تصلح لهم، وهي من أوصاف ساداتنا العلماء والعاملين والصلحاء الفاضلين وصيروا ذلك لغابر الدهر بحيث أنهم لبسوا على العامة في الحياة وعلى من سيكون بعد الممات".
إنكار الشيخ مصطفى لعروسي، من أهل القرن الثالث عشر:
هذا العالم هو محشي شيخ الإسلام زكرياء شارح الرسالة القشيرية قال- بنقل الأستاذ الميلي في تاريخ الجزائر (2: 263) -: "إني بذلا للنصيحة أحذرك من متابعة مشايخ هذا الوقت ممن لا يثمر الاجتماع بهم خلاف المقت إذ هم قطاع طريق الله على عباده وأعداء الأولياء الداعين إلى سبيل رشاده حيث لا همة لهم إلا جمع العرض(3/46)
الفاني ولا سعي لهم إلا في تجريد القاصي والداني أزاحهم الله من جميع البلاد وأراح منهم الدواب والعباد … فعليك يا أخي في مثل هذا الوقت بخاصة نفسك وتباعد عمن بهم تزيد قاذورات رجسك وتابع هدى سيد المرسلين وإمام كل النبيين- والمرسلين فكافيك التمسك بالقرآن والتمسك على طريق سيد ولد عدنان ولا تغرنك - لو فرض- خوارق العادات فإنها كما تكون للكرامة توجد لقصد الإهانة. فهذه وصيتي إليك قد ذكرتها شفقة عليك دعاني لذكرها رعاية المقام فتقبلها مني وعليك السلام".
بان بهذا لمن عرف وأنصف أن الحق لم يعدم أنصارا في سائر الأزمان وأن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة على مرِّ الأيام وأن الطائفة القائمة على الحق التي تحيي من سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما أمات الناس لن تزول من على وجه الأرض ولا تزال ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله والحمد لله رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) السنة، السنة الأولى، العدد 4، ألاثنين 6 محرم الحرام 1352هـ - ص 1(3/47)
الصوفي السني
بين الحكومة السنية والحكومة الطرقية
بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريبن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الصوفي السني فهو الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف السنوسي الذي توفاه الله منذ أشهر بالمدينة المنورة فقد كان على جانب عظيم من التمسك بالكتاب والسنة والتخلق بأخلاق السلف الصالح وكانت دعوته إلى الله وإرشاده للعباد بهدايتهما وكانت تربيته لأتباعه مبنية على التفقه في الدين والتزام العمل به والزهد والصبر وحفظ الكرامة. وأما الحكومة السنية فهي الحكومة السعودية القائمة على تنفيذ الشريعة الإسلامية بعقائدها وآدابها وأحكامها الشخصية والعمومية حتى ضرب الأمن أطنابه ومد العدل سرادقه على جميع تلك المملكة العربية العظيمة بما لم تعرفه دولة على وجه الأرض غير دولة الإمام يحيى المضارعة لها في السنية وإقامة عمود الشريعة الإسلامية.
وأما الحكومة الطرقية فهي حكومة مصر التي تشارك المشاركة الرسمية في بدع المواليد وتؤيد تأييدا رسميا الإجتماعات الصوفية بما فيها من مناكر وقبح مظاهر وسوء مناظر مما تضج منه صحافتها كل يوم فضلا عن العلماء المصلحين من أمتها. ويواطؤها على هذا علماؤها الرسميون بسكوتهم وإقرارهم وأحيانا بدفاعهم وتأويلاتهم.
أما كيف كان هذا الإمام بينهما فهاك الخبر لتنظر وتعتبر: لما(3/48)
رجع الإمام من الأناضول بعد ما أنكر الكماليون جميله واستثقلوا بقاءه، ما آوته إلا الحكومة السنية حكومة ابن سعود فأقام عندها في الحجاز مكرما مبجلا. وأما الحكومة المصرية الطرقية فإنها أبت عليه أن يدخل مصر مراعاة لوعد كانت أخذته عليها إيطاليا في شأن الإمام. ولم ينته احترامها لهذا الوعد القاضي بحرمان إمام عظيم من دخول أرضها عند هذا الحد الاعتيادي عند من لا يراعي إلا جهة واحدة وإن أغفل جهات عديدة، بل تجاوز تصلب حكومة مصر ويبسها إلى منعه من دخول مصر في الحالة التي يرثي فيها العدو لعدوه ولو كان كعداوة إيطاليا للإمام. ذلك أن الإمام لما مرض مرضه الأخير واشتد به الألم رغب في التداوي بمصر فطلبت حكومة الحجاز من حكومة مصر السماح له بذلك وكانت الحكومة المصرية في انتظار قدوم ملك إيطاليا فماطلت ولم تجب حتى مات الإمام دون أن تسمح له بالدخول لأجل التداوي.
نحن لا نتكلم على هذه المسألة من ناحيتها السياسية وإنما نتكلم عليها من ناحيتها الإنسانية ومن ناحيتها الدينية على الخصوص. فالحكومة السعودية التي طهرت الحجاز من البدع والضلالات والخرافات ورجعت اتباع الطرق التي تسمي نفسها الطرق الصوفية إلى عقولهم ودينهم لما جاء هذا الصوفي السني أكرمت وفادته وأنزلته المنزلة اللائقة به وحكومة مصر التي تؤيد الطرقية وبدعها وخرافاتها وتشويهها لما كان عليه الجنيد وأمثاله، وما كان عليه أئمة الهدى كلهم تعامل هذا الصوفي السني هذه المعاملة القاسية الخشنة الخالية من كل لطف ومراعاة وفي هذا الموقف من هاتين الحكومتين البرهان القاطع على أن الحكومة السعودية ما طاردت الطرق لأنها تصوف وإنها طاردتها لأنها مدعية بالباطل ومتصفة بضده. وأن الحكومة المصرية ما نصرت الطرق لأنها تصوف وإنما ناصرتها لأن غالب علمائها الذين يعيشون على رواتبها(3/49)
وعلى رضا العامة وتعظيمها واستغلال جهلها أقروها على ذلك وحسنوه لها فأقرتهم والعامة عليه:
وهل أفسد الناس إلاَّ الملوك … وأحبار سوء ورهبانها
وقبل الحكومة السعودية قد كان علماء الإسلام المصلحون يقبلون طريقة الحق وينكرون طرق الباطل وقد ذكرنا جمعا منهم من القرن الخامس إلى القرن السالف في عدد مضى وهم قدوتنا أنعم بهم من قدوة وقبل الحكومة المصرية وعلمائها قد كان من يقر ما أقرت دون بينة ولا برهان. وسيبقى كذلك على الدهر من ينصر السنة ويؤيدها ويدافع عنها. ومن ينشر البدعة وينفخ في بوقها وينقر على طبلها. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1).
__________
(1) السنة، السنة الأولى العدد 6 الإثنين 20 محرم الحرام 1352 هـ- 1 ماي 1933م، ص1 و2.(3/50)
الإسلام دين علم خالد
ألف الأستاذ محمد فريد وجدي كتابا تحت هذا العنوان بحث فيه في الوحي والدين والإسلام، فوفى البحث حقه. وقد كان بعض المعجبين بالأستاذ أطلعني على الكتاب فوقفت فيه على أشياء أنكرتها منها: تعبيره عن موجد الكون بروح الكون وجعله الحياة الإنسانية قبسة من الحياة الوجودية، ويعني بالحياة الوجودية ما عبر عنه بروح الكون وهذا صريح في أن الروح الإنسانية مأخوذة من الله تعالى، جل َّ (1) الله عن ذلك، وكيف يؤخذ الحادث من القديم؟ ومنها زعمه عن الموجودات (ص 12) أنها سابحة في روح الوجود سبح النينان في المحيط الزاخر، منه وجدت وبه تحيا وفيه تفنى، وكما كان تعبيره عن موجد الكون بروح الوجود من العبارات الحلولية الموهمة أن الموجد سارٍ في الموجودات فقد كان تعبيره هنا بأنها سابحة فيه وتفنى فيه مقتضيا أنها حالة فيه وكلا الأمرين محال باطل اعتقاده، حاشا الأستاذ أن يكون قصده، ومنها زعمه أن في الناس علماء منتهين (ص 18) لا يتطلبون أن يأخذوا الدِّين آدابا وأخلاقا ولا أن يتعلموا منه أسلوبا في الحياة ولا دستورا في المعاملات ثم يقول عنهم (ص 25) أن هؤلاء العلماء الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة هم هكذا ويسميهم بالعلماء الأعلام!
رأيت هذا في الكلام واستنكرته ونبهت الإخوان عليه ثم رأيت لحجة الإسلام الأستاذ رشيد رضا بحثا مستفيضا في هذا الكتاب وملؤلفه (2).
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) ش: ج 7، م 12، ص304 - 311 غرة رجب 1355هـ - أكتوبر 1936م.(3/51)
طلب الآخرة وحدها مذموم فى الإسلام
غلو الصوفية بجعل الكمال عدم طلب الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كنا بيَّنَّا نحن وغيرنا على صفحات هذه المجلة أن العبادة الشرعية موضوعة على الرجاء والخوف وأن الطمع في فضل الله لا ينافي إخلاص العبادة له، وذكرنا الأدلة الكثيرة على ذلك من الكتاب والسنة وكانت أدلة ثابتة صريحة غير قابلة للتأويل وبينا بها أن من زعم أن العبادة تتجرد عن الرجاء والخوف، فقد زعم باطلاً وأنه لا يجد آية واحدة ولا حديثا صحيحا واحدا يستدل به على دعواه فالعبادة المتجردة عن الرَّجاء والخوف ليست العبادة التي جاء لها الإسلام.
ثم لما اطلع أخونا في الله شيخ الإسلام الأستاذ محمد رشيد رضا على ما دار في المسألة بيننا وبين خصومنا كاتبنا بموافقته على ما قلنا وذكر لنا ما كان كتبه هو في المسألة في الجزء الثاني من تفسير المنار الشهير وها نحن ننقل ما كتبه الأستاذ في المسألة عند تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، إفادة لقرائنا شاكرين لفضيلته عنايته وتنبيهه.
قال أحسن الله جزاءه:
"وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّقْسِيمِ مَنْ لَا يَطْلُبُ إِلَّا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ دَاعِي الْجِبِلَّةِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَهَدْيِ الدِّينِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ مَنْ لَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا يَكُنْ غَالِبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ(3/52)
بِالْجُوعِ وَالْبَرْدِ وَالتَّعَبِ يَحْمِلُهُ كَرْهَا عَلَى الْتِمَاسِ تَخْفِيفِ أَلَمِ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ، وَالشَّرْعُ يُكَلِّفُهُ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ حُقُوقًا لِبَدَنِهِ وَلِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلِرَحِمِهِ وَلِزَائِرِيهِ وَإِخْوَانِهِ وَأُمَّتِهِ لَا تَصِحُّ عُبُودِيَّتُهُ إِلَّا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا.
وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا الْغُلُوَّ مَذْمُومٌ خَارِجٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَصِرَاطِ الدِّينِ مَعًا، وَمَا نَهَى اللهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَذَمَّهُمْ عَلَى التَّشَدُّدِ فِيهِ إِلَّا عِبْرَةً لَنَا، وَقَدْ نَهَانَا عَنْهُ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ فَقَالَ لَهُ: «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللهَ بِشَيْءٍ؟» قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُبْحَانَ اللهِ إِذًا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ فَهَلَّا قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَدَعَا لَهُ فَشَفَاهُ اللهُ تَعَالَى.
وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا فِي الْغُلُوِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ سَمِعَ قَارِئًا يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فَصَاحَ أَوَاهُ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللهَ؟ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنُ الظَّاهِرِ قَبِيحُ الْبَاطِنِ، فَالْآيَةُ خِطَابٌ لِخِيَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَشَيْخُهُ مِنِ الصُّوفِيَّةِ لَمْ يَبْلُغُوا مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، فَإِرَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْحَقِّ إِرَادَةٌ لِمَرْضَاةِ اللهِ وَعَمَلٌ بِسُنَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا فِيهَا الْغَنِيمَةُ فِي الْحَرْبِ، وَبِالْآخِرَةِ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَلْ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَآثَرُوا الشَّهَادَةَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْغَنِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللهَ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ الصُّوفِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْغُلَاةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا مِنْهُ لِلَّهِ وَطَلَبًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؟(3/53)
(أَقُولُ): كَلَّا إِنَّمَا هِيَ فَلْسَفَةٌ خَيَالِيَّةٌ مِنْ خَيَالَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْبُرْهُمِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ قَدْ شُغِلَ بِهَا أَفْرَادٌ عَنْ فِطْرَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ مَعًا فَجَعَلُوهَا أَعْلَى مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَأَوَّلُوا لَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَمَا إِرَادَةُ وَجْهِهِ تَعَالَى إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَحَرِّي هِدَايَةِ دِينِهِ فِيهِ، لَا مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ أَنَّ إِرَادَةَ وَجْهِهِ تَعَالَى هُوَ الْوُصُولُ إِلَى ذَاتِهِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ بِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَدْنُو مِنْ كُنْهِهَا الْأَفْكَارُ وَلَا الْأَوْهَامُ، مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، بَلْ إِدْرَاكُ كُنْهِ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُ تَعَالَى فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا أَعْلَى مَرَاتِبَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا هِيَ مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَدُعَاؤُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَهُ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَبِهَذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِيَارَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ رَبَّهُ عِبَادَةً خَاصَّةً، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ مَنْ يَعْرِفُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُبِّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَتِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ بِتَجَلِّيهِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ. (1).
__________
(ا) ش: ج 12، م 9، ص472 - 474 غرة رجب 1352هـ - نوفمبر 1933م.(3/54)
بيان عن هلال شوال
من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى المسلمين الجزائريين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اجتمعت هيئة علمية بإدارة مجلة الشهاب ليلة الأحد لاتنظار ما يرد من الأخبار عن الهلال والأسئلة عنه مثل ما فعلت ليلة رمضان وبيناه في المنشور السابق.
دق جرس التلفون من قصر الطير فتكلم السيد عبد الرحمن بن بيبي فأخبر بأن الهلال رآه رجلان من قريتهم وناداهما فتكلم كل واحد منهما وأخبر عن الرؤية وزكاهما السيد عبد الرحمن وسمع هذا كله رئيس الجمعية والسيد أحمد بوشمال والشيخ عبد العلي ثم دق الجرس من بلدة جامعة فتكلم فضيلة قاضيها الشيخ لخضر بن غريب فذكر أن قاضي بلدة أولاد جلال أخبره أن الهلال رآه اثنان في بلدته وأنه نقل له اثنان من أهل قرية سيدي خالد الرؤية عن أربعة بها فثبت الأمر عنده ثم ذكر فضيلة قاضي جامعة أن الهلال قد رؤي أيضا في سيدي عقبة وأنه نقل ذلك عن الثقة عنده، ثم تكلم السيد الحاج الشاوي فأخبر بمثل كل ما ذكره الشيخ القاضي وسمع ذلك كله منهما من سمعوا الخبر الأول وغيرهم. ولما تحملنا هذه الشهادات قمنا فذهبت إلى فضيلة قاضي قسنطينة الشيخ محمد بن الساسي فأدينا عنده الشهادة، وكلم هو قاضي بلدة أولاد جلال فأخبره بمثل ما أخبرناه به، فأصدر حكمه بدخول شهر شوال بالأحد وأعلن ذلك للناس. وتولت هيئة جمعية العلماء توزيع الخبر بالبرقيات والتلفونات- كعادتها- على أنحاء القطر.(3/55)
أصبح الخبر منتشرا في القطر كله وأفطرت جل البلدان ولولا بقايا من الذين في قلوبهم مرض لعم العيد جميع البلدان. وكان من المقدر على العاصمة الجزائر أن يقع فيها الخلاف في الفطر كما وقع فيها الخلاف في الصوم وكان سبب ذلك أخيرا هو السبب، أولا: ذلك المتعنت المخذول. كان يعتل لخلافه في الصوم بأنه لم تخاطبه هيئة رسمية وهو لا يقبل إلا الرسميين فخاطبه ليلة الأحد فضيلة الشيخ محمد بن الساسي بنفسه هو ومن كانوا معه في المحكمة ورغم هذه المخاطبة الرسمية أبى من العمل بها وأصر على رأيه الباطل الذي لا مستند له لا من وهم ولا من شبهة. وكان هذا منه الدليل القاطع عند الناس على تعصبه وعناده وما يكون عنه التعصب والعناد في مثل هذه المسألة الدينية من طوايا وأدغال.
هكذا تقوم الجمعية بكل ما ترى فيه الخير من نشر العلم والدين وتوحيد الكلمة في الخير فتجد أمثال هذه العراقيل من هذه الأشباح المظلمة والأيدي الظالمة تعترضها في طريق الصالح العام، والجمعية- بإذن الله- سائرة في طريقها المحمودة إلى غايتها النافعة ولو كره المبطلون والله المستعان.
هذا وإننا نحمد الله على ما شاهدناه من الأمة من المناية ونشكر كل من أعاننا على القيام بهذه الطاعة ونرجو من إخواننا المسلمين أن يبذلوا عنايتهم في كل الشهور وأن يبادر كل من يرى الهلال إلى إخبار محكمته وأن يعلن رئيس المحكمة ذلك الناس والله المسؤول أن يوفقنا للخير ويعيننا عليه ويجعلنا من أهله (1).
عن مكتب رئاسة الجمعية
الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ملحق ج 12، م 10، ص 1 - 3 غرة ذي القعدة 1353هـ - فيفري 1935م.(3/56)
المجتنيات من الجرائد والمجلات
نصيحة الأستاد الإمام لأهل الجزائر وتونس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
للمشاركة في حفلة الذكرى الثلاثين (1) التي أقامها إخواننا المصريون للأستاذ الإمام نشرنا صورته وقدمناها هدية للقراء، وننقل هنا بمناسبة ذلك نصيحته التالية عن المجلد الحادي عشر من (المنار).
من يعرف الأستاذ الإمام يعرف أن كل حديثه في جميع أوقاته نصح وتعليم فمجالسه ومسايره يستفيد علما وحكمة في كل أمره من أمور الدنيا والآخرة ولذلك نعتقد أن الذين عرفوه واجتمعوا به في رحلته الأخيرة إلى الجزائر وتونس قد سمعوا منه نصائح لا تحصى ولكن النصيحة العامة الشاملة التي كان يشافه بها أهل العلم والدراية في القطرين هي:
"1 - الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة التي أرشد إليها في الخطاب الذي ألقاه في تونس.
"2 - الجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة مع الاقتصاد في المعيشة.
"3 - مسألة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة. وبهذا الأخير يتم لهم كل ما يريدون من مساعدة الحكومة الفرنسية لهم علي ما قبله فإن الحكومات في جميع الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ما داموا يعتقدون أن أهلها ساخطون عليهم أو لهم ضلع مع حكومة
__________
(1) وذلك في سنة1354هـ - 1935م.(3/57)
أخرى. وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارا بهم من القوانين والمعاملات فإذا لم تكشف ظلامتهم بعد الالتجاء إليها في كشفها كانوا معذورين إذا سخطوا وتربصوا بها الدوائر" (1).
__________
(1) ش: ج 6، م 11، ص 363 غرة جمادى الأولى 1354 هـ- أوت 1635 م.(3/58)
التقرير الأدبي
الذي ألقاه رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس
في افتتاح اجتماعها السنوي العام
صبيحة يوم الأحد السادس عشر من جمادي الآخرة عام 1354هـ الموافق للخامس عشر سبتمبر سنة 1935م.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فباسم الله تعالى ثم باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أفتتح هذا الاجتماح الرابع للجمعية والمؤتمر الديني العلمي لهيئتها العمومية. ثم أرحب بكم شاكرا لكم إقبالكم على الجمعية وعضدكم لها، بوفودكم على اجتماعها، كما أشكر أولئك الإخوان الذين حبستهم الأعذار، فاعتذر من يحسن منهم الكتابة بالكتب، والبرقيات، واكتفى الأميون منهم بهبات الأرواح، ونبضات القلوب.
أيها الإخوان: لقد كانت السنة الماضية، وهي الرابعة من سنوات الجمعية، سنة ممتازة في حياة الجزائر، تحركت فيها الجزائر حركة الألم، وحركة الأمل، حركة ألم أورثه الجمود من ناحية، والغفلة من ناحية، وأسباب أخرى من نواح أخرى، فطال عليه الأمد حتى أنهك الروح، والجسد، وحركة أمل بعثه الشعور بالحياة، وثقة(3/59)
برجال ممن بيدهم الحل والعقد، أو لهم كلمة مع من بيدهم الحل والعقد، فارتفع صوت الجزائر حتى أسمع الصم، وإن قل المجيب وظهر رسمها على صفحات الأيام، وإن اختلف تلوينه باختلاف أذواق الدساسين ونزعاتهم، وإذا ذكرت الجزائر- أيها الإخوان- فقد ذكرت الجمعية فهي- ولا نكران- الممثلة للجزائر من ناحيتها الروحية والأدبية وما كتب كاتب في صحيفة من كبريات الصحف وصغرياتها عن الجزائر إلا كان حديثه عن الجمعية في طالعة كلامه، وإذا ألغينا تهاويل مقصودة وأنباء مقلوبة بقي الاعتراف للجمعية بمكانتها، وإن صلاح الجزائر، وإرضاء الجزائر معظمه في مساعدة الجمعية على ما تقوم به من تربية وتهذيب.
لقد أبدت الجمعية ألم الأمة وألمها من ناحيتها الخاصة بها بما نشر لها وبما أبرقت من برقيات وما أرسلت من كتب. وقد أبدت ما لها من أمل يوم قابل رجالها وزير فرنسا م. ريفي وسمعت منه ما قوى ذلك الأمل.
وكم كان يسرني- وأنا رجل مسلم طبعتني تربيتي الإسلامية على الاعتراف بالجميل- أو استطعت أن أذكر لكم اليوم شيئا من تحقق ذلك الأمل. لكن بغاية الأسف لا أستطيع أن أقول لكم إلا أنه لم يتحقق شيء منه، فالمساجد ما تزال موصدة الأبواب في وجوه الوعاظ والمرشدين والمكاتب العربية ما زالت تلقى العراقيل الشديدة، وصحيفة الجمعية ما تزال في نطاق المنع والتحجير وما يزال رجال من أشخاص الجمعية البارزين تحت الرقابة والشدة بغير ذنب. غير أننا لا نقطع حبل الرجاء ما دام على رأس الإدارة رجل عالم خبير يقدر العلم وأهله ربما انفسح أمامه المجال للعمل في عهد الولاية الجديدة، ومع ذلك فإنني إبقاء لصوت الحق أرفع باسم جمعكم هذا إلى المراجع العليا الإحتجاج على بقاء هاته الحالة التي يحال فيها بين علماء الإسلام(3/60)
ومساجد الإسلام، ويحال فيها بين الأمة وتعلم دينها في أماكن دينها ويعرقل فيها المسلمون على تعليم أبنائهم، لغة وعقائد وآداب دينهم. ويخنق فيها صوت جمعية دينية علمية فيحال بينها وبين الصحافة التي هي الأداة المشروعة المعترف بها لكل جمعية لنشر دعوتها والدفاع عن نفسها.
ثم مع هذه الحالة وضيقها فإن الجمعية قامت بحمد الله بما استطاعت من واجباتها. فالدروس العلمية في بلدان عديدة يقوم بها رجال الجمعية للطلاب والمدارس القليلة المسموح بها يتولاها رجال من الجمعية لتعليم الصغار. وقد قام رجال مجلس الإدارة في آخر السنة برحلات في العمالات الثلاث فوفدوا على خمسين بلدة ونيف قألقوا فيها دروس الوعظ والإرشاد على الجموع الكثيرة من الناس فأحيوا بما نشروا من الهداية نفوسا وأنعشوا أرواحا وفتحوا عيونا وآذانا وبعثوا- من الخير- آمالاً وبذروا بذور الرحمة والمحبة بين جميع السكان.
واليوم- وقد قطعنا الرحلة الرابعة من سيرنا- فإننا نستعين الله تعالى على التقدم للمرحلة الخامسة بإيمان ثابت ويقين صادق وقصد للخير صحيح ونحن نجدد لكم عهد الله على السير بالجمعية أو مع الجمعية على خطتها الدينية العلمية لنشر العلم والفضيلة ومحاربة الجهل والرذيلة. القرآن أمامنا والسنة سبيلنا والسلف الصالح قدوتنا وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا. فلنسر موحدين متحدين على هذا الصراط المستقيم لخير الجميع والله مع العاملين المخلصين والحمد لله رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) سجل مؤتمر العلماء المسلمين الجزائريين ص 74 - 76/ 16 جمادى الأخيرة 1354هـ - 15 سبتمبر 1935م.(3/61)
العناية بهلال رمضان وثبوته
قياما بالواجب حسب عادة الجمعية كاتب مكتب الرئاسة جميع رؤساء الشعب في القطر كله بالكتاب التالي:
حضرة الأخ الكريم: السلام عليكم ورحمة الله
وبعد: فالمرغوب منكم أن تقوموا بأنفسكم أنتم ومن معكم بالعناية برؤية هلال رمضان وقد ثبت دخول شعبان بالثلاثاء فتجب مراقبة الهلال ليلة الأربعاء الآتية إذ هي ليلة الثلاثين فإذا رؤي فليبادر بإعلام أقرب محكمة شرعية لديكم ولتعلمونا إلى مكتب رئاسة الجمعية على تيليفون: 15 - 25 (خمسة وعشرين خمسة عشر) وليكن تلقي الخبر دائما باثنين من اثنين إلا إذا لم يره إلا واحد فليتلق عنه اثنان وليبلغ الخبر على الوجه المذكور إذ قد يكون شخص آخر رآه في ناحية أخرى فتلفق الشهادة، فإذا لم ير ليلة الأربعاء فتصدوا له ليلة الخميس ولتعملوا فيه كما بينا.
هذا وقد طلبنا من مدير إدارة البريد في العاصمة أن يأمر بإبقاء التليفون مفتوحا إلى الساعة العاشرة.
والمرغوب أن تعرفونا بعدد التيليفون الذي نخاطبكم عليه في حين اتصالكم بكتابنا هذا إما ببرقية وإما بالتليفون.
إننا نؤكد عليكم في القيام بهذا الأمر الديني العظيم، والله يتولانا وإياكم والمسلمين بالتوفيق والتأييد.
والسلام عليكم من أخيكم: رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة 1 العدد 1 الصفحه 8 العمود 1 - 2 الجزائر يوم الجمعة 1 شوال المبارك 1354هـ الموافق لـ 27 ديسامبر 1935م.(3/62)
العناية بهلال رمضان
وفاء بالوعد واتماماً للفائدة ننشر لقرائنا الكرام نقلا عن الشهاب الأغر ما يتعلق بهذا المبحث قال:
فجاءت الأجوبة من عندهم كلهم بالكتب والبرقيات باستعدادهم لتنفيذ ما خوطبوا به وتعيين محال مخاطباتهم.
ولما كان مساء يوم الثلاثاء انتصب بمكتب الرئاسة رئيس الجمعية وهيأته من الأعضاء لتلقي الأخبار فوردت عليهم نحو مائة تيليفون من جميع جهات القطر تسأل عن الرؤية وتخبر بوجود الغيم المتكاثف وهطول المطر في بعض الجهات.
كما انتصب بالمحكمة بجوار مكتب الرئاسة فضيلة الشيخ القاضي الشيخ محمد بن الساسي في ثلة من أهل العلم حسب عادته من يوم نهضت الجمعية بهذا الواجب وكان فضيلته من أول من لبى دعوتها ونهض به معها.
أكمل شعبان ثلاثين وفي مساء الأربعاء رأى الهلال بقرية أم البواقي جمع كثير من الناس. وأخبرتنا بذلك هيأة الشعبة ولم نحتج إلى إعلان الخبر لأن رمضان قد يثبت بعد- قطعا- بكمال شعبان ثم من الغد جاءتنا الأخبار من جهات عديدة بأنهم رأوه ليلة الخميس.
إدارة البريد:
كاتب رئيس الجمعية مدير البريد بالعاصمة يرغب منه أن يأمر ببقاء التيليفون مفتوحا بالمراكز الصغرى التي يغلق فيها باكرا- إلى الساعة(3/63)
العاشرة من ليلة الأربعاء وقد كلمتنا بعضها متأخرة فنظن أنه أمر بذلك، فنشكره.
(الهيئة الشرعية بالعاصمة):
كنا في السنوات الماضية لما يثبت الهلال في مجمة قسنطينة ونحأول الاتصال- تيلفونيا- بمفتي العاصمة أو قاضيها لا نجد إلا ذلك سبيلا حتى نرغب من بعض الفضلاء من إخواننا الجزائريين الذين نخاطبهم كالسيد ابن صيام والسيد ابن المرابط- أن يذهبوا إليهما ويعلموهما فلا يجدون منهم عناية لأن الذي كان يسيطر على الهيئة الدينية هو إمام الجامع الكبير المعروف (1) وكان بقلبه مرض من قسنطينة ومن جمعية العلماء فلا يريد أن يقبل كل ما يأتي من قسنطينة وإن كان من محكمة الشيخ القاضي وبحكمه لما فيه من دخل من عناية الجمعية، حتى أنه في السنة الماضية خوطب هو نفسه من محكمة الشيخ القاضي فأبى إلا العناد كما نشرناه وعلمه الناس في وقته.
أما في هذه السنة- والحمد لله- فقد قطع الله اليد الظالمة وانقذ منها الهيئة الدينية فتألفت الهيئة الشرعية من فضيلتي الشيخ القاضي والشيخ المفتي وغيرهما وتصدت للعناية بأمر الهلال وجلست بمحلها ليلة الأربعاء لانتظار الأخبار وشاهد الناس بالعاصمة مظهرا من العناية الدينية لم يشهدوه من قبل. فنشكر الهيئة على ما قامت به ونرجو لها الاستمرار في هذا المنهج الحميد الذي هي أهله.
(رجاء من أصحاب الفضيلة القضاة والمفاتي):
ندعو فضيلاتكم- باسم الدين والأخوة فيه- إلى القيام بهذا
__________
(1) هو الشيخ بن الحاج كحول ولا وجه لستر من لا يستتر (المؤلف).(3/64)
الواجب العظيم فينتصبوا بمحلاتهم ليلة الثلاثين لتلقي الأخبار بعضهم من بعض وليتلقي الأخبار من الناس.
(رجاء من الأمة):
إن ليلة الثلاثين هي ليلة الجمعة فيجب لرؤية الهلال وعلى كل من رأى وتحقق أن يرى غيره- إن كان معه- ويبادر برفع رؤيته إلى أقرب محكمة إليه، ومن المحتمل القوي أن يرى هلال شوال ليلة الجمعة إذا لم يمنع منه غيم لأن علماء الفلك متفقون على أن هلال رمضان كان استهل نهار الثلاثاء وما منع من رؤيته ليلة الأربعاء إلا عموم الغيم ويؤيد قولهم شيوع رؤيته ليلة الخميس.
(إلى رؤساء شعب الجمعية):
نرجوا من إخواننا رؤساء شعب الجمعية أن يحثوا الناس على هذا الواجب كما هي عادتهم- شكر الله لهم- فبفضل الله ثم بعنايتكم انتشرت هذه الروح من العناية الدينية والتعاون المشروع المحمود وتلك هي غاية الجمعية وقد وصلنا إلى معظمها والحمد لله، ونرجو من الله المزيد فنعم المولى ونعم النصير.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة1 العدد2 الجزائر يوم الجمعة 15 شوال المبارك 1354 هـ الموافق ليوم 10 جانفى 1936م صفحة 7 العمود الثانى والثالث.(3/65)
الإصلاح أمس واليوم
أول من نادى بالإصلاح الديني علما وعملا نداء سمعه العالم الإسلامي كله في عصرنا هذا هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأول من قام بخدمته بنشرة إسلامية عالمية هو تلميذه حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. رحمهما الله وجازاهما عن الإسلام والمسلمين خيرا ما جازى به المجددين لهذا الدين.
ومن عدل الله وحكمته أن كان مبعث هذه الدعوة الإصلاحية هو مصر. مصر التي هي مبعث أكثر البدع والضلالات الاعتقادية والعملية من يوم انتصبت فيها دولة الفاطميين فرسخت فيها البدع الطرقية وغير الطرقية- والطرق حيثما كانت فهي تكأة وملجأ البدع والخرافات- وصارت الخطة الطرقية من الخطط الإسلامية في الحكومات المصرية التي تحميها وتؤيدها فصارت البدع والضلالات رسمية في نظر المسلمين وغير المسلمين وجاء الأزهر وأهل الأزهر- إلا قليلا- على دين الدولة وهوى العامة يقرون تلك البدع والضلالات بسكوتهم بل بمشاركتهم العملية وتأييدهم الفعلي والقولي وما ينتشر عنهم من كتب وتلاميذ.
أما الجامعان اللذان يذكران مع الأزهر بشمالنا الإفريقي وهما الزيتونة بتونس والقرويون بفاس- فهما- إلا قليلا- كما قال الأول:
وَمَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ أُمَّ عَمْرٍو … بِصَاحِبِكِ الَّذِي لَا تَصْبَحِينَا
وكيف يكون حال العالم الإسلامي ومراكزه العلمية الدينية في ذلك الضلال المبين؟ ..(3/66)
جاءت الدعوة الإصلاحية ومصر والعالم الإسلامي على تلك الحال فاصطدمت بقوة ما كانت تثبت لها لولا قوة الحق والإيمان. ومضى ثلث قرن أو يزيد والدعوة الإصلاحية تنتشر وتتقدم وتنقص البدع والضلالات من أطرافها ولكنه لم تقم في أمة إسلامية هيئة علمية منظمة تعلن الدعوة إعلانا عاما وتصمد للمقاومة غير مبالية بما يؤبد البدع والضلالات من سلطان ديني وسلطان دنيوي- غير الأمة الجزائربة فكان من علمائها الأحرار المستقلين الذين لا يعيشون على الوظيف أولئك الذين نهضوا بالدعوة الإصلاحية منذ بضع عشرة سنة وجاهدوا فيها لله وصابروا وأسسوا لها أعظم مؤسسة دينية- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- حتى أصبحت الدعوة الإصلاحية- والفضل لله والحمد لله- ثابتة الأركان مشيدة البنيان باسقة الأفنان دانية الثمار وارفة الظلال- لا على الجزائر وحدها بل على الشمال الإفريقي كله.
لم يبق للمتشبثين بالبدع والضلالات والأوهام والخرافات من شبهة يتمسكون بها ويستندون إليها إلا طرقية مصر وعلماء مصر ورجال الأزهر. وكانت- لا كانت- شبهة لبس بها الشيطان كثيرا وأضل بها العوام وأيد بها حزبه وشغب بها على حزب الله. وكنا على اليقين من أن الله سيزيل هذه الشبهة، ويزيح هذه المحنة ويؤيد العلماء المصلحين في الأزهر فيصبح الأزهر- حجة للمصلحين ومصدر هداية للمسلمين وقد حقق الله الرجا وأصبح الأزهر اليوم يؤلف من رجاله الرسميين، لجانا للقيام بالإصلاح الديني علما وعملا، ومن ورائه الحكومة المصرية تؤيده وتسنده كما تراه في المقال التالي الذي نقلناه من جرائد مصر. فما أعظمها بشرى نزفها للمسلمين ولقرائنا في ختام هذه السنة الحادية عشرة من عمر مجلتهم فتكون أعظم ما نهنيهم به في هذا العيد، عيد النحر السعيد راجين من الله المزيد {كَتَبَ اللَّهُ(3/67)
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} آمين والحمد لله رب العالين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ج12، م11، ص646 - 647 غرة ذي الحجة1345هـ - مارس 1936.(3/68)
إحتفال جمعية التربية والتعليم الإسلامية بالحجاج
وتعرض الحكومة لها بعد إذنها (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جرت عادة الجمعية أن تحتفل بالحجاج وكانت تحتفل بهم في (نادي الإتحاد) وكان يضيق عن أفواج الراغبين في السلام على الحجاج والتبرك بهم فرأت هذا العام أن تحتفل بهم في الجامع الكبير فذهب السيد (الحاج إدريس) المحامي كاتبها العام والنائب البلدي والسيد (حسين بن شريف) أمين مالميتها والنائب البلدي فطلبا الإذن من الكاتب العام بدار العمالة فإذن لهم وبعد هذا الإذن أصدرت الجمعية منشورا على الناس يوم الثلاثاء هذا نصه:
جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة تكريم حجاج بيت الله الحرام:
تبتهج النفوس وتنشرح الصدور بقدوم وفد الله وحجاج بيته الحرم حديثي عهد بتلك الديار المطهرة، والآثار الكريمة، فيود كل مسلم أن يراهم وأن يلتمس الخير من الاجتماع بهم.
لكن ذهاب أفواج الناس إليهم في بيوتهم فيه ما فيه من التثقيل عليهم والكلفة لأهلهم، والسرف المذموم فيما يضطرون لتقديمه لقاصديهم، حتى ليكاد يقارب الذي ينفقونه عند قدومهم ما أنفقوه في حجهم. وهذا كله من الحرج والتكلف والتبذير التي نهينا عنها.
__________
(1) نشر هذا المقال أيضا فى الشهاب: ج2، م12، ص 75 - 78 بتاريخ غرة صفر 1355هـ - ماي 1936م(3/69)
فالجمعية تدعو إخواننا المسلمين أن يقلعوا عن هذه المنهيات وأن ينكفوا عن الذهاب إلى الحجاج في بيوتهم إلا من كان من أقاربهم.
والجمعية قد عزمت على تكريم الحجاج مساء يوم الجمعة القابلة إثر صلاة العصر بالجامع الكبير إن شاء الله تعالى. فهي تدعو جميع المسلمين إلى الإتيان إليهم والتبرك بهم.
وبهذا نكون قد اجتمعنا بوفد الله، في بيت الله، وسلمنا مما نهي عنه الله. فيتضاعف إن شاء الله الأجر، ويتكاثر الغنم، ويتجلى جمال المظهر، ويحسن عند الله وعند الناس الأثر.
جمع الله قلوبنا على الحق، وأقوالنا على الصدق وأعمالنا على العدل والإحسان، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عن الجمعية: الرئيس عبد الحميد بن باديس
وفي صبيحة الأربعاء استدعت الإدارة السيد (الحاج إدريس) والسيد (حسين) ولغياب السيد الحاج إدريس ذهب مكانه مع السيد حسين السيد (محمد الشريفه ابن الابيض) المحامي والنائب البلدي والعضو في الجمعية فأخبرهما الكاتب العام بالرجوع في ذلك الإذن لعدم جواز الاجتماع في الجامع فأعلماه بما أصدرته الجمعية من الإعلان بالاجتماع للعموم بناء على إذنه المتقدم، وبعد مراجعة طويلة أوقف الأامر النهائي على مراجعة عامل العمالة السيد البريفي.
وفي مساء الأربعاء سافرت إلى (عنابة) لمقابلة الحجاج صبيحة الخميس فلما نزلت بدار السيد (الحاج الخوجة) رئيس شعبة جمعية العلماء أخبرني أن السيد بريفي يسأل عن قدومي وأمره أن يخبره عني بمجرد قدومي ولما أخبره إذ ذاك بقدومي طلب حضوري لديه(3/70)
مع السيد الخوجة على السابعة صباح الخميس. ولما ذهبنا إليه في الموعد أخبرني بأن السيد البريفي يمنع من إقامة الاحتفال بالجامع وينكر إعطاء الإذن، فأجبته بأن الناس سوف يجتمعون لأجل المنشور الذي وزع عليهم بعد إذن خليفة البريفي وأما الاحتفال فلا يقام.
رأيت بعد خروجي من عند السيد بريفي أن هذا الأمر لا يجوز السكوت عليه فليس من اللائق بإدارة محترمة أن تضطرب هذا الاضطراب ولا من اللائق بجمعية محترمة أن تعامل هذه المعاملة وعلمت ما يتركه هذا العمل في قلوب المسلمين من الأثر السيء والكدر التام، فبادرت إلى إرسال برقية إلى دار العمالة بقسنطينة، ومثلها إلى دار الولاية العامة ذكرت فيها أن المنشور ما كان إلا بعد الإذن واستنكرت الرجوع في الإذن وأعربت عن الاستياء الذي يحصل من منع المسلمين من إقامة احتفال ديني محض في مسجدهم ونصحت بالرجوع عن المنع في صالح الجميع.
قفلت إلى قسنطينة مساء الخميس ومكثت صبيحة الجمعة أنتظر جوابا عن برقيتي فلم يأت عنها جواب.
لما صليت عصر الجمعة جاءني جماعة من المسلمين فذكروا أن الجامع الكبير قد غص بالناس وأنهم في انتظارك وأنهم لا يتفرقون إلا إذا أتيت فذهبت إلى الجامع الكبير فوجدت رؤساء الشرطة ورجالها قد اكتنفوا بابي الجامع، ووجدت الجامع غاص الرحاب بالناس. فشققت طريقي إلى المحراب حيث وجدت جمعا من الحجاج أربعة عشر أوأكثر فسلمت ثم توجهت للناس فبشرتهم بما لهم عند الله باجتماعهم في بيته لإكرام وفده، ثم أعلمته (1) بمنع الحكومة من إقامة الاحتفال الذي هو عبارة عن تلاوة آيات من القرآن العظيم وإلقاء خطاب ديني فيه
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: أعلمتهم.(3/71)
تذكير وتشويق وتبشير ولاجل أن أخفف على الناس ما أصابهم من الألم من صدمة المنع قلت لهم: حسبكم أن عملكم قد وقع عند الله وأن نتوجه كلنا بالدعاء إليه وإخواننا الحجاج يدعون الله لكم وبعد الدعاء قام الحجاج ووقفوا عند باب بيت الصلاة فسلموا عليهم وصافحوهم مهنئين متبركين.
الملاحظات:
1 - ما كان رجوح عامل العمالة في الإذن الذي أعطاه خليفته إلا بعد سعي من المفتي (ابن الموهوب) وتحريش وتهويل، وقد علم السيد (ابن الابيض) لما خاطبه السيد البريفي لغيبتي في "عنابة" أن المسألة أثارتها الناحية الرسمية في الجامع الكبير.
2 - برهنت الأمة باجتماعها الهائل بالجامع الكبير على أنها تعرف قيمة الناس فلم تلتفت إلى ما نشرته صحيفة معلومة من الصد والتثبيط، ولا ما نشره في أوراق ووزعها من لم يجسر أن يصرح باسمه تحت أوراقه ...
3 - ما يزال بعض الرجال في الإدارات يغترون ببعض الرسميين الذين لا قيمة لهم عند الأمة حتى يوقعوهم فيما لا ينبغي.
إننا نود أن تعرف الحكومة مقدار تعلق الأمة بمساجدها ورغبتها في عمارتها بأمور دينها فترجع عن معأرضتها فيها ومنعها منها فتكسب شيئا من قلوبها وصادق شكرها.
عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة
__________
البصائر: السنة1 العدد14 الصفحة1 و2 العمود الأول الجزائر في يوم الجمعة 18 الحرم الحرام 1355هـ الموافق ليوم 10 أفريل 1936م.(3/72)
شيخ الإسلام بتونس
يقاوم السنة، ويؤيد البدعة، ويغري السلطة بالمسلمين!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
نطق (شيخ الإسلام) - والحمد لله- بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله، والحق ودليله، فقد نطق على كل حال. ولقد كان نطقه متوقعا لدينا. فقد كان المقال المنشور بالعدد الحادي عشر من (البصائر) الموجه إلى علماء الزيتونة عامة وشيخي الإسلام به خاصة، قنبلة وقعت وسط أولئك النائمين والمتناومين أزعجتهم في مراقدم ونبهت من كان غافلا عنهم من الناس، حتى لقد تسابق الناس إلى ذلك العدد يطلبونه بأضعاف ثمنه كما أخبرني تلامذتي الذين رجعوا من تونس لتعطيل القراءة بجامع الزيتونة بسبب البلاغ المشهور وما لحق تلامذة الجامع من سجن وتغريب.
إننا نشكر لشيخ الإسلام المالكي هبوطه إلى الميدان، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق الذي أنساه الغيظ والحنق ما يناسب مقامه من التحري والاتزان، فتعثر في أذيال العجب والتعظم عثرات أهوت به مرات في مهاوي الخطأ والتناقض حتى تردى في هودة إذاية أنصار السنة باللسان، ومحأولة إذايتهم بيد العدوان.
شيخ الإسلام يقاوم السنة- ويؤيد البدعة-! ويغري (السلطة) بالمسلمين!! هذا- والله- عظيم وإن كان القارىء يود أن يعرف من هو هذا الذي تحلى بهذا اللقب وأتى بهذه الشنع التي لا يأتي(3/73)
بها من ينتمي انتماء صادقا للإسلام من عامة المسلمين فكيف بشيخ الإسلام؟ نعم كل أحد يتعجب نهاية العجب أن يصدر هذا من شيخ الإسلام. ويزيد كاتب هذه السطور عجبا آخر فوق عجب كل أحد أن شيخه وأستاذه وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور هو الذي يأتي بهذا الباطل ويرتي هذا الذنب.
إنني امرؤ جبلت على حب شيوخي وأساتذتي وعلى احترامهم إلى حد بعيد، وخصوصا بعضهم، وأستاذي هذا من ذلك الخصوص، ولكن ماذا أصنع إذا ابتليت بهم في ميدان الدفاح عن الحق ونصرته؟ لا يسعني وأنا مسلم أدين بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، إلا مقاومتهم ورد عاديتهم عن الحق وأهله.
دعونى- يا قرائي الأفاضل- أحدثكم عن شيء من حقيقة هذا الرجل كما عرفته وعن علاقتي به وأثره في حياتي فإن هذا وفاء لحق تلك الصحبة والأستاذية يهوِّن عليَّ ما أجابهه به بعد.
عرفت هذا الأستاذ في جامع الزيتونة، وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو والاتساع في التفكير أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني رحمه الله، وثانيهنا العلامة الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور) وكانا كما يشار إليهما بالصفات التي ذكرنا يشار إليهما بالضلال والبدعة(3/74)
وما هو أكثر من ذلك لأنهما كانا يحبذان آراء الأستاذ (محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها ويبثانها فيمن يقرأ عليهما وكان هذا مما استطاع به الوسط الزيتوني أن يصرفني عنهما، وما تخلصت من تلك البيئة الجامدة واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة العالمية ووجدت لنفسي حرية الاختيار. فاتصلت بهما عامين كاملين كان لهما في حياتي العلمية أعظم الأثر على أن الأستاذ ابن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة فكان ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ النخلي. وإن أنس فلا أنسى دورسًا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت في روحًا جديداً في فهم المنظوم والمنثور وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام.
مات الأستاذ النخلي على ما عاش عليه، وبقي الأستاذ ابن عاشور حتى دخل سلك القضاء فخبت تلك الشعلة وتبدلت تلك الروح فحدثني من حضر دروسه في التفسير أنه- وهو من أعرف إنكاره على الطرق اللفظية وأساليبها- قد أصبح لا يخرج عن المألوف في الجامع من المناقشات اللفظية على طريقة عبد الحكيم في مماحكاته وطرائق أمثاله وبقي حتى تقلد خطة شيخ الإسلام، ووقف هو وزميله الحنفي في مسألة التجنيس المعروفة منذ بضع سنوات، ذلك الموقف حتى أصبح اسمه لا يذكر عند الأمة التونسية إلا بما يذكر به مثله. وها هو اليوم يتقدم بمقال نشره بجرييدة (الزهرة) في عدد يوم الإثنين الرابع عشر من هذا الشهر الحرم يقاوم فيه السنة ويؤيد فيه البدعة ويغري السلطة بالمسلمين.
فهل ابن عاشور هذا اللقب بشيخ الاسلام، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف؟ لا! ذلك رجل آخر مضى قضى عليه القضاء وأقبرته المشيخة، وقد أديت له حقه بما ذكرته به. وهذا مخلوق آخر ليس(3/75)
موقفه اليوم أول مواقفه ولا أحسبه يكون آخرها. وإنني لا أود أن يكون آخرها. فإن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة ما ينطوي عليه مثله ممن ينتحلون ألقابا مخترعة في الإسلام، ولا يفضحهم مثل مقال هذا الرجل.
وموعدنا بالرد عليه لعدد (1) الآتي أن شاء الله، والله المستعان (2).
عبد الحميد بن باديس
-2 -
سئل فضيلته عن حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت، وحول قبره عند دفنه، فأجاب بقوله: "أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت، بالمغفرة والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت، عند موته على خلاف فيه، ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة".
هذه هي السنة وقد بينها أوضح تبيين، وعللها أحسن تعليل،
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: للعدد.
(2) البصائر: السنة الأولى، العدد 16، الجزائر، الجمعة 2 صفر 1355 هـ 24 أفريل 1936م.(3/76)
ثم أنظر إليه كيف أخذ يقاومها فقال: "وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها دون بعض".
إذا كان ترك القراءة هو السنة، فالقراءة قطعا بدعة إذ ما فعله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من القربات ففعله سنة وما تركه مما يحسب قرابة مع وجود سببه فتركه هو السنة وفعله قطعا بدعة. والقراءة في هذه المواطن الثلاثة التي حسب أنها قربة قد وجد سببها في زمنه فمات الناس وشيع جنائزهم وحضر دفنهم، ولم يفعل هذا الذي حسب- اليوم- قربة ومن المستحيل- شرعا- أن يترك قربة مع وجود سببها بين يديه ثم يهتدي إليها من يجيء من بعده ويسبق هو إلى قربة فاتت محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه والسلف الصالح من أمته. ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرب به مع ترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- له مع وجود سببه إلا افتئاتا عليه وتشريعا من بعده وادعاءً - ضمنيا- للتفوق عليه في معرفة ما يتقرب به والحرص عليه، والهداية إليه، فلن يكون فعل ما تركه- والحالة ما ذكر- من المباحات أبدا بل لا يكون إلا من البدع المنكرات. فبطل قوله: "وإما مباحة غير سنة".
بعد هذه المقاومة بالباطل فرع عليها مقاومة بالتناقض فقال: "فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها".
أفيجهل أحد أن المباح هو ما استوى فعله وتركه وأن المندوب هو ما ترجح فعله على تركه. أو أن المباح من حيث ذاته غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك، وأن المندوب مطلوب الفعل فكيف يتصور أن القراءة إذا كانت مباحة تكون مندوبة في الجميع أو في البعض، أم كيف يتفرع الضد عن ضده؟؟ ولما ثبت أن ترك القراءة هو السنة وأن القراءة بدعة فأقل ما يقال فيها أنها مكروهة، ولا خلاف بين(3/77)
المالكية، أن الكراهة هي مذهب مالك وجمهور أصحابه، وقد نقل فضيلته سماع أشهب من العتبية قال: "سئل مالك عن قراءة يس عند رأس الميت، فقال: ما سمعت بهذا وما هو من عمل الناس"، فهذا تصريح منه بأنه رده لأنه محدث ليس عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.
وإذا كان هذا قوله فيما جاء فيه أثر وهو قراءة يس عند رأس الميت فغير هذا الوطن مما لا أثر فيه، أولى وأحرى بالكراهة. والتعليل بأنه ليس عليه عمل الناس يفيد أن مجرد فعل القراءة مكروه لأنه عمل مخالف لعملهم دون التفات إلى أنه اعتقد أن ذلك سنة أو لم يعتقد. إذ ما فعله إلا وهو ويعتقد أنه قربة في تلك المواطن فيكون قصد القربة بما لم يجعله الشارع قربة، وهذا مقتض للكراهة، فقصد القربة وحده كاف في الكراهة دون حاجة إلى اعتقاد أنه سنة وبهذا بطل تأويل من تأول كلام مالك بمن قصد أنه سنة.
وبعد أن ثبت أن قراءة القرآن العظيم في تلك المواطن بدعة، وأنها مكروهة فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم؟ ذهب الإمام الشاطبي إلى أن الكراهة حيثما عبر بها في البدعة فهي كراهة تحريم على تفاوت مراتبها في ذلك وساق على ذلك جملة من الأدلة الكافية في الباب السادس من كتابه الاعتصام، فأجمل فضيلته في الإشارة إلى مذهب الشاطبي إجمالا أظهره به مظهر من تكلم في خصوص هذه المسألة فتوهم وتقوَّل على الإمام فقال: "وليس المراد بالكراهة الحرمة كما توهمه الشاطبي في كتاب الاعتصام مستندا إلى أن الإمام قد يعبر بالكراهة ويعني بها الحرمة لأن كلام مالك لم يقع فيه لفظ الكراهة بل هي من تعبير فقهاء مذهبه تفسيرا لمراده. لأن علماء مذهبه متفقون على أنَّ مراد مالك من كلامه في المدونة وفي السماع هو الكراهة بالمعنى المصطلح عليه في الفقه، ولأن دليل التحريم لا وجود له فحمل(3/78)
كلام مالك عليه تقول عليه والإقدام على التحريم ليس بالهين إذ لم تقم عليه الأدلة الصريحة".
لم ينصف فضيلته الشاطبي في الصورة التي صور بها كلامه وفيما رواه به. وكل ذلك لأجل أن يتوصل إلى تهوين ارتكاب بدعة القراءة في المواطن الثلاثة لأنها من المكروه الذي لا يعاقب على فعله ونحن نذكر فيما يلي ما هو تلخيص لبعض ما استدل به الشاطبي وزيادة عليه:
إن من ابتدع مثل هذه البدعة التي هي تقرب فيما لم يكن قربة كأنه يرى أن طاعة لله بقيت تنقص هذه الشريعة فهو يستدركها وأن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خفيت عليه قربة هو اهتدى إليها أو لم تخف عليه ولكنه كتمها. وهذه كلها مهلكات لصاحبيها فلا يكون ما أوقعه فيها من ابتداع تلك التي يحسبها قربة إلا محرما. وقد قال مالك فيما سمعه من ابن الماجشون: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"، هذا من جهة النظر المؤيد بكلام مالك. وأما من جهة الأثر فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفيه عن أبي هرير قال قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «مندعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». ووجه الدليل من الحديثين أنه سمى في الحديث الأول البدعة شراً وضلالا فعم ولم يخص، وأثبت الإثم لمرتكب الضلالة والدَّاعي إليها والإثم لا يكون(3/79)
إلا في الحرام فيكون النظر هكذا: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة يؤثم صاحبها، فكل بدعة يؤثم صاحبها، وكل ما يؤثم عليه فهو حرام: فكل بدعة حرام.
وقد دخلت بدعة اختراع القرب في قوله: "وكل بدعة ضلالة" بمقتضى عموم اللفظ. ويدل على دخولها ما ثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- رد على من قال أما أنا فأقوم الليل، ولا أنام، وعلى من قال أما أنا فلا أنكح النساء، وعلى من قال أما أنا فأصوم ولا أفطر، رد عليهم بقوله: «من رغب عن سنتي فليس مني» ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب في أصله أو ترك مندوب ومع ذلك رد عليهم بتلك العبارة التي هي أشد شيء في الإنكار فكل من أراد أن يتقرب بما لم يكن قربة فهو مردود عليه بمثل هذه العبارة الشديدة في الإنكار. ويدل أيضا على دخولها ما ثبت في الصحيح عن قيس بن حازم قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها، فقال: حجت مصمتة، قال لها: «تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية» فهذه أرادت أن تتقرب بما ليس قربة فجعل عملها من عمل الجاهلية وقال: أنه لا يحل فكل مريد للتقرب بما لم يكن قربة فيقال في فعله ما قيل في فعلها. ووجه الدليل من الحديثين أن التقرب بما ليس قربة أنكر أشد الإنكار وقيل فيه لا يحل، وقيل فيه من عمل الجاهلية فلا يكون بعد هذا كله إلا ضلالا فيدخل- قطعا- في عموم قوله: «وكل بدعة ضلالة» فيثبت له التحريم بالنظر المتقدم.
(لها بقية) (عبد الحميد بن باديس)
__________
البصائر السنة 1، العدد 17، الصفحة 1، العمود 2 و3 من صفحة 2، الجزائر في يوم الجمعة 9 صفر 1355 هجرية، الموافق ليوم 1 ماي 1936م.(3/80)
-3 -
ودخول بدعة التقرب بما ليس قربة مثل القراءة في المواطن الثلاثة، قد فهمه مالك وجاء في كلامه ما هو صريح في ذلك. فروي في- الموطأ- حديث أن النيَّ- صلى الله عليه وآله وسلم- رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صومه» قال مالك: أمره أن يتم ما كان لله طاعة (وهو الصيام) ويترك ما كان لله معصية. وروى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، قال مالك: معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر أو إلى الربذة.
فقد جعل مالك القيام للشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الأماكن المذكورة معاصي، وفسر لفظ المعصية في الحديث بها، مع أنها في نفسها أشياء مباحات، لكنه لما أجراها مجرى القربة- وليست قربة- حتى نذر التقرب بها وصارت معاصي لله وليس سبب المعصية أنه نذر التقرب بها حتى أنه لو فعلها متقربا دون نذر لكانت مباحة، بل مجرد التقرب بها وليست هي قربة موجب لكونها معصية عند مالك. والدليل على ذلك ما حكاه ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكا بن أنس، واتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-. فقال إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال الرجل: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال(3/81)
أزيدها، قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فهذا الرجل لا نذر في كلامه وقد أراد الإحرام- وهو في نفسه عبادة- من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- وموضع قبره. وأراد أن يزيد أميالا تقرباً لله تعالى بإيقاع الإحرام بذلك الموضع الشريف وزيادة التعب بالأميال. ومع ذلك رده مالك عن ذلك وبيَّن له قبح فعله بما يراه لنفسه من السبق وقرأ عليه الآية مستدلا بها وما كان مثل هذا داخلا في الآية عنده ألا وهو يراه حراما.
فهذا هو مستند الشاطبي في فهم كلام مالك والحكم بأنه يرى في كل بدعة تقرب بما ليس قربة الحرمة لا كراهة التنزيه. فلم يكن متوهما ولا متقولا ولا مقدما على التحريم بدون دليل.
وقد بان مما تقدم أن الحكم على بدعة التقرب بما ليس قربة محكوم عليها بالضلالة والحرمة وأن ذلك هو مذهب إمام دار الهجرة، وبعد ثبوت الحق بالدليل، سقط كل قال وقيل، ونزيد على ذلك الآن ما قاله فقهاؤنا المتأخرون في بدع الجنائز من القراءة ونحوها: "سئل أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها من جهرهم بالتهليل والتصلية والتبشير والتنذير ونحو ذلك على صوت واحد أمام الجنازة. كيف حكم ذلك في الشرع؟. فأجاب: السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار. خرَّج ابن المبارك أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمت وأكثر حديث نفسه. قال فكانوا(3/82)
يرون أنه يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسؤول عنه. وذكر ذلك أن مطرفا كان يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة وعسى أن يكون غائبا فما يزيد على التسليم يعرض عنه اشتغالا بما هو فيه فهكذا كان السلف الصالح.
واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة: وذكر الله والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وآه وسلم- عمل صالح مرغب فيه في الجملة لكن للشرع توقيت وتحديد في وظائف الأعمال، وتخصيص يختلف باختلاف الأحوال والصلاة وإن كانت مناجاة الرب، وفي ذلك قرة عين العبد، تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة والمنع. والله يحكم ما يريد ". ا. هـ، وقال أبو سعيد في جواب آخر: أن ذكر الله والصلاة على رسوله عليه السلام من أفضل الأعمال وجميعه حسن لكن للشرع وظائف وقَّتها وأذكار عيَّنها في أوقات وقتها، فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة، وإقرار الوظائف في محلها سنة، وتبقى وظائف الأعمال في حَمل الجنائز إنما هو الصمت والتفكر والاعتبار. وتبديل هذه الوظائف بغيرها تشريع. ومن البدع في الدين، ا. هـ.
وقال أبو سعيد في جواب آخر: المنقول عن السلف الصالح- رضي الله عنهم- في المشي مع الجنائز هو الصمت والتفكر في فتنة القبر وسؤاله وشدائده وأهواله. وكان أحدهم إذا قدم من سفره فيلقاه أحد إخوانه بين يدي الجنائز لم يزد على السلام إقبالا على الصمت، واشتغالا بالتفكر في أحوال القبر، والخير كله في اتباعهم وموافقتهم في فعل ما فعلوه. وترك ما تركوه، ا. هـ.
نقل هذا كله الوانشريسي في المعيار وهذه هي فتوى أبي سعيد بن لب في موضوعنا المنطبقة على كل ما أحدث من الأوضاع بقصد التقرب وليست قربة في هذه المواضع وإن كانت حسنة في أصلها وقد رأيت(3/83)
إنكاره لها، فترك هذا كله فضيلة. ونقل كلاما آخر لأبي سعيد خارجا عن الموضوع كما سنبينه عندما ننتهي إليه. ونعود الآن إلى بقية ما قاله فقهاؤنا عليهم الرحمة والرضوان.
وسئل الإمام عبد الله العبدوسي ما حكم القراءة بين يدي الجنازة، وكذلك ما يفعله الفقراء (هم الإخوان الطرقيون) أمامها. فأجاب: وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة لأنه بدعة ومباهاة. ويقال لولي الجنازة ما تعطيه للفقراء تأثم عليه. أعطه للمساكين صدقة عن وليك الميت فذلك أنفع وأبقى لكما إلى الآخرة. والجنازة على الاعتبار والتذكير والاستبصار والإقبال على أمر الآخرة. وكان السلف الصالح- رضي الله عنهم- يبكون ويحزنون حتى لا يدري الغريب بينهم ولي الميت من غيره، ا. هـ. نقلها من المعيار. وأنت تراه كيف أفتى بوجوب تغيير هذه البدعة المنكرة وجعل ما يعطى للقائمين بها جالبا للإثم على من أعطى. ذلك لأنه أعان على المنكر. والمعين على المنكر كفاعله.
وعقد الوانشريسي فصلا قبيل نوازل النكاح ذكر فيه البدع فجزم ببدعية هذه المحدثات عند الجنائز فقال: ومنها الذكر الجهري أمام الجنائز فإن السنة في اتباع الجنازة الصمت والتفكر والاعتبار وهو فعل السلف. واتباعهم سنة، ومخالفتهم بدعة. وقد قال مالك: لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. ا. هـ، فهذه أقوال الفقهاء أهل الفتوى الجارية على أصل مذهب مالك الجاري على مقتضى تلك الأدلة التي بينا، وعليها بنينا.
(عبد الحميد بن باريس)
__________
البصائر: السنة العدد 18 الجزائر في يوم الجمعة 16 صفر 1355هـ الموافق ليوم 8 ماي 1936م الصفحة 1 والعمود 1 و2 من الصفحة 2.(3/84)
-4 -
لو أردنا الاقتصار في المسألة على ما أقمناه من الاستدلال عليها.
ثم ما ذكرنا من أنها قول مالك ومشهور مذهبه، وما نقلنا من فتوى أهل الفتوى من المتأخرين- لكفانا ذلك في بيان الحق بدليله والتأيد بالسابقين إليه. ولكن رأينا في ما نقله فضيلته إبهاما وإيهاما وتحريفا، فوجب أن نتتبعه بالبيان.
قال فضيلته: (وذهب اللخمي وابن يونس وابن رشد وابن العربي والقرطبي وابن الحاجب وابن عرفة من أئمة المالكية إلى أن القراءة مستحبة في المواطن الثلاثة، إذا أريد إهداء ثوابها إلى الميت).
هنا مسألتان إحداهما هي انتفاع الميت بإهداء القراءة إليه هكذا على الإطلاق، وهذه ليست محل النزاع. والأخرى هي قراءة الجماعة على الميت عند موته وعند رفعه وعند دفنه على فبره. وهذه هي محل الكلام. وكلامه يوهم بصريحه أن هولاء الأئمة كلهم يستحبون القراءة في المواطن الثلاثة، وقد كان عليه أن يبين مأخذه لا أن يلقي به على هذا الإهمال والإجمال. والذين ذكرهم الموافق في مسألة قراءة يس عند موته هم ابن حبيب وابن رشد وابن يونس واللخمي ولم يقل في المواطن الثلاثة كما قال فضيلته وأما ابن العربي والقرطبي فجاءا في كلام للعبدوسي هكذا: (وأما القراءة على القبر فنصر) ابن رشد في الأجوبة، وابن العربي في أحكام القرآن له، والقرطبي في التذكرة، على أنه ينتفع بالقراءة أعني الميت سواء قرأ على القبر أو قرأ في البيت وبعث الثواب له أو في بلد إلى بلد. وأما شهاب الدين القرافي في القواعد فنص على أنه لا ينتفع بذلك إلا إذا قرأ على القبر مشافهة وهو قول خارج عن المذهب". نقل هذه الفتوى من المعيار ونقلها كنون. وكلام هؤلاء الأئمة إنما هو في أن القراءة يصل ثوابها دون توقف على القراءة(3/85)
على القبر خلافا لمن شرط ذلك وهو القرافي وليس هو فيما اتخذ سنة للتقرب من القراءة عند دفن الميت على قبره الذي هو موضوعنا. والعبدوسي الذي نقل هذا عنهم هو الذي أفتى- كما قدمنا- بما هو مذهب السلف من السكوت والاعتبار. فلم يفهم من كلام هؤلاء الأئمة- قطعا- خلاف ما أفتى به. وليس عندي مختصر ابن الحاجب ولا مختصر ابن عرفة حتى أعرف ما قالا. وأحسب أنه لو كان لهما قول مقابل لمذهب مالك لذكره شراح مختصر خليل وحواشيهم.
ثم قال فضيلته: (وذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله ووافقهما عياض والقرافي من المالكية وبعض الحنفية إلى استحباب القراءة عند القبر خاصة) وكان عليه - أيضا- أن يذكر مأخذه وأحسبه استند في هذا النقل المجمل المبهم على ما نقله كنون والرهوني والحطاب من كلام القرافي، وقد وقع منهم اختصار في نقله أدى إلى اضطراب فيه، فقال الرهوني نقلا عن القرافي: "مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة أن القراءة يحصل ثوابها للميت إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع" فأوهم أن القراءة عند القبر شرط في مذهبهما ووقع غيره في هذا الوهم فنقل عنهما التفريق بين القراءة عند القبر وعند غيره. ونحن ننقل لك كلام القرافي من الفرق الثاني والسبعين بعد المائة لتتجلى لك حقيقة مذهبهما وموضوع كلامهما.
قال القرافي: "وقسم اختلف فيه هل فيه حجر (أي منع للعامل من نقله لغيره) أم لا. وهو الصيام والحج وقراءة القرآن فلا يحصل شيء من ذلك للميت عند مالك والشافعي رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل يصل ثواب القراءة للميت.
فأنت ترى أن الشافعي موافق لمالك خلافا لما زعمه فضيلته، وأن موضوع الكلام في وصول القراءة للميت لا في اتخاذها قربة في المواطن(3/86)
الثلاثة. خلافا لما أوهمه الرهوني وتوهمه غيره وخرج به فضيلته عن الموضوع.
ثم قال القرافي في الفرق المذكور: "ومن الفقهاء من يقول إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع، وهو لا يصح أيضا لانعقاد الاجماع على أن الثواب، يتبع الأمر والنهي فما لا أمر فيه ولا نهي لا ثواب فيه بدليل المباحات وأرباب الفترات. والموتى انقطع عنهم الأوامر والنواهي. وإذا لم يكونوا مأمورين لا يكون لهم ثواب وإن كانوا مستمعين. ألا ترى أن البهائم تسمع أصواتنا بالقراءة ولا ثواب لها لعدم الأمر لها بالاستماع فكذلك الموتى. والذي يتجه أن يقال ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القراءة لا ثوابها كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده فإن البركة لا تتوقف على الأمر".
فالقرافي بعد ما أيد مذهب مالك ورد على مخالفه ثم على رأي بعض الفقهاء اختار حصول البركة بالقراءة للأموات عند قبورهم، وهو رأي- كما قال العبدوسي فيما تقدم- خارج عن المذهب، ولسنا نكتفي في رده بمجرد أنه خارج عن المذهب بل نرده بأن تحصيل البركة للأموات من خير ما يتقرب به العبد لربه في نفع إخوانه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة وما كانت لتفوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نستدركها عليه فقد حصر الدفن للأموات ولقد زار أهل المقابر وما جاء عنه إلا الدعاء، وما لم يجيء عنه ويدعى أنه قربة فهو البدعة وكل بدعة ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم.
وأما ما نسبه للقاضي عياض فأصله في شرحه على مسلم في حديث القبرين اللذين مر بهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: «أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة(3/87)
وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا. ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا».
ونقل الأبي كلا عياض فقال: "وأخذت منه تلاوة القرآن على القبر لأنه إذا رجي التخفيف بتسبيح الشجر فالقرآن أولى" فنقول أن هذا من القياس في العبادات وهو مردود في مذهب مالك، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم- كانوا يحفظون القرآن فلو أن قراءة القرآن للتخفيف على الأموات مشروعة لكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- قرأ وأمرهم بالقراءة لكنه لم يقرأ ولم يأمرهم بالقراءة واقتصر على وضع فلقتي العسيب. ومعاذ الله أن يترك الأحرى إلى غير الأحرى كما يقتضيه التمسك بالقياس وأما أمر العسيب والتخفيف به ما دام رطبا فهو كما قال الإمام المازري: "فلعله أوحى إليه أن يخفف عنهما ما داما رطبين ولا وجه يظهر غيره" وكما قال الأبي: "والأظهر أنه من سر الغيب الذي اطلعه الله عليه" ولا يخفى أن كلام هذين الإمامين مما يرد ذلك القياس، لأن القياس حيث يكون ينبني على العلة المشتركة ومبنى ما هنا على سر غيبي خاص.
...
عرض فضيلته في القسم الثاني من كلامه إلى حكم تغيير بدعة القراءة في المواطن الثلاثة فقال: "أقصى حكمها في النهي أن تكون من قبيل المكروه والمكروه لا يغير على فاعله".
ونحق قد بينا بالاستدلال المتقدم أن بدعة التقرب بما لم يشرع التقرب به في موطن من المواط من لا تكون إلا حراما وأن كراهتها عند مالك كراهة التحريم فيجب تغييرها كما يجب تغيير المحرمات.(3/88)
وعلى ذلك جاءت فتوى العبدوسي المتقدمة: "وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة" ثم لا نسلم له أن المكروه كراهة التنزيه لا يغير على فاعله. فإن المكروه منهي عنه ومن نهى عن شيء فقد أنكره فهو داخل في المنكر على قدر درجته في والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة من التأدية إلى إحداهما والمضار والمفاسد مطلوب زوالها ولا تزال إلا بالتغيير كل بحسب منزلته في الضرر والفساد.
والمكروه منهي عنه ونحن مأمورون بتبليغ أوامر الله ونواهيه. وقد نص أصحاب حواشي الرسالة وغيرهم أنه يستحب الأمر بالمندُوب والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة المندوبات والمكروهات يدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل الإرشاد للورع ولما هو أولى من غير تعنيف ولا توبيخ بل يكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى" لكن فضيلته لا يريد هذا التعاون الذي قد يدرب الناس على الإنكار فيترقوا فيه إلى ما يضر بنواح معينة فهو لهذا يزعم أن غاية هذه البدع أن تكون مكروهة وأن المكروه لا يغير ثم يغري السلطة بالمغيرين!
ثم قال فضيلته- مستدلا على عدم التغيير-: "وقد جرى عمل كثير من بلاد الإسلام على اتباع قول الذين رأوا الاستحباب فلأهل الميت الخيار أن يتبعوا السنة أو يتبعوا المستحب".
ومعاذ الله أن يكون الترك هو السنة ويكون الفعل مستحبا. إذ معنى هذا أن سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وطريقته هي ترك المستحب فعاش في جميع حياته تاركا لهذا المستحب معرضا عنه زاهدا فيه حتى جاءت الخلوف فأقبلت عليه وتمسكت به فنقول لمن جاء يستفتينا أنت مخير إن شئت تمسكت بسنة محمد- صلى الله عليه(3/89)
وآله وسلم- وهي الترك، وإن شئت تمسكت بهذا المستحب الذي أحدثته الخلوف. لا كلا! ما كان مقابلا للسنة إلا البدعة. وما كانت البدعة إلا ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم وقد تقدمت مناقشتنا له فيمن نسب إليهم الاستحباب.
ثم أراد فضيلته أن يستدل على أن ما جرى عليه عمل الناس من الخلافات لا يغير فقال: "قال أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره وهو القرن الثامن: أن ما جرى عليه عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يلتمس لهم مخرج شرعي على ما أمكن من وفاق أو خلاف (أي بين العلماء) إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل".
ما يجري، به عمل الناس ينقسم إلى قسمين قسم المعاملات وقسم العبادات. وقسم المعاملات هو الذي يتسع النظر فيه بالمصلحة والقياس والأعراف وهو الذي تجب توسعته على الناس بسعة مدارك الفقه وأقوال الأئمة والاعتبارات المتقدمة، وفي هذا القسم جاء كلام أبي سعيد هذا وغيره وفيه نقله الفقهاء وأنت تراه كيف يعبر بالعرف والعادة. أما قسم العبادات فإنه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يقبل منه إلا ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يتقرب إلا بما تقرب به وعلى الوجه الذي كان تقربه به ومن نقص فقد أخال ومن زاد فقد ابتدع وشرع وذلك هو الظلام والضلال: ومن هذا القسم التقرب بالقراءة في المواطن الثلاثة بعد ما ثبت أن سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- تركها وفيها جاء كلام ابن سعيد الذي نقلناه عنه فيما تقدم. فمن العجيب- ولا عجب مع الغرض- أن يقلب فضيلته الحال فيهمل كلام أبي سعيد الذي هو في موضوعنا ويأتي بكلام له في موضوع آخر وينزل قوله في قسم المعاملات على ما هو من قسم العبادات.(3/90)
ثم فرع على ما أبطلناه من رأيه فقال: "وعليه فكل من يتصدى لمنع أقارب الأموات من تشييع جنائزهم بالقراءة فقد أنكر عليهم بغير علم واجترأ عليهم بالتدخل في خاصة أمورهم بدون سبب يحق له ذلك" وإذا ثبت أن ذلك بدعة وضلالة قد أنكرها أهل العلم فمن منع منها منع بعلم. ولو ترك كل مرتكب بدعة ضالة لأن منعه تدخل في خاصة أموره لعم الفساد وغرقت السفينة كما في الحديث المشهور.
ثم بين فضيلته ما هو شأن العالم في الإنكار فقال: "وإنما شأن العالم في مثل هذا أن يرغبهم في التأسي بالسنة وبيان أنها الحالة الفضلى بقول لين".
وإذا بان أن هذه بدعة وهي ضلالة فإنها تغير بدرجات التغبير الثلاث فمن استطاع تغييرها باليد فلا يجوز له الاقتصار على اللسان، ثم إننا والله لقد وددنا لو ظفرنا بهذا الذي قلت منك ياصاحب الفضيلة وددنا لو أنك قمت مرة واحدة من عمرك- وأنت شيخ الإسلام- فرغبت الناس بالتأسي بالسنة وبينت أنها الحالة الفضلى بقولك اللين، وكلامك العذب الرقيق. ولكن- وياللأسف- كانت أول قومة قمتها هي قومتك هاته التي نحن في معالجتها ودفع أضرارها وغسل أوضارها.
ثم جاء فضيلته بالداهية الدهياء: "فإن هم تجاوزوا ذلك فحق على (ولاة الأمور) في البلدان أن يدفعوا عن أهل المآثم عادية من يتصدى بزعمه لتغبير المنكر دون أن يعلم، من كل من تزبب قبل أن يتصرم".
أرأيت كيف يغري السلطة بالمصلحين أرأيت كيف يستكبر إنكار من ينكر البدعة، ويسميه عاديا وهو هو الذي لم ينبس ببنت شفة أمام أي عادية من عوادي الزمان؟ .. ليس هذا مقام رد فأرد عليك(3/91)
مثل ما تقدمه. ولكنه مقام ظلم وتحريش وتحقيق نكل الأمر فيه إلى العزيز الحكيم.
إلى هنا ننتهي من البحث الذي بنيناه على النظر والاستدلال لا على مجرد سرد الأقوال. وقد وعد فضيلته بأنه سيتبع فتواه ببيان تأصيل أحكامها ونحن لبيانه هذا من المنتظرين والعاقبة للمتقين.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: ع19 س1 الجزائر يوم الجمعة 23 صفر 1355هـ - لـ 15 ماي 1936م ص1 - 2 وعمود من 3.(3/92)
حول فتوى القراءة على الأموات
لماذا التذييل، بدل التدليل والتأصيل؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
وعد الشيخ الطاهر بن عاشور في آخر فتواه التي فرغنا من نقضها أنه سيتبعها بأدلتها فقال: "هذا حاصل هذا الجواب بما تضمنه البعض من أقوال أهل المذهب أتيت به واقتصرت فيه على ذلك دون تطويل ولا تأصيل، لقصد إحاطة أصناف المستفتين بحكم هذه المسألة. وسأتبعه ببيان تأصيل أحكامه ليزداد أهل النظر فإنهم يحبون أن يلحقوا الفروع بأصولها، ويميزوا عن خليط ثفالها خالص منخولها".
ومعنى هذا أنه ذكر الأقوال مجردة ولم يذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأنه سيذكر أدلة تلك الأقوال ليتميز القوي منها بقوة مدركة من الضعيف لضعف مدركه. وقد قلنا في آخر نقضنا لفتواه: "وعد فضيلته بأنه سيتبع فتواه ببيان تأصيل أحكامها، ونحن لبيانه هذا من المنتظرين؟ ".
وكنا ننتظر منه أمرين أحدهما دفاعه عن فتواه إن كان له عنها من دفاع، وثانيهما وفاؤه بما وعد. فأما الثاني فإنه لم يكتب فيه حرفا إلى الآن وأنى له أن يأتي بأدلة من الكتاب والسنة لما يعترف هو نفسه أنه خلاف السنة. وإننا نتحداه ونقول له إنه لن يستطيع أن يأتي على بدعة القراءة على الأموات في المواطن الثلاثة بسنة ثابتة من قول أو عمل أو تقرير فليأت بشيء من ذلك إن كان من الصادقين.(3/93)
وأما الأول فإنه حاد فيه عن صريح الدفاع واكتفى فيه بمثال نشرته جريدة الزهرة تحت عنوان (تذييل للفتوى في قراءة القرآن في الجنازة) ولعله اكتفى أيضا بما كتبه أولئك المجاهيل الذين قمشوا مسائل وأقاويل من غير فهم ولا تطبيق، وبعثروها في مقالات طويلة حالكة سداها البغض والبذاء ولحمتها الخبط والمهاترة، ثم أمضوها بإمضاءات مستعارة جبنا عن منازلة من يصارحهم باسمه أو لبقية ما من حياء من المجاهرة بذلك السقط والهذر.
فأما إذا كان فضيلته اكتفى بهؤلاء فإنه لمزر به أن يكون هؤلاء الذين لا يستطيعون الظهور في كتابة علمية دينية انصاره، ثم كيف يكونون انصاره وهم يستحون- إن كانوا يستحون- من التظاهر بنصرته؟ لا يامولانا ان في الدنيا علماء وانه يعز علينا- والله- أن لا يكون من ينصرك إلا بمثل ذلك الجهل الظاهر من جاهل مختف وإنك ترتاح له وتكتفي به، ونحن من ناحيتنا نربأ بأنفسنا عن تضييع الوقت في مطالعة ما لا يساوي نظرة إليه فضلا عن الاشتغال بالرد عليه ومن ذا يرضى بمخاطبة من يتستر في موضوع ديني معروف فيه الراد والمردود عليه، فما دين هؤلاء الجبناء المجاهيل وما قيمتهم وما هي النواحي التي تحركهم؟
أما قيمتهم العلمية والأخلاقية فقد عرفناها من كتابتهم وأما غيرها فإننا منه مستريبون، وإذا كانوا مسلمين حقيقة ومستقلين في إرادتهم فليصرحوا بأسمائهم إن كانوا من أنفسهم واثقين.
وأما إذا كان فضيلته يكتفي بذلك التذييل فها نحن نعرض لنقضه وإبطال ما زاده من الباطل فيه بعد بيان ما كان دفعه إليه بدل التدليل الذي عجز عنه بعدما كان وعد به.
***(3/94)
بينما كانت الأمة التونسية- كسائر الأمم الإسلامية- تتألم من المضار التي تلحقها من بدع المآتم التي أساسها بدعة القراءة على الأموات التي تجمع الناس فتنفق على أكلهم وشربهم الأموال وتبذر الثروات وتثقل الكواهل بالديون ويتعدى على أموال الأيتام ويتحمل الضعيف المحال ما يتركه على أسوأ حال.
بينما الأمة التونسية هكذا والمصلحون منها يعالجون حالتها إذا بشيخ الإسلام ورئيس مجلس الشورى المالكي يطلع عليها بفتوى غريبة تقرر تلك البدعة وتؤيدها وتتلمس التأويلات البعيدة لتسويغ ويلاتها، فأعظمت ذلك الأمة التونسية، واستنكرته مثلما أعظمناه نحن واستنكرناه فبادر الصحافي الكبير السياسي المحنك الأستاذ محمد الجعائبي في جريدته (الصواب) ذات الثلاثين سنة في خدمة الأمة التونسية بصدق وثبات وتضحية فكتب مقالا تحت عنوان "فتوى ضد البدع والضلالات والقراءة على الميت وفي الجنائز" ونشر فتوى (1) لشيخنا أبي الفضل المالكي شيخ الجامع الأزهر سابقا رحمه الله مؤرخة بـ 4 ربيع الثاني 1334هـ، وكانت هذه الفتوى ردا مفحما على فتوى الشيخ ابن عاشور وكتب الأستاذ العجائبي تصديرا عليها قال فيه: "فكان جواب الشيخ محررا على أبدع أسلوب قد اقتصر فيه على السؤال دون أن يحاول التحريش أو الإملاء على أولياء الأمر بما يجب اتخاذه من التدابير تاركا ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ولا يخفى ما في كلام الأستاذ شيخ الصحافة التونسية من الإنكار والاستهجان تعريضا بفتوى الشيخ ابن عاشور، وأثر هذا أخذت الأسئلة ترد على شيخ الإسلام لا تستطيع أن تصرح بالإنكار- ومن يستطيع مصارحة شيخ الإسلام بالإنكار- ولكنها لم تستطع محوه من بين السطور ونحن ننقل من
__________
(1) نشرت (البصائر) هذه الفتوى في العدد 16(3/95)
تلك الأسئلة ما يفهم منه ذلك الإنكار وما يصور الحالة المنكرة التي يتألم إخواننا التونسيون- مثلنا- منها ويريد شيخ الإسلام بفتواه- الغريبة تقريرها.
سأل الشيخ مصطفى الشنوفي من حمام الأنف، ونشرت سؤاله الزهرة فقال: "إن سؤالنا الذي نطلب إماطة اللثام عن دخيلته وتحقيق ما ينتابه من أحكام هو ما يلي: بعد وضع الحالة التي عليها القراء وكذا الأمكنة والمستمعون، بل قل المتفرجون تحت أعين الباحثين.
وهاك ما كل الناس على اطلاع تام عليه حيث أنه متكرر صباحا مساء كل يوم.
يموت مسلم فيذهب وليه طائعا أو تحت تأثير خوف العار لاستئجار جماعة تصدوا لإيجار ما يحفظونه من كتاب الله تعالى، بعد المماكسة طبعا وفعلا عندما يقترب أمد المأتم تراهم زرافات بحالة لا نقول أنها منفردة إذ هذا ليس من توابع ما نحن فيه إلا أننا نريد أن نأخذ بيد الشيخ حفظه الله ونطلعه وما نخاله جاهلا لكن هذا من باب التذكير فحسب.
جماعة الطرق تتلو أحزابا بها من الخلط ما لا يخفى مما يكون في غالب الأحيان وفي كثير من الجمل موجبا للتوبة مما تضمنه من الكفر الغير المقصود مع كونه في اعتقادهم يستحق عليه أجزل المثوبات كل هذا مقصود به استمطار الرحمة على جثمان الفقيد.
جماعة القراء تتلو قرآنا يبرأ منه جميع بدور القراء، ما هو شاذ وما هو ليس بشاذ، فترى مدودا لا ندري كم مقياسها، أثلاثة ألفات أم أربعة، بل ربما نقول ولا نرى أنفسنا جازفنا في التعبير انها تبلغ في بعض الأحيان الستة والسبعة على أقل تقدير مع ما يتبع هذا من زلزلة استغفر الله، بل قلقلة في عرف القراءات وهي حسب الاشتهاء لا عند الاقتضاء مع الوقف الذي ما أنرل الله به من سلطان على أن(3/96)
معدل السير في الساعة تبلغ إن كان هناك مأتم ثان مزمع على الحضور فيه العشرة أحزاب في الساعة، إذاً يكتفون في الغالب بأوائل الكلم أو ترخيمها حتى يتسنى لساداتنا القراء انتهاز المأتم الثاني كيلا يفوت. كل هذا مع تفاوت في الصياح تبعا لمركز الفقيد من حيث الوجاهة وترقب أوفر الجزاء. ولا نريد التعليق على ختم القرآن المزعوم الذي تتفرق فيه الأسفار على عشرة أنفار، بينا مرتل يجوِّد ثمنا أو ربعا على أكثر تقدير، يجوِّد كما يريد لا كما يقول الشاطبي نرى بعضهم يهمهم والآخر يكمل بقية حديثه الذي بدأه مع صاحبه خارج الدار أما القاريء فتراه يقلب صفحات السفر بسرعة يستحيل كونه حقق نظره فيها فضلا على تمكنه من تلاوتها، أما الجلوس فعلى غاية الاحتشام والاحترام لجلال القرآن.
فهل هذا هو القرآن وهل هاته تلاوته وهل هؤلاء الأشخاص الذين يجوز لهم قراءته، وهل لناس أن يستمعوهم؟
لنخرج من الدار ولنشاهد أكبر مهزلة يبرأ منها الإسلام صياح وعويل من الدار وآذان وتكبير وصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسورة البقرة ويس وتبارك وجمهرة وتخريج وأحزاب قادرية ومدائح عيساوية وطيبية وشاذلية وتيجانية.
خبز وزيتون ومغفرة من الله:
يريد الكل إحتكار الأسماع فتراه يجهد نفسه في الصياح حتى إنك لا تشاهد إلا أوداجا منتفخة وعيونا بارزة ودماء للوجوه متصاعدة.
جمعية أصوات وأنواع قراءات:
ثم تجتاز المزابل والصوابيط (1) والطرقات القذرة التي من فرط نتنها
__________
(1) كلمة عامية تونسية معناها: الجزء الذي عليه سقف من زنقة مفردة: "صباط".(3/97)
يعد اجتيازها نصرا من الله لنصل للمقبرة ولنلق نظرة مجردة على تلكم الجماعة عندما يقع لحد الميت: تقرأ سورة يس فالبعض جالس على الأرض والآخر فوق قبر والآخر متوسده مع تعدد في أنواع الجلوس ولا تنس فكل لا يطيق مفارقة نعله المحبوب أما القلب فيفكر هل يكون ممن يقاول في جنازة السيد فلان الذي توفي صبيحة هذا اليوم واللسان يتلو والعين ترهق شيخ القراء، كم تناول من الأجر من ذوي الميت وهل أخفى شيئا لنفسه.
هاته صورة مصغرة مما هو واقع وعمت به البلوى والذي يشاركنا في مشاهدة أدواره جمع التونسيين.
فهل تجوز قراءة القرآن في الأماكن القذرة على قارعة الطريق وعدم الاحتشام في تلاوة القرآن والخشوع والله بر في آياته.
والخلاصة أننا نتقدم بغاية الاحترام لفضيلة شيخ الإسلام المالكي والحنفي كل ما على ما يقتضيه أصل مذهبه الزكي ونلتمس من علماء الشريعة السمحة أن يفتون بحكم الله المنطبق على زماننا الذي اختلط فيه الحلال بالحرام وأن تكون فتياهم تعالج المسألة كما هي واقعة لا كما هي في النظر المجرد ولا نخالهم إلا فاعلين".
وكتب الشيخ محمد بن ابراهيم التوزري يقول: "إنني أرفع إلى حضرتكم السامية هذه الأسئلة راجيا التكرم بإيضاح الجواب عن كل مسألة على حدتها ونص الأسئلة: ما قولكم دام مجدكم، هل سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنسخ بعد وفاته باختلاف الزمان (أم لا) وهل فعل وقول العلماء يصح أن يكون دليلا على جواز فعل ما كان مخالفا للسنة أو فعل الصحابة والسلف الصالح- رضي الله تعالى عنهم- (أم لا) وهل العرف الحادث من الناس يصح جعله دليلا على جواز رفع الصوت خلف الجنازة (أم لا)؟(3/98)
وهل رفع الصوت خلف الجنازة مظنة التشويش على المتفكر السائر مع الجنازة (أم لا) وهل إذا ادعى المتفكر التشويش برفع الصوت خلف الجنازة يصدق (أم لا)؟ وهل يأثم من يشوش غيره برفع الصوت خلف الجنازة (أم لا)؟ أفيدوا مأجورين ولكم مني جزيل الشكر ومن الله الثواب.
وكتب الشيخ التهامي عزيز البانقي القرقني يقول:
"وحيث ثبت أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت ظهر أن قراءة القرآن في المواقع الثلاثة خلاف السنة، وخلاف السنة إنما هو البدعة. وقد حكم بالكراهة مطلقا في ذلك أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة في شرحه لمختصر البخاري حيث قال: مذهب مالك كراهة القرآن في هاته المواقع (1) لأننا مكلفون بالتفكير والاعتبار ومكلفون بالتدبر في القرآن فآل الأمر إلى إسقاط أحد العملين ا. هـ.
وما أشبه عصر ابن لب وابن سراج والمواق بهذا العصر وأهله وها أنا سائل جنابكم يا صاحب السماحة والفضيلة بقطع النظر عن الكراهة أو الجواز:
هل تلك الصيغة يقرأ بها مشيعو الجنائز قول الله تعالى كنطقهم بلفظة غفور بدون واو ورحيم بدون ياء وعذاب بدون ألف ويجعلون لا النافية لام ابتداء ونون المتكلم ومعه غيره نون جمع المؤنث ويقطعون كلمات الله محافظة على الصيغة وعلى أصواتهم أَيُبَاحُ لهم القراءة بهاته الصفة سواء كانوا مع الجنازة أو في مواقع أخرى أم يحرم عليهم.
وهل تلك الأجرة التي يأخذها مشيعو الجنازة من أولياء الميت على القراءة جائز أم لا؟ وهل تعد صدقة أم لا؟ وهل تدخل في مؤن التجهيز
__________
(1) فى الأصل: الواقع.(3/99)
ويقضي بها أن شح بعض الورثة أم لا؟ فالرجاء منكم أن تجيبوا جوابا شافيا أبقاكم الله ملجأ للسائلين ومفيدا للطالبين (انتهى).
ولا يخفى ما في هذه الأسئلة من الرد على الفتوى والإنكار عليها والتنبيه على خروجها عن الموضوع وعدم مطابقتها لصورة الواقع وتعريضها بأن المفتي تعمد الإغضاء عما يعلمه كل أحد ويشاهده من المضار والمفاسد بسبب القراءة على الجنائز وذهب بفتواه يتأول ويتحمل لما هو من عالم الخيال.
ولما أحرجته هذه الأسئلة أجاب عنها بذلك التذييل ولما كان هذا التذيبل قد اشتمل على الباطل والخطأ مثل الفتوى فإننا سنعرض لبيان ما فيه من ذلك في العدد القادم إن شاء الله (1).
عبد الحميد بن باديس
-2 -
كان أصل السؤال عن القراءة عند تشييع الجنازة وحول الميت وعند القبر. وكان جوابه عنه هكذا: " إن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت والتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمن الصحابة. إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر اللدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر
__________
(1) البصائر: س 1، العدد24، الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم19 جوان 1936م، الصفحة 3، العمود 2 و3، ص 6، العمود 2 و3 إلى ص 7 العمود أو 2 و3 نصفه.(3/100)
المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت عند موته على خلاف فيه. ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة". ثم أخذ بعد هذا الجواب الواضح البين يقاوم ما فيه من صريح السنة مما فرغنا من رده عليه. وأما في تذييل الفتوى فإنه قال هكذا: "اعلم أن موضوع الفتوى الصادرة منا هو أن قول مالك أن السنة في تشييع الجنازة السكوت. والقراءة في الجنازة مكروهة عنده وأنها عند فريق من العلماء مستحبة غير مكروهة لقصد انتفاع الميت بثوابها". وهذا كلام قاصر على خصوص القراءة عند التشييع فلنقصر كلامنا اليوم معه فيه. وقد زعم أن القراءة عند التشييع عند فريق من العلماء مستحبة. ونقول أنه لم يقل باستحبابها واحد من الأئمة- رضي الله عنهم- ولا من شيوخ مذاهبهم ولا ذكرها متن من المتون التي يدرس بها فقههم في الأمصار. فهو مطالب بأن يثبت هذا الفريق ولو بواحد من هؤلاء ولن يستطيع- ولا محالة- إثبات العدوم، وفيما نقلناه في كلامنا السابق ما يدل على الاتفاق على بدعتها، ونزيد هنا قول الإمام ابن شامة الشافعي المتوفى سنة 665هـ في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" قال: "وفيما يفعله الناس اليوم في الجنائز بدع كثيرة ومخالفة لما ثبت في السنة من ترك الاسراع بها والقرب منها والإنصات فيها ومن قراءتهم القرآن بالألحان".
ثم قال فضيلته: "فمدرك مالك ههو التيمن بقصد التأسي بالفعل الواقع في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمن أصحابه فالمراد بالسنة عنده الطريقة التي كان عليها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-".
نعم السنة هي الطريقة التي كان عليها- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يفعل ويترك، ونحن مأمورون باتباعه في هذه الطريقة،(3/101)
بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ رَحِيمٌ} والتأسي به فيما فعل وفيما ترك يمن ومخالفته شؤم، ولنا به أسوة حسنة فالقراءة عند التشييع تركها فتركها من سنته أي من طريقته فهو سنة وفعلها ليس من طريقته فهو بدعة. والخير في الاتباع، والشر في الابتداع.
وخير أمور الناس ما كان سنة … وشر الأمور المحدثات البدائع
هذا هو البيان الواضح لمدرك الإمام- رحمه الله- لا كما توهمه عبارة فضيلته من تهوين أمر الاتباع بأنه قصد التيمن والتبرك وأن الترك لا يدخل في لفط السنة لأنها هي الطريقة.
ثم قال: "ولما كان مالك لا يرى وصول ثواب القراءة للميت لم يوجد في نظره ما يعأرض مقصد التأسي فلذلك قال بكراهة القراءة فيها".
مذهب مالك أن ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من الطاعات في موطن مع وجود المقتضي لفعله بحسب الظاهر فإنه يترك دون التفات إلى ذلك الذي يظهر أنه مقتضى إذ يترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تبين أنه ليس بمقتضى في الشرع ففعل تلك الطاعة عليه اعتبار لما ألغاه الشارع واعتداد بما طرحه. وفي هذا معاندة له وافتيات عليه، ولهذا منع الذي أراد أن يحرم من المسجد النبوي وقرأ عليه قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد تقدم تفصيل هذا في سابق كلامنا، فلو أن مالكا كان يقول بوصول ثواب القراءة لما قال بها في التشييع لأن السنة فيه هي تركها، والدعاء المتفق على نفعه لا يقول به مالك في الركوع لأن السنة فيه هي تركه، وهكذا ما هنا.(3/102)
ثم قال: " وأما الذين خالفوه فمدركهم أن السكوت ترك فلا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده".
قد علمت مما تقدم أن هؤلاء الذين يزعم أنهم مخالفون لمالك في سنة ترك القراءة في التشييع لا وجود لهم في الأمة ولا في شيوخ مذاهبهم ومع ذلك فقد أخذ فضيلته يقرر في مدركهم فزعم أن السكوت ترك وأن الترك لا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده، ومقتضى هذا الاستدلال من السنة النبوية يكون بالفعل دون الترك وهذا باطل والحق أنه كما يستدل بفعله- صلى الله عليه وآله وسلم- يستدل بتركه. والتقرب إلى الله بترك ما تركه كالتقرب إليه بفعل ما فعله. ومن فعل ما تركه كمن ترك ما فعله وكما لا يتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعله كذلك لا يتقرب إليه بفعل ما تركه، وهاك من كلام الأئمة ما يثبت لك هذا الأصل ويعرفك بدليله:
قال ابن السمعاني: "إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- شيئا وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله، أمسك عنه الصحابة وتركه إلى أن قال لهم: أنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه. وأذن لهم في أكله"، نقله الشوكاني في (إرشاد الفحول)، وفي أوائل الجزء الرابع من (الموافقات) للإمام الشاطبي بحث واف في الاستدلال بتركه - صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أنواعه، وقال القسطلاني في كتابه (المواهب اللدنية): "وتركه- صلى الله عليه وآله وسلم- سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه فنأتي من القول في الوضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله" وقال ابن حجر الهيتمي: "ألا ترى أن الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان أنكروا الأذان لغير الصلوات الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة(3/103)
عقب السعي بين الصفا والمروة قياسا على الطواف. وكذا تركه - صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة". والنقول على هذا الأصل- وهو الاستدلال بتركه- كثيرة والأدلة فيه ثابتة واضحة وقد اعتنى ببسطة الأستاذ (محمد أحمد العدوي) حفظه الله في كتابه (أصول في البدع والسنن) بسطا كافيا لمن هدَاه الله (1).
(عبد الحميد بن باديس)
-3 -
الاستدلال بترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أصل عظيم في الدين. والعمل النبوي دائر بين الفعل والترك، ولهذا تكلم علماء الأصول على تركه كما تكلموا على فعله. وقد ذكرنا جملة من كلامهم فيما قدمنا، غير أن تقرير هذا الأصل الذي يهدم بدعا كثيرة من فصل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مما يتأكدُ مزيد تثبيته وبيانه. إذ بالغفلة عنه ارتكبت بدع وزيدت زيادات ليست مما زيدت عليه في شيء. وحسبك أن مثل هذا العالم يقرر في ذيل فتواه أن "السكوت ترك فلا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده" فالترك إذاً ليس دليلاً شرعياً، ولهذا أردنا أن نعود إلى بيان هذا الأصل ونقل كلام أئمة الأصول والنظر فيه.
قال الإمام الشاطبي في آخر الجزء الثاني من كتاب الموافقات:
"والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع
__________
(1) البصائر: س1 العدد 25 الجزائر يوم الجمعة 6 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 26 جوان 1936م الصفحة 2 العمود 1 - 2 و1 - 2 من الصفحة3.(3/104)
التسبب أو شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له. وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإنها لما تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذاك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال. فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل.
والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضى له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كلن هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم ولا نبه عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هناك بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع، ثم نقل كلام مالك وبينه، وتطبيق هذا الأصل على مسألتنا أن تقول: (إن المقتضي للقراءة- وهو حصول البركة للميت ووصول الثوابا إليه- قائم ومع قيامه فقد ترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- القراءة ففهم من هذا الترك مع قيام المقتضى أن قصد الشارع هو الوقوف عندما بين من السكوت والاعتبار، وأن زيادة القراءة في ذلك الموطن بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع وإن كانت عبادة من حيث ذاتها، كما قال مالك في سجود الشكر عند الأمر(3/105)
تُحبه "لا يفعل ليس هذا مما مضى من أمر الناس" وإن كان السجود في نفسه عبادة، ثم قال أبو إسحاق الشاطبي في آخر الفصل المذكور "وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليرجعهما كما كانا أول مرة، لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعا إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها. وهو أصل صحيح إذا اعتبر وصح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها. ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة ما كان موجودا قبل فاذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل.
وقد قرر هذا الأصل الإمام ابن القيم في آخر الجزء الثامن من كتاب إعلام الموقعين عندما تكلم على ما ورد من السنن الثابتة من دون معأرض. وطبق هذا الأصل على مسألتنا شيخنا الشيخ بخيت الحنفي مفتي الديار المصرية رحمه الله في كتابه (أحسن الكلام) فقال: "وأما رفع صوت المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية فهو مكروه لا سيما على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان ولم يكن شيء منه موجودا في زمن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولا في زمن الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف الصالح. بلهو مما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة شرعا كما هو الحكم في كل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله" وقال أيضا: "وأما ما يفعل في زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد".(3/106)
فهذا الأصل العظيم الذي قرره مالك- رحمه الله- وهو أن ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضي فالدين تركة- وبينه أبو إسحاق الشاطبي- قد رأيت تقريره والاستدلال له والتفريع عليه من جماعة غير مالكية كابن السمعاني والقسطلاني الشافعيين وابن القيم الحنبلي والشيخ بخيت الحنفي مع تطبيق هذا الأخير له على عين مسألتنا. فلم ينفرد به مالك من أئمة الاجتهاد والفتوى ولا أبو إسحاق الشاطبي من أئمة الأصول والنظر نقول هذا لأن المتأولين للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- أصبحوا وكأنهم يتبرمون بقول مالك وشدته فيها ويحاولون التملص إلى أقوال ولو لم تكن منزلة قوله في الاستدلال والنظر حتى زعم فضيلته أن لمالك مخالفين في القراءة عند التشييع وجاء لهم بمدرك حاول أن يهدم به هذا الأصل العظيم. أما أبو إسحاق الشاطبي فقد صار يوصم عند بعض أنصار البدعة والمتأولين لها بالشذوذ وما ذنبه عندهم إلا نصرته للسنة بكتابه الفريد. في بابه كتاب (الاعتصام) وبفصول من كتابه الفريد الآخر كتاب (الموافقات).
ولقد كنا أيام الطلب بجامع الزيتونة- عمره الله- نسمع من شيوخنا كلهم الثناء العاطر على هذا الكتاب وصاحبه وكانت له عندهم منزلة عظيمة. وأحسن الدروس في المناظرات الامتحانية هو الذي رصعه صاحبه بكلام الشاطبي وأحسن فهمه وتنزيله فليت شعري ماذا يقول المتأولون للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- فيه اليوم وقد أصبح حجة للمصلحين.
وقد بلغني أن كتاب (الموافقات) قد قرر تدريسه بالجامع - عمره الله- وأن الذي يدرسه للشيوخ هو الشيخ عبد العزيز جعيط أحد المفتيين المالكيين والمترشح- فيما يظهر- لمشيخة الإسلام بعد عمر طويل- إن شاء الله- لشيخ الإسلام الحالي، ولعله مر في درسه(3/107)
على هذا الفصل الذي نقلناه من الموافقات في تقرير الأصل المتقدم أو قاربه. فماذا قال أو يقول فيه؟ إن هذا الأصل وهو أن ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى فالدين تركه والزيادة عليه بدعة مذمومة مخالفة لمقصد الشارع- هو حجة المصلحين في رد البدع الغالين والمتزيدين، فماذا قلت يا فضيلة الشيخ عبد العزيز أو ماذا تقول. بين! بين! فإنك تعرف وعيد الكاتمين. وإلا فعليك - لا قدر الله- إثم الهالكين والمعاندين (1).
(عبد الحميد بن باديس)
-4 -
قال فضيلته: "وقد عأرضه، أي الترك النبوي" قصد آخر حسن وهو التبرك بقراءة القرآن ووصول ثواب ذلك للميت، فهم يرون في السكوت في الجنازة فضيلة بركة التأسي وفي القراءة فضيلة وهي وصل الثواب للميت.
هذه هي حجة كل مبتدع ومحدث في الدين ما ليس منه ومتعبد بغير ما شرع الله لعباده بواسطة رسوله- عليه الصلاة والسلام- يفعل ما تركه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بدعوى أن في فعله خيرا وفضيلة وزيادة مفيدة، ويعأرض التشريع الإلهي بالترك النبوي مع قيام المقتضى برأيه وهواه، واستدراكه ودعواه. ومن مقتضى منعه- قطعا- أن ذلك الخير وتلك الفضيلة والزيادة المفيدة قد فاتت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في السنين الطويلة التي
__________
(1) البصائر: س1 العدد 27 الجزائر يوم الجمعة 20 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 10 جوليت 1936م الصفحة 3 والعمود 2 من الصفحة 6.(3/108)
عاشها تاركا لها فلم يفعلها ولم يبلغها وهو المأمور بالتبليغ المعصوم من الكتمان حتى تفطن لها هذا المبتدع فجاء بها وفاز بتحصيلها، وكانت من الفضائل التي رجح ميزانه بها وخلا منها ميزان محمد- عليه وآله الصلاة والسلام- {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
ولو جرى الأمر على هذا الأصل الباطل والقول الضال لأذن للعيدين والتراويح والكسوف والاستسقاء، وقيل أن عدمها في العهد النبوي ترك وهو لا يدل على استحباب عدم الآذان ولا على كراهة ضده وقد عأرضه قصد آخر حسن وهو ما في الآذان من حصول الثواب للمؤذن والحاكي؟ ففي عدم الآذان فضيلة بركة التأسي وفي الآذان فضيلة حصول الثواب للمؤذن والحاكي. وهكذا يمكن أن تزاد عبادات كثيرة في غير مواضعها تركها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لها ويعأرض تركه عليه السلام لها بما فيها من الفضائل الذي غفل عنه هو عليه السلام واهتدى إليه المبتدعون، وكفى بقول يؤدي إلى هذا ضلالا وشرا وفسادا.
نعم في قراءة القرآن العظيم لقارئه وسامعه كل البركة ووصول الثواب المهدى، قال به جمع الأئمة عليهم الرحمة، غير أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو الرحيم بأمته الحريص على دلالتهم على الخير وما فيه الأجر والثواب لم يقرأ القرآن العظيم في هذا الموطن فدلنا على أن الترك هو الخير، وأن هذا الموطن ليس محلا للقراءة بل هو محل لعبادة أخرى هي عبادة التفكر والاعتبار. فالقراءة فيه بدعوى تلك المعأرضة مخالفة ومشاقة له، وما هو أكبر من ذلك من دعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه عليه السلام.
ثم قال فضيلته: "واعتضدوا بقراءة سورة يس".(3/109)
لو كان لمن يقول بقراءة القرآن العظيم عند التشييع دليل من أثر أو صحيح نظر لأمكن أن يقال: "واعتضدوا بحديث يس"، لكن قد علمنا مما تقدم أنه لا دليل لهم إلا مشاقة الترك النبوي بتخيل الأفضلية ودعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مما تقدم لنا إبطاله فلا يمكن حينئذ أن يقال فيهم "اعتضدوا" ويبقى النظر في حديث قراءة يس نفسه فلنتكم على سنده ومتنه ليتبين أنه خارج عن موضوعنا.
حديث قراءة يس:
عن معقل بن يَسَار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- " أقرأوا يس على موتاكم" قال الحافظ في التلخيص (153) بنقل الأستاذ محمد حامد الفقي: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان- وليس بالنهدي- عن أبيه عن معقل بن يسار ولم يقل النسائي وابن ماجة عن أبيه. وأعله ابن القطار بالاضطراب وبالوقف وبالجهالة لحال أبي عثمان وأبيه.
ونقل الإمام أبو بكر بن العربي المالكي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث ا. هـ، وقد صححه الحاكم وابن حبان وهما معروفان بالتساهل في التصحيح وسكت عنه أبو داود وسكوته يقتضي عدم تضعيفه ولكنه لا يقتضي بلوغه درجة الصحيح وإذا ضم إليه ما ورد في معناه- ولم يبلغ منها شيء إلى درجة الحجة- إرتقى إلى رتبة الحسن لغيره. هذا كلمة موجزة في سنده بينت لنا رتبته. وأما متنه فإن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "على موتاكم" من حضرتهم الموت. قال ابن حبان في صحيحه- بنقل ابن حجر وغيره: أراد به من حضرته المنية لا(3/110)
أن الميت يقرأ عليه- قال وكذلك قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ا. هـ، ومما يدل على أن المراد من حضرته المنية ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت- يعني يس- لميت خفف عنه بها. وفي مسند الفردوس- بنقل ابن حجر- عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلاّ هَوَّن الله عليه" قال الصنعاني شارح (بلوغ المرام): وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر ا. هـ. وحديث أحمد المتقدم رواه جمع من شراح الحديث مختصرا كما رأيت وأصله في المسند هكذا: "حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمرو عن المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحرث حين اشتد سوقه فقال: هل أحد منكم يقرأ يس؟ قال فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين آية منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون: "إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها". قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): وهو حديث حسن الإسناد. وغضيف المتوفى صحابي وصالح الذي قرأها، له إدراك، فالمشيخة الذين حضروا بين صحابي وتابعي، والحديث وإن كان موقوفا فمثله لا يقال بالرأي، قال الحافظ: فله حكم المرفوع، وما في هذا الحديث صريح غاية الصراحة، بأن قراءة يس إنما هي على المحتضر ففيه (لما اشتد سوقه) والسوق قال أئمة اللغة: هو النزع. وكان المحتضر نفسه هو الذي قال: "هل فيكم أحد يقرأ يس" وقد فهم الأئمة- رضي الله عنهم- أنه في المحتضر، فأخرجه ابن ماجة تحت قوله: "باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر" وأخرجه البغوي في (المصابيح) تحت قوله: "باب ما يقال عند من حضره الميت". ومثله التبريزي في (المشكاة)، وكذلك الإمام ابن أبي زيد فإنه(3/111)
ذكر رخصة بعض العلماء- وهو ابن حبيب- في قراءة يس- في (باب ما يفعل بالمحتضر من رسالته) فقال هكذا: "وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به".
فبان بهذا كله أن حديث قراءة يس- على ما فيه كما عبر فضيلته في أصل الفتوى - خارج عن موضوعنا، لأن موضوعنا في القراءة على الميت بعد موته وهو الذي يفعله الناس ويسمونه (فدوة) وعند تشييعه كما يفعل (مروقية) تونس وغيرهم، وهو الذي قصر فضيلته الكلام عليه في التذييل كما تقدم، وبعد دفنه عند قبره. وليس لنا أن نقيس هذه المواطن على قراءة يس عند المحتضر لأن القياس لا يدخل في العبادات، ولأن المعنى الذي قصد من قراءتها- وهو التخفيف، عليه حال النزاع- معدوم في هذه المواطن.
ولهذا فنحن ما زلنا نطالب فضيلته بالإتيان بسنة صحيحة قولية أو فعلية تثبت مشروعية القراءة في موطن من هذه المواطن. وأنَّى له ذلك؟ (1).
عبد الحميدبن باديس
-5 -
حقا لقد صارت مسألة السنة في تشييع الجنازة- وهي الواضحة الجليلة- ذات ذيول ففضيلته قد جعل لفتواه تذييلا فلا تأصيل ولا تدليل. ونحن- بحكم العدوى الكتابية- قد جعلنا لردنا عليه هذا التذييل. ولكنه لم يخل من دليل.
__________
(1) البصائر: س1 عدد 28 الجزائر يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 17 جوليت 1936م الصفحة 4 والعمود 2 من الصفحة 5.(3/112)
كل ما يريده فضيلته هو بقاء تلك الحالة المنكرة البشعة من تشييع الجنائز التي نشرنا فيما مضى بيان بعض الكتاب من إخواننا التونسيين عنها، وهو يعلم أن لا بقاء لها إلا ببقاء تلك الفئة من (المروقية) قائمة بها، وأنها لا تقوم بها إلا بثمن فليفت حينئذ فضيلته- ولا بد- بتحليل ذلك الثمن وجواز أخذ الأجرة على القراءة، فلذا قال في تذييله: "وأما أخذ الأجرة على قراءة القرآن فاعلم أن أخذ الأجر على القراءة جائز باتفاق الأئمة الأربعة".
باتفاق الأئمة الأربعة! هذا باطل ما دعا إليه وحمل عليه إلا الحرص على بقاء هذه البدعة والعياذ بالله، والحقيقة هي أن الحنفية والحنابلة- كما هو مصرح به في كتبهم- لا يجيزون أخذ الأجرة على القراءة وحجتهم على ذلك أن الأجر دفع لأجل حصول ثواب القراءة للدافع لكان القارىء ما قرأ إلا لأجل ذلك الأجر فلم يكن عمله خالصا لله فلم يكن له عليه ثواب، فهو آثم لأنه أكل الأجر بالباطل والدافع آثم لأنه متسبب له في عمل بلا إخلاص وفي ذلك الأكل بالباطل، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن شبل: "قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: اقرؤا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به". رواه أحمد بسند قال في مجمع الزوائد رجاله ثقاة، ورواه غيره، وأجابوا عن حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله". رواه البخاري بأنه محمول على أخذ الأجر في تعليمه أو الرقية به مما يحصل مقابل الأجر لدافعه جمعا بين الأدلة، وقال بهذا بعض المالكية أيضا، وهو قول قوي- كما ترى- نظرا وأثرا، فأين هو الإجماع الذي يدعيه فضيلته؟.
إلى هنا وجب أن ننتهي من الحديث مع فضيلته. وبقيت لنا كلمة(3/113)
مع جريدة (الزهرة) التي تساءلت عن آداب الإسلام سنقولها لها- إن شاء الله- إذا إبنا من سفرنا مع وفد الأمة الجزائرية إلى باريس، فإلى اللقاء.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: س 1 عدد 29 الجزائر يوم الجمعة 5 جمادي الأولى 1355هـ الموافق ليوم 24 جوليت 1936م، الصفحة 3 في العمود 3.(3/114)
إلى علماء جامع الزيتونة:
إن مسؤولية العلماء عند الله فيما أصاب المسلمين في دينهم لعظيمة، وأن حسابهم على ذلك لشديد طويل، ذلك بما كتموا من دين الله، وبما خافوا في نصرة الحق سواه، وبما حافظوا على منزلتهم عند العامة وسادة العامَّة، ولم يحافظوا على درجاتهم عنده، وبما شحوا ببذل القليل من دنياهم في ما يرضيه، وبما بذلوا وأسرفوا في الكثير من دينهم فيما يغضبه، اللهم إلا نفرا منهم بينوا وما كتموا، ونصحوا لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم فقامت بهم حجة الله، وتداولت بهم أجيال المسلمين إرث النبوة، واتصل بهم سند الحق وانفضحت بهم شبهة الباطل، أولئك هم الطائفة التي لن تزل ظاهرة على الحق لا يضر بها من خذلها حتى تقوم الساعة.
وإنَّا راجعنا تاريخ المسلمين في سعادتهم وشقائهم وارتفاعهم وانحطاطهم وجدنا ذلك يرتبط ارتباطا متينا بقيام العلماء بواجبهم أو قعودهم عما فرضه الله وأخذ به الميثاق عليهم. ولهذا فنحن ندعو العلماء كلهم إلى أن يذكروا هذا الميثاق وأن لا ينبذوه وراء ظهورهم، وأن يبادر كل ساكت وقاعد إلى التوبة والإصلاح والبيان، فقد علموا قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ(3/115)
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
ونحن نحمد الله فقد تجاوبت أصوات العلماء بالإصلاح الإسلامي من كل ناحية، وقد كان من أعظم ذلك ارتفاع صوت الأزهر كما نشرنا، في الجزء الماضي من مجلة (الشهاب) وقد كنا نشرنا في جزء ربيع الثاني من العام الماضي الفتوى التي أصدرها عشرون عالما من علماء طرابلس الغرب في وجوب إلغاء ما يستعمله أصحاب الطرق من المشي على الفحم المصهور وابتلاع العقارب والأفاعي والحشرات السامة وطعن أجسادهم وثقبها بالالات الحادة. وقدموا في ذلك مطلبا لحكومة البلاد وعملت على تنفيذه، ثم اطلعنا على عريضة مؤرخة بربيع الأول من العام الماضي قدمها نحو الثلاثين عالما من علماء المغرب الأقصى من مدرسين بجامع القرويين وغيرهم إلى جلالة مولانا السلطان (سيدي محمد) أيده الله يشتكون إليه ما كان من مخالفة ما تقدم من أمره بمنع بدع كل الطوائف المبتدعة كطائفة العيسيوية وغيرهم، ويرغبون من جلالته إصدار أوامره بزجر المجرمين المخالفين فصوت العلماء بالإصلاح الإسلامي والحمد لله قد ارتفع من مصر وطرابلس والجزائر والغرب الأقصى وما بقي ساكنا إلا جامع الزيتونة، فلا تسمع له همسا.
لقد ارتفعت الشكوى في الصحف التونسية هذه المدة الأخيرة من بلدان عديدة من القطر التونسي الشقيق بالبدع والمناكر التي يأتيها الطرقيون به. والفضائح التي ارتكبها بعضهم وسيق من أجلها إلى العدلية كما يساق المجرمون، ووجهت سؤالات صريحة إلى العلماء في حكم الإسلام في ذلك كله. وعلماء جامع الزيتونة وشيوخ الفتوى فيه وشيخا الإسلام منهم- وأجمون ساكتون كأن الأمر لا يعنيهم وكأن آيات الله لم تطرق آذانهم، فأين أنتم أيها الشيوخ، وأين إيمانكم؟ لقد سئلتم عن رفض الشريعة الإسلامية بسبب التجنس ذلك الرفض(3/116)
المخرج عن الإسلام فسكتم، وقال الناس إنكم خفتم على مناصبكم وها أنتم أولاء تسألون اليوم عن البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين باسم الدين، تنكر البدع التي أماتت ضمائرهم وخدرت عقولهم، وجمدت أفكارهم وأفسدت أخلاقهم وأضاعت أموالهم، وسلبتهم حقيقة دينهم، وتركتهم بلاء على أنفسهم، وفتنة لغيرهم، فهل أنتم اليوم أيضا ساكتون، وبالتخويف على مناصبكم معتذرون؟
إننا ندعوكم بكلمة الله إلى الصدع بالحق وإنقاذ المسلمين، فإن أجبتم فذلك الظن بكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وإن أبيتم فعليكم إثم الهالكين وحسب المسلمين رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
"المتخرج من جامع الزيتونة" عمره الله
__________
البصائر: السنة الأولى العدد الأول الجزائر في يوم الجمعة 26 ذي الحجة 1354هـ الموافق لـ: 20 مارس 1936م، ص1، ع1 و2 و3 ونشر هذا المقال بنفسه في الشهاب، ص 1، م 12، ص 4 - 6 بتاريخ غرة محرم 1355هـ - أفريل 1936م.(3/117)
معاذ الله:
ظن المتستر وراء (الطالب الزيتوني) أنني لم أجبه ترفعا عنه، ومعاذ الله من هذا معاذه. وإنما لم أجبه لأنه تستر وراء إمضاء مستعار في مخاطبة من يكتب بإمضائه الصريح وليس من العدل أن ينازل الرجال من يختفي وراء الحجال، فإن أردت أن تجاب، فارفع الحجاب، وسلام عليك يا أستاذ!
(عبد الحميد)
__________
البصائر: السنة1 العدد 24 - الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم 19 جوان 1936م الصفحة السابعة العمود الثالث.(3/118)
من آثار جمعية العلماء في تهدئة الأفكار
نشرت جمعية العلماء المسلمين على الأمة الجزائريين منشورين في أيام الحادثة (1)، تحضها على ملازمة الهدوء والسكون وتدعوها إلى الثقة بالعدالة الفرنسوية وهذا نص المنشور الأول:
نداء من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ايها الشعب الكريم!
ها أنت اليوم استيقظت من نوم عميق، وفتحت عينيك للحياة، ونهضت للعمل مع العاملين.
فتقو بالاتحاد وتسلح بالايمان وتدرع بالصبر، وتحصن بالثبات، سر بهدوء ونظام في طريق الحق والخير، إلى منزلتك اللائقة بك من الحياة بين الشعوب.
كن حذرا كن يقظا.
أعرف أصدقاءك من أعدائك.
وما أصدقاؤك إلا الذين يحترمون الإنسانية في جميع أجناسها وجميع أديانها ويرحمون الضعيف وينصرون المظلوم، ويقاومون الظلم والاستعباد.
وما أعداؤك إلا الذين وقفوا لك في طريق الحياة والتقدم منذ عرفتهم وعرفوك، فسدوا عليك أبواب الرزق والعلم، وسلبوك الحرية والثروة، واستغلوك كما تستغل الحيوانات العجماء بل أشد وأشر.
__________
(1) حادثة مقتل الشيخ كحول سنة 1355هـ - 1936م.(3/119)
وها هم اليوم يريدون خدعك، ويحاولون استعمالك آلة لأغراضهم ضد أصدقائك الإنسانيين.
أيها الشعب الكريم:
كن- كلك- مع الحكومة الفرنسوية الممثلة للشعب الفرنسي الديموقراطي أصدق تمثيل.
كن كلك ضد كل متعصب ضد أي جنس وأي دين.
كن متحدا فبالاتحاد- فقط- تبلغ غايتك الشريفة الإنسانية.
كن مستيقظا منظما، لتبرهن على أنك شعب لا تريد إلا العيش والحرية والسلام.
إرفع عقيرتك بالاحتجاج ضد جميع الذين يستعملون العنف والقسوة والأساليب الشيطانية الخفية ليحدثوا الفتنة والشغب ضد فرنسا والجزائر.
ناد من كل قلبك: لتحيى الجزائر! لتحيى فرانسا الشعبية!
ليسقط الظلم والاستعباد! ليسقط أضداد الأجناس وحرية الأديان والأفكار!
عن الجمعية: الرئيس عبد الحميد بن باديس
وهذا نص المنشور الثاني
أيها الشعب الكريم:
كبر على أعدائك أن يروك فرحا مسرورا بمؤتمرك العظيم، ووفدك إلى باريس، وبلوغ صوتك إلى الحكومة الفرنسية وأحزاب الجبهة الشعبية ورجوع وفدك يحصل الآمال الصادقة، والثقة التامة من تلك الحكومة وتلك الأحزاب.(3/120)
كبر على أعدائك كل هذا فأخذوا يدبرون لك المكائد، وينصبون لك الأشراك، فكانت تلك الجناية المفكرة على الإمام (ابن دالي) ثم كانت تلك- التهمة الشنيعة على الأستاذ (الطيب العقبي).
كل ذلك لأجل أن يثيروك فيخرجوك عن النظام والسكينة ليصوروك بالصورة التي يريدونها لك من القبح والفساد، ولأجل أن يزيلوا ثقتك بالجبهة الشعبية حكومتها وأحزابها، ويوهموك أنه لم يصبك في أيامهم ما أصابك في أيامها فيفضلوك عنها لتقع فريسة بين أيديهم.
أيها الشعب الكريم:
إرفع صوتك بالاحتجاج ضد كل إجرام وكل كيد.
أعلن مقتك للكائدين المكارين.
دم على ثقتك بالجبهة الشعبية حكومتها وأحزابها.
ثق بأن عين العدالة الفرنسية ستفضح الكائدين.
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وشكر وتقدير
كانت حادثة اعتقال الأستاذ (الطيب العقبي) في ظاهرها محنة لجمعية العلماء المسلمين الجزائربين أثرت ما تؤثره المحن المفاجئة من حيرة لم تذهب بالصبر واضطراب لم يزلزل العقيدة.
ولكنها كانت في حقيقتها نعمة عظيمة لا يقوم بها الشكر فقد أحدثت في العالم المتصل بالجزائر روحا جديدة من العطف على الجمعية والتنبه لمكانتها والتأييد لها والانتصار لمبادئها الحقة وكانت موحدة لشعور سكان الشمال الإفريقي على الخصوص.(3/121)
وقد أحدث طرفا الحادثة وهما الإعتقال والإفراج، ضجة أسف عامة، وهزة فرح شاملة، نطقت بها مئات البرقيات والرسائل التي وردت على الأستاذ وعلى مركز الجمعية، وعبرت عنها الصحف العربية والفرنساوية.
فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تتقدم بالشكر الجم للجرائد التونسية على موقفها الشريف في هذه الحادثة واعتنائها المضاعف واهتمامها بإظهار الحقيقة وللجرائد الباريزية على انتصارها للحق وللأمم التي أظهرت عطفها على الجمعية، وشاركتها في الأسف عند نزول الكربة والْفَرح عند انجلائها مقدرة للجميع إحساسهم سائلة رب العباد أن يديم على الكل ستره العميم وفضله الشامل (1).
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
تنظيم الإجتماع العام والدعوة إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
قسنطينة في ......... سنة 1355هـ -1936م
الأخ الشيخ
رئيس شعبة الجمعية بـ ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فإن الاجتماع العام للجمعية يكون صبيحة الأحد 11 رجب 27 سبتمبر بنادي الترقي بعاصمة الجزائر، فالرجاء منكم أن تحضروه أنتم وبعض أعضاء مجلس إدارة شعبتكم، هذا على سبيل اللزوم ثم من تيسر له القدوم من بقية الأعضاء هذا على سبيل الرغبة الأكيدة.
__________
(1) البصائر: الجمعة 10 جمادى الثانية 1355 الموافق ليوم 28 أوت 1936 ص7 السنة الأولى العدد 32.(3/122)
وقد وجهنا لكم عددا من أوراق الدعوة لتوزعوها بعناية على إخواننا أعضاء الجمعية لديكم ممن ترون منهم تيسر القدوم.
والله يستعملنا وإياكم في طاعته، ويتولانا وإياكم بجميل عفوه وجزيل بره.
والسلام عليكم ومن أخيكم رئيس الجمعية (1)
عبد الحميد بن باديس
((ورقة استدعاء))
للاجتماع العام الذي يقع بنادي الترقي بالعاصمة صبيحة الأحد الثاني من رجب 1355هـ 27 سبتمبر 1936م.
أيها الأخ الكريم ...
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
اما بعد فالمجلس الإداري للجمعية يدعوكم للحضور للاجتماع العام في الزمان والمكان المذكورين أعلاه ويؤكد عليكم في الدعوة، راجيا لكم التوفيق والتيسير.
والسلام من أخيكم رئيس الجمعية
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) البصائر: السنة الأولى العدد 36 الجمعة 9 رجب 1355هـ - 25 سبتامبر 1936م ص 7 ع 2.(3/123)
استصحب هاته الورقة معك عند القدوم:
فالمرجو من كل من لم يصله كتابه من رؤساء الشعب أو بطاقته من الأعضاء أن يعتبر النص المنشور هنا موجها إليه. وأن يسعى جهده لحضور هذا الاجتماع وعدم تفويته ما استطاع ووجد إلى الحضور سبيلا والله الميسر والهادي إلى سواء السبيل.
__________
البصائر: السنة الأولى العدد 36 الجمعة 9 رجب 1355هـ - 25 سبتامبر 1936م ص 7 ع2 و3.(3/124)
المجلة الزيتونية
يحق لي- وأنا تلميذ من تلامذة الزيتونة- أن اغتبط بالمجلة الزيتونية غبطة خاصة.
ويحق لي- وأنا جندي مع جنود الإصلاح الإسلامي العام- أن أسر سرورا خاصا بتعزز معاقل الإصلاح بها.
ما كنت لأنسى أربع سنوات قضيتها بالزيتونة، شطرها متعلماً وشطرها متعلماً ومعلماً، فكان لي منها آباء وإخوة وأبناء، فأكرم بهم من آباء وأكرم بهم من إخوة وأكرم بهم من أبناء.
مضت بضع سنوات حالت فيها الأعمال المتوالية بيني وبين زيارة ذلك المعهد الشريف وأهله الكرام، ولقد كان- علم الله- شذى مجالسنا بذكره، ونعيم أرواحنا بذكراه، وما أعرف صائفة حل بنا معشر خدمة الإصلاح- بها البلاء واستحكمت حلقاته مثل الصائفة الماضية، بما كبدت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما نصب لها ولرجالها من إشراك لولا دفع الله وحفظه، وما أعلم صائفة هاج بي الشوق إلى جامع الزيتونة مثلها، ولقد علم رفاقي أنه كان صبابة وهياجا لا شوقا معتادا. وأي واجبات هي من حقوق الجزائر غالبت ذلك الشوق فغلبته فلم أستطع براحا، وأي ألم هو كنت ألقاه بين سلطان الواجب وصولة العاطفة، لكن الله الذي أرانا فنونا من لطفه في تلك الصائفة عجل بما سكن ذلك الشوق، وأنعش الروح، وشرح الخاطر، فاطلع علينا (المجلة الزيتونية) من سماء تلك الديار، مشرق الشموس مطلع الأقمار وقد ازدانت غرتها بأسماء أربعة من خيرة الشباب العلماء(3/125)
العاملين: الأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي والأستاذ محمد الهادي ابن القاضي، وكنت تلقيت قسما من البلاغة على المنعم والدهما، والأستاذ محمد المختار بن محمود، والأستاذ الطاهر القصار، وكنت مررت يوم امتحان شهادة التطويع أمام المنعمين والديهما مع غيرهما وقد اضطلع هؤلاء الأساتذة الأربعة بالمجلة وتحريرها وإدارتها وماليتها. وأمدهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع بتأييده الرسمي ووازرهم في العمل أمثالهم من الشباب العلماء وأصحاب الفضيلة الشيوخ الكبراء مثل العلامة أستاذنا شيخ الإسلام المالكي ابن عاشور والعلامة أستاذنا الشيخ الصادق النيفر والعلامة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جعيط والعلامة الأستاذ الشيخ البشير النيفر وغيرهم. فكانت المجلة الزيتونية تمثل تمثيلا صحيحا جامع الزيتونة بشيوخه وشبانه فتتجلى فيها الجرأة والرصانة، والنشاط والتؤدة. فتسير- إن شاء الله- إلى غايتها في قوة وسلام.
كانت أول دعوة للإصلاح الإسلامي أعلنت في هذا الشمال الإفريقي على لسان الصحافة- هي دعوتنا منذ بضع عشرة سنة في جريدة (المنتقد) الشهيدة وفي خلفها (الشهاب) وما كان ينتظر من جامع الزيتونة المعمور في جلاله وثقل تقاليده أن يخف لتأييد تلك الدعوة فكنا نعذره بالسكوت حينا، ونأمل أن يأتي يوم يأبى عليه الحق فيه إلا أن يقول كلمته ويرفع صوته فيدوي له هذا الشمال، وكنا نستعجل هذا الفينة بعد الفينة بما نلوح ونصرح به من عتب واستنجاد، حتى جاء هذا العام المبارك فجاءت (المجلة الزيتونية) تعلن الإصلاح وتحمل رايته وتدعو إليه باسم جامع الزيتونة المعمور فكان فوزا مبينا للإصلاح والمصلحين ونصرا عظيما للإسلام والمسلمين.
وقد صدر العدد الأول بمقال الافتتاح بقلم رئيس التحرير الأستاذ محمد المختار ابن محمود وخطاب لصاحب الفضيلة، الأستاذ الأكبر شيخ(3/126)
الجامع وخطاب للأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي صاحب المجلة وكلها صريحة فيما ذكرناه من تقدم جامع الزيتونة والمجلة الزيتونية لميدان الإصلاح الإسلامي العام. وها نحن ننقل فيما يلي دررا منها نحلي بها جيد هذا المقال:
قال الأستاذ رئيس التحرير: "ونحن إذا تأملنا حالة المسلمين في هذا العصر، من كل قطر ومصر وجدناهم قد نبذوا تعاليم الإسلام ظهريا. وتجافوا عنه كبرا وعتيا. فسوق المفاسد والضلالات في رواج وظلام الشرك يوشك أن لا يكون له انبلاج، فكان لزاما على علماء الدين في جميع النواحي أن يشمروا عن ساعد الجد. وينفقوا كل ما لديهم من مال وجاه وكد. ويرفعوا أصواتهم بإرشاد الناس. من جميع الأجناس. حتى يملأ صوتهم الفضاء، ويصل إلى عنان السماء، فينفذ إلى قلوب أعمتها الضلالة وأتت عليها الجهالة. وبذلك يتميز السبيل القصد عن الجائرات من السبل، وما تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ويصرع الباطل وإن شاع ويظهر الحق وتعلو كلمة الله في جميع البقاع".
"وسيكون في المجلة باب بعنوان (الوعظ والإرشاد) وهو من أعظم أبواب المجلة حيث سيكون مجالا فسيحا لإرشاد الناس وتنبيههم إلى مواقع الخطأ فيما هم سائرون عليه حتى يقلعوا عنه ويرجعوا إلى هدي الإسلام".
"وسيكون شعار المجلة في جميع أعمالها وفي مختلف أطوارها، الإصلاح الديني ومقاومة كل حركة ترمي إلى الإلحاد أو إلى التعصب الديني أو المذهبي ومقاومة البدع بجميع أنواعها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا".
وقال الأستاذ الأكبر أستاذنا المالقي- في بيان مهمة مشيخة الجامع(3/127)
الأعظم التي تسعى لتحقيقها-: (خامسا) إرشاد العلماء للعامة وإنقاذهم من وهدة الجهالة التي لا يعذر صاحبها وذلك بالوعظ والإرشاد في الجوامع، والمجتمعات العامة وتعهدهم بالموعظة كما كان عليه سلف الأمة ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
وقال الأستاذ صاحب المجلة: "وليس هذا هو كل ما يتطلب منا القيام به فإن أمامنا مهمات كثيرة تتطلب رجالا مصلحين أمثالكم هي اليوم في طي الذهول أو النسيان".
...
نحن نسجل بغاية السرور والغبطة ومع صادق الرجاء وعظيم الأمل، هذه التصريحات الجليلة التي لا تصدر إلا من قلوب أفعمث بالخير، ونفوس تشعر بالواجب، وهمم تريد النهوض بإرث النبوة والرسالة من إنقاذ الخلق وهدايتهم إلى الصراط المستقيم. وخصوصا تصريحات مولانا الأستاذ الأكبر فقد بين أن من مقاصد مشيخة الجامع القيام بالوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات وأن تلك هي سيرة السلف الصالح. وطبع كلامه بكلمة أمام دار الهجرة التي هي شعار "الشهاب".
وهذا الذي بيَّنه فضيلته هو ما قامت وتقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو ما لقيت وتلقى في سبيله كل عرقلة وشر من طرف الإدارة الظالمة الغاشمة المتعرضة لتربية المسلمين تربية إسلامية إنسانية صحيحة، فليتكل فضيلته على الله وليقدم الشبان العلماء من أبناء الزيتونة إلى ميادين الوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات في جميع نواحي المملكة- لا العمالة! - التونسية. وليوطن إخواننا من الأساتذة أنفسهم على ما يلقونه من البلاء وما تمطرهم به سحب الظلم والجهل من أنواع الأذى وفقهم الله وأعانهم على تعجيل ما عزموا عليه.
***(3/128)
وبعد فإن اسم الزيتونة إسم إسلامي علمي تاريخي عظيم فيجب أن تكون "المجلة الزيتونية" ممثلة له مجددة لعهده. وأن في تعاون أساتذة الجامع: شبابهم وشيوخهم على النهوض بها ما يحقق ذلك إن شاء الله. وإنني أقترح على إخواني القائمين بها أن يضموا إلى قلم تحريرها رجالا من الزيتونيين الذين يعرفون بعض اللغات الغربية ولهم خبرة بحركات العصر من وراء البحر فإن العلوم والآداب والفنون تراث الإنسانية كلها لا تستقل فيها أمة عن أمة وأكمل الأمم إزاءها من تحسن كيف تحافظ على حسنها وتستفيد من حسن غيرها (1).
وسلام عليكم أيها الرفاق، من أخ مشتاقا عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 10، م 12، ص440 - 444 غرة شوال 1355هـ - جانفي 1637م.(3/129)
المجلة التونسية
اجتمعنا بالأستاذ مبارك الميلي في شهر رمضان الماضي ودار الحديث على النهضة الإصلاحية التي ظهرت بجامع الزيتونة المعمور، وكان من ثمارها المجلة الزيتونية. فأخبرني الأستاذ أنه كتب لها تقريظا وأرسله إلى إدارتها. وكنا نحسب أنه يصدر بجزء شوال ولما اجتمعت بالأساتذة أصحاب المجلة بشهر شوال أخبروني باتصالهم بالتقريظ واعتذروا عن تأخره بكثرة المواد وذكروا لي أنهم سينشرونه- مع تعليق على شيء فيه- في جزء ذي القعدة فصدر الجزء ولم ينشر فيه. فلما اجتمعت بالأستاذ الميلي في العشرين منه تذاكرنا أمر التقريظ وتأخر نشره وسألته هل فيه ما جعل نشره على الإاخوان ثقيلا؟ وطلبت منه أن يطلعني عليه وأن يأذن لي في نشره فأعطانيه فلم أجد فيه إلا كل ما يسر ويفيد فبادرت بنشره (1).
__________
(1) ش: ج12، م12، ص 507 غرة ذي الحجة 1355هـ - فيفري 1937م.(3/130)
دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأصولها
بقلم الأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله، وكمله على يد نبيه (محمد) الذي لا نبي من بعده.
2 - الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به وذلك لأنه:
أولا- كما يدعو إلى الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين، يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر أجمعين.
ثانيًا- يسوي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين جميع الأجناس والألوان .. ثالثا- لإنه يفرض العدل فرضا تاما بين جميع الناس بلا أدنى تمييز.
رابعا- يدعو إلى الإحسان العام.
خامسا- يحرم الظلم بجميع وجوهه وبأقل قليله من أي أحد على أي أحد من الناس.
سادسا- يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير.
سابع- ينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالختل والإكراه.
ثامنا- يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاؤون.
تاسعا- شرك الفقراء مع الأغنياء في الأموال وشرع مثل القراض(3/131)
والمزارعة والمغارسة، مما يظهر به التعاون العادل بين العمال وأرباب الأراضي والأموال.
عاشرا- يدعو إلى رحمة الضعيف فيكفي العاجز ويعلم الجاهل ويرشد الضال ويعان المضطر ويغاث الملهوف وينصر المظلوم ويؤخذ على يد الظالم.
حادي عشر- يحرم الاستعباد والجبروت بجميع وجوهه.
ثاني عشر- يجعل الحكم شوري ليس فيه استبداد ولو لأعدل الناس.
3 - القرآن هو كتاب الإسلام.
4 - السنة- القولية والفعلية- الصحيحة تفسير وبيان للقرآن.
5 - سلوك السلف الصالح- الصحابة والتابعين وأتباع التابعين- تطبيق صحيح لهدي الإسلام.
6 - فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة.
7 - البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعله وكل بدعة ضلالة.
8 - المصلحة كل ما اقتضته حاجة الناس في أمر دنياهم ونظام معيشتهم وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم مما تقره أصول الشريعة.
9 - أفضل الخلق هو (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه:
أولا- اختاره الله لتبليغ أكمل شريعة إلى الناس عامة.
ثانيا- كان على أكمل أخلاق البشرية.
ثالثا- بلغ الرسالة ومثل كمالها بذاته وسيرته.(3/132)
رابعا- عاش مجاهدا في كل لحظة من حياته في سبيل سعادة البشرية جمعاء حتى خرج من الدنيا ودرعه مرهونة.
10 - أفضل أمته بعده هم السلف الصالح لكمال اتباعهم له.
11 - أفضل المؤمنين هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وهم الأولياء والصالحون فحظ كل مؤمن من ولاية الله على قدر حظه من تقوى الله.
12 - التوحيد أساس الدين، فكل شرك- في الاعتقاد أو في الفعل- فهو باطل مردود على صاحبه.
13 - العمل الصالح المبني على التوحيد به وحده النجاة والسعادة عند الله فلا النسب ولا الحسب ولا الحظ بالذي يغني عن الظالم شيئا.
14 - اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال، ومنه اعتقاد الغوث والديوان.
15 - بناء القباب على القبور ووقد السرج عليها والذبح عندها لأجلها والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية ومضاهاة لأعمال المشركين فمن فعله جهلا يُعَلَّم ومن أقره ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.
16 - الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ والتحيز لاتباع الشيخ وخدمة دار الشيخ وأولاد الشيخ إلى ما هناك من استغلال .... ومن تجميد للعقول وإماتة للهمم وقتل للشعور وغير ذلك من الشرور ..
17 - ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام وما بيناه منه من الأحكام بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة مع الرحمة والإحسان دون عداوة أو عدوان.(3/133)
18 - الجاهلون والمغرورون أحق الناس بالرحمة.
19 - المعاندون المستغلون أحق الناس بكل مشروع من الشدة والقسوة.
20 - عند المصلحة العامة- من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف
بفرق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله، ثم بقوة الحق وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
عبد الحميد بن بادبيس
بقسنطينة بالجامع الأخضر اثر صلاة الجمعة 4 ربيع الأول 1356هـ (1)
__________
(1) البصائر: السنة الثانية العدد 71 الجمعة 9 ربع الثاني 1356هـ 18 جوان 1937م، ص 1، ع 1 و2 و3، وص 2، ع 1، ونشرت نفس المقالة في ش: ج4، م 13، ص 176 - 179، غرة ربيع الثاني 1356هـ - 11 جوان 1937م.(3/134)
لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة
من المعلوم عند أهل العلم أن مما حفط الله به دينه وأبقى به حجته أنه لا تنقطع الدعوة إلى الله في هذه الأمة والقيام على الحق والإعلان بالسنن والرد على المحرِّفين والمتغالين والزائغين والمبتدعين وأن أهل هذه الطائفة معروفة مواقفهم في كل جيل محفوظة آثارهم عند العلماء غير ان غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس فترى أنصار الباطل كلما قام داع من دعاة الحق في ناحية اعترضوه بسكوت من سكت ممن كان قبله وأوهموا اتباعهم المغرورين بهم أن هذا الداعي جاء بدين جديد فيكون من أعظم ما يرد به عليهم ويبصر أولئك المغترين بهم نشر ما تقدم من كلام دعاة الحق وأنصار الهدى في سالف الزمان، ولهذا ننشر فيما يلي خطبة جليلة لمولانا السلطان سليمان ابن سيدي محمد بن عبد الله أحد مفاخر ملوك المسلمين في القرن الثاني عشر في القطر الشقيق المغرب الأقصى، وقد كان هذا الإمام علامة مشاركا تحريرا سلفيا مصلحا كبيرا عاملا بعلمه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعياً للسنة محارباً للبدعة. معلماً للأمة ما علمه الله منفذاً فيها لأحكام الله، وقد نشر هذه الخطبة في رسالة خاصة إخواننا العلماء المصلحون بالمغرب ورجوا من الخطباء أن يخطبوا بها كما كان أمر صاحبها رحمه الله، أن يخطب بها في زمانه فنقلناها من تلك الرسالة ونحن نرجو من خطباء الجزائر أن يخطبوا بها على الناس إن كانوا لهم ناصحين.(3/135)
نص الخطبة
الحمد لله الذي تعبدنا بالسمع والطاعة، وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة وحفظ ملة نبيه الكريم وصفيه الرؤوف الرحيم، من الإضاعة، إلى قيام الساعة وجعل التأسي به أنفع الوسائل النافعة أحمده حمداً ينتج اعتماد العبد على ربه وانقطاعه. وأشكره شكراً يقصر عنه لسان البراعة، وأستمد معونته بلسان الذلة والضراعة وأصلي على محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه حسب الاستطاعة أما بعد أيها الناس شرح الله لقبول النصيحة صدوركم وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه آمركم ومأموركم فإن الله قد استرعانا جماعتكم وأوجب لنا طاعتكم وحذرنا إضاعتكم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. سيما فيما أمر الله به ورسوله أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية الذين إن مكناهم في الأرض أقَاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولهذا نرثي لغفلتكم! أو عدم إحساسكم ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم! فألقوا لأمر الله آذانكم وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم وطهروا من دنس البدع إيمانكم وأخلصوا لله أسراركم وإعلانكم واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طريق السنة لتسلكوها. وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه. واعرفوا فضله عليكم وعوه واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون! والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون وافترقوا أوزاعا! وانتزعوا الأديان والأمول انتزاعا بما هو حرام كتابا وسنة واجماعا! وتسموا فقراء: وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ(3/136)
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}! وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة وتلبيس وضلال وتدليس شيطاني وحبال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتا! وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك درهم وأقواتا! وتصدى له أهل البدع من عساوة وجلالة وغيرهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة! وصاروا يرقبون للهوهم الساعات! وتتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات! وكل ذلك حرام ممنوع والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع، فأنشدكم الله، عباد الله هل فعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الارسال- صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل- موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين-، ثم أنشدكم الله، هل زخرفت على عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- المساجد، أم زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد كأني لكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع، حسبنا الاقتداء والاتباع، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، وهذه المقالة قالها الجاحدون هيهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله، مقالهم ووبخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين. وأهل الصلاح والدين خير القرون قرني الحديث (1) وبالضرورة أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، فقد قبض رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عقد الدين قد سجل، ووعد الله بإكماله وقد عجل، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
__________
(1) متفق عليه، (ابن باديس).(3/137)
الْإِسْلَامَ دِينًا} قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بحضرة الصحابة- رضي الله عنهم-: أيها الناس، قد سننت لكم السنن وفرضت الفرائض وتركتم على الجادة، فلا تميلوا بالناس يميناً ولا شمالاً فليس في دين الله ولا فيما شرع نبي الله، أن يتقرب بغناء ولا شطح، .. والذكر- الذي أمر الله به، وحث عليه، ومدح الذاكرين به، هو على الوجه الذي كان يفعله- صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين قوله: {مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فما لكم يا عباد الله ولهذه البدع؟! أأمنا من مكر الله؟! أم تلبيساً على عباد الله؟! أم منابذة لمن النواصي بيديه!؟ أم غرورا لمن الرجوع بعد إليه!؟ فتوبوا واعتبروا وغيروا المناكر واستغفروا. فقهد أخذ الله بذنب المترفين من دونهم! وعاقب الجمهور لما أغضوا عن المنكر عيونهم! وساءت بالغفلة عن الله عقبى الجميع. ما بين العاصي والمداهن المطيع! أفيزلكم الشيطان، وكتاب الله بأيديكم؟ أم كيف يضلكم وسنة نبيكم تناديكم، فتوبوا إلى رب الأرباب. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. ومن أراد منكم التقرب بصدقة، أو وفق لمعروف أو إطعام أو نفقة. فعلى من ذكر الله في كتابه. ووعدكم فيه جبريل ثوابه كذوي الضرورة الغير الخافية والرضى الذي لستم بأولى منهم بالعاقبة. ففي مثل هذا تسد الذرائع وفيه تمتثل أوامر الشرائع.(3/138)
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}.
