ـ[آثاَرُ ابْنُ بَادِيسَ]ـ
المؤلف: عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ)
المحقق: عمار طالبي
الناشر: دار ومكتبة الشركة الجزائرية
الطبعة: الأولى (عام 1388 هـ - 1968 ميلادية)
عدد الأجزاء: 4 أجزاء
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
(الإصدار الأول للشاملة 1431هـ) - أعدّه للمكتبة الشاملة العبد الضعيف الراجي عفو ربه أبو ياسر الجزائري، فلا تنسونا من دعائكم.(/)
الطبعة الأولى
عام 1388 هـ - 1968 ميلادية
ــــــــــــــــــــــــــ
يشتمل المجلد الأول من هذه الطبعة على مدخل للحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة ابن باديس وآثاره المتعلقة بالتفسير، وشرح الحديث، ويشتمل المجلد الثاني على المقالات الإجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية التي دبجها يراع الشيخ الإمام الأستاذ عبد الحميد ابن باديس.
وقد كلفت دار اليقظة العربية لجنة من كبار علماء دمشق للقيام بتصحيح آثار ابن باديس أثناء طبعها، وذلك حرصا منها على أن يصدر هذا الكتاب الذي له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي سليما من الأخطاء، خاليا من التحريف.(1/2)
كتاب آثار ابن باديس
المجلد الأول
تفسير وشرح أحاديث
اعداد وتصنيف
الأستاذ عمّار طالبي
بالإشتراك مع الناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية
للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر(1/3)
طبع هذا الكتاب بموافقة واشراف الناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما الجزائر
ملتزم الطبع والتوزيع في الأقطار العربية والبلاد الأجنبية
دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر(1/4)
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
كتاب آثار ابن باديس
المجلد الأول
تفسير وشرح أحاديث
إعداد وتصنيف
الأستاذ عمّار طالبي
بالإشتراك مع
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
الطبعة الأولى
1388 هجرية - 1968 ميلادية(1/5)
جميع حقوق الترجمة والطبع والنشر والاقتباس محفوظة للناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر(1/6)
ـ[صورة]ـ
الْعَلاَّمَة ِالثَّائِر ِالإِمَام ِعَبْدُ الْحَمِيدَ بْنُ بَادِيسَ رَائِدُ النَّهْضَةِ الْحَدِيثَةِ بِالْمَغْرِبِ الْعَرَبِيِّ وَقَائِدُ الْحَرَكَةِ الإِصْلاَحِيَّةِ وَمُؤَسِّسُهَا بِالْجَزَائِرِ
ــــــــــــــــــــــــــ(1/7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بقلم المفكر الجزائري مالك بن نبي
... مدير التعليم العالي بالجزائر ...
ــــــــــــــــــــــــــ
عرفت مؤلف هذا الكتاب إبان دراسته في جامعة القاهرة، وكنت أعتبره في جملة أصدقائي ومستمعي من بين طلاب البلدان الإسلامية المختلفة الذين يزورون الندوة التي تعقد في منزلي يوم الجمعة من كل أسبوع.
فحين أقدم هنا لدراسة عن ابن باديس أشعر بلذة مزدوجة.
فما كان أشد إغراء مثل هذا الموضوع في بلد ما يزال من شاهد حياة الشيخ وأثره كثيراً عددهم، ولكن ما أصعبه من موضوع إذ الحقيقة أنه لا يمكن أن يخلو حكم معاصر على أحداث عهده ورجاله، من نظرة ذاتية، إلا نادراً.
وأنا نفسي أشعر بشيء من الحرج حين أقدِّم كتاباً يحوي - بالضرورة - أفكاراً وأحداثاً كنت نصيراً لها أو معارضاً.
غير أن شخصية الشيخ تجمع في طيَّاتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغاً يجعل في قدرة الباحث - دوماً - أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكر من الظروف العرضية النسبية.(1/9)
لقد كان ابن باديس مناظراً مفحماً، ومربياً بناَّءً، ومؤمناً متحمساً، وصوفياً والهاً، ومجتهداً يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقاً عزب عن الأنظار، إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي.
وهو كذلك وطني مؤمن تصدَّى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالاً عنوانه: "أنا فرنسا"، فردَّ عليه ردّاً حامياً قوياًّ.
وعندما انفجرت حوادث قسنطينة الدامية في شهر آب من سنة 1934 وحاولت الإدارة أن تعيد الهدوء والاستقرار كان نصيراً لها، ولكنه لم يقبل هجوماً على الإسلام قام به يهودي منتهكاً حرمة مسجد.
والشعور الوطني المتدفق يغدو لديه فيضاً شعرياً عندما ينظم قصائده التي قُدِّر لها أن تعيد إلى الشعب الجزائري أبعاده الحقيقية في التاريخ الإسلامي، في فترة كان أطفال الجزائر يدرَّسون ويعلَّمون تاريخ "أجدادنا الغاليين".
وفوق ذلك فقد كان ابن باديس مصلحاً اقترن اسمه وأثره بتاريخ هذا البلد في مرحلة سياسية كانت تعده "للثورة"، وفي هذه الكلمة من المعاني أكثر مما تعودنا أن نفهم.
إنه المصلح الذي استعاد موهبة العالم المسلم كما كانت في عصر ابن تومرت بإفريقيا الشمالية.
فقد كان المغرب يعيش على صورةٍ ما حياة فترة العصر الذي وضعت له حداًّ نهائيّاً دعوة مهدي الأطلس المغربي، وسيف عبد المؤمن.
نحن نعلم أن عصر المرابطين شهد انزلاق الضمير الإسلامي نحو النزعة الفقهية.
فجاء ابن تومرت ارتكاساً لروح الفقهاء الضيقة، ووضعت دعوته الضمير الإسلامي في شريعة القرآن وطريق السنة.(1/10)
أما ابن باديس فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية (المرابطية أو الطرقية) دورة المرابطين.
وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ولم يستطع المصلح الجزائري أن يطمح إلى تأسيس إمبراطورية تحرر الضمير.
لقد تغير الزمان: فالاستعمار والقابلية للاستعمار غيَّرا كل المعطيات في الجزائر كما فعلا ذلك في سائر العالم الإسلامي.
كانت الظروف تقتضي الرجوع في الإصلاح إلى السلف أدراجاً: إذ لم يكن القيام بأي عملٍ في النظام السياسي أو الاجتماعي ممكناً قبل تحرير الضمائر.
وكل مذهب الإصلاح الجزائري الذي تجده في ابن باديس كان لا بدَّ أن يصدر عن هذه الضرورة أو عن هذه المقتضيات الخاصة.
والمبدأ الأساسي القائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الذي كان أول خطوة في الإصلاح؛ يمكن أن يعتبر- من زاوية مَّا - ترجمة لهذه الضرورة في صيغة مذهبية.
ومن هنا نرى التقلبات التي كان يمكن أن يتعرض لها مبدأ كهذا المبدأ لدى وضعه موضع التطبيق، عندما يجد المرء نفسه - أو يظن - أنه مضطر إلى أن يتنازل للسياسة على حساب كمال المذهب ومتانته.
ونقد الحركة الإصلاحية الجزائرية كله يمكن أن يوجه نحو هذه النقطة.
ولنقل - كي نبقى ضمن موضوعنا -: إننا لم نعمد إلى الحكم على أثر ابن باديس بالمتانة العلمية التي تضع النتائج في أعقاب المقدمات، والمقدمات نفسها في مواجهة قوانين التاريخ، وعلم الاجتماع.(1/11)
على أي حال فإن هذا الأثر نفسه غني في جميع جوانبه، غنى شخصية صاحبه، ويمكن أن يقف القارئ على هذا التنوع الغنيِّ. وهو يقرأ الدِّراسة التي يعرضها عمار الطالبي.
ولقد يكفي في هذه المقدمة أن نركِّز اهتمامنا في جانب من أكثر الجوانب تمييزاً لفكر ابن باديس.
أريد أن أتكلم عن الافتتاحية التي كانت ترد في مطلع كل عدد من مجلة "الشهاب" تحت عنوان "مجالس التذكير".
كان الشيخ يكتب هذه الافتتاحية دائماً: وإنها لأثر العالم الداعية، المصلح الفذ.
ولا يفوتني أن أذكر أنه عندما كان ابن باديس يتغيَّب عن قسنطينة لسبب ما، كانت المجلة تظهر بدون هذه الفاتحة التي تكوِّن حقا أمَّ كل عدد من أعدادها.
ولقد دامت هذه الفاتحة من عدد كانون الثاني 1929م إلى عدد أيلول من سنة 1939م على أبواب الحرب العالمية الثانية.
ولكي نستطيع الحكم على أهميته المذهبية والتعليمية يجب أن نحلل مجلساً من مجالسه. ويجب علينا ألا ننسى بأن الشيخ علاوة على دوره في توجيه الرأي الجزائري العام - كان كذلك المعلم الذي يدرِّس في معهد تكوَّن فيه كلُّ قادة تعليمنا الحر، وحتى شعراؤنا، مثل محمد العيد آل خليفة.
بل إن الشيخ نفسه يقدم هذا التحليل في العناوين الفرعية التي كان ينفحها كل مجلس من مجالسه، فتحت العنوان يقدم الموضوعين الأساسيين: الآية - أو الآيات - والحديث موضوعي المجلس، تليهما بعد ذلك العناوين الفرعية الخاصة بكلا الموضوعين، وهكذا نجد(1/12)
على سبيل المثال - في عدد حزيران 1935م الآية:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).
وهي موضوع التفسير، ويستخلص الشيخ من هذه الآية خمسة عشر عنواناً فرعيّاً كما يلي:
1 - أدب واقتداء.
2 - بيانه لهم، حجته عليهم.
3 - تمثيل.
4 - أدب واقتداء.
5 - نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن.
6 - محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن نور وبيان.
7 - استفادة.
8 - اقتداء.
9 - الهداية ونوعها.
10 - بماذا تكون الهداية.
11 - لمن تكون الهداية.
12 - إلى ماذا تكون الهداية.
13 - الإخراج من حالة الحَيْرة إلى حالة الاطمئنان.
__________
(1) الآيتان 15، 16 من سورة المائدة.(1/13)
14 - الإسلام هو السبيل الجامع العام.
15 - الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم.
وإذا طبقنا تحليلنا الخاص على هذا الموضوع رأينا أن الشيخ قد أمدَّنا من خلال تفسير هذه الآية، بصورة ما، بطيف ذاته: فالذي يتكلم إنما هو الذابُّ عن الدين، والناقد الاجتماعي، والعالم المحقق، والمصلح، والصوفي، كلٌّ بدوره. ولا يفوتني أن أذكر أن غنى هذه الذات ليس محصوراً كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة اللذين بعثا الحياة في فترةٍ ما من تاريخنا الوطني.
وعلى القارئ ألا ينسى أن ابن باديس مثقف يعيش في مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة.
فعندما قام بطبع كتاب "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي (468 - 543 هـ) على نفقته كانت هذه الطبعة - رغم ثغراتها (1) - تأكيداً لشخصية تعمل على الصعيد التاريخي لحضارة ما.
الجزائر 16 ذو الحجة 1385هـ - 8/ 4 /1966م
مالك بن نبي
__________
(1) أشار محب الدين الخطيب إلى هذه الثغرات في مقدمته لمبحث الصحابة الذي اقتطعه من هذا الكتاب (من الجزء الثاني [ص:98 - 193]) وطبعه بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة1375هـ ولكنه لم يشر إلى المخطوط الذي اعتمد عليه وهذا ما جعل الكتاب أبتر.(1/14)
مدخل إلى الحياة العقلية والنهضة الحديثة بالجزائر
-1 -
بوادر النهضة
لا يمكن أن تدرك أبعاد النهضة الحديثة في الجزائر قبل معرفة الأصول النفسية والإجتماعية للنهضة الحديثة في المغرب الإسلامي بعامة، وفي المغرب الأوسط "الجزائر" بخاصة. لقد كانت أبرز الحركات الإصلاحية والثورية، وأكثرها حيوية وأعمقها جذوراً، وأشدها اتصالاً بالفكر الإسلامي، وبمباديء الإسلام والسلفية.
تتسم الحياة الفكرية في المغرب الإسلامي بالتأثر بالأفكار التي تظهر في المشرق الإسلامي عبر التاريخ وهذا دليل على الوحدة الفكرية، والثقافية، واللغوية التي تأصلت جذورها وبقيت حيةً مدى الدهر، بالرغم من عوادي الزمن، وفجائع التاريخ، ومحاولات الفصل، والمحو، وافتعال الفروق.
وما زال الفكر الإسلامي في الجزائر يتطلب الدراسة والتنقيب، ولا شك في أن البحث عنه يكشف عن كنوز يمكن الافتخار بها.
وتعتبر محاولة الأمير عبد القادر (1) الفكرية من أهم المحاولات
__________
(1) ولد في سنة 1222 - 1300هـ (1807 - 1883م).(1/15)
الجزائرية الحديثة في ميدان النهضة، وهذا ما حمل جرجي زيدان على أن يجعله في كتابه "بناة النهضة العربية" من القادة والساسة، بل كان أول شخصية تحدث عنها في كتابه هذا (1). والواقع أن الأمير عبد القادر أول من أثار الضمير الشعبي الجزائري، وبذر بذوراً بقيت تنمو في القلوب، وتمتد جذورها في الأرض الطيبة التي يجدر بالعالم الإسلامي أن يفخر بها، ويسميها بحق "أرض الشهداء" وبجانب ما للأمير من ثورة سياسية فإنه أضاف إليها ثورة فكرية، تتمثل في تلك الأبحاث الدينية والتاريخية والفلسفية والكلامية (2) والصوفية (3) التي قام بها، وحاول أن يفسر قول الإمام الغزالي (505هـ - 1111م) (ليس في الامكان أبدع مما كان) يقول: "إن الآثار الكونية دلت على المعاني الإلهية، والحقائق الربانية، والمعاني الإلهية دلت على وجود ذات الإله المعبود، فما في العالم حقيقة كونية كلية أو جزئية تقابلها هي مستندها وعمدتها، والحقيقة الكونية هي معينها ومظهرها، فالنسخة الكونية مقابلة للنسخة الإلهية، ولا يلزم من تقابل النسختين واستناد إحداهما إلى الأخرى المساواة في الحقيقة والنسبة، ومن علم هذا علم صحة قول حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه" (4).
__________
(1) جرجي زيدان: "بناة النهضة العربية"، دار الهلال، القاهرة (دون تاريخ) [ص:12 - 22].
(2) "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" ألفه في سنة 1271هـ طبع للمرة الأولى بدمشق (وبدون تاريخ) وجاء في 132 صفحة.
(3) كتاب "المواقف" في التصوف نحا فيه منحى ابن عربي يقف عند آيات قرآنية- معينة ويفسرها تفسيراً رمزياً صوفياً فيه نزعة افلاطونية محدثة على غرار المواقف للنفري. أنظر تعليق شكيب أرسلان على حاضر العالم الإسلامي القاهرة 1343هـ، ج1، [ص:73 - 79]
(4) حسن صعب، الوعى العقائدي، دار العلم للملايين، بيروت 1959 [ص:102].(1/16)
وبعد إخفاق الأمير في معاركه ضد المستعمرين وخروجه من الوطن عاد الفكر الجزائري إلى جموده، وتحجر، وتحنطت الأخلاقية الإسلامية، والجهاد، في صورة زوايا وطرق، وأصنام.
ورغم بعد الأمير عن الوطن فإنه كان يقوم بنشاط في سبيل الإصلاح والنهضة بدليل انتسابه إلى الجمعية السرية السياسية التي أسسها جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ / 1839 - 1897م) والتي تسمى بالعروة الوثقى (1) وهو نفس اسم الجريدة المعبرة عن آرائها. يقول رشيد رضا: (وقد كان من أعضائها الأمير عبد القادر الجزائري ومن اختار من انجاله ورجاله) (2). كما أنه انضم إلى الجمعية الماسونية في الاسكندرية سنة 1864م (3)، وكان جمال الدين الأفغاني نفسه عضواً فيها ثم انسحب منها. ودعا الأمير إلى رفض التقليد واستعمال النظر فقال: (والمتبوعون من الناس على قسمين: قسم عالم مسعد لنفسه، ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد، ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم مهلك لنفسه ومهلك لغيره، وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون وترك النظر بعقله، ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصلح أن يقود العميان، وإذا كان تقليد الرجال مذموماً غير مرضي في الاعتقادات، فتقليد الكتب أولى وأحرى بالذم وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وأن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار
__________
(1) صدر العدد الأول منها في 5 جمادى الأولى سنة 1301 - 13 مارس سنة 1884. صدر منها 18 عدداً آخرها صدر في 16 أكتوبر 1884م.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام مطبعة المنار 1350 - 1931 ج 1 ص 283.
(3) جرجى زيدان، بناة النهضة العربية ص 22.(1/17)
واحد منها واتباعه بلا دليل باطل، لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضاً بمثله) (1).
لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي، والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية وعدد المريدين أو الإخوان 295000 مريد. والفقهاء الذين عرفوا بمعارضتهم الصوفية أصبحوا بدورهم "طرقيين" فساد الظلام، وخيم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر، وأصبحوا إذا سئل أحدهم عن حاله أجاب: " نَأْكُلْ الْقُوتْ وَنَسْتَنَّى فِي الْمُوتْ " (2) وهذه الظاهرة الإجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر وشلِّ جميع الطاقات الإجتماعية الأخرى.
رد الفعل:
أَدَّى انتشار البدع والاعتقاد بالخرافات، وطغيان الطرقية إلى ارتكاس- رد فعل- من طرف جماعة من الفقهاء المسلمين، والعلماء السنيين السلفيين الذين آلمتهم الحال الراهنة، وأقلق ضميرهم سوء الحياة الإجتماعية، وكثرة الضلال، والانحراف إلى الجاهلية، وهؤلاء كانوا هم الرواد الأوائل لحركة الإصلاح الديني والأخلاقي، والإجتماعي في أرض الشهداء.
وهذا الداعي- كما ترى- نبع من صميم المجتمع الجزائري عاملاً مناقضاً للحياة العقلية والإجتماعية المجمدة، وهناك دواعٍ سواه وعوامل أخرى اندفعت من خارج المجتمع وهي النهضة في المشرق وعودة الاتصال الفكري والثقافي بينه وبين الغرب عن طريق الصحافة والكتب والمجلات
__________
(1) ذكرى العاقل ص 6 - 7. طبعة قديمة وصفحة 34 - 35 طبعة حديثة.
(2) عبارة عامية معناها: نطعم الطعام وننتظر الموت.(1/18)
والحج الذي تقع فيه مؤتمرات واجتماعات للنظر في أزمة المسلمين (1)، وعن طريق الطلبة الذين يسافرون إلى القرويين والزيتونة ومصر للدراسة ومن أهم العوامل التي أدت إلى وجود حركة أدبية وعلمية إنشاء السيد قدور بن مراد التركي الرودوسي المكتبة الثعالبية سنة 1314هـ - 1896م ثم مطبعته التي طبعت كثيراً من الكتب التاريخية والدينية (2).
من العلماء الذين حاربوا البدع، وحاولوا تحريك المجتمع، وبذروا الحركة الإصلاحية: الشيخ صالح بن مهنا (3) فإن مناجاته للضمير كادت توقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة 1898م فعملت الحكومة الفرنسية على إبعاده، وصادرت مكتبته التي لا تقدر بثمن (4) وله مؤلفات كثيرة. والأستاذ الشيخ عبد القادر المجاوي (5) الذي ألف كثيراً من
__________
(1) وهو ما كان يخشاه الاستعمار الفرنسي فيراقب الحجاج المسلمين مراقبة شديدة.
(2) سعد الدين بن أبي شنب، النهضة العربية في الجزائر في النصف الأول من القرن الرابع عشر للهجرة، مجلة كلية الآداب العدد الأول 1964م ص 41 وما بعدها.
(3) توفي في ربيع الأول 1325هـ وقبره معروف بمقبرة قسنطينة.
(4) مالك بن نبي، شروط النهضة ومشكلات الحضارة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي مطبعة دار الجهاد القاهرة: 1957 ص 22.
(5) ولد سنة 1266هـ أو 1267هـ (1848) م بتلمسان من أب يدعى محمد بن عبد الكريم وهو من الفقهاء والقضاة قرأ المجاوي في كتاب بتلمسان فحفظ القرآن وأتمه بعد ما ارتحل أبوه إلى طنجة وتطاوين ثم فاس وأكمل دراسته بالقرويين أنظر الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف ج 2 ص 449 والتقويم الجزائري لعمر بن دالي لسنة 1329هـ (1911م) ص 105 - 107 وبحث الأستاذ سعد الدين بن شنب المذكور آنفا ص 51، ونهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة للاستاذ محمد علي دبوز دمشق 1965 ج 1 ص 82 - 105 وشروط النهضة للاستاذ مالك بن نبي ص 23(1/19)
صورة الشيخ عبد القادر المجاوي هي التي يشير إليها السهم.
ــــــــــــــــــــــــــ
الكتب المدرسية والتربوية مما يدل على أنه ذو اهتمام بالغ بالتربية وعلى أن الإصلاح في نظره إنما يتم عن طريقها. ألف: "إرشاد المتعلمين" (1) و "المرصاد في مسائل الاقتصاد" (2) وشرح منظومة في إنكار الفساد الاجتماعي (3) وقدم لشرحه بمقدمة ذات أهمية في بيان ضرر البدع، وضرورة النهضة العلمية وقرر أن السبب الرئيسي في النهضة إنما هو العلم وتشتمل المقدمة على مبحث في الحكمة والعلم،
__________
(1) طبع مصر.
(2) طبع بمطبعة فونتانة الشرقية بالجزائر.
(3) منظومة في إنكار البدع ألفها الشيخ المولود بن الموهوب وشرحها المجاوي بشرح أسماه "اللمع على نظم البدع" مطلعها:
صعود الاسفلين به دهينا ... لانا للمعارف ما هدينا
طبع بالجزائر سنة 1330هـ (1912م) به 198 ص قرظها محمود كحول وأحمد بن الشيخ باش عدل محكمة سيدي عقبة.(1/20)
ومبحث في التربية يقول فيه "وما كثر الفساد في أمة إلا بعدم تربية الأولاد فإننا نرى الأولاد مهملين يتعلمون الفساد ... وإننا نرى الأمم الحية إنما حصل لها الرقي بتربية أولادهم وتعليمهم العلوم النافعة، والمعرفة المفيدة، فيجب التبصر لمثل هذا، وفي الغالب أن إهمال الأولاد من الأمهات الجاهلات أو المتعلمات تعلماً ناقصاً" (1) وتحدث الشيخ عن تعليم المرأة وضرورته (2) لأنه أساس التربية، ووضع أصلاً في هذا الشأن يعتبر من الأصول العلمية في مناهج التربية والتعليم وهو مبدأ دراسة الأخلاق وعلم النفس: (لا بد من دراسة علم الأخلاق وعلم النفس) (3) وتعرض لنقد طرق التعليم في ذلك العهد فقال: (التعليم القديم غير نافع في زماننا لنقصانه إذ تعليم القرآن وحده على الكيفية المألوفة عندنا بهذه الأقطار لا يفيد المتعلم ولا أباه، فلا بد من معرفة العلوم النافعة في الدين والدنيا، أما إذا اقتصرنا على أحد العلمين ضاع ما يفتقر لذلك العلم المجهول، ولكن أهل زماننا تركوا العلمين معاً ولا حول ولا قوة إلا بالله نعم إنه يوجد بعض العلماء ولكن صاروا لقلتهم كالعدم) (4). ولنترك للقارىء أن يستنتج الحياة الثقافية في ذلك العهد من هذا النص. ولم يغفل المصلح عن جانب مهم من الحياة الإجتماعية وهو خطبة الجمعة فدعا لإصلاحها (5) وأشار إلى الحضارة الإسلامية وتاريخها واستشهد بأقوال الأجانب (6) مما يدل على اطلاعه على دراساتهم.
__________
(1) اللمع في نظم البدع ص 27.
(2) اللمع في نظم البدع ص 28 - 29.
(3) ص 30.
(4) ص 30.
(5) ص 173.
(6) ص 171.(1/21)
ومن أهم رسائله رسالة في علم الكلام (القواعد الكلامية) (1) فيها مقدمة وعشرة فصول وخاتمة جعلها على حد قوله: نموذجاً كفيلاً (باستفادة القارىء السبيل الذي تتلقى به أصول الدين على الوجه الملائم لروح الوقت، والمساعد لملكات تلامذة هذا الزمن) (2) وهو يرجو بعمله هذا أن ينخرط في "صف السلف" وهذا يبين لنا نزعته السلفية الصافية، وإدراكه روح عصره، ومحاولته تغيير مناهج التأليف تبعاً لمقتضيات نفسية الطلاب من جهة، ولمقتضيات التطور من جهة أخرى، ومن أهم آرائه في نشأة علم الكلام أنه علم قرآني، لأن القرآن ذكر العقائد الأساسية مع أدلتها كالأدلة على وجود الصانع، من خلق السموات والأرض والنفوس وغيرها كما أشار القرآن إلى مذاهب المبطلين، والطبائعيين وإلى الأجوبة عن شبه المبطلين وأول من ألف فيه الإمام مالك ثم توسع فيه أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي (3) ويرى أن العقل والدين متفقان (4) وفي كلامه عن تاريخ علم الكلام (5) ما يشير إلى أنه تأثر بابن خلدون في مقدمته وتعرض لنظرية المعرفة (6) ويرى بطلان القول بالحلول والاتحاد (7) اللذين يقول بهما بعض المتصوفين ومما يبين أن له اطلاعاً على كتب الفلاسفة والمتصوفة أنه يستشهد بأقوالهم، استشهد بقول الفارابي في "فصوص
__________
(1) طبعة فونتانة- الجزائر سنة 1329هـ (1911) بها 157 ص، قرظها الشيخ محمود كحول.
(2) القواعد الكلامية ص 3.
(3) ص 7.
(4) ص 28 - 29.
(5) ص 13 - 19.
(6) ص 19 - 28،22.
(7) ص 33.(1/22)
الحكم": "الذات الأحدية لا سبيل إلى إدراكها" (1) كما أنه استشهد بابن تيمية (3) وهذا له أهمية من حيث النزعة السلفية التي يمثلها محمد بن عبد الوهاب النجدي أول الثائرين المصلحين في العصر الحديث كما يذكر محيي الدين بن العربي (3) ويسميه إمام الصوفية. وقد بين لنا آراء الفلاسفة المختلفة في نظرية المعرفة (4) وتحدث عن مناهج المتكلمين والفلاسفة (5) وعن الحرية أو خلق الأفعال (6) وعن الكسب (7) وما إلى ذلك من المشكلات الميتافيزيقية والكلامية.
وإلى جانب أفكاره النظرية قام عملياً بتطبيق ما يراه من مناهج الإصلاح وطرق التربية فابتدأ التدريس بقسنطينة منذ أن حَلَّ بها سنة 1286هـ (1869م) (8) مدرساً حراً ثم عين مدرساً بجامع سيدي الكتاني بقسنطينة سنة 1290هـ (1873م) (9) وبعد ذلك تولى التدريس بالمدرسة الكتانية سنة 1295هـ (1877م) ثم نقلته الحكومة
__________
(1) ص 34.
(2) ص 34.
(3) ص 37.
(4) ص 78.
(5) ص 83.
(6) ص 86.
(7) ص 90.
(8) أنظر اللمع على نظر البدع ص 4 ويوجد بهذا الكتاب ترجمته وصورته ص 2، 3.
(9) ويروى أن ذلك كان في سنة 1287هـ (1870م) أنظر تعريف الخلف ج 2، ص 449 ونهضة الجزائر ج 1 ص 96 ويقول ابن شنب أنه رجع من فاس في سنة 1292هـ (1876م) ولا ندري من أين أخذ هذا أنظر بحثه ص 51.(1/23)
الفرنسية إلى عاصمة الجزائر في سنة 1898م فدرس في المدرسة الثعالبية (1) التي تم بناؤها سنة 1903 وابتدأت فيها الدراسة سنة 1905 وقد أعجب الناس بطريقته في التدريس وأشربوا حبه لصدق لهجته، وصفاء سريرته، ولوقع تعاليمه في القلوب التي يخاطبها ويربيها واستطاع بذلك أن ينفذ إلى أرواح الطلبة وأن يؤثر فيهم.
توفي بمدينة قسنطينة (2) في شهر ذي القعدة سنة 1332هـ (1913م) ولقد ترك الشيخ عبد القادر المجاوي من يواصل الرسالة الإصلاحية من بعده ممن أخذ عنه وتتلمذ عليه أمثال الشيخ حمدان لونيسي نزيل المدينة المنورة ودفينها وهو أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس المصلح الكبير، والشيخ أحمد لحبيباتي، والشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة المالكي.
ومن غريب المصادفات أنه في السنة نفسها التي توفي فيها عبد القادر المجاوي ابتدأ عبد الحميد بن باديس حركته التعليمية بمدينة قسنطينة، فاتصلت حلقات الإصلاح متطورةً إلى مرحلة القوة والنضج.
كان عبد القادر المجاوي مصلحاً تقليدياً سلفياً، لم يأت بجديد سوى مقاومة البدع، وإشعار المجتمع بساعة الخطر، وقد لاقى في
__________
(1) التقويم الجزائري السنة الأولى (1911م) ص 4 ونهضة الجزائر ج 1 ص 96 وابن شنب كتب أن ذلك كان بتاريخ 1295هـ (1879م) وفي تعريف الخلف أنه كان في سنة 1292هـ (1876م)
(2) كتب سعد الدين بن أبي شنب أنه توفي في سنة 1350هـ (1931م) والواقع أن هذا التاريخ هو تاريخ وفاة ابنه مصطفى كما هو مكتوب على قبره بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي وهو كما يلي:- هذا قبر المرحوم المجاوي مصطفى بن المرحوم العلامة سيدي عبد القادر ابن عبد الله المتوفى يوم السبت 11 جمادى 2 - 1350هـ- 24 أكتوبر (1931م) ودفنت هناك أيضاً ابنة مصطفى المجاوي زليخة المتوفاة في 3 أفريل سنة 1951م وعمرها سبعون عاما أنظر بحث ابن شنب ص 51.(1/24)
سبيل ذلك إهانات من بعض الناس كما لقي مقاومات وصعاباًمن السلطة الاستعمارية التي طفقت تنقله من مكان إلى آخر، حتى قيل أنه مات مسموما (1).
وإلى القارىء الكريم صورة من خطه يرد فيها على من أهانه وهو في غاية الغيظ والألم (2). ويكفي أنه بث روح الإصلاح، وبذر بذرة النقد الاجتماعي. ومما اشتهر به: الدقة العلمية في الإسناد، والشغف بالعربية وبأصولها، وقوانينها النحوية، يدل هذا على ما قاله فيه الأستاذ المجاهد سليمان الباروني باشا (1359هـ - 1940م) حين التقيا في قسنطينة:
سيبويه العصر من هذبه ... أدب العلم فأروى من وَرَدْ
ذاك عبد القادر الطود الذي ... لا يقول القول إلا بسند (3)
وتدلنا الوثيقة التي عثرنا عليها أنه كان يبغض إليهود، ويقاوم العنصر الصهيوني وقد شعر بخطره على المسلمين.
ومن الدوافع التي أدت إلى الإصلاح كذلك وساعدت عليه- إلى جانب المجلات والجرائد والكتب التي كانت تصل إلى الجزائر- زيارة الأستاذ محمد عبده (1905) إلى تونس والجزائر سنة 1321هـ (1903) في الصيف وقد مهد لتأثير هذه الزيارة، مجلة المنار، ومن
__________
(1) في رواية الشيخ المرحوم إبراهيم أطفيش وهو من تلامذته كما أنه صديق الشيخ محمد أطفيش. أنظر نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة للشيخ محمد علي دبوز ج 1 ص 105.
(2) عثرت على ذلك في ورقة من أوائل رسالة الأمير عبد القادر "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" في مخطوط استعرته من الفاضل الشيخ علي بن طبال الإمام بمسجد بو رواقية.
(3) المصدر السابق ص 95.(1/25)
قبلها العروة الوثقى، فكان الطلبة والشيوخ يطالعون هذه الصحف ويتداولونها. ففي الجنوب الجزائري عرف الشيخ إبراهيم مكي بقيمة كتب ابن تيمية، وكانت أعداد العروة الوثقى تصل الشيخ علي بن
...
صورة من خط الشيخ عبد القادر المجاوي
...(1/26)
ناجي الزاهري، والسيد علي بن العابد السنوسي الزاهري يتداولها الطلبة- في عهد صدورها بباريس من منطقة بسكرة على الزاب الغربي (طولقة) إلى الزاب الشرقي (الخنقة واليانة). والشيخ المولود الزريبي (1). العالم الأزهري كان من رواد الإصلاح في منطقة أوراس وقد التجأ إلى حيلة طريفة، حين دوَّن آراءه الإصلاحية في شرحه على عقائد "المرشد المعين" المشهور عند العامة والخاصة ولما له من تأثير ودراسة الناس له لتتسرب أفكاره إليهم عن طريقه وكان له زميل أزهري جزائري هو الشيخ عسول العبيدي يعارضه في فكرته الإصلاحية مما أدى إلى وقوع مناظرات بينهما أمام الشيخ علي بن فاجي وجماعة من طلبة "اليانة" وكان موضوعها "محدثات الأمور في الدين" ولما جاء الشيخ الطيب العقبي إلى الجزائر وقعت بينه وبين المولود الزريبي خصومات وشرح وجهة نظره في الجريدة التي كان يحررها "جريدة الصديق" بينما لم يجد العقبي مجالاً ينازل فيه خصمه (2).
إن زيارة الأستاذ الإمام محمد عبده أكدت الاتصال الفكري السابق لها وزادته رسوخاً وسيأتي الكلام عليها بالتفصيل.
__________
(1) هو المولود بن محمد بن عمر الزريبي نسبة إلى زريبة الوادي وهي قرية تبعد عن بسكرة 82 ميلا. بعد حفظه القرآن ودراسته على الشيخ حامد العبيدي سافر إلى مصر ودرس على الشيخ محمد بخيت ثم رجع إلى الجزائر وعلم في مسقط رأسه. ثم انتقل إلى أوراس ثم إلى العاصمة حيث تولى تحرير جريدة "الصديق" التي يديرها محمد بن بكير الميزابي، تولى التدريس في الجامع الأعظم بالعاصمة ثم التحق ببو فاريك حيث توفي سنة 1925 وله من المؤلفات: كتاب الأخلاق لم يتمه، وشرح على المرشد المعين، وشرح على قدسية الأخضري، وشرح على كتاب البيوع من مختصر خليل. أنظر شعراء الجزائر في العصر الحاضر لمؤلفه الهادي السنوسي الزاهري مطبعة النهضة تونس 1346هـ 1927م ج 2 ص 99 - 104.
(2) حدثني بهذا الأستاذ الهادي السنوسي.(1/27)
ولا يمكن بهذا الصدد ان ننسى الحركة الصوفية الإصلاحية الثورية وهي حركة محمد بن علي السنوسي (1843) التي اعتقد صاحبها أن الدعوة الأخلاقية والتجديد الروحي هما الأساس للتحرر من السلطة الأجنبية (1) فلقد تركت أثراً بعيد المدى في المغرب الإسلامي، وهي حركة متصلة بالثورة الوهابية (3) وبتعاليمها رغم أن مؤسسها صوفي، ولكنه ليس كالصوفية الآخرين الذين وجدوا في عصره.
ومن الشيوخ الذين كوَّنوا هذه المدرسة الرائدة في الإصلاح الأستاذ عبد الحليم بن سماية (3) حفظ القرآن ومختلف المتون معتمداً على نفسه وبمساعدة والده وتتلمذ على شيوخ كبار أمثال الشيخ بن عيسى الجزائري، والمكي بن عزوز وأبي القاسم الحفناوي والسعيد بن زكري، وعلم في المدرسة الكائنة بشارع السفراء، بباب الوادي في سنة 1896م مع الشيخ عبد القادر المجاوي وهي مدرسة خاصة بتعليم اللغة العربية (4).
كما أنه علَّم جيلاً من الطلاب في المدرسة الثعالبية حفظوا العربية
__________
(1) لثروب ستودارد حاضر العالم الإسلامي ج 2 ص 105.
(2) أخذ محمد بن علي السنوسي عن الشيوخ الوهابيين حينما حج بيت الله الحرام وهناك في مكة وضع خطة الإصلاح. المرجع السابق 105
(3) هو عبد الحليم بن علي بن سماية ولد بالجزائر سنة 1242هـ (1866م) هاجر أبوه مع جده لأمه الشيخ الكبابطي إلى مصر في عهد محمد علي وهناك تكون وأصبح ذا ثقافة واسعة ثم عاد إلى الجزائر مدرساً في الجامع الجديد بالعاصمة. أنظر نهضة الجزائر الحديثة ج 1 ص 118
حفظ عبد الحليم القرآن على الشيخ حسين أبي شاشية وأخذ العربية والفقه والتوحيد عن والده، والمنطق والبلاغة عن الشيخ طاهر تيطوس، والحساب والفرائض عن صهره علي بن حمودة، أنطر مجلة التلميذ العدد 3 - 4 سنة 1351هـ (1933م) ص 10 - 13
(4) المصدر السابق ص 108 وبحث ابن أبي شنب (سعد الدين) المشار إليه سابقا ص 46 ومجلة التلميذ العدد 3 سنة 1933م.(1/28)
- صورة -
الشيخ عبد الحليم بن سماية المتوفى سنة 1351هـ
ــــــــــــــــــــــــــ
في العاصمة الجزائرية فترة من الزمن وتمسكوا بعقائد الإسلام، وكان متصلاً بالحركة السلفية الإصلاحية في العالم الإسلامي، مراقباً الأحداث في الصحف العربية والفرنسية، كان يعتمد الكتب الأصيلة في الدين والعربية في تدريسه، يقريء رسالة التوحيد لمحمد عبده، وهو أول من درس كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز (1) لعبد القاهر الجرجاني،
__________
(1) طبع الأول سنة 1320هـ والثاني في 1321هـ وحققه الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد محمود التركزي "الشنقيطي".(1/29)
وهذان الكتابان اهتم بهما محمد عبده، لأنهما يمثلان الدراسات الأدبية النقدية التي من شأنها تربية الملكات، وتكوين الأذواق لطلاب الفصحى، في الأزهر وغيره. ولا شك أن الشيخ عبد الحليم الذي درس الموسيقى، وتعلم الضرب على العود، ووعت ذاكرته حظاً وافراً من التوشيحات الجزائرية، لا يفوته أن يختار لطلابه كتب الأدب الرفيع، وأصول النقد العربي وأن يبعد عنهم البلاغة المنطقية الباردة، التي يمثلها السكاكي
.....
- صورة -
يرى الشيخ عبد الحليم بن سماية مع الشيخ محمد عبده حين زيارته للجزائر وما ذكره أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح" من أن هذه الصورة مأخوذة من تونس غير صحيح
.....(1/30)
وأضرابه، ممن أفسدوا البلاغة العربية والأساليب الأدبية فذهب ماؤها، وفقدت جمالها وروعتها.
كان يدرِّس في القسم الرابع من المدرسة الثعالبية ألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل أو شرح الأشموني، والعقد الفريد أو نهج البلاغة وديوان الحماسة، وفي القسم الخامس المفصل للزمخشري، وشيئاً من السلّم في المنطق، وأحيانا يدرس التلخيص وقد يستعيض عنه بدلائل الإعجاز أو أسرار البلاغة، كما يستعيض عن "السلّم" بكتاب التهذيب أو البصائر النصيرية، وهما كتابان درَّسهما محمد عبده في الأزهر وعلّق على الثاني منهما ولما أسند إليه تدريس التفسير والتوحيد، كان يدرس كتاب "الإقتصاد في الاعتقاد" للإمام الغزالي و "رسالة التوحيد" لمحمد عبده وكان طلاب الفلسفة أو طلاب المدرسة الثعالبية الذين يحضرون دروسا في الفلسفة بكلية الآداب في جامعة الجزائر، يعرضون عليه بعض الشُبَه بوحي من بعض مدرِّسي الفلسفة، فكان يرد عليها ويدحضها، وهذا ما أدى به إلى تأليف رسالة مهمة في التوحيد والردّ على شبه المبطلين والملحدين (1) - وتوفي الشيخ عبد الحليم في 7 رمضان (1351هـ 4 جانفي 1933م) (2) وكان قد مرض مرضاً عقلياً لشدة
__________
(1) كتب أحد تلاميذه من غير أن يذكر اسمه في مجلة التلميذ العدد 3، 4 السنة الثانية من شهر رمضان- شوال 1351هـ جانفي- فيفري 1933 ص 10 - 13 مقالا أخذت منه هذه المعلومات والجدير بالذكر أنه ذكر في المقال أن للشيخ ابن سماية رسائل جليلة كما وعد بنشر رسالة التوحيد وهذه المجلة مجلة شهرية انتقادية أخلاقية لسان حال الطلبة المسلمين بالجزائر. إدارتها كانت بنادي الترقي كما كتب أحد تلامذته أبو العباس التجاني مقالاً في هذا العدد بعث به من المغرب يرثي به شيخه الراحل.
(2) كتب على قبره الموجود بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي العبارة التالية: (ضريح المرحوم العلامة سيدي عبد الحليم بن سيدي
>>>(1/31)
ويلات الاستعمار واضطهاده إياه، كما كانت له نوادر يتناقلها الناس إلى اليوم.
والواقع أنه ألف بعض الكتب منها كتاب "فلسفة الإسلام" وقد قرأ الفصل الأول منه في مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر الذي انعقد في الجزائر 1905 وحضره عبد العزيز جاويش ومحمد بن أبي شنب والمستشرق الألماني كارل فولرس (1) وله عدة مقالات كتبها في الصحافة العربية الجزائرية خصوصاً جريدة كوكب إفريقيا للشيخ محمود كحول (1936). ولما زار ملك المغرب عبد العزيز الجزائر سنة 1319هـ استدعى الشيخ عبد الحليم بن سماية للغذاء مع الوفد وهو حين ذلك مدرس بالجامع الجديد، وأستاذ بالمدرسة الثعالبية فاعتذر وكتب أبياتاً من الشعر بعث بها للسلطان منها:
أمولاي شمس الفضل والعلم والنهى ... واجدر من يجري اللبيب ثناءه
سلام عليكم عاطر متضرع ... كمسك ذكا بل لايكون بواءه
وأفضل تكريم وأزكى تحية ... يقيمان للقدر العظيم وفاءه
ويرأب كل منهما نأي عبدكم ... بغيبته عما إليه دعاءه
علمت بأن المشي عن جفني واجب ... إليكم ولكن لي اعتذار وراءه (2)
وأغلب الظن أنه لم يرد أن ينضم للسلطة الفرنسية التي كانت تمثل الجزائر وأن يحضر معهم في موقف رسمي.
__________
<<<
علي بن اسماعيل المتوفي في 7 رمضان 1351هـ الموافق 4 جانفي سنة 1933 م) وقد أرَّخ الأستاذ محمد علي دبوز وفاته سنة 1931 أنظر نهضة الجزائرج 1 ص 126.
(1) أنظر ابن شنب ص 44 - 45.
(2) وهي 24 بيتا مثبتة في رسالة "عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر" التي طبعت سنة 1319هـ (1902م) بمطبعة فونتان الجزائر وبها 16 ص.(1/32)
كما نظَّم قصيدة بمناسبة زيارة محمد عبده للجزائر (1321هـ) 1903م منها:
وتلوي إلى تلك المجالس (1) فكرتي ... فتترك قلبي بالخيال ممتعا
محافل كان العلم فيها مجالسي ... أسامر بدراً بالجلال تقنعا
فأسمع فصلا من حكيم وحكمة ... إذا ما بدت خرت ذرى الزور ركَّعا
...
لسان متى يوماً تألق برقه ... يسبِّح رعد السامعين لما دعا
...
أتى بكتاب في الكلام (2) بيانه ... يغادر من صم الجنادل خشَّعا
براهينه في النفس والكون والحجى ... وليست لرسطاليس أو من تصنَّعا
يقودك للبرهان غير مقيد ... يريك حدود العقل مهما تطلعا (3)
ومجلة المنار (4) تعتبر عند ابن سماية ومحمد بن مصطفى بن الخوجة
__________
(1) مجالس محمد عبده أثناء إقامته في الجزائر.