ولا يتقرب إلى مالك النواصي، بالبدع والمعاصي. بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون. والأتقياء المفلحون أكل الحلال وقيام الليالي، ومجاهدة النفش في حفط الأحوال بالأقوال والأفعال. البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى، وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد ورعاية السنة في الموسم والأعياد، ونصيحة تهتدى، وأمانة تؤدى، وخلق على خلق القرآن يحدى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. الصراط المستقيم كتاب الله، وسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-. وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات. وحضور النساء والأحداث. وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والأحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص …؟ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}؟، عن المقداد (1) بن معد يكرب- رضي الله عنه-: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة وبين يدييه راية يحملها، وأناس يتبعونها، فيسأل عنهم ويسألون عنه؟ ..
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
__________
(1) كذا فى الأصل المنقول عنه: المقداد بن معد يكرب ولا يوجد في الإصابة هذا الإسم إنما الموجود المقداد بن الأسود بن معدي كرب ولعله هو الصواب هنا، راجع ج 3. من الإصابة ص 454 إلى 455 وبعد فانظر من خرج الحديث وما رتبته فإني لم أقف عليه.(3/139)
الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}.
فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائف أن يمنعوا هؤلاء الطوائف، من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسم الدين خالية خاوية، والسكوت عن المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية فمن المنقول عن المال، والمشهور في الأواخر والأوائل أن المناكر والبدع إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم وأظلم ما بينهم وبين ربهم وانقطعت عنهم الرحمات ووقعت فيهم المثلاث، وشحت السماء، وحلت النقماء وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقعت م بركة الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق الفوائد، والأدب مع الله ثلاثة: حفط الحرية، بالاستسلام والاتباع، ورعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع ومراعاتها في الضيق والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، عن العرباض (1) بن سارية- رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وآله رسلم-، موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإيكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجمة والحاكم في المستدرك باختلاف يسير.(3/140)
وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم، فمن ذهب بعد لهذه المواسم أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم. فقد سىعى في هلاك نفسه. وجر الوبال عليه وعلى أبناء جنسه. وتله الشيطان للجبن. وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 12، ص 168 - 172 غرة ربيع الثاني 1355هـ - جويلية 1936م.(3/141)
جواب صريح
تمهيد:
ورد سؤال على الأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي وزير معارف الحكومة المغربية من الشيخ حافظ إبراهيم ربيشطي من أهل العلم ببلدة شقودرة بمملكة ألبانيا، عن أشياء منها ما يتعلق بالطريقة التجانية، فأجاب الأستاذ عن تلك المسائل كلها ونشر جوابه في مجلة "الرسالة" حيث نشر السؤال، ولقد أجاد الأستاذ في جوابه غير أنه أحاط كلامه في شأن الطريقة التجانية بشيء من الغموض حمله عليه فيما أظن مركزه ومحيطه وليس له في هذا عذر عند الله فإن السؤال كان واضحا والموضوع عظيما هاما والموقف محتاجا إلى صراحة لا يخاف فيها إلا الله. فريت من واجبي الديني أن أجيب بصراحة وأن آتي من كلام الأستاذ بما هو مؤيد لجوانبي مع التعليق عليه لا أقصد من ذلك - علم الله- إلا النصح لإخواني الذين ضلوا بهذه الطريقة عن الصراط المستقيم هدانا الله كلنا إليه ..
تلخيص السؤال:
يدعي المنتسبون للطريقة التجانية:
1 - أن قراءة (صلاة الفاتح) أفضل من تلاوة القرآن ستة آلاف مرة متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن.
2 - أن (صلاة الفاتح) من كلام الله القديم ولا يترتب عليها ثوابها إلا لمن اعتقد ذلك.(3/142)
3 - وأن (صلاة الفاتح) علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لصاحب الطريقة ولم يعلمها لغيره.
4 - وأن مؤسس الطريقة التجانية أفضل- الأولياء.
5 - وأن من اتنسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات.
فهل الإندماج فيها غير مناف للشريعة الغراء؟.
الجواب:
1 - القرآن كلام الله و (صلاة الفاتح) من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر. ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله ندا فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق.
هذا إذا كانت الأفضلية في الذات فأما إذا كانت الأفضلية في النفع فإن (1) الأدلة النظرية والأثرية قاضية بأفضلية القرآن على جميع الأذكار وهو مذهب الأئمة من السلف والخلف. قال سفيان الثوري -رحمه الله- "سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر". نقله القرطبي في الباب السابع منكتاب "التذكار" وقال النووي - رحمه الله - "واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار. وقد تظاهرت الأدلة على ذلك" قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان ومخالفة مثل هذا موجب للتبديع والتضليل.
2 - وأما زعم من زعم- متأولا لتلك الأفضلية الباطله- بأن
__________
(1) راجع ج 3 م 5 من الشهاب.(3/143)
(صلاة الفاتح) خير لعامة الناس من تلاوة القرآن لأن ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثما لمخالفته لما يتلوه. واستدلوا على هذا بقول أنس- رضي الله عنه- الذي تحسبه العامة حديثا: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه- فهو زعم باطل لأنه مخالف لما قاله أئمة السلف والخلف من أن القرآن أفضل الأذكار ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة ولا بين مطيع وعاص، ومخالف لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الأول- أن المذنبين مرضى القلوب فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله فكل معصية يأتي بها الإنسان هي من فساد في القلب ومرض به. والله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فمقصود الشرع من المسلمين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا بألفاظه ومعانيه من أمراضهم من عيوبهم وذنوبهم وذلك الزعم الباطل يصرف المذنبين- وأيّنا غير مذنب؟ - عن تلاوته.
الثاني- أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة والشكوك والأوهام والجهالات وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها فلا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائما وأبدا إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن وقد أرشد النبي- صلى الله طيه وآله وسلم- إلى هذا فيما رواه البيهقي في "الشعب" والقرطبي في
__________
(2) راجع ج 4 م 5 من الشهاب (المؤلف).(3/144)
" التذكار" - "أن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها، قال: «تلاوة القرآن» " فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم وذلك الزعم الباطل يصرفهم عنه.
الثالث- أن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه، وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها. فروى أبو داوود عن سعد- مرفوعا-: "ما من أمرء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي اله أجذم". وروى الشيخان عن عبد الله- مرفوعا-: "واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم". فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ ودفع النسيان وذلك الزعم الباطل يؤدي إلى تقليلها أو تركها.
ومثل هذا الزعم في البطلان والضلال زعم أن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة واحدة. ولا يكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنبا آخر وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر فكيف يكتب عليه ذنب إذا باشر عبادة التلاوة؟ والأصل القطعي - كتابا وسنة- أن ما جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهو يبطل إن تجدد له سيئاته إذا جاء بتلاوة القرآن.
وما قول أنس - رضي الله عنه- "رب تال للقرآن والقرآن يلعنه" فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته، كيف وتلاوته عبادة؟ وإنما معناه أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلا فيكون داخلا في عموم لعنه للظالمين والكاذبين. وهذا الكلام خرج مخرج التقبيح للإصرار على مخالفة القرآن مع تلاوته بعثا للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن وتعجيل المتاب، ولم يخرج مخرج الأمر بترك التلاوة والانصراف عنها. هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل بحكم الأدلة المتقدمة. ونظيره ما ثبت في الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله(3/145)
حاجة أن يدع طعامه وشرابه". قال الشراح- واللفظ للقسطلاني-: "وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور وإنما معناه التحذير من قول الزور فهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من باع الخمر فليشقص الخنازير» أي يذبحها، ولم يأمره بشقصها، ولكنه التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه". هذا فيمن يرتكب الزور وهو صائم فيكون متلبسا بالعبادة والمخالفة في وقت واحد، فكيف بمن كان ذنبه في غير وقت عبادة التلاوة؟ فالمقصود من كلام أنس تحذيره من الإصرار على المخالفة، وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
2 - وليس عندنا من كلام الله إلا القرآن العظيم. هذا إجماع المسلمين حتى أن ما يلقيه جبريل- عليه السلام- في روع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- سماه الأئمة بالحديث القدسي، وفرقوا بينه وبين القرآن العظيم ولم يقولوا فيه كلام الله. ومن الضروري عند المسلمين أن كلام الله هو القرآن وآيات القرآن، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) من كلام الله فقد خالف الإجماع في أمر ضروري من الدين وذلك موجب للتفكير.
3 - قد بعث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- معلما كما صح عند (1)، وعاش معلما آخر لحظة من حياته، فتوفاه الله تعالى نبيا رسولا ونقله للرفيق الأعلى، وقد أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وانقطع الوحي وانتهى التبليغ والتعليم. وترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبدا وهو كتاب الله وسنته، كما صحَّ عنه، هذا كله مجمع عند المسلمين، وقطعي في الدين، فمن زعم أن محمداً مات وقد بقي شيء لم يعلمه للناس في حياته فقد أعظم على الله الفرية وقدح في تبليغ الرسالة،
__________
(1) كذا فى الأصل والكلام ناقص وربما يكون أصله أو عنه.(3/146)
وذلك كفر. فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لصاحب الطريقة التجانية دون غيره، كان مقتضى اعتقاده هذا أنه مات ولم يبلغ وذلك كفر. فإن زعم أنه علمه إياها في المنام فالإجماع على أنه لا يؤخذ شيء من الدين في المنام مع ما فيه من الكتم وعدم التبليغ المتقدم.
هذا وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة- رضي الله عنهم- سألوا النبي- صلى الله عليه واله وسلم- كيف يصلون عليه فانتظر الوحي وعلمهم الصلاة الإبراهيمية وقد تواترت في الأمة تواترا معنويا ونقلها الخلف عن السلف طبقة عن طبقة وأجمع الناس على مشروعيتها في التشهد. ومن مقتضى الاعتقاد الباطل المتقدم أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- كتم عن أفضل أمته ما هو الأفضل وحرم منه قرونا من أمته وهو الأمين على الوحي وتبليغه، الحريص على هداية الخلق وتمكينهم من كل كمال وخير، فمن قال عليه ما يقتضي خلاف هذا فقد كذب عليه وكذب ما جاء به. ومن رجح صلاة على ما علمه هو - صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه- رضي الله عنهم- بوحي من الله واختيار منه تعالى فقد دخل في وعد: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
4 - لا تثبت الأفضلية الشرعية إلا بدليل شرعي ومن أدعاها لشيء بدون دليل فقد تجرأ على الله وقفا ما ليس به علم وقد أجمعت الأمة على تفضيل القرون المشهود لها بالخيرية من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام فاعتقاد أفضلية صاحب الطريقة التجانية تزكية على الله بغير علم وخرق للإجماع المذكور، موجب للتبديع والتضليل.(3/147)
5 - عقيدة الحساب والجزاء على الأعمال قطعية الثبوت ضرورية العلم فمن اعتقد أنه يدخل الجنة بغير حساب فقد كفر.
فالمندمج في الطريقة التجانية على هذه العقائد ضال كافر. والمندمج فيها دون هذه العقائد عليه إثم من كثر سواد البدعة والضلال.
ثم هاكم من جواب الأستاذ عن فصول السؤال، مما يؤيد جوابنا مع تعليقنا عليه:
"ومن المكر الخفي والكيد للإسلام المنطوي تحت هذه المقالة تزهيد الناس في القرآن العظيم وفي تلاوته ثم الإعراض عنه إلى ما هو أخف عملا وفي الميزان أثقل في زعمهم الباطل وإني لأعجب لمسلم استنار بنور القرآن يقبل هذه المقالة في الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله".
لهذه وغيره نقول أن الطريقة التجانية ليست كسائر الطرق في بدعها، والمشاهد اليوم من أضرارها، ودعنا من حديث ماضيها بما فيه، بل هي طريقة موضوعة لهدم الإسلام تحت اسم الإسلام، فإن كتبها وأقوال أصحاب صاحبها مطبقة على هذه الأفكار وأكثر منها فلا تجد في كتبهم ما هو خالص منها حتى يمكن أن يكون هو الأصل وأن غيره مدسوس وإنك لتجد هذه الكتب محل الرضى والقبول والتقديس عند جميع أتباع الطريقة عالمهم وجاهلهم. ولو كان عالمهم بالكلمة المنسوبة إلى صاحب الطريقة، والله أعلم بصحة نسبتها: "زنوا كلامي بميزان الكتاب والسنة"- لأعدموا تلك الكتب أو حرموا على جماعتهم قراءتها أو حذفوا منها هذه الكفريات والأضاليل وأعلنوا البراءة منها للناس لكن شيئا من ذلك لم يقع. وإنما يطنطنون بتلك الكلمة قوليا ويقرون تلك الكتب وما فيها علميا. وماذا يفيد القول مع التقرير والعمل. ولهذا رغم من كان في هذه الطريقة من أناس مشهورين بالعلم كالشيخ الرياحي فإن الحالة هي الحالة وتلك الكفريات(3/148)
والأضاليل فاشية منتشرة في اتباع الطريقة إلى اليوم.
قال الأستاذ الحجوي .... بعدما نقل أقوالهم في ضمان شيخهم ومضاعفة الأجور لهم ودخولهم الجنة بغير حساب-: "فكأنها (الطريقة التجانية) ورقة حماية من دولة لها سلطة عالية، تعالى من يجير ولا يجار عليه، فكأنهم نسوا القرآن".
فبهذا صارت الطريقة التجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرار ضد الإسلام. فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهم يقولون في الشيخ التجاني هو الختم وهو لبنة التمام للأولياء فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة. وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا أن التجاني رجله على رقبة كل ولي لله، بهذه العبارة الجافة من كل أدب الجارحة لعواطف كل مسلم لأن الولي في عرفهم يشمل النبي إذ يقولون أن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصحابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب، ولم يكن عندهم بشارة بالنجاة منهما. إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون".
دعا الإسلام إلى الجد ومحاسبة النفس والعمل على الخوف والرجاء في جميع نواحي الحياة الدنيا على أن يكون ذلك على السداد والإخلاص ليكون ذخرا لسعادة الأخرى فجاءت عقيدة ضمان الشيخ ودخول الجنة بلا حساب هادمة لذلك كله وقد ظهرت آثارها بالفعل كما حكاه الأستاذ الحجوي فيما يلي:
"حكى لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلا في البادية. وقد تقصيت أخبار الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون(3/149)
على الحقوق، وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعا تيجانيون. فبقيت متحيرا حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب يترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم".
هذا في العدول وهم من أهل العلم فكيف بالعامة؟ فهذه الطريقة ما وضعت إلا لهدم الإسلام ولا أجزم بأن صاحبها هو الذي وضعها هذا الوضع فقد يكون فيمن اتصل به من كاد هذا الكيد، ودسَّ، وليس مثل هذا الكيد جديدا على الإسلام. قال الإمام ابن حزم في كتاب "الاحكام" ج 3 ص 21: "فإن هذه الملة الزهراء الحنيفة السمحة كيدت في وجوه جمة، وبغيت لها الغوائل من طرق شتى، ونصبت لها الحبائل من سبل خفية، وسعي عليها بالحيل الغامضة وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم، وتسمى بأسمهم ودسَّ لهم سم الأساود، في الشهد والماء البارد، فلطف لهم من مخالفة الكتاب والسنة، فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه. وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنه، لا إله إلا هو".
((كلمة إلى العلماء))
(وفي مقدمتهم صديقي العلامة الأستاذ البشير النيفر التونسي).
إنني أدعو كل عالم تجاني إلى النظر في فصول السؤال والجواب فإن أقروا ما أنكرناه فليعلنوا إقرارهم له. وإذا أنكروا ما أنكرناه فليعلنوا إنكارهم له، يصرحوا:
1 - بأن (صلاة الفاتح) ليست من كلام الله.
2 - وأنها ليست مثل الصلاة الإبراهيمية.
3 - وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لم يعلمها لصاحب طريقتهم.(3/150)
4 - وأن لا فضل له ولا لأتباعه إلا بتقوى الله.
5 - وأن المنتسب إلى طريقتهم لا يمتاز من المسلمين عن غير المنتسب إليها.
ومن لم يصرح بهذا باء بوزره ووزر الهالكين من الجاهلين وكان عليه إثم الكاتمين من العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (1).
عبدالحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 7، م 14، ص 49 - 57 غرة رجب 1357هـ- سبتمبر 1938(3/151)
رسالة جواب سؤال عن سوء مقال
للعلامة السلفي الأستاذ عبد الحميد بن باديس حفظه الله
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عقائد نقية، أدلة جلية، كلمات نبيلة، نقول جليلة بيان لعظيم مقام النبوة والرسالة، ولضلال من خاطب ذلك المقام بخطاب الجهالة، قرظها عشرة من كبار العلماء بتونس والجزائر والمغرب الأقصى، وعلق على مواضع منها العلامة الجليل القاضي الشيخ شعيب التلمساني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى لله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
سؤال:
ما قول ساداتنا العلماء- رضي الله عنهم- وأدام النفع بهم في رجل يزعم أنه قطب الزمان الفرد، وأن الكل دونه، وأنه العارف المسلك، إلى غير ذلك من أعلى صفات العارفين، وأسمى درجات الكاملين، ثم يقول مخاطبا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما نصه:
إن مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك
إن تبق في هجري زائد … للمولى ندعيك
من هو بالملك موحد … ينظر في أمرك
عبس بالقول تساعد … ما نرجوه فيك
ولما قيل له في هذه الأبيات قال: ألسن المحبين أعجمية. فهل يعد خطابه هذا سوء أدب وهل تجوز مخاطبة النبي- صلى الله عليه(3/152)
وآله وسلم- بمثله، وهل صدور مثله من شأن ال'ارفين الكاملين، وهل يقبل منه ما اعتذر به من عجمة ألسن المحبين، أفيدونا مأجورين إن شاء الله تعالى من رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
الجواب:
الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أدبه الله فأحسن تأديبه، ووفر من كل خير وكمال على جميع العالمين نصيبه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهادين والمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين- أما بعد- فقد وقفت على سؤالكم وتأملت من جميع فصوله، وأحطت خبرا إن شاء الله- تعالى- بلفظه ومدلوله، وهممت أن لا أجيبكم عنه بحرف واحد، لما أعلم من تصميم أكثر العامة على العناد فيما اعتقدوه من الباطل، وسكوت أكثر الخاصة عن التصريح بالإنكار عليهم، والإرشاد لهم، وتهافت بعض الطلبة القاصرين، على تسويد صحفهم وصحائفهم بشبهات يسمونها بأفواههم دلائل وأجوبة عن متبوعيهم من الجاهلين، يخشونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والتأويلات الباطلة الممنوعة، والروايات المدخولة عمن ليس قوله حجة على الناس في الدِّين وإنما غايته إذا ثبت عنه ذلك وحسن به الظن أن يؤول على وجه صحيح يقبله الشرع. ثم يردون بمثل هذا على الآيات البينة والأحاديث الثابتة وعمل السلف الصالح المشهود لهم بالخيرة على لسان المعصوم. أفمع هؤلاء ينفع الكلام أو يحسن الجواب. لكنني تذكرت ما جاء في وعيد الكاتبين، وفي وعد من بذل الجهد في نصح إخوانه المسلمين، ورجوت أن لا أعدم أنصارا على الحق، وإخوانا متكاتفين في نصرة الدين، من عدول حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين،(3/153)
وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فاستخرت الله- تعالى- وحررت لكم هذا الجواب في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، غير قاصد- علم الله- شخص أحد بالتقص، ولا خارج بعون الله- تعالى- عن جادة الفهم من دلالة الظاهر والنص، والله أسأل أن ينفع به المسترشدين ويهدي به في المعاندين ويفت به أعضاء المفسدين آمين.
المقدمة في وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وسلم- إجماعا وأبدا وعلى كل حال:
أجمع علماء الملة من جميع الفرق على وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حيا وميتا كما يجب الإيمان به حيا وميتا للنصوص القطعية في ذلك كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. وعلى هذا كانت سيرة السلف الصالح معه- عليه الصلاة والسلام- في الحياة وبعد الممات. روى الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويبتسم إليهما. وجاء من غير وجه أن أصحابه كانوا حوله كأنما على رؤوسهم الطير حتى كانوا من تعظيمه وتوقيره يهابونه فلا يسألونه فيحبون أن يأتي الأعرابي الجاهل فيسأله، ولما ناظر أبو جعفر المنصور مالكا في المسجد النبوي ورفع صوته، قال له مالك: لا ترفع صوتك(3/154)
في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} الآية. ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ …} الآية. وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لهما أبو جعفر (3) وقد كان مالك- رحمه الله تعالى- إذا ذكر النبي- صلى
__________
(1) أي فيما فعلوه محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، الجلال المحلي. ومعنى الرفيع: العلي القدر والمحفوظ من إساءة الأدب، اهـ. صاوي. نعم إذا كان من يقول لشيخه لم لا يفلح فكيف بالتجاسر على خير الخلق على الإطلاق بالإطباق صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}، بأن تقولوا يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله في لين وتواضع وخفض صوت، اهـ. محلي. قوله: لا تجعلوا دعاء الرسول أي نداءه بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا يا محمد ولا بكنيته فتقولوا يا أبا القاسم بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير بأن تقولوا يا رسول الله يا نبي الله يا إمام المرسلين يا رسول رب العالمين يا خاتم النبيين. واستفيد من الآية أنه لا يجوز نداء النبى بغير ما يفيد التعظيم لا في حياته ولا بعد وفانه. فبهذا يعلم أن من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة. قوله: وخفض الصوت أي لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. صاوي محشي الجلالين بالحرف. وفى الشفا ما نصه قال قال إبراهيم التيمي: واجب على كل مؤمن متى ذكره صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته ويأخذ في هيبته وفى جلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه صلى الله عليه وسلم ويتأدب بما أدبه الله، مثل قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ … الخ، ولَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} وغيره كما تقدم، اهـ.(3/155)
الله عليه وآله وسلم- يتغير وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه.
وكان جعفر الصادق كثير الدعابة والتبسم وإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- اصفر. والواقف على سير السلف الماضيين والعلماء المتقدمين يجد فيها كثيرا من هذا في مراعاة حرمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وشدة التأدب مع جنابه الشريف، ومن أكثر الناس محافظة على الأدب وتحريضا عليه ووصاية به شيوخ الزهد والعلم من أئمة التصوف العارفين كرجال الرسالة القشيرية الذين أبقى الله بعظيم فضله على الإسلام وجميل صنعه لنصرة الدين كلامهم حجة على كل من ينتسب إلى طريقتهم في مثل هاته الأزمان، قال في الرسالة عن عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وعن أبي علي الدقاق: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل، وقال أبو حفص الحداد: التصوف كله أدب لكل وقت أدب ولكل حال أدب ولكل مقام أدب فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردود من حيث يرجو الوصال، وقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن (1).
الفصل الأول: في بيان خروج كلامه عن دائرة الأدب المرعية وتهجمه على الحضرة النبوية.
إنْ مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك
أي حق للعبد الحقير، على السيد الجليل الكبير، حتى يطالبه
__________
(1) وقيل: من يتأدب ساد … ومن لم يتأدب طرد عن الباب.(3/156)
بالاعتذار إليه إذا لم يأته، أم كيف ساغ لهذا المسكين أن يقول له لا عذر ينجيك، مم ينجيه هذا العذر؟ إن لو كان ينجيه، أمن اللوم في شأنك والعتاب لأجلك؟ من أنت يا هذا حتى يعتذر سيد الأولين والآخرين لك، ثم لا ينجيه من التقصير في حقك عذر عندك، لقد وضعت نفسك والله في غير محلها وجهلت مقام النبوة وجلالة منصبها. قال:
إن تبق في هجري زائد … للمولى ندعيك
من هو بالملك موحد … ينطر في أمرك
أي حق لك على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى صرت تخوفه بأنك تدعوه وتشكو به إلى الله- تعالى- لينظر في أمره، وهل يتصور منه- صلى الله عليه وآله وسلم- تقصير في حق أحد حتى يشكو به إلى الله- تعالى- حاشا ذلك الجناب الكريم، والنبي الرؤوف الرحيم (1)، أن يقصر في خير لأحد في حال حياته وبعد مماته وكيف ذلك وهو الذي قال له الله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2). وهو الذي لما تعرض عليه في قبره أعمال أمته يستغفر للمذنبين، لكنك يا مسكين توهمته كعظماء الدول الذين يقصرون مع من دونهم فيخوفون بمن فوقهم على أنه لم يكن من أدب العبيد أن يهددوا الوزير بسلطة الأمير فأين أنت يا هذا حتى من آداب الوزراء والسلاطين بله الأنبياء والمرسلين.
قال:
عبس بالقول تساعد … ما نرجوه فيك
__________
(1) القائل إنما أنا قاسم وألله يعطى … الخ.
(2) وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.(3/157)
هذا تعريض للنبي- صلى الله عليه وسلم- بما خاطبه الله تعالى في سورة ابن أم مكتوم، وتخويف له بما يلحقه أن قصر مع هذا المسكين من العتاب واللوم، واحتجاج عليه بالقرآن، وإلزام له بالقبول والإتيان، وهذا تهجم عظيم، وتجاسر شديد، لا يقدم عليه عامة المؤمنين، فكيف بمن يزعم أنه خاصة العارفين.
الفصل الثاني: في بيان حرمة مخاطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الخطاب.
قد اشتمل صدر هذا الكلام على نفي قبول العذر من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وذلك يستلزم أن له عليه حقا إن وقع فيه تقصير احتيج معه إلى العذر ثم لا يقبل منه. وعلى أنه يرفع به دعوى لينظر في أمره، وهذه التهجمات القبيحة التي لا تصدر من العبيد إلى السادة، هي لا شك أقوى في سوء الأدب من مجرد رفع الصوت الذي نهى الله تعالى عنه وجعله سببا في حبوط الأعمال فتكون قطعا أحق بالمنع والتحريم، وما أشبه طلب هذا الرجل القبول والإتيان بهذا الخطاب المزعج الغليط بأولئك الذين نادوه من وراء الحجرات ولم يصبروا حتى يخرج إليهم، بل هو أشد، لأن القوم كانوا حديثي عهد بجاهلية لم يخالطوا المسلمين ولا تأدبوا بآداب الإسلام. وهذا يدعي منزلة الأولياء والصالحين، ثم يأتي بما لا يصدر من العامة الجاهلين فياليته تأدب في الخطاب، ووقف ذليلا على الأعتاب، فيكون في إسلامه وأدبه، خير شفيع لوصل سببه، لكن الغرور والغفلة، أعظم أسباب المحنة، عياذاً بالله، وأما آخر كلامه فقد أشتمل على طامة عظمى وجرأة كبرى بتعريضه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في سورة عبس على ما تقدم بيانه في آخر الفصل الأول، وهذا في سوء الأدب أدخل، وفي الحرمة أشد، لأن صاحبه قد اعتقد تقصيراً(3/158)
من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليم عليه فعرض له هو به، وخوفه من أن يقصر معه مثل ذلك التقصير فيلام عليه مثل ذلك اللوم. كبرت كلمة والله خرجت من فيِّ هذا المغرور المسكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا توفيق إلا به. فإن قلت هذه قصة جاءت في القرآن وخبر ذكره الله تعالى. قلنا فالجواب عن ذلك ما قاله الإمام الحافظ خزانة العلم وقطب المغرب أبو بكر بن العربي في سورة "ص" من كتاب الأحكام. قال: للمولى أن يذكر ما شاء من أخبار عبيده ويستر ويفضح ويعفو ويأخذ، وليس للعبد أن ينبز في مولاه بما يوجب عليه اللوم، فكيف بما عليه في الأدب والحد، وأن الله تعالى قد قال في كتابه لعباده في بر الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فكيف بما زاد عليه، فما ظنك بالأنبياء وحقهم أعظم، وحرمتهم آكد، وأنتم تغمسون ألسنتكم في أعراضهم، ولو قررتم في أنفسكم حرمتهم لما ذكرتم قصتهم، اهـ. وما بعد هذا البيان بيان، وأن هذا الكلام لكاف وحده عند اللبيب المنصف في جواب ما تقدم من السؤال، ومن عقائد الإيمان مما يجب علينا في حق الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- أن لا نخاطبهم بما خاطبهم الله تعالى به ولا نذكر في كلامنا شيئا مما عوتبوا عليه لا بالتلويح ولا بالتصريح إلا بحكاية لفظ القرآن والحديث، وأما الله تعالى فإنه يخاطبهم بما شاء، لأنهم عباده وصفوته من خلقه، لهم من كمال المعرفة به ما ليس لغيرهم، وله عليهم من الفضل العظيم ما لا مطمع فيه لسواهم، وأما نحن فموقفنا معهم موقف العبيد مع السادة، فيجب علينا معهم اعتقاد الحرمة، واكبار الجانب، ولزوم الأدب، في الأقوال والأفعال، وجميع الأحوال ولا يجوز لنا ونحن خدامهم وأتباعهم أن نذكرهم أو نخاطبهم بما خاطبهم بهم ربهم ومالكهم، فما أبعدنا والله عن ذلك المقام، وقد ذكر هذه العقيدة الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في كتبه منها قوله في سورة(3/159)
"الأحزاب" من كتاب الأحكام: وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا، أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله لا يزيد على ذلك، اهـ. وقال الإمام الصوفي أبو عبد الله بن الحاج في كلامه على المواسم من كتاب المدخل: وقد قال علماؤنا- رحمة الله عليهم- أن من قال عن نبي من الأنبياء في غير التلاوة والحديث أنه عصى أو خالف فقد كفر نعوذ بالله من ذلك، اهـ. ونقل هذا الكلام عنه الشيخ محمد الزرقاني في قسم الخصائص من شرحه للمواهب وسلمه: ولا يخفى أن حكم التعريض في هذا المقام حكم التصريح. فنعوذ بالله بالدين وتوقع في سوء الأدب مع سيد المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل الثالث: في أن هذا المقال لا يصدر من العارفين.
اعلم أن السادة العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- وتعظيم حرمته، ومراعاة شريف جانبه، وتعزيزه وتوقيره وبره. تجد ذلك في صلواتهم عليه، وفي أدعيتهم لله تعالى عند ذكره، والتوسل به، وفي مناجاتهم له عند الشوق إليه، وفي تأليفهم عند الكلام في حقه. وهذه أشياء مروية عنهم، معروفة منهم، لا تحتاج إلى شاهد ولا تخفى على طالب بل هم أكثر الناس أدبا مع شيوخهم ومربيهم ومريديهم، بل هم آدب الناس من جميع الناس، قال قائلهم: من لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له، وكتبهم بهذا طافحة وسيرهم أصدق شاهد عليه فمعاذ الله أن يكون مرتكب ما تقدم مع الإصرار عليه من عامة عامتهم فضلاً عن أن يكون ممن فوق ذلك إذ لا نشك أن ذلك الخطاب الغليط الجافي لا يقوله المؤمن العامي الباقي على فطرة الإيمان، فضلا عن أهل الخصوصية(3/160)
والعرفان ومن لا يراعي الأدب في خطاب سيد المرسلين، كيف يصلح أن يكون من العارفين السلكين، إذ من لا يؤدب نفسه كيف يؤدب غيره، ومن لم يؤمن على آداب الخطاب كيف يؤمن على ما يدعيه من مقامات الكاملين. قال أبو يزيد البسطامي- رحمه الله تعالى- لبعض أصحابه: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية وكان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد، فمضينا إليه فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة، فانصرف أبو زيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فكيف- يكون مأمونا على ما يدعيه اهـ. فانظر يا أخي رحمك الله بإنصاف إلى هذا العارف الكبير كيف وزن الرجل بميزان الشرع فطرحه لإخلاله بأدب واحد من الأداب- فكيف بنا لا نطرح هذا التهجم على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بقبيح التعريض وسوء الخطاب. قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الاعتصام أثر كلام أبي يزيد المتقدم: هذا أصل، أصله أبو يزيد- رحمه الله تعالى- للقوم، وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلا منه (1) فما ظنك به إذ كان عاملا بالبدعة كفاحا اهـ ونقول: فما ظنك به إذا كان يتهجم على الحضرة النبوية بمثل ذلك الخطاب الذي لا نظير له في كلام صغار المنتسبين، وعامة المداحين الجاهلين فضلا عن كلام العارفين؟ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في شرحه لكتاب الطريقة المحمدية، عند كلام ابي يزيد المتقدم: إن الله- تعالى- لا يؤمن على أسراره وأنواره إلا من الله أولا على الأخلاق المرضية، والأداب المحمدية، - الله أعلم حيث يجعل رسالته- والحكمة وضع الشيء في موضعه، وهي ملازمة لأفعال الله- تعالى- لا ينفك عنها فعل من أفعاله تعالى البتة، وليس من الحكمة وضع الولاية والكمال في المنتهكة
__________
(1) يعني أن الولي من لا يكون للشرع عليه اعتراض.(3/161)
للحرمة والتارك للآداب، بل الحكومة تقتضي عقابه لا ثوابه أو العفو عنه لا المدح منه اهـ فلا نشك بعد هذا في بطلان دعواه الواسعة المضادة لتهجمه وإصراره على سوء الأدب مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولا دليل على حال المرء مثل كلامه ولا أصدق على قلبه من ترجمان لسانه (1).
الفصل الرابع: في بطلان عذره بعجمة ألسن المحبين.
اعلموا أن خير هذه الأمة هم أحبها في نبيها وهم أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان المعصوم وعلى قدر حبهم فيه كان تعظيمهم له وأدبهم معه.
لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ …} الآية، قال أبو بكر- رضي الله تعالى عنه-: والله لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار وصار عمر- رضي الله تعالى عنه- لا يسمعه حتى يستفهمه ولزم ثابت بن قيس- رضي الله تعالى عنه- بيته وكان جهير الصوت مخافة أن يحبط عمله حتى اعتذر للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعذره وبشره بالجنة فأنزل فيهم وفي أمثالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ …} الآية. هؤلاء هم الحجة على الخلق وهم الذين لا يبلغ من جاء بعدهم مد أحدهم ولا نصيفه، وهذا أدبهم وهم سادات المحبين، وقد كانت ألسنتهم- والله- فصيحة في العلم والآداب، منزهة عن كل ما يعاب، فما بال هذا المسكين يركب ذلك الركب الصعب ويخرق سياج الأدب، ويعتذر بعجمة ألسن أهل الحب، كلا والله، لقد تجاسر على أهل المحبة الحقيقيين وافترى عليهم، وادعى عليهم ما ليس فيهم ثم لا يجد أبدا نظيرا لكلامه
__________
(1) ما فيك يظهر على فيك وكل إناء بالذي فيه يرشح(3/162)
عند واحد منهم، وإن اقتدى ببعض المغرورين المتعجرفين ممن لم نعلمهم حتى الآن فالحجة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وشيوخ الطريقة المتقدمين قاطعة به وبأمثاله أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الخاتمة: في نصيحة نافعة ووصية جامعة
اعلموا جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجملكم بعزة الاتباع، وجنبكم ذلة الابتداع، أن الواجب على كل مسلم في كل مكان وزمان أن يعتقد عقدا يتشربه قلبه وتسكن له نفسه؛ وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله، أن دين الله تعالى من عقائد الإيمان، وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان إنما هو في القرآن والسنة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وأن كل ما خرج عن هذه الأصول ولم يحظ لديها بالقبول- قولا كان أو عملا أو عقدا أو احتمالا فإنه باطل من أصله- مردود على صاحبه- كائنا من كان في كل زمان ومكان- فاحفظوها واعملوا بها تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى، فقد تضافرت عليها الأدلة- من الكتاب والسنة- وأقوال أساطين الملة- من علماء الأمصار- وأئمة الأقطار- وشيوخ الزهد الأخيار- وهي لعمر الحق لا يقبلها إلا أهل الدين والإيمان- ولا يردها إلا أهل الزيغ والبهتان، والله أسأل التوفيق لي ولكم ولجميع المسلمين والخاتمة الحسنة والمنزلة الكريمة في يوم الدين آمين والحمد لله رب العالمين.
قال مؤلفه عبد الحميد بن باديس عفا الله عنه: فرغت من تحريره بين عشية يوم الإثنين وصبيحة يوم الثلاثاء السادس والعشرين والسابع والعشرين من ذي الحجة الحرام عام 1340 (1).
__________
(1) رسالة: جواب سؤال عن سوء مقال ص1 - 20 الطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة (دون تاريخ).(3/163)
التقاريظ
نثبتها هنا على حسب ورودها في التاريخ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تقريظ محمد النخلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد:
فإني اطلعت على الرسالة التي حررها الفاضل العالم ابننا الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد المتطوعين بجامع الزيتونة (عمره الله) جوابا عن سؤال في حق من خاطب النبي- صلى لله عليه وآله وسلم- خطاب جفاء وغلظة فوجدتها رسالة حافلة بالنصوص الصحيحة المطابقة لما سئل عنه مطابقة العام لبعض أفراده أيده الله بروح منه وأعانه على القيام بوظيفة الإرشاد في تلك البلاد المتعطشة لكثير من نظرائه الناسجين على منواله.
ولنا مقالة فيما وقفنا عليه من تآليف هذا الرجل الذي ظهر بتلك الناحية والله المسؤل أن يجعلنا من الفرقة الناجية وكتبه فقير ربه محمد النخلي خادم العلم الشريف لطف الله به في 5 صفر الخير عام 1334هـ.
تقريظ بلحسن النجار:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين هذا وقد وقفت على الجواب الذي حرره العلامة الفاضل السري الكامل إبننا الشيخ عبد الحميد بن باديس في شأن الأبيات التي سئل عنها فإذا هو لباب الحق الذي لا يرهقه نزاع وما على الشمس غطاء ولا على الصبح قناع كثر الله من أمثاله في(3/164)
العلماء العاملين وألهم ذلك المتعجرف رشده كي يستبين سبيل المهتدين وإلى الله المشتكى من أناس يتنكبون الواضحة السمحاء ويتتبعون بنيات الطريق ويتطرفون في مجاهل السبل بغير علم ويتدهورون في مهواة الضلال. فإن أولئك من الذين عيرهم الله بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} والله المسؤول أن يوفقنا لصالح الأعمال حرره فقير ربه بلحسن النجار في 6 ربيع الأنوار سنة 1341هـ.
تقريظ محمد الطاهر بن عاشور:
الحمد لله مؤيد الحق بالحجج الساطعة. ومزهق روح الباطل بالصوارم القاطعة. والمضيء بشمس العلم مهامه الجهالة الشاسعة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل بالدعوة النافعة، والواجب تعظيمه على كل من آمن به وتابعه، وعلى آله وصحبه وكل من ذاد صاحب بدعة ودافعه، أما بعد فإني طالعت هاته الرسالة الحافلة التي ألفها العالم الفاضل نبعة العلم والمجادة، وقريع التحرير والاجادة إبننا الذي افتخر ببنوته إلينا، واتمثل فيها بقول الساعة: " … ولا هو بالابناء يشرينا" الشيخ سيدي عبد الحميد بن باديس في تقويم من جرأه جهله على خطاب الحضرة النبوية، بما تجاوز حدود الآداب الدينية وأخطأ الباب الذي رام التطفل عليه من أبواب الصوفية، فوجدتها رسالة قد أودعها مؤلفها صريح الحق ومحضه، وأكثر فيها من المعاني ما أوجز لفظه، أكثر الله أمثاله في المسلمين، من العلماء المرشدين، وكتب في 17 صفر سنة 1341هـ محمد الطاهر بن عاشور قاضي تونس لطف الله به.
تقريظ محمد الصادق النيفر:
الحمد لله ملهم الحق من اجتباه من المرشدين، ومدحض الباطل بهديه المستبين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد روح(3/165)
العالمين، ومحور دائرة عباد الله المخلصين، وباب الله الموصل لجميع السالكين القائل: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد، وفي كل حي بنو سعد فقد اتحفني الإبن الروحي، والأخ النصوحي، العلامة المدقق، ومن هو بكل فضيلة متصف ومتعلق، عمدة المغرب الاوسط والصاعقة على الدجاجلة الطراريس، الأستاذ سيدي عبد الحميد بن باديس، اتحفه الله بكل فضيلة، وأزاح بعلومه وتحريراته كل رذيلة، بالاطلاع على هاته الرسالة الحافلة التي هي بتحقيق جواب ذلك السؤال الكافلة، ولا يخامر عقل مسلم فضلا عن عالم أو سالك أن ينال قيد أنملة من ولاية أو سعادة، دون ترام على الأعتاب النبوية، وتفان بأدب في حب الطلعة المحمدية، ولكنها الأهواء أعمت، وتفنن في الأراجيف والتدجيل أصمت، أهكذا تكون الشطحات إن كان لك ذوق يا صاحب الأبيات الباردات، وأما أنا وإن كنت لست مطلعا على حالك ولا ما أنت فيه، ولكن كلام الشخص عنوان على ما انطوى عليه فارجع لرشدك وأفق من حال سكرك، واسلك طريق سادات مضوا، وأقبل نصيحة الشيخ عبد الحميد، فما بالك والله عنها محيد، وأنت أيها المجيب كثر الله من نصراء الحق أمثالك، وأحسن عقبي حالنا وحالك بحوله وطوله لا رب غير.
حرره: خادم العلم محمد الصادق النيفر في أشرف الربيعين سنة 1341هـ.
تقريظ معاوية التميمي:
أطلعت رعاك الله أيها الأخ الغيور على ما أساله يراعكم، ذائدا عن الملة الحنيفية، وعلى ما نسجته ألمعيتكم الصائبة العبقربة، في الرد على من وجه الخطاب للطلعة المحمدية، بتلك الأبيات، وما حوته من الترهات، فتعتصم به سبحانه من الوقوع في الزلات، فوجدته من(3/166)
العمل المبرور، والصنيع المشكور.
ناهيك به من صنيع يذب عن حمى المصطفى، ويزيد الذين اهتدوا هدى، فلله أنت من عالم نحرير، ومحام خبير، ولكن عذيري يا أخي من أهل هذا الزمان فإنه ما جرأ هؤلاء الناس على التفوه بمثل هذه الأباطيل بكل قحة ودعارة إلا رؤيتك السواد الأعظم من الأمة الإسلامية المسكينة في انقياد تام لهم- وأظنها دسيسة قديمة تمكنت حلقاتها- يتحرون خطاهم، ويرون رضا الخالق مقرونا برضاهم فيزيدون في الاستغراق، ويخلقون من ضروب الدجل والنفاق، ما تهتز له السبع الطباق.
وبقدر انقيادهم لهؤلاء القوم تراهم يبتعدون من أولى العلم ابتعاد السليم من ذي العاهة أو الخطيب من الفهاهة ويستنهض بعضهم بعضا في الابتعاد وزد على ذلك ما استفحل من الداء الدفين في أهل العلم من الولوع بالتشاكس وهو الانتقاد، في كل عمل ما كانت صبغته. وبهذا ومثله تسنى لأولئك الانتصار وراجت بضاعة القوم.
فقلت أدعوك للجلى لتنصرني … وأنت تخذلني في الحادث الجلل
كتبه معاوية التميمي تحريرا فى ربيع الثانى عام 1341هـ.
تقريظ شعيب بن علي بن عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليما، الحمد لله على جميل التوفيق والشكر لله على الهداية لأقوم طريق والصلاة والسلام على أشرف من وحده وعبده القائل من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده وعلى آله وأصحابه أولي العناية بدين الله وتابعيهم من العلماء العاملين وكمل العارفين المؤيدين بتأييد الله أما بعد: فقد اطلعني الجهبذ الإمام وأحد الأئمة(3/167)
الاعلام المحرر المجيد ذو الخلق السني الحميد أنيس كل جليس الشيخ سيدي الحاج عبد الحميد بن باديس على ما علقه على أبيات من خاطب - النبي صلى عليه وآله وسلم بقوله:
إن مت بالشوق منكد … ما عذر ينجيك
فألفيته الحق الذي فيه لا يستراب، والمنهج الأقوم الذي لا شك فيه ولا ارتياب فحمدت الله على أن وفقه لذلك وأرشده لسلوك تلك المسالك فإنه مشي على أصول سليمة وقواعد مستقيمة يجب الرجوع إليها والاعتماد عليها فمن حاد عنها ضل وهلك وخرج عن نهج السلف الصالح، وغير سبيلهم سلك، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا ووقاه والمحبين وأنصار الدين سوء وضيرا بحرمة أكمل المرسلين سيدنا ومولانا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأزكى التسليمات إلى يوم الدين آمين والحمد لله رب العالمين.
عبد ربه شعيب بن علي بن عبد الله وفقه الله.
تقريظ محمد المولود بن الموهوب:
الحمد لله الذي جعل الأدب الصادق مع سيدنا المصطفى دليلا على الحب- وجعل حبه الكامل علامة على رسوخ الإيمان والقرب- والصلاة والسلام التامان عليه كما يليق به من الله- ما تلي ويتلى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وعلى آله وأصحابه الذين حازوا به عظيم الجاه- أما بعد فقد اطلعني الأخ في الله العلامة فرع الكمال وزبدة الأصول ذو الأنس والتأنيس السيد عبد الحميد ابن باديس على جوابه الشافي ونقله الصافي وكيله الوافي بل ونعم الحسام الكافي لقطع رقبة ذلك الذي قاده الخناس بزمام الوسواس حتى نطق بتلك العبارة المحزنة الدالة على أنه ذو إفلاس- وزين له أن إقبال الجهال عليه لا يكمل إلا بتلك الجسارة العظمى على الجناب(3/168)
الاحمى- وأفضل المخلوقات قدما- فوجدته سلسبيلا معين- كالعسل المصفى للعلماء العاملين- من بحر شريعة الأمين يجري- فلله در الباديسي المؤيد بما قاله الكمل كالإمام الأخضري:
وقال بعض السادة الصوفية … مقالة جليلة صفية
إذا رأيت رجلا يطير … أو فوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع … فإنه مستدرج وبدعي
واعلم بأن الخارق الروحاني … لتابع السنة والقرآن
والفرق بين الإفك والصواب … يعرف بالسنة والكتاب
والشرع ميزان الأمور كلها … وشاهد بفرعها وأصلها
والشرع نور الحق منه قد بدا … وانفجرت منه ينابيع الهدى
وقال بعض أولياء الله … السالكين لطريق الله
من ادعى مراتب الجمال … ولم يقم بأدب الجلال
فارفضه إنه الفتى الدجال … ليس له التحقيق والكمال
ومن تحلى بحلى المعالي … ولحدود الله لم يبال
ففر منه إنه شيطان … مخادع ملبس خوان
قال البهيقي في مناقب الشافعي- رضي الله عنه- المحدثات ضربان: ما أحدث مخالفا كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلالة. وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة، وقال الأستاذ البكري- رضي الله عنه- في الوصية الجليلة: إن أهل الطريق يجب عليهم أن لا يخطوا خطوة ينكرها الشرع عليهم فإن من خالف الشريعة المحمدية تاه وضل عن الطريقة المرضية فالشريعة أصل والحقيقة فرعها فمن لم يحكم الأصل لا ينتفع بالفرع، ا. هـ. قال سيدي عبد القادر الجيلاني- رضي الله عنه-: كل حقيقة ردت شريعة فهي زندقة وكل ظاهر يخالف باطنا فهو باطل، ا. هـ. وقال(3/169)
سيدي ابراهيم الدسوقي- رضي الله عنه-: طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، فمن أحدث فيه ما ليس في الكتاب والسنة فليس هو منا ولا من إخواننا ونحن بريئون منه في الدنيا والآخرة ولو انتسب الينا بدعواه، اهـ. وقال أبو زيد- رضي الله عنه-: لو أن رجلا بسط مصلاه على الماء وتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، اهـ. وفي مناهج السعادات: قيل للرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- متى أكون مؤمنا، وفي لفط آخر: مؤمنا صادقا، قال: إذا أحببت الله. قيل: ومتى أحب الله، قال: إذا أحببت رسوله، فقيل: ومتى أحب رسوله، قال: إذا اتبعت طريقته واستعملت سنته وأحببت بحبه وأبغضت ببغضه وواليت بولايته وعاديت بعداوته. وقال سهل التستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي- صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه وأذلوه وأهانوه، اهـ. فأين هذا مما نحن فيه من إساءة الأدب مع سيد الكائنات اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فبشراك يا أيها الباديسي لقد أسعدك الله بالدفاع عن حرمة الرسول كسيدنا حسان بن ثابت وغيره من الفحول، وبعداً لمن تشبه بالسالكين كذبا وما قرع الباب بيد آداب مع سيد الأحباب.
هيهات أن تدرك المنى بشقشقة … طورا إليك وطورا طوع تلقين
إن السيوف سيوف الله قاطعة … والمصطفى حبه فرض من الدين
ألا اتئدوا عرف المركوب معتبر … لدى السباق حفائر الميادين
نسأله تعالى أن يحفظنا من دسائس الدجالين في حصن سنة سيد المرسلين صلى الله عليهم أجمعين آمين، حرره الفقير إلى رحمة علام الغيوب محمد المولود بن الموهوب المفتي المالكي والمدرس بقسنطينة في الخامس عشر من شعبان 1341(3/170)
تقريظ العابد بن أحمد بن سودة:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد فقد طالعت السؤال والجواب فنعم الجواب وبئس السؤال لأن التعظيم والمحبة الكاملة كلها في اتباع سنة مولانا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: تركتكم على المججة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولما طالعت رسالة الشيخ الإمام فخر الأقران رئيس علماء قسنطينة العلامة الجامع مولانا السيد عبد الحميد بن باديس القسنطيني ألفيتها البحر الزاخر، ونقولها كالأنجم الزواهر، والله يديم حفظه وارتقاءه.
وعليه يوافق عبد ربه سبحانه العابد بن أحمد بن سودة القرشي لطف الله به.
تقريظ محمد بن العربي:
حمدا لمن جعل الحق مع أهل التحقيق، ومن على من شاء بالتوفيق والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والرسل والملائكة، القائل تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه الأعلام، ما قال قائل ربي الله ثم استقام، أما بعد فالذي أدين الله به وأعتقده هو ما سطره سيدنا العلامة المشارك الدر النفيس السيد عبد الحميد بن باديس لأنه مؤسس المبني صحيح اللفظ والمعنى لم يبق فيه قول لقائل، ولا تشوف لمراجعة مجيب أو سائل.
وعليه يوافق عبد ربه محمد بن العربي لطف الله به.
تقريظ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر:
حمدا لمن جعل البيان سحرا، ورفع بالفصاحة أقواما فكان لهم(3/171)
بين الناس قدرا، نحمده سبحانه على أن أرسل إلينا رسله تترا ونصلي على سيدنا محمد بحر البحور الزواخر، وعلى آله وأصحابه وعترته وحزبه أهل النصوص (1) الزاوجر- أما بعد- فقد أوقفني خلنا الحميم الصادق الخل الموافق النور العالم جميل الأخلاق والأوصاف سيدي عبد الحق بن وطاف، على رسالة الشيخ الإمام الهمام عالم الديار القسنطينية الإيوان النفيس، السيد عبد الحميد بن باديس فألفيتها فريدة في بابها جمعت النقول الصحيحة والاستدلالات اللطيفة:
العلم قال الله قال رسوله … قال الأئمة ذوو العرفان
فما العلم إلا الكتاب والسنة لا الشطحات الكاذبة والادعاءات الفاسدة:
والدعاوى ما لم يقيدوا عليها … بينات أبناؤها أدعياء
فما لنا إلا اتباع سنة مولانا الرسول ومن خالف سنة مولانا الرسول فالسيف مسلول (فما لنا إلا اتباع أحمدا) وغاية القول فيها:
ذي المعالي فليعلون من تعالى … هكذا هكذا وإلا فلا لا
ولما فاح مسك الختام قلت بلفظ قريب شامل من بحر مجزوء الكامل:
جاءت إلي رسالة … عني بها الكدر انتفا
جمعت أمورا جمة … قلبي إليها قد هفا
ألفاظها درية … سمعي بها قد شنفا
ولها معان أصبحت … بالفعل تحكي القرقفا
من قاسها بالبدر و … شمس الضحى ما انصفا
شكرا لحضرة سيدي … عبد الحميد المقتفا
__________
(1) هذا أقرب ما ظهر من محو.(3/172)
علامة الدنيا الذي … أضحى شريفا مشرفا
وله على الشكر فر … ض عنه لن اتخلفا
قاله وكتبه خديم الحديث الأستاذ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر السودي القرشي الله وليه ومولاه، حرره بفاس حامدا ومصليا.
المقرظون، أسماؤهم ووظائفهم وبلدانهم:
1 - العلامة النظار المفكر المستقل زعيم النهضة الفكرية لجامع الزيتونة الشيخ محمد النخلي رحمه الله.
2 - العلامة الأصولى البحاث الجامع الشيخ بلحسن النجار المفتي المالكي حفظه الله.
3 - العلامة المحقق الغواص النقاد الشيخ الطاهر بن عاشور عميد مجلس الشورى المالكي بتونس وقاضي الجماعة بها سابقا حفظه الله.
4 - العلامة المحقق الفقيه النوازلي المتفنن الشيخ الصَّادق النيفر قاضي الجماعة بتونس حفظه الله.
5 - العلامة المشارك الأديب البارع الشيخ معاوية التميمي المدرس بالزيتونة حفظه الله.
6 - العلامة الفقيه المشارك الشيخ شعيب بن عبد الله القاضي سابقا بتلمسان والمتقاعد الآن حفظه الله.
7 - العلامة المتفنن الألمعي المفكر الشيخ المولود بن الوهوب المفتي المالكي بقسنطينة والمدرس بمدرستها حفظه الله.
8 - العلامة الكبير المؤلف الشيخ العابد بن احمد بن سودة القرشي خطيب المسجد الإدريسي بفاس وقاضي الجديدة سابقا حفظه الله.
9 - العلامة المشارك الشيخ محمد العربي المدرس بالقرويين حفظه الله.
10 - العلامة المحدث المسند الرحالة الشيخ عبد القادر بن محمد بن عبد القادر السودي القرشي المدرس بالقرويين بفاس حفظه الله.(3/173)
تبيان:
هذه الأبيات المسؤول عنها لم تزل إلى اليوم في ديوان ناطقها شيخ الطريقة العليوية بين أتباعه بعلمه ورضاه وتقريره مع ما فيه مما هو مثلها أو أشد في معاني أخرى. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1).
__________
(1) رسالة جواب سؤال عن سوء مقال ص 21 - 33.(3/174)
آثار ابن باديس:
قسم التربية والتعليم(3/175)
أيها المسلم الجزائري
هاك وصايا نافعة مختصرة على وجه الإجمال، وسنعيدها عليك مختصرة على وجه التفصيل.
هاك آدابا تقتضيها إنسانيتك ويفرضها عليك دينك وتستدعيها مصلحتك في هاته الحياة.
هاك ما إن تمسكت به كنت إنسان المدنية ورجل السياسة وسيداً حقيقياً يرمق من كل أحد بعين الاحترام والتعظيم.
حافط على صحتك فهي أساس سعادتك وشرط قيامك بالأعمال النافعة لنفسك ولغيرك، تجنب العفونة فإنها مصدر جراثيم الأمراض ومثار نفور وبغض لطلعتك، ومجلبة سبِّ لجنسك ولدينك الشريف البريء منك في مثل هذه الحال.
نظف بدنك، نظف ثوبك، تبعث الخفة والنشاط في نفسك، وتنبل في عين غيرك وتجلبه إلى الاستئناس بمعاشرتك.
قِه أهلك وولدك ومن إلى رعايتك مما تقي منه نفسك، وسيرهم على نظام صحي وقانون أدبي تكفل سعادة وهناء عائلتك ورخاء عيشك، وهدوء بالك.
حافظ على عقلك فهور النور الإلهي الذي منحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك.
فاحذر كل (متعيلم) يزهدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية ودعا إليها القرآن بالآيات الصريحة،(3/177)
وخدم علماء الإسلام بالتحسين والاستنباط ما عرف منها في عد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم علماء أوربا اليوم.
واحذر كل (متريبط) يريد أن يقف بينك وبين ربك ويسيطر على عقلك وقلبهك وجسمك ومالك بقوة، يزعم التصرف بها في الكون، فربك يقول لك إذا سألت عنه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}، الآية. ويقول لك: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وأن الأولياء الصالحين بعيدون، عن كل تظاهر ودعوى متحلون بالزهد والتواضع والتقوى، يعرفهم المؤمن بنور الإيمان وبهذا الميزان.
واحذر من دجال يتاجر بالرقي والطلاسم. ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحماء هزوءاً يستعملونها في التمويه والتضليل و (القيادة) و (التفريق) ويرفقونها بعقاقير سمية فيهلكون العقول والأبدان.
حافظ على مالك فهو قوام أعمالك، فاسلك كل سبيل مشروع لتحصيله وتنميته، واطرق كل باب خيري لبذله.
فاحذر بالوعة المضاربات الربوية في معاملاتك ومن مسارب السرف في جميع ملذاتك إذا كانت من المباحثات، دع ما إذا كانت من المحرمات.
حافظ على حياتك، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك، وإذا أردت الحياة لهذا كله، فكن ابن وقتك تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل.
كن عصريا في فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك. كن صادقا في معاملاتك بقولك وفعلك.
احذر من الخيانة! الخيانة المادية في النفوس والأعراض والأموال، والخيانة الأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.(3/178)
احذر من التوحش فإن المتوحش في عصر المدنية محكوم عليه طبيعيا بالتناقض ثم الفناء والاضمحلال والاندثار، كما فنيت جميع الأمم المتباعدة عن التمدن والرقي.
احذر من التعصب الجنسي الممقوت فإنه أكبر علامة من علامات الهمجية والانحطاط. كن أخا انسانيا لكل جنس من أجناس البشر وخصوصا ابن جلدتك المتجنس بجنسية أخرى، فهو أخوك في الدم الأصلي، على كل حال كن محسنا لكل أحد من كل جنس ودين فدينك الشريف يأمرك بالإحسان.
حافظ على مبادئك السياسية ولا سياسة لك إلا سياسة الارتباط بفرنسا (1) والقيام بالواجبات اللازمة لجميع أبنائها والسعي لنيل جمبع حقوقهم فتمسك بفرانسة العدالة والأخوة والمساواة فإن مستقبلك مرتبط بها.
ثق بأن سياسة الصدق والصراحة والإخلاص المرتكزة على الحب والعمل والتعاون، لا بد أن تظهرك أمام العالم بمظهرك الحقيقي رغم كل الغيوم التي ينشرها حولك خصومك ومنافسوك فتعطيك حينئذ فرنسا جميع الحقوق كما قمت لها بجميع الواجبات وتحيا حياة طيبة كجميع أبناء العالم العاملين المخلصين (2).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) هذه تقية من ابن باديس لأنه يؤمن بأن الشعب الجزائري سيستقل عن فرنسا متى حان الوقت، وقد حان وتحقق.
(2) الشهاب عدد 49 السنة الثالثة 15 صفر 1345هـ - 23 أوت 1926م، وذلك قبل أن يتحول إلى مجلة ابتداء من سنة 1929م.(3/179)
إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، عمره الله
قد علمنا أن إخواننا الزيتونيين طالبوا بالإصلاح منذ زمان، وسمعنا أن حكومة سمو الباي أجابت طلبهم وألفت لجنة لوضع مناهج الإصلاح المطلوب. ثم انقطعت أخبار تلك اللجنة مدة ليست بالقصيرة حتى حسبناها قد أصابها ما أصاب تلك اللجنة التي ألفت بالعبدلية لنشر الكتب القيمة، مثل رحلة العبدري، وشرعت في العمل بالتصحيح والمقابلة، ثم قضي عليها بالموت فلم نسمع حسيسها إلى اليوم. ثم عادت المطالبة بالإصلاح على ألسنة الصحف، وعاد الإعلان من طرف الإدارة ان اللجنة ما زالت حية وأنها جادة في عملها وما عليكم إلا الانتظار. واتصل الحديث على الإصلاح في الصحافة وقامت المناقشات الحادَّة بين الكتاب في وجوهه إلى أن بلغت إلى حد غير محمود، وكانت تلك المناقشات في الخارج كالصدى لما قام من الخلاف بين أعضاء اللجنة في الداخل، وقد أدت- ويا للمصاب- إلى صدع الوحدة الصحافية التونسية كما أدت إلى صدع بناء اللجنة الموقرة. فأصبنا بمصبتين اثنتين ولما نصل إلى النتيجة، فأما البلاء فكان معجلا وأما الإصلاح المطلوب فحظنا منه الانتظار، وليت شعري متى ينتهي هذا الانتظار؟ ومتى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه و (غيرك) يهدم. فكيف إذا كنت أنت تهدمه أيضاً؟ فما أعظم أسفنا- معشر الزيتونيين- مما آلت إليه الحال، وما أشد ألمنا من هذا التأخير والانتظار.
ثم لنا كلمة في بعض وجوه الإصلاح رأينا من واجبنا أن نقولها: إن جامع الزيتونة كلية دينية فلا يكون إصلاح التعليم فيه إلا على مراعاة هذا الوصف الذي هو أساسه وغايته، والرجال الذين يتخرجون(3/180)
من هذا الجامع يقومون بخطط كلها دينية وهم أصناف ثلاثة: رجال القضاء والفتوى ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم، ولكل خطة من هذه الخطط وسائل خاصة لتحصيل الكفاءة فيها والاضطلاع بها، إن من المعلوم أن ما يحتاج إليه القاضي والمفتي من سعة الاطلاع على الأحكام وتمام الخبرة بتطبيقها على النوازل غير ما يحتاج إليه الإمام الخطيب من القدرة على إنشاء الخطب وحسن المعالجة بها لأمراض وقتها وقوة التأثير بها على سامعيها المعالجين بها وغير ما يحتاج إليه المعلم من معرفة أساليب التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين وحسن التنزل لهم والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم.
فلهذا نرى أن أول عمل في الإصلاح هو تقسيم التعليم في الجامع إلى قسمين: قسم المشاركة وقسم التخصص.
فأما في قسم المشاركة فيتساوى فيه المتعلمون في المعلومات على طبقاتهم ويحصل الفائزون في الامتحان بعد تمام مدة التعلم التي لا تقل عن ثماني سنوات على شهادة عالم مشارك بدلا من لفظة (متطوع) فإنه لفظ مات معناه وذهبت قيمته بذهاب الوقت الذي وضع فيه والمناسبة التي اقتضته.
وأما قسم التخصص فيفرع إلى ثلاثة فروع: فرع للتخصص في القضاء والافتاء وفرع للتخصص في الخطابة وفرع للتخصص في التعليم. وبعد تمام المدة التي لا تقل عن أربع سنوات في فرع القضاء والافتاء، وعن سنتين في فرعي الخطابة والتعليم، ينال الفائزون في الامتحان شهادة التخصص بالعالية فيما فازوا فيه.
ثم إن المتعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلا بد أن يكون ممن تخصصوا(3/181)
فيهما وتخصصوا في التعليم وكذلك المعلمون في فرع الخطابة.
هذا رأينا في مسألة التقسيم، وأما مسألة الفنون وكيفية تعليمها فنرى أن يشتمل منهاج التعليم المشترك على اللغة والنحو والصرف والبيان، بتطبيق قواعد هده الفنون على الكلام الفصيح لتحصيل (1)، وأما قراءتها بلا تطبيق- كما الجاري به العمل اليوم- فهو تضييع وتعطيل وقلة تحصيل، وعلى تاريخ الأدب العربي وعلى تعلم الإنشاء وعلى تعلم حسن الأداء في القراءة وإلقاء الكلام وعلى العقائد. ويجب أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن فإنها وافية بذلك كله، وأما إهمال آيات القرآن المشتملة على العقائد وأدلتها والذهاب مع تلك الأدلة الجافة فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى الفقه ويجب أن يقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها، ثم يترقى بهم إلى ذكر بعض أدلتها، وعلى أصول الفقه مسائل مجردة، ثم يترقى إلى تطبيقها على المسائل الفقهية لتحصل لهم من هذا ومن ذكر أدلة المسائل الفقهية كما تقدم ملكة النظر والاستدلال، وعلى التفسير ويكون بسرد تفسير الجلالين على المتعلم وهو يبين ما يحتاج للبيان. والمقصود من هذا أن يطلع المتعلم على التفسير بفهم المفردات وأصول المعاني بطريق الإجمال، وعلى الحديث بقراءة الأربعين وغيرها سردا على الطريقة المتقدمة في التفسير. وعلى دروس في التربية الأخلاقية يعتمد فيها على آيات وأحاديث وآثار السلف الصالح. وعلى التاريخ الإسلامي على وجه الاختصار، وعلى الحساب والجغرافية، بأقسامها، وعلى مبادئ الطبيعة والفلك والهندسة. وإذا لم يكن في الشيوخ المصممين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بأمثل إخواننا المطربشين من تونس أو من مصر إن اقتضى الحال ذلك.
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: لتحصيل الملكة.(3/182)
وأما فرع القضاء والفتوى من قسم التخصص فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام وتكون (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها ويدرسون آيات وأحاديث الأحكام ويدرسون علم التوثيق ويتوسعون في علم الفرائض والحساب ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة لا من عين المذهب الضيقة.
وأما فرع الخطابة فيتوسم لهم في صناعة الإنشاء والاطلاع على أنواع الخطب ويدرسون آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشرة الدعوة الإسلامية، ويمرنون على إلقاء الخطب الارتجالية.
وأما فرع التعليم فيتوسعون في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها مع تمرينهم على التعليم بالفعل ومدارستهم للكتب الموضوعة لفن التعليم.
هذه أصول ما نراه من كيفية الإصلاح بجامع الزيتونة المعمور. وهي وإن لم تكن وافية بالتفصيل فإنها كافية في مقام الأعمال، ولعل اللجنة الموقرة تعيرها التفاتا فتزنها بميزان العدل والإنصاف، فعساها واجدة فيها بعض ما يفيد (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 10، م 7، ص 601 - 605 غرة جمادى الثانية 1355هـ - أكتوبر 1931م.(3/183)
جمعية التربية والتعليم الإسلامية
في الشهر الماضي صدر الترخيص لهذه الجمعية والاعتراف بها من طرف الحكومة في الجريدة الرسمية فكانت أول جمعية في قسنطينة من نوعها. وقد كانت جمعية مكتب التعليم العربي حجر الأساس في تكوينها ومن أعضاء تلك الأقدمين ومن انضم إليهم تكون أعضاء هذه، المؤسسون. ودونك أسماءهم فيما يلي:
عبد الحميد بن باديس ................ رئيس قديم
اسماعيل بن نعمون ................... نائبه
حسين بن شريف ..................... أمين المال قديم
حسونة بن الحاج مصطفى ............ نائبه
محمد النجار ........................ كاتب العربية قديم
الحاج ادريس ........................ كاتب الفرنسية
عمر بن السعيد بن جيكو ............ عضو قديم
محمد بن زرتي ...................... عضو قديم
عبد الله بن البجاوي ................. عضو
حسين ماضوي ...................... عضو
وغرض الجمعية مفهوم من اسمها وهاك من قانونها الأساسي الذي صادقت عليه الحكومة، ما يشرحه لك بوضوح:
(المادة الثانية: مقصود الجمعية هو نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية الفرنساوية والصنائع اليدوية بين أبناء وبنات، المسلمين.(3/184)
المادة الثالثة: تسعى الجمعية لقصدها هذا، أولا- بتأسيس مكتب للتعليم، ثانيا- بتأسيس ملجأ للأيتام،! ثالثا- بتأسيس ناد للمحاضرات، رابعا- بتأسيس معمل للصنائع، خامسا- بإرسال التلامذة على نفقتها إلى الكليات والمعامل الكبرى.
[صورة: مدرسة التربية والتعليم الإسلامية]
تأسست سنة 1936، وكان أصلها دارا فاشتريت بمبلغ (135000) فرنك قديم وأدخلت عليها إصلاحات، فأصبحت مدرسة. وبعد الاستقلال أدخلت عليها إصلاحات، وأصبحت تشرف عليها وزارة التربية الوطنية الجزائرية. وهي واقعة بنهج عبد الحميد بن باديس رقم 17 بقسنطينة(3/185)
المادة الرابعة: بما أن مقصد الجمعية هو التربية والتعليم لا غير، فإنها تحرم على نفسها الخوض في المسائل السياسية، والاختلافات الحزبية، والمذهبية، والشخصية، بأي وجه من الوجوه).
وأما مالية الجمعية فإنها تتكون مما يدفعه الأعضاء المشتركون وهو فرنكان في الشهر، ومن تبرعات المحسنين، ومن الإعانات الحكومية، ومن واجب تعليم التلامذة القادرين على الدفع.
يشاهد القارىء مما تقدم عظيم نفع ما تسعى الجمعية وعظيم مؤوتنه، ويرى بجانب ذلك تفاهة القسط الشهري المعين للاشتراك فلا يجد بينهما تناسبا ولكننا قصدنا بتقليل هذا القسط، أولا- تيسير الاشتراك في الجمعية على جميع طبقات الأمة حتى تكون مؤسسة عمومية بأتم معنى الكلمة، ثانيا- تعويد الناس على البذل والسخاء المنتظم مع اعتقاد بأن القادرين على الإحسان لا يقفون عند ذلك المقدار الزهيد.
قد خرج قابض الجمعية ولاقى من الناس إقبالا وسرورا وحصل على قدر لا بأس به، لكنه دون ما كنا نتوقعه، فشكرنا الناس على كل حال لأنهم ما اعتادوا البذل المنظم من قبل وكنا على يقين من أنهم سيكونون في المستقبل- بإذن الله- أوسع في البذل وأعون على الخير.
للجمعية اليوم مكتبها المقام في بناية (الجمعية الخيرية الإسلامية) والتعليم فيه اليوم للبنين وقد عزمت الجمعية على فتح دروس بعد رمضان- إن شاء الله تعالى- لتعليم البنات فندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم إلا القادرون وأما البنات فيتعلمن كلهن مجانا لتتكون منهن- بإذن الله- المرأة المسلمة المتعلمة.
أيها المسلمون: ها هو باب العلم والتقدم قد فتح أمامكم على(3/186)
مصراعيه فادخلوه، ها هم أفراد منكم تعرفونهم وتثقون بهم قد تقدموا لخدمتكم فأعينوهم فإنهم- بعد عون الله تعالى- بكم ولكم، وها هي الحكومة قد رخصت لجمعيتكم هذه الشريفة المقصد العظيمة النفع، ثقة منها بكم وبالرجال الذين تقدموا إليها منكم ورغبة منها في تقدمكم فبرهنوا لها على أهليتكم لما منحتكم، وتقديركم للمشاريع العظيمة فيكم بنهوضكم بجمعيتكم حتى تصل إلى غرضها السامي وتقوم إليه بجميع الوسائل التي ذكرتها في قانونها الأساسي.
وختاما أتقدم بالشكر لسمو الوالي العام م. كارد، وجناب كاتب الأمور الوطنية بالولايات العامة م. ميرانت وجناب م. كارل عامل عمالتنا المحبوب وحضرة م. تروسال الكاتب العام للأمور الوطنية بدار العمالة، أولئك الرجال العظام الذين نالت الجمعية رخصتها من الحكومة الفخيمة على أيديهم فلهم وللحكومة شكرنا واعترافنا وحُسن تقديرنا (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 7، ص 115 - 117 غرة شوال 1349هـ - مارس 1931م.(3/187)
منع التعليم الديني بالمساجد
قرار من بريفي عمالة الجزائر في ذلك لعمالته
تاريخ القرار، نتيجة السعي في رفعه، رد اعتذار
السيد البريفي، الاحتجاج على القرار
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس هذا القرار الذي أثار الخواطر وكدر الصفو ابن هذه الأيام، فقد كان بريفي عمالة الجزائر قدمه للسري الوجيه السيد محمد بن صيام رئيس الجمعية الدينية طالبا منه أن ينفذه بصفته رئيس الجمعية ليكون القرار من الجمعية، عليه وزره ومسؤوليته، فتوقف السيد ابن صيام في التنفيذ نحو شهر، فأعيد عليه الطلب والإلحاح فأبت عليه ديانته، وهمته وتقديره للعواقب أن ينفذه فيعطل المساجد من ذكر الله ويحرم الناس من العلم والتربية الدينيين ويكدر الخواطر ويمس سمعة فرنسا التي لا يرضى أن تمس. وكان من جوابه أن المساجد لم يقع فيها شيء من التشويش يوجب هذا القرار لكن البريفي أصر على إصدار قرار فأصدر وكان منه ما كان.
سعى جماعة من النواب والأعيان لدى الولاية العامة في رفع القرار. فردوا إلى البريفي وكان جوابه لهم أنه جاءه قوم آخرون فألحوا عليه بإصدار القرار لئلا يقع تشويش في المساجد ولا يمكنه أن يرجحكم عليهم ولذلك هو يصر على قراره. وجاء كتاب من الوالي العام يقول للجماعة فيه أن الأمر هو ما قاله البريفي وأن لا فائدة من مقابلته.
كان الأستاذ العقبي يلقي دروسه الدينية بعدة مساجد، ومنها(3/188)
الجامع الجديد. وكان هذا نحو العامين، وكان متحملا مسؤولية تلك الدروس أمام الإدارة، وما ذلك إلا لعلمه ومشاهدته للهدوء والنظام والسكينة التي كانت- كما هي العادة في جميع المساجد دائما- تخيم على دروس الأستاذ العقبي، ثم رغم المشاهدة والعيان ورغم تحمل السيد ابن صيام رئيس الجمعية الدينية بالمسؤولية يقول السيد البريفي: أنه أصدر قراره دفعا للتشويش الذي خوفه من وقوعه بعض الناس. يا عجبا يعرض عن الواقع المشاهد في المدة الطويلة إلى التشويش المعدوم المزعوم ولا يعول على كلمة رجل عظيم بارز رئيس للجمعية التي بيدها أمر المساجد متحمل للمسؤولية وكلمة جماعة من النواب والأعيان يعملون للخير على وضح النهار، ويعتمد على وشاية أفراد مجهولين يعملون للشر والغرض في دس وخفية.
إننا نضم صوتنا إلى صوت الصحافة العربية والفرنسية التي استنكرت هذا القرار وعدته تعديا على الحقوق الدينية العامة للمسلمين في المساجد، غير قاطعين رجاءنا من البريفي نفسه وممن فوقه من السادة الحكام أن يعودوا للمسألة بالنظر السديد والحكم المنصف، وتؤكد وصيتنا لإخواننا المسلمين بالهدوء والسكينة وترك الأمر يجري مجراه النظامي السليم.
إبطال الجمعية الدينية بالجزائر:
بلغنا أنه صدر قرار بإبطال الجمعية الدينية التي كان لها النظر في المساجد بعمالة الجزائر وهي التي يرأسها ابن صيام الذي امتنع من تنفيذ القرار. وفي اقتران الأمور ببعضها ما يغني عن شرحها ووجوه ارتباطها (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 9، ص 188 - 189 غرة ذي القعدة 1351هـ - مارس 1633م.(3/189)
بعد عشرين سنة في التعليم
نسأل: هل عندنا رخصة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عشرون سنة مضت ونحن ننشر العلم بالجامع الأخضر وفي مسجد سيدي قموش ومسجد سيدي عبد المؤمن والطلبة يأتون من جميع نواحي القطر يتزودون من علوم الدين واللسان ويستعين المحاويج منهم على ذلك بشيء طفيف من الإعانة بالخبز مما يعطيه بعض الناس المحسنين من الزكاة.
ابتدأت القراءة بقسنطينية بدراسة الشفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير حتى بدا لمفتي قسنطينة الشيخ ابن الموهوب أن يمنعنا فمنعنا .. ! فطلبنا الإذن من الحكومة بالتدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا وكان هذا الإذن على يد (م اريب) الكاتب العام للأمور الوطنية بدار العمالة إذ ذاك.
مضت عشرون سنة ونحن نعلم في الجامع الأخضر الذي أسسه المرحوم حسين باي للصلاة والتسبيح والتعليم. وكأنه خشي أن يهمل فيه التعليم ويحرم المعلمون من حقهم في ريع حبسه- فسجل إرادته بالتنصيص عليه فكتب بالحروف البارزة على واجهة بيت الصلاة ما نصه: (أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم، ذو القدر العلي والتدبير الكامل وحسن الرأي أميرنا وسيدنا حسن باي أدام الله أيامه وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ست وخمسين ومائة وألف).
مضت عشرون سنة والناس يشكرون الحكومة توظيفها مدرسا(3/190)
[صورة: محراب مسجد سيدي عبد المؤمن الاسفل]
يقضي سحابة نهاره وشطرا من ليله في خدمة العلم الديني واللساني ونشره ظنا منهم أنني أتقاضى مرتبا كسائر المتوظفين ولما لم ارزق من الحكومة فلسا واحدا- والفضل لله - وما كانت إلا مدرسا متطوعا مكتفيا بالإذن لي في التعليم ذاكرا ذلك للناس عن الحكومة في المناسبات بالجميل.
مضت عشرون سنة والسواح الأجانب يأتون للجامع الأخضر(3/191)
يشهدون حلقات العلم ووفرة الطلاب فيعدون ذلك من عناية الحكومة بالمساجد الإسلامية وتركها حرية التعليم للمسلمين.
وبعد هذه العشرين سنة في ذلك كله دعيت مساء الخميس الماضي إلى دار عامل العمالة ليعرفني (م) الكاتب العام بكتاب جاءه من الولاية العامة سألوه فيه عن عبد الحميد بن باديس الذي يقرىء متطوعا
...
[صورة مدخل مسجد سيدي عبد المؤمن وهذا المسجد علم فيه الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله](3/192)
بالجامع الأخضر بدون رخصة والقانون يمنع من التعليم بدون رخصة فأجبنا بأننا ما قرأنا إلا برخصة من الحكومة بواسطة م. اريب منذ عشرين سنة وأبدينا تعجبنا من هذا السؤال بعد عشرين سنة فقبل م. الكاتب العام الجواب منا على أن يجيب به الولاية العامة وينتظر ما يكون منها.
...
[صورة: مدخل الجامع الكبير بعاصمة قسنطينة، وكان الإمام ابن باديس يعلم فيه في أول الأمر كتاب "الشفاء" للقاضي عياض ثم منعه المولود بن الموهوب، وهو واقع في نهج العربى بن مهيدي- قسنطينة](3/193)
هذا ما نذكره اليوم حكاية لتاريخ قيامنا بالتعليم وإثباتا لما سئلنا عنه وما أجبنا به مكتفين به حتى نرى ما ينتهي إليه الأمر في هذه المسألة التي ليست مسألة عبد الحميد بن باديس ولكنها مسألة التعليم الديني واللساني للمسلمين. ومسألة مائة طالب أو يزيدون جاءوا من العمالات الثلاثة لقسنطينة هذه الأيام ومسألة نحو الألفين من سكان قسنطينية ونواحيها يمتليء بهم الجامع الأخضر كل ليلة في مجلس التذكير.
ومن واجب الحق على أن أذكر هنا ما شاهدته من تروسيل الكاتب العام من أدب ولطف وحرص على ألا يتعرض لدروسنا بسوء فأنا أشكره بلسان العلم وطلابه شكر من يقدرون أقدار الرجال ولا يخافون إلا الله.
عبد الحميد بن باديس
__________
الصراطـ السوي: السنة الأولى العدد 7 قسنطينة يوم الإثنين 11 رجب 1352هـ الموافق لـ: 30 أكتوبر 1933م، ص 6، ع 1 و2 و3(3/194)
الدروس العلمية الإسلامية بقسنطينة
يوم السبت 2 رجب 1352 و 21 أكتوبر 1933م تفتح- إن شاء الله تعالى- الدروس العلمية الإسلامية بقسنطينة التي يقوم بها جماعة من علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
تشتمل الدروس على التفسير للكتاب الحكيم وتجويده وعلى الحديث الشريف وعلى الفقه في المختصر وغيره وعلى العقائد الدينية وعلى الآداب والأخلاق الإسلامية وعلى العربية بفنونها من نحو وصرف وبيان ولغة وأدب وعلى الفنون العقلية كالمنطق والحساب وغيرهما.
تعطى للطلبة المحاويج إعانة من الخبز ويسكنون في بعض المساجد.
يجعل على كل جماعة من الطلبة عريف يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم.
يشترط في كل تلميذ أن يكون حافظا للقرآن العظيم أو لبعضه كربعه على الأقل، وأن لا يتجاوز سنه- إذا كان مبتدئا لم تتقدم له القراءة- خمسا وعشرين سنة وأن يأتي- إذا كان جديدا بكتاب من كبير بيته أو عشيرته للتعريف به.
وينبغي للطالب أن يأتي معه بفرشه وغطائه.
فندعو من فيهم استعداد وعندهم رغبة إلى الإقبال على العلم والرحلة في سبيله والله نسأل لنا ولهم التيسير والتوفيق وعمل الخير لوجه الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من عبد الحميد بن باديس
__________
الصراطـ السوي: السنة الأولى العدد 4 قسنطينة يوم الإثنين 19 جمادى الثانية 1352هـ- 9 أكتوبر 1933م ص 3 - ع 3.(3/195)
مقررات المجلس الإداري
لجمعية العلماء المسلمين الجزائريبن
الذي انعقد في آخر رجب الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قرر تقديم هذين المطلبين التاليين- برقيا- للوالي العام ووزير الداخلية ورئيس الوزارة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ.
المطلب الأول:
بما أن المساجد كانت في القطر الجزائري مفتوحة في وجوه العلماء للوعظ والإرشاد وتعليم مبادئ الدين الإسلامي وبما أن هذه الحالة بقيت بعد الاحتلال على ما كانت عليه قبله ولم يقع فيها تغيير مدة قرن كامل وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أهم غاياتها الوعظ والإرشاد وأن القيام بهذا المهمة لا يكون إلا في المساجد وبما أن قرار عامل عمالة الجزائر أحدث اضطرابا شديدا في أفكار المسلمين الذين اعتبروه مسّا بحريتهم الدينية.
فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطلب بكل إلحاح وبكل احترام فتح المساجد في وجوه الوعاظ والمرشدين بدون إلجائهم إلى طلب إذن خاص.
المطلب الثاني:
بما أن تعليم أولاد المسلمين الجزائريين باللغتين العربية والفرنسية(3/196)
من آكد الضروريات ومن أعظم الواجبات وبما أن تعليم الفرنسوية في المدارس والمكاتب الدولية من الأمور التي تباشرها الحكومة بمقتضى القوانين والتراتيب الجاري بها العمل وبما أن تعليم العربية من فروع التعليم الديني ولا يمكن المسلم أن يتعلم علوم دينه بدونها- وبما أن الحكومة ليس في وسعها أن تقوم بالمدارس الفرنسوية والمدارس العربية في آن واحد وأن الأمة الجزائرية تكتفي من الحكومة بأقل ما يمكن من الإعانة والمؤازرة والتشجيع وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أسمى غاياتها نشر التعليم بكافة أنواعه والسعي في تعميمه بجميع الوسائل والطرق.
فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطلب من الحكومة ترك الحرية التامة للمسلمين الجزائريين في فتح الكتاتيب القرآنية والمكاتب العربية الحرة وأن تقف إزاء القائمين بهذه المشاريع موقف المؤيد المساعد.
رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس
__________
الصراط السوي: السنة الأولى العدد 11 قسنطينة يوم الاثنين 6 شعبان 1352 هـ الموافق لـ: 27 نوفمبر 1933م ص: 8، ع 1 - 2.(3/197)
الدروس العلمية بالجامع الأخضر بقسنطينة
بانتهاء هذه السنة الدراسية أنهينا- بحمد الله- إحدى وعشرين سنة في التعليم. وامتازت هذه السنة عن سابقاتها بشيئين الأول قدوم الطلبة من العمالة الوهرانية فتم بهم تمثيل الطلبة للجزائر كلها، والثاني مشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بما استطاعته من الإعانة لصندوق الطلبة فكان ذلك أول خطوة خطتها الجمعية لغايتها الكبرى وهي تأسيس كلية علمية للعلوم الإسلامية وما هؤلاء المجتمعون من العمالات الثلاث إلا نواة لذلك المشروع العظيم حقق الله فيه الآمال.
فلهذا كله رأينا أن ننشر البيانات التالية عن الطلبة في هذه السنة على الأمة الجزائرية المسلمة إدخالا للسرور على قلوبها، وبعثا للنشاط فيها، لتقوم بما يفرضه عليها دينها من إيجاد من يحفظ عليها علوم الإسلام، إذ لا بقاء له إلا ببقاء علومه ولا بقاء لعلومه إلا بوجود من يتملكها ويعلِّمها:
أسماء الطلبة وبلداتهم
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
محمد الصالح بن عمر اليدري ........... سيدي مران .............. قسنطينة
المولود الفتحي ......................... ميلة ..................... قسنطينة
الحفصي الفتحي ......................... ميلة ..................... قسنطينة
عبد الله بن محمد ....................... ميلة ..................... قسنطينة
عبد الكريم الهباشي ...................... قرارم ..................... قسنطينة(3/198)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
رابح بن عيسى الهباشي .................. قرارم .................. قسنطينة
النوار المغزيلي .......................... قرارة .................. قسنطينة
احمد بن عمار المباركي .................. قرارة .................. قسنطينة
احمد بن مكي المباركي .................. قرار .................. قسنطينة
مصطفى بن الاقراني .................... قرارة .................. قسنطينة
الطاهر الزواغي ........................ زغاية .................. قسنطينة
كبيشي العربي ......................... الطهير .................. قسنطينة
داوود عمر ............................ الطهير .................. قسنطينة
بو البرهان محمد ...................... الطهير .................. قسنطينة
اسويعد محمد ......................... الطهير .................. قسنطينة
بو معيزة بلقاسم ....................... اليلية .................. قسنطينة
زويكري على ......................... اليلية .................. قسنطينة
مرحوم علي .......................... اليلية .................. قسنطينة
دليعو مسعود ......................... اليلية .................. قممنطيئة
بو شعلى مصمو ..................... اليلية .................. قسنطينة
حماني احمد ......................... اليلية .................. قسنطينة
حماني الصادق ...................... اليلية .................. قسنطينة
حماني مسعود ........................ اليلية .................. قمشطينة
الدمس احمد ......................... اليلية .................. قسنطينة
حمروش احمد ....................... اليلية .................. قسنطينة
بو عمامة اسماعيل ................. الميلية .................. قسنطينة
عبادة محمد ......................... اليدية .................. قسنطينة
بو صبيعة عمار .................... التل .................. قسنطينة
بو ضفة محمد ...................... التل .................. قسنطينة(3/199)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
جوامع اسماعيل ........................ التل ...................... قسنطينة
كافي البشير ........................... الحروش .................. قسنطينة
يحياوي البشير ........................ الحروش .................. قسنطينة
يحياوي عبدالحميد ..................... الحروش .................. قسنطينة
ابن عيش المولود ...................... عزابة ...................... قسنطينة
المكي المعاوي ......................... الركنية ..................... قسنطينة
الطاهربن يخلف ...................... فج امزالة .................. قسنطينة
محمد بن الشيخ المطيش .............. فج امزالة .................. قسنطينة
الشوارفة محمد ....................... فج امزالة (1) ............. قسنطينة
عبد المجيد بوشمال .................... قالمة ...................... قسنطينة
ابن حافظ محمد العربي .............. العثمانية .................. قسنطينة
طرش عبدالكريم ..................... الخروب .................. قسنطينة
مسعود الريفي ....................... كولبير (2) .............. قسنطينة
ابن الساهل الدراجي ................. كولبير .................. قسنطينة
بريعي البشير ....................... كولبير .................. قسنطينة
السعيد بن مخلوف .................. كولبير .................. قسنطينة
جريوي النور ........................ ساطارنو (3) ........... قسشطينة
قرقور المسعود ........................ ساطارنو ................. قسنطينة
جريوي ابراهيم ....................... ساطارنو ................ قسنطينة
الدراجي بن الرقيق .................. شاطودان (4) ........... قسنطينة
__________
(1) ويسمى فرجيو.
(2) عين أولمان.
(3) وهو العلمة الآن.
(4) كان يسمى بسوق الخميس قبل الاحتلال الفرنسى.(3/200)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
فرعيشي سعدون ........................ شاطودان .................... قسنطينة
دباش الصالح ......................... شاطودان .................... قسنطينة
احمد بن حمو ........................... شاطودان .................... قسنطينة
عشاشة السماتي ........................ سطيف ...................... قسنطينة
عشاشة بو زيد .......................... سطيف ...................... قسنطينة
عقون عبد الكريم ...................... برج بوعريريج ................ قسنطينة
سماعي محمد ......................... برج بوعريريج ................ قسنطينة
عمر بن دردور ......................... اريس (1) ................... قسنطينة
زموري محمد الصالح ................... اريس ........................ قسنطينة
ابن حايد بن معراف .................... اريس ........................ قسنطينة
بادي الخضر ......................... اريس ........................ قسنطينة
صالحي محمد الرشيد .................. اريس ........................ قسنطينة
صالحي الامين ........................ اريس ........................ قسنطينة
شرفي اسماعيل ........................ اريس ........................ قسنطينة
لعروسي محمد ........................ اريس ........................ قسنطينة
محمد الدراجي ........................ بريكة ........................ قسنطينة
بوط عيسى .......................... بريكة ........................ قسنطينة
بوط عمر ............................ بريكة ........................ قسنطينة
بوط الحاج بن محمد ................. بريكه ........................ قسنطينة
زيور عمر ........................... بريكه ........................ قسنطينة
يحيى عيسى بن محمد ............... بريكه ........................ قسنطينة
ابو علي الشريف محمد ............... بريكه ........................ قسنطينة
__________
(1) أريس قرية بجبل أوراس.(3/201)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
موهوب محمد .......................... بريكه .................... قسنطينه
عياش الحاج ابراهيم ................... وادي الزناتي ............. قسنطينة
هذلي محمد البشير .................... وادي الزناتي ............. قسنطينة
دبابي النذير .......................... السيلة ..................... قسنطينة
اكبير علي بن محمد .................. السياة .................... قسنطينة
الديلمي محمد ......................... مروانة ................... قسنطينة
جماتي اسماعيل ....................... مروانة .................. قسنطينة
وزاني اسماعيل ........................ مروانة .................. قسنطينة
وزاني محمد ........................... مروانة .................. قسنطينة
سهالي ادريس ......................... مروانة .................. قسنطينة
سهالي الحسين ....................... عين القصر ............. قسنطينة
ابن سخرية الصالح .................. عين التوتة ............... قسنطينة
ابن سخرية بلقاسم ................... عين الموتة ............... قسنطينة
اسماعيل بن علي .................... عين البيضاء ............. قسنطينة
عبد الحميد بوقيرة ................... عين البيضاء .............. قسنطينة
الحسين بن الوردي .................. خنشلة ................... قسنطينة
عبد الرحمن بن عبد الله ............. خنشلة ................... قسنطينة
عمار بن الطيب .................... خنشلة ................... قسنطينة
الوردي بن علي .................... خنشلة .................... قسنطينة
ابراهيم بن علي .................... مسكيانة ................... قسنطينة
الحسين بن محمد الصغير ......... مسكيانة .................... قسنطينة
العربي بن الحنفي ................. مسكيانة .................... قسنطينة
مصباح بو لخراص ................ ام البواقي ................... قسنطينة
الفضيل الورتلاني ................. بوقاعة- لفييط ............. قسنطينة(3/202)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
عدلي احمد ............................. الجزائر .................. الجزائر
ميمون محمد ............................ الجزائر .................. الجزائر
صادق رابح ............................. الجزائر .................. الجزائر
يعيش عاشور احمد ..................... البليدة .................... الجزائر
زروالي محمد ........................... البليدة .................... الجزائر
بليل محصد ............................ البليدة .................... الجزائر
العربي محمد ........................... البليدة .................... الجزائر
غريسي عمر ........................... البليدة .................... الجزائر
بكاير محمد ............................. بو مدفع ................. الجزائر
مهم يحى ............................... بوفريك ................... الجيزائر
بلعربي محمد ........................... بيرتوتة ................... الجزائر
ابن حميده أحمد ........................ دلس ..................... الجزائر
هني عده الجيلالي ..................... الأصنام .................. الجزائر
__________
عمالة وهران
__________
محمد بن ابراهيم مولود ................. وهران ..................... وهران
بختاوي حمزة .......................... صبرة ...................... وهران
ابن عربية عبد الله .................... مزقرين ..................... وهران
بجاوي علي برج ...................... طولقة ...................... قسنطينة
محمود بن عبدالله .................... القنطرة ...................... قسنطينة
احمد بن صالح بن ذياب ............ القنطرة ....................... قسنطينة
محمد الشريف بن احمد .............. القنطرة ....................... قسنطينة
عبد الرحمن بن محمد ................ القنطرة ....................... قسنطينة
السعيد بن الطاهر .................... بسكرة ....................... قسنطينة(3/203)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
المسعود بن علي ........................ بسكرة .................. قسنطينة
محمدبن احمدالنصوري .................. غسيرة .................. قسنطينة
الوردي بن الحاج التركي ................. بسكرة ................. قسنطينة
غريبي الصالح .......................... بوقاعة لفيبط .......... قسنطينة
ابن جدو البشير ......................... بوقاعة لفييط .......... قسنطينة
بو عمامة مسعود ........................ بوقاعة لفييلى ......... قسنطينة
بو دير الصالح ......................... بوقاعة لفييط ......... قسنطينة
مصباح حمود .......................... بوقاعة لفييط .......... قسنطينة
شطاب علي ........................... بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
ارمران الصالح ......................... بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
شربال عبد الله ......................... بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
اَيت حمودي محمد ..................... بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
خزناجي الصالح ....................... بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
المفاغي بلقاسم ........................ بوقاعة لفييط ............ قسنطينة
شعيبي عبد الله ........................ بوقاعة لفييط ........... قسنطينة
كريس بلقاسم .......................... قنزت ................... قسنطينة
شبون محفوظ ......................... صدوق .................. قسنطينة
عباس لونيس ........................ صدوق ................... قسنطينة
موهوبي ابراهيم ...................... وادي اميزور .............. قسنطينة
باره محمد أكلي ...................... وادي اميزور .............. قسنطينة
زرقيني عبد القادر ................... وادي اميزور .............. قسنطينة
بوزوينة محمد ....................... وادي اميزور ............... قسنظينة
سالم محمد .......................... وادي اميزور ............... قسنطينة
عبد الوهاب الصادق ................ وادي اميزور ............... قسنطينة(3/204)
_____________________________________________
الإسم ................................... البلد .................... العمالة
_____________________________________________
شنتير علي ............................. آقبو ..................... قسنطينة
تركي العربي ............................ آقبو ..................... قسنطينة
لحضيري محمد ......................... آقبو ..................... قسنطينة
ابن عيسى العربي ....................... ميشلي (1) ............. قسنطينة
بوشاشي محمد .......................... قسنطينة ................ قسنطينة
اَيت العربي محمد ....................... قسنطينة ................ قسنطينة
__________
عمالة الجزائر
__________
جلولي محمد ........................... الجزائر ................... الجزائر
ماديو عبد الرصمن ..................... الجزائر ................... الجزائر
بشور خالد ............................. الجزائر ................... الجزائر
دراجي محمد ........................... الجزائر ................... الجزائر
آمقران محمد ........................... الجزائر ................... الجزائر
احمدبن عبد الحفيط .................... الخنقة .................... قسنطينة
ابو القاسم بن رواق ..................... طولقة .................... قسنطينة
عمار بن الجودي ....................... غسيرة .................... قسنطينة
ابن عيسى محمدبن عبدالرحيم ........... بو سعادة ................. قسنطينة
بو عراطة احمدبن بلقاسم ................ قسنطينة ................. قسنطينة
عمار احمد بن يحيي .................... قسنطينة ................. قسنطينة
ابن سي عيسى عبدالكريم ................ قسنطينة ................. قسنطينة
__________
العرفاء
__________
الفضيل الورتلاني ................ على القبالل
__________
(1) عين الحمام(3/205)
__________
محمد الدراجي ................ على بريكة وأولاد دراج
محمد الملياني ................ على عمالتي الجزائر ووهران
بجاوي علي .................. على الصحراويين
بلقاسم الزغداني .............. على البيضاء وخنشلة
محمد دردور ................. على أوراس
اسماعيل الحيدوسي ......... على باتنة والتوتة
السعود الريغي .............. على الخميس وسطيف والبرج
العربي كبيش ............... على الميلية وجيجل
كافي البشير ............... على الحروش والسكيكدة وعزابة
صالح اليدري ............. على ميلة ونواحيها
__________
المعينون
__________
الفضيل الورتلاني، بلقاسم الزغداني، محمد الملياني، عيسى الدراجي، محمد الدراجي.
__________
أمين الصندوق
__________
السيد حسين بن شريف، وهو أمين مالية جمعية العائلات الكبير وجمعية التربية والتعليم وغيرهما.
__________
أطباء الطلبه المتبرعون
__________
الدكتور بن جلول، الدكتور ابن الموفق، الطبيب زرقين طبيب الأسنان.
__________
من المحسنين
__________
السيد ابن جلول محمود الطباخ فقد كان نحو الخمسين تلميذا(3/206)
يتناولون غذاء خبزهم في مطبخته، السادة بو لحبال، زعيتر محمد بو رغيدة علي الكواوشة، فقد كانوا معتنين بالتلامذة مساعدين في ثمن الخبز والعمل.
أهل بسكرة وضواحيها أرسلوا نحو ثلاثين خيشة من التمر.
السيدان الحاج المربي وعمر أبناء مغسولة خصصا في مسجدهما سيدي بو معزة القسم الأعلى لسكنى الطلبة.
__________
صندرق الطلبة، دخله وخرجه
__________
..................................... الخروج .............. سنتيم فرنك
كراء المأوى لثمانية أشهر ............. الشهر250 ......... 2000
مصاريف الدخول .......................................... 350
كتابة عقد الكراء ............................................ 50، 76
كونتور الكهرباء (1) ......................................... 89
اصلاح خيوط الكهرباء ...................................... 5، 75
اصلاح بنائي ............................................... 50، 9
ضوء المأوى ................................................ 20، 310
فرش حلفاء بو طالبية ....................................... 50، 554
بياض مسكن الطلبة سيدي بو معزة .......................... 50، 42
زجاج الطاقة وإصلاح الطاقة (2) ............................ 50، 20
قرمود ....................................................... 15
كهرباء ...................................................... 200
__________
(1) العدّاد.
(2) النافدة.(3/207)
__________
........................................................................... سنتيم فرنك
مرافع للكتب في بيت الجامع الأخضر ..................................... 250
خبز شهر رجب وشعبان 2745 كيلو ....................................... سعر 180 1 494
سبعون قنطار قمح ......................................................... سعر 7700110
عشرة قناطر ................................................................ سعر 1200120
خمس قناطر ................................................................ سعره ر 50117 ر 587
............................................................................. جمع منقول 25 ر 18403
شكاير ضروف (1) ......................................................... 150
شكاير ملح .................................................................. 25
غربلة ورحى وعجن وطيابأ3) ............................................... 60 ر 3126
خبز بسبب تمطل الرحي مرات .............................................. 50 ر 118
350 كيلو دقيق .......................................................... .. ر 353
يراخ للربيع ................................................................ 90 ر 216
عشساء عاشوراء ........................................................... .. ر 169
فطائر على مرات .......................................................... 50 ر 6 كس
أدوية ....................................................................... 135
اعانات خماصة ............................................................ 500
مصاريف متفرقة ............................................................ 200
دين بقي من السنة الماضية ................................................. 4000
............................................................................ 75 رهـ277
__________
(1) هى الأكياس، جمع كيس.
(2) طبخ.(3/208)
__________
الدخل
__________
............................................................................................ سنتيم فرنك
اعانة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ................................................... 1500
من ثمن تمر أرسله أهل بسكرة وضواحيها ................................................... 1400
من بيع النخالة ............................................................................. 233
من السيد الحنفي التاجر بباتنة .............................................................. 1000
من السيد حميش التاجر بقسنطينة ............................................................ 1000
من السيد أحمد توفيق المدني ................................................................ 500
............................................................ جمع منقول ................... .. ر 5633
من جماعة السادة الميزابيين ببسكرة .......................................................... 500
من محسن من القل ......................................................................... 300
من السيد محمد بن محبوب ببسكرة .......................................................... 100
من السيد الحفناوي محمد الصالح ببسكرة .................................................... 100
من السيد مبارك الحمدي ببسكرة ............................................................ 150
من السيد عمر الموهوب، الجزائر .......................................................... 200
من السيد الزاوي الحاج، الجزائر ............................................................ 200
من السيد اسماعيل بو شمال ............................................................... 50
من السيد السعيد بن حافط ................................................................. 50
من السيد توام شعبان ..................................................................... 300
من السيد عبد الله ......................................................................... 50
من السيد الحاج عمر بن العموشي ........................................................ 20
من السيد ابن اسماعيل مسعود ............................................................ 500
من السيد الحاج بلقاسم بن فاضل ......................................................... 500
من السيد الحاج الخلفة ................................................................... 500
من السيد عمر بن السعيد بن جيكو ....................................................... 500(3/209)
__________
........................................................................................... سنتيم فرنك
من السيد محمد دمغ ........................................................................ 100
من السيد احمد بن الحاج سعيد ............................................................. 1000
من السيد علي النجار ...................................................................... 50
من السيد سليمان بن جبارة ................................................................. 50
من السيد عبد السلام الكاتب ............................................................... 50
من السيد سليمان بن عبد السلام ........................................................... 200
من السيد رابح بن مصطفى ................................................................ 20
من السيد الحاج محمد بن الشهيب ......................................................... 10
من السيدعبدالكريم بو لكروع ............................................................... 25
من السيد ابن موسى بو بكر .............................................................. 20
من السيد الحاج الطاهر بو لهروم ......................................................... 40
من السيد الحاج عبد الرحمن بن الامين ................................................... 100
من السيد احمد بن عليوه ................................................................. 50
من السيد بو ربونة ....................................................................... 100
من السيد محمد بن زيدان ................................................................ 25
من السيد السعيد بن العابد ............................................................... 15
من السيد الحاج حسونة بن الحاج مصطفى ............................................. 200
من السيد ابن بو شريط محمد الشريف ................................................... 300
من السيد الحاج الصالح بن الحاج حسين ................................................ 100
من السيد عبد الكريم بن شندارلي ........................................................ 50
من السيد الحاج علاوة بن يمينة ......................................................... 200
من السيد الحاج حسونة دمغ ............................................................ 200
من السيد بوشاشي محمد الطيب ........................................................ 100
من السيد يحيى واحمد .................................................................. 100(3/210)
__________
........................................................................................... سنتيم فرنك
من السيدعمر بن جياكو ................................................................... 200
من السيد الحاج الصديق بن زكري ......................................................... 500
من السيد بو تميرة ......................................................................... 30
من السيداسماعيل بن الحاج علي .......................................................... 25
من السيمد محمد امزيان ابن حمادي ........................................................ 150
من السيد الوالي بن محمد .................................................................. 20
من السيمد احمد الشرقي ................................................................... 30
من السيد الحاج صالح مراب! ............................................................. 40
من السيد الزواوي السعيد بن المربي ....................................................... 20
من السيد السعيد العربي .................................................................. 100
من السيد الزواوي ........................................................................ 10
من السيدحسين بن شربف ................................................................ 100
من السيد الحاج محمد بن سميرة .......................................................... 1000
........................................................................ مجموع الدخل .... .. ر1400788
__________
طرح الدخل من الخرج
__________
الخرج ........................................................................ 75 ر673 - 27
الدض ........................................................................ .. ر 788 - 14
................................................................................ 75 ر885 - 12
فبقي دينا على صندوق الطلبة: 75 ر885 ر 12(3/211)
رجاء
يرجو صندوق الطلبة من الله ثم من أهل البر والإحسان أن يفكُّوه من دينه ويزودوه للسنة الآتية ومن أراد الإحسان إلى صندوق الطلبة فليكن ذلك إلى أمين صندوقهم بهذا العنوان:
BEN CHARIF HASSINE
Propriétaire 3 Rue Hackett,3
CONSTANTINE
رسوم (1) التلامذة
وها أننا ننشر فيما يلي: رسوم التلامذة- ورسم التلامذة الجزائريين المزاولين لدروس العلم بجامع الزيتونة- عمره الله- لأن الجميع يرمون إلى غاية واحدة وهي النهوض بالأمة الجزائرية نهضة أخلاقية على أساس الدين والعلم على نور الكتاب والسنة وهدى صالحي سلف الأمة حفظهم الله بتوفيقه وتسديده وكان لهم وليا ونصيرا (2).
__________
(1) صور.
(2) ش: ج 8، م 0 1، ص 2 35 - 9 36 غرة ربيع الثانى 1353هـ - جويلية 1934م.(3/212)
[صورة: جماعة العرفاء: الأستاذ عبد الحميد بن باديس يتوسط المجالسين من اليمين: بلقاسم الزغداني، علي البجاوي، محمد الملياني، الفضيل الورتلاني، محمد الدراجى، صالح البدري. الواقفون من اليمين: محمد دردور، مسعود الريفي، إسماعيل الحيدوسي، العربى كبيش، كافي البشير.]
...
[صورة: فى الوسط الأستاذ عبد الحميد بن باديس والمجالسون من اليمين: عيسى الدراجي، محمد الدراجي، الفضيل الورتلانى، بلقاسم الزغداني](3/213)
[صورة: طبقة الأجرومية]
...
[صورة: طبقة السعد](3/214)
[صورة: طبقه المكودي]
...
[صورة: طبقة القطر](3/215)
[صورة: عامة لجميع الطلبة]
...
[صورة: التلامذة الجزائريون بجامع الزيتونة عمره الله](3/216)
صلاح التعليم أساس الإصلاح
-1 -
لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإنّما العلماء من الأمّة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كلّه وإذا فسد فسد الجسد كلّه، وصلاح المسلمين إنّما هو بفقههم الإسلام وعملهم به وإنّما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم.
ولن يصلح العلماء إلاّ إذا صلح تعليمهم. فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه.
ولن يصلح هذا التعليم إلاّ إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته فيما كان يعلم - صلى الله عليه وآله وسلم- وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم أنّه قال: «إنّما بعثت معلما» (2)، فماذا كان يعلم وكيف كان يعلم.
كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يعلم الناس دينهم من الإيمان والإسلام والإحسان كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم- في جبريل في الحديث المشهور: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم»(3/217)
وكان يعلمهم هذا الدين بتلاوة القرآن عليهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. وبما بيَّنه لهم من قوله وفعله وسيرته وسلوكه في مجالس تعليمه وفي جميع أحواله فكان الناس يتعلمون دينهم بما يسمعون من كلام ربهم وما يتلقون من بيان نبيهم، وتنفيذه لما أوحى الله إليه وذلك البيان هو سنته التي كان عليها أصحابه والخلفاء الراشدون من بعده وبقية القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية من التابعين وأتباع التابعين.
وإذا رجعت إلى موطأ مالك سيد أتباع التابعين فإنّك تجده في بيان الدين قد بنى أمره على الآيات القرآنية وما صح عنده من قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفعله، وما كان من عمل أصحابه الذي يأخذ منه ما استقر عليه الحال آخر حياته. لأنّهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره. وكذلك إذا رجعت إلى كتاب الأمّ لتلميذ مالك الإمام الشافعي فإنّك تجده قد بنى فقهه على الكتاب وما ثبت عنده من السنة.
وهكذا كان التعلم والتعليم في القرون الفضلى مبناها على التفقه في القرآن والسنة، روى ابن عبد البر في الجامع عن الضحاك في قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، قال الضحاك: "حق على كلّ من تعلم القرآن أن يكون فقيها". وروى عن عمر -رضي الله عنه- أنّه كتب إلى أبي موسى -رضي الله عنه-: "أمّا بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية". وقال الإمام ابن حزم في كتاب الإحكام، وهو يتحدث عن السلف الصالح كيف كانوا يتعلمون(3/218)
الدين: "كان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة -يعني القرون الثلاثة- يطلبون حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه عليه السلام عملوا به واعتقدوه". ومن راجع كتاب العلم من صحيح البخاري ووقف على كتاب جامع العلم للإمام ابن عبد البر عصري ابن حزم وبلديه وصديقه، عرف من الشواهد على سيرتهم تلك شيئا كثيرا.
هذا هو التعليم الديني السني السلفي، فأين منه تعليمنا نحن اليوم وقبل اليوم، بل منذ قرون وقرون؟ فقد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله، ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك. ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلم الدين والتفقه فيه، ولا منزلة السنة النبوية من ذلك. هذا في جامع الزيتونة فدع عنك الحديث عن غيره ممّا هو دونه بعديد المراحل.
فالعلماء -إلاَّ قليل منهم- أجانب أو كالأجانب من الكتاب والسنة من العلم فهما والتفقه فيهما. ومن فطن منهم لهذا الفساد التعليمي الذي باعد بينهم وبين العلم بالدين وحملهم وزرهم ووزر من في رعايتهم لا يستطيع -إذا كانت له همة ورغبة- أن يتدارك ذلك إلا في نفسه. أمّا تعليمه لغيره فإنّه لا يستطيع أن يخرج فيه عن المعتاد، الذي توارثه عن الآباء والأجداد رغم ما يعلم فيه من فساد وإفساد.
ونحن بعد أن بينَّا تعليم الدين من سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن عمل السلف الصالح من أهل القرون الفاضلة المحمودة، ومنهم إمامنا إمام دار الهجرة مالك، فإنّنا عقدنا العزم على(3/219)
إصلاح التعليم الديني في دروسنا حسب ما تبلغ إليه طاقتنا إن شاء الله تعالى. وسننشر ما يكون من ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله عليه توكلنا وعليه فليتوكل المؤمنون (1).
-2 -
قد ذكرنا في المقال السابق ما كان عليه التعليم الديني في عهد السلف الصالح من التفقه في الدين بالتفقه في القرآن والأحاديث النبوية، وذكرنا الحالة التي انتهى إليها في عصرنا من هجر القرآن والسنة، والاقتصار على الفروع العلمية المنشرة دون استدلال، ولا تعليل، واستشهدنا على ذلك بحالتنا نحن أنفسنا لما أخذنا شهادة العالية من جامع الزيتونة- عمره الله- بدوام ذكره. ونريد أن نذكر اليوم أن هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها ومعرفة مآخذها، هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه، بل كان داء عضالا فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس. ونحن ننقل فيما يلي كلام إمامين عظيمين من أئمة الأندلس المتبعين لمالك رحمه الله.
قال الإمام عمر بن عبد البر المتوفى سنة 493هـ في (جامع بيان العلم وفضله): "واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب، فيصار إليه ويعرف أصول القول وعلته، فيجري عليه أمثلته ونظائره، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا كما شاء الله ربنا، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان، ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على
__________
(1) ش: ج 11، م 10، ص 478 - 481 رجب 1353هـ - 10 أكتوبر 1934م.(3/220)
معناها، وأصلها، وصحة وجهها، فكأنه خالف نص الكتاب وثابت السنة ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك. وكم وكم لهم من خلاف في أصول مذهبه مما لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره ولتقصيرهم في علم أصول مذهبهم، صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داوود ابن علي، أو غيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال: هكذا قال فلان، وهكذا روينا، ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته، فإن عأرضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول:
شكونا إليهم خراب العراق … فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى … أريها السُّها وتريني القمر
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد البلوطي:
عذيري من قوم يقولون كلما … طلبت دليلا، هكذا قال مالك
فان عدت قالوا: هكذا قال أشهب … وقد كان لا تخفى عليه اسمالك
فان زدت قالوا: قال سحنون مثله … ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا … وقالوا جميعا: أنت قرن مماحك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم … أتت مالكا في ترك ذاك المسالك
هذا إمام من أئمة الإسلام العظام المجمع على إمامتهم وعدالتهم، ومن أعظم المتبعين لمالك الآخذين بمذهبه، وها هو يشكو مرَّ الشكوى مما كان عليه أهل بلدة الأندلس في القرن الخامس وينعي عليهم ما انفردوا به هم، وأهل الغرب من الجمود والتقليد، وحملهم للروايات المختلفة دون معرفة وجوهها، ومخالفتهم لأصل مذهب الإمام الذي ينتسبون إليه، وعدولهم عن النظر والاستدلال المأمور بهما كتابا وسنة المعمول بهما عند جميع الأئمة إلى الاحتجاج بفضل القائل(3/221)
وعلمه، والاجماع على أنه قد يصيب المفضول، ويخطى الأفضل، ورحم الله عمر بن الخطاب في قوله: "امرأة أصابت ورجل أخطأ" واستشهد ابن عبد البر بأبيات القاضي منذر بن سعيد البلوطي المولود سنة 265 المتوفي سنة 355 - لتبيين قدم هذا الداء في الأندلس وشكوى العلماء الأعلام منه وإنكارهم على أهله.
وقال الإمام ابن العربي الأندلسي المتوفي سنة 543هـ في (العواصم) وهو يتحدث عن فقهاء عصره: "ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا: وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آل المئال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه، ويقال قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة: فانتقلوا من المدينة وفقائها إلى طلبيرة وطريقها".
فهذا الإمام العظيم قد عاب عليهم نظرهم في الحوادث بغير علم لأن ما عندهم من الفروع المقطوعة عن الأصول لا يسمى علما ولما لم تكن عندهم الأصول تاهوا في الفروع المنتشرة ومحال أن يضبط الفروع من لم يعرف أصولها، وذكر ما أدَّاهم إليه إهمال النظر، من الانقطاع عن أقوال مالك نمسه، وأمثاله إلى أمثالهم من الفروعيين التائهين الناظرين بغير علم.
فإذا كان الحال هكذا من تلك الأيام في تلك الديار وقد مضت عليه القرون في هذه البلاد وغيرها فإن قلْعه عسير، والرجوع بالتعليم إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر وأعسر، غير أن ذلك لا يمنعنا من السعي والعمل بصدق الرجاء وقوة الأمل، وسننفذه في دروسنا هذا العام والله المستعان (1).
__________
(1) ش: ج12، م10، ص 518 - 521 غرة شعبان 1353هـ - نوفمبر 1934م.(3/222)
ختم الدروس العلمية بالجامع الأخضر (1)
في أوائل هذا الشهر ختمت الدروس العلمية بالجامع الأخضر فجمع الأستاذ عبد الحميد بن باديس طبقات التلامذة الثلاث- وهم ينيفون على مائتين تلميذ- ليلقي عليهم كلمة الوداع ويزودهم بالوصايا النافعة فذكرهم بما بينه وبينهم من رابطة الأبوة والنبوة وما بينهم من رابطة الأخوة وما تقتضيه هذه الروابط من محبة مثمرة للأعمال الصالحة في الخدمة العامة، ومن دوام اتصال للتعاون على الخير، ومن تسامح بين الجميع،، ومن تناصح بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ثم حثهم على أن يمثلوا الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم حتى تظهر عليهم آثار ما كانوا فيه من غربة للتربية والتعليم فيحببوا الناس في العلم ويكونوا لهم قدوة فيه وفي العمل به.
وأوصاهم بنشر ما تعلموا من خير برفق ولطف وأن يكونوا مظاهر محبة ورحمة على ما قد يلقونه من جفوة من بعض الناس، وأن لا يقابلوا ذلك إلا بالتسامح دون أدنى شيء من المكروه. ثم قال لهم:
"اتقوا الله، ارحموا عباد الله، اخدموا العلم بتعلمه ونشره، وتحملوا كل بلاء ومشقة في سبيله، وليهن عليكم كل عزيز ولتهن عليكم أرواحكم من أجله. أما الأمور الحكومية وما يتصل بها فدعوها لأهلها وإياكم أن تتعرضوا لها بشيء".
__________
(1) رأينا نشر هذا المقال لأن مضمونه كلام لابن باديس وإن لم يكن بقلمه.(3/223)
وختم الاجتماع بالدعاء والابتهال، بما فيه صلاح الحال والمآل إن شاء الله تعالى.
ثم في المساء ودعهم الأستاذ واحدا واحدا فرجعوا إلى بلدانهم مزودين بالخير دعاة إليه فتح الله عليهم وفتح بهم إنه الفتاح العليم (1).
تحية وشكر: إلى أبنائي الطلبة:
وعليكم- السلام ورحمة الله وبركاته.
جاءتني كتبكم وأفادتني ما يسرني ويسر كل محب للعلم من استمراركم على الجد في مراجعته والترغيب فيه ونشر الهداية- كل بما استطاع- بين قومه وعشيرته وقد ضاق وقتي عن مكاتبتكم واحدا واحدا فكاتبتكم بهذا على صفحات مجلتكم شاكرا لكم حسن عهدكم وصدق مودتكم سائلا من الله تعالى أن يجمع قلوبنا على الحق وأعمالنا على الخير.
وسيكون افتتاح الدروس في منتصف شهر أكتوبر إن شاء الله كالمعتاد سهل الله لنا ولكم أسباب العلم النافع. ووفقنا وإياكم إلى العمل الصالح (2) ..
والسلام من أبيكم: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج4، م11، ص 265 غرة ربيع الثانى 1354هـ - 3 جويلية 1935م.
(2) ش: ج6، م11، ص 397 غرة جمادى الثانية 1354هـ - سبتمبر 1935م.(3/224)
تقرير في التعليم المسجدي
ألقاه الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه
التعليم المسجدي: أصل مشروعيته واستمرار العمل به:
المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام فما بنى النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم استقر في دار الإسلام، بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة، فلا إسلام بدون تعليم، ولهذه الحاجة مضى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على عمارة المسجد بهما، فما انقطع عمره كله عن الصلاة، وعن التعليم في مسجده، حتى في مرضه الذي توفي فيه. ثم مضى المسلمون على هذه السنة في أمصار الإسلام يقفون الأوقاف على المساجد للصلاة والتعليم، ومن أظهر ذلك وأشهره اليوم، الجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامع القرويين.
نوع التعليم المسجدي:
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه، يبين للناس ما نزل إليهم-، يفقههم في الدين، فما بيّن القرآن وما فقه في الدين فهو من التعليم الإسلامي وهو من التعليم المسجدي. ولما كان القرآن كتاب الإنسان من جميع نواحي الإنسان وكتاب الأكوان بما فيها من نعم(3/225)
وعبر وكتاب العمران بما يحتاج إليه العمران مما يصلح أحوال البشر وما يتصل بالبشر، وكتاب السعادتين الدنيوية والأخروية، كانت العلوم التي تخدم ذلك كله من علوم الإسلام ومن علوم المساجد. ولذا كانت مساجد الأمصار الإسلامية من أيام البصرة والكوفة إلى يومنا هذا مفتحة الأبواب، معمورة الأركان، بجميع العلوم وإذا خلت في العصر الأخير من بعضها، فذلك للتأخر العام وضعف المسلمين في أسباب الحياة.
الحاجة إليه:
الإسلام دين الله الذي يجمع بين السعادتين وإنما يسعدهما به من اعتقمد عقائده وتأدب بآدابه وارتبط بأحكامه في الظاهر والباطن من أعماله، ولا بد لهذا كله من التعليم الديني الذي محله المساجد وبدونه لا سبيل الذي محله المساجد وبدونه لا سبيل إلى شيء من هذا كله فصارت حاجة المسلمين إليه حاجتهم إلى الإسلام وصار إعراضم عنه، هو إعراض عن الإسلام وهجر له، ما انتهى المسلمون اليوم إلى ما انتهوا إليه إلا بذلك الهجر، وذلك الإعراض، ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل من إقامتهما بمسجده كما تقدم.
وجوب القيام به:
لما كانت الحاجة إليه عامة فوجوب إقامته، وجوب عام، على الأمة بجميع طبقاتها، ولا يسقط الوجوب عن أحد إلا إذا قام بالتعليم أهله، فكفوا الباقين. ومن الواجب على المتولي أمر العامة أن يبعث فيها من يعلمها أمر دينها كما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-(3/226)
يفعل فإذا قصر ذلك المتولي كان على الجماعة أن تقوم به فإن قصرت لحق الإثم كل فرد منها.
الحالة التي هو عليها:
إن الذي يراجع عقود الأحباس المسجدية يجد أكثر الذين أسسوا المساجد- وخصوصا مساجد الجمعية- حبسوا من الأملاك ما يصرف للتعليم فيها، كما حبسوا ما يصرف للقائمين بالصلاة. مما يدل على أن الأمة كانت تتلقى دينها في مساجدها وقد أدركنا بعض المساجد في بعض البلدان، وقد أبقي فيها بعض التعليم فقسنطينة- مثلا- أبقي فيها معلمان أحدهما بالجامع الكبير والآخر بالجامع الكتاني، وعطل الجامع الأخضر مع أنه مكتوب على لوحة تحبيسه أنه أسس للصلاة والتعليم حتى أذن لهذا العبد الضعيف بالتعليم فيه وكان في أول الأمر الذين يقومون بالتعليم في ذلك القدر القليل من المساجد في القليل من البلدان، يقومون بالتعليم الديني، من فقه وتوحيد وعربية للطلاب، وللعامة، بقدر الحال، ثم من نحو ثلاثين سنة صدر أمر اقتضى تبديل وضعية تلك البقية من التعليم المسجدي وخلعها من المعنى الديني وصبغها بصبغة غير صبغتها المسجدية، فقضى ذلك على البقية من التعليم المسجدي وأصبحت العامة وليس عندها من يعلمها أمر دينها وأصبح الطلاب وليس عندهم ما يدرسون فيه، ما يفقههم في الدين ويهيئهم للقيام بوظائفه على الوجه الصحيح المشروع. هذه هي الحالة اليوم في هذا القطر الجزائري الذي يسكنه من خمسة ملايين (1) من المسلمين اللهم إلا ما يقوم به بعض أفراد أكثرهم من رجال هذه الجمعية متطوعين، أو مع إعانة جماعة إعانة قليلة الجدوى غير مأمونة البقاء وأين يقع هذا القدر القليل من التعليم في ذلك العدد من الأمة ..
__________
(1) هذا فى سنة 1935(3/227)
كيف ينبغي أن يكون:
لا بد للجزائر من كلية دينية يتخرج منها رجال فقهاء بالدين يعلِّمون الأمة أمر دينها وأستطيع أن أقول أن نواة هذه الكلية هم الطلاب الذين يردون على الجامع الأخضر بقسنطينة من العمالات الثلاث- فلو أن الجمعية سعت لتوسيعها بترسيم معلمين ورعاية مدد المتعلمين ووضع خطة التعليم لقامت بأعظم عمل علمي ديني للأمة فيحاضرها ومستقبلها. ثم لا بد مع هذا من حث كل شعبة من شعب الجمعية على ترسيم مدرس للتعليم في مسجدهم إن كان لهم مسجد ثم تسعى الجمعية لدى الحكومة لترسم في كل مسجد من المساجد التي لنظرها مدرسا فقيها بالدين، ليعلم الناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، فكلية تخرج المعلمين الدينيين، ومعلمون في المساجد التي لنظر الحكومة والتي لنظر الجماعات تلك هي الحالة التي يجب أن تكون عليها الأمة الجزائرية المسلمة لتبقى مسلمة. أما كيف يكون التعليم وما هي الفنون التي تعلم والكتب التي يتعلم فيها فهو موضوع مستقل لا يحسن أن يتناوله بالبحث إلا لجنة من أهل العلم وسيكون ذلك إن شاء الله تعالى يوم تباشر الجمعية ما ذكرنا من أمر الكلية والتعليم في المساجد أعانها الله على القيام بهذا العمل العظيم ويسر لها أسبابه (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1354هـ ص 95 - 98.(3/228)
بيان عن الحركة العلمية بالجامع الأخضر ونفقاتها
الطبقات: أربعة.
عدد التلامذة: نحو الثلاثمائة.
العلوم التي تقرأ: التفسير، الحديث، الفقه، الفرائض، العقائد، الأدب، المواعظ، التجويد، الأصول، المنطق، النحو، الصرف، البلاغة، الأدب، محفوظات، ومطالعات، ودراسة، الإنشاء، الحساب، الجغرافية، التاريخ.
الكتب المدروسة: الموطأ، أقرب المسالك، الرسالة، ابن عاشر، الزندبوي، المفتاح، التنقيح، السلم، المكودي، القطر، الآجرومية، الزنجاني، اللامية، السعد، الجوهر المكنون، من ديوان الحماسة، من ديوان المتنبي، آمالي القالي، من مقدمة ابن خلدون.
المعلمون الشيوخ: عبد الحميد بن باديس، عبد الحميد بن الحيرش، حمزة بكوشة، المتخرجون من جامع الزيتونة المعمور. ومن كبار التلامذة الشيوخ: البشير بن احمد، عمر دردور. بلقاسم الزغداني.
النفقة:
لا تنقص يوميا عن ثلاثمائة فرنك مع ملحقات.
__________
البصائر: س1 عدد 47 - الجزائر يوم الجمعة 26 رمضان 1355هـ الموافق ليوم 11 ديصامبر 1936 م ص5.(3/229)
نداء وبيان إلى الأمة المسلمة الجزائرية
بالوطن وخارجه، وجميع المحبين: محبي الخير للمسلمين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (قرآن كريم) 9/ 123
«ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» (حديث شريف صحيح).
«والدال على الخير كفاعله» (حديث شريف صحيح)
«والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (حديث شريف صحيح)
أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم!
تالله لن تكون مسلما إلا إذا حافظت على الإسلام، ولن تحافظ عليه إلا إذا فقهته. ولن تفقهه إلا إذا كان فيك من يفقهك فيه. ولهذا فرض الله على كل شعب إسلامي أن تنفر منه طائفة لتتفقه في الدين وترجع إلى قومها بالإنذار، فبذلك يرجى لهم الرجوع إلى الله، وما هو إلا الرجوع من الضلال إلى الهدى ومن الباطل إلى الحق(3/230)
ومن الاعوجاج إلى الاستقامة. ومن الشقاوة إلى السعادة، ومن النقص إلى الكمال، وقد بين تعالى على لسان رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن طرق العلم هي طرق الجنة فمن سلك طريق هذا سهل له طريق ذاك. وبين أنَّ من دلَّ على مثل هذا الخير- بقوله أو عمله- فهو كمن فعله. وبين أن المعينين لإخوانهم في الخير يعينهم الله ومن أعانته لهم تيسير ذلك الخير عليهم إلى مثله من الخيري {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} ومن إعانته لهم التعويض عليهم عما أنفقوا بالعطاء المضاعف الكثير {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم
أما أبناؤك الشبان حملة القرآن فقد هبوا هبة رجل واحد لطلب العلم والتفقه في الدين، يحملون الإيمان في قلوبهم والقرآن العظيم في صدورهم، والروح الجزائرية المسلمة في لحومهم ودمائهم لا يقصدون إلا أن يتعلَّموا فيعلِّموا ويتفقَّهوا فيفقِّهوا، ولا يرجون من ذلك إلا رضا الله ونفع عباده.
وقد جاء منهم هذا العام إلى الجامع الأخضر بقسنطينة ما يناهز الثلاثمائة من جميع جهات القطر وذهب نحوهم- وأكثره من تلامذة الجامع الأخضر- إلى تونس.
وأما هذا العبد العاجز فإنه بفضل الله ثم بفضل كل معين في الخير، قد تقبل هؤلاء الكرام الوافدين والأبطال المتجردين وأقام لهم- مثل السنوات الماضية- ما يلزمهم من دروسهم وما استطاع(3/231)
من نفقاتهم وضم إليه من الشيوخ ومن كبار تلامذته من يعينه على تعليمهم. وأما أنت أيها الشعب الكريم- فإننا ندعوك بدعوة الله إلى مد يد المعرفة على هذا العمل الواجب العظيم ندعوكم لتمدوا صندوق هؤلاء الطلبة، بما استطعتم من خير. ونذكركم- وهذا معلوم عندكم من السنوات الماضية- أن صندوق الطلبة تتولاه لجنة من جمعية التربية والتعليم الإسلامية، فهي تضبط دخله وخرجه وتنشره على الناس. ونعرفكم أن أمين هذا الصندوق اليوم هو السيد كرماني الحاج حموش التاجر برحبة الجمال بقسنطينة.
KERMANI HADJ HAMOUCH
Propriétaire Commerçant
14 et 16 Rue Hakett Constantine
فهلموا إلى التعاون على البر والاحسان- أيها الأخوان- والله المستعان، والسلام عليكم (1).
من أخيكم عبد الحمببد بن باديس
__________
(1) البصائر: العدد 47، السنة الأولى، الجمعة 26 رمضان 1355هـ- 11 ديسمبر 1936م، ص 5، العمود1 و2 و3.(3/232)
لمن أعيش
ملخص محاضرة ألقاها عبد الحميد على أعضاء
جمعية التربية والتعليم الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الأخوة:
ينبغي لكل قوم جمعهم عمل أن يفهم بعضهم بعضا كما ينبغي أن يفهموا العمل الذي هم متعاونون عليه ليكونوا في سيرهم على بصيرة من أنفسهم وعملهم. فقد يجتمع قوم على عمل مع اختلاف منازعهم فيأخذ كل واحد ليجذب إلى ناحية فتقع الخصومة ما بينهم وينقطع حبل عملهم وربما انتهى بهم الأمر إلى افتراق وعدوان. ولو أنهم في أول الأمر تفاهموا، لما تخاصموا.
فنحن - أيها الاخوة - الذين اجتمعنا على التربية والتعليم من معلم ومتعلم يجب علينا أن يفهم بعضنا بعضاً. والمعلم هو الذي يجب أن يفهمه المتعلمون ويفهمهم هو في نفسه لأنه هو الذي انتصب ليبث فيهم أفكاراً وأخلاقاً وآداباً وهو مؤثر عليهم أثراً ما لا محالة، فمن واجب نصحه لهم أن يفهمه في نفسه لينظروا في قبول التأثر به فيستمرون معه، وعدم قبوله فيفارقونه، وليكون من قبلوا واستمروا مجتمعين على شيء قد فهموه واتفقوا على البقاء فيه والتعاون عليه.
وأنا أظن نفسي مفهوما عند من يتصلون بي مثلكم ولو كان ذلك في زمن قليل لأنني ما فتئت أعلن عن فكرتي التي أعيش لها وغايتي التي أسعى إليها في كل مناسبة. واليوم - وقد كان تباين ما في بعض(3/233)
من يتصلون بي- رأيت من الواجب أن ألقي عليكم هذا البيان مختصراً في سؤال وجواب ثم أقفّي عليه بشيء من الشرح والتفصيل:
س: لمن أعيش أنا؟
ج: أعيش للإسلام والجزائر.
قد يقول قائل: إنّ هذا ضيق في النظر، وتعصب للنفس، وقصور في العمل، وتقصير في النفع. فليس الإسلام وحده ديناً للبشرية، ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان ولأوطان الإنسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية، ولكل دين من أديانها حقه من الاحترام.
فأقول: نعم إن خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها، هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه، ولكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع.
ونحن لما نظرنا في الإسلام وجدناه الدين الذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها فيقول: (17/ 70) {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ويقرر التساوي والأخوة بين جميع تلك الأجناس ويُبَيّن أنهم كانوا أجناساً للتمييز لا للتفضيل وأن التفاضل بالأعمال الصالحة فقط فيقول: (49/ 13) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3) ويدعو تلك الأجناس كلها إلى التعاطف والتراحم بما يجمعها من وحدة الأصل ووشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول: (4/ 1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ(3/234)
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. ويقرر التضامن الإنساني العام بأنَّ الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع، والإساءة إلى واحد اساء (1) إلى الجميع فيقول: (5/ 35) {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. ويعترف بالأديان الأخرى ويحترمها ويسلِّم أمر التصرف فيها لأهلها فيقول: (109/ 6) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. ويقرر شرائع الأمم ويهون عليها شأن الاختلاف ويدعوها كلها إلى التسابق في الخيرات فيقول: (5/ 15) {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. ويأمر بالعدل العام مع العدو والصديق فيقول: (5/ 9) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}. ويحرم الاعتداء تحريماً عاماً على البغيض والحبيب فيقول: (5/ 3) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}. ويأمر بالإحسان العام فيقول: (16/ 90) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. ويأمر بحسن التخاطب العام فيقول: (2/ 83) {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
__________
(1) كذا في الأصل الصواب: اساءة.(3/235)
فلما عرفنا هذا وأكثر من هذا في الإسلام - وهو الدين الذي فطرنا عليه الله بفضله - علمنا أنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به، وأن خدمتها لا تكون إلا على
أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته. فإذا عشت له فإني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها، في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنا لنكون هكذا إلا بالإسلام الذي ندين به ونعيش له ونعمل من أجله.
فهذا - أيها الإخوان - معنى قولي: ((إنني أعيش للإسلام)).
أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليَّ تلك الروابط لأجله- كجزء منه- فروضا خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة. فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة. وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه وإلى آماله، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه. هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال. وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.
نعم إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لا بد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص.(3/236)
وأقرب هذا (1) الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآداباً وأخلاقاً وتاريخا ومصلحة ثم الوطن العربي والإسلامي ثم وطن الإنسانية العام.
ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر. وما مثلنا في وطننا الخاص - وكل ذي وطن خاص - إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيع بيته فهو لما سواها أضيع. وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط.
فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للاضرار بسواها - معاذ الله - ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطانٍ الأقرب فالأقرب.
هذا - أيها الإخوان - هو مرادي، بقولي: «أنني أعيش للجزائر».
والآن - أيها الإخوان - وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرة العيش للإسلام والجزائر فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟
نعم! نعم! بصوت واحد.
فلنقل كلنا: ليحيي الإسلام! لتحيا الجزائر (2).
__________
(1) كذا فى الأصل.
(2) ش: ج 10، م 12، ص 424 - 428 غرة شوال 1355هـ- جانفى 1937م.(3/237)
مؤتمر المعلمين الأحرار
سينعقد مؤتمر رجال التعليم العربي الحر تحت إشراف جمعية العلماء بنادي الترقي بالجزائر يومي الأربعاء والخميس الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر سبتمبر الجاري لتبادل الآراء فيما يهم التعليم العربي الحر ومدارسه ومساجده ونظمه وأساليبه، والغاية المنشودة من ذلك هي التوصل إلى توحيد مناهج التعليم العربي فعلى إخواننا الأساتذة القائمين بهذا النوع من التعليم أن يحرصوا كل الحرص على شهود هذا المؤتمر.
والواجب أن يعدوا من الآن خلاصة آرائهم في ضمن تقارير تقدم للملؤتمر. وها هي المسائل التي نرجو منهم أن يتقدموا إلى المؤتمر بآرائهم فيها:
1 - وسائل توحيد التعليم.
2 - أسلوب التعليم.
3 - أسلوب تربية الناشئة.
4 - خلاصة تجاريبهم في التربية والتعليم.
5 - الكتب وهل الأحسن اختيار كتب مصرية أو تأليف كتب تتنفق مع الروح الجزائرية.
6 - رأيهم في تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه.
7 - التعليم المسجدي ووسائل تنظيمه وترقيته.
8 - رأيهم في الوسيلة التي نعيد بها المرأة المسلمة سيرة سلفها من تلقي العلم.(3/238)
9 - تقارير مفصلة لدرجة إقبال الأمة على التعليم بأقسامه السابقة (كل في جهته).
والمجلس الإداري لجمعية العلماء يلح كل الإلحاح على الأساتذ القائمين بمهمة التعليم الحر في أنحاء القطر الجزائري ألا يتأخروا عن الحضور في هذا المؤتر العلمي النافع الذي ستكون روعته وفوائده على مقدار جهودهم ومباحثهم، وستكتب دعوات خاصة لكل من نعرف اسمه وعنوانه بالضبط، ومن غاب عنا عنوانه فليعتبر هذه الكلمة دعوة خاصة، ولهم الشكر.
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة 2، العدد 80، الجمعة 26 جمادي 2، 1356هـ- سبتمبر 1937م، ص 5، ع 2 و3.(3/239)
الإسلام الذاتي والإسلام الوراثي
أيهما ينهض بالأمم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يولد المرء من أبوين مسلمين فيعد مسلماً، فيشب ويكتهل ويشيخ وهو يعد من المسلمين. تجري على لسانه وقلبه كلمات الإسلام. وتباشر أعضاؤه عبادات وأعمال إسلامية، فراق روحه أهون عليه من فراق الإسلام، لو نسبته لغير الإسلام لرأيت منه لثار (1) عليك أو بطش بك. ولكنه لم يتعلم يوما شيئا من الإسلام ولا عرف شيئا من أصوله في العقائد والأخلاق والآداب والأعمال، ولم يتلق شيئا من معاني القرآن العظيم ولا أحاديث النبي الكريم، -صلى الله عليه وآله وسلم-. فهذا مسلم إسلاما وراثيا لأنه أخذ الإسلام كما وجده من أهله، ولا بد أن يكون- بحكم الوراثة- قد أخذه بكل ما فيه مما أدخل عليه وليس منه من عقائد باطلة وأعمال ضارة وعادات قبيحة. فذلك كله عنده هو الإسلام، ومن لم يوافقه على ذلك كله فليس عنده من المسلمين.
هذا الإسلام الوراثي هو الإسلام التقليدي الذي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير وإنما يتبع فيه الأبناء ما وجدوا عليه الآباء. ومحبة أهله للإسلام إنما هي محبة عاطفية بحكم الشعور والوجدان.
هذا الإسلام الوراثي هو إسلام معظم عوام الأمم الإسلامية، ولهذا تراها مع ما أدخلت على الإسلام من بدع اعتقادية وعملية، ومع ما أهملت من أخلاق الإسلام وآدابه وأحكامه، متمسكة به غاية التمسك
__________
(1) كذا في الاصل.(3/240)
لا ترضى به بديلا ولو لحقها لأجل تمسكها به ما لحقها من خصومه من بلاء وهوان.
هذا الإسلام الوراثي حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به- وخصوصا العربية منها- شخصيتها ولغتها وشيئا كثيراً من الأخلاق ترجع به الأمم الإسلامية إذا وزنت بغيرها. ومن ذلك خلق العفة والطهر الذي حفظ نسلها فتراه يتزايد بينما تشكو أمم أخرى غير إسلامية من نقصان نسلها. فالشعب الجزائري يزداد في العام اثنين وثلاثين ومائة ألف والشعب التونسي يزداد في العام خمسين ألفا بينما بعض الشعوب غير الإسلامية يقف عن الازدياد ويخاف النقصان رغم ما عند هذا من العناية وما عند أولئك من الإهمال.
لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتقنح أنظارها. والإسلام الوراثي مبني على الجمود والتقليد فلا فكر فيه ولا نظر.
أما الإسلام الذاتي فهو إسلام من يفهم قواعد الإسلام ويدرك محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأعماله، ويتفقه- حسب طاقته- في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويبني ذلك كله على الفكر والنظر فيفرق بين ما هو من الإسلام بحسنه وبرهانه، وما ليس منه بقبحه وبطلانه فحياته حياة فكر وإيمان وعمل، ومحبته للإسلام محبة عقلية قلبية بحكم العقل والبرهان كما هي بمقتضى الشعور والوجدان.
هذا الإسلام الذاتي هو الذي أمرنا الله به في مثل قوله تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، فبالتفكر في آيات الله السمعية وآيته الكونية وبناء الأقوال والأعمال والأحكام على الفكر، تنهض الأمم(3/241)
فتستثمر ما في السماوات وما في الأرض وتشيد صروح المدنية والعمران.
إذاً! فنحن- المسلمين- مطالبون دينيا بأن نكون مسلمين، إسلاما ذاتيا. فبماذا نتوصل إلى هذا الواجب المفروض؟ ..
لذلك سبيل واحد، هو التعليم. فلا يكون المسلم مسلما حتى يتعلم الإسلام فالمسلمون- أفرادا وجماعات- مسؤولون عن تعلم وتعليم الإسلام، للبنين والبنات، للرجال والنساء، كل بما استطاع والقليل من ذلك خيره كثير، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 14، ص 105 - 107 ربيع الأول 1357هـ - فيفري 1937م.(3/242)
يا لله! للإسلام والعربية في الجزائر
(كل من يعلِّم بلا رخصة يغرّم ثم يغرّم ويسجن)
قانون 8 مارس
(لكل من يطلب الرخصة لا يجاب)
هذا عمل الإدارة الكثير المتكرر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما الأمة الجزائرية تنتظر من فرنسا منحها حق التصويت البرلماني، مع بقائها على شخصيتها الإسلامية، إذ أعداء الأمة الجزائرية- وأعداء فرنسا أيضا- يجمعون أمرهم، ويدبرون كيدهم فيستصدرون من الحكومة قرارا وزاريا بعقوبات صارمة على التعليم، ليهدموا هذه الشخصية الإسلامية من أصلهما وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها.
علموا أن لا بقاء للإسلام إلا بتعليم عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه، وأن لا تعليم له إلا بتعليم لغته، فناصبوا تعليمها العداء وتعرضوا لمن يتعاطى تعليمها بالمكروه والبلاء، فمضت سنوات في غلق المكاتب القرآنية ومكاتب التعليم الديني العربي والضن بالرخص، واسترجاع بعضها حتى لم يبقوا منها إلا على أقل القليل.