(2) يقصد رسالة التوحيد لمحمد عبده وهى رسالة أُعجب بها الشيخ عبد الحليم فكان يدرسها في المدرسة الثعالبية وهو هنا يبين مزايا هذه الرسالة التي يأخذ المؤلف براهينها من النفس والكون والعقل غير مقيد بآراء اليونان (ارسطو) بل كان حراً في عقله وبرهنته.
(3) نهضة الجزائر المباركة ج 1 ص 125 نقلا عن المنار مج 6 ص 917.
(4) صدر العدد الأول من المنار كصحيفة أسبوعية ذات ثماني صفحات في 22 شوال سنة 1315هـ/17 مارس 1898 وآخر ما طبع منها ج 2 من م 35 في 29 ربيع الثانى 1354هـ/1935 وغرضها نشر الإصلاحات الإجتماعية والدينية والاقتصادية وإقامة الحجة على أن الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافى مع العصر الحالي ويعتبر المنار خلفاً للعروة الوثقى أنظر كتاب عدد 33 من سلسلة أعلام العرب ص 135 وهو كتاب للدكتور إبراهيم أحمد العدوي طبع سنة 1964م بالقاهرة.(1/33)
" مَدَد الحياة " وكان بينه وبين الشيخ محمد عبده مراسلات يقول رشيد رضا (1): (ومن خيار العلماء الشيخ محمد بن الخوجة صاحب المصنفات والشيخ عبد الحليم بن سماية وقد عهد هؤلاء الفضلاء إلى الشيخ محمد عبده أن يوصي صاحب المنار بأن لا يذكر في مجلته دولة فرنسا بما يسوؤها لئلا تمنع المنار من الجزائر وقالوا له: ((إننا نعده مَدَد الحياة لنا فإذا انقطع انقطعت الحياة عنا)) (2).
وأما محمد بن مصطفى بن الخوجة (3) فهو أكثر الأساتذة حرصاً على مطالعة كل ما يرد من المشرق من الكتب والجرائد والمجلات (4) وخاصة كتب محمد عبده ورسائله أخذ عليه محمد عبده لبَّه واستولى مذهبه في الإصلاح على نفسه، يطالع العروة الوثقى والمنار وغيرهما، كما يقرأ للشيخ رشيد رضا مقالاته في المجالس ويشرحها. ولما وصله تفسير سورة (والعصر) درسه عشر مرات وشرحه لمن يتتبعون حركات الإصلاح في الجزائر من العلماء والطلبة والأعيان فاستحسنها هؤلاء وأثنوا عليها وكتب بهذا إلى الشيخ محمد عبده يخبره به (5)، ولما عزل
__________
(1) ولد رشيد رضا في قرية القلمون بطرابلس الشام 27 جمادى الأولى سنة 1282هـ/1865م وتوفي في 22 أغسطس سنة 1935م.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 871.
(3) ولد بعاصمة الجزائر في سنة 1281هـ 1865م وتوفي في 7 شوال 1333هـ سبتمبر 1917 كتب في جريدة "المبشر" من سنة 1304 إلى 1319هـ (1886 إلى 1901) درس في مسجد سفير ابتداء من سنة 1312هـ 1895م كما اشتغل وكيلاً لمقام سيدي عبد الرحمن الثعالبى سنة 1332هـ (1919) أنظر بحث سعد الدين بن أبي شنب المذكور سابقاً ص 52 وكتاب صفحات في تاريخ مدينة الجزائر تأليف نور الدين عبد القادر قسنطينة 1965 ص 174.
(4) المصدر السابق.
(5) المنار مج 6 ص 917.(1/34)
من عمله لصلته بمحمد عبده وبمحمد فريد أخذ يلقي الدروس في جامع حي بلكور، قال المرحوم عمر راسم: "الشيخ محمد بن مصطفى شاعر الجزائر في وقته وأفصح علمائها وأعلمهم بتراجم علماء الجزائر كثير الاطلاع وَلُوعٌ بالكتب العصرية شَغُوفٌ بمحبة الشيخ عبده وهو الذي أدخل مذهبه إلى الجزائر وعرف الناس به وبجمال الدين الأفغاني وأصحابهما يعرف الشرق كأنه عاشره مائة سنة، حُلْوُ الكلام، كان إذا خطب يستدل بالآيات والأحاديث كأن القرآن وكتب الآثار مرآة أمام عينيه" (1) إنه شاعر وكاتب وصاحب تجديد ولقد خسر الأدب الجزائري أثراً فنياً رائعاً من آثاره، وهو ديوانه الذي فقد مع مقدمة له، كما أن له رسالة في تراجم علماء جزائريين (2). اهتم بالحياة الإجتماعية والأخلاقية وبوضع المرأة المسلمة الجزائرية فكتب كتاب "الإكتراث في حقوق الإناث" (3) وكتاب "اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب" (4) وكتاب "إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام" (5)، كما حقق ونشر تفسير عبد الرحمن الثعالبي من أهل القرن التاسع المسمى بالجواهر الحسان مقابلاً له على سبع نسخ (6) وله رسائل أخرى مفيدة في مختلف الموضوعات الإجتماعية والصحية. وأهم ما يسترعي الإنتباه أنه عمل على نشر
__________
(1) محمد علي دبوز المصدر السابق ص 132 نقلاً عن مخطوط، في تراجم علماء الجزائر للشيخ عمر راسم موجود عند الشيخ النعيمى بقسنطينة.
(2) المصدر السابق ص 132.
(3) طبعة سنة 1313هـ/1895
(4) طبع سنة 1325هـ/1907 في الجزائر بمطبعة فونتانا.
(5) طبع سنة 1319هـ/1902 بمطبعة فونتانا بالجزائر
(6) أنظر ابن ابي شنب في بحثه المذكور ص 42.(1/35)
مخطوط نادر يدعو فيه صاحبه إلى الاجتهاد وهو كتاب: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" للشيخ السيوطي. وهذا ينم عن نزعته الاجتهادية ومعارضته التقليد الأعمى. ومما يؤكد هذا الاتجاه لديه أنه كتب لكتاب "مجموع مشتمل على قوانين مفيدة وتنظيمات سديدة " (1) مقدمة في الشريعة وملاءمتها لكل زمان ومكان ومن جملة الآراء التي يؤيدها ما أورده من قوله: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأيام" (2) ويدعو في هذه المقدمة المهمة إلى الاستفادة من تجارب الآخرين ولو لم يكونوا مسلمين (3). ويضرب لذلك أمثلة تاريخية مستمدة من تفاعل الحضارات فذكر الغزالي الذي أخذ المنطق اليوناني وأدخله في تيار الفكر الإسلامي (4) ونصح في هذه المقدمة بالرجوع إلى كتاب "أقوم المسالك" لخير الدين التونسي المتوفى في سنة 1307هـ وكتاب "السياسة الشرعية" لجمال الدين قاضي مصر، وكتاب "نهاية الايجاز" للشيخ رفاعة، وكتاب "علم الدين" للشيخ علي باشا مبارك.
ولما اطلع ملك المغرب عبد العزيز حين جاء على رأس الوفد المرافق له- في زيارةٍ للجزائر (5) - على كتب محمد بن مصطفى بن الخوجة
__________
(1) كتبه لجلالة عبد العزيز ملك المغرب مترجماً له عن التراتيب الإدارية والعسكرية الفرنسية بطلب منه.
(2) ص 8 ينسب هذا القول لغيره. وقد وردت هذه الجملة في مقدمة مجلة الأحكام العدلية كأصل من الأصول العامة وقاعدة من القواعد الكلية.
(3) ص 9.
(4) ص 10.
(5) كانت زيارة عبد العزيز العلوي الحسني سلطان مراكش يوم الثلاثاء22 شعبان 1319هـ في باخرة حربية فرنسية قدمت من طنجة
>>>(1/36)
أهدى إليه ساعة ذهبية فكتب رسالة: "عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر" (1).
وحين قضى الإمام محمد عبده رثاه ابن الخوجة بقصيدة رائعة تعتبر نموذجاً جيداً لشعره جاء فيها:
مصاب جسيم عمَّ كلَّ العشائر ... وأسلمنا قهراً لحكم المقادر
رمينا بخطب لا يقاس بغيره ... فجئنا برزء ما له من مناظر
وأكبادنا ذابت أسى وكآبة ... وأعيننا مثل العيون الهوامر
على موت مفتي المسلمين وفخرهم ... ومن كان للإسلام نور البصائر
بكت مصر والدنيا جميعاً لفقده ... وأبناؤها من كل بادٍ وحاضر
وأبدى جميع الناس حزناً وحسرة ... وأجروا دموعاً كالغيوث المواطر
...
مميزات تآليفه:
تآليفه تنسيك ما حيك قبلها ... وتغنيك عن جلِّ الطروس الكبائر
أفادت من التحقيق كل يتيمة ... تقاصر عنها كابر إثر كابر
وحلت بتدقيق عويصاً ومشكلاً ... بحيث غدا كالبدر يبدو لناظر
عليك بها إن رمت تجني هدايةً ... وتصبح أستاذ العلوم الغزائر
__________
<<<
إلى مرسى الجزائر يتكون هذا الوفد من القباصي وابنه محمد والشيخ محمد بن عبد الواحد والسيد محمد الهواري والزبير اسكرج وأحمد الجبلي وعبد القادر بن غبريط مترجم السفارة الفرنسية بالمغرب وبهذه المناسبة خطب الشيخ عبد القادر المجاوي مساء الثلاثاء29 شعبان سنة 1319هـ وأقرأ أحد التلاميذ الجزائريين درساً في القرآن وهو عبد العزيز الزناقي وحضر الوفد ختم محمد السعيد الزواوي لصغرى السنوسي بجامع سيدي رمضان.
(1) بتاريخ 18 رمضان 1319هـ ونشرها في 17 شوال سنة 1319هـ قرظها عبد القادر المجاوي وحمو بن احمد الدراجي قاضي الحنفية بالجزائر.(1/37)
كتابته:
وانشاؤه قد زاد حسنا وبهجة ... على الدر بل زهر الدراري السوافر
إذا خط أعيا الكاتبين وكم أتى ... بسحر بيان في معان زواهر
"فعروته الوثقى" تريك بلاغة ... يدين لها قس وعبد لقاهر
آهاته عليه:
فواها على شمس المعارف والتقى ... وواها على التذكير فوق المنابر
وواها على التدريس في كل مذهب ... وواها على الأقلام بعد المحابر
وواها على التوحيد والفقه واللغى ... وواها على التفسير أصل العناصر
وواها وواها ألف ألفٍ ولن أفي ... ولو أنني نمَّقت كل الدفاتر
وأنى لنا الصبر الجميل وقد هوى ... منار الهدى واندك طود المفاخر
ورضى الأماني والمكارم قد زوى ... وقد كان للعافين إحدى الذخائر
وغيض عباب العلم والجود في الثرى ... كذا فليكن غيض البحور الزواخر
أعماله:
فمن لكتاب الله يكشف سره ... ويشرحه وفق الفنون الحواضر
فقدنا إماماً كان حجة عصره ... وقدوة أرباب النهى والمظاهر
حكيما سما فوق السماك بهمة ... هماماً جليل القدر حر الضمائر
فيأمر بالمشروع في كل محفل ... وينهى عن المحظور طبق الأوامر
ويصدع بالقول الصحيحِ نصيحة ... ولا يرهبنَّ في الحق أقسى الجبابر
وكم ذب عن دين النبي محمد، ... ودافع عنه بالردود البواتر
فضائله سارت إلى كل وجهة ... وأخلاقه مثل الرياض النواظر
وما دأبه إلا اتخاذ صنيعة ... وكسب معال وابتناء مآثر
وانفاق مال في سبيل مبرة ... واسداء معروف لبرِّ وفاجر
وإرشاد ضلِّيل وإصلاح فاسد ... وابداء مستورٍ وإحياء داثر
وتقويم منآد وتوضيح منهجٍ ... موارده مأمونة كالمصادر(1/38)
مناقب لم يبلغ مداهن ناثر ... فصيح ولم يستوفها نظم شاعر
عليه سلام الله ما عبرة همت، ... وما فاه بالتأبين عبد جزائري (1)
..... الخ.
إن هذه المرثية تعبر عن معرفة صاحبها بمحمد عبده وخبرته به خبرة مَن لازَمه، ودرس آثاره وكتبه، وتتبع نشاطه، تتبع المعجب بمن أعجب في خصائص فن الكتابة، ومعالجة القضايا العقلية والشرعية وحل المشكلات وطريقة التدريس والتفسيير وفقاً للحياة العلمية والثقافية المعاصرة:
فمن لكتاب الله يكشف سره ... ويشرحه وفق الفنون الحواضر
كما أن هذه القصيدة تدل على أن الشاعر درس العروة الوثقى:
فعروته الوثقى تريك بلاغة ... يدين لها قس وعبد لقاهر
وعلى أنه اطلع على رسالة التوحيد وعلى ما كتبه محمد عبده في اللغة والفقه والتفسير:
وواهاً على التوحيد والفقه واللغى ... وواهاً على التفسير أصل العناصر
وقرأ أيضاً رده على هانوتو وزير الخارجية الفرنسية الذي طعن في الإسلام:
وكم ذب عن دين النبي محمد ... ودافع عنه بالردود البواتر.
والحقيقة أن هذه القصيدة أكبر برهان على أن محمد عبده له مدرسة في الجزائر وعلى رأسها محمد بن مصطفى بن الخوجة وهذا عنصر من أهم العناصر في النهضة الإسلامية الحديثة في الجزائر.
__________
(1) رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام ط 2 (دار المنار) القاهرة 1367هـ ج 3 ص 349 - 351 تحت عنوان: مرثية الجزائر: من نظم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة المدرس بجامع سفير بمدينة الجزائر وصاحب التصانيف المشهورة.(1/39)
ومن أعضاء هذه المدرسة الشيخ محمد بن القائد علي الذي كان إماماً بالجامع الجديد وقصيدته التي بكى بها محمد عبده تشير إلى أنه اطلع على تفسيره وعلى كتابه في التوحيد وعبر فيها أيضاً عن تأثير زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر في نفسه وإخوانه الذين كانوا معه.
يقول:
غاض بحر العلوم أين العزاء ... وعيون الأنام سحب دماء
فبكى المسلمون حزناً عليه ... وبكى الدين والتقى والحياء
...
عبده الفيلسوف أحيا قلوباً ... ميتات أماتها العلماء
حجة الله والرسول بعصر ... جاء يهدي أقوامه فأساؤوا
فسَّر الذكر الحكيم بفهم ... عجزت عن أدائه البلغاء
وكتاب التوحيد فهو لدينا ... مغنطيس القلوب بل كهرباء
...
ومنها:
عبده كنت بالجميل تربي ... صبية العلم والعلوم غذاء
عبده كانت المحافل تزهو ... والنوادي وأنت فيها سماء
عبده أين من يروم صلاحاً ... لأناس غووا وعزَّ الدواء
قال مشيراً إلى زيارة محمد عبده للجزائر:
قد سعدنا بزورة منه جاءت ... بسعود يفر منها الشقاء
كم سهرنا ومنه نلنا علوماً ... ما سمعنا بها ولا الآباء (1)
فمحمد عبده عنده فيلسوف، محي القلوب الميتة، وحجة العصر،
__________
(1) المصدر السابق ج 3 ص 304 تحت عنوان: وقال معدن الإخلاص والفضل الأستاذ الشيخ محمد ابن القائد علي الإمام بالجامع الجديد في مدينة الجزائر.(1/40)
ومفسر القرآن بما يعجز عنه البلغاء، ومربي الشبان، وزينة المحافل، وسماء النوادي، وكتابه التوحيد مغنطيس القلوب وكهرباؤها وأنه سهر معه الليالي ونال منه علوماً ما كان يسمع بها وهذا أكبر برهان على مدى تأثير محمد عبده في الحياة العلمية والعقلية بالجزائر والغريب أن إمام مسجد يعبر عن محمد عبده بأنه فيلسوف كما وصفه محمد بن مصطفى ابن الخوجة بالحكيم. وهذا الوصف كان يعتبر- عند الفقهاء مرادفاً للالحاد والكفر. والظاهرة التي تلفت النظر أن الشاعر الجزائري ينسب موت القلوب للعلماء باعتبارهم مسؤولين عن خمودها وموتها وبذلك أشار إلى محور مذهب محمد عبده في الإصلاح وهو "النفس". ورثاه أحد الجزائريين نثراً ولكنه لم يصرح باسمه وإنما رمز له بـ (ع. ز) وصفه بأنه فيلسوف الإسلام ومما جاء فيها: "وها نحن حامدون الله حمداً لا غاية لحدِّه، ولا حصر لعدِّه على أن منَّ الله علينا برؤية حضرته الغراء وطلعته الزهراء في السنة الماضية في أيام الراحة في فصل الصيف ومكث عندنا عشرة أيام وحاضرناه وشافهناه وظللنا معه في تلك الأيام كل يوم، وسامرناه ومسارح الأشباح نابغة بالفرح والسرور، ومخاوف القلوب يانعة بالابتهاج والحبور، ونلنا منه في تلك الأيام القلائل ما شاء الله أن ننال، وخاطبنا بخطاب أشهى من طعم الضَرَب بأفصح كلام العرب، ترى الدر يقطر من عذوبة لسانه فيبريء الإنسان من أحزانه، وكشف لنا عن دقائق المسائل والناس من حوله بين مصغ وسائل" (1) وتعرض لأثر موت محمد عبده في الجزائر فوصفه قائلاً: "حتى كاد يقع لبعض الجزائريين ما وقع لسيدنا عمر بن الخطاب في موت خير الأنام حيث قال للناس: " مَن قال منكم مات محمد أضرب عنقه" (2).
__________
(1) تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 297 - 298.
(2) ن. م. ص 298.(1/41)
وذكر أن بعض العلماء الجزائريين ينكر موته لغاية إرسال التعزية وفي آخر الرسالة اقترح: "أن تنشر محرراته وجميع ما فَاهَ به في حياته لتتم فائدة الجميع" (1) ولم يكن تأثير محمد عبده مقتصراً على الجزائر من بين أقطار المغرب الإسلامي بل ربما كان تأثيره على تونس أكثر، ويعتبر الشيخ محمد النخلي القيرواني رائد النهضة الثقافية وأحد مدرسي جامع الزيتونة الناقذ الذكي المتوفى في رجب من سنة 1342هـ والشيخ الطاهر بن عاشور من أبرز ممثلي آرائه في الإصلاح. ولما توفي محمد عبده رثته صحافة تونس ومن بينها جريدة "الحاضرة" (2) للسيد علي بوشوشة كتب فيها محمد بن الخوجة المتوفى 1325هـ مقالاً يرثيه وما ورد في هذا المقال يدل على وجود صلات شخصية بينه وبين أتباعه في تونس قال: "كنا على وجل الإشفاق من أخبار صحته التي أخذت في الانحطاط من أربعة أشهر فارطة واضطرته للاتتقال من القاهرة للإسكندرية بنية السفر لتغيير الهواء خارج القطر المصري فكنا نستطلع أحواله آناً فآناً ونجدد معه عهود المودة الوثيقة ونستمد من أنوار علومه على بعد الدار فكان الرشيد المرشد لمن قرب أو نأى، وآخر العهد به ورود مكتوب منه على أحد أصحابنا ممن لهم معه علقة علمية ورابطة وداد" (3) ويقول صاحب المقال: "ولدينا في الحوادث العرابية رسالة من إنشائه كنا أخذناها منه عند زيارته الأولى لتونس" (4) ومحمد عبده زار تونس وألقى بها محاضرة في التربية والتعليم كان لها
__________
(1) ن. م. ن. ص.
(2) تأسست تحت إشراف سالم بو حاجب في ذي القعده سنة 1305 - 1888م وهي أول جريدة عربية غير رسمية بتونس أنظر كتاب أركان النهضة الأدبية بتونس للأستاذ الفاضل بن عاشور ص 036
(3) رشيد رضا تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 120.
(4) ن. م.(1/42)
أثرها البالغ. ورثته صحيفة أخرى تونسية تدعى "الصواب" يصدرها السيد محمد الجعايبي (1) وكتب أحد أساطين الزيتونة الشيخ الأكبر الأستاذ الطاهر بن عاشور تعزية إلى الشيخ رشيد رضا (2) يقول فيها: "عرفت الأستاذ الإمام معرفة شهود بتونس في سنة 1321هـ فعرفت من ملاقاته الأولى رجل العزم والإرادة والفكر وبلاغة القول وشدة الفراسة وتكافئى القوى العملية والفكرية حتى لقد كان من سكون نفسي إليه والفتها به واعتلاق صداقته في أمدٍ وجيز ما يكون مثله في السنين الطوال فصارت ذكراه تفعل في نفسي فعل ذكرى والد رحيم ... يقابلني تمثال الأستاذ في منزلي مرات وأذكر كلماته وتفسيره مهما قرأت سورة في صلاتي" (3) واقترح فيها على الأستاذ رشيد رضا أن يجمع آثار محمد عبده ويطبع جميع تآليفه ورسائله الأدبية والعمرانية، كما سأله عن وجود أعداد جريدة العروة الوثقى في مصر لأنه لا يملك إلاَّ عدداً واحداً منها ويود جمع بقية الأعداد. وطلب منه أن يخبره هل كتب الشيخ محمد عبده شيئاً عن رحلته إلى الجزائر وتونس والآستانة وغيرها من البلاد (4). وأرسل الشيخ محمد شاكر من صفاقس إلى الشيخ رشيد رضا رسالة تعزية أخرى وصف فيها محمد عبده بالحكيم، والمصلح وأنه هو الذي "زحف بجيش اقدامه على البدع والأوهام" (5).
والواقع أن الأستاذ الإمام زار تونس مرتين الأولى كانت سنة 1300هـ ودامت أربعين يوما، والثانية كانت سنة 1321هـ. ومن الذين عرفوا
__________
(1) العدد 61 الصادر في 25 جمادى الأولى 1323هـ 1905م
(2) مؤرخة في 23 جمادى الأولى سنة 1323هـ 1905م أنظر تاريخ الأستاذ الإمام ج 3 ص 294.
(3) المصدر السابق ج 3 ص 294 - 295.
(4) ن. م. ص 295 - 296.
(5) ن. م. ص 296.(1/43)
الأستاذ محمد عبده البشير صفر والشيخ سالم بو حاجب (1243 - 1342) والشيخ محمد بيرم 1342م يعتبر من أعضاء الجمعية السرية الإسلامية العالمية التي أسسها جمال الدين الأفغاني وهي جمعية العروة الوثقى (1) وكتب الشيخ سالم بوحاجب تقريظاً لرسالة التوحيد أرسله إلى محمد عبده بتاريخ 7 شوال 1317هـ (2).
وأما المغرب الأقصى، فإنه وجدت فيه بذور الإصلاح منذ محمد بن كنون (1302هـ -1884م). وتأثر أيضاً بالحركة الإصلاحية العبدوية. ذكر لنا شكيب أرسلان أن الشيخ إبراهيم التادلي من أكابر علماء المغرب حينما أدى فريضة الحج مر على بيروت والأستاذ الإمام بها فذهب شكيب ومحمد عبده والشرتوني (3) لزيارته والسلام عليه، ومن بين الأسئلة التي وجهها إليه محمد عبده: هل في المغرب اليوم مؤلفون في أصناف العلوم المختلفة؟ فأجابه التادلي: نعم يوجد مؤلفون في المغرب إلا أن العلم لا ينتشر بقوة التأليف وإنما ينتشر بقوة التدريس وكثرة المذاكرة الشفوية. وعلق الأستاذ الإمام على قوله: بأنه أحسن ما سمعه من كلامه. ولكن يبدو أن الشيخ التادلي عالم تقليدي لم يكن مطلعاً على أحوال عصره لأنه- فيما يقص شكيب أرسلان ألقى درساً في الجامع العمري الكبير في البسملة وما تتضمنه من العلوم والمعارف والفنون (4) وكان الناس ينتظرون منه أن يلقي محاضرة في أمراض العالم الإسلامي ووسائل علاجه.
__________
(1) الفاضل بن عاشور، أركان النهضة الأدبية بتونس، مطبعة النجاح، بتونس (دون تاريخ) ص 24.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 784.
(3) هو سعيد الخوري الشرتوني لبناني مسيحي قرظ رسالة التوحيد لمحمد عبده وكتب إليه في ذلك بتاريخ 6 ربيع الأول سنة 1316هـ.
(4) تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 411 - 412(1/44)
ولا شك أن المنار أثر في الحياة الثقافية في المغرب الأقصى مما جعل بعض وزراء مولاي عبد العزيز سلطان المغرب يكتبون إلى السيد رشيد رضا طالبين منه أن يرسل إليهم رجلاً مصلحاً يجمع بين الشريعة والسياسة ويعرف شؤون الإدارة ليكون وسيلة لإقناع السلطان بضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني الذي يدعو إليه المنار. وأخبر رشيد رضا أستاذه محمد عبده بالأمر فمال إلى السفر بنفسه ولكنه عرف الصعوبات التي تحول بينه وبين الاتصال بالسلطان لأن الإنكليز والفرنسيين والأوربيين بصفة عامة يعارضون ذلك ويتربصون الدوائر بالمغرب الأقصى وهم قد شرطوا أن يكون الأمر سراً فقرر السيد رشيد رضا إرسال السيد عبد الحميد الزهراوي ولكن لم ينفذ شيء من ذلك (1). ومن المغاربة الذين لهم صلة بالشيخ محمد عبده: الشيخ إدريس بن عبد الهادي، والمهدي الوزاني وأكثرهم تأثراً بمحمد عبده إنما هو الشيخ شعيب الدكالي الذي زار الشرق ورجع لقيادة الشبان نحو الدعوة الإصلاحية سنة 1325هـ (2) وواصل العمل الإصلاحي من بعده الشيخ المجاهد محمد بن العربي العلوي (1964م) الممثل الحي للسلفية في المغرب الأقصى.
وهناك نوع آخر من خدمة المجتمع يعتبر من عوامل الإصلاح الثقافي ونشر الوعي بماضي الأمة وهو يتمثل في عمل أبي القاسم الحفناوي (3) الذي قام بتأليف كتاب يحوي تراجم العلماء الجزائريين
__________
(1) م. س. ص 870.
(2) أنظر "التعاشيب" لعبد الله كنون.
(3) ولد سنة 1269هـ (1852) كان من محرري الجريدة الحكومية الرسمية (المبشر) ومدرساً بالجامع الأعظم بالجزائر كما تولى منصب الإفتاء توفى 1361هـ (1942) أنظر بحث بن شنب ص 48 نقلاً عن التقويم الجزائري لسنة 1330هـ (1912) ص 169 - 170(1/45)
فرغم أن هذا الكتاب ليست له صبغة علمية فإنه مفيد لأنه جمع مادة غزيرة يمكن للباحث أن يدرسها دراسة علمية.
وأهم شخصية خدمت اللغة العربية والثقافة الإسلامية وتاريخ الحضارة الإسلامية في المغرب الأوسط إنما هو العلامة الدكتور محمد بن أبي شنب (1) وعمله يتسم بطابع علمي مما جعله ينتخب للتدريس بكلية الآداب بجامعة الجزائر ولعضوية المجتمع العلمي العربي بدمشق ويمتاز بمعرفته عدة لغات حية وميتة من لاتينية وألمانية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وفارسية وتركية (2).
من الكتب التاريخية التي حققها ونشرها كتاب "الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية" لأبي العباس أحمد الغبريني (3). وكتاب "البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان"، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الملقب بابن مريم الشريف المليتي المديوني التلمساني (4) ومن أهم الآثار التي أخرجها الأستاذ ابن أبي شنب كتاب "طبقات علماء إفريقيا" لأبي العرب التميمي (5) مع كتاب "طبقات علماء تونس" لمحمد الخشني (6) كل ذلك في مجلد واحد. ومنها
__________
(1) ولد سنة 1286هـ بمدينة المدينة كان مدرساً بالمدرسة الثانوي بقسنطينة وبالمدرسة الثعالبية.
(2) سعد الدين ابن ابي شنب بحثه المذكور سابق ص 55 وأنظر "ذكرى الدكتور محمد ابن أبي شنب" تأليف عبد الرحمن الجيلالي.
(3) توفي في 12 ذي القعدة سنة 714هـ.
(4) لا نعرف تاريخ وفاته وإنما نعلم أنه اتم كتابه المذكور سنة 1014هـ أنظر شجرة النور الزكية في طبقات المالكية تأليف محمد بن محمد مخلوف طبع القاهرة 1350 - ص 296.
(5) توفي بالقيروان سنة 333هـ (945م)
(6) توفي 360هـ (981م).(1/46)
كتاب "الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية" لمجهول. وغير هذا كثير مما يتعلق باللغة والأدب والتراجم والرحلات. وقد كتب في مجلة "الشهاب" لابن باديس بحثاً ولما توفي (1) قال فيه: "لما عرفناه فقدناه".
ومن الذين شاركوا في هذه الحركة التاريخية الشيخ مبارك الميلي الذي ألف كتابه تاريخ الجزائر في القديم والحديث في سنة 1347هـ (1929) وقرظه الشيخ عبد الحميد بن باديس برسالة مؤرخة بـ (15 - 1 - 1347هـ) (2) والشيخ أحمد توفيق المدني الذي ألف كتاب الجزائر في سنة 1350هـ (1931) وكتاب "محمد عثمان باشا" الذي أهداه (3) إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس وكتب الأخير تقريظاً له في مجلة الشهاب (4) أيضاً.
-2 -
والحياة الإجتماعية والدينية كانت في تدهور وخمود مما دعا إلى رد الفعل ونشوء الحركات الإصلاحية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين. يقول المؤرخ الجزائري إسماعيل حامت: "كان للإلحاد الغربي مبلغ كبير من التأثير في جمهورٍ ليس بالقليل من مسلمي الجزائر الذين وإن كانوا ما برحوا مسلمين في الظاهر
__________
(1) توفي بالجزائر في 24 شعبان سنة 1347هـ (1929م) وقبره معروف بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي.
(2) نشرت في ج 2 ص 7 طبعة بيروت 1963م.
(3) الإهداء مؤرخ 15 محرم 1356هـ ص 2 من الكتاب المذكور.
(4) ش: ج 7 م 23 ص 319 - 321 شعبان 1356 سبتمبر 1937م.(1/47)
فهم يجهلون حدَّ ما وصلت إليه روحهم الدينية من الثلاشي. إن هؤلاء لا ينكرون الإسلام دينهم ومعتقدهم غير أنهم قد أضحوا من فتور الغيرة الدينية في نفوسهم بحيث غدوا لا يبالون البتة بنشره في الناس وبالدعوة إليه في غير المسلمين فالإسلام عندهم إنما هو مقصور على من يأتي بعدهم من الأولاد والأحفاد فحسب وليس يتناول أحداً سواهم من الخلق أجمعين. فالحق أن الإسلام لبراء ممَّا هم فاعلون. وليس ذلك هو الحرية الفكرية على ما يزعمون بل إنما هو الفتور فالتلاشي (1) " هذا ضمير جزائري يأسى ويأسف للحالة التي أصبح عليها المسلمون الجزائريون من الاتجاه الإلحادي ومن القعود عن الدعوة الإسلامية.
وهذا رحالة بلجيكي يصف الجزائر قبيل الحرب العالمية مشيراً إلى الأفكار الغربية التي أخذت تتسرب إلى الجزائريين وخصوصاً طبقة العمال: ((إن الإسلام ليرى متمزقاً تمزق"الثوب البالي" على أرصفة الجزائر، فعمّال المرفأ ونقلة الفحم وساقة الآلات البخارية على اختلاف جنسيتهم عادوا لا يبالون بالإسلام، بل ترى فيهم صبغة آداب العمال الأوربيين راسخة وهم يشتركون مع زملائهم العمال الغربيين في السعي وراء الغرض ونيل الغاية اشتراكاً قائماً على أساس واحد هو وجوب مقاومة أرباب رؤوس الأموال ونزاعهم نزاعاً إقتصادياً، فلو كان في الجزائر معامل مثل تلك التي في أوروبا لاختفى الإسلام السني من تلك الديار
__________
(1) لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي القاهرة ج 1 ص 54 نقلاً عن كتاب:
,1906 Ismail Hamet -les musulmans du Nord de l'Afrique Paris
والمؤلف (اسماعيل حامت) وهو صاحب تلك الكلمة القيمة: "لا تقاس حضارة أمة بما في كتبها الدينية من السطور والعبارات بل بما تقوم به تلك الأمة من الأعمال" وهو رأي استشهد به لوثروب الأمريكي في كتابه المذكور ووصفه بأنه مصلح مسلم جزائري ووصف له قوله بالسداد ج 1 ص 48.(1/48)
المغربية اختفاء الكاثوليكية القديمة من ديارنا أمام تيار الصناعة وثورتها الكبرى)) (1) ولا يخفى على القاريء كيف حاول هذا السائح الأوروبي تصوير الجزائر تصويراً متأثراً فيه بتاريخ المسيحية في بلاده وبالصراع الطبقي الذي نشأ فيها لوجود التقدم الصناعي، وعمَّم ما رآه في مرسى الجزائر على المجتمع الإسلامي الجزائري كله. ومهما يكن من أمر فإن المسألة لا تعدو أن تكون شهادة عابرة لسائح ابن سبيل.
والواقع أن السياسة الاستعمارية الفرنسية فيما يتعلق بالناحية التربوية التعلمية كانت ترمي إلى تكوين جماعات منفصلة عن مقومات الشخصية الإسلامية العربية وإلى تحويل الشعب الجزائري كله وإدماجه في الحضارة الأوروبية والثقافة الفرنسية عن طريق نشر اللغة الفرنسية، ومقاومة الشريعة الإسلامية التي ترى أنها هي العقبة الوحيدة التي تحول دون الإندماج ولذلك فإنها تشترط فيمن يتمتع بالحقوق الفرنسية أن يتجنس. ويتضمن التجنيس عدم الارتباط بالقانون الإسلامي، بل أكثر من ذلك فإن كثيراً من الحقوق لا ينالها إلا النصراني، فأصبح التنصر بذلك طريقاً إلى التمتع ببعض الحقوق، ولم يَرْقَ الجنرال يوسف رتبة جنرال إلا على هذا الشرط (2).
ورسمت السياسة الفرنسية وسيلة أخرى تعتقد أنها ستربح بها اللعبة وهي بَثُّ الخلاف بين عناصر المجتمع الجزائري، بين العرب والبربر. وحاولوا أن يقنعوا البربر بأنهم من سلالة أورويية وأن لهم لغة خاصة لا ينبغي التفريط فيها، وأن يمنعوا تعليم العربية للبربر.
__________
(1) المصدر السابق ج 2 ص 299.
(2) تعليق الأمير شكيب أرسلان على "حاضر العالم الإسلامي" ج 1 ص 86.(1/49)
يقول أحد المختصين (1) بهذه المسألة: "إن العالم المختص في أمور البربر المسيو دوتيه" الذي جال بين قبائل البربر نوَّه بمحاسن سجايا هذا الشعب البربري وقال: إن به مناط الآمال في إفريقيا ... إنه شعب يظهر عليه الميل من نفسه إلى المدنية الفرنسية (2) لذلك يجب علينا قبل كل شيء أن لا نعرِّبه أكثر ممَّا هو ولأجل بلوغ هذه الغاية يجب أن يحمل البربر على الثقافة الفرنسية أو أن يتكلموا بالفرنساوي قبل وصول الثقافة العربية واللسان العربي إليهم، وعلى هذا الشكل يتحقق بلا ريب- أكثر ممّا هو مظنون- خيالنا العظيم بمراكش فرنسية ... وفي النية تأسيس مكاتب فرنسوية بربرية في الجهات التي لم تستعرب من بلاد البربر، وهذا تصور حسن جداً ... فإذا كانت بلاد القبائل من الجزائر ليس فيها إلا بعض أقوام من البربر، فإن قسماً عظيماً من أهل المغرب الأقصى، لا يعرفون العربية، أو يتكلمون اللغتين البربرية والعربية، وليس لنا أدنى مصلحة أن ننشر بينهم اللغة العربية، لغة الجامعة الإسلامية، بل بالعكس" (3) وقصة الظهير البربري (4) أشهر من أن نفصل القول عنها بالإضافة إلى مئات الكتب باللغة البربرية بجميع لهجاتها. والمستشرق الفرنسي ماسيينون نفسه ألقى محاضرة في سنة 1927م بمعهد كوليج دي فرانس: تحت عنوان "الوحدة البربرية" (5).
__________
(1) هو فيكتور بيكي Victor Piquet مستشهدا برأي مختص آخر هو (دوته Douté)
(2) أنظر هذا الزعم العلمي!
(3) أنظر ترجمة هذا النص في حاضر العالم الإسلامي ج 1 ص87
302. Victor Piquet - Le Maroc - Paris 1818 P
(4) صدر في16 مايو سنة 1930.
(5) عثمان الكعاك، البربر، تونس1956 ص 129(1/50)
وأسس الفرنسيون بالمغرب الأقصى، معهد البحوث العليا المغربية، للدراسات البربرية وخصصوا لذلك مجلة "هيبريس" والواقع أن هذه المحاولات لتمزيق الشعب الواحد لم تقتصر على المغرب الأقصى، بل شملت الجزائر وتونس وطرابلس من طرف ايطاليا- واكتست المحاولات طابعاً علمياً في ظاهرها. ففي تونس قام طبيبان بتأليف كتاب ضخم في مقاييس جماجم البربر وأوصافهم وسماتهم العضوية العرقية،
مع مقارنة بسِمات ومقاييس جماجم الغاليين (1) وفرض الإستعمار على أبناء المدارس المسلمين الجزائريين أن ينشدوا: "كان أجدادنا من الغاليين وكانت بلادنا في القديم تسمى غاليا"، وأن يتشرفوا بالإنتساب إليهم! والغرض من هذه المحاولات إنما هو الإدماج، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وفعلاً فقد نبتت طائفة من هذه المدارس تدعو إليه، وتتحمس له بالرغم من معارضة الغلاة من الإستعماريين لهذا الإدماج الذي يجعل المسلمين متساويين في الحقوق مع الفرنسيبن، وهذا ما لا يمكن أن يتصوروه في عقولهم.
في الربع الأول من القرن العشرين تطورت ردود الأفعال على الأوضاع الإجتماعية والأخلاقية والسياسية التي تحياها الجزائر.
الإتجاهات الإصلاحية:
ظهرت جماعة صغيرة لائيكية "علمانية" مفرنسة بصحافتها وجمعياتها وصداقاتها وبمطالبها التي تعتبرها "تقدمية" واعتمد هؤلاء الشبان الجزائريون على بعض الأحرار من الفرنسيين أمثال بول بورد: Paul Bourde والبان روزي Albin rozet (2) وكانت هذه الفئة لا تطالب
__________
(1) ن. م. ص 134.
(2) CH. Robert Ageron, Histoire de l'Algérie Contemporaine, Presses
Universitaires de France. Paris, 1964 P. 71 et la Naissance du Nationalisme
.20.Algérien, par André Nousalle P(1/51)
بمجرد المساواة مع الفرنسيين بل وبالإندماج التام (1) ثم انقسمت هذه الفئة إلى قسمين: قسم يطالب بالمواطنية الفرنسية دون الإرتباط بالقوانين الإسلامية الشخصية، وقسم يطالب بالمساواة السياسية مع بقاء التعامل بالقانون الإسلامي. ويمثل القسم الأخير حفيد الأمير عبد القادر الأمير خالد بن الهاشمي (2) الذي عرض برنامجه في جريدة "الإقدام" وبصفة عامة، فإن هذه النزعة تهدف إلى فصل الدين عن الدولة مقلدة في ذلك تركيا الفتاة التي كان لثورتها صدى في الجزائر، ويقود هذه الحركة ويمثل هذه النزعة معلمون في المدارس الابتدائية وطلبة في المدارس الفرنسية وموظفون لدى الحكومة الفرنسية ومن النواب وغيرهم ممن يجيدون اللغة الفرنسية ويستعملونها وسيلة لصحافتهم. وأشهر الصحف التي تعبر عن أفكارهم هي:
1 - الصوت الأهلي تصدر في قسنطينة ويديرها ربيع الزناتي: La Voix Indigène.
2- صوت المتواضعين تصدر في الجزائر العاصمة ويديرها عمر قندوز (3). La voix des humbles
ويحلو للمستشرق ماسينيون أن يذكر لنا أن اللغة الفرنسية أصبحت أداة للفكر الإسلامي لا في الناحية السياسية فحسب بل وفي الناحية
__________
(1) هذه جملة من الكتاب الأخير تصور مطلبهم:
L'assimilation la plus complète, c'est - à - dire l'entrée dans la cité française
(2) توفي 9 يناير سنة 1936م- 1354هـ بدمشق بعد محاكمته في باريس وخروجه منها رثاه أحمد توفيق المدني وكتب عنه في مجلة الشهاب ج11، م11، ص630 كتب الأمير خالد مقالاً في جريدة النجاح تحت عنوان: مسألة الخلافة في المؤتمر الإسلامي العام عدد 28184 نوفمبر 1924م.
(3) وجهة الإسلام (إفريقيا لماسينيون) القاهرة ص 60(1/52)
الدينية. ويضرب لنا مثلاً بما قام به الأستاذ أحمد ليميش من ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ترجمة يحوطها التقديس والشعور الإسلامي الصادق رغم أنها لم تبلغ غايتها من الجودة كأنه يعد هذا انتصاراً للحضارة الأوروبية. ومنهم من كتب قائلاً: "الجزائر أرض فرنسية. نحن فرنسيون مع الإحتفاظ بقانون الأحوال الشخصية الإسلامي ... لا يوجد في الكتاب المقدس ما يمنع جزائرياً مسلماً من أن تكون جنسيته- فرنسية- .. الخ (2) بل إنه عبر عن الوحدة الوجودية بينه وبين فرنسا فقال: "أنا فرنسا"!
كما كان هناك أتباع الطرق الصوفية وترجع في أغلبها إلى طوائف ثلاث (3):
أ- الطائفة العليوية التي يرأسها الشيخ أحمد بن عليوه في مستغانم. وهي طائفة متشعبة عن الطريقة الدرقاوية، ولهذه الحركة الصوفية صحيفة تعبر عن أفكارها المعارضة للحركة الإصلاحية التي يمثلها الشيخ عبد الحميد بن باديس وهي جريدة "البلاغ".
ب- طائفة درقاوية أخرى يرأسها غلام الله في مدينة تيارت يدعو صاحبها إلى سياسة الإتفاق الديني بين الإسلام وفرنسا (4).
__________
(1) م. ن.
(2) هو السيد فرحات عباس الذي كتب، "الشباب الجزائري":
" L'Algérie est terre française. Nous sommes des français avec le Statut Personnel musulman (......) Il n'y a rien dans le Livre Saint qui puisse empêcher un algérien musulman d'être nationellements un français, aux bras forts, à l'intelligence éveillée, au coeur loyal conscient de la solidarité nationale. Il n'y a rien, sinon la colonisation.» voir Ia Naissance du Nationalisme algérien, P.63
(3) وجهة الإسلام ص 61.
(4) وضع "الاتفاق الديني"، سنة 1930(1/53)
جـ- طائفة التيجانية تتكون من كبار الموظفين والأغنياء والتجار وقامت بدعاية بلغ نشاطها باريس وأقامت هناك مسجداً، والواقع أن هذا الفرع قوي في مراكش أكثر من الجزائر. وأما الطريقة السنوسية (1) فقد أضعفتها المجازر التي سلطتها عليها إيطاليا وكادت أن تودي بها. والحقيقة أن الحركة الأساسية التي تمثل آمال الشعب الجزائري وتعبر عن شخصيته هي الحركة السلفية. التي يمثلها ابن باديس وزملاؤه ويصفها المستشرق ماسينيون بأنها حركة متشددة نصف وهابية ويعتبرها فرعاً أو شعبة من الحركة التي تمثلها "المنار" في القاهرة. ويذكر أن ابن باديس وثيق الصلة بالحركة في مصر مترسم لخطاها ويعترف بأن لهذه الحركة السلفية تأثيراً لما ينطوي عليه برنامجها من الرجوع إلى تعاليم القرآن بالرغم من أنه يقلل من شأنها من ناحية أخرى فيقول: "إن هذا الحزب لا ينتمي إليه حتى الآن إلا شرذمة قليلة في مدن المغرب" والظاهرة التي تلفت النظر أنه يذكر لنا وهو المتتبع لحركات المسلمين وسكناتهم أن حركة ابن باديس لها أتباع في الرباط من أعمال مراكش فيقول: (ومن أتباع هذا الحزب جرثومة صغيرة ولكنها مترعرعة في رباط من أعمال مراكش) (2) ولسان حال هذا الحزب أو هذه الحركة هو مجلة "الشهاب" الصادرة بقسنطينة ويديرها الشيخ عبد الحميد بن باديس. وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
__________
(1) وكان للسنوسية في الجزائر ألف تابع. وأكبر الطرق عدداً هي الطريقة الرحمانية التي أسسها سيدي محمد بن عبد الرحمن واتباعها 156 ألف رجل و13 ألف امرأة. وأتباع التيجانية التي يقيم شيخها في عين ماضي 26 الف. والطريقة الدرقاوية المشهورة بالشدة والإشتراك في جميع الثورات التي ثارت على الفرنسيين لها 9 آلاف. والشيخية أولاد سيدي الشيخ 10 آلاف.
(2) وجهة الإسلام ص 60 - 61.(1/54)
دور الصحافة العربية:
وبهذا نرى أن الصحافة لعبت دوراً كبيراً في النهضة فلا بد من أن نقول عنها كلمة:
أن أول جريدة عربية صدرت لا عن مصدر حكومي (1) بل بمجهود صحافي جزائري حر هي جريدة "الجزائر" التي أصدرها الفنان الأستاذ عمر راسم سنة 1908 وصدرت جريدة "الحق" سنة 1911م في وهران وهي أول جريدة فتحت الاكتتاب للهلال الأحمر العثماني أيام حرب طرابلس (2) ثم "الفاروق" وصدرت في سنة 1331هـ (1913م) أسسها عمر بن قدور وهو مؤدب يقرىء القرآن الكريم، ويعتبر هذا الرجل من المدرسة الإصلاحية المتأثرة بمحمد عبده وبالمنار، فعزم على مقاومة الخرافات والبدع واستعمل هذه الصحيفة للقيام بمهمته وشعار صحيفته:
" قَلَمِي لِسَانِي ثَلَاثَةٌ بِفُؤَادِي ... دِينِي وَوُجْدَانِي وَحُبُّ بِلَادِي "
ويستعين بما تنشره مجلة المنار فينقل بعض مقالاتها في هذه
__________
(1) أول جريدة عربية صدرت عن الولاية العامة هي المبشر وكانت تنشر باللسانين الأوامر الإدارية والتشريعات وتحاول أن تبث الدعاية ضد الوطنيين الذين هم في نظرها شياطين مشوشون. صدرت في سبتمبر 1847 (5 شوال 1262هـ) ثم ملحق جريدة الأخبار الفرنسية 1903م (1320هـ) وكانت قبل ذلك تصدر بالفرنسية فقط ابتداء من 1839م (1255هـ) ويتولى ذلك فيكتور باروكان. ثم جريدة المغرب أصدرها مدير مطبعة فونتانا وهي راجعة إلى مصدر حكومي صدرت 1321هـ - (1903م) وجريدة كوكب إفريقيا أصدرها محمود كحول ومصدرها حكومي صدرت سنة 1903 وأصدر كذلك التقويم الجزائري مدة ثلاثة سنوات من 1329هـ (1911م) إلى 1331هـ (1913م) فيها آثار أدبية جزائرية لتلك الفترة.
(2) أحمد توفيق المدني كتاب الجزائر ص 369.(1/55)
الجريدة ويهتم بأخبار العالم الإسلامي. ولم تعش هذه طويلاً (1) وأبعد صاحبها إلى الأغواط سنة 1915م كتب فيها أحمد توفيق المدني مقالاً تحت عنوان: "القرآن الشريف وكيف يجب أن نتعلمه" سنة 1914م وهو أول مقال يكتبه في حياته.
ثم عاد الأستاذ الفنان عمر راسم وأصدر جريدة أخرى تحت إسم مستعار وهي "ذو الفقار" (2) وأسمى نفسه ابن المنصور الصنهاجي ووسم صحيفته المصورة بأنها "عمومية اشتراكية انتقادية " ونشر في هذه الصحيفة (في عددها الثالث) -صورة الأستاذ الشيخ محمد عبده وكتب عمر راسم تعليقاً عليها وهو أن الشيخ محمد عبده "مدير الجريدة الديني" (3).
والغريب أن مؤسسها هو الذي يحررها ويكتبها بخطه، ويرسم صورها الرمزية ويطبعها طبعاً حجرياً وحده، فمن صورها الرمزية في العدد الثالث فارس عربي على باب مدينة الجزائر وشمس مرسلة أشعتها مكتوب في وسط قرصها: "الإصلاح" وهذا يرمز إلى العودة إلى الدين والشخصية الجزائرية العربية، كما نشر في هذا العدد قصيدة حماسية لعنترة بن شداد ومقالاً بعنوان "الإسلام والمسلمون" مفاده أن سبب تأخر المسلمين يعود إلى انفصالهم عن الشريعة الإسلامية ومقالاً آخر نقله عن المنار يعالج مشكلة المقلدين للإفرنج وفسادهم الأخلاقي، ورسم صورة ترمز إلى رجل مقلد للغرب يطلب من زوجه أن تخلع
__________
(1) لم تزد على عام وبضعة أشهر.
(2) صدر أول عدد منها في ربيع الثاني (1331هـ) أفريل (1913)
(3) سعد الدين ابن أبي شنب (النهضة العربية بالجزائر في النصف الأول من القرن الرابع عشر للهجرة) مجلة كلية الآداب العدد الأول 1964 ص 62 - 63 صورة الغلاف والتعليق عليها كانا في يوم الاحد 20 رجب 1332هـ 14جوان1914م، ص 8.(1/56)
لباسها العربي لتتعلم الرقص ولتتمدن فأجابته بأن لباسها القومي لا يكون عائقاً لها عن التمدن (1). وبما أن اليوم الذي صدرت فيه الجريدة كان يوم 14 جوان فإنه كتب عن الحوادث المحلية: "في هذا اليوم نزل الجيش الفرنسي في شبه جزيرة سيدي فرج وفي هذه السنة (1914م) تشكلت جمعيات لإحياء هذا اليوم والإحتفال باستيلاء فرنسا على أكبر وأغنى مستعمراتها: الجزائر. سنذكر في العدد الآتي الأسباب التي أدت إلى الحرب وكيفية دخول الفرنسيس إلى عاصمة الجزائر" (2) وكانت هذه الصحيفة أول من نبه الناس إلى الخطر الصهيوني، وأول من اكتشفه (3) ولما جاءت الحرب العالمية الأولى، ألقي القبض على مديرها عمر راسم (4) بتهمة الإتصال بالعدو والإتفاق معه فحوكم عسكرياً وصدر ضده حكم بالأشغال الشاقة ثم بعد الحرب صدر العفو عنه (5).
وفي سنة 1919 أصدر الأمير خالد صحيفة "الإقدام" باللغتين كما أصدر الحزب المعارض له صحيفة "النصيح".
وفي السنة نفسها أصدر الشيخ عبد الحفيظ الهاشمي جريدة "النجاح" التي كانت حرة واشترك عبد الحميد بن باديس في تأسيسها ثم انفصل عنها، ثم انحرفت هذه الجريدة وارتبطت بالحكومة الفرنسية وأصبحت في سنة 1930 جريدة يومية يطبع منها 5000 نسخة في اليوم.
وفي سنة 1924 أصدر عمر بن قدور الجزائري جريدة "الفاروق" من جديد وكانت أسبوعية ثم اشترك مع محمد بن بكير في إصدار
__________
(1) المصدر نفسه ص 63.
(2) المصدر نفسه ص 64.
(3) أحمد توفيق المدني كتاب الجزائر ص369.
(4) توفي سنة 1379هـ وعمره 79 عاماً حافظ للقرآن مجود له.
(5) المصدر السابق ص369.(1/57)
المطبعة الجزائرية الإسلامية التي كانت تطبع جريدة ومجلة الشهاب، تأسست هذه المطبعة سنة 1343 - 1925 في نفس التاريخ الذي صدر فيه الشهاب. وتقع في نهج عبد الحميد بن باديس- قسنطينة.
ــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "الصديق". وصدر "لسان الدين" جريدة أسبوعية دينية سياسية سنة 1923 أصدرها مصطفى حافظ وابن عبد العزيز حسن.
وفي سنة 1925 صدر "المنتقد" (1) فتوقف بعد صدور ثمانية عشر عدداً منه، ثم خلفه "الشهاب" في نفس السنة وكان أسبوعياً ثم انتقل في سنة 1929 إلى مجلة شهرية (2) ومؤسسها معاً هو الأستاذ
_________
(1) جريدة تمثل لسان نخبة الشباب صدرت في يوم الخميس 11 ذي الحجة 1343هـ (2 جويلية 1925م).
وقد نقلت هذا من العدد الأول من المنتقد ولم تصدر في سنة 1924 ولا في سنة 1926 كما يذهب إلى ذلك البعض. أنظر كتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى ص 370 فإنه جعلها صادرة في سنة 1926م وتاريخ الجزائر المعاصر لروبير اجيرون ص 88 حيث جعل صدور الشهاب سنة 1924م.
(2) بتاريخ رمضان 1347هـ فيفري 1929م.(1/58)
عبد الحميد بن باديس واستمرت الشهاب في أداء رسالتها إلى الحرب العالمية الثانية فتوقفت في سبتمبر 1939 (1). وفي نفس السنة أصدر الشيخ محمد السعيد الزاهري جريدة "الجزائر" وعطلتها الحكومة.
وأصدر الشيخ العقبي والشيخ أحمد العابد جريدة "صدى الصحراء" ثم صدرت جريدة "البرق" سنة 1937 وأصدر العقبي أيضاً جريدة "الحق" في بسكرة سنة 1936م.
كما أصدر الشيخ العلامة الصحفي أبو اليقظان جريدة "وادي ميزاب" في سنة 1926 فعطلتها الحكومة بعد نحو عامين ونصف ثم أصدر بعدها جريدة "ميزاب" فصودرت، فأصدر من بعدها "المغرب" ثم "النور" ثم "النبراس" وأسس الشيخ العقبي كذلك جريدة "الإصلاح" (2) وفي هذه الأثناء أصدرت الزاوية العليوية جريدة "البلاغ الجزائري" معارضة بها حركات الإصلاح، ورغم كونها تقاوم بعض عادات المتصوفة، فإنها تدافع عن التصوف ولها مطبعة خاصة. ولم يكن في الجزائر قبل الحرب العالمية الأولى من المطابع إلا مطبعة رودوسي مراد، ثم وجدت فيها أربع مطابع أخرى: الطبعة الإسلامية وهي مطبعة الشهاب ومطبعة النجاح بقسنطينة، والمطبعة العربية لأبي اليقظان بالعاصمة، ومطبعة البلاغ الجزائري بعاصمة الجزائر أيضاً (3). والواقع أنه توجد هناك مطابع أخرى لكنها تابعة للفرنسيين كمطبعة فونتانا الشرقية (5) مثلاً.
__________
(1) العدد الأخير الذي هو عدد سبتمبر لم نجد منه إلا ملزمة واحدة كتب فيها عبد الحميد مقالاً عنوانه (أولو الأمر) تعليقاً على مقال كتبه الشيخ الخضر الحسين شيخ الأزهر وصاحب مجلة الهداية الإسلامية.
(2) أنظر أحمد توفيق المدني في كتاب الجزائر ص 371.
(3) المصدر السابق ص 273.
(4) تطبع باللسانين العربي والفرنسي.(1/59)
- صورة -
إدارة الشهاب سابقاً واقعة في نهج الشيخ عبد الحميد بن باديس
ــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الصحافة كلها تدل على النشاط الفكري، وعلى ظاهرة القلق التي هي علامة على اليقظة والوعي بالمسؤولية، وخطوة في سبيل تغيير المظاهر الإجتماعية، ومحاولة لإعادة المجتمع إلى أداء وظيفته التاريخية وإدراكه نفسه التي نسيت التاريخ أو نسيها التاريخ!!(1/60)
-3 -
يلاحظ المستشرق الفرنسي ماسينيون على الإتجاه الفكري في المغرب الإسلامي أنه مصطبغ بالصبغة العملية وأن الناحية العقيدية محتفظة بصلابتها الموروثة عن صدر الإسلام (1) وأن أصحابه من أنصار الخوارج وأتباع مذهب الإمام مالك، كما وصف المغاربة من الناحية العقلية بأنهم ذوو عزيمة وجدٍّ، وهو يحاول بهذا أن يجعلهم أقرب ما يكونون إلى الأوروبيين يقول: "إن لمسلمي المغرب عقولاً عملية من الطراز الأوروبي" (2) ويجعل ذلك سبباً في عدم وجود شخصيات بارزة كثيرة على حد تعبيره أو رجالات نابغة كالذين نجدهم في المشرق، وهو بذلك يجعل فوارق بين مسلمي المغرب ومسلمي المشرق فيقول: "وإذا قارنا هذه البيئة الإجتماعية الإسلامية في المغرب، بنظيرتها في المشرق وجدنا فوارق ليست ظاهرية فحسب ولكنها تتغلغل في الصميم" (3)، وهو بهذا يحاول أن يفرق أبناء مجتمع واحد واتجاه عقيدي واحد كما يحلو له أن يفعل ذلك في كل مناسبة، ولكن نجد للمستشرق ملاحظة دقيقة وصحيحة في آن واحد، وهي أنه يسود الشعورَ الإسلامي- في الجزائر بصفة خاصة- عاطفة غريبة جداًّ، وهي طموح المسلمين لأن يدخلوا الإسلام ويشقوا له طريقاً في عقول الفرنسيين وأرواحهم أنفسهم.
ويضيف إلى ذلك ملاحظة أخرى تشير إلى أن في الجزائر كُتّاباً مسلمين يجيدون الفرنسية أيما إجادة، ويستخدمونها في بث الدعاية في فرنسا (4)
__________
(1) وجهة الإسلام ص 57.
(2) المصدر نفسه ن. ص.
(3) ن. م. ن. ص.
(4) ربما يشير بهذا إلى الأستاذ مالك بن نبي وجماعة أخرى معه خصوصاً كتابه "الظاهرة القرآنية" الذي ألفه بالفرنسية ثم ترجم فيما بعد إلى العربية.(1/61)
ولا يقتصرون في هذه الدعاية على الجالية الإسلامية المقيمة في فرنسا التي ربما تتعرض لخطر الخروج عن أصول الدين، وإنما يطمحون إلى أبعد من ذلك مما أدَّى فعلاً إلى إسلام بعض الفرنسيين من الرجال والنساء (1). ومن ناحية أخرى يزعم أن "هناك حقيقة لا يمكن انكارها وهي أن بين فرنسا والمغرب اتصالاً روحياً يتمثل في أذهان بعض المفكرين ضرباً من التجاذب العقلي يشبه ما نشأ بين انجلترا والهند" (2) والواقع أن هذا لا يصدق إلا على شرذمة قليلة تفسخت، وذابت في شخصية الغالب وانفصلت عن صف الشعب المغربي الإسلامي. ويرى أن روح "المحافظة الصلبة" التي تسيطر على الفكر الإسلامي المغربي لا تجيز لأحد أن يفكر في تحقيق الهدف الإستعماري ألا وهو استعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية، كما أن السلفيين "المتشددين" لايقبلون استعمال اللهجة العامية التي يروج لها المستشرقون، في الوقت الذي نجد فيه المشارقة يقبلون فيهما النظر (3). والواقع أن هذا يعود إلى وجود عناصر مسيحية عربية في المشرق، بخلاف المغرب فإنه يخلو من العرب المسيحيين الذين يرتبطون بالثقافة اللاتينية من حيث المعتقد والوجدان، وبالرغم من اعتراف ماسينيون بتأثير المغاربة بالمشارقة فيما يختص بالجامعة الإسلامية والعربية تلك الجامعة التي يدعو لها شكيب أرسلان وفريد وجدي، فإنه يقرر أن "تيار التطوُّر يزداد انحرافاً نحو باريس وإليها لا إلى المشرق، نجد جمهور أهل المغرب يولون وجوههم نحوها" (4) يريد أن يثبت أن باريس أصبحت قبلة المغاربة المسلمين.
والغريب أنه جعل الجمهور هو الذي انحرف نحو باريس، فلو اقتصر
__________
(1) م. س. ص 59.
(2) ن. م. ن. ص.
(3) ن. م. ص 66.
(4) ن. م. ص 67(1/62)
على ذكر طائفة قليلة لصدَّقناه، ولكنه جازف في القول ولم يزنه. وإني أشكره (1) من ناحية أخرى حيث عبر عن ذلك بكلمة "انحراف" فهذا هو التعبير الطبيعي في مثل هذا المقام.
ولم يعالج أحد من المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين - فيما أعلم- مشكلة الفكر الإصلاحي في المغرب الأوسط إلا استاذنا مالك بن نبي، فإنه تناول هذه النهضة الحديثة وحللها تحليلاً علمياً نقدياً، ودرسها دراسة إجتماعية تكتسي طابعاً موضوعياً مع أنها أشد ما تكون امتزاجاً بذاتيته، وبالرغم من المراقبة الشديدة التي مارسها الإستعمار على مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي فإنه تمكن في ظروف قاسية من إصدار كتابه "شروط النهضة ومشكلات الحضارة " (2) فالإصلاح قد شغل اهتمامه منذ طفولته كما يحدثنا في كتابه الأخير: "مذكرات شاهد القرن". كما شغله منظر ابن باديس وهو يمر أمام مقهى "ابن يمينة" ذاهباً إلى مكتبه في "نهج الأربعين شريف" (3) وهو أول من أدخل العدد الأول من جريدة الشهاب إلى آفلو (4) جنوب
__________
(1) أو أشكر المترجم لأني لا أملك النص الإنجليزي الذي ترجم إلى العربية.
(2) صدر في سنة 1948 وقدم له الدكتور عبد العزيز خالدي بمقدمة حلل فيها الكتاب ووصف المؤلف بأنه "رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والإجتماعية" وترجم الكتاب وطبع بالقاهرة أثناء الثورة سنة 1957 وصف المترجم الكتاب بأنه "في فلسفة الحضارة وفن التوجيه".
(3) يسمى الآن بنهج عبد الحميد بن باديس وهو النهج الذي توجد فيه مطبعة الشهاب ومدرسة التربية والتعليم وإدارة الشهاب ومدرسة سيدي بومعزة أنظر مذكرات شاهد القرن ص 158.
(4) مذكرات شاهد القرن لمالك بن نبي طبع في المطابع الوطنية الجزائرية (فونتانا سابقا) الجزائر 1965، القسم الأول ص 221(1/63)
- صورة -
صومعة ومسجد الأربعين شريف
ــــــــــــــــــــــــــ
وهران حيث يقوي نفوذ الطرقيين، واتصل بالشيخ عبد الحميد في مكتبه ليبثه ما يجده في نفسه من بعض الأفكار المتصلة بالمجتمع في قرية آفلو خصوصاً ما يتعلق بمشكلة الأرض بجبل لعمور (1).
والفكرة الأساسية في كتابه "شروط النهضة ومشكلات الحضارة" تتلخص فيما يلي: "إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة
__________
(1) ن. م. ص 226(1/64)
- صورة -
مسجد سيدي بومعزه أول مدرسة أسسها للتعليم تحت اسم "المكتب"، وهو بمثابة مدرسة ابتدائية، وقد اشترى هذا العمل الفاضلان: العربي وعمر بن مفسولة
ــــــــــــــــــــــــــ
حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته أو يحلها ما لم يرتفع بفكرته إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها" (1) فالإصلاح والنهضة في
__________
(1) شروط النهضة ص 178(1/65)
- صورة -
مدخل جامع أربعبن شريفاً، وهو الآن مقر المحكمة المالكية، ويسمى مسجد سيدي علي مخلوف، وهو واقع بنهج عبد الحميد بن باديس
ــــــــــــــــــــــــــ
نظره إنما يُدْرَكان في إطار فكرة شاملة وجوهرية هي فكرة الحضارة التي تعتبر من أهم المشكلات التي تتناولها الآن الدراسات الفلسفية والتاريخية وخاصة الدراسات الإجتماعية، في شتى المدارس العلمية في الشرق والغرب، ولكن ينفرد من بين المفكرين المسلمين بهذه الفكرة التي طالما نبه إليها أذهان الشبان المسلمين، وتفكيرهم فيها على غير نمط(1/66)
الغربيين والشرقيين لأنه ينظر إليها بمنظار آخر مستمداً شواهده من المجتمعات المتخلفة الممتدة على خط طنجة- جاكارتا. يقسم الأستاذ مالك بن نبي الفترة الحديثة إلى قسمين ما قبل 1925 وما بعدها.
أما الفترة الأولى فتتمثل فيها البطولات الجزائرية في صورة أفراد، وفي قوة رجال يمرون كأطياف أحلام في نوم تاريخي عميق.
وأما الفترة الثانية فتتمثل في حركة مجتمع، وتصارع أفكار، ومحاولة تغيير للحياة الأخلاقية والعقلية والإجتماعية والسياسية والدينية، وبعبارة أخرى فإن الشعب في هذه الفترة إستأنف رسالته، وبدأ تاريخه الجديد "أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخاً بل كانت قصصاً ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى فيوقظها من نومها العميق" (1) ويعتبر أنه كان صوت جمال الدين الأفغاني أثر في انبلاج فجر النهضة الجزائرية، ومعجزة الحياة في الجزائر بدأت بصوت الشيخ عبد الحميد بن باديس وندائه فأيقظ المعنى الجماعي، وحول مناجاة الفرد إلى حديث الشعب (2) ويصور لنا حركة الأفكار وانتشار النظريات الإجتماعية في أوساط الشباب فيقول: "فهذا يرنو إلى المذهب الكمالي، وذاك يأخذ بالمذهب الوهابي، وذلك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر بفكره إلى مذهب المادة ... ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط" (3) ويجعل حركة العلماء
__________
(1) ن. م. ص 22.
(2) ن. م. ص 23
(3) ن. م. ص 24(1/67)
المسلمين أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس، ولكنها ما لبثت أن انحرفت منهجياً عن أهدافها، وأعطت القيادة للإنتهازيين السياسيين في سنة 1936 في المؤتمر الجزائري الإسلامي (1) فأخفق المؤتمر ودب الشقاق في صفوف الجمعية كأن مركب النقص هو الذي جعلهم يسلمون الزعامة لرجل اللغة الأجنبية فسايروا قادة السياسة (2)، في تلك الفترة ظناً منهم أنهم سيحمونهم ويدفعون عنهم شر الحكومة الفرنسية، باعتبار أن التغيير الإجتماعي الذي يبدأ في تغيير النفس هو الأساس في المشكلة، لا الذهاب إلى باريس والتعلق بسراب وعود الجبهة الشعبية، وهذا ما تأكد لهم فيما بعد حيث عبر ابن باديس عن ذلك بوجوب "الاعتماد على أنفسنا والإتكال على الله"، (3).
ويوجه من ناحية أخرى نقداً للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي التي وإن أخذت بفكرة الإصلاح الديني الذي يعتبر نقطة انطلاق في كل تغيير اجتماعي (4) إلا أنها ابتدأت بمرحلة علم الكلام التي هي المرحلة الفكرية أو العقلية، وتخطت المرحلة الأخلاقية الروحية التي تؤدي إلى أول تغيير للقيم الإجتماعية فهذا يعتبر "مزلقة لا تؤدي إلى الوعي بقدر ما تؤدي إلى تعلم جدليات الكلام". إنه خطأ منهجي أدى إلى عدم تسجيل هذا الإصلاح في نسق الأحداث التاريخية التي تقرر مصير الجماعات الإنسانية (5) ولكنه يستثني حركة الإصلاح في الجزائر، ويعود الفضل في ذلك في
__________
(1) وقع في 17 جوان 1936 بنادي الترقي بالجزائر العاصمة.
(2) ن. م. ص 26 - 29.
(3) وذلك في سنة 1937.
(4) وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي ط. القاهرة 1959 الترجمة العربية ص 174.
(5) ن. م. ن. ص(1/68)
رأيه إلى شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس العظيمة، لأنه استطاع أن يجعل اشعاعه ينفذ إلى أعماق الضمير الشعبي، هذا في بداية الأمر حيث كانت الحركة تنطوي على جذوة روحية، وروح صوفية. ولكن ما لبثت- كما أشرنا من قبل- أن أضحت تكون متخصصين بارعين أكثر مما تعمل على تكوين دعاة مخلصين (1)!
ويقول بهذا الصدد: إن مخلفات إنسان ما بعد الموحدين، وما تنطوي عليه من أعباء وتقاليد من ذرِّبة في التفكير، وتزمت ونزوع إلى المدح، والجدل والحرفية والتحليق في الخيال، هذا كله يحتاج إلى فكر ثوري كفكر جمال الدين يهدم ويبني على أساس منهج مرسوم. ويرى أستاذنا مالك بن نبي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد قام بتلك الثورة الفكرية على أحسن وجه، وبدَّد ما كان مخيماً على الجزائر من تقاليد ثقيلة تتمثل في تلك الطرق الجامدة المخدرة للشعب (2).
ومن الملاحظات الدقيقة التي سجلها على الحياة العلمية والفكرية في الجزائر أنها تعتبر بمثابة الزينة والترف، ومن ثمَّ فإن الفكر لم يكن إيجابياً ذا فعالية وحركة (3) وفكرة الفعالية من الأفكار الأساسية في فلسفة مالك بن نبي الإجتماعية. وهناك أمراض نفسية أصيبت بها النخبة في شمال إفريقيا، منها مرضان أساسيان وهما: إما النظر إلى الأشياء على أساس أنها في غاية "السهولة" وإما النظر إليها على أنها "مستحيلة" وكلا النظرتين تؤدي إلى نتيجة خطيرة هي إما الشلل وإما السلوك الأعمى (4).
__________
(1) ن. م. ص 175
(2) ن. م. ص 59.
(3) ن. م. ص 93.
(4) ن. م. ص 94(1/69)
لم يغفل المستشرق الإنجليزي جيب في كتابه "الإتجاهات الحديثة في الإسلام" الحركة السلفية الإصلاحية في الجزائر فتحدث عنها، وجعلها بمثابة التابعة لمباديء أصحاب مجلة المنار العاملة على نشرها، وعلى معارضة أصحاب الطرق، ويقول بصفة خاصة: "وذهب الجزائريون إلى أبعد مما ذهبت إليه جماعة المنار لأنهم بدأوا بالإضافة لدعايتهم المطبوعة والشفوية، في إحياء المدارس القرآنية "البدائية" في جميع أنحاء البلاد للتأثير على الجيل الصاعد، وقد تكلَّلت مساعيهم بالنجاح الكبير، إذا أخذنا بعين الإعتبار الحواجز التي صادفوها في طريقهم (1) ولكن جيب يلاحظ بهذا الصدد أن "مستقبل الجمعية (2) أصبح مظلماً بعد وفاة عبد الحميد بن باديس عام 1940" (3).
والعملية النقدية ضرورية في أية حركة تقوم على منهج ونظام، يهدف إلى تحقيق أهداف معينة، وإلى تسجيل غايات في الواقع التاريخي، وهذا ما عمل أستاذنا لتنبيه الأذهان إليه، لأنه اكتشف عيوباً منهجية في داخل الحركات الإسلامية الحديثة، أدت في كثير من الأحيان إلى الفشل. فرغم توفر الطاقات والإمكانيات النفسية والعقلية، إلا أنها تسطو عليها عملية التبديد، لعدم وجود عنصر التوجيه والضبط الذي يتيح لها ويضمن بلوغ الغاية المرسومة.
وأغلب من يكتب عن تاريخ الحركات الإصلاحية أو عن تاريخنا الحديث لا يحاول أبداً أن يوجه نقداً وإنما يسلك مسلكاً أقل ما يقال
__________
(1) هـ. أ. جيب، الإتجاهات الحديثة في الإسلام بيروت 1961 ص 64 من الترجمة العربية.
(2) جمعية العلماء المسلمين التي تأسست 5 ماي 1931 في نادي الترقي بعاصمة الجزائر واتفق المجتمعون على أن يتولى عبد الحميد بن باديس رئاستها وهو غائب عن ذلك الاجتماع.
(3) ن. م. ص. ن. ص(1/70)
فيه أنه عاطفي ساذج وهذا ما يزيد في الطين بلة. وإخفاء الداء يزيده تمكناً وانتشاراً دون شك.
لأن جوهر التغيير الإجتماعي أو الإصلاح النفسي والخلقي، يقوم على أساس النقد. والحركة الإصلاحية في الجزائر قامت على الصراع بين ظاهرتين: ظاهرة النقائص والعيوب التي تتمثل في الطرقية، وظاهرة الفضائل والإستعداد النفسي لتقبل الحقيقة (1)، وللتغير الذي يوجد في الشعب. ولا بد من وجود عامل من نوع عقلي تنظيمي، يجعل إحدى الظاهرتين تتغلب على الأخرى، وفعلاً فإنه قام صراع بين مخطط الإستعمار الذي يهدف إلى تغليب ظاهرة الخمود، وبين المنظمات الإصلاحية التي تبذل جهدها للقضاء على هذه الظاهرة وإيجاد نوع من الحركة الإجتماعية التي تهدم الفاسد وتنمي الصالح، وهكذا يقوم في داخل المجتمع نوع من الجدل بين السكون والحركة، ولكن المهم في المشكلة هو أنه إذا وجدت الحركة فكيف نعمل على ضمان استمرارها من ناحية وما هي الشروط اللازم توفرها لتصيب الهدف من جهة أخرى
-4 -
إن المحاولات التي سبقت الشيخ ابن باديس كلها جزئية فردية غير شاملة للوطن كله كما أشرنا من قبل، وتاريخ الثورات في الجزائر كان على هذا النحو حتى جاءت ثورة نوفمبر 1954 فعمت، والثورة الفكرية إنما حاولت أن تكتسب الصبغة العامة في عهد ابن باديس، ففترته فترة ذهبية خصبة من فترات الصراع الفكري، والعمل على تغيير المجتمع في تاريخ الجزائر المعاصر، فابن باديس هو الذي أدخل الجزائر في حركة النهضة الإسلامية العامة.
__________
(1) هذه الفكرة سجلتها في الندوة التي يعقدها الأستاذ في محله مساء السبت من كل أسبوع بتاريخ 12/ 3/1966 بالجزائر.(1/71)
ابن باديس
ألقينا بعض الأضواء على العناصر الأساسية للحياة العقلية والإجتماعية في الفترة السابقة لعهد ابن باديس وأشرنا إليها أيضاً في عهده، ومن ثم فإن تلك اللحظات التاريخية كانت تنتظر شخصية كشخصية ابن باديس تقوم بدور ثوري، يعبر عما يختلج في النفوس من قلق وأمل، ويضيء الطريق أمام الحائرين، ويجمع الشتات، ويوجه الطاقات، ويحيي الشخصية الإسلامية التي أتاها البلاء من كل مكان، وأصابها القرح، وتكالبت عليها ذئاب الغرب، وهكذا جاءت الأيام بالمولود الجديد، منقذ الأمة وقائدها لصنع مصيرها، وخلق تاريخها.
ترجمته:
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في سنة 1308هـ (ديسمبر 1889) (1) فكان الولد البكر لأبويه، وأسرته أسرة قسنطينية مشهورة بالعلم والثراء والجاه، وكانت منذ القدم ذات نفوذ، ومسيرة للسياسة والحكم في المغرب الإسلامي، ونبغ من هذه الأسرة شخصيات تاريخية لامعة منها بلكين بن زيري والمعز بن باديس (2) الذي كان يفتخر به الشيخ عبد الحميد ولا عجب في ذلك فهو بمثابة خليفة له في مقاومة البدع والضلال إذ كان جده يناضل الاسماعيلية الباطنية، وبدع الشيعة في إفريقية، ومن أسلافه المتأخرين
__________
(1) ورد في الإعلام للزركلي ج 4 ص 60 أنه ولد في سنة 1305 - 1887 وهو غير صحيح وهذا نفسه ورد في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ج 5 ص 105.
(2) لقبه المعز لدين الله بأبي الفتوح، وسيف العزيز بالله وسماه يوسف توفي في 21 ذي الحجة سنة 373هـ (984 م) وكانت ولايته من سنة 362 - 373هـ (972 - 984)(1/72)
قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس أحميده بن باديس ومكي بن باديس القاضي بها أيضاً.
وأمه من أسرة مشهورة في قسنطينة كذلك هي أسرة "عبد الجليل" تدعى "زهيرة " بن جلول (لقب) بنت علي بن جلول. وأبوه عضو في المجلس الجزائري الأعلى والمجلس العام (1) كما هو عضو في المجلس
.....
منزل الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويقع في زنقة جورج كنستن رقم 8، بنهج السادس والعشرين دولينيو- قسنطينة
.....
__________
(1) 406 - 453 أو 454هـ واستقبل بالأمر سنة 417هـ(1/73)
العمالي. وعرف دائماً بدفاعه عن مطالب السكان المسلمين بالعمالة القسنطينة (1) وأسرته كانت تنتمي إلى الطريقة القادرية.
حفظ ابن باديس القرآن على الشيخ محمد المداسي، وأتم حفظه في السنة الثالثة عشرة من عمره، ومن شدة إعجاب المؤدب بذكائه وسيرته الطيبة قدمه ليصلِّي بالناس صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير (2) وفي سنة 1903 أدخل الشاب في طور جديد من أطوار دراسته فخيره والده بين أن يسلك طريق أجداده أو طريقاً آخر، فاختار طريق سلفه وهو طريق العلم والجهاد فانتخب له أبوه أحد الشيوخ الصالحين من دوي المعارف الإسلامية والعربية وهو الشيخ أحمد أبو حمدان لونيسي الذي كان منتمياً إلى الطريقة التيجانية سالكاً منهجهاً فأخذ يعلمه بجامع سيدي محمد النجار (3) مبادىء العربية والمعارف الإسلامية ويوجهه وجهة علمية أخلاقية. وكان ابن باديس يعترف له بالفضل، وبما كان له من تأثير في نفسه، ثم هاجر حمدان لونيسي إلى المدينة المنورة متبرماً من الاستعمار الفرنسي، وسلطته، مجاوراً، بها، مدرساً للحديث إلى أن توفاه الله. وحين عزم على الهجرة تعلل لدى السلطات الإستعمارية بأنه يسافر لمعالجة بصره، رغب ابن باديس أن يسافر معه ولكن أباه منعه وصرفه عن ذلك.
وحين بلغ الخامسة عشر من عمره (1904) زوَّجه والده وأنجب ولداً اسماه عبده اسماعيل توفي وعمره سبعة عشر
__________
(1) Conseil supérieur de l'Algérie et Conseil général, voir La Naissance du Nationalisme Algérien,, Par André Nouchi, P. 64.
(2) ن. م. ن. ص. مجلة إفريقيا الشمالية (نشأه ابن باديس لمحمد الصالح رمضان العدد 4 السنة الأولى ماي 1949 ص43).
(3) واقع بجنب جامع سيدي عبد المؤمن بقسطنطينة.(1/74)
عاماً (1) وهذا الإسم له دلاله، لأن هذا الإبن ولد تقريباً في السنة التي توفي فيها محمد عبده، أو في التي بعدها، والشيخ محمد عبده زار الجزائر العاصمة ومدينة قسنطينة سنة 1903 وعمر ابن باديس أربعة عشر عاماً فمن الممكن أن يكون قد اتصل به أو سمع عنه، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار تردد ابن باديس الشاب على الجامع الكبير، وإمامته بالناس في صلاة التراويح، وهو المسجد الذي زاره محمد عبده في قسنطينة.
ثم جاء دور الرحلة في حياة الشاب فسافر إلى مدينة تونس في سنة 1908 وسنه إذ ذاك تسعة عشر عاماً وانتسب إلى جامع الزيتونة، وعرف في دراسته بالجد والنشاط، فأخذ يتلقى الثقافة الإسلامية العربية، ويأخذ عن جماعة من أكابر علماء الزيتونة أمثال العلامة المفكر الصدر محمد النخلي القيرواني المتوفى في رجب سنة 1342هـ (1924م) وكان قد قرظ الرسالة التي ألفها عبد الحميد بن باديس في الرد على بن عليوة الصوفي (2) والشيخ محمد الطاهر بن عاشور (3) الذي كان له تأثير
__________
(1) مدفون بجوار أبيه توفي في 15رمضان 1337هـ كما هو مكتوب على قبره.
(2) إسم الرسالة: جواب سؤال عن سوء مقال أتم تأليفها في 27 ذي الحجة عام 1340 بها 20ص طبعت بالمطبعة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة دون تاريخ. تقريظ النخلي يوجد في ص21 وهو أول تقريظ ورد إليه مؤرخ ب 5 صفر سنة 1334هـ.
(3) ولد بتونس سنة 1296 هـ (1879) تولى منصب قاضي القضاة سنة 1351هـ (1931م) ومشيخة الجامع الأعظم فرفع من شأن الجامعة الزيتونية وأقام بها نهضة علمية استفادت منها كثير من البلدان الإفريقية وهو عضو بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وبالمجمع العلمي بدمشق أنظر كتابه: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية سنة 1964 طي الغلاف الداخلي له كثير من المؤلفات والدراسات العربية والإسلامية.(1/75)
كبير في تكوين عبد الحميد بن باديس اللغوي وفي الشغف بالأدب العربي والإعتزاز به.
وقرظ بدوره رسالته المذكورة (1) ومن أساتذته الشيخ الخضر بن الحسين الجزائري الأصل (2) الذي درس بجامع الزيتونة وحضر عليه عبد الحميد دروساً في المنطق من كتاب "التهذيب" للسعد بجامع الزيتونة، كما أخذ عنه دروساً في التفسير في أوائل كتاب البيضاوي بدار الأستاذ: شارع باب منارة تونس (3) ومنهم أبو محمد بلحسن إبن الشيخ المفتي محمد النجار الذي تولى الإفتاء سنة 1342هـ (4) وهو من بين الذين قرظوا رسالته أيضاً، ومنهم محمد الصادق النيفر وسعد العياض السطايفي المصلح المجدد، ومحمد بن القاضي، والبشير صفر المؤرخ المجدد، وغيرهم كثير. وتخرج بشهادة التطويع في سنة 1911 - 1912 وعمره ثلاث وعشرون سنة وعلم سنة واحدة في جامع الزيتونة على عادة المتخرجين في ذلك الوقت. ولا شك فإن البيئة الثقافية والإجتماعية التي احتك بها، والعلاقات التي كانت له مع بعض العلماء أثرت في تكوينه وشخصيته، واتجاهه العقلي، وأكثر ما كان اتصاله قوياً وعميقاً ومؤثراً إنما كان بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي، اللذين يعتبران زعيمي النهضة الفكرية والعلمية والإصلاحية في الحاضرة التونسية لأنهما كانا من أنصار أفكار جمال الدين ومحمد عبده الإصلاحية، ويذكر لنا الشيخ عبد الحميد بن باديس، أن الشيوخ الجامدين كانوا ينفرونه من الاتصال بهما، وبقي
__________
(1) أنظر الرسالة ص 23 وهي ضمن الجزء الثاني من هذا الكتاب في قسم "الإصلاح والثورة ضد البدع".
(2) أصله من طولقة جنوب الجزائر بعد مدينة بسكرة.
(3) أنظر مقال "أولو الأمر" لعبد الحميد ج 8 م 15 ص 2.
(4) شجرة النور الزكية ص 429.(1/76)
بعيداً عنهما تحت تأثير التقليد إلى أن أتيحت فرصة الإتصال بمحمد الطاهر بن عاشور أولاً، ثم مهَّد له فتعرف على محمد النخلي وتأثر به، وذلك في الفترة الأخيرة من دراسته العليا (1).
عوامل تكون شخصيته:
مما تقدم تبين لنا العناصر الأساسية التي أدت إلى تكوين شخصية عبد الحميد بن باديس وقد أكد لنا في كلمة قالها بمناسبة ختمه القرآن (2)
هذه العوامل:
العامل الأول في تكوينه من الناحية العملية والعلمية وتوجيهه ذاك التوجيه يعود إلى أسرته، وخصوصاً أباه الذي رباه ووجهه وجهة أخلاقية وعلمية وحماه من المكاره صغيراً وكبيراً على حدِّ تعبيره، وكان أبوه من ذوي الفضل والخلق الإسلامي ومن حملة القرآن الكريم ولا يخفى ما لتأثير الأسرة في شخصية الطفل من أهمية بالغة.
والعامل الثاني يرجع إلى بيئة الدراسة وتأثير المربين من المعلمين والشيوخ الذين نموا إستعداده وتعهدوه بالتوجيه والتكوين، وابن باديس يطيب له أن يذكر لنا فضل أساتذته عليه، في تخطيط مناهج العمل في الحياة قال: "وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية ... حمدان لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله (3).
__________
(1) اتصل بالشيخ الطاهر بن عاشور مدة ثلاث سنوات وبالشيخ محمد النخلي مدة سنتين دراسة عليهما.
(2) يجدها القارىء في آخر تفسيره بهذ الكتاب ج 1.
(3) ج 4 م 14 ص 288 - 291 غرة جمادى الأولى- وربيع الثاني 1357هـ جوان- جويلية 1937 والنص قد أشرنا إلى موضع وجوده آنفاً في هذا السفر.(1/77)
وله مع كل من هذين المربيين واقعة هي التي جعلته يتجه اتجاهاً معيناً سواء من الناحية العملية أو النظرية وهذا حديثه عن تينك الواقعتين قال:
"وإني لأذكر للأول (حمدان لونيسي) وصية أوصاني بها، وعهداً عهد به إليَّ. وأذكر أثر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجدني مديناً لهذا الرجل بمنَّة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد عليَّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها، كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت. وأذكر للثاني (محمد النخلي) كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله فذاكرت يوماً الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: "إجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الأراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح، وتستريح .. فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها" (1) فهذا النص في غاية الأهمية من حيث دلالته على مدى تأثره في تكوينه بهذين الأستاذين، ومن الأساتذة الذين أثروا فيه وكونوا جانباً من أهم جوانبه، وهو جانب الأدب وتذوق الآثار الفنية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور زميل الأستاذ النخلي في نسبتهما إلى البدعة والضلال اللذين كانا يوصفان بهما لأنهما يناضلان عن آراء محمد عبده وينشرانها في صفوف طلابهم، يقول ابن باديس "وإن أنس فلا أنسى دروساً قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور
__________
(1) ن. م.(1/78)
وكانت أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت فيَّ روحاً جديداً في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعزِّ العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام" (1).
ولم ينس الشيخ عبد الحميد رحمه الله أن يبين لنا عاملاً آخر من أهم العوامل وهو الشعب الجزائري، وما ينطوي عليه من أصول الكمال، واستعدادات عظيمة للخير، وهو ما عمل على تنميته والنضال من أجل تغليبه على جوانب النقص وعوامل السكون، كما سبق أن لوحنا إلى ذلك. ويصف الأمة الجزائرية بأنها أمة معوانة على الخير منطوية على استعدادات الكمال وأنها ذات نسب عريق في المحامد والفضائل (2) ثم يبين عاملاً آخر وهم زملاؤه من العلماء الأفاضل الذين ساعدوه منذ فجر النهضة وشدوا ساعده فورى بهم زناده، وسطع نجمه أمثال الشهيد الشيخ العربي التبسي (3) والشيخ البشير الإبراهيمي (4) والشيخ العقبي في أول أمره والشيخ مبارك الميلي وغيرهم.
والعامل الأخير الذي يفوق جميع العوامل الأخرى والذي كرَّس له ربع قرن من حياته، هو القرآن الكريم الذي صاغ نفسه، وهزَّ كيانه، واستولى على قلبه فاستوحاه في منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره يستلهمه ويسترشده، ويتأمله فيعبُّ منه ويستمدُّ علاج أمراض القلوب، وأدواء النفوس، ويذيب نفسه،
__________
(1) البصائر السنة الأولى العدد 16 الجزائر الجمعة 2 صفر 1355 - 24 افريل 1936.
(2) ن. م.
(3) اختطفه المستعمرون الفرنسيون في مارس 1957 أثناء الثورة وغاب عن الوجود من ذلك التاريخ رحمه الله.
(4) توفي في 19 ماي 1965م.(1/79)
ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية ومنبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري. وكان همه أن يكوِّن رجالاً قرآنيين يوجهون التاريخ ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل قال: "فإننا - والحمد لله- نربِّي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم ... " (1).