ولما رأوا تصميم الأمة على تعلم قراءتها ودينها ولغة دينها، واستبسال كثير من المعلمين في سبيل القيام بواجبهم نحو الدين والقرآن ولغة الدين والقرآن، واستمرارهم على التعليم رغم التهديد والوعيد، ورغم الزجر والتغريم- لما رأوا هذا كله سعوا سعيهم وبذلوا جهدهم حتى استصدروا هذا القانون: قانون العقاب الرهيب.(3/243)
لقد فهمت الأمة مَنِ المعلمون المقصودون، فهم معلمو القرآن والإسلام، ولغة القرآن والإسلام، لأنهم هم الذين عرفت الأمة كلها ما يلقون من معأرضة ومناهضة، وما يجدون من مقاومة ومحاكمة. بينما غيرهم من معلمي اللغات والأديان والمروجين للنصرانية في السهول والصحاري والجبال، بين أبناء وبنات الإسلام، في أمن وأمان، بل في تأييد بالقوة والمال. وهم الذين إذا طلبوا الرخص بكل ما يلزم للطلب أجيبوا بالسكوت والإعراض أو أعلن لهم بالرفض لغير ما سبب من الأسباب فهم الذين إذا طلبوا اليوم كان كما بالأمس السكوت أو الرفض جوابهم. ثم إذا أقدموا على التعليم بلا رخصة كان التغريم الثقيل والسجن الطويل جزاءهم، وإذا أحجموا واستسلموا تم لأعداء الإسلام والعربية مرادهم وقضوا على القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام قضاءهم.
فهمت الأمة كل هذا وفهمت أن هذا القانون سلاح جديد حديد أشهر لمحاربتها في أعز عزيز عليها، وأقدس مقدس لديها وهو قرآنها ودينها ولغة قرآنها ودينها وتوقعت من السلطة أن تستعمله أشد استعمال وتستغله شر استغلال ضد تعليم القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام لما عرفته من قبل مقاومتها لهذا التعليم والقائمين به.
فهمت الأمة هذا الشر والكيد المدبرين لدينها وقرآنها ولغة قرآنها ودينها. وفهمته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة للأمة في دينها وقرآنها ولغة دينها وقرآنها والناطقة في الدفاع عنها في هذه الناحية بلسانها والمعاهدة لله وللأمة على ذلك الدفاع إلى آخر رمق من حياتها.
قد فهمنا- والله- ما يراد بنا وإننا نعلن لخصوم الإسلام والعربية أننا عقدنا على المقاومة المشروعة عزمنا، وسنمضي- بعون الله- في تعليم(3/244)
ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا، ولن يصدنا عن ذلك شيء فنكون قد شاركنا في قتلهما بأيدينا. وإننا على يقين من أن العاقبة- وإن طال البلاء- لنا وأن النصر سيكون حليفنا- لأننا قد عرفنا إيمانا، وشاهدنا عيانا، أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما ولو اجتمع الخصوم كلهم على محاربتهما.
سيرى الذين دبروا المكيدة. والذين لم يتفطنوا لها فشاركوا في تنفيذها. أنهم ما أصابوا بهذه المكيدة إلا سمعة فرنسا في العالم الإسلامي والعربي، في الوقت الذي تنفق فيه الملايين على تحسين سمعتها فيهما. ومكانتها عند الجزائريين في أحرج أوقاتها وأشدها حاجة إلى الأمم المرتبطة بها، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
عبد الحميد بن باديس
...
للدفاع عن الإسلام والقرآن ولغتهما:
ندعو كل معلم مكتب قرآني أو مدرسة طلب الرخصة من الإدارة ولم يجب، وكل معلم مكتب قرآني أو مدرسة منع من التعليم، وكل معلم نزعت منه رخصته- أن يكاتبنا بما وقع له من ذلك ويعرفنا بتفصيله وجميع ما يتعلق به لنسعى في نازلته السعي المشروع.
كما ندعو كل من تعدى عليه من معلمي الديانة في المساجد أن يكاتبنا ويعرفنا لنتتبع بطريق القانون كل من روعه وانتهك حرمة الدين والمسجد من رجال السلطة كائنا من كان.(3/245)
كما ندعو كل جماعة يريدون تأسيس جمعية وفتح مدرسة لتعليم الإسلام والعربية أن يكاتبونا ويعرفونا لنرشدهم إلى الوجوه القانونية اللازمة.
نهج الأربعين شريفا عدد 17 بقسنطينة
Rue Alexis - Lambert, 17
- CONSTANTINE -
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر قسنطينة يوم الجمعة 7 محرم 1357هـ الموافق ليوم 8 أفريل 1938م ص 1 والعمود 1 من الثانية.(3/246)
[صورة: مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية (بالجزائر)]
صورة بعض أعضاء إدارة جمعية الشبيبة الإسلامية الجزائرية وأساتذة مدرستها وهم المجالسون من اليمين الشيخ يحيى جعفر والشيخ باعزيز بن عمر والشيخ محمد العيد خليفة والسيد محمد علي دمرجي رئيس الجمعية والشيخ فرحات بن الدراجي والشيخ البدوي جلول والشيخ عبد الرحمن الجيلالى والواقفون من اليمين: السيد رشيد بطحوش والسيد أبى شهلة والسيد أحمد أندلسي والسيد زقان محمد والسيد عباس التركى والسيد الحاك يوسف دمرجي والسيد ابن ليلى محمد والسيد محمود رودوسي.(3/247)
[صورة: تلاميذ وتلميذات مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية وشيوخها وبعض أعضاء إدارة جمعيتها].
...
[صورة: تلميذات مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية وشيوخها وبعض أعضاء إدارة جمعيتها]. (1)
__________
(1) ش: ج1، م 14 ص 1 غرة محرم 1357هـ - مارس 1938م.(3/248)
بمناسبة قانون 8 مارس 1938م
كتاب مفتوح
إلى السيد الوالي العام على القطر الجزائري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مضى زمن حسب بعض الناس فيه أن الإسلام والعربية إنما هما من هم قراء العربية وطلبة القرآن وعامة الناس. وأما المثقفون باللسان الفرنسي فلا همَّ لهم فيهما. وأنهم قد ذهبت بأبصارهم آفاق أخرى عن الالتفات إليهما، وأن أحسنهم حالا من يعطف عليهما عطفا رقيقا مراعاة للبيئة وحنواً على العشير. حتى جاءت هذه المقاومة الصريحة لتعليم الإسلام ولغة الإسلام من الإدارة بقانون 8 مارس وما سبقه وما لحقه من منع الرخص ومحاكمة المعلمين. فتجلت الحقيقة وانقشعت سحب الغرور وظهر أنَّ أخواننا المثقفين باللسان الفرنسي من الدكاترة والمحامين والأستاذة وغيرهم لا ينقصون عن غيرهم غيرةً ودفاعا عن الإسلام ولغة الإسلام.
وها هو الدكتور ابن خليل- النائب البلدي بباتنة ورئيس الجمعية الدينية بها وأحد الأعضاء البارزين في جمعية النواب لعمالة قسنطينة- يدافع دفاعا فيه من حرارة الإيمان بقدر ما فيه من قوة الحجة وقد نشره باللسان الفرنسي في جريدة جمعية النواب (الانطانط) الغراء فرأينا تعريبه ليطلع عليه القراء ويكونوا على علم بما فيه من حجج قانونية يحتاجون إليها.
وبعد فإنا نرجو أن ترجع الإدارة إلى الحق وتراعي شعور الأمة فتكسب بذلك محمدة وتفعل جميلاً هو في صالح(3/249)
الجميع وذلك ما نعمل كلنا في سبيله (1).
عبد الحميد بن باديس
...
إنني من الذين فوجئوا بقانون 8 مارس وبالطبع قرأت بتأمل واهتمام زائد (بيان حقيقة) الذي أصدره السيد الوالي العام ونشر بالجرائد اليومية. وإنني اأكون مسرورا بكل فكرة حكومية يراد بها التنظيم الإداري في العمالات الجزائرية الثلاث طبق ما هو جار بأم الوطن حتى إنني أتفاءل لقانون فصل الدولة عن الدين- بالسلم الديني في هذا الوطن- وعلى الأخص الديانة الإسلامية- الذي هو من جملة المطالب الرئيسية لوحدة النواب التي أتشرف بالانتماء إليها ومع ذلك فإن قراءتي لهذا الـ: (بيان حقيقة) لم ترفع عني الدهشة لأنه في الواقع- كل شيء يبنى على فهم الحكومة لذلك القانون وتفسيرها إياه عمليا. وبهذا المثل الراجح الذي أضربه لكم فوق هذا المنبر سأحاول إفهامكم- على ما ارتآه فكري الضعيف، أحقية الدهشة المستولية عفى الأمة الإسلامية:
في بلدة باتنة أربعة أديان جاري بها العمل (كاثوليكي، إسرائيلي، إسلامي، بروتيستاني) وعلى هذا يوجد في نفس هذه البلدة جمعية دينية إسرائيلية، وجمعية دينية إسلامية، حصل لي الشرف برئاستها منذ سنة 1934م- وجمعية دينية بروتيستان- ما عدا رجال الكهنوت الكاثوليكي فإنهم لم يؤسسوا جمعية دينية كإخوانهم في فرنسا.
الجمعية الدينية الإسلامية بباتنة كميثلاتها من الجمعيات الدينية،
__________
(1) تعليق له على مقال كتبه ابن خليل النائب البلدي بباتنة ورئيس الجمعية الدينية بها وعضو جمعية النواب لعمالة قسنطينة رأينا نقل المقال لأهميته التاريخية.(3/250)
تأسست في سبتامبر 1925م على أساس قانون فصل الدين عن الدولة الصادر في ديسامبر 1905 ومرسوم 27 سبتامبر 1957م وهي لا تملك إلا مسجدا واحدا- وهو المسمجد الوحيد- في البلدة المذكورة كلها وهي التي تقوم بدفع أجر القائمين على الديانة من كيسها وما زالت منذ تأسيسها دائبة على تعليم الأكبار والصغار من المسلمين أمور دينهم. والمعروف عن التعليم المذكور أنه عبارة عن تعليم القرآن والتوحيد وأحكام العبادات ولهذا فهو لم يكن في وقت من الأوقات يصادف أدنى عرقلة ولا حتى مجرد ملاحظة حكومية حتى سنة 1935م أو هي كما ترى مدة عشر سنوات أو ونيف ثم إن السيد البريفي عامل عمالة قسنطينية أعلمني بكتاب مرقوم بـ 29763 ومؤرخ في 16 ديسامبر 1935م أن لا حق لهذه الجمعية- أي تعليم كان- وأن عليها قبل أن تفعل أن تمتثل وتعمل بمقتضى مرسوم 1892م فأجبته بالجواب التالي:
باتنة 23 ديسامبر سنة 1935م
من رئيس الجمعية الدينية الإسلامية في باتنة.
جناب السيد البريفي عامل عمالة قسنطينة، سيدي أبلغكم مع الاحترام أنني اتصلت بمكتوبكم رقم 39763
وأعلم جنابكم أن الجمعية الدينية الإسلامية بباتنة ممثلة ومتبعة للوضعيات المعينة بالمادة الخامسة وما يليها من مواد قافون أول جوليت 1901 وكذلك وضعيات قانون 9 ديسنامبر 1905 وأمر 27 سبتمبر 1907.
والمادة الأولى من القانون الأساسي لهذه الجمعية تنص على ما يأتي: تأسس بباتنة بعضوية جماعة من المسلمين مشتركين في مسؤولية وضع هذا القانون الأساسي جمعية دينية إسلامية ومنظمة على مقتضى(3/251)
قانون 9 ديسامبر 1980 وأمر 27 سبتمبر 1907 وأيضا على نمط الوضعيات التي للمادة الخامسة وما يليها من قانون أول جوليت 1951
الغرض من الجمعية:
أولا: أن تتكفل بضمان الواجبات الدينية الإسلامية.
ثانيا: أن تتولى رعاية المسجد الذي أسسه المسلمون والقيام عليه. ولهذا فإني وإياكم لعلى وفاق تام من أن قانون 1 جوليت 1901 بحسب مادته الخامسة لا يخول للجمعية المذكورة القوة القانونية. ولكن هذه الجمعية من جهة أخرى تستغل قانون حرية الأديان وفصل الدين عن الدولة وتتحصن به كمرسوم 27 سبتمبر 1907م المبينان لشروط القوانين المتعلقة بفصل الدين على الدولة للعمل الديني بأرض الجزائر وإذن فما هي الوسائل التي تمكننا من إقامة الشعائر الإسلامية؟ لقد قال لنا (لارشي المقنن الكبير) نفسه: "إن الدين الإسلامي يشتمل على جميع الأوامر التي تكون النظم الدينية أخلاقا وأحكاما" من صفحة 634 وفقرة 224 وهذا يدل على أن الدين الاسلامي لم يكن مجرد عبارات فقط بل حتى التعليم الديني.
ومما قاله لارشي المذكور في شأن التعليم الإسلامي هو عين ما يزاول في المسجد. والجمعية هي- الضامنة فيه ماديا ودينيا في دائرة القوانين والمواد التي تجريها الحكومة على المساجد الرسمية بمقتضى الملحق المؤرخ في 17 ماي 1851 وعليه فإن هذه الدروس المختصة بالتعليم الديني والخالية من العلوم الدنيوبة العصرية والتي لم تخرج عن الحدود القانونية لا تعتبر مدرسة خاصة ولا مكتبا حرا من النوع المشار إليه بقانون 1892 المتعلق بالمكاتب الخاصة الحرة للأهالي.
وعلى هذا فالمظنون عندي أن الحكومة المحلية قد غلطت في عدم(3/252)
التمييز بين المكتب القرآني الحر والدروس الدينية العمومية وإني لأرجو بعد هذا أن تتدارك الحكومة ذلك على ضوء ما قدمت من إيضاح وتجديد للقضية.
وتقبلوا خالص التحيات من قلب ملؤه الإخلاص العميق.
الدكتور ابن خليل
...
إن هذا المكتوب بقي مسكوتا عنه وفي 2 مارس 1936 بأمر عمالي:
إن السيد الكوميسار بوليس سجَّل ضد الإمام قضية مخالفة باسم القانون المذكور عرضت أمام محكمة باتنة (السامبل بوليس) وقد وافق السيد القاضي الرأي المخزني ولكنه توقف في تنفيذ الحكم لأن لانديجينيا لا يجري على الإمام المذكور وأما وكيل الحق العام فإنه استأنف القضية بمجلس الاستئناف الأعلى ولكن مع الأسف لم يصدر شيء عنها في هذا الشأن لأن القضية رفضت بموجب قانون العفو المعروف وإذن فهذا الخلاف- واعتذر عن هذا التعبير- قد نجم من جديد بواسطة السيد الكوميسار بوليس. بقيت الإداوة العمالية متمسكة بوجهة نظرها فاتهمت القائمين بالتعليم للجمعية بأنهم منذ تاريخ غير مسمى فتحوا مكتبا قرآنيا لتعليم الصغار والكبار بدون رخصة (التهمة التي تثبتها مادتا 49 و51 من قانون 8 مارس 1938) والجمعية أيضا هي الأخرى متبوعة كذلك وضامنة، وستعرض الدعوى أمام مجلس التأديب (الكور لكسيونال) باسم قانون 8 مارس الأخيرة فلا ننتظر برجاء تام ص حكم العدالة. ومع ذلك قد تكونت حالة غير مرضية متسببة عن سوء فهم لقانون 1893 والسيد الكوميسار سجل المخالفة لأنه وجد في باتنة أن الإمام يعلم الرشداء وفي الأوقات الخارجية عن أوقات(3/253)
التعليم الفرنسي يعلم صبيان الأهالي: القرآن والتوحيد والواجبات الإسلامية وبعبارة أخرى (علم اللاهوت الإسلامي).
ومع هذا إن التعليم المشار إليه- هو ديني لا أكثر- يشبه التعليبم الذي تقوم به في لغتنا وحدود عقائدها، الجمعيات الدينية المنظمة الكاثوليكية بباتنة وهكذا يخيل أن الدين الإسلامي يعامل معاملة استثنائية وذلك رغم تعهد فرنسا باحترام حرية العمل في الدين والعوائد الإسلامية.
زيادة على هذا كل مؤمن يتساءل عن سبب عدم تمكين الجماعات الإسلامية- التي تمثلها جمعيتها الدينية ومستخدموها- في العمل بحق أخذته من القانون الافرنسي مع المساواة مع الجماعات الدينية الأخرى.
هذه هي النقطة السوداء، ومنشأ الاحتمالات التي أشرت إليها آنفا.
إن الحالة التي يوجد فيها مديرو ومعلمو الجمعية الإسلامية المسؤولة عن مستقبل الدين الإسلامي أليمة، تمس سكان باتنة كلهم، إني أتعشم يا جناب الوالي تحت نور الحوادث التي عرضتها في هذا الكتاب الذي أملاه الاهتمام بصفاء ومصلحة هذا الوطن العمومية انكم تفهمون جيدا اضطرابي، وهو اضطراب السكان المسلمين الذين يرجون من ديموقراطي مثلكم اطمئنان ضميرهم (1).
__________
(1) البصائر: قسنطينة يوم الجمعة 11 ربيع الثانى 1357 الموافق ليوم 10 جوان 1938 ص 1و02 اخترنا نقل هذا المقال لأن الشيخ ابن باديس قد علق عليه.(3/254)
في سبيل التعلم والتقدم
من آثار جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ما من شك في أن الشعب الجزائري شعر بسوء الحالة التي وصل إليها في جميع نواحيه. وما من شك في أنه قد آلمه ما شعر به فأخذ يعمل للتخلص من تعاسته والنهوض من كبوته بكل ما يستطيع.
الشعب الجزائري شعب مسلم طبعه الإسلام على تعظيم العلم، وحب التعلم، واحترام المتعلمين، فلما دبت فيه الحياة وهب للنهوض اندفع للتعلم اندفاعا أدهش قوما وحير آخرين.
انتبه هذا الشعب العربي المسلم على صدمات الحوادث، وقوارع الزمان، ومناخيس البلايا التي خرقت الجلد واللحم والعظم وبلغت إلى شغاف الفؤاد، وعلى صوت الدعاة بالقرآن الذين هزت دعوتهم النفوس هزاً، وأحيا الله بها البلد الميت، ففتح عينيه ليرى النور، ومديره ليأخذ بأسباب النجاة فقدم له علماؤه المصلحون قبسا من نور الإيمان الذي هو في حنايا ضلوعه لينير له الوجود، ومدُّوا له حبل الإسلام الذي هو مرتبط بقلبه، ليصعد في مرقى الحياة، ويطلع إلى صرح المجد والسعادة، التي خلق لها الإنسان من حيث أنه إنسان. وناغوه بلغة دينه التي تتصل بروحه ليفهم ذلك الدين، ويذوق معانيه وتتشرب روحه حقائقه وأوضاعه وأحكامه، فتبدو أزهاره الذكية وثماره الطيبة، على أقواله وأعماله وسلوكه في الحياة مع جميع الناس.
كان مما ربي عليه الإسلام هذا الشعب الجزائري الكريم أن يطلب(3/255)
العلم للعلم، وأن يسعى إليه في كل أرض وأن يتعلمه بكل لسان، وأن يتناوله- شاكراً- من كل أحد.
لهذا ترى أبناء الجزائر يجمعون- إذا وجدوا السبيل- بين لغتهم العربية واللغة الفرنسية وتجدهم كما يطالبون الحكومة بحرية تعليم وتعلم دينهم ولغة دينهم، يطالبونها بإيجاد المدارس وتوسيعها لتعلم الفرنسية وما إليها.
وإننا ننشر اليوم مع هذا المقال صورة (1) لعدد من تلاميذ مدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة نالوا في هذه السنة الشهادة الابتدائية الفرنسية باستحسان. وفي ذلك أصدق شاهد على ما نقصده من نشر الثقافة باللسانين بين أبناء الجزائر.
[صورة: من آثار جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة]
__________
(1) بهذا العدد صورة فوتوغرافية لاثني عشر تلميذا مطربشين.(3/256)
وإذا كنا نصرف أكثر جهدنا للتعليم العربي فذلك لأن العربية هي لغة الدين الذي هو أساس حياتنا ومنبع سعادتنا، ولأنها هي التي نحسن تعليمها، ولأنها- وهذا من الوجاهة والعدالة بمكان- هي اللغة المهملة بين أبنائها، المحرومة من ميزانية بلدها، المطاردة في عقر دارها، المغلقة مدارسها، المحارب القائمون على نشرها من أبنائها، اللهم إلا قليلا نادرا- على خوف- يحتج به عند مقتضى الحال، وإلا المدارس الرسمية الثلات التي لا تقبل إلا عددا محدودا لتخريج من يملأ الوظائف الرسمية ويناسب روحها.
ولو أنا حرمنا من حرية تعلم اللغة الفرنسوية التي هي سبيلنا إلى آداب الغرب وعلومه وفنونه وفهمه من جميع جهاته، كما حرمنا من حرية تعلم لغتنا، لوقفنا إزاء ذلك الحرمان لو كان، كوقوفنا إزاء هذا الحرمان.
إن شعبين متباينين ربطت أوضاع الحياة الجارية بينهما، لا أحسن لهما من أن يتفاهما ويتكارما ويتناصفا ويتآلفا، ومفتاح ذلك أن يتعلم كل منهما لغة صاحبه.
هذا ما نقوله نحن الذين نريد الوئام والسلام، أما الذين يحاربون العربية فهم يفرقون ويشوشون فسيندمون، وتنتشر العربية بقوة الحق والفطرة وهم كارهون.
فإلى المسؤولين الذين يقدرون مسؤوليتهم وجعلوا المصلحة العامة العليا غايتهم، نوجه نداءنا من أجل حرية الدين ولغة الدين، وفتح طريق التعلم والتقدم للمسلمين وغير المسلمين باللغتين.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة 3، ع 136، قسنطينة يوم الجمعة 27 شعبان
1357هـ المرافق ليوم 21 أكتوبر 1938م، الصفحة 1 وعمود 1 من ص 2.(3/257)
بماذا نعود:
ودار لقمان على حالها … والقيد باق والطواشي صبيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قد بلغت المسألة اليوم إلى غايتها تفهيما من الأمة، وتفهما من الإدارة، فلنقف مديدة للانتظار، على أمل أن تجاب الأمة لرغبتها، بحسن تبصر الإدارة وإنصافها فنعود للكتابة في الموضوع شاكرين مغتبطين:
الخير أبقى وإن طال الزمان به … والشر أخبث ما أوعيت من زاد.
عن عدد (البصائر) الصادر في 3 جمادى الأولى 1 جوليت الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد هز قانون 8 مارس الذي صدر لعرقلة تعليم الإسلام ولغة الإسلام بهذه البلاد، الشعب الجزائري هزة عنيفة، ورفعت الأمة بلسان نوابها وهيئتها وعلمائها صوتها عاليا بالاحتجاج والاستنكار ووالت (البصائر) الكتابة في المظلمة الفادحة خمسة أشهر. ولما انتهت المسألة إلى النيابة المالية- وهي أعلى نيابة في الوطن- وتضافر النواب المسلمون على المطالبة بحرية تعليم الدين ولغة الدين، وقدموا تقريرا في جلسة 15 جوان يشتمل على لزوم إعطاء رخص التعليم الإسلامي الحر للجميع، مع إحداث المراقبة على المدارس الحرة، وعلمنا من نوابنا أن هنالك وعودا في حل المسألة، رأينا أن المسألة قد بلغت غايتها، ورأينا أن نقف منتظرين كما هو في المربع الموضوع في صدر(3/258)
هذا المقال. وها هي أربعة أشهر ونيف قد مضت على تلك الوقفة وانقضت في الانتظار! وها نحن نعود إلى استئناف الكتابة في هذه المظلمة الشوهاء والداهية الدهياء، التي لا يهدأ ضمير الأمة ما دام جرحها الدامي في أعماق قلبها، ولكن بماذا نعود؟ لقد كنا نحسب ونود أننا نعود فنذكر برَّ الإدارة بوعدها، واحترامها للأمة الجزائرية المسلمة في دينها ولغة دينها، وفي أدق شعورها، ومراعاتها ما تقتضيه مصلحة فرنسا من كسب قلوب الشعوب الواقعة في نطاق نفوذها لأيام رخائها وشدتها، فنرفع الصوت بالشكر والاغتباط، ونعرب عن شعور الأمة وعاطقتها الحقيقيين باللسان الصادق والضمير المرتاح. ولكن- ويا للأسف- خاب الظن وباخت الوعود، وانقشعت الأماني التي هي أحلام وتضليل.
فمدرسة دار الحديث ما زالت مغلقة، ومثلها مدرسة القلعة، والمعلمون في بجاية وغيرها ما زالوا يعاودون بالتغريم ويساقون إلى المحامكة كمجرمين، وطلبات الرخص ما زالت تقابل بالرفض أو بالسكوت، اللهم إلا نزرا يسيرا جدا بوسائل خاصة لا يدل على تغيير في الحال ولا تبديل.
هذا هو الحال من ناحية الإدارة التي هي مؤسفة بقدر ما هي مؤلمة، أما الحال من ناحية الأمة المظلومة في حرية تعلم دينها ولغة دينها، والمصابة من ذلك في أعز عزين عليها، فإنها مما يبعث على السرور والرضا وتمام الثقة بالأمة المسلمة في حاضرها ومستقبلها، فإنها برغم العراقيل ما تزال تبذل في التعليم بكل مناسبة، وتسعى للمطالبة والمقاومة بكل وسيلة مشروعة، وتتحمل تغريم المتعلمين- ويتحملون- بكل ثبات وطمأنينة.
فهل تدرك الإدارة معنى هذه النفسية من الأمة؟ وهل تبصر من(3/259)
وراء هذا الثبات والجلد شبح الحقيقة؟ وهل تشعر، بما تنطوي عليه قلوب هذه الأمة المسلمة المسألة من الألم واللوعة؟
ليتها، ولعلها يكون منها كل ذلك في صالح الجميع، وفي سبيل الحق والعدالة، ومن أجل الصفاء والسلام.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة 3، ع 140، قسنطينة يوم الجمعة 25 رمضان 1357هـ الموافق ليوم 18 نفامبر 1938، ص 1.(3/260)
حول قانون 8 مادس المشؤوم
كيف فهمت الأمة
معاكسته لتعليم الدين والعريية؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يزعم المتكلمون بلسان الحكومة في منشوراتهم وإذاعاتهم أننا نحن الذين أفهموا الأمة أن غاية قرار 8 مارس هي معاكسة تعليم الدين واللغة العربية.
فلأجل أن نعرف كيف فهت الأمة نفسها كلها هذه المعاكسة الصريحة يجب أن نعرف الظروف التي صدر فيها هذا القرار المشؤوم وما تقدمها- سنوات- من النهضة العلمية الدينية للأمة الجزائرية العربية المسلمة.
من المعلوم أن الأمة الجزائرية هبت بعد قرن من الاحتلال لتأخذ قسطها- من الحياة من نواح عديدة وخصوصا الناحية الدينية والعلمية ولا شك أن هبتها هذه كانت طبيعية منبعثة عن عوامل مختلفة منها المحلي ومنها العالمي ومنها الذاتي ومنها الجواري. ومما لا ريب فيه أن الاحتفالات القرنية الهائلة التي أقامتها الحكومة كانت من أسباب تلك الهبة فقد سمعت الأمة وعودا وثناء كثيرين من أعلى رجال الحكومة بباريس ومن ممثلي الأمة الفرنسية بالبرلمان، وشاهدت وأحست وتوقعت فتأثرت، بذلك كله فيما تأثرت به في نهضتها.
كانت من مظاهر هذه النهضة الدينية العلمية أن تأسست مساجد في نواحي الوطن بمال الأمة وكان منها أن ازداد عدد الراغبين في تعلم اللغة الفرنسية زيادة واضحة- وتعالت أصوات النواب والكتاب بمطالبة الحكومة بتأسيس المكاتب وإحداث الطبقات لتعليم أبناء المسلمين الفرنسية- ولا ينسى الناس هنا ما أحدث لهم من قانون تجديد السن(3/261)
بثلاث عشرة سنة وما نشأ عنه من حرمان عدد غفير من تكميل التعليم مثلما أحدث هذا القرار المشؤوم- وكان من مظاهر النهضة ازدياد عدد الراغبين في دخول المدارس الثلاث الإسلامية الحكومية ولكنهم كانوا يردون لأن عدد تلاميذها محدود وكان من مظاهرها فتح المكاتب لتعليم أبناء المسلمين الذين لا يجدون مقاعد في المكاتب الفرنسية أو الذين وجدوا لكن من غير أوقات المكتب- لتعليم هؤلاء- قواعد وعقائد وآداب الدين ولغة الدين إلى جانب القرآن العظيم، وكان من مظاهرها تأسيس النوادي حتى أسست في رؤوس الجبال.
لم ترق هذه النهضة الدينية العلمية في نظر الحكومة فأخذت في مقاومتها وابتدأ ذلك بالامتناع من إعطاء الرخص ثم بغلق المكاتب في نواح عديدة ثم بسوق المعلمين للمحاكمة.
ضجت الأمة من هذا واستاءت وتألمت فرفعت صوتها بالشكوى بلسان نوابها وأقلام كتابها، وبلسان مؤتمرها العام وبلسان وفد ذلك المؤتمر فسمعت الوعود من حكومة باريس ومن ولاية الجزائر.
ثم بينما الأمة تنتظر الوفاء بتلكم الوعود رغم ما تشاهده من ازدياد الإدارة في الشدة إذا هي تفاجأ بقرار 8 مارس الذي كان مطبقا بفرنسا منذ أكثر من نصف قرن دون أن يكون له ذكر في الجزائر فلما انبعثت الأمة في نهضتها الدينية العلمية بعث لها هذا القرار المشؤوم وأخذ في تطبيقه بكل شدة وصرامة، فلم يبق أحد إلا فهم القصد من بعث هذا القرار المشؤوم في هذه الظروف وما سبقها وما لحقها وما زال مستمرا إلى اليوم- إلا وهو معاكسة تعليم الدين ولغة الدين، وجاء قبله قرار منع النوادي الإسلامية من بيع المشروبات وهي مشروبات حلالية طبعا، فانفضح القصد حتى لدى حمار توما وراكبه (1).
__________
(1) قال حمار الحكيم توما … لو أنصفوني ما كنت أركب
لأنني جاهل بسيط … وراكبي جاهل مركب(3/262)
هكذا فهمت الأمة كلها من نفسها، والحكومة نفسها هي التي أفهمتها بأعمالها والأمة هي التي قالت وما زالت تقول: (إن قرار 8 مارس المشؤوم ضربة قاضية على تعلم الإسلام ولغة الإسلام)، وما سمعته الحكومة في النيابة المالية من النواب المسلمين مما سننشره، كاف في دحض مزاعم منشوراتها وإذاعاتها (1).
وكيف يصح في الأذهان شيء … إذا احتاج النهار إلى دليلٍ (2)
عبد الحميد بن باريس
__________
(1) فى الأصل: وذاتها.
(2) البصائر قسنطينة يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1358 الموافق ليوم 21 جوان 1358م، ص 1.(3/263)
النص التقريبي لكامل التقرير الأدبي
الذي ألقاه سماحة الأستاذ عبد الحميد بن باديس
بدار جمعية التربية والتعليم 1358هـ
يوم اجتماعها العام صبيحة الأحد 28 مايو 1939م
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين إلى يوم الدين.
أما بعد: فباسم جمعية التربية والتعليم الإسلامية أرحب بكم أيها المستمعون الكرام وأشكركم على تلبيتكم لنداء جمعيتكم الإسلامية الناهضة، وأهنئكم وأذكركم بأنكم كنتم منذ أربع سنوات خلت تجتمعون في محلات غيركم.
واليوم- والحمد لله- أصبحتم تجتمعون في داركم. ولقد كنتم ضعافا فقواكم الله، وعززكم ورفع شأنكم.
أولا تثقون بالله؟ إنكم بلا شك تثقون به، ومن وثق بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. وإذا كنتم تثقون بالله فثقوا بأنفسكم، فإن من لم تكن له ثقة بنفسه لا تكون له ثقة بالله.
وإذا كنتم تثقون بأنفسكم فثقوا بنفوس مؤمنة صادقة. ولم لا نثق بأنفسشا؟ وقد أعطانا الله عقولا ندرك بها، ومواهب نستسخرها لما يرضي الله ورسوله. لنا مواهب مثل ما لغيرنا. ولنا من هذه القومية العربية الخالدة مثل ما لغيرنا. ولنا من هذا التاريخ الممتد البعيد مجد وملك مثل ما لغيرنا وفوق ما لغيرنا.(3/264)
ولقد أعطانا الله من هذا الدين الإنساني من هذا الدين العقلي الروحي ما يكمل عقولنا، ويهذب أرواحنا. أعطانا منه ما لم يعطه لغيرنا، لنكون قادة وسادة. وأعطانا وطنا شاسعا واسعا، مثل ما لغيرنا فنحن إذن شعب ماجد عظيم يعتز بدينه، يعتز بلغته، يعتز بوطنه، يعتز بقوميته، يستطيع أن يكون في الرقي واحدا من هذه الشعوب، وأن يفوق كثيرا من هذه الشعوب. ولنا من تاريخه الحافل ما يجعلنا نؤمن بصدق معتقدنا فيه.
إننا نعتصم بالحق، ونعتصم بالتواضع عندما نقول: إننا شعب خالد ككثير من الشعوب. لكننا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقناها في ميادين الحياة، سبقناها بهدايتنا، ونشرنا بينها الشريعة الحقة قبل أن تتكون هذه الأمم وسبقنا هذه الأمم في نشر الحق، أيام كانت في ظلمات من الجهل حالكة أيام كانت تسبح في لجج من الأوهام والخيالات. وذلك ما كنا فيه، وما سنعود إن شاء الله إليه، وإنما علينا أن نعرف تاريخنا، ومن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود. ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر والمستقبل السعيد، إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية، لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة.
إنها وحدة الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغر الميامين، أرواحهم بأرواحنا، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به وهي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار، وما في النفس من آلام وآمال. إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين، وخدم العلم، وخدم الانسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان، ونعمل لإحيائه منذ سنين، فليحقق الله أمانينا.(3/265)
وإن الذي يعلم تاريخ الجزائر الحديث يجزم بأن هذا الشعب شعب حي لن يموت. لقد كان هذا العبد يشاهد قبل عقد من السنين هذا القطر قريبا من الفناء، ليست له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه، ويموتون عليه. بل كان في اضطراب دائم مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية، التي لا تعطبهم غالبا من العلم إلا ذلك الفُتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها، هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث. وما كنا لنرضى بها أو نبقى عليها وقد ولدتنا أمهات مسلمات جزاريات يأبين إلا أن نبقى كما ولدنا، وتأبى ثقافتنا إلا أن نرجع إلى ما عليه كنا. أخذنا نعمل وهناك من سبقنا في التفكير بالعمل وهم رجال نادي (صالح باي) رحمه الله- ولا أقول كلهم- لم يكونوا يعملون بوحي من أنفسهم بل كانوا يعملون بإيعازات من غيرهم. فلما بلغ الموعزون وبعض الموعز إليهم إلى غايتهم انتهى كل شيء وماتت الجمعية وهي في المهد، ولم تؤسس أقل تأسيس وأصبحت نسياً منسياً، ومضى على ذلك حين من الدهر حتى جاء هؤلاء الذين يعملون العمل الخالص لوجه الله، فنضوا نهضة أوجدت ما أنتم ترون، من اشتراء محل عظيم للتربية والتعليم يضم الآن من التلاميذ والتلميذات نحو الثمانمائة، ويضم من الكبار المتعلمين ما يناهز الستين أو السبعين حسب أوقات عملهم الحيوي اللازم.
وأن فيها اليوم لمصنعا للنسيج، وقانون هذه الجمعية ينص عليه، وينص على تعليم العربية والفرنسية لأننا قوم نريد الحياة لأنفسنا كما نحبها لغيرنا، ونكره أن ندخل الضرر على أي كان غيرنا، كما لا نرضى أن يدخل علينا الضرر على أي كان غيرنا، ونحترم لغتنا ومجدنا كما نحترم لغة ومجد غيرنا. ولأننا قوم نحب الخير فلا نحرم(3/266)
منه أحدا، وما فتحنا هذه المدرسة إلا لخدمة العلم وأهله، وتربية النشء وتثقيفه، وللجمعية نيات أخرى تنوي أن تقوم بها في المستقبل إن شاء الله. تنوي أن تبعث البعثات العلمية إلى الخارج، وتسعى جهدها في تحقيق ما ينص عليه قانونها الأساسي من تأسيس المصانع والملاجىء والمحلات العامة.
هذه لمحة مختصرة خاطفة ذكرتها لكم عن تاريخكم وتاريخ نهضتكم الجليلة أيها الإخوان، وأخيراً أشكركم وأشكر الله الذي هداكم، وأشكر كل من سعى في تحقيق أمنيتنا من رجال ونساء، كما أشكر القائمين من رجال الجمعية والمباشرين العمل والتعليم كما لا أنسى الحكيمين الإنسانيين (كتوار) و (عنالي) والسيدتين (مدام سبانو) و (مدام دوره) وأشكر الآنسة زريزر وهي فتاة مسلمة جزائربة أدت خدمات جليلة إلى الجمعية، أشكرهم جميعهم على ما قاموا به من جلائل الأعمال. ثم بعد هذا العرض السريع أرجو أن تذكروا دائما أن الهيأة القديمة في ظرف سنوات قامت بأعمال كبرى وأتمنى على الله أن لا تأتي المقبلة إلا وقد أسستم مصنعا للأعمال، أو ملجأ للأيتام، وأن مجلسا موفقا مثل مجلسكم هذا أوجد هذه الأعمال، لجدير من يخلفه بأن يوجد في القريب العاجل أكثر منها.
إنني ابتدأت حديثي بالثقة بالله والاعتماد على النفس وأختمه بهما، فثقوا بأنفسكم وثقوا بالله، واعتمدوا عليه وعلى أنفسكم واعملوا وكونوا خير خلف لخير سلف.
نقله من القاء الرئيس محمد الغسيري، ومحمد الصالح رمضان
__________
البصائر: السنة 4، عدد 171 قسنطينه يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1358هـ الموافق ليوم 22 جوان 1939م، الصفحة 5، العمود: نصف الأول، والثانى والثالث والرابع من صفحة 6.(3/267)
الحركة التعليمية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد قسم الشبان من جمعية التربية والتعليم الإسلامية، أن ينشر على الأمة صورة للجمعية تنشيطا للعاملين وبعثا للقاعدين ومثالا للمحتذين، ودعاني لأكتب كلمة أشارك بها في هذا العمل المفيد الجميل، فلبيت دعوة أبنائي في الكلمة التالية، شاكرا لهم عملهم الخيري ودعوتهم إليه ودلالتهم عليه.
أصل الجمعية:
كان التعليم المسجدي بقسنطينة قاصرا على الكبار ولم يكن للصغار إلا الكتاتيب القرآنية، فلما يسر الله لي الانتصاب للتعليم عام 1332هـ جعلت من جملة دروسي تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم الصغار.
ثم بعد بضع سنوات رأى جماعة من الفضلاء المتصلين بنا تأسيس مكتب يكون أساسا للتعليم الابتدائي العربي فأسسناه وكان الأخوان الفاضلان السيد العربي والسيد عمر بن مغسولة قد اشتريا مسجد سيدي بو معزة والبناء المتصل به، وكان فوق بيت الصلاة محل للسكنى بالكراء فأزالاه عن ذلك وأبقياه محلا فارغا فجعلناه هو محل المكتب.
ثم نقلت إلى بناية الجمعية الخيرية لاتساعها. وهو في اثناء هذا(3/268)
كله يتسع نطاقة مرة ويضيق أخرى ولا تقوم به إلا جماعة لا تتجاوز عدد الأصابع.
وفي سنة 1349هـ 1930م- رأيت أن أخطو بالمكتب خطوة جدية وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية فحررت القانون الأساسي لجمعية التربية والتعليم الإسلامية وقدمته باسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة فوقع التصديق عليه.
القانون الأساسي للجمعية:
بني القانون الأساسي للجمعية من الوجهة التربوية على تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية إسلامية بالمحافظة على دينهم ولغتهم وشخصيتهم ومن الوجهة التعليمية على تثقيف أفكارهم بالعلم باللسانين العربي والفرنسي وتعليمهم الصنائع. ومن الوجهة المالية على تعويد الأمة على العطاء المنظم وتوسيع نطاق الجمعية بجعل الاشتراك الشهري فيها فرنكين.
تأسيس قسم الشبان:
في أفريل سنة 1933 رأيت أن أبعث في الجمعية روحا جديدا للجد والنشاط بدعوة جماعة الشبان المنخرطين في عضوية الجمعية لتأسيس فرع منهم ينهض بالجمعية نهضة فتية صادقة فصادفت منهم الدعوة رغبة سابقة في العمل كانوا يهمون بإبدائها فيصدهم التهيب عنها ورأيت أن لهم الحق أن يأخذوا حظَّهم من التربية والتعليم على وجه يناسبهم فأسست لهم درسا في يوم الأحد من كل أسبوع يلقى على جماعة منهم في الساعة العاشرة نهارا وعلى جماعة أخرى في الساعة الثامنة ليلا حتى يعم من يتفرغون له بالليل ومن يتفرغون له بالنهار.
أعمال الشبان:
نهض الشبان بالعمل تحت إشراف مجلس إدارة الجمعية فتوسع(3/269)
نطاق التعليم في عدد المعلمين وعدد التلاميذ وانتشرت فكرة التربية الإسلامية في قسم كبير من الشبان وها هم اليوم يتقدمون بهذه النشرة برهانا على ما قاموا به من عمل في أمد قليل في خدمة الجمعية راجين من الأمة أن تمدَّ يد المساعدة للجمعية لتقوم بما بقي عليها من أعمال قد اشتمل عليها قانونها ولم تتسع مقدرتها اليوم للقيام بها.
لجنة الطلبة:
لما كانت مهمة الجمعية هي التربية والتعليم وكانت الدروس العلمية التي تلقى بالجامع الأخضر هي أساس ذلك فقد تكونت من الجمعية للقيام بالطلبة والعناية بهم ومراقبة سيرهم لجنة من ثمانية عشر عضوا.
وهي المتولية لصندوق الطلبة في دخله وخرجه.
تعميم فكرة الجمعية:
من ضمن القانون الأساسي للجمعية أن لها أن تؤسس فروعا في البلدان، فهي مستعدة لكل بلدة ترغب أن تكون فرعا منها لإجابة طلبها، كما أنها تدعو جميع المسلمين في كل بلدة إلى مثل تأسيسها لتربية أبناء المسلمين وبناتهم وتعليمهن وتعليمهم وأن ينهضوا لذلك نهضة حقيقية ويسعوا له سعي الجد المتواصل فإنهم لا بقاء لهم إلا بالإسلام ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم. والله مع الصادقين (1).
رئيس جمعية التربية والتعليم الإسلامية عبد الحميد بن باديس
__________
(1) نشرة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة عام 1354هـ -1936م، ص 1 - 4.(3/270)
[صورة: تلاميذ وتلميذات مدرسة جمعية التربية والتعليم]
...
[صورة: الشيخ محمد العايد الجلالي مع تلاميذ صفه من الطبقة الأولى في مدرسة جمعية التربية والتعليم](3/271)
[صورة: الأستاذ الشيخ الفضيل الورتلاني مع تلاميذ صفه من الطبقة الثالثة في مدرسة جمعية التربية والتعليم]
...
[صورة: الأستاذ محمد العايد الجلالي مع تلاميذ صفه من الطبقة الثانية في مدرسة جمعية التربية والتعليم](3/272)
[صورة: تلميذات مدرسة التربية والتعليم وبأيديهن منتوجاتهن وقد وقف ناظر المدرسة الشيخ عمر شعلال]
...
[صورة: الأستاذ عبد العلي مع تلاميذ الطبقة الرابعة بمدرسة التربية والتعليم](3/273)
[صورة: تلاميذ مدرسة جمعية التربية والتعليم وإلى اليسار الأستاذ مع تلاميذ صفه من الطبقة الأولى]
...
[صورة: الأستاذ محمد العايد الجلالي مع تلميذات صفه في مدرسة التريية والتعليم](3/274)
آثار ابن باديس:
قسم السياسة(3/275)
خطتنا
مبادؤنا وغايتنا وشعارنا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسيؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون، وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها، لا مقصرين ولا متوانين، راجين أن ندرك شيئا من الغاية التي نرمي إليها بعون الله ثم بجدنا وثباتنا وإخلاصنا، وإعانة إخواننا الصادقين في خدمة الدين والوطن.
مبدؤنا السياسي:
نحن قوم مسلمون جزائريون، في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية، فلأننا مسلمون نعمل على المحافطة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كل كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر وفي المحافطة على هذه التقاليد المحافظة على أهم مقومات قوميتنا وأعطم أسباب سعادتنا وهنائنا، لأننا نعلم أنه لا يقدر الناس أن يعيشوا بلا دين، وأن الدين قوة عظيمة لا يستهان بها، وأن الحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته وتجلب عليه وعليها الأضرار والأتعاب، بل ربما حصلت لها هزاهز وفتن كما أصاب حكومة هيريو في العهد القريب (1). لا نعني بهذا أننا نخلط بين الدين والسياسة في جميع شؤوننا، ولا أن يتداخل رجال الدين في سياستنا، وإنما نعني
__________
(1) أحد رؤساء الوزارات الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية.(3/277)
اعتبار الدين قواما لنا، ومهيعا، (1) شرعيا لسلوكنا، ونظاما محكما نعمل عليه في حياتنا، وقوة معنوية نلتجيء إليها في تهذيب أخلاقنا وقتل روح الإغارة والفساد منا وإماتة الجرائم من بيننا، فلهذا لا نألو جهدا في خدمته بنشر مبادئه الحقة العالية وتطهيره من كل ما أحدث فيه المحدثون، والدفاع عنه من أن يمس بسوء من أهله أو من غير أهله ولأننا جزائريون نعمل للَمِّ شعب الأمة الجزائرية وإحياء روح القومية في أبنائها وترغيبهم في العلم النافع والعمل المفيد حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة، والانتفاع في العالم وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية.
وإننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا ونحب من يحبه (2) الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها. وبالأحرى نحب من يحب وطننا ويخدمه، ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري وتحبيب بنيه فيه، ونخلص لكل من يخلص له، ونناوىء كل من يناوئه من بنيه ومن غير بنيه.
ولأننا مستعمرة من مستعمرات الجمهورية الفرنسيوية نسعى لربط أواصر المودة بيننا وبين الأمة الفرنسوية وتحسين العلائق بين الأمتين المرتبطتين بروابط المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة من الجانبين، تلك الروابط التي ظهرت دلائلها وثمراتها في غير ما موطن من مواطن الحرب والسلم.
إن الأمة الجزائرية قامت بواجبها نحو فرنسا في أيام عسرها ويسرها، ومع الأسف لم نر الجزائر نالت على ذلك ما يصلح أن يكون جزاءها، فنحن ندعو فرنسا إلى ما تقتضيه مبادئها الثلاثة التاريخية
__________
(1) طريق مهيع: بيِّن منبسط.
(2) كذا في الأصل الذي به محو مطبعي.(3/278)
"الحرية والمساواة والأخوة" من رفع مستوانا العلمي والأدبي بتعميم التعليم كل ممت الحديث (1).
وتشريكنا تشريكا صحيحا سياسيا واقتصاديا في إدارة شؤون وطننا الجزائري، إن لفرنسا ما يناهز القرن في الجزائر ولا أحد ينكر ما لها من الأيادي في نشر الأمن وعمارة الأرض وجميع وجوه الرقي الاقتصادي، غير أنها ويا للأسف ليست لها تلك الأيادي ولا نصفها في تحسين حال الأهالي العلمي والأدبي، مع أن الذي يناسب سمعة فرنسا ومبادئها ويصدق ما ينادي به خطباؤها ويكون أجمع للقلوب عليها هو أن تعنى بالعباد كما تعنى بالبلاد.
إننا نسعى بكل جهدنا لتحقيق هاته الأمنية التي هي حقنا وفيها سعادة الجميع.
إن الأمة الجزائرية أمة ضعيفة ومتأخرة فترى من ضرورتها الحيوية أن تكون في كنف أمة قوية عادلة متمدنة لترقيها في سلم المدينة والعمران وترى هذا في فرنسا التي ربطتهها بها روابط المصلحة والوداد، فنحن نخدم للتفاهم بين الأمتين ونشرح للحكومة رغائب الشعب الجزائري ونطالبها بصدق وصراحة بحقوقه لديها ولا نرفع مطالبنا أبدا إلا إليها، ولا نستعين عليها إلا بالمنصفين من أبنائها.
وفي جدنا وإخلاصنا وشرف الشعب الفرنسوي وحريته ما يقرب كل أمل بعيد.
مبدؤنا التهذيبي:
كما تحتاج الأبدان إلى غذاء من المطعوم والمشروب، كذلك تحتاج العقول إلى غذاء من الأدب الراقي والعلم الصحيح، ولا يستقيم سلوك أمة وتنقطع الرذيلة من طبقاتها وتنتشر الفضيلة بينهم إلا إذا تغذت عقول
__________
(1) كذا في الأصل الذي به محو مطبعي.(3/279)
أبنائها بهذا الغداء النفيس، فنحن ننشر المقالات العلمية والأدبية وكل ما يغذي العقول من منظوم ومنثور من صحف الشرق والغرب وأقلام كتاب الوطن ومقاوم كل معوج من الأخلاق وفاسد من العادات، ونحارب على الخصوص البدع التي أدخلت على الدين الذي هو قوام الإخلاص فأفسدته. وعاد وبال ذلك الفساد علينا وتأخرنا من حيث يكون تقدمنا وسقطنا
بما لا نرتفع إلا به، لما شوهناه بإدخال ما هو ضده عليه، ونحسن ما كان من أخلاق الأمم حسنا وموافقا لحالنا وتقاليدنا ونقبله، ونقبح ما كان منها قبيحا أو مباينا لمجتمعنا وبيئتنا ونرفضه فلسنا من الجامدين في جحودهم ولا مع المتفرنجين في طفرتهم وتنطعهم، والوسط العدل هو الذي نؤيده وندعو إليه.
مبدؤنا الانتقادي:
في الهيئة الاجتماعية أشخاص تقدموا للأمة وتولوا أو يريدون أن يتولوا قيادتها وتدبير شؤونها الاجتماعية سياسية أو اقتصادية أو علمية أو دينية، ولهم صفات خاصة بأشخاصهم وشؤونهم في أنفسهم وأعمال في دائرتهم وحدهم وصفات بها يباشرون من شؤون الأمة ما يباشرون وأعمال تتعلق بأحوال العموم.
فأما صفاتهم الشخصية وأعمالهم الخاصة فلا يجوز لنا أن نعرض
لها بشيء، وأما صفاتم وأعمالهم العمومية فهي التي نعرض لها وننقدها فننتقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من يتولى شأنا عاما من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسويين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين فننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه والتنديد بمظالمه كائنا من كان، لأننما ننطر من الناس إلى أعمالهم لا إلى أقدارهم، فإذا قمنا بالواجب فلأشخاصهم منا كل احترام.(3/280)
وسنسلك في انتقادنا طريق الحقيقة المجردة والصدق والإخلاص والنزاهة والنظافة في الكلام، وننشر كل انتقاد يكون على هذه الصفات، علينا أو على غيرنا، على مبدأ الإنصاف الذي لا يتوصل للتفاهم والحقائق إلا به.
هذه مبادؤنا وهي مبادئ الصحافة الحرة الصادقة التي هي قوة لا غنى لأمة عنها، ولا رقي لأمة ناهضة في هذا العصر بدونها.
هذه مبادؤنا وسيرضى عنا بها الأحرار المفكرون أصحاب الصدور الواسعة والقلوب الكبيرة من الوطنيين والفرنسويين، وسيغضب بها علينا المستبدون الظالمون والدجالون، المحتالون وصغار الأدمغة وضيقو الصدور من بغاث البشر.
ونحن بين الجميع لا نخدم إلا الحق والوطن والدين ولا نسمع إلا لصوت الواجب ولا نسترضي أقواما ولا نستغضب آخرين قائمين حسب الجهد بالواجب الصحافي الشريف صامدين إلى غايتنا السامية وهي:
"سعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديموقراطية"
صارخين دائما بشعارنا الرسمي وهو:
"الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء"
وعلى الله ثم على اجتهادنا وإخلاصنا ومناصرة أنصار المبادئ الحرة الاعتماد والاتكال (1).
__________
(1) المنتقد العدد الأول ص 1ع 1، 2، 3، 4، 5
الخميس 11 ذي الحجة 1343هـ - 2 جويلية 1625م.
وقد أمضى هذا المقال بما يلى (النخبة) وهو بدون شك أسلوب باديسي، وفكر حميدي.(3/281)
تعطيل (السنة) وإصدار (الشريعة)
للأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جعية العلماء المسلمين الجزائريين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
روعت الأمة بنبأ تعطيل جريدة "السنة" بقرار من وزارة الداخلية، وتقاطرت على الإدارة رسائل الاستياء والتعجب ولم يكن تعجب الناس من تعطيل جريدة دينية بعيدة كل البعد عن السياسة دون استيائهم من عرقلة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن عملها الديني التهذيبي الذي ذاقت الأمة حلاوته وشاهدت جميل أثره.
أما نحن فقد شاركنا الأمة في الاستياء ولم نشاركها في التعجب، فقد كنا توعدنا بأشياء هذا التعطيل أحدها (1) فجاء ونحن له متوقعون: غير أن الذي نعحب منه نحن المباشرين لتسيير الجمعية هو التبدل العظيم والانقلاب السريع الذي شاهدناه من بعض الإدارات نحو الجمعية. لقد تجولت وفود الجمعية السنة الماضية في جميع جهات الوطن وألقى وعاظها خطبهم ودروسهم في المحافل العامة، وكثيرا ما كان يحضرها رجال من الحكام وكانوا يلقون من شيوخ البلدان الأميار وحكام الدوائر كل تعضيد وتقدير، وقابلنا بعد تمام الرحل إدارة الشؤون الوطنية بالعاصمة فلم نسمع على خطتنا أدنى إنكار ولم نتلمح أقل إشارة إلى ارتياب في الجمعية أو استثقال لأعمالها، فما الذي بدل العقول وحول النيات، وحمل بريفي العاصمة على ابتداء منازلة الجمعية بقراره المشهو وحمل تلك الإدارات على مناوأة الجمعية
__________
(1) كذا في الأصل.(3/282)
ومضايقة رجالها وعرقلة أعمالها حتى عطلوا جريدة السنة لغير ما سبب إلا أنها جريدة الجمعية ولسان حالها؟! هذا محل سؤالنا ومناط تعجبنا.
وبعد فما ينقم علينا الناقمون؟ أينقمون علينا تأسيس جمعية دينية إسلامية تهذيبية تعين فرنسا على تهذيب الشعب وترقيته ورفع مستواه إلى الدرجة اللالقة بسمعة فرنسا ومدنيتها وتربيتها للشعوب وتثقيفها؟ فإذا كان هذا ما ينقمون علينا فقد أساءوا إلى فرنسا قبل أن يسيئوا إلينا، وقد دلوا على رجعية فيهم وجمود لا يتناسبان مع المبادئ الجمهورية ولا مع حالة هذا العصر، أفتكون في الهند جمعيات للعلماء تقوم بأعمالها بغاية الحرية والهناء عشرات من السنين تحت السلطة الإنجليزية الغاشمة القاسية وتضيق صدوركم أنتم عن تكوين جمعية واحدة للعلماء المسلمين بالجزائر تحت المبادئ الجمهورية العادلة المشعة بعلومها على الأمم؟ تناهضوها وهي ما تزال في المهد؟ أفظننتم أن الأمة الجزائرية ذات التاريخ العظيم تقضي قرنا كاملا في حجر فرنسا المتمدنة ثم لا تنهض بجنب فرنسا تحت كنفها، يدها في يدها فتاة لها من الجمال والحيوية ما لكل فتاة انجبتها أو ربتها مثل تلك الأم؟ أخطأتم يا هؤلاء التقدير وأسأتم الظن بالمربي والمربى، وبعدتم عن العلم بسنن الكون في نهضات الأمم بعضها ببعض عند الاختلاط أو التجاور أو الترابط بشيء من روابط الاجتماع.
أنظروا شيئا إلى ما حواليكم من الأمم وتأملوا فيما تنادي به الشعوب وما تعلنه من مطالب، فإنكم إذا نظرتم وتأملتم حمدتم لهذه الجزائر الفتية نهضتها الهادئة، وتسمكها المتين بفرانسا، وارتباطها القوي بمبادئها وعدها نفسها جزءا منها وقصرها لطلبها منها على أن تعطى جميع حقوقها كما قامت بجميع واجباتها، وأن لا يتقدمها في أيام السلم من قد لا يساويها في أيام الحرب.(3/283)
لا، لا أخالكم تنظرون ولا تتأملون فإن الأثرة المستولية على النفوس حجاب كثيف يحول دون رؤية الحقائق كما هي، ويحول دون رؤية مصلحة فرنسا الحقيقية نفسها. وإني لأفهم من مناهضتهم العجيبة للجمعية وهي جمعية دينية تهذيبية بعيدة عن كل سياسة، أنكم لا تريدون من الجزائر إلا أن تبقى جامدة وأن لا تتمتع بشيء من الحق إلا ما لا غناء فيه ولا بقي معه. ولعمر الحق أن من يريد هذا بالجزائر اليوم لمخالف للشريعة والطبيعة، إذ من الطبيعي أن تتحرك الجزائر ضمن الجمهورية الفرنسية في زمان تحرك ما فيه حتى الحجر، ومن الشرعي أن تنال منها من الحقوق كفاء ما قامت به من الواجبات.
استكثرتم على الجزائر أن تكون لها جمعية لها منزلتها العظيمة في قلبها، وجريدة لها قيمتها الكبيرة في نظرها؟ فنبشركم أنه سيكون للجزائر الفرنسية (1) جمعيات وصحف وسيكون لها وسيكون … حتى يقف المسلم الجزائري مع أخيه من بقية أبناء فرنسا على قدم المساواة الحقة التي يكون من أول ثمراتها الإتحاد الصحيح المنشود للجميع.
أم هالكم أن يكون في أبناء الجزائر الفرنسوية من لا يزحزحه عن مبدئه وعد ولا وعيد ولا يستهويه رنين ولا زخرفة؟ فنبشركم بأن الجزائر المفطورة على مبادئ الإسلام والتغذية بمبادئ فرنسا أنجبت وتنجب رجالا كما رأيتم وفوق ما تظنون، رجالا تفتخر بهم فرنسا كما تفتخر بسائر أبنائها الأحرار.
كونوا كما تشاؤون أيها السادة فلكم- وأنتم تمثلون ما تمثلون-
كل احترامنا، وظنوا بنا ما تشاؤون فإنا على بصيرة من أمرنا ويقين
__________
(1) حسب تعبير الفرنسيين المستعمرين في ذلك العهده(3/284)
من استقامة خطتنا ونيل غايتنا. ومهما تبدلت اعتقاداقنا في أناس بتبدل معاملاتهم لنا فلن تتبدل ثقتنا بفرنسا وقانونها (1).
وعلى خطتنا المستقيمة وهي نشر العلم والفضيلة ومقاومة الجهل والرذيلة. وعلى غايتنا النبيلة وهي تثقيف الشعب الجزائري المرتبط بفرنسا ورفع مستواها العقلي والخلقي والعملي إلى ما يليق بسمعة فرنسا.
وعلى ثقتنا بعدالة فرنسا، وحرية الأمة الفرنسية، وديموقراطيتها.
أسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأسست جريدة (السنة) المعطلة، وأسسنا اليوم (2) بدلها جريدة (الشريعة المطهرة) وستقوم - إن شاء الله- مقامها وتحل من القلوب محلها والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) هذا أسلوب سياسي استعمله ليحقق به أهدافه البعيدة.
(2) يوم الاثنين، 2 ربيع الأول 1352هـ الموافق لـ 17 جويلية 1933م وجريدة الشريعه أسبوعية تصدر كل يوم اثنين، صدر منها ستة أعداد وآخر عدد صدر بتاريخ 29 ربيع الثاني 1352هـ الموافق لـ 21 أوت 1933م.(3/285)
رد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
على خطاب ابن غراب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
لو كان هذا الرجل وجه على الجمعية أضعاف ما وجه عليها من تهم واعتدى عليها بأضعاف ما اعتدى به عليها من سب وإذاية من عند نفسه، وفي مجلس من أي مجالس مثله، لكان محققا من الجمعية أنها لا تسمعه، ولو سمعته لكان حقا عليها أن لا تقول له إلا (سلاما) .. ولكن الرجل كان- عن رضى واختيار- آلة هدم وتخربب، وبوق شر وفساد، في مجلس رسمي قد استدعى له الناس ليقولوا ويحتج بأقوالهم. فلهذا تنازلت الجمعية لرد افتراءات النائب واعتداءاته.
زعم أن الفتنة والقلاقل والمشاغب منتشرة في الوطن، وأن سببها هو الجمعية وكذب في الاثنين.
فأما الزعم الأول: فإن المشاهد في الوطن كله هو السير المعتاد في الأعمال دون تظاهر ولا تجمهر ولا مصادمة بين قوتين ولا توقف عن أداء حكومي ولا تصدي لأحد بسوء. وإنما الموجود في الوطن حركة هادئة عامة نحو ما وعدت به فرنسا أبناءها الجزائريين من حقوق تعطى لهم في القريب. ولعمر الحق أن تسمية هذا فتنة ومشاغب وقلاقل، لمن الكذب الحبريت والقلب للحقائق اللذين لا يصدران إلا عن ذمة خربة وقلب مريض ونفس شريرة لا تبالي ماذا تجني، أو جاهلة لا تدري ماذا تقول. وإذا كنا نسمي توجه الجزائريين(3/286)
بمطالبهم في هدوء ونظام إلى فرنسا فتنة، فبماذا نسمي ما قام به أصحاب الأعتاب من التظاهر في بلدان عديدة بعنف وشدة وتهديد حتى عطلوا إحدى الجلسات في النيابة المالية لإظهار استيائهم؟ أن الأشياء- يا هذا- لا تخرج عن حقائقها بما يخلع عليها من الأسماء حسب الأغراض والأهواء.
وأما في الزعم الثاني: فإن حركة الجزائريين نحو مطالبهم من دولتهم إنما سببه ما علموه من عناية عظام رجال فرنسا بها وما بلغهم من بروجي م قرني وبروجي م فيوليت، ثم ما شاهدوه من حزم بعض نوابهم وذهابهم إلى فرنسا، أولاً بصورة فردية، وثانيا بصورة عمومية، ثم كان ما كان منهم من استياء من أن نوابهم ردوا ولم يقبلوا وفهموا من عدم قبول نوابهم عدم قبول مطالبهم، ثم أحسوا بضغط من ناحية وضعف من الناحية الأخرى فرجعوا إلى سكوتهم كسابق عادتهم واعتصموا بالاتنظار الذي تعودوه من أمد طويل، فهم ساكتون منتظرون. هذه هي الأسباب المنطقية التي يؤيدها الحس ويجسمها الواقع لما كان من حركة في الأمة ولن يستطيع تمويه غراب ومن لقنه أن يزيد عليها أو ينقص منها.
وزعم أن الحكومة ساعدت الجمعية أولاً ورخصت لها. والحكومة ما عرفت منها الجمعية مساعدة خاصة لا أولاً ولا أخيراً، وأي مساعدة شاهدناها من الحكومة وقد أقرت قرار بريفي الجزائر الذي يمنع رجال الجمعية من وعلى العامة وإرشادهم في المساجد، وأي مساعدة والحكومة قد أغلقت مكاتب وامتنعت من الترخيص في مكاتب أخرى لمجرد انتماء المعلمين أو الطالبين للتعليم للجمعية. فمن الأولى مدرسة سيق ومدرسة بلعباس ومدرسة قمار، ومن الثانية مدرسة القنطرة. هذا هو الواقع مع الأسف الشديد. ولكن من الحق الذي يجب أن نقوله وأن نتسلى به أنه ليس كل واحد من رجال الحكومة راضيا(3/287)
بهذه المعاكسة التي لا مبرر لها والتي هي صد لجمعية إصلاحية تهذيبية عن الإصلاح والتهذيب، وأما ترخيص الحكومة للجمعية فالفضل في ذلك للقانون الفرنسي الحكيم، ولولا ثقتنا بذلك القانون والرجال العظام الساهرين على تنفيذه ما كان لنا أن نصدع بهذه الحقائق التي يريد النائب غراب وملقنوه تغطيتها (1).
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
-2 -
زعم أن الجمعية تداخلت في شؤون لا علاقة لها بالتعليم وانفجرت بتعاليم منافية للعلم ومثيرة للأحقاد والتحزبات.
كأن الملقنين لهذا الغراب يفهمون من التعليم أنه هو أن يجلس الشيخ في وسط حلقة ثم يلقي عليهم مسائل من النحو ومسائل من كتاب الصلاة، هذا فقط والتعليم، فأما مكتب ابتدائي يعلم فيه أبناء المسلمين وبناتهم مبادئ دينهم ولغتهم ويحفظون فيه من مواطن الفساد ومهاوي الشقاء وبراثن المضللين، ويهيئون للحياة تهيئة صحيحة تكوِّن منهم رجالا مسلمين يخدمون أمتهم ووطنهم ودولتهم ويشرفون سمعتها، وأما إلقاء دروس الوعظ والإرشاد على طبقات العامة التي تفقههم في دينهم وتعرفهم بالفضائل الإنسانية وتحذرهم من الرذائل الحيوانية وتفتح بصائرهم لإدراك حقائق الحياة الدنيا وما يفيدهم في الحياة الأخرى، وتصحيح عقائدهم وتهذيب أخلاقهم وتقويم أعمالهم، حتى يعيشوا بذلك كله سعداء في الدنيا مع أنفسهم وجيرانهم
__________
(1) الشريعة: السنة 1، العدد 7، الاثنين 7 جمادى الأولى 1352هـ - 28 أوت 1933م، ص 1، ع 1و 2 و 3، وأسفل صفحة 2.(3/288)
وحكومتهم، ويكونوا على أقوى الأسباب لنيل السعادة في آخرتهم- فهذا كله شؤون لا علاقة لها بالتعليم، ولهذا لما اشتغلت بها الجمعية- زيادة على دروس رجالها لطلبة العلم- قال هذا المتقول المقول: أن الجمعية تداخلت في شؤؤن لا علاقة لها بالتعليم!
أما التعليم، كما يفهمه كل أحد، وكما جاء به الدين، وكما كان عليه سلف المسلمين، فهو نشر العلم لكل أحد، للكبير والصغير والمرأة والرجل: بحلق الدرس ومجالس الوعظ وخطب المنابر وبكل طريق موصل، وهذا ما اشتغلت به الجمعية وتوسلت بالطرق الموصلة إليه، ولن يستطيع الغراب ولا غيره أن يثبت عليها شيئا غير ذلك.
ولا نظنه يعني التعاليم المنافية للعلم إلا ما قامت به الجمعية من بناء وعظها وإرشادها على آيات القرآن العظيم وأحاديث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ووصايا أئمة السلف، فإن هذا كله كان مهجورا في هذه الديار، بل وفي غير هذه الديار، فإذا كانت هذه هي التعاليم المنافية للعلم عنده فنحن نشهد الله وملائكته والناس أجمعين أن هذه هي التعاليم المنافية للجهل المغيضة لأهل الجهل الماحقة لكل جهل ودجل، وأنها هي هي مصدر الدين والعلم وكل خير وسعادة للبشر وأرغم الله أنف كل أفاك أثيم.
ثم يقول الغراب: إن هذه التعاليم مثيرة للأحقاد والتحزبات! ولقد صدق هنا وهو الكذوب، فقد أثارت علينا هذه التعاليم الأحقاد، وأي حقد أعظم من الحقد الذي أكل قلبه وقلب مثله حتى اعتدى علينا هذا الاعتداء العظيم، وافترى علينا هذا الإفك المبين، وكيف لا يحقد علينا الجهال الذين يعيشون على الجهل ونحن نحارب الجهل والمتعيشين عليه؟ وكيف لا يحقد علينا الذين يقولون للناس كونوا عبادا لنا بفنون من لسان المقال ولسان الحال، ونحن نقول للناس لا تكونوا عبادا إلا لله، وهم يقولون للناس، اعبدونا وارزقونا،(3/289)
ونحن نقول لهم لا تعبدوا إلا الذي يرزقكم وهو الله وحده لا شريك له. وكيف لا يحقدون علينا من يريدون بقاء المسلمين عضواً أشلاً أو مريضاً في الهيئة الاجتماعية الجزائرية ونحن نريده عضوا حيا عاملا كسائر الأعضاء فيها يفيد ويستفيد يعين ويستعين.
فهذه الأصناف كلها وغيرها من أمثالها امتلأت صدورها على الجمعية حقدا حتى انفجرت بالشر أقوالها وأعمالها، وكانت حزبا واحدا في الكيد للجمعية والمكر بها والسعاية عليها والوشاية بها، وموقف هذا النائب الظالم المفتري مظهر من مظاهرها ومشهد من ومشاهدها. وهذه الأصناف وغيرها من أمثالها هي هي الحاقدة المتحزبة دون عموم الأمة وسوادها، التي ظهر للعيان التفافها حول الجمعية وسخطها على أضدادها، وما تملك الجمعية لتلك الأصناف من حقدها وتحزبها إلا أن تسأل الله هدايتها وتقاومها بالطرق المشروعة لترد كيدها وتخنق حقدها، وتدفع شر تحزبها عند ما تدعوها الضرورة لمدافعتها، مثلما دعتها الضرورة للرد على هذا النائب بالحجة والبرهان لا بما سلكه هو- وسلكه أمثاله قبله- من الوشاية والإذاية والكذب والبهتان (1).
عن الجمعية الرئيس عبد الحميد بن باديس
-3 -
ثم يرمي الجمعية بدس الدسائس وقد علم الناس صراحة الجمعية في جميع مواقفها والجمعية التي يلقي رئيسها باسمها تلك الخطبة المشهورة في حفلة النادي بالجمعية في جمع حاشد من جميع الطبقات لا يتصور عاقل أن يكون الدس من خلقها.
__________
(1) الصراط: العدد الأول، قسنطينة يوم الاثنين 28 جمادي الأولى 1352هـ الموافق لـ 18 سبتمبر سنة 1933م، س 1، ع 2، ص 5(3/290)
ثم يرميها بنصب الحيل لجلب الأموال وقد علم الناس ضبط حساب الجمعية الدقيق بما يتلوه في اجتماعاتها العمومية أمين ماليتها وينشره على الناس.
ثم يرميها بنشر الشحناء، وكيف هذا وكلمات الجمعية التي كانت وفودها تلقيها على الناس وتلقنهم إياها هي: تعلموا، تحابوا، تسامحوا. وإذا كانت هذه الكلمات تثير الشحناء والعداوة في القلوب المريضة التي لم تألف سماع هذه الكلمات ولم تخلق للاتصاف بها فماذا تملك الجمعية لها.
ثم يقول عن الجمعية: "خالطت الطوائف الانتخابية"، وماذا يعني هذا الجاهل بالطوائف الانتخابية؟ ولو كانت في الأمة طوائف انتخابية تسير على برامج منظمة لما كان مثله نائبا يهذي هذا الهذيان! لكن لعله يعني شخصا أو شخصين من النواب العماليين الذين أنطقهم شرفهم وغيرتهم بما يعلمونه عن الجمعية من خدمة الحق والخير، وهؤلاء لم يكن بينهم وبين بعض رجال الجمعية إلاَّ معرفة شخصية ليست أكثر من المعرفة الشخصية التي بين هذا النائب الجهول وبين بعض رجال الجمعية الذين في قسمه. والجمعية نفسها لا خلطة لها، لا بهذا ولا بذالك، ثم كان ماذا لو أن الجمعية اعتمدت على أهل الصدق والشرف والغيرة لترد بهم كيد مثلك يا مسكين؟ فينكر على جمعية سلمية أن تتقوى بالأحرار الصادقين- والنواحي القوية لا تتنزه عن التقوي عند الحاجة بالعبيد الكاذبين؟ إلا أن الجمعية جمعية علم وتهذيب، فهي تتأيد بأهل العلم والتهذيب، جزائريين وفرنسيين، مسلمين وغير مسلمين، وتمقت وتتبرأ من الجهل والوحشية من أي ملة وجنس.
ثم يرمي الجمعية بأنها تنشر المذهب الوهابي، أفتعد الدعوة إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وطرح البدع والضلالات(3/291)
واجتناب المرديات والمهلكات نشرا للوهابية، أم نشر العلم والتهذيب وحرية الضمير وإجلال العقل واستعمال الفكر واستخدام الجوارح- نشر للوهابية؟ - إذاً فالعالم المتمدن كله وهابي! فأئمة الإسلام كلهم وهابيون؟ ما ضرنا إذا دعونا إلى ما دعا إليه جميع أئمة الإسلام وقام عليه نظام التمدن في الأمم أن سمانا الجاهلون المتحاملون بما يشاءون فنحن إن -شاء الله- فوق ما يظنون، والله وراء ما يكيد الظالمون.
ثم يقول: "إننا مالكيون" ومن ينازع في هذا وما يقرىء علماء الجمعية إلاَّ فقه مالك، ويا ليت الناس كانوا مالكية حقيقية إذاً لطرحوا كل بدعة وضلالة، فقد كان مالك- رحمه الله- كثيرا ما ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة … وشر الأمور المحدثات البدائع
ثم يقول: "إن الأمة الإسلامية منذ قرن وهي متمتعة بحريتها ودينها وعاكفة على دروس علمائها"، ونحن نريد في هذا القرن الثاني أن تزداد تمتعا بحريتها وانتفاعا بفقه دينها واتساعا في دائرة علمها على سنة التطور والرقي والتدريج، فثارت ثائرة هذا الجاهل ومن وراءة ومن كان في الجهل والشر مثله يحاولون إثارة الفتنة، والله يطفئها، ويكيدون للجمعية والله يحفظها، ويكذبون على الجمعية والله يظهر نزاهتها، حتى فضح الله أمرهم وعرفت الأمة أمرهم وعرفت الأمة دخيلتهم وأصبحوا كلهم في غضب من الله وسخط من الناس، والله لا يهدي كيد الخائنين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين (1).
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) الصراط السوي: السنة الأولى، العدد 3، ص 4، ع 1 و 2 و 3 قسنطينة يوم الإثنين 5 جمادي الثانية 1352هـ الموافق لـ 25 سبتمبر 1933م.(3/292)
حول تصريحات الوالي العام
لمكاتب "البتي باريزيان"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرنا في العدد الحادي عشر نص هذه التصريحات ونشرنا احتجاج مجلس إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عليها. ثم رأينا من واجب جريدة الجمعية أن تقوم بواجبها في التعليق على تلك التصريحات ومناقشتها، فإن لتلك التصريحات من القيمة بقدر ما لجناب المصَرِّح بها من المنزلة ولا نكون قدرنا تلك القيمة وعرفنا تلك المنزلة إذا نحن سكتنا عنها.
قال جناب الوالي العام: "إن الحوادث الدينية التي حدثت أخيرا كان المتسبب في وقوعها أو على الأقل المستغل لما نشأ عنها من منافع سياسية أناس ليست لهم عقيدة راسخة ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به الدين".
فقد قرر الحقيقة لما جعل الحوادث دينية، فمثار كل ما كان هو تدخل الإدارة في شؤون الدين تدخلا شاذا مخالفا للدين نفسه ولقانون فصل الديانة عن الحكومة، وأما المتسبب في وقوع ذلك فهو عامل عمالة الجزائر بقراره المشؤوم المشهور ثم تقرير الإدارة العليا لذلك القرار وإبايتها من سماع من قصد اتهامها من نواب العاصمة بعد إبايتها من مقابلتهم إلاَّ من وراء وراء. ولا شك أن شعور جنابه بهذه الحقيقة جعله يقول: "أو على الأقل المستغل لما نشأ عنها من منافع سياسية" وأية منافع جناها نواب العاصمة من تلك الحوادث أكثر من أنهم قاموا بما تفرضه عليهم النيابة، فإذا كان من يقرم بواجبه يرمى(3/293)
بأنه يستغل ذلك الواجب فلا عار من هذا ولا مسبة فيه، وحسبنا من كل من نيط بعهدته واجب أن يقوم به، ولا حق لنا أن نقول له غير أحسنت لقيامك بواجبك.
وصف جنابه الذين قاموا بواجبهم بأنهم: "أناس ليست لهم عقيدة راسخة، ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به القرآن" أفنسي جنابه الآلاف المؤلفة من العامة الجزائرية المسلمة التي أظهرت استياءها بما قالت وبما فعلت وبما كتبت، وهي الأمة دينية مست في أمر ديني بحت فقامت محتجة مستنكرة، فلو لم يقم هؤلاء الذين وصفهم جنابه بما وصفهم به لكان قيام تلك الآلاف كافيا، وأنا لا أحب أن أناقش جنابه في منزلة أولئك النواب من الدين وحسبي منهم أنهم مسلمون يعيشون عيشة المسلمين ويحملون شعارهم ويألمون آلامهم ويحملون عبء القوانين الاستثنائية مثلهم لا غير، إنني أذكر جنابه في الحقيقة النفسية وهي أن العقيدة الموروثة لا بد أن تثور بصاحبها للدفاع عنها عند مسها، خصوصا إذا كان وسط المشاركين له فيها تؤثر العقيدة في صاحبها هذا التأثير للدفاع عنها عند الشدة، وإن لم تؤثر فيه ما تقتضيه من إعانة وقت الرخاء، فأولئك النواب وإن لم يقوموا بجميع ما تقتضيه العقيدة- نزولا عند قول جنابه- فإنهم ما اندفعوا- زيادة على القيام بالواجب- للعمل إلا بها.
ثم تصدى جنابه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقال: "وهؤلاء السياسيون تمكنوا من صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية ومن إدخالهم في ميدان عمل خارج عن دائرة التعليم والتهذيب القرآني" لا بل الذي صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية وعن التعليم والتهذيب القرآني هو السلطة التي أوصدت المساجد في وجه وعظهم وإرشادهم وحالت بينهم وبين عامة إخوانهم، وأغلقت كثيرا من المكاتب الابتدائية العربية التي يقوم بالتعليم بها في جهات عديدة أفراد منهم، وأمسكت عن(3/294)
إعطاء الرخص بفتح المكاتب، هذا هو الذي صد العلماء عن القيام بواجبهم، وأما السياسيون فإنهم ما حاولوا إدخال العلماء في السياسة وما كان العلماء- وقد نصبوا أنفسهم لشيء- أن يتداخلوا في شيء آخر، وقد أوقفوا وفودهم العلمية في الصائفة الماضية عن التنقل في جهات القطر تجنبا لكل رمي بالباطل ومع ذلك لم يسلموا- مع الأسف- من مثل هذا القيل.
وبعد فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم. وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للانسانية عامة. ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحيتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها وأن نبلغ من نفوسنا إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمة "إنك مظلومة في حقوقك وإنني أريد إيصالك إليها" يجد منها ما لا يجده من يقول لها: "إنك ضالة عن أصول دينك وإنني أريد هدايتك" فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها، وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا وإننا فيما اخترناه- بإذن الله- لماضون وعليه متوكلون.
ثم ما هذا العيب الذي يعاب به العلماء المسلمون إذا شاركوا في السياسة؟ فهل خلت المجالس النيابية الكبرى والصغرى من رجال الديانات الأخرى؟ وهل كانت الأكاديمية الفرنسية خالية من آثار الوزير القسيس رشليو؟ أفيجوز الشيء ويحسن إذا كان من هنالك ويحرم(3/295)
وقبح إذا كان من هنا؟ … كلا لا عيب ولا ملامة وإنما لكل امرىء ما اختار ويمدح ويذم على حسب سلوكه في اختياره.
أما قول جنابه: "وإن غالب هؤلاء العلماء تعلموا في مساجد القاهرة، حيث الإسلام لا تدرس مبادئه وتعاليمه الدينية فقط" فهو مخالف للواقع فإن العلماء الذين يعنيهم جنابه لم يتعلم واحد منهم في مصر والشخص الوحيد الذي تعلم في القاهرة وكان معهم قد انقلب انقلابا قبيحا وهو مرضي عنه تمام الرضا.
فالمسألة مسألة جمود وتفكير ونهوض مع الناهضين وموت مع الأموات ليست مسألة القاهرة ولا غيرها، وليس بصحيح أن مساجد القاهرة يدرس فيها ما ليس من الدين وما دروسها ودروس جامع الزيتونة وجامع القرويين ودروسنا بقسنطينة إلا واحدة كلها ترمي إلى المحافظة على علوم الإسلام والعربية ونشر العلم والتهذيب بين طبقات الناس وما هذا إلا أصل المدنية التي تدعو إليها الأمم الراقية في هذا العصر.
وكان جنابه أراد أن يخفف من عبء مسؤولية منع العلماء من إلقاء الوعظ والإرشاد في بيوت الله التي ما أسست إلا لذكر الله فقال: "وعلى كل حال فإننا لم نمنعهم من الكلام في الأماكن المدنية أو الدينية غير الدولية" ونحن نحتفظ بهذا التصريح بعدم المنع مما ذكر، ثم قال: إن الأماكن الدينية التي سماها جنابه دولية هي المساجد الإسلامية العامة التي يأتيها الناس المقصود تهذيبهم وإرشادهم وهي التي تناسبها دروس العلماء الدينية ومواعظهم، فأما الأماكن المدنية فليست مما يناسبهم ولا مما أعد لهم وأما الأماكن الدينية غير الدولية - ويعني المساجد الخاصة- فهذه على قلتها لا تكفي عموم الناس، فالحق أن منع العلماء من المساجد العامة منع لهم من القيام بمهمتهم الدينية(3/296)
على أتم وجوه المنع الذي لا يخففه وجه من وجوه الاعتذار.
هذا وإننا مع كل احترامنا لجنابه ما نزال نكرر احتجاجنا على منعنا من المساجد وكل ما نرمى به عن غير تبصر غير آيسين من إتيان يوم تتجلى فيه العدالة لجمعية دينية علمية تهذيبية تعمل لخير الجميع.
عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
الصراط السوي: السنة الأولى، العدد 15 قسنطينة يوم الإثنين 8 رمضان 1352هـ الموافق لـ 25 ديسمبر 1933م. ص 4، ع 1 و 2 و 3 وص 5، ع 1 و 2.(3/297)
في الشمال الأفريقي:
سياسة وخز الدبابيس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لا ننكر أننا من المعجبين بالآداب الفرنسية، ولا ننكر أننا مع المعجبين فوق ذلك بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام، لهذا يؤلمنا ويزعجنا ويملأ أنفسنا حسرة وإشفاقا أن نرى الآداب الفرنسية وأن نرى الصحافة الفرنسية الكبرى تنحط أحيانا إلى دركة الهذر واللغو والسخافة، وتنغمس في حمأة التعصب الممقوت المظلم فتنكر على غيرها ما تستحسنه لنفسها، وتعتبر الفضيلة عندها رذيلة عند غيرها. ثم تلجأ فوق كل ذلك إلى باب الاختلاق والإفك والبهتان فتتهم الأبرياء وهي تعلم أنهم أبرياء، وتقلب الحقائق وهي تعلم أنها تقلب الحقائق، وما ذلك إلا خدمة لغايات انتفاعية، ودفاعا عن مصالح مادية لبعض الهيئات التي تغذي صناديق تلك الصحف الكبرى.
وهكذا يقع التدليس والتلبيس على الشعب الفرنسي، فيبقى بفضل صحافته الكبرى المتحاملة عن غرض أو عن استئجار، جاهلا حقيقة ما يجري بالبلاد المرتبطة مع وطنه ارتباطا وثيقا، غالطا في حكمه عليها، غير متصور حقيقة ميولها وعواطفها وآمالها وآلامها.
وكلامنا اليوم مع أم الصحف الباريسية الكبرى، العجوز الوقورة جريدة الطان. فقد سولت لها النفس الأمارة بالسوء أن تسود مقالا عن الجزائر والجزائريين بمناسبة الاجتماع الذي عقدته بباريس لجنة البحر المتوسط الجديدة، وهي التي تجمع نواب الوزارات ورجال الحكم في مستعمرات فرنسا وبلاد الحماية والانتداب، ومهمتها النظر(3/298)
في المشاكل المشتركة التي تهم سياسة فرنسا الاستعمارية لكي تتوحد تلك السياسة وتسير في خطة متماثلة بكل الأقطار التي يخفق على أرضها العلم الذي يقولون أنه يمثل بأحمره وأبيضه وأزرقه الحرية والأخوة والمساواة.
فلتحريش أعضاء هذه اللجنة، ولحملهم على سلوك سياسة الشدة والعنف والجبروت مع الرجال الذين دانوا بطاعة فرنسا ما يزيد عن القرن، وسقطوا في كل ميادين القتال ألوفا مؤلفة حول رايتها، ولأجل غايتها، ولتشويه الحقائق والباس الحوادث غير لباسها الطبيعي، كتبت الطان مقالها المأسوف له والمتحسر عليه، ونشرته في عددها الصادر يوم 20 فيفري السالف.
فهي تقول وأنف الحقيقة راغم: أن المهيجين الذين هدأ فورانهم أثر زيارة مسيو ريني قد عادوا فجأة إلى ميدان الإثارة، ومن الممكن أن يقودوا الأمة إلى فاجعة كفاجعة قسنطينة المؤلمة.
فالدكتور ابن جلول يتهم كي جريدته (الانطانت) الإدارة الفرنسية بأنها تريد أن تغمر الجزائر في ميدان النار والدماء.
ويؤيده في هذا الطريق ابن باديس والطيب العقبي وهما على رأس جمعية العلماء التي لمت في نادي الترقي شمل الذين اتفقوا على نسف نفوذ فرنسا باستعمال شتى الطرق. وفي كل مكان نجد نشاط دعاة المذهب الوهابي وأعوان الجامعة العربية الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، والذين يتلقون تعاليمه من لوزان على طريق القاهرة. ومن أهم مطالبهم حرية الوعظ في المساجد وحرية التعليم بدون مراقبة.
فمن ناحية يقع الحث على عدم دفع الضرائب. ومن ناحية أخرى تجمع الأموال الطائلة لشراء الديار زعم أنها تستعمل مراكر دينية، وأنها في الحقيقة تستعمل مركزا لتهذيب الناشئة تهذيبا إصلاحيا متعصبا.(3/299)
ثم وقع استغلال موت الأمير خالد سليل الأمير عبد القادر، وقد توفي بدمشق فرقدت الدعوة لإقامة صلوات عمومية لاستنزال الرحمة على روحه.
وهنالك الشيوعية وهي لا تستدرج الناس باسم المذهب الشيوعي.
إنما تستدرجهم باسم المصالح المختلفة فتجذب إلى الحزب الشيوعي مستخدمي السكك الحديدية- وبرجال، المراسي والعملة. وجمعية كوكب شمال إفريقيا الشيوعية ترسل أفلاما سينمائية تظهر النظام الشيوعي في أبدع صوره. فناحية قسنطينة وتبسة وهي القريبة لتونس والتي يمكن للدعاة أن يتجولوا بسهولة بينها وبين البلاد التونسية، وناحية تلمسان، وهي مركز التعصب الديني الحاد، هما الناحيتان اللتان تحوم حولهما الريب بشدة واللتان سيدلي مسيو لودو عنهما ببيان أمام اللجنة العليا).
هذا كلام جريدة الطان.
ولقد كنا نمر كراما بهذا اللغو لو أنه صدر من صحيفة صغيرة، أو جريدة لا تمثل طبقة ممتازة من كبار الفرنسيين، أما وقد صدرت هذه الأقوال المستهجنة من صحيفة الطان، فالسكوت عنها يعد خوراً إن لم يعتبر جريمة.
فلنأخذ أقوال الطان من أولها، ولنعمل فيها معول الحقيقة- وللحقيقة معاول هدامة في بعض الأحيان- ولنقل نحن أقوالنا التي تخالف أقوالها على خط مستقيم. ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
نقول نحن أن الهيجان الذي تريد الطان أن تجعله موجوداً الآن بالجزائر، لا وجود له إلا في المخيلة المريضة المخروفة التي أملت ذلك الفصل. نعم هنالك استياء عمومي في طبقة الفلاحين الذين لم يجد أكثرهم من الإعانة الموعود بها إلا ما يجده الصادي في السراب. وهنالك استياء في الرأي العام عن إبطاء الإصلاحات الموعود بها والتي(3/300)
أجمعت الأمة على المطالبة بها. وهنلك تذمر عمومي من الحالة الحاضرة سواء من ناحيتها السياسية أو من ناحيتها الدينية والاقتصادية.
إنما الهيجان الذي تصوره الطان كأنه الغول الهاجم لابتلاع الأرواح، إنما الهيجان التي (1) تقول بأنه سيكون من نوع حوادث قسنطينة المؤلمة، فذلك ما نفي (2) وقوعه بكل قوة وبكل شدة، ولن يكون إلا إذا عملت يد المحرشين الأجانب الأوربيين على إثارته وتهيئة أسبابه، خدمة لأغراضهم الخاصة. والرأي العام الإسلامي لا يتبع كل ناعق، ولا يقدم بسهولة مثل هذه الأعمال إلا إذا استثير وأمعن في استثارته ولم يبق في قوس صبره منزع.
ثم لنتول الدفاع متطوعين عن النواب وهم الأغنياء عن دفاعنا، فمتى كانوا مهيجين أو دعاة للفتنة والاضطراب، وهم الذين بحّت أصواتهم في المناداة بوجوب التآخي والتضامن مع الفرنسيين لأجل الإحراز على نفس الحقوق الفرنسية، بواسطة فرنسا وحدها، ولو بتضحية بعض الشخصية الإسلامية- وهذا ما لا نوافق عليه نحن- وأقوالهم أمام وزير الداخلية، وكتاباتهم كلها على هذا المنوال.
لكن هؤلاء السادة قد ألفوا منذ أمد طويل سياسة البني وي وي (3) أولئك الذين لم يرتفع لهم صوت ولم تنبس لهم شفة بكلمة في مجال الدفاع عن الحقوق. فإن هم سمعوا كلمة المتذمر وإن هم شاهدوا حركة المستاء، نادوا بالويل والثبور وقالوا أن هذه إلا حركات ضد فرنسا قد نضجت في القلوب وانفجرت بها الصدور.
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: الذي
(2) كذا في الأصل وصوابه: ننفي.
(3) عبارة جارية فى الجزائر بمعنى الذين يوافقون على كل شيء يصدر من ساداتهم بكلمة نعم (وي).(3/301)
ثم ما شأن جمعية العلماء في هذا الأمر؟ - إن سمحت الطان لنفسها بحشر ابن جلول في ميدان التهييج السياسي- وهو بريء منه- فالرجل على كل حال رجل سياسة، ويمكن مصادمته، ويستطيع النضال عن نفسه في هذا المدان. أما جمعية العلماء المسلمين وهي الدينية التهذيبية البحتة، وهي البعيدة كل البعد عن السياسة والسياسيين، وهي التي لا علاقة لها مع الشعب إلا في ميدان الإصلاح المديني والتهذيب الاجتماعي ورفع الأمية عن القوم، فما أسخف الطان وما أسخف ذوي السخائم الذين أملوا على الطان تلك الأقوال في شأنها.
هذه الجمعية جمعية العلماء صحفها منشورة، وأقوالها مأثورة، وأعمالها مشهورة، فليأت هلؤلاء الأفاكون بكلمة أو قول أو فعل يمكن به إتهام الجمعية أو أفراد الجمعية أو القائمين بأمر الجمعية بأنهم يعمدون إلى التهييج أو يعينون على التهييج- هذا إن فرضنا جدلا أن الهيجان موجود.
وإن طالبت الجمعية بإلقاء الوعظ في المساجد، فقدما كانت المساجد مفتوحة في وجه علمائها ودعاتها، وقدماً عقدت الجمعية مجالس الدعوة والإرشاد تحت رعاية ورئاسة رجال الحكومة والبلدية فهل يستطيع أحد من رجال- البوليس أو من رجال البلدية أو الحكومة الادعاء بأن الجمعية قد حادت ولو مرة واحدة في كل حياتها عن سلوك طريق الإرشاد العلمي الديني سواء بالمساجد أو المجتمعات العامة وإشارت على الناس ولو من طرف خفي بتأييد المهيجين وإعانة الهيجان؟
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}!
ثم ما شأن الأمير شاكيب أرسلان، وما شأن الوهابية، وما شأن الجامعة العربية في كل هذا؟
إنهم يعلمون علم اليقين أنه ليس في الحركة الإصلاحية ولا في(3/302)
الحركة السياسية في القطر الجزائري، من أصبع خارجي كيفما كان أمره ومهما كان مصدره، ولقد قامت لديهم الأدلة والبراهين على ذلك. وتالله لو أنهم وجدوا برهانا ولو ضعيفا على خلاف ذلك، ولو وجدوا حجة ولو واهية على وجود أي شيء من هذا القبيل، لكانوا قد بطشوا بنا قبل اليوم بطشا، ولكانوا قد محقوا هيأتنا من عالم الوجود، بعد محق أشخاصنا.
لكن ولاة الأمور قد علموا جلية الأمر، وتميز لهم خبيث القول من الطيب، وتأكدوا أن ليس في حركتنا الدينية ولا في الحركة السياسة من يد خارجية. وإننا لنتحداهم تحدي القوي المؤمن بحقه أن يأتونا- حكومة وأفرادا- بما يثبت للناس خلاف هذا. ونكون عندئذ محجوجين ويكون لهم الحق في كل ما يفعلون.
فان لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فمثل هذه الأقوال التي لا قيمة لها، والتي لا يقصد بها إلا حشر أسماء مفزعة في ميدان البحث قصد التهويل والتهويش، ليست لها من قيمة أي قيمة، وإنها لتزيد الذي يأتي بها في حديثه سخفا على سخافته، وضعفا على ضعفه.
وقالت الطان: أننا نريد حرية التعليم دون مراقبة. لقد غلطت الطان وغلط الموعزون لها غلطا فاحشا. فنحن نطلب حرية التعليم العربي حقا، إنما نحن نقبل كل مراقبة، فأعمالنا العلمية والتهذيبية تقع علنا في وضح النهار وليس ما نخشاه ولا ما نكتمه. ولو تفضلت الطان وهيأتها الظاهرة والخفية بتعيين مراقب من قبلها للتعليم العربي الحر، لرحبنا به ولحبذنا تعيينه، ولأعقدنا أنه سيكون مقنعا لجريدته بفساد النظرية التي تدافغ عنها اليوم.
أما ما أشارت إليه الطان من أمر ابتياع الديار فإنهأ تقصد به الدار التي ابتاعتها جمعية التربية والتعليم، والتي قامت بفضل جهود(3/303)
الأمة وتضحياتها المثمرة. فتالله لو أن كاتب الطان شاهد الأمة وهي تجود بما لديها من مال قليل، وشاهد تلك الدار وما تحتويه، لخجل من نفسه ولندم على قوله ولكفانا مؤونة الرد عليه … أسست فرنسا في بلادنا وأسست جمعياتها ميات الآلاف من المعاهد والديار التي من هذا القبيل. فقال قائلهم إن الفرنسيين لم يعملوا شيئا مذكورا في هذا الميدان، وطالبوا بالمزيد. ولم يتجاوز ما أسسه الجزائريون أربعة أو خمسة من هذه الديار، فأصبحت هذه الديار متهمة وأصبحت خطرا على المجتمع ونفوذ فرنسا، تؤكد للطان أننا نربد أن نخرج من هذه المعاهد ناشئة مهذبة تعمل جهدها لكي تكون بعيدة عن مثل هذا التعصب الممقوت.
ومن أعجب العجب استشهاد الطان الرصينة- عادة- على صحة أقوالها بالدعوة التي انتشرت في البلاد الجزائرية لإقامة الصلوات العامة أو حفلات الذكرى للأمير خالد رحمه الله.
فتا الله إن هذا لمؤلم، ومؤلم جد الألم.
إذا سلمنا لصحيفة الطان المرتبطة برجال الدين، أن تستهجن مسلكنا الديني، وإذا سمحنا لكتاب الطان الذين أشبعوا روح الحرية أن يقاوموا مطالبنا في الحرية، وإذا سمحنا للذين يدعون الموت في سبيل تحرير الشعوب أن يقاوموا أحراز هذا الشعب أي حق من حقوقه الضئيلة، إذا سمحنا مكرهين بكل هذا، فكيف نسمح لجريدة أمة أقامت في مختلف بلادها فوق الألف تمثل لتخليد ذكرى عظمائها في ميادين الحرب والسياسة والعلم والفن، أن تقاوم أمتنا عندما رأت أن تقيم- لا التماثيل- إنما صلوات عامة وابتتهال لله أن يتقبل خالد برحمته ورضوانه؟(3/304)
حتى الاعتراف بالجميل، وحتى ذكر الموتى يجب أن ننساه لكي يرضى عنا هؤلاء السادة أصحاب المنطق المستقيم.
إسمعوا! إننا لن نرضيكم أبدا وإننا لن نعمل على إرضائكم. إننا لن نخشاكم أبدا ولن نعمل عملا يوقعنا تحت طائلة أيديكم. نحن سائرون على منهاجنا وفي طريقنا. لا يضرنا صراخكم ولا ينفعنا سكوتكم. فقولوا ما شئتم، فلن تنالوا منا منالا ولن نتزعزع عن عقيدتنا. إنما ننصحكم نصيحة خالصة أن لا تعودوا لمثل هذا العمل الممقوت، فسياسة وخز الدبابيس تنتهي غالبا بفقد الشعب لصبره، وإخراج الحليم عن حلمه. وإننا لنسد في أوجهكم هذا الباب إلا أن كسرتموه والأمر بعدئذ لله (1).
__________
(1) ش ج 12، م 11 غرة ذي الحجة 1354هـ- مارس 1936م ص 680 إلى 686.(3/305)
كلمات حكيمة
إنما ينسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي، ومصالح الحاضر! وآمال المستقبل.
والنسبة للوطن توجب علم تاريخه والقيام بواجباته من نهضة علمية، واقتصادية، وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه، وسمعة نبيه.
فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه (1).
لمنشيء (الشهاب) في جزء جمادي الثانية من سنة 1348
__________
(1) أعيدت كتابتها هنا بهذا العنوان: كلمات حكيمة.
ش: ج 1، م 11، ص 155 غرة محرم 1345هـ - أفريل 1935م.(3/306)
في الشمال الإفريقي:
كلمة صريحة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حقا إننا نعيش في وسط سادت الفوضى فيه من جميع جهاته، فمن فوضى في الدين إلى فوضى في الأخلاق، إلى فوضى في الاقتصاد. وزادتنا الأيام على كل ذلك فوضى جديدة ربما كانت أخطر الفوضات وأشدها تأثيراً على حياة الأمة وهي فوضى التكلم باسم الأمة.
فما من متكلم في أي مناسبة من المناسبات إلا ورفع عقيرته مدعياً بأنه إنما يمثل الأمة الإسلامية قاطبة في هذه البلاد، وأن الكلمات التي يقولها من عند نفسه إنما هي كلمة الحق وقولها الفصل. ولو أنهم اقتصدوا في القول ولم يلجوا باب الغلو والإسراف، وقالوا إننا نتكلم باسم الفريق الذي انتخبنا، أو باسم الهيئة التي ننتمي إليها، أو باسم الجماعة التي نحن منها أو باسم الذين يشاركوننا في الرأي والتفكير، لكان قولهم أصوب، ورأيهم أصلح، وكلامهم أقرب إلى نفوس السامعين من رجال الحكومة ومن رجال الشعب.
وإننا نتكلم اليوم حول هذا الموضوع إثر ما رأيناه من الحملة التي أجمعت الأمة على مجابهة جريدة الطان بها، وإثر اجتماع اللجنة الوزارية الإسلامية بباريس.
قال البعض من النواب المحليين، ومن الأعيان ومن كبار المتوظفين بهذه البلاد، أن الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا، ولا أمل لها في تحقيق هذه الرغبة إلا بأن تمد فرنسا يدها بكل سرعة، فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج(3/307)
التام. بل لقد قال أحد النواب النابهين أنه فتش عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر، وفتش عنها في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر، وأخيرا أشرقت عليه أنوار التجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا! حقا إن كل شيء يرتقي في هذا العالم ويتطور، حتى التصوف فبالأمس كان يقول أحد كبار المتصوفين:
فتشت عليك يا الله … وجدت روحي أنا الله
واليوم يقول المتصوف في السياسة:
فتشت عليك يا فرانسا … وجدت روحي أنا فرانسا
فمن ذا الذي يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصر على التطور والاختراع؟
إن هؤلاء المتكلمين باسم "المسلمين الجزائريين" والذين يصورون الرأي العام الإسلامي الجزائري بهذه الصور، إنما هم مخطئون يصورون الأمور بغير صورتها ويوشكون أن يوجدوا حفيرا عميقا بين الحقيقة وبين الذي يجب أن يعرفها. فهم في واد والأمة في واد، ويريدون أن يضعوا رجال الإدارة العليا في واد ثالث.
لا يا سادتي! نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأمة، بل ندعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمة فنقول لكم ولكل من يريد أن يسمعنا، ولكل من يجب عليه أن يسمعنا، إن أراد أن يعرف الحقائق ولا يختفي وراء آكام الخيال: نقول لكم إنكم من هذه الناحية لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا، ولا تعبرون عن شعورنا وإحساسنا. إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ولها وحدتها الدينية(3/308)
واللغوية. ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا.
ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسية.
ثم إن هذا الوطن الجزائري الإسلامي صديق لفرنسا مخلص، وإخلاصه إخلاص قلبي لا إخلاص ظاهري، يخلص لها إخلاص الصديق لصديقه لا إخلاص التابع لمتبوعه. فهو في حالة السلام والأمن يطلب من فرنسا أن تحترم دينه ولغته، وتمهد له السبيل ليرتقي ضمن دينه ولغته وأخلاقه، وتسبغ عليه نعم الحرية والعدل والمساواة حتى يصبح في رقيه وحريته وسعادته نموذجا للإدارة الفرنسية والتعاون الأهلي الفرنسي، وتستطيع فرنسا أن تفاخر به الذين يتباهون بما علموه في مستعمراتهم الحرة.
أما في حالة الأزمات العالمية، وحين اشتداد الخطب وإذا تكلم الرصاص وارتقت السيوف فوق منابر الرقاب فالمسلم الجزائري يهب كالليث من عرينه، للدفاع عن الأرض الفرنسية كما يدافع عن أرضه الجزائرية وعن حريمه وأطفاله. ولو لم تجنده فرنسا لسار للدفاع عنها متطوعا. ولنا في مختلف الواجهات الحربية الفرنسية عشرات الآلاف من قبور المتطوعين تشهد بهذا.
فنحن الجزائريين المسلمين العائشين في وطننا الجزائري، والمستظلين(3/309)
بالعلم الفرنسي المثلث الألوان، والمتحدين مع الفرنسيين اتحاداً متيناً لا تؤثر عليه الحوادث الطفيفة أو الأزمات السطحية، نعيش مع الفرنسيين، عيش الأصدقاء المخلصين، نحترم حكومتهم وقوانينهم ونطيع أوامرهم ونواهيهم، ونريد منهم أن يحترموا ديننا ولغتنا، ويحفظوا كرامتنا، ويأخذوا بأيدينا في طريق النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهكذا نعيش وإياهم أصدقاء مخلصين، وإذا جاءت ساعة الموت في سبيل الدفاع عن الوطن الفرنسي وعن الوطن الجزائري، وجدونا في صفوفهم الأولى لنموت إلى جانبهم موت الأصدقاء المخلصين.
وعلى هذا الأساس، توضع الأمور في مواضعها ويحصل التفاهم ويزول كل التباس.
اللجنة الوزارية:
هذه الفكرة جميلة هي نفسها، فكرة تأليف لجنة من مسلمي الجزائر، يستشيرها رجال الوزارات الفرنسية المختلفة في المسائل التي تهم البلاد الجزائرية، حتى تسير الحكومة الفرنسية في سياستها الجزائرية على هدى وعلى نور الإرشادات الصادقة التي تستمدها من رجال تلك اللجنة.
بل إن تشكيل تلك اللجنة يدلنا دلالة صادقة على رغبة حكومة فرنسا في درس المسائل الإسلامية الجزائرية دراسة عميقة، حتى تتقي في المستقبل الأخطاء التي كانت ترتكب من قبل.
لكن الفكرة إن كانت جميلة في نفسها، فإنها كانت غير موفقة
في تنفيذها، ذلك أن الإدارة العليا لم تلاحظ إلا الفكرة السياسية في انتخاب أعضاء هذه اللجنة وعمدت إلى ذلك الانتخاب بصفة مستعجلة(3/310)
فكان أعضاء اللجنة من جراء ذلك لا يستطيعون أن يخوضوا في مختلف المسائل المعروضة عليهم، والتي يتطلب الكثير منها معرفة فنية عميقة.
لقد استلفت أنظارنا أخيرا خوض هذه اللجنة في مسألة "الترشيد" كما كانت من قبل خاضت في شأنها أثناء جلساتها الأولى، وهذه المسألة علمية فقهية بحتة، يجب لحلها تضلع في الفقه وتعمق في دراسة الكتب الدينية والقوانين الدينية المختلفة مما وضع في استامبول والبلاد المصرية وغيرها.
فإلى جانب بعض المستشرقين الذين يحضرون اللجنة والذين لا ننكر عميق اطلاعهم وسعة معلوماتهم، نجد بعض أعيان الباشاغاوات، ولا نطعن فيهم إذا قلنا أنهم ليسوا بأصحاب معلومات فقهية، ونجد بعض الدكاترة وليسوا من أصحاب الموطأ ولا من قراء سحنون، ونجد غيرهم ممن توفرت فيهم بعض شروط سياسية أو اقتصادية، إلا أنهم لا يستطيعون الخوض أي خوض في أي مسألة دينية مهما قل أمرها وصغر شأنها. فهذه المسألة الدينية إذا استثنينا شخص الشيخ ابن الساسي قاضي قسنطينة لا نجد من يستطيع أن يقول فيها كلمة.
ونحن اليوم في ساعة بناء وترميم، ولا نريد أن نترك مثل هذه المسائل مهملة فتعتقد فرنسا أنها عملت ما يجب عمله، ويقول لها بعض المتكلمين "باسم الأمة الإسلامية" إنها قد عملت حقا في هذا الباب ما يجب أن يعمل، في الوقت الذي نعتقد نحن فيه أن ما عملته إنما هو عديم الفائدة وقليل الجدوى.
نرى نحن أن إصلاح هذه اللجنة أمر واجب وسريع، ونرى أنه إصلاح سهل ميسور. فلكي تمثل هذه اللجنة كل طبقات الأمة، ولكي تستطيع الخوض في جميع المشاكل المعروضة على أنظارها، وتقدم للحكومة إرشادات صائبة يمكن أن تكون أساسا لأعمال موفقة، يجب أن تشمل:(3/311)
أولا- ثلاثة من كبار العلماء الرسميين تنتخبهم الإدارة من بين رجال القضاء والافتاء بالقطر الجزائري.
ثانيا- ثلاثة من كبار العلماء الغير المتوظفين.
ثالثا- ثلاثة من رجال مجلس النيابات المالية ينتخبهم رفقاؤهم.
رابعا- ثلاثة منتخبون من المجالس العمالية.
خامسا- ثلاثة من كبار المتوظفين الإداريين المسلمين تنتخبهم الحكومة.
سادسا- ثلاثة من الفلاحين والتجار والصناع.
فاللجنة التي تتألف من مثل هؤلاء الرجال، يمكنها أن تتفاوض مع رجال فرنسا في مختلف المسائل والمشاكل الجزائرية، ويمكنها أن تؤلف لجانا فرعية مختصة: لجنة دينية، ولجنة اقتصادية، ولجنة سياسية، ولجنة اجتماعية، الخ- فهذه اللجان التي يباشر أعمالها رجال متخصصون يمكنها أن تدرس المسائل المعروضة عليها دراسة مدققة، ويمكنها أن تنير أفكار الحكومة والوزارات قبل إقدامها على تشريع قوانين تنفذ على الجزائر. وتكون اللجنة كلها أشبه شيء ببرلمان صغير جزائري يعمل إلى جانب حكومة باريس ويكون لها مرشدا ومعينا.
فإصلاح اللجنة، سواء في طريقة عملها أو في طريقة جمع أعضائها، ليس من مصلحة الجزائريين فحسب بل هو في مصلحة الإدارة العليا الفرنسية أكثر من ذلك.
أما بقاء اللجنة على حالها، واستمرارها على خوض الكثير من المسائل دون استعداد وسابق دراسة، فإننا لا نكتم الإدارة العليا أن هذا العمل الذي يستطيع أن يكون مثمرا، قد يصبح موجبا للازدراء(3/312)
ولا تكون له من نتيجة إلا خيبة الآمال التي كانت معلقة من الطرفين عليه.
فعسانا نرى من الحكومة التفاتا إلى هذه اللجنة، فتخرجها من دور التكوين إلى دور العمل الصحيح، وتجعلها وسيلة من وسائل التفاهم والعمل المشترك والتعاون الصادق في سبيل المصلحة العامة.
الإضراب التونسي:
هاجت تونس وحق لها أن تهيج، وأضرب طلبة الجامع الأعظم (1) وحق لهم أن يضربوا، وتظاهروا في الطرق العامة، وكان حقا عليهم أن يتظاهروا، فليست الصدمة التي صودم بها طلبة الجامع المعمور والمتخرجون منه بالصدمة الصغيرة، وليس التهديد الذي جرد سيفه الماضي على رؤوسهم بالتهديد الخفيف. فإن النصوص القانونية التي شملها الأمر العلي المتعلق بالوظائف العمومية، يجعل سائر الطبقات الزيتونية إلى نحو الخمسة أعوام أخرى، بعيدة عن الوظائف العمومية ومناصب الإدارة، وكأنما ذلك الأمر العلي قد صدر خصيصا لإقصاء هذه الطبقة التى هي روح الأمة التونسية عن الوظائف العامة وعن الإدارة التونسية كلها.
أرادت هيأة التشريع التونسية المختفية وراء الأوامر العلية، أن يزداد حسن التفاهم بين سائر المتوظفين من فرنسيين وتونسيين، ففرضت على كل راغب وظيفة من التونسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة الفرنسية وكل راغب وظيفة من الفرنسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة العربية، بحيث يستطيع كل منهما أن يقوم بمحادثة بسيطة باللغة الأخرى.
__________
(1) جامع الزيتونة.(3/313)
وقد جاء ما نصه في الأمر المذكور: "لا يمكن لأي متوظف تونسي ما عدا حكام المحاكم الشرعية أن يحرز على تسميته بصفة رسمية إلا إذا أثبت تحصيله على نفس درجة المعارف المذكورة في اللغة الفرنسوية.
فمفهوم هذا الفصل ومنطوقه يدلان على أن لن يستطيع التوظف من خريجي المعهد الزيتوني في أي إدارة تونسية إلا من كان محرزا على مبادئ اللغة الفرنسية، وبما أن القانون المذكور لم يترك أجلا في وجه المتعلمين لتعاطي الدروس الفرنسية، وبما أنه لا يوجد بين أساطين الجامع الأعظم شيوخ يلقنون إلى جانب شرح ميارة وحاشية التاودي مبادئ A. B. C. D.، فإن طلبة الجامع الأعظم رأوا أن جهودهم كلها أصبحت عبثاً، وأن آمالهم جميعا قد انهارت وأنه فيما عدا القضاة ورجال الإفتاء وهم رؤساء المحاكم الشرعية، لا يستطيع أن يتطلب منهم التوظيف أحد.
أضرب الجامع عن تلقي الدروس، ووقعت المظاهرات الهادئة الرصينة فقلبتها أعمال البوليس مظاهرة حادة دامية، وأوصدت المدينة التونسية أبوابها احتجاجا وتضامنا مع طلبة الكلية الزيتونية، فما كان لذلك من أثر عند الإدارة التونسية إلا أمرها بإبعاد فوج جديد من التونسيين إلى برج لوبوف وتقديم جماعة كبيرة إلى المحاكم الفرنسية فنالوا عقابا صارما من السجن والإبعاد. وهكذا استمر مسيو بيروطون على سياسة العنف الفاشستي إلى آخر لحظة من مدة حمكمه بتونس.
أصدرت الحكومة بلاغا تناقض فيه نفسها، وتخفف وطأة قانونها الأخير، فقالت في ذلك البلاغ أن الزيتونيين الذين لا يحسنون الفرنسية قد بقيت أمام وجوههم عدة وظائف يمكنهم التطلع إليها كأعضاء المحاكم الشرعية وأعوانها الإداريين كالعدول المحررين والكتبة والنساخين(3/314)
والعدول العموميين وخطط قسم الأمور الشرعية بوزارة العدلية وخطط القسم الأول من الوزارة الكبرى وخطط العمال والكواهي وكافة خطط الجامع الأعظم والشعائر الدينية والأوقاف.
فالأمر العلي يوصد باب التوظف إلا لحكام المحاكم الشرعية، وهذا البلاغ الحكومي يناقضه ويفتح الباب لهذه الخطط، إنما العمل الرسمي لا يقع إلا بناء على الأوامر، ولا اعتبار للبلاغات فيه.
فحركة الإضراب في المسجد المعمور لا تزال جارية إلى أن يصدر أمر جديد يزبل عن الأنفس الحيرة والارتباك، والهيجان لا يزال مستوليا على أنفس كل التونسيين من جراء هذه الضربة الصارمة، والجيش العرمرم من رجال تونس وخير شبانها لا يزال يتضاعف عدده في المنفى ببرج لوبوف حيث الآلام والأسقام، والصحافة التونسية المغلولة اليد لا تتجاسر على قول كلمة أو إبداء إشارة إلا تلميحا أو من طرف خفي، وما تجاسر البعض منها على طلب إرجاع المبعدين إلا عندما تحققت نقلة بيروطون من تونس. والأفواه مكممة بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفتح فمه بانتقاد أو ملاحظة خشية أن ينتزع في منتصف الليل من بين أهله وذويه ويسار به إلى برج لوبوف. والاستياء العام سائد بين سائر الطبقات كالنار تحت الرماد. هذه هي حقيقة الحالة بتونس كما تركها مسيو بيروطون عندما أمرت الحكومة بنقله إلى المغرب الأقصى ليمثلها هنالك بدل مسيو بونسو الذي أخفق في إدارة السلطنة المغربية.
وإننا لنتمنى أن يسلك مسيو فيون المقيم الجديد بتونس سياسة اللين والتسامح فيعيد إلى الأنفس اطمئنانها، ويرتق ما فتقه سلفه، معتمدا على المفاهمة والمشاركة الصادقة.
__________
(1) ش: ج 1 م 12 قسنطينة غرة محرم 1355هـ - أبريل 1936م ص 45 إلى ص 50.(3/315)
حول كلمتنا الصريحة
لقد أحدثت الكلمة الصريحة التي نشرناها بالعدد الاسبق من الشهاب أثرها المطلوب، وكان لها الدوي العظيم الذي كنا نتوقعه لها. فتلك كانت أول مرة فيما نعلم، جوبهت فيها الحكومة وجوبه فيها رجال السياسة بحقيقة ناصحة، هي عين الحقيقة التي تعتقدها الأمة، وفيها بيان لعواطف وإحساس وشعور الأغلبية المطلقة من سكان هذا الوطن الجزائري.
فأما الذين طهرت سريرتهم وخلصت نيتهم، فقد حبذوا خطتنا وشكروا لنا صراحتنا، وحمدوا لنا هذا الموقف الذي وقفناه ضد محاولات التجنيس الخائبة، ومحاولات هدم القومية واللغة والدين المجرمة، إذ بينا في جلاء ووضوح أننا مع احترامنا للسلطة الفرنسية، وإطاعتنا لقوانين الجمهورية، نريد ونستطيع أن نحافظ على ذاتيتنا الخاصة، وما فيها من مميزات اللغة والدين والإخلاص والثقافة ولا نريد بأي حال من الأحوال ولا نستطيع أن ننسلخ طوعا واختيارا أو كرها وجبرا على تلك الذاتية، وما فيها من مميزات، وما لها من حقوق.
وأما الذين في قلوبهم مرض، والذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأنكروا ما لهذه الأمة من مجد، وما لها من تاريخ، وما لها من روابط تجعل منها أمة متحدة ومتجانسة لها من الاتحاد والتجانس ما لأكثر الأمم تجانسا واتحادا في كل بلاد الأرض فأولئك قوم فزعوا من مقالنا كما تفزع الخفافيش عندما ينبثق نور الفجر، ومنهم من انتقد ومنهم من رد، ومنهم من أفحش وأقذع، وأن إلى الأمة التي أنكروها إيابهم، وأن عليها- مهما تجاهلوها- حسابهم.(3/316)
إن كلمتنا الصريحة قد وضعت الكثير من الرجال على المحك، فمنهم من ظهرت نفسه من در مكنون، ومنهم من انطوت جوانبه على حمأ مسنون.
وإنا لنشهد أن من أكمل الرجال الذين رأينا فيهم بهذه المناسبة، الهمة الحالية، وشرف النفس، وطهارة الضمير، الأستاذ فرحات عباس الصيدلي، والعضو البلدي والعمالي بسطيف.
كان هذا الرجل الأبي من أهدافنا في مقالنا (كلمة صريحة) وهو الذي آخذناه عن مقاله (فرنسا هي أنا) وقلنا له ولمن معه إنكم عندما تسمعون لسياسة الاندماج، وتحبذون التجنيس، وترضون ضياع حقوقنا الإسلامية مقابل حق الانتخاب، وتريدون- خلافا للطبيعة- أن يصير جمهور المسلمين بهذه البلاد جمهورا فرنسيا بحتا، لا يختلف عن الجماهير الفرنسية في شيء، إنكم عندما تسعون وتحبذون هذا لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا، وإنكم في واد والأمة في واد آخر.
فالسيد فرحات عباس، لم يتألم ولم يتكدر، وسلك مسلك كبار رجال السياسة الذين يحبذون النقد وينصاعون لكلمة الحق، فزار إدارة الشهاب، وأكد لها تقديره لجهودها، وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلت على سمو أدبه وعلو كعبه في عالم السياسة والتفكير.
ثم نشر مقالا في جريدة (لا ديفانس) (1) الصادقة الثابتة الجسورة، يبين فيه نظريته، ويشرح فيه فكرته الاجتماعية التي بنى عليها سلوكه السياسي، وسيجد قراؤنا تعريب هذا المقال إثر فصلنا هذا.
ولقد تولت بعض الدوائر مهاجمتنا، مستترة وراء جريدة النجاح، ووراء ورقة تدعى (صدى الصحافة الإسلامية)، ولقد كنا ننتظر من تلك الدوائر التي هاجمتنا، مناقشة هادئة تتناسب مع وقارها، وكنا
__________
(1) La défense: الدفاع يصدرها المرحوم الأمين العمودي.(3/317)
ننتظر منها نضالا بأسلحة حادة، لكن خاب أملنا في الأمرين. فالمناقشة كانت صبيانية الشكل والموضوع، والأسلحة كانت عتيقة مفلولة أبلتها كثرة الاستعمال.
فأما السلاح الذي استعمل ضدنا في النجاح فهو أسئلة وضعها رجل كبير، وأمضاها رجل صغير وقد حسب الذين قدموا لنا هذه الأسئلة أنهم يحرجوننا بوضع البحث فوق ميدان الاستقلال، كأننا قد رفعنا علم العصيان، ونادينا بفصل الجزائر عن فرنسا من الآن.
فهو يسألنا أولا: متى كانت حدود الجزائر على ما هي عليه الآن؟ وإننا نجيبه لنفرض أن حدود الجزائر لم ترسم على صفتها الحالية شرقا وغربا إلا منذ نحو مائة عام، فهل له أن يجيبنا متى كانت حدود فرنسا وألمانيا وإيطالبا والنمسا والمجر ورومانيا ويوغوسلافيا واليونان وبلغاريا كما هي الآن؟ وهل لم تتغير المرات العديدة خلال هذه المائة عام؟
ثم يسألنا: متى كانت بلاد الجزائر مستقلة؟ ونحن نقول له: إن ضربنا صفحا عن الدول الإسلامية المستقلة التي نشأت وازدهرت بالقطر الجزائري، وسلمنا بأن القطر الجزائري بصفته الحالية لم يكن مستقلا في وقت من الأوقات، فهل لحضرة السائل أن يجيبنا: متى كانت دولة تشيكوسلوفاكيا مستقلة؟ وإلى أي عهد يرجع استقلالها؟
ويسألنا أخيرا، ما هي وحدة اللغة التي تكلمنا عنها في كلمتنا الصريحة، فهل هي اللغة العربية، والحال ليس كذلك، كما يقول، أم ماذا؟
فهل نستطيع أن نجيبه بأن لغة هذا الوطن ليست عربية بدليل أن جريدة النجاح تنشر بلغة الصين، وأن الجريدة الرسمية الحكومية تنشر إلى جانب نسختها الفرنسية نسخة بلغة النبط والكلدانيين؟ أم نقول له أن الواقع يثبت بأنه لا يوجد في أرض الجزائر إلا واحد في المائة(3/318)
فقط من السكان المسلمين لا يتكلم العربية. ثم نسأله: هل لا توجد في فرنسا إلى جانب اللغة الرسمية الفرنسية لغات أخرى ذات آداب ولها صحف سيارة ويتكلمها الملايين من الناس، وخاصة بالألزاس، وبجهات الفلاندر، وببلاد ابروتانيا التي يقوم أهلها بحملة تكاد تكون ثورية لإجبار الحكومة على تعليم لغتهم بالمدارس، وببلاد البروفانس، وضواحي مرسيليا، وبجزيرة كورسيكا؟
وهل توجد وحدة اللغة، كما توجد بالقطر الجزائري، في رومانيا، ويوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا إن لم نتكلم إلا عن هذه البلاد؟
وأما السلاح الذي استعمل ضدنا بصدى الصحافة الأهلية، والذي خرج من معمل جريدة الهك القديمة وكتب بأقلام محرريها، ونحن لا نشرِّفهم بذكر اسمهم، احهتقارا لا جهلا، فهو ذلك الشتم البذيء الرقيع، سلاح الأسافل العاجزين، فصاحب الشهاب عند أولئك السادة: أحمق. مجنون، أخرق، جاهل غبي، مجرم، وهو بوحماره الخارجي الذي أثار إفريقيا قصد تأسيس دولة فوق الخرائب، ولم يتورع الكاتب شلت يمينه عن نبش قبر عبد المؤمن بن علي قدس الله روحه، لتبشيع سياسته والحط بكرامته.
ثم يصف ذلك الكاتب الأمة الجزائرية بكل أوصاف الجهل والفوضى، والتهديم والتخريب، حتى ليكاد الإنسان يعتقد أن ذلك الرجل الذي استؤجر لينال منا، إنما استؤجر لكي يقول للناس في العالم أجمع: أنطروا كيف أصبحت حالة المسلمين الجزائريين بعد أن حكمت فرنسا بلادهم نيفاً ومائة من السنين!
ولو كنا نستطيع أن ننحطَّ إلى تلك الدركة السافلة، ونجاري أولئك المحررين- في أسلوبهم لقلنا لهم إنهم أنذال، سفهاء ليس لهم ضمير، ولا يعرفون شهامة ولا كرامة. لكننا لا نقول لهم هذا، ولا(3/319)
نوجه لهم أمثال هذا الكلام، فلنا من آدابنا الإسلامية، ولنا مع شهامتنا العربية ما يمنعنا عن الانغماس في مستنقهم النتن.
فدعهم هم والذين يملون عليهم تلك السخافات الرقيعة، يقفون أمام الرأي العام بهذه البلاد، ولننظر كيف يكون حكمه عليهم قاسيا أليما.
إننا أكدنا في (الكلمة الصريحة) رغبتنا في الاحتفاظ بكياننا العربي الإسلامي، فوق أرض هي أرض آبائنا وأجدادنا، مع أحترامنا التام للسلطة وخضوعنا لقوانين البلاد.
لكن خصومنا، كما قلنا آنفا، أرادوا أن يفهموا من كلامنا أننا نريد الاستقلال ورأوا أنهم يحرجوننا إذا وضعوا البحث على بساط الاستقلال. حتى إذا زل بنا القدم فوق هذا البساط الأملس استنزلوا علينا نقمة الحكومة وطلبوا أن نعامل معاملة الثائرين المهيجين، وأن نذهب (1) ضحية قوانين روني وما سبقها.
لكن خابت آمالهم، فنحن قوم لا نتأخر عن الخوض في مثل هذه الميادين، وأنهم لا يزعجوننا أن جرونا للبحث في مسألة الاستقلال.
إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا. وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله ويقولون أن حالة الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد. فكما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلبا مع التاريخ. وليس من العسير بل إنه من الممكن أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الاستعمارية عامة والفرنسية خاصة، وتسلك فرنسا مع الجزائر مسلك
__________
(1) في الأصل: ننهب.(3/320)
إنكلترا مع أستراليا وكندا واتحاد جنوب إفريقيا، وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة إستقلالا واسعا، تعتمد عليها فرنسا إعتماد الحر على الحر.
هذا هو الاستقلال الذي نتصوره- لا الاستقلال الذي يتصوره خصومنا المجرمون، إستقلال النار والدماء- وهذا هو الاستقلال الذي نستطيع أن نحرز عليه مع الوقت، وبإعانة فرنسا وبإرادتها. وإننا لا نخشاه ولا نخشى البحث فيه.
إنتهاء الأزمة التونسية:
تمت الحوادث ببلاد الخضراء على النمط الذي توقعناه في العدد السالف، فإن مسيو فيون المقيم العام الجديد قد افتتح سياسته، كما افتتحها من قبل لوسيان سان ومانصرون وبيروطون، بالركون إلى جانب الاعتدال، والوعد بسلوك طريق المشاركة الصادقة وإجابة رغائب التونسيين المعقولة.
فأول عمل تم إجراؤه هو إرضاء طلبة الجامع الأعظم المعمور، بأن أجيبت طلباتهم المتعلقة بمسألة تعلم اللغة الفرنسية، فوقع العفو على الذين نالهم العقاب الصارم منهم سواء بالسجن أو بالتغريب ثم جمع المقيم العام لجنة قررت من جهة تأخير العمل بذلك الأمر إلى شهر مارس من سنة 1943، ثم قررت من جهة أخرى استثناء الكثير من الأعمال الإدارية والقضائية من ذلك الأمر القاضي بوجوب تعلم مبادئ اللغة الفرنسية لإجراء محادثات بسيطة عادية بها.
وهذه الوظائف المستثناة هي: الحكام الشرعيون ورؤساء كتبة المحاكم الشرعية وكتبة المحاكم الشرعية ومستكتبو المحاكم الشرعية والكتبة والنساخون باللغة العربية بالمجالس المذكورة والمنشئون والكتبة والمستكتبون والنساخون باللغة العربية بالقسم الأول من(3/321)
الوزارة الكبرى وبالإدارة المركزية للعدلية التونسية والمدرسون التونسيون بالمدرسة الصادقية ومدرسو القسم الإسلامي من مدرسة ترشيح المعلمين ومؤدبو المكاتب الابتدائية. كما يخرج من هذا القيد أيضا رغم كونهم لا ينسحب عليهم هذا القانون العمال والكواهي والخلفاء والمشائخ وكتبة الأعمال والمدرسون وسائر متوظفي الجامع الأعظم دام عمرانه وأرباب الشعائر ومتوظفو جمعية الأوقاف والعدل والمنشؤون بالشرع العزيز. وبعد ذلك وقع الالتفات إلى الناحية السياسية، فأمر مسيو فيون بحذف "جهنم الدنيا" برج لوبوف من قائمة الأماكن التي يمكن إبعاد التونسيين إليها ثم أمر بإرجاع 62 من المبعدين السياسيين إلى أهلهم وذويهم، بعد أن ذاقوا من العذاب الأليم وتجرعوا من كؤوس البأساء والضراء ما لم نسمع بمثله إلا في تاريخ محاكم التفتيش.
ولقد بقى الزعماء الثمانية أحرارا بمراقبتي قابس وجربة، إلى أن يتفاوض معهم المقيم العام مفاوضة رجل لرجل: وهم السادة: الدكتور محمود الماطري، والأساتذة محيي الدين القليبي، والطاهر صفر، والبحري قيقة، وصالح بن يوسف، والحبيب بورقيبة، ومحمد بوزويته.
وأثناء رحلة القيم إلى الجنوب، تقابل مع الثمانية الزعماء، ووقمت ينه وبينهم مفاوضة طويلة، نشر بعدها القيم بلاغا رسميا جاء فيه:
أن المقيم أكد لهم بأنه لا يريد أن يرى في المستقبل سياسة هيجان، إذ هو عازم على تنفيذ سياسة الحماية بحذافيرها، باحترام حقوق الدولة الحامية وحقوق سمو الباي، وأنه يريد التعاون الصادق من الجميع حول هذه السياسة، وأجابوه بلسان الدكتور الماطري أنهم لن يسلكوا أبدا سياسة الهيجان، وأنهم لم يهاجموا مبدأ الحماية بل(3/322)
قصارى مطلبهم الإحراز على الحقوق التي يطلبها التونسيون داخل منطقة النظام الحاضر. ثم أكدُوا للمقيم أنه يستطيع أن يثق بكلامهم وأنه لن يندم على ثقته بهم.
هذه خلاصة بلاغ السفير، ونحن نعتقد وإن لم تأتنا الأنباء بعد، بأن المبعدين الثمانية قد رجعوا إلى بلادهم، واسترجعوا حريتهم بعد طول البعاد، وأن تونس ستفتح عصراً جديداً من العمل الهاديء المثمر، خاصة وأن اها في الواجهة الشعبية الفرنسية أصدقاء سيبرهنون على صداقتهم لها، فلعل الدستور والمجلس التشريعي وتحديد العلائق بين الإدارتين تكون من نتائج هذا الدور الذي نرجو أن يكون موفقاً سعيداً.
__________
(1) ش: ج 3، م 12، ص 141 - 147 غرة ربيع الأول 1355هـ- جوان 1936.(3/323)
حقوق الأمة الجزائرية (1)
التي تطلبها من الأمة الفرنسوية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
إن الأمة الجزائرية قد شاركت الأمة الفرنسوية في مواقف الموت فمن الحق والعدل أن تساويها في مواقف الحياة.
إن الحياة تشترى بالأرواح والأبدان والأمة الجزائرية قد بذلت أرواحها وأبدانها مع الأمة الفرنسوية ومثلها، ومن دفع الثمن فمن الحق والعدل أن يأخذ الثمن.
إن الأمة الجزائرية سمعت في أيام الشدة ومواطن البأس من الأمة الفرنسية أنهما يستويان في السلم كما تساويا في الحرب. فأما الذين ماتوا في تلك الأيام فقد ماتوا وقلوبهم تنعم بذلك الأمل المعسول وأما الذين بقوا فبقيت قلوبهم تتجرع الخيبة بعد الخيبة وتنطوي على الألم بعد الألم.
إن الأمة الفرنسوية لا تستغني عن الأمة الجزائرية كما لا تستغني الأمة الجزائرية عنها فمن الخير لهما معا أن لا تشعر واحدة منهما من ناحية الأخرى بنقص في الود أو ظلم في الحقوق.
وعلى هذا بنينا ما نقدم من الحقوق التالية طالبين من الأمة الفرنسية وخصوصا من الحكومة الشعبية الجديدة التي تمثل الشعب الفرنسوي والمبادئ الجمهورية أصدق تمثيل باسم الحق والعدل تنجيزه.
__________
(1) مطالب قدمها ابن باديس سنة 1936 لمكتب المؤتمر.(3/324)
الأوضاع والمعاملات الخاصة:
لا تتحقق المساواة المطلوبة إلا برفع جميع الأوضاع الخاصة مثل المتصرفيات ومجالس (الكريمينال) والمعاملات الخاصة، بل الأنديجينة وأعطيات الجندية وزيادة مدة الخدمة العسكرية، والبرنامج الخاص بالتعليم في المكاتب الابتدائية وغيرها وحرمان عمال الجزائر من كثير مما يتمتع به العمال الفرنساويون.
النيابات:
لا يمكن للأمة الجزائرية أن تنال حقها من الحياة على الأرض الجزائرية ما دامت لا تمثلها في جميع المجالس الإقليمية فأول مطلب في النيابة هو تسوية نواب الجزائريين بنواب الفرنساويين في جميع المجالس ثم مطلب توحيد النيابة البرلمانية بكلا المجلسين بحيث يشارك في انتخاب النواب البرلمانيين مشاركة فعلية جميع سكان الجزائر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم مع بقاء المسلمين على جميع ذاتياتهم الإسلامية.
(هذا التصدير قدمه الأستاذ للمؤتمر باسمه الخصوصي على أنه رأى من الآراء يضم إلى نظائره وبعد هذا بين في إيجاز بليغ مطالب جمعية العلماء وقدمها باسمها وهي (1)).
اللغة العربية:
تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية وتكتب بها، مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية وتعامل صحافتنا مثل الصحافة الفرنسية وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرة مثل اللغة الفرنسية.
__________
(1) تعليق الأستاذ الشيخ الإبراهيمي رحمه الله.(3/325)
الدين:
1 - المساجد:
تسلم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها، وتتولى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة.
2 - التعليم الديني:
تؤسس كلية لتعليم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرسين ومؤذنين وقيمين وغيرهم.
3 - القضاء:
لا ينظم (1) القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق، وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال القضاء، منها تدريس تلك المجلة، والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية، وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها (2).
__________
(1) كذا في الأصل ويبد أن "لا" زائدة.
(2) الشهاب، ملحق ج 4، م 12 - ربيع الثاني 1355هـ جوليت 1936م ص 210 إلى 212.
اخترنا إعادة هذا المقال هنا لأنه يشتمل على مقدمة لا توجد في الأول المنشور في البصائر بتاريخ ربيع الأول 1355هـ- 19 جوان 1936م.(3/326)
نص المطالب التي قدمها لمكتب المؤتمر
رئيس جمعية العلماء خاصة بالدين واللغة العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة العربية:
تعتبر اللغة العربية رسمية مثل اللغة الفرنسية وتكتب بها مع الفرنسية جميع المناشير الرسمية، وتعامل صحافتها مثل الصحافة الفرنسية، وتعطى الحرية في تعليمها في المدارس الحرة مثل اللغة الفرنسية.
الديانة:
1 - المساجد:
تسلم المساجد للمسلمين مع تعيين مقدار من ميزانية الجزائر لها يتناسب مع أوقافها وتتولى أمرها جمعيات دينية مؤسسة على منوال القوانين المتعلقة بفصل الدين عن الحكومة.
2 - التعليم الديني:
تؤسس كلية لعلوم الدين ولسانه العربي لتخريج موظفي المساجد من أئمة وخطباء ومدرسين ومؤذنين وقيمين وغيرهم.
3 - القضاء:
ينظم القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية يكون انتخابها تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال المحاكم(3/327)
- منها تدريس تلك المجلة- والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية وطبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: س 1ع 24 الجزائر يوم الجمعة 29 ربيع الأول 1355هـ لـ: 19 جوان 1936م ص العمود 2 من الصفحة 2.
أعيدت كتابة هذه المطالب في الشهاب ملحق ج 4 م 12 بتاريخ ربيع الثاني 1355هـ- جويلية 1936م، ص 210 - 212.(3/328)
المؤتمر الجزائري الإسلامي العام
يحقق مبادئ (الشهاب)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يجد القراء على وجه كل جزء من أجزاء (الشهاب) مبدأه في الإصلاح السياسي هكذا: (الحق والعدل والمؤاخاة، في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات) ونحن نعني بذلك أن الأمة الجزائرية قد قامت لفرنسا بكل ما طلبته منها من نفس ونفيس، فمن الحق الواجب على فرنسا ومن العدل الذي لا يقوم أمة إلا به، ومن مقتضى المؤاخاة الحقيقية التي لا تكون إلا عند ما يشعر الإنسان بأنه غير مغموط الحق ولا مهضوم الجانب من صاحبه- أن تعطي فرنسا للجزائريين جميع حقوقهم دون أي تنقيص لهم عن غيرهم، ولا أدنى تمييز له عنهم، وليس لها أن تطالبهم بالانخلاع عن أقل شيء من مميزاتهم في قوميتهم ودينهم ولغتهم فقد قاموا بما فرضته عليهم من الواجبات وهم على قوميتهم ودينهم ولفتهم فلتعطهم جميع الحقوق وهم على قوميتهم ودينهم ولغتهم. وعلى هذا المبدأ كنا نقاوم بروجي الرجل العظيم الذي لا ننسى فضله م فيوليت لما فيه من عدم التسوية في الحقوق لا بين الجزائريين والفرنسيبن ولا بين طبقات الجزائريين أنفسهم وما فيه من تهئة الطبقة المثقفة للاندماج مع السكوت التام عن الدين واللغة، قاومناه أيام كان الناس كلهم متمسكين به إلا من عارضوه لأغراض معلومة وبإيعازات خاصة، ولم نبال في معارضته- لما كان مخالفا لمبدئنا من المساواة في الحقوق والمحافظة على المقومات الذاتية بكل الذين كانوا يعترضون علينا وقد يجاوزون الإعتراض إلى حد آخر، نعم ثبتنا على تلك المقاومة لأننا نعرف أننا بمبدئنا نعبر عن عقيدة(3/329)
جمهور الأمة ونعرب عن إحساسها، وجاء المؤتمر وطلبت مني لجنة قسنطينة أن أضع لها ما أراه من المطالب، فوضعت المطالب المنشورة في المقال المتقدم ومن تلك المطالب "السماواة في الحقوق السياسية مع المحافظة التامة على جميع الذاتية" وهذا هو الذي أقره المؤتمر بالاجماع ووجهته رئاسة المؤتمر إلى الحكومة ونشرته الصحف في صدر قرارات المؤتمر، وسقطت به جميع البروجيات، فحققت الأمة بهذا من مؤتمرها العام المبدأ الذي دعا إليه الشهاب لأنه يدرك حقا نفسيتها وينطق صدقا بلسانها، فنحمد الله الذي وفق الأمة إلى ما فيه خيرها وشرفها ونسأله تعالى أن يحيينا ويميتنا في خدمتها، محافظين على قوميتها ودينها ولغتها، ساعين بها ومعها في ترقية العمران وسعادة الإنسان (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 4، م 12، ص 214 - 215 غرة ربيع الثاني 1355هـ- جويلية 1936م.(3/330)
كلمة قالها ابن باديس
تلخيص مندوب جريدة الأمة الغراء
بمناسبة اجتماع الوفد الجزائري بالشعب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ الرئيس:
أيها الجزائري التاريخي القديم، السمام الصميم، كلمته من كلمة الله، وإرادته من إرادة الله، وقوته من قوة الله، أو لست منذ شهر كونت مؤترا كما ينبغي أن يكون جلالا وروعة، فذلك مجلى إرادتك ومظهر قوتك، وكونت هذا الوفد الكريم فحملته مطالبك فاضطلع بها وأدى الأمانة في ثمانية أيام، وهي لا تؤدي إلا في إضعاف ذلك من الأيام، وفد لعمر الله مثلك في قوتك وإرادتك وحياتك وكرمك، وفد متحد متعاون متساند زار الوزارات والأحزاب وأرباب الصحف فعرفك إليها ورفع إليها صوتك. ولقد كدت تكون أيها الشعب مجهولا عندهم تمام الجهل، لكن بأعمالك العظيمة وبما قام به الوفد صرت معلوما لدى من يعرف الحق ويحترم الكريم وينصف المظلوم.
أيها الشعب إنك بعملك العظيم الشريف برهنت على أنك شعب متعشق للحرية وهائم بها، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ ركنا نحن الحاملين للوائها، وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها وكيف نحيا ونموت لأجلها.
إننا مددنا إلى الحكومة الفرنسية أيدينا، وفتحنا قلوبنا، فإن مدت إلينا يدها وملأت بالحب قلوبنا فهو المراد، وإن ضيعت فرنسا فرصتها(3/331)
هذه فإننا نقبض أيدينا ونغلق قلوبنا فلا نفتحها إلى الأبد.
أيها الشعب لقد عملت وأنت في أول عملك فاعمل ودم على العمل وحافظ على النظام، واعلم أن عملك هذا على جلالته ما هو إلا خطوة ووثبة ووراءه خطوات ووثبات. وبعدها إما الحياة وإما الممات (1). اهـ
__________
(1) ش: ج 6، م 12، ص 272 غرة جمادى الثانية 1355هـ - سبتمبر 1636م.(3/332)
مع الوفد الإسلامي الجزائري:
مشاهدات وملاحظات
ـــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
لقد كان مقرراً أن يزور الوفد تلمسان وقسنطينة بعد اجتماع الجزائر الذي وقع في 14 جمادى الثانية أوت ليطلع الأمة على أعماله وآماله وكان مقررا أن يكون السفر لتلمسان مساء ذلك اليوم. ولكن مكيدة قتل ابن كحُّول المشؤومة حالت دون ذلك وما كان ينبغي- في نظرنا- أن تحول. ويالميتها أدت إلى التأخير فقط ولكنها كانت تكاة لمن لم تكن له رغبة في تلك الزيارة في الترك والابطال. ولهذا رأينا أن نطلع قراءنا على شيء مما بقي بأذهاننا مما شاهدنا ولاحظنا، وشيء في الجملة خير من لا شيء.
على ظهر الباخرة:
كان أعضاء الوفد- من النواب والعلماء والشبان- كأسرة واحدة في الأنس والعطف والاتحاد وكانت أوقات ينفرد فيها الشيوخ الثلاثة فهي التي أتحدث عنها لما فيها من أدب خاص.
الأستاذ العقبي:
يعرف الناس العقبي واعظا مرشدا يلين القلوب القاسية، ويهد البدع والضلالات العاتية بقوة بيانه وشدة عارضته ولكن العقبي الشاعر لا يعرفه كثير من الناس. فلما ترنحت السفينة على الأمواج وهب النسيم العليل هب العقبي الشاعر من رقدته وأخذ يشنف أسماعنا بأشعاره ويطربنا بنغمته الحجازية مرة والنجدية أخرى.(3/333)
[صورة: أعضاء وفد المؤتمر الإسلامى الجزائري إلى باريس، في مكتب وزارة (فيوليت)، ويرى رئيس الوزارة نفسه مع أعضاء الوفد]
...
ويرتجل البيتين والثلاثة والأربعة في المناسبات- وهاج بالرجل شوقه إلى الحجاز فلو ملك قيادة الباخرة لما سار بها إلا إلى جدة دون تعريج على مرساي، وأن رجلا يحمل ذلك الشوق كله للحجاز ثم يكتبه ويصبر على بلاء الجزائر وويلاتها ومظالمها لرجل ضحى في سبيل الجزائر تضحية أي تضحية.
الأستاذ الإبراهيمي:
وبينما كان حكيمنا الإبراهيمي يساجل الأستاذ العقبي ذكرياتهما بالحجاز وأيامهما بطيبة الطيبة، ويفيض في الحديث عن أيامه هو بالشام وتعليمه والمدرسة السلطانية بدمشق ويحدث عن رفاقه وأصدقائه من أدباء الشام وشعرائها وعلمائها ورجالها الذين لا تخلو الجرائد اليوم من ذكرهم- إذا به ينتقل إلى فجأة إلى الأندلس. وعجبنا باديء بدء(3/334)
لتلك القفزة من الأستاذ حتى ذكرنا ما بين الشام والأندلس من علاقات في فتحها وانتقال الخلافة الأموية إليها فقلنا أن الأستاذ قد عوضه الله من القوة في عقله ما ضاع عليه في رجله وكدنا نغبطه على عرجه. وهاجت الذكرى الأندلسية بصاحبنا الإبراهيمي وأخذ في الحديث عليها وعلى وطنينا المقرى مؤرخها حتى كاد ينثر علينا "نفح الطيب" من حفظه، وعلمنا أننا سنرى أنوار الأندلس بعد الغروب وبدت لنا بعد صلاة المغرب فطار لب صاحبنا وأخذ يهلل ويكبر ويحوقل ويسترجع.