ولما رجع الشيخ من تونس عاد شعلة من الحماسة وشهاباً وارياً من الدين، فقصد الجامع الكبير وأخذ في إلقاء الدروس وابتدأ بتدريس كتاب الشفاء للقاضي عياض، ولكن المكائد حيكت له، فعمل أعداؤه على إقلاقه ومنعه وأطفأوا عليه الضوء وهو في الدرس فقرر السفر للحج إلى بيت الله الحرام وللقاء شيخه حمدان لونيسي، فاستأذن أباه وسافر وأتيح له أن يتصل في رحلته هذه بأطراف من العالم الإسلامي في المشرق وبجماعة من المفكرين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
ومن الأعمال التي سجلها في الأراضي المقدسة أنه قام بإلقاء درس في الحرم النبوي على مشهد كثير من المسلمين وبحضور شيخه حمدان لونيسي، وعند رجوعه من مهبط الوحي، سلم له حمدان لونيسي رسالة إلى الشيخ بخيت (2) العالم الأزهري المصري زميل الشيخ محمد عبده والمدافع عنه، فاتصل به في منزله بحلوان، ولما بين له أنه مرسل من طرف أستاذه قال له معظماً إياه: "ذاك رجل عظيم! " وحينما توفي ترجم له
__________
(1) ن. م.
(2) ولد بقرية المطايعة بمحافظة أسيوط بعد أن حفظ القرآن أرسل إلى الأزهر سنة 1282هـ فدرس الفقه الحنفي والفلسفة على الشيخ حسن الطويل وعلى جمال الدين الأفغانى، نال شهادة العالمية سنة 1292 وتقلب في مناصب كبيرة إلى أن عين مفتياً للديار المصرية في 31 دسمبر 1914 له مكتبة عظيمة (8000 مجلد) توفي في سنة 1935.(1/80)
عبد الحميد بن باديس في مجلة الشهاب (1) وكان قد أجازه. ومرَّ كذلك على الشام (دمشق ولبنان) وهكذا فإن ابن باديس أتم دراسته بالرحلة في البلاد الإسلامية ومحادثة العلماء وهو ما يعتبر من شروط العالم المتمكن من التقاليد العلمية، والمناهج التربوية الإسلامية، وبالطبع فإن هذه الرحلة أطلعته على الأوضاع الإجتماعية والسياسية والثقافية، وفيها خبر أحوال الناس مما وسع أفقه وبصَّره بطريق الخلاص والثورة الفكرية التي تعتمد على التربية في تكوين القادة من النخبة أو الصفوة المبدعة.
ولما نزل قسنطينة سنة 1332هـ (1913) شرع في العمل التربوي (2) وأخذ يعلم صغار الصبيان الذين يقرأون القرآن في الكتاتيب وخصوصاً كتاب سيدي فتح الله.
وحوالي سنة 1922م تبلورت في الأوساط الإصلاحية فكرتان تختلفان في المنهج، وتتفقان في الهدف، الفكرة الأولى ترى أن السبيل هو توجيه الطاقات والجهود نحو ناحية التربية والتعليم وتكوين نخبة من الدعاة مدربة على مناهج الدعوة، مسلحة بالعلم والمعرفة، مطلعة على أصول الدين وعقائده، وكان من أصحاب هذه الفكرة في ذلك الوقت الشيخ البشير الإبراهيمي (3) وكان الرأي الثاني يقوم على أساس
__________
(1) ش: ج 11 م 11 ص 606 - 607 غرة ذي القعدة 1354هـ - فيفري 1936م.
(2) قمت بمحاضرة عالجت فيها عمله التربوي بقاعة المحاضرات الجامعية في 16 أفريل 1966 بالجزائر.
(3) مقال للشيخ البشير الإبراهيمي في"سجل مؤتمر جمعية العلماء قسنطينة (1935) ص 43 رجع الإبراهيمي إلى الجزائر من الحجاز حوالي 1920 بعد ما مكث فيه سنوات فدرس في المدينة المنورة على الشيخ حسين بن أحمد الفيض آبادي الهندي صحيح مسلم ودرس
>>>(1/81)
ثوري عنيف يزلزل سلطان البدع المستحكمة، ويهدم العادات المتمكنة، وهذا الرأي يمثله الشيخ عبد الحميد بن باديس ونخبة من الشبان وهكذا رجح الرأي الثاني ودخل في مرحلة التطبيق العملي، فأسس عبد الحميد جريدة "المنتقد" التي يبين اسمها عن معنى النقد الذي كانت تخشاه أرباب الطرقية وتقاومه في مناهج تربيتها للمريدين وللجمهور بتلك العبارة المعروفة "إعتقد ولا تنتقد" وأول مقال في الصفحة الأولى عنوانه: خطتنا: مبادئنا وغايتنا وشعارنا "افتتح بهذه العبارة":
" باسم الله ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون ... " (1).
ثم تأتي ثلاثة عناوين أخرى:
1 - مبدؤنا السياسي.
2 - مبدؤنا التهذيبي.
3 - مبدؤنا الانتقادي.
ومما جاء في مبدأ النقد أنه لا يتعرض للأشخاص، فيما يختص بأحوالهم الشخصية وإنما يتوجه إلى سلوكهم، الذي يمس شؤون الأمة وعدَّد مَن يتعرض للنقد، وبين أصنافه من الطبقات الإجتماعية فقال:
" فننقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من
__________
<<<
على الشيخ الوزير التونسي كتاب الموطأ للإمام مالك كما درس في مصر لمدة ثلاثة أشهر وجالس العلماء والأدباء والشعراء أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ يوسف الدجوى، والشيخ سليم البشري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ... أنظر مقال "محمد البشير الإبراهيمي في ذمة الله" في المجلة: سجل الثقافة الرفيعة، السنة التاسعة العدد 106 اكتوبر 1965 ص 94.
(1) المنتقد العدد الأول ص 1(1/82)
يتولى شأناً عاماً من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين، وننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه، والتنديد بظالمه كائناً من كان، لأننا ننظر من الناس إلى أعمالهم، لا إلى أقدارهم، فإذا قمنا بالواجب فلأشخاصهم منَّا كل احترام" (1) والتزم صاحب المقال بأن يكون النقد هادفاً إلى الحقيقة المجردة، صادقاً، مخلصاً، نزيهاً وبأن يكون الكلام الذي يؤديه نظيفاً.
وشعار هذه الجريدة شعار جريء خصوصاً في تلك الفترة العسيرة التي أبغض ما كان فيها للإستعمار الفرنسي كلمة "الحق" وكلمة "الوطن" وهما الكلمتان الأساسيتان في الشعار: "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" والحقيقة أن صدور مثل هذه الصحيفة في مثل تلك اللهجة الصريحة الصادقة العنيفة لتعتبر مغامرة في ذلك العهد القاسي المظلم. والطريف أنه مهَّد لهذا الشعار بعبارة غير رسمية عنده وهي: "سعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديمقراطية" وجاء بعدها مباشرة ما يلي: "صارخين دائماً بشعارنا الرسمي" ثم ذكر الشعار المتقدم فالعبارات دقيقة في هذا المقال دقة متناهية. ولما كان هذا العدد صادراً في وقت كانت فيه الثورة الريفية التي قام بها الأمير عبد الكريم الخطابي على قدم وساق فإننا وجدنا كلمة في الصفحة الثانية تحت عنوان: "الحرب الريفية" ومما جاء فيها: "وهو (عبد الكريم) في الحقيقة صاحب الحق الشرعي، في أرض الريف" (2)، وكتب الشيخ محمد النجار الحركاتي مقالاً في الصفحة الثانية تحت عنوان "حسن التعليم على أساس كل تقدم" (3) كما نقل فيه مقالاً لمنصور فهمي المصري
__________
(1) ن. م. ن. ص.
(2) ن. م. ص 2 ع 2.
(3) ن. م. ن. ص. ع. ع.(1/83)
عنوانه "الكرامة" (1) وبه قصيدة بعنوان: "حديث الأدب وروضة الشعر، من المنتقد إلى الشعب المقدس" مطلعها:
أتيتك بالبشرى تهيا لاقبال ... وكبر على التشريق تكبير إجلال
بإمضاء: "شاعر المنتقد" (2) ويحمل هذا العدد إعلاناً بإنشاء مطبعة جزائرية إسلامية للشعب الجزائري وأن المؤسس لها نخبة من الشبيبة الجزائرية لنشر العلم والعربية وفن الطباعة بين أبناء الوطن (3) ولكن "المنتقد" لسان الفكر الثوري المعبر عن إرادة التغيبر، لم يلبث أن توقف (4) ومنعته الحكومة الفرنسية. ومن الإتفاقات الغربية أنه صودر بعد ثمانية عشر عدداً منه كما وقع ذلك للعروة الوثقى التي صودرت بعد صدور ثمانية عشر عدداً أيضاً. والواقع أن الجريدتين تتشابهان في اللهجة الثورية، وتوجيه النقد للأوضاع الإجتماعية والسياسية ويصدران عن روح واحدة وإرادة قوية، وحماسة يقظة تؤدي رسالة اليقظة والوعي، ولا نستطيع أن نقارن بينهما مقارنة كاملة لأننا لا نملك جميع أعداد "المنتقد" ولم نطلع إلا على بعضها. ولم تتوقف الحركة باستشهاد "المتنقد" بل استمرت وأصدر الشيخ جريدة "الشهاب" التي تعتبر خلفاً له، وجاء في العدد الواحد والثلاثين (5) مقال للشيخ الشهيد العربي التبسي عنوانه: "أزفت
__________
(1) ن. م. ص 3 ع 1 و2 و3.
(2) وهو الشاعر العربي الأصيل الهادي السنوسي الزاهري نظمها بطلب من الشيخ عبد الحميد يبين فيها برنامج المنتقد ومنهجه.
(3) ن. م. ص4 ومديرها ابن القشي خليل بن محمد وشعارها النظام والإتقان.
(4) يبدو أنه توقف في شهر نوفمبر 1925.
(5) بتاريخ الخميس 6 ذي القعدة 1344هـ 17 جوان 1926م.(1/84)
ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد" وذُكِر فيه أنه آخر الأعداد للسنة الأولى منه وأنه "والمنتقد" (صنوان أنشئا على مبدأ واحد، ولغاية واحدة، قضت طوارق الزمن على أحدهما فخلفه الآخر) (1) وفي العدد 75 منه مقدمة للتفسير الذي كتبه المرحوم عمر راسم الصنهاجي يوم كان في السجن سنة 1916 (2) وفي العدد 128 مسابقة في كتابة مقال في موضوع "كيف يكون إصلاحنا"، دعا إليها الكاتب السيد شلابي عبد القادر من مدينة تلمسان وكانت الجائزة المخصصة للفائز مبلغ مائتي ألف فرنك (200000ف) أو (2000 د) ونال الجائزة كاتب اسمه (ابن آدم) من أبناء حواء بلا شك!! (3) ونشر هذا المقال الذي نال الجائزة بالعدد الموالي (4) وبالعدد الأربعين مقال عن الوهابية (5) وفي العدد 164 (6) مقال عنوانه: "الدعوة الإصلاحية هنا وهناك" يتحدث فيه صاحبه عن الدعوة الوهابية ونقل فيه أيضاً مقال عن مجلة المنار، ورسالة عبد الوهاب النجدي إلى عبد الله الصنعاني. وبصفة عامة فإن "الشهاب" ومن قبله "المنتقد" يمثلان لسان الشباب الناهض بالوطن الجزائري واستمر "الشهاب" في صورة جريدة إلى غاية رمضان 1347 هـ فيفري 1929م وفي هذه السنة تحول إلى مجلة شهرية علمية تبحث في كل ما من شأنه أن "يرقي المسلم الجزائري" ومبدؤها في الإصلاح
__________
(1) ص 5 ع 2.
(2) ص 7.
(3) صدر العدد 128 في 5 رجب 1346هـ 29 ديسمبر 1927م
(4) عدد 129 صدر في 12 رجب 1346 هـ 5 جانفى 1928م
(5) صدر العدد 4 الخميس 12 محرم 1345 - 22 جويلية 1926 والمقال المذكور في ص 2، ع،32
(6) صدر في 6 ربيع الثاني 1347هـ 20 سبتمبر 1928.(1/85)
الديني والدنيوي هو: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) (1) و: (الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات) وكُتِب هذا على غلاف المجلة، كما كتب على أركانها الأربعة أربع كلمات: (الحرية، العدالة، الأخوة، السلام)، وكُتِب في أعلى الصفحة الأولى آيتان قرآنيتان هما:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2)
وَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3).
ورد في أول مقال له (تستطيع الظروف تكييفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا) ونلاحظ أن هناك مبدأ من هذه المبادىء طرأ عليه تغيير وتطور بسبب المؤتمر الإسلامي الجزائري، واليأس من وعود فرنسا والجبهة الشعبية بصفة خاصة وهو "الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات" فأصبح مكانه شعار آخر يؤمن بأن الحقوق لا تعطى وإنما تؤخذ غلاباً: "لنعول على أنفسنا ولنتكل على الله (4) وكان هذا التغيير في سنة 1356هـ 1937م (5) وصمدت المجلة تؤدي رسالتها مصدرة في الغالب بتفسير آيات من
__________
(1) قول ينسب إلى الإمام مالك أنظر كتابه الموطأ.
(2) 12/ 108 يوسف.
(3) 16/ 125 النحل. أنظر مثلا ج 11 م 6.
(4) جاء في ج 9 م 13 ص 406 (فإزاء هذا رأينا أن من الواجب علينا أن نعلن لشعبنا أن لا نعتمد إلا على أنفسنا ونتكل على الله).
(5) أنظر ج8 م13(1/86)
القرآن الكريم، وبشرح بعض الأحاديث إلى آخر عدد منها الصادر في شعبان 1358هـ سبتمبر 1939م (1).
وخلال هذه المدة التي كانت تصدر فيها مجلة "الشهاب" كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (2) تقوم بنشاط صحفي، يتمثل في جرائد أسبوعية فتأسست صحيفة: "السنة" في يوم الاثنين 8 ذي الحجة 1351هـ (1933 م) ثم منعتها الحكومة الفرنسية، وآخر عدد منها صدر في 10 ربيع الأول 1352هـ 3 جويلية 1933م فخلفتها جريدة "الشريعة" بتاريخ 24 ربيع الأول 1352هـ 17 جويلية 1933م ولم تلبث أن صودرت وصدر آخر عدد منها في 7 جمادى الأولى 1352هـ 28 أوت 1933م وخلفتها صحيفة أخرى سميت بـ: "الصراط" الصادرة بتاريخ يوم الإثنين 21 جمادى الأولى 1352هـ 11 سبتمبر 1933م فأصابها بعد مدة ما أصاب أخواتها من قبل، فلقيت حتفها.
وصدر العدد الأخير منها في 22 رمضان 1352هـ جانفي 1934م وبعد هذا أسست جمعية العلماء جريدة أخرى تسمى: "البصائر" وصدر أول أعدادها في يوم الجمعة 1 شوال 1354هـ 27 ديسمبر 1935م ثم انقطعت سلسلتها الأولى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية وظهرت سلسة ثانية بتاريخ يوم الجمعة 7 رمضان 1366هـ 25 جويلية 1947م (3) واستمرت إلى أن توقفت أثناء الثورة الكبرى ثورة أول
__________
(1) لم نعثر منه إلا على الملزمة الأولى أثناء زيارتنا لقسنطينة سنة 1386هـ 1966م ويبدو أنه لم يطبع من العدد الأخير إلا ملزمة واحدة ولم تكن مجلة الشهاب تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
(2) تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين 5 ماي 1932 برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
(3) بالعدد الأول مقال للأستاذ الإبراهيمي عنوانه "استهلال" وقصيدة للشيخ أحمد بن سحنون بعنوان: "البصائر تتكلم" مطلعه:
>>>(1/87)
نوفمبر سنة 1954م وذلك في 6 افريل سنة 1956م. ومن هنا تتبين لنا حقيقة من الضروري أن نصرح بها وهي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس يجمع بين النهضة الثقافية الإجتماعية، وبين النهضة السياسية، بين التربية الإسلامية وبين الصحافة، ومما يؤكد لنا هذه الحقيقة أنه صرح في محاضرة ألقاها في تونس في ذكرى البشير صفر فقال: "لا بدَّ لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بحق" (1).
فاتخذ النشاط الصحفي وسيلة للسياسة وللتهذيب، كما اتخذ المؤسسات التربوية للتعليم والتربية، وتكوين القادة، وبث الوعي، والواقع أننا لا نستطيع أن نفصل بين نشاطه العلمي والسياسي فهما متداخلان متكاملان في نظره وعمله.
وفكرة المؤتمر الإسلامي الجزائري هو الذي دعا إليها واقترحها وبثها على صفحات جريدة "الدفاع" La Défense التي كان يصدرها الأمين العمودي باللغة الفرنسية (2) وفي أوائل سنة 1940م قبل وفاته كان قد صرح في اجتماع خاص مقسماً فقال: (والله لو وجدت عشرة
__________
<<<
طال صمتي تحت أعباء ثقال ... وعوادٍ أخرست كلَّ مقال
ويلاحظ أنه حذفت الآية التي كانت في السلسلة الأولى شعاراً لها وهى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) 104/ 6 (الانعام) وحذفها كان في أواخر السلسلة الأولى.
(1) أنظر البصائر ع 71 من السنة الثانية من السلسلة الأولى الصادر في 9 ربيع الثاني 1356هـ- 18 جوان 1937 م ص 4.
(2) جريدة الدفاع La Défense العدد الثاني جانفي 1936 أنظر مقال (مع عبد الحميد بن باديس في ذكراه للأستاذ حمزة بوكوشة في مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الأوقاف الجزائرية العدد 20 ذو الحجة 1383 أفريل 1964 ص 18 ثم تغير إسم هذه المجلة وأصبحت تسمى "القبس" صدر العدد الأول منها في ذي القعدة 1385 ومارس 1966م(1/88)
من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها) (1) وكان يرمي من وراء ثورته وعمله إلى تحقيق الإستقلال فبمناسبة رجوع رئيس حزب الشعب "مصالي" من باريس وإعلانه طلب الإستقلال التام سنة 1936م كان جماعة من أنصار حركته جالسين معه فقال: (وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل أن يتركه بدون سقف، وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الإستقلال) (3) وحينما حمي وطيس الحرب العالمية الثانية إجتمع به جماعة من أنصار حركته ومريديه فقال: "عاهدوني".
فلما أعطي له العهد بالمصافحة قال: "إني سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب" (3) وروى تلميذ آخر من تلامذته أنه كان يريد الخروج على فرنسا إلى جبال أوراس ليعلنها ثورة على فرنسا لو وجد رجالاً يساعدونه (4) وأكثر من ذلك فإنه أعلن رأيه في الإستقلال وتنبأ به في رده على أحد "الزعماء" الذين تنكروا لوجود الأمة الجزائرية والوطن الجزائري وتاريخه، واختاروا لأنفسهم الوطنية الفرنسية واتحدوا مع الوجود الفرنسي، ولم يتحرج ولم يخش الحديث عن الإستقلال فقال: "إن الإستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم، والمنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله، ويقولون إن حالة الجزائر
__________
(1) في سهرة في بيته بمبنى جمعية التربية والتعليم الإسلامية بحضور الأستاذ علي مرحوم وعبد الحفيظ جنان.
(2) روى هذه الكلمة الأستاذ المعاصر للحركة: علي مرحوم.
(3) اجتمع به الأستاذ محمد الصادق الجندلي إمام ووكيل ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر والشيخ حمزة بوكوشة أنظر مقال الأخير في المعرفة المصدر السابق ذكره.
(4) قال ذلك في محاضرة بمناسبة ذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس (25) بقاعة ابن خلدون سنة 1385 - 1965م والمحاضر هو الشيخ أحمد حماني(1/89)
الحاضرة ستدوم إلى الأبد، فكلما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلباً مع التاريخ، وليس من العسير بل إنه من الممكن، أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الإستعمارية عامة والفرنسية خاصة ... وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة إستقلالاً واسعاً، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحرِّ على الحر" (1).
والواقع أن هذا المقال الذي عنوانه: "حول كلمتنا الصريحة" بمثابة التراجع عن موقفه إزاء من أنكر الكيان الوطني، والوجود الذاتي للشعب الجزائري، في مقال له عنوانه: "كلمة صريحة" وهذه غلطة تاريخية سياسية تعود لأسباب نفسية وشخصية معينة، ولتأثير الشيطان السياسي الذي يستغل طيبة الرجل وأخلاقه، وتسامحه، لأن المؤتمر قد قرب، وحكم الأمة سيصدر، وشهادة الشعب ستؤدى ولكن تمخضت
الأيام بمؤتمر خيب الظن، وأفسد المسعى، وتنازل عن رئاسته من أجمعت عليه الأمة، وألح عليه المؤتمرون فكان ما كان، وهذه تضاف إلى تلك والمعصوم من عصم الله.
-5 -
جوانب شخصية ابن باديس
إن شخصية الأستاذ عبد الحميد غنيَّة ومعبرة عن أزمة المجتمع الإسلامي لا تماثلها إلا شخصية جمال الدين الأفغاني في ثرائها، وشمولها، وجرأتها، وتعبيرها عن جميع جوانب المشكلات الإجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والعلمية، والسياسية التي يتخبظ فيها العالم
__________
(1) ش: ج 3، م 12 ص 145 - 146 ربيع الأول 1355 هـ - جوان 1936(1/90)
الإسلامي. فعبد الحميد بن باديس مفسر للقرآن تفسيراً سلفياً يراعي فيه مقتضيات العصر معتمداً على بيان القرآن للقرآن، وبيان السنة له، وعلى أصول البيان العربي وسننه، والنفاذ إلى لغة العرب وآدابها، وقوانين النفس البشرية وسنن المجتمع الإنساني، وتطور التاريخ والأمم وهو محدِّث من الطراز العالي لا يستشهد إلا بالأحاديث الصحيحة المسندة إلى الصحاح الست، إلى البخاري أو مسلم أو الموطأ الذي اهتم به واعتبر منهجه في الاستدلال خير المناهج، فدرسه وختمه كما ختم القرآن في ربع قرن. والظاهرة الواضحة في الحياة العلمية التي نهض بها هي: الناحية النقدية المنهجية التي تردُّ الفروع لأصولها، والأصول لمستنداتها، فأذهب ذلك الجوَّ القاتم الساكن المستسلم الذي يسمع فيه الطالب ويسلِّم معتقداً أن "سلِّم تسلم" وأن "سلِّم للرجال على كل حال" مبدأ لا ينبغي تحديه، ولا تجاوزه، وهو ما كان سائداً قبل حركته. وهو كاتب ذو سلاسة وعذوبة وسهولة، وأسلوبه أسلوب سهل ممتنع لا يستعمل السجع، ولا يتكلفه، كيف لا، وهو الدارس لكتاب الأمالي وديوان الحماسة، وديوان المتنبي، ومقدمة ابن خلدون، والعواصم من القواصم، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، ومن قبل ذلك كله، معجزة الأدب العربي، وآية روعته: القرآن، وجمال حديث صاحب جوامع الكلم، وأفصح من نطق من بني يعرب؟ وهو شاعر يفيض الشعر من قلبه، وخطيب ينسيك سحبان وقس، لا يتلعثم ولا يتردد، يستولي على النفوس ويملك العقول. وهو فقيه مطلع على مدارك المذاهب، وخاصة مذهب الإمام مالك، جامع بين الأصول والفروع، وبين المآخذ الكلية وجزئيَّاتها، يفتي ويربط الحوادث بأحكامها، وهو مصلح ديني واجتماعي يحارب التقليد والبدع، ويدعو للنهضة والحضارة، ويغرس الحب وأصول الأخلاق التي هي جوهر المدنية. يقول: "أنا زارع محبة ولكن على أساس من العدل والإنصاف(1/91)
والإحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان، فاعملوا للأخوَّة ولكن مع كل من يعمل للأخوَّة، فبذلك تكون الأخوَّة صادقة" (1). وهو صحفي قدير يقضي ليله في إعداد المقالات وقراءة الجرائد والمجلات العربية الآتية من جميع البلاد العربية والإسلامية، والأجنبية المكتوبة باللغة الفرنسية (2) ويعلق عليها ويرد، ويناقش ويكتب في أصول السياسة الإسلامية. وهو مؤرخ يحلل الحضارة، وينقد مقدمة ابن خلدون، ويدرس آيات القرآن وما تنطوي عليه من الدعوة إلى النظر في تجارب الأمم وتطورات الأحداث، وما تخضع له من سنن وقوانين لا تبديل لها ولا تحويل، وهو صوفي زاهد لا كمتصوفة أهل زمانه وزهادهم، متأثر بالغزالي ويسمى كتابه "إحياء علوم الدين" بكتاب الفقه النفسي وبأبي بكر بن العربي الذي نبهه إلى كتابه "العواصم من القواصم" شيخه اللامع محمد النخلي القيرواني فاستنسخه وحققه وطبعه. ويظهر تأثير أبي بكر بن العربي في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة ولا منهج المتكلمين وإنما نهج طريق القرآن في الإستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن. يعتقد أن المدارك الإنسانية التي تمتاز بقوة التحليل والتركيب هي التي تجعلها تتغلب على الطبيعة
__________
(1) كلمات قالها في حفل اختتام تفسير القرآن للشباب الفتي ولكشافة الرجاء ولجماعة التربية والتعليم الإسلامية في كلية الشعب بقسنطينة مساء الثلاثاء13 ربيع الثاني 1357هـ 1938م أنظر ج7 م 15، ص 346.
(2) كان يطالع الصحافة الفرنسية روى الأستاذ محمد الصالح رمضان أنه كان يشتري جريدة لاديبيش دي قسطنطين وقيدت عنه هذا في محاضرة ألقاها في نادي اتحاد الطلبة الجزائريين إحياء لذكراه بتاريخ 24 ذي الحجة 1385 - 16 أفريل 1966 ومع ذلك فإنه لا يتحدث بها(1/92)
قبره مع صورتي السيدين مرازقة وعمار الطالبي، وهو يقع في حي الشهداء في الروضة الخاصة بأسرته، قرب مقبرة قسنطينة.
ــــــــــــــــــــــــــ
وتسخرها، وأن الظواهر الإجتماعية تخضع لمبدأ الأسباب والمسببات، وأنه لا ينبغي الوقوف عند مجرد المحسوسات، قال: "وعلَّمنا (الله) ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل من حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل(1/93)
عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير (1) والجمع بين المشاهدة والعقل هو المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة.
إنه شخصية عجيبة، مجدد للنفوس البالية وباعث للضمائر الخامدة، والقلوب الهامدة، باث للعلم، محرك للعقول، مرجع الثقة للناس، زارع بذور الثورة، مشيع فكرة الحرية، مبين المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، فاتكشفت به الغياهب الدكناء وانجابت الغيوم الكثيفة، والضباب العاتم من سماء الجزائر. واستمر يواصل النضال العلمي والإجتماعي والسياسي يعلم، ويرشد ويعظ ويحرر ويتنقل ويتعبد ويتأمل ويحقِّق، لا يهدأ له بال لا بالليل ولا بالنهار، لم يشفق على
.....
- صورة -
منظر لروضة أسرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهي واقعة في حي الشهداء (قسنطينة)
__________
(1) أنظر تفسير آية 7/ 25 (الفرقان) أنظر مجلة "التهذيب الإسلامى" الصادرة بالجزائر محرم 1385هـ ماي 1965م السنة الأولى العددان 3 و 4 مقال للمؤلف ص 11 - 14 والعددان 9 و 10 ص 75 - 81.(1/94)
نفسه ولا على جسمه، ولم يبال بصحته في سبيل مبدأ أعظم، وأمة يسوءه حالها، ويدمي نفسه إحتلالها ويدفعه للبذل والسهر مآلها، وآماله وآمالها، أفنى ذاته في سبيل عقيدة، وقضى من أجل رسالة، فجاءه الأجل المحتوم وانتقل للرفيق الأعلى في مساء الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359هـ 16 افريل 1940م فتحركت قسنطينة بأكملها لتشييع جنازته، وكان يوماً مشهوداً في ظروف قاسية وأزمة عالمية تمثلها
حرب طاحنة ودفن (1) في روضة أسرته بحي الشهداء قرب مقبرة قسنطينة.
__________
(1) كتب على قبره ما يلي:
س 1 الله اكبر.
س 2 هنا يرقد العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد.
س 3 ابن باديس باعث النهضة العربية في الجزائر وزعيمها المقدام توفي.
س 4 مساء الثلاثاء8 ربيع الأول، 16 أفريل سنة 1359هـ/1940م رحمه الله ورضي عنه.
شعر
يا قبر طبت وطاب فيك عبير ... هل أنت بالضيف العزيز خبير
هذا ابن باديسى الإمام المرتضى ... عبد الحميد إلى حماك يصير
العالم الفذ الذي لعلومه ... صيت بأطراف البلاد كبير
بعث الجزائر بعد طول سباتها ... فالشعب فيها بالحياة بصير
وقضى بها خمسين عاما كلها ... خير لكل المسلمين وخير
ومضى إليك تحضه بثنائها ... وإليه من بين الرجال تشير
عبد الحميد لعل ذكرك خالد ... ولعل نزلك الجنة حرير
ولعل غرسك في القرائح ... مثمر ولعل وريك للعقول منير
لا ينقضي حزن عليك مجدد ... وأسن له بين الضلوع سعير
نم هادئا فالشعب بك راشد ... يختط لهجك في الهدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى ... فالوارثون لما تركت كثير
نفحتك من نفحات ربك نفحة ... وسقاك غيث من رضاه عزيز
1959هـ.(1/95)
مشهد جنازته
ــــــــــــــــــــــــــ
وبعد:
فإني قضيت ما يزيد على ثلاث سنوات في جمع وترتيب آثار ابن باديس مما جعلني أسافر إلى بعض البلاد العربية للعثور على ما لا يوجد في الجزائر مما أتى عليه تخريب القوات الاستعمارية واحراقها لكنوز الفكر الإنساني.
حاولت أن أصنِّف هذه الآثار إلى أقسام حسب موضوعاتها، وأغراضها، وإن كان هذا التصنيف غير دقيق لتداخل الموضوعات، والأغراض ومن ثم جاء تصنيفاً تقريبياً.
كما أني لا أزعم أنه قد أتيح لي أن أعثر على جميع آثار ابن باديس، لأنه قد أملى إملاءات كثيرة على طلابه، وما تزال مخطوطة أو مبعثرة أو مفقودة وحتى المطبوع من آثاره لم أجمعه كله فإن أغلب أعداد جريدة المنتقد لم أعثر عليها ما عدا ثلاثة أعداد (1، 2، 7)(1/96)
والظاهرة التي ينبغي التنبيه عليها هي أن الشيخ لا يمضي جميع ما يكتب، ولهذا فإن الباحث يضطر للإجتهاد إعتماداً على أسلوب المؤلف وروحه. وقد أتيح لي أن أطلع على جميع أعداد جريدة "السنة" و "الشريعة" و "الصراط" و "البصائر" وجميع أعداد مجلة "الشهاب" إبتداء من سنة 1929 وعلى أغلب أعداد جريدة الشهاب قبل تحويلها إلى مجلة وكان لا يكتب فيها إلا نادراً.
.....
-صورة-
من اليسار إلى اليمين: الأستاذ الإبراهيمي، الأستاذ ابن باديس، الأستاذ العقبي
.....
وفيما يتعلق بمجلة الشهاب فإني لم أترك في أغلب الظن إلا بعض ما يكتبه في السياسة والتعليق على الأحداث اليومية لصعوبة الإهتداء إلى التفريق بين مقالاته، وبين مقالات غيره، وقد تعرضت لهذا حفاظاً على الأمانة العلمية، كما أني قد تعمدت نقل بعض المقالات التي ليست(1/97)
لابن باديس وإنما نقلها هو واختارها للنشر، وعلق عليها، فنظراً لتعليقه عليها اخترت ضمها إلى تعليقه ذاك.
وتصنيف آثاره وضعناه كما يلي:
الجزء الأول يشتمل على قسمين:
1 - تفسير القرآن.
2 - شرح الحديث.
والجزء الثاني يشتمل على خمسة عشر قسماً:
1 - إصلاح وثورة ضد البدع.
2 - تربية وتعليم.
3 - سياسة.
4 - إحتجاجات وبرقيات.
5 - إجتماعيات.
6 - خطب.
7 - شعر.
8 - تاريخ.
9 - العرب في القرآن.
10 - تراجم.
11 - القصص الديني والتاريخي.
12 - رحلات.
13 - تطور الشهاب.
14 - الصلاة على النبي.
15 - فقه وفتاوى.
وفي الختام نوجه شكرنا لجميع الذين وفروا لنا بعض المصادر، ولم يبخلوا علينا بما لديهم من الوثائق وخاصة فضيلة الشيخ خياري الدراجي والشيخ الفاضل علي شنتير وأخاه فضيلة الشيخ محمد الطاهر شنتير، والله الموفق.
الجزائر في يوم الخميس: 9 ربيع الثاني 1386هـ 28 جويلية 1966م
عمار الطالبي
الأستاذ المساعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة الجزائر(1/98)
عمل ابن باديس التربوي (1)
إن شخصية ابن باديس ثرية متعددة الجوانب لا يمكن لنا أن نتناولها من جميع جوانبها في مثل هذا الوقت القصير لذا رأينا أن نتحدث عن جانب واحد من جوانبه وهو ابن باديس المربي.
أيها السادة:
يمكن القول بأن ابن باديس إتخذ التربية وسيلة للإصلاح الثقافي والإجتماعي والسياسي لأن الأهداف التربوية عنده تشمل ذلك كله وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد.
لقد عالج المصلحون في أوروبا خلال القرن التاسع عشر مشكلة الإصلاح الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، فذهب بعضهم إلى أن السبب في التدهور يرجع إلى فقدان الحرية السياسية، وانعدام حق التصويت وهم البرلمانيون. وذهبت طائفة أخرى إلى أنه يرجع إلى العوامل الإقتصادية واستغلال الإنسان للإنسان وهم الماركسيون.
ورأى المفكرون أمثال تولستوي وبركهارت أن السبب في تدهور الرجل الغربي يعود إلى الفقر الروحي والخلقي، وفرويد كان يعتقد أن المشكلة تعود إلى المبالغة في كبت الغريزة مما ينتج عنه مظاهر شاذة. وكل هؤلاء نظروا للمشكلة من جانب واحد، لأن التعليلات الإجتماعية متشابكة متداخلة، ولا ترجع إلى عامل واحد.
__________
(1) محاضرة ألقاها المؤلف مساء السبت 16 أفريل 1966 تحت إشراف وزير التربية الوطنية ومدير التعليم العالي في قاعة المحاضرات الجامعية بالجزائر وقد حذف من هذه المحاضرة الجزء الخاص بترجمته(1/99)
إن النظرية الجزئية تكون دائماً عقبة في سبيل الإصلاح، وما يصدق على الأسباب يصدق على أنواع العلاج التي يمكن لنا أن نعالج بها أمراض الإنسان الحديث، فإذا قررنا أن سبب المرض عامل إقتصادي، أو روحي، أو نفسي، فإن العلاج ينحصر في تلك الناحية المعينة، وأما إذا نظرنا نظرة متكاملة، وقررنا أن للظواهر المرضية نواحي متعددة، وأسباباً متنوعة، فإن الإصلاح يتناول ميادين التوجيه الأخلاقي، والإقتصادي، والثقافي، والسياسي، والصناعي، أما الإنصراف إلى إصلاح حالة واحدة فإنه لا يؤدي إلى نتيجة، بل يؤدي إلى الهدم والتخريب، فالإصلاح الإقتصادي دون تكوين الضمير الديني والخلقي، يؤدي إلى كوارث، وقد ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ "أريك فروم" في كتابه المجتمع السليم (1).
وأما فيما يتعلق بالمصلحين المسلمين المحدثين والمعاصرين، أمثال محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده- ومحمد إقبال وابن باديس فإنهم رأوا أن التدهور الإجتماعي راجع إلى عدم تطبيق الإسلام، وإلى انفصال الإنسان المسلم عن الحقيقة القرآنية، ومعنى ذلك أن السبب ليس واحداً بل هو مجموعة عوامل وأسباب، لأن الحقيقة القرآنية، حقيقة متكاملة تشمل الحياة الأخلاقية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية أو ما يعبر عنه بالدين والدولة أو الدنيا، وليس الإسلام كالمسيحية التي اهتمت اهتماماً بالغاً بالإصلاح الروحي، وأهملت النظام الإجتماعي، وهو ما أراد بعض الناس أن يطبقه على الإسلام أيضاً.
والشيخ ابن باديس من المدرسة التي ترى أن الإصلاح الاجتماعي يقوم على أساس أن الأخلاق تنبع من الداخل، وأن الوسيلة هي تطهير
__________
(1) ترجمة محمود محمود القاهرة 1960 ص 181(1/100)
القلوب، وتغيير النفوس، وهذا يؤدي إلى تغيير المؤسسات الإجتماعية. يقول ابن باديس: (إن الذي نوجه إليه الإهتمام الأعظم في تربية أنفسنا، وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر) (1).
وهو يعتبر أن العناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، مستشهداً بقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وهو على خلاف المدرسة الإصلاحية التي ترى أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بتغيير المؤسسات الإجتماعية، باعتبار أن الإنسان صار إلى ما صار إليه، نتيجة للعوامل البيئية، المختلفة. وهو لا يتطرف في هذا، ويرى أن إصلاح المؤسسات الإجتماعية لا بدَّ أن يتساوق وإصلاح النفس وتغييرها، ولكن ينبغي البدء بالإنسان، الأمر الذي تجعله المدرسة الأخرى متأخراً عن المسائل المادية. والوسيلة إلى تغيير الذات الإنسانية وتوجيهها، وإلى تحويل الباطن البشري، الذي هو العامل الأخلاقي الأساسي في كل إصلاح عند ابن باديس، إنما هي التربية. لقد كتب مقالاً تحت عنوان: "صَلاَحُ التَّعْلِيمِ أَسَاسُ الإِصْلَاحِ" يقرر فيه هذه الحقيقة فيقول:
"لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم، لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم "فالتعليم في نظره هو الذي: يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه، ولغيره، ولن يصلح التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله، وموضوعه، في مادته وصورته، فقد صحَّ عن النبي فيما رواه مسلم: "إنما بعثت معلماً" وليس المقصود بالتغيير
__________
(1) تفسير آية 84 - 85 من سورة الإسراء.(1/101)
الداخلي، وكون النفس هي أساس الإصلاح ذلك التأمل الباطني، والإنقطاع عن الحياة، الأمر الذي يسخر منه الفيلسوف المربي "جون ديوي" في كتابه "تجديد في الفلسفة" فيقول: "وهكذا فبينما كان القديسون مشغولين بالتأمل فيما يجري في نفوسهم، كان الخاطئون المستهترون يتولون تدبير شؤون العالم" (1) لأن طبيعة الفكر الباديسي أو ميزته العقلية أنه يجمع بين الفكر والعمل، بين النظر والتطبيق، وهي ميزة النفوس القوية، وطبيعة المفكرين المؤمنين. وحياته كلها مصْطبغة بهذا الطابع، ونموذج حي له، وقد عبر لنا عن هذه الحقيقة الحية بقوله: "العلم قبل العمل ومن دخل العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال" (2) ويعتبر أنه لا سبيل إلى محو البدع والضلالات إلا بالعلم والعمل، وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة، أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح، ويرى أن المنهج الذي نجح به المسلمون الأولون في تغيير العالم، إنما هو سلوكهم وتطبيقهم الإسلام على أنفسهم وغيرهم في الحياة" (3) وأكثر من ذلك فإنه أدخل الصناعات التطبيقية في منهاج التعليم، وخصوصاً الصناعة اليدوية. والإنقلاب الأساسي الذي حدث في التربية الحديثة هو التوحيد بين التعليم النظري والعمل اليدوي أو التطبيقي، باعتبار أن العمل نشاط قائم على أساس المعرفة وعلى أساس إدراك المرء لما سيعمله (4).
أهداف التربية عند ابن باديس:
إن أهداف أيِّ تربية تشتق من المجتمع، أعني من فلسفته،
__________
(1) ص 317.
(2) ج 12 م 8 ص 616 - 618 شعبان 1351 - ديسمبر 1932م
(3) ج 7 م 15 ص 332/ 334.
(4) أنظر المجتمع السليم ص 232.(1/102)
ونظرته للحياة، لذا فإن التربية فن يرمي إلى تحقيق القيم التي تعينها فلسفة مجتمع ما من المجتمعات، والتربية من جهة أخرى تعتمد على العلم لاختراع أحسن الوسائل لتحقيق هدفها، فالتربية باعتبارها فلسفة عملية تتصل بالفلسفة وبالعلم في آن واحد، فالفلسفة تحدد الغرض، والعلم يحدد الوسيلة، وهذا العلم هو علم النفس أو علم الطبيعة البشرية (1) وبهذا الاعتبار فإن لكل نظام تربوي مباديء ميتافيزيقية، وأسساً فلسفية يعتمد عليها، وربما تكون الصلة بين فلسفةٍ مَّا ونظامٍ مَّا للتربية غير واضحة، ولكنها موجودة، وبما أن التربية تهدف إلى تكوين مواطنين نافعين في أهداف الجهاز الإجتماعي، وإلى نموِّ الأطفال نمواً إنسانياً كاملاً، كما تهدف إلى مساعدة الطفل، والمراهق، والبالغ، على تكوين شخصيتهم وتكاملها، وتعين الإنسان بما هو إنسان على أن يتسم بما يحقق فيه الطبيعة البشرية في أسمى معانيها، فإن المشكلة الأساسية التي تثار في هذا المجال هي ماذا ينبغي أن يتعلم المرء كي تكتمل شخصيته من النواحي الأخلاقية، والعاطفية، والعقلية، والذوقية الجمالية، والإجتماعية، ثم كيف ينبغي أن نعلِّم أو نتعلم؟
قد يكون هدف التربية قائماً على أساس قيم دينية وأخلاقية أو جمالية ذوقية أو إجتماعية أو مادية.
إن ابن باديس يعتبر من المربين الإسلاميين، وهو يستمد أهدافه من أهداف التربية الإسلامية من ناحية، ومن الحالة الإجتماعية التي عليها المجتمع الجزائري من ناحية أخرى، ولذا فإننا نجده أقرب ما يكون إتصالاً بالنظريات التربوية التي وجدت في الحضارة الإسلامية المغربية والمشرقية. فما هي أهداف التربية الإسلامية على العموم؟
__________
(1) دراسات في التكامل النفيس للدكتور يوسف مراد القاهرة 1958 ص 257.(1/103)
يحدِّد بعض الباحثين (1) أهداف التربية الإسلامية في أربعة أغراض: الغرض الديني، والإجتماعي، والإلتذاذ العقلي، والغرض المادي. أو الغرض الديني، والعقلي، والثقافي، والنفعي، على نحو ما تذهب إليه الباحثة أسماء فهمي بالإستناد إلى المصادر الإسلامية في التربية. من أهداف التربية عند ابن باديس كمال الحياة الفردية والإجتماعية فهذا الهدف مزدوج فردي- إجتماعي معاً يقول بهذا الصدد: "إن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علماً وعملاً فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والإجتماعية، والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-، في سيرته الطيبة" (2) ومعنى هذا أنه يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة، والشخصية المتكاملة عنده هي ما اكتملت فيها جوانبها المختلفة: الجانب الأخلاقي والعقلي والعملي والعضوي وهذا ما يذهب إليه المربون المعاصرون. ولا بأس من أن نستشهد بنصٍ له في هذا الصدد يقول: "إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، وقوة الإرادة، وقوة العمل، فهي أسس الخلق الكريم والسلوك الحميد" (3) "وحياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: الإرادة، والفكر، والعمل ... وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بدَّ للإنسبان منها، فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، .. فلهذا كان الإنسان مأموراً
__________
(1) خليل طوطم، أنظر التربية في الإسلام لأستاذنا الدكتور أحمد فؤاد الاهوانى القاهرة 1955 م ص 87 - 90 وكتاب التربية والتعليم في الإسلام للدكتور محمد اسعد طلس بيروت 1957 م ص 142. (2) ج 7 م 15 ص 344 رجب 1358 - أوت 1939.
(3) ج 6 م 22 ص 346.(1/104)
بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقله وخلقه ودينه، ودفع المضار عنها، فيُثقِّف عقله بالعلم، ويُقوِّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويُقوِّي بدنه بتنظيم الغذاء، وتَوَقِّي الأذى، والتَّرَيُّض على العمل" (1).
ومن هنا فإنه لا يقصد من بناء الفرد الإسلامي والشخصية الإسلامية الناحية الأخلاقية فقط، ولا الناحية المعرفية وحدها، وإنما يرمي إلى بناء الشخصية البشرية في شمولها وكليتها، ووحدتها، من حيث طرق الفكر، والشعور، والعمل، وهذا ما انتهى إليه المربون المعاصرون كما أشرت إلى ذلك، ومن الأهداف إعداد الفرد للحياة بمختلف ميادينها، وهذا متضمن فيما سبق، وإنما نجد ابن باديس يصرح به بوضوح كامل فيقول: "على المربين لأبنائنا وبناتنا، أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائق الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها، وبما يطبعونهم ويطبعونهن عليه من التربية الإسلامية العالية، لميادين الحياة " (2).
ومن أهدافه العليا في التربية خدمة الإنسانية، ومساعدة الفرد على النمو في هذا الإتجاه الذي يخترم الإنسانية باختلاف مذاهبها ونزعاتها: "إن خدمة الإنسانية في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه" (3).
وبما أنه يتسم بالواقعية فإنه يذكر لنا الوسيلة التي يحقق بها هذا الغرض وذلك أن هذه الخدمة تكون بواسطة لا مباشرة، تكون بواسطة الإسلام أولاً، وبخدمة الوطن ثانياً، لأن الإسلام يحترم الإنسانية في جميع أجناسها، ويقرر المساواة والتراحم والتعاطف بين الناس جميعاً،
__________
(1) تفسير آية 62 من سورة الفرقان.
(2) ج 1 م 13 ص 5 - 8 - 1352 - 1937م
(3) ج 10 م 12 ص 424 - 428 والضمير في "عليه" يعود على خدمة الإنسانية.(1/105)
ويعتقد أن خدمة الوطن تأتي في الدرجة الأولى، ثم تأتي خدمة الوطن المغربي ثم العربي الإسلامي ثم وطن الإنسانية العام، ولا نستطيع أن نؤدي أية خدمة مثمرة لهذه الأوطان كلها، إلا إذا خدمنا الجزائر ويشبه هذا ببيوت في قرية فبخدمة كل واحد لبيته تصبح القرية سعيدة راقية ومن ضيغ بيته فهو لما سواها أضيع.
يقول: "وأنا أشعر بأن كلَّ مقوِّماتي الشخصية مستمدة منه (الوطن) مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة لأنني كلما أردت عملاً وجدتني في حاجة إليه إلى رجاله وماله، وحاله، وآماله، وآلامه" (1).
الواقع أن الأهداف التربوية التي يرمي إليها ابن باديس تتفق مع مذهبه في الإصلاح ومع الواقع الإجتماعي، والحضاري للشعب الجزائري، وهذا ما يفسر لنا تعدد الأهداف التربوية عنده، وتنوع المناشط التي يحقق بها هذه الأهداف، التي يمكن أن نحصرها جميعاً، وأن ترتد كلها إلى هدف واحد أساسي وهو النهضة التي تؤدي إلى الحضارة، وأول خطوة في طريق الحضارة إنما هي تكوين الإنسان وربط أفراد المجتمع في شبكة من العلاقات الإجتماعية لتحقيق هدف مشترك (2) وهذا هو عمل التربية الإجتماعية التي خصص لها حياته كلها، والدليل على ذلك هذا النص: "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر" (3).
فشرط النهضة عنده إنما هو إيجاد هذه الجماعة القائدة المفكرة التي
__________
(1) ج 10 م 12 ص 424 - 428 شوال 1355هـ جانفى 1937م.
(2) أنظر كتاب "ميلاد مجتمع" لمالك بن نبي.
(3) تفسير آية 62 - 63 من سورة النور.(1/106)
تقود المجتمع إلى الحضارة، وعمله التربوي يهدف إلى إعداد هؤلاء الرجال يقول: "فإننا نربي- والحمد لله- تلامذتنا على القرآن، ونوجِّه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤالاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها" (1).
وغرض التربية الوطنية عنده، هو المحافظة على الشخصية الإسلامية العربية بكل مقوماتها بل إثراؤها وتجديدها، ولذا فإننا نجد في القانون الأساسي لجمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أسسها سنة 1349هـ 1930م: إن غرضها من الوجهة التربوية هو تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية إسلامية بالمحافظة على دينهم، ولغتهم، وشخصيتهم، ومن الوجهة التعليمية تثقيف أفكارهم بالعلم، وتعليمهم الصنائع، ومن الوجهة المالية تعويد للأمة على التبرع المنظم، وتوسيع نطاق الجمعية بجعل قيمة الإشتراك فرنكين (2) وهذا مستمد من الحياة الإجتماعية لأنه رأى أن الشخصية الإسلامية مهددة بخطر الذوبان والإنحلال، وبخطر الإنكار والجحود، وعندما اجتمع بجماعة الشباب المتعلمين تعليماً أوروبياً نصحهم بما يلي: "عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنتشلوها ممَّا هي فيه، بما عندكم من علم، وبما اكتسبتم من خبرة، محافظين لها على مقوِّماتها سائرين بها في موكب المدنية " (3).
الوسائل- نقده للمناهج التربوية لعهده:
تعرض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة وبين أنها ليست وسيلة
__________
(1) ج 4 م 10 ص 352 ربيع الأول 1353هـ جويلية 1934م.
(2) نشرة جمعية التربية 1354هـ 1936 م ص1 - 4.
(3) ج 8 م 11 ص444، 1354هـ 1935م.(1/107)
تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكوِّن ثقافة لفظية، يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سني الدراسة، ويذكر أن الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف من حقيقة التفسير شيئاً، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يدرس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام. وهذا يعتبره ابن باديس هجراً للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن" (1).
وهذا كما ترون أيها السادة: يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي الذي هو إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أنزل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالاً حياً دافعاً للعمل.
ومن وجوه النقد التي يوجهها إلى طرق التدريس في المغرب الإسلامي الإقتصار على دراسة الفروع الفقهية دون الرجوع إلى الأصول، ودون الإعتماد على الإستدلال والتعليل والقياس، بل إنه يعتبر هذا بُعداً عن القرآن وهجراً آخر له يقول: "واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاط المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها" (2) وهذا هو نفس النقد الذي وجهه ابن تومرت للفقهاء في عهد المرابطين، وأبو بكر ابن العربي، ومن قبلهما ابن عبد البر الذي نقد طرائق التعليم في الأندلس، والمغرب على هذا النحو نفسه، الذي سار
__________
(1) تفسير آية 30 من سوره الفرقان.
(2) ج 12 م 10 ص 518 - 521 شعبان هـ نوفمبر 1934م.(1/108)
فيه ابن باديس، مما يجعلنا نعتقد أنه متأثر بهم، وخصوصاً أبا بكر بن العربي الذي اهتم به وبكتابه "العواصم من القواصم" الذي حققه وطبعه سنة 1347هـ 1928 وكذلك ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" والدليل على ذلك أنه استشهد بكلامهما في هذا المجال النقدي وذكر أن هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها، ومعرفة مآخذها، هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه بل كان داء عضالاً فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس (1).
وذلك لأن ابن عبد البر (493) يتعرض في كتابه المذكور للتعليم، ويذكر أن الغرض من المناظرات التي تقع بين جماعة السلف إنما هو فهم وجه الصواب والحقيقة، فيصار إليها، ومعرفة أصل القول وعليته فتقاس عليه نظائره وأمثلته، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجهاً، وحسب أحدهم أن يقول: فيها رواية لفلان ورواية لفلان. ومن خالف الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها، فكأنه خالف نص الكتاب وثابت السنة، وقد نصح الطالب بالرجوع إلى الأصول والعناية بها، والإعتماد على النظر والبحث والإجتهاد والإطلاع على مختلف المذاهب والآراء والإستعانة بها (2).
وأما أبو بكر بن العربي فقد وجه بدوره نقداً لاذعاً لحركة التعليم، ومناهج العلم، ورمى الأندلسيين بالتقليد، وبين الأسباب السياسية والإجتماعية التي جعلتهم ينحدرون إلى الفروع دون ربطها بأصولها، مما أدّى بهم إلى الجمود، والتقليد، وهذا ما جعل ابن باديس يقرر
__________
(1) ج 12 م 10 ص 518 - 521 شعبان هـ نوفمبر،1934م.
(2) ص 170.(1/109)
أن اقتلاع هذه العادة عسير، وأن الرجوع إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر (1).
المنهج الذي يراه صالحاً:
بعد أن استعرض ابن باديس بإيجاز تاريخ التربية الإسلامية، فضل الرجوع إلى الطريقة النبوية، وطريقة السلف من الصحابة والتابعين، ويرى أن مبنى التعلم، والتعليم في القرون الأولى على التفقه في القرآن والسنة، ويضرب لنا مثلاً بطريقة الإمام مالك الذي اعتمد في بيان الدين على الآيات القرآنية وما صح عنده من أقوال النبي وأفعاله، وما كان من عمل الصحابة، ولكي يتسق مع نظرته الواسعة، وأُفُقه البعيد، ضرب لنا مثلاً آخر بالإمام الشافعي، وطريقته في كتاب الأم (2) ويعتقد أنه من المحال ضبط الفروع دون معرفة أصولها، والقوانين العامة التي تنضوي تحتها، وهكذا فإنه يتفق مع ابن عبد البر، وأبي بكر بن العربي، وابن تومرت، في المنهج التربوي الصحيح. وابن باديس من ناحية أخرى يبني منهجه على أساس علم النفس ومعلوم أن التربية تطبيق لنظريات علم النفس، كما أن الزراعة تطبيق لعلم النبات، ويبين لنا أن المعلم يحتاج إلى معرفة نفسية المتعلمين وفهمها والتنزل لهم، والأخذ بأفهامهم إلى الهدف الذي يرمي إليه، حسب درجاتهم واستعدادهم (3) كما يحتاج إلى معرفة أساليب التفهيم، وإلى التوسع في العلوم التي تصدى لتعليمها، مع التمرين على التعليم بالفعل، ودراسة كتب فن التعليم (4).
__________
(1) ج 12 م 10 ص 518 شعبان 1352 - نوفمبر 1934م.
(2) ج 11 م 10 ص 478 - 481 رجب 1353هـ اكتوبر 1934م
(3) ج 10 م 7 ص 601 جمادى الثانية 1350هـ اكتوبر 1931م
(4) ن. ص.(1/110)
شارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وبعث باقتراح إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكلها الباي لسنة 1931م ويتضمن هذا الإقتراح خلاصة آرائه في التربية والتعليم. فقسم إتجاه التعليم إلى قسمين: قسم المشاركة ومدته 8 سنوات وقسم التخصص ويشمل: فرغ القضاء والفتوى، وفرع الخطابة والوعظ والإرشاد، وفرع تخريج الأساتذة ومدته سنتان.
ويبين في هذا الإقتراح منهاج التعليم وطريقة تدريسه كما يلي:
1 - اللغة والنحو والصرف والبيان ويشترط في تدريسها تطبيق قواعدها على الكلام الفصيح، لتحصيل الملكة ويعتبر دراستها بلا تطبيق كما هو المعتاد في ذلك العهد تضييعاً للوقت، وتعطيلاً، وقلة تحصيل.
2 - تاريخ الأدب العربي والإنشاء.
3 - حسن الأداء في القراءة والإلقاء.
4 - العقائد وينبغي أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن وهو يعارض الذهاب مع أدلة المتكلمين، ومصطلحاتهم الجافة، ويعتبر ذلك من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وقد طبق هذا بالفعل في تدريسه، وفي كتابه "العقائد الإسلامية" الذي نشره الأستاذ الفاضل محمد الصالح رمضان (1).
5 - الفقه بحيث تقرر فيه المسائل مع أصولها دون التعرض لتشعباتها.
6 - أصول الفقه تؤخذ كمسائل مجردة، ثم تطبق على المشكلات الفقهية لتحصل للطلاب ملكة الإستدلال والنظر.
7 - التفسير ويكون حسب رأيه بسرد الجلالين على المتعلم، مع
__________
(1) مطابع الكيلاني بالقاهرة دون تاريخ.(1/111)
بيان الأستاذ ما يحتاج للبيان، بحيث يطلع الطالب على التفسير بفهم المفردات، والمعاني الأصلية بطريق إجمالي، وكان محمد عبده يقريء الجلالين على هذه الطريقة.
8 - الحديث وطريقة تدريسه هي نفس طريقة تدريس التفسير ويبدو هنا أن ابن باديس متأثر بطريقة محمد عبده الذي كان يستعرض النص ثم يحلِّله بخلاف جمال الدين الأفغاني فإنه يتحدث في الموضوع ثم يستعرض النص في النهاية لتلاوته كتلخيص مفهوم لذلك الموضوع ويؤيد هذا تلميذه الشيخ الجيلاني محمد، الذي يرى أن أسلوبه في التفسير والحديث بأسلوب الأستاذ الإمام أشبه وإليه أقرب، وأبرز مميزاتهما فيه التطبيق والتحقيق وسوق العبر وصوغ العظات (1) كما أن ابن باديس يستعمل طريقة الحوار والإستفهام (2).
9 - التربية الأخلاقية ويعتمد فيها على آيات وأحاديث السلف الصالح وهذا يتفق مع ما ورد في برنامج وزارة التربية الوطنية الجزائرية الحالي (3) في هذه المادة ولا شك في وجود تأثيره فيه.
10 - التاريخ الإسلامي ويؤكد عليه لأن معرفة التاريخ عنده ضرورية للنهضة.
11 - الجغرافية.
12 - مبادىء الطبيعة.
13 - الفلك.
14 - الهندسة.
__________
(1) ج 7 م 15 ص 328.
(2) ج 7 م 15 ص 327.
(3) المواقيت والبرامج توجيهات تربوية (المعهد التربوي الجزائر 1964 م ص 32 - 33)(1/112)
وهنا يلاحظ ملاحظة طريفة وهي أنه إذا لم يكن في الشيوخ المُعَمَّمِين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بإخواننا المُطَرْبِشِين من تونس أو من مصر.
وأما منهاج قسم التخصص في القضاء والفتوى فإنه يحتوي على التوسع في فقه المذهب ثم الفقه العام، ودراسة آيات وأحاديث الأحكام، وعلم التوثيق، والتوسع في علم الحساب وعلم الفرائض، والإطلاع على مدارك المذاهب، حتى يكون الطلبة فقهاء إسلاميين ينظرون- على حدِّ تعبيره- إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذاهب الضيقة، وهذه هي نفس النزعة التي يذهب إليها ابن عبد البر وأبو بكر بن العربي. ومن الكتب التي أوصى بتدريسها على الخصوص كتاب بداية المجتهد لابن رشد.
ومنهج التخصص في الخطابة والوعظ يحتوي على دراسة آيات المواعظ والآداب وأحاديثها، والتوسع في السيرة النبوية وتاريخ نشر الدعوة الإسلامية مع التمرين على إلقاء الخطب الإرتجالية.
وأخيراً فإن منهج التخصص في فن التعليم يشتمل على التوسع في العلوم التي سيعلمها المترشحون ويتخصصون فيها، وعلى الدراسة لكتب التربية وفن التعليم، والتمرين على التعليم بالقيام به فعلاً (1) ولتحسين مناهج التعليم وتقويمها وتوحيدها دعا إلى عقد مؤتمر المعلمين الأحرار في سبتمبر سنة 1356هـ 1937م ومن المشكلات التي عرضت في جدول الأعمال مسألة تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه، كما عقد مؤتمر آخر سنة 1354 - 1935 كلف فيه بعض أعضاء الجمعية بكتابة تقارير عن مشكلات التعليم في مختلف أنحاء الجزائر، وعرضت هذه التقارير وسجلت في "سجل مؤتمر العلماء المسلمين الجزائريين"، وألقى هو نفسه تقريراً في التعليم المسجدي دعا فيه إلى تأسيس كلية إسلامية.
__________
(1) ج 10 م 7 ص 601.(1/113)
المؤسسات التربوية:
علم الأستاذ الإمام في المسجد الكبير وفي سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بو معزة ومدرسة جمعية التربية والتعليم والجامع الأخضر وسيدي فتح الله وهذه المؤسسات كلها ما زالت إلى اليوم. كان التعليم في مساجد قسنطينة لا يشمل إلا الكبار، وأما الصغار فإنهم يتعلمون القرآن فقط في الكتاتيب على طريقة المغاربة التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته، وأول عمل تربوي تعليمي سجله ابن باديس في قسنطينة كان في سنة 1332هـ فكان يعلم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها صباحاً وعشية ثم بعد بضع سنوات أسس مع جماعة من الفضلاء المتصلين به، مكتباً للتعليم الإبتدائي وذلك في مسجد سيدي بو معزة ثم انتقل إلى بناية الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة 1917م وفي سنة 1349هـ 1930م تطور مكتب الجماعة إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، حيث حرر ابن باديس القانون الأساسي وقدمه باسم الجمعية إلى الحكومة فصادقت عليه دون أن ترى نتائجه بتاريخ رمضان 1349هـ مارس 1931م واعترفت بالجمعية في الجريدة الرسمية وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس وجاء في القانون: إن مقصود الجمعية نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية، والعربية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين، وبينت المادة الثالثة الوسائل:
1 - تأسيس مكتب للتعليم.
2 - ملجأ للأيتام.
3 - نادٍ للمحاضرات.
4 - معمل للصنائع.
5 - إرسال التلامذة على نفقتها إلى الكليات، والمعامل الكبرى.
ومكتب الجمعية كان موجوداً في بناية الجمعية الخيرية الإسلامية والجدير(1/114)
بالملاحظة أن القانون ينص على أن البنين يدفع القادرون منهم واجب التعليم، وأما البنات فيتعلمن كلهن مجاناً، وهذا لا يحتاج إلى تعليق. وقد شرع ابن باديس من ناحية أخرى في إلقاء دروس على الكبار أول الأمر في الجامع الكبير، حيث كان يدرس فيه الشفاء للقاضي عياض ولكن ما لبث أن منعه مفتي قسنطينة المولود بن الوهوب. وكوَّن جماعة من الشبان تابعة للجمعية واهتم بتهذيبهم، وتربيتهم، فجعل لهم درساً يوم الأحد من كل أسبوع يعلم جماعة منهم على الساعة 10 صباحاً والأخرى على الساعة 8 مساء حسبب أوقات فراغهم وذلك في أفريل سنة 1933م.
هناك من المربين من يذهب إلى أن المجتمعات تحس بالمسؤولية عن ترببة الأطفال فقط ولا تحس بهذه المسؤولية عن تربية جميع البالغين مهما بلغت سنهم ويعتبر أنه ليست سن 16 - 18 خير فترات العمر للتعلم كما نظن وإنما هي أنسب سن لتعلم أوليات القراءة والكتابة، والحساب، واللغات، ولكن إدراك مغزى التاريخ، والفلسفة، والدين، والأدب، وعلم النفس، محدود جداً في هذه السن المبكرة بل إن سن العشرين التي نعلم فيها هذه المواد في الكليات الجامعية ليست السن المثالية، ولكي يدرك المرء المشكلات المعقدة في هذه الميادين إدراكاً حقيقياً ينبغي أن يتوفر لديه قدر من الخبرة في الحياة أكبر مما يتوفر له وهو في سن التعليم الجامعي، وقد تكون سن الأربعين أو الثلاثين لكثير من الناس أنسب الأسنان لإدراك هذه المواد، وفهمها لا مجرد حفظها، وقد أخذت بعض الدول بهذا المبدأ فضاعفت فرص الدراسة للكبار ونوَّعتها (1).
ولذلك كان ابن باديس يعمل في واجهتين واجهة للكبار وواجهة للصغار وكان مصيباً في ذلك إصابة بالغة.
__________
(1) المجتمع السليم ص 233.(1/115)
ومن أهم المؤسسات التربوية الجامع الأخضر الذي أسسه حسين باي للصلاة والتعليم كما هو مكتوب عليه (1) وقد تم بناؤه سنة 1156هـ:
لجنة الطلبة:
كون ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية يبلغ أعضاوها 18 عضواً مهمتها العناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، كما تتولى الإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانة الطلبة، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس أمثال هذه الجيمعية، أو تأسيس فروع لها في جميع أنحاء القطر، ويعلل ذلك بأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم (2) وكان من عادة الأستاذ أن يصدر في كل سنة تقريباً بياناً يبين فيه المواد والكتب التي تدرس، أصدر بيانا بتاريخ 2 رجب 1352هـ 21 اكتوبر 1932م بين فيه المنهاج الذي يشتمل عليه التفسير والتجويد والحديث والفقه والعقائد الدينية والأخلاق والآداب الإسلامية واللغة العربية بفنونها: نحو وصرف وبيان وأدب، والفنون العقلية من منطق وحساب وغيرهما وورد في البيان أن الطلبة المحتاجين تعطى لهم إعانة من الخبز ويسكنون في بعض المساجد.
وفي سنة 1355هـ - 1936م صدر بيان آخر يبين تطور التعليم
__________
(1) كتب عليه ما يلي:
السطر الأول: أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم.
س2: وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم.
س3: ذو القدر العلي، والتدبير الكامل، وحسن الرأي أميرنا.
س4: وسيدنا حسين باي أدام الله أيامه وكان تمام بنائه
س5: أواخر شعبان سنة ست وخمسين ومائة والف.
(2) نشرة جمعية التربية 1354 - 1936 ص 1 - 4.(1/116)
بالجامع الأخضر فبالنسبة لعدد الطلبة الذي كان في سنة 1933م 100 طالب وفي سنة 1935م 200 طالب أصبح في سنة 1936م 300 طالب بالإضافة إلى الذين سافروا إلى جامع الزيتونة لإتمام دراستهم ويبلغ عددهم نحو 300 أيضاً، كما تطور المنهاج فأصبح يشمل بالإضافة إلى ما سبق ذكره، على الفرائض والجغرافيا والتاريخ والأصول والمواعظ وبين لنا فيه الكتب التي تدرس وهي: الموطأ، وأقرب المسالك، والرسالة، وابن عاشر، والمفتاح، والزنديوي، والتنقيح، والسلم، والمكودي، والقطر، والآجرومية، والزنجاني، واللامية، والسعد، والجوهر المكنون، ومن ديوان الحماسة، ومن ديوان المتنبي، والأمالي، ومن مقدمة ابن خلدون.
والشيء المهم في هذا الطور هو دراسة مقدمة ابن خلدون، والواقع أن هذه الكتب مقسمة على طبقات الطلبة ودرجاتهم الثقافية التي نص على أن عددها أربع طبقات كما تعرض للقائمين بالتعليم وهم الشيخ ابن باديس والشيخ عبد المجيد حيرش، والشيخ حمزة بوكوشة المتخرجان من جامع الزيتونة وبعض العرفاء وكبار تلامذة الشيخ ابن باديس أمثال الشيخ عمر دردور والشيخ بلقاسم الزغداني.
تنظيم الطلبة:
إن الطلبة الذين يدرسون بقسنطينة يمثلون جميع أنحاء الجزائر وفي سنة 1353 - 1934 جاء بعض الطلبة من العمالة الوهرانية فكمل بهم تمثيل الجزائر كلها ويعتبر ابن باديس هؤلاء الطلبة نواة للغاية الكبرى التي يسعى إليها وهي إنشاء جامعة إسلامية أو كلية للعلوم الإسلامية.
قسم ابن باديس الطلبة إلى جماعات وجعل على كل جماعة عريفاً منهم يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم، وتوجد لدينا قائمة لهؤلاء العرفاء،(1/117)
موزعين حسب المناطق الجزائرية المختلفة، والعريف معروف في تاريخ التربية الإسلامية وهو الطالب البارز في العلم، قال الإمام سحنون: "أحب للمعلم أن يجعل لهم عريفاً منهم" (1). واهتم ابن باديس من جهة أخرى بصحة الطلاب فجعل لهم جماعة من الأطباء يزورونهم للمعالجة تبرعاً منهم، وهم: ابن الموفق، وزرقين، وابن جلول، وأما ما يتعلق بالتغذية فإن الطلبة المحتاجين يتناولون الأكل عند بعض المحسنين، والمتبرعين من العائلات، وأصحاب المطاعم، والجدير بالذكر أن طباخاً وهو ابن جلول محمود كان يتبرع بتغذية خمسين تلميذاً في مطبخه وكان بعض الخبازين يتبرعون بالخبز وأهل بسكرة يرسلون بأكياس من التمر.
رأي ابن باديس في تعليم المرأة:
إن ابن باديس على بصيرة بما للمرأة من وظيفة إجتماعية تربوية عظيمة، ولذلك فإنه أوجب تعليمها وإنقاذها مما هي فيه من الجهالة العمياء، ونصح بتكوينها تكويناً يقوم على أساس العفة وحسن تدبير المنزل، والنفقة والشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، كما أنه حمل مسؤولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلموا الأمة رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثماً كبيراً إذ فرطوا في هذا الواجب. واستدل على وجوب تعليم المرأة بالعمومات القرآنية الكثيرة الشاملة للرجال والنساء، وبأحديث شريفة، ومذهبه أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص من إجماع أو نص أو ضرورة طبيعية، لأن النساء شقائق الرجال، ولا خلاف بين اللغويين والأصوليين في أنه إذا ما اجتمع النساء والرجال، كان الخطاب أو الخبر بصيغة التذكير على طريقة التغليب، واستدل بقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ
__________
(1) التربية في الإسلام للدكتور الاهواني ص 190.(1/118)
بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (1) وبالحديث الذي رواه أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله قالت. ((دَخَلَ عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ألا تعلمين هذه رُقْيَة النَملة كما علمتها الكتابة" (3).
كما استدل بدليل تاريخي، وهو ما استفاض في تاريخ الأمة الإسلامية من وجود العالمات الكاتبات الكثيرات (3).
مواقفه إزاء مقاومة الإستعمار للتعليم:
إنه لا يكفي الوقت لاستعراض تاريخ دفاع ابن باديس عن الحركة التعليمية وجهاده التربوي الذي وقف حياته كلها عليه، لقد تعرَّض لاضطهاد الإستعمار ومطاردته وعراقيله، ولكنه ثبت ثبات الرجال أصحاب المبادىء لما يتسم به من التفاؤل واليقين بأن العاقبة له، وللأمة الجزائرية معتقداً أن كل محاولة لحمل الجزائريين على ترك لغتهم أو دينهم أو تاريخهم أو شيء من مقوماتهم محاولة فاشلة. وحين أراد الإستعمار منعه من التعليم كتب مقالا تحت عنوان: "بعد عشرين سنة في التعليم نسأل هل عندنا رخصة" (4). وحين صدر قانون 8 مارس 1938م بمنع التعليم كتب مقالاً آخر تحت عنوان: "يالله للإسلام والعربية في الجزائر كل من يعلم بلا رخصة يغرم ثم يغرم ثم يسجن" وأعلن فيه عزمه على المقاومة بكل قوة قائلاً: "وإننا نعلن لخصوم الإسلام والعربية عقدنا على المقاومة المشروعة عزمنا وسنمضي بحول الله في تعليم ديننا
__________
(1) 2/ 282 البقرة.
(2) رواه مسلم.
(3) ج 3 م 25 ص 110. 1358هـ 1939.
(4) الصراط عدد 7 - 1352هـ 1933م.(1/119)
ولغتنا رغم كل ما يصيبنا ولن يصدنا عن ذلك شيء فنكون قد شاركنا في قتلهما بأيدينا وأننا على يقين من أن العاقبة- وإن طال البلاء- لنا وأن النصر سيكون حليفنا (1). وكتب في مناسبة أخرى: "أما الذين يحاربون العربية فهم يفرقون ويشوشون فسيندمون، وتنشر العربية بقوة الحق والفطرة وهم كارهون".
ولا نريد أن نستمر في الإطالة عليكم فإن مواقفه في الدفاع عن تعليم الدين والعربية ضد الإستعمار تتطلب وحدها محاضرة كاملة.
أيها السادة: إن الشيخ ابن باديس أمة وحده إستطاع بمفرده أولاً وبمساعدة إخوانه من العلماء ثانياً أن يقوم بتربية جيل وتكوين أمة، وتبصيرها بشخصيتها ومقوماتها، وهو الذي استطاع أن يضع أصول نهضتنا الفكرية والإجتماعية والأخلاقية والسياسية، وأن الثورة الجزائرية العظيمة في جوانبها النفسية وقوتها المعنوية التي تتمثل في كلمة "الجهاد" ترتد إلى عمله التربوي الخاص والعام، تربية الجيل في المدارس وتربية الأمة في المساجد وبرحلاته في مختلف أنحاء القطر. وإحياؤنا لذكراه إنما هو اعتراف بالجميل، وتخليد لعمله العظيم، وروحه القوية التي تمثل رمزاً من رموز حياتنا العقلية والأخلاقية، وعنصراً من عناصر وجودنا الذاتي، لأن ابن باديس قام بعملية التربية والوعي، تلك العملية التي تعتبر أعمق نشاط يؤديه الكائن البشري على الإطلاق، لأنه به يصنع المادة البشرية الصالحة، ويصوغ الذات الإجتماعية النافعة، ويبني الشخصية المتكاملة الشاعرة بوجودها وذاتيتها وحريتها.
إننا نحيِّي بإقامة ذكراه جرأته، وشجاعبه، وثباته، وتضحيته، وزهده في متاع الدنيا، في سبيل المبدأ، ونطبق ذلك العهد الذي أخذه
__________
(1) البصائر محرم 1358هـ أفريل 1938م ص 1.(1/120)
على نفسه بقوله: "إني أعاهدكم على أني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما وإنها لواجبات، وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم" (1) كما نبرهن بهذا أننا سنواصل رسالته ونحقق دعوته التي دعا إليها تلامذته ودعانا جميعاً معهم:
"أطلب منكم شيئاً واحداً وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن " (2).
رحمك الله يا ابن باديس في الخالدين والسلام
عمار الطالبي
__________
(1) 7 م 15 ص 346 رجب 1358هـ أوت 1939م
(2) ن. م. ن. ص.(1/121)
آثار ابن باديس
قسم التفسير(1/123)
التَّذْكِيرُ
حقيقته، حاجة الخلق إليه، القائمون به، تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما كان يذكر به، من كان يذكر، مشروعية التذكير في الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــ
حقيقة التذكير:
1 - أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان جاهلاً أو عنه ناسياً أو غافلاً، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول فيسمى تذكيراً مجازاً وتوسعاً، ويجمع الثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكِّرون الخلق بالخالق بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم.
2 - وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه وألزمه، فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم، وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان وحلول الرضوان، إنما هي بإيمانهم بربِّهم وشكرهم له. وأن دلائل وجوده ووحدانيته وقيومته وآثار فضله وإحسانه ورحمته ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر هادية إلى الإيمان، لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها، فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان. ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس لغير من عصم الله انفكاك أو خروج منها، كلها. فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.(1/125)
3 - قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالاً أنعم عليهم بكمال الفكرة ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (1)}، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (2)}.
فالأنبياء والمرسلون- عليهم الصلاة والسلام- هم أولو هذا المقام الجليل، مقام التذكير. ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين.
4 - قد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على سنَّة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد متمثلاً أمر ربه- تعالى- له بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (3)}.
إذ السيطرة لا تكون على القلوب والإيمان- وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه وإنما يكون بذكر الحجج والأدلة، وكذلك كانت سنة المرسلين في الدعوة إلى الله كما قصَّها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
كان- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، وكان ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه، وقد قالت عائشة الصديقة- رضوان الله عليها- لما سئلت عن خلقه- والخلق
__________
(1) 4/ 164 النساء.
(2) 26/ 208 الشعراء.
(3) 88/ 21 الغاشية.(1/126)
هو الملكة النفسية التي تصدر عنها الأعمال- قالت: كان خلقه القرآن، فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي متمثلاً في ذلك كله أمر ربِّه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (1)}، فالقرآن وبيانه القولي والعلمي من سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهما يكون تذكير العباد ودعوتهم لله رب العالمين، ومن حاد في التذكير عنها ضل وأضل وكان ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هنالك من نفع.
5 - كان- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يفتأ مذكراً المؤمنين والكافرين، والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (2)}.
وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (3)}.
فالشرط الصوري هو للإستبعاد، أي إستبعاد نفع الذكرى فيهم.
ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم بعضاً: "كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام" إستبعاد لنفعه فيه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ
__________
(1) 45/ 50 ق.
(2) 88/ 21 الغاشية.
(3) 9/ 87 الأعلى.(1/127)
وَعِيدِ (1)}.
فليس ذكر المفعول للتقييد وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
6 - ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعاً موقتاً في خطب الجمع والأعياد، وشرعاً مرسلاً موكولاً للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم، كما كان يتخول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الناس بالموعظة وطلبه طلباً عاماً من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (2)}، في صفة المؤمنين العاملين.
وسيكون هذا الباب من المجلة (3) مجالاً لفنون من التذكير جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى ونفعنا بها دنيا وأخرى (4).
__________
(1) 45/ 50 ق.
(2) 3/ 103 العصر.
(3) يقصد مجلة الشهاب.
(4) ش: ص 1، م 5 ص 2 - غرة رمضان 1347هـ فيفري 1929(1/128)
الذِّكْرُ
تمهيد، القسم العلمي: حقيقته، محله، إطلقاته، أقسامه، القلبي: بالتفكير، بالإعتقاد، بالإستحضار، اللساني: بالثناء والدعاء، بالإرشاد والتعليم. ذكر الجوارح بالعمل، بالإنكفاف. القسم العملي: السيرة النبوية في الذكر، كيفية السلوك عليها. التحذير.
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
1 - الذكر أصل من أصول الدين العظيمة أو هو الدين كله، ولذا امتلأ القرآن العظيم بالآيات المشتملة عليه. فالمسلم إذاً شديد الحاجة إلى معرفته وفقهه، وطريقة العمل به، وقد تعرضنا لبيان ذلك فيما سيأتي، وجعلنا الكلام في قسمين. وختمناه بالتحذير مما خرج عن سواء القصد بغلوٍّ أو تقصير ليكون الواقف عليه على بصيرة مما يأتي منه أو يدع.
القسم العلمي:
2 - الذكر حضور الشيء في القلب الحضور الثاني بعد زواله منه المسبوق بحضور متقدم. هذه حقيقته. وقد يطلق على الحضور الأول توسعاً. وزواله بعد حضور هو النسيان. فهما ضدان. قال تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ (1)}.
__________
(1) 64/ 18 الكهف.(1/129)
وفي مثل: ذَكَّرْتَنِي الطَّعْنَ وَكُنْتُ نَاسِيَا (1).
3 - فالمعنى الأصلي للذكر محلُّه القلب، إذ القلب محل ضده النسيان، والضدان إنما يتضادان في محل واحد، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا (2)} أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا. فالغفلة في القلب والذكر في القلب. وأخوات الذكر- كالذكرى، والتذكير والذُكر، بضم الذال،- كلها من أعمال القلب، وهو مثلها. وأما الصمت الذي هو من شأن اللسان فليس ضداً له كما قد قيل، وإنما هو ضد في كلام العرب لأعمال لسانية كالنطق في قولهم في المال (ناطق وصامت) وما في الحديث: "فليقل خيراً أو ليصمت".
4 - ثم يطلق الذكر إطلاقاً شائعاً على ما يجري على اللسان مما يخبر به عما في القلب ويعبر عنه، ومنه قوله تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)}.
وسمى الله- تعالى- القرآن ذكراً كما في قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ (4)} لأن آياته متلوَّة بالألسنة ومعانيه حاضرة في القلوب. ومثله في هذه التسمية كلمات التسبيح والحمد والتهليل والتكبير من جميع الأذكار. ويقال في كل عمل من أعمال الطاعة ذكر، لأنها كلها مرتبطة
__________
(1) أنظر مجمع الأمثال 279/ 1، المثل رقم 1469 وتمامه:
ردوا على أقربها الأقاصيا ... إنَّ لها بالمشرفيّ حادياً
ذكَّرتْني الطَّعن وكنت ناسيا
(2) 28/ 18 الكهف.
(3) 3/ 37 الصافات.
(4) 21/ 50 الأنبياء.(1/130)
بذكر القلب ومن ثمراته. وسمى الله- تعالى- نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ذكراً في قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا (1)} لأنه مخبر عن ربه ومبلغ للذكر، أو لأنه هو- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكر في الصلاة عليه والحديث، وفي سيره وشمائله بالألسنة والقلوب. وعبر عن إرساله بالإنزال لأن رسالته وحي من العلي الأعلى، وأعظم رحمة نزلت من السماء. وسمي الله الآيات الكونية المشاهدة ذكراً في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (2)} لأنها تحدث الذكر في القلب كما تحدثه آياته المتلوة التي تسمى أيضاً ذكراً. فالمعنى أنه كما لم يكن لهم ذكر في قلوبهم من الآيات المتلوة، لأنهم كانوا لا يستطيعون سمعاً، كذلك لم يكن لهم من الآيات المرئية لأن أعينهم في غطاء.
أقسام الذكر:
5 - قد كثر ورود لفظ الذكر في آيات القرآن وأحاديث السنة، وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام، مراده من تلك النصوص: ذكر القلب فكراً واعتقاداً واستحضاراً، وذكر اللسان قولاً، وذكر الجوارح عملاً. وسنتكلم عليها واحداً واحداً.
ذكر القلب وهو على ثلاثة ضروب:
الأول: التفكر في عظمة الله وجلاله، وجبروته وملكوته، وآياته في أرضه وسمواته وجميع مخلوقاته، والتفكر- أيضاً- في أنواع آلائه وعظيم إنعامه على خلقه عامة وعلى الإنسان خاصة بما سخَّر
__________
(1) 65/ 20 الطلاق.
(2) 102/ 18 الكهف.(1/131)
له منها وما يسَّر له من أسباب الإنتفاع بها، بما يوجب الإيمان بوحدانيته في ربوبيته، فلا خالق ولا مدبِّر ولا مصرِّف ولا آمر ولا حاكم ولا منعم على الحقيقة سواه، وبوحدانيته في ألوهيته فلا يستحق العبادة سواه.
وهذا الضرب هو أعظم الأذكار وأجلها وأفضلها، وبه يتوصل إليها ويستحق الثواب عليها، إذ هو أساسها الذي تبنى عليه. فالأعمال مبنية على العقائد، والعقائد لا تثبت إلا بهذا التفكر، وبه تنجلي في العقول، وترسخ في النفوس، وتحصل للناظر طمأنينة اليقين. قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (1)} وهذا هو الذكر الذي يحصل به الإطمئنان. وهو المراد في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (2)}. قال جماعة من السلف: ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة، وهو المراد أيضاً في حديث أبي الدرداء موقوفاً في الموطأ ومرفوعاً في غيره: " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إعطاء الذهب وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى. قال: "ذكر الله" وفي الحديث معاذ كذلك: "ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" وهذا كله لأنه هو أساس جميع الأعمال كما قدمنا، فإذا حصل ودام وجهه حصلت كلها ودامت على وجوهها.
الثاني: العقد الجازم بعقائد الإسلام في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله، عقداً عن فهم صحيح وإدراك راسخ تتحلَّى به النفس بمقتضيات تلك العقائد وتتذوق حلاوتها وتتكون
__________
(1) 23/ 30 الرعد.
(2) 45/ 29 العنكبوت.(1/132)
لها منها إرادة قوية في الفعل والترك تملك بها زمامها، تلك الإرادة التي لا تكون إلا عن عقيدة راسخة في النفس ويقين مطمئن به القلب. ولذا كان هذا الضرب من ذكر القلب متفرعاً عن الضرب الأول ومبنياً عليه.
الثالث: استحضار عظمة الرب وإنعامه وما يستحقه من القيام بحقه عند كل فعل وترك فيفعله بإذنه لوجهه ويترك بإذنه لوجهه. ولا يدوم هذا الإستحضار إلا إذا رسخت العقيدة التي هي من مقتضى الضرب الثاني، ودامت الفكرة التي هي من مقتضى الضرب الأول، فهو متفرع عنهما ومتوقف عليهما. وهذا الضرب هو أساس التقوى وهو المراد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1)}.
فإن الذكر المناسب لمواطن الحرب هو استحضار عظيم حق الله على العبد في القيام بذلك الفرض، واستحضار وعده ووعيده، مما يقوي القلب ويكسب الجرأة والثبات وانتظار النصر- دون كثرة الذكر اللساني- فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طلب الصمت عند جلبة العدوِّ وصخبه. وهو المراد أيضاً في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1)}. فإن الإبتغاء من فضل الله هنا هو التصرف بوجوه التجارة والكسب وليس ذلك مما يناسبه ذكر اللسان كثيراً، فإن ذكر اللسان يطلب فيه التدبر، وأن ذلك غير متيسر للمشتغل بالبيع والشراء،
__________
(1) 46/ 8 الأنفال.
(2) 62/ 10 الجمعة.(1/133)
وإنما يناسبه استحضار عظمة الرب وإنعامه ولازم حقه ليمتثل أمره ونهيه في وجوه الأخذ والعطاء والقضاء والإقتضاء.
ذكر اللسان وهو ضربان:
الأول: ذكر الله- تعالى- بالثناء عليه والاعتراف بنعمه وإظهار الفقر إليه بأنواع الأذكار والدعوات ... وهذا الذكر شرط الإعتداد به حضور القلب عنده. ومن أظهر الآيات الواردة فيه قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (2)} فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في حجته المشعر إتسقبل القبلة ودعا وكبَّر وهلَّل ووحَّد.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في حجته المشعر استقبل القبلة ودعا وكبَّر وهلَّل ووحَّد.
الثاني: ذكره تعالى يدعوة الخلق إليه، وإرشادهم إلى صراطه المستقيم الموصل إليه بتعليم دينه والتنبيه على آياته وإنعاماته وتبيين محاسن شرعه وتفهيم أحكامه وشرح حكمته في خلقه وأمره والترغيب والترهيب بوعده ووعيده، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين في التبليغ عن ربِّ العالمين واتِّباعهم للمؤمنين، إلى يوم الدين، ولذا قال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج ... وأشباه هذا. وما سمَّاه قليل من كثير قصد به تقريب التبيين بالتمثيل.
ذكر الجوارح وهو ضرب واحد:
فذكرها إستعمالها في الطاعات، وكل عمل لها أو انكفاف على مقتضى الشرع، فهو طاعة، وكل طاعة لله فهي ذكر، فكل عامل لله
__________
(1) 198/ 2 البقرة.(1/134)
بطاعته فهو ذاكر لله- تعالى-. كما حكاه النووي عن سعيد بن جبير وغيره من العلماء، مستدلاً به على أن فضيلة الذكر ليست منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها. وبهذا يمكن للعبد الموفق أن يكون ذاكراً لربِّه في يقظته ونومه وصحته ومرضه وعلى جميع أحيانه.
القسم العملي:
أمر الله عباده بذكره في غير ما آية من كتابه وغير ما حديث من كلام نبيِّه، ووعد عليه بجزيل الثواب. ومن الآيات العامة في هذا الأمر قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (1)} وهو أمر بالذكر بوجوهه الثلاث فحق علينا أن نذكره بها. وكما تلقينا هذا الأمر وهذا الوعد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك علينا أن نتلقى عنه كيف كان يعمل به، فهو المبلغ عن الله- تعالى- بقوله وفعله والمبين كذلك بهما. ولا شك أنه - صلى الله عليه وآله وسلم- كان دائم ذكر القلب بالفكر والعقد والإستحضار، دائم ذكر الجوارح في أنواع الطاعات. وقد جاء في شمائله الشريفة أنه كان - صلى الله عليه وآله وسلم-: "دائم الفكرة لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت" وأنه "كان سكوته على أربعٍ: على الحِلم والحذر والتقدير والتفكير". وأما الذكر اللساني فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم- كما جاء في شمائله أيضاً-: "لا يجلس ولا يقوم إلاَّ على ذكر". فلا يخلو مجلسه من ذكر الله. كما كان يسكت ويطيل السكوت كما تقدم، وقد روى عنه الأئمة من أذكار اليوم والليلة وسائر الأذكار ما فيه الكفاية والشفاء.