وسبقته إلى قول الشاعر:
كبرت نحو ديارهم لما بدت … منها الشموس وليس فيها المشرق
فكاد يجن جنونه وأخذ يحدث عن شموس العلم التي بدت من ذلك الأفق وعن الثائر ابن غانية وما يتصل به وقضيناها سهرة أمام تلك الأنوار وأين منها عندنا "نار غالب" أو"نار المحلق".
الأستاذ عبد الحميد:
هذه هي المرة الأولى والأخيرة أعبر فيها عن نفسي كما عبرت عن رفيقي "الأستاذ" فإن ما كنا نشعر به من الاتحاد الروحي كره إليَّ أن أعبر عن نفسي بغير ما عبرت به عنهما وأنا في قرارة نفسي أبغض التواضع المصنوع كما أبغض الإدعاء الكاذب فلا أعرفه من نفسي ولا مرة واحدة، وأما التواضع المصنوع فمما تنقضي به العادة ويحتمه أصل التربية وقد خرجت عنهما هذه المرة امتثالا للطبع ولن أعود.
لقد كنت مأخوذا بأدب الرفيقين ولطفها، وكنت أختم إنشادات العقبي بالآهات والأنات، وتارة بالهزات والوقفات، وكنت أساوق الإبراهيمي الحافظة فيما ينشد من "نفح الطيب" وقد طال عهدي به. ولم تفارقني مهنة المعلم فكنت أجدني عن غير قصد أقرر نكتة في(3/335)
بيت من الشعر أو عبرة في حادثة من التاريخ فيوافق الرفيقان وقد يخالفان. وكنت بحكم مهنتي أيضا، أفكر في تلامذتي وأعدادهم لمثل مقام هذين العالمين الأديبين العظيمين فلن يحفط الإسلام والعربية في الجزائر إلا بأمثالهما فينبعث في عزم على الجد والاجتهاد في التعليم كل ما بقي من حياتي حتى آخر ومضة من الروح وآخر قطرة من الدم. ويمر بذهنبي خاطر مزعج يكدر عليَّ ذلك الصفو ويكاد يضعفه ذلك الأمل. أتدري ما هو الخاطر: هو "صندوق الطلبة" الفارغ المدين، ولكنني سرعان ما أزيله بكلمتي التي ألهمت إلى قولها منذ نحو ربع قرن: "نحن على الفيض الرباني" ولن نزال عليه إن شاء الله.
المقابلات الرسمية:
استقبلت الوزارات المقصودة كلها الوفد كله، فكان رئيس الوفد الدكتور ابن جلول يقدم الوفد للوزير واحدا واحدا ثم يلقي كلمات في التعريف بالوفد ومقاصده وما يناسب مقام زيارة الوزير ثم يتكلم الوزير بما يدل على الترحيب وحسن القبول ثم يتلو الكاتب العام للجنة المؤتمر الأستاذ ابن الحاج مطالب الوفد وهي التي قررها المؤتمر ويشرحها مطلبا مطلبا شرحا وافيا ثم يجيب الوزير عن تلك المطالب ويناقش في بعضها ثم تكون كلمات من بعض الأعضاء في أثناء الحوار.
هذه هي الصورة الإجمالية العامة لجميع المقابلات على ما يختلف من التفصيل في كل وزارة بما يناسبها.
عند م. فيوليط:
هو أول من زرنا ولما أجاب عن المطالب قال قد أكون نسيت شيئا فذكره الأستاذ العمودي بمطلب حرية التعليم العربي فأخذ في مدح العربية وأنها لغة تاريخية ولغة علم فمن المحال أن أحدا يبغضها أو(3/336)
يقاومها فقلت له: لكن مع الأسف إن اللغة العربية محاربة بالفعل من الإدارة الجزائرية وأن المسلمين يشعرون من أجل ذلك بألم شديد. ونبهت بعض الإخوان إلى أن م فيوليط لما كان يتكلم على المطالب كان يتكلم بفصاحة واسترسال فلما أخذ في الكلام على العربية لم يكن كما كان. فوافقوني على ذلك وقد كانوا تنبهوا له مثلي. صحيح أن م فيوليط يحب الخير للمسلمين ولكنه لا يحب لهم ما يعرقلهم عن الاندماج التدريجي، وليس كل ما يحبه لنا أحد عن حسن نية هو مما نحبه نحن لأنفسنا.
وقابلنام فيوليط مرة ثانية- الشيوخ الثلاثة والدكتور ابن جلول والأستاذ القلعي- فوضَّحنا له مطالب المؤتمر في الحرية الدينية وحرية التعليم بالمساجد لكل عالم مسلم وتأسيس جمعيات دينية في كل ناحية باختبار أهلها وذكر له الأستاذ الإبراهيمي الظلم الواقع من الإدار الجزائرية في هذه الناحية من حياة المسلمين، الظلم الذي لم يبق فيه من خفاء كما لم يبق عليه من صبر. فوعد بأنه سينظر المسألة مع رئيس الوزراء.
عند وزير الداخلية:
ولم تمكن مقابلة نفس الوزير- لتنقلاته في البلدان بسبب الاعتصابات- فقابلنا الكاتب العام للوزارة م أوبو وهو رجل راديكالي صميم وممن كلمه الأستاذ العقبي فقال له: نريد أن نعامل في الجزائر بما يعامل به غيرنا من سكانها من الطليان والأسبان فإننا نعامل بها أدنى من كل جنس. فوعد الوزير بالنظر في الحالة وأنه سيقدم هو إلى الجزائر بنفسه.
عند وزير الحربية:
م دالاديه راديكالي من يمين الراديكال وقد صارحنا بأنه لا يمكن(3/337)
أن يوافق على إعطاء النيابة بالبرلمان ما دمنا محافظين على الشريعة الإسلامية في حقوقنا الشخصية وصرح بأنه يكون مع المعارضين إذا عرضت المسألة في البرلمان. والذين يعرفون م دالاديه لا يستغربون منه هذا ورأيه هذا هو رأي الراديكاليين إلا القليل فلو عرضت مسألة النيابة في البرلمان ولقيها م دالاديه وأكثرية حزبه بالمعارضة مع من يعارضها من أحزاب غير الجبهة الشعبية لقضي عليها بالفشل قطعا.
عند رئيس الوزراء:
لطف وبشاشة وجاذبية: هذه الصفات التي يمتاز بها- مجموعة- م بلوم على كل من لقيناه من رجال الحكومة الفرنسية. بعد خطاب رئيس الوفد وشرح الكاتب لمطالب المؤتمر تكلم كبير الوزراء وافتتح كلامه بقوله: "إنني مسرور بزيارة مسلمين ليهودي وديموقراطيين لديموقراطي وفرانسويين لفرنسوي" وبهذه الروح ألقى جميع خطابه.
كلمة لكبير الوزراء:
قدمت قبل اليوم مطالب الأمة الجزائرية مرات عديدة بطرق متعددة وكانت تقابل بقبولها للنظر فيها وبالوعد بإنجاز بعضها ثم لا يكون بعد ذلك شيء من الوفاء من الواعدين، ولا شيء من الاستياء من الموعودين. غير أن هذه المرة لم تكن كتلك المرات في جميع ما يحيط بها، وبالطبع لن تكون مثلها فيما ينشأ عنها من نفع عند الوفاء أو ضرر عند الاخلاف. فأحببت أن أصارح كبير الوزراء بالعاقبة السيئة التي تكون لخيبة الأمة الجزائرية في مطالبها هذه المرة إذا خابت، فقلت له- بحضور الوفد كله والمترجم رئيس الوفد-: "الأمة الجزائربة المتألمة ليس ألمها ضد جنس ولا ضد دين ولا ضد فرنسا، وإنما ألمها ضد الظلم، ولهذا لما جاءت الحكومة الشعبية وتوسمت فيها الحرية والعدالة(3/338)
أعطتها كل ثقتها وأعلنت سرورها بها وأرسلت هذا الوفد فإذا رجعنا إليها ببعض مطالبها زادت ثقتها، وإذا رجعنا بأيدينا فارغة انعكس ذلك الفرح وحصل عن انعكاسه ضرر عظيم يستغله أضدادنا وأضداكم" فأجابني- باندهاش-: "كيف ترجعون بأيديكم فارغة وأنا أشتغل وحبيبي فيوليط من الآن في مطالبكم" فقال م فيوليط: "قبل الأحد ينجز العمل" وقد كنا لخصنا من المطالب بعضا منها لينجز ونرجع به في أيدينا وهو الذي دار عليه هذا الحديث. ولكن بعد هذا كله ها نحن قد رجعنا بأيدينا فارغة وما زالت فارغة إلى الآن. نعم فيها وعود وفيها آمال، وسنصبر هذه العطلة الصيفية على كل حال.
مقابلات الأحزاب الشعبية:
أكبر الأحزاب الشعبية التي تتألف منها الجبهة الشعبية هي الحزب الاشتراكي والحزب الراديكالي والحزب الشيوعي. وقد زار الوفد الأحزاب الثلاثة كلا في قسمه الخاص به من دار البرلمان، فأما الإشتراكيون والشيوعيون فقد كانوا موافقين على مطالب المؤتمر كلها، وأما الراديكاليون فكان منهم الوفاق على جملة المطالب لا على تفصيلها، وظهر منهم احتراز وتريث، وأشاروا إلى إرسال لجنة برلمانية لبحث الحالة وهذا هو الذي قررته الحكومة بعد كما هو معلوم.
مقابلة الصحافة:
عيَّن رئيس الوفد وقتا لمكاتبي الصحافة الباريسية في قاعة النزل الذي كان به الوفد فاستقبلهم الوفد فيها في الوقت المعين وبينت لهم المطالب وقد كتبت الصحافة بعد كل بحسب مشربه ولكن الأمر الذي كان حاصلا ولا محالة هو لفتها الرأي العام الفرنسي للمسألة الجزائرية الإسلامية لفتا جديا لم يكن قد حصل على هذا الوجه من قبل.(3/339)
النتيجة المحققة:
1 - أدى الوفد مطالب مؤتمر الأمة الجزائرية المسلمة بصدق وأمانة وشرف.
2 - عرفت فرنسا حكومتها وأحزابها وصحافتها أن وراء البحر أمة جزائرية إسلامية تطالب فرنسا بحقوقها وتحافط تمام المحافظة على شخصيتها ومقومات شخصيتها.
وهذان الأمران- وما حصلا قبل اليوم- لهما قيمتهما في حياة الجزائر وبناء مستقبلها. والأخير منهما هو الأساس الذي يجب أن يبني عليه كل عمل للجزائر والنهج الذي يجب أن يسير فيه كل من يتولى قيادة ناحية من نواحي سيرها في الحياة. وكل من حاد عنه قولا أو عملاً فإنه يعد خائنا للأمة ويجب أن يعامل بما يستحقه الخائنون. وقد رأينا اقتناعا به ممن لم يكن منه من قبل على يقين وسمعنا اعترافا به ممن كان قبل فيه من المتشككين. وإذا كنا نسمع أحيانا نعقات بما يخالفه فهي من شذاذ لا تخلو منهم أمة، ولا يزيدهم ذلك إلا بعداً عن الأمة وإسراعا في دركات السقوط إلى هاوية المقت وقرارة النسيان.
العودة إلى الوطن:
رجعنا وأكثر الرفاق يظن أن المطالب المستعجلة إذا لم تكن صاحبتنا فإنها لا تتأخر عنا بأكثر من أسبوع وإذا تقاعست وتباطأت فلا أكثر من شهر. أما أنا فلم أكن مع الأسف على هذا القدر من الرجاء. فالجبهة الشعبية تعتمد في بقائها على الراديكاليين وهؤلاء ما يزال فيهم من عرفنا سياستهم الإستعماوية في العهد القديم وهم ما يزالون عليها في العهد الجديد. وقد سمعت منهم حديث لجنة البحث فحق لدي ما ظننته فيهم وتوقعته منهم فكنت أعتقد أن المطالب ستتأخر(3/340)
وأنَّ هذا الصيف لا يكون فيه شيء ولكن لا بد من التمسك بحبل الرجاء إلى حين. وقد صدق الواقع ظننا وها أن الصيف قد مضت، وها أن لجنة البحث قد تعينت وها نحن من المنتظرين.
واليوم …!
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته … على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه … إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل (1)
__________
(1) ش: ج 7، م 12 ص 304 - 311 غرة رجب 1355هـ - أكتوبر 1636م.(3/341)
نحن مسلمون وكفى
إن الإسلام الذي ندين به، وهو دين الله الذي أرسل به جميع أنبيائه. وكمل هدايته وعمم الإصلاح البشري به على لسان خاتم رسله، هو دين جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفرادا وجماعات لصلاح حالهم ومآلم، فهو دين لتنوير العقول وتزكية النفوس وتصحيح العقائد وتقويم الأعمال. فيكمل الإنسانية وينظم الإجماع ويشيد العمران ويقيم ميزان العدل وينشر الإحسان. فلا يحتاج بعده إلى ما يتناحر عليه الأوروبيون من مبادئ أحزاب وجمعيات ليس في استطاعة شيء منها أن يصلح حالهم لا في السياسة ولا في الاجتماع دع عنك الأخلاق والآداب. كما أنه لا يسلم واحد منها من قواعد منافية للفطرة أو مجانبة للعدل أو ضعيفة في العقل فالمسلم بطبيعة إسلامه بعيد عن كل هذه الجمعيات والأحزاب. وهذه هي حال السواد الأعظم من المسلمين في جميع الأقطار.
يجهل بعض الكتاب الأوروبيين هذه الحقيقة أو يتجاهلونها، فتراهم يرمون المسلمين في كل حركة من حركاتهم بمبادئ الأحزاب الأوروبية ذات النفوذ والشهرة في أوروبا.
وللقارىء نموذجا من ذلك:
النمسا- الدعاية الهتلرية في إفريقيا الشمالية وفلسطين:
فيينا في 2: لمراسل البلاغ الخصوصي- يؤخذ من المعلومات التي أذاعتها صحيفة تلغراف عن نظام الدعاية الهتلرية في إفريقيا الشمالية وفلسطين أن مجموع ما أنفق على هذه الدعاية التي جعل مركزها(3/342)
الأساسي في برلين بلغ 000 ر0 36 ر 3 مارك في الشهر، وقالت أن الغرض من هذه الدعاية هو إثارة العالم الإسلامي ضد اليهود وإنجلترا وفرنسا وإعداد العدة لفتنة تقوم في إفريقيا الشمالية الفرنسية في حالة نشوب الحرب.
"البلاغ"
الدعاية الألمانية في إفريقيا الشمالية:
باريس- نشرت جريدة "الرجل الحر" التي تصدر في باريس فصلا قالت فيه: هل من واجبنا أن لا نغفل هذه المسألة الحيوية بالنسبة لسيادتنا في الشمال الإفريقي. أن مذبحة مدينة قسنطينة والقلاقل الأخيرة التي أثارها الدستور في جهات الساحل بالبلاد التونسية ليست إلا إنذارات يجب علينا ألاَّ نهمل أمرها وألاَّ نغفل نتائجها. ولهذا يجب أن نظهر في هذه الأراضي الإسلامية، وإذا كانت قوانا لا تصل حتى ترتكب الشدة أو الإرهاق فإن عفونا وتسامحنا ليس منشؤهما الضعف. يجب أن يقع تتبع تأثيرات هذه الدعاية الهتلرية أو الوطنية أو الثورية بغاية اليقظة والنشاط، تلك الدعاية التي إذا غفلنا عنها تسببت لنا في متاعب جمة.
"الزهرة"
ومما يجب أن يلاحظ هنا أن الذي كنا نرمي به هو الدعاية البلشفية، والذي صرنا نرمى به هو الهتلرية، ومن المعروف أن روسيا البلشفية قد دخلت في عصبة الأمم وأخذت كرسيا دائما فيها كسائر الدول العظام وأصبحت معترفا بها كدولة كبرى وكل ما كانت تأتيه "يبس وتحتت وطارت به الأرياح" فلم يبق من وجه لرمينا بالبلشفية والدعاية البلشفية. ولكن هتلر اليوم هو لينين بالأمس، فلتكن الهتلرية(3/343)
هي الكرة التي ترمى بها الأمة المستضعفة. وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن هذا الرمي بالهتلرية بعد البلشفية لم يكن عن جهل وإنما كان عن مكر وسوء قصد. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (1).
__________
(1) ش: ج 11، م 10، ص 482 - 484 غرة رجب 1353هـ- أكتوبر1934م.(3/344)
ليست الزردة وحدها
ولكن وراء الأكمة ما وراءها ...
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
حقا أن الزردة التي أقامها الدكتور بقسنطينة وترأسها ودعا إليها، ونشر عنها المقالات الطويلة أياما متوالية في جريدة (لا ديبش) اليومية، لمنكر طريف، وحادث عجيب، شغل الناس بما فيه من نكر وما فيه من طرافة حتى كاد ينسيهم كل ما أتى به الدكتور من أعمال ضارة وما سلكه من سبل معوجة، فلربما حسب قوم أن الزردة هي كل ما تنقمه الجمعية عليه، ولربما استكثر قوم هذه النقمة على أمر حقير إذ ليس بالخطير ولكن الحقيقة خلاف هذا الظن ووراء هذا الحسبان وليس من النصح أن تبقى الحقيقة مكتومة عن الناس ففي بقائها مكتومة الحيرة والاضطراب والضلال وفي بيانها الهدوء والاطمئنان وإنارة السبيل للعاملين. وها نحن نبيِّنها في الكلمات التالية مكشوفة دون أي تقبيح أو تحسين، حتى يحكم القراء بأنفسهم حكما غير متأثرين فيه إلا بالحقيقة المجردة.
كيف كنا معا:
لقد كانت الجمعية مضطهدة من الحكومة ومعاكسة في أعمالها من أول نشأتها وكان ما تنقمه الحكومة عليها بعثها النهضة العلمية والدينية في الأمة الجزائزية بعد طول رقادها ويأس القانطين والمقنطين من يقظتها. فلما جاءت الحركة السياسية وتقدم رجال أحرار للنيابة عن الأمة، وكان جميع المنتمين للجمعية- بطبيعة علمهم وبصرهم(3/345)
لا بوحي جمعيتهم- مع النوابه الأحرار، وفاز النواب الأحرار في أكثر الدوائر، لما كان هذا كله زادت نقمة الحكومة على الجمعية واعتقدت تأييد الجمعية للنواب الأحرار ونسبت يقظة الأمة وحسن اختيارها وعدم امتثالها للإيعازات وعدم خوفها من التهديدات، إلى ما بثته فيها الجمعية من حياة. وأخذت من يوم ذاك هي والصحافة الفرنسية الباريسية والجزائرية تقرن النواب الأحرار والجمعية في قرن عندما تكيد أو تقذف أو تغري أو تهاجم مع تخصيص الجمعية بالقسط الأوفر من الأذى والتهويل والإثارة للفكر الفرنسي العام.
ومن العجيب أن الدكتور كان، دون سائر النواب الأحرار، ينفس على الجمعية هذا البلاء ويحسدها على هذا العذاب، ويكره أن تكون لها تلك السمعة في الصحف، وأن يكون للمنتمين إليها ذلك الأثر في فوز النواب الأحرار، وكان يظهر ذلك في مجالسه وأمام من هم معه من الساسة، ولكنهم لا يرون رأيه في الجمعية. وكان كلام الدكتور يبلغنا- ولا محالة- وكنا لا نلقي له بالا حرصا على اتفاق الكلمة وإبقاء على وحدة الأمة. وكنا- رجال الجمعية- لا يكون موقف عام إلا أيدناه، ولا موطن يقتضي التقدم إلا قدمناه. حتى جاء المؤتمر الذي بذل كل جهده في عرقلته وأبى الله إلا أن يتمه، فقدمناه رئيسا عليه. ولما جاء تأسيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر قدمه رئيس الجمعية لرئاستها فوقع الإتّفاق على قوله. ولما رجع الوفد وقفل هو ورئيس الجمعية إلى قسنطينة وخرجت البلدة كلها للقائهما في يوم مشهود، خطب رئيس الجمعية في تلك الجموع وقال لهم: (ثقوا بالله ثم بأنفسكم ثم برئيس المؤتمر) وكنا- علم الله- إلى ذلك اليوم، وبعد ذلك اليوم عاقدي العزائم على العمل معه في ظل المؤتمر إلى غاية ما نستطيع.
كيف افترقنا:
وقعت حادثة الاغتيال المشؤومة فاغتيل معها- والله- عقل الرجل.(3/346)
وقال وكتب ما سبق به كل أعداء الجمعية إلى توجيه التهمة- تصريحا بالقول وتلويحا بالكتابة- إلى العلماء ورغم ذلك أغضينا وسكتنا. ووقعت حادثة الاعتقال الباغية فاهتبلها فرصة للإيقاع بالجمعية فطار الرجل إلى باريس يحمل معه تصريحاته إلى جريدة (مارساي ماتان) لما نزل بمرسيليا، تلك التصريحات التي لم يقل مثلها- مجتمعة- أحد من أعداء الجمعية والباغين لها الشر على كثرتهم فيها. ووقف على تلك التصريحات السيد طاهرات والسيد ابن الحاج العضوان في الوفد، وقد جاءا باريس مرة ثانية كما جئنا فأظهرا استنكارهما لها ودعواه إلى تكذيبها فوعد بتكذيبها. ووقفنا عليها ونحن بباريس فتريثنا بقدر ما انزعجنا، وانتظرنا التكذيب وانتظرنا، ولكن مضت الأيام والرجل لم يكذب فطلبنا منه التكذيب على لسان جريدة الجمعية وانتظرنا ثم انتظرنا وجاء الاجتماع العام للجمعية وعرضت مسألة تصريحاته على الاجتماع فقرر بالاجماع- إلا الأستاذ العقبي- القرار الذي نشر في العدد 39 من "البصائر" مع تعليق تنفيذ القرار على مضي ثمانية أيام دون أن يكذب. وكاتبه أثر تلك الجلسة الأستاذ العقبي بصفة خاصة يطلب منه كلمة تكذيب ينشرها في البصائر وتنتهي بها المسألة حسبما كان وعده فلم يفعل. فنفذ قرار الاجتماع العام واعتبر ضدا من أضداد الجمعية ليكون لكلامه عنها عند الحكومة وعند الناس قيمة كلام الضد لا قيمة كلام الصديق.
طعنة من الخلف في أخطر الأوقات:
في الوقت الذي أدخل فيه السجن الأستاذ العقبي ونجمت قرون الشر من كل جهة تنضنض بألسنة الباطل إلى الجمعية. يصرح الدكتور ابن جلول تلك التصريحات التي نعرف نحن وأمثالنا ممن تعودوا البهت الإداري أنه لا يحسن نسجها ولا يتقن وضعها ولا يحويها ذهنه.(3/347)
وإنما هي صنع معامل شيطانية تقدمها لمن يرضى لنفسه باستعمالها فيستعملها فيكون عليه غرمها ولها هي غنمها.
أخبرنا نائب عمالي ذو شخصية، أن الدكتور عقد اجتماعا لجمعية النواب قبيل الاعتقال وأظهر من حنقه على الجمعية وعزمه على البطش بها ما أفزع ذلك النائب وتركه ليالي مهتما بما سيكون من الدكتور ضد الجمعية. وسألنا غيره ممن حضر ذلك الاجتماع فحققه لنا. وأخبرني بعض الرفاق في الوفد من النواب لما قدمت باريس بعيد قدوم الدكتور أنه قدم ممتلئا غيظا على الجمعية. وفي طريق قدمته تلك فعل فعلته في "مارساي ماتان".
فالدكتور وجد من تلك التصريحات المحصلة لغرض غيره ما يحصل غرض نفسه فطعن بها الجمعية في نكبتها وأحرج أوقاتها طعنة حسبها هي القاضية عليها. فأنى له بعد هذا كله أن يكذب وكيف ينتظر منه أن يكذب؟؟ ولو أن هذه الطعنة لم تكن لها هذه الملابسات من قيمة فاعلها المباشر، ومدبرها المصاول، ووقتها المتخير، لما التفتنا إليها ولا ألزمنا بتكذيبها مثل ما ألزمناه.
آلة في يد الظلم:
لقد اتخذت لمحاربة هذه الجمعية آلاف … فأسست لأجلها الجمعيات والصحف، واستخدم نواب من ذلك الطراز المعلوم فدسوا الدسائس، وخطبوا في المجالس، وباء الجميع بالفشل والخسران المبين. ولقد قوومت هذه الجمعية بأنواع المقاومة وسوومت للتحول عن خطتها أو التساهل فيها بوجوه المساومة حتى سوومت بنصرها وتأييدها وتقديم رجالها وإجابة مطالبها على أن تتخلى عن النواب الأحرار وتنفض يدها منهم، فكانت إزاء ذلك كله الجبل الأصم الذي(3/348)
لا يسمع والطود الأشم الذي لا يتزعزع. وكان جواب رجالها على المساومة الأخيرة أن كونوا المؤتمر الإسلامي الجزائري العام فأوقفوا الأمة كلها خلف النواب الأحرار، ووضعوا على رأسه ابن جلول، وأعلنوا ثقتهم بالحكومة الشعبية وأحزابها.
هال هذا الموقف الجدي وهذا المظهر الرائع من الأمة الإسلامية الجزائرية نواحي لا تعيش إلا على فقر هذه الأمة وجهلها وتفرقها وعدته ذنبا جديدا من ذنوب الجمعية أتى على ما قبله وأفزع بما بعده فابتدأ من تلك النواحي موقفها الجديد وسلاحها الجديد، وكان من آثار ذلك الموقف حادثة الاغتيال والاعتقال ورمي الشيخ الحبيباتني بالرصاص، وكان من السلاح الجديد حضرة الدكتور الزعيم …!
وافق شن طبقة:
فبينما تلك النواحي تحرق الارم على الجمعية التي لم يكفها جمع الأمة على العلم والدين والتهذيب حتى عملت على جمعها على هذا المؤتمر العظيم، وتسف للدنايا لتنسف الجمعية نسفا وتصم رجالها- كذبا وزورا- بكل إفك وشين، إذا بها: تلك النواحي تسمع زمجرة الدكتور ووقيعته في الجمعية وبغيه لها الكيد.
وبينما هو الآخر يتحرق من الغيظ على الجمعية التي عملت على تكوين مؤتمر يظهر فيه رجال وتوزن فيه الأعمال، ويسمع فيه الزعيم ما لم يعتد سماعه من انتقاد، إذا به يشاهد أيديا من تلك النواحي تلوح له بالرضاء وما وراء الرضاء، وتوميء إليه بالقضاء على أولئك العلماء المشوشين المتدخلين في السياسة كل القضاء، فأسرع إلى الأحضان وأصبح الحبيب المقرب والصديق الممدح، الذي تفتح له الأبواب، وتفسح له الرحاب، ويدخل بلا استئذان، ويناديه متصرف "بريفي" قسنطينة من نافذة سيارته في طريق سكيكدة "سالي دكتور … "(3/349)
ويعطيه الماليون المعروفون قناطير الفارينة ورؤوس البقر ليقيم زردة لأموات وجه الأرض على أموات بطنها، وإن كان الذين أوذوا واضطهدوا من جرائه أيام كان- وا أسفاه- ما زالوا من آثار ذلك في الذل والفقر يتخبطون.
كل هذا لحضرة الدكتور على أن يعمل على هدم الجمعية وهدم المؤتمر. وقد عمل لذلك بقوله وعمله وكتاباته، وما زال يعمل، ولكنه خائب إن شاء الله.
الأمة حكمت وأبرمت:
لم تزد الجمعية من يوم أيست من رجوعه عن طعنته لها، على أن أعلنت أمره للأمة وخلت الحكم عليه لها، ولقد شاء الله أن يكون حكم الأمة عليه سريعا فحكمت بإسقاطه من رئاسة مؤتمرها. ثم حاول منذ أيام بمكتوب نشره هو والسيد ابن الحاج أن يجمع لجان المؤتمر من العمالات الثلاث إلى سطيف لتعيد النظر في أمر عزله لأن عزله- زعم- لم يكن بالأكثرية، فكان من تلك اللجان أن أمطرت للسيد ابن الحاج ببرقيات الاحتجاج على استبداده بالدعوة إلى سطيف وظهوره بمظهر الموافق على ذلك الزعم. فما وسع السيد ابن الحاج إلا الرضوخ وحاول أن يتدارك الأمر فأبرق إلى أعضاء تلك اللجان مساء الجمعة الماضية بتحويل الاجتماع إلى الجزائر فأعرضت عنه اللجان وأصبح يوم الأحد الماضي المعين للاجتماع، وهو ينتظر الوافدين في محل بإحدى المقاهي الإفرنجية فما وجد نفسه إلا في سبعة شطرهم جاء للاعتراض فكان هذا من الأمة الممثلة في لجان مؤتمرها بالعمالات الثلاث، إبراما لما كانت حكمت به من عزل الدكتور من رئاسة المؤتمر، وتلك عاقبة الظالمين.
وبعد: فهل أدرك الدكتور ضيقة أمره، وشعر بنفسب الأمة عليه(3/350)
فأخذ يتراجع عن غيه، ويتدارك من خطئه ليعود إلى بعض مقامه عند قومه؟ أم هو ما يزال جادا في سيره حتى يصل من منحدره إلى النهاية.
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه … يطيع العوالي ركبت كل لهذم
(قسنطينة) عبدالحميد بن باديس
__________
البصائر: س 1 عدد 43 الجزائر يوم الجمعة 28 شعبان 1305هـ الموافق ليوم 13 نفامبر 1936م الصفحه 1 - 2 والباقي تابع لصفحة 3 في أسفل عمود 1.(3/351)
الجنسية القومية والجنسية السياسية
تختلف الشعوب بمقوماتها ومميزاتها كما تختلف الأفراد. ولا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته كالشأن في الأفراد. فالجنسية القومية هي مجموع تلك المقومات وتلك المميزات. وهذه المقومات والمميزات هي اللغة التي يعرب بها ويتأدب بآدابها، والعقيدة التي يبني حياته على أساسها، والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من خلالها والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات.
والجنسية السياسية أن يكون لشعب ما لشعب آخر من حقوق مدنية واجتماعية وسياسية مثل ما كان عليه مثل ما على الآخر من واجبات اشتركا في القيام بها لظروف ومصالح ربطت ما بينهما.
ومن الممكن أن يدوم الاتحاد بين شعبين مختلفين في الجنسية القومية إذا تناصفا وتخالصا فيما ارتبطا به من الجنسية السياسية التي قضت بها الظروف واقتضتها المصلحة المشتركة.
فإذا لم يرتبطا بالجنسية السياسية فلا بد لهما- مهما طال الأمد- من أحد أمرين: إما أن يندمج أضعفهما في أقواهما بانسلاخه من مقوماته ومميزاته فينعدم من الوجود. وإما أن يبقى الضعيف محافظا على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره- ولا بد- إلى الانفصال. وبعد فنحن الأمة الجزائرية لنا جميع المقومات والمميزات لجنسيتنا القومية وقد دلت تجارب الزمان والأصوال على أننا من أشد الناس محافظة على هذه الجنسية القومية وإننا ما زدنا على الزمان إلا قوة(3/352)
فيها وتشبثا بأهدابها وأنه من المستحيل إضعافنا فيها فضلا عن إدماجنا أو محونا. أما من الناحية السياسية فقد قضى قانون- 1865 - باعتبارنا فرنسيين لكنه تفذ وينفذ تنفيذا جائرا فيفرض علينا جميع الواجبات الفرنسية دون حقوقها فكنا كما قال الشاعر:
وإذا تكون كريهة ادعي لها … وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
أو كما يقول مثلنا الدارج "وقت الدوا هاتوا بو نافع، وقت الشفا طيشوا الدرياس" صبرنا على هذا الحيف طويلا وعالجناه بما استطعنا مرات كثيرة من جهات عديدة حتى جاء الوقت الذي نفد فيه الصبر وأعيا العلاج فقلنا البيت الثاني من قول الشاعر المتقدم:
هَذَا وَجِدَّكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ … لاَ أُمُّ لِي إِنْ دَامَ ذَاكَ وَلاَ أَبُ
فنهضت الأمة نهضتها بمؤتمرها الفخم الجليل وقررت فيه بالإجماع "المحافظة التامة على المميزات الشخصية، والمطالبة بجميع الحقوق السياسية" وأدرك أقطاب الواجهة الشعبية أحقية هذا الطلب وأدركوا أن لا بقاء للأمة الجزائرية مرتبطة بفرنسا إلا إذا أعطيت حقوق الجنسية الفرنسية السياسية مع بقائها على جنسيتها القومية بجميع مميزاتها ومقوماتها فتقدموا لمجلس الأمة الفرنسي بالقانون المعروف اليوم ببروجي بلوم- فيوليط وتلقاه الذين يقدمون مصالحهم الفردية والاستعمارية على مصالح فرنسا الحقيقية بما هو معروف من معارضة بذية ظالمة منكرة وتلقته الأمة الجزائرية التي ترضى بالارتباط بفرنسا في حقوقها وواجباتها- وهي الجنسية السياسية- ما دامت محترمة في جنسيتها القومية وهي تلك المقومات والمميزات بشرط لا بد منه: وهو أن يكون التساوي تاما في جميع تلك الحقوق دون تخصيص لحق دون حق ولا تمييز لطبقة عن طبقة.(3/353)
ولهذا اعتبرت بروجي بلوم- فيوليط قليلا جدا بالنسبة لحقوقها وإنما تقبله اليوم كخطوة أولى فقط يجب بعد تنفيذها أن يقع الاسراع في بقية الخطوات إلى تحقيق التساوي التام العام الذي هو الشرط الطبيعي في سنن الاجتماع في بقاء الارتباط بصفاء وإخلاص.
واذا لم يكن فلا عتب على الزمان، وما شاء الله كان.
إننا بكلامنا هذا نعرب عن فكر الأكثرية العظمى من الأمة الإسلامية الجزائرية. ونعلن أن هنالك من لا يرضيهم هذا ومن لهم نظرات أخرى لها حظها من الاعتبار. وإننا نتحقق أن الموقف الذي يقفه البرلمان الفرنسوي يوم تعرض عليه المسألة هو الذي يوجه الأمة الجزائرية إحدى الوجهتين فالمستقبل بيده. والأمر لله من قبل ومن بعد (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 12، م 12 غرة ذي الحجة 1355هـ- فيفري 1637م.(3/354)
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
أمام لجنة البحث البرلمانية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مساء الخميس 5 صفر الجاري 16 أفريل قابلت لجنة البحث البرلمانية بقصر الجمعيات بالعاصمة هيئة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باسم الجمعية. وكانت الهيئة متركبة من الشيخ: عبد الحميد ابن باديس، البشير الإبراهيمي، مبارك الميلي، العربي التبسي، الأمين العمودي.
قدم الرئيس كراس المطالب للجنة وتلاه عليها الشيخ العمودي ي وشرح لها بعض نقط فيه.
فصل الجزائر عن فرانسا:
بادرنا الرئيس بأن للجمعية خصوما كثيرين وأنهم يقولون أن في جريدة الجمعية دعوة إلى فصل الجزائر عن فرنسا. فأجبته بأن هذا الفصل لم يفكر فيه أحد من الجمعية فلا وجود له- قطعا- في جريدة الجمعية.
نظرنا في إصلاح الحالة:
سألنا عن نظرنا في إصلاح الحالة فأجبته بأنني أحقق لهم قبل كل شيء أمرين وهما:
1 - أن كل محأولة لحمل الجزائريين على ترك جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو تاريخهم أو شيء من مقوماتهم فهي محاولة فاشلة مقضي عليها بالخيبة، والواقع دل على هذا.(3/355)
2 - وأن الحالة التعيسة التي بلغت إليها الأمة الجزائرية- وقد اطلعتم أنتم عليها أكثر من غيركم- لا يمكن أبدا أن يستمر صبر الأمة الجزائرية عليها أكثر مما صبرت.
فالواجب- إذاً- هو إعطاء الأمة الجزائرية جميع الحقوق مع محافظتها على جميع مقوماتها.
هنا سألنا أحد أعضاء اللجنة من جماعة اليمين: إذاً فأنتم ترون أن فرنسا والجزائر شعبان اثنان؟ فأجبته بأننا نراهما كذلك، وهما في الواقع وبالطبع كذلك، ولا يمنع هذا من تعاونهما كأخوين لا كسيِّد وعبد.
بروجي فيوليط والحالة الشخصية:
سألنا عن بروجي فيوليط فأجبته بأن بروجي فيوليط ما حاز القبول الذي حازه إلا لما فيه من التصريح بالمحافظة على الحالة الشخصية، مع أن ما فيه إنما هو نزر قليل جدا من الحقوق المطلوبة.
رأينا في إلزام الحكومة المسلمين برفض الأحكام الشرعية:
سألنا الرئيس عن رأينا لو أن فرنسا أصدرت أمرا بطرح المسلمين الأحكام الشرعية لتعطيهم الحقوق الفرنسية، فإنهم فهموا من بعض الناس أن المسلمين يصبرون لذلك كما صبروا لقانون إلزامهم بالعسكرية. فأجبته بأن قياس أمر رفض الشريعة الإسلامية على أمر التجنيد الإلزامي، غلط فاحش وقياس مع الفارق. فإن المسلمين لما ألزموا بالجندية علموا أنهم مظلومون أفدح الظلم بتقديمهم للموت مع حرمانهم من حقوق الحياة، ولكنهم صبروا على ذلك لأمرين: الأول أنهم يشعرون ببقاء ذاتيتهم، والثاني أنهم يعتقدون أنه يأتي يوم يدرك فيه رجال من فرنسا فداحة هذا الظلم فيزيلونه بإعطائهم حقوق الحياة(3/356)
التي يتمتع بها غيرهم. أما إذا ألزمت فرنسا المسلمين برفض شريعتهم والتخلي عن ذاتيتهم فإنهم يشعرون بالضربة القاضية عليهم بالعدم التام. أنا أعتقد أنكم وأمثالكم تبحثون عن وجه في الإصلاح ينقل الجزائر من حالة اضطراب إلى حالة استقرار. وأنا أحقق لكم أنكم إذا ألزمتم الأمة الجزائرية المسلمة برفض شريعتها والتخلي عن ذاتيتها فإنكم تكونون قد وضعتم أمرا يؤول بالجزائر إلى اضطراب أعظم لا تدرى عاقبته.
تجزئة الأحكام الشرعية:
سألنا ماذا تقولون لو صدر الأمر بمنع تعدد الزوجات خاصة، فأجبته بأن الشريعة كلٌّ لا يجوز للمسلم تجزئته، فتقبل كلها أو ترد كلها.
جبر البكر:
سألنا عن جبر البكر فأجبته بأن هذه من الفروع الخلافية التي يسوغ للمسلمين أن يتوسعوا فيها باتباع من شاءوا من أئمتهم.
مجلة (الشهاب) ومقاومة الاندماج:
جاء أحد الأعضاء بمقالات مترجمة من مجلة (الشهاب) فيها الإشادة بالعروبة والإسلام والمحافظة عليهما، وعدم الاندماج في الأمة الفرنسية، فسألنا الرئيس عما فيها، فأجبته بأن مجلة (الشهاب) ليست مجلة الجمعية وإنما هي مجلتي، وأنا أجيبك عنها بصفتي الخاصة: أولا- أنا لا أثق بترجمة المترجمين في الإدارة لأنني جربت عليهم الخطأ والاقتصار على ما لا يفهم المراد بل يفهم خلافه، لأن الكلام يبين بعضه بعضا. وثانيا- أنا أقول لكم- كما أصرح دائما-: أننا عرب مائة في المائة ومسلمون مائة في المائة لا نتنازل عن شيء من ذلك، ونحن مع فرنسا كأخ مع أخيه لا كسيد مع عبده. وأقر أعضاء هيئتنا ما قلته فكان رأي الجميع.(3/357)
تقييد في محله:
لما قلت أننا مع فرنسا قال الشيخ العمودي ما لم تنفرنا هي.
وعود نرجو أن تتحقق:
وختم المجلس باعراب الرئيس عن اهتمام اللجنة بمعرفة الحقائق لتتوصل إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأن تعمل جهدها لتنال الجزائر رغائبها، فأجبناه بالشكر له ولأعضاء اللجنة كلهم على ما بذلوا من جهد، وأعربنا لهم عما للجزائر فيهم من ثقة وما تعلقه عليهم من أمل. ثم ودعناهم راجين لهم رحلة سعيدة مثمرة يكون لها أثرها المحمود عند الجزائريين.
عبد الحميد بن باريس
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 66 الجمعة 25 صفر 1356هـ،
7 ماي 1937م ص 1 (باقى ص 2 أسفلها).(3/358)
دعوة وبيان
إلى عموم الشعب المسلم الجزائري الكريم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعلم ما تجتازه الأمة اليوم في طريق نهضتها من وقت حرج، ومصاعب جمة، وما يحف بها من أخطار، وما ينصب لها من عراقيل، وما يتجاذبها من عوامل التفريق من الخارج ومن الداخل، وأن الجمعية التي بثت روح النهضة في الأمة بما دعت إليه من الرجوع إلى الكتاب والسنة والمحافظة على الجنس واللغة، والاعتزاز بالإسلام والعروبة حتى عرفت الأمة نفسها، ووجهت للحياة السعيدة رغبتها، ووجد السبيل إلى مخاطبتها وتفهيمها من أراد- بحق أو بباطل- قيادتها أن الجمعية التي بثت هذه النهضة هي حارستها في جميع أطوارها والمدافعة عنها بكل ما لديها، والصابرة على البلاء من القريب والبعيد في سبيلها.
إن أعداء الأمة الذين تمثلهم الجرائد الاستعمارية الكبرى هنا وهنالك ويصدع بأمرهم كراسي متنوعة، ما فتئوا يوالون ضرباتهم، ويعيدون هجماتهم على الجمعية لأنهم يرون فيها حياة الأمة ويشاهدون فيها السد الحصين دون ما يرغبون من ذوبان الأمة وانحلالها لإفنائها وابتلائها وتنقصها من أطرافها فكل ما تجتازه الأمة اليوم وما تعانيه وما تلاقيه هو ما تجتازه الجمعية وما تعانيه وما تلاقيه على أبلغه وأشده، لأن الجمعية هي الأمة، والأمة هي الجمعية.
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- كالمسلمين الجزائريين- جبلت على النضال والمقاومة والصبر والمصابرة وقد صبرت لغشم(3/359)
الحكومة وأذنابها وكيد الاستعمار وجرائده، ولن تزال ثم لن تزال.
ولقد ولدت الأيام الجارية والظروف الحاضرة مقاومين جددا ينطحون صخرتها برؤوسهم الحاسرة وينحتون أثلتها بأظافرهم المتآكلة ويضربون على نغمات من تقدمهم من أعداء الأمة والجمعية ويخدمون عن علم أو عن غير علم، مقاصد من يحاربون في الجمعية روح الإسلام والعروبة، فهنالك في عمالة قسنطينة وهنا بعمالة الجزائر من يعملون لرفع أنفسهم بالحط من الجمعية ويموهون على الأمة بما يقولونه عليها وعلى رجالها فمرة يربطون الجمعية بحزب من الأحزاب الأجنبية، والجمعية لا تنتمي لحزب ولا تعادي حزبا إلا من حارب الإسلام والعروبة فإنها تكون عليه- كائنا من كان- بلاء وحربا، ومرة يصمونها بالتدخل في السياسة والجمعية ما تدخلت في سياسة الكراسي والنيابات والمكاتب والممرات … وإنما وقفت الجمعية في مؤتمر الأمة تضع مطالب الدين واللغة وشروط المحافظة على الجنسية والشخصية. ومثلت ذلك كله بلسانها وهيئتها أصدق تمثيل.
يا هؤلاء! … إن الجمعية ليست عاجزة عن مقاومتكم وإظهار خطئكم وكشف باطلكم. ولكنها تعلم ما تحتاج إليه الأمة اليوم من اجتماع الكلمة وعدم الفرقة وتوحيد الصفوف، فلهذا تركتكم وتترككم راجية لكم أن تدركوا حقيقة الموقف فتعملوا بما يقتضيه.
أيها الشعب الجزائري الكريم! ...
قد بينت لك جمعيتك حقيقة الموقف وحرجه، وكشفت لك شيئا مما تعانيه أنت وتعانيه هي من الأقرباء والبعداء وهي تدعوك إلى التبصر والتثبت والاتحاد والتجمع والتنبه والتيقظ، وتحثك على الاعتماد على الله وحده، ثم على نفسك والصادقين من أبنائك، وما الصادقون إلا الذين يحافظون بأقوالهم وأعمالهم ومواقفهم على إسلامك وعروبتك(3/360)
وجميع مقوماتك، يناضلون بالنفس والنفيس عن جميع حقوقك، وهم فيك اليوم إن شاء الله كثيرون وسيكونون أكثر والله أكبر!.
الجزائر 5 جمادى الثانية 1356هـ
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 79 الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه
20 أوت 1937 م ص 1 و 12 أسفلها.(3/361)
نداء
إلى رئيس المؤتمر الإسلامي الجزائري
وإلى اللجنه التنفيذية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد علمتم أن الحكومة الفرنسية لم تجب أي مطلب من مطالب المؤتمر رغم وعد رئيس الوزارة يوم زاره الوفد بتنجيز بعضها المستعجل على رجاء أن تكون مطالب المؤتمر من أول ما ينظر فيه.
غير أنه قد حدث اليوم ما دل على أن مطالب المؤتر غير ملتفت إليها ولا منظور فيه وذلك بما قررته الحكومة من تكليف اللجنة البرلمانية التي يرأسها قرنيت ببحث جديد لا ينتهي إلا بعد ثمانية عشر شهراً …! وبعد ذلك تأتي الوفود للبحث والسؤال المدقق ...
فزيادة على ما في هذا من التسويف والمماطلة فإنه دليل قطعي على أن مطالب المؤتمر لا عبرة بها. وهذا يوجب على اللجنة التنفيذية أن تجتمع لتقرر قرارها الصريح الحازم وتقف موقفا جديا إزاء هذا الحادث الجديد ثم يكون من واجبها أن تدعو إلى عقد مؤتمر عام فوق العادة ليقرر قرارا إجماعيا من طلبات لا يخالف فيها أحد ويقرر قراراً إجماعيا في الموقف الذي تقغه الأمة الجزائرية إذا لم تجب إلى تلك المطالب في أجل محدود.
وعليه فإني (كمسلم جزائري) أطلب من سيادة الرئيس أن يأمر اللجنة التنفيذية للمؤتمر بأن تجتمع في الخامس عشر من أوت الجاري.(3/362)
هذا وأنا الآن قد أديت أول واجب من واجباتي في الوقت الحاضر بهذا النداء. والله المستعان على إتمام الواجبات الأخرى (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 6، م 13، ص 294 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م.
وأعيد نشر هذا النداء في جريدة البصائر السنة الثاتية العدد 78 الجمعة 5 جمادى الثانية و 1356ه - 13 أوت 1937م ص 6، ع 2.(3/363)
هل آن أوان اليأس من فرنسا؟
إن الذين كانوا معنا يوم قابلنا رئيس الوزارة م بلوم باسم المؤتمر في جوليت من السنة الماضية، يعلمون تصريحه بأننا لا نرجع بأيدينا فارغة وأنه سيشرع في الحين القريب في تحضير مطالبنا المستعجلة، ويعلمون قول م فيوليط وهو بجنبة: ستحضر قبل يوم الأحد، ورجال ذلك الوفد يعلمون أنهم رجعوا بأيديهم فارغة. ولم يصدق لا الرئيس ولا الوزير. وقراء (الشهاب) لا ينسون ما كتبه (الشهاب) عن هذا الاخلاف وعن الوفد في عدد رجب وأكتوبر من السنة الماضية، والذين حضروا المؤتمر الثاني هذه السنة يعلمون ما نبهتهم عليه من أن فرانسا لم تجب أي مطلب من مطالب المؤتمر، والناس كلهم اليوم يعلمون ما نشرته الصحافة الفرنسية- رسميا- عن لجنة الثمانية عشر شهراً التي يرأسها م قرنوت وم ستيق وأنها بعد الثمانية عشر شهراً توفد وفوداً تسأل أسئلة مدققة؟! .. فماذا فهم الناس من هذا كله؟
أما الذين ينطرون إلينا من الخارج نظر الحاكم على الأمم بما يبدو من أعمالها وسيرها فإنهم يقولون: إن فرنسا تعد وتخلف لأنها رأت مصلحتها في الاخلاف، ولا يرجى منها إقلاع عنه ما دامت تعتقد مصلحتها فيه. والجزائر تنخدع وتطمع، ويمكن أن يطول انخداعها ويستمر طمعها ويمكن أن ينجلي لها سراب الغرور فتقلع عن الانخداع وتقطع حبل الطمع وتتصل باليأس وما يثمره اليأس ويقتضيه.
وأما نحن- الجزائريين- فإننا نعلم من أنفسنا أننا أدركنا هذا الاخلاف العرقوبي وأدركنا مغزاه وأخذ اليأس بتلابيب كثير منا وهو(3/364)
يكاد يعم، ولا نتردد في أنه قد آن أوانه ودقت ساعته ...
ماذا تريد فرنسا من مماطلتنا!
لقد أعلن شاعرنا القومي جواب هذا السؤال في قصيدته التي نشرناها في الجزء الماضي حيث قال:
ولعل من نظم السيا … سة أن نغش وأن نغر
ولعل منها أن يدس … لنا ونجذب للحفر
ولعل منها أن يبسس … لنا لنحلب كالبقر
ولعل منها أن نما … طل كي يساورنا الفجر
كذب رأي السياسة وساء فألها، كلا والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل، وإنما تدفعنا إلى اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية.
أيها الشعب الجزائري! أيها الشعب المسلم! أيها الشعب العربي الأبي! حذار من الذين يمنونك ويخدعونك، حذار من الذين ينومونك ويخدرونك، حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك، ومن غير تاريخك وقوميتك، ومن غير دينك وملتك وأبطال دينك وملتك.
استوح الإسلام ثم استوح تاريخك ثم استوح قلبك.
اعتمد على الله ثم على نفسك، وسلام الله عليك.
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 6، م 13، ص 272 - 273 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م.(3/365)
الوطن والوطنية
الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توجنا جريدة (المنتقد) الشهيدة، وجعلناهما شعارا لها تحمله فى رأس كل عدد منها. هذا أيام كانت كلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية لا يستطيع أحد أن ينطق بها، وقليل جدا من يشعر بمعناها. وإن كان ذلك المعنى دفينا في كوامن النفوس ككل غريزة من غرائزها، لا سيما في أمة تنسب إلى العروبة وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد. أما اليوم وقد صارت كلمة الوطن والوطنية سهلة على كل لسان وقد يقولها قوم ولا يفقهون معناها، وقد يقولها آخرون بألسنتهم ولا يستطيعون أن ينتسبوا لها في المكتوب من رسمياتهم، ويفزع منها نن يتخيلون فيها ما يعرفون في وطنياتهم، وينكرها آخرون زعما منهم أنها ضد إنسانيتهم وعمومياتهم- فكان حقا لقراء (الشهاب) علينا أن نقول لهم كلمة مختصرة نبين بها حقيقة هذه الكلمة وأقسامها وأقسام الناس إزاءها، ومن أي قسم نحن من تلك الأقسام.
من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير. فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه(3/366)
ونوازعه ومنازعه- شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ولما فيه- كما تقدم- من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية.
فاذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنا له وهذا هو وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف وأحب الوطن الصغير. والناس إزاء هذه الحقيقة أربعة أقسام:
1 - قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان، وهم في الغالب لا يكون منهم خير حتى لأقاربهم وأهل بيتهم.
2 - وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى بل يعملون دائما على امتصاص دماء الأمم والتوسع في الملك لا تردهم إلا القوة. وهؤلاء شر وبلاء على غير أممهم بل وعلى أممهم فهم مصيبة البشربة جمعاء.
3 - وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر وأنكروا وطنيات الأمم- كما أنكروا أديانها- وعدوها مفرقة بين البشر. وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة وما عرفته البشرية منذ آلاف السنين ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم لا تكاد تخفى.
4 - وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازلها غير عادية ولا معدو عليها، ورتبها ترتيبها الطبيعي في تدرجها، كل واحدة منها مبنية على ما قبلها ودعامة لا بعدها. وآمن- هذا القسم- بأن(3/367)
الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في يته ووطنه الصغير وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر. وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة. إذ هي التي تحافظ على الاسرة بجميع مكنوناتها وعلى الأمة بجميع مقوماتها وتحترم الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها.
فهي تخاطب البشرية كلها في جميع أجناسها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. وتخاطبها في جميع أديانها بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. وتخاطب جميع الأمم والأوطان بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. وبقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. وهذه هي وطنيتنا معشر المسلمين الجزائريين الأفارقة ووطنية كل مسلم صادق في إسلامه ووطنيته. وقد أعلناها يوم قلنا على رأس جريدة (المنتقد): (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء) وسرنا على مقتضاها إلى اليوم في كل ما قلنا وكتبنا وسنبقى عليها- ككل مسلم جزائري- حتى نلقى الله إن شاء الله.
أشعب الجزائر روحي الفدا … لما فيك من عزة عربية
بنيت على الدين أركانها … فكانت سلاما على البشرية (1)
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 7، م 13، ص 304 - 307 غرة رجب 1356هـ- سبتمبر 1937م.(3/368)
في الشمال الإفريقي:
اليأس بعد الرجاء
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدث المنشور الأول الذي أذاعه صاحب هذه المجلة الأثر الكبير الفعال في النفوس، ذلك لأنه صادف هوى في قلوب الأمة وعبَّر عن إحساسها وشعورها، وترجم عن عاطفتها التي طلقت الأمل في عدالة فرنسا السريعة، وركنت إلى جانب اليأس من ذلك.
ولقد لبت اللجنة التنفيذية للمؤتمر ذلك النداء، وقررت عقد اجتماعا يوم 29 أوت 1937م للنظر في الحالة الجديدة التي هي وليدة جمود حكومة باريس عن مباشرة إصلاح أو قبول أي مطلب ووليدة العبث الجديد الذي رفعنا عقيرتنا بالاحتجاج العنيف عنه، ألا وهو تشكيل لجنة "فرنوت" وجعل القضية الجزائرية وأبحاث لجنة "لافروزيلبار" من جملة أعمالها، وتحديد مدة أشغالها بعام ونصف عام ثم اشتداد وطأة الحيف والجور على أهل القطر الجزائري، واشتداد الأزمة بصفة خانقه.
ولقد كان صاحب هذه المجلة- ولا يزال- يرى أنه لا يحق للأمة أن تستمر على السياسة القديمة سياسة المطالبة والانتظار، إذ قد ظهرت النوايا جلية واضحة، وتحقق الناس أجمعون أن وعود هذه الحكومة كوعود الحكومة السالفة، إنما هي من فصيلة الوعود التي أمطرت القطر الجزائري منذ أيام الإمبراطورية إلى الآن: وعود هي السراب بعينه.
ومن أجل ذلك، ورغبة في تنوير الأذهان وتوجيه آراء اللجنة التنفيذية نحو السياسة الوحيدة التي نرى أنها ربما أحدثت الأثر(3/369)
المطلوب بعد حين- حرر صاحب هذه المجلة ونشر فوق أغلب أعمدة الصحف الجزائرية والتونسية هذا النداء (1)!
نداء إلى الأمة الجزائرية ونوابها
أيتها الأمة الكريمة. أيها النواب الكرام!
اليوم وقد آيسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا.
اليوم وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا.
اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا يجب أن نقول نحن كلمتنا.
اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحد صفوفنا.
أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام!
بمحضر الوفد كله في وزارة الحربية من السنة الماضية- قال لنا دالاديه وزير الحربية، رئيس الحزب الجمهوري الراديكالي والراديكالي سوسياليست: أقول لكل بكل صراحة "إني أعارض كل المعارضة في إعطائكم النيابة البرلمانية ما دمتم على حالتكم الشخصية الإسلامية". من ذلك الحين تحققت أن هذه النيابة البرلمانية ميئوس منها، وقد أشرت إلى هذا فيما كتبته عن الوفد بعد رجوعنا في مجلة "الشهاب" وها هي الأيام جاءت محققة ذلك اليأس. وها هي الجزائر اليوم تنشد بلسان حالها قول الشاعر العربي:
__________
ش: ج 7، م 13، ص، 32
رجب 1356هـ - سبتمبر 1937م.(3/370)
أَزْمَعْتُ يَأْسًا مُبِينًا مِنْ نَوَالِكُمُ … وَلَنْ تَرَى طَارِدًا لِلْحُرِّ كَالْيَأْسِ
أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام!
حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى أو ترى أكثريتها ذلك كثيراً عليها …! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا. لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها ولنتمسك- عن إيمان وأمل- بشخصيتنا ولنطلب بالمساواة التامة في جميع الحقوق في وطننا وأولها المساواة في المجالس النيابية.
أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام!
قرروا يوم 29 أوت وبعد قرار المؤتمر وجمعيات النواب عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها. قرروا أن لا تعودوا بدون مساواة إليها. قرروا أنه يجب أن يكون كل مسلم جزائري بلغ سن الانتخاب منتخبا وأن يكون عدد نواب المسلمين الجزائريين في كل مجلس مثل عدد الفرنسيين. كونوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها على هذا الأصل.
أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام!
تناسوا الحزازات، امحقوا الشخصيات، برهنوا للعالم أنكم أمة تستحق الحياة، برهنوا لفرنسا أنكم كما وقفتم معها في الحرب صفا واحدا تدافعون عنها تقفون في السلم صفا واحدا تدافعون الأنانيين منها الذين هم مثل أعدائها.
هذا وأنا كمسلم جزائري قد أديت الواجب الثاني من واجباتي في(3/371)
الوقت الحاضر والله المستعان على القيام ببقيتها وعليكم السلام ورحمة الله من أخيكم (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 7، م 13، ص 325 - 326 رجب 1356 هـ - سبتمبر 1937م.(3/372)
صدى منشورنا على الأمة والنواب
في صحف الاستعمار
ــــــــــــــــــــــــــــــ
دُعي إلى تسليم النواب ووقع ذلك بالفعل في كثير منهم في عمالة قسنطينة، ولم تهتز لذلك صحف الاستعمار ودوائره. فلما نشر صاحب هذه المجلة منشوره على الأمة ونوابها في الدعوة إلى التسليم والاتحاد والوقوف الوقف الهائل المشرف، قامت القيامة في الدوائر، وظهر ذلك في جريدة "لابريس" التي تصدر بالعاصمة، وجريدة "الريبوبليكان" التي تصدر بقسنطينة.
ولما كانت الثانية أصرح بالعداء من الأولى خصصناها بالكتاب التالي:
قسنطينة في 8 رجب 1356ه - 14 سبتمبر 1937م.
جناب السيد محرر جريدة (الريبوبلكان) المحترم.
قرأت في عدد 2 سبتمبر الجاري من جريدتكم منشوري على الأمة ونوابها، فشكرت لكم نقله في جريدتكم ليطلع عليه قسم كبير من الرأي العام الفرنسي خصوصا القسم الذي تمثله جريدتكم.
ولم يسؤني ما علقتم به عليه من عبارات الحقد والتحريش، لأن ذلك دليل حصول ما قصدته من تأثير الحق والصدق ممن لم يتعودوا سماعه من المسلمين الجزائريين أمثالكم.
ولا ألومكم على ذلك ما دمتم ترونه إخلاصا لأمتكم ووطنكم كما كنت أنا مخلصا في منشوري لأمتي ووطني.(3/373)
وإنما أريد أن أحقق لكم أن تحريشكم لا يخيف صغارا من تلامذتنا، فمن باب أحرى وأولى أن لا يكون له أدنى تأثير على كبارنا في السير على خطتنا إلى غايتنا.
ومما يؤسف له من أمثالكم أنكم لا تدركون تطورات الأمم وتقلبات الأيام، وتفكرون فينا- في القرن العشرين- بأفكار القرون الوسطى.
إن الزمان- يا زميلي- يسير ولا يقف، وسنن الكون نافذة لا تتخلف والويل لمن قصد أو تعامى.
تقبلوا- سيدي- احترام زميلكم صاحب مجلة الشهاب.
عبد الحميد بن باديس
__________
ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة رجب 1356ه الموافق لسبتمبر 1937م الصفحة 340 - إلى 341.(3/374)
إجرام الاستعمار
سجن واضطهاد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نريد هنا قبل كل شيء أن نسجل ثقتنا في نزاهة وحرية القضاء الفرنسي فما زالت حياة القضاة غير متأثرة بالمؤثرات الخارجية، وغير خادمة لركاب السياسة والأحزاب.
فإن كنا هنا نحتج بأقصى ما لدينا من قوة وشدة على المسلك الأهوج الذي تسلكه الإدارة مع رجال حزب الشعب الجزائري، وإلقائها القبض على زعيم الحزب السيد مصالي الحاج محمد، وعمدته السيد الشاعر الكبير مفدي زكرياء، وأعوانهما في العمل السادة بوغرافة والاحول الحسين ومسطول، وهم إنما يعملون أعمالهم جهارا وفي وضح النهار، فما ذلك انتقادا منا لسلوك العدالة التي ستقول كلمتها الفاصلة في الموضوع قريبا، إنما هو انتقاد مرير لسلوك السياسة التي أوجبت هذه الأعمال القاسية الشديدة، مندفعة وراء أغراض حزبية، إنما هي دور من أدوار النزاع والنضال بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. ولا ندري ما المبرر لسجن مصالي ورجال حزبه بدعوى إعادة تشكيل هيأة منحلة إذا كانت الإدارة لم تسجن الكولونيل لاروك وقد أعاد تشكيل صلبان النار في هيئة "الحزب الاجتماعي"، والحزب الاجتماعي أكثر شبهاً بهيئة صلبان النار من حزب الشعب الجزائري بهيئة "نجم شمال أفريقيا".
إن دلنا هذا العمل على شيء فهو إنما يدلنا على أن الحكومة عازمة على سياسة الشدة والإرهاق، واليوم دور مصالي، وغدا دور آخرين.(3/375)
لكنها سياسة- والله- لن تنجح ولن تثمر، فإذا لم تعمد الحكومة لسلوك سياسة امتلاك القلوب، بإجابة الرغائب وقبول الطالب، والمفاهمة مع رجال الأحزاب ومديري حركات الشعب بالتي هي أحسن، فإنها لن تسلك إلا السياسة التي تزيد الخرق اتساعا، فيصحب على أي راقع رتقه.
__________
ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة: رجب 1356هـ الموافق لسبتامبر 1937م الصفحة 339 إلى 340.(3/376)
الاستعمار يحاول قطع الصلة بين الإخوان
لما مات الإمام المصلح، العلامة الحافظ، الوزير الكبير، مولانا أبو شعيب الدكالي فخر الأفارقة والمغرب الأقصى- كان من أقل حقوقه علينا أن قامت جماعة من إخواننا المغاربة بإقامة حفلة تأبين في أربعين وفاته، ودعت صاحب هذه المجلة لحضور هذه الحفلة باسم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فلبى الدعوة ووجه للحكومة طلب رخصة السفر فسكت عنه مدة مع قرب أجل الحفلة، فجدد الطلب ثانية فجاءه الجواب بالمنع البات لأن حكومة المغرب لا تأذن في دخوله للمملكة المغربية.
إزاء هذا ما وسعنا إلا التخلف والاعتذار لإخواننا المغاربة، ثم الاحتجاج على هذه الحكومات الاستعمارية التي تحاول بمثل هذا العمل أن تقطع الصلة بين الذين ساقتهم الأقدار إلى يدها وهي- في الحقيقة- ما تزيده بهذا إلا ارتباطا وشدة.
ليت شعري ماذا تخشى الحكومات الاستعمارية من أمثالنا؟ أتخشى أن نقول؟ إن أعمالها الشاهدة المتكررة أغنت- والله- عن كل قول: حتى لم تدع لقائل ما يقول.
__________
ش: الجزء 7 المجلد 13 قسنطينة: رجب 1356هـ الموافق لسبتامبر 1937م الصفحة 341.(3/377)
كلمات صريحة:
الشمال الإفريقي
كيف يجب أن يعالج
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يقلق بال السياسة الفرنسية اهتزاز الشمال الأفريقي واضطرابه وتذمره واحتجاجه، ويقلق بال السياسة ذلك من القطر الجزائري على الخصوص.
لقد أدى هذا القلق السياسي إلى التفكير الجدي في هذا الشمال وفي الجزائر "الفرنسية"، كما يقولون! وانتهى هذا التفكير إلى آراء في الداء- حسب تسميتهم- وآراء في العلاج وأخطأت كلها في معرفة الداء على وضوحه وفي معرفة العلاج على قربه.
فأما الداء- كما يسمون- فقال قوم: هو اليد الأجنبية، وقال آخرون: هو الشيوعية الأفرنسية، وقال غيرهم: هو الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية. وماذا نقول نحن في هذه الآراء؟
نقول بكل صدق وصراحة تعرفهما الدوائر الحكومية منا- أولا: إن اليد الأجنبية التي يعنون هي يد موسوليني وهيتلر، بعد ما كانوا يعنون بها قبل التحالف الفرنسي الروسي يد موسكو. وأنا على يقين تام من أن الأوطان الافريقية الثلاث التي تهم فرانسا لم تتصل يوما بيد أجنبية لا من موسكو ولا من روما ولا من برلين. وأعرف عن نفسي وعن رجال هذا الشمال الافريقي إخواني، إننا نأبى أن نكون آلة في يد أي كان من الأمم التي تكيد لفرنسا اباء وترفعا يمليهما علينا عزة الإسلام وشمم العروبة.(3/378)
وثانيا- أن الشيوعية الفرنسية، وإن فسحت لها الواجهة الشعبية المجال، فإنها لم تستطع ولن تستطيع أن تتمكن من أوساط شعبنا أو تحوز أكثر مما حازته من النزر اليسير جدا من أطرافه، ما دام الشعب يعتقد أن مبادئها الأساسية لا يتفق كثيرا منها مع الإسلام. هذا رغم ما يبديه رجالها مما يستحقون عليه الشكر من العطف على ضعفنا ومقاومة الظالمين لنا، لكن الشكر والاعتراف بالجميل شيء والتأثر بالمبادئ والانقياد للحزب شيء آخر.
وثالثا- أن الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية بالمعنى الروحي والمعنى الأدبي والمعنى الأخوي هما موجودان، تزول الجبال ولا يزولان، بل هما في ازدياد دائم بقدر ما يشاهد الناس من عمل في الغرب ضد العروبة والإسلام. وأما بالمعنى السياسي والمعنى العملي فلا وجود إلى اليوم لهما.
وأما العلاج فقد كادت كلمة القوم تتفق على أنه الضغط والإرهاق واستعمال القوة والشدة ..
وماذا نقول نحن في هذا العلاج؟
نقول- بالصدق والصراحة اللذين تعرفهما منا الدوائر الحكومية- أنه علاج قد يسكن الشعب شيئاً ما، حيناً ما، ولكنه يزرع في القلوب بغضا وحقداً ويملأ الصدور ثورة وحماسا، وما مآل ذلك- بطبيعة الامتلاء وطول الزمان- إلاَّ الانفجار، ولا يدري إلا الله على من تكون عواقب ذلك الانفجار.
هذا ما يفكره الساسة في الداء والعلاج وقد زيفناه.
أما نحن- ونحن أعرف بأنفسنا- فإننا نتيقن أن هذه الأمم الإسلامية العربية استيقظت من سباتها وهبت للنهوض من كبوتها،(3/379)
وشعرت لكرامتها، وأخذت تذكر ماضيها أيام حريتها واستقلالها، وهو غير بعيد في الماضي عنها، فانبعثت تعمل لفك قيودها ونيل حريتها وتبوء منزلتها اللائقة بها كسائر الأمم التي ليست هي- في قوميتها وتاريخها- دونها. غير أنها تريد أن تكون مع فرانسا وتكون فرانسا معها كأستاذ نصوح وتلميذ بار يتبادلان الصداقة والاحترام ويتعاونان في الرخاء والشدة.
هذا- لعمر الله- هو حقيقة نفسية هذه الشعوب، وهذا هو سبب ثورتها على الظلم وإبايتها من استمرار الحال على ما كان.
وما من علاج بعد هذا- والله- إلا تبديل السياسة العتيقة الرثة البالية بسياسة جديدة تعترف لهذه الشعوب بكيانها القومي، وتفسح أمامها مجال العمل للتقدم والرقي، وتنيلها أعظم قسط من التحرير، وتشعرها بأنها تساندها لتبلغ رشدها، فتكون بدورها يوم رشدها التام عضدا- وأي عضد- لها.
فهل يستطيع الساسة هذا العلاج!
نحن الجزائر:
فإذا أرادت فرنسا أن تحافظ عليها فلتحافظ على قلوبنا:
يكتنف الجزائر اليوم- وأختيها كذلك- خطران عظيمان: موسوليني من شرقها وفرانكو من غربها .. يحيط بها هذان الخطران وتضطرب أمواج البحر الأبيض المتوسط بغواصاتهما، وتدوي جوانب أجوائه بأزيز طياراتهما، وتحتل قواتهما مراكز الحياة من أحشائه، حتى أصبح الذي يريد أن يمتطي متنه في باخرة، أو يتبطن جوه في طيارة، يشعر بالخوف من مبارحته ساحل الجزائر إلى حلوله بساحل مرسيليا.(3/380)
وقد صرح نواب فرانسوي الجزائر الراديكاليين في المؤتمر الراديكالي المنعقد أخيرا بأنهم ما قطعوا البحر الأبيض المتوسط لحضور المؤتمر إلا تحت رحمة الغواصات والطيارات وأنهم وجلون هلعون من مستقبل اتصال شمال إفريقيا بفرنسا وخائفون أشد الخوف من انفصاله عنها.
وقد ابتدأ هذا الانفصال بانقطاع البريد الجوي بينهما.
هذا كله بعد ما أنفقت فرانسا وانكلترا- سيدة البحار! - على حماية طرق المواصلات، وجمعتا مجلسا حربياً لذلك، وإشرتا تلك الحماية بالفعل، وخابتا فيها خيبة ظاهرة لا تخفى على أحد. فقد غرقت بعد تلك الحماية بواخر وانتقلت قرصنة المدنية الأوروبية من البحر إلى الجو وجمعت على البشرية البلاء من السماء والأرض: وكان في القرصنة الجوية الجديدة الجواب الخشن والتحذير الحازم من جبروت الفاشيزم إلى الدولتين الديموقراطيتين المتعاونتين.
حقيقة أن هذا شيء اضطربت له فرائص فرانسا على اختلاف أحزابها وحسبت له ألف حساب. خصوصا وكل أحد يعلم أن الحرب آتية من دون ريب وأن ميدانها هو البحر الأبيض المتوسط وأن أول ما يعمله أعداء فرانسا هو فصل الشمال الافريقي عنها.
والذين يعرفون مقدار ما انتفعت به فرانسا من الشمال الافريقي في الحرب الماضية، يعلمون ما يلحقها من أضرار بانفصاله عنها في الحرب الآتية.
كيف تقاوم فرنسا محاولة العدو للفصل؟ وكيف تستطيع المحافظة على الجزائر- وعلى الشمال الافريقي- إذا تم ذلك الفصل!
أما فرانسويو الاستعمار بالجزائر والذين يستخدمون فرانسا لتفوقهم ودوام عتوهم وتسلطهم، ولا تهمهم فرنسا بقدر ما تهمهم مصالحهم،(3/381)
فهؤلاء قد شغلهم التفكير في وسائل الضغط والشدة ضد الجزائريين - وإخوانهم- عن كل تفكير آخر رغم مشاهدتهم لهذا الخطر واضطرابهم له.
وأما الرجال المسؤولون فلا شك أنهم مهتمون الاهتمام كله بمقاومة ذلك الفصل وبالمحافظة على الجزائر- وأختيها- إذا وقع. غير أننا- والعجب ملء أنفسنا- لا نسمع في الخارج إلا ما يوافق- في الأكثر- نظرية أولئك الرجعيين الاستعماريين الذين أعمتهم مصالحهم الخاصة عن كل شيء حتى كأن السياسة الفرنسية كلها انصبغت بصبغتهم وأصبحت تحت تأثيرهم!
فهم يذكرون لزوم المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائر، ولا يذكرون- أبدا- المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائريين بل لا يفتؤون يذكرون الشدة على الجزائريين ووسائل الشدة على الجزائريين.
أين أنتم أيها السادة؟
نحن الجزائر، وما الجزائر إلا الجزائريون، فإذا كنتم تريدون المحافظة على الجزائر فحافظوا على قلوبنا.
تالله إذا ضيعتم قلوبنا فقد ضيعتم الجزائر ولا محالة، ولا ينفعكم في ذلك اليوم العصيب شيء مما تقدرون اليوم.
ما يزال في الوقت متسع لتدارك الحال وجبر القلوب والعمل لمصلحة فرانسا العليا إن كنتم حقيقة لها تعملون (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 398 - 406 غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.(3/382)
كلمة مرة
لأنها صريح الحق ولباب الواقع
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن تربيتنا العلمية الدراسية المبنية على بيان الحقيقة واجلائها على ما هي عليه صيرتنا لا نستطيع شيئا من المواربة والتلبيس.
نعرف كثيرا من أبنائنا الذين تعلموا في غير أحضاننا ينكرون- وربما عن غير سوء قصد- تاريخنا ومقوماتنا ويودون لو خلعنا ذلك كله واندمجنا في غيرنا. وكنا نرد عليهم بالقول في كل مناسبة تبدو منهم فيه مثل هذة البوادر السامة الخاطئة. ووقع مرة أن كتب بعضهم- وهو ممن له قيمة معتبرة عندنا- ما هو صريح أو كالصريح في ذلك الضلال المهلك، فرأينا من الواجب علينا أن نرد عليه بكلمة صريحة نعرب بها في يقيننا عن الحقيقة التي يعتقدها الشعب الجزائري- إلا الشاذ- في صميم نفسه فقلنا في كلمتنا تلك: الأمة الجزائرية أمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمم الدنيا.
ثم اإن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرانسا، ولا يمكن أن تكون فرانسا، ولا تستطيع أن تصير فرانسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرانسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسوية".(3/383)
فجلينا بكلمتنا هذه الحقيقة مكشوفة في وضح النهار، وقطعنا الطريق على كل متقول بالباطل وأرحنا كل باحث ومتردد من بحثه وتردده.
وإلى ذلك فإننا لم نكن خياليين ننكر الواقع ونكابر في المحسوس فقد ختمنا كلمتنا بإشراف الوالي العام وتعيينه من الدولة الفرنسوية.
حقا لقد أثرت كلمتنا الصريحة أثرها وبلغت حيث أردنا أن تبلغ، فمن يوم قلناها إلى اليوم ما زال يتردد صداها في الصحافة الفرنسبة وفي المجالس وفي المؤتمرات، ومن أظهر مظاهر ذلك قيام م. فرسينانق بها في مجلس الشيوخ في السنة الماضية، وإعادتها في المؤتمر الراديكالي المنعقد أخيرا. كل ذلك يحاولون به الاحتجاج بها- وهم يعلمون أنها عبرت حقاً عن حقيقة الأمة الجزائرية وعقليتها- على منع الأمة الجزائرية من نيل حقوقها.
لقد أخطأتم خطأً بعيداً أيها السادة!
إن الأمة الجزائرية تطالب فرنسا بحقوقها لما دفعته من ثمن من دم أبنائها ولمواقفها الصادقة مع فرانسا في أيام شدتها ولما هي قائمة به لفرانسا من كل ما حمل عليها. وهذا حق لا يستطيع أن ينكره أحد يحترم نفسه ويقدر عواقب التاريخ قدرها.
فأما أن تبذل الأمة الجزائرية في نيل تلك الحقوق شيئا من كيانها فهذا ما لا يخطر ببالها ولا يستطيع أحد ممن يتولى شيئا من أمورها من أبنائها أن يعرضه عليها ولو حاول أحد ذلك لنبذته نبذ النواة والحذاء المرقع كما نبذت من نبذت.
ونحن بهذا نتحدى كل من يكون على خلاف رأينا.
فهل من أحد يستطيع أن يكذبنا؟(3/384)
نحن والواجهة الشعبية
أدركنا من يوم تأسست الواجهة الشعبية الفرنسية أن روح السياسة الفرنسية نحو الشعوب المتصلة بفرنسا لا بد أن تتبدل- إلى العدل والتسامح- شيئا ما. وعلمنا أن المبادئ التي أنبنت عليها تلك الواجهة أكثر إنسانية، فكنا أول من أعلن ثقته بها ولزوم انتظار شيء منها. وقلنا يوم ذلك: أن فرنسا- بإجماع العالم- في وضعية جديدة فلننظر إليها نظرة جديدة. وشاهدنا بالفعل طغاة الاستعمار عندنا بالجزائر يناوئون تلك الواجهة ويناصبونها العداء، فازددنا يقينا بما اعتقدنا. ولا يشك من له أدنى مسحة من عقل أن أولئك الطغاة ما أبغضوها ذلك البغض ولا عادوها ذلك العداء إلا لما اعتقدوه فيها من شيء من تخفيف وطأة الظلم والإرهاق عن المستضعفين، وشيء من كف يد العتاة الظالين. ونحن نعترف أن الواجهة الشعبية سارت شطرا من ماضي أيامها بالروح التي تأسست عليها وتنفس الخناق عن المستضعفين شيئا ما وانتعشت الآمال في المستقبل بعض الانتعاش.
ولكن ما لبث الطغيان الاستعماري والجبروت الآلي الاستغلالي أن أخذ يتقلب، وأخذت حكومة الواجهة تبعا لذلك تتقلب، حتى انتهت إلى ما انتهت إليه الحكومات قبلها. وحوادث اليوم بالمغرب والجزائر أكبر شاهد.
وقد اعترف رجال هذه الواجهة في صحفهم بحقيقة الانقلاب في حكومتهم والغلب الواقعة عليهم. ففي عدد أخير من جريد "البوبيلير" لسان الحزب الاشتراكي الافرنسي مقال عن المغرب بقلم مادلين بار قال فيه:
"إنه يمكننا الإفصاح بكلمات وجيزة، ذلك أن كامل الساسة الفرنسوية قد توجهت لحد الآن للاهتمام بحالة المعمرين، وصرفت(3/385)
أموالاً باهظة بصورة تنم عن تكوين جنة- وهذا هو النعت المناسب للمقام- لفائدة ثلاثة آلاف من الرجال. أي المعمرين خاصة لا يحسنون من الفلاحة إلا وسيلة واحدة وهي الاستثمار، ولا غاية لهم إلا تربية الثروة. هذا ما كان، وأما ما يجب القيام به فهو المبادرة بصدق إلى توجيه السياسة الفرنسية نحو سواد الأهالي".
نحن نعرف المبادئ قبل كل شيء، ورأينا في مبادئ الواجهة الشعبية هو رأينا، ولكن رجال تلك المبادئ الحقيقيين- رغم ما كان عندهم في أيامهم الأولى من قوة- كانوا ضعفاء، كانوا صغارا في السياسة أو - على الأقل- كانوا جدداً في كراسي الحكومة.
فهاهم اليوم، الحكومة حكومتهم، ولكن روحها غير روح مبادئهم، إسمها لهم ومسماها في يد غيرهم ولم يبق لهم إلا النصح والقول تقدمه - باحتراس كبير- صحفهم أو بعض صحفهم!
فإزاء هذا رأينا أن الواجب علينا أن نعلن لشعبنا أن "لا نعتمد إلا على أنفسنا وتتكل على الله".
ثم نحن من بعد ذلك سنحتفط للمحسن بإحسانه، وللمسيء بإساءته.
"و" الخير أبقي وإن طال الزمان به … والشر أخبث ما أوعيت من زاد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 403 - 406 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.(3/386)
على هامش (السانطونير) (1)
منشور المقاطعة
نداء إلى سكان قسنطينة المسليمن
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إخواني القسنطينيين!
في مثل هذه الأيام منذ قرن مات أجدادكم المجاهدون المدافعون والفرنسيون المهاجمون في ميدان البطولة والشرف، وطويت صفحة من التاريخ على شهادته بالشجاعة والتضحية للغالب والمغلوب.
ومضت مائة سنة كانت كافية لنسيان تلك المأساة، وضمد تلك الجروح وتقريب السكان المتجاورين بعضهم من بعض.
لكن قوما من الأنانيين الذين يأبون إلا أن يكونوا سادة متفوقين، وإلا أن يشعروا المسلمين بسلطة الغالبين على المغلوبين، هؤلاء القوم- وليسوا كل الفرنسيين- أرادوا في هذه الأيام أن يقيموا احتفالات عسكرية بدخلة قسنطينة، تثير العواطف، وتمس كرامة الأحياء منا والأموات وتنافي مبادئ الأخوة والرحمة التي ندعو إليها.
يحتفلون احتفالاتهم ومطالب الشعب الجزائري بعرقلتهم معطلة، وحقوقه بسعيهم مهملة وسوط القوانين الاستثنائية نازل بيدهم على ظهره في كل يوم.
لهذا فقد اجتمعت 14 جمعية إسلامية من جمعيات قسنطينة يوم
__________
(1) احتفال فرنسا بمرور مائة سنة على احتلال قسنطينة.(3/387)
السبت 18 سبتامبر الماضي في نادي الاتحاد وكانت كلها مستنكرة لهذه الاحتفالات عازمة على مقاطعتها فقررت- بالإجماع- ما يلي:
نحن- الممثلين لجمعياتنا- نرى احتراما لأنفسنا واحتراما لأجدادنا واحتراما للإنسانية:
أولاً- أن لا نشارك في هذه الاحتفالات ولا نحضرها.
ثانيا- أن نكون في هدوء تام عام.
إخواني القسنطينيين!
قد فعل المؤتمر الإسلامي الجزائري واجبه فاحتج على هذه الاحتفالات في اجتماعه العام الأخير وقدم مكتبه ذلك الاحتجاج إلى الوالي العام وقدمه مكتب لجنة القسنطينية إلى مير قسنطينة، وفعلت الجمعيات الإسلامية القسنطينية واجبها بما قررته في قرارها المتقدم. وأخوكم هذا- كقسنطيني- فعل واجبه بنشر هذا المنشور عليكم، فما بقي إلا أن تقوموا أنتم بواجبكم.
فقاطعوا هذه الاحتفالات ولا تشاركوا فيها.
كونوا في هدوء وسلام.
والسلام عليكم من أخيكم
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 427 - 429 غرة رمضان 1356ه - نوفمبر 1937م.
والمقال: حرر بالمنصورة حوز تلمسان مساء الثلاثاء23 رجب 1356ه 28/ 9/ 1937م.(3/388)
مسألة عظيمة
بين رجلين عظيمين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أما المسألة العظيمة العظيمة فهي الوحدة السياسية للأمة العربية من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلنطيقي.
وأما العظيمان فهما الأمير شكيب أرسلان وسعادة سليمان باشا الباروني.
ولا تحسبن الكلام دار بينهما في بيان حقيقتها وإمكان تحقيقها وأسباب تحقيقها مما يحتاج رجال النهضة الحربية إلى دراسته والعلم به ليكونوا في سيرهم على بصيرة فلا يتقهقروا ولا يتهوروا. بل كان خطاب من شكيب في شأنها فكان رد من الباروني عليه بإعلان البراءة منه، جزاء إعلانه البراءة من مسلمي المستعمرات، ثم دعا أهل العلم إلى إبداء رأيهم فقال: "ولعل علماء الإسلام الغيورين على دينهم يبدون رأيهم فيمن يعلن البراءة من مسلمي المستعمرات المعذبين لإرضاء أعدائهم ومعذبيهم من المستعمرين لينسد هذا الباب فلا يدخل منه غيره بعد اليوم". الرابطة العربية عدد 77.
لم ينقل الباشا نص كلام الأمير، ونصه كا نقلته "الجزيرة" الدمشقية في عددها الصادر في 24 رجب الماضي: "أما طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش فهذه بلاد عربية وإن كان فيها بربر أكثر من العرب، فإن ثقافة هؤلاء البربر عربية وهم على كل الأحوال مسلمون، فهذه الأمة هي منا ومعنا كما أن قلوبنا متحدة بيننا وبينهم، ولكن هناك أسباب حغرافية تمنع اتحادنا معهم اتحاداً فعلياً، وهم ليسوا من برنامجنا(3/389)
ولا نتكلم على الوحدة معهم لأننا نجعل لنا أعداء أقوياء ونحن في غنى عن ذلك الآن.
نحن نريد تحقيق وحدتنا الحربية في آسيا، ولكن وجود وحدة سياسية من إخواننا مسلمي شمالي افريقية (يعني: تكون منهم فيما بينهم) لا يمنع أن يكون بيننا وبينهم وحدة لغوية ثقافية دينية اجتماعية وأن تكون قلوبنا مرتبطة بقلوبهم في السراء والضراء".
فأين هي براءة الأمير من مسلمي المستعمرات التي زعمها الباشا.
أم كيف يكون متبرئا من يقول "فهذه الأمم هي منا ولنا ومعنا كما أن قلوبنا متحدة بيننا وبينهم" ويقول، بيننا وبينهم وحدة لغوية ثقافية دينية اجتماعية و … قلوبنا مرتبطة بقلوبهم في السراء والضراء".
فما بقي إلا أنه لا يرى إدخالهم في برنامج الوحدة السياسية العربية بين الشعوب العربية غير المستعمرة حتى لا يثير ثائرة الأعداء الأقوياء الذين لا حاجة بإثارة عداواتهم الآن ويرى إلى هذا وجود وحدة سياسية من مسلمي شمالي افريقيا.
وهذه نظرية سياسية محضة قابلة للأخذ والرد وكل وجوه المناقشة غير أنها لا تعد عند أحد براءة من مسلمي المستعمرات كما زعم الباشا.
وقد زار الأستاذ محمد تيسير ظبيان الكيلاني صاحب "الجزيرة" الأمير وأخذ منه تصريحا برأيه في الوحدة العربية نشره في العدد الصادر في 1 شعبان من "الجزيرة" وهو كلام- كما قال الأستاذ- واضح صريح لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح. وهذا نصه:
"فيما يتعلق بالأمصار الواقعة في شمالي إفريقيا يرى أن يكتفي في الوقت الحاضر بإيجاد صلات معنوية وروابط روحية بينها وبين هذه الأقطار (يعني: غير المستعمرة) التي خطت خطوات موفقة في سبيل(3/390)
الوحدة العربية حتى أصبحت فكرة اتحادها وتضامنها ليست من الأمور الصعبة والمسائل الخيالية كما كان يتوهم الكثيرون.
ولكن عطوفته يرى أن إثارة الوحدة السياسية بين هذه المجموعة الآسيوية والمجموعة الإفريقية في هذه الظروف العصييبة، مما يثير علينا مشاكل جمة ومتاعب عديدة لا قبل لنا باحتمالها ودرئها ونحن ما زلنا على عتبة الاستقلال والسلطان القومي".
وهذا التصريح جلي في أن الأمير لا يعارض إلا في إثارة الوحدة السياسية في هذه الظروف لما يخشى من مشاكل ومتاعب فأين هذه البراءة التي زعمها الباشا وهول بها؟
نرى واجبا علينا بعد ما نقلنا كلام الأمير واطلع عليه القراء، أن ننقل من مقال الباشا المنشور بعدد "الرابطة العربية" المتقدم ما فيه رمي الأمير بالبراءة من مسلمي المستعمرات ليرى القراء بأنفسهم مقدار مطابقته للواقع ومسافة ما بينه وبين الحقيقة.
قال سعادة الباشا:
1 - "وأما شكيب فيعلن (بدون داع وبدون أن يسأله أحد عن رأيه في الاتفاق مع المسلمين المصابين بالاستعمار) براءته من المسلمين كافة من المغرب الأقصى إلى نهاية الهند ومن التركستان إلى البلقان إلا عرب الجزيرة ومصر (الغنية بذهبها الوهاج) ".
2 - "إذ دفع فيها (الخطبة) شكيب بإحدى يديه طرابلس برقة معلنا البراءة منها طلبا لرضاء إيطاليا ودوام ابتسامة موسوليني الذي يتفانى في حبه (وهو لاه عنه) لأدنى مناسبة".
3 - "ويدفع شكيب باليد الأخرى تونس والجزائر ومراكش والسودان تودداً لفرنسا المسيطرة على بلاده معلناً بذلك براءته من الجميع".(3/391)
4 - "فما معنى براءة شكيب اليوم من مسلمي طرابلس برقة وافريقيا كلها (إلا مصر الغنية بالذهب) وما هي النعمة التي ستزول عنهم والنقمة التي ستحل بهم وتجعلهم يحزنون من إعلان هذه البراءة الجوفاء من طرف شكيب أرسلان. وعلى هذا القياس القول في رجال المغرب والمشرق كله الذي أعلن شكيب براءته منهم إرضاء للمستعمرين".
5 - "وأما افريقيا ففقيرة لا تستحق بعد أن نضب ضرعها الذي كان يدر على كثيرين من دعاة الإسلام لبنا خالصا إلا أن يقال لها اليوم بعداً وسحقا لك فإن رضاء المستعمرين أنفع لنا من رضائك".
6 - "وأن يعاتبوه (المسوريون) على تعليله براءته من مسلمي المستعمرات بأنه لا يتحمل عداوة المستعمرين في سبيل أولئك المسلمين ناسياً أو متناسيا ما كان يتظاهر به من الإنتصار للإسلام ومعتنقيه في كتاباته وخطبه القديمة أيام كان المسلمون أعزة وكرماء".
7 - "واضطر فيه (وقت كهذا) إلى إعلان البراءة من صديق قديم".
8 - "أما وقد تظاهر اليوم بإعلان براءته من المسلمين المستعمرة بلادهم فلم يكن بد من الكلام، إذ قد علل ذلك بأنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ونسي الأخوة الإسلامية التي لا يغفل عن ذكرها".
9 - "ومما يؤسف له أن يعلن شكيب أرسلان براءته على رؤوس الأشهاد في سوريا من المغرب كله تزلفاً لفرنسا".
10 - " … الإهانة التي صوبها إلى إخوانهم رجال شمال إفريقيا الأخ الارسلاني طلباً لرضا إيطاليا وفرانسا".
ماذا يقول القراء بعد وقوفهم على الكلامين؟ أما نحن فقد قضينا(3/392)
- والله- عجبا من هذا البهت والتحامل اللذين لا مبرر لهما ولقد وقفنا قبل أن نكتب لفظتي البهت والتحامل وحاولنا أن نجد غيرهما يقوم مقامهما فلم نجد إلا إذا خالفنا الحقيقة وسمينا الأشياء بغير أسمائها. ولكننا- مع هذا- نلتمس لسعادة الباشا العذر من مرضه الذي هو في حالة نقه منه والحمد لله.
بقي في كلمات سعادته ملاحظات ينبغي التعليق بها وها هي مرتبة على حسب الأرقام.
1) نظن ان الذي دعا الأمير إلى ما قاله عن الوحدة السياسية أنه كان بصدد تقرير الوحدة العربية فأراد أن يبين ما يريد من التفريق بين الوحدة السياسية وغيرها حسب نظريته، وأما مصر فإنما أدخلها في الوحدة السياسية وهي إفريقية لأنها مستقلة إلى حد بعيد. وأما ذهبها الوهاج فنظن أنه لا يقدم ولا يؤخر لو لم يكن ذلك القدر العظيم من الاستقلال.
2) نظن أن الأمير لو كان ممن تستبيه الابتسامات لاستبته ابتسامات انكلترا التي لا نشك أنها ابتسمت له كما ابتسمت لغيره ممن يعيشون في مناطق نفوذها … فأعرض عنها فحرَّمت عليه حتى النزول في مصر رغم دستورها واستقلالها.
3) وأما فرنسا فلو كان الأمير يتودد إليها لتودد إليها أيام كانت بلاده تحت نير انتدابها التام وهو مقضي عليه بالإبعاد منها. وكيف يمكن أن يتودد إليها وهو يعلم أن جرائدها إلى يوم الناس هذا تصفه بالعدو وتنسب إليه- زوراً- كثيراً مما هو واقع في مستعمراتها ومن خطاب م سارو أمام لجنة الجزائر والمستعمرات: (شكيب أرسلان ذلك العدو القديم لفرنسا والذي لا تزول عداوته) وكيف يتودد أدنى العقلاء إلى من يصارحه بالعداوة وينسب إليه المناوءة التامة، فكيف بمثل الأمير؟(3/393)
4) قضى الأمير شكيب أيام غربته في سويسرا محاربا للاستعمار كله في خطبه وكتبه ومقالاته الكثيرة جدا في صحف الشرق والغرب بالعربية والفرنسية وفي مجلته "لا ناسيون آراب" المشهورة في أنحاء المعمور وهو في ذلك كله يغضب المستعمرين ويكربهم ويحز في حلاقمهم هذا وهو طريدهم وبلده في استعبادهم فكيف صار اليوم وقد شاب فوداه وتحررت- إلى حد- بلاده ورجع كما رجع سائر المبعدين إليها يطلب رضا المستعمرين؟ هذا نظن أنه غير معقول.
5) من هم هؤلاء الكثيرون من دعاة الإسلام الذين كانت إفريقيا تدر عليهم لبنا خالصاً؟ أجمال الدين؟ أم محمد عبده؟ أم رشيد رضا؟ أم شكيب أرسلان؟ فإن كان هو شكيب كما قد يزعم الباشا فهو واحد فأين الكثير. إن مثل هذه الكلمة الغالية المتجاوزة تدلنا على أن سعادة الباشا لم يكن يضبط ما يقول.
6) لقد كان شكيب منقطعًا لنصرة المسلمين المستعبدين أينما كانوا كما تشهد بذلك آثاره التي ذكرنا والمسلمون المسعبدون أذلة لمستعبديهم فقيرهم قعد به العجز وغنيهم غل يديه البخل وهم- إلا قليلا- قد فرطوا في واجبهم نحو مشارعهم التي بين أيديهم وأمام أعينهم فضلا عما هو بعيد عنهم كمجلة شكيب الوحيدة في بابها! فمتى كان المسلمون الذين دافع عنهم شكيب طول أيام غربته أعزة كرماء؟ حتى يزعم الباشا أن شكيبا دافع عنهم أيام عزهم وكرمهم يعني وتبرأ منهم اليوم يوم ذلهم وفقرهم. كلا الأمرين بالعكس يا صاحب السعادة فإن المسلمين كانوا أذلة واليوم تنسموا شيئا من العز وكانوا أشحة واليوم نشطت فيهم روح البذل. فما خدمهم شكيب- إذا أنصفنا- إلا أيام ذلهم وشحهم.
7) من المعلوم أن من الواجب في المذهب الإباضي البراءة من المخالفين كما قال صاحب (النيل) في باب فرز دين الله "ويصل لفرزه(3/394)
باسمه وصفته ومن ينسب إليه من أئمته وولايتهم وبراءة من خالفهم وتخطئته" فلا عجب أن يتبرأ سعادة الباشا من الأمير كسائر المخالفين وإنما نظن أن سعادته يقصد البراءة الخاصة التي توجب الهجران والمقاطعة لارتكاب جريرة. ولكنها براءة في غير محلها لأنه قد تبين أن الأمير لم يقل شيئا مما رماه به الباشا.
8) لم يقل شكيب أنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ولا ينسى الأخوة الإسلامية بل قد صرح بالصلات المعنوية والروابط الروحية واتحاد القلوب وارتباطها في السراء والضراء والوحدة اللغوية والثقافية والدينية والاجتماعية وأننا منهم ولهم ومعهم أفبعد هذا كله يقال عنه- زوراً- إنه: لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها؟ هذا- والله- عظيم.
9) يصمم الباشا على أن الأمير يتزلف لفرنسا بهذه البراءة المزعومة، ولماذا يتزلف لها ولا سلطان لها عليه ولاطمع له في سلطانها، ولمَ يتزلف لها وهي تذيقه علقم البعد عن الأهل والوطن. كيف يتزلف لها اليوم وهو في أهله ووطنه بفضل أمته وحكومتها لا بفضل فرنسا عليه.
10) ليس فيما نقلناه من كلام الأمير شيء تشم منه رائحة الإهانة وكيف يكون من يصرح بتلك الروابط ويشير بالوحدة السياسية لعرب شمالي إفريقيا مهيناً لإخوانه. كلا، وإنما هو خبير مجرب وسياسي محنك يفرق بين ما يمكن وما لا يمكن إلا بعد زمان.
ها نحن لبينا دعوة الباشا فأبدينا رأينا في كلام الأمير وكلام سعادته بعد نقلهما بنصهما ولو وجدنا- علم الله- شيئا مما زعمه الباشا في كلام الأمير لوقفنا معه الموقف الذي يوجبه الحق والشرف وأخوة الإسلام دون أدنى هوادة أو لين.
وقد اقتصرنا من كلام سعادة الباشا على ما يتعلق بالبراءة المزعومة(3/395)
دون بقية المقال وإن كنا منكرين لكثير مما فيه، لاأننا لم نقف موقف المدافع عن الأمير إذ له من قلمه ما يغنيه عن دفاع مثلنا.
غير أن هناك ملاحظة لا بد من إبدائها وهي أن روح المقال- في نظرنا- روح هدم لماضي شكيب أرسلان برمته وتصويره بصورة الرجل المادي الذي ما كان يحركه إلا حب المال. وعزيز علينا- والله- مثل هذا النكران من رجل عظيم لرجل عظيم، ومحزن لنا- والله- ومفتت لأكبادنا أن نسرع هذه السرعة في هدم عظمائنا سواء أكان الهادم الباروني لأخيه شكيب أو العكس أو غيرهما. وإننا لنعرف هذه الروح الهدامة فينا معشر الشرقيين ولكننا ما كنا نظنها تبلغ المستوى الذي رقيه الباروني ومثله.
فياليتها قومنا يذكرون- دائما- قول أبي الحسن ابن الرومي:
لا تضع من عظيم قدري وإن كنـ … ـت مشارا إليه بالتعطيم
فالشريف العظيم ينقص قدراً … بالتعدي على الشريف العظيم
ولع الخمر بالعقول رمي الخمـ … ــر بتنجيسها وبالتحريم
بل ليتهم يتأدبون بأدب الله في قوله جل جلاله {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فلا ينكرون الإحسان الكثير لأجل السوء القليل، إن كان هذا السوء القليل.
هذا رأينا فيما بين الأمير والباشا أما رأينا في الوحدة السياسية وفي عروبة شمال إفريقيا فسنبديه في العدد الآتي إن شاء الله.
هذا وكأنني بـ: م. سارو وغيره يضمون كتابتي هذه إلى حججهم على ما يرمون به الأمير وما يرموننا به. ونحن ما أنكرنا يوما بيننا وبين عظماء أمتنا الإسلامية والعربية من روابط متينة وعلائق قوية وإن لم تكن بيننا معرفة شخصية ولا كتابية.(3/396)
ونحن نكلف بالعظمة وندافع بالحق، ولو لم تكن منا، فكيف بها إذا كانت منا- وقديما قال شاعرنا أبو عبادة البحتري:
وأراني من بعد اكلف بالا شـ … ـراف طرا من كل سنخ وجنس
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 10، م 13، ص 438 - 446
بسكرة النخيل 1 شوال 1356هـ - 12 دسامبر 1937م.(3/397)
الوحدة العربية
هل بين العرب وحدة سياسية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا قلنا العرب فإننا نعني هذه الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلانطيقي غربا، والتي فاقت سبعين مليونا عدّا تنطق بالعربية وتفكر بها وتتغذى من تاريخها وتحمل مقدارا عظيما من دمها وقد صهرتها القرون في بوتقة التاريخ حتى أصبحت أمة واحدة.
هذه الأمة العربية تربط بينها- زيادة على رابطة اللغة- رابطة الجنس، ورابطة التاريخ، ورابطة الألم، ورابطة الأمل، فالوحدة القومية والأدبية متحققة بينها ولا محالة. ولكن هل بينها وحدة سياسية؟ هذا هو الموضوع الذي طرقه الأمير شكيب أرسلان وقال فيه كلمة السياسي العملي والخبير المحنك فتعرض له سليمان باشا الباروني بمقال نقضناه عليه في الجزء الماضي وفضحنا ما فيه من خطاأ وتحامل.
الوحدة السياسية لا تكون إلا بين شعوب تسوس نفسها فتضع خطة واحدة تسير عليها في علاقاتها مع غيرها من الأمم، وتتعاقد على تنفيذها، وتكون كلها في تنفيذها والدفاع عنها يدا واحدة، فهي مقتدرة على الدفاع عنها كما كانت حرة في وضعها، وأما الأمم المغلوبة على أمرها فهذه لا تستطيع أن تضع أمرا لنفسها فكيف تستطيع أن تضعه لغيرها، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها فكيف تستطيع ان تدافع عما تقرره مع غيرها. وهي لم تستطع أن تعتمد على نفسها في(3/398)
داخليتها فكيف يعتمد عليها في خارجيتها؟ فالوحدة السياسية بين هذه الأمم أمر غير ممكن ولا معقول ولا مقبول.
واذا نظرنا إلى الأمة العربية على ضوء هذه الحقيقة فإنا نجد منها شعوبا مستقلة استقلالا حقيقيا فهذه تمكن بينها الوحدة السياسية وتجب. وقد وقعت في هذه الأيام- والحمد لله- فعلا بين المملكة السعودية والعراق واليمن ومن المنتظر انضمام مصر والشام إليهم يوم يتم استقلالهما. ثم نجد شعوبا أخرى وهي شعوب الشمال الإفريقي المصابة بالاستعمار فهذه لا وحدة سياسية بينها ولا بين غيرها ولا يتصور أن تكون. ومن الخير لها أن تعمل كل واحدة منها في دائرة وضعيتها الخاصة على ما يناسبها من الخطط السياسية التي تستطيع تنفيذها بالطرق المعقولة الوصلة، مع الشعور التام بالوحدة القومية والأدبية العامة والمحافظة عليها والمجاهرة بها، ونحن نعلم أن الواقع اليوم في شمالنا الإفريقي العربي هو هذا بعينه، فنقول- بكل صدق وصراحة- أن كل شعب من شعوب هذا الشمال مستقل تمام الاستقلال بخططه في سياسته، لا نعرف هيئة منهم تتصل بهيئة مع عمل الجميع على تغذية الشعور بالوحدة القومية والأدبية العامة.
والأمير شكيب الذي تعده الدول المستعمرة ألد أعدائها وتنسب إليه- ظلما وزورا- كل حركة تقع في الأمم المصابة باستعمارها، يصرح في خطابه بعدم الوحدة السياسية بين شعوب العرب المغلوبة على أمرها وشعوبهم المستقلة، لأنه- وهو أكبر مدافع عن العرب والإسلام في الغرب والمشرق- رجل عملي ليس بخيالي، وسياسي مجرب خبير يعرف ما يقول ويفرق بين العمل المثمر والقول الفارغ الذي يثير الضجيج لينسب صاحبه إلى الغيرة والحماس، وإن كان يثير الغبار ويكدر الجو في نواح أخرى. هذا رأينا في الوحدة(3/399)
السياسية بين شعوب العرب. ونحن نعتقد أنه هو رأي جميع إخواننا العاملين في هذا الشمال (1).
عبد الحميد بن باريس
__________
(1) ش: ج 11، م 13، ص 472 - 473 غرة ذي القعدة 1356هـ- جانفي 1938م.(3/400)
أصول الولاية في الإسلام
من خطبة الصديق رضي الله تعالى عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما بويع لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه- بالخلافة رقي المنبر فخطب في الناس خطبة اشتملت على أصول الولاية العامة في الإسلام مما لم تحققه بعض الأمم إلا من عهد قريب على اضطراب منها فيه.
وهذا نص الخطبة:
"أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني.
أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم.
ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".
الأصل الأول:
لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها فلا يورث شيء من الولايات ولا يستحق الاعتبار الشخصي. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "وليت عليكم" أي قد ولاني غيري وهو أنتم.
الأصل الثاني:
الذي يتولى أمرا من أمور الأمة هو أكفؤها فيه لا خيرها في(3/401)
سلوكه. فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة وكان أحدهما أرجح في الخيرية والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر قدم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية ولا شك أن الكفاءة تختلف باختلاف الأمور والمواطن فقد يكون الشخص أكفأ في أمر وفي موطن لاتصافه بما يناسب ذلك الأمر ويفيد في ذلك الموطن وإن لم يكن كذلك في غيره فيستحق التقديم فيه دون سواه. وعلى هذا الأصل ولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص غزاة ذات السلاسل وأمدَّه بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح فكانوا تحت ولايته وكلهم خير منه. وعليه عقد لواء أسامة بن زيد على جيش فيه أبو باكر وعمر. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "ولست بخيركم".
الأصل الثالث:
لا يكون أحد بمجرد ولايته أمرا من أمور الأمة خيرا من الأمة، وإنما تنال الخيرية بالسلوك والأعمال، فأبو بكر إذا كان خيرهم فليس ذلك لمجرد ولايته عليهم بل ذلك لأعماله ومواقفه، وهذا الأصل مأخوذ أيضا من قوله: "ولست بخيركم"، حيث نفى الخبر عند ثبوت الولاية.
الأصل الرابع:
حق الأمة في مراقبة أولي الأمر لأنها مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم.
الأصل الخامس:
حق الوالي على الأمة فيما تبذله له من عون إذا رأت استقامته فيجب عليها أن تتضامن معه وتؤيده إذ هي شريكة معه في المسؤولية. وهذا - كالذي قبله- مأخوذ من قوله: "إذا رأيتموني على حق فأعينوني".(3/402)
الأصل السادس:
حق الوالي على الأمة في نصحه وإرشاده ودلالته على الحق إذا ضل عنه، وتقويمه على الطريق إذا زاغ في سلوكه. وهذا مأخوذ من قوله: "وإذا رأيتموني على باطل فسددوني".
الأصل السابع:
حق الأمة في مناقشة أولي الأمر ومحاسبتهم على أعمالهم وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم وهذا كله من مقتضى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأنهم على باطل ولم يستطيعوا أن يقنعوها أنهم على حق. وهذا مأخوذ- أيضا- من قوله: "وإن رأيتموني على باطل فسددوني".
الأصل الثامن:
على من تولى أمرا من أمور الأمة أن يبين لها الخطة التي يسير عليها ليكونوا على بصيرة ويكون سائرا في تلك الخطة عن رضى الأمة. إذ ليس له أن يسير بهم على ما يرضيه وإنما عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم وهذا مأخوذ من قوله: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم" فخطته هي طاعة الله وقد عرفوا ما هو طاعة الله في الإسلام.
الأصل التاسع:
لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه فائدتها وما الولاة إلا منفذون لإرادتها فهي تطيع القانون لأنه قانونها لا لأن سلطة أخرى لفرد أو لجماعة فرضته عليها كائنا من كان ذلك الفرد وكائنة من كانت تلك الجماعة فتشعر بأنها حرة في تصرفاتها وإنها تسير نفسها بنفسها وإنها ليست ملكا لغيرها من الناس لا الأفراد ولا الجماعة ولا الأمم. ويشعر هذا الشعور كل فرد من أفرادها إذ هذه الحرية(3/403)
والسيادة حق طبيعي وشرعي لها ولكل فرد من أفرادها. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم". فهم لا يطيعونه هو لذاته وإنما يطيعون الله باتباع الشرع الذي وضعه لهم ورضوا به لأنفسهم وإنما هو مكلف منهم بتنفيذه عليه وعليهم فلهذا إذا عصى وخالف لم تبق له طاعة عليهم.
الأصل العاشر:
الناس كلهم أمام القانون سواء لا فرق بين قويهم وضعيفهم فبطبق على القوي دون رهبة لقوته، وعلى الضعيف دون رقة لضعفه.
الأصل الحادي عشر:
صون الحقوق حقوق الأفراد وحقوق الجماعات فلا يضيع حق ضعيف لضعفه ولا يذهب قوي بحق أحد لقوته عليه.
الأصل الثاني عشر:
حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق. فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقسى عليه لقوته فيتعدى عليه حتى يضعف وينكسر. ويعطي الضعيف حقه دون أن يدلل لضعفه فيطغى عليه وينقلب معتديا على غيره. وهذا الأصل واللذان قبله مأخوذة من قوله: "ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه".
الأصل الثالث عشر:
شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما- دائما- بالتقصير في القيام بها ليستمرا على العمل بجد واجتهاد، فيتوجهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما وهذا مأخوذ من قوله: "أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".(3/404)
هذا ما قاله ونفذه أول خليفة في الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، فأين منه الأمم المتمدنة اليوم؟ فهل كان أبو بكر ينطق بهذا من تفكيره الخاص وفيض نفسه الشخصي؟ كلا! بل كان يستمد ذلك من الإسلام ويخاطب المسلمين يوم ذاك بما علموه وما لا يخضعون إلا له ولا ينقادون إلا به. وهل كانت هذه الأصول معروفة عند الأمم فضلا عن العمل بها؟ كلا! بل كانت الأمم غارقة في ظلمات من الجهل والانحطاط ترسف في قيود الذل والاستعباد تحت نير الملك ونير الكهنوت فما كانت هذه الأصول - والله إذن- من وضع البشر وإنما كانت من أمر الله الحكيم الخبير. نسأله- جل جلاله- أن يتداركنا ويتدارك البشرية كلها بالتوفيق للرجوع إلى هذه الأصول التي لا نجاة من تعاسة العالم اليوم إلا بها (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 11، م 13، ص 468 - 471 غرة ذي القعدة ه - جانفي 1938م.(3/405)
توضيح
إننا نفرق جيدا بين الروح الإنسانية والروح الاستعمارية في كل أمة فنحن بقدر ما نكره هذه ونقاومها، نوالي تلك ونؤيدها.
لأنَّا نتيقن كل اليقين أن كل بلاء العالم هو من هذه، وكل خير يرجى للبشرية إنما يكون يوم تسود تلك.
فلتسقط الروح الاستعمارية ولتندحر.
ولترتفع الروح الانسانية ولتنتشر (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 11، م 13، ص 493 غرة ذي القعدة 1356هـ - جانفي 1938م.(3/406)
الجزائر المسلمة
تبرهن في أحرج مواقفها
على تماسكها بشخصيتها: بإسلامها وعربيتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كبر على الرجعيين وأشباه الرجعيين بفرنسا أن يعطوا الحقوق الانتخابية البرلمانية لعدد لا يتجاوز خمسة وعشرين ألفا من الأمة الجزائرية، ما داموا محافظين على شخصيتهم وقوميتهم، كما يقتضيه "بروجي فيوليت"، ورأوا أنهم لا يمكن أن ينعموا على الأمة الجزائرية بذه النعمة! إلا إذا رضيت بمحو شخصيتها والانسلاخ عن دينها. ثم منهم من صدر في رأيه هذا عن كيد للأمة الجزائرية لصدها عن نيل الحق الطفيف لأنه يعلم أنها لا تتنازل عن شخصيتها فيجد المبرر لحرمانها، وهذا هو الأكثر. ومنهم من صدر عن حسن قصد مغترا بكلمات طائشة من أفراد قالوها عن غضب أو قلة تبصر فحسب أن الأمة الجزائرية تخضع للأمر الواقع إذا ألزمت بمحو شخصيتها والانسلاخ عن دينها فأراد أن يحسن إليها ويرغم عتاة الاستعمار خصومها. فأصبحت الجزائر من هذين القسمين بين حرمانها من كل حق لها، وسلبها من أعز عزيز عليها، موقف- والله- من أحرج مواقفها.
لقد كانت عبار "بروجي فيوليط" قبل "المؤتمر الإسلامي الجزائري" غير صريحة في المحافظة على الشخصية الإسلامية وكان قسم عظيم من الأمة ذاهبا مع تياره رغم ذلك الإبهام فلما انعقد المؤتمر في 17 جوان 1936، كان عمل العلماء فيه المحافظة على تلك الشخصية(3/407)
حتى أعلن المؤتمر بالإجماع لزوم المحافظة عليها فلما عرض م فيوليت بروجيه على وزارة الجبهة الشعبية الأولى التي كان وزيرا فيها، حور بروجيه- نزولا- عند كلمة الأمة فصرح فيه بلزوم المحافظة على الشخصية الإسلامية.
فلما قامت سوق الكلام على هذا "البروجي" في هذه المدة الأخيرة صرح بعض النواب الفرنسيبن من الجزائر أن المحافظة على الشخصية الإسلامية إنما هي وضع العلماء وتطرفت صحيفة استعمارية كبيرة فجعلته من تعصب ابن باديس. لكنه ما كادت الأمة تسمع بالمساومة على شخصيتها حتى قامت من جميع نواحي الوطن بالاعتراض والاستنكار. فنشر العلماء بيانا وتحذيرا للأمة والحكومة في جريدة "البصائر" وأوفدت جمعية النواب لعمالة قسنطينة وفدا وجمعية النواب لعمالة الجزائر وفدا، وجمعية النواب لعمالة وهران وفدا، والنواب الماليون والعماليون غير الداخلين في الجمعيات وفدا. وذهبت تلك الوفود كلها إلى باريس، ومعها وفد من رجال الواجهة الشعبية للمطالبة ببروجي فيوليت مع المحافظة التامة على الشخصية الإسلامية ولو أدى ذلك إلى الحرمان من كل حق.
فكانت هذه كلمة الأمة الحازمة الحاسمة، وكانت هي الدليل القاطع على أن العلماء في كل ما يقومون به من خدمة الإسلام والعربية لبقاء الذاتية الإسلامية والشخصية القومية هم باسم الأمة يعملون وبلسانها ينطقون وأن كل من خذلهم في خدمتهم فقد خذل الأمة وكل من أيدهم في خدمتهم فقد أيد الأمة.
فنحن نهيب بفرنسا التي لا نرى من مصلحة الجزائر في الوقت الحاضر قطعا أن تتراخى علاقاتها بها أن تحترم الأمة الجزائرية في إسلامها وعربيتها وتنيلها حقوقها. ونلفت نظر كل نائب إلى ما عليه من(3/408)
واجب في حماية الإسلام والعربية اللذين هما أعز كل عزيز على الأمة التي هو نائب عنها. وكفى بكلمتها الاجتماعية التي قالتها في مؤتمرها وفي هذا الموقف الحرج من مواقفها- دليلا على منزلتهما عندها (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 12، م 13، ص 508 - 510 غرة ذي الحجة 1356هـ - فيفري 1938م.(3/409)
الخلافة أم جماعة المسلمين
إن الخلافة هي المنصب الإسلامي الأعلى الذي يقوم على تنفيذ الشرع الإسلامي وحياطته بواسطة الشورى من أهل الحل والعقد من ذوي العلم والخبرة والنظر، وبالقوة من الجنود والقواد وسائر وسائل الدفاع.
ولقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد صدر الاسلام وزمنا بعده- على فرقة واضطراب- ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب، ثم انسلخ عن معناه الأصلي وبقي رمزا ظاهريا تقديسيا ليس من أوضاع الإسلام في شيء.
فيوم ألغى الأتراك الخلافة- ولسنا نبرر كل أعمالهم- لم يلغوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي وإنما ألغوا نظاما حكوميا خاصا بهم وأزالوا رمزا خياليا فتن به المسلمون لغير جدوى. وحاربتهم من أجله الدول الغربية المتعصبة والمتخوفة من شبح الإسلام.
علمت الدول الغربية المستعمرة فتنة المسلمين باسم "خليفة" فأرادت أن تستغل ذلك مرات عديدة أصيبت فيها كلها بالفشل. ليس عجيبا من تلك الدول أن تحاول ما حاولت وغاياتها معروفة ومقاصدها بينة. وإنما العجب أن يندفع في تيارها المسلمون وعلى رأسهم أمراء وعلماء منهم، ومن هذا الاندفاع ما يتحدث به في مصر فتردد صداه الصحف في الشرق والغرب وتهتم له صحافة الانكليز على الخصوص يتحدثون في مصر وفي الأزهر عن الخلافة كأنهم لا يرون المعاقل الانكليزية الضاربة في ديارهم ولا يشاهدون دور الخمور والفجور المعترف بها في قانونهم.(3/410)
كفى غرورا وانخداعا إن الأمم الإسلامية اليوم- حتى المستعبدة منها- أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل ولو جاءتها من تحت الجبب وا لعمائم.
للمسلمين- مثلما لغيرهم من الأمم- ناحيتان: ناحية سياسية دولية وناحية أدبية اجتماعية. فأما الناحية السياسية الدولية فهذه من شأن أممهم المستقلة ولا حديث لنا عليها اليوم. وأما الناحية الأدبية الاجتماعية فهي التي يجب أن تهتم بها كل الأمم الإسلامية المستقلة وغيرها لأنها ناصية تتعلق بالمسلم من جهة عقيدته وأخلاقه وسلوكه في الحياة في أي بقعة من الأرض كان، ومع أي أمة عاش وتحت أي سلطة وجد، وليست هذه الناحية الإنسانية المحضة دون الناحية الأولى في مظهر الإسلام ولا دونها في الحاجة إلى الحفظ والنظام لأجل خير المسلمين على الخصوص وخير البشرية العام ..
إن الأمم الكاثوليكية- مثلا- على اختلاف أوضاعها السياسية وتباين مشاربها وأنظارها فيها، ترجع في ناحيتها الأدبية الدينية إلى مركز أعلى هو بابا روما المقدس الشخص والقول في نظر جميعهم. نعم ليس لنا- والحمد لله- في الإسلام بعد محمد صلى الله
عليه وآله وسلم شخص مقدس الذات والقول تدَّعى له العصمة، ويعتبر قوله تنزيلا من حكيم حميد، ولكن لنا جماعة المسلمين وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين من الناحية الدينية والأدبية ويصدرون عن تشاور ما فيه خير وصلاح. فعلى الأمم الإسلاميه جمعاء أن تسعى لتكون هذه الجماعة من أنفسها بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل الحكومات لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها.
لقد كنت كاتبت صاحب الفضيلة شيخ الأزهر الشريف بهذا المعنى ولكنني لم أتلق منه جوابا وعرفت السبب يوم بلغنا أن إخواننا الأزهريين(3/411)
هتفوا- يوما- بالخلافة لملك مصر فاروق الأول.
وسيرى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، أن خيال الخلافة لن يتحقق، وأن المسلمين سينتهون يوما ما- إن شاء الله- إلى هذا الرأي (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 2، م 14، ص 61 - 63 غرة ربيع الأول 1357هـ- ماي 1938م.(3/412)
فلسطين الشهيدة
رحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة والمدينة، وقد قال الله في المسجد الأقصى في سورة الإسراء: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ليعرفنا بفضل تلك الرحاب. فكل ما هو واقع بها كأنه واقع برحاب المسجد الحرام ومسجد طيبة.
حمى الإسلام تلك الرحاب من أيامه الأولى، وحمى جميع مقدسات جميع الملل وكف عادية بعضهم عن بعض وعاش اليهود تلك القرون الطويلة ينعمون برخاء العيش وحرية المعتقد واحترام المعاهد.
تزاوج الاستعمار الانكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يطاق وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحا لا يندمل.
نقول، لقسم كبير من اليهود، لأن هنالك من اليهود عددا كثيرا يستنكر هذا المأتى الجنوني الظلوم، ويعترف بجميل الإسلام والسعادة التي نعم بها اليهود ويهود القدس في ظله الوارف الأمين. فقد قدم رئيس الطائفة السامرية إلى حاكم نابلس عريضة احتج فيها باسم الطائفة على الاعتداءات الاثيمة التي وقعت على العرب في القدس وحيفا ويافا هذانصها:
"نحن أفراد الطائفة السامرية رجالا ونساء نستنكر بشدة أعمال الاعتداءات الفظيعة التي يقوم بها أشخاص من اليهود ضد قوم أبرياء في حيفا ويافا والقدس، ونطلب بشدة الحيلولة دون تكرار هذه(3/413)
الحوادث المروعة ونصرح بأننا- على أقليتنا- نعيش منذ ألوف السنين مع مواطنينا العرب في سلام، ولم يحدث أن اعتدى منهم أحد علينا أو حاول اضطهادنا".
هذه هي الحالة العامة التي كانت عليها فلسطين ألوف السنين حتى جاء الزوجان المشئومان الصهيونية والاستعمارية فكان البلاء على فلسطين كلها عربها ويهودها. فليست الخصومة بين كل عرب فلسطين ويهودها، ولا بين كل مسلم ويهودي على وجه الأرض، بل الخصومة بين الصهيونية والاستعمار الانكليزي من جهة والإسلام والعرب من جهة، والضحية فلسطين والشهداء حماة القدس الشريف. والميدان رحاب المسجد الأقصى، وكل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هنالك، من أرواح تزهق وصغار تيتم ونساء ترمل وأموال تهلك وديار تخرب وحرمات تنتهك، كما لو كان ذلك كله واقعاً بمكة أو بالمدينة، إن لم يعمل لرفع ذلك الظلم الفظيع بما استطاع.
يريد الاستعمار الانكليزي الغاشم أن يستعمل الصهيونية الشرهة لقسم الجسم العربي وحطِّ قدس الإسلام فيملأ فلسطين بالصهيونيين المنبوذين من أمم العالم. ولأجل هذه الغاية الظالمة تجند جنود الانكليز وتجمع أموال الصهيون وتسفك الدماء البريئة وتلطخ بها الرحاب المقدسة.
يجري كل هذا وترتفع له أصوات العالم الإسلامي والعالم العربي بالاحتجاج والاستنكار ويخاطب ملوك العرب والإسلام حكومة الانكليز فلا تزيد آذانها إلا صمما ولا قلبها إلا تحجرا.
نقول العالم الإسلامي والعالم العربي، لأننا لم نر ولم- نسمع من غيرهما احتجاجا جديا واستنكارا صارخا حتى الذين يقيمون الدنيا(3/414)
ويقعدونها بصراخهم ويبذلون ما يبذلون من مساعداتهم في أوطان أخرى لم نرهم إزاء فلسطين الشهيدة إلا سكوتا أو شبه سكوت- وشتان ما بين من يريد المقاومة ومن يريد رفع الملام.
نحن- المسلمين- أعداء الظلم بطبيعتنا الإسلامية ونرحم المظلوم ولو كان هو ظالما لنا. منذ أيام كنت في حانوت تاجر مسلم- وقد قرأ علي أخبارا عن اضطهادات ألمانية جديدة على اليهود فلما فرغ من القراءة قال لي: "هذا يا شيخ حرام عندنا في الإسلام احنا نخليو الناس كلهم يعيشوا بأموالهم" فقلت له: نعم، وأخذت أبين له كيف عاش اليهود في ظل الإسلام. هذا عامي من أوساط الناس متمسك بدينه ومتألم من حالة القدس الشريف ويعرف أن بلاءها من مهاجرة يهود ألمانيا وغيرهم ومع ذلك يستنكر ما يلحقهم من الظلم. وها هم اليهود اليوم قد شردتهم ألمانيا ومن قوانينها الجديدة عليهم بيع أملاكهم ببرلين بالمزاد العام ومنعهم في المستقبل من الامتلاك، ومنعهم من صناعة الطب بتاتاً، والحكومة اليونانية منعتهم من دخول أرضها ولو على سبيل السياحة، وإيطاليا أخذت في اضطهادهم بأساليب علمية دقيقة وسياسة قاتلة، وفرانسا أيضا قد هبت عليها هبات من هذه السموم ستصيب اليهود أو قد أصابهم شيء من لفحها. هذا حالهم بين الأمم المسيحية وقد عادوا - أو كادوا- كما كانوا في القرون الوسطى لا يطمئنون على أزواجهم وأموالهم وثقافتهم إلا في بلاد الإسلام، وها هم مع ذلك يستمرون على ظلم الإسلام في قدس الإسلام ولا ناهي لهم ولا ناصح ممن يسمعون لنهيه ونصحه. وما يدريهم أن هذا البلاء الذي ابتدئ بصبه عليم هو جزاء ظلمهم لفلسطين ظلم الفعل وظلم الرضا وظلم السكوت عن الاستنكار. وأان الله لينتقم من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من الجميع.
إن الدفاع عن القدس من واجب كل مسلم. وقد هب رجلات الإسلام في الشرق للقيام بهذا الواجب. فهنالك من ناحية الحكومات(3/415)
ما يقوم به وزير مصر ووزير العراق باسم ملوك العرب في لندن، وهنالك اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين تضم فريقا كبيرا من حضرات الشيوخ والنواب المصريين وقد اعتزموا على عقد مؤتمر برلاني عام للبحث في قضية فلسطين على أن يشترك في المؤتمر أيضا زعماء العرب والمسلمين في الأقطار العربية والإسلامية التي لا توجد فيها برلمانات وصح عزم اللجنة على أن يعقد المؤتمر في مدينة القاهرة إن شاء الله يوم الجمعة الموافق لـ 12 شعبان 1357هـ و 17 أكتوبر سنة 1938م.
سيكون هذا المؤتمر الأول من نوعه في الشرق العربي وستعرف به الصهيونية والاستعمار البربطاني أنها أمام العالم الإسلامي والعربي لا أمام فلسطين وحدها فعلى المسلمين كلهم أن يؤيدوا هذا المؤتمز برفع أصواتهم إليه، وعلى اليهود الذين ينكرون ظلم الصهيونية وشرها أن يغتنموا هذه الفرصة الفريدة لإعلان استنكارهم.
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 6، م 14، ص 1 - 4 غرة جمادى الثانية 1357هـ- أوت 1938م.(3/416)
حول مساجين العلماء
هل في سجن "الكدية" ما يذكرنا بـ (الباستيل)؟ ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الباستيل وما أدراك ما الباستيل! وما أحوج الشعوب المستضعفة أن تعرف تاريخ الباستيل ونهاية الباستيل!
هو حصن منيع اتخذه ملوك فرنسا المستبدون سجنا يلقون فيه الأحرار المفكرين، فيقضون أيام في ظلمات اقبائه حتى يأتي عليهم الموت، يلقونهم في غيابات هذا السجن الرهيب دون محاكمة ولا جرم معلوم.
وفي 14 جوليت سنة 1789 هاجم الشعب الفرنسي الثائر هذا الحصن وضربه بالمدافع واستولى عليه ومثل بحراسه شر تمثيل وأطلق سراح من فيه.
كان سقوط هذا السجن رمزا لسلطة الشعب وفوز الأحرار، كما كان قيامه رمزا لاستبداد الملوك وخنق الحرية.
لذلك اتخذ يوم سقوطه عيدا للحرية تجدد فرنسا ذكراه في كل عام. وكانت ذكراه في هذه السنة لمرور السنة 150 بالغة أقصى الفخامة والأبهة، اشترك فيها المستعبِدون، والمستعبَدون ...
ما هي ميزة هذا السجن بين السجون؟
ميزته إلقاء الأحرار فيه دون محاكمة ولا جرم معلوم.
وهذه الميزة لم يبق لها- فيما نعرف- من نظير في البلدان التي تملك أمر نفسها وتسيطر الشعوب فيها على حكومتها.(3/417)
أما في الأمم المملوكة أو الشعوب التي لا سلطان لها على حكوماتها فما تزال ميزة الباستيل باقية فيها إلى اليوم.
وها نحن في الجزائر نرى ذلك ونتجرع آلامه. ففي سجن "الكدية" بقسنطينة قد ألقي أربعة من أعضاء جمعية العلماء المسلين الجزائريين دون جرم معلوم ودون أن يقدموا للمحاكمة، أربعة من العلماء: الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والشيخ عبد القادر الباجوري والشيخ علي بن سعد والسيد محمد الكامل، مضت عليهم في السجن سنة وأربعة أشهر مع المجرمين!
ومن عجب المقارنات أن يحتفل بمرور 150 سنة على سقوط الباستيل وهم ينيؤون تحت ما من مثله أسقط الباستيل.
لم يثر هؤلاء العلماء ضد السلطة ولا تداخلوا في أوضاعها الإدارية ولا أسسوا لتقويمها منظمات سياسية. وإنما قاموا بواجبهم الديني في بلادهم سوف (1) وقراها، ينشرون الإسلام ولغة الإسلام وينهضون بإخوانهم في دائرة دينهم وكان أهل تلك البلاد أرق أفئدة وأصفى عقولا وأمتن دينا وأسرع إجابة للحق والخير فانثالوا عليهم يجيبون داعي الله ويقبلون على تعلم الدين ولغة الدين. هذا ما كان والله.
لكن الذين لا يرضيهم مثل هذا- وهم أصناف- بيتوا أمرهم وتعاقدوا على قتل هذه الزيادة الدينية العلمية من تلك الديار فصوروها صورتها وأوقعوا بتلك البلاد الآمنة ما أوقعوا مما سبله عليهم التاريخ. وكتب على صفحات القلوب بأقلام الضلوع وحبر الدموع، وسيق الناس إلى السجون والأعمال الشاقة وسيق هؤلاء الشيوخ على الخصوص بتهمة التآمر على أمن الدولة أو الثورة على النظام أو الاتصال
__________
(1) بلد في الواحات بالصحراء الجزائرية.(3/418)
بالأعداء أو ما شئت من مثل هذه التهم التي يتسع لها الخيال، ولم يثبت شيء منها- ولن يثبت- إلى الآن وبعد الآن.
إننا لا نطلب العفو والإفراج عنهم، وإنما نطلب تقديمهم للمحاكمة ونشر قضيتهم أمام العدالة والرأي العام. إننا على ثقة من براء أصحابنا، وعلى ثقة من فضيحة هذه المعاملات الاستثنائية التي لا يرتضيها الحق، ولا تقتضيها- خصوصا في هذه الأوقات- مصلحة.
وإذا كان من تقديم إخواننا للمحاكمة رفع مَّا للظلم عنا، فإن فيه محوا مَّا لكلفة شوهت وجه عيد الحرية.
فإلى المحاكمة إن كنتم تريدون شر العدل وجمال الحرية (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) البصائر: عدد 178 قسنطينة يوم السبت 24 جمادى الثانية 1358هـ - 11/ أوت 1939م ص 1، ع 1 و 2 و 3.(3/419)
أولو الأمر
هذه كلمة قرآنية، فمن هم المرادون بها؟ فقد أوجب الله طاعتهم على المؤمنين فمن اللازم شرعا أن يعرفوا ليمتثل أمر الله تعالى فيهم، فمن هم؟ قد اختلف فيهم فقيل هم- العلماء، وقيل هم الأمراء من المسلمين، والصحيح أنهم العلماء والأمراء معا وإليك البيان:
لله الخلق والأمر، والأمر أمران: الأمر التكويني، والأمر التشريعي والثاني هو المراد هنا، وما أمر بطاعة أولي الأمر إلا لأنهم يأمرون بأمر الله، فكانت طاعتهم طاعة الله. وأمر الله نحتاج إلى تعيينه وإلى تنفيذه، فبالعلم يعين، وبالسلطان ينفذ، فالعلماء يصدق عليهم أولو الأمر لأنهم الذين يعينون أمر الله بطرائق العلم المقررة، والأمراء يصدق عليهم أولو الأمر لأنهم ينفذونه بحمل الناس عليه بما جعل الله لهم من سلطان. فإذا وجد العلماء دون الأمراء تعطلت الشريعة، وإذا وجد الأمراء دون العلماء ضلوا وأضلوا عن السبيل، ولا يستقيم الحال إلا بوجود الطائفتين وتعاونهما بطريق الشورى التي هي أساس الأمر في الإسلام. وقد بين لنا السلف الصالح رضي الله عنهم هذا بطريقة عملية فكان عمر - رضي الله عنه- وقد جمع بين العلم والسلطان يجمع الصحابة في النوازل الهامة ويستشيرهم ويجعلهم في الشورى على طبقاتهم كما فعل عند ما خرج إلى الشام وسمع بالطاعون والقصة ثابتة في الموطأ وغيره.
دعاني إلى كتابة هذا مقال جليل نفيس نشرته مجلة الهداية الإسلامية بقلم أستاذنا العلامة الجليل الشيخ الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري التونسي ثم المصري تحت عنوان (العلماء وأولو الأمر) فأحببت أن أنقله إلى قراء (الشهاب) وخشيت أن يفهم من عطف أولي الأمر على(3/420)
العلماء في العنوان المذكور، إن العلماء لا يصدق عليهم اللفظ القرآني فأحببت أن أبين القول الحق في صدقه على الطائفتين وأحببت أيضا أن تكون مقدمتي هذه الصغيرة أمام ذلك المقال الكبير تذكرة لجلوسي لتلقي تهذيب المنطق بين يدي الأستاذ بجامع الزيتونة- عمره الله- ولسماع دروس من صدر تفسير البيضاوي بدار الأستاذ بشارع باب منارة من تونس الخضراء العزيزة حرسها الله.
ولا يخفى أن الأستاذ أبقاه الله ابن أخت العلامة الجليل الشيخ المكي ابن عزوز رحمه الله، وكلاهما من أبناء الطرقية، ولكن العلم سما بهما إلى بقاع التفكير والهداية والإصلاح ولكليهما- أحسن الله جزاءهما- كتابات في التحذير مما عليه الطرقية اليوم تارة بالتصريح وتارة بالتلميح. وإلى القراء الكرام نص مقال الأستاذ أبقاه الله وهو من ذلك الطراز (1)
__________
(1) ش: ج 8، م 15 قسنطينة شعبان 1358هـ سبتامبر 1939م
ص 368 إلى 869.
هذا آخر مقال للشيخ عبد الحميد بن باديس في آخر عدد من الشهاب الذي لم يصدر منه فيما يبدو إلا ملزمة واحدة مما جعل مقال الشيخ الخضر بن الحسين غير كامل فيه لذا لم ننشره.(3/421)
آثار ابن باديس
قسم البرقيات والاحتجاجات(3/423)
شكر عام للإحساس العام
تهاطلت على الإدارة البرقيات والكتب من جميع جهات القطر ومن تونس الشقيقة بالتهنئة بسلامة الأستاذ، والاستياء من توحش الجاني العليوي، مثلما تواردت وفود القسنطينبيبن من جميع طبقاتهم على داره، فجاءنا من جنابه ما يلي:
إنني أشكر الشكر الجم الأمة الجزائرية جمعاء على ما ظهرته (1) من العطف والشعور نحو شخصي الضعيف، بما رأيت من القسنطينيين كلهم، وما تلقيته من الكتب والبرقيات من جميع الجهات. وأشكر كذلك الأمة التونسية العزيزة التي لا يفصلنا عنها غير الاعتبارات السياسية من فاصل في الوجود.
إنني- وأيم الله- لأرى نفسي أحقر وأقل من هذا الاعتناء، ولكنني أسر وأبتهج عندما أعلم أن هذا الشعور العام دليل على (2) في قلوب المسلمين من المكانة العظيمة لكلمة الحق وكلمة الدين اللذين ما أوذيت إلا في سبيلهما من طائفة تدعي الخصوصية في الإسلام وتبعث أتباعها يسطون على الأبرياء بالظلم والعدوان.
فهذا العاجز يكرر شكره بلسان الحق والدين لأهل هذا الشعور الطاهر الشريف، سائلا من الله تعالى أن يزيده رسوخا في قلوبهم على مدى الأيام (3).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: أظهرته.
(2) كذا في الأصل وصوابه: على ما في قلوب ..
(3) الشهاب: عدد 76 ص 15 - 16، 18 جمادى الثانية 1345ه - 22 دسامبر 1926م.(3/425)
احتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ضد اعتداء النائب المالي غراب وافترائه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كثر على هذا الرجل مع جهله باللغتين أن يتعرض لجمعية علمية كبرى فيتقول عليها بجمل لا يفهم معناها ومفردات ما جرت على لسانه من قبل- مثلما في خطابه ضد الجمعية الذي نشرناه بالعدد السابق- لولا أنه اعتاد أن يوحى إليه بالأمر فيجريه على لسانه، ويكتب له الكتاب فينسبه إلى نفسه. ولكنه ليس بكثير عليه ولا غريب عنه ولا بعيد عنه أن ينطوي قلبه على البغض والكيد للعلم والعلماء، فيغتنم فرصة اجتماع المستدعين لملاقاة الوالي العام في إدارة الأمور الأهلية فيلقي ما لقي إليه ويتحمل مسؤوليته بعد نشره، لأنه على مقتضى هواه من بغض العلم وأهله والسعي في إلحاق الشر والأذى بهم. ولولا اسم النيابة الذي يحمله- والله يعلم كيف كان حمله- والمجمع الحافل الذي نفث سمومه فيه، والإدارة الرسمية التي كان يلقي خطابه فيها لما بالت به الجمعية ولا أعارت كلامه أدنى التفات، ولكن مراعاة لهذه الوجوه فالجمعية ترفع احتجاجاتها لدى الأمة ولدى ممثل الحكومة الذي ألْقِيَ هذا الخطاب في حضرته.
إحتجاجنا لدى الأمة:
أيتها الأمة الجزائرية المسلمة!
قد دعاك العلماء إلى العلم واحترام العلم واتباع العلم لما دعاك أضدادهم إلى الجهل وما يجر إليه الجهل، قد دعاك العلماء إلى التفكير في الدنيا والآخرة لما دعاك أضدادهم إلى الجمود والخمول في الدنيا والدين،(3/426)
قد دعاك العلماء إلى العمل والكد والتعاون لما دعاك أضدادهم إلى الكسل والبطالة والتواكل، قد دعاك العلماء إلى الله وعبادته وحده لما دعاك أضدادهم إلى أنفسهم وتقديسهم، قد دعاك العلماء إلى كتاب الله لما دعاك أضدادهم إلى خرافاتهم، قد دعاك العلماء إلى اتباع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- والسلف الصالح- رضي الله عنهم- لما دعاك أضدادهم إلى اتباع أسلافهم وبدعهم وقبيح عاداتهم، قد دعاك العلماء إلى البذل في سبيل الخير العام فالمغرم القانوني لما دعاك أضداده إلى البذل لهم وملء خزائنهم. هؤلاء العلماء - أيتها الأمة الكريمة- الذين دعوك دعوة الحق لا يريدون منك جزاء ولا شكورا، وهم يتحملون في سبيلك ما تعلمين وما لا تعلمين. قد قام هذا النائب الجاهل الذي تشرف بالنيابة عنك وتحملت مسؤولية ما يأتيه باسمك، يوجه مطاعنه الكاذبة ومفترياته السامة إلى جميع العلماء المسلمين الجزائريين يحاول نسفها من أصلها، ويطلب من الحكومة بإلحاح أن تعاملها المعاملة "الشديدة القاسية"، حتى كأنَّ المسكين تخيل نفسه نائب الحق العام أمام قفص الاتهام.
فإليك أيتها الأمة التي ما رأت منها الجمعية إلا الإكرام بإكرامها لوفودها، وما رأت منها إلا الإقبال بإقبالها على جريدتها، التي ما راجت جريدة في القطر مثل رواجها، وما رأت منك إلا التأييد بما جاءها من وفودك للاجتماع العام الماضي من أجتماعاتها، فإليك - أيتها الأمة الكريمة- ترفع الجمعية احتجاجها على هذا النائب الجاهل المعتدي المفتري، وأنت تعرفين بعد أين تضعينه ...
إحتججنا لدى الحكومة:
أيتها الحكومة الفرنسوية، حكومة الجمهورية، المشيدة على العلم، والأمة التي قدس بمعلمة الأمة، ما أسسنا جمعيتنا إلاَّ على مقتضى قوانينك العادلة، وما أردنا إلا مساعدتك على تعليم وتهذيب وترقية(3/427)
هذه الأمة الجزائرية المرتبطة بك في السراء والضراء مدة قرن، وهي ما زالت تعرف بين الأمم بأنها أمة منحطة جاهلة، وقد خطبنا في الجموع الحاشدة وكتبنا في الصحف المنشرة، وما كانت دعوتنا في كل ما خطبنا وكتبنا إلا إلى العلم والتهذيب وتثقيف العقول وإتقان العمل كل والتعاون مع جميع السكان واحترام القوانين، ثم لم تكمل على تأسيس جمعيتنا سنتان حتى أصبحنا نلقى من الانتفاعيين الذين لا يعيشون إلا على الجهل ما نلقى من وشايات كاذبة تولد تقريرات باطلة، وتجرئ مثل هذا النائب على أن يقول ما قال. فإليك أيتها الحكومة العظيمة، نرفع احتجاجنا على هذا النائب المعتدي على كرامة العلتم، وهي كرامة الانسانية والعالم.
إحتجاجنا إلى ممثل الحكومة في ذلك المجلس:
أيها الممثل المحترم، قد كان جديراً بمجلسكم الموقر أن ينزه عن توجيه المطاعن الكاذبة لجمعية علمية محترمة في غيبتها. فإذا كان هذا النائب المتقول قد اعتدى على جمعيتنا فقد اعتدى على مجلسكم العظيم، وإذا كنا نحتج عليه لديكم لاعتدائه علينا فإنا نحتج عليكم لديكم لعدم اسكاته ولسكوتكم عليه. فعسى أن لا يجد مثله في المستقبل فرصة أمام أمثالكم للطعن والافتراء. وحسب الحكام العادلين وحسبنا منهم إثبات الحجة وتطبيق القانون، وذلك ما نرجو ونتحقق أنه من ممثلي فرنسا العظام سيكون، ولا نزال نسعى في خطتنا المستقيمة إلى غايتنا الشريفة واثقين مطمئنين وحسبنا الله ونعم الوكييل (1).
عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) الشريعة: العدد 6 السنة الأولى، قسنطينة يوم الاثنين 29 ربيع الثاني 1352هـ الموافق 21 أوت 1933م.(3/428)
تلغراف الاحتجاج
وقع حجز جريدة (السنة) بالعاصمة و المجلس الإداري للجمعية منعقد بها فاتفق المجلس على رفع احتجاج على تعطيله و كلف الرئيس برفعه بعد اتصاله بقرار التعطيل رسميا و لمّا اتصل به رفع الاحتجاج ببرقية هذا نصها:
وزير الداخلية: باريس
إنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعرب لكم عن استيائها البالغ منتهاه وعن حزنها العميق الذي سببه تعطيل جريدة (2) (السنة) العربية وتحتج بكل ما لها من قوة على قراركم الؤرخ بـ: 22 جوان القاضي بهذا التعطيل الذي ينشأ عنه للجمعية ضرر مادي وأدبي جسيم. وإن عجب الجمعية عظيم جدا ومما يزيد في عظمه أنها تجهل أسباب التعطيل لعدم ذكرها في قراركم وأنها تعلن وتصرح أن الجريدة المعطلة لم تنشر إلا ما كتب في مواضيع دينية بحتة وفي مسائل لا تخرج عن دائرة العقائد والعبادات وتغتنم هذه الفرصة لإلفات نظركم إلى الدسائس التي يدسها لها بعض خصومها الذين لا غاية لهم سوى إنشاء شتى العراقيل في سبيل مشروعها التهذيبي الأخلاقي وتشويه سمعة أعضائها الذي (3) يشهد الواقع بنزاهتهم التامة وبراءتهم من كل تهمة.
رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) كذا في الأصل والصواب: تعطيلها.
(2) في الأصل: جريد
(3) كذا في الأصل وصوابه: الذين.(3/429)
رفع قضية ضد التعطيل
وقد كلفنا محامي الجمعية برفع قضية لدى مجلس الدولة الأعلى ضد قرار التعطيل (1).
__________
(1) الشريعة: السنة الأولى، العدد الأول، الإثنين 24 ربيع الأول 1352هـ - 17 جويلية 1933 ص 2.(3/430)
جمعية العلماء المسلمين الجزائربين
وصولاتها الجدد
تنبيه إلى رؤساء الشعب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قرر مجلس إدارة الجمعية الجديد في اجتماعه الأول رفض العمل بباقي وصولات الجمعية المطبوعة أولا، وقرر وضع مثال جديد يطبع عليه وصولات جدد.
وقد طبعت الوصولات الجدد وسلمت لأمين المال ليمضيها وسنوجه من مجلداتها إلى رؤساء شعب الجمعية راجين منهم النشاط في العمل للنهوض بالجمعية ماديا وأدبيا (1).