__________
(1) 152/ 2 البقرة.(1/135)
فالمؤمن الذي يحافظ على قلبه ويعتني به حتى يكون صحيح العقد دائم الفكر والإستحضار، ويأتي مع ذلك من الأذكار المأثورة المطلقة بما تيسر منها، وبالمرتبة في الأحوال والأوقات التي رتبت عليها، ولا يخلي مقامه ومقعده من شيء من ذكر الله وإن قل- يكون متبعاً للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم - في سنته في الذكر، ويكون بهذا - في بيته وفي سوقه وفي مصنعه وفي مسجده- معدوداً من الذاكرين المكثرين، بالقلب واللسان والجوارح.
التحذير: ربما شغل اللسان بالتعلم والعلم عن الأذكار المأثورة حتى يتركها الطالب جملة ويكون عنها من الغافلين، فيحرم من خير كثير وعلم غزير، وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم- معلم الخلق، وما كان يغفل عن تلك الأذكار.
وربما بالغ قوم في بعض هذه الأذكار فأتوا منه بالآلاف، وأهملوا جانب التفكير الذي هو أعظم أذكار القلب، والذكر اللساني أحد وسائله، فتشغلهم الوسيلة عن المقصود. وليس ذلك من هدى من كان- كما تقدم- دائم التفكير. وقد يؤديهم الذكر اللساني بالألوف إلى الإنقطاع عن مجالس العلم والزهد في التعلم فيفوتهم ما قد يكون تعلمه عليهم من فروض الأعيان. وليس من سداد الرأي وفقه الدين إهمال المفروض إشتغالاً بغير المفروض.
ويقابل هذا الغلو في ذكر اللسان ما رآه آخرون من الإقبال على التفكير الأيام والليالي، مع ترك اللسان. وهذا زيغ عن طريق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في المحافظة على الأذكار اللسانية التي امتلأت كتب الحديث بالترغيب فيها والحثِّ عليها.
فليحذر المؤمن من هذا كله ومن مثله وليتمسك بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإتيان بضروب الذكر الثلاثة كلها منزلاً(1/136)
لها في منازلها متعبداً الله- تعالى- بجميعها، والله الموفق وبه المستعان (1).
__________
(1) ش: ج 2 م 5 ص 1 - 7. غرة شوال 1347 - مارس 1929.(1/137)
مَا هُوَ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ
تمهيد: حالتا العبد، الفتوى النبوية فيهما، القسم العملي. أفضل الأذكار، آيات في الباب، أحاديث فيه، القرآن يحصل فضل الحالتين، القرآن والذكر القلبي، القرآن والذكر اللساني، القرآن والذكر العملي، بعض علوم القرآن. نتيجة الاستدلال. القسم العملي، مقدار التلاوة، ما يقصد من التلاوة، التحذير.
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
للعبد حالتان؛ حالة يعالج فيها شؤون الحياة من أمر نفسه وأهله وما إلى رعايته من مصالحه أو مصالح غيره، فيمارِس فيها الأسباب ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته، وهو في هذه الحالة متعبد مأجور ما جرى فيها على حدود الله وقصد بها امتثال شرعه.
وحالة ينفرد فيها لربه ويخلص من هم ذلك كله قلبه، ويتوجه بكليته إلى خالقه، بالفكر والإعتبار ودوام المراقبة والإقبال.
وهذه الحالة الثانية هي أشرف وأفضل حالتيه، وهي أساس الإستقامة في الحالة الأولى وأصل الكمال في غيرها.
كانت هاتان الحالتان للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما كانتا لغيره، وقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة"- إشارة إلى الحالة الأولى التي يكون فيها قائماً بمصالح الأمة وناهضاً بأعباء الرسالة ومباشرة(1/138)
الشؤون العامة والخاصة وراءها دون الحالة الثانية التي يكون فيها متفرغ القلب للربِّ. وما كان ذلك الغين إلا الإشتغال بأمور الخلق في الحالة الأولى، الذي يحجب عن كمال مشاهدة الحق، التي في الحالة الثانية، فاستغفر الله- تعالى- منه، وما كان استغفاره- عليه الصلاة والسلام- إلا لاشتغاله بكامل عن أكمل، وتوجهه للقيام بأمر عظيم عن مقام أعظم.
وقد تفطن الصحابة- رضوان الله عليهم- لهاتين الحالتين وسألوا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عنهما وأفتاهم فيهما فجاء في الصحيح أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتَّاب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة، قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، كأنها رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقي مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وقلت، نافق حنظلة يا رسول الله!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيراً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. ثلاث مرات.
فقوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "ساعة وساعة " بيان للحالتين وتقرير لهما. وقوله: والذي نفسي بيده إلى آخره ... بيان لفضلاهما.(1/139)
هذه الحالة الفضلى الذكرى التي يحصلها للعبد على أكمل وجه هو أفضل الأذكار، وستعرف مما سيأتي بعد أنه هو القرآن. وقد قسمنا ماسنقوله إلى قسمين: علمي وعملي، وختمناه بفصل في التحذير.
القسم العلمي
القرآن أفضل الأذكار- من طريق الأثر:
قال تبارك وتعالى:
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ (1)}. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (2)}. {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ (3)}.
فهذه البركة، وهذا التيسير، وهذا الأمر بالتلاوة المقرون بالأمر بتوحيد العبادة وبالإسلام على طريق الحصر لم ترد إلا في القرآن. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وهذه مثوبة لم ترد لغير القرآن من جميع الأذكار.
__________
(1) 50/ 21 الأنبياء.
(2) 17/ 54 و22 و32 و40 القمر.
(3) 91/ 27 - 92 النمل.(1/140)
وروى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً. (ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه). ومن معناه ما ذكره القرطبي عن فروة بن نوفل عن خباب بن الأرت قال: إن استطعت أن تقرب إلى الله- عزَّ وجل- فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. ومثل هذا لا يقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: يقول الرب تبارك وتعالى: مَن شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وهذا الحديث والذي قبله نصَّان صريحان في المقصود.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة - رضي الله عنها -، مرفوعاً: قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة. وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير.
وروى أبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: قراءة القرآن في الصلاة، ثم قراءة القرآن في غير الصلاة، فإن الصلاة أفضل الأعمال عند الله وأحبها إليه، ثم الدعاء والإستغفار، فإن الدعاء هو العبادة، وإن الله- تعالى- يحب الملح في الدعاء، ثم الصدقة فإنها تطفء غضب الرَّب ... ثم الصيام. فإن الله- تعالى- يقول: الصوم لي وأنا أجزي به. والصيام جنَّة للعبد من للنار. قال القرطبي- بعد ما خرَّج هذا الحديث بسنده- قال علماؤنا: هذا حديث عظيم في الدين يبين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة.
القرآن أفضل الأذكار- من طريق النظر:
إن أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده بربه، وتوجهه(1/141)
بكليته إليه، وخلوص قلبه له وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم. فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهو التفكر والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن. وأن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن. وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال. وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة، وهي الصلاة في أشرف موقف، وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن.
فهذا الذكر الحكيم تنزيل الرحمن الرحيم، الذي يحصل هذه الحال التي هي أشرف الأحوال، وهي معراج الأرواح لمنازل الكمال - هو أفضل الأذكار.
وأيضاً- فإن الذكر قلبي ولساني وعملي، والقرآن محصل لذلك كله على أكمله كما سنبينه.
القرآن والذكر القلبي:
فالتالي للقرآن المتدبر لآياته يكون متفكراً في مخلوقات الله وما فيها من حكم ومن نعم، وفي معاني أسمائه وصفاته، وفي مظاهر رحمته وإحسانه وبطشه وانتقامه، وفي أسباب ثوابه وعقابه، وفي مواقع رضاه وسخطه. كما يكون التالي أيضاً متبصراً في عقائده خيراً بأدلتها ورد الشبه عنها، كما يكون أيضاً مستحضراً لربه في قلبه باستحضار حقوقه ونعمه وآلائه، إذ هذا كله مما تضمنته آي القرآن، على أكمل بيان، وأوضح برهان.
القرآن والذكر اللساني:
وكذلك قد اشتمل القرآن على أفضل الأذكار اللسانية، من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح وتمجيد واستغفار ودعاء ... ، وعلى الأسماء(1/142)
الحسنى والصفات العلى للرب تبارك وتعالى. فتاليه يكون ذاكراً بهذه الأذكار كلها.
القرآن والذكر العملي:
إن تلاوة القرآن بالتَّدبر تثمر للتالي التوبة والإنابة، والرجاء والخوف، وذلك كله مما يكون له خير داع إلى الإستقامة- ولو بعض الشيء،- في سلوكه العملي.
هذا شيء قليل مما للقرآن في الذكر بأنواعه الثلاثة، إلى ما فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام وكليات السياسة والتشريع وحقائق الحياة في العمران والإجتماع، ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة والعدل والإحسان. إلى ما تقصر عن عدِّ الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام، وإنما ينال كل تال منها على قدر ما عنده من سلامة قصد وصحة علم بتقدير وتيسير من الحكيم العليم.
نتيجة الاستدلال:
لهذه الأدلة الأثرية والنظرية المذكورة وغيرها ذهب الأئمة من السلف والخلف إلى أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. قال سفيان الثوري: "سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر". نقله القرطبي في الباب السابع من كتاب التذكار. وقال النووي: "واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك" قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان. (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 5، ص 1 - 6. غرة ذي القعدة 1347هـ افريل 1929م.(1/143)
القسم العملي
مقدار التلاوة:
قد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يخلي ليله ولا نهاره من تلاوة القرآن وكان- كما قال القرطبي- يختمه في سبع. وهكذا قال لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "واقرأ في كل سبع ليال مرة " وقد كان قال له أولاً: "واقرأ القرآن في كل شهر" فلما قال إنه يطيق أكثر من ذلك نقله إلى العشرين وإلى الخمسة عشر وإلى العشر واتنهى به إلى السبع في قول الأكثر. وكان هذا فعل الأكثرين من السلف. وعند الترمذي وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" وهذا ترخيص فيما دون السبع وترغيب عما دون الثلاث. وقد فهم السلف من هذه الأحاديث بيان ما يكون وظيفته وحزباً يستمر عليه، فلذا لم يمتنعوا من ختم القرآن في أقل من ذلك في مرات في بعض الأحوال. وقد ثبت عن كثير منهم ختم القرآن في ركعة واحدة.
ولا شك أن أحوال حملة القرآن تختلف في التفرغ للتلاوة والإشتغال بغيرها، وأحوال الشخص الواحد في نفسه تختلف كذلك، فيرتب حامل القرآن حزبه من الشهر إلى السابع على حسب حاله. فإذا لم يكن من حملة القرآن فلا يخلُ ليله ولا نهاره من تلاوة شيء مما معه حسب استطاعته، ولا يكن من الغافلين.
ما يقصده من التلاوة:
قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب. هذا من حديث أبي أمامة عند الترمذي الذي قدمناه في القسم الأول. فليقصد التالي التقرب إلى الله- تعالى- بهما.(1/144)
والقرآن موعظة ترقق القلوب القاسية فليقصد تليين قلبه.
والقرآن شفاء لأدواء النفوس في عقائدها وأخلاقها وأعمالها فليقصد الشفاء به من ذلك كله.
والقرآن هدى ودلالة على كل ما يوصل إلى سعادة الدنيا والأخرى فليقصد الإهتداء بهدايته.
والقرآن رحمة من الله للمؤمنين فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله- تعالى- بإفاضة علوم القرآن على قلبه وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته.
ولا يسلم تالي القرآن- لأنه غير معصوم- من ذنوب قد يصدأ لها قلبه، فليقصد بتلاوته جلاء قلبه والتوفيق للتوبة من ذنبه. وليجعل تلاوته لأجل تحصيل التوبة من أعظم وسائله إلى ربه. وقد مضى لك في الحديث القدسي في القسم الأول: "من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين".
التحذير:
زعم قوم: أن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- خير لعامة الناس من تلاوة القرآن. قالوا: لأن الصلاة ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم، والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه. واستدلوا على هذا بقول أنس - رضي الله عنه - الذي تحسبه العامة حديثاً: "رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ". فأدَّى هذا بمعتقديه إلى ترك قراءة القرآن أو التقليل منها. فليحذر من هذا الرأي ومما أدى إليه.
للصلاة منزلتها وفضلها، وللقرآن منزلته وفضله، فليأت الذاكر من الصلاة ومن غيرها من أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الأذكار.(1/145)
وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة، ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: إن المذنبين مرضى القلوب، فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به، وإن الله- تعالى- قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (1)}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبره ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه. وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته.
الوجه الثاني: إن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة والشكوك والأوهام والجهالات. وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها؛ فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن، وقد أرشد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب والقرطبي في التذكار- بقوله: "أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا:
__________
(1) 57/ 10 يونس.
(2) 27/ 82 الإسراء.(1/146)
يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن". فمقصود الشارع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم، وذلك الرأي يصرفهم عنه.
الوجه الثالث: إن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها، فروى أبو داوود عن سعد: "ما من أمريء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله أجذم". وروى الشيخان عن عبد الله: "إستذكروا القرآن فإنه أشد تقصياً من صدور الرجال من النعم". فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ ودفع النسيان وذلك الرأي أدى إلى تقليلها أو تركها الموقع في النسيان.
وإلى مخالفته مقصود الشرع بهذه الوجوه فإن له لوازم فاسدة.
منها: أن صلاة النافلة مرغب فيها على العموم، وهي مشتملة على قراءة القرآن. فماذا يقول أصحاب هذا الرأي؟ فهل يرغِّبون المذنبين- أمثالنا- عن النافلة طرداً لأصلهم؟ أم ينهون عن قراءة القرآن في النافلة فيقولون ما لم يقله أحد؟ أم يقولون بالإقتصار على قراءة سورة فيتحكمون في الأحكام؟!
ومنها: أنه قلَّ من يسلم من مخالفته للقرآن بعمله. فإذا ذهبنا مع ذلك الرأي حرم خلق كثير من تلاوة القرآن. وكفى بقول يؤدي إلى هذا كله راداً على نفسه. وأما قولهم: "إن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته"، فهي دعوى لم يقيموا عليها من نص صحيح صريح من سنة أو كتاب، بل الدليل قائم على خلافها، فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة واحدة ولا بكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنباً آخر، وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر. فكيف إذا باشر عبادة التلاوة؟ والأصل القطعي - كتاباً وسنة- إن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهو يبطل أن تجدِّد له سيئاته إذا جاء بحسنة تلاوة القرآن.(1/147)
وأما قول أنس - رضي الله عنه -: "رب تال للقرآن والقرآن يلعنه" فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته، وكيف وتلاوته عبادة؟ وإنما معناه أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلاً فيكون داخلاً في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفته القرآن مع تلاوته بعثاً للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن وتعجيل المتاب، لا مخرخ الأمر بترك التلاوة والإنصراف عنها. هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة.
وثبت في الصحيح قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه، فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد. ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني-: "وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور"، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من باع الخمر فليشقص الخنازير)، أي يذبحها، ولم يأمره بشقصها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذَّر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه. فمن باب أحرى وأولى أن لا يكون قول أنس - رضي الله عنه - محمولاً على طلب ترك التلاوة من المذنب لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الإستمرار على المخالفة وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
هذا حظ العلم في الإستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم، وأما حظ التجربة، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إِلَانَةً للقلب،(1/148)
واستدراراً للدمع، وإحضاراً للخشية، وأبعث على التوبة من تلاوة القرآن وسماع القرآن.
نعود إلى تتميم الكلام على التحذير:
ليحذر القاريء من السرعة في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته وتذهب بحلاوته وتمنع من بقاء أثره في النفس.
وليحذر من ذهاب قلبه مسترسلاً مع خواطره، منصرفاً عن تدبره والتذكر به. وإذا عرضت له الخواطر فليصرفها ليدفعها وليحمل فكره على تدبر آيات الكتاب ولا ينقطع عن التلاوة، وإذا كانت الخواطر لا تفارقه، فإن تصميمه على دفعها مع تكاثرها من جهاده لنفسه الذي يثاب عليه وينتهي به في الأخير إلى الإنتصار عليها.
وليحذر من الإستمرار على ما عنده من مخالفة لأوامر ونواهي الكتاب، ومن عدم الخوف والوجل عند المرور بآيات الوعيد والتقريع على ذلك الذنب، إذا لم يوفق للتوبة في بعضها فليستحضر الخشية والخشوع عند الآيات المتعلقة بذلك الذنب، وليكررها وليتفهمها وليقف عندها وقفة العاجز الذليل الفقير المتضرع لربه، المتعرض لرحمته، بتلاوة كلامه، فإن هذا من أعظم الوسائل لتيسير التوبة.
فرتل القرآن، وتدبر معانيه، والتزم حدوده، واضرع إلى الله - تعالى- أن يرزقك التوبة فيما عندك له من مخالفة، تكن من الفائزين بإذن رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 5، ص 1 - 6. غرة ذي الحجة 1347هـ ماي 1929م.(1/149)
خُطْبَةٌ
فِي افْتِتَاحِ دُرُوسِ التَّفْسِيرِ الْعَامِ بِالْجَامِعِ الْأَخْضَرِ
ــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي شرفنا بخطابه، وألهمنا حفظ كتابه، وجعلنا من أمة سيد أحبابه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي اختاره الله - تعالى- من صميم العنصر العربي ولبابه، وحلاَّه بأسمى معارف النوع البشري وأكمل آدابه، وأرسله رحمة للعالمين ليكشف عن الدين ما كشف من حجابه، ويهدي من سبقت له العناية الربانية إلى أعتابه، فأدَّى الرسالة وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى رجع الحق إلى نصابه. وعلى الغرِّ الميامين من آله، والشم الغطاريف من أصحابه، وعلى التابعين لهم بإحسان على مر الزمان وتوالي أحقابه.
أما بعد، فإن القرآن كلام الجبار، وسيد الأذكار، فيه من العلم ما يفتح البصائر، ومن الأدب ما ينوِّر السرائر، ومن العبر ما يبهر الألباب، ومن الحكم ما يفتح للعلم والعمل كل باب، هو القول الفصل، والحكم العدل، فمن استهدى بغيره ضل، ومن سلك غير نهجه زل، ومن اتبعه كان على الصراط المستقيم.
فالحمد لله الذي يسَّر لنا العودة إلى تفسيره، والكرع من عذب نميره. وطوبى وبشري- إن شاء الله تعالى- لحاضري دروسه، بالنفع العميم، والأجر العظيم، والنعيم المقيم.
والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القصد، والصحة في الفهم، والبيان في القول، والتوفيق في العمل، والتيسير للختم، إنه المولى(1/150)
الكريم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين (1).
...
- صورة -
المقصورة الواقعة داخل الجامع الأخضر التي كان يجلس فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس قبل ابتداء الدرس، والجامع الأخضر أسسه حسين باي للصلاة والتعليم سنة 1156هـ
...
__________
(1) ش: ج11 م6، ص59، غرة رجب 1349هـ ديسمبر 1930م.(1/151)
- صورة -
منبر الجامع الأخضر
ــــــــــــــــــــــــــ(1/152)
- صورة -
سدة الجامع الأخضر التي كان يعلم فيها يعض المواد التي تمنع فرنسة تدريسها كالتاريخ والجغرافية
...
صورة عامة للحرم في مسجد سيدي الأخضر (الجامع الأخضر) الذي يعتبر أهم مركز ثقافي وأهم مؤسسة تربوية علمية من المؤسسات التي علم فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله
ــــــــــــــــــــــــــ(1/153)
-صورة-
الجامع الأخضر ومأذنته
ــــــــــــــــــــــــــ(1/154)
إِفْتِتَاحُ الدُّرُوسِ الْعِلْمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْجَامِعِ الْأَخْضَرِ وَمَسْجِدِ سَيِّدِي قَمُّوشْ
خُطْبَةُ الإِفْتِتَاحِ
ألقاها عبد الحميد بن باديس بعد صلاة العشاء بالجامع الأخضر مفتتحاً بها درس تفسير القرآن العظيم الذي افتتح به التدريس كما هي العادة في كل سنة.
ــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله حمداً كبيراً كثيراً، ومجده أكبر، ورفده أكثر.
والشكر لله شكراً جزيلاً وفيراً، ونعمته أجزل ورحمته أوفر.
أحمده، قذف بالحق على الباطل فدمغه فأزهقه.
وأشكره، نصر حزب الحق وبحلية آلائه طوقه.
وخذل حزب الباطل وبغمة كيده أشرقه.
فله الحمد، وله الشكر بدءاً وعوداً رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توحيداً خالصاً له في ألوهيته وربوبيته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تصديقاً صادقاً له في نبوَّته ورسالته، شهادة تتنكَّب بها عن سبل الغالين والمقصرين.(1/155)
ونكون بها على ملَّة إبراهيم- عليه السلام-:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
ونرجو بها من فضل ربنا أن نكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
والصلاة والسلام على الشاهد المبشر النذير، الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب العربي القرشي الهاشمي إمام الأنبياء وخاتم المرسلين.
ورضي الله عن آله الطيبين الطاهرين، وعن أصحابه الهادين المهتدين
...
-صورة-
مسجد سيدي قموش، أسس سنة 1343هـ - 1924م كما هو مكتوب عليه كان يدرِّس فيه الشيخ عبد الحميد (صورة خارجية)
...(1/156)
وعن أئمة الهدى من صالح سلف المؤمنين، وعن التابعين لهم بإحسان من جميع المسلمين.
أما بعد، فقد عدنا- بفضل الله- إلى رياض القرآن المونقة، وأنهاره العذبة المتدفقة، وأنواره الواضحة المشرقة، نتعظ بمواعظه الملينة للصخور، ونتعالج بدوائه الشافي لما في الصدور، ونستهدي بهداه الموضح للصراط المستقيم، ونستنزل رحمته العامة للمؤمنين.
...
-صورة-
غرفة الشيخ عبد الحميد في مسبجد سيدي قموش
...(1/157)
-صورة-
محراب مسجد سيدي قموش
ــــــــــــــــــــــــــ(1/158)
-صورة-
السبورة التي كان يعلم بها الشيخ عبد الحميد بن باديس في مسجد سيدي قموش
ــــــــــــــــــــــــــ(1/159)
وعدنا- والحمد لله- إلى مدارسة القرآن العظيم الذي (1) أنزله الله آمراً وزاجراً، وسنة خالية، ومثلاً مضروباً فيه نبأنا، وخبر مَن كان قبلنا وحكم ما بيننا لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، لا يشبع منه العلماء، ولا تزيغ له الأهواء، هو الحق ليس بالهزل.
من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن قسم به قسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم.
من طلب الهدى في غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله.
هو الذكر الحكيم، وهو النور المبين، هو الصراط المستقيم، وهو حبل الله المتين، فمن تمسك به نجا، ومن تركه كان من الهالكين - عياذا بالله السميع العليم.
فالله نسأله- كما وفقنا لقراءته ومدارسته- أن يوفقنا لفقهه ومتابعته، وأن يجعله- في الدارين- حجة لنا لا علينا، وأن يكون نوراً لنا في الدنيا والآخرة، وفي عرصات القيامة، وعلى متن الصراط حتى ندخل معه الجنة دار السلام بسلام آمنين، آمين يارب العالمين (2).
..
__________
(1) قد وصف القرآن العظيم بهذه الصفات في حديث الترمدي وغيره.
(2) ش: ج 13، م 9، ص 512 - 514، غرة شعبان 1352هـ ديسمبر 1933م.(1/160)
خُطْبَةُ اِفْتِتَاحِ لِدُرُوسِ التَّفْسِيرِ هَاتِهِ السَّنَةِ
جرت عادتنا أن نفتتح دروس التفسير من كل سنة بخطبة، تارة نخرج منها إلى نفس التفسير وتارة نطرق بعدها موضوعاً مناسباً للمقام. ولم نكن فيما مضى نعود إلى كتابتها وفي هذه السنة رأينا أن نحلي بها صدر الشهاب تعميماً للفائدة.
ــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي جمل الإنسان بالبيان، وجمل البيان بالقرآن، فالإنسان دون بيان حيوانٌ أبكم، والبيان دون قرآن كلام أجذم، وذو البيان والقرآن هو الأكمل الأعظم، قدراً وتقديراً، والأحسن الأقوم، عملاً وتفكيراً، والأسعد الأكرم، حالاً ومصيراً.
أحمده، أرسل محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن تبصرة وذكرى، ومعجزة كبرى، حجة وتذكيراً، وشرع لنا من دينه الحنيف، مناهل العز والسعادة، ومهد لنا من شرعه الشريف سبل الحسنى والزيادة، رحمة منه- تعالى- وفضلاً كبيراً.
وأشكره، هدانا واجتبانا، فرضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، وحبب إلينا ديننا، فوالله لو بذلت لنا الدنيا بحذافيرها في تركه ما ساوت عندنا حبة رغاماً، توفيقاً منه تعالى ويقيناً صادقاً منَّا وبصراً بصيراً.(1/161)
واستغفره لما كان منا من نقص وتقصير في الوفاء بعهده الحق وشكر فضله الكبير، إنه كان عفواً غفاراً شكوراً.
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد أشرف خلقه وأكرم رسله، فرق بالقرآن بين الحق والباطل، وهدى به الضالَّ وعلَّم به الجاهل، وجاهد به- في الله- جهاداً كبيراً.
وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، اقتفوا طريقته، وأحيوا سنته، فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم ولقَّاهم نضرةً وسروراً. وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً.
وعلى بقية أمته، وأهل ملته، لبوا دعوته وأموا غايته ناشطاً وحسيراً.
صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم نلقى محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- ونسعد بلقائه ونحشر بين الأمم تحت لوائه، ونجزى بمحبته- إن شاء الله تعالى- جزاءاً موفوراً.
أما بعد؛ فقد عدنا- والحمد لله تعالى- إلى مجالس التذكير، من دروس التفسير، نقتطف أزهارها، ونجتني ثمارها، بيسر من الله - تعالى- وتيسير. على عادتنا من تفسير الألفاط بأرجح معانيها اللغوية، وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية، وربط الآيات، بوجوه المناسبات، معتمدين في ذلك على صحيح المنقول وسديد المعقول، مما جلاه أئمة السلف المتقدمون أو غاص عليه علماء الخلف المتأخرون- رحمة الله عليهم أجمعين-. وعمدتنا فيما نرجع إليه من كتب الأئمة تفسير ابن جرير الطبري، الذي يمتاز بالتفاسير النقلية السلفية، وبأسلوبه الترسلي البليغ في بيان معنى الآيات القرآنية، وبترجيحاته لأولى الأقوال عنده بالصواب.
وتفسير الكشاف الذي يمتاز بذوقه في الأسلوب القرآني وتطبيقه(1/162)
فنون البلاغة على آيات الكتاب والتنظير لها بكلام العرب واستعمالها في أفانين الكلام.
وتفسير أبي حيان الأندلسي الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية وتوجيهه للقراءات.
وتفسير الرازى الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية، مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان، وفي العلوم الكلامية ومقالات الفرق والمناظرة في ذلك والحجاج.
إلى غير هذا مما لا بد لنا من مراجعته من كتب التفسير والحديث والأحكام، وغيرها مما يقتضيه المقام.
نقول هذا ليعرف الطلبة مصادر درسنا، ومآخذ ما يسمعونه منا. ونحن نعلم أننا- والله- كما قال أخو العرب:
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى ... إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ
وكما نقول في مثل: "إِنَّمَا نُكَحِّلُ فِي مَوْضِعَ الْعَيْنَيْنِ" وإذا نظرنا إلى قصورنا وخطورة مقام الكلام على كلام الله- تعالى- أحجمنا. وإذا رأينا إلى فضل الله وثقتنا به وحسن قصدنا- إن شاء الله تعالى- في خدمة كتابه أقدمنا. وهذا الجانب الكريم أرجح عندنا، فنحن نقدم معتمدين على الله تعالى، سائلين منه تعالى لنا ولكم أن يوفقنا إلى حسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول، وسداد العمل.
__________
(1) ش: ج 11، م 5، ص 1 - 4 غر ة رجب 1348هـ - ديسمبر 1929م.(1/163)
دَعْوَةُ أَهْلُ الْكِتَابِ.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)}.
ــــــــــــــــــــــــــ
أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأمم فكانت رسالته عامة وكانت دعوته عامة مثلها. وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى. ولما أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان الخلق قسمين: أهل كتاب - وهم اليهود والنصارى- وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه وتحريفهم لما حرفوا وكانوا أولى القسمين باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء، فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} إلى آخر الآيتين. وفي ندآئهم بيا أهل الكتاب تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد - صلى الله
__________
(1) 15/ 5 - 16 المائدة.(1/164)
عليه وسلم - لأنه جاء بكتاب، وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه.
أدب واقتداء:
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحدٍ أحسن ما يدعى به وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه، فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون حائل يبعد بينك وبينه. وإذا كان هذا الأدب عاماً في كل تداع وتخاطب فأحق الناس بمراعاته هم الدُّعاة إلى الله والمبينون لدينه، سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانه لهم، حجته عليهم:
كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم، فكانوا لا يظهرون منها إلا ما يشاؤون، ولا تعرف عامتهم منها إلا ما أظهروا، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمي من أمة أميَّة، يبين لهم بما أنزله الله عليه وأوحى إليه من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقداراً كثيراً، ويتجاوز عن كثير مما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسل الله- عليهم الصلاة والسلام- من عنتهم وشرهم وأذاهم. فكان هذا البيان العليم وهذا الخلق الكريم من هذا النبي الأمي كافياً أن يعرفهم بنبوته وصدق دعوته ونهوض حجته، ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.(1/165)
تمثيل:
في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاويين التصريح برجم الزناة فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف وكتموا النص فبينه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والقصة مشهورة في كتب السنن.
جاءت صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا تنطبق على غيره فكتموها مثل قول عيسى عليه السلام. وفي الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: (إن لي أموراً كثيرةً أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم). صرح عيسى- عليه السلام- بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا. جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا قول عيسى- عليه السلام-: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته). وأمثال هذا فيما عندهم كثير.
أدب واقتداء:
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه، فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب- ولو كانت هنالك عيوب ومثالب- إقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير. وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب وتعد على الخصم وإبعاد له وتنفير عن الإستمتاع والقبول وهما المقصود من الدعوة والمناظرة.(1/166)
نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن:
لقد كان الناس أهل الكتاب وغيرهم قبل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلام من الجهل بالله وبأنبيائه وبشرعه. ومن الجهل بآيات الله في أنفسهم وفي الكون. ومن الجهل بنعم الله عليه في أنفسهم بالعقل والفكر والإستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها. فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفاً للخلق لما كانوا يجهلون. فكان نوراً ساطعاً في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر. وكما أن النور الكوني يجلو الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك النور الروحي الرباني يجلو تلك الحقائق للبصائر، وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية فلا يحرم منها إلا معدوم البصر فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك النور الرباني مجلياً للحقائق البشرية كلها ولا يحرم من إدراكها إلا مطموسو البصائر الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وكما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نوراً تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق، كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان. فبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه تمت نعمة الله- تعالى- على البشرية كلها بإظهار وبيان كل ما تحتاج إلى اظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخلقية من بيانه وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}.
محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن نور وبيان:
في هذه الآية وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور(1/167)
ووصف القرآن بأنه مبين. وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (1)} ووصف الرسول بأنه مبين كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (2)}.
وهذا ليبين لنا الله- تعالى- أن إظهار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد، ولقد صدقت عائشة - رضي الله عنها - لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان خلقه القرآن) (3).
إستفادة:
نستفيد من هذا: أولاً- أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن. وثانياً- أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته وفقه حياته - صلى الله عليه وسلم - يتوقف على فقه القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.
إقتداء:
هذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان، فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا النور وهذا البيان، فهو على ما يسر له من العلم- ولو ضئيلاً- يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال وهو بذلك وبعمله الصالح كالنور يشع على من حوله وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من
__________
(1) 8/ 64 التغابن.
(2) 44/ 16 النحل.
(3) ذكره القاضي عياض في الشفاء وابن سعد في طبقاته.(1/168)
علم وعمل. فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه ويعمل عليه ليضرع إلى الله دائماً في دعواته أن يمده بنوره وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعو به في ذلك وهو: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وأجعل لي نوراً) (1).
الهداية ونوعها:
قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم ومرضاة خالقهم، وهذه هي هداية الدلالة وهي من فضل الله العام للناس أجمعين وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكن والاختيار - قامت حجة الله على العباد. ثم يسر من شاء- وهو الحكيم العدل- إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال. وهذه هي دلالة التوفيق وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته وأقبلوا على ما أتاهم من عنده فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (2)} وأما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذلك التيسير كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (1)}.
فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هُدوا دلالة وتوفيقاً والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة وحرموا من التوفيق في جزاء إعراضهم.
__________
(1) البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) 17/ 47 محمد.
(3) 61/ 5 الصف.(1/169)
بماذا تكون الهداية:
كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين. فلذا بيَّن تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه فيتمسك بها من يريد الهدى وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر- جاء بالضمير مفرداً في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ}.
لمن تكون الهداية:
أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها فهي كما تقدم عامة، وأما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد فهي للذين اتبعوا ما جاءهم من عند الله من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لهما متبعين لرضوانه المقتضي لقبوله ومثوبته وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهواءهم ومألوفاتهم وما ألفوا عليه آباءهم ولا أهواء الناس ورضاهم. فكان اتباعهم لرضوان الله سبباً في دوام إرشادهم وتوفيقهم وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم يكون ازدياد توفيقهم، إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدى يزداد بالإهتداء. وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والإتباع يقتضي الربط ما بين ضديهما: الإعراض والخذلان وأنه بقدر ما يكون الإعراض عن الهدى يكون الخذلان والحرمان والشر يدعو بعضه إلى بعض والسيئة تجر إلى السيئة. وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الإتباع وجعل التوفيق مسبباً عنه- بما في صلة الموصول من التعليل- قوله تعالى: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}.
إلى ماذا تكون الهداية:
فشؤون الشخص في نفسه وشؤونه فيما بينه وبين أهله وفيما بينه(1/170)
وبين بنيه وفيما بينه وبين أقاربه وفيما بينه وبين جيرانه وفيما بينه وبين من تربطه به علاقة من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها، كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة تسلك ويسار عليها للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع. وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان كانت سبل سلامة ونجاة وإلا كانت سبل هلاك، فيحتاج العبد فيها إلى إرشاد وتوفيق من الله- تعالى-. وقد منَّ الله بفضله على العباد بهذا النبي الكريم والكتاب العظيم فمن آمن بهما واتبعهما ففيهما ما يهديه إلى كل ما يحتاج إليه في كل سبيل من تلك السبل في الحياة وباتباعها. واتباعهما اتباع لرضوان الله، يوفقه الله ويسدده في سلوك تلك السبل- الفردية والجماعية والأممية- إلى ما يفضي به إلى السلامة والنجاة. وتكون تلك السبل كلها له سبل سلام أي سلامة ونجاة لأنها أفضت به بإرشاد الله وتوفيقه جزاء لاتباعه وتصديقه إليها كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (1)}.
الإخراج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان:
تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيراً مرتبكاً كمن يكون في ظلام، منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى والمقلد للآباء من دليل يطمئن به ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه. ومنها حالة الشكِّ ومنها حالة اعتراض الشبهات ومنها حالة ثوران الشهوات، وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والإهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب كما تطمئن
__________
(1) 18/ 5 المائدة.(1/171)
في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من أعراض عنهما أو خالفهما يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى:
{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
على العبد أن يقبل ما فيه كماله وسعادته ومرضاة خالقه مما هداه الله إليه برسوله وكتابه وجعل قبوله له سبباً في توفيقه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وعليه أن يعتقد أنه لا ينال شيئاً من التوفيق وحظاً من النور إلا بإذن الله، أي إرادته وتيسيره، فلا يعتمد على نفسه ولا على أعماله، وإنما يكون اعتماده على الله، فيحمله ذلك على الإجتهاد في العمل وعدم العجب به ودوام التوجه إلى الله وصدق الرجاء فيه والخوف من عقابه ودوام المراقبة له. ولأجل لزوم هذا الإعتماد على الله الميسر للأسباب الذي لا يكون في ملكه إلا ما أراد- قارن قوله {يَهْدِي} و {وَيُخْرِجُهُمْ} بقوله {بِإِذْنِهِ}.
الإسلام، هو السبيل الجامع العام:
ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن العظيم هو دين الله الإسلام، فكل ما دل الله عليه الخلق بهما وما وفق إليه من العلم والعمل باتباعهما فهو من الإسلام، ولهذا لما ذكر تعالى إرشاده وتوفيقه للذين اتبعوا رضوانه وإخراجهم من الظلمات إلى النور ذكر إرشاده وتوفيقه لهم إلى الطريق المستوي الموصل إلى الكمال والسعادة ومرضاة الله الجامع لذلك كله بقوله تعالى:
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.(1/172)
الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم:
إن الحاجة إلى إرشاد الله وتوفيقه دائمة متجددة، فكل عمل من أعمال الإنسان، وكل حال من أحواله هو محتاج فيه إلى هداية الله ودلالته ليعرف ما يرضاه الله منه مما لا يرضاه، وهو محتاج فيه إلى توفيق الله وتيسيره ليقوم بما يرضاه منه وشرعه له ودله عليه، ولن يزال العبد- غير المعصومين - صلى الله عليه وسلم - تغشاه ظلمات الشبهات والشهوات فيحتاج إلى دلالة الله وتوفيقه ليخرج منها إلى نور الإيمان والإستقامة. فالعبد المحتاج دئماً إلى الرجوع إلى كتاب الله وما ثبت من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليهتدي إلى ما يرضي الله مما شرعه له من أحواله وأفعاله، وإلى ما يدفع عنه شبهاته وينقذه من شهواته ومحتاج إلى التوسل بذلك الرجوع إليهما وذلك الإتباع لهما إلى الله- تعالى- ليفتح له أبواب المعرفة ويمد له أسباب التوفيق. وهذا هو القصد من صيغة المضارع المفيدة للتجدد في قوله تعالى: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} و {يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
جعلنا الله من المتبعين لرضوانه، الرجاعين لكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الفائزين منهما بالهداية، لخير غاية، بإذنه وفضله، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 11، ص 135 - 144 - ربيع الأول 1354هـ جوان 1935م.(1/173)
سَبِيِلُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}.
ــــــــــــــــــــــــــ
خلق الله محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم- أكمل الناس وجعله قدوتهم وفرض عليهم اتباعه والائتساء به. فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم ومغفرة خالقهم ورضوانه، إلا باقتفاء آثاره والسير في سبيله.
فلهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس تتضح المحجة للمهتدين وتقوم الحجة على الهالكين. أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}. ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله- تعالى- والبراءة من المشركين. فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
الدعوة إلى الله:
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته كان يدعو الناس كلهم إلى الله بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده، وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة
__________
(1) 108/ 12 يوسف.(1/174)
جلية لا خفاء بها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " (1) فكانت مشاهدة معينة كما أشير إليها في الآية إشارة المعاين المشاهد.
كان يدعو إلى دين الله ويبين هو ذلك الدين وبمثله يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، ويشاهد الناس تلك العبادة والتوحيد والطاعة فكان - صلى الله عليه وسلم - كله دعوة إلى الله. فما دعا إلى نفسه، فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن، وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: "لا فضل لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله". كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم فكتب الكتب وأرسل الرسل فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم. كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله، ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع عن الإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير.
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالصبر فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها وفي جميع أحواله. وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان مشتملة على الحجة والبرهان، فكان يستشهد بالعقل ويعتقد بالعلم ويستنصر بالوجدان ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية وما استفاض من أخبارها وبقي من آثارها من أنباء الأولين وما يمر الناس عليه مصبحين وبالليل.
على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله:
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد - صلى الله
__________
(1) رواه ابن ماجة عن طريق ابي الدرداء - رضي الله عنه - بسند موثق وفيه ابن سميع قال فيه ابن عدي: حسن الحديث.(1/175)
عليه وسلم - ما يفيد أن على اتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم- ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن اتباعهم له لا يتم إلا به- جاء التصريح بذلك هكذا:
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. فالمسلمون أفراداً وجماعات عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين. وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته وتبعاً لها. فمن الدعوة إلى الله دروس العلوم كلها مما يفقه في دين الله ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته، فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته داع إلى الله، والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله، ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل. ومن الدعوة إلى الله بيان حجج الإسلام ودفع الشبه عنه ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه. ومن الدعوة إلى الله مجالس الوعظ والتذكير لتعريف المسلمين بدينهم وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم، وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم، وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية، أفرادها وأممها، إلا بينه لهم ودعاهم إليه. وما من سبب مما تشقا به البشرية أفرادها وأممها إلا بينه لهم ونهاهم عنه. وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم وبقاياه الباقية لديهم ومظاهره القائمة بهم لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية.
ومن الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواحب بحسب(1/176)
رتبة الاستطاعة. فيجب باليد فإن لم يستطيع فباللسان فإن لم يسطع فبالقلب وهو أضعف الإيمان وأقل الأعمال في هذا المقام. ومن الدعوة إلى الله ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل، وصدق وأمانة، فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم منه. وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم إلا لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال. ومن الدعوة إلى الله بعث البعثات إلى الأمم المسلمة ونشر الكتب بألسنتها وبعث المرشدين إلى عوام الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم. كل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- وسنة السلف الصالح من بعده. فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسبيل إخوانه الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - من قبله، فلم يكن المسلم ليدع من هذا المقام ثابتاً لكل مسلم ومسلمة، وحقا القيام به - بقدر الاستطاعة- على كل مسلم ومسلمة- فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق. وهم المسؤولون عنه قبل جميع الناس، وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلا يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم.
تفرقة:
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة يين الصادقين والكاذبين والفرق بينهما- مستفاداً من الآية- بوجهين: الأول أن الصادق لا يتحدث عن نفسه ولا يجلب لها جاهاً ولا مالاً ولا يبغي لها من الناس مدحاً ولا رفعة. أما الكاذب فإنه(1/177)
بخلافه فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله. وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ}. الثاني: أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاءً مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على الْتِوَاء ولا تناقض ولا اضطراب. وأما الكاذب فإنه بخلافه، فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها، بكل ما تصل إليه يده ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلا بعداً عن الصراط المستقيم. وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ}.
مباحث لفظية:
(على بصيرة): يتعلق بأدعو واختيرت (على) لتدل على تمام التمكن. (أنا): تأكيد للضمير المستتر في أدعو. ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستتر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على أتباعه كما تتصل دعوتهم بدعوته. وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية، والكلام تصوير للواقع. (من): تفيد للعموم لكل تابع، وأكملهم في الإتباع أكملهم في الدعوة، لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى:
الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر. ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه ولا يليق بجلاله من الصاحبة والولد والمادة والصورة والحلول والشريك في التصرف في الكون والشريك في التوجه والضراعة إليه والسؤال منه والإتكال عليه.
فأرسل الله الرسل ليبيِّنوا للخلق تنزهه عن ذلك كله. وكان من سبيل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يدعو الخلق إلى الله وينزهه(1/178)
عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}. فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلا بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلا بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته ومواقع رحمته ومظاهر حكمته وآيات ربوبيته وألوهيته ووحدانيته في جلاله وسلطانه وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله- فإنه خصص بالذكر لعظم شأنه، فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية، فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها تنزيه الله- تعالى- عن الشبيه والشريك وكل ما لا يليق. والمسلمون المتبعون لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله على بصيرة متبعون له في هذا التنزيه عقداً وقولاً وعملاً واعلاناً ودعوة.