من رئيس الجمعية:
عبد الحميد بن باديس
وداع وشكر:
وقرر إرسال برقية وداع وشكر لعامل عمالة قسنطينة (م. كارل) وهي هذه:
إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المجتمع اليوم بنادي الترقي بلغه بمزيد الأسف نبأ مبارحتكم لهذا الوطن بعد أن عمرتم فيه بشرف ولياقة تامين الوظيف السامي الذي كان قلدتكم إياه
__________
(1) الصراط السوي: العدد 2 السنة الأولى قسنطينة يوم الاثنين 28 جمادى الأولى 1352هـ الموافق لـ 18 سبتمبر سنة 1933م ص 4، ع 2.(3/431)
الحكومة الجمهورية وقمتم به أحسن قيام مدة سنين عديدة. وأن الجمعية تقدر إحسانكم للأمة الإسلامية الجزائرية وتشكر لكم مواقفكم الشريفة في شتى الظروف والحوادث التي حركت ما كان ساكنا بهذا القطر كما تشكر لكم شكراً خالصا ما أظهرتم لها من العناية وستحفظ لكم بسبب ذلك ذكراً جميلا لا ينسيه تعاقب الأيام.
رئيس الجمعية
عبد الحميد بن باديس
براءة:
وقرر إرسال كتاب لجناب الوالي العام وهو هذا:
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد صرحت في ظروف وفرص مختلفة ولا زالت تصرح وتؤكد بأنها بريئة من كل صبغة سياسية وأن خطتها وغاياتها وأغراضها التي لم تحد ولن تحيد عنها قط هي دينية علمية تهذيبية لا غير.
كما تصرح وتؤكد لكم من جديد بأنها مستقلة عن كل الطوائف، وكل الأحزاب السياسية وغيرها سواء في ذلك الداخلية منها والخارجية، وهي جمعية جزائرية إسلامية تعمل للأمة الجزائرية الإسلامية في دائرة الديانة الإسلامية والقوانين الفرنسوية خلافا لما قرأناه وفهمناه من التصريحات المنسوبة إليكم في جريدة (البتي باريزيان) في عددها الصادر يوم أول نفامبر سنة 1933م.
رئيس الجمعية
عبد الحميد بن باديس(3/432)
إحتجاج ديني إنساني:
وقرر إرسال برقية احتجاج لوزارة الخارجية وهي هذه:
إن الحوادث الدامية التي وقعت أخيراً بفلسطين قد آلمتنا ومست شعورنا الديني وأن تلك البقاع المقدسة عند جميع الأمم والتي هي القبلة الأولى للإسلام مما يجب أن تستنكر الإنسانية وكل روح دينية كل ما يكون فيها من ترتيب يؤدي إلى إثارة الفتنة وسفك الدماء بها فنحن باسم الدين والإنسانية نقدم لوزارة الخارجية الفرنسوية التي هي الممثلة لرعاياها المسلمين في مثل هذه المواقف احتجاجنا ضد ذلك.
برقية تألم:
وقرر إرسال برقية إلى فضيلة مفتي القدس وهي هذه:
آلمتنا كما آلمت كل مسلم الحوادث الدامية الواقعة بفلسطين وإننا رفعنا احتجاجنا ضد ذلك بواسطة وزارة الخارجية الفرنسوية.
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عبد الحميد بن باديس
__________
الصراط السوي: السنة الأولى العدد 11 قسنطينة يوم الإثنين 9 شعبان 1352هـ الموافق لـ 27 نوفمبر 1933م الصفحة: 8، ع: 2 - 3.(3/433)
تلغراف مرسل إلى السيد الوالى العام
إن أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البالغ عددهم ألفين، المجتمعين بعاصمة الجزائر من اجتماعهم العمومي السنوي يعربون عن إخلاصم لفرنسا وارتباطهم بها ويلفتون نظركم بكل احترام نحو الحالة السيئة الناشئة عن منع الوعاظ والمرشدين الأحرار من المساجد وتضييق حرية التعليم العربي وتعطيل الجرائد التي تصدرها الجمعية باللغة العربية ويطلبون منكم مراعاة للصالح العام وتهدئة للأفكار أن ترفعوا كل تحجير وكل منع من النوع المشار إليه وأن تصدروا الأوامر التي تكفل حرية الديانة، وحرية التعليم العربي وحرية الصحافة العربية.
رئيس الجمعية
عبد الحميد بن باديس
__________
ش: ج 9، م 10 (عدد خاص) غرة جمادى الأولى 1353هـ 12 أوت 1934م، ص 430.(3/434)
حول مقال نشرته جريدة الطان
بعنوان: "قبل اجتماع اللجنة العليا للبحر المتوسط"
وأذاعته عنها جرائد الشمال الإفريقي اليومية الفرنسية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الطان الباريسية الكبرى تعمل على إثارة الشعب الجزائري وتهييج الرأي العام بما نشرته من تهم باطلة وأكاذيب ملفقة كنا نحسب أنها ذهبت بذهاب مروجيها وإبعادهم عن إدارة حكومة الجزائر واطلاع الحكومة العليا بباريس على الحقيقة.
ترجمة ما يتعلق بالجزائر من مقال الطان: المنشور في عددها الصادر بتاريخ 21 فيفري 1936م إلى العربية.
1 - تأثيره في الرأي العام الجزائري.
2 - إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بواسطة سمو الوالي العام.
3 - رسالة الاحتجاج التي أرسلتها الجمعية إلى (الطان) وطلبت منها نشرها إحقاقاً للحق ورداً للفرية المفتراة.
(ترجمة ما يتعلق بالجزائر من مقال لطان) (1)
(عدد 21 فيفري 1926م)
عندما ألقى مسيو لوبر الوالي العام تقريره على مسامع مسيو سارو
__________
(1) اخترنا نقل هذا المقال لبيان الجو الذي كتب فيه الرئيس عبد الحميد برقياته.(3/435)
أثناء الأسبوع السالف، عزم رئيس الحكومة فجأة على استدعاء اللجنة العليا للبحر المتوسط، ذلك أنه في أيام قليلة، تغير الطقس السياسي في الكثير من الجهات الجزائرية، كأنما ذلك الأمر وقع بناء على أمر ورد من الخارج.
فالمهيجون الذين نعرفهم من زمن بعيد، والذين كنا نعتقد أنهم أخلدوا لجانب الهدوء أثر الإنذارات التي تلقوها من مسيو ريني أثناء سياحته بقطر الجزائر سنة 1935م قد عاد إليهم الإقدام، ولعلهم يهيئون الجماعات الأهلية للقيام بنفرة رهيبة كالتي لا تزال آثارها عالقة بأذهان سكان قسنطينة.
فالدكتور ابن جلول مؤسس ورئيس جمعية النواب المسلمين والنائب في المجلس المالي والعمالي ونائب شيخ مدينة قسنطينة، يتهم الإدارة علنا في جريدته (الانطانط) بأنها تريد أن تلقي بالجزائر في ميدان النيران والدماء.
ويتبعه في هذا الطريق السيدان ابن باديس والطيب العقبي، وهما على رأس العلماء، قد جمعا في نادي الترقي كل الذين يعملون على تحطيم النفوذ الفرنسمي، باستعمال الوسائل المختلفة وبمثابرة ودقة عنصرية.
وفي كل جهة نجد دعاة ناشطين للمذهب الوهابي الجديد، وهم أعوان الجامعة العربية الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، يرسلها إليهم من لوزان على طريق القاهرة، وطريقة عملهم غير متوحدة كما أن مطالبهم مختلفة: حرية الوعظ في المساجد والتعليم الحر بدون مراقبة.
فهنا يقع حث الفلاحين على عدم دفع الضرائب وهم يقبلون، وهنالك تجمع الإعانات لشراء الديار التي ستكون تحت ستار المعاهد الدينية، مراكز لتعليم وتثقيف الناشئة الإصلاحية المتعصبة، وفي جهة أخرى يقع استثمار موت الأمير خالد حفيد عبد القادر، وقد توفي أخيرا بدمشق، ويقومون بدعوة لإقامة الصلوات العامة عليه.(3/436)
أما دعاية الأممية الثالثة (الشيوعية) فهي ليست بدعاية مبدئية، فدعاتها لا يبشرون بالشيوعية إنما يختارون أشياء يمكنهم بواسطتها الدعوة إلى حزب الثورة بين عملة السكة الحديد والمراسي وبقية الشغالين، فيدعونهم إلى مقاومة الفاشيستية وإلى تحبيذ سياسة الأعمال الزجرية النهائية (التي قررتها جمعية الأمم ضد إيطاليا) وبلا ريب أن العدالة قد استعملت حقها في زجر الزعماء الذين تقدموا بصفة فاضحة كالمنادي وبارتيل، إنما في غيبة هذين الزعيمين تقوم بالدعوة جمعية "الإعانة الأممية الحمراء" و"أحباب اورس س" الذين بواسطة جمعية "نجم شمال أفريقيا" يبثون في الأوساط الإسلامية أفلاما سنمائية تمجد أعمال الشيوعية، فناحيتا قسنطينة وتبسة القريبتان لتونس والتي يمكن الجولان بسهولة للدعاة بين تونس والجزائر بواسطتها، وتلمسان وهي مركز التعصب الديني القوي، هي النواحي التي تحوم حولها الشكوك بكثرة، والتي تسهر الولاية العامة على مراقبتها، حسبما سيبسطه مسيو لوبو أمام أعضاء اللجنة العليا للبحر المتوسط، انتهى.
...
هذا هو المقال الذي نشرته الطان فأقام الجزائر وأقعدها، وصير الأمة الجزائرية ترجع في اتهامها وإساءة الظن بها إلى ما كانت عليه قبل عامين بعد أن هدأت الأفكار وركدت ريح المشاغبات وذهب الله بمن كانوا سببها وسبب كل ما حل ونزل بهذه الأمة الوديعة من جهد وبلاء، أما الاحتجاجات التي أثارها مفعول هذا المقال الذي كان وقعه جد شديد على الأمة كلها فهو كما يلي:
إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
أبرق رئيس جمعية العلماء إلى سمو الوالي العام على القطر الجزائري "بباريس" إحتجاجا على ما نشرته جريدة (الطان) بالبرقية الآتية:(3/437)
سيدي الوالي العام:
إن ما رمت به صحيفة (الطان) الأمة الجزائرية جمعاء قد أستاءت له جميع طبقاتها، وهي تعلن لسموكم براءتها من تلك التهم واستياءها من كل ما يورث حكومتها سوء الظن بها، وترجو من سموكم أن تبرئوا ساحتها من تلك التهم الباطلة.
عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عبد الحميد بن باديس
رسلة جمعية العلماء إلى الطان
رئيس تحرير صحيفة الطان المحترم:
إن ما نشر بصحيفتكم في شأن الأمة الجزائرية وتصوير علمائها ونوابها وعامتها في صورة العداء لحكومتها الفرنسية ورميها بتهم هي منها بريئة، قد استاء له الفكر العام الجزائري، واعتبر تلك التهم الجارحة استخفافا منكم بكرامتها ونكرانا لمواقفها العديدة الناطقة بإخلاصها لحكومتها الفرنسية.
إن نشريات كتلك تعد عند العقلاء تفتينا بين الأمة الهادئة، والحكومة العليا العادلة، وسعيا في إثارة الظنون السيئة وإيغار الصدور الصافية.
إن الأمه الجزائرية قد بلغت حالتها ماديا وأدبيا إلى أسوأ ما يتصور. وأنها مع ذلك كله ملازمة لجانب الهدوء التام ومعتصمة بحبل الرجاء والانتظار، وأنها ما تزال مع ذلك تلاقي معاملات قاسية.
رئيس التحرير المحترم!
إن الإنسانية تقضي بالرأفة والرقة لحالة الأمة الجزائرية وأن النصح(3/438)
يقضي بمطالبة الحكومة بالإسراع إلى معالجة حالتها الحاضرة بما يرضي الأمة والإنسانية وتحسين سمعة حكومتنا الفرنسية في الداخل والخارخ (1).
عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) البصائر: س 1، العدد 6، الجزائر يوم الجمعة، 5 ذي الحجة 1354هـ - 28 فيفري 1936م، ص 5، ع 1.(3/439)
عريضة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
إلى جناب مدير الشؤون الأهلية العام (ميو)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مما تقرر في الجلسة الأخيرة لهيئة إدارة الجمعية رفع هذه العريضة إلى مدير الشؤون الأهلية العام بعد ترجمتها إلى اللغة الافرنسية، وقد أرسل إلينا رئيس الجمعية بنصها العربي موقعا عليه بإمضائه لتنشر في "البصائر" حسبما تقرر أيضاً، فبادرنا بنشرها حرفيا.
(قلم التحرير)
جناب السيد المدير العام للشؤون الأهلية والتراب الجنوبي بالولاية الجزائرية العامة!
يا جناب المدير!
كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- لأول ما استلمتم مقالييد الإدارة الأهلية وتوسمت في شخصكم مخايل الحق والإنصاف- فاوضتكم بواسطة وفدها في حقوقها التي كانت مهضومة، وشرحت لكم النقط التي يشهد الحق أنها كانت وما زالت فيها مظلومة، وتقدمت إليكم بمطالب هي أصول لفروع وكليات لجزئيات. وقد سمع الوفد من جنابكم تصريحا بحقية مطالبها، ووعدا بإنصافها ورفع الظلم عنها.
فعدت الجمعية ذلك التصريح منكم تسجيلا لحقوقها، وعدت ذلك الوعد منكم عهداً محقق الوفاء، وعقداً محقق التنفيذ، وأعلنت للأمة المغبونة في حقها، المحرومة من مساجدها، المرهقة في تعلمها وتعليمها، أن تلك القرارات الفردية الجائرة ستلغى، وأن ما مضى من(3/440)
الظلم لا يعود وأن أول الإنصاف فتح باب المفاهمة بالحسنى، وانتظرت الجمعية، وانتظرت من ورائها الأمة نتيجة هذه المفاهمة واثقة بوعد جنابكم، وخففت الأصوات التي كانت مرفوعة بالشكوى والتظلم تقليلا لأسباب الجفاء، وتمهيدا لتحقيق الوفاء، واعتصمت الجمعية والأمة بالصبر والهدوء تمكينا لجنابكم من اغتنام الفرص وتذليل الموانع التي كلنا يعتقد أنها موجودة وأنها كثيرة، وإن كنا نعتقد أيضا أن الحق موجود وأنه أقوى منها، وأن الذي نطلبه ليس بإيجاد لشيء لم يكن لنا، وإنما هو إرجاع لحق ثابت لنا واغتصب منا، ورجوع من خطإ إلى صواب، ومن ظلم إلى إنصاف، ثم نجز بعد طول الانتظار جزء قليل من وعدكم فأنعش الأمل وقوى الرجاء ولكن الجزء الذي نجز أرب من آراب، وباب من أبواب، وصحيفة من كتاب، وما زال وعدكم بإتمام الباقي يتجدد، والأسباب الداعية للإسراع بالتنجيز تقوى في نظرنا وتتأكد، والموانع العائقة عن رجوع الحق إلى أهله تتلاشى- في اعتقادنا- وتزول من غير أن تنتهي إلى نتيجة ترفع الحيرة وتجلي الموقف وقد مر على هذه الحالة ما يقرب من السنتين، وحدث من الأسباب ما اقتضى تجديد الخطاب، وطلب الفصيح الواضح من الجواب.
يا جناب المدير!
إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المنعقد بمركزها العام بالجزائر يوم 6 ماي 1936م قد قرر قيام وفوده بجولات الوعظ والإرشاد الديني في العمالات الثلاث في أول جويلية القابل على العادة التي جرى عليها في السنوات الماضية. وهي عادة أصبجت من حقوق الأمة على الجمعية، تنقاضاها الأمة من الجمعية، ويجب على الجمعية الوفاء بها للأمة، ولا تستطيع بحال أن تسقطها أو تقصر فيها.
وأن وفود الجمعية في السنة الماضية اضطرت إلى إلقاء دروسها(3/441)
الدينية على الأمة في أماكن لا تتناسب مع حرمة الدين، ولا مع شرف الجمعية وقدر الأمة وسمعة الحكومة ومبدئها- كل ذلك ومساجد الأمة موجودة، ولكنها مغلقة في وجهها ووجه علمائها.
فرأى المجلس بهذه المناسبة أن يلفت نظركم إلى أن أمد الانتظار قد طال، وأن يذكركم باعترافكم الرسمي لوفده بحقية مطالبه، ورأى نفسه مضطرا إلى مصارحتكم بأن الثقة التي وضعها المجلس الإداري في جنابكم، لم تقابل بما يكافئها من النتائج في نظر الجمعية والأمة معا، وأن الرأي العام قوى شعوره بأن المفاهمة طال أمدها ولم تأت بنتيجة تحققها. فالمساجد لا تزال مغلقة في وجوه علماء الأمة، والتضييق على التعليم العربي الحر لم يزل على شدته لم يتبدل في قليل ولا كثير، ورجال الجمعية الذين هم- في الواقع- دعاة خير ورحمة، وحملة أمان وسلام، ووسائل تربية وتهذيب، لم يزالوا محفوفين بالشكوك والريب في دوائرهم الخاصة ولا تزال تنبعث من بعض الجهات الإدارية إيعازات التحريض بهم، والتخويف منهم ومحاولات تصويرهم بغير حقيقتهم.
والمجلس الإداري لجمعية العلماء لا يعرف الفرق بين جهة من الإدارة وبين جهة أخرى ولا يعتقد إلا أن تلك الجهات بعضها من بعضها، ولا يفهم معنى للمفاهمة بالحسنى مع بقاء الحالة على ما وصفنا وبعد أن حكم الزمان حكمه وأقام الأدلة على أن باطن هذه الجمعية كظاهرها.
ولتعلم- يا جناب المدير- أننا لا نطلب فتح المساجد لنتخذها بيوت سكنى، أو نستعملها في مصالحنا الخاصة، أو لنحتكرها لدروسنا، وإنما نطلبها للأمة لتنتفع بها في فرض ديني هو أحد المقاصد التي أسست لأجلها وهو أن تتعلم أمور دينها على علمائها في مساجدها.(3/442)
فهل يحسن بسمعة فرنسا أن تساس أمة إسلامية وفيرة العدد بالقرارات الفردية في أخص خصائص دينها؟ وهل يجمل بحكومة الجزائر أن تتوقف كل هذا التوقف في إلغاء قرار فردي ظهر خطاه من يوم وضعه؟ وهل من المعقول أن يكون غير المسلمين أولى من علماء الأمة بإقامة الاجتماعات في المساجد؟ أو يكون غير المسلمين أحرص من علماء الإسلام على احترام المساجد، وأعرف بحقوقها وبما يجوز أن يقال فيها وما لا يجوز؟
يا جناب المدير!
إننا نرجو أن يكون جوابكم في هذه المرة إيجابيا عمليا واضح الحدود منطقيا متناسبا مع مكانتكم العلمية ومقامكم الإداري ومركز الجمعية التي تخاطبكم بهذا نيابة عن الأمة.
فهل لكم- يا جناب المدير! - أن تحققوا ثقة الجمعية بكم لدى الأمة، وتؤكدوا احترامها لوعودكم؟
وتقبل- يا جناب المدير! - فائق احترامنا لشخصكم وتقديرنا لمساعيكم (1).
عن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) البصائر: السنة 1 العدد 21 الجزائر في يوم الجمعة 8 ربيع الأول 1355هـ الموافق ليوم 29 ماي 1936م ص 1 ع 1 من ص 2.(3/443)
الاحتجاجات
على المعاملة السيئة التي عومل بها الحجاج في هذه السنة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(عومل الحجاج كما أسلفنا في هذه السنة معاملة لم يسبق لها نظير ولذلك ارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذه المعاملة السيئة من كل جهة. وإلى القارىء الكريم نص ما أمكننا الحصول عليه من هذه الاحتجاجات الكثيرة الصارخة التي نشرت جلها جريدة "ليكود الجي") (1) ..
برقية الأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عنابة 28 جانفي 1937م
إلى السيد الوالي العام- باريس:
أتشرف بإعلامكم أن عددا كبيرا من حجاج عمالة قسنطينة بقي معطلا بمدينة عنابة حيث أن الباخرة (مندوزة) لا تستطيع أن تحمل الجميع. أسائل فيكم عاطفة العدالة أن تأذنوا بسفر باخرة ثانية لحمل بقية الحجاج الذين تحصلوا على تذاكر السفر، وبذلك يمكنكم أن تخففوا وطأة التأثر المؤلم العميق الذي ساد في الطبقات الإسلامية وتقبلوا انعطافنا.
عبد الحميد بن باديس رئيس العلماء
__________
(1) ليس من كلام الشيخ الإمام.
البصائر: السنة الثانية عدد 54 الجمعة 24 ذو القعدة 1355هـ - 5 فيفري 1937م، ص 3 ع 2.(3/444)
شكر ووداع
أودِّع الأمة التونسية الكريمة شاكراً لها ولصحافتها الراقية ما أبدته نحوي من عواطف الود الأخوي الذي فاق كل تقدير. وأن الذي يسرني- حقا- من ذلك هو أنه كان موجها في الحقيقة نحو المبدأ الذي دعوت إليه في خطبي وهو الاحتفاظ بالذاتية العربية الإسلامية في الشمال الإفريقي كله والإعلان بوحدة أقطاره الأربع- طرابلس وتونس والجزائر ومراكش- في الحاضر والمستقبل مثلما هي ثابتة في الماضي. وأفضل الود والإكرام ما كان للمبادئ الخالدة وجاءت فيه الأشخاص الفانية على التبع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
عبدالحميد بن باديس
وأرسلت إلى (البتي ماتان):
سيدي مدير (البتي ماتان) المحترم
تحية وتقدير،
سيدي- أنا كمسلم أدين بالأخوة الإنسانية واحترامها في جميع أجناسها وأديانها، وأسعى للتقريب بين جميع عناصرها، وأجاهد فيما هو السبيل الوحيد لتحصيل ذلك وهو العدل والتناصف والاحترام. فكل ما تفضلتم به في جريدتكم من ذكري فهو موجه إلى هذا المبدأ
__________
(1) ش: ج 5، م 13، ص 238 غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.(3/445)
الإسلامي الإنساني الذي تساهم فيه جريدتكم بنصيب وافر. فشكراً لكم- سيدي- بلسان هذا المبدأ السامي وأهله، ثم بلسان شخصي الضعيف الفاني.
لكم احترامات معظمكم (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 5، م 13، ص 238. غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.(3/446)
الشقيقة الجزائرية
تهنيء شقيقتها تونس بعودة الزعيم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وردت علينا من العاصمة الجزائرية البرقية التالية من فضيلة العلامة الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس باسم جمعية العلماء الجزائريين يهنيء بها الزعيم الجليل والأمة التونسية بعودة زعيمها إليها وهذا فحواها.
عاصمة الجزائر:
إن جمعية العلماء الجزائريين تحيي بكل فرح وسرور عودتكم من منفاكم وتساهم بقسط وافر في فرح وسرور إخوانها التونسيين المحتفلين بالزعيم المحبوب المحترم الذي ضرب المثل الأعلى في الإخلاص والتضحية (1).
الرئيس عبد الحميد بن باديس
نادي الترقي بعاصمة الجزائر
__________
(1) ش: ج 5، م 13، ص 270 غرة جمادى الأولى 1356هـ - 10 جويلية 1937م.(3/447)
سير الجمعية وأعمالها:
في الاجتماع الإداري الأخير
ــــــــــــــــــــــــــــــ
برقية تهنئة برجوع الزعيم الكبير الأستاذ عبد العزيز الثعالبي إلى تونس.
برقية احتجاج على تعطيل القراءة بجامع الزيتونة وإهمال النظر في مطالب تلامذته حتى اليوم.
برقية احتجاج على تعطيل حكومة "مراكش" الإحتمال بالمولد النبوي بها.
لائحة استنكار لعرقلة التعليم وتعطيل سيره.
مما تقرر بمجلس إدارة "جمعية العلماء المسلمين" في اجتماعه الأخير المنعقد في الأيام 12 و 13 و 14 جويليت ونفذ بالفعل إرسال هذه البرقيات الثلاث، وإلى القراء هي بنصها العربي المبين.
الشيخ عبد العزيز الثعالبي:
بإدارة جريدة "الزهرة" بتونس:
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحييكم بسرور بمناسبة رجوعكم من المنفى وتشارك مشاركة تامة الإخوان التونسيين في ابتهاجهم بعودة الزعيم المحبوب المحترم الذي أصبح مثال الإخلاص والتضحية.
رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي(3/448)
وزير الخارجية بباريس والمقيم العام بتونس
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين متألمة جد الألم لما حدث بكلية الزيتونة وترغب منكم أن تبادروا بفعل اللازم لتنتهي الحالة الاسيفة التي أقلقت جميع المسلمين عموما ومسلمي شمال إفريقيا خصوصا وفي أملها أن تتخذ عزما كل الوسائل لإرضاء التلاميذ والتعجيل بفتح الدروس من جديد.
رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي
وزير الخارجية بباريس والقيم العام بالرباط
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحتج بكل شدة وبالنيابة عن كافة المسلمين ضد منع الاحتفالات التي نوى إقامتها مسلمو مراكش بمناسبة موسم المولد النبوي الشريف وتعتبر هذا المنع إعتداء فادحا على الحرية الدينية وعلى شرف مسلمي المغرب الأقصى والعالم بأسره وتعلمكم بأن تكرر حادث من هذا القبيل يقضي على عواطف المسلمين بلا استثناء نحو دولة فرنسا.
عبد الحميد بن باديس- في نادي الترقي
ومما تقرر أيضا تقديم لائحة إلى سمو الوالي العام تستنكر بها الجمعية عرقلة التعليم العربي وتوقيف سيره حتى في المكاتب القرآنية وهي كما يلي:
الجزائر يوم 13 جولييت سنة 1937م
إلى جناب الوالي العام على القطر الجزائري
سيد الوالي العام!
أتشرف بتقديمي لكم اللائحة الآتية المصادق عليها بالإجماع من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين:(3/449)
إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين متألم ومتأسف حد الأسف للمظالم والاعتداءات المتكررة على رؤساء وأعضاء جمعيات التهذيب والتعليم العربي.
وبما أن جميع طلبات الرخص لفتح المكاتب تلغى بغير سبب أو لا يجاب أصحابها.
وحيث أن طالبي الرخص لما يشاهدون هذا الحيف وهذا الجفاء ويرون في ذلك ما يعاكس رغبتهم في تعليم أبنائهم ويضيع ما بذلوه من الجهود في هذا السبيل- يفتحون المكاتب ممتثلين تمام الامتثال لقانون 18 أكتوبر سنة 1892م ومحسنين الظن بالحكومة عسى أن تقدر كما ينبغي رغبتهم في تعليم الأولاد وتعتبر ما ضحوا به لهذا الغرض الشريف.
وحيث أن الذين يفتحون المكاتب بهذه الكيفية وبهذه الطريقة المعقولة يحاكمون كلهم ويساقون أمام المجالس العدلية كأنهم جناة.
وحيث أن هذا العمل الممقوت تكرر في عدد كثير من المدن والقرى بالعمالات الثلاث كوهران والأغواط وشرشال وبجاية وعدة بليدات بناحية قالمة وأوراس.
وحيث أن المسلمين يتعسر عليهم فهم ما يقصد من هذه المعاملات القاسية الشاذة التي تعرقل سير التعليم وتثبط مساعي الرجال الذين ينهضون لعلاج الحالة السيئة الناشئة عن قلة عدد المكاتب الرسمية ويتعذر عليهم تصور الأسباب التي تقاوم بها الحكومة رغبتهم الشديدة في نشر التعليم عوض أن تشجع هذه الرغبة وتعينهم على تنفيذها.
لهذه الأسباب والوجبات يلتمس المجلس الاإداري من السيد الوالي العام ويطلب منه بكل إلحاح أن يرسل حينا إلى الحكام المحليين الأوامر(3/450)
والتعاليم اللازمة ليسهلوا فتح المكاتب القرآنية التي تبقى لا محالة تحت مراقبة الحكومة في دائرة العدل والإنصاف وليكفوا عن محاكمة الذين فتحوا بعض المكاتب بغير مخالفة للقوانين المتعلقة بالموضوع.
وتقبلوا سيدي الوالي فائق احترامي.
رئيس الجمعية
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 76 الجمعة 14 جمادى الأولى 1356ه - 23 جوليت 1937م، ص 1 و 2 ع 1.(3/451)
إحتجاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
على تقسيم فلسطين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وزير الخارجية الفرنسية:
باسم الأمة الإسلمية الجزائرية أرفع احتجاجي الشديد ضد مشروع تقسيم فلسطين ذلك القطر العربي الذي ضمنت له العهود والمواثيق الدولية حفظ كيانه واستقلاله، واعتبر هذا المشروع ضدية قاضية على حياة شعب ضعيف دافع طيلة سنين عديدة دفاع الأبطال عن شرفه وحريته، واعتداء شنيعا على جميع الشعوب العربية الإسلامية، وانتهاكا لحرمة الأماكن المقدسة عند سائر المسلمين، ولي الأمل في تدخل الحكومة الفرنسية بكل سرعة لمنع هذا التقسيم.
عبد الحميد بن باديس
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 79 الجمعة 12 جمادى الثانية 1356ه 20 أوت 1937م ص 6 ع 2 و 3.(3/452)
إحتجاج جمعية العلماء
على انتهاك حرمة الدين بغرداية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نحن باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نحتج بكل قوة ضد الاعتداء الفظيع والامتهان الجارح لكرامة الدين الإسلامي وحرمة القرآن العظيم في شخص إخواننا بني ميزاب باعتقال سيدين منهم في السجن وهما الأستاذ صالح با بكر رئيس جمعية الإصلاح ومدير مدرستها بغرداية.
والسيد بغياغة أحمد بن حم نائب الرئيس والعضو العامل بجماعة الضمان.
وبتغريم ستة من أعضاء جماعة الضمان في وقت أدائهم لواجب ديني محض من قراءة القرآن الكريم وتوزيع الصدقات وتضرع إلى الله أن يغيث خلقه بوابل رحمته وأن يزيح عنهم كابوس القحط النازل على البلاد.
كما نحتج بكل قوانا ضد القرار الذي وضعته إدارة غرداية في 17 ماي 1937م وصادقت عليه الولاية العامة في 11 جوان 1937م ذلك القرار الموجه ضد حرمة الدين المقدس القاضي بمنع أي اجتماع ما عدا موكب الجنائز. ونرجو باسم عدالة فرانسا وإنصافها أن تلغي هذه القوانين الاستثنائية الجارحة التي تنافي سائر تعهداتها والتزاماتها لرعاياها المسلمين، وتمس كرامة الإسلام في الصميم.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 80، الجمعة 26 جمادى الثانية 1356هـ - 3 سبتمبر 1937م، ص 5، ع 3، ص 6، ع 1.(3/453)
إحتجاج رئيس جمعية العلماء
على حادث مسجد قنزات
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قسنطينة 24 أكتوبر سنة 1937م
سيدي الوالي العام.
سيدي عامل عمالة قسنطينة.
أتشرف بتقديمي لكم احتجاجي الصارم على ما ارتكبه بعض الجندرمة وأعوان الحكومة من انتهاك حرمة مسجد قنزات (1)، وهاكم تفاصيل الحادث كما وقع بغير زيادة ولا نقصان.
يوم الجمعة 22 أكتوبر بينما كان أحد الشبان المثقفين، الشيخ الفضيل الورتلاني يفسر آية من آيات كتاب الله أمام جم غفير من مسلمي القرية المذكورة إذ دخل عليهم في المسجد أعوان السلطة بدون استئذان ولا مراعاة لما توجبه قواعد النظام على من يريد دخول المعابد على اختلاف أنواعها، كفاكم أنهم لم يتنازلوا حتى لخلع نعالهم.
ولما أبدى لهم إمام المسجد ملاحظة لطيفة على هذا الصنيع المزري أجابوه بأن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فعله وأسمعوه من بذيء القول ما جرح عواطفه ومس بشرفه.
في أملي أن مجرد إخباركم بهذا الاعتداء على الآداب العامة يكفي لاستصدار ما يلزم من أوامركم العادلة بزجر مقترفي هذا العمل الشنيع لكيلا تتكرر أمثاله.
وتقبلوا سيدي فائق احترامي (2).
رئيس جمعية العلماء المسلمين
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) بلدة بين مدينة سطيف غربا وبين برج بوعي يريخ شمال شرقيها.
(2) البصائر: السنة 2 العدد 85 الجمعة 1 رمضان 1356هـ - 5 نفامبر 1937م ص 7، ع 1.(3/454)
برقية تهنئة ورجاء
إلى أبي الدستور الأستاذ عبد العزيز الثعالبي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قسنطينة 18 رمضان 1356هـ الموافق لـ 21 نوفامبر 1937م الأستاذ عبد العزيز الثعالبي: تونس
أهنئكم بفتح النادي العظيم، راجيا أن يكون به فتح جديد لتونس العزيزة وأفريقيا الشمالية، دمتم للإسلام والعروبة والعلم والفضيلة (1).
عبد الحميد بن باديس مدير مجلة ((الشهاب))
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 427 غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.(3/455)
برقية شكر وتهنئة
إلى الدكتور الماطري رئيس الحزب الدستوري التونسي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور الماطري تونس
بلسان افريقيا الشمالية والجزائر أشكركم وأشكر الحزب الدستوري وأشكر تونس على عطفكم الأخوي الصادق، وأهنئكم بفوزكم بإعلان تضامن إفريقيا الشمالية بالفعل لأول مرة (1).
عبد الحميد بن باديس رئيس مجلة ((الشهاب))
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 426 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.(3/456)
عيد الفطر المبارك
تهنئة به إلى الأمة الجرائرية الكريمة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كنا قبل اليوم نهنيء الأمة الجزائرية بمثل هذا العيد، وليس لها من مظاهر السعادة ما تهنأ به إلا ما نرجوه لها ونأمل.
أما اليوم فإننا نهنئها وهي في طور جديد من أطوار حياتها هو أساس سعادتها، طور سامت به شقيقاتها هنا وهنالك فنهنئها، ومن أبنائها من هو سجين في سبيل العلم والهداية، ومن هو سجين في سبيل السياسة والحقوق المغصوبة.
أمة أخذت تقدم الضحايا في سبيل سعادتها، حقيقة بأن تنال السعادة، وبأن تهنأ بها، فتهانينا إليها بعيدها وسعادتها، وتهانينا- على الخصوص- إلى أولئك الأبطال الأماجد السيد الحاج مصالي ورفاقه والشيخ عمر دردور.
حياهم الله وعجل بسراحهم، وجعل فيهم القدوة الحسنة في الصبر والتضخية.
وتهانينا إلى العالم الإسلامي والمربي الناهض للسعادة والكمال (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 9، م 13، ص 430 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.(3/457)
شكر على تعزية
عبد الحميد بن باديس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يشكر ويجزي بالخير كل السادة الذين عزوه في فقد أخيه سليم رحمه الله والمسلمين أجمعين، حافظاً لهم عواطفهم الجميلة، راجيا من الله لهم حسن المثوبة والجزاء. ويرجو من كرمهم أن يعتبروا هذا الكتاب خاصا بكل واحد منهم إذ قد حالت الأشغال دون إمكان ذلك التخصيص.
والسلام عليكم ورحمة الله (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 13، ص 467. غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.(3/458)
برقية جمعية العلماء
إلى المؤتمر البرلماني من أجل فلسطين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أبرقت جمعية العلماء إلى المؤتمر البرلماني ببرقية هي خلاصة ما يلي:
مكتب علوبة باشا القاهرة - مصر
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- باسم المسلمين الجزائريين- تحي في شخصكم مؤتمركم العظيم، وتضم صوتها إلى صوتكم، وتوافق على ما يستقر عليه رأيكم وتؤيدكم بكل ما تستطيع في سبيل قضية فلسطين التي هي قضية الحق والإنسانية والسلم العام. الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الثالثة، عدد 135 قسنطينة: يوم الجمعة 20 شعبان 1357هـ الموافق لـ 14 أكتوبر 1938م الصفحة 7 في آخر العمود الأول.(3/459)
آثار ابن باديس
قسم الإجتماعيات(3/461)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين، ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحداً ندعو دعوتك ونباهل مبالتك، ونؤازرك لله، وبالله. فليتقدم إلينا الحلوليون وشيخهم ومن لف لفهم وكثر سوادهم في اليوم الموعود والمكان المعين لهم، وليبادروا بإعلان ذلك في جريدتهم إن كانوا صادقين، فإن لم يفعلوا- وأحسب أن لن يفعلوا- فقد حقت عليهم كلمة العذاب وكانوا من الظالين والحمد لله رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) الشهاب عدد 97 - 17 ذي القعدة 1345هـ - 20 ماي 1927م كتب الشيخ عبد الحميد هذه الكلمة يشكر الشيخ الطيب العقبي على المقال الذي كتبه بنفس العدد من الشهاب يرد فيه على طائفة العليوية، الطرقية (الصوفية) يدعوها للمباهلة التي قد بدأت هي بالدعوة إليها وبالقول بأن السلفيين لا يستجيبون لها.(3/463)
رسائل ومقلات:
الرجل المسلم الجزائري
ألقيت محاضرة في هذا الموضوع بنادي الترقي بالعاصمة في شهر ربيع الأول. وفيما يلي أكتبها على ما بقي في ذهني، كنت ألقيتها ارتجلا وإذا شذ عني شيء فلا يكون إلا قليلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سبب اختياري للموضوع:
كنت- وأنا قادم للعاصمة من مصيف "حصن الماء" - أحوم على موضوع أختاره للمحاضرة التي اقترحها عليَّ أعضاء النادي المحترمون. فوقع فكري على المرأة وحالتها وواجباتها وحقوقها. وبينما أنا أفكر فيها وأجمع أطراف الحديث في شأنها إذا أنا برجل مسلم جزائري ببرنوسه وقنوره وقف أمامي- لم يقف أمام حسي ولكن وقف أمام خيالي- وأخذ ذلك الرجل يخاطبني بشدة وعنجهية ويقول:
"أنتم تفكرون في تعليم المرأة فلمن تعلمونها؟ لي أنا الرجل الجاهل ليقعن لها ما يقع للعالم الضعيف المغلوب من الجاهل القوي الغالب. ومن يعلمها؟ أنا الجاهل! كيف أترك نفسي وأعلمها؟
أتنم تفكرون في نزع حجابها وخلطها بالمجتمعات! ألا تخافون عليها غيرتي؟ فلأقاتلن عليها! ألا تخافون اغارتي؟ فلأضايقنهن ولترين مني كل أنواع التعدي والأذى.
إاذا أردتم التفكير الصحيح والإصلاح المنتج ففكِّروا فيَّ قبلها، فأنا أبوها، وزوجها، ووليها ومصدر خيرها وشرها.
وإذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل(3/464)
أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها. وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانا عالياً في العلم وهن متحجبات. فليت شعري ما الذي يدعوكم اليوم إلى الكلام في كشف الوجوه قبل كل شيء …! ".
فأمام هذا الرجل الخيالي المرعب وحُججه الدامغة ما وسعني إلا العدول عن التفكير في المرأة إلى التفكير في الرجل فاخترت موضوع المقالة: "الرجل المسلم الجزائري".
المراد من الموضوع:
هذا موضوع مجمل، فالرجل المسلم الجزائري موضوع بحوث طويلة من نواح عديدة لكنني أتكلم عليه من نواح ثلاث: رجولته، إسلاميته، جزائريته.
الرجل:
خلق الرجل قويا، متهيئا بما منح من القوة للقيام بما يقتضيها من - عظائم الأمور وجلائل الأعمال، للإنسانية التي هو فرد منها، للوطن الذي هو من نباته، وللبلد الذي هو من سكانه، للبيت الذي هو رئيسه.
هو رئيس البيت، و {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} فعليه واجب الرعاية: بالسعي والتكسب، بالتهذيب والتعليم، للزوجة، للأبناء، للبنات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وله حق الولاية {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، درجة الولاية بالنظر والتدبير، والتنظيم والتسيير، فهو السيد في بيته ليكون سيِّداً في قومه. والسيادة الحقيقية إنما هي بالنفع والعمل المنتج .. فسيِّد البيت هو الأكثر عملاً(3/465)
والأجلب نفعا له، وسيد الوطن هو الأعمل والأنفع في سبيله. فالسيادة حظ العاملين على درجاتهم في الأعمال.
المسلم:
هو المتدين بالإسلام. والإسلام عقائد وأعمال وأخلاق بها السعادة في الدارين. أما تحصيلها لسعادة الأخرى فما بها على أحد من خفاء.
وأما تحصيلها لسعادة الدنيا فقد صار في هذه العصور المتأخرة عند كثير من الناس مما يخفى، مع أن دعوته إلى تحصيل السعادة والسيادة في الدنيا في آيات القرآن العظيم كثيرة جداً.
فدعا إلى العلم بمثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وللفلاحة بمثل قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وإلى الصناعة واتقانها بمثل قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} وإلى التجارة بمثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، كما سمى العبادة ابتغاء من فضل الله. فقال تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}.
وهو إلى هذا دين السلامة و "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ودين المحبة "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ودين الترقي بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ودين السيادة بالعدل، والسعادة بالإحسان {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.
الجزائري:
إنما ينسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي، ومصالح(3/466)
الحاضر، وآمال المستقبل. فالذين يعمرون هذا القطر وتربطهم هذه الروابط هم الجزائريون.
والنسبة للوطن توجب علم تاريخه، والقيام بواجباته، من نهضة علمية، واقتصادية، وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه، وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحاف! ظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه.
طريق العلم بهذا والعمل به:
هذه الحقائق التي ذكرناها، بها يكون الرجل رجلا، والمسلم مسلما، والجزائري جزائريا، فتهذيب الرجل وتعليمه لا يكون إلا بالعلم والعمل بها. وما ذلك إلا ببثها: بالمحاضرات في النوادي، بالدروس العامة في المساجد، بالخطاب الجمعية على المنابر.
وإذا كانت هذه طريقنا للتعليم العام فعلينا أن نجعلها في أول ما نهتم به من شؤون إصلاحنا إذ لو كانت هي كما يجب أن تكون وقامت بواجبها كما يجب أن تقوم لكنا على حال غير ما نحن عليه اليوم.
وفي كثير من الرجال المتصلين بها لنا أعظم الآمال.
شقيقة رجل وشريكه:
إن العناية بالرجل تستلزم العناية بالمرأة شقيقته في الخلقة والتكليف وشريكته في البيت والحياة.
هما زوجان متلازمان لا تكمل الوحدة البشرية إلا بكمالهما. وما الوحدة البشرية في ضرورية الزوجين لتكوينها إلاَّ كسائر المخلوقات الساري عليهما قانون الزوجية العام. ويبتدئ ذلك في أصغر جزء وأول مادة للتكوين، وهو الجوهر الفرد في اللسان العلمي القديم، والكهرب في اللسان العلمي الحديث، فإنه مركب من قوتين زوجين(3/467)
موجبة وسالبة. مصداق قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ويعم هذا القانون جميع المخلوقات ومنها الإنسان، كما قال تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}
هذا دليل الخلقة على ما بين الرجل والمرأة من لحمة اتصال، وما لكل واحد منهما على الآخر من توقف لبلوغ الكمال.
أما أدلة ذلك من الشرع فآيات عدة. منها قوله تعالى: {هوَ الذِي خَلَقَكمْ مِنْ نَفْس وَاحدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليسْكنَ إلَيهَا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
هو الأول، وهي الثانية:
هما- على ما بينهما من هذا التشارك والتلازم والاتصال- فإنه هو المقدم عليها، والقيوم على شأنها، والمسؤول عن إنهاضها.
تشهد بهذا الفطرة الظاهرة في ضعف خلقها، والتاريخ البشري بما فيه من مدنيات قديمة وحديثة كلها قامت على كواهل الرجال. ويشهد به الدين في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.
المرأة المسلمة الجزائرية:
نرى حقا علينا بعد ما تكلمنا على الرجل المسلم الجزائري أن نتكلم شيئا عن المرأة المسلمة الجزائرية من نواحيها الثلاث أيضا.(3/468)
المرأة:
خلقت لحفظ النسل، وتربية الإنسان في أضعف أطواره {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به. فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، ونربيها على الأخلاق النسوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة. فالتي تلد لنا رجلا يطير خير من التي تطير بنفسها.
المسلمة:
{لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فعلينا أن نعلمها ما تكون به مسلمة، ونعرفها من طريق الدين ما لها وما عليها ونفقِّهها في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
الجزائرية:
بدينها ولغتها وقوميتها فعلينا أن نعرفها حقائق ذلك لتلد أولادا منا ولنا، يحفظون أمانة الأجيال الماضية للأجيال الآتية، ولا ينكرون أصلهم وإن أنكرهم العالم بأسره، ولا يتنكرون لأمتهم ولو تنكر لهم الناس أجمعون.
الطريق الموصل إلى هذا:
هو التعليم: تعليم البنات تعليما يناسب خلقتهن ودينهن وقوميتهن.(3/469)
فالجاهلية التي تلد أبناءً للأمة يعرفونها مثل أمهاتنا- عليهن الرحمة- خير من العالمة التي تلد للجزائر أبناء لا يعرفونها، تعليم كل واحد لأهله بما عنده من علم.
ويوم نسلك هذا الطريق في تعليم المرأة، والطريق السابق في تعليم الرجل سلوكا جديا نكون- بإذن الله- قد نهضنا بهما نهضة صحيحة نرجو من ورائها كل خير وكمال (1).
__________
(1) ش: ج 10، م 5، ص 9 - 14 غرة جمادى الثانية 1348هـ - نوفمبر 1629م.(3/470)
لا فضل بالمال
لمن كان ذا فضل فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الفضل هو الزيادة، والفاضل هو الذي زاد على غيره، والمفضول هو الذي زاد عليه سواه، والتفضيل هو الزيادة لغيرك أو اعتقادك الزيادة فيه.
والله تعالى قد فضل بين عباده- بحكمته- في العطاء: في الجسم، في العلم، في العمل، في المال، فزاد بعضهم على بعض في ذلك، وفضل بينهم- بعدله- في القدر والمنزلة دنيا وأخرى كذلك.
ومما يكون فيه التفضيل من أنواع العطاء ما جعله الله سببا للتفضيل في القدر والمنزلة، ومنه ما لم يجعله سبباً.
فالفضل في الجسم والفضل في العلم سببان في فضل القدر والمنزلة وبهما فضل طالوت على بني إسرائيل واختير عليهم ملكاً. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}. وليس المراد هنا من الجسم كبره وضخامته بل المراد صحَّته وقوته بقوة فؤاده، فإن ضخامة الجسم مع السقم أو ضعف القلب بلاء على صاحبها.
وفضل القدر والمنزلة المتسبب عن فضل الجسم والعلم هو فضل يستحق به التقديم في هذه الدنيا، وأما نيل الفضل بهما في منازل الأخرى فمتوقف على العمل بهما.(3/471)
والرجل فضل على المرأة في قوة العقل وقوة البدن وكانت قوتاه هاتان سببين في فضله في القدر والمنزلة والتقديم عليها في هذه الدنيا قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وظاهو التسبب هنا من حرف الباء.
وأما الفضل في العمل فإنه سبب في فضل القدر والمنزلة دنيا وأخرى قال تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وتعليق الحكم هو التفضيل بالمشتق؛ وهو المجاهدين، مؤذن بعلية ما منه الاشتقاق وهو الجهاد فيستفاد من سببيته في الفضل و التقديم في القدر والمنزلة.
وأما المال فلم يكن- أبداً- سببا في فضل القدر والمنزلة ولذا قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} فجعل التفضيل فيه فيزيد فيه حظ بعض الناس على بعض ولم يقل "بالرزق" لأن الرزق ليس سبباً لتفاضل الناس في الأقدار والمنازل لا دنيا ولا أخرى لأن منازل الآخرة يتفاضلون فيها بما قدموا من صالح الأعمال ومنازل الدنيا يتفاضلون فيها- على الحق والعدل- بالكفاءات والأخلاق والأعمال.
وقدر الله تعالى على بني إسرائيل لما قالوا في طالوت: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} منكرين استحقاقه للملك بأنه ليس من بيت الملك ولا بذي مال لاعتقادهم أن الفضل بمنزلة الملك إنما يتسبب عن النسب والمال. رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ليبين لهم أن منازل الفضل في هذه الدنيا بالكفاءات الشخصية لا بما هو خارج عنها من النسب والمال.(3/472)
فالفضل في منازل الدنيا والآخرة إنما هو بما هو منك، من جسمك وأخلاقك وعلمك وعملك لا بما هو باين عنك ومباين لك من هذا الحطام.
حتى إذا حصلته من حله، وأنفقته في محله، كان لك الفضل العظيم بما كان لك فيه من أعمال.
__________
(1) ش: ج 11، م 5، ص 4 - 6 غرة رجب 1348هـ - ديسمبر 1929م.(3/473)
ذكرى المولد النبوي الشريف
على صاحبه وآله الصلاة والسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا الشهر الكريم يهتز العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها فرحا وسروراً وتتعدد احتفالاته وتتنوع ولائمه طربا وحبوراً. ذلك لإحياء ذكرى مولد النبي الأعظم والرسول الأكرم سيدنا ومولانا محمد عليه وآله الصلاة والسلام.
فالشهاب يقدم لهذا العالم العظيم ولقرائه الكرام تهنئة الأخ الصادق والخادم المخلص، سائلاً من الله تعالى أن يعيد عليهم أمثال هذه الذكرى الطيبة بالخيرات والبركات، وأن يفقِّههم فيما فيها من الآيات البينات والعبر والعظات، حتى تستنير عقولنا وتزكو نفوسنا وتستقيم أعمالنا كما امتلأت بمحبة نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- قلوبنا (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 6، ص 368 غرة ربيع الأول 1349هـ- أوت 1930م.(3/474)
كتاب: "امرأتنا"
للشيخ الطاهر الحداد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان صاحب هذا الكتاب حدثنا عنه أيام إقامتنا بتونس بالصيف الماضية ففهمنا من حديثه أنه يتكلم فيه عن النهوض بالمرأة نهوضا صحيحا وتعليمها تعليما مفيداً في حدود إسلامها التي هي بنظر كل عاقل منصف حدود الإنسانية الكاملة. وما توقعنا منه أنه يكون ممن يدعون إلى الذهاب بها في تيار المدنية الغربية إلى ما يخرجها عن حدود دينها ووظيفة أنوثتها. فإذا بنا لما أهدى إلينا كتابه وطالعناه وجدنا ما هو أدهى من ذلك وأمر، وجدناه يدعو إلى إبطال أحكام عديدة من أحكام القرآن الصريحة القطعية الإجماعية، وتعطيل آيات عديده من آياته بدعوى أنها غير لائقة بالنساء في هذا العصر. وهذا هو الجحود نفسه لبعض القرآن، وجحود بعضه كجحود كله في مفاوقة الإسلام.
أفيجهل هذا الأصل الشيخ الحداد أم رضي لنفسه بانطباقه عليه؟؟ نحن لا نخشى على المسلمين من دعوته شيئاً لأنه من المعلوم الضروري عندهم أن جحود شيء من القرآن كفر به، وإنما نخشى عليه هو أن يستمر على عقيدته فيكون من الهالكين.
وربما عدنا إلى الكتاب في فرصة أخرى (1).
__________
(1) ش: ج 11 م 6 غرة رجب 1349هـ ديسمبر 1930م ص 714 و3 سطور من ص 715.(3/475)
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
إلى السادة الأعضاء العاملين والأعضاء المؤيدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أما بعد فبناء على انتهاء السنة الأولى للجمعية، وبناء على الفصل التاسع بالقسم الخامس من قافون الجمعية الأساسي الذي يقول: "ينعقد الاجتماع العام لسائر الأعضاء العاملين مرة في السنة وينعقد هذا الاجتماع بمدينة الجزائر باستدعاء من الرئيس" ويقول أيضا: "وبعد أن يتفاوض أعضاء الجمعية في أثناء الإجتماع العمومي العادي في برنامج الجمعية وتعرض عليهم أعمال الجمعية وما قررته في السنة السبقة- تنعقد جلسة ثانية يحضرها الأعضاء العاملون والأعضاء المؤيدون ويعلم هؤلاء الآخرون بحالة الجمعية الأدبية والمالية ثم يباشر الأعضاء العاملون فقط انتخاب الهيئة الإدارية ولجنة العمل الدائمة" بنإء على ما تقدم فإن رئيس الجمعية يدعو جميع الأعضاء العاملين والمؤيدين للحضور بمركز الجمعية الاجتماعي بنادي الترقي الكائن ببطحاء الحكومه عدد 9 بمدينة الجزائر الساعة التاسعه من صبيحة يوم الإثنين السابع عشر من محرم عام 1351 - الموافق للثالث والعشرين من مايس سنة 1932م.
إن الجمعية لتبدي شدة رغبتها لأعضائها العاملين والمؤيدين أن يلبوا دعوتها ويكونوا حاضرين في الوقت المذكور.
وإنها لترجو ممن يكون لهم عذر في التخلف أن يكتبوا باعتذارهم إلى رئيس لجنة العمل الدائمة السيد عمر إسماعيل بنادي الترقي حيث(3/476)
يكون عنده قبل تاريخ الاجتماع لتتلى الاعتذارات على المجتمعين.
وبحضور من حضر واعتذار من يعتذر تعرف الجمعية المعتنين بها والمخلصين لها وتظهر بمظهرها اللائق بها من الشعب الجزائري الكريم (1).
رئيس الجمعية: عبد الحميد بن باديس
الكاتب العام: الأمين العمودي
__________
(1) ش: ج 5، م 8، ص 296 - 297 غرة محرم 1351هـ - ماي 1932م.(3/477)
على ذكرى المولد النبوي الشريف
التجدد في كل مولد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ما كانت هذه الدار الدنيا دار بقاء وإنما هي دار فناء. وما بقيت عناصرها المادية في الوجود إلا بما أجراه الله عليها من سنة التجديد في الخلق ليقوم الجديد مقام ما أتى عليه الفناء.
وهذا الإنسان المثال المصغر من العالم الأكبر قال فيه العلماء:
إنه في كل سبع سنوات تفنى جميع أجزائه المادية وتخلفها أجزاء أخرى. فلذاته على رأس السنوات السبع اللاحقة، غير ذاته على رأس السنوات السبع السابقة، وهكذا حتى يستكمل ما قدر له من البقاء في الدنيا.
وتاريخ البشرية من أقدم عصورها يدل على أنها لم تفارقها هذه السنة: سنة التجديد إثر الفناء.
وقد كان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، هم أساس كل تجديد في تاريخ البشرية كلٌّ في الأمة التي أرسل إليها.
حتى إذا كان الفساد العام في شؤون الدنيا بطواغيت الملك، وفي شؤون الدين بطواغيت الكهنوتية، وفنيت معالم الحضارة بمثل الحروب الرومانية الفارسية واندثرت حقائق الدين وشوهت بالمجادلات المذهبية، والرسوم والأوضاع البدعية- حتى إذا كان هذا الفساد والفناء العامان أرسل الله تعالى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رحمة للعالمين بالتجديد العام. فيوم ولادته- صلى الله عليه وآله وسلم- هو يوم ولد في العالم ولادة جديدة.(3/478)
فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوما نعزم فيه على تجديدنا تجديداً روحياً وعقلياً وأخلاقياً وعملياً وتاريخياً تجديداً إسلامياً محمدياً في جميع ذلك. لنولد في عامنا الجديد ولادة جديدة وهكذا نجدد ونتجدد في كل ذكرى مولد.
علينا أن نتفقد عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا ونعزم فيما اندثر منها على التجديد ولنعين بعضها ولنجعله على الخصوص محل العناية الكبرى بالتجديد منا حتى نحاسب أنفسنا عليه في الذكرى الآتية.
أما كاتب هذه السطور فقد عزم على تجديد ما فني من قلوب المسلمين من عقيدة: "إنهم بالإسلام هم أفضل الأمم" ليدعوهم بذلك إلى التمسك بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام وعدل الإسلام وإحسان الإسلام. إذ في ذلك سعادتهم وسعادة البشرية كلها ممهم وافه المستعان (1) ..
__________
(1) ش: ج 7، م 10، ص 300 - 301، غرة ربيع الأول 1353ه - 14 جوان 1934م.(3/479)
عيد الحرية
حق كل انسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته المتعدي عليه في شيء من حياته، وكما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها جعل للحرية أسبابها وآفاتها، ومن سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منهما إلا من تمسك بما لها بن أسباب وتجنب وقاوم ما لها من آفات. وما أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وما أنزل عليهم الكتب وما شرع لهم الشرع إلا ليعرف بني آدم كيف يحيون أحرارا وكيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية وكيف يعالجون آفاتها وكيف ينظمون تلك الحياة وتلك الحرية حتى لا يعدو بعضهم على بعض وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع المحمود المفضي بهم إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. فرسل الله وكتب الله وشرائع الله كلها ضد لمن يقف في طريق بني آدم دون هذه الغاية العظيمة بالتعدي على شيء من حياتهم أو شيء من حريتهم ولقد كانت هذه الشريعة المحمدية، بما سنت من أصول وما وضعت من نظم وما فرضت من أحكام- أعظم الشرائع وأكمل الشرائع في المحافظة على حياة الناس وحريتهم، وما كان انتشارهم ذلك الانتشار العظيم في الزمان القليل على يد رجالها الأولين- إلا لما شاهدت فيها الأمم من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليهما وتسوية بين الناس فيهما مما لم تعرفه تلك الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها. والحياة والحرية محبوبان للناس بالطبع ومرغوبان لهم بالفطرة فأسرعوا لتلبية الدعوة بالدخول في الإسلام أو الإستظلال(3/480)
بظله. فما أحق أبناء هذا الدين، ووراث رجاله الأكرمين، أن يكونوا أعرف الناس بقدر هذه الحياة وهذه الحرية، وأكثر الناس احتراما لهما وأشدهم رعاية لحقوقهما وواجباتهما لا لأنفسهم فقط بل للبشربة جمعاء ...
الحياة حياتان حياة الروح وحياة البدن والحرية كذلك. وحياة الروح وحريتها هما أصل حياة البدن وحريته، وشرائع الإسلام كل منتظمة لذلك كله. ومما شرعه الله لتحصيل حرية الروح صوم هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. يترك فيه المؤمن طعامه وشرابه وشهوات بدنه ويقبل على التهليل والتحميد والتسبيح فيحرر روحه من سلطة الشهوة وسلطان المادة ويسمو بنا إلى عالم علوي ملكي من الطهر والكمال، ثم إقبل على تلاوة القرآن- بتدبر- فينير قلبه وروحه ويحرر عقله من ربقة الجهل وقيود الأوهام والخرافات، فما يأتي عليه الشهر إلا وقد ذاق طعم الحرية الروحية العقلية وخرج بحيوية قوية وحرية نيرة. فحق عليه أن يحمد الله على نعمته ويظهر آثار تلك النعمة عليه ويفرح بفضل الله ورحمته. وذلك كله باحتفاله بهذا العيد الفطر بما يقوم به في يومه من صلاة وصدقة وصلة رحم وتسامح وتزاور وما يتجمل به من الزينة الحلال وما يأتيه من أسباب السرور واللهو البرىء ومظاهر البهجة بالحرية والحياة.
فهذا العيد- إخواني المسلمين- عيد حريتنا: حرية أرواحنا وعقولنا، وإذا حررنا أرواحنا وعقولنا فقد حررنا كل شيء. فالحمد لله على هذه النعمة ولنحافظ عليها ولنعمل على تكميلها والازدياد منها ذاكرين قول الله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
نسأل الله لإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في هذا(3/481)
العيد السعيد حياة السعداء، وحرية الرشداء، وعاقبة المتقين، والأمن والسلامة والهداية للناس أجمعين (1).
__________
ش: ج 10، م 11، ص 546 - 548 غرة شوال 1354ه - جانفي 1936م.(3/482)
ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان
هذه هي الكلمة التي ختمنا بها الخطاب الذي ألقيناه أثر ما خطب الشيخ يحيى حمودي باللغة القبائلية ليلة مأدبة النادي لجمعية العلماء فاهتز لها الحفل ودوَّت القاعة بالهتاف والتصفيق، وددت لو ذكرت الخطاب فنشرته كله، ولكنني سأكتفي بالكلمة التالية فقد تكون أوفى منه في المعنى وأجمل في التنسيق.
إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلما جزائرياً، أمه الجزائر وأبوه الإسلام. وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم.
فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم؟ لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع يا عجبا! لم يفترقوا وهم الأقوياء، فكيف يفترقون وغيرهم القوي كلا والله، بل لا تزيد كل محاولة للتفريق بينهم إلا شدة في اتحادهم وقوة لرابطتهم (ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم) والإسلام له حارس، والله عليه وكيل. نعم إننا نتحد لننفع أنفسنا، وننفع إذا استطعنا غيرنا، ومعاذ الله والإسلام أن نتحد على أحد، أو نتفق على باطل، أو نتعاون على إثم أو عدوان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ(3/483)
بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1).
عبد الحميد بن باديس الصنهاجي
__________
(1) ش: ج11، ص 605 غرة ذي القعدة- فيفري 1936م.
نشرت هذه الكلمة عينها في البصائر السنة الأولى العدد 3 ص 2، ع 2، 3. بتاريخ الجمعة 22 شوال 1354ه - 17 جانفي 1936م.(3/484)
نصيحة وإرشاد
من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى وفد الله من إخواننا
المسلمين الجزائريين ومن بلغه كلامنا من إخواننا المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قد جرت عادة الناس من قديم عند قدومهم من الحج أن يمكثوا في بيوتهم أياماً ثلاثة أو سبعة يقتبلون الزائرين والمهنئين وينفقون في ذلك ما قد يبلغ شطر ما أنفقوا في الحج أو يقاربه أو يجاوزه بحسب حالهم وعدد معارفهم، ويحسبون أنهم بذلك يعظمون الحج والحجاج ويتقربون إلى الله بذلك التعظيم.
وفي هذا مفسدتان عظيمتان، أحداهما: بالقعود عن مساجد الجماعات وذلك من شأن المنافقين الذين همَّ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يحرق عليهم بيوتهم، وقبيح- والله- بمن جاء من بيت الله وحرم الله أن يتخلف عن بيوت الله ويكون في حال أهل هذا الوعيد. الثانية بارتكاب الإسراف والتبذير في غير طاعة، مما يعقب اللوم والحسرة، وبغض الله الذي لا يحب المسرفين.
ونحن ننصح لإخواننا المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة الذميمة والبدعة الضالة التي يزداد قبحها ويعظم إثمها بصدورها من وفد الله وضيوفه الذين رجعوا- إن شاء الله تعالى- برحمته ومغفرته وإكرامه.
ونرشدهم إلى ما يحصل لهم ولأحيائهم بركة الاجتماع في غير رياء ولا إثم ولا تبذير. ذلك بأن يصبح الحاج في مسجد قريته أو حومته من بلدته يؤدي تحية المسجد أو يؤدي فريضته ويتلقى أحبابه فيه، وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا قدم من سفر ابتدأ(3/485)
بالمسجد، وما أسست المساجد إلا لذكر الله وجمع المسلمين على صلواتهم ودروسهم ومصالحهم.
ففي هذا- إن شاء الله تعالى- الأجر الكثير، والنفع الغزير في الدنيا والدين.
...
قد تواترت الأخبار المشرقية بما يقاسيه سكان المدينة المنورة من جهد ومشقة واحتياج. فنحن ندعو إخواننا وفد الله إلى اغتنام هذه الفرصة العظيمة والمبرة الكريمة بالإحسان إلى سكان طيبة الطيبة وجيران سيد المرسلين- صلى الله وسلم عليه وعليهم وآله كل أجمعين- وعمار حرمه الأمين ومسجده الكريم، وغذا وفقوا- وهم موفقون إن شاء الله- إلى استبدال هذا الإنفاق المشكور المبرور بذلك التبذير المذموم الموزور، استجمعوا الخير من طرفيه، وحصلوا الأجر بسببيه، فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ورضي الله عنهم- إن شاء الله- ورضوا عنه.
...
هذه نصيحتنا إليكم- إخواننا- جعلها الله سبب الأجر والمثوبة لكم ولنا. وإن الجمعية عازمة- بإذن الله- في الأعوام القابلة على إيفاد عضو من رجالها يذكر الحجاج ويفقههم ويكون مرجعا لهم في أمر دينهم وأعمالهم.
والله نسأل التوفيق إلى الخير والعون عليه والإخلاص فيه لوجهه آمين والحمد لله رب العالمين.
عن الجمعية الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الأولى العدد 7 الجمعة 21 ذي القعدة 1354ه 14 فيفري 1936م الصفحة: 6 ع 1 و 2.(3/486)
التسامح الإسلامي:
نظر المسلمين إلى غير المسلمين
ونظر غيرهم إليهم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يقرر الإسلام بطلان سائر الملل وأن لا دين عند الله إلا الإسلام. ويعرض ذلك في بيان من الاحتجاج والاستدلال على ما انبنى عليه الإسلام من الحق وما جاء به للبشرية من الخير، وعلى ما انبنت عليه الملل الأخرى من الباطل أو ما أدخل عليها منه وما أصيبت به كتبها من الضياع والتحريف حتى يكون المسلم على بينة ويقين فيما أخذ من حق وما رد من باطل، وحتى يمتليء قلبه بمحبة الإسلام والاطمئنان إليه، وبالكره لغيره والنفرة منه، فهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد الإسلام كما يكره أن يقذف في النار.
ومن شأن البشر أنهم إذا كرهوا الشيء كرهوا أهله والمنتمين إليه، ودفعهم ذلك الكره إلى مدِّ يد العدوان إلى ذلك الشيء المكروه وأهله، فأوقعوا به وبهم أنواع الأذى والظلم، وإذا لم يستطيعوا مد أيديهم لذلك بقيت صدورهم تتأجج بنيران الحقد والبغضاء وصارت أفواههم فوهات لتلك البراكين تقذف بالحمم والنيران، بالشتيمة والاستنقاص، وما يؤرج تلك الضغائن والأحقاد.
هذا هو حال البشر إذا تركوا سجيتهم الحيوانية دون أن يبصَّروا بسنن الله في الخلق وحكمته في أخلاقهم وحكمه العادل بما لكل منهم من الحق في الحياة على ما اختار لنفسه من دين.
وهكذا مضت الأحقاب على البشرية ورؤساء كل ملة يذكون تلك السجية الحيوانية في الإنسان ويوقعون بين أفراده وأممه بسبب ذلك(3/487)
الحقد الديني والتعصب على المخالف أنواعا من الشرور والبلايا والفتن تشيب من هولها الولدان حتى جاء الإسلام ينشر راية التسامح العام ويقلع جذور الحقد الديني من قلوب متبعيه ويكفهم عن التعصب على المخالف لهم في الدين.
قرر الإسلام محبة الإسلام في قلوب المسلمين وكره ما سواه ولكنه بيَّن لهم أنه كره يحملهم على مجانبة عقائد غير الإسلام وأعماله التي أبطلها الإسلام دون أن يحملوا حقدا على مخالفيهم أو يمسوهم بأذى من سب أو تحقير لهم أو لمعتقداتهم، أو يكرهوهم على شيء من الدين.
لأجل أن يقتلع الإسلام جذور الحقد الديني والتعصب على المخالف من قلوب اتباعه ويزرع فيها التسامح- عرفهم أن اختلاف الأمم وتباينهم في نحلهم هو بمشيئة الله وما كانت مشيئته إلا حكمة وصوابا فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وعرفهم بوجه الحكمة في هذا الاختلاف وهي أن تباين أعمالهم بتباين مشاربهم ومداركهم مما هو ضروري لنمو العمران وتقدم الانسان وظهور حقائق الأفراد والأمم بالابتلاء والاختبار فيما أوتيت من عقول وإرادات وقوى وأعمال. فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ثم أقر المخالفين على ما ينتحلون ويعتبرونه دينا وسماه دينا وحكم بأن يترك لهم فقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وأقر معابدهم وذكرها بما يقتضي وجوب احترامها بما يذكر فيها من اسم الله وقرنها بالمساجد تأكيداً لذلك الاحترام فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ(3/488)
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وأقر كتبهم لهم وسماهم أهل الكتاب وأقر ما يعملونه من دينهم وسماه عملا فقال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وأقر أحكامهم فيما بينهم ومنع من التعرض لهم إلا إذا جاءوا بطوعهم واختيارهم متحاكمين إلى الإسلام فقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
فأنت ترى كيف أبقى لهم الإسلام كل كيانهم الديني وجميع مقوماته وأحاط دينهم بسياج من الاحترام بعد ما عرَّف المسلمين أن ما هم عليه من تلك الأديان هو من مقتضى مشيئة الله وحكمته وفي صالح البشرية والعمران وأن الجزاء على ذلك إنما هو لله وحده يوم يرجع إليه العباد فقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم أمر بعد ذلك كله بالعفو والصفح عنهم مع العلم بحقيقة قصدهم فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ببيان هذه الحقائق من سنن الله وحكمته، وتقرير هذه الأحكام من شريعته، ربَّى الإسلام المسلمين على التسامح وكوَّن نظرهم لغيرهم من أهل الملل فهم لا يرون في اختلاف تلك الملل إلا شيئاً قد قضاه الله واقتضته حكمته لعمارة هذه الدار وتلك الدار وظهور آثار عدله وفضله وإحسانه ورحمته، فسلمت قلوبهم من الحقد الديني الممقوت والتعصب(3/489)
المذموم وجرت معاملتهم لهم في أيام قوة المسلمين وأيام ضعفهم على سنن التسامح والاحترام، اللهم إلا وقائع نادرة جدا كانت أيام ضعف المسلمين وطغيان غيرهم عليهم فانتقموا انتقام المظلوم المهان لا انتقام الحقود المتعصب. ولا يسعني من هذه المقالة أن أعدد أيادي المسلمين على غيرهم من أهل الملل فقد ملأ ذلك سجلات التاريخ مما كتبه غير المسلمين فضلا عما كتبه المسلمون.
ومن مظاهر التسامح الإسلامي عند المسلمين وخلو قلوبهم من الحقد الديني الذي طهرها منه الإسلام بما حكم وبما علَّم، إنك لا تجد في صحافتهم ومجلاتهم الفصول العريضة والمقالات الطويلة في البحث في النصرانية ومقدار انتشارها وأسباب انتشارها ومقاومة انتشارها وما تكون به تلك المقاومة مثل ما تجد ذلك على أتمه وأبلغه، وتارات على أفظعه، في صحف الغرب ومجلاته. وفي العالم الإسلامي كثير من المجلات التي يصدرها رجال من أهل العلم الديني وفي مقدمتها "مجلة الأزهر" لا تجدها تعرض للبحث في النصرانية إلا إذا اضطرت للدفاع عن المطاعن التي يوجهها من حين إلى آخر أعداء الإسلام. أما الهيئات الدينية النصرانية فإن لكل هيئة منها مجلتها ويكاد لا يخلو عدد منها من الكلام على الإسلام، وتصويره بالصورة المنفرة البغيضة المثيرة للأحقاد والحاملة على التعصب حتى أنهم قد يجعلون لأتباعم دعوات تكرر في أوقات مخصوصة ضد الإسلام والمسلمين. ولأجل التحقق مما نقول ننشر فيما يلي نص صلاة من الصلوات اليومية.
عن الصدى الكنسي لقسنطينة وبونة
الأحد 9 فبراير 1936م
الصلاة اليومية:
يا قلب يسوع الإلهي أتقدم إليك بقلب مريم الدامي، بصلواتي(3/490)
وأعمالي وآلامي في هذا النهار، وأقدم إليك صلواتي من أجل الغاية التي أنت ساع في سبيلها كل يوم على المذبح، وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتخاذ كل الكاثوليك ومن أجل محاربة الإسلام.
غاية التبشير: النضال ضد الإسلام.
L'ECHO DU DIOCESE DE CONSTANTINE ET D'HIPONE 6° Année No 3 - Dimanche 9 Février 1936
OFFRANDE QUOTIDIENNE:
Divin cœur de Jésus, je vous offre, par le cœur immaculé de Marie, les prières, les œuvres et les souffrance de cette journée, en réparation de nos offences et à toutes les intensions (1) pour lesquelles vous vous immolez continuellement sur l'autel, Je vous les offre, en particulier, pour l'union entre les catholiques et pour la lutte contre l'Islam.
Résolution apostolique ; Prier avec le Christ pour que nous soyons vraiement un.
Adhère à tout mouvement de prière et d'action qui tend à l'union. Intension (1) missionaire. (LA LUTTE CONTRE L'ISLAM).
N. B: (1) conforme à l'original
فكيف تكون نظرات من يغذون هذه التغذية السامة، نحو الإسلام؟ وتد نعود إلى هذا الموضوح في الجزء الآتي إن شاء الله (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 12، ص 51 - 55 غرة صفر 1355هـ- ماي 1936م.(3/491)
التسامح الإسلامي- 2
صلاة وصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الإسلام الذي قرر التسامح مع أهل الملل أصلا من أصوله يجد فيما يتلوه المسلمون من آياته ودعواته وأذكاره ما يقوي تمسكهم بذلك الأصل ويرسخه فيهم. ونحن نذكر هنا على سبيل المثال دعاء القنوت الذي يدعو به قسم عظيم من المسلمين في صلاة الصبح وهو: ((اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخنع لك ونخلع، ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق)) ويزيد قسم عظيم منهم قوله: ((اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما أعطيت، نستغفرك ونتوب إليك)).
أرأيت هذا التوحيد لله والإخبات والتعظيم له والاعتزاز والاعتماد عليه؟ فلما تعرض الدعاء للكافرين لم يزد على تركهم في قوله: ((ونترك من يكفرك)) فالمسلم يتمسك بدينه ويترك غير أهل دينه ودينهم وهذا من باب قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ولما ذكر عذابهم في قوله: ((إن عذابك بالكافرين ملحق)).
جعله الله فهو الذي يعذب من كفر به من عباده فلم يرج رحمته ولم يخف عذابه. وهذا من باب قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. فالمسلم بهذه التغذية الشريفة الطيبة لا يكون إلا نقي القلب من(3/492)
الحقد الديني واسع الصدر عظيم التسامح. وإذا رأيت ما يدعو به المسلم ربه في صلاته وعلمت ما يتركه ذلك الدعاء في نفس المسلم وما يربيه عليه فانظر إلى ما ينشره رجال الكنيسة بين أتباعهم من الصلوات اليومية وما تشتمل عليه من آثارة للحقد الديني وتقوية له ودعوة صريحة إليه، ففي الصلاة اليومية التي نقلناها في العدد الماضي عن (الصدى الكنسي لقسنطينة وبونة) يقول: "وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتحاد كل الكاثوليك ومن أجل محاربة الإسلام".
بهذا تغذي الكنيسة مؤمنيها وهم في وسط إسلامي لا تمكن سعادته وهناؤه إلا بتعاون سكانه فيه بروح التسامح والتواد، وتملأ صدورهم بهذا التعصب الممقوت ضد قوم مسالمين ومستضعفين. فلا يدري إلا الله كم أثمرت هذه التغذية الخبيثة من علقم كان وزر من جرعه ومن تجرعه على من بثوه في النفوس ومكنوه من القلوب.
حاشا الأصول الأولى لتلك الملة أن تأمر بهذا فقد عرفوا ما جاء في "متى" (5: 44) "وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لأعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" ولكن الرؤساء الذين يريدون المحافظة على مصالحهم ويرون أن محبة أتباعهم لهم تكون بقدر بغضهم للإسلام، هم الذين يتحملون مسؤولية هذا ويبوءون بإثمه.
نكتب هذا ليطلع قراؤنا على حقائق واقعية تتصل بالحياة الاجتماعية بينهم وبين من يساكنونهم في وطنهم. وليعلم إخواننا المسلمون عظيم نعمة الله عليهم بما شرعه لهم من أصل التسامح العظيم فيزدادوا به تمسكا فيعيشوا سالمي الصدور من داء الحقد الديني والتعصب الممقوت وليعرف الذين يبثون تلك السموم أن أعمالهم لا تخفى على غيرهم فعسى أن يقلعوا عنها ويرجعوا للعمل معنا على بث التسامح بين عباد الله.
والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.(3/493)
سيرة الإصلاح الإسلامي:
بعد مصر والعراق
علم قراؤنا مما كنا نشرناه في جزء سابق ما كان من النهضة الإسلامية في مصر بصفة رسمية من حكومة مصر ومن جماعة كبار العلماء بالأزهر، وقد تلت العراق مصر في هذه النهضة.
كان القائم بالإصلاح الإسلامي في بلاد الرافدين هو الجمعيات الإسلامية، مثل جمعيات الشبان المسلمين وجمعية الهداية الإسلامية. وقد جاهدت هذه الجمعيات- وما زالت- في سبيل الإصلاح جهادا كبيرا.
أما اليوم فإن الحكومة العراقية نفسها أخذت تعمل لذلك فقد أوفدت الأستاذ بهجت الأثري إلى مصر ليطلع على نظمها في الأوقاف الإسلامية وفي التعليم الديني وقبيل سفره قابله الأستاذ يونس بحري "السائح العراقي الذي كان زار الجزائر وتشرفنا بمعرفته" وسأله باسم جريدة "البلاغ" أسئلة فأجابه عنها. وقد نشرناها ملخصة فيما يلي:
- ما هي المهمة التي ستسافرون من أجلها إلى مصر فأجابه:
- إني مسافر إلى مصر درة الإسلام، في مهمة رسمية أرجو أن أوفق فيها هي الإطلاع على شؤون الأاوقاف العامة هناك ودرس نظم التعليم في المعاهد الدينية على اختلاف درجاتها ومناهجها والنظر في كيفية تطبيقها تطبيقا عمليا في العراق، وكل ذلك تمهيدا لما تعتزمه الحكومة العراقية من إصلاح أوقافها ومدارسها الدينية، وإجاد طبقة مستنيرة من العلماء تتولى إرشاد المسلمين وتهذيبهم من طريق العلم الصحيح.
- ما هي الغاية التي تقصدها حكومة العراق من وراءه هذا الإصلاح؟(3/494)
- نحن نرمي إلى توحيد الثقافة الدينية العامة بين الأقطار العربية خاصة والإسلامية عامة، والعمل على تغيير عقلية بعض المسلمين الذين صورت الأغراض لهم الإسلام الحنيف تصويرا عكسيا مخالفا لحقيقته فابتعدوا عنه وأصبحوا عالة عليه. فلا بد من مواصلتنا السعي لرفع مستوى هؤلاء المسلمين العقلي والروحي، على النمط الذي يرضيه روح الإسلام، وبهذا يخلق الله الأمة خلقا جديدا يمكنها من استعادة مجدها بين الأمم (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 12، ص 108 - 110 غرة ربيع الأول 1355هـ- جوان 1936م.(3/495)
جواب عن كتاب
إلى الأخ الشيخ الطاهر الحركاتي رئيس شعبة باتنة- وعليكم السلام ورحمة الله.
وبعد فكلنا نعلم أن أهل باتنة كانوا وما زالوا من أنصار الجمعية والمؤيدين لها في خطتها الدينية العلمية، وأن ما بينهم اليوم من خلاف إنما نشأ من أيام الانتخابات البلدية ثم استمر إلى أيام المؤتمر وفي أثناء هذا ما رأيت من الشعبة ورئيسها وأهل باتنة وفي جانب الجمعية إلا خيراً ولم يكن مني في جانب الجمعية إلا الدعوة إلى الصلح أو المهادنة على الأقل كان هذا مني مع كل من اجتمعت به من تلك الناصية فلما أيست من أمر الصلح لازمت الحياد وكاتبتكم بكتاب آخر أمركم فيه بالحياد التام وهو الكتاب الوحيد الذي كاتبت به باتنة من هذه المدة كلها- وها هو نص الكتاب الذي أنشره ليطلع عليه الجميع وليعلم منه موقف الجمعية في مثل ما بينته من خلاف.
نص الكتاب بعد الافتتاح:
"وبعد فلما كانت الجمعية واقفة في الخلاف الواقع بين أهل باتنة موقف الحياد، لا تؤيد أحدا ولا تعارض أحدا حتى ينجلي الموقف على خير إن شاء الله- فيلزم إذا وقفتم في موقف عام أو خاص في شأن من شؤون باتنة الخلافية أن تعلنوا للناس أنكم لا تتكلمون باسم الجمعية مثل ما نفعل نحن في المواقف الخارجة عن نطاق الجمعية.
إنني أؤكد عليكم بهذا وأرجو أن يبلغني صداه.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة الثانية العدد 74 الجمعة 30 ربيع الثاني 1356هـ - 9 جوليت 1937م، ص 7، ع 3.(3/496)
إحياء ليلة المعراج النبوي الشريف
ليلة الثلاثاء 27 رجب الجاري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله وأسرى بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- إليه، وكان معراج محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الملكوت الأعلى منه، وهو اليوم بين مسايل الدماء [ ... ] (1) الاألاء، وانقاض النسف والتخريب بالنار والحديد. وان سكان أرضه من جميع الملل والأجناس الذين عاشوا قرونا آمنين أصبحوا اليوم بسبب الاستعمار الانكليزي الغاشم والمذهب الصهيوني الطامع في عذاب أليم. وإن إخوانكم الذين يحفظون ذلك الحرم المقدس، ويعمرون أرضه ويردون عنه العدوان، قد رملت الآلاف من نسائهم، ويتم مثلها من أبنائهم، وضاع عجزتهم ومرضاهم، فأكلتهم الفاقة، وأنهكتهم الأوصاب، وأحاط بهم البلاء من كل جانب.
وإننا نرى غيرنا يبذل الجهد في إغاثة المنكوبين من إخواننا بتلك الأرض المقدسة، بل نرى أحزابا وجمعيات تجتهد في إغاثة المنكوبين في جهات أخرى، فلنبادر للقيام بالواجب علينا نحو إخواننا في كل مناسبة تعرض لنا، وأن من أعظم تلك المناسبات وأفضلها ليلة المعراج النبوي الكريم واليوم الذي يليها، فلنذكر فيهما أولئك المنكوبين نذكرهم بالدعاء لرفع البلاء والعطاء لتحصيل القوت والدواء.
وقد دعت جمعية العلماء في السنة الماضية المسلمين إلى هذا الإحسان الإسلامي الإنساني فلبَّى المسلمون دعوتها وهي اليوم تجدد
__________
(1) كلمة غير واضحة محيت من الاصل.(3/497)
لهم الدعوة بنصر ما دعتهم به في السنة الماضية راجية منهم الإجابة وسائلة لهم التوفيق. وهذا نص دعوتها الماضية:
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقوم بواجبها الديني وشعورها الإنساني:
1 - تدعو المسلمين عموما وأئمة المساجد خصوصا إلى إحياء ليلة المعراج بالتضرع والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ليرفع البلاء عن ذلك الحرم المقدس وساكني رحابه، وأن يرفع عدوان الظالمين عن المظلومين، وأن يرجع لتلك البلاد عهدها السابق الذي تمتع فيه جميع السكان بالأمن والسلام.
2 - كما تدعو كل مسلم أن يذكر في تلك الليلة أولئك الأيتام والأرامل والمنكوبين فيخصص لإعانتهم ما استطاع من المال. (وأمين مال لجنة إغاثة منكوبي القدس الشريف المؤسسة بقسنطينة في عيد الأضحى السابق السيد كرماني الحاج حموش) مستعد لقبول ما يرد عليه ليرسله إلى لجنة الإغاثة بمصر وينشره بالصحف.
3 - كما تدعو المسلمين أن يكونوا ليلتهم في هدوء وخشوع مناسبين للدعاء والابتهال، لا يرى ولا يسمع منهم جيرانهم من اليهود والنصارى إلا ما أمر به الإسلام من العدل والإحسان والله المستعان.
بيان ما أرسل للمنكوبين:
فرنكات ............
24200 .......... اجتمعت من دعوة الجمعية ليلة المعراج من السنة الماضية وأرسلت بواسطة أمين لجنة الجزائر العاصمة في ديصامبر 1938 وتحت يده وثيقتها.
21155 ......... من جلود الضحايا وأرسلت بواسطته في أفريل 1939 وتحت يده وثيقتها.
24500 .......... اجتمعت من جلود الضحايا وأرسلت بواسطة أمين لجنة قسنطينة في 19 ماي 1939 وتحت يده وثيقتها.(3/498)
تنبيه
لما اعتذر أمين لجنة الجزائر عن الاستمرار على القيام بالعمل فقد قبل أمين مال لجنة قسنطينة بالقيام به شكر الله الجميع.
فالمرغوب الإرسال إليه على هذا العنوان:
C/c 264 - 85 ALGER
KERMANI HADJ HAMOUCHE 37 RUE C Ah 33 oreau
والله يتولى الجميع بالعون والتوفيق.
عبد الحميد بن باديس
__________
البصائر: السنة 4 ع 180 ص 1، قسنطينة: يوم الجمعة 9 رجب 1358هـ الموافق ليوم 25 أوت 1936م.
499(3/499)
غرداية
"وادي ميزاب"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا العاجز- كما يعلم الناس كلهم- كان ولا زال من دعاة التوحيد والاتحاد. وكنت ولا زلت أقول في مجالسي ودروسي أن المذاهب الفقهية غير الأربعة المشهورة هي كالأربعة تتفق وتختلف عن نظر واجتهاد. وكان لكلامي هذا- بحمد الله- أثره الطيب المقصود. فلما قرأ الناس في الصحف الدورية خبر منع إخواننا الإباضية إخوانهم المالكية بغرداية من شعيرة الأذان كثر منهم من سألني: ماذا تقول؟ وأين ما كنت تقول؟ كأن من يدعو إلى الاتحاد مسؤول عما يأتيه من يدعو ويفعل ما يدعو إلى التفريق!
لا، أنا لست مسؤولاً عن هذا- وإن كنت أعظمَ متألمٍ منه- بل المسؤول عنه هم أولئك الإخوان المتنوِّرون الذين أعرفهم هنا وهنالك من أهل وادي ميزاب.
فإليهم يتوجه الرجاء في حسم هاته المسألة بالحق والنصفة بين أولئك الإخوان المتنازعين- ذاكرين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 6 غرة محرم 1349هـ جوان 1930م، ص 317 - 316.(3/500)
بين المسلمين في غرداية
جاء كتاب من جماعة من المالكية بغرداية يقولون فيه ما ملخصه:
إن لنا مسجدين بداخل بلدة غرداية تقام فيهما الصلوات الخمس وتصلى فيهما الجمعة أحدهما بحارة عرش المذابيح وثانيهما بحارة بني مرزوق وكلاهما أسس لمالكية وادي ميزاب من منذ برهة زمانية. وقد كان إخواننا الإباضية منعونا من الأذان بهما فوق سطحيهما فسلمنا الأمر بسبب ضعفنا، وصارت عادتنا في يوم الجمعة نؤذن بداخل المساجد وقت جلوس الإمام على المنبر. والآن قام بعض طلبتهم وأهل المخزن منهم واستنصروا بحاكم الإدارة علينا في إبطال الأذان حتى بداخل المساجد. وفعلا استدعانا بالحضور وأمرنا في الحال بإبطال الأذان من مساجدنا وتعويضه بكلمة الصلاة لا غير وبشرط أن لا يبعد المنادي بهاته الكلمة من المحراب أكثر من ميترة واحدة وعندنا نسخة من رسالة الحاكم الموجهة إلى قائد غرداية في هذا الشأن.
(ش) قد تقدمت كلمتنا على هذا الخبر في باب المجتمع الجزائري صفحة 316 من هذا الجزء (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 6، غرة محرم 1349هـ - جوان 1930م ص 327(3/501)
للحق والنصفة
حول منع الإباضية إخوانهم المالكية من الأذان بغرداية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كنا من أول من كتب في هذه المسألة بأسف وحسرة، وأحلنا بإصلاح ذات البين فيها على الأدباء والفضلاء من إخواننا الإباضيين الذين نعرفهم بقسنطينة وبالعاصمة وبميزاب، ثم رأينا الأمر لا يزداد إلا تفاقما والفتنة لا تزداد إلا اتقادا رغم سعي بعض الفضلاء بالعاصمة في إصلاح ذات البين ورغم كتابة كاتب الشرق والإسلام التي تؤثر في الصم الصلاب. فلما رأينا ذلك لزمنا السكوت لعلمنا أن الكلام بعدئذ لا يرتق الفتق بل يزيده وسعا. فسكتنا منتظرين لطف الله في إلهام الفئتين رشدهما وتنزيل أسباب الرحمة والأخوة بينهما، غير أن هذا السكوت لم يرض واحدة من الفئتين.
فأما إخواننا الإباضية فإننا التقينا بالشيخ إبراهيم أطفيش بقالمة فوجدناه يحمل حنقا شديدا على"الشهاب" وصاحبه لأنه علم أن المالكية جعلوا "مؤتمرات في الأغواط" وأن صاحب، الشهاب، حضرها ولأن الشهاب لم ينشر ما يبين به الحق في المسألة، فأقنعناه أن مسألة المؤتمرات وحضورنا لها اختلاق محض كان على حضرته أن يتثبت في نقله قبل أن يسيء مقابلتنا به وأن "الشهاب" لا يتوخى فيما ينشر إلا إصلاح ذات البين ووعدناه بأن نقول كلمة خير للجميع إذا وجدنا لها مناسبة.
وأما إخواننا المالكية فقد جاءنا كتاب منهم من العاصمة من جماعة كثيرة يعتبون ويلومون على " الشهاب" في سكوته، وبلغ بهم الحمق(3/502)
"وشيء آخر" أن عرضوا بأن "الشهاب" يراعي الإباضيين لأجل اشتراكاتهم فأجبتهم بأننا دعاة إصلاح واتحاد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وإننا ندين- قولا وعملا واعتقادا- بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} حسب جهدنا وطاقتنا، ونستغفر الله تعالى مما يكون منا في ذلك من تقصير. وأما اشتراكات الإباضيين التي عرضوا بها فإنها لا تتجاوز الثلاثين، وأن "الشهاب" لو كان يراعي الخواطر في سبيل المال لكان له وفر ولكنه- علم الله والناس- أنه ليس كذلك وإننا لو كنا نريد المال لكان لنا- بحمد الله- فيما قسمه الله لنا من فضله لأسرتنا فوق الكفاية أو لكان لنا في أبواب التجارة والفلاحة المعرضة لنا- بإذن الله- أسباب إليه متينة ونعوذ بالله من تعريض سيِّء يؤدينا إلى مثل هذا الكلام.
واليوم- وقد اتفق الجانبان على إنكار سكوتنا وحمل الحنق علينا وسوء الظن فينا- فإننا نقول كلمتنا للحق والنصفة غير منحازين بها إلى إحدى الفئتين بالغة ما بلغت في إرضاء من رضي وإسخاط من سخط حيث كنا نعتقد أننا أرضينا بها- الحق والوجدان فنقول:
قد ثبت عندنا أن بعض الإباضية بغرداية منذ زمان بعيد بنى مسجدا وجعل له مأذنة واحدث فيه أذانا ثانيا فاتفقت كلمة جماعة الإباضيين على منعه وهدم مأذنته. فعلمنا بهذا أن الإباضية لم يمنعوا مالكية غرداية من الأذان تعصبا عليهم لأنهم مالكية- كيف وقد منعوا قبل ذلك الإباضية مثلهم وهدموا الصومعة- وإنما منعوهم لأنهم يرون الاكتفاء في البلد بأذان واحد.
فنحن بهذا قد برأنا الإباضية من تعصبهم على المالكية لأنهم مالكية. ولكننا من ناحية أخرى نرى أنه حق عليهم أن يرجعوا في(3/503)
هذه المسألة عن رأيهم ويسمحوا لإخوانهم المالكية بالأذان.
أولا- إصلاحا لذات البين بين المسلمين، وهي من الإسلام من أول ما تجب وتتأكد المحافظة عليه والقيام به.
ثانيا- حفظا للوحدة الإسلامية بحفظ القلوب غير متصدعة بداء الفرقة القَتَّال المعدود في الإسلام من أكبر المحرمات المهلكات.
ثالثا- مجاملة لبقية إخهوانهم المالكية بالقطر الذين تربطهم بهم رابطة الدين والوطن والمصلحة.
هذه كلمتنا نقولها بعهد الله لا نقصد بها إلا القيام بواحب الصدع بالحق والدعوة إليه والإصلاح بين المسلمين فإن كانت صوابا فمن الله الكريم الرحيم وإن كانت خطأً فمنا وإلينا وليست بالأولى من خطئنا (1).
__________
(1) ش: ج 12م 6 غرة شعبان 1349هـ جانفي 1931م. ص 768 - 770.(3/504)
آثار ابن باديس
قسم الخطب(3/505)
ذكرى المولد النبوي الكريم
في (نادي الترقي) بالعاصمة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ألقى صاحب المجلة في هذه الذكرى خطابا إرتجله ارتجالا في ذلك المقام وقد نشرناه فيما يلي حسبما بقي في الذهن فكان طبق أصله إلا في القليل.
-1 -
بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى اسم الجزائر الراسخة في إسلامها، المتمسكة بأمجاد قوميتها وتاريخها- افتتح الذكرى (1) الأولى بعد الأربعمائة والألف من ذكريات مولد نبي الإنسانية ورسول الرحمة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- في هذا النادي العظيم الذي هو وديعة الأمة الجزائرية عند فضلاء هذه العاصمة ووجهائها.
لسنا وحدنا في هذا الموقف الشريف لإحياء هذه الذكرى العظيمة، بل يشاركنا فيها نحو خمسمائة مليون من البشر في أقطار المعمور كلهم تخفق أفئدتهم فرحا وسرورا وتخضع أرواحهم إجلالا وتعظيما لمولد سيد العالين.
قلوب خمسمائة مليون! هذه قوة كبيرة في هذا العالم مرتبطة
__________
(1) نحن في سنة 1348 من الهجرة وعاش هو-صلى الله عليه وآله وسلم- 53 سنة في مكة قبل الهجرة فتلك: 1401 سنة فمولد هده السنة هو الواحد بعد الأربعمائة والألف كما ذكرنا. (المؤلف)(3/507)
بالحب متدرعة بالإيمان فلو شعرت حقيقة الشعور ببعضها لأثمرت للإنسانية فوائد كبرى وعملتلها أعمالا عظيمة.
بل تشاركنا في موقفنا هذا الإنسانية كلها وإذا لم يكن بلسان مقالها فبلسان حالها. فمن الإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى عرفت الإنسانية وذاقت حرية العقول والرقاب، ومنه عرفت وذاقت العدل على أتم معناه، ومنه عرفت وذاقت المساواة بين العباد فيما هم متساوون فيه، وبهذه الأصول العظيمة أمكن اشتراك أمم كثيرة تحت راية الإسلام في خدمة العلم والمدنية حتى أزهرت رياضهما وسمت صروحهما في الشرق والغرب واغترفت من معينهما أبناء الإنسانية جمعاء.
نقلت المدنية الإسلامية أصول المدنيات السابقة نقل الأمين، ونخلتها نخل الناقد البصير، وزادت عليها من نتائج أفكارها وثمار أعمالها ما كان الأساس المتين لمدنية اليوم.
هذا الذي نقوله يعترف به العلماء المنصفون من الغربيين أنفسهم ويشهد به مثل قانون ابن سينا الذي لا زال يدرس إلى القرن الثامن عشر في جامعاتهم ومثل مقدمة ابن خلدون التونسي تلميذ مواطنينا شيوخ تلمسان، واضع علم الاجتماع المترجمة إلى جميع لغاتهم.
كنا نسمع هذا الاعتراف من الأفراد ولكننا اليوم صرنا نسمعه من الأمم ففي العام الماضي كان احتفال إسبانيا أمتها وحكومتها بانقضاء ألف سنة على تأسيس الخلافة الإسلامية في قرطبة، ومعنى ذلك الاعتراف لهذه الخلافة الإسلامية العربية بفضلها على مدنية اليوم، ورفعها منار العلم والعمران أيام كانت أمم الغرب في همجية عمياء، وفي هذه السنة كان الاحتفال في جامعة ألمانيا ببرلين بذكرى أبي القاسم الزهراوي الأندلسي الطبيب الجراح الذي لا تزال نظرياته واستنباطاته(3/508)
معتمدا عليها إلى اليوم، وكان الاحتفال في القاعة الكبرى التي لا يحتفل فيها إلا بأكابر العلماء الذين خدموا الإنسانية خدمة جليلة. ومعنى هذا الاعتراف لعلماء العرب بخدمة العلم والإنسانية في ظل الإسلام منذ قرن.
فالإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى هو أبو المدنية أمس واليوم- وأعني بمدنية اليوم المدنية من جهة العلم والعمران، لا من جهة الأخلاق والاجتماع فهنالك ما يتبرأ منه الإسلام.
لا عجب بعد هذا البيان أن نقول أن الإنسانية تشاركنا بالاحتفال في هذا المقام.
ما الداعي إلى إحياء هذه الذكرى؟
المحبة في صاحبها.
إن الشيء يحب لحسنه أو لإحسانه وصاحب هذه الذكرى قد جمع - على أكمل وجه- بينهما فله من الحسن ما كان به أكمل الناس حتى اضطلع بالقيام بأعباء ما جاء به ويعرف ذلك الكمال من درس أي خلق من أخلاقه وأي يوم من أيامه. وله من الإحسان ما أنقذ به البشرية وكان رحمة خاصة وعامة، وعم الإنسانية جمعاء على ما قدمنا في البيان.
فمن الحق والواجب أن يكون هذا النبي الكريم أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا ومن الناس أجمعين ولو لم يقل لنا في حديثه الشريف «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وكم فينا من يحبه هذه المحبة ولم يسمع بهذا الحديث؟
فهذه المحبة تدعونا إلى تجديد ذكرى مولده في كل عام.
ما الغاية من تجديد هذه الذكرى؟(3/509)
إستثمار هذه المحبة.
إن محبتنا فيه تجعلنا نحب كل خلق من أخلاقه وكل عمل من أعماله. ففي ذكريات مولده نذكر من أخلاقه ومن أعماله ما يزيدنا فيه محبة ويحملنا على الاقتداء به فنستثمر تلك المحبة بالهداية في أنفسنا، ونشرها في غيرنا، تلك الهداية التي لا يسعد العالم سعادة حقة إلا إذا تمسك بها.
ماذا نريد أن نذكر في مجلسنا هذا منها؟
عندما أصل إلى هذا المقام وأقف أمام أخلاقه وأعماله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- أجدني أمام ما يتقاصر عنه علمي ويتضاءل أمامه شخصي وأنشد ما قاله شاعرنا العربي:
هو البحر من أي الجهات أتيته … فلجته المعروف والجود ساحله
ومن أين لعاجز مثلي أن يفي خلقا من أخلاقه أو عملا من أعماله حقه من البيان؟
لكنني سأقول على كل حال حسب جهدي، وأقتصر على ذكر خلقين من أخلاقه أراهما ركنين أساسيين في حياته وفي شريعته وهما:
الرحمة ……… والقوة
إذا أراد الله تعالى شيئاً هيأ أسبابه. فمع علمنا بأن ما كان له - صلى الله عليه وآله وسلم- من الرحمة والقوة هو من العطاء الرباني والفيض الإلهي الذي تقصر عنه وسائل العباد، فإننا لا نمتنع من ذكر ما هيأ الله له من أسباب مناسبة لهذين الخلقين. فمن العبادة الفكرية النظر في صنع الحكيم العليم في ربط الأمور بعضها ببعض واقترانها في الوجود والتقدير. فلنبحث في هذين الخلقين وما هُيِّء لهما من حال مناسب، وما نشأ عنهما من أخلاق فاضلة وما كان لهما(3/510)
من ثمار محمودة، ومظاهر في حياته وشريعته جليلة جلية، لنزداد بصيرة في العلم، وهداية في الاقتداء فنقول (1):
بقية الخطاب الذي ألقاه صاحب المجلة في النادي
-2 -
مبدأ رحمته:
كان- صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في صغره مات أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن بضع سنوات فأورثه ذلك اليتم رقة في قلبه. وما كانت كفالة جده ولا عمه، ولا حضانة نسائهم بمغنية عن عطف الأم وحنانها، ولا جابرة صدع القلب من فقدها، وهذه الرقة هي فيه أساس الرحمة.
مبدأ قوته:
وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- ابن بيت عظيم، يشهد مجالس جده عبد المطلب شيبة الحمد وأعمامه من حوله، ويرى هيبتهم ومكانتهم في قومهم فأورثه ذلك عظمة وعزة نفس: عزة أنفة وإباءة، وعظمة وشرف وكرم وترفع عن الدنايا. ولا ينكر تأثير اسم العائلة وتاريخها ومشاهدة حال أفرادها في أبنائها. وأنا أعرف شخصاً ما قرأ العلم ولا اجتهد فيه- في أول أمره- إلا لعلمه بأن أجداده كانوا علماء. وهذه العظمة هي أساس القوة.
مظاهر رحمته:
كانت رحمته بالمرسل إليهم: فأدمي ساقه، وشج وجهه، وكسرت
__________
(ش): ج 9، م 5، ص 6 - 9 غرة محرم 1348هـ - أكتوبر 1929م.(3/511)
رباعيته- وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقال تعالى في رحمته بمن أرسل إليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ "قاتل" نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وكان كما قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ورحمته للعالم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
مظاهر قوته:
كانت قوته لتحمُّل أعباء الرسالة وتبليغها للخلق، قوة أدبية وقوة حربية. فمن الأولى ثباته في مواقف التبليغ، كقوله لعمه أبي طالب - وقد فهم منه أنه ضعف عن نصره وأنه مسلِّمُه-: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». ومن الثانية ثباته في ميادين القتال ومواقف البأس كما ولى عنه الناس يوم حنين- وهو يقول راكباً على البغلة التي لا يركبها إلا من لا يفر-:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ … أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ»
معلناً مكانه مظهراً نفسه أمام الأعداء الآتين من كل صوب.
آثار القوة والرحمة في أخلاقه:
كان- صلى الله عليه وآله وسلم- صادقاً أميناً عادلاً، معروفاً بهذه الصفات بين قومه قبل نبوته.
الأمانة:
هي حفظ الشخص ما استودع، وأول ذلك حفظه نفسه فيثق به الناس في حفظ ما يستودعونه.
وقد كانت قريش- وهي كافرة به- تودع عنده أموالها. ولما خرج مهاجراً ومعه الصديق رضي الله تعالى عنه خلف ابن عمه حيدرة علي بن أبي طالب كرم اللهُ وجهه لينام على فراشه معرضا نفسه لسيوف(3/512)
قريش المتآمرين على قتل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في تلك الليلة، وليرد أمانات الناس إليهم ويلحقه بأهله.
الصدق:
هو قول الحق في جميع المواطن. وقد شهد له أبو سفيان- وهو إذ ذاك أكبر عدو له- في مجلس قيصر بالصدق: سأله قيصر هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. قال قيصر: قد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
العدل:
وهو الإنصاف في الحكم. وقد رضيت به قريش حكماً بين كبرائها لما تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى محله أيام جددوا بناء الكعبة، ذلك لما عرفوا من عدله.
والرحمة والقوة أساسان لهاته الأخلاق. فمن الرحمة بالنفس وبصاحب الشيء، ومن القوة على النفس وعلى النزعات والعواطف تكون الأمانة، ومن الرحمة بالمظلوم والقوة على الظالم يكون الحكم العادل، فإن القاسي العديم الرحمة لا يبالي بالمظلوم وأن الضعيف تكسره رهبة الظالم عن الصدع بالحكم ويقصر عن تنفيذه. وضعيف القلب تؤثر عليه المؤثرات حتى مرققات العواطف، ولهذا قال جمهور أئمة الإسلام: أن المرأة لا تصلح للحكم لرقة عواطفها وضعف قلبها، فقد تخدعها الدموع الكواذب، وقد تميل بها عاطفة الحب والقرابة. والصدق- وهو من مقتضيات الأمانة لأنه حفط اللسان- لا يقوم به إلا رحيم بالسامعين يشفق عليهم لا يخدعهم قوي شجاع لا يبالي في قول الحق بهم.
إهتمامه بالخلق:
كان هذا العظيم النفس الرقيق القلب، الرجل القوي الرحيم، يرى(3/513)
انحطاط قومه في المعتقد والأخلاق والمجتمع فتسمو به نفسه العظيمة عن البقاء في تلك البيئة المنحطة والوسط المريض، وتأبى عليه رحمته أن يتركهم فيما هم عليه فكان دائم الاهتمام بهم، دائم التفكير في الطريق الذي يسلكه لإنقاذهم.
إنقباضه عنهم:
كان ينعزل عنهم ويذهب إلى غار حراء الليالي العديدة حاملاً عبء همه غارقاً في تفكيره. ولم يكن اختلاؤه في غار حراء مثل اختلاء متصوفة الهند الذين ينعزل أحدهم عن الناس ويذهب في أودية الخيال لتحصيل حالة نفسية خاصة به يعدها نعيماً روحياً. بل كان اختلاؤه وانعزاله للتفكير في طريق خلاص العالم من الضلال والقيام بخدمة عظيمة عامة البشر، وشتان ما بين الحالتين.
نبوءته:
جاءه جبريل بالوحي وهداه الله بالنبوة إلى طريق الخلاص، وشرح صدره لما جاءه من الحق، ووضع عنه عبء ذلك الهم الثقيل وبعثه للعالمين بشيراً ونذيراً.
الرحمة والقوة في شريعته:
ولو تتبعت أصول شريعته وفروعها وآدابها لوجدتها كلها مبنية على أساسي الرحمة والقوة. فليس من الإسلام ذلك التماوت وذلك التمسكن الذي يتظاهر به بعض الناس. وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- وقد رأى قوما من هذا الصنف: "لا تميتوا علينا ديننا، أماتكم الله"، وقالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- وقد رأت قوما يتماوتون في مشيتهم، من هؤلاء؟ فقيل لها قوم من القراء، فقالت: "لقد كان عمر سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع".(3/514)
ولو بحثت عن أسباب انتشار المملكة الإسلامية المبنية على الشريعة المحمدية لوجدت أصل تلك الأسباب هذين الأساسين: الرحمة والقوة. فإن الضعيف مغلوب، وإن القاسي مبغوض. ولا يسود ويحب- كما كان للإسلام- إلا القوي الرحيم.
رزقنا الله القوة في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا وأبداننا، وأشعرنا الرحمة بأنفسنا وببعضنا وبغيرنا، إنه القوي المتين، الرحمن الرحيم (1).
__________
(1) ش: ج 10، م 5، ص 5 - 8 غرة جمادى الثانية 1318ه - نوفمبر 1929م.(3/515)
خطبتان لصاحب المجلة
في اجتماع جمعية العلماء المسلمين بالعاصمة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في الجزء الماضي نشرنا، كما نشرت الزميلات الأخرى، المحضر الرسمي لجلسات الجمعية وقد لخص فيه أخي الأستاذ البشير الإبراهيمي الخطاب الرئيسي الذي ارتجلته أحسن تلخيص ثم رغب مني جماعة أن أنشر لهم نفس الخطاب فاعتذرت بأنني لم أكتبه قبل إلقائه فاكتفوا بنشر ما بقي بذهني منه، فأنا أنشر بغاية التحرير ما كنت ألقيته. وهذا نص الخطبة التي ألقيتها في الاجتماع الأخير الذي كان حفلة شاي دعي إليها الأعيان والنواب وعدة من طبقات الناس:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
باسم جمعية العلماء المسلمين أفتنح هذا الاجتماع وأقدم الشكر إلى أهل العاصمة أجمعين الذين أحسنوا وفادة الجمعية وأكرموا ضيافتها فبرهنوا على أنهم أهل لأن تكون العاصمة بهم رأس القطر وقلبه. وأنهم باعتنائهم بالعلم وإكرامهم للعلماء أحيوا لنا ذكرى عواصمنا العلمية الزاهرة في التاريخ مثل تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بني حماد. ثم أقدم الشكر لرجال نادي الترقي الذين فتحوا أبواب ناديهم للجمعية وفسحوا لها مكانا رحبا فيه وجعلوه لها موئلا. فلله هذا النادي الذي هو في العاصمة كالعاصمة في القطر.
ثم أقدم الشكر للسادة الشيوخ الذين لبوا دعوة اللجنة المؤسسة وأقبلوا من جميع جهات القطر.(3/516)
ثم أشكر السيد عمر إسماعيل الساعي في تأسيس الجمعية والعامل على تكوينها وأن شكري له شكر لجميع الذين أيدوه وآزروه من أعضاء اللجنة التأسيسية وغيرهم من رجال العاصمة.
ويجب أن أذكر بالشكر جميع الذين فكروا في هذه الجمعية ودعوا إليها. ولقد كان لجريدة الشهاب في سنتها الثانية والثالثة دعوة إلى مثل هذه الجمعية وكان كتاب الشهاب إذ ذاك قد كتبوا في هذا الموضوع وكانت تلك أفكاراً وأقوالاً تمهيداً للعمل حتى جاء السيد عمر إسماعيل بالأمر قولا وعملا، وقد سرنا أن يتم هذا في العاصمة وعلى يد رجالها.
ثم أقدم الشكر للسيد ميرانت لحسن قبوله لرئيس اللجنة المؤسسة السيد عمر اسماعيل يوم زاره ودعاه لحضور حفلتنا هذه ورياستها فاعتذر بغيابه وتلطف جنابه فطلب من السيد عمر اسماعيل أن ينوب عن جنابه في إبلاغ اعتذاره إلى الجمعية الموقرة. ولا عجب في هذه الأخلاق العالية والآداب اللطيفة من ذلك الرجل الإداري العظيم الذي يعرف أن المسلمين الذين برهنوا على حسن سلوكهم دائما في جميع المواطن يجب أن يعاملوا اليوم بغير ما كانوا يعاملون به أمس- وذلك المستشرق العالم بالعربية أنه لا شك أن ذلك يجعل له عطفا خاصا على أبنائها.
ثم أقدم الشكر لكم أيها السادة الذين لبيتهم الدعوة وشرفتهم الجمع.
ثم أعرفكم بما تم من أعمال الجمعية في جلساتها هذه الثلاثة الأيام فقد عرضت القانون الأساسي على الأعضاء الحاضرين كلهم فأقروه وعينت مجلس الإدارة على الصورة الآتية:(3/517)
الأستاذ عبد الحميد بن باديس .......... رئيس
الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي ........ نائبه
الأستاذ محمد أمين العمودي ........... كاتب
الأستاذ الطيب العقبي .................. معاونه
الأستاذ مبارك الميلي ................... أمين المال
الأستاذ إبراهيم بيوض .................. معاونه
الأستاذ المولود الحافظي ............... مستشار
الأستاذ مولاي ابن الشريف ............. مستشار
الأستاذ الطيب المهاجي ................ مستشار
الأستاذ السعيد اليجري ................ مستشار
الأستاذ حسني الطرابلسي .............. مستشار
الأستاذ عبد القادر القاسمي ............ مستشار
الأستاذ محمد الفضيل اليراتني .......... مستشار
كل أعضاء الجمعية في العضوية وفي حق الإشراف والمناقشة سواء وإنما عين هؤلاء الشيوخ ليتحملوا مسؤولية الإدارة.
ولما كان أعضاء مجلس الإدارة من جهات متفرقة والعمل بالمركز بالعاصمة لا بد أن يكون له من يباشره باستمرار لزم تعيين لجنة للعمل دائمة تكون من سكان العاصمة أو ضاحيتها فعينت على هذه الصورة:
السيد عمر إسماعيل ................ رئيس
" محمد المهدي ................... كاتب
" ايت سي أحمد عبد العزبز ......... امين مال
" محمد الزمرلي .................... عضو
" الحاج عمر العنق ................. عضو
أما غاية الجمعية فهي إصلاح الفاسد وتقويم المعوج وإرشاد الضال(3/518)
بالهداية والحكمة في دائرة المحبة والوئام وإصلاح شؤون أهل العلم ولم شعثهم وتنظيم هدايتهم، فهي تسعى في إزالة كل شر يحرمه الشرع والقانون مما هو منتشر فينا ويضيق المقام عن تعداده ونشر كل قمع وخير.
هنا قد انتهيت من بيان ما يجب أن يعرف عن الجمعية، ثم أوجه الآن خطابي لإخواني من طلبة العلم:
أيها السادة: قد أنجزتم أمراً عظيما وأسستم مستقبلاً عظيما ولقد جئتم من أنحاء القطر ملبين داعي الاجتماع، ناسين كل أسباب الافتراق فبرهنتم على أن علماء الجزائر متصفون بما يجب أن يتصف به العالم الحقيقي الذي صار العلم له صفة روحية وحياة قلبية من سعة الصدو والتسامح ونسيان الفكر الخاص أمام الصالح العام، أن ما أسسناه لا يكفي فيه اجتماعنا هذا فعلينا أن نوالي الاجتماع مهما دعينا إليه وعلى كل واحد منا أن يكون داعية للجمعية بقوله وعمله وأن يكون ممثلاً لفكرتها في الاتفاق والتآخي ونشر الخير وأن يطرح كل واحد منا فكره الخاص عندما تجيء مصلحة الجمعية. حسبنا ما مضى، كفى ما تقاتلنا على الكلمات فكلمة "فرق" قد ماتت من بيننا، وما بقي إلا العمل على الوفاق والوئام لنبلغ غاية المرام.
إخواني إنني قد تخلفت عن جمعكم العظيم اليوم الأول والثاني فحرمت خيراً كثيراً وتحملت إثما كبيراً، ولعلكم تعذروني لما لحقت في اليوم الثالث. وأذكر لحضراتكم ما تحلمونه من قصة أبي خيثمة الأنصاري لما تخلف عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة تبوك ثم لحقه فقال الناس هذا راكب يرفعه الآل ويضعه فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- كن أبا خيثمة فقالوا هو أبو خيثمة فاعتذر إلى النبي- صلى الله عليه واله وسلم- فقبل عذره ودعا له(3/519)
بخير. ومثلكم من كان له في رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- القدوة الحسنة ثم أعتذر لكم عن زميلي وصديقي الشيخ عبد الحفيظ ابن الهاشمي مدير النجاح فإنه ما تخلف إلا لعذر علمت أنه لا فسحة فيه.
والآن أيها الأساتذة نحمد الله الذي يسر لنا هذا الجمع المبارك ونسأله تعالى كما أذاقنا حلاوة هذا النعيم أن يديمه لنا ويتم لنا به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم عقدنا اجتماعا بعد تمام الاحتفال من خصوص أعضاء مجلس الإدارة ولجنة العمل الدائمة فألقيت عليهم هذا الخطاب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. إخواني إنني ما كنت أعد نفسي أهلاً للرئاسة لو كنت حاضراً يوم الاجتماع الأول فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب. لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرئاسة وأنا غائب. إخواني إنني كنت أعد نفسي ملكاً للجزائر، أما اليوم فقد زدتم في عنقي ملكية أخرى فالله أسأل أن يقدرني على القيام بالحق الواجب، إخواني إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم، لم تنتخبوني لشخصي وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عرف بهما أخوكم الضعيف هذا:
الأول: إنني قصرت وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى تكريم التعليم إظهارا لقصد من أعظم مقاصد الجمعية وحثاً لجميع الأعضاء على العناية به كل بجهده.
الثاني: أن هذا العبد له فكرة معروفة وهو لن يحيد عنها ولكنه يبلغها بالتي هي أحسن فمن قبلها فهو أخ في الله ومن ردها فهو أخ في الله فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يرد فأردتم أن ترمزوا بانتخابي(3/520)
إلى هذا الأصل: وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس روح الأخوة في الأمر العام، فماذا تقولون أيها الإخوان؟ فأجابوا كلهم بالوفاق والاستحسان، وقال أخي الأستاذ العقبي: أما الوصف الأول فإني أسلمه للأخ الرئيس وأما الوصف الثاني فهو لنا كلنا، فكلنا نقول أفكارنا مع المحافظة على الأخوة والوداد.
فقلت: بكلمة الأستاذ العقبي كان الختم الرسمي على هذا الكلام، ثم رفعت الأكف للدعاء والابتهال للكبير المتعال. حقق الله الآمال وسدد الأقوال والأعمال آمين.
هذا ما بقي بذهني مما قلته وقد ندت جمل عن الذاكرة لطول العهد (1).
__________
(1) ب 6، م 7، ص 351 - 356 غرة صفر 1350ه - جوان 1931م.(3/521)
خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الأستاذ عبد الحميد بن باديس
الذي ألقاه في الاجتماع العام
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فمرحباً بأبناء الجزائر وأفلاذ كبدها. مرحبا بورثة مجدها التالد وحماة مجدها الآتي الذي تتخبط به أحشاء الأيام.
مرحبا بكم أيها الإخوان الوافدون من أنحاء الوطن على جزائر مزغنا وآثار بلكين وعاصمتها الجمهورية العظيمة- مرحبا بالوفود جاءت تخدم العلم وتؤيد العلماء وتمثل الروح العلمية السماوية في الأمة الباعثة لها على اكتساب المعارف الإنسانية من جميع نواحيها والحاثة لها على تلبية دعوة العلم والانضواء تحت لوائه. مرحبا بوفود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أعضائها العاملين والمؤيدين. فبلسان الأمة الجزائرية الممثلة فيكم وبلسمان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة في مجلسها الإداري وبلسان مجلس الإدارة الذي أنطق باسمه أقدم لكم الشكر الوافر على إجابتكم دعوة الجمعية وحضوركم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون والقلوب وأقام البرهان القاطع والدليل المشاهد على أن الجمعية جمعية الأمة وأنها تمثلها أصدق تمثيل.
وأقدم مثل ذلك الشكر للإخو أن الكثيرين الذين تخلفوا واعتذروا بالبرقيات والكتب وهم الذين سمعتم أسماءهم من الأخ الكاتب العام آنفاً.(3/522)
أيها الإخوان:
سأعرض عليكم في هذا الخطاب حالة الجمعية في السنة الماضية وأعمالها والحالة الحاضرة وموقفها فيها وما تنويه من الأعمال في المستقبل بإعانة الله.
فأما السنة الماضية فلقد كانت منشطرة إلى شطرين فأما شطرها الأول فقد أوفدت الجمعية من رجالها للوعظ والإرشاد وفوداً لبلدان القطر في العمالات الثلاث وقامت تلك الوفود بمهمتها خير قيام وكانت تتلقي من رجال الحكومة كما تتلقي من الأمة بكل إكرام. وأما الشطر الثاني منها وهو الذي يبتدىء بصدور قرار منع العلماء من الوعظ والإرشاد بالمساجد، فقد كان شطر بلاء وعناء على الجمعية ورجال مجلس إدارتها، فمن تنمر وجوهٍ إلى إلصاق تُهمٍ، إلى خلق عراقيل إلى استثمار ذمم، ومن وعد وترغيب إلى وعيد وترهيب كل هذا والجمعية ورجال مجلس إدارتها ثابتون ثبوت الجبال ثقة من أنفسهم بأنهم دعاة حق وقصاد خير وعمال صالح هذا الوطن بأمته وحكومته وجميع ساكنيه، فانسلخت هذه السنة وأعمال الجمعية هي هذه، ما قام به وفودها من وعظ وإرشاد، وما قام به رجالها من تعليم في عدة بلدان، وما نشره كتابها في جريدة الجمعية جريدة السنة النبوية المحمدية التي لقيت- بحمد الله- من المسلمين غاية الإقبال: هذا كله قام به رجال الجمعية، ولا غرابة أن يقوموا به فهم من أهل العلم وما أهل إلا الذين ينشرون العلم بدروسهم ومحاضراتهم وخطبهم ومنشوراتهم.
ولكن الذي قام به رجال الجمعية وضربوا به المثل الرفيع للناس هو تضامنهم في الشدة كتضامنهم في الرخاء وثباتهم على يقينهم رغم كل زعزعة وإعصار وتضحيتهم بالمصلحة الخاصة في سبيل الصالح العام(3/523)
وثقتهم التامة بالله ثم بأنفسهم ثم بالمبادئ الجمهورية الفرنسوية التي كتبت بدماء أبناء فرنسا الأحرار. فهذا الدرس العملي مرجو من فضل الله أن يكون أثره في الأمة وكل من يتقدم لقيادتها في ناحية من نواحي الحياة أبلغ الأثر وأقواه وأبقاه.
أيها الإخوان: إن جمعيتكم جامعة للناس فيما تفرقوا فيه من دين الله وهادية لهم فيما ضلوا من سبيله وقد عرف الناس حقيقتها ولكن نجا أقوام وهلك آخرون. وإذا كان في استطاعة الجمعية أن تعظ وترشد فليس في استطاعتها أن تخلق التوفيق في نفوس كتب لها الضلال وما التوفيق إلا من الله. وإن جمعيتكم هذه من الأمة وإلى الأمة وكل ما لها أو عليها فهو للأمة وعليها، وإنما قام بحمل أمانتها إخوانكم أعضاء مجلس الإدارة فقاموا بواجب أشهد بثقله وأشهد بأنهم قاموا به خير قيام وأنهم لا يرجون من الأمة إلا أن تعرف ما يدعون إليه عن بصيرة فتتبعه عن بصيرة إنما يدعونها إلى واضح لا إلى مشتبه، وإلى حق لا إلى باطل وإلى هدى لا إلى ضلال وإنما يدعونها إلى الأعلام الهادية من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- وهدي السلف الصالح من أمته- رضي الله تعالى عنهم- يدعونها إلى هذا من أمور دينها ويدعونها إلى مجاراة السابقين في الحياة وأخذ حظها موفوراً من أسباب الحياة لتكون حية بدينها وحية في دنياها ولتكون سعيدة فيهما.
إن جمعيتكم تفخر بأنَّها قامت بإحياء فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت قل القائمون فيه بهاتين الفريضتين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما مرجع الفضائل الإسلامية ومنبعها، وقامت بإحياء هدي سلفنا الصالح في وقت طمت فيه البدع، والأهواء على ذلك الهدي حتى خيف عليه الإندثار، وأن أول من رفع صوته بكلمة الحق في هذا الوطن وبلزوم الرجوع من بنيات الطريق إلى نهج(3/524)
الاسلام الواضح، وبوجوب التماس الهداية من كتاب الله وما صح من سنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- وما أثر عن سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم- هم رجال هذه الجمعية قبل أن تكون الجمعية جمعية، فلهم الفضل يوم كانوا فرادى مستضعفين، ولهم الفضل يوم مدُّوا أيديهم إلى بعضهم فأصبحوا أقوياء متعاونين وللأمة الفضل يوم سمعت نداء الحق فاستجابت ولها الفضل حين تشابهت السبل فما شكَّت وما استرابت ولها البشر من الله حين غاب المخلَّفون عن مشهد الحق فما غابت.
إن جمعيتكم جمعية علمية دينية تدعو إلى العلم النافع وتنشره وتعين عليه وتدعو إلى الدين الخالص وتبينه وتعمل لتثبيته، وتقوية وازعه في نفوس هذه الأمة، فوظيفتها هي وظيفة المعلم المرشد الناصح في تعليمه وإرشاده، الذي لا يبتغي من وراء عمله أجراً ولا محمدة. وقد أراد إخوانكم رجال مجلس إدارة الجمعية- وهم حاملو فكرة الإصلاح الديني والعاملون لها والمنفقون لأوقاتهم في سبيلها- أرادوا أن يكونوا أمثلة للأجيال في التضحية في الثبات على الحق في الجهر به، وكما كانوا أمثلة فقد ضربوا الأمثال بأعمالهم، وها هي دروسهم في جهات القطر ينبع منها التفسير الصحيح لكتاب الله والتأويل الحقيقي لكلام نبيه والشرح الكاشف لهدي السلف الصالح من أمته، وهذه محاضراتهم في جهات القطر تتدفق منها البلاغة العربية وتتجلى فيها أسرار الله في خلقه وتنكشف فيها حقائق هذا الكون، ويعرض فيها داء هذه الأمة ودواؤها، وها هم أولاء يحملون الأمانة الإسلامية فيحسنون حملها ويؤدونها فيحسنون تأديتها ويحملون الأمانة العلمية فكل شيء عندهم بدليله، وكل شيء يطلب من سبيله.
وهذه منشورات في الصحف وعليها مسحة من نفوسهم: تبيين محكم، ورد مفحم، وحجاج مقنع.(3/525)
هذه وسائلهم الثلاث التي سلكوها وسمحت بها الظروف إلى ساعتكم هذه والتي نرجو لها بفضل الله وبهمتكم- أيها الإخوان- أن تزداد كل يوم رقياً وتقدماً.
أيها الإخوان- إننا نعمل في النهار الضاحي والليل المقمر لمبدأ لا يقل عنهما وضوحا واستنارة بوسائل لا تقل وضوحا واستنارة. كذلك فلا نعجب لمن يعارض ويكائد ويماري ولكننا نعجب لأنفسنا ولكم إذا أقمنا لتلك (1) المعارضات والمكائد وزناً أو شغلنا بها حيزاً من نفوسنا أو أضعنا فيها حصة من أوقاتنا وأن أدنى ما يغنمه المبطل أن يضيع الوقت على الحق. وإنني أوصيكم ونفسي في هذا المقام بأن يكون في حقكم شاغل لكم عن باطل المبطلين فإذا قام حقكم واستوى قضيتم على المبطلين وباطلهم وإننا نشهد الله والمنصفين من الأمة على أننا ماضون في بيان الحق وأن مبدأنا الإصلاحي التهذيبي قد ملك علينا حواسنا وأوقاتنا. فإذا بدر منا في بعض الأوقات كلام على باطل المبطلين فليس ذلك عن قصد له وحفل به، ولكن لأنه صادمنا وتوقف إثبات (2) حقنا على نفيه.
وما حيلة من يسلك سبيلاً فتعترضه الصخور حتى لا يجد عنها محيداً- أن الضرورة تقضي عليه أن يجهد في نزعها وإماطتها ثم لا يكون جهده في ذلك إلا كتماديه في السير.
أيها الإخوان: إن جمعيتكم تغتبط كل الاغتباط بهذه النتائج التي حصلت عليها في خلال سنتين من عمرها مع ما تخللها من العراقيل والمثبطات وهي تحمد الله على ما وفق إليه وأعان عليه وتشكر الأمة الجزائرية المسلمة على ما بذلت من تنشيط ومساعدة وتعد أكبر مساعدة قدمتها الأمة للجمعية هي عرفانها للحق الذي تدعو إليه- ونسأل الله
__________
(1) في الأصل: لتك
(2) في الأصل: ائبات(3/526)
الهداية لكل من ضل عن الحق، وأن جمعيتكم سائرة في عملها وهي تستقبل سنتها الثالثة بما ختمت به ما قبلها من دعوة إلى العلم الصحيح والدين الخالص راجية أن يكون يومها خيراً من أسمها وغدها خيراً من يومها.
أيها الإخوان:
كثر حديث الناس عن جمعيتكم المباركة وكثر خوض الخائضين فيها مدحا وقدحا، وأن كثرة التحدث عن الشيء لعنوان صادق على الاهتمام به وأن الاهتمام به لآية على إكباره وإعظامه أو- في الأقل- على كبره في نفسه وعظمه في الواقع.
...
كثر الحديث عن هذه الجمعية واختلفت منازع المتكلمين فيها وأن جمعية كهذه الجمعية في أمة كهذه الأمة في وطن كالوطن الجزائري لحقيقة بالتنازع فيها واختلاف المنازع في شأنها، وقد اختلفت فيها الأنظار يوم تأسيسها فهي في نظر البعض شيء غريب، وفي نظر البعض شيء مريب، وفي نظر البعض شيء حسن ولكن أوانه غير قريب.
فأما الذين استغربوها فهم طائفة من السذج يقيسون الحقيقة الإنسانية بوجودهم ويقيسون التاريخ الإنساني بأعمارهم ويقيسون أسرار الاجتماع الإنساني ببيت تجمع زوجاً وزوجة وأولاداً يفرقهم الصباح للكد على القوت ويجمعهم المساء للنوم تحت السقف. فأي نقطة في الحياة عند هؤلاء تحتاج إلى مظاهر الحشد والاجتماع وضم رأى لرأي، وبهذا القياس يقيسون الدِّين فهو عندهم إسم متعارف بين المسلمين وصلاة مفروضة تؤدى أو لا تؤدى وانتساب إلى الإسلام يجري مجرى القانونيات في زمننا هذا والاعتقاد بجنة ونار من وسائلهما الأمل ولو بلا عمل فأية نقطة في الدين تحتاج إلى شيء اسمه جمعية العلماء المسلمين.(3/527)
ومن عجائب صنع الله لهذه الجمعية أن كل واحد من هذه الطائفة الساذجة قدر له أن يحضر درسا أو يسمع محاضرة يصبح بفضل الله مسلما اجتماعيا يعرف حقيقة الإسلام ويدرك المنزلة التي أرادها له الإسلام.
وأما المرتابون فهم طوائف شتى تجمعهم صفة واحدة وهي اعتقاد أن هذه الجمعية تعارض مصالحهم أو فيها ما يعارض مصالحهم وقد كشفت الخطوة الأولى لهذه الجمعية عن مقاصدهم وكشفت لهم عما كانوا يرتابون فيه وأخرجتهم من الارتياب إلى التحقيق فكان منهم ما رأيتموه من السخط عليها والكيد لها ولو أنصفوا لجمع الحق بيننا ولكن الإنصاف قليل. وإذا كان في أنصار هذه الجمعية من يضيق ذرعه بهؤلاء الكائدين الساخطين، ويرى أن ظهورهم بما ظهروا به يعرقل سير الجمعية ويبطىء بها عن الوصول إلى الكمال، فإننا نرى عكس هذا الرأي نرى أن وجود هؤلاء الساخطين الكائدين هو جزء متمم للجمعية، وأن سخط الساخط عليها كرضى الراضي، كلاهما تثبيت للجمعية، وأن ذلك كله تدافع يظهر الله به الحق ويثبت قلوب أنصاره.
وأما الطائفة الثالثة فهي طائفة قويٌّ اشفاقها على هذه الأمة ورحمتها بها ورأت أن عوامل الانحطاط فيها قوية، وقد أراها الله من هذه الجمعية كيف يسرع لطف الله إلى قلوب الخائفين وكيف تقرب رحمته من المحسنين فقوي رجاؤها وثبت يقينها ودخلت في العمل الصالح عن إيمان وبصيرة. وهذه الطائفة هي أكثرية الأمة وهي التي تمثلونها أنتم أكثر الله عددكم وثبتكم على الحق وأحيانا وإياكم عليه حتى نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين آمنين يا رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 10، م 9، ص 387 - 393 غرة جمادى الأولى 1352ه - سبتمبر 1933م.(3/528)
خطبة منبرية
سر الضحية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الواحد الأحد في ربوبيته وألوهيته، مبتديء الخلق برحمته الداعي إليه بنعمته وحجته، شرع الشرائع بالحكمة والعدل لسعادة الإنسان، وأودعها أسراراً وفوائد يعظم منها النفع ويزداد بها الإيمان.
وأرسل إلينا محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن آية بينة، وحجته (1) باقية، وهداية شاملة، وعلمه ما لم يعلم وكان فضله عليه عظيماً.
وأيده بروح منه حتى أدَّى الرسالة، وبلغ الأمانة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأبقى لنا من بعده كتاب الله وسنته هداية للمهتدين وتذكرة للذاكرين وتبصرة للناظرين.
ووفقنا إلى تلبية دعوته، واتباع شريعته، والتزام سنته. لا غلو الغالين- إن شاء الله- ولا تقصير المقصرين.
فالحمد لله على جميع نعمه وعلى هذه النعمة، والصلاة والسلام على جميع رسله، وعلى إمامهم وخاتمهم محمد رسول الرحمة، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا يوم الحج الأكبر، والموسم الأشهر، جعله الله عيداً للمسلمين وشرع فيه ما شرع من شعائر الدين، تزكية للنفوس وتبصرة
__________
(1) كذا في الأصل والصواب حجة.(3/529)
للعقول، وتحسيناً للأعمال، وتذكيراً بعهد إمام الموحدين وشيخ الأنبياء والمرسلين، إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين.
فقد كسر الأصنام وحارب الوثنية وحاجَّ قومه وما كانوا يدعون من دون الله، وقام يدعو ربه وحده طارحا ما سواه، وحاج الملك الجبار حتى بهت الذي كفر، وقذفوا به في النار، فما بالى بهم ولا بها وثبت وصبر، حتى نجاه الله وجعل الذين أرادوا به كيداً هم الأخسرين.
وأوحى الله إليه بذبح ابنه فامتثل، واستشار ابنه إسماعيل فأجاب وقبل، فطرحه للذبح وأسلما لله في القصد والعمل، ففداه الله بذبح عظيم، وترك عليه في الآخرين سلام على إبراهيم، وأبقى سنة الضحية في الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية، تذكاراً بهذا العمل العظيم، والإسلام الصادق لرب العالين، ليتعلم المسلمون التضحية لله بالنفس والنفيس، وليعلموا أن المسلم من صدق قوله فعله، ومن إذا جاء أمر الله كان لله كله.
فتدبروا أيها المسلمون في هذا السر العظيم ومرنوا أنفسكم على التضحية في كل وقت في سبيل الخير العام بما تستطيعون ولا تقطعوا عن التضحية ولو ببذل القليل، حتى تصير التضحية خلقا فيكم في كل حين واجعلوا قصة هذا النبي الجليل نصب أعينكم، وتدبروا دائما ما قصه الله منها في القرآن العظيم عليكم، وأحيوا هذه السنة ما استطعتم، وأسلموا لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ(3/530)
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
طلب منا كثير من إخواننا خطبة لعيد الأضحى ليخطبوا بها فلعل هذه الخطبة تقبل لديهم فيخطبون بها على الناس.
(ابن باديس)
__________
(1) ش: ج 4، م 10، ص 139 - 141 غرة ذي الحجة 1352ه الموافق لمارس 1934م.(3/531)
ذكرى الشاعرين:
شوقي وحافظ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في شوال من السنة الماضية شاركت الأمة الجزائرية الأمم العربيهّ في الاحتفال بذكرى شاعري العربية العظيمين وتألفت لذلك لجنة من الأدباء بالعاصمة وأقامت حفلة حافلة بنادي الترقي ألقيت فيها الخطب وأنشدت القصائد وتواردت فيها برقيات المشاركة من جميع نواحي القطر، وقد نشرت الصحافة خبر هذه الحفلة في وقتها واليوم رأينا أن ننشر في "الشهاب" ما اتصلنا به مما قيل في تلك الليلة، فيكون كإحياء الذكرى مرة أخرى.
((خطبة صاحب هذه المجلة)) (1)
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
أيها الإاخوان:
إذا كانت الأمم اللاتينية- على ما بينها من تزاحم وتخاصم وتقاتل وتناحر- ترتبط برابطة اللاتينية وتتفاخر بثقافتها، وتعقد المجتمعات العظيمة لتقوية روحها وتمتين حبل التمسك بها، فنحن- أبناء العربية- وليس بيننا شيء من تلك المفرقات بل ما بيننا إلا ما يقرب بعضنا من بعض من المؤلفات والمحزنات، أحق بأن نفعل مثلهم وأكثر منهم في لغتنا العربية.
وفوق هذا فإن اللغة اللاتينية ليست لغة العلم والأدب المشتركة
__________
(1) ابن باديس والمجلة هي الشهاب.(3/532)
ما بينهم مثل العربية التي هي (1) العلم والأدب ما بين سبعين مليونا من أبناء الضاد. وليست اللاتينية قريبة من عامياتهم مثل قرب العربية الفصحى من عاميتنا. حتى أنه لو قام خطيب يخطب باللاتينية لما وجد من يفهمه إلا قليلا من أهل القلم منهم، ونحن نلقي دروسنا ومحاضراتنا وأكثر خطبنا بالعربية الفصحى فلا يبقى على بعض السامعين إلا قليل من القول.
فإذا كانت العناية باللاتينية من واجب خاصتهم، فإن العناية بالعربية من واجبنا عامة وخاصة إذ هي لغتنا أجمعين وإذا كان تمسكهم برابطتهم اللاتينية لم يخرج أي واحد منهم عن وضعيته الاجتماعية الخاصة، فإن تمسكنا بهذه الرابطة العربية لا يخرجنا عن وضعيتنا الخاصة وما لنا من ارتباطات أخرى يرتبط بها المجتمع الجزائري!
أيها السادة:
إن من حقنا ومن الواجب علينا- نحن معاشر المسلمين الجزائريين- الذين تشربت عروقنا هذه اللغة الكريمة من معين قوميتنا الشريفة وتغذت أرواحنا من بيانها العذب بالشربي (3) المصفى، من ديننا العظيم، واستنارت عقولنا من شمسها المضيئة بالأنوار الساطعة من تاريخنا الجليل، من حقنا الواجب علينا أن نكرم العربية. ومن يكرم العربية وخصوصا من خدم العربية بعقله وروحه وحياته مثل شاعرينا الكريمين؟ ومن حقنا- أيضا- أن نرتبط بأبناء العربية ارتباط القلب واللسان، ارتباط العقل والتفكير، ارتباط الشعور والتقدير خصوصا عندما يتحرر الشعور العام لأمر هام وتتوجه القلوبه العربية لتكريم عظيم، أو إحياء ذكرى عزيز مثل احتفالنا هذا مع العالم العربي لتكريم الشاعرين العظيمين وإحياء ذكراهما العزيزة الخالدة.
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: التي هي لغة العلم.
(2) هذه كلمة غير واضحة.(3/533)
أيها السادة:
إننا باحتمالنا هذا بذكرى شاعرَي العربية العظيمين شوقي وحافظ، نكرم سبعين مليوناً من أبناء العربية الذين يعدون العربية لغتهم القومية. ونكرم خمسمائة مليون من أبناء الإسلام الذين يعدونها لغتهم الدينية ونكرم الأمم المتمدنة جمعاء التي يعترف أكابر علمائها المنصفين بمزية اللغة العربية التاريخية على العلم والمدنية.
أيها الإخوان:
ليس الشاعران الخالدان بالمحتاجين للتعريف بهما. ولست بالباحث الأديب الذي يستطيع أن يعرض عليكم في بلاغة وإيجاز صوراً (1) فتانة من أدبهما. غير أنني ربما أستطيع أن أقول شيئا من وجوه العبرة والقدوة في حياتهما، ووجوه من النعمة العظيمة من الله تعالى على العربية بهما:
قد اتحد الشاعران في الموطن وتقاربا في المولد والوفاة ولكنهما تباينا في البيئة والنشأة والمعيشة، فنشأ شوقي في بيت الأمارة، وفي بيئنه الخاصة، وعاش عيشة الترف والنعمة، ونشأ حافط في بيت أبيه، وفي بيئة عامة، وعاش عيشة البؤس والشدة. فكان من نعمة الله أن قسمت الحياة بينهما هذا التقسيم ليؤدي كل منهما للعربية رسالته من ناحيته ومؤثراتها الخاصة به.
فلقد أخرجت بيت الأمارة المرتبطة بالخلافة من شوقي، شاعر الإسلام والعرب والأحداث الإسلامية الكبرى والتاريخ الإسلامي العام وتاريخ العرب. وأخرجت البيئة العامة الرازحة تحت نير الظلم والمتجرعة لألوان الشقاء، والمتقلبة في دركات الانحطاط من حافظ
__________
(1) في الأصل: صور.(3/534)
شاعر الأخلاق والاجتماع والوطنية ولا غناء لواحد من العرب عما جاء به كل واحد من الشاعرين في ناحيته. ولو لم يخلق الله إلا أحدهما لما تمت النعمة من الناحيتين.
كانت العربية القرآنية قد تنوسيت أساليبها وانقطع سند الأمة العربية عنها فجدد الشاعران من شبابها، وأعادا من بيانها، ما حسب الناس أنه مات مع الأيام الزاهرة للعرب بالمشرق والمغرب.
حسب قوم أن العربية لا تتسع لما جدَّ من المعاني إلا إذا خلعت عنها ثوب القرآن، ولبست- مثلهم- منسوجات "لانكشير" وأخوات "لانكشير"، فجاء الشاعران- خصوصا شوقي في العقد الأخير من عمره، من قصائدهما العصرية المعاني القرآنية اللغة والأسلوب والتراكيب- بأوضح الرد وأبلغ التكذيب.
عاش الشاعران كل على ما قسم له من الحياة حتى جاءت العرب العالمية الكبرى ووضعت أوزارها فإذا بشوقي يخرج إلى العالم من قفص دار الامارة، وإذا بحافط يدخله بؤسه إلى قفص الوظيف في دار الكتب المصرية.
فماذا كان من الشاعرين العظيمين بعد؟
كان منهما ما يجب أن تكون فيه أبلغ العبرة، فإن شوقي اتسعت شاعريته العالمية، وقويت نزعته الوطنية، وأما حافط فقد سكت، سكت إلا عن قليل كان أكثره رثاء! ولعمر الحق ما اسكته إلا الوظيف الذي ينسى به الشرقي- حتى مثل حافظ ويا للأسف- نفسه، وأمته، وملته، إلا ما شاء الله.
أيها الإخوان:
إن مما نفع شوقي اطلاعه على آداب أمم أخرى في لغة أوروبية(3/535)
هي الفرنسية وأن مما نفع حافظا ما مسه من الألم مع قومه. وقد كان يطالع "الاغاني" و"العقد الفريد" ويعيد مطالعتهما المرة بعد المرة، فعلى أدباء الجزائر وشعرائها أن يدرسوا آدابهم العربية، وأن يطالعوا الآداب الغربية في اللغة الفرنسية وأن يمازجوا قومهم ليألموا وينعموا - إن كان نعيم- معهم، لتكون لهم منزلة أدبية عالمية، وآثار بارزة في الحياة الجزائرية.
أيها الإخوان:
إن حياة الشاعرين العظيمين قد اخمدت نوابغ وأماتت قرائح وإن موتهما بما نشاهد من تكريم العالم العربي لهما ستحيي ملكات، وتبعث همما، فكونوا- وأنتم أنتم- في أول الرعيل.
أيها الإخوان:
ليس للجزائر من حافظ إلا ما للأوطان العربية الأخرى من شعره وأدبه وفنون قوله، أما شوقي فقد قدر له أن يزور هذه الجزائر في شبابه وينزل بعاصمتها أربعين يوما للاستشفاء، ويقول عنها، "ولا عيب فيها سوى أنها قد مسخت مسخا، فقد عهدت مساح الأحذية فيها يستنكف النطق بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلا بالفرنسوية". فاعجبوا للاستدلال على حالة أمة بمساح الأحذية منها! ولا يجمل بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا، إلا أن فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر، ولعلم أن الأمة التي صبغها الإسلام، وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب، وهي أمة التاريخ، وأنبتتها (1) الجزائر، وهي العاتية على الرومان والفاندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام، ونوائب الأيام.
__________
(1) في الأصل: وأثبتتها.(3/536)
أيها الإخوان:
باسمي الضئيل، وباسم الجزائر الكبير، وباسم جمعكم الكريم، أرفع التحيات الزكية للفقيدين الخالدين في مرقدههما ولجميع العاملين لإحياء العربية وأدبها من بعدهما.
فليعش العرب، ولتعش العربية، وليعش المحبون لهما من الناس أجمعين (1) و (2).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) حررت وألقيت ليلة 27 من شوال 1351ه بنادي الترقي بالعاصمة (المؤلف).
(2) ش: ج 4، م 10، ص 142 - 146 غرة ذي الحجة 1352ه - مارس 1934م.(3/537)
خطاب رئيس الجمعية
الذي ألقي في صباح اليوم الأول من أيام اجتماعها العام
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله العليم الحكيم، رب البرية، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء بالتعلم والتعليم، لتكميل البشرية، وعلى آله وصحبه ذوي العقل الصحيح والخلق الكريم، والنفوس الأبية، وعلى التابعين لهم في هديهم الصالح وطريقهم المستقيم وسيرتهم الرضية.
أما بعد، فباسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تمثل الجزائر المسلمة العالمة والمتعلمة، أرحب بكم أيها الأخوان وأحيي وفودكم الكريمة، وأشكر لكم ما تحملتم من تعب وانفقتم من مال حتى حضرتم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون مهابة وجلالا، والقلوب محبة وسرورا، وأعطى من الجزائر صورة صادقة في جمعكم الحافل الكريم.
وأشكر معكم في ذلك الترحيب وذلك الشكر وتلك التحية الإخوان الكثيرين الذين تخلفوا واعتذروا بالبرقيات والكتب التي تلاها عليكم الأخ الكاتب العام آنفا.
ولا أفي بالشكر والتحية تلك النفوس الطاهرة، التي تحب الجمعية وتتعلق بالجمعية من العامة الأمية الكثيرة، التي شاهدت وشاهد غيري من رجال الجمعية جموعها الحاشدة في جميع القرى والمداشر عندما نرد عليها أو نقف فيها للوعظ والإرشاد. ولولا الفقر والأمية قعدا بها لكانت حضرت أو كاتبت واعتذرت.
أيها الأخوان، ها هي السنة الثالثة للجمعية قد مضت فماذا عملت(3/538)
[صورة: أخذت أثناء خطبة الرئيس فى المأدبة التي أقامتها جماعة نادي الترقى لأعضاء جمعيه العلماء المسلمين الجزائريين]
...
الجمعية فيها وأين بلغ أثرها، وماذا لقيت فيها الجمعية من الله تعالى ومن الناس.
نشرت الجمعية صحيفة السنة، فصحيفة الشريعة فصحيفة الصراط فلقيت كلها من الأمة من الإقبال والرواج ما لم تلقه صحيفة قبلها، وما أحبها المؤمنون حتى أحبها الله، ولا يوضع الحب في الأرض حتى يوضع في السماء، ولكنها لقيت من ناحية إدارية خاصة البغض والتنكر والاضطهاد فسقطت الصحيفة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، وقرن تعطيل الثالثة بمنع الجمعية من إصدار أي صحيفة منعا سيبقى لطخة سوداء في جبين حرية القول والتفكير في تاريخ الصحافة في القرن(3/539)
العشرين الذي يسمونه عصر الحرية والنور.
عزمت الجمعية على إرسال الوفود إلى الجهات من أول السنة ولكنها رأت لما أرادت أن تباشر ذلك ما كانت عليه الأمة من استياء واضطراب بما أصابها من ناحية المطالبة بحقوقها وإخفاق مساعيها فرأت الجمعية أن تتريث وأن تنتظر رجوع السكون والحالة الاعتيادية تباعدا عن كل ما ليس من خطتها وتفاديا من أن ترمى- وهي التي طالما رميت بالباطل- بما يخالف أعمالها ومقاصدها. واكتفت بما كان يقوم به كل ذي علم من رجالها من نشر الهداية في ناحيته وفي آخر السنة تنقل رئيس الجمعية في بلدان من عمالة قسنطينة ونائب الرئيس في بلدان
...
[صورة: أخرى لمأدبة العشاء التي أقامتها جماعة نادي الترقي لأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وقد أخذت الصورة من الناحية المقابلة](3/540)
[صورة: الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي عقد بنادي الترقى سنة 1353ه - 1934م. وقد أخذت بعد انتخاب مجلس الإدارة]
...
من عمالة وهران فكان إقبال الناس بقدر ما كانوا فيه من تعطش للعلم وشوق لأهه.
أما الاعتناء بالتعليم فهذا هو الذي انقطعت إليه الجمعية وقامت به قيامها ففي قسنطينة وفي ميلة وفي الميلية وفي جيجل وفي بجاية وفي بسكرة وفي تبسة وفي بلدة الجزائر وفي بني ورتلاب وبني يعلى وفي تلمسان وفي غيرها في كثير من البلدان تجد رجال مجلس إدارة الجمعية وغيرهم من ذوي العالمية يقضون ليلهم ونهارهم في الدروس العلمية الفقهية والدروس العلمية الإرشادية وتلقين مبادئ الدين واللغة لمن استطاعوا(3/541)
إليه سبيلا من النشء الصغير ولو أن التعليم كان حرا ولو أن الرخص كانت تعطى لمن يطلبها لكان التعليم اليوم قد عم القطر كله.
فأثر الجمعية العلمي والإرشادي قد بلغ من الأمة هذه السنة بحمد الله- رغم العراقيل- فوق ما كانت الجمعية تظن وتتوقع فكان إقبال الطلبة على مناهل العلم كثيرا وكان اهتداء الأمة عظيما.
نعم لقد لقيت الجمعية في سبيل ذلك ما لقيت فقد تضافرت قوى على مقاومتها، وصنعت بأيد خفية أشباح- كأشباح "القنيول" ولكنها من العجين- لمعاكستها وأنفقت أموالا لصدها والصرف عنها ولكن ما أتى العام ولا أكثر العام- أيها الإخوان- حتى انتكثت تلك القوى وانتفض غزلها، وزالت تلك الأشباح فلا هي ولا خيالها ولا
...
[صورة: أخذت هذه الصورة في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي عقد بنادي الترقي. سنة 1353ه - 1934م](3/542)
[صورة: أخذت هذه الصورة في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الذي عقد بنادي الترقي سنة 1353ه - 1934م.
الجالسون من اليمين الشيوخ: عبد القادر بن زيان، العربى التبسي، الأمين العمودي، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، مبارك الميلي، الطيب العقبي
الواقفون من اليمين الشيوخ السعيد الزاهري، محمد خير الدين، يحيى حمودي، أبو اليقظة.
...
من كان يحركها وضاعت تلك الأموال وكانت حسرة وغلبا على أصحابها.
ووالله إنني لأعتقد أن هذا ليس من صنعنا، ولا مما كنا نبلغ إليه لكل ما نبذل من جهدنا، ولكنه من صنع الله ومن غلب الله، ليزداد الذين آمنوا إيمانا وليعلم الناس أن الله ناصر من ينصره وأن حزبه(3/543)
هم الغالبون وليعلم كل ذي موسى ان موسى الله أحد، وكل ذي ساعد أن ساعد الله أشد وكل متريب ومتكبر أن لا إله إلا الله والله أكبر.
أيها الأخوان:
هذه حالة الجمعية في سنتها الثالثة عرضتها باختصار عليكم.
وهي في يومها الحاضر كما كانت في ماضيها وكما تكون إن شاء الله في مستقبلها سائرة في خطتها الإصلاحية الدينية العلمية المحضة تنشر العلم والفضيلة وتحارب الجهل والرذيلة عن نور القرآن العظيم والسنة النبوية، وهدي السلف الصالح من الأمة، تخدم بذلك الإسلام والمسلمين وجميع المساكين بالجزائر، وتؤدي بذلك واجبها نحو الإنسانية جمعاء.
والله نسأل دوام التوفيق في القصد والعمل والوصول إلى الخير العميم، على الصِّراط المستقيم.
عبد الجميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 9، م 10، ص 377 - 379 غرة جمادى الأولى 1353ه - 12 أوت 1934م.(3/544)
خطاب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الذي ألقاه في الاجتماع العام
بمركز الجمعية بنادي الترقي بالعاصمة
يوم الأحد 11 رجب 1355ه و27 سبتامبر 1936م.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيا أيها الوفود الكرام قدمتم خير مقدم. جمعتكم عقيدة الحق والخير، وقادتكم فكرة الواجب وساقكم شوق النفوس الزكية إلى مشاهد الفضل، ومواقف المجد، ومطارح العمل الصالح الذي يرضي وينفع المخلوق فجئتم من أطراف القطر معتزين بالإسلام ممثلين للجزائر مكرمين للعلم، كل ذلك بحضوركم اجتماع جمعيتكم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فحياكم الإسلام الذي حفظتموه فحفظكم، وحيتكم الجزائر التي تأبون إلا أن تكونوا أبناءها وتأبى إلا أن تكون - بحق- أمًّا لكم، وحياكم العلم الذي هو أساس سعادتكم بإسلامكم وجزائريتكم، وحياكم الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية من عند الله مباركة طيبة والله أكبر ..
أيها الإخوة:
خمس سنوات قطعناها معلنين بدعوة الجمعية سائرين إلى غايتها فما جمجمنا يوما بتلك الدعوة، ولا حدنا مرة عن ذلك القصد، فأغنى الناس بيان دعوتهم وإيضاح وجهتهم هم رجال هذه الجمعية لكن الشمس في رابعة النهار قد يخفى في بعض الجهات جرمها ويجهل- إلا(3/545)
عند القليل- مكانها إذا تراكمت السحب، وهزم الرعد وكاد البرق يخطف الأبصار فلا عجب أن تخفى حقيقة هذه الجمعية في بعض الأحيان على بعض الناس عندما أظلم الجو بسحب الباطل والتجأت طوائف من الناس إلى تبادل رعود الوعيد وبروق الوعود. وإذ كنا في فترة من الزمن هي على هذه الحال فأرى من الواجب أن أحدثكم عن غاية الجمعية ودعوتها وإن كنتم بها جد عالمين ليعلمها من كان بها جاهلا ويقمع من كان عليها من الكاذبين.
غاية الجمعية:
أرأيتم- أيها الأخوان- الزرع كيف ينبت ويخضر ويورق ويسنبل فيؤتي أكله، وقد تصيبه آفة وهو حب في الأرض فلا ينبت، وقد تصيبه وقد نبت فلا يورق ولا يسنبل وقد تصيبه وقد سنبل فلا تجنى منه حبة! والناس كالنبت معرضون في حياتهم إلى عدة آفات، يكادون لا يسلمون منها، فمنها ما يصيب العقول، ومنها ما يصيب الأبدان، ومنها ما يصيب الأموال، ومنها ما يعم ذلك كله، ولا يسلم المجتمع البشري إلا بمحاربة هذه الآفات كلها- وذلك نص الفصل الرابع من قانونها الأساسي الذي يقول: "القصد من هذه الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والفجور، فكل ما يفسد على الناس عقولهم أو يضيع عليهم أموالهم فهو من الآفات. ولهذا حاربت الجهل والجمود والدجل والخرافة وكل أنواع الأباطيل، وحاربت كل واقف في طريق التعلم والتعليم أي نوع من أنواع التعلم والتعليم، وحاربت "الزردات والوعدات والفدوات" وبدعة المآتم ومنكرات الولائم وكل وجوه السرف وأكل أموال الناس بالباطل، وحاربت أثرة ذوي المال بما جعلهم الله مستخلفين فيه، وقعودهم عن تأسيس المشاريع الاقتصادية وقبض أيديهم عن المشاريع العلمية والخيرية لأن ذلك من أسباب البطالة والفجور.(3/546)
ثمرة هذه الغاية:
هي سلامة المسلمين من تلك الآفات وأمثالها حتى يمكنهم أن يترقوا في جميع نواحي الحياة إلى أقصى ما تترقى إليه الأمم، فيكونوا محترمين من أنفسهم ومن غيرهم يفيدون ويستفيدون ويعرفون كيف يسوسون وكيف يساسون فتربح بهم الإنسانية عضوا من خير من عرفت من أعضائها.
دعوة الجمعية:
أيها الإخوة هذا العالم عالم الكون والفساد فكل كائن فيه هو معرض للخروج عن حالته الأصلية واختلال أصل نظامه، وتلك هي حالة الفساد، وإرجاعه إلى حالته الأصلية هو الإصلاح فالمسلمون اليوم بما دانوا به من عقائد الإسلام وفضائله وأعماله ونظمه على خير لكنهم خرجوا عن أكثر ما دانوا به فكانوا بذلك الخروج في حالة فساد فلا بد من إصلاحهم بإرجاعهم إلى ما خرجوا عنه، والجمعية تدعو إلى هذا الإصلاح فدعوتها إصلاحية محضة، وقد صرح بهذه الدعوة الفصل الثامن من قانونها.
ثمرة هذه الدعوة:
هي رجوع المسلمين إلى عقائد الإسلام المبنية على العلم، وفضائله المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان، ونظمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله.
ما حصلنا من الثمرتين:
أيها الإخوة ما بين تلك الآفات وأنصارها وبين خصوم هذه(3/547)
الدعوة وعوارضها، ثبتت الجمعية ثبوت الجبال، وتتسع دائرتها في كل يوم، ويكيد أعداؤها لها ليصرفوا عنها، فيزداد التمسك بها ويكثر الالتفاف حولها، إن هذا أيها الأخوة لدليل عملي على نجاح دعوتها الصادقة ودنوها من غايتها الشريفة الواضحة ومتى كانت جمعية تلقى ما لقيته هذه الجمعية وتبقى بقاء هذه الجمعية لولا عقائد صحت، وأخلاق متنت وأفكار استنارت فأثمرت كلها العمل الصالح والصبر والثبات وكان اجتماعكم هذا في ختام هذه السنة وعلى أثر مرير حوادثها وشنيع كوارثها عنوان ذلك كله في الأمة ومبين مقدار ما جنت الجمعية من ثمار غايتها ودعوتها وأنه- والحمد لله- لكثير في هذا الزمن الصعب القصير فلنسر ولنرج من الله المزيد.
الجمعية وأنواع من يتصل بها:
تتصل الجمعية بنواح عدة مما يقضي به عملها ويستدعيه مركزها وتقتضيه سنن الاجتماع، فتسير مع كل ناحية بما تقتضيه خطة الجمعية وما يناسب غايتها ودعوتها، وسنذكر مواقف الجمعية مع كل ناحية منها ليكون كل أحدعلى علم بها.
الجمعية والأمة:
إذا كانت الجمعية بلغت- بتوفيق الله- إلى شيء من غايتها فذلك لأنها أتت هداية الأمة من بابها فخاطبتها بلسانها وقادتها بدينها الذي هو زمام روحها والجزء الأعظم الذي تتكون منه، وتحيا به شخصيتها، فعالجتها بالكتاب والسنة، وهدى صالح سلف الأمة حيث يتوجه كل مسلم منشرح الصدر مطمئن النفس، وحيث تنضوي كل المذاهب والفرق فيقل الخلاف أو يخف أو ينعدم، فلو كان في الجزائر جميع مذاهب الإسلام لوسعتهم هذه الجمعية بعلاجها الناجع النافع- بإذن الله- للجميع.(3/548)
الجمعية وأهل الطرق:
ها هو القانون الأساسي للجمعية كما وضع أول مرة منذ خمس سنوات وقد كان الذين وضعوه شطرهم مع الطرقيين، ولكنهم ما أكملوا السنة الأولى حتى فروا من الجمعية وناصبوها العداء واستعانوا عليها بالظلمة ورموها بالعظائم وجلبوا عليها من كل ناحية بكل ما كان عندهم من كيد، ذلك لأنهم وجدوا كثيراً من الآفات الاجتماعية التي تحاربها الجمعية هم مصدرها وهي مصدر عيشهم، ووجدوا قسماً منها مما تغضب محاربته سادتهم ومواليهم وقد شاهدوا مظاهر الغضب بالفعل منهم فما رفضتهم الجمعية ولا أبعدتهم ولكنهم هم أبعدوا أنفسهم، وكانوا والجمعية كما قال كثير:
وكنا سلكنا في صعود من الهوى … فلما توافينا ثبت وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا … فلما تواثقنا شددت وحلت
{ ... فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
الجمعية والحكومة:
لقد لقيت هذه الجمعية الإصلاحية من الحكومة العنت والبلاء ولم تبال في سبيل إرهاق الجمعية بكرامة المسلمين في دينهم وحرمة مساجدهم فأوصدت المساجد في وجوه العلماء وشحَّت برخص التعليم العربي القرآني وأعملت أصابعها في شؤون المساجد ورجالها والجمعيات الدينية وإعطائها بواسطة من لا يدينون بالإسلام ولا يشعرون شعوره ولا تهمهم مصلحته مما لا نعرف له نظيراً في أمة من الأمم وصورت رجال الجمعية بصورة الأعداء لتبعد عنهم كل من يعيش معها أو يرجو مصلحة لديها، كل ذلك والجمعية تصبر على البلاء وترد بأعمالها وأقوالها كل افتراء وتوالي الاحتجاجات على تكرر السكوت والإعراض ...(3/549)
هكذا كانت الحكومة وهكذا ما زالت في الجزائر إلى اليوم، ولكننا نرجو أن تنجلي هذه البلايا في عهد الحكومة الشعبية إذا صدق عزمها صدقت نيتها في إعطاء الجزائر حقوقها. وأن ثقتنا التي كنا منحناها في كل مثل اجتماعنا هذا، من السنة الماضية، لفرط حسن ظننا فيه، وانتظرناه، حتى خاب ذلك الظن- لنمنحها اليوم للحكومة الشعبية وأحزابها مستنجزين وعودها منتظرين فاتحة سنتها آملين أن لا يخيب ظننا هذه المرة وإذا خاب ظننا- لا قدر الله- فنحن عباد الله والله أكبر.
الجمعية والأحزاب:
إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي حياته لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مباديء الإسلام، فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة فليس للجمعية إذاً من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر والبلوغ بها- إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال.
وإلى هذا فنحن نشكر ونعترف بالجميل لكل من يؤيدنا في سيرنا نصرة للمظلوم ومقاومة للجبروت، وخدمة للإنسانية في جميع أجناسها.
الجمعية والمؤتمر الإسلامي الجزائري العام:
مطالب الأمة الجزائرية كانت معروفة قبل اليوم وقد قدمت للحكومات المتعددة غير ما مرة وكان منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكان من أولها محافظة الأمة على شخصيتها ولسانها وديانتها وقد كانت الأمة تخشى دائما أن تمس في شخصيتها وأن يتساهل بعض المتساهلين فيها، فلما جاء المؤتمر كان العلماء أحد عناصره لما فيه من تقديم المطالب الاجتماعية والاقتصادية لتطمئن الأمة على شخصيتها(3/550)
ولتظهر الأمة مقدار اهتمامها بدينها ولغتها وما ترجوه من الحرية فيهما ولتعلم الحكومة أن مطالب الجمعية هي مطالب الأمة كلها الممثلة في مؤتمرها وقد قامت الجمعية بواجبها كعضو في مؤتمر وستبقى إن شاء الله على تأييده ورد كل عادية عنه.
الجمعية وخصومها:
يالله ما أكثر خصوم هذه الجمعية، غير أنهم، بحمد الله كثيرون في العد، قليلون في الحسب العد، وهم على تفاهتهم في خصومتها يختلفون فيما خاصموها لأجله، فمنهم الظالم الذي خاف على سيطرته ومنهم المتريب بنفسه وبأصله الذي خاف على (خبزته) ومنهم المتشبع لما لم يعط فهو يخاف من افتضاح حقيقته. وقد حاربوها بأنواع السلاح وأصناف المكائد حتى انتهى بهم الأمر إلى تدبير حادثة الاغتيال والاعتقال. والجمعية- بحمد الله- ثابتة لهم صابرة لامتحان الله بهم. وقد عودها الله عاقبة الصابرين ورد عنها كيد الظالمين، والحمد لله رب العالين.
إخواني إني أحييكم وأحيي جميع إخوانكم الذين خلفهم العذر.
ثم أسكب عبرة الأسى على ما تلقاه أرض القدس الشريف من عسف الاستعمار الغاشم الذي فرق بين الإخوة الذين عاشوا في هناء وصفاء منذ قرون كما لطخ تاريخهم من هذه الفعلة بكل نقيصة مخزية ومردية، ولطخ تلك الرحاب المقدسة بالدماء البربئة، فبلسانكم ولسان الجزائر كلها من الأجنة في بطون الأمهات إلى الذين في الأجداث أرفع الشكوى إلى الله ثم الاحتجاج إلى كل من فيهم إنسانية من جميع الأمم (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 8، م 12، ص 352 - 358 غرة شعبان 1355ه - نوفمبر 1936م.(3/551)
خطبة رئيس الجمعية
التي ارتجلها في الاجتماع العام بعد تجديد مكتب الإدارة
والفضل للأستاذ العقبي في كتابتها
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد للة معطي الفلج لباذلي المهج، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله الذي جاءنا بها حنيفية سمحة لا إصر فيها ولا حرج وعلى آلة الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه فرسان الرهج، الذين أقاموا بالحق كل عوج، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين عدد من دب ودرج، أما بعد:
فيا أيها الإخوان إنني بلسان إخوانكم أعضاء المجلس الإداري لجمعيتكم أقدم لكم الشكر على ما بذلتموه في هذا المجلس من ثقة، وبلسانهم أعدكم أنهم يسيرون بالجمعية في مستقبلها كما ساروا بها في ماضيها وإن كنا نسأل الله أن يكون هذا المستقبل أحسن من الماضي. فلقد سار إخوانكم بهذه الجمعية في سنواتها في أهوال أي أهوال؟ حتى انتهوا بها في اجتماعكم هذا سالمة من كل كيد، محصلة على السمعة الحسنة والزيد كل الزيد، وهذا ما جعلكم تبذلون لها ثقتكم لأنكم تقدرون الرجال بأعمالهم وليس هذا لعمر الحق بالعجيب من أمثالكم الذين لا يراعون إلا الحق ولا يخافون إلا الله، ولا يطمعون إلا فيما عنده.
وأعضاء المجلس الإداري الذين انتخبتموهم وقد عرفتموهم قد أبقوا هيأتهم الإدارية على ما كانت عليه من الرئاسة ونيابة الرئاسة والكتابة وأمانة المال والرقابة. وكذلك لجنة العمل الدائمة بقيت كما هي: الرئيس (الشيخ أبو يعلى الزواوي) والكاتب (الشيخ الرشيد(3/552)
بطحوش) وأمين المال (السيد محمد بن الباي) ومستشاران اثتان هما السيد (محمد بن مرابط) والسيد (عباس التركي محمد وعلي) رفيق الأستاذ (الشيخ الطيب العقبي) في السجن بتلك التهمة الآفكة والمكيدة المدبرة. ثم إن هذا العبد الضعيف يقدم بلسان العجز الشكر لأعضاء الإدارة إخوانه أن قدموه للرئاسة وجددوا له ثقتهم به هذا مع علمه بعبء الرئاسة الثقيل وما يلزم لها من التضحية التي هي أول شرط الرئاسة. ولقد قال الهذلي (1):
وَإِنَّ سِيَادَةَ الْأَقْوَامِ فَاعْلَمْ … لَهَا صَعْدَاءُ مَطْلَعُهَا طَوِيلُ
وأن هذا العبد الضعيف لثقته في الله وقوته بالله واعتزازه بقومه واعتماده بعد الله على إخوانه لمستعد لهذه الصعداء وإن طال مطلعها وطال.
أيها الإخوان!
إن أعظم لذة يشعر بها ذو الضمير الحي أن تكون له قيمة عند قومه. وأن لحصول الثقة منكم للذة أعظم من كل لذة، وأنها لتقع بعد لذة الإسلام والإيمان.
ثقة القوم بأخيهم هي التي يسعى إليها من يعرف قيمة نفسه وقيمة قومه.
وأنتم تعلمون ما هي قصة من أوذي في سبيل الله حيا ودخل الجنة بعد موته فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فإنه في حب الله لم تكن لهم به ثقة بل كان فيما بينهم من المكذبين. ولذلك حينما نال ما نال، تمنى أن يكون يعلم به قومه حتى يعلموا ما صار إليه من حسن حال وسمو مقام.
__________
(1) هو حبيب الأعلم كما في ديوان الهذليين 2/ 87.(3/553)
إخواني قدمتموني للرئاسة وهذا اعتراف منكم بأني أبقى على ما كنت عليه. فأنا رجل مسلم ورجل وطني، كل حواسي وكل عقلي هو لخدمة وطني، نعم أخدمه وأدرجه حتى لا يكون هنالك اندحار ولا انهيار.
إن ميدان العمل في هذه الجمعية لميدان واسع وهنالك للعمل ميادين أخرى لا أدخلها باسمها، ولكن "إن كان فيها منفعة" أدخلها باسمي- إن كان عند قومي قيمة لاسمي- وأرجو أن يعينني الله عليها.
أيها الإخوان!
إن على كل رئيس حقا، وقد قال الأحنف بن قيس:
إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئيِسٍ حَقًّا … أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا
والصعدة هي الرمح يريد أنها تخضب بالدماء أو تنكسر وتندق في يده أثناء محاربته للأعداء. ولكن صعدتنا التي نخضبها هي القلم (وخضابه الحِبْرُ) ولكنه لا يندق هذا القلم حتى تندق أمامه جبال من الباطل (تصفيق عال وهتاف بكلمة الله أكبر).
وإن من الحق أن نتأدب بالأدب النبوي، ومنه أن لا نتمنى لقاء العدو، فإذا لقيناهم فلنصبر والله معنا.
إخواني!
إن لنا آمالا تتبعها أعمال، ونسأل الله أن يجعلنا حي أعمال لا حي أقوال. صدق الله أعمالنا وأقوالنا والله المستعان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 8، م 12، ص 359 - 361 غرة شعبان 1355ه - نوفمبر 1936م.(3/554)
خطاب الرئيس الجليل
الأستاد الشيخ عبد الحميد بن باديس
في عرض حالة الجمعية الأدبية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي فضلنا بالعقل وكملنا بالعلم وجملنا بالفضيلة، وأسعدنا بالهداية والتوفيق.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الكامل بالفطرة، المكمل بالعصمة، المبعوث إلى الخلق رحمة، الداعي بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أقوم طريق.
وعلى آله المنبثقين من أكرم نبعة والمنحدرين من أطهر مزنة، والنابتين من أطيب تربة، فنعم الفريق ذيَّاك الفريق.
وعلى أصحابه الذين نشروا الملة فبينوها بأسلات الألسن، وحملها بأسل الأسنَّة، حتى تبحبح الناس من الإسلام والسلام في روض أنيق.
وعلى التابعين لهم من جميع الأمة، المقتفين آثارهم بحق وقوة، المجددين عهدهم بعلم وحكمة المصطحبين من طريق سعادتهم- من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح خير رفاق.
أما بعد فحياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة.
حوربت فيكم العروبة حتى ظن أن قد مات منكم عرقها، ومسخ فيكم نطقها، فجئتم بعد قرن تصدح بلابلكم بأشعارها فتثير الشعور والمشاعر وتهدر خطباؤكم بشقاشقا فتدك الحصون والمعاقل ويهزُّ كتَّابكم أقلامها فتصيب الكُلى والمفاصل.(3/555)
وحورب فيكم الإسلام حتى ظن أن قد طمست أمامكم معالمه، وانتزعت منكم عقائده ومكارمه فجئتم بعد قرن ترفعون علم التوحيد وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد وتدعون إلى الإسلام كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وكما يرضى الله، لا كما حرَّفه الجاهلون وشوَّهه الدجالون ورضيه أعداؤه.
وحورب فيكم العلم حتى ظن أن قد رضيتم بالجهالة وأخلدتم للنذالة ونسيتم كل علم إلا ما يرشح به لكم أو ما يمزح بما هو أضر من الجهل عليكم فجئتم بعد قرن ترفعون للعلم بناء شامخاً وتشيِّدون له صرحا سامقا فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتكم هذه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وحوربت فيكم الفضيلة فسمتم الخسف وديثتم بالصغار حتى ظن أن قد زالت منكم المروءة والنجدة وفارقتكم العزة والكرامة فرئمتم الضيم ورضيتم الحيف وأعطيتم بالمقادة، فجئتم بعد قرن تنفضون غبار الذل وتهزهزون أسس الظلم، وتهمهمون همهمة الكريم المحنق وتزمجرون زمجرة العزيز المهان وتطالبون مطالبة من يعرف له حقاً لا بد أن يعطاه أو يأخذه.
فبحق قلت: حياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة.
نعم- أيها الإخوان- نهضنا بعد أن صهرتنا بنار الفتنة والابتلاء حوادث الزمان، وقارعتنا وقارعناها الخطوب ودافعتنا ودافعناها الأيام {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
نعم نهضنا بعد قرن بعد ما متنا وأقبرنا أحيينا وبعثنا سنة كونية(3/556)
فقهناها من القرآن ونعمة ربانية تلقيناها من الملك الديان {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا - إلى - يَشْكُرُونَ}، {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ - إلى - قَدِيرٌ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ- إلى-الْحَكِيمُ}.
نعم نهضنا نهضة (بنينا على الدين أركانها فكانت سلاماً على البشرية) لا يخشاها- والله- النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته بل ولا المجوسي لمجوسيته ولكن يجب- والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته.
العروبة والإسلام، والعلم والفضيلة، هذه أركان نهضتنا وأركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هي مببعث حياتنا ورمز نهضتنا، فما زالت هذه الجمعية منذ كانت تفقهنا في الدين وتعلمنا اللغة وتنيرنا بالعلم وتحلينا بالأخلاق الإسلامية العالية وتحفط علينا جنسيتنا وقوميتنا وتربطنا بوطنيتنا الإسلامية الصادقة، ولن تزل كذلك بإذن الله ثم بإخلاص العاملين.
كانت جمعية العلماء فكانت نهضة الأمة دوى صوت العلم فأيقظها من رقدتها، وكذلك عرفت الأمم من تاريخها لا تنهض إلا على صوت علمائها، فهو الذي يحل الأفكار من عقلها، ويزيل عن الأبصار غشاواتها ويبعث الهمم من مراقدها ويرفع بالأمم إلى التقدم في جميع نواحي الحياة ولهذا ترى أعداء النهوض من كل عصر ومصر يبذلون لإخفات هذا الصوت كل جهودهم ويكيدون له كل كيد {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}.
وما كانت جمعية العلماء حتى كان العلماء القرآنيون الذين فقهوا(3/557)
الدين والدنيا بفقه القرآن وعرفوا السنن الأقوم بمعرفة سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وهدوا واهتدوا بما كان عليه السلف الصالح ورجال الإسلام العظام.
هذه- أيها الإخوان- نهضتنا وأركانها وأسبابها واضحة للعيان محفوظة للتاريخ خالدة للأجيال نورثها أبناءنا الذين سيقولون- إن شاء الله- فينا مثلما قلنا في أسلافنا:
إِنَّا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا … لَسْنَا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا … تَبْنِي وَنَفْعَلُ فَوْقَ مَا فَعَلُوا
أيها الإخوان، هذا يوم الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولكنني أريد أن أسميه بعيد نهضة المسلمين الجزائريين فهل أنتم موافقون (أصوات بالإجماع: موافقون).
فلنتعاهد في هذا اليوم العظيم، والعيد القومي العلمي الكريبم على خدمة مبادئ الجمعية وتوسيع نطاق أعمالها ونشر هدايتها ونصر كل عامل من رجالها بصبر وتضحية ونزاهة وثبات، فهل أنتم معاهدون (أصوات بإجماع: معاهدون).
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
أيها الإخوان تنتظرون مني الآن أن أبين لكم مواقف الجمعية من بعض الجهات التي تعاصرها وتلتقي بها في محجة السير وميدان الحياة.
أما موقفها من الحكومة فهو هو: المطالبة والاحتجاج من ناحية الجمعية والصد والإعراض من الناحية الأخرى، ولقد كنت في خطاب السنة الماضية علقت رجاء الجمعية على الحكومة الشعبية وحسنت الظن بها، وأنا أعلن اليوم- مع الأسف المر- خيبة ذلك الظن ووهن ذلك(3/558)
الرجاء فحسبنا إيماننا بالله وثقتنا بأنفسنا فذلك- والله- أجدى لنا وأعود بالخير علينا.
وأما موقف الجمعية مع الأحزاب فأعيد فيه نص ما قلته بالسنة الماضية.
"إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب الحياة كثيراً من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة فليس للجمعية إذاً من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر، والبلوغ بها - إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال.
وإلى هذا فنحن نشكر ونعترف بالجميل لكل من يؤيدنا في سيرنا نصرة للمظلوم ومقاومة وخدمة للإنسانية في جميع أجناسها".
وأزيد اليوم: إن الجمعية لا توالي حزباً من الأحزاب ولا تعادي حزباً منها، وإنما تنصر الحق والعدل والخير من أي ناحية كان وتقاوم الباطل والظلم والشر من أي جهة أتى. محتفظة في ذلك كله بشخصيتها ومبادئها محترسة في جميع مواقفها مقدرة للظروف والأحوال بمقاديرها.
وأما موقفها مع المؤتمر فقد أوكلته لمن شاء من رجالها ليحافط فيه على اللغة والقومية والمطالب الدينية والعلمية، يعمل فيه على مسئوليته لا على مسئوليتها.
وأما مواقف الجمعية مع خصومها فإنها تعلم أن الأمة اليوم تجتاز طوراً من أشق أطوارها وأخطرها فهي تتناسى كل خصومة وتعمل لجمع الكلمة وتوحيد الوجهة ولا تنبذ إلا أولئك الرؤوس رؤوس الباطل(3/559)
والضلال الذين لا تجدهم الأمة في أيام محنتها إلا بلاء عليها ولا يتحركون إلا إذا حركوا الغايات عكس غايتها، فرقوا المسلمين بددا وصيروهم قددا، وقد هد الله- والحمد لله- ركنهم المنهار وفضح أمرهم في رابعة النهار، وصيرهم أقل من أن يعتني بهم وأحقر من أن يضيع الوقت في الحديث عليهم.
هذه مواقف جمعيتكم- أيها الإخوان عرضتها عليكم في إيضاح وإيجاز، والله أسأل أن يثبت أقدامنا في مواقف الحق كلها في الدنيا وفي مواطن السؤال والجزاء في الأخرى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. آمين يا رب العالين.
__________
البصائر: السنة 2 العدد 83 الجزائر يوم 25 رجب 1356ه 30 سبتامبر 1937م ص 1 ع 2 و 3 ص 2 ع 1 و 2 و 3 ونشر هذا الخطاب أيضا بالشهاب: ج 8، م 13، ص 357 - 361 غرة شعبان 1356ه - أكتوبر 1937م.(3/560)
خطاب الرئيس في الاجتماع العام
لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
المنعقد بنادي الترقي صبيحة يوم السبت 29 رجب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي قضى بابتلاء عباده ليظهر حقائقهم فيجازيهم على أعمالهم، والصلاة والسلام على أشرف من قاد الخلق وساقهم إلى سعادتهم وكمالهم وعلى آله الذين كرم الله أصولهم وجمل أخلاقهم وبرهنوا على النسب الشريف بجميل حالهم.
وعلى أصحابه الذين لم يخلق الله من فاقهم بل ولا من ماثلهم في حالهم ومآلهم، وعلى كل من تبع طريقهم، وتحلى من بعدهم بخلالم.
أما بعد، فسلام عليكم يا أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أجمعين، وسلام على مساجينكم في المساجين وسلام على متهميكم في المتهمين، وسلام على منكوبيكم في المنكوبين، سجون واتهامات ونكبات ثلاث لا تبنى الحياة إلا عليها ولا تشاد الصروح السامقه للعلم والفضيلة والمدنية الحقة إلا على أسسها. فاليوم وقد قضى الله للجمعية بهذه الثلاث- أثبتت الجمعية في تاريخ الإسلام وجودها، وسجلت في صحيفة الخلود رسمها، ونقشت في قلوب أبناء المستقبل أسمها، وبرزت في ذلك كله أسماء أولئك المسجونين والمتهمين والمنكوبين نجوما متألقة تأخذ بالأبصار.
هذا الأستاذ العقبي برأته العدالة من التهمة الباطلة ثم أبت تلك النواحي المظلمة من الحياة الجزائرية إلا أن تعود به إلى التهمة، ولا نشك أنه لم تنتصر مرة أخرى في تبرئته العدالة فستفضح تلك النواحي في العالم شر فضيحة.(3/561)
وهذا الأستاذ الإبراهيمي سيق إلى المحاكمة على حفلة علمية وقضي عليه بالغرامة فلم يكتف في حقه بذلك فرفعت القضية للإعادة وهو ينتظر ما يكون.
وهذا الشيخ عمر دردور سجن في سبيل نشر العلم والفضيلة، ثم أنصفته العدالة فأطلقت صراحه فأبت تلك النواحي إلا أن تعود به إلى القضاء وهو ينتظر إلى اليوم فصله.
وهذا الشيخ عبد الحفيظ الجنان عزل من وظيفة قيم بالجامع الأخضر لأنه من جمعية العلماء.
وهؤلاء أهل (سوف) قد ذاقوا من التغريم والنفي والسجن ما ذاقوا وروعوا في ديارهم وأهليهم أفظع ترويع ثم لم يثبت عليهم شيء مما رموا به إلا رغبتهم في العلم وطرحهم لسربال الطرقية الوسخ الثقيل.
وهذا الشيخ عبد العزيز الهاشمي والشيخ علي بن سعد والشيخ عبد القادر الياجوري والسيد عبد الكامل في ظلمات السجن إلى اليوم، وقد رمي الشيخ عبد العزيز بالثورة ضد أمن الدولة وبالصلة الأجنبية فلم يثبت لدى البحث النزيه إلا أنه عقد مظاهرة بدون رخصة، طلب الناس فيها حرية التعليم، والإعانة بالخبز، وشكوا من ظلم بعض القادة.
وهؤلاء رجال التعليم في بجاية وباتنة وغيرهما يساقون إلى المحاكمة المرة بعد الأخرى، ويغرمون من أجل التعليم ويهددون بالسجن.
وهذه مدرسة دار الحديث بتلمسان مغلقة إلى اليوم وكم أذكر وكم أعدد، فلقد هبت الأمة لتعلم دينها ولغة دينها في جد ونشاط فاق السنوات المتقدمة فعوجلت بهذه البلايا والمحن. حقا لقد كانت سنتنا الماضية سنة عمل وسنة ابتلاء، وأي عامل صادق في عمله مخلص فيه لا يبتلى؟(3/562)
وفيم هذا كله؟ على من ثرتم؟ وإلى من أساتم؟ وأي حدود تعديتم! وماذا تبغون!
لا والله ما ثرتم إلا على الجهل والرذيلة. وما أسأتم إلا للأثرة والجبرية، وما تخطيتم إلا حدود الجمود والخرافة، ولا تبغون إلا الحق والخير والعدْل والإحسان.
ألا في سبيل الله ما لقيتم، ألا في سبيل الله ما أنتم لاقون.
أيها الإخوان، إن جمعيتكم أمينة على حفظ الإسلام ولغة الإسلام في هذه الديار فإن قانونها الاساسي ينص على أنها جمعية تهذيبية إرشادية، تحارب الآفات الاجتماعية، وكل ما يحرمه صريح الشرع. وتتدرع لغايتها بكل ما تراه صالحا نافعا غير مخالف للقوانين المعمول بها، وأي وسيلة أقرب إلى تهذيب المسلمين. وأي دواء أنجع في علاجهم، من دينهم الإسلام الكريم؟ وبأي شيء يفهمون هذا الدين ويصلون منه إلى ما فيه من تربية وتهذيب إلا بالعربية لغة القرآن العظيم؟ وتعلم الإسلام ولغة الإسلام مباح في أصل القوانين. ولقد صدمت هذه القوانين الأصلية بمعاملات استثنائية رامية في فهم جميع المسلمين إلى فهم جميع المسلمين إلى مقاومة الإسلام ولغة الإسلام. وذلك هو المشاهد من آثارها في التغليق والتعطيل.
لقد قامت الجمعية بالدفاع إزاء هذا كله، وقامت معها جميع الهيئات أو جلها حتى تبين أن المسألة مسألة أمة لا مسألة جمعية، وأن المسلمين لا يسكتون عن تعلم دينهم ولغة دينهم بحال.
وقد جيش على الإسلام من ناحية أخرى، فوضعت الذاتية الإسلامية في المساومة، فرفعت الجمعية صوتها بالتحذير والتبيين، ووجدت من ممثلي الأمة آذانا صاغية، ففشلت تلك المساومة وقبرت المسألة من ذلك اليوم. والمجد والخلود للإسلام وهكذا لا تفتأ جمعيتكم أن(3/563)
شاء الله دائبة في سبيل الإسلام والعربية لغة الإسلام في دائرة القانون العام، ولو لحقها في ذلك ظلم وعدوان.
أيها الإخوان قد تعاهدنا في مثل هذا العيد من السنة الماضية، تعاهدنا على خدمة مبادئ الجمعية وتوسيع نطاق أعمالها، ونشر هدايتها، ونصر كل عامل من رجالها، بصبر وتضحية وثبات، وقد وفينا- والفضل لله- بهذا العهد أو بما استطعنا في السنة الماضية، فهل أنتم على هذا العهد فيما نستقبل من سنتنا؟ "أصوات بإجماع: معاهدون".
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
أيها الإخوان قد اعتدنا في كل اجتماع عام من اجتماعاتنا أن نرفع شكوانا واحتجاجنا إلى الولاية العامة وإلى الحكومة العليا، ولم يرد لنا جواب مرة واحدة، بلى يكون الجواب بزيادة الإرهاق وتضييق الخناق.
فصدر قانون النوادي الذي يرمي إلى أخلائها وحرمان الكبار من التهذيب في نواديهم، بعد ما حرموا منه في مساجدهم وصدر قانون 8 مارس الذي يرمي إلى غلق المدارس وحرمان المسلمين من تهذيبهم وتلقين دينهم وآداب فنهم ولغة دينهم وصار من شروط إعطاء الرخصة للقليل الذي أعطيت له أن يعلم على الكيفية القديمة الخالية من كل تهذيب ذات العصا والفلقة والحصير، في العصر الذي تتقدم الأمم كل عام في أساليب التعليم نرد نحن إلى الوراء فاسمع وتعجب يا عصر المدنية والنور.
وصدر أمر الولاية العامة بتحجير القسم الجنوبي من الوطن على كل منتسب للعلماء بينما تعطى الإعانات وتمنح التسهيلات للبعثات غير(3/564)
الإسلامية لتنصير أبناء وبنات المسلمين وصدرت الإيعازات- وخصوصا في الدوائر الممتزجة إلى القياد ومن إليهم بالابتعاد عن رجال العلم مما أحدث تباعدا في كثير من النواحي بين أبناء العرش الواحد بينما نحن نسعى للتقريب والتأليف بين جميع المتساكنين، هذا هو الجواب العملي عن شكوانا واحتجاجنا.
وكذلك في أكثر اجتماعات المجلس الإداري كنا نصدر البيان إثر البيان عن خطتنا وغرضنا وأن غايتنا من أول أمرنا هي تهذيب المسلمين بدينهم ولغة دينهم في دائرة القانون، وإننا نريد من ذلك رفع مستوى المسلمين الجزائريين العقلي والأخلاقي، ليتعاونوا مع من يساكنونهم بكفاءة وتآخ واحترام، وإننا نعمل لذلك بواجب ديننا ووحي ضمائرنا وأن كل ما أصابنا هو في سبيل تعليم الدين ولغة الدين فلم يرد علينا بجواب واحد، بلى يرد علينا بقلب الحقائق واختلاق التهم وترويج الأباطيل وبعث الأراجيف، فيكون ذلك هو الجواب العملي.
أيها الإخوان فنحن مع بقائنا على جميع ما قلنا وبينا، واستمرارنا في موقفنا كما كنا لا نريد اليوم أن نرفع شكوانا ولا أن نقدم احتجاجنا. وحسبنا في هذه السنة السكوت. وكفى بالسكوت احتجاجا عند من عرف وأنصف، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).
عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الرئيس: عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 4، م 14، ص 100 - 104 غرة شعبان 1357ه - أكتوبر 1938م.(3/565)
آثار ابن باديس
قسم الشعر(3/567)
السياسة في نظر العلماء
هي التفكير والعمل والتضحية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أشعب الجزائر روحي الفدى … لما فيك من عزة عربية
بنيت على الدين أركانها … فكانت سلاماً على البشرية
خلدتم بها وبكم خلدت … بهذي الديار على الأبدية
فدوموا على العهد حتى الفنا … وحتى تنالوا الحقوق السنية
تنالونها بسواعدكم … وإيمانكم والنفوس الأبية
فضحوا وها أنا بينكم … بذاتي وروحي عليكم ضحية
بهذه الأبيات ختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه التاريخي في الجلسة الختامية للمؤتمر الثاني الأخير (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) المؤتمر الثاني لجمعية العلماء في سنة 1937
ش: ج 6، م 13، ص 274 غرة جمادى الثانية 1356ه - أوت 1937م.(3/569)
حديقة الأدب
من المنثور والمنظوم، اليوم وقبل اليوم
تحية المولد الكريم
ألقيت ليلة حفلة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حييت يا جمع الأدب … ورقيت سامية الرتب
ووقيت شر الكائدين … ذوي الدسائس والشغب
ومنحت في العلياء ما … تسمو إليه من أدب
...
أحييت مولد من به … حيي الأنام على الحقب
أحييت مولده بما … يبري النفوس من الوصب
بالعلم والآداب والأ … خلاق في نشء عجب
...
نشء على الإسلام أسـ … ـس بنائه السامي انتصب
نشء بحب محمد غـ … ـذاه أشياخ نجب
فيه اقتدى في سيـ … ـره وإليه- بالحق انتسب
وعلى القلوب الخافقا … ت إليه رايته نصب
بالروح يفديها وما … يغري النفوس من النشب
وبخلقه يحمي حما … ها أو ببارقة الغضب
حنى يعود لقومه … من عزهم ما قد ذهب
ويرى الجزائر رجعت … حق الحياة المستلب
***(3/570)
يا نشء يا ذخر الجزا … ئر في الشدائد والكرب
صدحت بلابلك الفصا … ح فعم مجمعنا الطرب
وأذقتنا طعما من الـ … ـفصحي ألذ من الضرَب
وأريت للأبصار ما … قد قررته لك الكتب
شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبة ينتسب
من قال حال (1) عن أصلـ … ـه أو قال مات فقد كذب
أو رام إذ ما جاله … رام المحال من الطلب
يا نشء أنت (رجاؤنا) (2) … وبك (الصباح) (3) قد اقترب
خذ للحياة سلاحـ … ـها وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل والإ … حسان واصدم من غصب
وأذق نفوس الظالمين … السم يمزج بالرهب
واقلع جذور الخائنين … فمنهم كل العطب
واهزز نفوس الجامديـ … ـن فربما حيي الخثسب
يا قوم هذا نشؤكم … وإلى المعالي قد وثب
كونوا له يكن لكم … وإلى الأمام إبناً وأب
نحن الأولى عرف الزمان … قديمنا الجم الحسب
ومعين ذاك المجد في … نسل العروبة ما نضب
وقد انتبهنا للحياة … آخذين لها الأهب
لنحل مركزنا الذي … بين الأنام لنا وجب
فنزيد في هذا الورى، … عضواً شريفاً منتخب
__________
(1) ويروى: حاد.
(2) و (3) يقصد: فرقتا الكشافة بقسنطينة.(3/571)
[صورة: جمعية الكشافة الإسلامية]
ندعو إلى الحسنى ونو … لي أهلها منا الرغب
من كان يبغي ودنا … فعلى الكرامة والرحب
أو كان يبغي ذلنا … فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا … بالنور خطَّ وباللهب
هذا لكم عهدي به … حتى أوسد في الترب
فإذا هلكت فصيحتي … تحيا (الجزائر) و (العرب) (1)
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 4، م 13، ص 200 - 202
قسنطينة يوم الإثنين 31 ربيع الأول 1356ه 11 جوان 1937م(3/572)
حديقة الأدب
من المنثور والمنظوم، اليوم وقبل اليوم
القومية والإنسانية
ألقيت ليلة احتفال جمعية التربية والتعليم الإسلامية بالمولد الشريف
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المجد لله ثم المجد للعرب … من أنجبوا لبني الإنسان خير نبي،
ونشروا ملة في الناس عادلة … لا ظلم فيها على دين ولا نسب،
وبذلوا العلم مجاناً لطالبه … فنال رغباه ذو فقر وذو نشب،
وحرروا العقل من جهل ومن وهم … وحرروا الدين من غش ومن كذب،
وحرَّروا الناس من رق الملوك ومن … رق القداسة باسم الدين والكتب،
قومي هم وبنو الإنسان كلهم … عشيرتي، وهدى الإسلام مطلبي،
أدعو إلى الله لا أدعو إلى أحد … وفي رضى الله ما نرجو من الرغب (1)
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 3، م14، ص 113 غرة ربيع الأول 1357ه - فيفري 1938م.(3/573)
انتهى الجزء الأول من المجلد الثاني من هذا الكتاب، وقد اشتمل على قسم الإصلاح والثورة ضد البدع، وقسم التربية والتعليم، وقسم السياسة، وقسم البرقيات والاحتجاجات، وقسم الاجتماعيات وقسم الخطب، وقسم الشعر.
ويليه الجزء الثاني من المجلد الثاني وفيه بقية أقسام الكتاب وكامل فهارس المجلد الثاني.(3/575)
كتاب آثار ابن باديس
الجزء الثاني من
المجلد الثاني
مقالات اجتاماعية تربوية أخلاقية دينية سياسية
إعداد وتصنيف
دكتور عمّار الطالبي
الشركة الجزائرية(4/1)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى 1388 هجرية = 1968 ميلادية
الطبعة الثانية 1403 هجرية = 1983 ميلادية
الطبعة الثالثة 1417 هجرية = 1997 ميلادية(4/2)
آثار ابن باديس
4(4/3)
آثار ابن باديس
4(4/5)
ـ[صورة]ـ
العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/7)
هذا هو الجزء الثاني من المجلد الثاني والأخير من كتاب آثار ابن باديس، وهو يشتمل على المقلات التالية: التاريخ، العرب في القرآن، التراجم، القصص الديني والتاريخي، الرحلات، تطور الشهاب، الصلاة على النبي، الفقه والفتاوى.
وقد قامت لجنة من كبار علماء دمشق بالإشراف على تصحيح هذا الكتاب القيِّم أثناء طبعه، ليأتي سليماً من الأخطاء، خالياً من كل تحريف، وذلك بالنظر لأهميته المبالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي.(4/8)
آثار ابن باديس
قسم التاريخ(4/9)
تبليغ الرسالة
تلخيص المحاضرة التي ألقاها صاحب هذه المجلة بنادي الترقي بالعاصمة
في حفلة المولد الشريف
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
أيها السادة الحياة ماض ومستقبل وحال. وما أقل حظنا من الحياة لو حظنا منها هو الحال خاصة، ذلك الجزء اليسير من الزمن الذي ما يجيىء حتى يذهب، ولا يثبت حتى يزول، ولكن حظنا من الحياة عظيم بالماضي المديد، والمستقبل البعيد، بالماضي إذا كانت لنا ذكريات نشعر بها، وبالمستقبل إذا كانت لنا آمال نتوق إلى تحقيقها، وإنه- لتتسع حياة الشخص الماضية بقدر ما تمتد ذكرياته في سوالف الأزمان وتمتد آماله في غابرها، حتى يكون كأنه- وهو شخص واحد- قد عاش أعمار الأجيال والأمم من السابقين واللاحقين.
فالذكريات والآمال- أيها السادة- هي مقياس الأعمار.
ذكريات الشخص وآماله في حياته الخاصة لا تجعله يتجاوز نطاق ما قدر له أن يعيش من أمد محدود قصير جداً بالنسبة إلى عمر(4/11)
التاريخ الطويل. ولكن الذكريات والآمال الخارجة عن حياته الشخصية هي التي تجعله كأنه قد عاش الدهور الطوال.
فنحن في حفلنا هذا بذكرى المولد النبوي الكريم التي هي الثانية بعد الأربعمائة والألف من ولادة محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وآله وسلم- نشعر بالحياة الإسلامية في هذه القرون كلها حتى كأننا عشناها فعلاً.
ونريد أن نحلي شعورنا بهذه الذكرى بذكر ناحية من نواحي حياة هذا النبي الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- ليبعث فينا العلم بتلك الناحية آمالاً عظيمة في المستقبل الإسلامي القريب والبعيد ويدفعنا إلى تحقيق تلك الآمال بما استطعنا، فنكون كأننا نعيش مع الأجيال الآتية من أبناء الإسلام.
المقصد:
الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بالرسالة من الحق لهداية الخلق فكيف بلغ هاته الرسالة، هاته هي الناحية التي نريد الكلام عليها.
فصل علمي:
قد بلغ- صلى الله عليه وآله وسلم- رسالة ربه بالقول والعمل إلى آخر رمق من حياته، وكان تبليغه كما أمره ربه على درجات حسب التدريج الذي هو من سنة الله في خلقه وفي شرعه.
الدرجة الأولى الأمر بالتبليغ المطلق:
بدأ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من الوحي بالرؤيا الصادقة التي هي تلقي الروح من عالم الملائكة عند تخليها بعض التخلي عن الجسد في حالة النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق(4/12)
الصبح، ثم جاءه الملك بالوحي، فكان أول ما أنزل من القرآن قوله تعالى:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ولم يكن في هذا أمر بالتبليغ لغيره. فرجع إلى بيته فأعلم زوجته خديجة رضوان الله عليها فصدقته، وقوته بذكر صفاته العالية وأخلاقه الكريمة الطيبة التي لا يجازي الله صاحبها إلا بالكريم الطيب وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فقالت له: فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فكانت هي أول مصدق له. ثم فتر الوحي، ثم رأى الملك المرة الثانية ولم يكن قد اعتادت بشريته رؤية الملائكة، فرجع إلى أهله يقول لهم: دثروني دثروني! فدثروه أي غطوه بثياب فأنزل عليه قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.
فكان هذا أول أمر بالتبليغ والإنذار فكان تبليغه لزوجته وهي مصدقة له وكان يبلغ الفرد والفردين وكان أبو بكر الصديق أول من آمن من الناس، وكان علي كرم الله وجهه في كفالته مستمسكا بأذياله ما عرف باتباعه فكان من أول من آمن به.
الدرجة الثانية الأمر بتبليغ العشيرة:
ثم أمر بإنذار قومه قريش بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فخرج حتى صعد إلى الصفا ثم نادى يا صباحاه وكانت(4/13)
العرب إذا دعا الرجل بياصباحاه اجتمحت إليه عشيرته. فاجتمعت إليه عشيرته، فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فقال لهم: أرايتكم لو أخبرتهم أن خيلا تخرج من سفح الجبل وأن العدو مصبحكم أو ممسيكم، كنتم مصدقين؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم قال: يا آل كعب بن لؤي، يا آل مرة ابن لؤي، يا آل قصي، يا آل عبد شمس، يا آل عبد مناف، يا آل هشم، يا آل عبد الطلب، يا صفية أم الزبير- وهي عمته- يا فاطمة بنت محمد. أنقذوا أنفسهم من النار إني لا أملك لكم من الله شيئا.
فكانت هذه دعوته العامة لقومه من قريش.
الدرجة الثالثة الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة:
ثم كان أمره بأن ينذر العرب خارج مكة بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.
فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج إلى أن كانت بيعة العقبة وإيمان الأنصار.
الدرجة الرابعة الأمر بالتبليغ العام لمن في عصره ولمن بعدهم:
ثم أمر بالتبليغ العام بمثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
فكاتب الملوك خارج جزيرة العرب كسرى وقيصر والقوقس وغيرهم.
وقد بلغ من جاء بعده من الأمم بما ترك لهم من كتاب الله لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.
أي لأنذركم بالقرآن وأنذر من بلغ القرآن فعم ذلك كله من بلغه.(4/14)
فصل عملي:
كل من آمن بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فهو مأمور بتبليغ رسالته على الخصوص والعموم، لمقتضى ما نطالب به من التأسي والاقتداء به - صلى الله عليه وآله وسلم- ولقوله تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.
فجعل من اتبعه داعيا معه إلى الله على بصيرة.
ولقد عرف السلف هذا فكانوا دعاة إلى الله بأقوالهم وأعمالهم المطابقة لها، حتى انتشر الإسلام في أقل من ربع قرن في المعمور. أما نحن فقد قصرنا في هذا الواجب غاية التقصير، فتركنا تبليغ الدين إلى الأمم، حتى لنخشى أن يكون من أوزارنا بقاء الأمم الضالة على ضلالها لتقصيرنا في التبليغ إليها. وأكبر من هذا تقصيرنا في تبليغ الدين إلى أنفسنا بإهمالنا جانب التعليم الديني والوعظ والإرشاد.
واليوم وقد عرفنا كيف بلغ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- رسالة ربه، فلنعقد العزم على الاجتهاد في التبليغ، ولنبدأ بأهلينا ومن إلينا، ولنفكر ثم لنعمل في تبليغ الدين كما جاء به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أمة الإجابة وأمة الدعوة. وليكن تفكيرنا في هذا واهتمامنا به ثمرة إحيائنا لهذه الذكرى الكريمة، وعلمنا بهذا النزر من حياة ذلك النبي الكريم، ولنا- بعد عون الله تعالى- من الإيمان والمحبة فيه ما يعيننا على ذلك ويقوي أملنا فيه ويبلغنا إليه.
الخاتمة:
أيها السادة قد عدنا من هذه الذكرى بمسألة تبليغ الرسالة، وعدنا بأمل تبليغ الهداية، وقد انبثق من هذه الذكرى في صدورنا نور،(4/15)
وجددت مننها في قلوبنا قوة. ولن تستطيع ظلمات، ظلم الحياة، وإن كثفت، أن تطفيء ذلك النور، ولن تستطيع نكبات الزمان وإن جلت أن تبطل تلك القوة. أبداننا للأيام فلا بد لها من تصرفاتها. أما قلوبنا فهي لنا، لنا مؤمنة مطمئنة بدين الله ومحبة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-. وأن قلوبا وضعنا فيها اسم الله واسم محمد لهي بمأمن من عمل الظالمين وكيد الخائنين. فجددوا نورها وقوتها بمثل هذه الذكرى، واعملوا لتحقيق ما تحييه فيكم الذكريات من أمل ورجاء، واقصروا أعمالكم وجملوها بالإحسان والتقوى. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 6، ص 535 - 539 غرة جمادى الأولى 1349ه - أكتوبر 1930م(4/16)
محمد
-صلى الله عليه وآله وسلم-
رجل القومية العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه. فعناية المرء بنفسه- عقلا وروحاً وبدناً- لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس على منازلهم منه في القرب والبعد، ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر لا يستطيع أن ينفع البشرية ما دام مهملا مشتتا لا يهديه علم، ولا يمتنه خلق، ولا يجمعه شعور بنفسه ولا بمقوماته ولا بروابطه. وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي. وأصلح من شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل يتنأول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه معرضا عما لا حاجة له به أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته.
فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو رسول الإنسانية، كانت أول عنايته موجهة إلى قومه وكانت دعوته على ترتيب حكيم بديع لا يمكن أن يتم إصلاح إنسانيا أو شعبيا إلا بمراعاته. فكان "أول دعوته- صلى الله عليه وآله وسلم- لعشيرته لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فلما نزلت صعد الصفا ثم نادى «يا صباحاه» - وكان دعوة الجاهلية إذا دعاها الرجل اجتمعت إليه عشيرته- فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فعمَّ وخصَّ فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أكنتم مصدقي. قالوا ما جربنا(4/17)
عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. يا بني كعب ابن لؤي يا بني مرة بن لؤي يا آل عبد شمس يا آل عبد مناف يا آل هشام يا آل عبد المطلب ياصفية يا فاطمة، سلوني من مالي ما شئتم، وأعلموا أن أوليائي يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك. وإياي، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد بوجهي عنكم فتقولون يا محمد فأقول هكذا - وصرف وجهه إلى الشق الآخر- غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا .. ثم وجه دعوته إلى بقية العرب لقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم عامة العرب فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج وما يتصل بها من أسواقهم ثم عمم دعوته لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكاتب ملوك الأمم وقد عمت دعوته العرب وتهيأ أمرهم لعموم دخولهم في الإسلام وكان ذلك أيام هدنته مع قريش قبيل فتح مكة. ثم تجد أكثر السور المكية قد وجه فيها الخطاب إلى قريش وإلى العرب وعولجت فيه مفاسدهم الاجتماعية وضلالاتهم الشركية وما كان منهم من تحريف وتبديل لملة إبراهيم فكان أول الإصلاح متوجها إليهم ومعنيا بهم حتى ينتشلوا من وهدة جهلهم وضلالهم وسوء حالهم وتستنير عقولم وتتطهر نفوسهم وتستقيم أعمالهم فيصلحوا لتبليغ دين الله وهدى رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- للأمم بالقول والعمل. ثم لأجل أن يشعروا بأن القرآن هو كتاب هداية لهم كلهم وأن الرسول لهم كلهم، أنزل القرآن على سبعة أحرف، فعم جميع لهجاتهم، وكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يخاطبهم بتلك اللهجات وينطق بالكلمات منها ليس من لهجة قريش. وكان في هذا ما أشعرهم بوحدتهم بالتفافهم حول مركز واحد ينتهون كلهم إليه ويشتركون فيه. وقد نبه على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ(4/18)
وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فأخبره أن القرآن شرف له ولقومه- نزل بلغتهم ونهض بهم من كبوتهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهيأهم لهداية الأمم وإنقاذها من الهلاك وقيادتها لعزها وسعادتها- وأنهم يسئلون عن هذه النعمة. يقول هذا ليعملوا بالقرآن ويعلموا أن شرفه إنما هو للعالمين.
على أن العرب رشحوا لهداية الأمم، وإن الأمم التي تدين بالإسلام وتقبل هدايته ستتكلم بلسان الإسلام وهو لسان العرب فينمو عدد الأمة العربية بنمو عدد من يتكلمون لغتها، ويهتدون مثلها بهدي الإسلام. علم هذا فبيَّن أن من تكلم بلسان العرب فهو عربي وإن لم يتحدر من سلالة العرب، فكان هذا من عنايته بهم لتكثير عددهم لينهضوا بما رشحوا له. بين هذا في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فما بال هذا "يعني الفارسي والرومي والحبشي ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه" فقام إليه معاذ بن جبل- رضي الله عنه - فأخذ بتلبيسه "ما على نحره من الثياب" ثم أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبره بمقالته فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مغضبا يجر ردائه "لما أعجله من الغضب" حتى أتى المسجد ثم نادى: الصلاة جامعة، ليجتمع الناس"، وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «أيها الناس، الرب واحد والأب واحد، وأن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي» فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النار» فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل.(4/19)
تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد: ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شامياً وجزائرياً- مثلا- ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم.
فانظر بعد هذا إلى ما قرره هذا النبي الكريم، رسول الإنسانية ورجل القومية العربية، في الحديث المتقدم فقضى بكلمته تلك على العصبية العنصرية الضيقة المفرقة، فنبه على تساوي البشر في أنهم كلهم مخلوقون لله فربهم واحد وأنهم كلهم كل من عنصر واحد فأبوهم آدم واحد، وذكر بأخوة دين الإسلام دين الأخوة البشرية والتسامح الإنساني، ثم قرر قاعدة عظمى من قواعد العمران والاجتماع في تكوين الأمم. ووضع للأمة العربية قانونا دينيا اجتماعيا طبيعيا لتتسع دائرتها لجميع الأمم التي رشحت لدعوتها إلى الإسلام بلغة الإسلام. وقد كان ذلك من أعظم ما سهل نشر الهداية الإسلامية وتقارب عناصر البشرية وامتزاجها بعضها ببعض حتى كان ثمرة اتحادها وتعاونها ذلك التمدن الإسلامي العربي الذي أنار العالم شرقا وغربا، وكان السبب في نهضة الغرب والأساس لمدنية اليوم. وبذلك أيضا كانت الأمة العربية اليوم تجاوز السبعين مليونا عدا لا تخلو منهم قارة من قارات المعمور.
كوَّن رسول الإنسانية ورجل القومية العريبة أمته هذا التكوين المحكم العظيم ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المتسولين(4/20)
باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتخدم الأمم في مصالحهم. ولم يكونها لتدوس كرامة الأمم وشرفها ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد، إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة: لم يكونهم لأنفسهم بل كونهم للبشرية جمعاء. فبحق قال فيهم الفيلسوف العظيم غوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد.
هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذي كان له الفضل- باذن الله- عليهما ويشهد المنصفون من غير العرب وغير المسلمين له بهذا الفضل ويتغنى العرب غير المسلمين بذكره. وكم دبجت أقلام الكتاب والشعراء من إخواننا نصارى العرب بالشرق من حلل البيان في الثناء عليه والإشادة بفضله.
هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون ... وخدع المخدوعون ... واضطرب المضطربون ...
وإلى أعتابه الكريمة نتقدم بهذه الكلمة في مولده الشريف، الذي هو عيد الإسلام والعروبة والإنسانية كلها. عاد الله فيه باللطف والرحمة على الجميع (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 12، ص 103 - 107 غرة ربيع الأول 1355ه - جوان 1936م.(4/21)
بين الماضي والحاضر
شكوى الجزائر وبلواها
منذ ستة وأربعين سنة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عثرنا في أوراق عمنا السيد حميدة بن باديس الذي كان نائبا عماليا عن قسنطينة في عهد من حياته، على تقرير عن الحالة بالجزائر في ذلك العهد، حرره هو بلعربية وأمضاه معه زملاؤه بالمجلس العمالي السادة: محمد الطاهر بن الحاج علي معيزة، عمار بن احمد، وذو إمضاء لم أفكه. وترجه م. ميرسي تحت رقم 245 ر 16 وقدمه لأحد رجال السينا الذي قدم للبحث عن الحالة. ونظرة فيه تدلنا على المظالم الثقيلة التي اثقلت كاهل الأمة من قديم، وعلى اجتهاد رجال من نوابها في ذلك العهد في إظهار حقيقة حالها للحكومة الفرنسية العليا دون مبالاة ولا محاباة، وعلى أن الحالة كانت معلومة عند الحكومة الفرنسية تمام العلم دون حاجة إلى تتابع الوافدين على الجزائر للبحث والتنقيب.
وقد رأينا- بمناسبة ما تقوم به لجنة البحث البرلمانية اليوم في الوطن- أن ننشره على القراء كوثيقة تاريخية يعتبرون بها ويقارنون بين الماضي والحاضر.
• • •
لقد جاءت من فرنسا جماعات وأفراد من وزراء ونواب وكبار موظفين مرات عديدة من ذلك العهد البعيد إلى اليوم. تعاقبوا كلهم على البحث عن الجزائر وحالة المسلمين ولكن بدون جدوى ولا تخفيف للبلوى ولا أدل على ذلك من الحالة التعيسة التي بلغنا إليها اليوم،(4/22)
من جهل وفقر وسقم وقهر وظلم وإذلال. لا جرم أن حصل للجزائر- بعد هذا كله- يأس وقنوط من بحث كل باحث ووعد كل واعد، بل ومن الحكومة الفرنسية نفسها. وما رجع للنفوس شيء من الأمل ضئيل إلا يوم جاءت هذه الحكومة الشعبية وأعلنا نحن ثقتنا بها للناس من أول يوم سعينا في تأسيس المؤتمر الإسلامي الجزائري وذلك لما نعرفه في أحزابها من احترام ما، للأمم المرتبطة بفرنسا، واتساع حرية في الفكر والإنسانية، ولما رأينا من أخذها في التفكير في شأننا والحديث عنا.
وبتلك الثقة وبذلك الأمل تلقت الأمة الجزائرية لجنة البحث البرلمانية التي تجول اليوم في أنحاء الوطن. وهي- والحق يقال- لجنة ممتازة عن كل لجنة كما امتازت الحكومة الشعبية عن كل حكومة. فقد تقصت في البحث واتصلت بجميع الناس وتباعدت عن المظاهر الإدارية وقابلتها الأمة بكل ما يعينها على مهمتها فأطلعتها على جميع نواحي بؤسها وشقائها. مرتجية فيها أن تطلع فرنسا: شعبها ونوابها وحكومتها على ذلك كله حاثة للجميع على المبادرة بالعلاج الحاسم لتلك الأدواء كلها من جميع النواحي كلها، مبينة للجميع أن كل محأولة للتسكين بغير الدواء الحقيقي لا تزيد الأدواء إلا استفحالا، ولا الحالة إلا ارتباكا واضطرابا إلى عواقب سيئة لا يعلمها إلا الله.
• • •
وهذا نص المقال الذي ذكرناه:
الحمد لله
لما بلغنا اشتغال الدولة الفرنسية بتأسيس أمور المسلمين سكان بر الجزائر وإصلاح حالهم وجلب المنفعة لهم ودفع المضار عنهم وتحقق عندنا ذلك بقدوم المعظم السيد فرانك شفو أحد الأعضاء بالسينا لبلدنا(4/23)
ودعائه إيانا للحضور لديه بواسطة السيد البريفي وحضرنا نحن وجماعة بيرو الكونساي جنرال وسمعنا ما وقع من الكلام من أولئك السادات وعرفنا من لسان السيد السنتو المذكور المسائل التي نحن مسؤولون عنها ومحتاجون للجواب عليها وطلبنا منه أن يأذن لنا بالجواب عنها بالكتابة وأباح لنا ذلك على سبيل الإطلاق بحيث يمكننا أن نتكلم فيها أو في غيرها من الحقوق وكنا نحن وكلاء على عامة المسلمين سكان عمالة قسنطينة، وكان الواجب بطريق الشرع والسياسة على الوكيل أن يقوم بحق موكله بالجد وغاية الجهد ولا يبالي بقول قائل ولا بلوم لائم، فشرعنا حينئذ في التأمل والتدبر فيما يجب في الجواب عن كل مسألة بكلام مختصر مفيد. ولا شك أن عقول أرباب الدولة الراسخة تفهم شرحه وإيضاحه فنسأل الله- تعالى- الإعانة والإلهام للصواب ونقول المسألة الأولى حال المسلمين مع الكولون الفرانسويين فالجواب عنها أن المسلمين سكان إقليم الجزائر مثلهم كمثل الأغنام التي رعاتها عاجزون عن القيام بها على الوجه الأكمل وسبب ذلك أن الحكام الآن مربوطة أيديهم على صرف الأموال في المصالح العمومية ولا يقدرون أن يحدثوا شيئا إلا بمساعدة وموافقة من أعضاء الديوان العام في العمالة المعبر عنه بالكونساي جنرال وأنه لا يكون فيهم إلا الخمس أو السدس من المسلمين وأن الكثير من الأعضاء الفرنسويين لا يكترثون بعامة المسلمين ولا يبالون بمنافعهم ويعز عليهم صرف المال في مصالح المسلمين الخاصة بهم فلا يكون حينئذ للمسلمين ناصر ولا معين لأن كلمة إخوتهم المسلمين في الكونساي جنرال كل شيء ومع هذا فإن الكونساي جنرال يطلب المرة بعد الأخرى إبعاد المسلمين عنهم وإخراجهم من بينهم. نعم قد يكون بعض الأعضاء الفرانسويين راغبا في مصالح المسلمين ولكن لا يجد سبيلا لذلك لقلتهم بالنسبة لغيرهم وربما لا تسعهم مخالفة إخوانهم، ومثلهم الحاكم فإنه مربوط اليد على التوصل إلى جانب(4/24)
المنفعة للمسلمين والأصل في ذلك كله أن الكثير من الكولون سكان إقليم الجزائر ضد المسلمين ولا يحبون لهم إلا الضعف والتلاشي والهلاك ووكلاؤهم في الديوان العمومي يسيرون على حسب غرضهم وقصدهم. وأما الحكام مع كونهم مربوطة أيديهم كما ذكرنا فإذا ظهرت منهم الحمية على المسلمين (1) توجه لهم الكولون بالإذاية والذم في الجرنالات وغيرها فمنهم من يصبر لذلك ومنهم من يتقلق ويكره وظيفته، ويرغب في الرجوع لفرنسا وها نحن نبين سبب حقد بعض الكولون أو الكثير منهم على المسلمين وذلك السبب أمر باطني يعتقدونه في عقولهم ويظنون أن المسلمين منتصبون دائما لإيقاع الإذاية لهم والأضرار بهم في أموالهم أو ذواتهم ويزعمون أن دين الإسلام هو الذي يحرضهم على ذلك وخصوصا القرآن وقد رأينا في بعض الجرنالات كلاما منسوبا لبعض السادات في السينا يوافق ما يعتقده الكولون في جانب المسلمين من أن القرآن يحرضهم على الجد في إذاية الفرنسويين وذلك غلط صراح. أما أولا فإن الركن الأعظم في الدين الإسلامي الصلاة خمس مرات بين اليوم والليلة وهي لا تقام إلا بقراءة القرآن، وإلا تكون باطلة فهذا هو السبب الذي أوجب على المسلمين قراء القرآن وتعليم أولادهم له في الكاتب ليحصلوا بذلك معرفة القلم العربي ومعرفة اللسان العربي الخالص الذي تكتب به الكتب ويتوصلون إلى حفظ القرآان وقراءته في الصلوات. وثانيا فإن دين الإسلام يوجب على المسلمين الوفاء بالعهود وعدم الغدر والمكر وعدم الفساد في الأرض، ولولا خوف الإطالة لجلبنا النصوص الدالة على صدق قولنا من الكتاب والسنة. ومن جملة ما يقوي الحقد في قلوب الكولون أنه مهما تقع من مسلم جناية إلا ويسبون بها جميع جنس المسلمين ويعيرونهم بذلك
__________
(1) هذا ما فعلوه مع م. فيوليت تماما، فما أشبه الليلة بالبارحة (المؤلف)(4/25)
في الجرنالات وغيرهم ولم يتأملوا في أن ما يفعله أصحاب الجنايات المعروفين بالجرأة هو من طبعهم من زمن ولاية الإسلام ومع ذلك فإن كثير ما يصدر منهم يقع على إخوانهم المسلمين. وأيضا فإن الجنايات لا يخلو وقوعها في كل بلد وفي كل أمة والحاصل أن الذي يعتقده المسلمون وخصوصا ذوو الخبرة بأحوال الدول أن الدولة الفرنسوية أشد رفقا وحنانة على رعيتها وأنها تراعي جنس الخليقة الآدمية من غير نظر للمخالفة في الدين أو في الطبيعة وأنها ترغب دائما في تبديل طبيعة أهل الغلاظة وجلبهم إلى التمدن وإتقان الخدمة وحسن العيش والامتزاج والمؤاخاة ولكن لم يتم ذلك المراد لبعضهم عن المسلمين وعدم اطلاعهم على أحوالهم فلو كان الفرنسويون المقيمون بإقليم الجزائر مجتهدين فيما هو غرض للدولة ومساعدون للحكام على صرف الأموال في الأمور التي تصلح حال المسلمين وتخرجهم من الظلمة إلى الضوء وتسدد أحوالهم ولا يبخلون بصرف الأموال في الأسباب التي ينتج منها ما ذكر كاستعمال المدارس ونحو ذلك فلا شك أن قصد الدولة يتم والمرض الذي في المسلمين يزول ويعم الخير والنجاح جميع الناس في أمد قليل فيتخلص مما ذكرنا أن المسلمين إن نالوا خيرا بسبب اجتهاد الحكام وتعبهم في ذلك كما وقع ذلك مرات من بريفي عمالة قسنطينة وخصوصا وقت المسغبة ونزول الجراد فيهم فرحوا واستبشروا وإذا نزل بهم أمر مضر صبروا على مصيبتهم التي تؤديهم إلى الفقر والخصاصة وسوء الحال ولم يجدوا ناصرا (1) كضيق الأرض عليهم وانتزاعها من بعضهم وثقل المغرم عليهم وإجراء الأحكام على من تراخى في دفع المغرم أو عجز بالخطية والحبس على حسب ما يقتضيه قانون لانديجينا وغير ذلك مما يطول شرحه وخصوصا واقعة السكيسطر على التهمة بإيقاد النار من غير حجة قاطعة فينبغي للدولة أن تتنبه لهذه الآمور
__________
(1) أنظر هذه المظالم فهي ما لا نزال نقاسيه إلى اليوم.(4/26)
وتتخذ طريقا يتوصل بها المسلمون إلى حقوقهم ويستعملون لهم نوابا في المجالس الكبرى على المنوال الذي يتأتى ويمكن على طريق السداد. ونرغب من السيد السينتور أن يتأمل في البرشور الذي كنا استعملناه في شرح (1) حال العرب في تاريخ الرابع والعشرين من أفريل عام 1882 المسألة الثانية إدخال المسلمين جملة في "الناطور اليزاسيون" وإعطاؤهم الحرية الكاملة في اختيار أعضاء النواب عنهم في ديوان العمالة أعني "الكونساي جنرال". الجواب عن هاته المسألة لا يخفى على أحد أن المسلمين وخصوصا سكان البوادي قليلا ما يكون منهم من يدرك المقصود من كل حاجة وما ينتج منها وكثير هم في غاية الجهل والغلاظة حتى أنه إذا أظهر لهم بعض الأفراد بحسب عقله الفاسد أن القصد من هذه الحوادث الإضرار بهم وإفساد دينهم أو غير ذلك رسخت تلك المقالة في أذهانهم وجزموا بها وحصل لهم غاية الخلق بخلاف الناس العقلاء العارفين للأمور فإنهم يعلمون ويتحققون أن قصد الدولة من إدخالهم في "الناطور اليزي" توقيرهم واحترامهم وتسهيل الطريق للتوصل إلى حقوقهم. لكنهم (2) لا يرغبون في ذلك مراعاة لما يقع من الحلل في مسائل دينية كالميراث والنكاح والطلاق وغير ذلك، فبهذا السبب لا تجد إلا أفرادا قليلة يرغبون في "الناطور اليزي" وأما انتخابهم للنواب عنهم فلا يليق بهم لجهلهم للأمور وكونهم (3) مربوطين دائما لكبرائهم من حكام أو غيرهم فينتج حينئذ أن اختيار
__________
(1) ش: فهذا النائب وزملاؤه كانوا شرحوا الحالة منذ ثمان سنوات قبل تقريرهم هذا وبقي الحال على الحال ولكنهم كتبوا هذا التقرير لأنهم لم يصلوا إلى حالة البؤس بعد ما أصبرنا معشر الجزائريين على البلاء وما أطمعنا في معسول الوعود (المؤلف).
(2) ش: فرفض الطورين قديم (المؤلف).
(3) ش: قد شاهدنا هذا عيانا فى عصرنا هذا وإن كنا نرجو أن يخف في المستقبل (المؤلف).(4/27)
النواب يكون على حسب غرض بعض الأفراد لا على حسب غرض العامة وربما يتولد بينهم الهرج (1).
والمناقشة فبهذا السبب ينبغي أن يكون أمرهم في ذلك مفوضا لحكام الدولة لأنهم بحسب الجهل الموجود في كثيرهم والاعتماد في أمورهم على رأي غيرهم صاروا كالمحاجير نعم إنما يليق بهم بعد زمان وذلك حين تنتقل طبيعتهم من الغلاظة إلى التمدن لكن ينبغي للدولة أن تزيد في عدد نواب المسلمين في "الكونساي جنرال" وأن تجعل لبعض أولئك النواب مدخلا في مجمع "الكونساي سبريور". وإذا أرادت الدولة الجد في نفع المسلمين فينبغي أن تجعل لهم نوابا (2) بالقامرة من أبناء جنسهم، إن أمكن أو من الفرنسويين ويكون اختيار النواب الفرنسويين بنظر نواب العامة من المسلمين في الكونساي جنرال مع شخص أو شخصين من أعضاء "الكونساي منسبال" المسلمين يعينهم "الكونساي منسبال" من كل "كمون" وينبغي للدولة إدخال أعضاء "الكونساي منسبال" من المسلمين في اختيار "المير" كما كان الأمر في السابق (3) لأن "المير" وخصوصا في الفلاجات هو الحاكم في كل شيء وكثير من سكان الكمون هناك مسلمون بأضعاف فكيف يمنعون من اختيار من يليق بهم ويعرف أحوالهم؟ المسألة الثالثة: إلزام المسلمين بالدخول في خدمة العسكر بالجبر على حسب الترتيب الجاري في فرنسا، الجواب عن هاته المسألة أنها ثقيلة على كافة المسلمين لا يرضون بها ويتألمون منها غاية بحسب ما يراعيه ويخممه كل طائفة منهم وخصوصا الجبر والإلزام وحيث يكون الأمر كذلك
__________
(1) ش: قد شاهدنا هذا عيانا في عصرنا هذا وإن كنا نرجو أن يخف في المستقبل (المؤلف).
(2) ش: فطلب النيابة في البرلمان قديم ليس ابن اليوم (ابن باديس)
(3) ش: اذاً قد كان المسلمون ينتخبون المير ثم منعوا .. (ابن باديس)(4/28)
فالأولى والأليق فتح الباب للناس في الدخول في عسكر الطريور فإنه يوجد العدد الكثير ويحصل المقصود بالغرض وطيب النفس. نعم قد جرت العادة أنه إذا احتاج جانب المخزن للإستعداد للحرب في نازلة يطلب من سكان الأعراش الإعانة في ذلك ويعين على كل فريق عددا معلوما فينقادون لذلك بلا كلفة فغالب الظن إذا طلب جانب المخزن من كل عرش عدداً معلوما يحملون السلاح ويتعلمون الحرب والسفر أمدا معلوما فإنهم لا يبخلون بذلك وأيضا فينبغي التأمل في أنه إذا صار أهل البادية كلهم حاملين السلاح ربما تقع منهم بعض الفتن، ولو مع بعضهم بعضاً، ألا ترى أن من جملة عوائدهم الفاسدة إذا تشاجر أحد من عرش مع واحد من عرش آخر قامت الفتنة بين الفريقين وتضاربوا بما يجدونه بأيديهم وربما تقع بينهم الموت فانظر إذا صارت أيديهم عامرة بالسلاح مع هاته الطبيعة. المسألة (1) الرابعة: في ذكر ما نزل بالعرب من الفقر وسوء الحال بسبب انتزاع الأرض منهم وعدم قدرتهم على مفارقتها، والرضى بالبقاء فيها بالكراء الغالي الذي يوقعهم في ضعف الحال وذهاب المال وذلك أن كثير الكونون لا يأخذون الأرض ولا يقدرون على خدمتها والقيام بها وتحصيل الفائدة منها يؤول أمرهم إلى إكرائها إلى العرب بالسعر الذي لا يقدر المكتري على تحصيله وتحصيل معاشه والمغرم اللازم له فيتلاشون ويعجزون عن الحرث ولا يجد رب الأرض لمن يكريها فيبيعها إن أمكنه أو يتركها وينتقل وبهذا السبب لم تتم عمارة "الفلاجات" كما ينبغي، ويوجد كثير أراضيها خاليا والعذر محقق للكولون في العجز عن تعمير الأرض لأن أرضنا وإن كان ترابها جيدا فإنها معدومة الماء إلا في مواضع قليلة وإن الحمى لا تفارق النواحي الكثيرة منها وتضر الذوات التي نبتت الأرض الجيدة الصحيحة
__________
(1) ش: تأمل في هذه المسألة والتي بعدها الحيل الشيطانية التي يرتكبها الاستعمار لنزع الأراضي من أهلها (ابن باديس).(4/29)
كأرض فرنسا وبالجملة فكثير أرضنا بالنسبة لقلة الماء كذات بلا روح. المسألة الخامسة في كيفية تمليك أراضي العرش لأربابها وتمكينهم بالعقود الذين يتوصلون بها إلى البيع والرهن وغير ذلك. الجواب عنها أن ذلك الترتيب وإن كان فيه عدل وإنصاف ووفاء بالحقوق لكنه لا يناسب حال الأعراش وما جرت عليه عادتهم من الداخل في بعضهم بعضا والانتفاع بالمرعى مع بعضهم. ولما وقع ما ذكر، أولا: تمزقت أراضيهم ودخلها الأجانب وحصل لهم ضيق في انتفاعهم بأراضيهم ضد ما كانوا عليه سابقا ولا شك أن الأليق بهم لو أبقتهم الدولة على حالهم السابق من الانتفاع بالأرض فقط كالحبس، وليس لهم البيع ويدفعون الحكر الذي هو منزل كالرنط على الكونسيسيون فبذلك يستقيم حالهم ويكونون في غاية الهنا في عيشهم ولا يقدر واحد أن يضر بأخيه، وأما إذا صار هذا يبيع قطعة من ناحية وهذا يبيع قطعة من أخرى انحلت عليهم أبواب الهرج والاختلاط مع من لا يناسب قصده طبيعتهم. وأيضا ففي بقائهم على حالهم منفعة لجانب البايلك من حيث أنهم يدفعون الحكر. المسألة السادسة: قضية الشريعة، الجواب عنها أن الدولة الفرانسوية كانت احترمت شريعة الإسلام وأمرت بإجرائها على أصلها ونصبت القضاة في كل ناحية وضبطت أمورهم بقوانين مؤسسة على أحسن ما يكون وأباحت لمن شاء من المسلمين إعادة النظر في خصومته لدى مجا لس "الطريبو نال" و"الاكور" واستمر الحال على منوال حسن إلى أن برز القانون المؤرخ بسبطامبر سنة 1886 فردت خصومات المسلمين إلى "الجوج" على أن يحكم بينهم بمقتضى شريعتهم. ولم يكن ذلك، وصارت الأحكام تقع بين المسلمين على خلاف شريعتهم ولأجل ذلك يقع كثيرا تكسير أحكام الجوج في مجالس "الطريبو نال" إذ تعاد. ومع هذا فلما كانت أشغال الجوج كثيرة ولا ينتصب لحوائج المسلمين إلا مرة في الجمعة ويحتاج في فهمه للقضية بواسطة الترجمان إلى زمان طويل(4/30)
ويحتاج أيضا طالب الخصومة إلى المصروف الذي يبلغ في كثير من الأوقات إلى أزيد من الحق الذي يطلبه ويتعطل طالب الخصومة على أشغاله بسبب تردده إلى محل الحكم، وتأجيل خصومته إلى جمعة بعد جمعة، فضاعت الحقوق وصار الناس يأكلون حقوق بعضهم ويقع بينهم بسبب ذلك الحقد والإذاية لبعضهم بعضا. والحاصل أن القانون المذكور أضر بالمسلمين غاية الضرر وخصوصا من جانب إبطال الأسيسورات وعدم تسمية من مات أو عزل وحط درجة من لا زال موجودا من المشاركة في النظر إلى المشورة فقط مع أن "الأجواج" الفرنسويين محتاجون للإستعانة بهم فإذا أمكن الدولة أن تبطل العمل به وتأمر بالعمل بالقانون البارز عام 1866 ففي ذلك خير للمسلمين وإن لم يمكن ذلك بدلته ولم تبقه على حاله. ولو تتبعنا شرح المسائل التي أضرت بالمسلمين بسبب القانون المذكور في شريعتهم وقعنا في الإطناب في الكتابة. المسألة السابعة: قضية المغرم على المسلمين، الجواب عنها: لا يخفى على أحد أن المسلمين يدفعون الغرم على طريقين واحدة على حسب عادة الإسلام في الزمان السابق وواحدة على حسب السيرة الجارية بفرنسا ولا شك أن في ذلك ثقل (1) لأن الرجل صار حاملا لحملين وقد حصل للناس ضرر وخصوصا من جانب ما جرى به العمل من أن الرجل ينسب له ما لا يملكه من الحيوان وغيره ويلزم بأداء المغرم عنه وإن عجز أو تراخى عن الدفع يقع عليه الحكم بالخطية والحبس. وآخر ما نختم به كلامنا أن تأسيس إقليم الجزائر مثل بناء قصر عظيم والبناء يحتاج إلى أساس والأساس يحتاج إلى صانع عارف بالبناء ويحتاج إلى الآلات كالجير والحجر والرمل وغيرها. أما الآلات (2) تيسر العيش للناس ونشر
__________
(1) كذا
(2) ش: تأمل هذا الختام جيدا فإنه مشتمل على المطالب وعلى فكرة الكاتب في عاقبة قبولها وعدم قبولها، فأما المطالب فهي: (1) تيسير
>>>(4/31)
العلم والصناعات بينهم ليتحولوا إلى التمدن والرفق بهم والتسوية بين الفريقين فإذا تمت هذه الأمور كمل بناء الأساس ووجب شكر الصانع الذي خدمه وهم الحكام ويكون بعد ذلك تمام القصر وزينته حصول المؤاخاة بين الناس، وصفو الباطن وتمام العافية والرفاهية في العيش. ونرغب من وقف على غلط في شيء مما قلناه فيصفح كما هو شأن الكرام والسلام (1).
حرر في العاشر من أفريل عام 1891م
محمد الطاهر بن الحاج علي معيزة حميدة بن باديس
عمار بن أحمد
__________
<<<
أسباب العيش (2) نشر العلوم والصناعات. (3) الرفق بهم. (4) المساواة بينهم وبين الأوروبيين- وأما فكرة الكاتب فهي أن المؤاخاة وصفاء القلوب وحصول العافية للجميع لا تكون إلا إذا قبلت هذه المطالب. وإذا لم تقبل فلا مؤاخاة ولا صفاء قلوب ولا عافية لأحد. ولقد صدق فيما قال إذ ما قال إلا ما هو طبيعة الإنسان في جميع الأزمان والبلدان.
(1) ش: ج 2، م 13، ص 62 - 71 صفر 1356ه - أفريل 1937م.(4/32)
ثمار العقول والمطابع:
محمد عثمان باشا
داي الجزائر سنة (1766 - 1791)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا اسم السفر الجليل الذي ألفه- أخيرا- الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، لخص فيه تاريخ الجزائر في العصر التركي، وبيَّن حالتها الاجتماعية والأدبية والسياسية بأسلوب بديع جمع الفصاحة والتناسق، وعرض للتاريخ بين دلائل العلم ومناهج الفن، وبروح إسلامية لا تعرف إلا الصدق عربية لا تفارقها العزة والشهامة، وإذا (1) كان "الوطن هو تاريخ الوطن" كما يقول الأستاذ عبد الرحمن صدقي، و"لا حياة لأمة إلا بإحياء ماضيها" كما يقول الدكتور هيكل، فالأخ الأستاذ المدني بكتابه هذا لم يكن كاتبا بليغا ومؤلفا مبدعا ومؤرخاً حكيماً فحسب، بل كان فوق ذلك من خير من بعثوا أوطانا وأحيوا أمماً.
إن من جنايات الإستعمار الأوربي على البشرية أنه قلب حقائق التاريخ على الناس فقد صور الأمم التي ابتليت به وأصيبت بشره بصور من الهمجية والوحشية والتأخر والانحطاط لا أبشع منها ذلك ليبرز استيلاءه عليها، ومنَّ عليها بما زرعه فيها من عمران، وإن كان هو المستغل لذلك العمران والمستبد به. فأميركا- مثلا- يصورها الاستعمار ويصور سكانها الأصليين بأقبح الصور حتى هب من أبنائها الأصليين ومن العلماء المنصفين من رد ذلك التصوير وزيفه. وهاك بعضا مما يبين
__________
(1) راجع المقالين المنشورين في هذا الجزء في باب المجتنيات. (المؤلف).(4/33)
لك هذا ذكره الأستاذ محمد كرد علي في آخر كتابه "الإسلام والحضارة العربية" قال الأستاذ:
"ذكر أحد الباحثين في جريدة الكوتيدين Le Quotidien الباريسية تحت عنوان (تاريخ الأمم المغلوبة على أمرها لم يكتب) إن المجلس الأعلى لبقايا هنود أمريكا في الولايات المتحدة أرسل إلى شيخ مدينة شيكاغو احتجاجا جاء فيه (إن الكتب الدرسية المستعملة الآن في الولايات المتحدة صورت قبائل الهنود في صورة مخالفة للحقيقة التاريخية) قال الكاتب وليتنا نفكر قليلا فيما كانت عليه أمريكا قبل أن يفتحها كلومبس، ونقرأ ما قصه الفاتحون الأولون وأرباب الرحلات الأقدمون من الأقاصيص الغربية، ونلقي رائد الظرف على المدن القديمة في العالم الجديد وما بلغته عن الإزدهار وما غصت به من المعابد العظيمة التي تضاهي بعظمتها معابد مصر، وتماثيلها العظيمة المحلاة بالذهب، وما كان هناك من متاحف وخزائن كتب ومراصد فلكية. وإذا كتب لنا أن نتوغل في المكسيك ومدينة الماياس في يوكتان ولانكاس في الانو- إذا رأيت كل هذا استنتجت- والدهشة آخذة منك- أن فتح أميركا كان من أعظم جنايات أوروبا" ا. ه.
هذا هو نفس ما وقع بالجزائر من تشويه تاريخها وتصويرها في جميع عصورها خصوصا في العصر العثماني- بأقبح الصور في الكتب التي تدرس في المكاتب الفرنسية وتدرس- يا للبلية يا للحسرة لأبنائها! - غير أن الجزائر ليس فيها جمعية تحتج على هذا التشويه الباطل القبيح، بلى: من أبنائها- المثقفين بالإفرنسي طبعا- من ينكر تاريخها جملة ويزعم أن لا شخصية لها. لكن لا يمكن للحقيقة أن تبقى مستورة بالأباطيل فهي كالشمس لا بد أن تظهر ولو توالت أيام الدِّجن والغيوم. فقد جاء الأخ أحمد توفيق المدني بكتابه هذا يبين ما كانت عليه الجزائر من القوة والعمران قبل الاحتلال الفرنسي(4/34)
وما أصابها من التخريب والتقتيل أيام الاحتلال وبعيد الاحتلال ناقلا له من كتب ووثائق أفرنسية لا غبار عليها.
هذا إلى بيان ما كانت تتمتع به من حرية في دينها وقضائها ولغتها وتعليمها وبيان غير ذلك من أحوالها. لا تتسع هذه الصفحات لعرض كل ما في الكتاب ولكني أقول بكلمة واحدة: (إنه يتحتم على كل مسلم جزائري أن يقرأ هذا الكتاب). وإنك إذا ختمته- أيها المسلم الجزائري- لا بد أن تخرج منه تحب من يجب أن تحب ... وتبغض من يجب أن تبغض ... والحب والبغض سلاحان لازمان في الحياة ولا بقاء لأمة بدونهما إذا استعملتهما في محلهما.
وحقيق عليَّ أن أذكر بالإعجاب والسرور المطبعة العربية للأخ الشيخ أبي اليقظان التي أخرجت الكتاب في حلة فنية جذابة تدل على تقدم الجزائر في الفن المطبعي وأن أذكر بالثاء المكتبة المصرية لحضرة محمود نسيم أفندي التي تولت نشره. جازى الله العاملين على نشر العلم وإحياء الأمم بكل إحسان وجميل (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 7، م 13، ص 319 - 321 شعبان 1356ه - سبتمبر 1937م.(4/35)
كلمة عن الجامع الأخضر
عمره الله
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الجامع الأخضر أحد الجوامع الثلاثة الجمعية الباقية بعد الاحتلال الفرنسي بقسنطينة.
أما مؤسسه فهو حسين بك بن حسين 1149 - 1167ه 1736 - 1754م فحكم البلاد 17 عاما مقتفيا أثر سلفه في سياسة التعمير والإنشاء فنظم المدينة وخطط شوارعها وأنشأ منازل رفيعة وبناءات ضخمة لكامل أعيان البلد، وحافظ على توطيد الأمن طيلة مدة حكمه. وكما كان له ولع بالعمارة كانت له عناية فائقة بالعلم (1) فقد وجد في المحفوظات الكتابية إذن صدر منه لعائلة ابن وادفل في تأسيس مدرسة عليا للحقوق بالمسجد الذي أمرهم بتأسيسه في عين فوا. وبني الجامع الأخضر للتعليم كما هو منقوش فوق مدخل بيت الصلاة وهذا نصه:
"أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم، وتشيبد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم ذو القدر العلي والتدبير الكامل وحسن الرأي، أميرنا وسيدنا حسين باي أدام الله أيامه. وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ست وخمسين ومائة وألف" ودفن مؤسسه- رحمه الله- في التربة المجاورة للجامع مع عائلته وبعض العلماء رحمهم الله أجمعين".
والجامع لهذا العهد ليس له مدرس رسمي أما في المهد الماضي
__________
(1) راجع ترجمته في كتاب قسنطينة تحت البايات باللسان الفرنسي(4/36)
فلا شئه أنه كان به من يدرس العلم إذ لا شك أن مؤسسه- وقد كان مشهورا بنشر العلم وبنى مسجده للتعلم- لا بد أن يكون أوقف أوقافا للتعليم فيه فاستولت عليها السلطة كما استولت على سائر الأوقاف.
أما بداية تعليمي فيه فقد كانت أوائل جمادي الأولى عام 1232ه وكان ذلك بسعي من سيدي أبي لدى الحكومة فأذنت لي بالتعليم فيه بعد ما كانت منعتني من التعليم بالجامع الكبير بسعي المفتي في ذلك العهد الشيخ المولود بن الموهوب.
وقد يسر الله لنا بفضله القيام بالتعليم فيه إلى اليوم والله نسأل أن يجازي كل من أعاننا فيما قمنا به كل خير وأن ييسر لنا القيام بخدمة العلم فيما بقي من العمر، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 4، م 14، ص 303 - 304 غرة ربيع الثاني وجمادى الأولى 1357ه - جوان جويلية 1938م.(4/37)
فاجعة قسنطينة
كتبنا في الجزء الماضي كلمة مختصرة جامعة في هذه الفاجعة وأردنا الاكتفاء بها، لكن كثيرا من قراء الشهاب بقسنطينة وغيرها طلبوا منا أن نكتب الحقائق التي نعلمها بالصدق والصراحة التي تعودوها من مجلتهم فرأينا الصواب فيما طلبوا فعدنا للكتابة في هذا الجزء معتمدين في تصوير الواقع على ما شاهدناه بأنفسنا وما شهده من يكون محل ثقة عندنا.
إبتداء الاعتداء:
ليلة السبت
بينما كان الناس في ميضأة الجامع الأخضر أثر صلاة العشاء ليلة السبت وعددهم نحو الإثني عشر، إذا باليهودي الياهو خليفي يفاجئهم مطلا عليهم من نافذة الميضأة مدعيا عليها كشف العورة عند الوضوء ومبادرا لهم بقوله "نعل دينكم وصلاتكم وجامعكم والكبرا انتاعكم" فأجابه بعض الحاضرين: "نحن لا نكشف عورتنا عند الوضوء وديننا نهانا عن كشف العورة دائما ولا نلوموك (1) لأنك سكران" فاجاب: "لا راني بعقلي وراني عسكري نعـ .... النبي نتاعكم".
خرج الناس في غاية الاستياء فأشار عليهم قيم المسجد- لأجل تهدئتهم- بتقديم شكاية للكوميسارية وهي برحبة الصوف أمامهم، فامتثلوا وذهب شرطيان، الزواوي وابن عريوة، ودعا عليه الباب بأنهما من أعوان الشرطة وأن عليه أن يجيب الكوميسارية وأنه لا خوف
__________
(1) كذا في الأصل.(4/38)
عليه من شيء، فأبى أن يجيبهم (1) بكلمة، ومرت فرقة الجند المتجولة فأعلمها الشرطيان بالواقعة وطلبا منها إخراج الجاني، فأبى من الامتثال لها، كما أبى من الامتثال للشرطة، ففرق الشرطيان الناس وقالا لهم هذا شغلنا فتفرقوا ولم يبق إلا القدر المعتاد في رحبة الصوف وذهبا.
بعد ذهابهما وقف اليهودي وزوجته في نافذة محلهما وأخذا في السب مثل السب الأول فأرسل الناس القيم إلى المفتي ليقوم بكف عادية هذا المعتدي بواسطة الحكومة وانتظر الناس المفتي على أحر من الجمر وهم يسمعون في السب من المعتدي.
رجع الشرطيان فوجدا الناس متجمهرين، فلما سألاهم لماذا رجعتم قالوا لهما: إنه عاد إلى السب كما تسمعان، وكان هو وزوجته إذ ذاك ما زالا في النافذة على حالهما وكان غيرهما قد شاركهما في السب، وسمع الشرطيان بعض الناس يقول نهجم على داره فذهبا ووقفا عند بابها يحرسانها.
في هذه الساعة ابتدأ اليهود المجاورون برمي الكوانين والبيادين فأجابهم المسلمون برمي الحجارة فشرع اليهود في الرمي بالرصاص.
أثناء هذا جاء المفتي بعد ما أرسل الناس إليه مرة ثانية من أتوا به أو وجدوه آتيا فوقف يهدي الناس باذلا غاية جهده في ذلك فلم ينفع شيئا وقال له بعض الناس من برودتكم لحقنا هذه الإهانات كلها حتى وصلنا لهذه الحالة.
إثر هذا جاء الدكتور جلول وقد كان خارج البلد في معالجة بعض مرضاه فوقف يهدئ الناس، والرصاص مازال ينصب من نوافذ اليهود، واستطاع بعد الجهد الجهيد أن يسكن الناس ويفرقهم وانتهت المصيبة نحو الساعة الثالثة.
__________
(1) كذا فى الأصل، والصواب: يجيبهما.(4/39)
استنتاجات من حوادث هذه الليلة:
رغم ما سمعه المسلمون من سب الياهو الأول لدينهم وصلاتهم وجامعهم وكبرائهم لم يهتاجوا وأجابوه بكل تعقل وعذروه بأنه سكران وهذا دليل قطعي على تسامحهم وعدم حملهم لحقد ديني على اليهودي وعدم استعدادهم لفرصة الانتقام.
أما هو فإنه نفى عن نفسه السكر واعتز بانه عسكري وأعاد السب بأقبح من الأول. وهذا دليل على أنه كان شاعرا بما يقول ويفعل، وعلى اغتراره بالحرمة العسكرية وعلى قصده إلى المبالغة في الإذاية، والاغترار بالحرمة والقصد إلى المبالغة في الإذاية هما الأمران الشاهدان مات عامة اليهود دائما في معاملتهم للمسلمين.
امتثل الناس لقيم المسجد وقدموا شكايتهم للكوميسارية وهذا دليل على أنهم لم يكونوا يريدون أن ينتقموا لأنفسهم وإنما يريدون أن يتوصلوا لحقهم على يد العدالة.
إقتناع الياهو المعتدي من إجابة الشرطة ومن إجابة فرقة الجند المتجولة دليل على تمرده حتى على رجال الحكومة المدنية والعسكرية وما تجرأ على هذا إلا لعلمه بأن نازلته مع المسلمين وقد تعود هو وأمثاله أن نوازل تعديهم على المسلمين في الغالب- تكلاصا: تطرح وتهمل.
لما فرق الشرطيان الناس تفرقوا وهذا دليل آخر على انقياد الناس لأوامر دائرة حفط الأمن واعتمادهم عليها ودليل آخر على أنهم لم يكونوا يفكرون أن يجعلوا ما وقع من المعتدي سببا للانتقام.
بعد عودة اليهودي للسب هو وزوجته من نافذة دارهما لم يفعل المسلمون شيئا غير ارسالهم للمفتي وهذا دليل آخر على ضبطهم(4/40)
لعواطفهم وعدم قصدهم للانتقام وتصميمهم على انتظار الإنصاف من طرف الحكومة ودائرة الأمن العام.
شارك المعتدي غيره من يهود الحومة في السب بدل أن يكفوه عنه وهذا دليل على الروح المتفشية في عوام طائفته من الاستهانة بالمسلمين والتمالؤ على إذايتهم وعدم احترام الحكومة في ناحيتهم. وقف الشرطيان المسلمان عند باب اليهودي يحرسان داره، وهذا دليل على ما يتحلى به المسلم من احترام واجبه وقيامه به وعلى شدة محافظة أعوان الشرطة المسلمين على الأمن والنظام.
رغم ما رأى المسلمون وما سمعوا فقد استمروا ماسكين لأيديهم حتى ابتدأهم اليهود برمي البيادن والكوانين وهذا دليل واضح على تحمل اليهود لمسؤولية الشر بالقول والفعل.
استطاع الدكتور جلول بعد ما بذل جهد الأبطال أن يسكن ثائرة الناس وهذا أول مواقفه العظيمة في إطفاء هذه الفتنة وهو دليل على مكانته عند الأمة وعلى حسن استعماله لهذه المكانة في الخير.
صبيحة السبت4 أوت:
جئت إلى إدارة الشهاب الساعة الثامنة فعلمت بالواقعة وأعلمت باستدعائي من طرف مدير الشرطة م. فيزرو مثلما استدعي غيري.
اجتمعنا عنده فكان مما قال لنا أنني دعوتكم لتعينوني على تنزيل العافية فابتدأته أنا فقلت له: "وترجم عني السيد يحيى أحمد" أن فطرتنا الإسلامية وعقائدنا الدينية واحترامنا لرجال الحكومة كل هذه تحملنا على معاونتكم فيما ذكرتم ولكن بمزيد الأسف أن الدين الذي نهذب به الناس ونربيهم وننزل في قلوبهم الرحمة قد وصلت الإهانة والتعدي إليه ومع ذلك فإننا سنبذل غاية المجهود. ورأى الجماعة أن(4/41)
يقابلوا القائم مقام البريفي فطلب لهم الكوميسار مقابلته وذهبنا كلنا إلى دار العمالة.
خرج علينا م. لنديل القائم مقام "البريفي" فألقى خطابا طويلا ترجمه السيد عمر بن الموفق، كله تأسف على ما وقع وتوصية بلزوم العافية وتهوين لما كان من اليهودي السكران ووعد بأن العدالة ستقتص منه وبعد ما فرغ من خطابه سأل هل من يريد الكلام فابتدأته أنا فكان مما قلت: أن هذا الاعتداء ليس هو الإعتداء الأول وإننا معشر المسلمين نحب السلم بطبعنا وقد بات مفتينا ونائبنا يهدئان الناس وأن المسلمين لا يستطيعون الصبر دائما على التعدي على أمر دينهم وإننا نستطيع أن نمسك بغضب المسلمين إلا إذا أهينوا في دينهم فإن الأمر حينئذ يصعب علينا وأن اليهودي المعتدي على الجامع إذا كان هو سكران فإن زوجته وجيرانه الذين شاركوه في السب وابتدأوا بالضرب ليسو بسكارى وبينت له أن الشيء الذي جرأ اليهود على هذه التعديات المتكررة هو ما يحملون من السلاح، مع علمهم بأن المسلمين لا سلاح لهم وأنهم ما داموا يحملون السلاح ويطلقون الرصاص لأدنى شيء فإن الشر لا ينتهي وطلبت منه لذلك نزع السلاح منهم فاعتذر بأن هذا لا يمكنه معهم لأنهم "سيطويان" وطلبت منه أن يقوم بتوصيتهم والتأكيد عليهم في كف عامتهم عن الشر فأجاب بأنه يفعل ذلك أو قد فعله.
ثم استدعى جماعتهم فيهم أعيانهم ونوابهم وحبرهم وخطب على الجميع بلزوم التسامح والنسيان لما مضى فابتدأته أنا بالكلام فمما قلت له: أن المسامحة الحقيقية لا تكون إلا بعد العتاب الودي المبني على الحقائق الواقعة وتوجهت لمخاطبة الجماعة الإسرائيليين فذكرتهم باعتداءاتهم المتكرر التي من أقربها اعتداء أولادهم على ولد ابن البجاوي من تلامذة "الليسي" حتى كسروا ساقه، وقبيلها اعتداؤهم عليَّ(4/42)
وعلى مدير مجلة الشهاب السيد أحمد بوشمال وذكرتهم بمسامحتنا وسترنا للواقعة حتى لا يقع بسببها شر. كل ذلك لما نحن مصممون عليه من منع كل فتنة بين السكان وذكرت لهم أنهم غير ما مرة اجتمعوا مع جماعة المسلمين أمام رجال دار "البريفي" وفي كل مرة تعدون بكف سفهائكم ولكن الاعتمداء يتجدد، فهذا إما لأن عامتكم لا تحترمكم ولا تنقاد إليكم وإما لأنكم أنتم لم تصدقوا في تهدئتهم وكفهم عن الشر وإذا كانت عامتكم لا تنقاد إليكم والحكومة لا تنزع منها السلاح فمن الذي يكفها ويرد عنا شرها؟
انتهى المجلس باعتذارهم عما وقع ووعدهم- كالعادة- بكف سفهائهم، وتصافح الجميع وتصافت الخواطر وخرج المجتمعون كلهم متواعدين على العمل على تنزيل العافية وتوطيد الأمن.
مساء السبت:
اجتمعت بالدكتور جلول فاتفقنا على أن نخطب في الناس لتهدئتهم، ورأينا وجوب المبادرة بذلك قبل دخول الليل وكان هذا في آخر النهار نحو الخامسة ونصف فأمرنا من نادى في الناس بالاجتماع في الجامع الكبير على الساعة السابعة فما جاءت الساعة السابعة حتى امتلأ الجامع الكبير بالناس من جميع طبقاتهم رغم ضيق ما بين وقت المناداة ووقت الاجتماع وكان الناس في تهيج شديد وتأثر بالغ فقد ضرب اليهود بعض أفراد في ذلك المساء وقبل أن أصعد على كرسي الخطابة نادى جماعة بأن اليهود ما زالوا يحملون السلاح لقتلنا وقد ضربوا وجرحوا في هذا المساء منا فبادرت بالصعود على الكرسي وافتتحت الخطاب واستطعت- بإذن الله- التغلب على تلك العواطف الثائرة، وأظهروا الطاعة والقبول فنزلت عن الكرسي وصعد الدكتور جلول فألقي خطابا مؤثرا فازداد الناس قبولا وخرج ذلك الجمع الذي يقدر بالآلاف هادئا(4/43)
مهدئا بعد ما كان متأثرأ هائجا ووقفنا في الطريق العام نفرق الجموع ونطلب منهم أن يذهب كل واحد إلى محله وأن يعلم غيره بما دعوناهم إليه من لزوم الهدوء، وما تفرق الناس حتى أقسمت لهم أنني لا أذهب حتى يذهبوا. وكنا عند الخروج من الجامع قد جاءنا خبر صحيح بجرح ولث صغير مكفول لاحد الناس فاستطعنا- باذن أدثه- ان نقف الخبر عن الانتشار وأن نهدىء من بلغه الخبر وكافل ذلك الصغير.
تفرق الناس وخلت منهم الطرقات ونزل الهدوء التام وباتت البلدة في أمن وأمان وسهرت أنا والدكتور جلول وبعض النواب إلى منتصف الليل نتجول في بعض الشوارع فشاهدنا بأنفسنا هدوءاً شاملا للبلدة كلها.
استنتاجات من حوادث يوم السبت وليلة الأحد:
في قول من قال قبل الشروع في الخطبة "أن اليهود مازالوا يحملون السلاح لقتلنا، وقد ضربوا وجرحوا في هذا المساء منا"، دليل على ما كان لبقاء السلاح عند اليهود من الأثر السيء في إدخال الروع في القلوب مما يقوي في النفس غريزة الدفاع عن الحياة، وعلى ما كان من عود اليهود إلى الضرب الذي فرغ ما عند المسلمين من الصبر عليه.
وفي هدوء المسلمين بعد ما سمعوا مني ومن الدكتور جلول دليل على انقيادهم لمن يكون محل ثقتهم وتمسكهم بأسباب العافية حتى في أحرج الأوقات. وكانت ليلة الأحد بتمامها أصدق دليل وأقواه على ذلك.
يوم الأحد 5 أوت:
أصبح الناس يوم الأحد على أحسن حال لا فرق بينه وبين سائر(4/44)
الأيام وأصبحت المعاملات التجارية بين المسلمين واليهود في سوق الخضر وغيره كعادتها.
مررت نحو الثامنة ونصف أمام دار "المير" نازلا إلى باب الوادي، فالتقيت بسي سليم البوليس السري فسألني هل عندكم اجتماع هذه الصبيحة في الصنوبر فأجبته بالنفي وذكرت له أن الإجتماع الذي أردناه قد وقع أمس عشية بالجامع الكبير وأننا اخترنا بالأمس الجامع الكبير ليكون أعون لنا على ضبط الناس وقد حصل مقصودنا من تهدئة الناس باجتماع أمس فلماذا نعقد إجتماعا آخر؟ وكيف يكون في الصنوبر.
وصلت إلى إدارة الشهاب نحو الساعة التاسعة فجاء من أخبرني أن بعض الناس اجتمعوا في الصنوبر وقيل لي أن هؤلاء لما سمعوا بالاجتماع ولم يعلموا بوقوعه أمس ظنوا يقع اليوم وبعد نحو ربع ساعة جاء من أعلمني بأنهم افترقوا.
نحو الساعة العاشرة ذهبت إلى جمعية التربية والتعليم لألقي محاضرتي على أعضائها فما كدنا نشرع في المحاضرة حتى جاءنا من أخبرنا أن اليهود أطلقوا الرصاص في جهة رحبة الصوف وأن الفتنة قد وقعت وأخذنا إثر ذلك نسمع في طلق الرصاص المرات الكثيرة فمكثنا كلنا بالجمعية إلى الساعة الثانية عشرة، فسرحت التلامذة مثنى وثلاث وأمرتهم بأن لا يصعدوا إلى رحبة الصوف التي كنا نحسب إذ ذاك أن الفتنة قاصرة عليها. ونحو الساعة الواحدة بعد الزوال صعدت إلى دارنا بنهج القصبة محروسا بفرقة من الجند.
كيف ابتدأت الفتنة وكيف انتهت:
من الشائع المتواتر الذي عرفته حتى الجرائد الباريسية فنشرته جريدة "لاكسيون فرانسيس" أن الفتنة ابتدأت بسبب طلق أبناء(4/45)
الزاوي اليهود الرصاص ثم كان اهتياج الناس بقدر ما يتزايد إطلاق الرصاص من اليهود الحاملين السلاح.
حضر الدكتور جلول لرحبة الصوف والفتنة على أشدها فدخل المعمعة يهدىء الناس من ناحية ويضمد الجراح من ناحية أخرى وكانت حالة الناس- وهم يسمعون دوي الرصاص ويشاهدون الجرحى يتساقطون منهم- أعظم من أن تهدأ. ومع ذلك فقد استطاع الدكتور جلول أن يرد الناس عن الهجوم على الشارع حومة اليهود ولولاه لكان ذلك الجمع مصبحا اليهود في شارعهم شر صباح.
انتشر الخبر في البلد وماجت الأنهج بالناس وكثر ضرب اليهود بالرصاص من النوافذ فانكب الناس على دكاكين اليهود التي كانت مقفلة يوم الأحد يكسرون أبوابها ويمزقون ما فيها من قماش ويهشمون ما فيها من أثاث ويمزقون الأوراق المالية وأطلقوا النار في بعضها وقتلوا نيفا وعشرين نفسا وفرغوا من عملهم نحو الساعة الثانية.
استنتاج وتعليل:
فتح أسواق الخضر الإسلامية كعادتها، وتعاطى المسلمون البيع والشراء مع اليهود واليهوديات دليل قاطع على أن المسلمين كانوا قد اطمانوا وأمنوا وعلى أنهم ما كانوا عازمين على شيء من الشر لليهود.
ابتدأ أبناء الصائغي بضرب الرصاص، ورؤية الناس المسلمين السلاح بيد اليهود والرصاص يتهاطل من نوافذهم وهم لا سلاح لهم بعث فيهم الرعب والحنق فاندفعوا ذلك الإندفاع القوي السريع المحطم.
غريزة الدفاع عن النفس فطرية في الإنسان بل في جميع الحيوان فإذا أحس بالخطر فإنه يعمل أعمالا عن غير وعي لا يستطيع أن يعملها لولا ما أحس به من الخطر وما تحرك فيه من غزيرة الدفاع عن النفس(4/46)
فقد يجري الإنسان فاراً أمام حيوان يريد افتراسه بمقدار من السرعة لا يستطيعه أبدا في غير تلك الحال فالإنسان الأعزل الذي لا سلاح معه عندما يرى خصمه مسلحا ويشاهد الرصاص منطلقا من سلاحه يحس بخطر محقق داهم فتتحرك فيه غريزة الدفاع عن النفس فينبعث عن غير وعي فينقض على خصمه انقضاض المستميت فربما قضى عليه رغم سلاحه. هذا في الفرد من الناس أما في الجموع منهم فإن المسألة تكون أروع لأن الجماعة لا تعمل عن عاطفة فإذا خافت على أنفسها واندفعت بغريزة الدفاع عنها فإنها تأتي في تلك الحالة بما لا تتصوره العقول.
بهذا التقرير العلمي النفسي نعلل ما كان من الجماعة المسلمة العزلاء من السلاح أمام اليهود المسلحين في اندفاعها وما أتت به من أعمال مروعة.
ولعلمنا بهذه الحقيقة العلمية النفسية كنا حريصين أمام القائم مقام" البريفي" على نزع السلاح من اليهود، وقد أمرت السلطة أعوانها بنزع السلاح من المارة في الأزقة ولكن بعد فوات الوقت.
فالذين قاموا بتلك الأعمال من المسلمين لم يكونوا مندفعين إليها بحقد على اليهود ولا بعامل ديني ولا ببغض جنسي وإنما كانوا مندفعين بغريزة الدفاع عن النفس أمام الخطر المسلح.
نعم كان المسلمون يسمعون دائما سب دينهم ونبيهم من اليهود وخصوصا من النساء وكانوا يلقون منهم سوء معاملة خصوصا من النساء في سوق الخضر وكانوا يشعرون بتسلطهم في دوائر الحكومة وعلى رجال بارزين من الساسة الفرنسيين ويعلمون تغلبهم في الوظائف حتى على الفرنسيس أنفسهم وحسبك أن موزعي البريد ببلدة قسنطينة منهم ثلاثون ونيف ومن الفرنسيس خمسة ومن المسلمين واحد ولكن(4/47)
هذا كله ما كان ليبعثهم على ما انبعثوا إليه لو لم تتحرك فيهم غريزة الدفاع عن النفس أمام الخطر المسلح. بل كان ذلك كله مما أسكن في قلوبهم الخوف والاستسلام للواقع.
قتل من اليهود نيف وعشرون كان منهم خمس نسوة وستة من الصبيان وكان المعتدون لما يشتد الرمي بالرصاص من النوافذ ومن أيدي بعض النساء في بعض الجهات يصعدون للمنازل فيبطشون بمن فيها عن غير تمييز. وكان قتل النساء والصبيان دليلا على أن المعتدين لم يكن اندفاعهم عن عقيدة الإسلام الذي معلوم مشهور عند أهله أنه يحرم قتل النساء والصبيان حتى في الحرب المشروعة وعلى أن تلك الفظاعة هي من آثار الجهل، وتلك الحالة النفسية الخاصة الطارئة، لا من آثار الإسلام.
المصائب على الجانبين:
إذا كانت دكاكين اليهود قد أصيبت لما أصيبت، فإن دكاكين المسلمين التي في حومة اليهود قد أصيبت كذلك، وإذا كانت خسائرها قليلة فذلك لأنها قليلة ولأنها ضعيفة كأصحابها الضعفاء، بخلاف دكاكين اليهود فقد كانت خسائرها كثيرة لأنها هي كثيرة ولأنها قوية كأصحابهما الأقوياء.
وإذا كان القتلى من اليهود نيفا وعشرين ومن المسلمين اثنين فالفضل لمسدسات اليهود التي خانتهم عند الضرب فالمطر الوابل من الرصاص الذي نزل من مسدساتهم ما قصدوا به إلا القتل وإزهاق الأرواح بلا فرق بين من في الأنهج من رجال ونساء وشيوخ وصبيان وجنود، وقد جرحوا بالفعل نحو الأربع من الصبيان، وجرحوا جنديين أو ثلاثة فلو صحت من اليهود في الرمي زنودهم، كما صحت في القتل قصودهم، لكان القتلى من المسلمين- كبارا وصغارا- يعدون(4/48)
بالمئات وليس من قصد القتل وارتكب سببه ولم يتم له ما قصد لمانع، دون من قتل بالفعل في الجرم.
أما عدد الجرحى فقد تساوى أو تقارب من المسلمين ومنهم فكان من الجانبين نيفا وعشرين وكان كثير من جرحى المسلمين بسلاح الجند مما يدل على أن الجنود وإن لم يطلقوا الرصاص لعدم الإذن لهم بذلك فقد دفعوا الناس بالسلاح الأبيض.
ليلة الإثنين ويومها:
أعلنت حالة الحصار ومنع المرور بالأنهج إلا بورقة المرور.
وفي مساء الإثنين رغبت مني دار "البريفي" بواسطة إنسان له مقام عندي، أن أذهب إلى عين البيضاء لتهدئة الناس. ولما كان هذا من أعمال الخير التي وقفت لها نفسي، أجبت الطلب وصحبني السيد عمر بن الموفق ليباشر هو الناحية الإدارية ورجالها وأباشر أنا ناحية الأمة. ولما وصلنا إلى عين البيضاء في منتصف الليل بقيت السيارة ونزل السيد عمر إلى دار "المير" وبعد نحو ساعة رجع إلي يقول أن بعض النواب يرون أنهم قد قاموا بتهدئة الناس وأن دخول غيرهم ربما يشعر بتقصيرهم هم في واجبهم، فقفلنا راجعين.
وقد علمنا بعد ذلك من حوادث عين البيضاء أن شرطيا يهوديا أطلق الرصاص على ولد صغير مسلم أرسله أبوه لشراء الغاز وهذا الولد جيء به إلى مستشفى قسنطينة وتوفي به. وأن النائب العمالي س. بوماليي قدم استعفاءه للبريفي احتجاجا على تكليف غيره بتهدئة الناس.
في ليلة الإثنين جدد اليهود اعتداءهم على بيوت الله:
يقع مسجد سيدي الكتاني في رحبة سوق المصر في وسط حومة(4/49)
اليهود ففي ليلة الإثنين هاجمه اليهود فكسروا أربعة أو خمسة من نوافذه وهشموا التخاريب التي على أحد أبوابه وقد حققت ذلك إدارة الأمن وأثبتت فيه تقريرا رسميا.
استنتاجات وملاحظات:
أجبنا رغبة الحكومة لما دعتنا إلى فعل الخير ومددنا يدنا للتعاون معها على ذلك فهل علمت من ذلك أننا دعاة خير وسعاة إحسان، وهل هي بعد ذلك تستطيع أن تخلي بيننا وبين ما نقوم به مما هو أصل كل خير إلا وهو نشر العلم والدين؟.
أما النواب الذين زعموا ذلك الزعم فأحسب أن الأنانية حالت بينهم وبين فهم معنى التعاون وإلا فإن القائم بواجبه مهما كان مقدار قيامه فإنه لا يألف من إعانته فيه محبة في تحقيق ذلك الواجب على أكمل وجوهه لكن هذا إذا كان قيامه بالواجب لأجل الواجب نفسه، لا لشائبة من حظه وغرضه.
وأما النائب الذي قدم استعفاءه وتحمس فإننا كنا نود أن لو كان عنده هذا الحماس وهذه الغيرة والحمية في مواطن أخرى كان فيها حضرته باردا ومبردا، ولا حاجة لنا إلى تعريفه بهذه المواطن فالناس كلهم على علم بها وعلى ذكر منها. ونحن وإن كنا نرى حماسته هذه في غير محلها فإنا نتفاءل لحضرته بها خيرا ونرجو أن تدوم له في مواقفه القادمة في حياته العامة إن قدر له العود إليها.
قتل اليهودي الشرطي ولداً صغيرا رميا بالرصاص!! وهل نحتاج بعد هذا إلى دليل على روح العداء والتحدي؟ ومن الثابت أيضا أن بعض الشرطة اليهود بقسنطينة أطلقوا الرصاص وأن شرطيا اسمه علوش سكر قال سأضرب وأفعل فعزل من الشرطة المثبوت ذلك عليه. فأذكر هنا ما تقدم عن ليلة السبت بقسنطينة وكيف وقف الشرطيان المسلمان(4/50)
أمام دار اليهودي الياهو أصل الشر والبلاء يحرسانها وقس بين الروح والروح والتربية والتربية.
صبيحة الثلاثاء:
استدعى الوالي العام وفداً من المسلمين وألقى عليهم خطاباً دلَّ على وقوفه موقف الحاكم العادل الذي يريد أن يعرف الحقيقة لذاتها. وأذن للجماعة بالكلام فقدموا الدكتور جلول فألقى خطاباً جامعاً صوَّر فيه الواقعة تصويراً فوتوغرافياً نظن أنه أبلغ وأصدق ما سمعه الوالي العام عن صورة الحالة. سأل الوالي الدكتور عن سبب اجتماع الناس في الصنوبر صبيحة الأحد فأجابه الدكتور بأن الذين اجتمعوا بالصنوبر هم الذين سمعوا مساء السبت بالإجتماع على الساعة السابعة فحسبوها صباحا وأوقعهم في هذا الغلط ضيق ما بين وقت الإعلام بالإجتماع الذي وقع بالجامع الكبير ووقوعه. ثم قدموا الأستاذ مختار ابن الحاج سعيد المحامي فألقى خطابا بليغاً دافع فيه عن الحقيقة بصدق وإنصاف، ثم تكلم النائب المالي السيد محمد المصطفى ابن باديس وقال أنه موافق على كل ما قاله الدكتور جلول والأستاذ مختار. ثم أعاد الوالي الحديث وسأل الوفد هل يستطيعون أن يعدوه بكف المسلمين فأجابه السيد ابن باديس أن المسلمين منكفون بالفعل وأننا نعد بكفهم، وأننا نستطيع ذلك بشرط أن ينكف اليهود الذين قد تكرر منهم الاعتداء فأجاب الوالي العام بأنه يعتمد عليهم وأنه سيكلم اليهود مثل ما كلمهم.
وفاء الوفد بوعده:
خرج ذلك الوفد الإسلامي الحافل المتركب من النواب والأعيان وبعض أهل العلم فارتأوا أن يبادروا بوفاء وعدهم للوالي العام بأن يتجولوا في الأنهج الإسلامية ويعرفوا الناس بمقابلتهم للوالي العام وما طلب منهم وما التزموا به عن إخوانهم المسلمين واتفقوا على أن أقوم(4/51)
خطيباً في كل نهج من الأنهج الكبرى الإسلامية لأخطب في الناس بذلك فوقفنا بضعة عشر موقفاً ألقيت فيها بضع عشرة خطبة أخاطب فيها الناس باسم الوفد وأدعوهم إلى الهدوء والسكينة وأذكرهم بآداب الإسلام وأعرفهم بما كان من طلب الوالي العام وما كان من إلتزام نوابهم، وكان الله- وله الحمد- يفتح في كل موقف بفن من فنون التذكير، وكان إخواني المسلمون- جعلني الله فداءهم- يلتفون بنا في كل موقف ويبدون من الاستماع للوعظ والانقياد للخير ما عرفني بما تنطوي عليه تلك الصدور المحمدية الطيبة من الروح الإسلامية الشريفة، والآداب الدينية العالية الكامنة فيهم، التي لا يحتاج في إظهارها إلا لكلمة صادقة عن نية خالصة. وكان كل موقف يختم بإعطاء كلمتهم بأن لا يكون منهم سوء وبالدعاء للجميع.
عملت تلك الخطب- بإذن الله- عملها في قلوب كانت متفرقه فاتحدت وأرواح كانت متناكرة فتعارفت وما انتهينا إلى آخر مواقفنا - وكان أمام مكتب وعيادة الدكتور ابن جلول- حتى تصافح هو والسيد محمد المصطفى بن باديس وصعد النواب كلهم إلى مكتب الدكتور، فأعدتهم إلى النهج ليحضروا آخر موقف وليسمعوا آخر خطاب، ولم أكتف بوقوفهم بنوافذ المكتب المطلة على النهج فلما نزلوا خطبت في الجمع خطابا يشتمل على أصل ما ألقيت الخطب لأجله وعلى ما ناسب ذلك الموقف الذي تجلت فيه روح الإخاء والصفاء، وكان ذلك الموقف لمواقفنا- والفضل لله- خير ختام.
يوم السبت 11 أوت:
صبيحة السبت قابل وفد المسلمين عامل العمالة ودار الحديث في الحوادث التي وقعت ورأينا من عاملنا الجديد رجلا يحمل روحاً فرنسية لطيفة ويتحلى بآداب الموظف العالي. أبدى تأسفه أن وجد قسنطينة(4/52)
أول قدومه في هذه الفاجعة وأظهر رغبة في رجوع الأمور إلى مجاريها.: بعدما تكلم الدكتور جلول والطبيب زرقين وغيرهما تكلم النائب المالي ابن باديس فذكر للسيد العامل أن الأمن من ناحية المسلمين قد استتب وأن جماعة المسلمين قد استطاعوا بما قاموا به أن يهدئوا إخوانهم على كثرة عدد المسلمين وانتشارهم، وأن جماعة اليهود من ناحيتهم لم يقوموا بشيء مما قام به جماعة المسلمين على قلة عدد اليهود وسهولة إبلاغ الصوت إليهم ولذا فإن المسلمين لم يتجدد منهم شيء من يوم الحادثة وأما اليهود فقد تجدد منهم الإعتداء مراراً وذكر له الولد بياع الجرائد الذي جرحوه برحبة الصوف وولداً آخر صب عليه المادة الملتهبة الفيتريول والرجل الذي أطلقوا عليه الرصاص بنهج فرانس كل هذا ما بين يوم الأربعاء والسبت فوعد العامل بأمرهم بالكف والتأكيد عليهم به.
تنظير بين المسلمين واليهود:
نريد أن نعرض الطبقات من المسلمين واليهود لنعرف موقفهم من هذه الفتنة اعتماداً على المعلومات المتقدمة.
النواب:
وقف الدكتور جلول النائب العمالي ليلة السبت برحبة الصوف وقفة المهدىء للجمع المسكن للثائرة ومعه السيد محمد أمزيان النائب البلدي يمينه على ذلك ويبذل جهده مثله.
وحضر النائب العمالي اليهودي لولوش فبدلا من أن يهديء قومه ويأتي باليهودي المعتدي ويدخله حبس الكوميسارية وكان في استطاعته ذلك ولو فعله لأطفأ تأثر المسلمين في الحين، لأنهم ما كانوا يريدون إلا عقاب ذلك المعتدي على دينهم ونبيهم وجماعتهم ومسجدهم، بدلا من أن يفعل هذا كان تارة يستبعد وقوع ما وقع من الإعتداء وتارة(4/53)
يستبكر على المسلمين تأثرهم من ذلك الإعتداء إن وقع. ولم يظهر منه أدنى شيء في التهدئة والتسكين.
كان الدكتور جلول صبيحة الأحد ينتقل من مكان إلى مكان مهدئاً للناس مداوياً للجرحى معرضاً نفسه للخطر، وممن شهد له بمواقفه في ذلك اليوم التقرير الرسمي للجندرمة. أما النائب العمالي لولوش فقد اختار السلامة التي ذاق حلاوتها أيام أبقته الأعذار بقسنطينة عن ميادين الحرب الكبرى.
أبدى النواب المسلمون في كل ما كتبوا ونشروا وتكلموا أمام الحكام غاية التعقل والرصانة والحكمة، وأعلنوا ثقتهم بالحكومة وبالعدالة وكرروا دعوتهم إلى تناسي الماضي والعمل لخير المستقبل وجددوا تأسفهم بعبارات دالة على كمال في الإنسانية وسمو في الدين.
أما النائب لولوش وغيره فقد كانت تقاريرهم وخطبهم ومنشوراتهم - وخصوصاً رابور لولوش- تهجمات حتى على الحكومة وتقولات بالباطل والكذب (1) على النواب المسلمين مما ينم عن أمراض قلبية - والعياذ بالله- ويدل على قلة أدب وإفلاس سياسة.
طاف النواب الأنهج الإسلامية وخطبوا في الناس بلسان من قدموا لذلك ووفوا بوعدههم للوالي العام. ولم يفعل شيئاً (2) من ذلك النواب اليهود.
مفتي المسلمين وحبر اليهود:
جاء المفتي ليلة السبت وبذل جهده. أما حبر اليهود فلم يأت لا هو ولا واحد من طرفه.
__________
(1) في الأصل: تكذب
(2) في الأصل: شيء(4/54)
الشرطة:
قام الشرطة المسلمون بواجبهم ولم تغلب عواطفم على أمانتهم حتى تقدم منهم من حرس باب المعتدي الأثيم الياهو خليفي. أما الشرطة اليهود فقد كان منهم من أطلق النار ومنهم من قتل وهو شرطي عين البيضاء.
الأمة:
وفى المسلمون بوعدهم لجماعتهم فلم يكن منهم أي اعتداء، أما اليهود فما زال الاعتداء يتكرر منهم على من ينفردون به وحده كما فعلوا ببعلي سليمان بن لخضر. ومن أقرب ذلك رمى صبيانهم نوافذ من جامع سيدي الكتاني فكسروها. نقول هذا ونحن على ثقة من تعقل إخواننا المسلمين وعدم التفاتهم إلى هذه الأفعال الطائشة التي تتولى أمرها العدالة وأنهم يبلغون كل ما يلحقهم إلى العدالة لتقوم بواجبها نحو المعتدين كما طلبنا منهم في خطبنا ووعدوا به وهم الموفون بما وعدوا.
القتلى:
دفن اليهود قتلاهم في مشهد حافل، أما قتلانا- وهم الرجل الذي قتل يوم الأحد والصبي الذي قتله الشرطي بعين البيضاء والذي مات من جراحه بعد ذلك- فإنهم دفنوا دون أن يشيعهم أحد، ودون أن تقال عليهم كلمة ودون أن تراق عليهم دمعة.
علمنا أنهم يدفنون هكذا وسكتنا- لا لهون المصاب علينا ولا لقلة ألمنا وحزننا- ولكن موافقة للإدارة على تجنب كل ما قد يثير العواطف ويكون مخيف العاقبة، وعلمت الأمة بهذا ورضيت به انقياداً لرجالها لما لها بهم من الثقة وإظهاراً لما عندها من الرغبة في الهدوء والسكينة والتغلب على العاطفة أمام ما فيه مصلحة عامة.(4/55)
الخاتمة:
كتبنا هذا التقرير عن الحالة كما شاهدنا فيما شاهدنا، وكما تحققنا فيما بلغنا من الثقات عندنا، وإننا بعد ذلك نأسف ونألم على ما يصيب الإنسان من أخيه الإنسان وعلى أن تجري هذه الحوادث بين عنصرين ساميين إبراهيميين عاشا قروناً في وطن واحد دون أن يشهدا مثلها ونسأل الله تعالى أن يبطل كيد الظالمين، ويرد شر المعتدين عن الخلق أجمعين، وأن يرحم المستضعفين وينصر المظلومين من جميع العالمين.
وصدق الله العظيم في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 10، م 10، ص 438 - 461 غرة جمادي الثانية 1353ه - 11 ديسمبر 1934م.(4/56)
آثار ابن باديس
قسم العرب في القرآن(4/57)
العرب في القرآن
الخطاب الذي ارتجله الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعها العام بنادي الترقي لهذه السنة. وموضوعه (العرب في القرآن) وقد حافظنا على معانيه وعلى الكثير من ألفاظه، وهيهات هيهات لما نود من نقله للقراء بألفاظه وجمله. فإنه خطاب عظيم في موضوع خطير لا يضطلع به غير أستاذ في علمه بفنون القرآن وغوصه على مغازيه البعيدة ونفاذه في معانيه العالية.
وعلى كل فإننا نرجو أننا قدمنا الموضوع للقراء كامل المعاني وحسبنا هذا (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام ذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام ولعناية القرآن بهم ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض فأما أنهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام فلأن العرب هُيِّئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، ولأن الله الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة ويأمرنا أن ننزل الناس منازلهم في شريعته، ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لغير أمة عظيمة، إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليل من الأمم والرِّجال. ولا يقوم بالعظائم إلا العظام من الناس.
__________
(1) تعليق ناسخ المحاضرة.(4/59)
وأما عناية القرآن بالعرب فلأجل تربيتهم لأنهم هم الذين هُيِّئوا لتبليغ الرسالة فيجب أن يأخذوا حظهم كاملا من التربية قبل الناس كلهم, ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية في مراميها البعيدة إصلاحا لحال العرب وتطهيرا لمجتمعهم وإثارة لمعاني العزة والشرف في نفوسهم, ومن هذا الباب الآيات التي يذكر بها العرب أن هذا القرآن أنزل بلسانهم مثل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب. ومن أول القصد إلى العرب والعناية بلسانهم وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة، جلبا لهم حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم قبل الناس كلهم.
إنّ العرب قوم يعتزون بقوميتهم وهم ذوو عزة وإباء خصوصاً في الجاهلية فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم ويقرب بعيدهم بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم.
ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية وتختلف في غير ذلك. وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها, لأن اللسان الذي أنزل به لسانها. وهذا هو ما يقصده القرآن, ومن هذا الباب أيضاً إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية.
فمن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي في شيء لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها, ولذلك ترى القرآن يذكرها بالشرف ويحدثها كثيرا عن أمة اليهود التي لا يناديها إلا بيا بني إسرائيل تذكيراً لها بجدها الذي هو مناط فخرها كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو - ويذكرها بالذكر - وهو في لسانها الشهرة الطائرة(4/60)
والثناء المستفيض يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. والأنبياء لم يبعثوا إلا في مناسب الشرف ومنابع القوة ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها. وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين. فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني أنه شرف لكم وقومه هم العرب لا محالة.
ويقول بعد ذلك: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} ليُشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم ولا شك أن ثمن المجد غال.
وهذا الشرط الذي ذكره الله وذكر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتنفيذ.
لأن الأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه. ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها. وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلا ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق, وإن أعداء البشرية اليوم وقبل اليوم يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله ويهينوا منه ما كرم الله.
والخلاصة أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر. وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل.(4/61)
وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.
وانظروا واعتبروا ذلك بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب وهي أمة إسرائيل فإنها لم تكن مهيأة لإنقاذ غيرها. وإنما هيئت لإنقاذ نفسها فقط لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى تلك الدرجة العليا: ولذلك عانى موسى معها ما عانى مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم.
ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلا وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.
وقد تقولون إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين, والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنبوة والدين في أول أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله وأن تظهر دين الله على الدين كله, وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان, في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ(4/62)
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
فالسر المتجلي من هذه الآية هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا العالم الإنساني من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم وهو إخراج الضد من الضد وإخراج الحي من الميت وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية ولا من وسائل القوة المادية، من العباد الأقوياء المتألهين فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخالب أقوى الأقوياء وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين، والتمكين لهم في الأرض، وإراءة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.
وإلى هذا المثل العملي تشير الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.
وأمّا العرب فإنهم اختيروا لوظيفة عالمية عامة لما فيهم شرف متأصل واستعداد كامل وصفات مهيأة ولهذا كان منبع الرسالة بمكة وشأنها عند العرب هو شأنها، فهم مجمعون على تخليصها ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم. وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع وعجمة في الألسنة، جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على(4/63)
مقومات الأمم من العروق الدساسة. فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم, والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية. فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة المقومات، ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلا صميم الجزيرة ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهليا, ولكنه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس والجاهل يمكن أن تعلمه والجافي يمكن أن تهذبه. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال.
هذا توجيه موجز مقرب لاختيار الله تعالى العرب للنهوض بالرسالة العامة.
وشيء آخر يرتبط بهذا وهو أن الله كما اختار العرب للنهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرسالة وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها وهذا جانب لا أتحدث عنه فقد كفانا مؤنته أخونا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في محاضرته التي سمعتموها بالأمس (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 15، ص 21 - 25 غرة محرم 1358ه - فيفري 1936م.(4/64)
العرب في القرآن
-2 -
أيّها الإخوان:
جعلنا عنوان الخطاب ((العرب في القرآن)) وقلنا في أول كلمة منه أن العناية بالعرب حق على كل مسلم لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام. فما هو حظ العرب من القرآن من الناحية التاريخية بعد أن سمعتم هذه التوجيهات العامة.
والعرب مظلومون في التاريخ فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لا يصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام فاهتدوا به فأخرجهم من الظلمات إلى النور.
هكذا يتخيل الناس العرب بهذه الصورة المشوَّهة، ويزيد هذا التخيل رسوخاً ما هو مستفيض في آيات القرآن من تقبيح ما كان عليه العرب ليحذرنا من جاهلية أخرى بعد جاهليتهم.
والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي أنَّ القرآن وحده هو الذي أنصف العرب. والناس بعد نزول القرآن قصَّروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب فنشأ ذلك التّخيل الجائر عن القصد. والتاريخ يجب أن لا ينظر من جهة واحدة بل ينظر من جهات متعددة وفي العرب نواح تجتبى ونواح تجتنب, وجهات تذم وتقبح وجهات يثنى عليها وتمدح. وهذه هي طريقة القرآن بعينها. فهو يعيب من العرب رذائلهم النفسية كالوثنية ونقائصهم الفعلية كالقسوة والقتل.(4/65)
وينوه بصفاتهم الإنسانية التي شادوا بها مدنياتهم السالفة واستحقوا بها النهوض بمدنية المدنيات.
ولنذكر عاداً فهي أمة عربية ذات تاريخ قديم ومدنية باذخة ذكرها القرآن فذكرها بالقوة والصولة وعزة الجانب ونعى عليها الصفات الذميمة التي تنشأ عن القوة قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
فالنظرة التاريخية المجردة في هذه الآية وفيما ورد في موضوعها ترينا أن عاداً بلغت من القوة والعظمة مبلغاً لم تبلغه أمة من أمم الأرض في زمنها حتى أن الله جل شأنه لم يتحد قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} إلا بقوته الإلهية التي يذعن إليها كل مخلوق، ولو كانت في أمم الأرض إذ ذاك أمة أقوى منهم لكان الأبلغ أن يتحداهم بها. وإن أمة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها لهي أمة معتدة بقوتها وعظمتها.
ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عاداً كانت أشد الأمم قوة وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلا بمؤهلات جنسية طبيعية للملك وتعمير الأرض وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية.
وإن القرآن لا ينكر عليهم هذه المؤهلات وإنما ينكر عليهم لوازمها ولا ينكر عليهم القوة والعظمة وإنما ينكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومحادة الله بدليل قوله لهذه الأمة: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} فهو يضمن لهم أنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات يزيد قوتهم تمكيناً وبقاء, ومحال أن ينكر القرآن على(4/66)
الناس القوة وهو الداعي إليها والمنفر من الضعف وإنما شرع القرآن بجنب الدعوة إلى القوة أن تكون للحق وللخير وللرحمة والعدل.
وكذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (1) فإن هذه الآية - زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدمناه - تكشف لنا نواح (2) من تاريخ هذه الأمة العربية ومبلغ مدنيتها وتعميرها فهي تدل على أنهم كانوا بصراء بعلم تخطيط المدن والأبنية وهو علم لا يستحكم إلا باستخدام الحضارة في الأمة ومأخذ هذا من قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ}.
والآية في قوله آية هي بناء شامخ يدل على قوتهم أو هي آية هادية للسائرين وهي على كل حال بناء عظيم يدل على عظمتهم وقوتهم وما زالت عظمة البناء تدل على عظمة الباني.
ولم ينكر عليهم نبيهم نفس البناء الذي هو مظهر القوة. وإنما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشامخ فمحَطُّ الإنكار قوله: {تَعْبَثُونَ}، ولا شك أن كل بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة فهو عبث ولهو وباطل.
والمصانع، يقول المفسرون أنها مجاري المياه أو هي القصور, وعلى القولين فهي دليل على معرفتهم بفن التعمير علماً وعملاً وبلوغهم فيه مبلغاً عظيماً فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه.
ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى المصنع اللفظي الاشتقاقي والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع
__________
(1) 26/ 128 - 131
(2) كذا في الأصل والصواب: نواحي.(4/67)
جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت فيه في الآية، أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بلى وإن المصانع لأوَّل لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه.
ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع إلا تفسير بعضهم للسائحين والسائحات بالصائمين والصائمات والحق أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود.
ولا يقولن قائل إذا كانت المصانع ما فهمتم فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها فإن المصانع التي تشيد على القسوة والقسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية. وأي عاقل يرتاب في أن المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة ووسائل تدمير لا تعمير فهل يحمدها على عمومها وإن دلائل حضارة ومدنية كانت.
ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم ومن لوازم ذلك أن تراعى فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} لا بد لكل أمة تسود وتقوى من بطش ولكن البطش فيه ما هو حق بأن يكون انتصافا وقصاصا وإقامة لقسطاس العدل بين الناس وفيه ما هو بطش الجبارين والجبار هو الذي يجبرك على أن تعمل بإرادته لا بإرادتك فبطشه إنما يكون انتقاما لكبريائه وجبروته وإرضاء لظلمه وعتوه وتنفيذا لإرادته الجائرة التي لا تبنى على شورى وإنما تبنى على التشهي وهوى النفس(4/68)
لذلك لم ينقم منهم البطش لأنه بطش وإنما نقم منهم بطش الجبابرة الذي كله ظلم.
وفي القرآن ما هو كالتتمة لبحثنا عن حضارة العرب وكالعلاقة لحضارة عاد بعينها وهي حكاية عاد إرم ذات العماد.