مباحث لفظية:
(سبحان) منصوب بفعل محذوف تقديره، أسبح، أي أنزه. والجملة معطوفة على جملة أدعو، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين:
الأمة التي بعث منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أول أمة دعاها إلى الله هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها وتعبد مع ذلك أوثانها، تزعم أنها تقربها إلى الله وتتوسط لها لديه. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدعو إلى الله وينزهه يعلن ببراءته من المشركين وأنه ليس منهم براءة من عقيدتهم وأقوال وأعمال شركهم، فهو مباين لهم في العقد والقول والعمل مباينة(1/179)
الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك باين هو المشركين وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وهذه البراءة والمباينة، وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه فإنها نص عليها بالتصريح لتأكيد أمر مباينة المشركين (والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفيه) في جميع مظاهر شركهم حتى في صورة القول كما شاء الله وشاء فلان. فلا يقال هكذا ويقال: ثم شاء فلان، كما جاء في حديث بيناه في جزء من الأجزاء الماضية، أو في صورة الفعل، كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة ليذبحها عنده فإنه ضلال كما قاله (الشيخ الدرديري في باب النذور). فضلاً عن عقائدهم كاعتقاد أن هنالك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله، وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله.- لتأكيد أمر المباينة للمشركين، في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جليه وخفيه.
والمباينة والتَّبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم، ولأن الشرك هو شر الكفر وأقبحه. ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - كما يدعون إلى الله على بصيرة وينزهونه، يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ويطرحون الشرك بجميع وجوهه ويعلنون براءتهم وانتفاعهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 1، م 11 ص4 - 10، محرم 1354هـ - افريل 1935م.(1/180)
كَيْفَ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا.
"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
سبيل الرب جلَّ جلاله:
شرع الله لعباده بما أنزل من كتابه وما كان من بيان رسوله ما فيه استنارة عقولهم وزكاء نفوسهم واستقامة أعمالهم. وسمَّاه سبيلاً ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى العناية المقصودة، وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى. وأضافه إلى نفسه ليعلموا أنه هو وضعه، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه. وذكر من أسمائه الرب، ليعلموا أنَّ الرب- الذي خلقهم وطورهم ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم ومراحل تكوينهم- هو الذي وضع لهم هذه السبيل، لطفاً منه بهم وإحساناً إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم. فكما كان رحيماً بهم في خلقه كان رحيماً بهم في شرعه. فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها، ومع شكر له وشوق إليه. وأمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدعو الناس أجمعين- وحذف معمول أدع لإفادة العموم - إلى هذه السبيل فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}.
__________
(1) 125/ 16 لنحل.(1/181)
إهتداء:
أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو إلى سبيل ربه، وهو الأمي المعصوم، فما ترك شيئاً من سبيل ربه إلا دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس من سبيل الرب جل جلاله، فاهتدينا بهذا- وأمثاله كثير- إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ودعاة الله ودعاة الشيطان. فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى، ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال.
إقتداء:
فالمسلم المتبع للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يألو جهداً في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه. وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلو سبل الباطل على دعاتها من الشياطين.
أركان الدعوة:
أركان الدعوة أربعة: الداعي، وهو النبي:- صلى الله عليه وآله وسلم-. والمدعو، وهم جميع الناس. والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جلَّ جلاله. والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى، والبيان عن الدعوة. وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي، ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها حديث وبيان عن بيان الدعوة. وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أو الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبماذا تؤدي(1/182)
وكيف يدافع عنها مع ذكر الدَّاعي والمدعو إليه. فقال تعالى:
{بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
الحكمة:
الحكمة هي العلم الصحيح الثابت المثمر للعمل المتقن، المبني على ذلك العلم. فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخاً تظهر آثاره على الأقوال والأعمال حكمة. والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد: حكمة، والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة وهي علم وعمل نفسي: حكمة. والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع. حكمة، تسمية للدال باسم المدلول.
إستدلال واستنتاج:
في سورة الإسراء ثمان عشرة آية، جمعت أصول الهداية، من قوله تعالى:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا " إلى: " وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}.
وقد تكلمنا عليها في الجزء 6، 7، 8، 9، 10، من المجلد السادس وقد جمعت تلك الآيات كل ما ذكرنا من العقائد الحقة والحقائق العلمية والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة والأخلاق الكريمة، وسمى الله ذلك كله حكمة فقال تعالى:
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (1).
__________
(1) روى الثلاتة البخاري في كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر.(1/183)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً" وذلك لأن من الشعر ما فيه بيان عن عقيدة حق أو خلق كريم أو عمل صالح أو علم وتجربة. كشعر أمية ابن أبي الصلت الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: كاد أن يسلم، وككلمة لبيد - رضي الله عنه -:
"أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ".
التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم -: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ)). فالحكمة- التي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الناس إلى سبيل ربه بها- هي البيان الجامع الواضح للعقائد بأدلتها، والحقائق ببراهينها، والأخلاق الكريمة بمحاسنها، ومقابح أضدادها، والأعمال الصالحة- من أعمال القلب واللسان والجوارح- بمنافعها ومضار خلافها. وهكذا كان بيانه لهذه الأشياء كلها بما صحَّ من أحاديثه وجوامع كلمه، وهكذا هو بيان القرآن لها كلها حيثما كانت من آياته، فآياته القرآن وأحاديثه - صلى الله عليه وسلم - في بيان هذه الأشياء- البيان المذكور- هما الحكمة التي كان يدعو إلى سبيل ربه بها. وتلك الأشياء كلها أيضاً حكمة، وهي التي كان يعلمها كما في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فصلى الله عليه وآله وسلم من داع إلى الحكمة بالحكمة ومعلم للحكمة بالحكمة.
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة، وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فعلينا أن نلتزمها جهدنا حيثما دعونا. ونقتدي بأساليب القرآن والسنة في دعوتنا فبها يحصل الفهم واليقين والفقه في الدين والرغبة في العمل(1/184)
والدوام عليه. وها نحن قد بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين والجمود في فهمه والإعراض عن العمل به والفتور في العمل.
فحق على أهل الدعوة إلى الله- وخصوصاً المعلمين- أن يقاوموا ما بيَّنا من جهل وجمود وإعراض وفتور بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها والعقائد ببراهينها والأخلاق بمحاسنها والأعمال بمصالحها. وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية والحمد لله - وأخذ أثرها- بفضل الله- يظهر في الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله.
الموعظة الحسنة:
الوعظ والموعظة الكلام المليِّن للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع إذا اتعظ وقبل الوعظ وأثر فيه على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقد يطلق على نفس الأمر والنهي.
الإستدلال:
ففي حديث العرباض الذي رواه الترمذي وغيره: وعظنا - رسول الله صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت- خافت- منها القلوب وذرفت- سالت- منها العيون. فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم فهذه حقيقة الموعظة، وقال تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (1). أي يؤمرون به، وقال تعالى:
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} (2).
__________
(1) 165/ النساء.
(2) 17/ 24 النور.(1/185)
أي ينهاكم. فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي، لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب.
بماذا تكون الموعظة:
يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية، وباليوم الآخر وما يتقدمه وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم ومصيرهم إلى الجنة أو إلى النار، وما في الجنة من نعيم وما في النار من عذاب أليم، وبوعد الله ووعيده. وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه ليعامل غيره بما يجب أن يعامل به وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها مثل قوله تعالى:- وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلم لست مؤمناً-. {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (1). وقوله تعالى- وقد أمر بالعفو والصفح-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
تفريق بالتمثيل:
يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (3) هذه حكمة. ويقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (4)
__________
(1) 4/ 93 النساء.
(2) 22/ 24 النور.
(3) 6/ 156 الأنعام و34/ 17 الإسراء.
(4) 4/ 9 النساء.(1/186)
هذه موعظة، ويقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (1). هذه أيضاً موعظة. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} (2) هذه حكمة. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3). هذه موعظة. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (4)، هذه حكمة. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (5) هذه موعظة. وهكذا تمتزج الحسنة بالحكم البالغة في آيات القرآن الكريم فتتبعها في جميع سوره تجدها وتدبرها تقع منها على علوم جمة وأسرار غزيرة.
حسن الموعظة:
الموعظة التي تحصل المقصود منها من ترقيق للقلوب للحمل على الإمتثال لما فيه خير الدنيا والآخرة هي الموعظة الحسنة. وإنما يحصل المقصود منها إذا حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها. وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع واستقرت في القلوب وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية فأثارت الرغبة والرهبة
__________
(1) 8/ 4 النساء.
(2) 94/ 16 النحل.
(3) 94/ 26 النحل.
(4) 30/ 22 - 31 الحج.
(5) 31/ 22 الحج.(1/187)
وبعثت الرجاء والخوف بلا تقنيط من رحمة الله ولا تأمين من مكره وانبعثت عن إيمان ويقين وتأدَّت بحماس وتأثر فتلقتها النفس من النفس وتلقنها القلب من القلب إلا نفساً أحاطت بها الظلمة وقلباً عم عليه الرَّان. عافى الله قلوب المؤمنين.
تطبيق واستدلال:
كل هذا تجده في مواعظ القرآن وفيما صحَّ من مواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان- صلَّى الله عليه وسلم - كما جاء في الصحيح إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه. كأنه منذر جيش يقول صبحكم - أغار عليكم في الصباح- مساكم- أغار عليكم في المساء- وكان يقصر خطبه في بلاغة وإيجاز.
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها إلى أن من الموعظة ما هو حسن وهو الذي تكون به الدعوة، ومنها ما هو ليس بحسن فيجتنب. وبينت مواعظ القرآن ومواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحسن. فعلينا أن نلتزمه لأنه هو الذي تبلغ به الموعظة غايتها وتثمر بإذن الله ثمرتها، وعلينا أن نجتنب كل ما خالفه مما يعدم ثمرة الموعظة، كتعقيد ألفاظها، أو يقلبها إلى ضدِّ المقصود منها، كذكر الآثار الواهية التي فيها أعظم الجزاء على أقل الأعمال.
تحذير:
أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة مسجعة طويلة من مخلفات الماضي لا يُراعى فيها شيء من أحوال الحاضر وأمراض السامعين تلقي بترنم وتلحين أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيراً ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.(1/188)
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية سد بها أهلها باباً عظيماً من الخير فتحه الإسلام وعطلوا بها الوعظ والإرشاد، وهو ركن عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيباً في الناس، وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. ورحم الله أبا الحسن - كرم الله وجهه- فقد قال: (الفقيه كل الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكره. ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه).
الجدال بالتي هي أحسن:
لا بد أن يجد داعية الحق معارضة من دُعاة الباطل وأن يلقى منهم مشاغبة بالشبه، واستطالة بالأذى والسفاهة. فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغبهم ودحض شبههم، وهذا هو جدالهم ومدافعتهم الذي أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - (وجادلهم).
ولما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلا الكلمات الباطلة يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحاً منها، ولا يسلكون في مجادَلتهم إلا الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها ويهربون إليها- لما كان هذا شأنهم أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة وطرائقهم المتناقضة والملتوية، وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق والكلمات الطيبة البريئة، وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار. دون فحش ولا طيش ولا فظاظة، وهذه الطريقة في الجدال هي التي أحسن من غيرها في لفظها ومعناها ومظهرها وتأثيرها وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه ورد شره عن الناس واطلاعهم على نقصه وسوء قصده. وهذه هي الطريقة التي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -(1/189)
بالجدال بها في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1).
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى الطريقة المحمودة المشروعة في الجدال، وفي آيات القرآن بيان لهذه الطريقة البيان التام، فإنه كما لم يترك القرآن عقيدة من عقائد الإسلام إلا بينها وأوضح دليلها ولا أصلاً من أصول أحكامه أو أصول آدابه إلا بينه واحتج له، وذكر حكمته وثمرته، كذلك لم يترك شبهة من شبه الباطل إلاَّ ردها بالطريقة الحسنة التي أمر بها. وجاءت السنة النبوية الكريمة والسيرة المحمدية الشريفة مطبقة لذلك ومنفذة له. فالكتاب والسنة فيهما البيان الكافي الشافي للجدال بالتي هي أحسن، كما فيهما البيان الشافي الكافي للحكمة والموعظة الحسنة.
فعلينا أن نطلب هذا كله من الكتاب والسنة، ونجهد في تتبعه وأخذه واستنباطه منهما، وندأب على العمل بما نجد. والتحلي به والإلتزام له، من هذه الأصول الثلاثة في الدعوة والدفاع عنها.
أحكام وتنزيل:
أمر الله بالدعوة وبالجدال على الوجه المذكور، فكلاهما واجب على المسلمين أن يقوموا به، فكما يجب لسبيل الرب جلَّ جلاله أن تعرف بالبيان بالحكمة، وأن تحب بالترغيب بالموعظة الحسنة، كذلك يجب أن يدافع من يصدُّون عنها بالتي هي أحسن. إذ لا قيام لشيء من الحق إلا بهذه الثلاث. غير أنَّ الدَّعوة بوجهيهما والجدال ليستا في منزلة واحدة في القصد والدوام. فإن المقصود بالذات هو
__________
(1) 125/ 16 النحل.(1/190)
الدعوة وأما الجدال فإنه غير مقصود بالذات وإنما يجب عند وجود المعارض بالشبهة والصادِّ بالباطل عن سبيل الله. فالدعوة بوجهيهما أصل قائم دائم، والجدال يكون عند وجود ما يقتضيه. ولهذا كانت الدعوة بوجهيهما محمودة على كل حال، وكان الجدال مذموماً في بعض الأحوال، وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذ شاغلاً عن الدعوة ومؤدياً- في الأكثر- إلى الفساد والفتنة. فإذا كان جدالاً لمجرد الغلبة والظهور فهو شر كله وأشد شراً منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل، وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (*) {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}. وقوله (1) - صلى الله عليه وسلم -: (ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل). ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (2)
تحذير:
المدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه وتقوم فطرته فتجعل جداله بالحق عن الحق. فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة فنذهب في الجدل شر مذاهبه وتصير الخصومة لنا خلقاً، ومن صارت الخصومة له خلقاً أصبح يندفع معها في كل شيء ولأدنى شيء، يبالي بحق ولا باطل. وإنما يريد الغلب بأي وجه كان، وهذا هو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (3)
__________
(1) الترمذي وصححه.
(2) 58/ 43 الزخرف.
(3) الصحيحان.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا، والآية الكريمة نصها {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ}(1/191)
إن أبغض الرجال إلى الله الألد (الشديد الخصومة) الخصوم (الكثير الخصومات). ومن ضبط نفسه وراقب ربه لا يجادل إذا جادل إلا عن الحق وبالتي هي أحسن.
(علينا الدعوة والجدال وإلى الله الهدي والضلال، والمجازاة على الأعمال).
الدعوة بوجهيها يجب أن تكون عامة والجدال على وجهه عام مثلها ثم يكون حظ كل أحد من الهدى والضلال على حسب استعداده وقابليته وما سبق عليه أمر ربه وتكون مجازاته على ذلك للخالق الذي هو العالم بمن خرج عن طريقه وأعرض عن هداه وبالذين قبلوا هداه فاهتدوا وساروا في سبيله. والعدل الحقيقي التام في الجزاء إنما يكون ممن يعلم السر والعلن وليس ذلك إلا لله فلا يكون الجزاء على الهدى والضلال من سواه. ولهذا ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1).
ثمرته:
ثمرة العلم بهذا أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة، ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى دون أن يجازي بالمثل أو يفتر في دعوة من آذاه، لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله. جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله، كما أمر الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر، غير منتظرين إلا جزاءه ولا متَّكِلِين إلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل (2).
__________
(1) 125/ 16 النمل.
(2) ش: ج 2 م 11 ص 65 - في 7 صفر 1354 - 5 ماي 1935(1/192)
آيَةُ اللَّيْلِ وَآيَةُ النَّهَارِ.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بينات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته، ونعم سابغات موجبة لحمده، وشكره، وعبادته.
ولما ذكر تعالى آيته، ونعمته، بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم، فقال تعالى {وَجَعَلْنَا} الآية.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}: خلقناهما ووضعناهما آيتين. وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة، فهما حادثان مسيران بتدبير وتقدير. و {اللَّيْلَ}: هو الوقت المظلم الذي يغشى جانباً من الكرة الأرضية عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل.
و {النَّهَارَ}: هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيئه بنورها ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة وأمكنتها، يكور الليل على النهار بأن يحل محله في جزء من
__________
(1) 17/ 12 الإسراء.(1/193)
الكرة- وجزء الكرة مكور- فيكون النهار الحال مكوراً بحكم تكوُّر المحل. وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة فيكون أيضاً مكوراً بحكم تكوُّر المحل. وإنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله في محله لأنه لا يمكن تكويره عليه بحلوله عليه في نفسه لأنهما ضدان لا يجتمعان، وليس جسمين يحل أحدهما على الآخر. والآية: هي العلامة الدَّالة، وكان الليل والنهار {آيَتَيْنِ}: بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض، المناطق الإستوائية والقطبية الشمالية والجنوبية وما بينهما. حتى يكونا في القطبين ليلة ويوماً في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، ويوم فيه ستة أشهر هو صيفهم، فهذا الترتيب والتقدير والتسيير دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير، لطيف خبير.
الليل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر فيقال في القمر {آيَةَ اللَّيْلِ} والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو الشمس، فيقال في الشمس {آيَةَ النَّهَارِ}.
وبعد ما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما ذكر أظهر آيات كل واحد منهما وأضافهما إليه. فقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ... الخ} وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار، وكيف؟ وما كان الليل والنهار إلاَّ باعتبار إضاءة الشمس لجانب وعدم إضاءتها لمقابله، فليست الفاء في {فَمَحَوْنَا} للترتيب في الوجود، وإنما هي للترتيب في الذكر وللترتيب في التعقل. فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل.
وقد اتفق الكاتبون على الآية ممن رأينا على أن المراد من لفظ(1/194)
الآية في الموضعين واحد، فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، والإضافة في {آيَةَ اللَّيْلِ} و {آيَةَ النَّهَارِ} للتبيين كإضافة العدد للمعدود. أو يراد بها الشمس والقمر فيكون {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} على تقدير مضاف في الأول مقدراً هكذا: وجعلنا الليل والنهار، أو في الأخير مقدراً هكذا: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين، وأما على تقديرنا المتقدم فإن لفظ {آيَتَيْنِ} صادق على الليل والنهار، ولفظ {آيَةَ اللَّيْلِ} و {آيَةَ النَّهَارِ} صادق على الشمس والقمر، وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة، وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه، فالتقرير به أولى ولذلك فسرنا الآية عليه.
{فَمَحَوْنَا} المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار، فمحو {آيَةَ اللَّيْلِ} إزالة الضوء منها. وهذا يقتضي أنه كيان فيها ضوء ثم أزيل. فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً، وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس. واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الإكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر- كالأرض- كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحراره ثم برد.
فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد.
لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية. ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- وبرهاناً لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم وتقدموا في العرفان.
فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم إلا أفراداً قليلين من علماء الفلك. وأن حمو جرمه أولاً وزواله(1/195)
بالبرود ثانياً ما عرف إلا في هذا العهد الأخير. والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً- نبي أمي من أمة أمية كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم. فلم يكن ليعلم هذا ويقوله إلا بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها ...
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتُمِ
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}.
فقد وضعت كذلك من أول خلقها {مُبْصِرَةً} يبصر بها، والإسناد مجازي، كما تقول: لسان متكلم، أي متكلم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب. والمبصرون حقيقة هم ذوو الأبصار. ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلاَّ في ضوئها ولا ينتفعون بها في الظلام. وإذا كان الضوء يكون من النار فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم.
وكما أفادت الآية زوال نور القمر بعد أن كان بمقتضى لفظة {فَمَحَوْنَا} ومدلولها لغة- فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب وتوميء إلى أنه من الشمس، وذلك أنَّنا نرى فيه نوراً مع علمنا أن نوره قد أزيل، فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه. وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الإستدلال والإمتنان، ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته.
وقدم الليل وآيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء، والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات.
{لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.(1/196)
ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخلق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه. فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه واجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلاً من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش وأسباب الحياة ووجوه المنافع. وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات. وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما وسعتهما ومسير نورهما، ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء.
والإبتغاء: هو طلب الشيء بسعي إليه ومحبة فيه. ويسمي - تعالى- طلب أسباب الحياة إبتغاء تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب. كما يسمي- تعالى- المطلوب بالإبتغاء فضلاً من الرب، وفضله من رحمته، ورحمته واسعة لا تضبطها حدود ولا تحصرها الأعداد- تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه، وليكونوا - إذا ضاق بهم مذهب- آخذين بمذهب آخر من مالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور، وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول، وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية، لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم. ويقول تعالى: {مِنْ رَبِّكُمْ} والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب وما يقسمه لهم من رزق ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحدٌ على أحد بتعدٍّ أو حسد. فهذه الكلمات القليلة الكثيرة وهي: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.
جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة: بالعمل مع الجدِّ(1/197)
فيه والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران. وبالرضا والتسليم للمَوْلى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير، وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام.
ويذكر تعالى علم عدد السنين المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات. فإنَّ نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب انتاجها إنَّما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان، كما ذكر-تعالى- جنس الحساب تنبيها على لزومه لهذا الضبط ولجميع شؤون الحياة من علم وعمل. فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب.
{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}.
فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق، وأخلاق الصدق، وأحكام العدل ووجوه الإحسان، كل هذا فُصِّل في القرآن تفصيلاً. كل فصل على غاية البيان والإحكام. وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به. فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان (1).
..
__________
(1) ش: ج 12، م 5، ص 1 - 6 غرة شعبان 1348 - جانفي 1930(1/198)
إِرَادَةُ الدُّنْيَا وَإِرَادَةُ الْآخِرَةِ
"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ... " (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام: عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد.
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره، جعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
فمن كان هذه إرادته، وهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله {مَنْ نُرِيدُ} من الجار والمجرور في قوله {عَجَّلْنَا لَهُ} فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد، والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي لا على ما يشاء العبد المريد. فكم من مريدي الدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلاَّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه
__________
(1) 17/ 18 - 19 الإسراء.(1/199)
الدار ولا في تلك الدار، وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب- ولا ثمرة حصلها عاجلاً، ولا ثواباً ادَّخره آجلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دُخولها فيصلاها مذموماً: مذكوراً بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. مدحوراً: مبعداً في أقصى النار مطروداً من الرحمة. حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلاً أن يحرم منها في الآخرة.
ونظير هذه الآية آية " الشورى ": {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1).
عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها. والتقييد بمن في قوله تعالى {مِنْهَا} على أن ما يناله- سواءً كان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلا بعض من الدنيا، وإذا كانت الدنيا كلها شيئًا زهيداً بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها. فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد.
ونظيرها أيضاً آية " هود ": {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
__________
(1) 42/ 20 الشورى.(1/200)
النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
وتوفيتهم أعمالهم إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء ولا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالاً باطلة لا ثبات لها، عمل للدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، وبقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فيه فدخلوا به النار. وتلك عاقبة الظالمين.
غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له، وآية "الإسراء" مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته فيهما. والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام.
وقد أفادت هذه الآيات كلها أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها- موصلة- بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه. بمقتضى أمر الله وتقديره، وسننه في نظام هذه الحياة والكون. ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين. ومن مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم. نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم يضع عليه أخذه بالأسباب، فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلاَّ النار.
فالعباد- إذاً- على أربعة أقسام:
__________
(1) 11/ 15 - 16 هود.(1/201)
1 - مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
2 - ودهريٌّ تارك لها، فهذا شقى فيهما.
3 - ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقى فى الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك- في الآخرة.
4 - ودهريٌّ آخذ بالأسباب الدنيوية، هذا سعيد فى الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
فلا يفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو من ضعف إيمانهم. ولم يتقدم غيرهم بعدم إيمانهم بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة. وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم وأعمالهم. وما صاروا من أهل القسم الثالث إلا لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم .. فلا لوم إذاً- إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم.
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1).
وهذا قسم آخر من الخلق، قصد بعمله الآخرة وإياها طلب، وثوابها انتظر، يرجو أن يزحزح فيها عن النار ويفوز بالجنة ويحل عليه الرضوان. فهذا كان سعيه مشكوراً بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يقصد بعمله ثواب الآخرة قصداً مخلصاً. كما يفيده فعل الإرادة في {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} ولام الأجل في {وَسَعَى لَهَا}.
__________
(1) 19/ 17الإسراء.(1/202)
الشرط الثاني: أن يعمل لها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه بامتثال أوامره ونواهيه والوقوف عند حدوده.
الشرط الثالث: أن يكون مؤمناً موقناً بثواب الله تعالى وعظيم جزائه. فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة لهم {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} متقبلاً مثاباً عليه بحسن الثناء وجميل الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة
{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1).
وإذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه.
وفي هذه الشروط مباحث:
المبحث الأول:
إن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله. لأنَّ الإخلاص هو أن تجعل عبادتك لله وحده، ورجاؤك الثواب وطمعك فيه، وحذرك العقاب وخوفك منه. هما مقامان عظيمان لك في جملة عبادتك. يجب عليك أن تكون فيهما أيضاً مخلصاً. لا ترجو إلا ثوابه، ولا تخاف إلا عقابه، وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهداً لا يردك معارض ولا تأخذك في الله لومة لائم، وصغرت في نظرك العوالم كلها فنطقت بقولك {الله أكبر} نطق عالم واجد مشاهد. والمقصود أن رجاء الثواب، وخوف العقاب، روحهما الإخلاص، فكيف ينافيانه؟ فالعامل الراجي للثواب الخائف من العقاب، المخلص في الجميع آب
__________
(1) 2/ 261 البقرة.(1/203)
بأربع عبادات: عمله، ورجائه، وخوفه، وإخلاصه وهو روح الجميع.
وقد جاء في القرآن ثناء شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام هكذا:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (1). وذكر تعالى دعاء عباد الرحمن الصالحين هكذا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (2).
وفي دعاء القنوت: «نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الجِدَّ».
إلى غير هذا من أدلة كثيرة تؤيد ما ذكرنا ..
المبحث الثاني:
أفاد هذا الشرط أن من لم يرد الآخرة لم يكن سعيه مشكوراً، وفي هذا تفصيل، لأن العامل إما يكون في عبادته لم يرد بها الآخرة أصلاً، بل أراد بها شيئاً دنيوياً من محمدة الخلق أو استفادة شيء أو تحصيل منفعة العمل. أو أراد الآخرة وشيئاً مما ذكر شركة متساوية أو متفاوتة. وإما أنْ يكون في عمل عادة لم يرد بها الآخرة أصلاً بل أراد الغرض الدنيوي، أو أرادهما معاً، والدنيوي وسيلة للأخرى فهنالك- إذاً- أقسام:
القسم الأول:
العامل في أمر تعبدي كالصلاة والصدقة والحج والعلم، فهذا إذا لم يرد الآخرة أصلاً فهو موزور غير مشكور. وفيه جاء حديث
__________
(1) 82/ 26 الشعراء.
(2) 65/ 25 الفرقان.(1/204)
أبي هريرة في الصحيح قال: "سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أولَ النَّاسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه: رجلٌ استُشْهِدَ، فأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفهُ نِعَمَهُ، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشْهِدتُ، فقال: كذبتَ، ولكنكَ قاتلتَ لأن يقالَ: جَرِيءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فَسُحِبَ على وَجْهِهِ، حتى أُلقيَ في النَّارِ. ورجلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وقرأَ القرآن، فَأُتيَ به، فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَهَا، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تَعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتُهُ، وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنكَ تعلَّمْتَ العلم ليقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ به، فَسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقيَ في النَّارِ، ورجلٌ وسَّعَ اللهُ عليه، وأَعطَاهُ من أَصنافِ المال كُلِّهِ، فأُتيَ بِهِ فعرَّفهَ نِعَمه، فعرفها، قال: فما عَمِلْت فيها؟ قال: ما تَركتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنفَق فيها إِلا أَنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنكَ فعلت ليُقَال: هو جَوادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه ثم أُلقيَ في النَّارِ" وهذا الذي كان من هؤلاء هو الرياء، وهو أن يفعل العبادة ليقال إنه مطيع. ومهما دخل الرياء في عبادة إلا أحبطها، ولو كان قليلاً، لحديث أبي هريرة في الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن شرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) وإشراك غيره معه صادق بالقليل والكثير فلا فرق بينهما في الإحباط. والعامل المرائي موزور غير مشكور.
القسم الثاني:
العامل في العبادة الذي قصد بها ثواب الآخرة وشيئاً آخر من أعراض الدنيا "كالرجل يبتغي الجهاد وهو يريد من عرض الدنيا" وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقال: لا أجر له. رواه أبو داوود وابن حبان. وعلى وزانه نقول: من قصد الهجرة والتزوج بامرأة معاً، أو قصد الوضوء والتبرد، أو قصد الصوم والحمية- وإن صحت عبادته. لأن الصحة تتوقف على نية القصد،(1/205)
والثواب يستوقف على نية الإخلاص- لا أجر له. هذا إذا سوى ما بينهما في القصد كما هو ظاهر لفظ الحديث. وأما إذا كان الغالب هو قصد العبادة فالظاهر أنَّه له من الأجر بقدر ما غلب من قصده.
القسم الثالث:
العامل في العبادة الذي يكون قصده إلى ثواب الآخرة، وما عداه من منافع تلك العبادة ملحوظ له على سبيل التبع لها، من حيث أنه مصلحة شرعية معتبرة في التشريع. والأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات والأحاديث لا تحصى كثرة ومنها في الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).
ومن منافع الحج الحركة الإقتصادية لخير تلك البقاع ومصلحة أهلها وغزارة عمرانها، ولذا قال تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (2) والفضل هو الإتجار في مواسم الحج. فكل منفعة تجلبها عبادة أو مضرة تدفعها فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل. هي في الدنيا وهو في الآخرة وكلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا، ويشملها لفظ دعاء القنوت: «نرجو رحمتك» إذ هو تبارك وتعالى رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها.
القسم الرابع:
العامل لعمل عادي دنيوي من أكل وشرب ونوم وجماع ونحوها، فهذا إذا قصد بعملها النفع الدنيوي، ولا قصد له في الثواب، فهو غير مأجور ولا مأزور. وهذه هي حالة أهل الغفلة والجهل.
__________
(1) 22/ 28 الحج.
(2) 2/ 198 البقرة.(1/206)
القسم الخامس:
عامل الأعمال العادية الذي يتناولها بنية كونها مباحاً تناولها شرعاً بها التوسل إلى ما يتوقف عليها من أعمال واجبة ومندوبة، وإلى الإنكفاف بها عن المحرمات والمكروهات. كمباضعة زوجته للقيام بواجب حقها، وكف نفسه وكفها، وكالنوم ليقوى على العبادة، والرياضة ليصح للطاعة، فهذا مثاب وسعيه مشكور. وله ما نوى. وبهذه السبيل يستطيع العبد الموفق أن تكون حركته وسكناته كلها لله، وفي طاعته، دائم الذكر له يعبده كأنه يراه. لأن من كان يعبد كأنه يرى مولاه، لا يمكن أن يغفل عنه قلبه ويشتغل بسواه، حتى إذا اشتغل بشيء كان بإذنه ورضاه، فلم يخرج في أي عن حضرة قدس الله. ومن أدلة هذا قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عند مسلم: ((وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
المبحث الثالث:
من الناس من يخترع أعمالاً من عند نفسه ويتقرب بها إلى الله، مثل ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبح عليها والخضوع لديها، وانتظار قضاء الحوائج منها، وهم يعلمون أنها مخلوقة لله مملوكة له، وإنما يعبدونها- كما قالوا- لتقربهم إلى الله زلفى. وكما اخترع طوائف من الهنود أنواع التعذيب بقتل أنفسهم وإحراقها طاعة- زعموا- وتقرباً، وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص والزمر والطواف حول القبور والنذر لها والذبح عندها ونداء أصحابها وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها وحرق البخور عندها وصب العطور عليها. فكل هذه الإختراعات فاسدة في نفسها لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد - صلى الله(1/207)
عليه وآله وسلم - وأصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور.
المبحث الرابع:
شكر الرب لعبده هو جزاء شكر عبده له، وإنما يكون العبد شاكراً لربه إذا كان عاملاً بطاعته مؤمنا به. فإذا انعدم الإيمان لم يتصور شكران، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وأفادت الجملة الإسمية ثبوت الإيمان ورسوخه حال العمل، وعلى قدر ثبوت الإيمان ورسوخه يكون الثبات والدوام على الأعمال. فالمؤمن بالله يعمل موقناً برضاه، موقناً بلقائه وعظيم جزائه، فهو يعمل ولا يفشل. وسواء عليه أَوَصَلَ إلى الغاية التي يسعى إليها أم لم يصل إليها حال بينه وبينها موانع الدنيا أو مانع الموت كانت مما تجنى ثماره في جيله أو لا تجنى ثماره إلا بعد أجيال. فأفادت الجملة المذكورة شرط القبول للعمل، وسر الدوام عليه والمضي بغبطة وسرور فيه.
إمكان العمل بالآية لجميع المسلمين:
خاتمة:
إن المسلمين كلهم- والحمد لله أهل إيمان فليستشعروه عند جميع الأعمال ولا يخلون من عمل لمعاشهم أو لمعادهم، فليقصدوا بذلك كله وجه الله وامتثال أمره وحسن جزائه. وليقتصروا في عبادتهم على ما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ليكونوا على يقين من موافقة رضى الله وسلوك طريق النجاة. فإذا فعلوا هذا وصمدوا إليه وجاهدوا أنفسهم في حملها عليه كانوا شاكرين مشكورين على تفاوتهم في منازل العاملين عند رب العالمين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (1).
__________
(1) ش: ج1، م 6، ص 1 - 9. غرة رمضان 1348 - فيفري 1930(1/208)
عُمُومُ النَّوَالِ مِنَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
إن هذه الموجودات كلها، علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله، مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة. ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضاً حسب ذلك. وينال كلٌ حظه منها بتقدير الحكيم العليم. ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كلَّ موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده وما يتوقف عليه بقاؤه أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد أو عالم النبات أو عالم الحيوان.
وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلاَّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا وما أُعِدَّ لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فإنهم قد أُعْطُوا من نعم الحياة ومكنوا من أسبابها فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة. وقد أظلتهم السماء، وأصابتم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء، وقد أقلتهم الأرض، وشملتهم
__________
(1) 20/ 17، 21، سورة الإسراء.(1/209)
نعمة الهواء والماء والغذاء والدواء من النبات والحيوان والجماد وكل ما يخرج من الأرض. وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه، وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه. فاختار كل بعقله - وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها- ما اختار لنفسه. وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الإختيار الذي اختلفت به منازلهم عند الله فيما أعد لهم يوم لقائه- سواء، في تلك النعم الدنيوية والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها. لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وهذا معنى قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} وليس الله تعالى مانعا ًكافراً لكفره أو عاصياً لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر. وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} والحظر المنع والمحظور الممنوع، وتركيب الآية يفيد أن عطاء الربِّ لا يمنع ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
وقدم المفعول وهو {كُلًّا} رداً على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضاً دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين، يعني فريق مريدي العاجلة ومريدي الآخرة، و {نُمِدُّ} من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مدداً. وأصل المد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع، ومنه مد يده ومدَّ شبكته، ومنه مد الله لك أسباب السعادة، أي بسطها ووسعها، والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه وأنواع بره وإحسانه. وهو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه. وأضاف العطاء للرب(1/210)
لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق وتطويرهم وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار، وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية. والرب جلَّ جلاله قد مضى من وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال- فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد وهو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- بما هو من مقتضى وصف ربه. هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام. وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم- رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين، حريصاً على هدايتهم إلى الصراط المستقيم. حتى خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) أي قاتل نفسك غماً لعدم إيمانهم. وكان أساس شرعه على العدل، والإحسان العدل مع كل واحد، والإحسان إلى كل شيء فقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) ولما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته وشفقته وعدله وبره وإحسانه. نفعل الخير عاماًّ، كما تعم خيرات الله تعالى العباد، نفعله لأنه خيرٌ نستطعم لذته، غير منتظرين جزاء، إلا من الله. لأن من انتظر الجزاء من الناس وفي هذه الحياة لا بد أن يميل بخيره عن جهة إلى جهة، وربما يكون في ميله قد أخطأ وجه الصواب، ولا بد أيضاً أن ييأس فيفتر في العمل أو ينقطع عنه عندما يرى عدم المكافاة
__________
11) 2/ 26 الشعراء.(1/211)
من الناس وعدم ظهور أثر خيره في الحياة وأبناء الحياة.
وقد أفادت الآية- حسبما تقدم- أن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ- بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان براً أو فاجراً مؤمناً أو كافراً. وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً، فقد تقدموا حتى سادوا العالم ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع، لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم. وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا دنياهم وخالفوا مرضاة ربهم وعوقبوا بما هم عليه اليوم من الذل والإنحطاط، ولن يعود إليهم ما كان لهم إلا إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ بتلك الأسباب.
فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره، المتقدم لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره ما تقدم بعدم إسلامه. وأن السببب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب. ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان- مثل سالف أيامه- سيد الأنام.
النظر في تفاضل البشر:
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (1).
إن من أعظم العبر ما نشاهده في أحوال الخلق أمماً وجماعات وأفراداً من الإختلاف الشديد. فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية، وإنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة
__________
(1) 17/ 21 الإسراء.(1/212)
يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها شخصياتهم، ويتبع هذا الإختلاف إختلافهم في إدراكهم وتمييزهم وأخلاقهم وعاداتهم في ظلالهم وهداهم، وفي درجات الهدى ودركات الضلال. كل هذا دال على بديع صنع الخالق القدير، وعجيب وضع العليم الحكيم. فمكنهم تعالى كلهم من الأسباب وإدراك العقل وحرية الإرادة، ثم فضل بينهم هذا التفضيل. فكان منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشقي والسعيد، إلى تقسيم كثير. وفقه أسباب هذا التفضيل هو فقه الحياة والعمران والإجتماع، فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وكيف سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والإعتبار، والجملة في محل نصب على العامل عن لفظهما بكلمة الإستفهام.
وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الإبتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء، لكن التفضيل هنالك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر. في مواقف القيامة، وفي داري الإقامة، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار. وأهل النار متفاوتون في دركاتها، وأهل الجنة متفاوتون في درجاتها.
روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)).
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك(1/213)
منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)).
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) وهذا التفضيل الأخروي هو المراد بقوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} وفي هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة. فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضاً في شيء منها، وهي الدار الفانية، فلِمَ لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة- وما عملها إلا الخير والمعروف- حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه وأكمل حال. فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (2).
__________
(1) 4/ 144 النساء.
(2) ش: ج2، م 6، ص 73 - 16 غر ة شوال 1348هـ مارس 1930(1/214)
أُصُولُ الْهِدَايَةِ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةٍ
" لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا- إلى- وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا " (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
قد أوتي رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فالآية من كتاب الله والأثر من حديث رسول الله تجد فيه من أصول الهداية ودقيق العلم ولطيف الإشارة في لفظ قليل وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها. وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب أعجازها بسليقتم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا وبأي لغة نطقوا بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفطر وتسلمها العقول. وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدًى وبيان وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
__________
(1) 22/ 17 الإسراء.(1/215)
إرتباط الآيات بما قبلها:
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1). ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (2) إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور المستفاد من هذه الآيات.
التوحيد:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تتقبل الأعمال إلا به. وما أرسل الله رسولاً إلا داعياً إليه ومذكراً بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهي كلمته الصريحة فيه. ولا تكادُ سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده. وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
{لَا تَجْعَلْ} الجعل يكون عملياً، كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون إعتقادياً، كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني. {مَعَ اللَّهِ} المعية هنا أيضاً هي معية إعتقادية. {إِلَهًا آخَرَ} الأله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والإفتقار وإظهار الإنقياد والإمتثال ودوام التضرع والسؤال. {فَتَقْعُدَ} القعود ضد القيام والعرب تكنى بالقيام عن الجد في الأمر
__________
(1) 19/ 17 الإسراء.
(2) 17/ 22 الإسراء.(1/216)
والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالساً، فتقول: قام بحاجتي، إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة، وإنما قضاها بكلمة قالها أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء كان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه، إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائماً يمشي على رجليه، فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير. {مَذْمُومًا} مذكوراً بالقبيح موصوفاً به. {مَخْذُولًا} متروكاً بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهيته فيعبدوه معه، ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده. وبين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة وعملهم يكون مردوداً عليهم وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم ومن كل ذي عقل سليم من الخلق، ويكونون مخذولين لا ناصر لهم. فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم، فما لهم- قطعاً من نصير.
والخطاب وإن كان موجهاً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه عام للمكلفين، وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم، وإن كان هو قد عصم من المخالفة فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري
__________
(1) 23/ 17 الإسراء.(1/217)
الذي لا يتخلف متعلقه، فما قضاه الله لا بد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني. {رَبُّكَ} الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل. ((أن)) مصدرية والتقدير بألا تعبدوا إلاَّ إياه، أي بعدم عبادتكم سواه بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه. فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلاَّ له. فذل القلب وخضوعه والشعور بالضعف والإفتقار والطاعة والإنقياد والتضرع والسؤال هذه كلها لا تكون إلا لله. فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده. ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده، ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده. ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده. فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاماً وحكم حكماً جازماً بأن العبادة لا تكون إلا له.
وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيهاً على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلاَّ له، فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه. فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها إنفراده بالخلق، والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته. وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهببة كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي. فالأولى نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه، وهذا من باب العلم. والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه، لأنه هو ربك وحده وهذا من باب العمل. فمن وحَّد الله جلَّ جلاله في ربوبيته وألوهيته(1/218)
علماً وعملاً فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم، ومن أخلَّ بشيء من ذلك كان ذلك نقصاً في دينه بقدر ما أخل، حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين. نعوذ بالله من الشرك جليه وخفيه إنه سميع عليم.
بيان واستدلال:
يكون الذل بمعنى ضعف الحال، وهذا قد يكون لأهل التوحيد والإيمان كما في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (1) ويكون بمعنى اللين المشوب بالعطف، وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2).
ويكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والإفتقار، وهذا هو الذي لا يكون من المؤمن الموحد إلا لربه كما في حديث دعاء القنوت «ونخنع لك» أي نذل ونخضع لك، وهذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية، فلذلك لا يكون إلا الله، وإن من أسرار كلمة "الله أكبر" التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله حفظ القلب من الخضوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغر عندها كل مخلوق.
فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب عزيز النفس بالله لا ينتظر قوة ضعفه إلا به ولا سد مفاقره إلا منه، ولقلب المؤمن الموحد أمام من يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوع أيضاً، ولكنه خضوع هيبة
__________
(1) 3/ 123 آل عمران.
(2) 57/ 5 المائدة.(1/219)
وتوقير وإجلال، لا خضوع ذل وخنوع وضعف وافتقار، إذ هذا - كما قدمنا- لا يكون إلا للغني القوي العزبز القهار.
من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلا لله الطاعة والإنقياد، وهي أيضاً لا تكون إلا له وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) أي أطاعه واتبعه كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فمن تبع مخلوقاً وأطاعه فيما يأمره وينهاه دون أن يكون في طاعته مراعياً طاعة الله فقد عبده واتخذه رباً فيما أطاعه فيه. وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره لما جاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسمعه يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) فقال عدي: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ قال: أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه. قال: قلت نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: فتلك عبادتهم إياهم، فالمؤمن الموحد لا تكون طاعته إلا لله أو لمن طاعته طاعة لله.
ومن مظاهر ذلك الخنوع: الدعاء والسؤال والتضرع والجؤار "رفع الصوت بالدعاء والإستغاثة إليه" قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (3) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (4) {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} في آيات كثيرة. وقال - صلى الله
__________
(1) 45/ 22 الجاثية.
(2) 32/ 9 التوبة.
(3) 53/ 16 النحل.
(4) 162/ 27 النمل.