فهذا الوصف البليغ الذي نقرؤه في سورة الفجر صريح بألفاظه ومعانيه في أنه وصف لحضارة عمرانية لا نظير لها, فالعماد لا تكون إلا في القصور والأبنية الباذخة والمدن المخططة على نظام محكم, وقد قال تعالى وهو العالم بكل شيء أنه: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ومدينة هذا وصفها لا تشيدها إلا أُمة لا نظير لها في القوة وآثار الحضارة يتبع بعضها في الضخامة والعظم والوصف القرآني لها وإن سيق للاتعاظ بعاقبتهم يدل الباحث التاريخي على أنهم بلغوا في الحضارة غاية لا وراءها, وهم أمة عربية. فهذه المدينة شيدت في جزيرة العرب لا محالة. وأن الأقرب في التذكير بهم والاتعاظ بمصيرهم أن تكون الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} علمية لأن التذكير عام لمن تتيسر له رؤية العين ولمن لم تتيسر له, ولو ائتمرت الأمم الإسلامية بأوامر القرآن لنشأ فيها رواد يرودون الجزيرة ويجوبون مجاهلها ولو فعلوا لأمكن أن يعثروا على آثار هذه المدينة أرض عاد وهي معروفة ويجمعوا بين الرؤية البصرية والرؤية العلمية وبين العلم والاتعاظ وإننا لا نعبأ في مقام البحث العلمي بما حف هذه الحكاية من أساطير. ولا بما وقع فيه شيخ المؤرخين ابن خلدون حينما تعرض لنقض تلك الأساطير (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 15 ص 70 - 74 غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.(4/69)
العرب في القرآن
من الخطاب الذي ألقاه رئيس جمعية العلماء
في اجتماعها العام الماضي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-3 -
وأمة أخرى من الأمم العربية وهي ثمود، وهي أمة عربية نلعنها بلعن القرآن لها ولكننا نذكرها بما ذكرها به القرآن من قوة وتعمير وحضارة, فصالح رسول هذه الأمة يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنعمه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}. فأمة أية أمة لا تعمر الأرض إلا إذا ملكت وسائل التعمير وهي كثيرة ومجموعها هو ما نسميه الحضارة أو المدنية.
وقد كشفت لنا عن هذا الإستعمار الثمودي عدة آيات بليغة الوصف، ولكن أبلغها وصفا وأدقها تصويرا قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}.
أما المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو النفي عليهم. كيف يستعينون بنعم الله التي يسرها لهم على الكفر به، وإنذارهم أن الكفر بها وبمؤتيها سيكون سببا في زوالها وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التي كانوا عليها في تعمير الأرض. وهي حالة أمة بلغت النهاية في الحضارة المادية وفنونها من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشجر منظمة وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كل ذلك من علم(4/70)
بحال الأرض وطبائعها وأحوال الأشجار المغترسة وطبائعها وأحوال الفصول الزمنية وأحوال الجو وأحوال التلقيح والآبار والجني وعلم بأصناف التمتع من مناظر ومجالس ومقامات ومآكل. ثم القيام على حفظ ذلك العمران من إفساد الأيدي السارقة وكل هذا مما يستلزمه وصف القرآن لحالهم لأجل تذكيرهم والتذكير بهم, وقد ذكرهم القرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر, والشجر والحجر آيتا الحضارة المبصرتان, ومن يعرف الحضارة الرومانية بهذا الوطن يعرف أنها ما قامت إلا على نحت الحجر وغرس الشجر.
وإن نحت الحجر ليستدعي حاسة فنية ويستدعي مع ذلك قوة بدنية وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة ملابسة فوصفهم مرة بأنهم آمنون ومرة بأنهم فرهون، والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفة ولا يأتيه ذلك إلا من خبرته بما يعمل وعلمه بدقائقه واعتياده له. ومعنى هذا أن أصول هذه الصناعة التي اشتهر بها المصريون القدماء والرومان قد رسخت فيهم ولكن التاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقهم كما قلت لكم في طالعة هذا الخطاب.
هاتان أمتان من الأمم العربية أثبت القرآن حالهما فكان لنا مصدرا تاريخيا معصوما في إثبات حضارة الشعوب العربية التي بزت فيها الأمم.
ولننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي الجزيرة العربية وهي اليمن التي عرفها اليونان وغيرهم وعرفوا المدنيات التي قامت فسموها بالعربية السعيدة وإننا إذا انتقلنا إلى هذه الناحية من الجزيرة نجد العز القدموس والمجد الباذخ والماضي الزاهر لهذه الأمة التي نفتخر بالانتساب إليها ونباهي الأمم بمدنياتها بالحق والبرهان. وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن.(4/71)
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}.
ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور. وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة لا أظن غير اللسان العربي يتسع لحملها كقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}. وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، حتى إذا وصل القارئ إلى مصير هذه الأمة التي سمع ما هاله من وصفها واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.
اللهم إن السلامة في الساحل وإننا لا نعدو موضوعنا تصور حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.
الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة(4/72)
الأدوات ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته وعلم كما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؟ وشمال من؟ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله ومعنى هذا أن طرق السير كانت منظمة تبعا لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها وإن كان على غير يد أهلها - تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانوا من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض, وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي .. والعمل اليدوي, بل تتوقف على علوم فكرية منها الهندسة والهندسة تتوقف ثمراتها على علوم كثيرة وعلوم العمران كعروق البدن يمد بعضها بعضاً فهي مترابطة متماسكة متلاحمة - فما يكون السبإيون بلغوا في الهندسة مبلغاً أقاموا به سد مأرب حتى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ.
ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم وأباد حضارتهم وذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ... } الخ.
ويقول في وصف عمرانهم: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً}، يعني أن عمرانهم لم يكن محدودا، وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه. فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى, ولا يكون هذا إلا إذا كان العمران متصلاً. وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص. وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات والطرق محدودة بالعلامات التي(4/73)
تضبط المسافة, وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام وأن الأمن كان ما دار رواقه على هذا العمران. ولا يتم العمران إلا بالأمن ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدينة الزاخرة بسياج الإيمان والشكر والفضيلة والعدل وكل مدينة لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب, والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها, فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم حتى لا نغتر بمظاهرها وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين كما لم تتخلف في الأولين.
وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا إلا بألسنتهم وإنما هو نتيجة أعمالهم, ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
ولا زال الناس - على عاميتهم - يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل: أنه يقول اقتلني أو اضربني, وهو لم يقل ذلك وإنما أعماله هي التي تدعوا إلى ذلك، فالمعنى أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول فكأن ألسنتهم قالت ذلك ويؤيد هذا في القرآن كثير ومنه قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به ولا يقولن قائل: القول يقع مدلوله في القلب حالاً ولا كذلك العمل فقد يتأخر جزاؤه طويلا ً- لأن الجزاء إذا كان محقق الوقوع يصير كأنه حاصل بالفعل وكل عاقل يقطع بأنه إذا وقع الظلم من الظالم فقد استحق عليه الجزاء ولا يلاحظ مسافة ما بين الظلم وجزائه.(4/74)
وأما المباعدة بين أسفارهم التي اقتضاها كفرهم بأنعم الله, فهي كناية عن محو العمران وخراب القرى التي كانت ظاهرة متقاربة حتى لا يبقى منها إلا القليل فيتباعد ذلك القليل بالطبع بخراب الكثير.
وأين العمران المتلاحم الذي يرتاح فيه المسافر لضبط المسافة وتعدد المشاهد من الخراب الذي يوحش فيزيد المسافة بعداً على بعد.
وملكة سبأ وعرشها العظيم وملكها وما قصه القرآن من نبئها أعظم وأروع فمخبر سليمان عليه السلام يقول عنها: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وما وصف عرش ملكة سبأ بالعظيم عند سليمان نبي الله الذي سخر له الجن والريح - إلا وهو في نفسه عظيم.
أيها الإخوان:
إن في قصة ملكة سبأ في القرآن لدرساً تتفجر منه ينابيع العظة والعبرة وإرشاداً إلى ما تقوم به الأمم ولولا أن هذا الخطاب قد طال لآثرنا منها العبر وأثرنا بها العبر. ولكن لا يفوتنا أن نلخص منها إشارات وما عليكم بعد ذلك إلا أن تتدبروا الآية ففيها نظام الشورى صريحاً لا مواربة فيه وفيها أن بناء الأمم إنما يعتمد على القوة وقد تكون مؤنثة فلا بد أن يسندها بأس شديد. وفيها أن الملأ هم الأشراف وأهل الرأي وهم أعضاء المجالس الشورية ولعلهم كانوا بالانتخاب العرفي وهو نظام مدني ولعلهم كانوا بالانتخاب الطبيعي أو الوراثي وهو لا يكون إلا في الأمم التي شبت عن طوق البداوة.
ولعل كاتباً من كتابنا يتناول هذا البحث بحث الانتخاب في الإسلام ولئن استرشد القرآن في هذا الباب ليرشدنه.(4/75)
هذه مدنيات ضخمة غيرت في هذه الأمة التي أهلها الله لحمل الرسالة الإلهية إلى العالم وهذه بعض خصائص هذه الأمة التي هيأها الله للنهوض بالعالم وإنقاذه من شرور الوثنية وبنياتها ومن ضلال العبودية بجميع أصنافها. وإن القومية العربية موضوع مترامي الأطراف. وليس من الممكن الإحاطة به في مثل هذا الخطاب. وحسبي أن أكون قد خدمتها من هذه الناحية التي هي خدمة للإسلام والقرآن وعليكم السلام. (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 15، ص 119 - 124 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.(4/76)
آثار ابن باديس
قسم التراجم(4/77)
رجال الإسلام ونساؤه
ش. " هذا باب جديد فتحناه في (الشهاب) أردنا منه أن يطلع القراء على تراجم بعض رجالنا ونسائنا من سلفنا الصالح وما لهم من صفات أكسبهموها الإسلام وما كان منهم من أعمال في سبيله، ففي ذلك ما يثبت القلوب ويعين على التهديب، ويبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة وما حيي خلف إلاَّ بحياة سلف، وما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم، ولسنا هنا لتتبع الأخبار واستيعاب الحوادث وإنما نقتصر على ما يحصل أصل القصد، ويفي لأكثر القراء بالغرض، ويبعث همم الطلاب إلى التوسل في هذا العلم، ويبعث رغباتهم إلى الازدياد منه، وليس هذا الباب مقصوراً على قلم تحرير المجلة فلكل كاتب أن يعرض فيه ما عنده من حديث عن رجل أو امرأة من أبناء أو بنات الإسلام. واليوم لما جاء ذكر عبارة بن الصامت وزوجه أم حرام في صدر هذا الجزء فإنا رأينا لهذه المناسبة أفتتاح هذا الباب بذكرهما رضي الله عنهما".
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/79)
عبادة بن الصامت
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أنصاري خزرجى من السابقين الأولين. بايع ليلة العقبة وعينه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بها نقيباً، شهد بدراً وجميع المشاهد بعدها.
ممن جمع القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وروى عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كثيراً، فكان بما حفظ من كتاب الله وروى من حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقيهاً في دين الله - ولا والله ما فقه الإسلام ممن لم يفقه الكتاب والسنة، وما كان فقه الصحابة والتابعين وأئمة الدين إلا بالفقه فيهما- ولفقهه بعثه عمر - رضي الله عنه - ومعاذ وأبا الدرداء إلى أهل الشام يعلمونهم القرآن ويفقهونهم، وهكذا كانو يبعثون الفقهاء لتعليم الناس أمر دينهم وتفقيههم فيه، وهو ما أخدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على نفسها القيام به، وهو ما قامت النواحي التي تستغل جهل المسلمين تقاومها من أجله- فأقام عبادة بحمص ثم بفلسطين، وبها مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنين وسبعين سنة.
كان عبادة قويا في دين الله لا تأخذه في الحق لومة لائم، فكان له مع معاوية - وهو أمير على الشام - مواقف في الإنكار عليه، وكان معاوية يعترف له بالتقدم عليه بالفقه، ثم تبرم منه فشكاه إلى عمر -رضي الله عنه- وارتحل إلى المدينة فرده عمر إلى الشام وقال له: قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية أن لا إمرة لك على عبادة. كان صلبا في دينه يوالي في الله ويعادي فيه: كان يهود(4/80)
بني قنقاع حلفاءه فلما رأى عدواتهم للإسلام وتربصهم بأهله جاء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: أن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، وأتولى الله ورسوله. وكان لعبد الله بن أبيِّ رأس المنافقين من الولاية فيهم مثل ما لعبادة، فبقي على ولايتهم واعتذر من بقائهم على ولائهم بأنه يخاف الدوائر. وفيها نزل قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} - إقرأ مع هذه الآية قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فكان عبادة بن صامت أول من سن سنة رفض ولاية موالية لما رأى منهم الشر وتولى الله ورسوله، ومن سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجْرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فرحمه الله الهادين المهتدين(4/81)
أم حرام بنت ملحان
- رضي الله عنها -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
النجارية الأنصارية خالة أنس بن مالك، وأخت أم سليم وزوجة عبادة بن الصامت.
كان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يكرمها ويزورها في بيتها، وما كان ذلك إلاَّ لكمالٍ في دينها وصلاحها، وقد ظهر أثر هذا الدين والصلاح في مبادرتها لطلب الدعاء من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن تكون من الغزاة في البحر لما ذكر لها ما عرض عليه في نومه من أناس من أمته، كالملوك على الأسرة، غزاة في البحر، وعودها إلى الطلب لما ذكر لها مثلهم في المرة الثانية حتى قال لها: أنت من الأولين.
امرأة تسمع بالغزو وفي البحر ولا يهولها الغزو وما فيه من مشقة وما وراءه من القتل، ولا البحر وأهواله وهي امرأة لم تعتد ركوبه ولا تعرف عنه إلاَّ أنه خلق عظيم ذو هول كبير وخطر شديد قريب، لا يقف أمامها لا هذا ولا ذاك، وإنما يقف أمامها ويستولي على نفسها ويحيط برغبتها منزلة الشهادة وما فيها من الأجر والمثوبة، وما وراءها من الخير والكرامة، فتحرص ذلك وتؤكد الطلب، وتعود إليه مرة بعد أخرى، هذا - والله- الإيمان حقاً، والرغبة في العمل الصالح صدقاً وبذل أعز ما عند الإنسان لخالقه في طلب مرضاته.
صدقت أم حرام قولها بفعلها، فلما خرج زوجها مع معاوية لغزو جزيرة قبرص خرجت معه وماتت في تلك الغزاة لما خرجت من البحر ونزلت أرض الجزيرة ودفنت بها. وذكر هشام بن عمار الخطيب المقرئي الثقة أنه رأى قبرها بقبرص ووقف عليه، فرحمة الله عليها من امرأة صالحة ومؤمنة صادقة في نساء المسلمين (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 10، ص 14 - 16 غرة رمضان 1352ه - جانفي 1934م.(4/82)
سعد بن الربيع
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أنصاري خزرجى، شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، أحد النقباء الإثني عشر. شهد بدرا واستشهد يوم أحد، كرم اخوته ومراعاته لحقوقها لما قدم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار لتقوية الرابطة العامة بالرابطة الخاصة فآخى بين سعد بن الربيعة وعبد الرحمن بن عوف. وكان سعد أكثر من الأنصار مالا وكان متزوجاً امرأتين فرأى من حق هذه الأخوة بينه وبين أخيه المهاجري أن يشاطره ما عنده فقال لعبد الرحمن:"إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها" فقال له عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق" (1) فلم يكتف سعد بالنزول لأخيه عن شطر ماله حتى أراد النزول له عن إحدى زوجتيه لأنه يعلم أن الأخوة ليست وصفاً يكفي أن يثبت بالألسنة بل هي رابطة وعقيدة لا تحققها إلا الأفعال وهذه حقيقة الأخوة خاصة كانت أو عامة فالمسلم الذي يشعر بأخوة الإسلام شعوراً صحيحاً ويعتقدها اعتقاداً صادقاً هو الذي يشاطر المسلمين في سرائهم وضرائهم ويشركهم معه فيما عنده من خير بقدر ما استطاع فأما من لم يهتم بأمورهم وقبض يده عن مواساتهم وشح بالفرض والمستحب من الصدقة عليهم فهو كاذب في أخوته جاهل بحقيقة الأخوة وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ
__________
(1) البخاري.(4/83)
فِي الدِّينِ}. وقال -صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها».
صدق ما عاهد الله عليه:
كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص وكان هذا الصحابي من أبطال ذلك اليوم وممن أبلوا فيه البلاء الحسن وجاهد حتى سقط مطعوناً باثنتي عشرة طعنة وتفقده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يره في الناس، فقال من يأتني بخبر سعد بن الربيع فقال رجل - هو أبي ابن كعب - أنا، فجعل يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع ما شأنك، فقال الرجل: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لآتيه بخبرك، قال: "إذهب إليه فأقرأه مني السلام وأخبره بأنني طعنت اثنتي عشرة طعنة وإني أنقذت مقاتلي، وأخبر قومك أنهم لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وواحد (1) منهم حي".
فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم ينسه ما هو فيه من مصاب عظيم في ذلك اليوم من تفقد أصحابه وهذا السيد الجليل لم ينسه ما فيه من ألم الجراح وحالة الاحتضار من إبلاغ سلامه للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن النصح لقومه بما عليهم من حفظ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر واحد منهم وفاء بما عاهدوه عليه ليلة العقبة.
فالمسلم لا ينسيه ألم يصيبه في سبيل الله ما بقي عليه من الواجبات لدينه ولا يترك النصح حتى في أشد الأحوال ويبذل في سبيل الوفاء على ما عاهد الله عليه نفسه راضياً مغتبطاً.
هكذا كان الصحابة يبذلون في حفظ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أرواحهم والتابعون لهم من المسلمين هم الذين يبذلون في
__________
(1) الموطأ.(4/84)
حفظ دينه من بعده كل عزيز فحياته -صلى الله عليه وآله وسلم- في أمته ببقاء دينه فيهم قائماً. والحمد لله أنه لا تزال طائفة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (1).
__________
ش: ج 2، م 10، ص 61 - 62 غرة شوال 1352ه - جانفي 1934م.(4/85)
الحجاج بن عِلاَط
- رضي الله تعالى عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نسبه: الحاج بن عِلاطَ (ككتاب) السلمي.
إسلامه ووفاته: أسلم عام خيبر وتوفي في أول خلافة عمر - رضي الله عنه -.
مسكنه وإقامته: أقام بالمدينة ثم نزل الشام فسكن حمص.
حاله في الجاهلية: كان تاجراً كثير المال وكان يستخرج الذهب من معادن بني سليم.
حاله في الإسلام: هو أول من بعث إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بصدقة من معدن بني سليم فما ذخل الإسلام قبله حتى خرج منه ذلك الشح الذي يلازم في الغالب أرباب الأموال فبادر بإرسال صدقة معدنه طائعاً طيبة بها نفسه وهكذا يفعل الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب.
كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أمراء الآفاق أن يبعثوا إليه من كل عمل رجلا من صالحيها فبعثوا أربعة من البصرة والكوفة والشام ومصر، فاتفق أن الأربعة من بني سليم وهم الحجاج بن عِلاَط، وزيد بن الأخنس، مجاشع بن مسعود وأبو الأعور.
فكان الحجاج أحد هؤلاء الأربعة المشهود لهم من عموم أهل أقطارهم بالصلاح خدعه لقريش حتى نجا بماله: لما فتحت خيبر وكان هو قد أسلم خشي (1) أن تسمع قريش بإسلامه فتستولي على
__________
(1) في الأصل: خيشي(4/86)
ماله الذي كان متفرقا على تجارها وغيرهم، فاستأذن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذهب إلى مكة كاتماً إسلامه ليعمل على تخليص ماله ونجاته به من قريش، فإذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورأى أنه لا بد أن يحتاج في خداع قريش إلى شيء من النقول بخلاف الواقع فقال للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم: "أنه لا بد لي - يا رسول الله - من أن أقول" قال: "قل".
فخرج حتى أتى قريشا فاسألوه عن النبي -صلى الله عليهوآله وسلم- وأصحابه فقال لهم هزم شر هزيمة وقتل أصحابه شر قتل وأخد أسيرا وقال أهل خيبر لا نقتله حتى نبعته إلى أهل مكة فيقتلوه بما قتل من رجالهم. فصدقته قريش فقال لهم أنه يريد أن يعجل إلى خيبر قبل أن يسبقه التجار إليها فأعانوه على جمع ماله حتى نجا به وانطلت عليهم حيلته.
وكان قبل أن يفارق جاءه العباس يسأله عما جاء به من الخبر فأخبره بالحقيقة على وجهها واستكتمه حتى يمضي على خروجه من مكة ثلاثة أيام فلما مضت الثلاثة الأيام لبس العباس حلته وجاء فطاف بالكعبة فلما رأته قريشاً على تلك الحالة الطيبة قالوا له هذا والله التجلد على المصيبة يعنون ما جاءهم به الحجاج من الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبرهم العباس بجلية الأمر وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- افتح خيبر وتزوج ببنت ملكهم وأن الحجاج أخد أموالهم ليلحق به فاشتد عليهم ذلك وبلغ منهم المبلغ العظيم من الأسف والحنق.
وحديث الحجاج هذا قال الإمام عبد البر: "صحيح من رواية ثابت البناني وغيره عن انس" ورواه من الأئمة أحمد وغيره.
الأسوة:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.(4/87)
أذن له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في التقول والأخبار بخلاف الواقع عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لا يجوز أن يقال عليه من الهزيمة والأسر -لأن ذلك كله من خدع الحَرب لأجل التوصل إلى افتكاك مال الحجاج منهم حتى لا يتقووُّا به وإدخال الغيط عليهم وإحداث الوهن في قلوبهم.
فكان ذلك منه -صلى الله عليه وآله وسلم- شرعاً عاماً وحُكماً باقياً في مثل تلك الحال مقدراً بذلك المقدار (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 10، ص 103 - 104 ذو القعدة 1352ه - فيفري 1934م.(4/88)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
كيف كان إسلامه:
من السابقين الأولين وقصة إسلامه كما جاءت في صحيح البخاري - مع الشرح - في مواضع هكذا:"بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لأخيه أنيس: إركب إلى هذا الوادي - يعني مكة - فأعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء فانطلق حتى أقدم مكة وسمع من قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وسمعت منه كلاما ما هو بكلام الشعر. فقال أبو ذر: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنة من ماء وجراباً من طعام وعصا وسار حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - وهو لا يعرفه وهو كره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب فقال له كأن الرجل غريب فقال نعم فقال له علي فانطلق معي إلى المنزل فانطلق معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء فبات عنده فلما أصبح عاد إلى المسجد فقضى اليوم الثاني كالأول ورآه علي واستصحبه إلى منزله فلما أصبح عاد إلى المسجد ومضى عليه اليوم كسابقيه واستصحبه علي معه كالسابق وسأله ألا تحدثني ما الذي أقدمك قال أبو ذر إن أعطيتني عهداً وموثقاً لترشدنني فعلت؟ فأعطاه علي العهد والميثاق فأخبره بالذي أقدمه. قال علي: فإنه حق وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا أصبحت(4/89)
فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف منه عليك قمت كأنني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي فانطلق أبو ذر يقفوا أثر علي حتى دخل علي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فدخل أبو ذر فسمع من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأسلم مكانه فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقال أبو ذر والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله) فقامت إليه قريش فضربوه ضرب الموت حتى أضجعوه على الأرض وأتى العباس فأكب عليه وقال لقريش ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار أن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم فأنقده منهم ثم عاد أبو ذر من الغد إلى مثلها فثاروا عليه وضربوه فأكب عليه العباس وأنقذه منهم كالأول فرجع أبو ذر إلى قومه.
كانت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة فردية سرية وما أعلنت الدعوة للعموم إلا بعد نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وكان ذلك في السنة الثالثة ولكنها مع خفيتها كان الخبر يتسرب خارج مكة حتى بلغ أبى ذر فأرسل أخاه ولم يكفه الخبر عن العيان فقدم بنفسه وأبا أن يسأل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أحداً من قريش، لأنهم كانوا يصدون الناس عنه بالكذب عليه والتزهد فيه وبالأذية لمن يرون منه تصديقه. وكان من صنع الله له- ومن تاقت نفسه لمعرفة الحق أعين عليه - أن ساق إليه علياً فاستضاف على عادة العرب في استضافة الغريب فكان علي دليله إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وحارسه في طريق الوصل إليه من أن تصيبه قريش بأذى كما كان أبو ذر متستراً خوفاً على نفسه. فلما دخل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وشاهد وسمع منه ما حصل له به اليقين(4/90)
أنه رسول الله بادر بالاسلام وأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- بكتمان أمره حتى لا تؤذيه قريش وبالرجوع إلى قومه ليخبرهم لعلهم يهتدون. وفي هذا دليل على أن من كان في مثل ذلك الحال من خوف وعدم القدرة على العدو يجوز له أن يتكتم ودليل على أن من هداه الله كان حقاً عليه أن يسعى في هداية قومه.
لكن أبا ذر الذي كان متكتماً خائفاً من يوم قدومه إلى مكة إلى ساعة إسلامه أبى بعد إسلامه أن يبقى متكتماً وأصبح لا يخاف قريشاً ولا يبالي بما يلحقه منها من أذى وأقسم أن يعلن إسلامه وسط مجامع قريش وأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ذلك وفيه دليل على من أراد أن يتحمل الأذى ويعرض نفسه للهلاك في سبيل إعلان كلمة الحق وإظهار قوة الإيمان وإدخال الرعب والغيظ على قلب العدو كان ذلك حسناً من فعله. وبر أبو ذر في قسمه فقصد إلى المسجد حيث نوادي قريش ومجتمع الملأ منهم وصاح بكلمتي الشهادة. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} في لحظة تبدل أبو ذر من الخائف المتكتم إلى المعلن الذي لا يبالي بالموت، ولقد كادت قريش تقتله لولا أن أنقذه منها العباس بما خوفها به على أموالها من قبيلة غفار ولكن أبا ذر القوي الإيمان الصادق الإسلام أراد أن يعود إلى إرغامهم وإغاظتهم بعد ما ذاق وتحقق من إذايتهم ليعلمهم أنه أقدم على ما كان أقدم عليه عالماً بإذايتهم غير مبال بها فعاد إلى الإعلان وعادوا إلى ضربه وعاد العباس إلى إنقاذه فرجع بعدئذ إلى قومه- وقد استنار قلبه بالإيمان واشتفى من قريش- خير قافل بخير هدية فدعاهم إلى الإسلام فأسلم على يده أخوه وأمه وكثير من قومه (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 11، ص 14 - 16 محرم 1354ه - أفريل 1935م.(4/91)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-2 -
عمله:
العلم ثمرة النظر الصحيح والفهم الثاقب ودوام التحصيل. وقد كان حظ أبى ذر موفورا من هذه كلها ففي الجاهلية قبل أن يلتقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى لله وتوجه وحده رواى مسلم في صحيحه (1) عن عبد الله بن الصامت في قوله:" وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنين قلت: لمن قال: قال لله قلت فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي. اصلي العشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت (انطرحت) كأني خفاء (الغطاء من الكساء أو غيره من الثياب) حتى تعلوا الشمس " فالنظر الصحيح والفهم الثاقب هما أدياه - بإذن الله -إلى هذا الأمان وتوحيد في تلك العبادة وجاهلية والجهلاء، وساقاه إلى البحث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسرعة الأيمان في السباقين الأولين. أما مداومته لتحصل لانه صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من يوم قدم المدينة - وكان قدومه إلى الخندق إلى بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان (2) يوازي ابن مسعود في العلم (3) وقال فيه علي
__________
(1) كتاب الفضائل.
(2) الإصابة.
(3) الإصابة عن سنن ابن داود.(4/92)
بن أبى طالب - رضي الله عنه - "أبو ذر وعاء ملىء علماً ثم أوكئ (ربط فم الوعاء بالوكاء وهو الرباط) عليه".
كان أبو ذر يأخد نفسه بأعلى درجات الزهد والتقلل من الدنيا ويريد حمل الناس على ذلك بشدة في الحق وصراحة فيه فلم يستطع الناس ذلك وما كانوا ليستطيعوه فكانوا يبتعدون منه وكان هو يحب الانفراد عنهم فلم يتأت نشر علمه فيهم. وهذا هو الذي عناه علي - رضي الله عنه - بقوله: "ثم أوكئ عليه".
زهده وورعه:
خرج من الدنيا ولم ينشب (يتعلق) منها بشيء وكان يتحرى عيشة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يمسك من المال ما يزيد على ما لا بد له منه لقوته وقوة عياله (1). شبهه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعيسى عليه السلام وقال فيه يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم. وهذا يدل على أن المنزلة التي كان يلتزمها ليست مما يستطيعه جميع الناس ولا مما يكون تكليفا لازما عاما لهم.
صدقه وصدعه بالحق:
قال فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم (2) - «ما أظلت الخضراء (السماء) ولا أقلت (رفعت) الغبراء (الأرض) من ذي لهجة (لسان) اصدق ولا أوفى من أبي ذر» فكان كما وصفه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول الحق على الوفاء والتمام صراحة دون تورية ولا تعريض ولا مسامحة لشيء فيه مع أي أحد من الناس ولو استاءوا وغضبوا وقد كان هذا حاله من يوم إسلامه إلى أخر أيامه وقد ذكرنا في الجزء
__________
(1 و2) الترمذي.(4/93)
الماضي إعلانه في بإسلامه بين ظهراني المشاركين وكانت مواقفه بعد ذلك مع معاوية - رضي الله عنه - وغيره في مسألة المال كما سيأتي إن شاء الله مما لم يراع فيه خليفة ولا أميراً من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم ورزقنا الاقتداء بهم (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 11، ص 82 - 83 غرة محرم 1354ه - ماي 1935م.(4/94)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-3 -
تربيته:
تثبت الصحبة بمطلق الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع الإيمان به والموت على ذلك ولكن خواص أصحابه هم الذين لازموه وتفقهوا عليه وتربوا تحث رعايته، وهؤلاء هم هم الذين ثبتوا على الإسلام لما ارتد العرب بعد موته وثبت الله بهم الإسلام وكان ذلك - بإذن الله - من آثار الفقه في الدين والتربية النبوية.
كان أبو ذر ممن لازموا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتفقهوا وتربوا وظهرت آثار تلك التربية في حياته بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرف أخلاق أصحابه ونفسياتهم ومقدار استعدادهم فكان يعالج كل قسم بعلاجه ويوجهه في الحياة حسب استعداده، وقد تختلف أجوبته في بيان المقدم من أشياء بحسب حال السائل وحاجته وقد يحذر أحدا من شيئ ويقدم غيره إليه حسب قدرة هذا عليه وضعف ذلك عنه. وفي تربيته لأبي ذر مما سنذكره ما يبين ذلك:
كان في أبى ذر شدة وكان لا يتسع صدره لما يرى مما يكره فكان يحب الوحدة والإنفراد (1). وأول ما كان من شدته في أول
__________
(1) محبته للوحدة قالها ابن عباس، الطبري ج 5 ص 67.(4/95)
أمره أنه ساب راحلا من الموالي - ذكر بعضهم أنه بلال -فعيره بأمه وقال له يا ابن السوداء فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم (1) "يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية" فأنكر عليه تعييره بأمه وبين له أن فيه خلقا من أخلاق الجاهلية وهوا التعظم بالأنساب ثم بين له أدب الإسلام -دين الأخوة والعدل والإحسان الذي لا يفرق بين الأجناس ولا يفضل أحدا على أحد إلا بتقوى الله- فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - له: «إخوانكم خولكم (خدمكم) جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» فتربى أبو ذر بهذه التربية النبوية فلم تبقى له شدة إلا في الحق وكان يعامل مملوكه بما ندبه به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان يلبسه مثل لباسه فلقيه المعرور بالربدة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسأله عن ذلك إذ العادة جارية بأن لباس الغلام دون لباس مولاه فأجابه أبو ذر بالحديث المتقدم ليبين له أنه عامل بالوصاية النبوية.
كان أبو ذر شديدا في الحق وكان من مقتضى شدته أن لا يتسع صدره لما يرى مما يكره، فكان بهذا لا يستطيع معاشرة الناس ولا معاملتهم إذ لا بد أن يكون في الناس ما لا يرضيه منهم فهو لهذا يحب الانفراد عنهم وهو لهذا وذاك ضعيف عن القيام بالحكم بين الناس وعن الولاية على المال والرعاية للأيتام فلما قال للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ألا تستعلمني (2) قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها». فحذره من
__________
(1) البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.(4/96)
الأمارة وبين له أنه ضعيف عنها فإن صدره لا يتسع لما يرى من الخصوم ولددهم وتغالبهم بالحق وبالباطل. وقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرة أخرى: «يا أبي ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم» فنهاه عن أقل الإمارة الإمارة على اثنين وزاد فنهاه عن ولاية مال اليتيم إذ ولاية المال تقتضي حفظه وتثميره وذلك يجر إلى المعاملة والخلطة وهو ضعيف بخلقه عنهما وعنى - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «إني أحب لك ما أحب لنفسي» ما يحبه لنفسه من جلب النفع ودفع الضر لا عين ما نهاه عنه بسبب ضعفه.
وهكذا تربى أبو ذر وبهذه التربية النبوية المراعي فيها طبعه وحاله فكان بعيدا عن الإمارة وما إليها زاهدا في الدنيا زهدا أبعده عن جميع أسبابها وأبنائها حتى لقي الله، رحمه الله. (1)
__________
(1) ش: ج 3، م 11، ص 149 - 151 غرة ربيع الأول 1354ه - جوان 1935 م.(4/97)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-4 -
مذهبه في المال:
أوجب الله الزكاة وجوبا عينيا على من وجدت لديه أسبابها وتوفرت فيه شروطها فهي الحق الثابت في الأموال المقدرة المعلوم وفي المال حقوق أخرى للقيام بالمصالح العامة كفك الأسير وتجهيز الميت وغير ذلك فإذا لم يتول ذلك بعض الناس ليسقط الطلب عن جميعهم تعين عليهم كلهم أن يعطوا كل بحسب ما عنده لتحصيل ذلك الواجب على جماعتهم فهذا الحق الثابت في المال ليس مقدرا لأنه يختلف باختلاف الأحوال.
وقد كان معلوما بنقل التواتر وإجماع أئمة الأمصار أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كان يأخذ جزءا من المال ويترك الباقي لصاحبه وقد صحَّ عنه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس فيما دون خمس أوراق صدقة» أي زكاة.
لكن (1) أبا ذر كان يرى أنه لا يجوز إدخار الذهب والفضة بعد أداء زكاتهما ويحتج على ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
__________
(1) أنظر أحكام الجصاص فى تفسر الآية.(4/98)
وبقوله (1): - صلى الله عليه وآله وسلم - له: «ما يسرني أن لي أحداً ذهبا تأتي ثالثة (أي ليلة) وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين علي». وبأحاديث أخرى في هذا المعنى.
جواب الأئمة عن استدلاله:
لما جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بأن الأخذ إنما يكون لبعض الأموال وجب رد الآية المتحملة إليها. فقول الله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} معناه ولا ينفقونها كلها وهؤلاء هم الذين لم يعطوا شيئا منها وهم مانعو الزكاة فلا تصدق الآية على الذين أنفقوا بعضها وهم المزكون. وأما الأحاديث فهي محمولة على الترغيب في البدل وهي حالة فضل لا تجب على الناس ولو وجبت عليهم لما استطاعوا. والواجب هو الذي يعم وأما الفضل فإن الناس يرغبون فيه ويأتي كل منهم بما استطاع وهم على ذلك متفاوتون وقد قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أبي بكر - رضي الله عنه - التصدق بجميع ماله ورد على من أراد التصدق بمقدار بيضة من ذهب بعين كل ما يملك صدقته بجميع ما يملك ونهى عن ذلك (2) فأصاب أبو ذر فيما اختاره لنفسه من الزهد وعدم الادخار ولكنه أخطأ فيما أراد من حمل الناس على حالة فضل لم يوجبها الله تعالى عليهم ويستطيعوها.
إعلانه رأيه وإثارته الفقراء:
كان أبو ذر الغفاري يعلن برأيه في مجامع الناس بالشام ويندد بالأغنياء غير مكتف منهم بإخراج الزكاة ويقول: "يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
__________
(1) مسلم.
(2) سنن أبي داوود فى كتاب الزكاة.(4/99)
سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم" (1) فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وحتى شكا الأغنياء لمعاوية - وهو أمير الشام من طرف عثمان - رضي الله عنه - ما يلقونه من الناس.
ولو لم يبادر عثمان - رضي الله عنه - باستقدام أبي ذر - رضي الله عنه - إلى المدينة لاتسع نطاق الفتنة بالشام.
حرية النظر:
قد خلف أبو ذر إجماع الصحابة بنظريته السابقة مع قيام الدليل القطعي من النقل المتواتر والنصوص القرآنية الكثيرة المتضافرة على خلاف رأيه، وكان خلافه هذا في مسألة من كبريات المسائل. ومع ذلك تركوا له حرية نظره ولم يلق منهم من أجلها أدنى ضغط ولا أقل تحقير فكانوا بذلك منفذين لما جاء به الإسلام من احترام الآراء وحرية النظر والتفكير.
النتيجة:
فأبو ذر بمذهبه هذا في المال كان شاذاً بين الصحابة - رضي الله عنه - مخالفا لإجماعهم ولم يتعرضوا له في نظره واجتهاده إلا عندما خشوا من بثه الفتنة على الناس. وقد كان أبو ذر بمذهبه الشاذ هذا أول اشتراكي في المال من المسلمين في أول عصور الإسلام وإن لم يعمل بمذهبه في سائر عصوره (2).
__________
(1) الطبري ج 5، ص 66
(2) ش: ج 3، م 11، ص 209 - 211 غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1635م.(4/100)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-5 -
استقدام عثمان - رضي الله عنه - له من الشام:
كان أبو ذر بالشام وكان معاوية أميرا بها لعثمان وكان أبو ذر يتكلم في المجامع ينكر على معاوية أن يقول مال الله يتهمه بأنه يريد أن يمحو عنه اسم المسلمين ليحتجنه دونهم ويندد بالأغنياء أن يقتنوا الأموال وحدثت بسبب ذلك فتنة من الفقراء على الأغنياء وأعضل الأمر على معاوية فكتب إلى عثمان يخبره بالحال، ويشكو إليه أبا ذر، فكتب إليه عثمان أن أبعث أبا ذر، ووصاه بتزويده والرفق به، فلما دخل على عثمان قال له: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذَربَك (حدة لسانك)؟ فصارحه بما كان ينكر عليهم وعلى معاوية فقال له عثمان: "يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي، وآخر ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد".
فقه عثمان:
في أسفار التاريخ كلمات كبيرة كثيرة لرجال سلفنا من الخلفاء والأمراء والقواد تدل على عظيم فقه في الدين وكبير علم بسياسة الأمة وتدبير شؤونها مما يجمع بين تفقيه الدين وتعليم للحكم والتبدير. منها كلمة عثمان هذه لأبي ذر فقد بينت ما على الأمير في نفسه وما عليه في رعيته وأنه لا يجوز حمل الرعية وجبرها على ما لم
__________
(1) الطبري ج 5، ص 66.(4/101)
توضع عليه الفطرة العامة في البشر من الكمالات الإنسانية كعدم التوسع في اقتناء المباحات من الأموال. وأنه إنما على قادة الأمة أن يدعوها إلى تلك الكمالات ويرغبوها فيها، فيرغبوها في الاجتهاد في العمل والاقتصاد في الاقتناء للأموال - في مسألة أبي ذر -فبذلك يتربى الناس على العمل والاجتهاد فلا يمدون أعينهم لما في أيدي الناس ويتربون على البذل والسخاء فيما يحصلون من ثمرات كدهم فيجمعون بين العمل والغنى والسخاء.
والأمة التي تبني حياتها على هذه الأوصول هي الأمة التي تترقى بجميع طبقاتها في ماديتها وروحانياتها فكلام هذا الإمام العظيم المأخود من أصول الإسلام قانون عظيم في سياسة الأمة وتربيتها ومثل من يفقه هذا الفقه هو الذي يصلح لولاية أمر العامة. وأبو ذر - وإن كان فقيها في الدين - فإنه بطبعه الإنفرادي ونفرته من الناس لم يكن ليفكر في هذا ولا ليتفطن له ولذا لم يكن صالحا لشيء من الإمارة. وقد قدمنا نصح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له أن لا يتأمر على اثنين فسبحان من قسم الأخلاق والأرزاق، والعلوم والفهوم، ثم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونوجه كلا لما هو أهل له وله مقدرة عليه. فقهنا الله في ديننا وعرفنا بأقدارنا واستعملنا فيما نبلغ فيه إلى رضاه (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 11، ص 282 - 283 غرة جمادي الأولى 1354ه - أوت 1935م.(4/102)
أبو ذر الغفاري
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-6 -
خروجه إلى الربذة:
أدرك أبو ذر بعد قدومه على عثمان أنه لا يستطيع مخالطة الناس فاستأذن عثمان في الخروج إلى الربذة فأذن له أو أن عثمان قال له: "أو اعتزلت" عرض عليه ما رآه أصلح له فاختار الربذة وعلى كلتا الروايتين لم يأمره عثمان بالخروج حتى يقال فيه أنه قد نفاه كما يقوله المتجنون على عثمان رضي الله عنه.
خرج أبو ذر الربذة (1) فخط بها مسجدا واقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين أرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيا. وقد نهوا عن التعرب بعد الهجرة لما في التبدي والانقطاع عن الجماعة عن الجماعة ومشاهد العلم والدين من الجفوة.
تحذير:
قد ابتلى عثمان بأنواع من البلايا منها ما ينقمه عليه قوم بالباطل فمن ذلك نقمتهم عليه نفيه أبا ذر وقد رأيت فيها ذكرنا أنه لم ينفه. ثم هبه نفاه بالنظر المصلحي كان ماذا؟ (2) فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد فأطلقهم عثمان وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن الرسول الله
__________
(1) الطبري ج 5 ص 66.
(2) العواصم ج 2 ص 106.(4/103)
صلى الله عليه وسلم وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - نقم على عثمان أنه لم يدخله في كتابة المصحف، وقدم زيد ابن ثابت - رضي الله عنه - مع أن عثمان قد كان مقتديا بأبي بكر - رضي الله عنه - وقد قدم زيد بن أبي ثابت لجمع المصحف دون ابن مسعود ولم يقل يوم ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - عنه شيئاً وقد راجع ابن مسعود الحق وقبل ما صنع عثمان.
فعلى النظر في تاريخ عثمان - رضي الله عنه - أن يتثبت ويتحرى حتى لا يقع في ظلم وباطل في حق هذا الإمام الشهيد العظيم.
وفاته:
توفي بالربذة في ذي الحجة من السنة الثامنة من خلافة عثمان وحضر دفنه ابن مسعود في ركب كانوا قافلين من الحج وضم عياله عثمان إلى عياله. وطويت بوفاته صفحة من حياة زكية فاضلة شاذة في عصر الخير والفضل بين فضلاء أخيار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بتشدد في الزهد ونظريته في المال ما كرهوا له منهما إلا ما أراده من تعميمها في الناس. فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة التي كانت تمثل الكمالات الإنسانية بأنواعها، وتتفاوت في بلوغ الغايات منها لتكون قدوة لمن يجيء بعدها كل بما فيه من استعداد لما خلق له من أنواع الكمال.
فجازاهم الله خير الجزاء ورزقنا الاقتداء بهم ولزوم جماعتهم حتى نلقاه ... جل جلاله ... غير مبدلين ولا مغيرين (1).
__________
(1) ش: ج 6، م 11، ص 349 - 350 غرة جمادى الثانية 1354ه سبتمبر 1935م.(4/104)
سيدنا بلال الحبشي
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نسبه:
هو ابن رباح مولود بمكة وأصله من الحبشة وأمه (1) حمامة من السابقات كانت تعذب في الله مثله.
إسلامه:
لما دعى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الإسلام أجابه ضعفاء الناس سنة الله في إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلم- من قبله. قال (2) عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد, فأما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول:"أحد أحد". وليس في هؤلاء المستجيبين لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -من نفس قريش إلا أبو بكر وبقيتهم بين مولى وحليف وقد كان بلال أسبق هؤلاء بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
__________
(1) البخاري.
(2) في الصحيحين.(4/105)
تعذيبه في الله وصبره:
عدت قريش على المستضعفين تعذبهم وتفتنهم لِتَصرفهم عن الإسلام فكان أمية بن خلف الجمحي يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال كذلك حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيصبر بلال على ذلك العذاب ويقول وهو في ذلك البلاء: "أحد أحد". ويأبى أن يقول كلمة الكفر بلسانه وقد علم أنه لا إثم على من يقولها بلسانه إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ويأبى أن يترخص كما ترخص إخوانه المستضعفون وأن يواتي ويوافق كفار قريش ولو بكلمة واحدة.
ترجيح واقتداء:
الحالة التي كان فيها بلال من الصبر والثبات والإباية من شيء من الترخص- أرجح من حالة الترخص وإن كانت هذه سائغة جائزة إذ في الحال الأولى إقامة التوحيد وإرغام المشركين وتثبيت للدعوة وجلب إليها وتقوية لقلوب المستجيبين لها وضرب المثل لكل من أصيب وعذب في الحق ولو أن جميع المبتلين ترخصوا لخفتت كلمة التوحيد وطغت كلمة الشرك وازداد ظلم أهلها ولتزلزلت الدعوة واضطربت قلوب ضعفاء الإيمان وأعرض عنها كل من لم يكن قد استجاب. ولا شك أن حالة الصبر وعدم الترخيص هي حالة الأنبياء- صلوات الله عليهم- وحالة الكبَراء من أصحابهم حتى قتل منهم من قتل وعذب منهم من عذب كما قص أخبارهم القرآن العظيم.
عتقه:
كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - داعية الإسلام من يوم أسلم وكان بلال ممن استجاب له فلما رأى ما حل به من عذاب اشتراه(4/106)
فأعتقه فكان سبباً في عتقه من الرق وعتقه من العذاب وعتقه من الكفر. كما اشترى أمه حمامة وأعتقها في آخرين من العبيد الذين عذبوا في الله. فيا له من عتيق معتق رضي الله عنه.
جهاده:
شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المشاهد كلها وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - خرج إلى الشام مجاهداً حتى مات بها مرابطاً.
والتقى في غزوة بدر بأمية بن خلف وقد أسره عبد الرحمن بن عوف قبل أن يجمع الأسرى فقتله فمكنه الله من عدوه الذي كان يعذبه ذلك العذاب حتى قتله بيده.
وظيفته:
كان أول من أذن في الإسلام واستمر يؤذن حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحياة أبي بكر - على إحدى الروايتين - وأذن مرة بالشام لما قدمها عمر فبكى وأبكى: ذكر الناس بأذانه عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
جزاء الحكيم:
كان بلال- وهو يقاسي العذاب الشديد- يلهج باسمه تعالى: "أحد" فيخف ما يلقاه من ألم التنكيل بلذة التوحيد فكان من جزاء الله الحكيم له أن جعله مؤذن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- وأول من رفع عقيرته بكلمة التوحيد في الآذان. عرف الله في الشدة. فعرفه الله في الرخاء لم يترك اسم أحد في أصعب أوقات حياته فألزمه الله التعبد بالجهرية على الناس معظم حياته. فكان الجزاء من جنس العمل من الحكيم العليم.(4/107)
ثناء عمر - رضي الله عنه -:
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" يعني بلالا فقرنه بأبي بكر في سيادتهم اعترافاً له لما كان من سبقه للإسلام وصبره على البلاء فيه وما كان عليه في دينه وفضله ومكانته عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد كان عمر - رضي الله عنه - شديد التعظيم للسابقين الأولين والتقديم لهم وخصوصاً أهل المنازل الخاصة عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قال لابنه عبد الله بن عمر لما رجح عليه أسامة بن زيد في العطاء: كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منك وكان أبوه أحب إليه منك هذا وإن كانت منزلة عمر - رضي الله عنه - معروفة في الفضل لكنهم هذه أخلاقهم - رضي الله عنهم - ينسون أنفسهم عندما يتحدَّثون على فضل غيرهم حتى كأنهم لا يعرفون لأنفسهم فضلاً.
تبشيره بالجنة:
راى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة أنه دخل الجنة وسمع (1) خشف نعْلي بلال بين يديه في الجنة فقال له حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فقال بلال ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي (2) وكان لا يحدث إلا توضأ وصلى.
فكان يصل الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة فلا يكون إلا على طهارة ولا تنفصل طهارته عن الصلاة فهذه الطَّهارة الدائمة والصلاة الملازمة هي التي عدها أرجى أعماله في الإسلام عنده منفعة. ذلك
__________
(1) صوتها عند تحركها في المشي.
(2) في مسند أحمد.(4/108)
لأن هذه الطهارة الدائمة في الظاهر دليل الطهارة الدائمة في الباطن. وعلى طهارة الباطن تنبني جميع الأعمال وقد عمل هو هذا العمل يرجو منفعته عند الله - كما هي وضعية الإسلام للطاعات كلها - فحقق الله رجاءه. وكان ما رآه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من وجوده في الجنة بين يديه بشارة له بأنه من أهل الجنة وأنه بمنزلة القريبة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكما كان خادماً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يمشي بين يديه في الدنيا كذلك رآه في الجنة تنبيها على أن كل خير ناله - مثل كل من نال شيء من الخير - هو من أتباعه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والقيام بخدمته. وفي هذا كله منقبة عظيمة له بجليل عمله. وبشرى صادقة بعظيم ثوابه عند ربه رضي الله عنه.
سنه ووفاته:
مات بالشام في طاعون عمواس سنة عشرين وقد ناهز السبعين، ودفن بمقبرة دمشق وقيل بحلب فرحمه الله وجمعنا به في دار النعيم آمين (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 11، ص 501 - 504 غرة رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.(4/109)
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
«خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»
عكاشة بن محصن
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إسمه ونسبه:
العكَّاشة، بشد الكاف وتخفيفها، العنكبوت وبه سمي وهو ابن محصن من بني أسد بن خزيمة حليف لبني أمية.
سبقته ومشاهده:
من السابقين الأولين، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد، واستشهد في حروب الردة قدمه خالد بن الوليد هو وثابت بن أقرم العجلاني طليعة يوم بزاخة لقتال طليحة الأسدي، تعاون عليه طليحة وأخوه سلمة فقتلاه بعد ما قتل سلمة ثابتا، فمات شهيداً - رحمه الله -.
أخبار تتعلق به:
1 - سبقك بها عكاشة: ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر» فقام عكاشة بن محصن فقال: أدع الله أن يحعلني منهم. فقال: «اللهم اجعله منهم»، ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «سبقك بها عكاشة»، فجرت هذه الكلمة النبوية مثلاً يضرب لمن أراد أمراً قد سبقه به غيره.(4/110)
بيان:
كانت ساعة إجابة وانقضت فبردت الدعوة لصاحبها أو كان يستحق الدعوة من سبق إليها برغبته مبتدئا دون من جاء ثانيا تابعا. وفضيلة السبق لها أثرها.
2 - سيفه الذي يسمى العون: كان عكاشة قد أبلى البلاء الحسن يوم بدر فضرب بسيفه حتى انقطع في يده فناوله رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جذلا من حطب وقال قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه وهزه عاد في يده سيفاً صارماً طويلاً.
بيان:
ذكر هذا إبن إسحاق وغيره. وانقلاب الجذل سيفا هو من جنس ما تواتر تواتراً معنوياً أمن تأثر المواد الجامدة بلمسه أو دعائه. والذي كمل الله روحه حتى تزكت على يده نفوس تلك الأمة الأمية المنغمسة في حمأة الشرك، والوثنية حتى كان منها في أقرب وقت هداة البشرية ليس بكثير في حقه أن تتأثر بلمسه الجمادات.
إقادة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- له من نفسه:
روى أبو نعيم في "الحلية" حديثا في وفاة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مطولاً وفيه ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أعطى قضيباً لعكاشة ليقتصَّ لنفسه من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بضربة كان ضربه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إياها بذلك القضيب، وهو حديث موضوع. قال السيوطي: آفته عبد المنعم. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لا محالة. كافأ الله من وضعه، وقبح من شين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد والكلام الذي لا يليق بالرسول ولا بالصحابة، والمتهم عبد المنعم بن ادريس. قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على(4/111)
وهب، وقال: يحبئي كذاب خبيث، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على أبيه وعلى غيره اهـ.
تنبيه وتحذير:
ذكرنا هذا الحديث الموضوع الذي رواه أبو نعيم في كتابه (حلية الأولياء) لننبه على وضعه ولنحذر قرَّاء "الحلية" وقد طبعت منها أجزاء، من الاعتماد على كل ما فيها فإن كثيراً من المنتسبين للعلم يغترون باسم الكتاب واسم المؤلف فيتناولون كل ما فيه من الأحاديث بالقبول والتسليم كأنه ثابت صحيح مع أننا نجد فيه مثل هذا الحديث الموضوع الذي قد قال فيه ابن الجوزي ما قال.
القدوة:
هذا الصحابي البدري الجليل قد دل بسؤاله الدعاء أن يكون من السبعين على حرصه على الكمال ورغبته في الفوز بأعلى الدرجات، وخوفه من الحساب، ولم يكن سؤاله ذلك منافياً لإخلاصه لله في عبادته ولا حاطًّا شيئاً من درجته، بل كان سبباً لفوزته بتلك الدعوة ونيله تلك المنزلة، فنعم القدوة هو -رضي الله عنه- في العمل لله مع الرجاء في فضله وطلب المزيد منه، والخوف من عقابه وطلب البعد عنه. هذه هي سنة عباد الله الصالحين وفيها أبلغ الرد على المتنطعين المتكلفين. رزقنا الله اتباعهم في هديهم هدي محمد- صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي عنهم وأرضاهم (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 13، ص 9 - 11 غرة محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.(4/112)
الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ
- رضي الله عنها -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إسمها ونسبها:
هي الربيع بنت معوذ من بني عدي بن النجار الأنصارية.
سابقتها ومشاهدها:
ممن حَضرن بيعة الرضوان وكانت ممن يغزون مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من النساء كن يخدمن الجيش ويسقين الماء ويقمن على الجرحى فيداوينهم ويحملنهم فيرددنهم إلى المدينة.
قدرها ومنزلتها:
كان لها قدر عظيم ومنزلة رفيعة فقد كانت من بيت شهد عدة من رجاله بدراً ومنهم من استشهد بها وهي من الغازيات كما تقدم. ومن قدرها هذا أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- جاءها غداة عرسها فقعد على فراشها وجعلت جويريات من الأنصار يضربن بالدف ويذكرن من قتل من آبائها يوم بدر، وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- يسمع ويقرهن على ضربهن وغنائهن حتى قالت إحداهن: "وفينا نبي يعلم ما في غد" فقال لها: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين».
حكاية طريفة عنها:
كانت يوماً في نسوة فدخلت عليها أسماء بنت مخربة تبيع العطر - وأسماء هذه أم أبي جهل- والربيع أبوها أحد من قتل أبا جهل-(4/113)
فلما عرفتها أسماء قالت لها: أنت ابنة قاتل سيده؟ قالت الربيع، بل قاتل عبده: فقالت أسماء: حرام علي أن أبيعك من عطري شيئاً، قالت الربيع: حرام على أن أشتري منه شيئاً، وقالت- لتغضبها-: ما وجدت لعطرتنا نمير عطرك، وافترقتا على غضب وقطيعة.
الفوائد والأحكام
النساء في الحرب:
ما كانت تقوم به الربيع ومن معها من النسوة في الغزو أصل لتأسيس فرقة النسوة الممرضات في الجيش، ويستتبع ذلك لزوم تهيئتهن لذلك بتعليمهن- غير مخلطات بالرجال- ما يحتجن إليه في الحرب من القيام بعملهن والدفاع عن أنفسهن واستعمال ما يقيهن من الهلاك مع تدريبهن على ذلك كله وتمرينهن عليه، لأن الشارع قد أقر هذه المصلحة فكل ما تتوقف عليه في أصلها أو كمالها وإتقانها فهو مشروع.
إقرار الحق وإنكار الباطل:
الضرب بالدف والغناء في العرس وذكر الأموات بمحامدهم ومقاماتهم- كل هذا مشروع، فأقر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الجويرات عليه. أما علم أحد من الخلق: الأنبياء فمن دونهم بما يكون في المستقبل فباطل ممنوع، قوله واعنقاده، ولهذا نهاهن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- عنه وأمرهن أن يعدن إلى ما كنَّ فيه، ولا ينافي هذا أن الله قد يطلع أنبياءه- عليهم الصلاة والسلام- على بعض ما يكون في المستقبل لأنه علم محدود في شيء مخصوص، كان باعلام الله فلا يتجاوز علمهم إلى ما عداه مما في أحشاء المستقبل من الغيب، ولا لما في الحال منه مما لم يعلموا به، وهكذا كانت سنته(4/114)
- صلى الله عليه وآله وسلم- يقر الحق ويرتضيه وينكر الباطل وينفيه.
حزازات النفوس:
لم تستطع الأيام ولا الدخول في الإسلام، أن تمحو أثر حزن أسماء على قتل أبي جهل أبيها فما عرفت ابنة أحد قاتليه حتى نفثت بما في صدرها ولم تستطع أن تعامل- بالبيع والشراء- من رأت في وجهه وجه قاتل أبيها، ولا يقدح هذا في إسلامها لأن ما كان منها كان عن طبع لا تقوى خلقة الأنثى على مقاومته. ومن هنا نعلم أن مما تتحتم مراعاته في النساء هو هذه الناحية الضعيفة الحساسة فيتحرز دائماً من عدم إثارة ما يحرك ما تبقى آثاره كامنة في نفوسهن من فقد عزيز أو لحوق مكروه.
القدرة:
هؤلاء السيدات الصحابيات رضي الله عنهن قد كن يشاركن الرجال في الحرب وهي أبعد الأشياء عن طبعهن ويقمن معهم بما يليق بهن فلنا فيهم وفيهن القدوة الحسنة أن نشرك معنا نساءنا فيما نقوم به من مهام مصالحنا ليقمن بقسطهن مما يليق بهن في الحياة- على ما يفرضه عليهن الإسلام من صون وعدم زينة وعدم اختلاط، ولن تكمل حياة أمة إلا بحياة شطريها: الذكر والأنثى.
نسئل الله أن ينهض بنا رجالاً ونساء في خدمة الإسلام وفي دائرة الاسلام إنه القريب المجيب (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 13، ص 81 - 83 صفر 1356ه - 13 أفريل 1937م.(4/115)
سمية بنت خياط
- رضي الله عنها -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بيتها:
هي أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، زوَّجها لحليفه ياسر العنسي، فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة، فبيتها يرتبط- ولاء وحلفا- ببني مخزوم من قريش.
إسلامها وسابقتها:
من السابقين الأولين هي وزوجها وولدها.
تعذيبها واستشهادها:
كانت هي وزوجها وابنها يعذبون أشد العذاب في الله فيأمرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: «صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». فقتل زوجها في العذاب وأعطى عمار بلسانه ما سأله منه المشركون وفيه وفي مثله نزل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وأما هي فإن أبا جهل طعنها بالحربة في قُبُلها حتى قتلها، وهي يوم ذاك عجوز كبيرة ضعيفة فكانت أول شهيد في الإسلام.
أوليات النساء في الإسلام:
لا تقوم الحياة إلا على النوعين اللذين يتوقف العمران عليهما، وهما الرجال والنساء، وفي الإسلام كتابه وحياة رسوله- صلى الله(4/116)
عليه وآله وسلم- وتاريخ بدايته- آيات وأنباء ووقائع تدل على ذلك وتدعو إلى اعتباره والعمل بموجبه. وانظر إلى حظ المرأة في السَّبق إلى تأييد الإسلام بالنفس والمال، والعطف والحنان، فأول مال وجده رسول الإسلام- صلى الله عليه وآله وسلم- هو مال خديجة، وأول عطف لقيه، وأول قلب انفتح لسماع كلمة النبوة- كما في حديث بدء الوحي- هو عطف خديجة وقلب خديجة، وأول شهيدة في الإسلام - كما اتفق عليه علماء السيرة- هو سُمية. فلن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم في نطاق عملهن الذي حدده الإسلام وعلى ما فرضه عليهن من صون واحتشام.
الأسوة:
هي سنة الله عرفناها في تاريخ البشرية، لا بد في سبيل الحق من ضحايا. ولقد كانت هذه العجوز الضعيفة مثلاً رائعاً في الصبر والثبات واليقين حتى فازت بتلك الأولية. وكانت في ذلك أحسن قدوة - لا لخصوص النسوة- بل لأهل الرجولة والقوة.
فاللهم إيماناً كإِيمان هذه العجوز وصبراً كصبرها، وشهادة كشهادتها، آمين يا رب العالين (1).
__________
(1) ش: ج 2 م 13، ص 125 - 126 غرة شعبان 1356ه - ماي 1937م.(4/117)
هند بنت عتبة
- رحمها الله -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف زوجة أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس وأم معاوية بن أبي سفيان، أسلمت يوم فتح مكة بعد إسلام زوجها.
كيف أسلمت:
بات المسلمون الليلة الموالية ليوم الفتح يصلون بالمسجد الحرام فرأت هند منهم ما لم تعهد، فقالت والله ما رأيت الله عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً. وأرادت المجيء إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وخافت من ماضيها في الجاهلية فذهبت إلى عمر فجاء معها فاستأذن لها فدخلت وهي متنقبة فأسلمت ولما بايع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- النساء وهي معهن ومن الشرط فيها، أن لَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ، قالت هند: وهل تزني الحرة وتسرق يا رسول الله؟ فلما قال: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتهم ببدر كباراً. ثم رجعت إلى بيتها فجعلت تضرب صنماً لها بالقدوم حتى فلذته فلذة فلذة وتقول: كنا معك في غرور.
صدق إسلامها:
أسلمت متأثرة بما رأت من حال المسلمين وبادرت إلى كسر صنمها وأصبحت تريد أن تعرف ما يحل لها وما يحرم في الإسلام فشكت إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت أنَّ أبا سفيان رجل مسيك بخيل وأنه لا يعطيها من الطعام ما يكفها وأولادها إلا ما أخذت منه بغير(4/118)
علمه فهل عليها من حرج؟ فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك أنت وولدك، فما كانت تفعله قبل إسلامها ولا تتحرج منه أصبحت بعده متحرجة تسأل عن حكم الله فيه وما ذلك إلا من صدق إِسلامها وإخلاصها فيما آمنت به.
أخلاقها:
كانت امرأة لها نفس وأنفة وفيها صراحة وجرأة واعتداد بنفسها وقصتها في الجاهلية مع أول أزواجها الفاكه بن المغيرة وقصة اختيارها للأزواج وغيرها مظهر من مظاهر هذه الأخلاق. وما في حديث إسلامها من مراجعتها للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- من تلك الأخلاق، وأهل هذه الأخلاق إذا كفروا كفروا وإذا أسلموا أسلموا بصدق وكذلك كانت هند في جاهليتها وإسلامها.
عبرة وقدوة:
أنظر إلى الإسلام الصادق كيف تظهر آثاره في الحين على أهله وكيف يقلب الشخص سريعاً من حال إلى حال وبه تعرف إسلاماً من إسلام.
وانظر إلى حلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كيف قابل هذه المرأة التي كان منها ما كان في يوم أحد من أقوال وأعمال فضرب عن ذلك كله صفحاً وكيف واجهته بما واجهته به عند قوله: ولا يقتلن أولادهن، ثم أعرض عن ذلك كأنه لم يسمعه كل هذا حلماً وكرماً وحرصاً على هداية العباد فصلى الله عليه وآله وسلم من نبي كريم بالمؤمنين رؤوف رحيم خير قدوة للعالمين (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 15، ص 66 - 67. غرة صفر 1358ه - مارس 1939م.(4/119)
نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو النِّجَارِي الأَنْصَارِي
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سابقته ومشاهده:
شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها.
ظرفه ونوادره:
كان ظريفاً كثير الدعابة والمزاح حتى يبلغ به ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- كان لا يدخل المدينة طُرفة إلا جاء بها إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول ها أهديته لك. فإذا جاء صاحبها يطلب الثمن أحضره إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال اعط هذا ثمن متاعه فيقول- صلى الله عليه وآله وسلم- أو لم تهده لي فيقول أنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله فيضحك - صلى الله عليه وآله وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه.
وخرج مرة مع أبي بكر في تجارة إلى بصرى ومعهما سويبيط ابن حرملة البدري وكان سويبيط متولياً على الزاد فجاءه نعيمان فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء أبو بكر. فقال: لأغيظنك، فذهب إلى قوم ممن جلبوا إبلا إلى السوق فقال لهم ألا تبتاعون مني غلاماً عربياً فارها وهو ذو لسان، ولعله يقول لكم أنا حر فإن كنتم تتركونه لذلك فدعوه من الآن ولا تفسدوا علي غلامي فقالوا بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها وأقبل بالقوم حتى عقلها ثم قال دونكم هو هذا. فقال القوم لسويبيط قد اشتريناك من سيدك فقال هو كاذب أنا رجل حر. قالوا قد أخبرنا خبرك، وطرحوا الحبل في رقبته وذهبوا به،(4/120)
وجاء أبو بكر وأصحاب له فأدركوا القوم وردوا إليهم القلائص وعرفوهم الحقيقة. فضحك رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم من هذه النادرة مدة عندما يتذكرونها.
وقدم أعرابي فدخل على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأناخ ناقته بالفناء فقال بعض الصحابة للنعيمان لو عقرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل، فخرج الأعرابي فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال من فعل هذا فقال النعيمان فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير واستخفي في سرب لها وجعل عليه السعف والجريد. فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول ما رأيته يا رسول الله ويشير بأصبعه حيث هو فأخرجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- وقد تغير وجهه بالسعف الذي سقط عليه وقال له ما حملك على ما صنعت. قال الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يمسح عن وجهه ويضحك ثم غرمها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- للأعرابي.
الإسلام دين السماحة والسجاحة:
هؤلاء هم خيار الأمة، وهم أهل الصدق والجد، وذوو القوة في الحق والصلابة في العقيدة، وهكذا كانوا أهل سماحة وسهولة وسجاحة ولين في الحالة الاعتيادية. حتى ينفق بينهم مثل هذا الظرف والمزح والدعابة، فإذا الجد فهم هم، فالتزمت والعبوس خشونة ويبوسة في الخلقة، أو تكلف ورياء، وحسبك بهما من شرين. وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقاً فلا يبلغ المزاح بكبار الناس إلى ما بلغ إليه نعيمان ولكن لا تضيق أخلاقهم بمثله.(4/121)
نقص رجح به الكمال:
كان نعيمان رجلا صالحاً وكان يصيب من الشراب فيجاء به إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيقيم عليه الحد فقال له رجل مرة: لعنه، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: لا تفعل إنه يحب الله ورسوله.
قد كان الحد له طهرة، وكانت التوبة له مرجوة، وكان عنده من محبة الله ورسوله ما رجح بذلك النقص والبلية، ولعن المعين لا يجوز.
أتقول كيف كان يحب الله ورسوله ويشرب الخمر؟ فنقول: قد برهن على صدق حبه لله ورسوله ببذله نفسه في تلك المشاهد العظيمة التي شهدها والجود بالنفس أقصى غاية الجود. وأي دليل أدل على صدق الحب من بذل النفس. وأين تقع عبادة ذلك المتعبد الجثامة المنزوي الحريص على الحياة، من ذلك المسلم العادي الذي نصب نفسه هدفا للبلايا والمحن، واقتحم أسباب الهلاك في سبيل الله على هنات فيه؟
هذا، والله، أنفع لعباد الله، وأصدق حبا لله، وأقرب إلى رضوانه، وأدنى إلى المتاب عليه. لأنه من الذين باعوا لله أنفسهم وأموالهم، فاستبشروا ببيعهم الذي بايعوا به: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 15، ص 113 - 115 غرة ربيع الأول 1358ه - أفريل 1939م.(4/122)
الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سابقتها:
أسلمت قبل الهجرة، وكانت من المهاجرات الأول.
منزلتها الشخصية:
كانت من عاقلات النساء وفضلياتهن، وكانت تحسن الكتابة، وهي التي قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «ألا تعلمين هذه- حفصة- رقية النملة كما علمتها الكتابة».
منزلتها في المجتمع:
كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يرعاها ويفضلها ويقدمها في الرأي. تقديراً لسابقتها وعقلها ومعرفتها وفضائلها، وكان ربما ولاها شيئاً من أمر السوق.
الإقتداء:
تتعلم المرأة الكتابة، وتعلم غيرها، وتتولى تدبير أملاكها وتجارتها، وما تستطيعه من عمل عام. كما تولت الشفاء أمر السوق في بعض الأحيان، ولا شك أن مما أهَّلها لذلك عند عمر معرفتها بالكتابة.
تحذير:
يجري على الألسنة ما رواه الطبراني عن الأوسط: عن عائشة مرفوعاً: "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل(4/123)
وسورة النور" قال الشوكاني: في سنده محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب، وكثيراً ما تكون هذه الأخبار الدائرة على الألسنة باطلة في نفسها معارضة لما صح في غيرها فيجب الحذر منها. وقد قدمنا ؤي الجزء الماضي من أدلة تعلم النساء الكتابة ما فيه الكفاية (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 15، ص 168 - 169 غرة ربيع الثاني 1358ه - ماي 1939م.(4/124)
النّعمان بنُ عديّ العدويّ
- رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نسبه:
النعمان بن عدي بن نضلة القرشي العدوي من قوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
سابقته:
هاجر هو وأبوه عدي إلى الحبشة ومات أبوه بها.
ولايته وعزله:
ولاه عمر ميسان - بين البصرة وواسط - ثم عزله فنزل البصرة فلم يزل بها يغزو مع المسلمين حتى مات. وهكذا كانوا - رضي الله عنهم - لا يؤثر عليهم العزل فهم يعملون للإسلام في سبيل الله في أيام العزل مثل أيام الولاية.
خاصتان له:
الأولى: أنه هو أول وارث في الإسلام وأبوه الذي مات في الحبشة أول مورث. والثانية: أنه هو الوحيد من بني عدي الذي ولاه عمر ولم يول عمر رجلا من قومه سواه قطعاً لكل قالة سوء وبعداً عن ((المحسوبية)) ومحاباة الأقربين.
أدب وقدوة:
لما ولاه عمر ميسان أراد زوجته على الخروج معه فأبت عليه(4/125)
فكتب إليها بهذه الأبيات ليثير غيرتها فيحملها على اللحوق به:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها … بميسان يسقى في زجاج وحنتم (1)
إذا شئت غنتني دهاقين (2) قرية … وصناجة (3) تجذو (4) على كل منسم (5)
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني … ولا تسقني بالأصغر المُتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه … تنادمنا في الجوسق (6) المتهدم
فلما بلغ ذلك عمر كتب إليه: بسم الله الرحمن الرّحيم {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أما بعد فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين البيت, وايم الله لقد ساءني ذلك وقد عزلتك.
فلما قدم على عمر وسأله قال والله ما كان من ذلك شيء، وما كان
__________
(1): جرار خضر.
(2): النجار ورؤساء الأقاليم.
(3): مغنية تضرب بالصنج وهو قرصان من نحاس تضرب إحداهما بالأخرى. (4): تقعي على أطراف أصابعها منتصبة القدمين.
(5): أصله أحد ظفري البعير.
(6): القصر.(4/126)
إلاّ فصل من شعر وجدته, وما شربتها قط, فقال عمر: أظن ذلك ولكن لا تعمل لي عملا أبداً.
برأ نعمان نفسه فصدقه عمر ولم يذكر له شأنه مع زوجته تكرماً وكانوا على مكانتهم في الدين يتوسعون في الأدب ويقرضون الشعر على حكم الخيال والفن, ولم ينكر عليه عمر ذلك, وإنما كره أن يكون من أميره ما يكون من سائر الناس وللإمارة هيبتها اللازمة للضبط والتنفيذ, أو أن يجد من أحد ولاته سبيلا للطعن، ولو بشبهة والولاية يجب أن تكون بعيدة عن المطاعن والشبهات فما يسوغ لعموم الناس قد لا يحتمل لبعضهم بحكم المقام والمنصب. وقد قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وأمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ينزل الناس منازلهم (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 15، ص 211 - 213 غرة جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.(4/127)
التعريف بكتاب العواصم من القواصم
للإمام ابن العربي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن العالم لا يكون إماماً في الإسلام حتى يكون إماماً في فقه العربية، إماماً في فقه القرآن، إماماً في فقه السنة، إذ بدون هذه لا يفقه الإسلام، فتلك لغته التي بها أنزل، وذلك كتابه الذي عليه يعول، وتلك (1) بيانه ممن به أرسل. وأن العلماء الذين بلغوا هذه الذروة في الثلاثة في كل عصر ومصر قليلون وفي درجات هاته المنزلة متفاوتون.
إذا نظرنا في آثار ابن العربي التي تركها لنا في كتاب أحكام القرآن وقد نشر. وكتاب المسالك على موطأ مالك ومنه نسخة خطية في المكتبة العمومية بالعاصمة، وكتاب القبس على موطأ مالك بن أنس ومنه نسخة عتيقة أندلسية في خزانتنا- وسننشرها إن شاء الله، وعارضة الأحوذي على جامع الترمذي (2) وكتاب العواصم من القواصم الذي بين أيدينا- إذا نظرنا في هذه الآثار علمنا أن هذا الإمام ممن بلغوا تلك الذروة وأنه جمع إلى الإمامة في تلك الأصول الإمامة في الأصلين، وفي الفقه، وفي علوم الحديث، والتبحر في سائر العلوم الإسلامية المعروفة في عصره ومصره الراقيين المزدهرين والبصر بأقوال الفرق الإسلامية بذلك العهد، والخبرة بأحوال الناس والزمان. وأنه كان في استقلاله العلمي كما قال عن نفسه في هذا الكتاب: "هل
__________
(1) يقصد بذلك السنة.
(2) طبع بمصر سنة 1350ه.(4/128)
أنا إلا ناظر من النظار أدين بالاختيار وأتصرف في الأصول بمقتضى الدليل".
قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلها على خطة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال بعلم صحيح وفكر ثاقب وعارضة واسعة وعبارة راقية في البلاغة وأسلوب حلو جذاب في التعبير.
وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألف قد سار فيه على تلك الخطة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمة وعلوماً كثيرة، فتعرض فيه لآراء في العلم باطلة، وعقائد في الدين ضالة، وسماها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقة مؤيدة بأدلتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسماها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة الفلاسفة السفسطائيين والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصبة للأشخاص باسم الإسلام واستتبع ذلك ذكر ما وقع في الصدر الأول من الفتن، والكلام على الخلافة والإمامة وبيان فضل ألصحابة واندرج في أثناء ذلك كله تحقيقات تاريخية ومباحث حديثية وتفسيرية ولغوية ونصائح علمية وإرشادات تذكيرية كلها في إفادة وإيجاز حتى لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب مما تشد عليه يد الضنين.
سالكاً في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلة نقلية في نصوصها عقلية برهانية في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا(4/129)
الكتاب (وهكذا هي حقيقة الملة من أراد أن يدخل فيها داخلة رد عنها إليها بأدلتها) وهي طريقة القرآن الذي اتضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلتها.
وإذ لم يكن بد من الخطأ لغير المعصوم فليس تفاضل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضلهم في قلته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرناه في وصفه من كمال ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطأ يسير لا يسلم منه بشر، وحسب كتابه هذا أن يكون مورداً معيناً لطلاب العقائد الإسلامية الحقة بأدلتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خراب وتدجيل، وأن يكون أنموذجاً راقياً في التحقيق في البحث والتعمق في النظر والاستقلال في الفكر والرجوع إلى الدليل والاعتضاد بانظار الأئمة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخ صادق لما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كله باعثاً لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته.
أول سماعي بهذا الكتاب وفضله كان من العلامة الكبير أستاذنا الشيخ محمد النخلي أحد أساطين جامع الزيتونة المعمور، والنهضة الفكرية بتونس، فاستعرت نسخة من خزانة الجامع وكانت هي النسخة الوحيدة للكتاب بها.
كتبت هذه النسخة بخط أندلسي قديم في القالب الربعي وكتب في آخرها: (تمت العواصم من القواصم بحمد الله وعونه يوم الأربعاء في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة).
كانت هذه النسخة في خزانة الجامع كالكنز الدفين، يمنع من الاستفادة التامة منها صعوبة خطها وتخليط أوراقها وأظن أن المسفر لما جمع أوراقها عند التفسير جمع كما اتفق ففككت سفرها وبذلت(4/130)
الجهد في ترتيبها حتى كملت كما هي بدون أن تنقص منها ورقة ثم بعد سنوات عزمت على نشرها فاستعرت النسخة من خزانة الجامع المذكور واستنسخت منها بنفسي نسخة قدمتها للطبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة وأبقيت النسخة الأصلية لأراجعها عند التصحيح وقد بذلت الجهد في النقل والتصحيح رغم صعوبة الخط ومواضع المحو والتخريج ثم راجعت الجزأين بعد تمام طبعهما فألحقت بكل واحد منهما (1) جدول الخطأ والصواب وإذا بقيت بقايا قليلة فإنها لا تخفى على اللبيب.
والله أسأل قبول العمل وغفران الزلل ونفع المستفيدين إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
__________
(1) في الأصل منها.(4/131)
ترجمة الإمام ابن العربى
بقلم الناشر
معتمدا على ما في الديباج لابن فرحون ونفح الطيب للمقري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نسبه وأوليته:
هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد ابن العربي المعافري الإشبيلي الأندلسي.
عرفنا من أوليته أباه، فقد كان فيها من فقهاء بلدة إشبيلية، ذا مكانة ورياسة وحظوة عند ملوكها بني عباد. قال عنه صاحب المطمح: (كان ... بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها. واصطفاه معتمد بني عباد، اصطفاء المأمون لابن أبي ذؤاد، وولاه الولايات الشريفة. وبوأه المراتب المنيفة، فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتحلت رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستكنافه، فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا، ففاء إلى الرواية والسماع، وما استفاد من آمال تلك الأطماع.
وقال عنه ابن فرحون: (سمع ببلده من أبي عبد الله بن منظور وأبي محمد بن خزرج، وبقرطبة من أبي عبد الله محمد بن عتاب وأبي مروان بن سراج، وحصلت له عند العبادية أصحاب إشبيلية رئاسة ومكانة، فلما انقضت دولتهم خرج إلى الحج مع ابنه القاضي أبي بكر يوم الأحد مستهل ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة).
وبعد ما مكث بالمشرق بضع عشرة سنة توفي بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين.(4/132)
نشأته:
نشا أبو بكر في كنف أبيه- وقد عرفت من هو- فأرضعه أخلاف الأدب وأحضره مجالس العلم فتأدب وقرأ القراءات وسمع من أبيه وخاله أبي القاسم الحسن الهوزني، واستكمل العلم وحصل أسباب الإمامة بعد رحلته إلى المشرق مع أبيه.
وقال هو عن نفسه: حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه وتمرنت في الغريب والشعر واللغة ثم رحل بي أبي إلى المشرق.
رحلته:
رحل مع أبيه في التاريخ المذكور وسنه إذ ذاك سبعة عشر عاما، وقال صاحب المطمح عن سنه وحاله أيام الغربة مع أبيه: "وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب مادَّوح، وفي روض الشباب زهر ماصوَّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه. واطردت له مقاييسه فجد في طلبه، واستجد به أبوه متمزق إربه، وبقي أبو بكر متفرداً، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيدا، ولم تجد عنه الرئاسة محيداً".
دخل الشام والعراق وبغداد وحج سنة تسع وثمانين وعاد إلى بغداد ثم صدر عن بغداد وأقام بالإسكندرية ثم انصرف منها إلى الأندلس سنة خمس وتسعين بعد عامين من وفاة أبيه فقدم بلده إشبيلية. وقال صاحب المطمح عن قفوله إلى وطنه: "فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها".(4/133)
وإذا كان رحل سنة خمس وثمانين وسنه سبعة عشر عاما ورجع سنة خمس وتسعين فقد قضى في الغربة ت عشرة أعوام وقفل إلى وطنه إماماً عظيماً وسنه سبعة وعشرون عاما.
أشياخه:
سمع بالأندلس أباه وخاله وأبا عبد الله السرقسطي وببجاية أبا عبد الله الكلاعي وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني وبالإسكندرية من الأنماطي وبمصر من أبي الحسن الخلعي ولقي بها أبا الحسن بن مشرف ومهديا الوراق وأبا الحسن بن داوود الفارسي. ولقي بالشام أبا نصر المقدسي وأبا سعد الزنجاني وأبا سعيد الرهاوي وأبا القاسم ابن أبي الحسن القادسي والاكفاني وابن الفرات الدمشقي. وسمع ببغداد من أبي الحسن الصيرفي والبزاز وابن طرخان ومن النقيب أبي الفوارس الزينبي وجعفر بن أحمد السراج زكريا التبريزي ببغداد أيضا الشاشي والإمام أبا بكر وأبا حامد الطوسي الغزالي والإمام أبا بكر الطرطوشي.
تلامذته:
أشهر من أخذت عنه القاضي عياض والإمام السهيلي صاحب الروض الأنف والحافظ ابن بشكوال في كثيرين غيرهم.
منزلته في العلم والفضل:
ونريد أن نتعرفها ممن ترجموا له من تلامذته والقريبين من عصره.
قال الحافظ ابن بشكوال فيه: "الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس، كان موصوفا بالعلم والكمال" وقال ابن سعيد: "هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب"، وقال ابن الزبير: "قيد الحديث وضبط ما روي واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام(4/134)
على أئمة هذا الشأن وكان فصيحها حافظاً أديباً شاعراً كثير الملح مليح المجلس" ثم قال ابن الزير: "قال القاضي عياض بعد أن وصفه بما ذكرته: ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس الكلام وطعنوا في حديثه".
من يعني القاضي عياض بالناس الذين أكثروا الكلام وطعنوا في حديث ابن العربي؟ قطعاً لا يعني بهم العلماء لأننا سمعنا فيما تقدم ما وصفوه به ومنهم القاضي عياض نفسه. وإنما عني بهم العامة وأشباه العامة ممن تضيق أذهانهم عن تصور ما لم تره أبصارهم من مثل ما شاهده ابن العربي في مدن الشرق ومدنيته الزاهرة في ذاك العهد، وتقصر مداركهم عما تحيط به عقول العلماء المتوسعين في العلم الراسخين فيه مثل ابن العربي "خزانة العلم وقطب المغرب".
وهاك واقعة دالة على سعة علم ابن العربي وتحامل أهل القصور عليه حتى جاء إمام عظيم فبين صدقه وقصور أولئك المتحاملين:
قال الزرقاني في شرحه على المواهب في غزوة الفتح: وروى ابن مسدي أن أبا بكر بن العربي قال لابن جعفر بن المرخي حين ذكر أن مالكا تفرد به "حديث أنس في دخول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مكة وعلى رأسه المغفر" قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك فقالوا له أفدنا الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا. وقال الحافظ في نكته: "إستبعد أهل إشبيلية قول ابن العربي حتى قال قائلهم:
يا أهل حمص ومن بها أوصيكم … بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العربي أسمار الدجى … وخذوا الرواية عن إمام متقي
إن الفتى ذرب اللسان مهذب … إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلق
وأراد بأهل حمص أهل إشبيلية" قال الحافط: "وقد تتبعت طرقه(4/135)
فوجدته كما قال ابن العربي بل أزيد" فعد ستة عشر نفساً غير مالك رووه عن الزهري وعزاها لمخرجيها قال: "ولم ينفرد الزهري به بل تابعه يزيد الرقاشي عن أنس. أخرجه أبو الحسن الموصلي في فوائده ولم ينفرد به أنس بل تابعه سعد بن أبي وقاص وأبو برزة الأسلمي في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري وسعيد بن يربوع والسائب بن يزيد في مستدرك الحاكم" قال: "فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري عن أنس، فكيف يحل لأحد أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا إطلاع" انتهى. لله در ابن العربي لما وعدهم ولم يخرج لهم شيئا، لقد ضن بعلمه على المعاندين ولم يعدم حقه من ينصره ولو كان ذلك بعد قرون، وجزى الله الحافط ابن حجر عن العلم وأئمته خير جزاء.
ولنعد إلى نقل كلام مترجميه فيه، قال ابن فرحون: "وقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يأت به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها متقدماً في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذاً في جميعها حريصا على أدائها ونشرها ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها. ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود".
ولايته للقضاء:
ولي قضاء قضاة كورة بلده إشبيلية فقام فيه بالعدل والقوة ولحقه من جراء ذلك بلاء ومحنة أبقت ثناء وذكراً ثم صرف عنه.
قال ابن الزبير: "وولي القضاء مدة أولها سنة ثمان "لعله بعد الأربعمائة" (1) فنفع الله به لصرامته ونفوذ أحكامه، والتزام الأمر
__________
(1) الصواب أنه ولي القضاء سنة 508ه لأن سفره إلى الشرق كان سنة 485ه. 136(4/136)
بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله فأحسن الصبر على ذلك كله ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه".
وقال القاضي عياض: "واستقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة".
وقال المقري في نفح الطيب: "وقام بأمر القضاء أحمد قيام مع الصرامة في الحق والقوة والشدة على الظالمين والرفق بالمساكين، وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر" ولعل هذا من الأحكام الغريبة التي أشار إليها القاضي عياض.
محنته:
قد عرفنا مما تقدم أن ابن العربي أصابته محنة في قضائه بسبب شدته في الحق وصرامته في الأحكام. وقد ذكر هو هذه المحنة في كتاب العواصم وأنها كانت بسبب إلزامه الناس للصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال المقري: "وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ولم يكن بها مال متوفر ففرض على الناس جلود ضحاياهم وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها كارهين. ثم اجتمعت العامة العمياء وثارت عليه ونهبوا داره" ولا منافاة بين هذا وما قبله فإن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر كان متكررا وعند هذه الواقعة- والأمر فيها عام- قامت عليها العامة ولا شك أنها لا تخلو من إيعاز من حساد ابن العربي من الخاصة. وهكذا من يريد أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه التنفيذ، مقدر له أن يلقى هذه وأمثالها.
تصانيفه:
كان هذا الإمام من المصنفين المكثرين المجيدين قال ابن الزبير-(4/137)
ونقله عنه ابن فرحون-: "وصنف في غير فن تصانيف مليحة كثيرة مفيدة. منها أحكام القرآن كتاب حسن (مطبوع بمصر) وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك (منه نسخة في مكتبة الجزائر بها نقص وعندنا منه جزء فيه ما يكمل ذلك النقص) وكتاب القبس (سنمثله للطبع إن شاء الله) وعارضة الأحوذي على كتاب الترمذي (منه نسخة بجامع الزيتونة) (1) والعواصم من القواصم، والمحصول في أصول الفقه، وسراج المريدين، وسراج المهتدين، وكتاب المتوسط، وكتاب المتكلمين (كذا في ابن فرحون وأراه المشكلين مشكل الكتاب والسنة) وله تأليف في حديث أم زرع وكتاب الناسخ والمنسوخ وتخليص التلخيص وكتاب القانون في تفسير القرآن العزيز وله غير ذلك من التآليف. وقال في كتاب القبس أنه ألف كتابه المسمى أنوار الفجر في تفسير القرآن في عشرين سنة ثمانين ألف ورقة وتفرقت بأيدي الناس (قلت): - ابن فرحون- وأخبرني الشيخ الصالح يوسف الحزام المغربي بالإسكندرية في سنة ستين وسبعمائة قال رأيت تأليف القاضي أبي بكر بن العربي في تفسير القرآن المسمى أنوار الفجر كاملا في خزانة السلطان الملك العادل أمير المسلمين ابن عنان فارس ابن السلطان أمير المسلمين أبي الحسن علي ابن السلطان أمير المسلمين ابن سعيد عثمان بن يوسف بن عبد الحق.
وكان السلطان إذ ذاك بمدينة مراكش، وكانت له خزانة كتب يحملها معه في الأسفار وكنت أخدمه مع جماعة في حزم الكتب ورفعها فعددت أسفار هذا الكتاب فبلغت عدتها ثمانين مجلدا ولم ينقص من الكتاب المذكور شيء. قال أبو الربيع: "وهذا المخبر يعني يوسف ثقة صدوق رجل صالح كان يأكل من كده" وذكر المقري من تصانيفه: كتاب مراقي الزلف وكتاب الخلافيات وكتاب نواهي الدواهي وكتاب
__________
(1) مطبوع بمصر سنة 1350ه.(4/138)
النيرين في الصحيحين وكتاب الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا وكتاب في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب وكتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر وتبيين الصحيح في تعيين الذبيح وتفصيل التفضيل بين التحميد والتهليل ورسالة الكافر في أن لا دليل على النافر، وكتاب السباعيات وكتاب السلسلات وكتاب التوسط في معرفة صحة الاعتقاد، والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد وكتاب شرح غريب الرسالة وكتاب الأنصار (1) في مسائل الخلاف عشرون مجلدا وكتاب حديث الإفك وكتاب شرح حديث جابر في الشفاعة وكتاب ستر العورة وكتاب أعيان الأعيان وكتاب ملجاة المتفقهين إلى غوامض النحويين وكتاب ترتيب الرحلة وفيه من الفوائد ما لا يوصف.
مولده ووفاته:
ولد ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة. وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة (عاصمة مراكش) بعد دخول الموحدين مدينة إشبيلية فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا فأدركته منيته فحمل ميتا إلى مدينة فاس فدفن بتربة القائد مظفر خارج باب المحروق وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة رحمه الله ونعمه (2).
__________
(1) كذا في الأصل والصواب الإنصاف.
(2) من كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي رحمه الله تعالى، ج 2 من أ إلى ع. وهي المقدمة التي وضعها ابن باديس رحمه الله لهذا الكتاب واقتضاه الأمر أن يجعلها في ذيل الجزء الثاني من الكتاب المذكور.(4/139)
عبد العزيز الثعالبي
هكذا أذكره دون لقب أو صفة فإن هذا الإسم لم يبق علما على ذات مشخصه تحتاج إلى صفاتها وألقابها، بل صار في أذهان الناس علما على الرجولة والبطولة والزعامة، وعلى التفكير والعمل والتضحية وعلى الإسلام والشرق والعروبة وعلى وحدة إفريقيا. فإذا قلت عبد العزيز الثعالبي فقد قلت هذا كله. أسرة الثعالبي جزائرية، وهو مولود بالجزائر وجده ممن شاهد بعضا من معارك الجزائر في رد الحملة الفرنسية وأصيب برصاص العدو، وبقيت آثاره في صدره، فكان يكشف عن ذلك الصدر لعبد العزيز في صغره ويذكر له الجزائر والاستيلاء عليها وهجرته هو وغيره من الجزائريين من ذلك الاستيلاء.
نشأ الثعالبي تونسيا ودرج للعلم زيتونيا وتعدت به عبقريته دائرة الكتب الزيتونية الدراسية الضيقة فأخذ يتناول كل ما تصل إليه يده من خزانة الجامع ومكتبة العبدلية وكانت مبائته بضع سنوات عدة. وكان ذهنه الحاد وحافظته القوية ورغبته الملحة مواهب أكسبته مما درس وقرأ نبوغا في الفهم والخطابة والكتابة: فبرز من جامع الزيتونة نابغة عبقريا غريبا شاذا بين أهل عصره شأن كل نابغة عبقري.
لقي عبد العزيز من الجامدين والمستبدين- وما زالا على الدهر متوالين- ما يلقاه مثله فعوكس وأوذي وسجن ولكنه لم يتزحزح قيد شعرة عما حبس نفسه عليه من إصلاح المجتمع من جميع نواحيه.
رحل الثعالبي للأزهر وحضر دروس البشري، وعاد إلى تونس وقد فتحت له الرحلة عالما آخرا وابتدأ تكونه العالمي بعد الإقليمي ورحل إلى(4/140)
[صورة: الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ عبد العزيز الثعالبي]
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزائر والمغرب فتم تكونه الإفريقي. أعطى الثعالبي تونس حقها ووضع لها كل أسس نهضتها ثم فارقها في رحلته الأخيرة ليعطي حق الشرق والعروبة والإسلام فكان نظام العقد وعنوان الوحدة وروح الاتصال والعلم الإفريقي الخفاق الذي لفت أنظار الشرق إلى الشمال الإفريفي وإلى تونس عروس ذلك الشمال. وكان الثعالبي في الشرق من جهة أخرى برهانا ساطعا ودليلا متنقلا على ظلم الاستعمار واستبداده، وما يلاقيه الأفارقة من كيده وبلائه، ويكذب كل ما يتظاهر به هنالك حيث لم ترسخ قدمه ولم يتم سلطانه. شعرت فرانسا- أخيرا- بعظيم ضرر ذلك على سياستها في الشرق العربي والإسلامي فأذنت للثعالبي في العودة لوطنه.(4/141)
فالإستعمار هو انفى الثعالبي لمصلحته هنا والاستعمار هو رد الثعالبي لمصلحته هنالك. وأبى الله إلا أن يستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هناك ويستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هنا. فاعتبروا يا أولي الأبصار!
عاد الثعالبي فاهتزت فرحا إفريقيا الشمالية كلها وتونس وطنه والجزائر مسقط رأسه ووطن أسلافه ورأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في قدومه اعتزاز الإصلاح الإجتماعي الإسلامي من ناحية الفكر والعلم والأخلاق والسلوك في الحياة- وهذا ما تعمل له الجمعية- فأبرقت تهنئه وتهنيء الأمة التونسية الشقيقة به، ثم رأت أن تعرب عن سرورها بقدومه وإعجابها بمواهبه وتعظيمها لجانبه بذهاب رئيسها لتحيته وتهنئه بقدومه وإبلاغه كل ما تحمله الجمعية والجزائر العربية المسلمة من الحب والاحترام والتعظيم لشخصه.
ذهبت يوم الخميس 14 جمادى الأولى إلى تونس وزرت الثعالبي في داره وبلغته عن الجمعية رسالتها فقابلها بالشكر والثناء وتلقاها بالفرح والسرور وأي سرور هو؟ سرور من وقف نفسه على الإصلاح وفارق الشمال الإفريقي ولا دعوة للإصلاح فيه، ثم جاءه بعد مدة من الدهر فوجد للإصلاح جندا قويا وقيادة منظمة وصوتا عاليا وكلمة نافذة وتقديرا لأمثاله من الرجال المصلحين.
انتهت بهذه المقابلة مهمتي كرئيس للجمعية وموفد من طرفها. وكانت بعد ذلك المجالس والاجتماعات والحفلات والزيارات في دار الشيخ وغيرها مع الشيخ ودونه- كانت وكنت فيها كجندي بسيط من جنود العروبة والإسلام. فما شئت من أنس، ونعيم نفس، وكل ما يغذي الروح ويحيي الوجدان ويرضي العروبة والإسلام.(4/142)
وَحَدِيثٍ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا … تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ يُوزَنُ وَزْنَا
مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا … ناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْناً (1)
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 7 م 13، ص 316 - 318 رجب 1356ه - سبتمبر 1937م.(4/143)
وحدة الشمال الإفريقي:
أبناء المغرب العربي
في الشرق العربي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حيثما توجهنا إلى ناحية من نواحي التاريخ وجدنا هذا المغرب العربي- طرابلس، تونس، الجزائر، مراكش - يرتبط بروابط متينة روحية ومادية تتجلى بها وحدته للعيان. ولسنا نريد هنا أن نتحدث عن التاريخ القديم وإنما نريد أن نعرض صفحة من التاريخ الحديث الجاري.
مضت حقبة من الدهر كاد فيها الشرق العربي أن ينسى هذا المغرب العربي وإلى عهد قريب كانت صحافة الشرق- غالبا- لا تذكره إلا كما تذكر قطعة من أواسط أفريقية ومجاهلها، بل في هذه الأيام يغمط حقه ويتجاهل وجوده في كتب لها قيمتها كـ"ضحى الإسلام" وغيره. ولكن هذا المغرب العربي- رغم التجاهل والتناسي من إخوانه المشارقة- كان يبعث من أبنائه من رجال السيف والقلم من يذكرون به، ويشيدون باسمه، ويلفتون نظر إخوانه المشارقة إلى ما فيه من معادن للعلم والفضيلة، ومنابت للعز والرجولة، ومعاقل للعروبة والإسلام، ناهيك بالأمير عبد القادر المجاهد الجزائري وأبنائه الذين شاركوا في مشانق جمال وثورة الغوطة وبحفيده الأمير خالد زعيم الجزائر الذي مات بمنفاه بالشام- وبسليمان باشا الباروني الطرابلسي والشيخ السنوسي الطرابلسي الجزائري الأصل وبالشيخ طاهر الجزائري الأصل وبالشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس الجزائري الأصل والشيخ الخضر حسين التونسي الجزائري الأصل(4/144)
[صور: الشيخ الخضر بن الحسين، الأستاذ الهلالي، الشيخ إبراهيم أطفيش]
ــــــــــــــــــــــــــــــ
والشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي وغيرهم. فقد كان هؤلاء السادة الأعلام كما يرفعون اسم المغرب العربي في الشرق العربي يمثلون وحدة هذا المغرب، وقد دعانا إلى تحرير هذا والتنعم به ما رأيناه في عدد (الفتح) الممتاز من ذكر ورسم لبعض هؤلاء السادة الذين ذكرنا. فقد أصدر الأخ المجاهد الأستاذ محب الدين الخطيب عددا ممتازا من مجلته الراقية بمناسبة دخولها في السنة الثانية عشرة من سني جهادها وذكر عددا من الذين شاركوه في الجهاد أو كان منهم تأييد له فيه ونشر رسومهم فكان من جملتهم خمسة يمثلون المغرب العربي هم الشيخ طاهر الجزائري وسليمان باشا الباروني الطرابلسي والشيخ الخضر بن الحسين التونسي والشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي. والشيخ إبراهيم أطفيش الجزائري. ونحن نحلي جيد هذا الجزء برسومهم وننشر ما كتبه الأخ الأستاذ محب الدين عنهم فيما يلي:(4/145)
[صورة: السيد سليمان باشا البارونى](4/146)
[صورة: الشيخ طاهر الجزائري](4/147)
شيخي:
هو الذي ربى عقلي، وهو الذي حبب إلي هذا الاتجاه الفكري منذ كنت طفلا إلى أن صرت رجلا، ولا أعرف مؤلفا ولا حامل قلم نشأ في ديار الشام إلا وقد كانت له صلة بهذا المربي الأعظم واستفادة من عقله وسعة فضله إما مباشرة أو بواسطة الذين استفادوا منه. وكل الذين جاهدوا هناك لأجل الحرية، وفي سبيل المعارف، ولإحياء علوم السلف، ولإعادة مجد العروبة والإسلام، إنما كانوا من إخوانه وهو واسطة عقدهم ورأس مجالسهم أو من طبقة تلاميذه، وهو قدوتهم ومطمح أنظارهم أو من الذين أخذوا عن تلاميذه وهو مضرب المثل عندهم في كمال العقل وسعة الاطلاع التي لا حد لها، وبالإجمال هو جرثومة الخير الأولى من أيام ولاية مدحت باشا على سوريا إلى أن هاجر الرجل العظيم إلى مصر حوالي سنة 1325ه فكان موضع حرمة كل من يعرف الفضل من أهلها كتيمور باشا وأحمد بك الحسيني وأحمد زكي باشا والشيخ علي يوسف وأمثالهم وأهم كتب السلف النافعة التي نشرها الناشرون إنما نشروها بإشارته وتحريضه. وأنا وكل ما نشرته لسنا إلا قطرة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هذا العالم العامل الذي كانت الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، وليس له فيها من أمنية إلا أن يرى عز الإسلام يعود كما كان في أيام القوة والعدل والعلم وتقوى الله عز وجل. إني لأرمي نفسي بالعقوق وإنكار الجميل كلما فكرت في إبطائي حتى الآن عن القيام بحقه عليَّ للتاريخ ولكن إذا عظم المطلوب خارت القوة دونه، وحياة الشيخ طاهر الجزائري حياة دور من أدوار الإصلاح بل هي تاريخ الأمة في حقبة(4/148)
من حياتها. ولا بد أن أقوم بهذا الواجب في يوم من الأيام. رحمة الله عليه ومغفرته ورضاه.
السيد محمد الخضر حسين:
العلامة الجليل الأستاذ السيد محمد الخضر حسين في مقدمة الأفاضل الذين أمدوا هذه الصحيفة بآثار فضلهم من سنتها الأولى إلى الآن، فما هوجم الإسلام في وقعة إلا وكان للأستاذ حفظه الله دفاع أمتن من الفولاذ، وأرسخ من الجبال الراسيات.
والسيد حفظه الله محبوب من كل محب للإسلام، معروف فضله لكل من اتصل به من أبناء الشرق والغرب، وقد تعود من صدر حياته أن يحمل دنياه على آخرته، وأن يضحي بالأولى في سبيل الأخرى إذا تعارضتا.
نرجو الله أن يمد في حياته، وأن يزيده قوة على الخير.
جانب عامر من جوانب القيادة:
نحن نشكوا دائما ضعف القيادة في العالم الإسلامي وللضعف مظاهر وأعراض ذات ألوان مختلفة وكلما وجدنا جانبا من جوانب القيادة عامرا بالاستقامة والصلابة والإخلاص كان حقا علينا أن نحمده ونعلن اغتباطنا به. وصاحب السعادة سليمان باشا الباروني من أعيان هذه الأمة الذين تحلوا بمزية الاستقامة والإخلاص إلى أبعد حد. عرفنا ذلك فيه منذ كان نائبا عن طرابلس الغرب في مجلس المبعوثان العثماني ثم ازددنا بذلك علما عند ما رأينا جهاده المجيد في سبيل الله والوطن بعد حادث الاختطاف الذي كان من إيطاليا لطرابلس الغرب وبرقة، وقد نشرنا في العدد 525 من (الفتح) صورة شمسية لوثيقة صادرة(4/149)
من دائرة حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسن تثبت إصرار سليمان باشا الباروني على إعادة ستة آلاف جنيه قدمت إليه من الإعانات الطرابلسية فردها وقال: "إن الإعانات للمجاهدين والآن لا جهاد" مثل هذه المنقبة الممتازة يحملنا على تزيين هذا العدد الممتاز بصورة القائد المجاهد سليمان باشا الباروني، مغتبطين بما نشرناه له في العدد 532 من كلمات الرضا عن الفتح وخطته.
مد الله في حياته وأدام المحبة بين المسلمين.
صديقنا:
هبط صديقنا الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم أطفيش وادي النيل مهاجراً إليه من وطنه الجزائر من قبل أن يولد الفتح، واكتسبنا صداقته من السنة الأولى التي اتخذ فيها الوطن المصري وطنا ثانيا له، فكنا نحن وجميع أفاضل المصريين نعجب بصدقه وصلابة دينه واستعداده للمشاركة في كل خير، فما قامت لخير الإسلام جماعة من ذلك الحين، ولا أرسل المنادون إلى الفلاح صوتهم في أمر، إلا كان الأستاذ أبو إسحاق الشيخ إبراهيم أطفيش في مقدمة المعينين على ذلك. ومقالاته المتعددة في هذه الصحيفة وفي أختها الزهراء شاهد على فضله، ودليل على حسن بلائه في سبيل وحدة المسلمين. جزاه الله خيراً.
الأستاذ الهلالي:
الفاضل فاضل حيثما كان، كما أن الشمس شمس شرقت أم غربت. والأستاذ العلامة السيد محمد تقي الدين الهلالي- صاحب الفصول الممتعة والبحوث الجليلة في صحيفة الفتح- من أفاضلنا الذين أجمع على الاعتراف بفضلهم الشرق والغرب، والعرب والعجم،(4/150)
والمسلمون وغير المسلمين، فهو في الحجاز نار على علم شهرة وفضلا، وفي الهند تبوأ منصة التدريس في أرقى جامعاتها وفي العراق معروف بدؤو به على خدمة هذه الأمة وحرصه على خيرها، وهو الآن في ألمانيا موضع الحرمة من أركان جامعة بن التي يتولى التدريس فيها.
فالأستاذ الهلالي رجل عالمي واسع النظر واقف على أحوال الشرق والغرب، لذلك كان ما يقرره في بحوثه من حقائق يأتي ناضجاً مفيداً ممتعاً، ومن حسن الحظ أن قراءنا يقدرون رجالهم كما نقدرهم وكل ما يكتبه الأستاذ الهلالي وأضرابه في الفتح يأتي بالفائدة المرجوة منه والحمد لله (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 13، ص 220 - 225 غرة جمادى الأولى 1356ه - جويلية 1937م.(4/151)
قصة الشهر:
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ طاهر الجزائري:
هذا الأستاذ العظيم من أبناء الجزائر الكثيرين الذين ظهر نبوغهم في غير وطنهم فدلوا على أن الطينة الجزائرية طينة علم وذكاء إذا واتتها الظروف.
ألقى الأستاذ محمد كرد علي وزير المعارف بسورية محاضرة عن حياة هذا الأستاذ الكبير ونشرتها مجلة المجمع العلمي العربي فرأينا نقلها لقراء "الشهاب" لما فيها من فوائد علمية وعبر تاريخية للمتأملين (1).
-1 -
أصله ونشأته:
هو طاهر بن صالح بن أحمد بن موهوب السمعوني الجزائري هاجر والده الشيخ صالح من الجزائر إلى دمشق في سنة 1263ه وكان من بيت علم وشرف معروف في بلاده، ولما جاء دمشق تولى قضاء المالكية وولد له ولد في شهر ربيع الثاني سنة 1268ه دعاه "الطاهر". قال والده في حاشية المجموع الفقهي للعلامة الأمير المالكي "طهره الله من رجس دنياه ودينه وبارك في عمره ورزقه العلم والعمل به" واستجيب دعاء والده فنشأ ابنه طاهر على حب الفضائل والتناغي بالعلم والعمل.
__________
(1) فضلنا كتابة هذه الترجمة لأن الشيخ ابن باديس نشرها وعلق عليها.(4/152)
دخل الشيخ طاهر المدرسة الجقماقية الاستعدادية فتخرج بأستاذه الشيخ عبد الرحمن البوشناقي، وكان مربيا شديد الشكيمة، وتعلم العربية والفارسية والتركية ومبادئ العلوم ثم اتصل بعالم عصره الشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي الفقيه الأصولي النظار. وكان واسع المادة في العلوم الإسلامية بعيد النظر واسع العقل وهو الذي حال بإرشاده في حادثة سنة 1860م بدمشق دون تعدي فتيان المسلمين على جيرانهم المسيحيين في محلته فأنقذ بجميل وعظه وحسن تأثيره بضعة ألوف من القتل في تلك المذابح المشؤومة. وكان الشيخ الميداني على جانب عظيم من التقوى والورع الحقيقي، يمثل صورة من صور السلف الصالح فطبع الشيخ طاهر بطابعه وأنشأه على أصح المبادىء العلمية الدينية. وكانت دروسه دروساً صافية المشارب يرمي فيها إلى الرجوع بالشريعة إلى أصولها والأخذ من آدابها بلبابها، ومحاربة الخرافات التي استمرأتها طبقات المتأخرين وإنقاذ الدين من المبتدعين والوضاعين. وإذ جمع الشيخ طاهر إلى سلامة الفطرة وسلامة البيئة جودة النظر وبعد الهمة جاء منه بالدرس والبحث عالم مصلح وفيلسوف إلهي أشبه الأوائل بهديه، وتمثل بالأواخر في نظره ووفرة مادته.
ولم يغفل الأستاذ خلال سني الدراسة عن درس العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية والتاريخية والأثرية، أخذها عن علماء من الترك وغيرهم. فكان إذا رأى أعلم منه بفن أخذ عنه فنه وأفاده فيما لايحسنه من فنون العلم. ومن مثل لعينيه كيف كان محيطه محيطاً أوائل النصف الأخير من القرن الماضي أيام كان يتهم بالمروق كل من تعاطى علماً لا يعرفه المتفقة يدرك ما عاناه الأستاذ لتلقف هذه العلوم المادية. ولم يبلغ الثلاثين من عمره حتى غدا يتقن العربية والفارسية والتركية وينظم بالفارسية كالعربية وكان نظمه بالعربية أرقى من شعر الفقهاء ودون شعر نبغاء الشعراء. وألف السجع لأول أمره ثم تخلى عنه(4/153)
وأصبح يكتب مترسلا بلا كلفة ولا تعمل، وتعلم الفرنسية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبائلية البربرية لغة بلاده الأصلية. ومما ساعده على فتح صدره الرحب لجماع المعارف البشرية غرامه منذ نشأته بجمع الكتب وهو لما يزل في المدرسة الإبتدائية فقد أخذ يبتاع الدشوت والرسائل المخطوطة من دريهمات كان يرضخ بها له والده لخرجه. وكانت الكتب والرسائل تباع في الكلاسة شمالي الجامع الأموي على مقربة من ضريح صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكلما أحرز الشيخ شيئاً من الأوراق والأسفار طالعه بإمعان وخبأه وحرص عليه فاستنار عقله وكثرت معلوماته واجتمعت له بطول الزمن خزانة مهمة من الأسفار قدرتها بستة آلاف مجلد فيها كثير من النوادر المخطوطة.
تولى التعليم لأول أمره في المدرسة الظاهرية الإبتدائية ولما أسست الجمعية الخيرية من علماء دمشق وأعيانها سنة 1294ه دخل في عداد أعضائها وكان من أكبر العوامل فيها ثم استحالت هذه الجمعية "ديوان معارف" فعين مفتشاً عاماً على المدارس الابتدائية التي أنشئت على عهد المصلح الكبير مدحت باشا والي سورية سنة 1295ه. وكان للشيخ الأثر العظيم في تأسيسها بمعاونة صديقه بهاء الدين بك أمين سر الولاية، وهو أديب تركي كان يحب نهضة العرب كما يحب العلم والأدب. وفي هذه الحقبة ظهر نبوغ شيخنا وعبقريته في تأسيس المدارس واستخلاصها من غاصبيها وحمل الآباء على تعليم أولادهم ووضع البرامج وتأليف الكتب اللازمة للمدارس، كن يقوم بهذه الأعمال المهمة ولا يفتأ يزداد كل يوم علما وتجربة وتفانيا في نهضة البلد وتحسين الملكات وصقل الأخلاق والعادات.
وأنشأ على ذلك العهد أيضا بمعاونة بضعة من أصدقائه "دار الكتب الظاهرية" بدمشق وجمع فيها سنة 1296ه ما تفرق من المخطوطات(4/154)
العظيمة في عشر مدارس تحت قبة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولقي ممن استحلوا أكل الكتب والأوقاف مقاومة شديدة وهددوه بالقتل إن لم يرجع عن قصده فما زادوه إلا مضاء وانكماشا، ولا تزال هذه الدار أثراً من آثاره في الشام وقد أنشأ مثلها في القدس باسم الشيخ راغب الخالدي وسماها "المكتبة الخالدية" وأضاف إليها بعد ذلك آل الخالدي خزائنهم الخاصة.
علمه وعمله:
رأينا منهاج الدروس الواسع الذي أخذ الشيخ نفسه بدراسته منذ حداثته وأنه ليندر في المتأخرين من علماء دور الانحطاط الفكري نبوغ رجل مثله وعى صدره من ضروب المعارف ما وعي وطبق مفاصل الشريعة مع علوم المدنية فقد كان متضلعا من علوم الشريعة وتاريخ الملل والنحل منقطع القرين في تاريخ العرب والإسلام وتراجم رجاله ومناقشات علمائه ومناظراتهم وتآليفهم ومراميهم، ساعده على التبريز في هذا المضمار قوة حافظته التي لا تكاد تنسى ما يمر بها مهما طال العهد. وكان إماماً في علوم الأدب واللغة إذا سألته حل مسألة تظن الشيخ لا يعرف غير هذا العلم وإذا استرشدته في الوقوف على مظان موضوع تريده أطلعك من ذلك في الحال على ما لا يتيسر لغيره الظفر به بعد الكشف عنه أياماً، وهكذا هو في علوم الشريعة ولا سيما التفسير والحديث والأصول. وكان يعرف السياسة وما ينبغي لها وحالة الغرب واجتماعه والشرق وأممه وأمراضه معرفة لا تقل عن معارف عالم أخصائي من علماء الغرب لعهدنا، ولا يكاد جليسه يصدق إذا انكفأ الشيخ يتكلم في هذه الموضوعات خصوصاً إذا كان غربيا أن محدثه شيخ من شيوخ المسلمين يعيش في أمة لا ثقيم وزناً لهذه المعارف.(4/155)
اتسع صدر الشيخ لجماع علوم المدنية الحديثة إلا الموسيقى والتمثيل فلم يكن له حظ فيهما وربما قاوم سراً المشتغلين بهما مخافة أن تكون سلماً إلى التبذل وخلع ثوب الحياء والوقار، وكان لا يرى فيهما إلا مدرجة اللهو والصبوة. وهذا مما لم يدخله الشيخ في جريدة أعماله ولذلك لا يفتي بالتسامح مع القائمين عليهما مهما أوردوا له من الحجج على نفعهما. وصعب أن يتخلى المرء عن جميع ما أورثه إياه أهله وأساتذته ومحيطه، وصعب على من حلف أن يعيش عيش جد وتبتل أن يتساهل في الصغائر لئلا تؤدي إلى الكبائر. أما الرسم والتصوير والنقش فكانت مما يتسامح فيه لكنه يغمزه عرضاً، وكثيراً ما يقول أن أجيال الفرنجة في هذا العصر أفرطوا في الغرام بالتصوير والتعويل عليه في كل أمر فأضعفوا بذلك قوة التفكير والتصوير.
وسياسة الشيخ في التعليم محصورة في تلقف المسلمين أصول دينهم والاحتفاظ بمقدساتهم وعاداتهم الطيبة وأخلاقهم القديمة القويمة وأن يفتحوا قلوبهم لعامة علوم الأوائل والأواخر من فلسفة وطبيعي واجتماعي على اختلاف ضروبها ويقاوم المتعصبين على هذه العلوم المنكرين غناءها في الجتمع مقاومة حكيم عاقل وذلك بتكثير سواد الدارسين لها وإرشادهم إلى طرقها العملية المنتجة لا الوقوف بها عند حد الأنظار فعمَّ المسلمين في الشام درس علوم نرى اليوم الأخذ بحظ منها من البديهيات اللهم إلا عند بعض الجامدين من المشايخ ممن جهلوها، ومن جهل شيئاً عاداه.
وكانت للشيخ طرق مبتكرة في معنى بث الأفاكار التي تخالف معتقد الجمهور يبثها في الحقول بدون جعجعة ولا مظاهرة ويقرب منالها من المستعدين لأخذ النفس بها وذلك بتلقينهم أمهات مسائلها أثناء الحديث على صورة لا ينفرون منها ولا يخطر لهم أنها بالبدع المنكر. مثال ذلك أنه أولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمبة وكانت(4/156)
جمهرة الفقهاء في عصره تكفر ابن تيمية تعصباً وتقليداً لمشايخهم فلم ير الشيخ لتحبيبهم بابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون. فكان يستنسخ رسائله وكتبه ويرسلها مع من يبيعها في سوق الوراقين بأثمان معتدلة لتسقط في أيدي بعضهم فيطالعونها وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة.
هذا وليس الشيخ في مذهبه على الحقيقة حنبلياً ولا مالكياً ولا حنفياً بل هو مسلم يأخذ من أصل الشريعة باجتهاده الخاص ويحسن ظنه بأئمة المذاهب المعروفة، ويتجهم لمن يجرأ على النيل من أحدهم. يعمل بما صح له من الدليل في الكتاب والسنة ولطالما أعطى الحق لعلماء الشيعة أو الإباضية أو المعتزلة في مسائل تفردوا بها وضيق فيها أهل السنة. أما الفلسفة أو الحاكمة القديمة والفلسفة الحديثة فكان يعطف فيها عليها وعلى المشتغلين بها وينحي باللائمة على المتأخرين الذين أوصدوا بابها فأظلمت العقول وضعف مستواها.
كان الشيخ ينكر على الظالمين سيرتهم ويقبح الظلم وإن نال عدوه وينصف الناس من نفسه بعض الشيء وكان الحكم معه في بلية يعرفون أنه ينزع إلى القضاء على سلطتهم الغاشمة ولا يستطيعون أن يقلبوا له ظهر المجن ويظهروا العداء له. وكذلك كان المشايخ معه يبغضون أفكاره ولا يجرأون على مقاومته بسلاحه سلاح العلم والبرهان فكان كثيراً ما يقول ما لنا ولأناس ليس لهم من السلطان علينا غير سلاطة ألسنتهم وكلمات ينفسون عنهم بها وهي لا تخرج إلى أبعد من سقوف بيوتهم وحجرهم، وحدث لبعض أغمارهم أن استعانوا غير مرة بالسلطة الزمنية على توقيف تيار أفكاره وأفكار أنصاره فكان الشيخ يصدهم لما له من التأثير في أهل الحل والعقد ممن كانوا يتمثل لهم عقل الرجل وضعف المبغضين له وكان يحسن مخاطبتهم بلسانهم والقائمون عليه لا يحسنون محاورتهم حتى ولا بلغتهم الأصلية،(4/157)
وسلاحهم دسائس يحوكونها وتعصبات ينفتونها. ولم يزل جهال الناس كما قال ابن المقفع يحدون علماءهم وجبناءهم، شجعانهم ولئامهم كرماءهم وفجارهم، أبرارهم وشرارهم خيارهم، من أجل هذا كان الأستاذ يتفنن في بث أفكاره بين الخاصة والعامة على صور شتى ويتفانى في نشر العلم والتهذيب والأخذ من القديم والحديث، وكم من عامي أصبح بتعاليمه وتلقينه بالعمل مسائل بسيطة من العلم محدوداً من المتعلمين في جلسات قليلة جلسها معه وسمع مذكراته ومن هذه الطبقة أناس ما فتىء على تنشيطهم حتى ألفوا وطبعوا ولم يكونوا قبله في العير ولا في النفير. وكم من جريدة أو مجلة أو كتاب أو رسالة نشرت في مصر والشام بإرشاده وكان له أسلوب جرى عليه خصوصاً في تفتيش المدارس وهو أن يعلم المعلم ولا يشعره بأنه يعلمه بل يوهمه أنه يذاكره في مسائل التربية والتعليم أو أنه يحاول أن يتعلم هو منه.
وكم من أديب أو عالم أرشده إلى السبيل السوي في أدبه وعلمه وعلمه المظان وأساليب المراجعة، وكثير عدد من اشتغلوا بالآداب أو تعلموا التعليم الثانوي أو العالي في القطر الشامي إن لم يكونوا استفادوا منه مباشرة فبالواسطة، وتلاميذه ومريدوه يعدون بالعشرات من المسلمين وأكثرهم اليوم يشغلون مقامات سامية في دور العلم والحكم وفي التجارة والزراعة. ولم يحد المترجم له عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ نعومة أظفاره ودعا الناس إلى إنتاجها حتى آخر أيامه. وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة من طريق العلم وبث الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية ويقول أن هذا الطريق يطول أمرها ولكن يؤمن فيها العثار والسلامة محققة ثابتة. بحق ما قيل في الشيخ أنه معلمة (أنسيكلوبيديا) سيارة وكيف لا يكون كذلك من آتاه خالقه حافظة قوية وذهنا وقاداً وعقلاً(4/158)
يستعمله على الدوام، فقد قرأ جميع ما طالت يده إليه من الكتب العربية التي طبعت في الشرق والغرب، أما المخطوطات التي طالعها ولخصها في كنانيشه وجزازاته فتعد بالألوف، وقل أن يدانيه أحد في علم الكتب ووصفها ومؤلفيها وحوادثها وأماكن وجودها، ولطالما رحل من بلد إلى بلد بعيد ليطلع على مخطوط حفط في بعض الخزائن الخاصة، وبالنظر لإحاطته بالمظان وتدوينه في الحال كل ما يقع استحسانه عليه من الفوائد، كان يسهل عليه التأليف فيما ترتاح إليه نفسه من الموضوعات، وقد يؤلف الكتاب في بضعة أسابيع على شرط أن يوقن أنه سيطبع.
فهو واسع الرواية واسع الدراية، أو كما قال صديقه العلامة أحمد زكي باشا في برقية أبرقها إلى الشام بالتعزية به: "كنت أرى فيه الأثر الباقي والمثال الحي والصورة الناطقة لما كان عليه سلفنا الصالح من حيث الجمع بين الرواية والدراية في كل المعارف الإسلامية وبين الدأب على نشرها بعد التدقيق والتمحيص واستثارة خباياها وإبراز مفاخرها هذا إلى التفاني في توسيع نطاقها بقبول ما تجدد عند الأمم التي تلقت تراث العرب باليمين والدعوة إلى الإقبال عليه مضموماً إلى آثار الأبناء ومآثر الأجداد. وهكذا قضى الشيخ عمرا أولا وثانيا وثالثا في خدمة العلم والدعوة إليه بالقلم واللسان وبالقدوة الحسنة حتى تم له شيء كثير مما أراد بين الأنداد والتلاميذ والمحبين والمريدين فهم مناط الأمل وفيهم خير خلف لذلك يغتبط قاسيون بضم رفاته والحنو عليها (1) ".
__________
(1) ش: ج 5، م 5، ص 27 - 33 غرة محرم 1348ه - ماي 1926م.(4/159)
-2 -
أخلاقه وعاداته:
قلنا أن سيرة الشيخ طاهر كانت نمطاً واحداً طول حياته هكذا كان متعلماً ومعلماً وعالماً يحب العمل ويدعو إليه قبل النظر، جد في حركته لا يبالي بالعوائق أمامه مهما عظمت وكلما حاول أعداؤه أن يقفوا دون انبعاث دعواته يزداد قوة وعرامة شأن كل الدعوات، وكلما حاربتها زدتها انتشاراً ونبهت الناس إليها. ألغت الحكومة وظيفة التفتيش بالمدارس علها تخفف من شدته في بث أفكاره بين الأساتيذ والتلاميذ فزاد نشاط الشيخ، وكان مدرساً في المدرسة الإعدادية بدمشق وهو من جملة مؤسسيها فاستقال ثم عرضت عليه وظائف كبرى في غير السلك العلمي فأبى لأنه كان يعرف أنه لا بد له من مشايعة الظلمة والجهَّال على أعمالهم، وجعل جل اعتماده في عيشه آخر أيامه على الكتب التي اقتناها طول حياته بأثمان بخسة، وأخذ يبيع منها بالتدريج ولا سيما إذا تأكد أنها تحفط في معاهد عامة كدار الكتب المصرية والخزانتين التيمورية والزكية في القاهرة فإن معظم نفائس خزانته نقلت إليها وتمزز الشيخ أثمانها نحو أربع عشرة سنة، وكان اشتراها في صباه بأثمان بخسة فارتفعت أسعارها عشرة أضعاف أو أكثر.
كان الشيخ على ضيق ذات يده أحيانا يتصدق على الفقراء في السر وربما كزت يده عن لباسه وطعامه وأطعم جائعاً وعال معوزاً، يصلي الصلوات لأوقاتها ويقيم شعائر الإسلام حتى في غير بلاده فقد زار مرة أحد معارض باريز فكان إذا أدركته الصلاة صلى في الحديقة العامة لا يبالي بإنتقاد الناس هناك ولا استغرابهم حركاته وسكناته، وحج مرة وطبق مناسك الحج على ما يفعل العلماء العاملون، وكان مفطوراً على الرحمة يأرق لجاره أو صاحبه إذا علم أنه أصيب ببائقة(4/160)
في ماله أو أهله أو جاهه خصوصا إذا كان الرجل ممن تريضه سيرته في الجملة.
كان الشيخ يستنكف أن يأخذ شيئاً من أحد بلا مقابل مهما كان الواهب، فقد عرض عليه صديقه الأستاذ أحمد زكي باشا أن يوقع على طلب وهو يتعهد له براتب جيد من الأوقاف المصرية على عهد الخديوي عباس الثاني فتنصل واعتذر ولما اشتد صديقه في تقاضيه انتهره حتى لقد قال الأستاذ زكي باشا لو كنت أعتقد أن رجلاً يعيش من تحت السجادة لاعتقدت ذلك في الشيخ طاهر لأنه يقيم في بلد كمصر يشكو فيه الأغنياء من الغلاء ولا يحب أن يأخذ من أحد شيئاً يستعين به.
وكأنه يشير بحركته إلى ما قاله القاضي علي بن عبد العزيز في عزة نفس العالم:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا … رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ … وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا … بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي … وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إِذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى … وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
أُنزِّهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا … مَخَافَةَ أَقْوَالُ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لَمَا؟
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي … لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً … إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ … وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا … مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
لا أكون إلى المبالغة إذا قلت أن عزة النفس وهو الخلق الذي ندر في علماء المسلمين لعهدنا كان مما تفرد به، ففيه إباء الملوك وزهد الزهاد(4/161)
والعباد، لم يظاهر- ظالماً لغنم يصيبه، ولا صحب غنياً للانتفاع بغناه، وكان يؤثر الخمول وعدم الظهور ولا تهمه الشهرة استفاضت أم لم تستفض لأنه يهزأ في باطنه بمظاهر الأبهة والرفعة ويزهد في اعتبارات كثيرة يتفانى الناس في تحصيلها. يزهد حتى في نسبته إلى الشرف ولم يذكر ذلك إلا مرة واحدة ذكره فيه أحد صلحاء الجزائريين أمامي وسألته بعد ذلك عن نسبة بيتهم إلى الشرف فقال (هكذا يقولون) ولا عجب فشرف العلم أشرف نسبة. هاجر الشيخ من دمشق لما كثر إرهاق العلماء في العصر الحميدي فنزل القاهرة من سنة 1225ه 1907م إلى سنة 1238ه 1920م وظل فيها طول هذه المدة على تقشفه والحرص على عاداته، ولما نشر القانون الأساسي في المملكة العثمانية (1908) رأى الشيخ بنظره الثاقب أن عهد الحرية الحقيقية بعيد وكان لا يغتر بقوانين الترك ولا بثرثرة السياسيين فانزوى في مصر حتى استحكم منه مرض (الربو) وقفل راجعا إلى مسقط رأسه قبيل وفاته بأشهر قليلة فعين مديراً لدار الكتب التي كان أنشأها في صباه وعضواً في المجمع العلمي العربي وناداه ربه إلى جواره يوم 14 ربيع الثاني سنة 1338ه (5 كانون الثاني سنة 1920م) فدفن حسب وصيته في سفح قاسيون جبل دمشق، وقبيل وفاته برح به الألم فاقترح على الطبيب أن يعطيه دواء يميته حالاً قائلاً أن في الشرع ما يبيح ذلك وهذا من أغرب ما سمع من عاقل. أما الطبيب فركن إلى الفرار وحلف أن لا يعود لتمريض الشيخ.
كان الشيخ فيلسوفاً بكل ما في الفلسفة من معنى شريف لا تلتوي أخلاقه ولا ينزل بحال عن عاداته متشدداً في دينه زاهداً في دنياه لم تبهره زخارف الحياة ولم يتزوج حتى لا يشغل ذهنه بزوج وأولاد وليكون أبداً مطلق العنان يسيح في الأرض متى أراد أو يقبع في كسر داره وسط كتبه ودفاتره، ولئن خلا من هم نفسه فما خلا ساعة من(4/162)
الاهتمام بأمر المسلمين وتحبيب العلم والعمل إليهم.
وعقد له صلات مستديمة مع علماء عصره على اختلاف أديانهم وأجناسهم، صحب صديقه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كما صحب صديقه العالم المجري (غيولد صهري) اليهودي. وكثيراً ما كانت صلاته بعلماء المشرقيات باعثة على تخفيف حملاتهم على الإسلام ولو قليلاً، وهذا جل ما كان يهتم له ثم يهمه من أمر المستعمرين من المستشرقين توفرهم على خدمة آدابنا بنشرهم كتبنا النفيسة وكان يعاونهم فيما هم بسبيله إذا استطلعوه طلع رأيه ومتى استفتوه أفتاهم بما يتعذر وقوفهم عليه.
ومن عادة الشيخ أن يصحب الفرق المختلفة مهما كان لون طريقتهم ونحلتهم حتى الملاحدة وأرباب الطرق، رأى ذات مرة جماعة يتألفون على طريقة لهم يحبونها وأذكار مأثورة يقيمونها وشهد في بعض أفرادهم استعداداً للعلم، فما زال بشيخهم، وكان من أصحابه وتلاميذه حتى حمل الجماعة على أن يشغلوا الوقت في مطالعة كتاب من كتب القوم في التصوف وكان هذا الكتاب في الأدب العالي والأخلاق الفاضلة، ورأيت الشيخ يحتمل كثيراً من تجهم بعض أولئك المتألفين فيدخل في مجلسهم متظاهراً بأنه طالب استفادة حريص على درس أستاذهم وهو يحمل إليهم النسخ المخطوطة من الكتاب لمعارضتها بالمطبوع يحاول أن يعلم بعضهم صورة المراجعة في كتب اللغة حتى تسلم العبارة من الخطأ، ويخدم الكتاب الخدمة اللائقة، وبذلك تيسر له أن ينقل بعض أرباب الاستعداد منهم من كتب التصوف إلى كتب العلم والأدب. وسمعت بعضهم يتبرمون بقراءة تفسير ابن جرير الطبري وتبسطه في شرح الكتاب العزيز فجاء من هذه الزمرة أدباء نافعون بعد أن كانت نفوسهم مشبعة بالكشف والخيالات والمنامات. وأدخل النور على كثير من أذكياء العلماء من أصحابه وكان منهم الذين ذرفوا على(4/163)
الستين فما استطاعوا أن يؤثروا الأثر المطلوب في مريديهم ومنهم منساعدهم الطالع أن كانوا في سن الشباب فعالجوا التأليف والوعظ والتعليم فانتفع بهم الناس كل النفع ومنهم من لم يتمرنوا على الكتابة والالقاء فبقيت لهم أفكارهم في دائرة القوة لم يتعد أثرها المحتفين بهم من الأصحاب والمريدين.
ولقد كانت له صداقة أكيدة بالعالم المطران يوسف داود السرياني يتسامران ويتحدثان ويتهامسان ويتناقشان. وما أدري إن كان المطران أثر في الشيخ أو أثر الشيخ في المطران؟ سمعت الشيخ يثني الثناء المستطاب على صديقه المطران، وقد طالت به صحبته وعشرته. وهكذا كان له اتصال بالأرمن واليهود واليسوعيين الكاثوليك والأميركان البروتستانت. وكان يغضي عن كثير من النقد على رجال الدين من غير المسلمين ويقول هم أقرب الناس إلينا يعتقدون بالله واليوم الآخر وخلود النفس. وكانت جميع الطوائف تستلطفه وتحب عشرته على ما بينها وبينه من التخالف الظاهر في الزي والعادة والخلق والمذهب ويطلعونه من سرائرهم على ما لا يبوحون به لأقرب الناس إليهم وسمعته غير مرة يقول: "الحمد لله لقد سالمنا كل الفرق".
صحب بعض الزنادقة وما زال يصبر على ما ينبو عنه سمعه من تصريحهم وتعريضهم وما فتيء يلقنهم أفكاره بالتؤدة مدة حتى عاد بهم إلى حظيرة الدين وهم لم يشعروا فيما أحسب بما دخل على عقولهم من التبدل وصحب كثيراً من غلاة الشيعة والطوائف الباطنية فما برح يلطف لهم حتى أضعف من غلوائهم وأبدلهم بعد الجفوة أنسا وغير من انقباضهم وانقباض الناس عنهم، ليعيشوا في هناء وسط المجتمع الإنساني الأكبر.
وكان يتفنن في بث الأفكار الصحيحة وإخراج قومه من الأمية(4/164)
المميتة ويحمل خاصته ومن يصل صوته إليهم على تعليم أولادهم الممكن من ضروب العلم الذي يتناسب مع حالتهم الاجتماعية. وقال لي مراراً إذا أردت إدخال الإصلاح إلى بيوت الأعيان وفيهم الجاه والمال فأجهد لأن يتعلم ولو فرد واحد من كل أسرة تقلب به كيانها. وكثيراً ما قال لنخرجن من بيوت الأغنياء أولاداً يحاربونهم بسلاح التربية الصحيحة وقد وفق إلى ذلك بعض الشيء، وكان يقول لو طلب مني اليهود أن أعلمهم ما تأخرت ساعة عن إجابة طلبهم لأن في تعليمهم تقريبا لهم منا مهما كانت المباينة والفوارق بيننا وبينهم.
ما رأيت الشيخ يبغض إنساناً بغضه لشقيقين دمشقيين جعلا شعار العلم على رأسيهما وكان إذا ذكر أحدهما أو كلاهما في مجلسه يقول (دعونا) وتنقبض نفسه انقباضا دونه كل انقباض ولو علمت أن بغضه لهما- وكانا بغيضين للناس- كان ناشئاً من كونهما أعطيا عهداً على أنفسهما أن يصدا الناس عن طلب العلم لبطل عجبك. وأكد الأستاذ أن الأخوين قد وفقا بدعايتهما الضارة إلى أن قطعا عن الدرس نحو أربعين طالباً، كان يرجى أن يكون منهم متعلمون بل علماء عاملون وكان من عادة بعض أدعياء العلماء من الشيوخ أن يرغبوا الناس عن الدرس ليخلو لهم الجو ويستمتعوا وحدهم بالمناصب الدينية والأوقاف والمدارس والجوامع لا ينازعهم أحد في شؤونهم ما خلا أبناء بيوت محدودة معروفة ممن هم على شاكلتهم في غش الأمة والاستئثار بمرافقها. فكان شأن هؤلاء في الاستئثار الممقوت شأن كهنة قدماء المصريين لا يسمحون لغير فئة خاصة بالتعلم أو شأن أصحاب الطبقات من الهنود أو اللاويين عند اليهود لا يدخل أهل طبقة في طبقة غيرها مهما تبدل من حالتها.
من أجل هذا كان من رأي الشيخ أن يتعلم كل طالب علم (العلم الإسلامي) صناعة أو تجارة أو نحو ذلك من أسباب المعاش مما يغنيه(4/165)
عن الناس وعن تكفف العظماء لتعزف نفوسهم عن التناول من الأوقاف والتمرغ في حمأة القضاء والإفتاء، وينشأوا على استقلال النفس، لأن هذا العلم يطلب لذاته وفائدته في الدارين لا للتكسب به عند السلاطين والحكومات. وفي سيرة بعض علمائنا الأقدمين ممن كانوا يحترفون ويتجرون عبرة لأهل هذا الشأن وأي عبرة.
ولطالما تفرس الشيخ في إنسان الشر وأعرض عنه وحذر أصحابه من الدنو منه فيناله من نقد غير العارفين ما يناله ويقولون أن الشيخ صاحب أطوار وغرائب والشيخ ساكت يقول: "هم أحرار ونحن لا نكم أفواه الناس عن التحدث بما يروقهم" ولا تلبث الأيام بعد حين أن تكشف نفس ذاك الشرير على صورة مستغربة وكثيراً ما كنت أسأله عن الأشخاص من حيث علمهم أو أخلاقم فيجيب (الأمر مجهول) فأفهم بالتعريض أن في معلوماتهم م أو سلوكهم نظراً، فيظهرون بعد لأي بمظهر الجهل أو الخيانة وقد خدعوا السذج من أصحاب الصدور السليمة ومن قلت تجاربهم في المجتمع أعواما غير قليلة. ومن فراساته الغريبة يوم حدث الاعتداء على ولي عهد النمسا في مدينة سراجيفو سنة 1914م أن حرباً أوربية طاحنة ستنشب لا محالة فأبعد في تصوره خطورة الموقف إلى ما لا يتعداه غير أعاظم المفكرين العارفين بنتائج الحوادث. كان يصدع بالحق ولا يماري إذا دخل مجلساً ورأى فيه بعض الظالمين أو المخرفين غلب عليه الجلال فلا بنطق بكلمة، وإذا رأى من أحد الحاضرين تمويها في أمر وخروجاً عن الصدد جبهه واحتد فيخرج عن مألوف الناس في الملاينة والملاطفة وهذا سر من أسرار ازورار بعض الناس منه. واتفق أن أحد أترابه ارتقى في الدولة العثمانية حتى أصبح الحاكم المتحكم في العهد الحميدي فقاطعه الشيخ مقاطعة بلا سبب ظاهر فتوسط صاحبه أحد أقاربه ليعود الشيخ إلى مراسلته ووعد الشيخ ومناه فأغضى الشيخ عن إجابته ثم ألح الوسيط(4/166)
بعد مدة ليعرف الداعي إلى إعراض الشيخ عن صاحبه فقال: "اكتبوا له أننا لا نتعرف إليه ما دام لا يعرف أمته ومتى فكر في إسعادها وتخفيف البلاء عنها عدنا اخوانه واخذانه"، وحدث أن صديقه الأستاذ أحمد زكي باشا نال بواسطة المرحوم أحمد حشمت باشا وزير معارف مصر اعتماداً بعشرة آلاف جنيه لطبع مجموعة من الكتب العربية القديمة النادرة تبلغ فيما أذكر سبعة وعشرين كتابا ومنها ما يدخل في بضعة مجلدات فتباطأ زكي باشا في الطبع ومضت السنة فقيد المبلغ في نظارة المعارف على حساب السنة المقبلة ولم يخرج الباشا شيئاً وهكذا حتى ألغي الاعتماد باستقالة حشمت باشا فغضب الشيخ غضبة مضرية من عمل زكي باشا وصارحه بقوله: "لقد أسأت إلى الأمة العربية بإبطائك في إخراج الكتب للناس وإذا ادعيت أنك كنت تقصد نشرها سالمة من الخطأ مشفوعة كلها باختلاف النسخ والتعاليق فالتأنق لا حد له ويكفي أن ينتفع الناس بالموجود" وظل الشيخ أشهراً لا يكلم صديقه الزكي إلا متكلفا كأنه عبث به وعمل الضرر إلى مصلحته مباشرة. وأي مصلحة أعلق بقلبه من نشر آثار السلف وإذ كان الشيخ عصبي المزاج يحب إتمام كل عمل لساعته وكان يستشيط غضبا من رجل قال له إن لك عندي كتاباً ولكني أنسيته في داري أو حانوتي أو مدرستي وكثيراً ما كان يحمل من يشغله بكتاب جاءه على أن يفتح محله مهما كان بعيداً أو مهما كان الحديث في ساعة متأخرة من الليل. ويقصد الشيخ في ذلك أن يعلم الناس العناية بمصالح غيرهم أيضا. وكان يقول في مثل هذه الأحوال ولعل في الكتاب أمراً مستعجلاً يستدعي أن يجاب عليه في الحال (1).
__________
(1) ش: ج 6 م 5 ص 22 و29 غرة صفر 1318ه - جوليت 1929م.(4/167)
-3 -
غريب عاداته:
كان سمت الشيخ وهندامه سمت العوام وهندامهم وعمامته من الأغباني في جبة بسيطة وقفطان قطن وزنار مزدوج يخبأ فيه بعض الدراهم وألبسته من صنع الوطن إلا النظارتين والطربوش ويختار من القمصان والسراويل ما خف ثمنه ليطرحه إذا اتسخ ولا يشغل ذهنه بغسله وكثيرا ما يلبس قميصين وسروالين وقفطانين وصدريتين وجبتين ليكون على أتم الاستعداد لما يطرأ على أحد الزوجين فيطرحه حالا ويستعيض عنه بأخيه دون انتظار شيء آخر ويقل استعماله للمناديل المتعارفة المعمولة من القطن فيعمد إلى اتخاذ مناديل من الورق الغليط يضم بعضه إلى بعض ويخيطه فيكون دفترا يلقي به الشيخ بعد أن يتسخ كله. وكان يطهر جسمه ولا ينظف ثيابه كثيرا. أصيب بهذه الخلة خصوصا بعد أن فقد والدته في صباه ولم يبق له من رحمه امرأة تتعهده أبدا بنظافة ثيابه والعناية بظواهره وأنى له هوان يسد مسد أمه في ذلك وفكره مشغول بمطالب عالية أخرى قد لا يتسع لمثل هذه الجزئيات في رأيه.
ورأيت في بعض تعليقاته في ترجمة عبد الله بن الخشاب وكأنه بنقله لها ترجم نفسه فقال بلسان الحال، وهذا رجل مثلي كان إلى الخمول قال: "كان وسخ الثياب ما تأهل ولا تسرى له معرفة بالحديث والمنطق والفلسفة والهندسة بل بكل فن، وكان يترك عمامته أشهرا ولا يغسلها ويلبسها كيف اتفق فإذا قيل له في ذلك يقول ما استوت العمة على رأس عاقل قط" وشيخنا رحمه الله كان من هذا الطراز. والعبقرية على ما يظهر تكمل من صاحبها ناحية واحدة وتنقص منه من الناحية الأخرى بقدرها. أراد الشيخ أحد أصحابه في القاهرة(4/168)
خلال الحرب العامة على أن يغير جبته لأنها بليت بعض أطرافها فسكت الشيخ عن إجابته، فلما ألح عليه مرتين وثلاثا أجابه "يا فلان تريدني على اقتناء جبة جديدة وأهل الشام اليوم تموتون من الجوع".
وأضافه أحد أصدقائه في بيروت وأخذ ذات يوم ثيابه بدون استئذانه ليغسلها وعوضه عنها ثيابا جديدة فحنق الشيخ وما زال بمضيفه حتى أعاد إليه ثيابه الوسخة وذلك لئلا يشغل فكره في ثيابه ريثما تغسل وتنشف ولئلا يلبس ثيابا غير ثيابه. وغضب مرة على أحد أصحابه ومساكنيه في القاهرة لأنه افترص غيابه فنزع من غرفة الشيخ جميع الكتب والفراش المملوء بالبق وكنس الغرفة ونفض الغبار عن الكتب والأواني وغسلها ووضع سماً لقتل البق في السرير حتى لا يصل إلى الشيخ فيقرصه وأعاد كل شيء إلى مكانه فلما رأى الشيخ ذلك عرف ما دبر له ولم تطب نفسه بهذه التعزيلة وانحى على صاحبه باللوم والتقريع. ورأيته مراراً نتأ مسمار أو مسامير عن حذائه فكان يخصف من ورق الشجر يجعله في الحذاء لينقي ضغط المسمار على رجليه ولا تحدثه نفسه أن يذهب إلى الحذاء يصلح له حذاءه وإذا قلت له في ذلك أجابك أن الوقت لا يساعدني. وكان مداسه متسعاً في الشتاء يجرف من الأرض طيناً كثيراً يعلق بجبته فيصبح وجهها شكلا وقفاها شكلا آخر. ولطالما تبرم بزيارته أيام المطر بعض ربات البيوت مخافة أن يعلق طين جبته في المقعد الذي يقعد عليه. وكان إذا اشتد الحر استثقل الجوربين فنزعهما من رجليه وعوضهما أوراقاً هشة ملونة جعلها خفاً في نعله لتمتص العرق بزعمه. وأنت لا تملك نفسك من الضحك إذا رأيت رجليه وتستغرب من عظيم كهذا يهزأ بعادات مجتمعه إلى هذا الحد ولا يبالي النقد ولا الملام ولطالما قال أنا شاذ ولا أحب أن يقتدي بي أحد.
ومن عادة الشيخ أن يحمل في جيوبه وعبابه بعض الدفاتر والرسائل(4/169)
بل أقلاما ودواة ومقراضا وسكينا وأبرا وخيوطاً وشيئا مما يحمل من النواشف والخبز والجبن والزبدة والتين والزبيب وفي بعضها مادة دهنية دسمة يخشى أن تسيخ كالشواء وما دخله سمن أو زيت من المآكل يضع ذلك في مقوى أو ورق غليظ ويستعمله عندما يريد ويطعم منه أصحابه إن أحبوا، أما الدخان والسكر والمربى فيحمل منه مؤونة أيام أحيانا، وقد يطبخ القهوة في داره كمية وافرة ويعمل منها ما يكفيه أسبوعا حتى لا يضيع وقته بطبخها كلما أراد تناول فنجان منها وهكذا يشربها باردة بائتة أياماً لئلا يشتغل بها كل ساعة عن مطالعته. وقال لي مرة أنه ابتاع أرطالا من البرتقال وضعها في داره ومن الغد بدا له أن يسافر وتذكر وهو على أذرع قليلة من البيت أنه يجب أن يستصحب في حقيبته شيئا من البرتقال وتذكر ما اشتراه منه بالأمس فآثر أن يبتاع برتقالا من الطريق لئلا يضيع وقته بالرجوع إلى الدار بعد إزماعه الخروج منها ولم يعد الشيخ إلى داره إلا بعد ستة أشهر وفرح أن رأى برتقالاته تضمر وتنشف.
وكان مغرما بالتدخين منعه الطبيب منه وأراده على إبطاله فتعذر عليه ذلك فقال الطبيب إن كان لا بد من التدخين فلف بنفسك لفائفك حتى يمضي جانب من الوقت في اللف وكان الشيخ لا يحسن صنع لفائفه فتجيء واحدة دقيقة وأخرى غليظة وثالثة متوسطة وعندئذ يبدأ الشيخ بتجاربه ليضع اللفافة في البز (الفم) الذي يلائمها وكان في جيب الشيخ بضعة من هذه الابزاز يتخيرها من القصب أو غيره من أنواع الخشب وهكذا كان يتلهى عن الإكثار من التدخين ولو بضع دقائق وإذا قلت له بإبطال التدخين ينهرك ويعرض عن حديثك هذا وهو صاحب إرادة قدت من حديد أو صخر.
ومن عادة الشيخ خلال الأربعين السنة الأخيرة من حياته أن لا ينام إلا إذا صلى الصبح يساهر بعض أصحابه هزيعا من الليل ثم يغشى(4/170)
حجرته يطالع ويؤلف وكان لا يراعي أوقات بعض أحبابه فيوقظهم أحياناً بعد الهزيع الثاني من منامهم ليسمر عندهم أما من كان لهم مواعيد ويعرفون التوقيت لساعات الليل والنهار فكان يصونهم عن غشيان منازلهم موهنا ولا يطرق أبوابهم بعد الأوقات المعينة للسمر والسهر.
كان يحب السباحة والعوم وله مسبح خاص في بيروت وآخر في صيدا ومسابح في بعض أنهر دمشق وربما لبس سراويله مبللة بعد الخروج من سباحته ويهوى السير على الأقدام للتريض ولطالما قطع عشرات الأميال بين المدن والقرى والجبال والأودية سائراً على قدميه. وقد يراه في الطريق بعض أصحابه أو من لا يعرفه ويدعونه إلى الركوب في مركباتهم أو على متون دوابهم فيأبى لأنه لا يحب أن ينقض أمراً أبرمه ونفسه تتوق إلى السير ماشيا فأي معنى للركوب. ومن أغرب أطواره أنه إذا استعدت نفسه للقيلولة قال وهو وسط إخوانه يتذاكرون ويتدارسون. يقيل وهو قاعد ويضع على وجهه منديلا وربما أتم إغفاءته عند إنجاز الدرس والمذاكرة ولم يكن يحب أن يطول الدرس أكثر من نصف ساعة لأنه يتبرم بالجد في هذه المجالس وهو يقضي الساعات في مطالعاته الخاصة (1).
-4 -
كان الشيخ لا يعرف الهجر ولا يشتم شتما ينبو عن حد الأدب مع حدة فيه ظاهرة وألم من من أكثر أحوال المجتمع وكان إذا صفا ذهنه تفصح عبارته في محاضرته وإلا فيعتريها شيء من اللهجة المغربية ممزوجة بالعامية الدمشقية وله تعبيرات خاصة وأساليب في مصطلحاته
__________
(1) ش: ج 7، م 5، ص 21 - 24 غرة ربيع الأول 1348ه، أوت 1929م.(4/171)
ونبراته لطيفة تحلو من فمه، يمزج أحماضا من الجد وما أحصى عليه أن نطق يوما بفحش أو هراء أو استعمل ما ينافي الأدب والمروءة وكان يميل إلى بعض من فيهم البلاهة ممزوجة بالذكاء وتصدر عنهم غرائب الأفكار والتصورات وربما قصدهم كل سنة من بلد إلى بلد ليقطع بينهم أياما يخرج فيها من الجد ويدخل معهم في حديث قد يروقه للتسلية.
حدثني أحد لداته قال: كنا في دمر إحدى قرى دمشق نقضي فيها يوما للنزهة وكنا في نحو الثلاثين من العمر فاعتزل الشيخ طاهر في ناحية من الحديقة يطالع ويكتب في ظل شجرة وكنا حراصا على أن يكون معنا طول النهار وكانت في البستان فتاة إسرائيلية جميلة الطلعة فاقترحنا عليها أن تذهب إلى الشيخ المستظل بالشجرة وتأتينا به ونحن نكرمها بالمال فصدعت بالأمر ولما رفع رأسه من كتابه أخرج لها في الحال قطعة من قمر الدين (معجون المشمش) وقال لها: "إيه بارك الله أتأكلين قمر الدين يا قمر الدنيا" وصرف الفتاة بهذا التقريظ وهذا كل ما أثر عن الشيخ في باب التصابي. وسأله أحد الطلبة عن حكم التقبيل وما إليه فأجابه هذا موضوع لا أعرفه سل غيري وتكلم أحد أصحابه بعيداً عن الحشمة في حضرته فأشاح بوجهه وتصام كأنه ما سمع ولا دهش لهذا الغريب من الحديث على حين كان مغرما بالغرائب ولكن لا من هذا البحر والقافية.
سأله أحد الفقهاء ممن ألفوا كتباً دينية حشوها بما لا يقره الشرع الصحيح ولا العقل الصريح كيف تجد كتبي يا شيخ طاهر؟ فأجابه في الحال متخلصا أجمل تخلص "اشتغلوا ونحن نشتغل لنرى لمن تكون النتيجة" وكان يكره المتشدقين من المؤلفين والكاتبين خصوصا في الدين والسياسة بل يكره كل من يقول بغير علم ويحاسب الذين يرمون الكلام على عواهنه حسابا غير يسير ويسميهم الحشوية كما(4/172)
يكره الجلجلوتين والقبوريين والجامدين والمماحكين. وسمعته يقول إن فلاناً بردِّه على الماديين وهو لا يحسن العلوم المادية فتح علينا أبوابا يصعب سدها وفلانا بمقالاته السياسية المطولة يفتح بقلمه كل حين مشاكل صعبة الحل.
وكان ينهر من يوردون أحاديث تفت في عضد السامعين وتلقي في قلوبهم الرعب والوهم لأن من مذهبه تقوية القلوب وإزالة غشاء الأوهام من الأحلام وأن يصمد المرء لكافحة الحوادث ولا يحب الاستقراء والاستنتاج إذا كانا في غير محلهما حتى لا يؤدي التزيد والتفلسف إلى تزييف الوقائع وإلباس الحقائق غير صورها ولذلك كان يستلطف من الإنكليز السكسونيين إيجازهم في أحاديثهم وكتبهم ويوحشه من اللاتينيين تبسطهم في أقوالهم ومكتوباتهم.
كان يرفق بالضعفاء ويرفع من قدر الصعاليك ويحمل على العظماء ويترفع عن ملابستهم وكثيرا ما كان يحدث العامة برفق وتؤدة ويخاطبهم خطاب إخوانهم لهم. ولطالما قال أن من الحكمة أن لا تجعلوا بينكم وبين العامة حجابا كثيفا إذا أحببتم هدايتهم والانتفاع بهم في المجتمع وعليكم أن توهموهم أن ليس بينكم وبينهم من الدرجات إلا قليل يوشكون هم إذا اشتغلوا قليلا أن يساموكم أو يفوقوكم فهو بهذا كالطبيب الحاذق يعطي المريض الجرعة التي تناسبه ويتدرج به في المقويات درجة درجة وهكذا كان مع كل طالب ومستفيد، تحقق لدى الشيخ أن ابن أخيه، وكان من نوابغ الشبان، ابتلي بآخرة بالشراب يتعاطاه، فقطع مكاتبته مع شدة حبه له وظل لا يكلمه ولا يبحث عنه مدة اثنتي عشرة سنة وهو يكتم السبب في إعراضه عن نجل شقيقه حتى أشار مرة لبعض خاصته بما يرتكبه المغضوب عليه من أخذ المسكر، وعد عليه في جملة هناته أنه أتعب نفسه في المدرسة زيادة على المطلوب فضعف بصره حتى ينال رتبة علية وكان عليه لو سمع(4/173)
نصائح عمه أن لا يرهق نفسه ويكتفي من المنافسة مع أقرانه بما توصله إليه الطبيعة بدون إعنات ولا إنهاك بدن وهذا من قوة نفسه وصدق حدسه.
كان يكره الاستعمار كرها شديدا ويحب المدنية ويحث على تعلم لغات الغرب ويكره السياسة العثمانية ويقول أن استيلاء الترك على بلاد العرب أضر بها وأزال مدنيتها وغير أخلاقها ولم يكن ينكر على الأتراك أدبهم في عشرتهم ونظامهم في بيوتهم وحسن معاملتهم لكبرائهم. وكان يحب من أهل المدنيات الحديثة كل أمة ترفق بالمسلمين في الجملة ويحب من الناس من يصرف في خدمة المسائل العامة شيئا من وقته وماله. وكان يقول وهو على فراش الموت عدوا رجالكم واغفروا لهم بعض زلاتهم وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد البلاد منهم ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم يقول هذا رجل أخلص كل الإخلاص في خدمة أمته وتفانى في حبها ومعالجة أدوائها الاجتماعية وكان جماعا ما كافأته به في حياته عبوسا وانقباضا وتنغيصا وغصصا ثم عصيانا على إصلاحه الناجع كالطبيب النطاسي يريد الخير بمريضه المعربد وكلما ناوله الدواء عضه وأدماه وشتمه وآذاه "أريد حياته ويريد قتلي". وكان الشيخ كثيراً ما ينشد قول البهاء زهير:
يا أيها الباذل مجهوده … في خدمة أف لها خامة
إلى متى في تعب ضائع … بدون هذا تأكل اللقمة
تشقى ومن تشقى له غافل … كأنك الراقص في الظلمة
ويشبه الشيخ من كثير من الوجوه غاندي الفيلسوف الهندي المعاصر وإن لم يكن له ما لهذا من الشجاعة وذلك أن الشيخ لا يحب الأذى ولا العنف ويحاول إحياء كل ما هو آسياوي من اللغات والتقاليد وتعليم الناس الصنائع وعدم الغفلة عما عند الأمم الغربية من مقومات(4/174)
العلم. ولا عجب فالعقل واحد مهما اختلفت الأعصار وتباينت الأفكار العقل السليم في هذا الشرق القريب وفي ذلك الشرق الأوسط وما وراءه من الشرق الأقصى لا يختلف في مظاهره الحقيقية عما هو عليه في أوروبا وأميركا وإفريقيا.
نعم لم يكن الشيخ طاهر كالمهاتما غاندي في حملاته حتى ولا في تصريحاته، المبدآن متفقان إلا قليلاً، ولكن ابن الوثنية جسر على العمل بمداه أكثر من ابن الإسلام. شعار غاندي "هندوسا كنا أم بارسيين نصارى أم يهوداً أياً كنا يجب إذا تاقت نفوسنا إلى أن نعيش أمة واحدة أن تكون مصلحة الفرد مصلحة الجماعة ولا عبرة إلا لعدل مطالبه" أما الشيخ الجزائري فكان يتوقع من القوم أن يقولوا هذا وهو لا يدعوهم إليه إلا بالإشارة والمثال البعيد. والحكيم الهندي قال ما اعتقده غير مجمجم فتخلص من قيود كثيرة وأراد أمته علنا أن تنهج سبيله فكانت شهرته شهرة عالمية وانحصرت شهرة الشيخ في بعض أصقاع العرب. وكان بعضهم يقول أن الشيخ ضنين بالإفادة حتى ادعى بعضهم "أن الشيخ طاهر بئر علم ولكن لا ينتفع بها" والحقيقة أنه يصعب على الشيخ مجاملة من يشتهى ولا مأرب له إلا أن يقال عنه أنه باحث وطالب فوائد فلا يرى أن يتعب نفسه في إفهام فضولي يسأله في الفلسفة العليا أو في مسائل تعلو عن محيط عقله على حين هو في حاجة إلى أن يتعلم القراءة والكتابة فكان في ضنانته هذه حكيما أيضا لا يظلم الحكمة فيلقي دررها بين أرجل من لا يعرف قدرها ولا يتأتى له أن يحسن الانتفاع بها. أما المستعدون للتلقي والترقي فكان يجهد أن يختصر لهم طريق الوصول إلى ما يريدون ويبعث كل حين عقليتهم ويفيض من واسع علمه (1) على أذهانهم وكلما
__________
(1) في الأصل عمله.(4/175)
رآهم يحرصون جد الحرص على التفاعل فوائده جاد عليهم بما يعلم إلا إذا كان ثمة شيئاً (1) لا يعرفه فإنه يقول "لا أدري" غير مبال بنقد من يذهبون إلى استقلال علمه وعدم إحاطته. فكان الآخذون عنه بالنظر لتحريه الصدق على ثقة من العلم الذي يسمعونه ويستملونه منه لان الشيخ إلى التصريح بعدم معرفته أقرب منه إلى إيهام الناس أنه يعلم كل شيء شأن المموهين والجامدين ولذلك لم يحسب عليه أن بدت مقاتله لأنه مرة يقول بعد التحقيق ويكره التلفيق (3).
-5 -
تآليفه ورسائله:
ليست تآليف الشيخ مما يتناسب كل التناسب مع علمه الواسع لأن بعضها مما ألفه في صباه لنفع المدارس وهو مفيد جدا في بابه وفي حينه ومن تآليفه المطبوعة (الجواهر الكلامية في العقائد الإسلامية) و (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) و (مد الراحة إلى أخذ المساحة) و (مدخل الطلاب إلى فن الحساب) و (الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام) ورسالة في النحو وأخرى في البديع وثالثة في البيان ورابعة في العروض، وكتاب (تسهيل المجاز إلى فن المعمَّى والألغاز) وشرح ديوان خطب ابن نباتة. ومن كتبه (إرشاد الألباء إلى طريق ألف باء) ورسالة وجداول جدارية في الخطوط القديمة والحديثة. و (التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن) وهي المقدمة الصغرى من مقدمتي تفسيره. ومقدمة سماها الكافي في اللغة وهي
__________
(1) كذا في الأصل والصواب: شيىء.
(2) ش: ج 8، م 5، ص 20 - 24 غرة ربيع الثاني 1348ه سبتمبر 1929م.(4/176)
مقدمة معجم ضاع أكثره. و (التقريب إلى أصول التعريب) و (توجيه النظر إلى علم الأثر) ومختصر أدب الكاتب لابن قتيبة ومختصر أمثال الميداني ومختصر البيان والتبيين للجاحظ.
هذا هو المطبوع. أما المخطوط فتفسيره الكبير ويدخل في أربعة مجلدات مخطوطة محفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق مع جميع ما ظفرنا به (1) من أوراقه .. ومن المحفوظ أيضاً كنانيشه وفيها خلاصة مما طالعه من الأسفار وعرض له من الأفكار. وله من المخطوطات كتاب (الإلمام بأصول سيرة النبي عليه الصلاة والسلام) و (مقاصد الشرع) وغير ذلك. وقد أحيا بالطبع عشرات من الكتب منها إرشاد المقاصد لا بد ساعد الأنصاري وروضة العلماء لابن حيان البستي والأدب والمروءة لصالح بن جناح والأدب الصغير لابن المقفع وأمنية الألعي وتفصيل النشأتين الراغب الأصفهاني والفوز الأصغر لابن مسكوية إلى غير ذلك من مقالاته في المجلات العلمية وإملااءت جمة كتبت بتواقيع مستعارة لو جمعت لجاءت في مجلدين أو ثلاثة. وألف الشيخ معظم هذه الكتب والرسائل بحسب الدواعي خصوصا مبادىء العلوم ووضعها في زمن كانت فيه الكتب المدرسية في حكم المعدوم وذلك لينهض بالتعليم الابتدائي ويخلص الناشئة من غلطات المتأخرين المعروفة وحواشيهم وشروحهم المملة المضيعة لأوقات الطالب ومعنى هذا أن الشيخ انتبه قبل غيره إلى فساد طريقة التعليم القديمة وأدرك أن الزمان يتقاضى أهل العلم أن يخرجوا الناس من ربقة القيود الثقيلة العائقة عن التحصيل كما انتبه إلى كثرة سريان الحشو واللغو إلى كتب الدين التي خلط فيها كثير من المتأخرين.
من أهم كتب الشيخ المطبوعة شرح خطب ابن نباتة وإرشاد الألباء
__________
(1) راجع وصف هذا التفسير والأوراق والكنانيش في المجلد الثالث صفحة 171 من مجلة المجمع.(4/177)
والتبيان والتقريب وتوجيه النظر ففيها لباب علمه وأثر من آثار قريحته تجلت فيها روح بحثه وغوصه على مسائل دقيقة قل أن تسنى نغيره من المعاصرين الوصول إليها. وليس معنى هذا أن سائر ما طبعه الشيخ غير مفيد، المقصود أنه كتب لغرض خاص أريد به تثقيف الناشئة وهذه الكتب هي التي ظهرت فيها شخصية الشيخ وثقوب ذهنه وسعة مداركه وتلطفه في إبلاغ المعاني إلى العقول وحرصه على أن يحيل في الأكثر على عالم تقدمه. لأن الناس في المادة يقدسون الأموات أكثرمن الأحياء. والشيخ وإن كان في مذهبه الديني إلى الاجتهاد لكنه في مذهبه التأليفي أقرب إلى التقليد ينشيء على مذاهب القدماء ولكن بتنسيق وتقسيم بدون أن يشوش القارىء. ولو تيسر للأستاذ أن يسير على نظام أكمل من الذي سار عليه في معيشته وساعده الزمان والمكان على تجويد مصنفاته والصبر عليها قبل نشرها لخلف كتبا وخصوصا في العشرين سنة الأخيرة من عمره تقرأ فيها صورة عظيمة من جهاده ونبوغه. وبلغني أنه دون بعض الوقائع التي شهدها ولم نعثر عليها بين أوراقه الخاصة التي سرق بعضها وقت انتقاله من مصر إلى الشام. ويقيني أن الرجل لو وفق إلى طابعين أغنياء فضلاء يحملونه على العمل على ما خص به من النشاط وشدة الحركة لأنتجت قريحته أكثر مما أنتجت في الفروع المختلفة التي طرقها ووزع قواه فيها ولكن تفانيه في الإسراع بحمل النور إلى العقول وفدح التبعة التي أخذها على نفسه في الإسراع بإنهاض أمته دعواه إلى أن يكتفي بما تهيأ له وضعه وتأليفه ناظرا فيه إلى مصلحة الناس لا إلى مصلحته الخاصة وشهرته في حياته وبعد مماته.
كان محيط الشيخ الذي عمل فيه على عهد الشباب والكهولة ضيق المضطرب لا يتسع لانبعاث همته وكانت المطالب التي يتقاضاها منه حرصه على بث الإصلاح والتعليم كثيرة لا يقوى الفرد على حملها(4/178)
كلها، ولوف قدر له أن عاش منذ نشأته في محيط أوسع كمحيط مصر وخلا من مدافعة المشاكسين والظالمين ورأى شيئا من الطمأنينة وسعة العيش لتضاعف عمله لا محالة وعم نفعه مصر وغير مصر وربما كان ظهوره في الشام والعهد عهد ظلمة وجهل أبرك عليها وأنفع لها لأن ما اضطلع به وحده لا يضطلع به عشرة علماء على شريطة أن يكونوا في درجته من الإخلاص وشدة الشكيمة وعزوف النفس عن المطامع والدنايا.
وبعد فهذه صورة صحيحة من صور الأستاذ الحكيم عجيبة في خطوطها وتقاطيعها، جميلة بألوانها وأشكالها، عرضتها لغرابتها لأنه ندر جدا في المعاصرين من الأحياء ظهور رجل يماثله في أطواره وحركته وسعة حيلته وبسطته في العلوم، اللهم إلا إذا كان ممن لم يبلغنا خبره في البلاد النائية والزمان بخيل بمثل هؤلاء النوابغ في كل عصر وقد لا ينبغ اضرابهم في قرون يفادون بكل ما يتفانى الناس من التهالك عليه من مال وجاه ورفاهية وتنحصر لذائذهم في بث أفكارهم وآرائهم ويسعدون السعادة كلها إذا نهضوا بإنارة عقول أهل جيلهم وقبيلهم.
رسائله الخاصة:
وإلى القارئ الآن جملا من كتب دارت بيني وبين أستاذنا فيها شيء من مبادئه العلمية وروحه السامي ربما ترجمت عنه لقلتها مثل ترجمتنا وزيادة. وكتابة المرء نمامة على علمه وعقل الكاتب في قلمه واختياره قطعة من عقله. وقد صدرت هذه الرسالل من القاهرة المعزية ومن أجمل ما فيها كونها كتبت على البديهة لا كلفة فيها شاْن الشيخ في كتبه ومفكراته. وربما كتب إلى أصحابه كتابا وبعثه في البريد بدون أن يطالعه ثانية، ولذلك رأينا بعض كتبه غفلاً من التاريخ أيضاً.
سالته مرة عن منشأ الشعوبية فأجاب: "وأما الزمن الذي ظهرت(4/179)
فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة.
ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر. إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة.
وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما ألفت كتب في خصائص اللغات تجعل من الفنون التي يعني بها وتميز عن غيرها ولا تذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره. وكل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار الغالط فيه.
هذا وكما حدث بعض عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهها اسم العرب. ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقيا في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا هذا وقد رأيت في بعض بلاد أناسا يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية.
كتبت لك ما كتبت والقلم لا يكاد يجري لما حدث لي من الفترة من نحو ثلاثة أسابيع. وسبب ذلك أني اختبرت أحوال كثير من الولايات فوجدتها منقسمة إلى حزبين كل منهما يباين الآخر في كل شيء ولم يظهر حزب ثالث يكون معتدلا ومعدلا لهما. وإذا دام الحال هكذا(4/180)
تأخرت البلاد عما كانت عليه من قبل. وقد نصحت كثيرا من المحدثين من الأحرار بأن يعدلوا مشربهم وحذرتهم عواقب الأمر غلبوا أم غلبوا فأبوا إلا الإصرار على فكرهم وما قلت لهم رأيي إلا بعد أن ألحوا علي في بيانه وحضر اناس منهم من مركز جمعيتهم وطلبوا مني التفصيل بعد أن بينت لهم ذلك إجمالا فرأيت أنهم يوافقونني في البدء ويخالفونني في النهاية فامتنعت في إتمام البيان وتشاغلت عنهم.
فإني رأيتهم يظنون أن حلهم لبعض مسائل الجبر والمقابلة يحل لهم مسائل إدارة البلاد. إن كثيراً ممن كنا نزدري برأيهم في السياسة من تلاميذ المدارس في مصر هم أرقى منهم في ذلك.
وقد اجتمع بنا في هذه الليلة أحد المرسلين منهم وسمع منا هذه العبارة وهي ملقاة على صورة تحتمل الجد والهزل فدهش وعرف أنها الى الجد أقرب منها إلى الهزل وكان يتكتم فاضطر إلى الانطلاق فيما يراه من الأخطار التي يصعب تداركها ... إني متشوق لاخبار كثيرة من الولايات لعلنا نسمع بظهور الحزب الأوسط في واحدة منها فيسري ذلك في غيرها شيئا فشيئا. وهذا الحزب يلحقه في أول الأمر أشد اضطهاد لأن الحزبين المتطرفين يبغضانه أكثر مما يبغض أحدهما الآخر لاعتقادهم بأنه أقرب إلى انضمام كثير من الحزبين إليه.
وقال من كتاب عن القاهرة في 19 صفر سنة 1328:
" وبعد فقد وصلني كتابكم الكريم منبئا بعودكم من بلاد أوربا فسررت بذلك سرورا شديدا وكنت أتمنى لكم هذه الرحلة من زمن قديم لما اتيقنه من الفائدة التامة العامة في ذلك فإن الاقتباس من الأمم المترقية دليل على النباهة لا كما يظن البله من أن في الاقتباس غضاضة ونريد بالاقتباس ما يشعر به هذا اللفط من تلقي الأمور النافعة لا كما يظنه المتكايسون من أن الأمم الراقية ينبغي أن يؤخذ منها كل شيء(4/181)
حتى أداهم الأمر إلى أن يقلدوهم في الأمور التي يودون هم أن يخلصوا منها.
وأما ما يتعلق بخزائن الكتب في الآستانة فقد خطر في بالي خاطر يرتفع به محذور الامتعاض في جمعها وذلك بأن تبقى كل مكتبة في موضعها لينتفع بها المجاورون لها غير أنه ليؤخذ منها الكتب النادرة وهي في الغالب لا تلزمهم ولا يهمهم أمرها وتوضع في موضع معد لها يكون في وسط البلدة. ومن اطلع على دفاتر مكاتبها وجد إمكان إجراء ذلك بدون اعتراض يعقل. ولما عملت برنامجا لكتبها النادرة رأيت أن بعض المكاتب قد يوجد فيها نسخ متعددة من كتاب نادر فلو أخذ أحد النسخ المكررة لم يكن في ذلك ما يقال. وقد كنت ذاكرت بهذا الأمر بعض أعضاء الجمعية فاستحسنه جدا وذكر لي أنه سيسعى في إبرازه من القول إلى الفعل. ثم عرضت شواغل عاقت عن ذلك.
وأما مصر فقد دخلت في الدور المجهول وسيكون إما لها وإما عليها. وهذا الدور لابد منه لكل أمة تريد النهوض بعد العثرة فإن ساعدها الزمان والمكان والا مكان نالت مناها والا كان لها تعلل بسوء البخت بعد التشبث بالأسباب الظاهرة جعل الله سبحانه العاقبة خيرا".
وكتب ناصحا وواضعا خطة للإصلاح بتاريخ 1 جمادى الأول 1337:
"ومما يهم الأمر فيه إصلاح العادات فإن في الشرق كثيراً من العادات التي ينبغي إبطالها كما أن فيه كثيرا من العادات التي ينبغي المحافظة عليها غير أنه لا نبغي أن يستعمل التنكيت في ذلك بل يستعمل مجرد البيان الدال على حسن الشيء أو قبحه.
ولا يتيسر الإقدام على هذا الأمر إلا لمن لا يهمه أمر المدح والذم العاجلين بل يهمه حسن الأثر.
ومن العادات الرديئة جدا أن الكاتب قد يمكنه أن يكتب في(4/182)
إصلاح عادة لكنه يرى أن الكلام في ذلك يكفي فيه عشرة أسطر فيرى أن الناس يزدرون بذلك وينسبونه لقلة القدرة على الإنشاء فيترك الكتابة فيه أو يسهب إسهابا لا داعي له من سرد مقدمات معلومة مسلمة لو تركها لكان أقرب إلى الفهم وأبعد من الوهم وما ذلك إلا من تأثير الحشوية فيهم وقولهم أن الناس نسبوك لعدم الاقتدار على الكتابة. فينبغي أن يكون في المجلة ولو مقدار صفحة تبحث في العادات على اختلاف أنواعها وتعليم ذلك للبنين والبنات. هذا ومن جهة رأي الناس في حقكم فإن النبهاء المنصفين منهم يجعلونكم ممن ثبت في حين الشدة ولا تعبأوا بمن يلوم عن جهل وغباوة فإن ذم هؤلاء أقرب إلى المدح من ثنائهم.
وكتب إليَّ يقوي عزيمتي على العمل:
"وأرجو أن يكون ما حصل لكم من المروعات زائدا في نشاطكم في إفادة الأمة، فإنها في احتياج شديد إلى من يبين لها الطريق الأقوم من أرباب الوقوف والإخلاص وأعظم ما تحتاج إليه هو أمر الأخلاق وما يتعلق بها ومعرفة الأمور العمرانية على وجه لا يكون فيه إخلال بمعالي الأمور وتنبيههم على عدم التعويل على المدنية التي كان الغربيون قديماً يفتخرون بها ويزدرون بمن لا يتابعهم عليها مما هو مبني على مجرد مراعاة الأمور المادية دون غيرها وهي التي جلبت هذه المصائب الحاضرة وقد أشرتم بطرف خفي إلى ذلك في محاضرتكم التي ألقيتموها في مصر حين فراركم من دمشق إليها وقد صرحنا في ذلك في قصيدتنا البائية المطبوعة في الجزء الرابع من منتخبات الجوائب. وقد كان أناس يقرؤونها ويعدونها من آراء حشوية الشرق فما زالوا على ذلك حتى صرح فلاسفة الغرب بذلك. ومما ينبغي أن تحثوا عليه تعلم صنعة ما أي صنعة كانت ولا يكون أحد خاليا عنها ويجعل هذا مبدأ جديدا لهذا العصر والتعويل على الرياضة الجسمانية".(4/183)
وكتب في غرض الأعراض عن المثبطين من رسالة:
"وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي تنبه فيه الغافل فضلا عن غيره موهمين الشفقة.
وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع. ولم ير أحد من المثبطين قديما أو حديثا أتى بأمر مهم. وينبغي للجرائد المهمة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها ليخلص منها من لم تستحكم فيه وينبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم. وقد ذاكرني منذ ليلتين أحد نجباء الأبناء في هذه المسألة وشكا كثيراً منها وعجب لعدم اكتراث المصلحين ببيانها بياناً كافيا شافيا فقلت له: المأمول أن يكون الأوان قد آن لإصلاح هذه العادة التي تهبط بالأمة إلى الدرك الأسفل أصلح الله الأحوال" (1).
-6 -
وقال من كتاب في غرض التربية:
وأؤكد في هذا الكتاب بأمور:
1 - إدخال مبادىء الصنائع في المدارس الابتدائية ويمكن تجربة ذلك أولا في مدرسة واحدة.
2 - إدخال التربية العملية فيها وذلك بتعويد التلميذ على الصدق وأن لا يتكلم في شيء إلا بعد أن يختبره فإن الشرقي اعتاد أن يدعي كل شيء وأن لا يقول في شيء لا أعلم وهذا جعله لا شيء عند الغري.
__________
(1) ش: ج 9، م 5، ص 2 - 29 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.(4/184)
3 - السعي في مدرسة للقراءات السبع مثل ما كان من قبل.
ولا ينبغي أن توضع هذه الأشياء في المذاكرة وأن يخطب فيها، فإن مثل ذلك ينبغي أن يخطب فيها بعد أن تصير.
وقال في موضوع التعليم وقد رجوته إرشادي برأيه فيها في المدارس ورأيه في البحث في المخطوطات: "ومما زاد فيه سروري شيئان أحدهما الاعتناء بتربية الأنجال، فإن أكثر الآباء يرجون من حيث يدرون ولا يدرون مصلحة أنفسهم وما ذكرتم فهو موافق. والأولى أن يضم إلى ذلك صنعة كالخياطة والتفصيل ونحو ذلك وعرفوني بعد حين البروغرام الذي يظهر لكم. وينبغي أن تتولوا بنفسكم بعض التعليم ولو مدة ربع ساعة على طربق أحد المغاربة فإنه كان يطلب من ولده أن يفيده بعض مسائل بعد أن يشعره بطرف خفي بمظانها فيلقيها الإبن على الأب كأنه يفيده.
واما الذين يريدون أن يخفضوا ما رفع الله شأنه ويرفعوا ما خفضه فعما قليل ليصبحن نادمين والزمان يضحك منهم وكذلك الأئمة الغربيون الذين يمتون إليهم بوسيلة التقليد لهم فلا يكن في صدرك حرج منهم فهم اغرار وينبغي أن تمحو من لوح الفكر لفظ اليأس فإنه أضر شيء، وأثبت ففي الثبات جل الحكمة إن لم نقل كلها.
الثاني استفسارك عن وصف الكتب فإنه دل على أنك قوي حسن الظن بنا حتى تكاد تعتقد أننا لا نقول شيئا جزافا كما أن أناسا يعتقدون أننا لا نقول شيئا إلا جزافا. وهنا أذكر لك حكاية سمعتها مرارا ممن أثق بهم وهي أن أحد (1) من جمع له بين العلم وغيره من الصفات العالية أرسل إلى أحد من يميل إليه من النبهاء وقال له أريد أن تنشر بين جماعتنا العلم الفلاني فقال لا أعرفه وإنما أعرف العلم الفلاني. فأعاد
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: أحداً.(4/185)
عليه العبارة المسؤول قوله لا أعرفه. فأعاد عليه السائل ما قال أولاً فأراد المسؤول أن يجيبه فأشار إليه بعض الحاضربن إشارة خفية أن يظهر الامتثال ثم قاموا من عنده فقال له المشير: أن فلانا لم يقل لك ما قال إلا وهو يعلم أنه ممكن وإذا تحقق الإمكان فما عليك إلا أن تسعى في إخراج الأمر من القول إلى الفعل فسعى وتم الأمر. وحصلت شائدة عظيمة من إحياء أمر كان دارسا.
ونرجع إلى أصل المسألة فنقول: من أراد وصف كتاب ينبغي له أن ينظر فيما قاله مؤلفه في مقدمته أو في خاتمته أو فيهما معا ويأخذ خلاصة ذلك والوصف عندهم ليس عبارة عن النقد بل بيان موضوع الكتاب والداعي إلى تأليفه. وما في الكتاب من الخصائص وعلى ذلك يتيسر وصف الكتب بأسرها حتى كتب الطب فإذا زاد الواصف فصلا من الفصول ليكون كالنموذج كان أحسن وكثيرا ما يكون وصف الكتاب على هذه الطريقة سبب نشره.
وأكثر وصف المؤلفين لكتبهم إما مطابقة للواقع أو قريب منه.
أما المموهون فقليل في الطبقات القديمة. ومن العجيب أن هذا الأمر لا يشعر به كثير من نبهاء هذا القطر ولفظ الكثير هنا مجاز وجربوا نفسكم في غير التاريخ ونحوه ففي الحديث يمكنكم أن تصفوا هذه الكتب.
"في دار الكتب الظاهرية بدمشق".
نمره 356 اللطائف في علوم المعارف للمديني.
"362 أسماء الضعفاء للعقيلي".
"387 معرفة الرجال لابن معين".
"390 المشتبه للغساني".
"393 الكفاية في علم الرواية".(4/186)
وهذا أمر يفيد الناس أكثر من كثير من المقالات التي حررها أناس ليس لهم تتبع ولا معرفة بجعل نتيجة للمقالة حتى صار المطالعون يضيق صدرهم من ذلك وقد سألني منذ مدة أرباب المجلات عن أحسن المجلات فقلت أصغرها حجماً.
"في 15 ذي القعدة 1328"
وقال من رسالة:
"مما يهم جدا إدخال مبادئ الصنائع في جميع المكاتب الابتدائية وقد جرب ذلك في بعض المدن فتبين أن ذلك مما يعين على التحصيل أيضا والفائدة في ذلك مهمة.
ومما يهم جدا إدخال التربية العلمية في المدارس لا سيما المدارس الإبتدائية. ومن ذلك أن يعود التلميذ على أن لا يتكلم بما لا يعلم وأن يتفكر قليلا إذا سئل عن شيء لم يسبق له به اختبار. وهذا أمر ممكن قريب الأخذ قد عمله أناس فنجحوا فيه- وأرجو أن لا تقرأ أفكاري على أناس من الحشوية أو الفلاسفة الخياليين فإني أربأ بها عنهم. نعم هؤلاء ينبغي أن يعرفوا ذلك بعد العمل به. ونصيحتي لكل محب أن لا يشتغل بمثل هؤلاء فإنه أنفع.
"في 21 ربيع الأول سنة 1337"
"هذا وقد سرني كثيرا زوال المباينة بينكم وبين الذين نود عدم مباينتهم. وهذا أيضا من أثر النشاط فإن النشاط إذا زال لحق المرء الملل من كل شيء وإذا حصل قويت الهمة ورأى البعيد قريبا وأقام للناس أعذارا ونفعهم وانتفع بهم.
• • •
قد جرى منذ أسبوعين مذاكرة سرية في طريقة ترجمة إحدى دوائر المعارف الفرنسوية فإن الناس في احتياج لذلك. وقد تبين من(4/187)
المذاكرة أن أمر المال سهل فإن أحد الحاضرين تعهد بذلك وقال أن له أخواناً لا يتوقفون في الإمداد، ولكن المهم وجود مترجمين كافيين يتعهدون بالقيام بذلك إلى النهاية فقلت أن هذه المسألة تحتاج إلى تفكر وبحث شديد. وقد استقر الرأي على أن تدرس في نحو ثلاثة أشهر ووعدت بالكتابة لكم في ذلك فابحثوا في المسألة فيما بينكم وبين نفسكم ثم فيما بينكم وبين إخوانكم الذين يناسب البحث معهم في ذلك على صفة خاطر قد خطر وكان معنا في المذاكرة الفاضل المقدام السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار وهو يأمل أن يوجد بإرشادك نحو سبعة مترجمين. وقد تشبث بهذا الأمر منذ سنين أناس ظنوا أن المال يأتي بكل شيء فتبين لهم غلطهم وأعرضوا عن الأمر وهذا أمر بعيد جدا ولكن هو في درجة الأمكان القريب من الوقوع وإنما يحتاج إلى الهمة ومعرفة الطريق وقد كان بعض الحاضرين يريد أن يجعل زمام الأمر في يد الحكومة، فطلبنا أن يكتم ذلك عنها، فإنه لا يؤمل أن تقدر عليه فإن هذا الأمر محتاج إلى الحكمة أكثر من احتياجه إلى الحكومة.
وقال في رسالة وقد سألته عن التاريخ الهجري وانتقاد بعضهم على استعمالنا له:
عجبت لمن يسعون في أن نهجر التاريخ الهجري ويفاتحوننا في ذلك كأنهم لا يعلمون أنا نعلم ما يرمون إليه عن بعد. لكل أمة شعار إذا تركته طمع فيها واستضعف جانبها وربما صارت بعد مدمجة في غيرها. وقد سعى أناس منذ عهد بعيد في أن يضعفوا ما يقوي أمر الإسلام عموماً والعرب خصوصاً فنجحوا بعض النجاح، فطمعوا في أن يقضوا عليه فلم يجدوا أقرب إلى ذلك من إضعاف أمر اللغة العربية والسعي في تبديل خطها والتزهيد في الكتب التي كتبت به جعلوا ذلك دأبهم وديدنهم حتى أثروا في كثير من أبناء جلدتنا الذين يظنون أنهم(4/188)
على غاية من الذكاء والوقوف على أسرار الأمم فكان ما كان مما هو معروف ثم زاد الأمر فطمعوا في تبديل التاريخ الهجري وساعدهم على ذلك، جبت مصر ففرحوا فرحاً لا مزيد عليه. وقال بعضهم: الآن شفينا الغليل من هذه الأمة غير أن كثيرا ممن انتبه لهذا الأمر سعى في إعادته على قدر الإمكان فامتعض أولئك القوم وصاروا يلمزون كل من يسعى في ذلك.
وهذه المسألة نظرا لتعلقها بتاريخ تأخر الشرق لا يتيسر أن يكتب فيها أقل من تاريخ نحو ثلاثين صفحة نحو ثلاثين يوما. وليت شعري كيف يلام المسلم على أن يؤرخ كتابه بالتاريخ الهجري فهل انقرض التاريخ الهجري وهل يريدون أن ينقرض وأصحابه أحياء؟ فإن قالوا أن المقصود توحيد التاريخ في الأمم وأوربا هي القوية الآن قيل أن أوروبا لها تاريخان أحدهما شرقي والآخر غربي وكل يؤرخ به قوم منهم فهل أوقف ذلك التجارة أو أثر في المدنية شيئا. ولم لا يكلفون تغيير مكاييلهم وموازينهم وأذرعهم لتتحد المقاييس في الأمم. وتغيير ذلك ليس فيه غضاضة بخلاف التاريخ. وقد رأيتهم يعتذرون عنهم ويعدون ذلك متانة في الأخلاق فانظر ما وصلنا إليه.
وهذا الكتاب يدلنا على أشياء كثيرة من سيرة الشيخ ومرماه ونصاعة حجته وجميل مناقشته لخصوم مشربه.
وكتب: "كان كثير من الحشرية يلومونني في تنبيه المؤلفين والطابعين على ما يلزمهم ويقولون أن هذا لا يفيد غير العداوة وأنت تضرب في حديد بارد وما دروا أني ممن يقول بأن العداوة في محلها أجدى عندي من أن أكسب المحبة من غير وجهها وأن معاداة الغاشين لي مما يسرني كما أن محبتهم لي مما يسوءني غير أن الزمان أبان أن كل نصيحة لا تخلو من تأثير ولو بعد حين فإن كثيرا ممن لحقتهم صدمة منا ومن(4/189)
إخواننا الذين أعطوا هنا عهدا أن لا يغشوا الأمة قد صاروا يراجعون بعض مراجعة غير أن التأثير في المطابع كان أكثر.
وأما أمر التصحيح فلم يهتد المصلحون إلى طريقة في إصلاحه. بحيث أن بعض الناس طلب إلينا أن نبحث له عن مصحح لكتاب المحكم لابن سيده وهو أكبر من لسان العرب ليشرع في طبعه فبعد بحث كثير تبين أنه لا يقوم بتصحيحه إلا فلان وهو أحد إخواننا الذين لا يساعدهم- نظرهم في أملاكهم الجمة على التفرغ لمثل هذا الأمر. فأرجيء الآن طبع الكتاب لهذا الأمر. فانظر إلى الحال التي وصلت إليه مصر. فما قولك في غيرها إلا أن الذي يسر في مصر انتباهها لنقصها بخلاف الأقطار الأخرى والانتباه للنقصهو نوع من الكمال. أرانا الله سبحانه الكمال على حقيقته بمنه عليكم بالرياضة الجسمانية والرياضة الروحانية. ويدخل في الرياضة الروحانية التباعد عن سماع الأخبار التي أولع بها المرجفون. فإنه لا قيمة للزمان عندهم وهو عند الحكيم أغلى من الجوهر.
"17 رمضان سنة 1326"
وكتب من رسالة:
"قد سرني في مصر في هذه المدة أن العقلاء بدأوا يجتمعون في الفكر والتعاون على صفة يقتضيها الموقع وهو عدم التظاهر من أول الأمر كما يفعله طالبو الشهرة وهذا أمر لا يشعر به إلا من اطمأنوا إليه. وقد كانوا قبل ذلك يقول كل واحد منهم نفسي نفسي. وإذا استنجده أحد لأمر نافع قال ولو بلسان الحال "عليك بخويصة نفسك".
قد اجتمعت في هذا النهار بعالم أورباوي قد حل الخط الثمودي الموجود في مدائن صالح وأخبرني أن كتابه قد تم طبعا وهو الآن يسعى لجمع لغة أهل نجد فإنه وجد أن أكثر الكلمات العربية لم تزل(4/190)
باقية عندهم وكان قد ساح في تلك الجهات وهو ممن يتعصب للغة الكتاب العزيز أكثر مما يتعصب أهلها لها.
كان قد أسس في أميركا مدرسة يقرأ بها الطالب وهو في بلده، وقد كنت رأيت في سورية أحد طلبتها وهو يدرس فيها فنا دقيقا وأظن أنها تسمى المدرسة الكوتشوكية، وقد كان ترجم قديماً إلى العربية بعض قوانينها وطبعت ثم نفدت النسخ بحيث أني بحثت عنها فلم أجد نسخة بل لم أجد من يعرفها فإن وجدتم كتابا بالفرنسوية يتعلق بها فترجموا منه ما تيسر مما يوافق البلاد.
وقد سعى بعض الواقفين على ذلك من نحو عشر سنين في بث هذا المقصد إلا أنه على وجه خفي حيث كان نشر العلم إذ ذاك يعد من أعظم الإجرام، والآن لم يبق مانع ومجرد نشر أسلوبها وقوانينها يفيد فضلا عن التشبث بشيء من ذلك.
وقال في كتاب:
"وقد وقفت على كثير من الجرائد الجديدة فوجدت جل مباحثها في بيان فوائد الحرية ورأيت الناس قد ملوا هذا البحث لأن الحرية إن كانت على المعنى الذي يقول به الحكماء فهي مما لا يختلف فيه اثنان من ذوي النباهة، وإن كانت على وجه آخر فربما كان ضررها أكثر من نفعها. ولست أعني بالحكماء هنا أمثال الحكيم الذي كان يقال لكم أنه تعلم الحكمة في سويسرة في ثلاثة أشهر لأن مثل تلك الحكمة مما يزيد خبالاً. وما أرى أكثر الفتن التي وقعت في كثير من الولايات إلا من مثل هؤلاء لا سيما أن ضم إلى دعوى الحكمة دعوى الحرية وهو لا يملك نفسه. وقد كان أرباب الحدس يتصورون أنها تكون أشد إلاَّ أن الألطاف الإلهية حفت فخفت ولله الحمد.
"23 شوال سنة 1326"(4/191)
ذكر في جملة كتاب حوى مسائل كثيرة في نسخ الكتب وأخذها بالتصوير الشمسي والعناية بوضع فهرس لكتب رومية باللغة العربية ثم قال:
"من أغرب ما في القدس امتزاج المسلمين من النصارى على وجه غريب بحيث لم تؤثر فيهم الطريقة التي اتخذها المستبدون في تمشية أمرهم وإن هلك الحرث والنسل. وقد رأى بعض الباحثين أن هذا أمر دبره صلاح الدين الأيوبي برأيه الثاقب منعاً لما حدث من قبل بسبب سوء سياسة الغبيديين الذين كانوا بمصر تغمده الله برضوانه.
خذوا على نفسكم عهداً بأن لا تؤخروا جوابا مكتوباً (1) لأحد وخذوا العهد على من كان على شاكلتكم بذلك فإن في ذلك فوائد جمة والمكتوب يسوغ أن لا يزيد على خمسة أسطر.
"4 شوال سنة 1337"
وقال أيضا:
"وأرجو أن لا تقصروا في كتابة نبذ تتعلق بالتربية وتدبير المنزل وإصلاح العادات وما أشبه ذلك وأؤكد عليكم في أن لا تشتغلوا بشيء من الجدل فإن الجدل يبطيء عن العمل، وخذوا من عنان قلمكم لئلا يجري إلى غير مدى والاعتدال أقرب لحصول ما يبتغى.
وذكر في رسالة أن الكتب التي يجب أن توصف:
1 - أرجوزة ابن سيده في الأدب وهي من قبيل الملح اللغوية في نمرة 1 من الأدبيات المنظومة مع ديوان أبي العتاهية تزاد فيها نثراً في الآخر الصاحب وما يميل إليه من دواوين الشعر والكتب وما يتقنه من العلوم والصنائع أو ما يتجر به وما يؤثره من الأخلاق ونحو ذلك ويتيسر عمل ذلك في جدول في صفحتين أو أربع.
__________
(1) في الأصل: جواب مكتوب.(4/192)
2 - الجمل في اللغة في الظاهرية نسخة منه ناقصة من الطرفين.
3 - المغرب للمطرزي.
4 - رد ابن السيد على رد ابن العربي على شرحه لديوان المعري.
5 - أعتاب الكتاب لابن الابار.
6 - عروض ابن معطي وبديعيته.
7 - بغية المؤانس من بهيجة المجالس والأصل لابن عبد البر.
8 - قانون البلاغة لأبي طاهر محمد بن جبلة البغدادي في الظاهرية.
9 - مختصر إصلاح المنطق.
10 - الأربعين السلفية وهي مرتبة على البلدان، وممن سمعها على السلفي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ووالده نجم الدين أيوب ابن شادي بقراءة القاضي سناء الملك هبة الله بن جعفر بن سناء الملك محمد بن هبة الله بن محمد الأسدي (1).
ينقل صورة السماع فقط. ا ه.
محمد كرد علي
__________
(1) ش: ج 10، م 5، ص 25 أسفل صفحة 33. غرة جمادى الثانية 1348ه نفامبر 1929م.(4/193)
رزء الإسلام
وفاة مجتهد العصر الأستاذ رشيد رضا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نعت أخبار مصر وفاة هذا الإمام وقد كانت وفاته إثر رجوعه من مشايعة الأمير سعود إلى الإسكندرية فابتدأه الألم أثناء الطريق وما بلغ إلى مصر حتى وافاه الأجل وقد شيعت جنازته في مشمهد عظيم ودفن بجوار الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد كان الأستاذ نسيج وحده في هذا العصر فقهاً في الدين وعلماً بأسرار التشريع وإحاطة بعلوم الكتاب والسنة ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسير العمران والاجتماع وكفى دليلاً على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير وما أودعه مجلة المنار في مجلداتها التي نيَّفت على الثلاثين وما أصدره من غيرهما مثل (الوحي المحمدي) الذي كان أحب كتبه إليه، وإن ما كان يقوم به من عمل في تفسير القرآن لا تستطيع أن تقوم به من بعده إلا لجنة من كبار العلماء، فهل يكون من رجال الأزهر من يتقدمون لخدمة الإسلام بتتميم هذا العمل الجليل، إننا نتمنى أن تتوجه عناية الأستاذ مصطفى المراغي إلى هذا فيكون من أعظم أعماله.
أجر الله الإسلام والمسلمين في هذه المصيبة وخلف عليهما خيراً منها ورحم الله الأستاذ حجة الإسلام وجازاه خير ما جازى به عباده الصالحين (1).
__________
(1) ش: ج 6، م 11، ص 396 - 397 غرة جمادى الثانية 1354ه - سبتمبر 1935م.(4/194)
حجة الإسلام
السيد محمد رشيد رضا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 -
كتبنا كلمة عن وفاته في الجزء الماضي ونريد اليوم أن نكتب شيئاً من ترجمته معتمدين في ذلك على ما نشره هو منها مجموعاً ومفرقاً في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام وكتاب (المنار والأزهر).
مولده:
ولد في حدود 1291ه 1865م بقرية القلمون من قرى لبنان.
بيته:
بيت شرف ودين وعلم وفضل وصلاح يعرفون بالمشائخ من قريتهم وإليهم يرجع أهلهم في الدين وإصلاح الشؤون.
نشأته:
نشأ في هذا البيت الطاهر نشأة علم ودين وتقوى وشعور بواحبات القيام بحاجات الناس وإيصال الخير إليهم.
تعلمه وشيوخه:
قرأ القرآن وتعلم الخط والحساب في كتاب قريتهم وحبب إليه من الكتب كتب الأدب والتصوف فكان يقرأ كتاب الإحياء لحجة الإسلام الغزالي فطبعه بطابع الزهد والتدين وأكسبه ملكة العربية(4/195)
الفصيحة والأسلوب المرسل في البيان. ثم أدخل مدرسة ابتدائية جميع التدريس فيها باللغة التركية فلم يقم فيها إلا سنة ثم في سنة 1302ه دخل مدرسة الأستاذ حسين الجسر وكان هذا العملامة أنشأ مدرسته لتعليم علوم الدين واللغة العربية واللغات الأجنبية والعلوم الدنيوية على الطريقة العصرية مع التربية الإسلامية الوطنية، فتخرج في العلوم العربية والشرعية والعقلية على الأستاذ الجسر في مدة ثمان سنوات وكتب له شهادة العالمية.
وتشبع بروحه في ضرورة الجمع بين علوم الدين وعلوم الكون المادية والاجتماعية والعمرانية مع التربية الإسلامية لنهضة الأمة، وأخذ الحديث وفقه الشافعية عن شيخ الشيوخ العلامة محمود نشافة وحضر قليلاً من كتاب نيل الأوطار للشوكاني على العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي واستفاد كثيراً من معاشرته في العلم والأدب والتصوف وتلقى بعض كتب الحديث على العالم المحدث الشيخ محمد القوقجي.
الكتب التي خرجته:
شغف بكتاب الإحياء فطالعه كله وأعاد مطالعته فكان له الأثر الصالح في زهده وأخلاقه وإخلاصه في العلم وتقواه في العمل وكان طريقه منه في فهم الدين أنه دين روحاني أخروي فقط وأن إرشاد المسلمين محصور في (تصحيح عقائدهم ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات وتزهيدهم في الدنيا). ثم اتفق له في أثناء مدة طلبه للعلم- وهو يقلب أوراقاً علمية لأبيه- أن وجد عددين من جريدة العروة الوثقى التي كان يصدرها حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فقرأهما بشوق ولذة بعثاه على البحث عن بقية أعدادها فلما قرأ ما وجد منها المرة بعد المرة أحدثت فيه أثراً جديداً ونقلته من طور إلى طور وصار طريقه في فهم الإسلام أنه(4/196)
(دين روحاني جسماني أخروي دنيوي من مقاصده هداية الإنسان إلى السيادة في الأرض بالحق ليكون خليفة الله في تقرير المحبة والعدل) وأن إرشاد المسلمين يجب أن يكون- مع تصحيح عقائدهم ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات- إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة.
تنسكه:
حبب إليه كتب الإحياء مجاهدة نفسه على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام والإكتفاء بقليله والنوم على الأرض وغير ذلك وأخذ أوراد الشاذلية عن شيخه أبي المحاسن القاوقجي أعبد عباد شيوخ الطريق في وقته ورغب منه أن يسلكه الطريق على الأصول العملية إذ لم يعجبه أن يسلك الطريق على وجه صوري من تلاوة الأوراد وحضور الاجتماعات فقال له الشيخ (يا بني إنني لست أهلاً لما تطلب فهذا بساط قد طوي وانقرض أهله) ثم تلقى الطريقة النقشبندية وقطع مراتبها كلها فكان تنسكه- أولاً - تصوفا طرقيا شاذليا فنقشبنديا بما فيه من حق وباطل وهدى وضلال.
تخلص نسكه من الباطل والضلال:
دعاه شغفه بكتاب الإحياء إلى اقتناء شرحه الجليل للإمام المرتضى الحسيني فلما طالعه ورأى طريقته الأثرية في تخريج أحاديث الإحياء فتح له باب الاشتغال بعلوم الحديث وكتب السنة وتخلص مما في كتاب الإحياء من الخطأ الضار- وهو قليل - ولا سيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية والغلو في الزهد وبعض العبادات المبتدعة، وترك أوراد الشاذلية لما علم أن قراءتها (من البدع التي جعلت من قبيل الشعائر والشرائع التي شرعها الله تعالى على ما فيه (أي ورد(4/197)
السحر وأمثاله) من الأمور والأقسام المنتقدة شرعاً، واستبدل بها قراءة القرآن وورداً آخر في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- (ليس فيه شبهة بدعة من توقيت وجهر وصيغ منكرة ومضاهاة للشعائر الموهمة للمأثور عن الشارع) كما ترك أوراد النقشبندية وذكرها (غير المشروع المخالف لجميع ما ورد في الذكر المأثور) وبين ما في رابطتها من شرك أو بدعة.
فتخلص نسكه- بعد طرح ذلك كله للتنسك الإسلامي من تجريد التوحيد وتزكية النفس وتقويم الأعمال وتصحيح النية ومحاسبة النفس ومراقبة الله في جميع الأعمال والزهد في الدنيا والعمل للآخرة والمبالغة في العبادات المشروعة والاعتصام بالورع موزونا ذلك كله ومضبوطاً بالكتاب والسنة وما كان عليه أهل القرون الثلاثة الصحابة والتابعون وأتباع التابعين رضي الله عنهم أجمعين. وهذا هو الذي يراد بالتصوف إذا جاء إسم التصوف في كلام علماء السنة والأثر، وقد كان السيد محمد رشيد رضا رحمه الله من أئمتهم، فهذا هو تنسكه وهذا هو تصوفه.
تعليمه وإرشاده:
تصدى للتدريس في مسجدهم، حيث كان عمه- كأسلافه- يقوم بالإمامة والخطابة والتدريس فكان يقرىء للرجال دروساً في الفقه الشافعي ودروساً في التوحيد بالسنوسية ولما رأى صعوبتها عليهم وضع لهم عقيدة سهلة وكان يربيهم في تعليمهم بما يحثهم عليه من القيام بالشعائر الدينية وكان يلقي عليهم المواعظ الدينية معتمداً فيها على آيات القرآن العظيم، ثم لم يكتف بما يقوم به من التعليم والإرشاد في المسجد فكان يذهب إلى مقهى يجتمع فيه العوام فيعظهم ويرشدهم حتى هدى منهم من هدى الله، ورأى أن على المرشد هداية النساء(4/198)
مثل ما عليه هداية الرجال فكن يجتمعن في دار أسرته فيلقي عليهن العقائد والأحكام والآداب في عبارات سهلة بدون كتاب وكان يأمرهن بتغيير زيهن بما هو أستر وأطهر حتى تكون المرأة في الشارع كما تكون في الصلاة.
أمره بالمعروف وتغييره للمنكر:
كان بعد ما قرأ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتاب الإحياء يأمر وينهي لا يخاف لومة لائم وأول حادثة صدع فيها بالنهي عن المنكر في حفل عظيم من الناس- كانت يوم شهد حفلة للطريقة المولوية ورأى رقصهم وحلقة غلمانهم فصاح فيهم بما معناه (أيها المسلمون إن هذا منكر لا يجوز النظر إليه، ولا السكوت عنه، لأنه إقرار له وأنه يصدق على مقترفيه قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} وإنني قد أديت الواجب فأخرجوا رحمكم الله) وخرج مفارقا لهم.
ما وقع بينه وبين شيخه الجسر بسبب هذا الإنكار:
كان الشيخ الجسر على علمه بالعلوم الشرعية وإلمامه بالعلوم العصرية شيخا في الطريقة الخلوقية فكان ينصح لتلميذه بأن يكف عن أهل الطريق ولكن لا يأتيه على ما يفعلونه مما يبتدعونه في الإسلام ويشرعونه لأنفسهم مما لم يأذن به الله بدليل. وكان السيد يقول له (أقنعني بما تقول بالدليل ليصير عقيدة لي أرجع إلى قولك) فكان يجيبه الشيخ بقوله (أنت أهل علم وصاحب حجة وليس لك عندي غير ما قلته) وكما كان ينكر على العامة كان ينكر على الحكام والكبراء ما يراه منهم لا يخص بإنكاره أحداً دون أحد وكذلك كل ما كان عن عقيدة ولوجه الله من الأعمال لا يتركه صاحبه على كل حال.
هذه ترجمة السيد قبل هجرته إلى مصر وقد رأينا أنه صار عالماً(4/199)
معلماً مرشداً ذا منزلة رفيعة في العلم والتقوى والنصح للمسلمين وهو بعد في أول العقد الثالث من عمره وسيعرض في الجزء الآتي- إن شاء الله تعالى- لترجمته بعد رحلته (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 11، ص 409 - 413 غرة رجب 1345ه - أكتوبر 1935م.(4/200)
الاعتبار بما كنا نشرناه من القسم الأول من حياة
حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-2 -
لقد بلغ السيد رشيد من الفقه الديني، والتمكن من علوم الكتاب والسنة والخبرة بأحوال الزمان منزلة ما نخال أنها تتاح لأحد من بعده إلا في دهر طويل، لأن الأسباب التي يسرت له لا نراها اليوم مجتمعة في مكان غير أن هذا لا يمنعنا من الاعتبار بحياته والأسباب التي أتيحت له لنأخذ بها ونحث على الأخذ بها وهذه أهم النواحي التي كان لها ذلك الأثر في مقامه العظيم.
البيئة المنزلية:
البيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتكوين الرجال. وتدين الأم هو أساس حفظ الدين والخلق. والضعف الذي نجده من ناحيتهما في رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت بسبب جهل الأمهات وقلة تدينهن، والسيد رشيد كانت متانة خلقه وقوة دينه من أثر أمه التي كانت- كما قال هو- على جانب عظيم من الدين مع العلم الكافي لمثلها، ولبيئة بيته، فإذا أردنا أن نكون رجالاً فعلينا أن نكون أمهات دينيات ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليماً دينياً وتربيتهن تربية إسلامية وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظماء الرجال. وشر من تركهن جاهلات بالدين إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره(4/201)
في أعينهن فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهن ولئن تكون الأم جاهلة بالدين محبة له بالفطرة تلد للأمة من يمكن تعليمه وتداركه خير بكثير من أن تكون محتقرة للدين تلد على الأمة من يكون بلاء عليها وحرباً لدينها. فنوع تعليم البنات هو دليل من سيتكون من أجيال الأمة في مستقبلها، وقد تفطنت لهذا بعض الأمم المالكة لزمام غيرها فأخذت تعلم بناتهم تعليما يوافق غايتها، فمن الواجب علينا- ولنا كل الحق في المحافظة على ديننا ومقوماتنا- أن نعني بتعليم بناتنا تعليماً يحفظ علينا مستقبلنا ويكون لنا الرجال العظماء والنساء العظيمات، وإلا فالمستقبل ليس كالماضي فقط بل شر منه لا قدر الله.
أثر المعلم:
أغلب المعلمين في المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر لا يتصلون بتلامذتهم إلا اتصالاً عاماً لا يتجاوز أوقات التعليم فيتخرج التلامذة في العلوم والفنون ولكن بدون تلك الروح الخاصة التي ينفخها المعلم في تلميذه- إذا كانت للمعلم روح- ويكون لها الأثر البارز في أعماله العلمية في سائر حياته، والسيد رشيد وفقه الله للتعلم على الشيخ حسين الجسر- كما قدمنا وكان لهذا الشيخ روح واتصل به السيد عزيزا مثل تلك الروح في تلك الأيام فكان لها أثرها في حياة السيد ومن آثارها تشوقه- وقد نال شهادة العالمية من شيخه- إلى ملاقاة الأستاذ الإمام.
فعلى المعلم الذي يريد أن يكون من تلامذته رجالاً أن يشعرهم - واحداً واحداً- أنه متصل بكل واحد منهم اتصالاً خاصاً زيادة على الاتصال العام وأن يصدق لهم هذا بعنايته خارج الدرس بكل واحد منم عناية خاصة في سائر نواحي حياته حتى يشعر كل واحد منهم أنه في طور تربية وتعليم في كفالة أب روحي يعطف عليه ويعني به مثل أبيه أو أكثر.(4/202)
التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي:
فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها- هذا هو المقصود من الدرس على الشيوخ فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعاته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير وعلى هذه الخطة سار السيد رشيد في تحصيله فإنه حصل قواعد العلوم في ثمان سنوات ثم استمر على مطالعة الكتب حتى بلغ إلى ما بلغ. يحسب كثير من الناس أن تحصيل العلم لا يكون إلا بقراءة كتبه فتطول سنوات تعلمهم ثم لا يبقى عندهم إلا أمهات القواعد وتضيع عليهم تلك السنون ويكسبهم الاستمرار على كتاب واحد مطول جهودا في العلم وانحصاراً في دائرة ذلك الكتاب. فلا تدعوهم أنفسهم إلى مطالعة غيره.
ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده أو مع بعض رفاقه فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة كما كان السيد رشيد في مطالعته لكتاب الإحياء وكتاب الأدب وكتاب العروة الوثقى، ونرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد- كالزيتونة- لا يخرج الطالب عن كتبه الدرسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علماً أو خبرة بالحياة فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة.
فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم ويوسعوا نطاق التفكير.
تعيين الغاية والاستعداد لها:
على كل ذي سعي في الحياة أن يعين غايته التي يقصد إليها ويستعد(4/203)
بكل ما يساعده على الوصول إليها، وغاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره وقد كان السيد رشيد وضع هذه الغاية نصب عينيه فكان في تحصيله الدرسي والنفسي يعمل لها فيزكي نفسه ويتزود بما يزكي به غيره.
أما أكثر الطلاب فمنهم من تكون غايتهم الوظيف فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم فهو مثل الأول فأما الغاية الحقيقية التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته وهو مع ذلك نائل العلم ونائل ما يؤهله للوظيف أن أبى إلا أن يكون الوظيف من قصده ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه ويكون مصدر هداية للناس في مستقبل أيامه ولكن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون لهذه الغاية ويعملون لها ويوجهون تلامذتهم إليها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ.
التفكير والاستقلال فيه:
إذا كان التفكير لازماً للإنسان في جميع شؤونه وكل ما يتصل به إدراكه فهو لطلاب العلم الزم من كل إنسان فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة تفكيراً صحيحا مستقلاً عن تفكير غيره وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به ثم لا بد له من استعماله فكره هو بنفسه.
بهذا التفكير الاستقلالي يصل الطالب إلى ما يطمئن له قلبه ويسمى - حقيقة- علماً، وبه يأمن الوقوع فيما أخطأ فيه غيره، ويحسن التخلص منه إن وقع فيه، وبهذا التفكير الاستقلالي استطاع السيد رشيد رضا أن يتخلص مما في كتاب الإحياء من الخطأ الضار- وهو قليل- كما قدمنا وبه استطاع أن يتفطن لما في الطريق التي دخلها من(4/204)
ضرر فتخلص منها جميعها للزهد الإسلامي الصحيح والتنسك المشروع وبه استطاع أن يناظر شيخه حسين الجسر في البدع الطرقية ويسلم من تأثيره عليه بما له عليه من حق وفضل، فالتفكير التفكير يا طلبة العلم فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد وخير منهما الجاهل البسيط.
بعده من الوظيف:
كل مسلم عليه أن ينفع بما استطاع في أي حالة كان وما كان الوظيف من حيث هو وظيف بمانع لأحد يحترم نفسه من النفع والخير غير أنه في أنواع من الحكومات والأصناف كثيرة من الناس صار الوظيف قيداً في اليد وغلا في العنق، ونحن نعلم أن الإصلاح الديني ما تأخر في القطر المصري والقطر التونسي إلا لأن جميع المتسمين بالعلم متوظفون أو مرشحون للوظيف أو طامعون فيه وكان مما مكن للسيد رشيد رضا في قيامه بما قام به بعده عن الوظيف.
ونحن نرى حتما لزاماً على كل من كان يعد نفسه لخدمة الإسلام بنشره والدعوة إليه وبيان حقائقه لأبنائه وغير أبنائه أن يبتعد عن كل وظيف.
نعم كان الشيخ عبده موظفا في الحكومة المصرية ولكنه قال هو عن نفسه (لولا ما أرجوه من إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية ما قبلت الوظيف) ومن أين لنا أن نجد مثل هذا القصد أو أن نستطيع أن ننفع بالوظيف أو أن نتغلب عليه؟
إن السلامة من سلمى وجارتها … أن لا تحل على حال بواديها
هذا ما عن لنا من الاعتبار في هذا القسم من حياة هذا الرجل العظيم وسننشر القسم الثاني في الجزء الآتي إن شاء الله (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 8، م 11، ص 444 - 453.(4/205)
حجة الإسلام
السيد محمد رشيد رضا بعد هجرته إلى مصر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-3 -
سبب الهجرة إلى مصر:
ما كانت البلاد العثمانية في عهد استبداد عبد الحميد لتتسع لمثل السيد رشيد فيما يريده من إصلاح عام وما كان هو ليستطيع الصبر على القعود عما اعتقد وجوبه وجوباً حتمياً من النهوض بالإصلاح فكان لزاماً عليه أن يفكر في الخروج، ولم يكن يصلح لمقصده إلا مصر. هذا إلى ما كان له من الرغبة في الاتصال بالأستاذ محمد عبده والأخذ عنه والتكمل به.
سبب تعلقه بالأستاذ الإمام وأول تعرفه به:
كاذت مطالعته لمجلة العروة الوثقى باعثاً لإعجابه بالإمام جمال الدين الأفغاني وشغفه والشوق إلى لقائه وكان كاتبه وهو بالأستانة في ذلك ولم يساعده القدر على لقائه وكان حُبه للإمام جمال الدين مستلزماً لحبه لتلميذه ومعينه ووارث علمه وحكمته، ومحرر العروة الوثقى الشيخ محمد عبده. وكان السيد قد التقى به ببلدة طرابلس من أرض الشام وتعرف به وحضر مجلسه فازداد به شغفه وتعلقه، فلما توفي السيد جمال الدين سنة 1314 (1) عزم على الهجرة إلى مصر والإتصال بالأستاذ الإمام.
__________
(1) 1897م.(4/206)
آثار اتصاله بالأستاذ الإمام:
جاء السيد رشيد إلى مصر وهو عالم مفكر وكاتب متبصر فصحب الأستاذ الإمام صحبة العالم الصغير للعالم الكبير فكان من أول آثار ذلك إصداره للصحيفة الإصلاحية التي كان يستمد روحها من الأستاذ الإمام ثم رغبته منه في إلقاء دروس التفسير التي كانت أساساً لتفسير المنار ورغبته إليه في إقراء علم البلاغة من كتابي أمامها (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) فكانت قراءتهما فتحاً جديداً في العربية كما كانت دروس التفسير فتحاً جديداً في الدين.
وفاء السيد للأستاذ الإمام في حياته وبعد وفاته:
كان السيد الساعد الأيمن والعضد الأشد للأستاذ الإمام في جميع ما قام به كما كان الترجمان الصادق عن أفكاره والمدره الصمصام في الدفاع عنه. واستمر السيد على وفائه للأستاذ الإمام بعد وفاته كما كان له في حياته وما عرف المصريين وغير المصربين قدر الأستاذ الإمام وحفط عليهم أمانته وخلد لهم آثاره إلا السيد رشيد وكان إلى آخر حياته- قد فاق أستاذه في نواح عديدة من العلم- لا يفتر يلهج بأستاذه حتى كاد ينسى الناس نفسه وأثره الخاص في الدين والعلم والإصلاح.
مواقفه بعد الأستاذ الإمام:
مضى السيد الرشيد بعد الأستاذ الإمام مضطلعا بأعباء خطته الإصلاحية واتسعت آفاق أعماله إلى العالم الإسلامي كله وكان لا بد له من أن يصطدم بالحالة السياسية التي عليها العالم الإسلامي والتي هي بطبيعتها العقبة الكؤود في سبيل كل إصلاح فأصبح السيد رشيد من الفرسان المعلمين في ميدان الإصلاح الديني والاجتماعي وكان في كليهما يصدر عن إيمان ويجالد بقوة ويناظر بحكمة ويفحم ببرهان.(4/207)
غايته السياسية:
لقد كانت غايته السياسية الكبرى إيجاد دولة إسلامية كبرى مرهوبة الجانب تكون مركزاً للأمم الإسلامية في العالم بصفة دينية إذا لم تكن بصفة سياسية، وعلى هذه الفكرة ولهذه الغاية ناصر الدستور العثماني وجمعية الإتحاد والترقي فلما تبينت له منهم النعرة الملية الضيقة ناوأهم وعمل على إيجاد مملكة عربية إسلامية مستقلة عن الدولة العثمانية التي كان يرى الإتحاديين سائرين بها إلى الإنهيار فانضم إلى الجمعية العربية العاملة في مصر وأوربا لهذا الغرض. ولهذه الغاية كان مع الشريف حسين يوم أعلن الثورة العربية حتى إذا تبين غدر الحلفاء بما كان من معاهدة (سايس- بيكو) ورأى الشريف حسين لا يرجع عن اغتراره بهم نفض يده منه وانقلب عليه وعلى البيت الهاشمي كله. ولغايته التي ذكرنا كان ساير إمام اليمن يوما حتى تبين له أن نطاق المذهب الزيدي لا يتسع لأمم الإسلام، وفي أثناء هذا أخذت لوامع الدولة السعودية تلوح في الأفق حتى فاجأت العالم بإزالة العرش الهاشمي المتداعي وانتصابها مكانه بمكة الكرمة، فوجد فيها السيد رشيد ضالته من دولة إسلامية تنفذ الشرع الإسلامي وتقف عند حدوده وتحيي سنته وتقاوم كل ما ألصق به من بدع وضلالات وتنتمي إلى أحد المذاهب الأربعة الكبرى فشمر عن ساق الجد لمؤازرتها وتأييدها وإرشادها ووجد من ملكها الملك عبد العزيز آل سعود الرجل المسلم الذي يحمل للدين وينتصح لكل ناصح فيه فسار معه السيد رشيد إلى غاية واحدة حتى قضى وهو في طريق رجوعه من تشييع ولي عهده. فإذا كان يظهر من السيد رشيد تبدُّل في سيره السياسي فإنما هو تنقل من طريق إلى طريق في سبيل الوصول إلى غاية معينة فلما وجد الطريق اللاحب المبين سلكه حى مات رحمة الله عليه.(4/208)
أثر السيد رشيد في العالم الإسلامي:
إن السيد رشيد بما نشر من تفسير القرآن الحكيم على صفحات المنار وما كتب في المنار وغير المنار، هو الذي جلَّى الإسلام بصفاته الحقيقية للمسلمين وغير المسلمين وهو الذي لفت المسلمين إلى هداية القرآن وهو الذي دحر خصوم الإسلام من المنتمين إليه وغير المنتمين إليه وهتك استارهم حتى صاروا لا يحرك أحد منهم أو من أشباههم يده إلا أخذ بجنايته. فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم إصلاحا وهداية، بيانا ودفاعا، كلها من آثاره فرحمه الله وجزاه أفضل ما يجزى العاملين (1).
__________
(1) ش: ج 9، م 11، ص 508 - 510 رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.(4/209)
العلامة الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي
- رحمه الله -
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ما كاد يندمل جرح العالم الإسلامي بوفاة حجة الإسلام السيد رشيد رضا حتى فجع بوفاة مفتي الإسلام الشيخ محمد بخيت المطيعي في رجب الماضي. ونحن نكتب اليوم كلمة عن فضيلته كما كتبنا من قبل عن السيد رشيد رضا وما كان قلمنا القاصر ليوفي واحدا منهما حقه.
منزلته العلمية:
نال شهاد، العالمية من الدرجة الأولى سنة 1393ه وتصدى لخدمة العلم والازدياد منه بالتدريس بجد منقطع النظير، ومداومة ليس فيها فتور فكان علما في سائر العلوم الأزهرية. وكان ممتازا بين كبراء الأزهر بتحقبق الأصلين: علم الكلام وأصول الفقه وكان بسعة علمه وقوة إدراكه وتمييزه يرفع الخلاف في كثير من أمهات المسائل ويبين أن الخلاف فيها لفظي وأن أصل المسألة محل اتفاق.
منزلته في القضاء والفتوى:
دعى إلى الاشتغال بالقضاء فتقلد وظائفه وتنقل بينه وبين الفتوى حتى بلغ أعلى درجاتهما فلما بلغ سن التقاعد تفرغ للإفتاء العلمي فكانت ترد عليه الأسئلة من جميع أقطار العالم الإسلامي فيجيب عنها وكان له كتاب يتولون له كتابة ما يحرره ويمليه ويرسلونه إلى السائلين وينفق هو على ذلك كله من خالص ماله.(4/210)
[صورة: الشيخ محمد بخيت المطيعى]
ــــــــــــــــــــــــــــــ
موقفه من الإصلاح الديني:
كان زميلا للشيخ محمد عبده في الطلب وهو الوحيد من شيوخ الأزهر الذي كان يساميه وينال معه حظاً من الشهرة خارج مصر وكان - على معارضته له في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.(4/211)
إنصافه للأستاذ الإمام وشهادته له:
لما رمى بعض حساد الشيخ عبده أيام تصديه لأخذ شهادة العالمية بالتهاون بالصلاة شهد له الشيخ محمد بخيت عند مشيخة الأزهر فقال (1): "إننا دائماً نقدمه فيؤمنا في صلاة الجماعة لتقواه وصلاحه". ولما عقدت أول حفلة لذكرى الشيخ محمد عبده وكانت يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة 1345ه - بالجامعة المصرية (2) كانت تحت رئاسة الشيخ محمد بخيت فخطب في تلك الحفلة ومن جملة ما قال عن الأستاذ الإمام (3): "ترك فراغاً عظيماً كان يشغله وحده، لم يستطع أحد أن يشغله بعده"، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الكبيرة.
علاقتي به:
لما رجعت من المدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332ه جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها رحمه الله، جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت وكان قد عرفه بالاسكندرية لما مر بها مهاجراً، فعرجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان مع صديقي الأستاذ إسماعيل جغر المدرس اليوم بالأزهر فلما قدمت له كتاب شيخنا حمدان قال لي: "ذاك رجل عظيم". وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده. رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزى العاملين الناصحين (4).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ج 1، ص 1043 تاريخ الأستاذ الإمام.
(2) بالجامعة المصرية، ج 1 ص 1052.
(3) جريدة المقطم الصادرة في 18 ذي القعدة 1340.
(4) ش: ج 11، م 11، ص 606 - 607 غرة ذي القعدة 1354ه - فيفري 1936م.(4/212)
مصطفى كمال
رحمه الله
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث, وعبقري من أعظم عباقرة الشرق, الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو.
وإذا قلنا بطل غاليبولي فقد قلنا قاهر الإنكليز أعظم دولة بحرية الذي هزمها في الحرب الكبرى بشر هزيمة لم تعرفها في تاريخها الطويل وإذا قلنا بطل سقاريا فقد قلنا قاهر الإنجليز وحلفائهم من يونان وطليان وافرنسيين بعد الحرب الكبرى ومجليهم عن أرض تركيا بعد احتلال عاصمتها والتهام أطرافها وشواطئها.
وإذا قلنا باعث تركيا فقد قلنا باعث الشرق الإسلامي كله فمنزلة تركيا التي تبوأتها من قلب العالم الإسلامي في قرون عديدة هي منزلتها فلا عجب أن يكون بعثه مرتبطا ببعثها، لقد كانت تركيا قبل الحرب الكبرى هي جبهة صراع الشرق إزاء هجمات الغرب ومرمى قدائف الشره الاستعماري والتعصب النصراني من دول الغرب. فلما انتهت الحرب وخرجت تركيا منها مهشمة مفككة تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامي تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة، واحتلت عاصمة الخلافة وأصبح الخليفة طوع يدها وتحت تصرفها وقال(4/213)
المارشال اللنبي -وقد دخل القدس- "اليوم انتهت الحروب الصليبية" فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا وذهب الشرق الإسلامي معها، لكن كمالا الذي جمع تلك الفلول المبعثرة فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة، ونفخ من روحه في أرض الأناضول حيث الأرومة التركية الكريمة وغيل ذلك الشعب النبيل وقاوم ذلك الخليفة الأسير وحكومته المتداعية، وشيوخه الدجالين من الداخل، وقهر دول الغرب وفي مقدمتها إنكلترا من الخارج، لكن كمالا أوقف الغرب المغير عند حده وكبح من جماحه وكسر من غلوائه، وبعث في الشرق الإسلامي أمله وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية فنهض يكافح ويجاهد. فلم يكن مصطفى محي تركيا وحدها بل محي الشرق الإسلامي كله. وبهذا غير مجرى التاريخ ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد. فكان بحق من أعظم عباقرة الشرق العظام الذين أثروا في دين البشرية ودنياها من أقدم عصور التاريخ.
إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك "أبي الترك" مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف فمن هم هؤلاء المسؤلون؟ ...
المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به.
هؤلاء هم خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء(4/214)
الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها.
اما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الإنجليز المحتلين لعاصمته ساكتا ساكنا. مستغفرا لله، بل متحركا في يدهم تحرك الآلة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقا بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه، الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين ...
وأما شيخ الإسلام وعلماؤه فيكتبون للخليفة منشورا يمضيه باسمه ويوزع على الناس بإذنه، وتلقيه الطائرات اليونانية على القرى برضاه يبيح فيه دم مصطفى كمال ويعلن خيانته ويضمن السعادة لمن يقتله.
وأما شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنومون فقد كانوا أعوانا للإنجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم. يوزعون ذلك المنشور ويثيرون الناس ضد المجاهدين.
وأما الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها فمنها -إلا قليلا- من كانوا في بيعته فانتفضوا عليه ثم كانوا في صف أعدائهم وأعدائه، ومنها من جاءت مع مستعبديها حاملة السلاح على المسلمين شاهرة له في وجه خليفتهم.
فأين هو الإسلام في هذه (الكليتيات) كلها؟ وأين يبصره مصطفى الثائر المحروب، والمجاهد الموتور منها؟
لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة ولكنه لم يكن على الإسلام وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين. فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعلي نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه،(4/215)
فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما تتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان.
أما الإسلام فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه. ومكنها من إقامة شعائره فكانت مظاهر الإسلام في مساجده، ومواسمه تتزايد في الظهور عاما بعد عام حتى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته.
لسنا نبرر صنيعه في رفض مجلة الأحكام ولكننا نريد أن يذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على مشهور وراجح مذهب الحنفية ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم في كل عصر لأن الذي يسع البشرية كلها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائنا ما كان وكائنة ما كانت، ونريد أن يذكر الناس أيضا أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع لأكثر من ذلك. كما يجب أن يذكروا أن مصر بلد الأزهر الشريف ما زالت إلى اليوم الأحكام الشرعية -غير الشخصية- معطلة فيها. ومازال (كود) نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم. وما زال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء -غير المذهب الحنفي- مهجورا كذلك إلا قليلا جداً.
نعم! إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولا في ذلك وحده وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض. وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره. ثم إخوانه المخلصون. فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود) نابليون فماذا أعطوا أمتهم؟ وماذا قال علماؤهم؟.(4/216)
فرحم الله مصطفى ورجح ميزان حسناته في الموازين، وتقبل إحسانه في المحسنين.
وإلى الأمة التركية الشقيقة الكريمة الماجدة، التي لنا فيها حفدة وأخوال، والتي تربطنا بها أواصر الدين والدم والتاريخ والجوار، والتي تذكر الجزائر أيامها بالجميل، وترى شخصها دائما ماثلا فيما تركت لها من مساجد ومعاهد للدين الشريف. والشرع الجليل، إلى تركيا العزيزة نرفع تعازي الجزائر كلها مشاركين لها في مصابها راجين لها الخلف الصالح من أبنائها، ومزيد التقدم في حاضرها ومستقبلها.
وإلى هذا فنحن نهنيها برئيس جمهوريتها الجديد عصمت إينونو، بطل (إينونو) ومؤتمر لوزان وثني مصطفى كمال. وأن في إجماعها على انتخابه لدليلا على ما بلغته تركيا الكريمة من الرشد في الحياة الذي تبلغ به- إن شاء الله- من السعادة والكمال. ما يناسب مجدها القدموس، وتاريخها الحافل بأعاظم الرجال، وجلائل الأعمال (1).
عبد الحميد بن باديس
__________
(1) ش: ج 9، 14، ص 130 - 134. غرة رمضان 1357ه - نوفمبر 1938م.(4/217)
آثار ابن باديس
قسم القصص الديني والتاريخي (1)
__________
(1) كان يجعل عنوان هذه القصص تارة "القصص الديني" وأخرى "قصة الشهر".(4/219)
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
محاورة الرشيد
مع محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة
((نروي هذه القصة ليرى القارىء كيف كان علماء السلف يعتزون بعلمهم أمام ذوي القوة والسلطان، وكيف كان الخلفاء يستشيرون أهل العلم عملا بأصل الشورى الذي قرره الإسلام. ونرى التسامح الديني في علماء المسلمين الذين يمتازون به في أيام دولتهم عن جميع علماء الملل، فقد أنقذ محمد بن الحسن نصارى بني تغلب بإشارته من بطش الرشيد وقرر لهم حريتهم الدينية في تعميد أبنائهم. هذا أيام كانت الأمم الأخرى لا ترى لمخالفيها- بتدبير أحبارها ورهبانها- إلا السيف والنار)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو عبيد- يعني القاسم بن سلام-: كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد فقام الناس كلُّهم إلاَّ محمد بن الحسن فإنه لم يقم، ودخل الخليفة ودخل الناس من أصحابه، فأمهل الرشيد يسيرأ ثم خرج الاَذن، فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له، فأدخل فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسرورأ ثم قال لي: ما لك لم تقم مع الناس؟ فقلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه، وان ابن عمك- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار»، وأنه إنما أراد بذلك العلماء. فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو، ومن قعد اتباعا للسنة التى عنكم أخذت فهو زين لكم! قال: صدقت(4/221)
يا محمد. ثم شاورني نقال: إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب على أن لا ينصروا أولادهم، وقد نصروا أبناءهم وحلت بذلك دماؤهم، فما ترى؟ قلت: إن عمر أمرهم بذلك، وقد نصروا أولادهم بعد عمر، واحتمل ذلك عثمان وابن عمك- يعني علياً-، وكان من العلم بما لا خفاء به عليك وجرت بذلك السنن. فهذا صلح من الخلفاء بعده، ولا شيء يلحقك في ذلك. وقد كشفت لك العلم ورأيك أعلى.
قال: لا -يعني لا ننقض صلحهم (1) - ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله.
إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشورة تماماً لما به من الأخلاق التي جعلها الله له، فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله. ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك، ومر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أصحابك. قال: فخرج له مال كثير ففرقه (2).
__________
(1) روى القصة مسندة الجصاص في الأحكام.
(2) ش: ج 1، م 5، ص 15/ 16 غرة رمضان 1347ه فيفري 1929م.(4/222)
الخنساء وبنوها
أثر الإسلام في النفوس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
من يجهل بكاء الخنساء على صخرها؟ فقدضربت العرب بحزنها عليه الأمثال، وشعرها الخالد من أبلغ ما قالته العرب في مرارة اللوعة البالغة، وتحرق العاطفة الشديدة. وقد كانت الخنساء قبل أن تصاب تقول البيتين والثلاثة، فلما أصيبت بفقد أخيها عمر، ثم بفقد أخيها صخر، الذي أنساها ما قبله، اندفعت بعوامل الحزن فأكثرت من الشعر وأجادت.
هذه المرأة التي بلغ بها الحزن على فقد أخوتها في الجاهلية ما بلغ، وانتهى بها الجزع إلى ما انتهى، عادت في إسلامها تقدم أبناءها، أفلاذ كبدها، الأربعة إلى الموت، وتحثهم على خوض غماره، وتحمد الله أن قتلوا كلهم في مشهد واحد، وتصبر محتسبة مصابها لله، مصدقة بوعوده.
أين إخوان من أربعة أبناء؟ وما ذلك الجزع عن ذينك وهذا الصبر عن هؤلاء؟ وما الذي قلب طباع هذه النفس من جزوعة مضطربة إلى مطمئنة راضية؟ هو -والله- الإسلام، الإسلام الصحيح كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ديناً فطرياً، فأثر في فطر معتنقيه من العرب الأميين. وإذا لم يؤثر في أقوام مثل هذا التأثير فلأنهم فهموه فهماً معكوساً، أو لبسوه لبساً مقلوباً. ولا وربك لا تتأثر به فطر معتنقيه في كل عهد إلا إذا تناولوه على فطرته في ذلك العهد كما تناوله سلفهم الأولون.
• • •(4/223)
قدمت الخنساء بنت عمرو بن الشريد على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مع قومها من بني سُلَيْم فأسلمت معهم، فذكروا أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان يستنشدها فَيُعْجِبُه شعرها وكانت تُنْشِده وهو يقول: هيه يا خُنَاس، ويومىء بيده. وهاك قصتها مع بنيها ملخصة باختصار من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر (1):
"حضرت حرب القادسية ومعها بنوها، أربعة رجال، فجمعتهم ليلة الوقعة وقالت لهم: يا بني، أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجَّنْت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وذكرتهم بآيات الوعد بجزيل الثواب، للصابرين في مواطن الضراب. وقالت لهم: فإن أصبحتم غدا- إن شاء الله- سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوِّكم مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب شمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على ساقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالخلد (2) والكرامة، في دار الخلد والمقامة.
فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وباشروا القتال واحداً بعد واحد، حتى قتلوا كلهم، وكل واحد أنشد قبل أن يستشهد رجزاً:
فأنشد الأول:
لا إخوتي إن العجوز النَاصِحَة … قد نصحتنا إذ دَعَتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة … فباكِرُوا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تَلقَوْنَ عند الصائحة … من آل ساسان الكلابَ النابحة
__________
(1) الإستيعاب 4/ 1827، وانظر خزانة الأدب 1/ 395.
(2) في الإستيعاب 1828: (بالغنم).(4/224)
قد أيقنوا منكم بوَقع الجائحة … وأنتم بين حياةٍ صالحة
أو ميتة تورثُ غنما رابحة
وأنشد الثاني:
إنَّ العجوزَ ذات حَزْم وجلد … والنظر الأوفق والرأي السدد
وقد أمَرَتتَا بالسداد والرشد … نصيحة منها وبِرًّا بالولد
فباكِروا الحرب حماة في العدد … إمَّا لِفَوْزِ بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عِزُّ الأَبَدْ … في جنة الفِرْدَوْس والعيش الرغد
وأنشد الثالث:
والله لا نَعصى العجوزَ حَرْفاً … قد أمَرتنا حرباً وعطفاً
نًصْحاً وبرَّا صادقاً ولطفا … فبادروا الحربَ الضروسَ زَحفا
حتى تلفوا آلَ كسرى لَفا … أو يكشفوكم عن حِمَاكم كَشْفا
إنا نرى التقصير منكم ضَعفا … والقتل فيكم نَجدة وزلفى
وأنشد الرابع:
لست لخنساء ولا للأخرم … ولا لعَمروٍ ذي السناء الأقدم
إن لم أردفي الجيش جيش الأعجم … ماض على الهول خِضَّم خضرم
إما لفَوْزٍ عاجل وَمغْنَم … أو لوفاةٍ في السبيل الأكرم
فلما بلغ الخبر الخنساء، أمهم قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني في مستقر رحمته" (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 5، ص 22 - 24 غرة شوال 1347ه - مارس 1929م.(4/225)
كيف كان بناء الكعبة المشرفة
اليوم- وقد هوت أفئدة من استجيبت فيهم دعوة إبراهيم - عليه السلام- إلى حج بيت الله الحرام - ننشر لقراء الشهاب قصة بناء البيت كما أخرجها أهل الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما - كما تلقاه من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:
وفي هذه القصة بيان، أصل بناء البيت المحرم وحفر زمزم، وبيان ما يذكر به السعي من سعي هاجر، وما يذكر به الطواف من طواف إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام-
لبناء البيت ورفع قواعده، وتذكير بما كان من إبراهيم وزوجه وابنه من سرعة الامتثال لأمر الله والصبر على البلاء فبم سبيله، وبما كان من حسن جزاء الله لهم على ذلك من البر المعجل والأثر الخالد، والذكر الباقي، والثواب المدخر الجزيل.
وفي ذلك كله آيات لكل صبار شكور.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
روي عن ابن عباس من طرق: أن أول من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل، وأن أول من جرَّت الذيل أم إسماعيل، وذلك أنه لما فرَّت هاجر من سارة أرخت ذيلها لتعفو أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد. وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء. فوضعها هنالك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقا. فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: ألله أمرك بهذا؟(4/226)
قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا الله. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (حتى بلغ) يَشْكُرُونَ}.
وجعلت أم اسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلظى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل إلى الوادي، رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحد! فعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: فلذلك سعى الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها. ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت من الماء في سقائها وهو يفور بقدر ما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت ماء زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لا يضيع أهله. وكانت البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، وكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جِرْهم مقبلين من طريق كِداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائقاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن(4/227)
ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فألفت ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة فيهم. وماتت أم اسماعيل فجاء إبراهم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة. وشكت إليه، قال: أفإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته، أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن اقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك. فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم تجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ فقالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: لم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته إنَّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم،(4/228)
هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذلك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك؟ قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قال: فجعلا يبنيان حتى تدور حول البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا (الآية) (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 5، ص 22 - 24 غرة ذي القعدة 1347ه، أبريل 1929م.(4/229)
ملك العرب
((كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء، فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود، الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت العظيم في هذا العهد، ومد تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين. وأن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير.
كتب هذه المقالة التاريخية كاتب شهير في عالم الصحافة الألمانية، وهو الأستاذ ليوبولد وايس ألماني، أسلم منذ أعوام وتسمى باسم محمد أسد الله، وهو الآن يقيم بالحجاز، ونشرتها له جريدة ((الشورى)) الغراء فنقلناها عنها)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أدعو ملك العرب صديقي، وإن كان ملكا وكنت مجرد صحافي، وليس سبب ذلك أنه مثلا أطلعني على مكنون فؤاده، فهذا ما لا يفعله قط، وليس سببه أيضا أنه أراني قلبا كريما وأبدى نحوي وداً صحيحا في مدى العامين الذين قضيتهما في بلاد العرب، واللذين لم يخلوا من ألم، فإنه يبدي العطف والود نحو الجميع، فليفهم القارىء ما أقوله تمام الفهم، فإني لا أزعم إن عبد العزيز بن السعود يدعوني صديقه، ولكني أعده صديقي، ويغريني بذلك أمر بسيط وهو طيبة الرجل، ولست أقصد أنه طيب القلب فهذا شيء رخيص، ولكنه يوصف بالطيبة(4/230)
كما يوصف بها مثلا سلاح من صنع ولدف (1) بأنه طيب يعجب به، لأنه جمع كل الصفات التي تنشد في مثله. وعلى هذا المعنى أقول: إن ابن سعود رجل طيب. وهو عميق الغور يميل للوحدة ولا يتبع في أعماله سوى الدوافع المنبعثة من أعماق نفسه، وقد يخطيء فيما يفعله ولكنه لا يخطيء قط الرغبة في الشرف أمام ضميره، فهو ملك على نفسه قبل أن يكون ملكا على العرب.
ولد عبد العزيز بن سعود قبل خمسين سنة تقريبا في الرياض (وسط بلاد العرب) وهو وليد فرع من الأسرة المالكة التي أخضعت لحكمها جزءاً كبيراً من شبه جزيرة العرب، ثم أخذت في الاضمحلال حتى اضطرت في آخر الأمر إلى أن تنزل عن البقية الباقية من ملكها إلى أسرة ابن رشيد التي كانت قديما من اتباعها والتي نشأت في حايل (في شمال بلاد العرب). وكان ابن سعود إذ ذاك في باكورة طفولته ونشأ في كبريائه وتحفظه، وهو يرى أميرا أجنبيا يحكم الرياض مسقط رؤوس آبائه نائبا عن ابن رشيد، ومكث عبد العزيز بن سعود وذووه يعيشون من راتب تفضل به ابن رشيد عليهم، يحتملهم ولا يكاد يخشى من جانبهم ضرا. ولكن ذلك شق على عبد الرحمن والد عبد العزيز رغم ميله إلى السكون، فهاجر مع أولاده وما يملكه إلى الكويت ليقضي بقية حياته في بيت سلطانها. وكانت بينهما مودة ولكنه لم يكن يدري شيئا عن مستقبل ولده والميول التي تجيش في صدره.
ولعل أحداً من الناس لم يتبين قلب عبد العزيز في عاطفته وخفقه، ولم يدرك شيئا من طموح نفسه وعظمة مستقبله إلا عمته العجوز، والظاهر أنها كانت تحبه كثيرا وترعاه وهو صغير فإذا ألفت نفسها في
__________
(1) بلدة بالأندلس مشهورة قديما بصنع أجود السلاح وذلك في أيام العرب.(4/231)
خلوة معه أحتضنته، وأخذت تحدثه بعظائم الأمور التي يجدر به أن يقوم بها ذات يوم، وكانت لا تفتأ تقول له وهي تدلّله: "ينبغي لك أن تصير رجلا عظيما". وقد مكثت هذه الكلمة في نفس الطفل في حياة ونماء حتى أمست كالنار في رأس العلم.
ثم بدأت وحدته وهو في الكويت، فإنه وهو لا يزال ولداً، نما جسمه سريعا وسبق طوله سنه، وهو مع ذلك رفيع القامة، فجعل أولاد الناحية يسخرون منه ويهزأون منه ويهزأون به، وكان يستحي من طول قامته الذي جعله هدف الأنظار، وكان يخفض من رأسه حتى يبدو أقصر من حقيقته حين يمشي في شوارع الكويت، أو في غرف القصر المكتظة بالناس، وكان يؤلمه أن يكون شاذا في الوسط المحيط به، ولكن لم يجد سبيلا للتوفيق بينه وبين هذا الوسط، لأن اختلافه عنه لم يكن في مظهره وحده، ولقد غلبه القدر وخلق له قلقا واضطرابا.
ولكنه أدرك ذلك تدريجا بما لديه من شعور الشباب، وانبثت كبرياؤه في نفسه، وأخذ ينظر إلى ما فوق ذلك الوسط، وجاء إلى أبيه يقول له: "كيف تصبر على تحكم آل ابن رشيد في وطنك؟ أحمل عليهم وأجلهم عن ديارك فإنك أنت وحدك صاحب الحق في الرياض" ولنذكر هنا أنَّ ابن رشيد كان في ذلك الوقت أقوى عاهل في شبه جزيرة العرب، وكانت دولته تمتد من صحراء سوريا بادية الشام- حماه إلى الربع الخالي: وكانت جميع قبائل البدو ترتعش خوفا من قبضته الحديدية. فلا عجب بعد ذلك إذا رد عبد الرحمن وهو في سنه المتقدمة به، وفي منفاه وضعفه، مطلب ابنه على أنه خيال لا يمكن تحقيقه. وقد مضت أعوام على ذلك، وكانت عاطفة الإبن فيها أشد وأقوى من جمود الوالد. فرضخ عبد الرحمن في آخر الأمر واستعان بصديقه سلطان الكويت على جمع بعض قبائل بدوية باقية على الولاء له وخرج، كعادة العرب في الغزوة بالهجن والأعلام والبنادق، وهاجم(4/232)
ابن رشيد. ولكنه لم يلبث حتى هزم وارتد إلى الكويت. ولعله كان مرتاحا في قرار نفسه إلى هذه النتيجة، وأنبأ ابنه أنه لا فائدة من أمثال تلك المحاولة، وأنه يريد أن يقضي بقية حياته في سكون ولا يطلب حقه في عرش نجد.
بيد أن ابنه عبد العزيز لم ينزل عن حقه فدعا أصدقاءه إليه، وجمع بعض البدو والذين يعول عليهم. ولما صارت جماعته أربعين رجلا خرجوا من الكويت خفية، كإحدى عصابات اللصوص، ودون اعلام أو أناشيد، وجعلوا يسيرون ليلا مسرعين متجنبين سبل القوافل المطروقة، حتى بلغوا مقربة من الرياض فعسكروا في واد منعزل. وفي ذلك اليوم نفسه اختار ابن سعود خمسة من الأربعين وخطب الباقين قائلا: "لقد وضعنا مصيرنا بين يدي الله، وسنذهب نحن الستة إلى الرياض، فإما استحوذنا عليها وإما فقدناها إلى الأبد، فإذا سمعتم صوب الحرب في المدينة فلتبادروا إلى عوننا. أما إذا لم تسمعوا شيئا منا حتى مغرب الغد فاعلموا أننا متنا إلى رحمة الله، وعودوا إلى الكويت سرا بالطريق الذي أتينا به".
وكذلك سار الستة على أقدامهم حتى بلغوا الرياض عند ابتداء الليل، ودخلوها من منفذ أسوارها كان ابن رشيد قد أمر بثقبه في نشوة انتصاره على المدينة، ومشوا قدما وأسلحتهم مخبأة تحت أرديتهم إلى أن وصلوا لبيت الأمير من قبل آل الرشيد (1)، وكان مغلقاً لأن الأمير اعتاد على قضاء الليل في الحصن المقابل للبيت خوفا من أهالي المدينة التي دانت له، فقرعوا الباب وفتحه أحد العبيد، فتغلبوا عليه دون جلبة وشدوا وثاقه، وكذلك فعلوا بغيره ممن كانوا في البيت إذ ذاك، ولم يكونوا إلا بعض الرقيق والنساء. ثم جعل الستة
__________
(1) اسمه عجلان.(4/233)
يترقبون انبثاق الفجر وقضوا بقية الليل في قراءة القرآن لكي يبعث في قلوبهم قوة على أداء عملهم.
وفي الصباح فتحت أبواب الحصن وخرج الأمير يحيط به عدد من الخدم والأرقاء مسلحين، فاندفع ابن سعود ورفاقه الخمسة شاهرين سيوفهم هاتفين باسم ابن سعود وباغتوا الأمير وحراسه، ورمى عبد الله بن جلوى ابن عم عبد العزيز (وهو الآن أمير الحسا) بحربته (شلفته) نحو الأمير، ولكن هذا انحنى في اللحظة المناسبة وثقبت حائط الحصن في قوة هائلة ولا تزال عالقة به حتى اليوم. وقد فر الأمير إلى باب الحصن، وبينما يتبعه عبد الله إلى داخله هجم ابن سعود ورفاقه بسيوفهم المشهورة على حاشية الأمير، فلم تكد تدافع عن نفسها رغم تفوقها في العدد، لفرط الذعر الذي استولى عليها من هذه المباغتة.
وهنا بدأ الأمير فوق سطح الحصن صارخا، وقد سد عليه عبد الله بن جلوى المسالك، وكان يطلب منه الرحمة حتى سقط أخيراً عند حافة السقف منهوك القوى، وتلقى طعنة مميتة في عنقه. وكان ابن سعود يصيح في اللحظة نفسها: "إليَّ يا رجال الرياض. ها أنا ذا عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود أميركم صاحب الحق عليكم".
وكان رجال الرياض يمقتون مرهقيهم من أهل الشمال من أعماق قلوبهم، فلبوا النداء وجاءوا بأسلحتهم وركب رفاق ابن سعود الخمسة والثلاثون فاقتحموا أبواب المدينة يزيحون كل شيء أمامهم كالريح العاتية، وبعد ساعة واحدة صار ابن سعود سيد المدينة دون منازع.
وكان ذلك في سنة 1901م وبه ينتهي دور الشباب من حياة ابن سعود وبدأ الدور الثاني الخاص برجولته وإمارته.
وبعد ذلك شرع ابن سعود في فتوحاته وفق خطة منظمة وقد برهن على أنه لا يشبه غزاة العرب في شيء، فإن اتساع ملكه كان يجري(4/234)
تبعا لنظام محدود، وكان ثمة أركان حرب وخريطة حربية كما في الغرب. ولكنه شخص ابن سعود كان وحده أركان الحرب، ثم إنه لم يكن قد رأى خريطة حربية من قبل له، وقد اتخذت فتوحاته شكل حركة حلزونية تبدأ من مركز لا يتبدل وهو الرياض. وكان لا يخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يؤمن ما سبق فتحه ويوطد فيه موقفه من الوجهة الحربية. وعلى ذلك احتل بالتدريج كل الأقاليم التي في شرق الرياض وشمالها. ثم استولى في سنة 1904 على إقليم القصيم، وبه عنيزة وبريدة، وهو إقليم ذو ثروة وتجارة هامة.
ثم أخضع منطقة الأحراش التي في الغرب، والتي يسكن الجزء الأكبر منها قبائل عتيبة الكثيرة العدد. وفي سنة 1914 أقدم على مهاجمة إقليم الحسا على خليج العجم، وكان في الأيام الماضية تابعا لنجد، ولكنه وقع في أيدي الأتراك منذ خمسين عاما حين اضمحلت أسرة ابن سعود، وقد استحوذ على قاعدته الهفوف بعد قتال قصير، ووطد سلطته فيه. وأرادت الحكومة العثمانية أن تبعث إليه خطبة أدبية ولكن نشوب الحرب العالمية حال دون ذلك. وفي سنة 1921م سقط في يده جبل شمر ومدينة حايل، مهبط أسرة ابن رشيد. وبهذا فقدوا آخر عماد لملكهم ويئسوا من حكم بلاد العرب يأسا قد يكون إلى الأبد. وبين سنتي 1924 و1925م توج فتوحاته بالاستيلاء على الحجاز بما فيه مكة والمدينة وجدة وضمه إلى مملكته الواسعة.
إن ابن سعود ما كان يكتفي بإخضاع الشعوب مثل غزاة الشرق القدماء، ولكنه في فتوحاته يكوِّن (دولة) وينظر إلى جميع أجزائها كأنها أخوة متساوية الحقوق ما دامت تخلص الرغبة في التعاون، وهو يسعى دائما لأن يكسب الود الخالص ممن يقهرهم وأن يرغمهم على محبته، إذ يريهم أنه لا يهتم بمصالحهم أقل من اهتمامه بأهل موطنه. ولم يفعل ذلك حاكم عربي غيره منذ عهد الخليفة العظيم(4/235)
عمر بن الخطاب. وهو منذ زمن بعيد لا يعد رجلا من الرياض بل تخطى روابط القبائل الضيقة المدى وصار رجل الجميع.
وقد عرف كيف ينمو في داخل نفسه مع نمو سلطانه. وهو لم يخرج قط من بلاد العرب ولا يعرف فوق وطنه غير البحرين والكويت والبصرة، ولا يدري من اللغات غير اللغة العربية، ولم يقرأ من الكتاب إلا الدينية منها وبعض كتب التاريخ العربية. ولكنه رغم كل ذلك يمتد بصره إلى مدى لم يماثله فيه ملك عربي من قبل فهو يعرف أحوال البلاد الإسلامية في العصر الحاضر خير معرفة، يعرف مثلا الأحزاب السياسية في مصر أو جاوه أو الهند، كما يقف على شؤونها والرجال المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد. وهو يفهم المستحدثات الهندسية في الغرب كالطيران أو التلغراف اللاسلكي كما يفهمها الغربيون ويستحسنها كذلك وإن كان كثير من العرب ومن المتعلمين فيهم يعدونها من السِّحْر.
ولا يزال ابن سعود مع ذلك مسلما قوي الإيمان، وأساس اعتقاده أن كل ما يحدث من الله، ولذلك يمثل الرأي القائل بأن كل تقدم في الأمور المادية لا فائدة منه إذا لم يصحبه التعمق في العقيدة. فمن الطبيعي أن يبني حكمه على القواعد الدينية. وابن سعود يعتنق معتقدات (الوهابية) وهي حركة إصلاح في الإسلام ترجع إلى العلامة النجدي العظيم (محمد بن عبد الوهاب) الذي عاش في بداءة القرن الثامن عشر.
وترمي إلى تطهير الإسلام من جميع البدع والخرافات التي لصقت به مع مر الزمن والسمو به عن عبادة الأولياء. والوهابية أشد طوائف الإسلام ومبدؤها الأعلى أن على المؤمنين أن يتمثلوا في البساطة والنظام.
والواقع أن الغربيين يجهلون الإسلام لأنهم يحكمون عليه تبعا(4/236)
لأحوال أكثر البلاد الإسلامية في العصر الحاضر كما تبدو لهم، ولكن الإسلام في تلك البلاد تغير عن أصله، منذ وقت طويل إذ غطته طبقة من الخرافات غير المعقولة، ودخل فيه تقديس الأولياء والقبور الذي يناقض أصل الدين، واعتوره الجمود وعدم الاكتراث اللذان لا تقرهما تعاليم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الأصلية الخالصة كما لا يعرفهما الغربيون الآن. وليس الإسلام هو السبب في انحطاط البلاد الإسلامية بل الحقيقة عكس ذلك تماما، فقد أفسد أهلها أصل الإسلام وهجروه دون أن يستطيعوا الإتيان بخير منه، وهكذا لبسهم الروح الشرقي العتيق. فهو المسؤول عن تدهور الشرق ولا يسأل الإسلام عن ذلك. ولو نفذ الإسلام بتمامه في نظام عملي متبع لأتى بمجتمع إنساني كامل لا احتكاك فيه ولا نقص مما لم يأت به أي نظام اجتماعي آخر. وفي الإمكان تحقيق ذلك من الوجهة العلمية لأن الإسلام يوافق على كل تقدم في المدنية والحضارة، ولأن تعاليمه لا تناقض الحقائق التي دلت عليها العلوم الحديثة.
وهذه الفكرة التي ترمي إلى تكوين دولة إسلامية صحيحة تكون الأولى في نوعها منذ عهد الصحابة، هي الدافع لابن السعود في جميع أعماله، وهو لا يخدم نفسه ولكن يخدم فكرته ولذلك لا ينظر إلى نفسه إلا خلف عمله وهو من هذه الوجهة حاكم عصري يختلف جد الاختلاف عن سلاطين الشرق الذين يعتبرون شعوبهم كلها مجرد خدم لأشخاصهم، ولا شك أن الأجنبي الذي يرى ابن سعود لأول مرة يبتسم لبساطة هذا الملك وعدم تمدنه، إذ يبصره في ثوب عادي في غرفة ذات أثاث غير أنيق، وإذ يشهده يقوم لكل قادم ويمد يده لتحيته، وإن كان بدويا من أفقر البدو، ويأكل طعامه في حضرة وزرائه وكتابه وسائق سياراته ولكن الابتسامة لا تلبث حتى تفارق ثغر الأجنبي حين يدرس رأس هذا الرجل ويدرك العظمة الحقة الماثلة في تلك البساطة.(4/237)
بدأ ابن سعود عمله في تشديد الأمن العام في بلاده، بواسطة القوانين الصارمة وحملات التأديب القاسية. ومن قبله كانت شبه جزيرة العرب كلها شبكة من اللصوص وكانت قبائل البدو يشن بعضها الغارة على بعض وتنهب القوافل وكانت الطرق غير آمنة، فلما جاء ابن سعود حرم على البدو أن يتقاتلوا وأمر بأن تحل الخلافات بين القبائل بقضائه أو قضاء أمرائه فيها وجعل المجرمين يشعرون بكل ما في الشريعة من شدة، فالقاتل يضرب عنقه والسارق تقطع يده اليمنى، والسارق الذي يستعين بسلاح تقطع يده اليمنى وقدمه اليسرى، وقد أجدى ذلك بعض النفع، غير أن ابن سعود لم يلبث حتى أيقن أن الإكراه وحده لا يكفي ليجعل من الوحوش بشرا، فشرع يبث في نفوس شعبه أخلاق الإسلام وفضائله، وبعث بالمعلمين والوعاظ إلى مختلف القبائل ليعلموا البدو القراءة والكتابة ويحثوهم على التمسك بالدين وآدابه في عزم وإخلاص وكانت ثمرة ذلك صغيرة في السنوات الأولى، ولكنها نمت تدريجا وأينعت وأتت أكلها. وهكذا تمت في بلاد العرب إحدى الغرائب وأصبحت مملكة ابن سعود ومساحتها مثل مساحة ألمانيا وفرانسا وإيطاليا معا، وفيها الأمن العام مستتب بشكل لا يوجد في أية دولة متمدنة من الدول الغربية، والآن يستطيع كل شخص أن يسافر بمفرده في الصحراوات الواسعة وسط بلاد العرب دون أن يحمل سلاحا أصلا وإن كان يحمل الأثقال من الذهب فلا يصيبه ضر أو أذى. وقد كان الناس قبلا لا يقطعون تلك الجهات إلا جماعات مسلحين. وقد هدأت الحروب وامتنعت المعارك بين القبائل التي في مملكة ابن سعود مع أنها كانت من قبل من الحوادث التي تحدث كل يوم ولكنها لم تنقطع في سوريا أو العراق اللذين تحكمهما دول غربية متمدنة.
بيد أن ابن سعود لم يقنع بكل ذلك بل وضع عمله لتحضير البلاد على أساس أكبر، وكان منذ خمس عشرة سنة قد شرع يفكر في(4/238)
إستيطان البدو إذ اتضح له أن تنقل القبائل من جهة إلى أخرى كل حين يمنع تقدم المدنية بينها ويحول دون ما هو أهم من ذلك عنده وهو تمكين الدين من نفوسها. وعلى ذلك أخذ يبث هذه الفكرة في البدو ولم تكن بلاد العرب تعرفها من قبل. وقد نجح في هذا نجاحا أكبر مما ارتقبه، بدأت القبائل واحدة إثر أخرى تدرك فائدة المعيشة المستقرة في ناحية معلومة، ومنحت أراضي ثابتة الحدود لتسكنها وبنت فيها البيوت وخططت القرى وزرعت النخل، وقد أعانها الملك بكل أنواع العون في دور انتقالها من حياة القرى والرعاة الرحالة إلى حياة الزراع، إذ أعطاها الأموال والغذاء والبذور، ولا يزال يبذل هذا العون للقبائل الأخرى التي تختار الاستقرار. والآن وقد مضت خمس عشرة سنة على هذه الحركة تستطيع أن تقدر على وجه التقريب عدد البدو من أهل نجد الذين استوطنوا الأراضي وتركوا حياة الرحالة بثلث مجموعهم. ولا تزال هذه الحركة سائرة في طريقها في جد وحزم.
ولا شك أن هذا العمل الذي يقوم به ابن سعود سوف تقدر أهميته من وجهة الحضارة وأن التاريخ سوف يفرد لهذا الملك صفحة بين صفحات العظماء الذين خطوا بالإنسانية خطوات إلى الأمام.
وهؤلاء المستقرون الذين كانوا منذ جيل واحد لصوصا لا ضمائر لهم قد شعروا يحسون تدريجا أنهم حاملو علم تقدم عظيم، وقد أثار التعليم الديني الذي أتاهم ابن سعود به عاطفة إطلاق الدين المتغلغلة في نفوس العرب، وأدركوا أن دولة إسلامية في دور النشوء في بلادهم وأن عليهم أن يضعوا لها الأعمدة والأسس، وكذلك أصبحوا أصدق النصراء للإسلام بعد أن كانوا لا يعلمون إلا قشورا منه، وصاروا ينظرون إلى نجد نظرتهم إلى معقل الإسلام، وأنهم لمحقون في ذلك. وقد تركوا اعتبارات العصبية المحدودة وسموا أنفسهم (إخوانا) أي إخوان كل من يسلم قلبه لله دون قيد وشرط، واتخذوا شارتهم العمامة(4/239)
البيضاء متمثلين بالنبي بعد أن تركوا العقال العربي المتورث من قديم الأزمان.
وللإخوان أهمية عظيمة بالنسبة لدولة ابن سعود لأنهم في حالة الحرب يتطوع منهم كل رجل قادر على القتال ويدخل في جيش ملكهم وملء قلبه النخوة والحماسة. وإذ أنهم يعتبرون أنفسهم الممثلين الصادقين للدين الحق ولا يقاتلون إلا في سبيله. فحربهم إذن هي حرب دينية، ومن تعاليم الإسلام أن خير ميتة يموتها المسلم وسط الجهاد في سبيله، ولذلك لا يرهب الإخوان الموت بل يرحبون به، ولكن دون أن يزدروا الحياة. وهم أكثر جيوش العالم شجاعة وصبرا وسرعة في الحركة. ولو مدوا بالأسلحة الهندسية الحديثة لاستطاعوا أن يفتتحوا دولا عظيمة. وهم في وقت السلم مشتتون في أنحاء البلاد ولكن إذا دعاهم الملك لم ينقض شهر واحد حتى يجتمعوا كلهم في المكان المعين لهم، وكل منهم آت على هجينه مسلحا بالأسلحة الحديثة التي غنمها ابن سعود في حروبه المختلفة وبالخناجر والسيوف. وكل مجاهد يحمل زاده معه وهو عبارة عن قليل من الأرز وحقيبة من البلح، ولا يعطيهم الملك أجرا ولكن يمنحهم الهدايا بين وقت وآخر، وإنما يعتمدون على الغنائم التي يغنمونها من الأعداء، وهذا الجيش المتطوع المتحمس القليل الكلفة يجعل ابن سعود أقوى من أي حاكم عربي قبله.
وهذا كله عمل رجل واحد هو عبد العزيز بن سعود ففي رأسه تنمو جميع الخطط وعلى كتفيه مهمة تنظيم مملكته الكبيرة وتنحصر مساعدة أمرائه- ومنهم رجال ذوو شخصيات كبيرة- في حسن تنفيذهم للخطط التي يضعها فهو وحده الذي يفكر ويعمل وكلهم أيد له وإنه ليحمل عبئا عظيما من العمل.
وهو يشتغل طوال اليوم من باكورة الصباح إلى قسط من الليل،(4/240)
ما عدا فترات يقضيها في الصلاة وبرهات قصيرة يرتاح فيها بين أهله. وهو يتلقى كل يوم مئات الخطابات والتقارير ويقرأها بنفسه ويملي مئات من أمثالها على كتابه. ويفد عليه كل يوم كثير من البدو والوفود من أنحاء الدولة يعرضون عليه شكاواهم ورغباتهم ويتلقون منه أوامره وجميعهم ينزلون ضيوفا عليه طول مكثهم بالرياض، وهو يولم الولائم لنحو ألف نفس كل يوم، ويعطي كلا منهم عند رحيله ثوبا تبعا لعادة العرب وكذلك قطعة من النقود حسب مكانته. ونفقات الملك الشخصية جد قليلة لأنه لا يعرف الترف في حياته الخاصة وإنما له عدد من السيارات لا بد منها لحسن القيام بشؤون الحكم في هذه المملكة المترامية الأطراف. وابن سعود طويل القامة جدا ذو جمال رجولي وله جبهة عالية وأنف قليل الإنحناء وثغر صغير عليه شفتان ممتلئتان تدلان على الحماسة والذكاء في آن واحد. وكل من يراه دون فكرة سابقة عنه ويشهد ابتسامته العذبة لا بد أن يحبه. وقليل جدا من الناس في مملكته الكبيرة لا يحبونه.
لقد قارن البعض هذا الملك بنابليون ذات مرة. أما أنا فأفضل أن أقارنه بكيروس (1) كما وصفه لنا (كسينوفون) (2) في روايته "كيروبايديا" فإنه مثله حاكما متبصراً حكيماً يعمل لمصلحة شعبه لا لنفسه ويقدر الرجال حق قدرهم ويقرأ ما بقرار نفوسهم قبل أن ينطقوا ببنت شفة ويسعى دائما لإرضاء من يعملون معه فيعطيهم أكثر مما يرتقبونه، إذ يمنحهم الأمن على حياتهم، والهدايا الخالصة من القلب والحب لمن يستحقه. ولكن رغم كل ذلك يبقى ابن سعود وحيداً بينهم لأن له نفسية عالية.
__________
(1) هو كيروس الأكبر ملك العجم ومؤسسها.
(2) مؤرخ يوناني قديم مشهور من تلاميذ سقراط.(4/241)
ان ابن سعود في وحدة عميقة وإن كان حوله أناس كثيرون لأنه ليس منهم أحد يستطيع أن يستشف ما وراء ابتساماته الساحرة أو ما وراء حركات يديه حين يتحدث في شؤون الدولة أو في مسائل الدين. ولا يدري أحد ماذا سيفعل غدا بل يحيط الظلام والإبهام بنواياه في المستقبل وإن كان يومه وأمسه شفافين لا سر فيهما.
وتلك وحدة العظماء الذين لا يقودهم في سبيلهم غير أذهانهم المتوقدة (1).
__________
(1) ش: ج 4 م ه، ص 25 - 36 غرة ذي الحجة 7431ه - ماي 1929م.
نقلنا هذا المقال نظرا لتعليق الأستاذ الإمام عليه واهتمامه بالحركة الوهابية.(4/242)
مناظرة بين سلفي ومعتزلي
في مجلس الواثق
ان اختلاف الأفكار والطباع، مع اختلاط الأمم في الزمن الطويل- أدى بالفرق الإسلامية إلى كثير من الاختلاف. وكان من بين ذلك- لا محالة- بدع دينية في الاعتقادات والأعمال. وكل ذي بدعة- لا بد- معتقدا فيها صوابا، ومتلمساً لها دليلا.
ولا يقف بالجميع عند حد واحد، إلا دليل واحد. وهو إلتزام الصحيح الصريح مما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكان عليه أصحابه. فكل قول يراد به إثبات معنى ديني لم نجده في كلام أهل ذلك العصر نكون في سعة من رده وطرحه وإماتته وإعدامه، كما وسعهم عدمه. ولا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وكذلك كل فعل ديني لم نجده عندهم وكذلك كل عقيدة. فلا نقول في ديننا إلا ما قالوا، ولا نعتقد فيه إلا ما اعتقدوا ولا نعمل فيه إلا ما عملوا. ونسكت عما سكتوا. فهم- كما قال الشافعي في رسالته البغدادية-: "أدوا إلينا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عاما وخاصا وعزما وإرشادا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم وأجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا".
ونرى كل فتنة كانت بين الفرق الإسلامية ناشئة عن مخالفة هذا الأصل. ومنها فتنة القول بخلق القرآن التي
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/243)
نقلنا في المناظرة عليها القصة التالية عن كتاب ((الإعتصام)) للإمام الشاطبي. وقد كان الفلج فيها لمن التزم هذا الأصل على من خالفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر أبو اسحاق الشاطبي إن هذه القصة حكاها المسعودي، وحكاها الاجري- في كتاب الشريحة- بأبسط مما ذكره المسعودي. ونقلها هو عن المسعودي- قال- مع إصلاح بعض الألفاظ. قال (1):
"ذكر صالح بن علي الهاشمي قال: حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رفع طرفه إليَّ أطرقت، فكأنه علم ما في نفسي.
فقال لي: ياصالح، أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره - قال- فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمسك. فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح، ونهض فجلست جلوسا طويلا، فقمت إليه وهو على حصيرة الصلاة فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك؟ أم أحدثك؟ فقلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن.
فقال: كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا. فقلت: أي خليفة خليفتنا! إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن. فقال المهتدي: قد كنت على ذلك برهة من الدهر، حتى أقدم عليَّ الواثق شيخاً من أهل الفقه والحديث من "أذنه" من الثغر الشامي، مقيداً طوالا، حسن الشيبة، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرَّحمة عليه.
فقال (الواثق): يا شيخ، أجب أبا عبد الله أحمد بن دؤاد عما
__________
(1) الإعتصام 1/ 242 - 244.(4/244)
يسألك عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة؛ فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا عليه. فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟ فقال: هوِّن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك.
فأقبل الشيخ على أحمد فقال: يا أحمد إلامَ دعوت الناس؟ فقال أحمد: إلى القول بخلق القرآن، فقال له الشيخ: مقالتك (1) هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- دعا الناس إليها أم تركهم؟ قال: لا. قال له: يعلمها أم لم يعلمها؟ قال علمها. قال: فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلبم- إليه وتركهم منه؟ فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة.
ثم قال له: أخبرني يا أحمد، قال الله تعالى في كتابه العزيز:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} " الآية. فقلت أنت: الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله- تعالى عز وجل- صدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟ فأمسك، فقال: يا أمير المؤمنين! هذه ثانية.
ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، قال الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله
__________
(1) "ش": كلام الشيخ على مقالة ابن أبي دؤاد ينطبق على كل مقالة لم يدع إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس. وقام لها من بعده دعاة.(4/245)
- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الأمة أم لا؟ فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! وهذه ثالثة.
ثم قال بعد سىاعة: أخبرني يا أحمد لمَّا علم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها: اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك. فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر؟ وكذلك لعمر؟ وكذلك لعثمان؟ وكذلك لعلي؟ رحمة الله عليهم. قال: نعم. فصرف (الشيخ) وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين! إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولأصحابه فلا وسع الله علينا. فقال الواثق: نعم! لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولأصحابه فلا وسع الله علينا.
ثم قال الواثق: إقطعوا قيوده، فلما فكت جاذب (1) عليها. فقال الواثق: دعوه. ثم قال يا شيخ لم جاذبت عليها؟ قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي (2) وكفني، ثم أقول: يا ربي! سل عبدك: لم قيدني ظلما وارتاع (3) بي أهلي؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر. ثم قال له الواثق: يا شيخ! إجملني في حلٍ. فقال: يا أمير المؤمنين! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلٍ إعظاما لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولقرابتك منه. فتهلل وجه الواثق وسر. ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال له: مكاني في ذلك الثغر أنفع، وأنا شيخ كبير، ولي حاجة. قال: سل كل ما بدا لك. قال: يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع
__________
(1) "ش" أبى أن يتركها.
(2) كذا بالأصل والظاهر بين بدني وكفني.
(3) الصواب أراع أو روع.(4/246)
الذي أخرجني منه هذا الظالم (1). قال: قد أذنت لك. وأمر له بجائزة فلم يقبلها (2)، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة. وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها.
قال أبو إسحاق الشاطبي بعد نقل ما تقدم.
"فتأملوا هذه الحكاية ففيها عبرة لأولي الألباب. وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إحجامهم (3) لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم-" (4).
__________
(1) يعني ابن أبي دؤاد.
(2) هذا قول المهتدي بعد تمام الحكاية.
(3) كذا بالأصل والظاهر إفحامهم.
(4) ش: ج 11، م 5، ص 24 - 28 غرة رجب 1348ه - ديسمبر 1929م.(4/247)
هذه نعلي ونعل آبائي
محافظة الرشيد على زي قومه
((القومية والشخصية لهما مقومات ومميزات. والمحافظة عليهما والاعتزاز بهما مما جبل عليه الناس كما جبلوا على حب البقاء. لكن قد يطرأ على بعضهم سوء ظن فيهما لجهل أو ضعف، فيتخلى عنهما فيكون ذلك التخلي نذير الفناء، وفي القصة التالية نرى اعتزاز الرشيد بقوميته ومحافظته على مميزاتها حتى في أقل الأشياء كالنعل. وكان ذلك منه على قدر ما لديه من عظمة وقوة، وما عنده من علم بمجد قومه العرب الأكرمين)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الأصمعي: تصرفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول إليه، حتى صرت حديثا لبعض حرسه، فأني في بعض ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد إذ خرج أحد الخدم فقال: أما بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رب قيد مضيق قد حله التيسير، فقال لي الخادم: أدخل فلعلها أن تكون ليلة في صباحها الغنى ان فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في مجلسه، والفضل بن يحيي إلى جانبه، فوقف بي الخادم حيث يسمع التسليم فسلمت فرد علي السلام ثم قال: يا غلام، أرحه ليفرخ روعه إن كان وجد للروعة حسا. فدنوت قليلا ثم قلت: يا أمير المؤمنين أضاءة مجدك وبهاء كرمك مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية. فقال: أدن، فدنوت. فقال: أشاعر أم راوية؟ فقلت: راوية لكل ذي جد وهزل بعد أن يكون محسنا. فقال:(4/248)
تالله ما رأيت ادعاء أعظم من هذا؟ فقلت: أنا على الميدان فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين. فقال (قد أنصف القارة من راماها) ثم قال: ما المعنى بهذه الكلمة بديئا؟ فقلت: فيها قولان: القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة والملك إذ ذاك أبو حسان فوافق عسكره عسكر السغد فخرج فارس من السغد قد وضع سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة الحرب؟ فقال العرب: قد أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت. ثم قال: أتروي لرؤبة بن العجاج والعجاج شيئا؟ فقلت هما شاهدان لك بالقوافي، وأن غيبا عن بصرك بالأشخاص فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال: انشدني:
…أَرَّقَنِي طَارِقُ هَمٍّ أَرَّقَا…
فمضيت فيها مضي الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي.
فلما صرت إلى مديحه لبني أمية ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس السفاح في قوله:
…"قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ"…
فلما رآني عدلت من أرجوزة إلى غيرها، قال: أعن حيرة أم عن عمدٍ؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه، فيما وصف به جدك من مجده. فقال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس، فلما أتيت على آخرها قال الرشيد: أتروى كلمة عدي بن الرقاع:
عَرَفَ الدِّيَارَ تَوَهُّمَا فَاعْتَادَهَا … مِنْ بَعْدِ مَا شَمَلَ البِلَى أَبْلَادَهَا
قلت: نعم. قال: هات، فمضيت فيها حتى إذا صرت إلى وصف(4/249)
الجمل قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب، فقال له الرشيد: أسكت فالإبل هي التي أخرجتك من دارك واستلبت تاج ملكك ثم ماتت وعملت جلودها سياطا ضربت بها أنت وقومك. فقال الفضل: عوقبت على غير ذنب، فالحمد لله. فقال الرشيد: أخطأت، الحمد لله على النعم. ولو قلت: أستغفر الله، كنت مصيبا. ثم قال لي: إمض في أمرك فأنشدته حتى إذا بلغت إلى قول عدي:
تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ … قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا
إستوى جالسا ثم قال: أتحفط في هذا ذكرا؟ قلت: نعم. ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير: مسرا إليه نسخر من هذا الشامي؟ فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال:
تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ
وعدي كالمستريح قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال الفرزدق يالكع، إنه يقول:
قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا
فقال عدي:
قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا
فقال جرير: أكان سمعك مخبوءاً في صدره. فقال له: أسكت شغلني سبك عن جيد الكلام فلما بلغ إلى قوله:(4/250)
وَلَقَدْ أَرَادَ اللهُ أَنْ وَلاَّكَهَا … مِنْ أُمَّةٍ أَصْلَاحُهَا وَرَشَادُهَا
قال الرشيد: ما تراه حين أنشده هذا البيت؟ قلت: قال كذاك أراد الله فقال الرشيد: ما كان في جلالته ليقول هذا أحسبه، قال ما شاء الله. قلت: وكذا جاءت الرواية فلما أتيت على آخرها قال: أتروي لذي الرمة شيئا؟ قلت الأكثر، قال فماذا أراد بقوله:
مُمَرٍّ أَمَرَّتْ فَتْلَهُ أَسَدِيَّةٌ … ذِرَاعِيَّةٌ حَلَّالَةٌ بِالْمَصَانِعِ
قلت وصف حمار وحش اسمه بقل روضه، تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثم في الذراع من ذلك، فقال الرشيد: أرح فقد وجدناك ممتعا وعرفناك محسنا. ثم قال: أجد ملالة، ونهض وأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني يا غلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم إما أنها لو كانت سندية لما احتاجت إلى هذه الكلمة. فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي، كم تعارض فلا تترك من جواب ممض. ثم قال: يا غلام، يؤمر صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولا يجب في المستأنف. فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره، لأمرت لك بمثل ما أمر لك، وقد أمرت لك به إلا ألف درهم، فتلق الخادم صباحا. قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 6، ص 104 - 106 غرة شوال 1348ه - مارس 1930م.(4/251)
العامة المتعلمة
((إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر صحيحة العقيدة بصيرة بالدين فتكمل هي في نفوسها ولا تهمل- وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته- تعليم أبنائها. وهكذا ينتشر العلم في الأمة ويكثر طلابه من أبنائها وتنفق سوقه فيها. أما أنا خلت المساجد من الدروس كما هو حالنا اليوم - في الغالب- فإن الأمة تعفى عن العلم والدين وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه، فتجسو نفسها وأبناءها وتمسي والدين فيها غريب.
وقد عرف أسلافنا - رحمهم الله تعالى- هذه الحقيقة فحبسوا لأحباس الطائلة على التدريس في المساجد، التدريس الديني الجامع بين العلم والتهذيب ولو دام ما أسسوه لكانت حالة عامتنا على غير ما نراها عليه اليوم.
وفيما يلي ننقل من (أحكام) الإمام ابن العربي قصة تبين ما كان عليه عامة بغداد من العلم أيام كانت مساجدها معمورة بالدروس. وكان العلم منتشرا في جميع طبقاتها)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
"كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحداً مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضاً من الطلب وعزم على الرحيل شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أنَّ واحدة منها يقرأها في وقت وصولها(4/252)
ما تكن (1) بعدها من تحصيل حرف من العلم فحمد الله تعالى، ورحل على دابته قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان وتقدمه الكرى بالدابة وأقام هو على عامي يبتاع منه سفرته فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لعامي آخر أي قل، أما سمعت العالم يقول يعني الواعظ أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقول، وظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحاً لما قال الله تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ قل إن شاء الله سمعته يقول ذلك قلت بلد يكون العاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة لا أفعله أبداً واقتفى أثر الكرى وحلله من الكراء وصرف رحله وأقام بها حتى مات رحمه الله (2).
__________
(1) كذا في الأصل والصواب: ما تمكن.
(2) ش: ج 11، م 6، ص 692 - 693 غرة رجب 1349ه - ديسمبر 1930م.(4/253)
النجاة من العطب بقليل من الأدب
خرج الإمام ابن العربي في صغره إلى المشرق مع أبيه وكاد البحر يوما يغرقهم وكاد الجوع والبرد بعد خروجهم من البحر أن يهلكهم لولا أن الله تعالى بسبب طريف أنقذهم. وقد قص الإمام ذلك في كتابه: ((ترتيب الرحلة)) ونقله عنه المقري في ((نفح الطيب)) ونقلناه عنه فيما يلي لما فيه من عجيب لطف الله ونفع المعرفة على كل حال في جميع المواطن قال الإمام:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
"وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بزوله (1)، ويغرقنا في هوله، فخرجنا خروج الميت من القبور، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم. ونحن من السغب، على عطب، ومن العري، في أقبح زي، قد قذف زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (2)، ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أزرا، واشتملناها ألفافا (3) تمجنا الأنظار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا - بأمر حقير ضعيفه، وفن من العلم ظريف. وشرحه: أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه (4) فعل السامد (5) اللاه، فدنوت منه
__________
(1) الزول: العجب.
(2) المنيئة: الجلد أول ما يدبغ.
(3) الفاف: ج لف بمعنى الحزب والطائفة.
(4) الشطرنج.
(5) الغافل الساهي.(4/254)
في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته (1) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار (2)، ووقفت بإزائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم-. إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة- في خلس البطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أن كانت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه وسألني هل لي بما هم فيه خبر، فقلت لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرك تلك القطعة ففعل كما أشرت وعارضه صاحبه كذلك فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير فقالوا ما أنت بصغير.
وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه … وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال لعن الله أبا الطيب أويشك الرب، فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير إنما أراد بالرب ههنا الصاحب. يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به .. كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا … فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي إبرام وانتقاض، ما حرك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض وأقبلوا يتعجبون مني،
__________
(1) البياذقة الرجالة والمراد خدمه وأتباعه.
(2) ج غمر غير المجرب.(4/255)
ويسألونني كم سني، ويستكشفونني عني، فبقرت (1) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيتي (2)، وأعلت الأمير أن أبي معي فاستدعاه وأقمنا الثلاثة (3) إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه (4)، وجاء كل خوان، بأفنان وألوان (5)، فانظر إلى هذا العلم (6) الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب، وهذا الذكر يرشدكم- إن عقلتم- إلى المطلب (7) اهـ.
__________
(1) فتحته ووسعته.
(2) ما بطن من أمري.
(3) هو وأبوه والأمير.
(4) أسال علينا خراته.
(5) ذكر هنا صاحب النفح أن الإمام وصف ما نالهم من كرم الأمير ولم يذكره هو.
(6) علم الشطرنج.
(7) هو الرغبة في العلم والحرص على تحصيله.
ش ج 2، م 7، ص 112 - 114 غرة شوال 1349ه، مارس 1931م.(4/256)
أباة الضيم
يزيد بن المهلب
بيت المهلب من أكبر البيوت التي استقامت عليها دعائم ملك بني أمية، والمهلب هو الذي قطع دابر الخوارج عليهم بالعراق بعد ما كان قد أعياهم أمرهم. حتى قال الحجاج للمهلب- لما قدم عليه بعد الظفر وقد أجلسه معه وبالغ في إكرامه-: "يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب". ولما قدم قدمته هذه ولى ابنه يزيد كرمان، ثم كانت ولايته على خراسان وفتح في خلافة سليمان بن عبد الملك دهستان وجرجان وطبرستان. ولما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز سجنه وطالبه بأموال كان كاتب عليها سليمان فأنكرها ومكث في السجن حتى هرب منه قبل وفاة عمر بقليل خوفا من أن يقع في يد يزيد بن عبد الملك ولي عهد عمر وكان يزيد أيام ولايته قد عذب آل أبي عقيل أصهار يزيد لأنه كان متزوجا ببنت أخي الحجاج. فقصد البصرة وبدأ فتنته منها وكان من نهاية أمره ما قصه ابن أبي الحديد فيما يلي:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن أباة الضيم يزيد بن الهلب كان يزيد بن عبد الملك ينشؤه قبل خلافته لأسباب ليس هذا موضع ذكرها، فلما أفضت إليه الخلافة وخلعه يزبد بن المهلب ونزع يده من طاعته وعلم أنه إن ظفر به قتله وناله من الهوان ما القتل دونه فدخل البصرة وملكها عنوة وحبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشاً كثيفاً يشتمل على ثمانين ألفاً من أهل الشام والجزيرة(4/257)
وبعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان أعرف الناس بقيادة الجيوش وتدبيرها وأيمن الناس نقيبة في الحرب وضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك فسار يزيد بن الهلب من البصرة فقدم واسطا فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر واشتملت جريدة جيشه على مائة وعشرين ألفاً وقدم مسلمة بجيوش الشام فلما تراءى العسكر أن وشبت الحرب أمر مسلمة قائداً من قواده أن يحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس قال ومم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله فقيل له أن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا فقال قبحهم الله يقال دخن عليه فطار ثم وقف ومعه أصحابه فقال أضربوا وجوه المنهزمين ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه واستقبله منهم أمثال الجبال فقال دعوهم قبحهم الله غنم عدا في نواحيها الذئب وكان لا يحدث نفسه بالفرار وقد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط فقال له:
فعش ملكاً أو مت كريماً فإن تمت … وسيفك مشهور بكفك تعذر
فقال ما شعرت فقال:
إن بني مروان قد بار ملكهم … فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر
فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه نزل عن فرسه وكسر جفن سيفه واستقبل فأتاه آت فقال إن أخاك حبيباً قد قتل فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل قال لا خير في العيش بعد حبيب والله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضاً أمضوا قدماً فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها وهو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب وحالت(4/258)
خيول أهل الشام بينهما وعطفت على يزيد بن الهلب فجالدهم بالسيف مصلتاً حتى قتل وحمل رأسه إلى مسلمة وقتل معه أخوه محمد بن الهلب وكان أخوهما الفضل بن الهلب يقاتل أهل الشام في جهة أخرى ولا يعلم بقتل أخويه يزيد ومحمد فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب وقال له ما تصنع وقد قتل يزيد ومحمد وقبلهما قتل حبيب وقد انهزم الناس وقد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه وخاف أن يخبره بذلك فيستقتل ويقتل فقال له أن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره فانحدر المفضل حينئذ فلما علم بقتل إخوته حلف أن لا يكلم أخاه عبد الملك أبداً وكانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج فقال فضحني عبد الملك فضحه الله ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم إلا صدقني فقتلت ثم قال:
ولا خير في طعن الصناديد بالقنا … ولا في لقاء الناس بعد يزيد
فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس فقتلوه وحملوا عيالهم في السفن البحرية ولججوا في البحر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده فأدركهم في قندايل فحاربهم وحاربوه وتقدم بنو المهلب بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وهم الفضل ابن المهلب وزياد بن المهلب ومروان بن المهلب وعبد الملك بن المهلب ومعاوية ابن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمرو والغيرة ابنا قبيصة بن المهلب وحملت رؤوسهم إلى مسلمة إن عبد الملك وفي أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه واستأسر الباقون في الوقعة فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام وهم أحد عشر رجلا فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا … أشد العقابِ أو عفا لم يثرب(4/259)
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة … فما تأته من صالح لك يكتب
أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر … وأفضل حلم حسبه حلم مغضب
فقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر لولا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم ثم أمر بقتلهم فقتلوا وبقي منهم صبي صغير فقال اقتلوني فلست بصغير فقال يزيد بن عبد الملك أنظروا هل أنبت فقال أنا أعلم بنفسي، فقد احتلمت ووطئت النساء، فاقتلوني فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وأسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا وهم أحد عشر مهلبيا المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل والمنجاب بنو يزيد بن المهلب ودريد والحجاج وغسان وشبيب والفضل بن المفضل بن المهلب لصلبه والفضل بن قبيصة بن المهلب. قال: لم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب وعمرو بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتنيل ثم أمنوا بعد ذلك (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 7، ص 255 - 258 غرة ذي الحجة 1349ه - أفريل 1931م.(4/260)
أعظم قائد
يرجع إلى رأي جندي (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ارتحل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من مبيته صبيحة يوم بدر حتى نزل على أدنى ماء إليه وبقي الماء أمامه لو جاء العدو لنزل عليه فيكون الجيشان على ماء. وكان الصحابة يعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يتصرف بالوحي فيكون تصرفه حتما ويتصرف بالنظر في السياسة والحرب فيشاور ويراجع وهو المعصوم فلا يقر على الخطأ فانبرى الحباب بن المنذر بين الجموع يبدي رأيه وما يعتقده صوابا في مكان النزول فقال: (يا رسول الله أرأيت المنزل هذا أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة)؟
فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال الحباب: "إن هذا ليس بالنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نعور ما وراءه من القُلُب (1) ثم نبني عليه حوضاً نملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". أراد أن يستولي الجيش على الماء ويمنع منه العدو فيكون ذلك أنكى فيه وأعون عليه وهذا هو الرأي الموافق لما تقتضيه الحرب من تضعيف العدو ومكايدته بالأسباب التي تسرع بقهره وظهر
__________
(1) من سيرة ابن هشام وغيرها.
(2) القلب ج قليب وهو بير غير مطوية أي مبنية وعور القليب إذا ردمه بالتراب.(4/261)
هذا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: "لقد أشرت بالرأي" ونهض بالناس حتى نزل المنزل الذي أشار به الحباب وفعل ما أشار به ورجع أعظم قائد إلى رأي جندي من جنوده لما ظهر له صواب إشارته.
قد عصم الله نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يستقر أمره في جميع سياسته وتدبيره إلا على أحسن الوجوه بما يهدي إليه من نفسه- وهو الكثير- وما يرجع إليه مما يشير به أصحابه- وهو القليل- والحكمة في هذا القليل أن يسن لأمته حرية إبداء الرأي في الشؤون العامة من الكبير والصغير، والرجوع للصواب إذا ظهر من أي أحد كان.
هذا الأصلان: حرية إبداء الرأي من جميع أفراد الرعية والرجوع إلى الصواب من رعاتها، عليهما تنبني سعادة الأمة وعظمتها، وبهما تشعر الأمة والوحدة بين الرعية ورعاتها، ومنهما تستمد الأمة النظم اللازمة لها في حياتها، وقد قررهما الإسلام وبينهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تبييناً عملياً في هذه القصة (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 11، ص 17 - 18 غرة محرم 1354ه - أفريل 1935م.(4/262)
ضلال شيخين واهتداء غلام
كانت مدينة الطائف- وما زالت- مصطاف أهل مكة وكان بين البلدين صلة وقرابة. حتى قرنتا في قول المشركين الذي حكاه الكتاب: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، فخرج النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إليها بعد وفاة أبي طالب واشتداد الأذى من قريش عليه. يدعو أهلها ثقيفاً ويلتمس عندهم النصرة والمنعة بهم من قومه فلقي من أذاهم أشد مما كان يلقى فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط مصطاف لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة القرشيان الأمويان وهما فيه ينظران إليه ويريان ما لقيه من سفهاء ثقيف لم يغيرا من ذلك شيئا وكان ذلك الجمع من العبيد والسفهاء لما رأوه التجأ إلى حائط فيه رجلان من قومه قريش ومن بني عبد مناف رجعوا عنه فعمد إلى ظل حبلة (كرمة) من عنب فجلس فيه.
رأى ابنا ربيعة ما لقي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، وهما من بني عبد مناف، فتحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عدَّاس فقالا له خذ قطفاً (عنقوداً) من العنب فضعه في الطبق إذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
جاء عدَّاس بالقطف في الطبق فوضعه بين يدي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- باسم الله وتناول منه، فسمع عدَّاس ما لم يكن يسمعه في تلك الأرض من المشركين فنظر في وجه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال(4/263)