(5) 8/ 9 الأنفال.(1/220)
عليه وآله وسلم:- من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الترمذي-: "إذا سألت فسل الله" في أحاديث كثيرة. فلا يدعو المؤمن الموحد غير الله ولا أحداً مع الله إذ الدعاء عبادة، كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يرفعه "الدعاء هو العبادة"، رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وكما في حديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله، وإنما كان من العبادة هاته المنزلة لأن حقيقة العبادة هي التذلل والخضوع، وهو حاصل في الدعاء غاية الحصول، وظاهر فيه أشد الظهور.
ألهمنا الله رشدنا وأعاذنا من شرور أنفسنا إنه سميع قريب مجيب (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 6، ص 138 - 143 غرة ذي ا! لقعدة 1348هـ افريل 1930(1/221)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
والله: هو الخالق، والوالدان- بوضع الله- هما السبب المباشر في التخليق. والله هو المبتدىء بالنعم عن غير عمل سابق، وهما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم، والله يرحم ويلطف وهو الغني عن مخلوقاته وهم الفقراء إليه، وهما يكنفان بالرحمة واللطف الولد، وهما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما، والله يوالي إحسانه، ولا يطلب الجزاء، وهما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء. فلهذه الحالة التي خصهما الله بها، وأعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره، فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ولما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) وفي هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان والأمر بالشكر لهما، مع الله تعالى، أبلغ التأكيد وأعظم الترغيب، ثم زاد هذا الحكم، وهذا الأمر، وتقريراً بلفظ التوصية بهما في قوله تعالى:
__________
(1) 23/ 27 الإسراء.
(2) 135/ 4 النساء.
(3) 14/ 11 لقمان.(1/222)
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (1). ليحفظ حكم الله وأمرَه فيهما ولا يضيع شيء من حقوقها، فكان حقهما بهذه الوصاية أمانة خاصة ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما. وكفى بهذا داعياً إلى العناية بهذه الأمانة وحفظها وصيانتها. وكما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء الجمع بينهما في باب النهي وكبر المعصية في السنة. ففي الصحيح عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: ألا أخبركم بأكبر الكبائر! قلنا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين.
وتقدير نظم الآية هكذا: "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبأن تحسنوا للوالدين إحساناً". فحذفت أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه وهو إحساناً. وفي تنكيره إفادة للتعظيم فهو إحسان عظيم في القول والفعل والحال. وتقول: أحسنت إليه وأحسنت به، وأحسنت به أبلغ لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق. ولهذا عدَّى في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان والمبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان ويسمعان ولا يجدان من ولدهما إلا إحساناً، ولا يشعر أن في قلوبهما منه إلاَّ بالإحسان. ومن الإحسان ما يكون ابتداء وفضلاً، ومنه ما يكون جزاء وشكراً، فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله، لثبوت فضيلة سبقه، وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان- بلفظ الوالدين المشتق من الولادة إيذان بعليتهما في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالديَّة سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيبئين. وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى:
__________
(1) 8/ 29 العنكبوت.(1/223)
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1)
فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما. وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: قدمت على أمي وهي راغبة (أي في العطاء والإحسان) أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك. وهذا الإحسان الواجب لهما جانب الأم آكد فيه من جانب الأب وحظها فيه أوفر من حظه، ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر اتعابها في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (ضعفاً على ضعف) وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (2). وفي الأخرى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3). فذكر ما تعانيه من ألم الحمل ومشقة الوضع ومقاساة الرضاع والتربية، وجاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح: فقد جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي (أي صحبتي من حسن العشرة والبر والتكرمة) قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. فذكر الأب في الثالث. وفي طريق آخر للحديث ذكره في الرابعة. ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد أتعابها وضعف جانبها ورقة عاطفتها
__________
(1) 15/ 31 لقمان.
(2) 14/ 31 لقمان.
(3) 46/ 15 الأحقاف.(1/224)
وشدة حاجتها، فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم، ومحاسن الشرع الكريم. ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما. وإنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني أو أمراه بمعصية، لما في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا طاعة لأحد في معصية الله أنما الطاعة في المعروف" وعند الحاكم وأحمد: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ومن الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد، وفي الطريق الثاني قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أقبل رجل إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله؟، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما. هذا لأن القيام عليهما فرض عيني، والجهاد كان عليه فرض كفاية، ولو تعين عليه، ولم يكونا في كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه. ومن حقوقهما عليه أن لا يخرج إلى ما فيه خوف ومخاطرة بالنفس إلا بإذنهما بدليل ما جاء في سنن أبي داود: أنَّ رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع إليهما فاستأدنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما. أما إذا أراد تعاطي ما لا خطر فيه ولا فجيعة من شؤون الحياة ووجوه التصرفات فليس عليه أن يستأذنهما وليس لهما منعه، ولكن إذا منعاه من شيء امتنع لوجوب برهما، وطاعتهما.- في غير المعصية- من برهما.(1/225)
تَفْضِيلُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَتَأْكِيدُهُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال، وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر لأنها حالة الضعف، وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في يدايته. وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما، فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص، وإن كان ذلك واجباً عليه في كل حال على العموم. وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤنتهما عليه، وما يكون من ضروريات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤد به إلى الضجر والتبرم فيقول ما يدل على ضجره وتبرُّمه. فنهى عن التفوُّه بأقلِّ كلمة تدل على ذلك، وهي كلمة {أُفٍّ} بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فأحرى وأولى ما فوقها، وهذا أمر
__________
(1) 23/ 17 إلا سر اء.(1/226)
يتحمل كل ذلك منهما ونهي عن التضجر منهما. ومن ضرورة مبايتنهما لولدهما في السنِّ وفي النشأة أنهما كثيراً ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهى عن هذا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}. وفي هذا أمر بالتلطف معهما في الطلب والعرض والدلالة على وجه الصواب في الأمر وأبواب الفعل والترك، وبحسن التلقي لكل ما يسألان ويطلبان، ونهى عن أي إغلاظ في اللفظ والصوت وحالة الكلام. ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه وفي قصده وفي منشأه السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}. وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول ويؤنسهما بطيب الحديث، ونهى عن أن يؤذيهما في قوله أو يوحشهما بطول السكوت فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما وجلب الأنس إليهما وإدخال السرور عليهما. ثم أن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريماً شريفاً إلا إذا كان عنواناً صادقاً حسن مظهره ومخبره وعذب جناه وطاب مغرسه، وما ثماره إلا معانيه، وما مغرسه إلا القلب الذي صدر عنه. فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه كما هو يعرب لهما عنهما بلسانه فيكون محسناً لهما حينئذ في ظاهره وباطنه وذلك هو تمام البر الذي أمر به.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.
مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل وبيان الحال التي يكون عليهما. فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفيء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي كما يسعى(1/227)
الطائر لفراخه ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به وأشير إليه، يلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنواً وعطفاً وحياطة لفراخه، فيكون في الكلام استعارة بالكناية. وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة. أخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتهما حتى يشعر بأنهما مخدومان للإستحقاق لا متفضل عليهما بالإحسان. وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق موجب للرحمة وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك ابعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه. و {مِنَ} في قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمَةِ} للتعليل متعلقة باخفض، فتقيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئاً على الرحمة الثابتة في النفس لا عن مجرد استعمال ظاهر كما كان يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة، فيكون هذا مفيداً ومؤكداً لما قدمناه من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما، فأمر بأن يتوجه بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، وهي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهاراً لشدة رحمته ورغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، واعترافاً بعجزه عن مجازاتهما. يدعو لهما هكذا في حياتهما وبعد مماتهما، أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام، وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلا إذا ماتا مسلمين لقوله تعالى:(1/228)
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1).
والكاف في قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. للتعليل، أي: رب ارحمهما لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليَّ في حالة الصغر، حالة الضعف والافتقار. وفي هذا اعتراف بالجميل وإعلان لسابق إحسانهما العظيم وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل لأنه وعد أنَّه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة، وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله أنه يرحم الراحمين. ولا أرحم- بعده تعالى- من الوالدين.
خاتمة:
من بر الوالدين أن نتحفط من كل ما يجلب لهما سوءاً من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، ومن هذا أن لا نسبَّ الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، وسبهما من أكبر الكبائر. ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا وسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه".
ومن برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء والاستغفار وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة رحمهما. فقد روى ابن ماجة وأبو داوود وابن حبان في صحيحه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري
__________
(1) 114/ 9 التوبة.(1/229)
- رضي الله عنهم أجمعين- قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة (أي الدعاء) عليهما والإستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. وفي إكرام صديقهما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وأنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه.
هذا وإنَّ من راض نفسه على هذه الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة والأقوال الطيبة التي أمر بها مع والديه حصل له من الارتياض عليها كمال أخلاقي مع الناس أجمعين، وكان ذلك من ثمرات امتثال أمر الله وطاعة الوالدين. والله يوفقنا ويهدينا سواء السبيل. إنه المولى الكريم رب العالمين (1).
..
__________
(1) ش ج4، م 6، ص 206 - 212 غرة ذي الحجة 1348هـ 1930م.(1/230)
صَلَاحُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحِهَا
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال. وفساده: هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو في صفاته بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان. إعتبر هذا في البدن، فإنَّ له حالتين: حالة صحة وحالة مرض. والأولى: هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله. والثانية: هي حالة فساده باختلال مزاجه فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله. هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس، فلها صحة ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
والإصلاح هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد. والإفساد هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه. فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة. وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمقارفة المعاصي والذنوب، هكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد. في كثير من الأحوال.
__________
(1) 15/ 17 الإسراء.(1/231)
غير أن الإعتناء بالنفوس أهم وألزم لأن خطرها أكبر وأعظم.
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلاَّ آلة لها، ومظهر تصرفاتها. وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، وإنما رقيُّه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلا بزكائها وما خيبته إلا بخبثها. فقد قال تعالى. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (1) وفي الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية المرتبطة به. وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن ومبعث دورته الدموية على قيامه بوظيفته تتوقف صُلوحية البدن لارتباط النفس به، فكان حقيقياً لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز. وصلاح القلب بمعنى النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة وإنما يكونان بصحة العلم وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة، وإذا فسدت النفس من ناحية العقد أو ناحية الخلق أو ناحية العلم أو ناحية إرادة فسد البدن وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد. فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع، والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس. إما مباشرة وإما بواسطة، فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق، والخير، والعدل، والإحسان، إلا وهو راجع عليها بالصلاح، وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء، إلا وهو عائد عليها بالفساد، فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل،
__________
(2) 10/ 91 - 11 الشمس.(1/232)
وشرع الشرائع، وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس إذا تمسكت به غاية الكمال.
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته، وتوحيده، والإخلاص له، وأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما في الظاهر والباطن، كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة، ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها، لينبه الخلق على أصل الصلاح، الذي منه يكون، ومنشأه الذي منه يبتدىء، فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة، لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي قد يكون قبل التدبر خفياً. ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف.- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات تنبيهاً للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى وتوجه إليه ومناجاة له، وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال. والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذَّة وأنساً تهون معهما أعباء التكليف. ثم إن العباد بنقص الخلقة وغلبة الطبع معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم، في صور أعمالهم ودخائل أنفسهم،- وخصوصاً في باب الإخلاص- فذكروا بعلم ربهم في نفوسهم في قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} (2) ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها
__________
(1) 238/ 2 البقرة.
(2) 25/ 17 الإسراء.(1/233)
ويخلصوا بها له. وهذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه، وذكر اسم الرب لأنه المناسب لإثبات صفة العلم، فهو الرب الذي خلق النفوس وصورها ودبرها. ولا يكون ذلك إلا بعلمه بها في جميع تفاصيلها. وكيف يخفى عليه شيء منها وهو خلقها (1). {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2). والصالحون: في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} (3) هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وصلاح النفس وهو صفة لها خفي كخفائها. وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها. فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع وآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- حكمنا بصلاح نفسه وأنه من الصالحين. ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه وأنه ليس منهم ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلاَّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4).
__________
(1) في الأصل: وهو هو خلقها.
(2) 24/ 67 الملك.
(3) 25/ 27 الإسراء.
(4) 114/ 3 - 114 آل عمران.(1/234)
فذكر الأعمال ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين، فأفادنا أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلا بها ولا يستحقه إلا أهلها. ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. ويكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد، ولكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح، وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلا الله، والأوابون في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (1) هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى. والأوبة في كلام العرب هي الرجوع قال عبيد:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ ... وَغَائِبُ المَوْتِ لاَ يَؤُوبُ
والتوبة هي الرجوع عن الذنب، ولا يكون إلا بالإقلاع عنه. واعتبر فيها الشرع الندم على ما فات والعزم على عدم العود وتدارك ما يمكن تداركه، فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة، فتشمل من رجع إلى ربه تائباً من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله ويتضرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنب. فنستفيد من الآية الكريمة سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإذا تاب العبد فذاك هو الواجب عليه والمخلص له - بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع والتعرض لمظان الإجابة، وخصوصاً في سجود الصلاة فقمن- إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له. وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية مصرًّا عليها غير مشمئز منها ولا سائل
__________
(1) 17/ 25 الإسراء.(1/235)
من ربه بصدق وعزم التوبة منها ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب، فهو الداء العضال الذي لا دواء له. وجاء لفظ الأوَّابين جمعاً لأواب وهو فعال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله، وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله. ذلك أنَّ النفوس- بما ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، وبما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن- لا تزال- إلا من عصم الله- في مقارفة ذنب ومواقعة معصية صغيرة أو كبيرة من حيث تدري ومن حيث لا تدري، وكل ذلك فساد يطرأ عليهما فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، وإبعاد ضرره عنها، وهذا الإصلاح لا يكون إلا بالتوبة وبالرجوع إلى الله تعالى. ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً. والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها والقيام في ذلك والجد فيه والتصمم عليه هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد. ومن معنى هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من درن المعاصي. والغفور في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة: سترة للذنب وعدم مؤاخذته به، ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته، ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين. ومغفرته أكثر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابلها كثرة المغفرة منه
__________
(1) 222/ 2 البقرة.(1/236)
فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة لا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع ولا يضعف رجاؤه في نيل مغفرة الغفور، كثرة الرجوع. وقد أكد الكلام بـ (أن) لتقوية الرجاء في المغفرة، وجيء بلفظة (كان) لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق، فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً، وإنما احتيج إلى هذا التأكيد كله في تقوية رجاء المذنب في المغفرة ليبادر بالرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عند رؤية مغفرة الله تعالى التي هي أكبر وأكبر. والآخر رؤيته لطبعه البشري وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال كما قال شاعرهم- أي البشر، لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري:
سَأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ ... وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْئآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ
فيقوده القياس- وهو من طباع البشر أيضاً- القياس الفاسد إلى ترك الرجوع والسؤال من الرب الكريم العظيم النوال. فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع والتوبة فيستمر في حمأة المعصية وذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضياً لأن يؤكد له حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات.
وقد كان مقتضى الظاهر في تركيب الآية أن يقال: إن تكونوا صالحين فإنه كان لكم غفوراً، لأن المقام للإضمار، لكنه عدل عن الضمير إلى الظاهر فقيل فإنه كان للأوابين غفوراً لينص على شرط المغفرة وهو الأوبة والرجوع. وعلم من ذلك أن الصالح عندما تقع منه الذنوب مطالب- كغيره- بالأوبة لتحصيل المغفرة، لأن فرض الأوبة إلى الله من المعاصي عام على الجميع. وقد اشتملت الآية من(1/237)
فعل الشرط وهو إن تكونوا صالحين، وجوابه وهو فإنه كان للأوابين غفوراً ... على الحالتين اللازمتين للإنسان لتكميل نفسه وهما الصلاح المستفاد من الأول والإصلاح بالأوبة المستفاد من الثاني. وما دام الإنسان يجاهد في تزكية نفسه بهذين الأصلين فإنه بالغ- بإذن الله- درجة الكمال. ثبتنا الله والمسلمين عليهما وحشرنا في زمرة الكاملين المكملين إنه المولى الغفور الكريم (1).
__________
(1) ش: ج5، م 6 ص 270 - 275 غرة محرم 1349هـ جوان 1930(1/238)
إِيتَاءُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ .... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الناس كلهم في حاجة مشتركة إلى بعضهم. وما من أحد إلا وله حقوق على غيره، ولغيره حقوق عليه. ولهذه الحاجة المشتركة والحقوق الممتزجة كان الإجتماع والتعاون ضروريين لحياة المجتمع البشري واطراد نظامه. وقيام كل واحد من أفراد المجتمع بما عليه من حقوق نحو غيره هو الذي يسد تلك الحاجة المشتركة بين الناس. وعندما يؤدي كل واحد حق غيره فليست خدمته له وحده، بل هي خدمة للمجتمع كله. وبالآخرة هي خدمة له هو في نفسه لأنه جزء من المجتمع وما يصيب الكل يعود على جزئه. فإذا تواردت أفراد المجتمع على هذه التأدية سعدت وسعد مجتمعنا بنيله حاجيات الحياة ولوازم البقاء والتقدم في العمران. أما إذا توانى الأفراد في القيام بالحقوق وقصروا في تأديتها إلى بعضهم فإن الحاجة المشتركة من العلم والثقافة وحفظ الصحة والأخلاق وأنواع الصناعة- تتعطل، وبتعطلها يختل نظام الإجتماع ويعود إلى الإنحلال والتقهقر، وينحظ بأفراده إلى أسفل الدركات، فلهذا بعد ما أمر الله تعالى بإيتاء حقه- وهو توحيده في عبادته- أمر بإيتاء حقوق العباد، القريب منهم والبعيد.
__________
(1) 26/ 17 - 30 الإسراء.(1/239)
حُقُوقُ الْقَرِيبِ:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}.
ــــــــــــــــــــــــــ
ابتدأ بحق القريب لوجوه: الأول أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب. الثاني: تأكيد حق القريب. الثالث: إن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يحبب للنفس إيتاء حق القريب فابتدى به في الأمر ليكون تقبلها له أسهل ومبادرتها للإمتثال أسرع، فإذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب ومرنت عليه إعتادت الإيتاء وصار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق ولو كان لأبعد الناس. وشيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافات والمنازعات لقرب المنازل، أو تصادم المنافع أو التشاح على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، ويعود ذلك عليهم أولاً بالوبال، ويرجع ثانياً على مجتمعهم- والمجتمع مؤلف من الأسر- بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الإبتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى.
وقوله تعالى: {ذَا الْقُرْبَى} عام يشمل الأصل- وهو الأبوان- وما يتصل بالمرء من ناحيتهما من أصولهما وفصولهما، ويشمل الفصْل- وهو الأبناء والبنات- ويتصل به منهما من فصول، غير أن الوالدين لمزيد العناية بهما خصصا بالذكر في الآيات المتقدمة وإن كانا داخلين في هذا العموم.
والحق في قوله تعالى {حَقَّهُ} هو الثابت له شرعاً المبين في آيات من الكتاب من صلة رحم ونصيب إرث ونفقة فرض وندب وإحسان بالقول والفعل ومواساة عن محبة وعطف.(1/240)
حَقُّ الْمِسْكِينِ:
{وَالْمِسْكِينَ}
ــــــــــــــــــــــــــ
قد ذكر في آية الزكاة الفقير والمسكين. والحق أنهما متغايران، والراجح أن الفقير من له بلغة لا تكفيه، والمسكين من لا شيء له، فهو أشد حالاً من الفقير، ولذا لما أريد هنا ذكر أحدهما إقتصر عليه تنبيهاً بالأعلى في الفقر على الأدنى، فالمراد أهل الفقر والحاجة كلهم.
وحق المساكين ما ثبت لهم من الزكاة، وكذلك ما تدعو إليه الحاجة من تعليمهم وإيوائهم وطبهم وتجهيز موتاهم، مما تقوم به الجمعيات الخيرية في هذا العصر، فكل هذا مما تصرف إليه الزكاة ويجب القيام به عند عدم الزكاة أو فنائها أو قصورها عنه، ويجب القيام به واجباً موزعاً على كل واحد ما استطاع، فإذا لم يقم به المجتمع عاد الإثم على جميع الأفراد كل بقدر ما قصر فيما استطاع، ثم ما إلى هذا من عموم الصدقة والإحسان.
حَقُّ ابْنُ السَّبِيلِ:
{وَابْنَ السَّبِيلِ}
السبيل هي الطريق، وابنها هو المسافر لأنه منها أتى كما أتى الإبن من أمه. وحقه هو الثابت له في الزكاة، فيأخذ منها إذا قطع به ولم يكن معه ما يبلغه ولو كان غنياً في بلده، وعلى جماعة المسلمين تبليغه إذا لم تكن ثم زكاة. ومن حقه ضيافته حسب السنة، وإرشاده ودلالته على ما يريد معرفته من طريقه أو مرافقها.
وبذكر ابن السبيل والمسكين مع ذي القربى جمعت الآية القريب والبعيد من ذوي الحقوق. وبذكر ابن السببيل والمسكين جمعت ذا الحاجة الثابتة وهو المسكين، والحاجة العارضة وهو ابن السبيل،(1/241)
وقدم الأول لأصالة حاجته. وفي ذكرهما أيضاً جَمْعٌ ما بين القريب الدار والبعيد الدار والمسافر. كل هذا ليعلم أنَّ ذا الحق يعطي حقه على كل حال، وبقطع النظر عن أي اعتبار. وسمي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم المذكورة لأنها ترقق عليهم القلوب من القرابة والمسكنة وغربة الطريق. وسمى ما ينالونه حقاً ليشعر المكلف بتأكده. ويحذر المعطي من المنِّ به ولا ينكس قلب آخذه.
الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ:
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}
المال قوام للأعمال، وأداة الإحسان، وبه يمكن القيام بالحقوق، فصاحبه هو مالكه، ولكن الحقوق فيه تشاركه ولا يقوم له بوجوه الحق إلا إذا أمسكه عن وجوه الباطل، ثم لا يقوم له بجميع تلك الوجوه إلا إذا أحسن التدبير في التفريق وأصاب الحكمة في التوزيع. فلذا بعد ما أمر الله تعالى بإعطاء الحقوق لأربابها نهى عن تبذير المال الذي هو أصلها وبه يمكن إعطاؤها.
والتبذير هو التفريق للمال في غير وجه شرعي أو في وجه شرعي دون تقدير فيضر بوجه آخر. فالإنفاق في المنهيات تبذير وإن كان قليلاً. والإنفاق في المطلوبات ليس بتبذير ولو كان كثيراً. إلا إذا أُنْفِقَ في مطلوب دون تقدير فأضر بمطلوب آخر كمن أعطى قريباً وأضاع قريباً آخر أو أنفق في وجوه البر وترك أهله يتضورون بالجوع وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا بقوله: "وابدأ بمن تعول". والإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوباً ولم يؤد إلى ضياع رأس المال بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير، فإذا توسع في المباحات وقعد عن المطلوبات أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.(1/242)
وأفادت النكرة وهي قوله {تَبْذِيرًا} بوقوعه بعد النهي- العموم فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير القليل منه والكثير حتى لا يستخف بالقليل، لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير.
إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ:
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
إن الشيطان يعمل وأعماله كلها في الضلال والإضلال. فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضار عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وقد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه. فهو أخو الشيطان لمشاركته له في وصفه كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره وصحبته له في الحال وفي المال وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل.
المال كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر، فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ- لا محالة- بماله إلى شر كثير وفساد كبير، ولذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر والفساد، ووصف تعالى الشيطان بقوله: {كَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} لأنه أنعم عليه بنعمته فبدلاً من أن يستعملها في طاعته في الخير قصرها على المعصية والشر. وذكر هذا من وصف الشيطان بعد ما تقدم يفيد أنه من وصف المبذر أيضاً. فالمبذر أخو الشيطان، والشيطان كان لربه كفوراً. فالمبذر كان لربه كفوراً. ذلك لأن الله تعالى أنعم عليه بالمال الذي هو أداة لكل خير وعون عظيم على الطاعة فجعله أداة في الشر واستعان به على المعصية. ومكنه بالمال من نعمة القدرة(1/243)
على القيام بالحقوق فضيعها وقام بالشرور والمفاسد. وهذا من أقبح الكفر لنعمة ربه الذي كان به مضارعها للشيطان أخيه. والعياذ بالله.
حُسْنُ الْمَقَالِ، عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النَّوَالِ:
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}.
للمؤمنين حالتان حالة وجد وحالة عوز. فلما علمنا الله تعالى ما نصنع في حالة الوجد من إيتاء لذوي القربى واليتامى والمساكين- علمنا ما نصنع في حالة العوز من الرد الجميل والقول اللين الحسن.
وقوله تعالى {تُعْرِضَنَّ} من الإعراض وهو الإنصراف عن الشيء، وهو هنا كناية عن عدم العطاء، لأن من يأتي أن يعطي يعرض بوجهه ولو إعراضاً قليلاً. ولما كان الإعراض كناية عن عدم العطاء فإنه يشمل عدم العطاء عند السؤال الذي قد يكون معه الإعراض بالفعل ولو قليلاً، ويشمل عدم العطاء لمن هو أهل لأن يعطي مع عدم وجود السؤال.
وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا}. الإبتغاء هو الطلب باجتهاد، وذلك بالأخذ في الأسباب والإعتماد على مسببها وهو لله تعالى. ورحمة الرب هنا رزقه. ورجاؤها هو انتظارها مع الأخذ في أسبابها بالقلب والعمل. وابتغاء رحمة الرب ورجاؤها كناية عن حالة العوز والإعسار لأن شأن المعوز المؤمن أن يكون كذلك.
وقوله تعالى: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. تقول: يسرت له القول، إذا لينته له. فالقول الميسور هو القول الملين وحاصل المعنى: إن أعرضت عنهم فلم تعطهم لأنك لم تجد ما(1/244)
تعطيهم- وهي الحالة التي تكون فيها تطلب رحمة من ربك راجياً رزقه- فقل لهم قولاً ليناً سهلاً فتواسيهم بالقول عند عدم السؤال، ولا تتركهم في ساحة الإهمال، وردهم الرد الجميل عند السؤال فتقول لهم يرزق الله ونحوه من لين الكلام.
وفي الآية تعليم وتربية للمعسر من ناحيتين، الأولى: معاملته لذوي القربى واليتامى والمساكين عند السؤال وعدمه. وعرف من الآية أنه مطالب بحسن المقال بدلاً مما عجز عنه من النوال. والثانية: أدبه، هو في نفسه والحالة التي ينبغي له أن يكون عليها. فإن حالة العسر حالة شدة وبلاء يحتاج المكلف أشد الحاجة أن يعرف دواءه فيها لسيرته العملية، وحالته النفسية. فأعطته هذه الآية الكريمة الدواء لهما. فأما في سيرته العملية فعليه أن يكون ساعياً في الأسباب حسب جهده وذلك هو ما يفيده قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}. وأن يكون مطمئن القلب بالله معتمداً عليه قوي الثقة فيه. وذلك هو ما يفيده قوله: {تَرْجُوهَا}.
وقد ذكر برحمة الرب- جلَّ جلاله- لوجوه، الأول: تقوية رجائه، فإنه يعلم سعة رحمة الله وغمره بها في كل حين. ومن ذا الذي لم يجد نفحات الرحمات في أكثر الأوقات في أحرج الساعات. الثاني: بعثه على الصبر والتسليم وعدم الضجر والسأم من الطلب والإنتظار، فإنها رحمة الرب، ومن مقتضى ربوبيته تدبيره للخلق بحكمته فما جاء منه كيف جاء وفي أي وقت جاء أبطأ أم تأخر- هو مقبول منه محمود منا عليه. الثالث: بعث عاطفة الرحمة على غيره فإنَّ من كان يرجو رحمة ربه جدير بأن يكون رحيماً بعباده. ورحمته بعباد الله تعينه على القيام بما أمر به من حسن المقال عند العسر وجميل النوال عند اليسر. وتكون سبباً له في رحمة الله إياه والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.(1/245)
الْعَدْلُ فِي الْإِنْفَاقِ:
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.
ــــــــــــــــــــــــــ
لما أمرنا تعالى بالإنفاق علمنا كيف ننفق، وبين لنا أدب الإنفاق في هذه الكلمات.
شبهت حالة وهيئة البخيل المسيك الذي لا يكاد يرشح بشيء ولا يقدر لبخله على إخراج شيء من ماله بحالة وهيئة الذي جعل يده مغلولة مجموعة بغل إلى عنقه. فذاك لا تتوجه نفسه للبذل ولا تمتد يده للعطاء وهذا لا تعتدُّ يده للتصرف. ونقل الكلام المركب الدال على المشبه به فاستعمل في المشبه على طريق الإستعارة التمثيلية لتقبيح حالة البخيل.
والمعنى: لا تبخل بالنفقة في حقوق الله ولا تمسك إمساك المغلولة يده الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
وشبهت حالة المسرف الذي لا يبقي على شيء بحالة الشخص الباسط لكفيه، فلا يمسكان عليه من شيء، فذلك يملك المال ولكنه يسرفه لايبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقي فيها شيء ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه استعارة تمثيلية أيضاً.
والمعنى: ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن كل البسط المنهي عنه هنا غير التبذير المنهى عنه في الآية- المتقدمة، ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الانفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.
نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط وهما الإسراف(1/246)
والتقتير. فالمأمور به هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في إنفاقه بهذا الميزان ليكون إنفاقه محموداً. فلا يمسك عما يستطيع ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.
وكان النهي عن كل البسط لأنه هو الذي فيه إسراف، وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.
وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}. البخيل الممسك ملوم من الله تعالى ومن العباد إذا لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع ومن نفسه بعد ضياع ما في يده. والمحسور المتعب المضني الذي انكشفت عنه القوة ولم تبق به قدرة على شيء. تقول العرب: حسرت البعير، أي انضيته وأتعبته بالسير حتى لم يبق به قدرة عليه. والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلا إذا حافظ صاحبه على ما فيه من قوة فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته فإنه يسقط كليلاً محسوراً، فلا قطع طريقه ولا وصل منزله ولا أبقى جمله. فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً رضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والإنتفاع ولم يبلغ غاية حياته إلاَّ بأتعاب ومشاق.
وعلم من هذا أن قوله: {مَلُومًا} يرجع للمقتر والمسرف، وقوله: {مَحْسُورًا} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول أنَّ البخيل أيضاً مبغوض من الناس مخذول منهم، فلا يجد في ملماته معيناً ولا في نوائبه معزياً، فهو أيضاً ضعيف الجانب لا قوة له. فالمسرف ضيع المال. والبخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر عديم الظهير.(1/247)
والمخاطب بهذا الخطاب إمَّا مفرد غير معين، فيشمل جميع المكلفين غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول وليس عنده شيء، وما كان ملوماً ولا محسوراً، بل كان على ذلك صباراً شكوراً مشكوراً- وأما هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أمته، وعادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه، ونظير هذه الآية في ذلك: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (1) {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (2) فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم غير داخل في هذا الخطاب بإجماع، وقد تقدم قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ}، يعني الوالدين، وكان والداه عليهما الرحمة توفيا، فلم يدخل في الخطاب قطعاً، فكذلك هنا.
قال الإمام إبن العربي - رضي الله عنه - في تعليل عدم دخوله في هذا الخطاب-: لما هو عليه من الخلال والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف وعظيم العزم عله المقاصد. فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد والأمر والنهي- كما تقدم- إليهم متوجه. إلا أفراداً خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق خرج عن جميع ماله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبله منه الله سبحانه، وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع مالهم لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم. وأعيان من الصحابة كانوا على هذا، فأجزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، وائتمروا بأمر الله واصطبروا على بلائه، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا، ولا ارتبطت أبدانهم
__________
(1) 94/ 10 يونس.
(2) 65/ 39 الزمر.(1/248)
بمال منها، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق وغروب أنفسهم عن التعلق بغضارة الدنيا. وقد كان أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة فما ادَّخر قط شيئاً لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد.
فههنا ثلاثة أصناف من الخلق الأعم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية، والقليل وهم الذين ضعفت فيهم حظوظهم، والأقل الأندر وهم الذي زالت منهم تلك الحظوط. وقد أفادتنا السنة العملية المتقدمة في كلام الإمام ابن العربي أن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أموالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم، وأن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها، وأما أهل الصنف الأول فلا يخرجون من الوسط الذي ينته الآية.
وقد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب ولا يلتفت للنادر. وقد وكل للنبي صلىَّ الله عليه وآله وسلم بيانه، فجاء مبيناً فيما تقدم من سنته. وتقررت القاعدة واستثناؤها من الكتاب والسنة وهما مصدر التشريع.
تَفَاوُتِ الْأَرْزَاقِ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلَّاقِ:
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (1)
لما أرشدنا تعالى إلى السلوك الأقوم في العمل في باب الإنفاق أرشدنا إلى العقد الصحيح في مسألة تفاوت الأرزاق وفي ذلك تمام الهداية إلى الإستقامة في الظاهر والباطن.
__________
(1) 17/ 30 الإسراء.(1/249)
وأن أحوال العباد في الغنى والفقر والسعة والضيق وتعاقبها عليهم بسرعة وبمهل، وتفاوتهم فيها لما يخفي ولما يظهر من العلل- لأمر عجب عجاب يحير الألباب. فعلَّمنا الله تعالى في هذه الآية أنَّ الربَّ هو الذي يربي المربوب في أحواله وأطواره بمقتضى الإصلاح والصواب هو الذي يبسط ويوسع على من يشاء- ولا يشاء إلاَّ ما هو حق وعدل وصواب وإن خفي علينا وجهه- ويقدر، أي يضيق على من يشاء، وكل أحد هو حقيق بالحال الذي هو فيه. وأنه كان بعباده خبيراً مطلعاً على دواخل أمورهم وبواطن أسرارهم من أنفسهم، ومما يرتبط بهم ومن سوابقهم ومصائرهم بصيراً منكشفة له جميع أمورهم.
وكما أنه بالعمل بآية الإنفاق ينتظم أمر العباد في معاشهم، كذلك بالإيمان بهذه العقيدة تزول حيرتهم وتطمئن قلوبهم فيما يرونه من أحوال الرزق في أنفسهم وفي غيرهم. والله يبصر القلوب ويقوم الأعمال إنه سميع مجيب (1).
..
__________
(1) ش: ج6 م، 6 ص 334
غرة صفر 1349 - جولية 1930(1/250)
حِفْظُ النُّفُوْسُ بِحِفْظِ النَّسْلِ وَحِفْظُ الْفَرَجِ وَعَدَمِ الْعُدْوَانِ
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
إن الأرواح الإنسانية كريمة الجوهر لأنها من عالم النور، فقد خلقت من نفخ الملك كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الثابت في الصحيح: ((أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح .. الخ) والملائكة- كما في الصحيح- خلقوا من النور. وإنها كريمة الخلقة أيضاً لأنها فطرت على الكمال، ولذا أضافها الله تعالى إلى نفسه في معرض الامتنان في قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} دع ما يطرأ عليها بعد اتصالها بالبدن من تزكية ترقى بها في معارج الكمال أو تدسية تنحط بها إلى أسفل سافلين. وبعد ارتباطها بالبدن يتكون منهما المخلوق العظيم العجيب
__________
(1) 3/ 31 - 33 الإسراء.(1/251)
المسمى بالإنسان، الذي جعل الله تعالى خليفة في الأرض ليعمرها ويستثمرها. ويعبرها إلى دار الكمال الحق والحياة الدائمة الأبدية.
هذه النفوس البشرية جاءت الشرائع السماوية كلها بإيجاب حفظها، فكان حفظها أصلاً قطعياً وكلية عامة في الدين، وجاءت هذه الآيات في تقرير هذا الحفظ من وجوه ثلاثة سنتكلم عليها واحداً واحداً:
1 - حفط النسل:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}.
العرب في زمان البعثة هم المخاطبون قبل الناس بالقرآن، وهم المأمورون أول الناس- لعموم الرسالة- بالبلاغ، وعلى اهتدائهم كان يتوقف اهتداء غيرهم، فمن الحكمة توجه القصد إلى تطهيرهم من مفاسدهم، وقد كانوا في الجاهلية منهم من يقتل البنات خشية الفقر وليوفر ما ينفق عليهن لينفقه على نفسه وبيته وبنيه، ويرى النفقة عليهن ضائعة لأنه لا ينتظر منهن سعياً للكسب ولا نصرة على العدو، وهذه هي المؤودة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} على أنه قد كان من ساداتهم من يحي المؤودة فيشتريها من عند أبيها وينجيها من القتل. كزيد بن نفيل القرشي أبي سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين - رضي الله عنهم -، وصعصعة ابن ناجية التميمي الصحابي جد الفرزدق الشاعر المشهور. وقد كان قتل البنات شائعاً فيهم مستفيضاً ومنهم- كما في "لسان العرب"- من كان يئد البنين عند المجاعة، فجاء النهي عن القتل في الآية متعلقاً بلفظ الولد شاملاً للبنات والبنين، ومعه السبب الذي كان يحملهم على القتل وهو(1/252)
خشية الإملاق: أي خوف الفقر والإقتار، والمملق هو الذي خرج ماله من يده فلم يبق بها شيء، ومن مادته الملقة وهي الصفاة الملساء. فنهوا عن هذا القتل الفظيع مع ذكر سببه لتصوير حالتهم بوجه تام وليتخلص من ذكر السبب إلى إبطاله ورده.
معالجة هذه الرذيلة: بإبطال سببها، وعظيم قبحها، وسوء عاقبتها:
أبطل تعالى خوفهم من الفقر بقول: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فأخبر أن رزق الجميع عليه، وأنه متكفل برزق خلقه بما يسر لهم من أسباب جلية أو خفية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى والكبير والصغير. كما أنَّه تعالى هو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما في الآية السابقة، فهما مرتبطتان بهذه المناسبة، ومن ضلالهم أنَّهم نظروا إلى قوة الكبير فحسبوه مرزوقاً من نفسه فهداهم بقوله: {وَإِيَّاكُمْ} إلى أن الكبار مرزوقون من الله بتقديره وتيسيره. ولما كان لا فرق بين الكبير والصغير في الحاجة إلى لطف الله وضمان الرزق من الله فلا وجه لخوف الفقر من وجود الأولاد وكثرتهم، لأنه ما من واحد منهم إلا ورزقه مضمون من خالقه جل جلاله.
وبيَّن تعالى فظاعة هذا القتل بقوله: {أَوْلَادَكُمْ} بإضافة الأولاد إليهم، فإن الأولاد أفلاذ الأكباد، وبضعة من لحم المرء ودمه، ونسخة من ذاته، فمحبتهم فطرة، والعطف التام عليهم خلقة، فكيف يكون قبح وفظاعة فعل من بلغ بهم القتل. وأي خير يرجى من قاتل ولده لغيره من الناس بعد ما جنى أفظع الجنايات على ألصق الناس به.
وبين تعالى سوء العاقبة لهذا القتل بقوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أي إثماً كبيراً لما فيه من قتل النفس وقطع النسل وهلاك الجنس وخراب العمران وسوء الظن بالله وعدم خشيته وعدم الشفقة على خلقه، يقال خطىء يخطأ خطئاً إذا قصد الفعل القبيح ففعله. وأخطأ(1/253)
يخطيء خطئاً إذا قصد شيأً فأصاب غير .. ومن مثل وعيد الآية ما ثبت في الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- سئل أي ذنب أعظم قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
عموم حكم الآية وترغيبها:
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والحكم يعم بعموم اللفظ كما أن ذكر سبب القتل في الآية لا يقتضي التخصيص لأنه ذكر لتصوير الحال الذي كانوا عليه، فالقتل حرام لأي سبب كان.
وهذا الفعل الذي كان في الجاهلية على الوجه المتقدم، وهو فعل مؤد إلى قطع النسل وخراب العمران، لا تسلم منه الأمم الأخرى في مختلف الأزمنة والبلدان، إما بالقتل بعد الولادة وإما بإفساد الحمل بعد التخليق، وهو حرام باتفاق. وقد يكون بالإمتناع من التزوج أو بعدم الإنزال في الفرج وهو العزل. والآية كما نهت عن القتل قد رغبت في النسل بذكر ضمان الرزق، فعلى المؤمن أن يسعى لذلك من طريقه المشروع وأن يتلقى ما يعطيه الله من نسل ابن أو بنت بفرح لنعمة الله وثقة برزق الله وإيمان بوعده.
2 - حفظ الفرج:
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.
في الزنا إراقة للنطفة وسفح لها في غير محلها، فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب مقطوع الصلة ساقط الحق. فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة فكأنه قتله. ولهذا بعد ما نهى عن قتل الأولاد نهى عن الزنا الذي هو كقتلهم لأنه سبب لوجودهم غير مشروع. قال الجوهري: "قربته أقربه قربانا أي دنوت منه" فقوله تعالى:(1/254)
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} أبلغ في النهي من ولا تزنوا، لأنه بمعنى ولا تدنوا من الزنا. وأفاد هذا تحريم الزنا وتحريم الدنو منه، لا بالقلب ولا بالجوارح، فقد جاء في الصحيح: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة. العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليدان زناهما البطش والرجل زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى. ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه". فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي ومؤد إليه، وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي. وهو ستر الحرة ما عدا وجهها وكفيها وجمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة وقعقعة حليها عند الخروج، وخلوتها بالأجنبي واختلاط النساء بالرجال، فتضامر النهي والتشريع على أبعاد الخلق عن هذه الرذيلة. والمسلم المسلم من تحرى مقتضى هذا النهي وهذا التشريع في الترك والإبتعاد.
معالجة هذه الرذيلة، بتقبيحها، وسوء عاقبتها:
بين تعالى قبحها بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}. والفاحشة هي الرذيلة التي تجاوزت الحد في القبح، وعظم قبح الزنا مركوز في العقول من أصل الفطرة كان ولم يزل كذلك معروفاً. ومن رحمة الله تعالى بخلقه أن ركز في فطرهم إدراك أصول القبائح والمحاسن- ليسهل انقيادهم للشرع عندما تدعوهم الرسل إلى فعل المحاسن وترك القبائح وتأتيهم بما هو معروف في الحسن أو القبح لهم، فتبين لهم حكم الله فيه وما لهم من الثواب أو العقاب عليه.
وبيَّن تعالى سوء عاقبة الزنا بقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} أي بئس طريقاً طريقه. طريق مؤد إلى شرور ومفاسد كثيرة في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة، فهو طريق إلى هلاك الأبدان وفساد الأعراض، وضياع الأموال وخراب البيوت وانقطاع الأنساب وفساد المجتمع(1/255)
وانقراضه زيادة على ما فيه من معنى القتل للنفوس الذي تقدم في صدر الكلام ...
فعلى المؤمن إذا وسوس له الشيطان بهذه الرذيلة أن يتعوذ بالله منه ويستحضر قبحها، والمفاسد التي تجر إليها، والإثم الكبير الذي يعقبها، وقبل ذلك كله حرمة النهي الشرعي عنها فيكون ذلك له - بإذن الله- وقاية منها.
3 - عدم العدوان:
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.
جاء أسلوب هذه الآيات تدرجاً من الخاص إلى العام فقتل الأولاد قتل للنفس التي حرم الله، والزنا كالقتل للنفس كما قدمناه. وجيء هنا بالنهي الصريح عن قتل النفس وأكد مقتضى النهي بوصف النفس بقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} والتحريم هو المنع، فحرم الله معناه منع الله، والتقدير حرم الله قتلها، فحذف لدلالة {لَا تَقْتُلُوا} عليه فالمنهي عنه هو القتل والمحرم هو القتل، فتأكد المنع بالنهي والتحريم. وفي إسناد التحريم إلى الله بعث للنفوس على الخشية من الإقدام على المخالفة وتنبيه لها على ما يكفها عن الإقدام، وهو استشعار عظمة الله.
القتل المحرم:
بيَّن تعالى بقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أن القتل المحرم هو القتل بالباطل، وأن القتل بالحق ليس بمنهي عنه. وبين الحق في الحديث الصحيح بقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل دم امرى مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزاني الثيب، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق(1/256)
للجماعة) في غير هذه الثلاث أو يقال يتقدم هذا الحصر في الورود عليها، وهذا القتل الحق لا يتولاه أفراد الناس في بعضهم وإنما يتولاه الإمام الذي إليه القيام بتنفيذ الأحكام وفصل الحقوق.
الردع عن العدوان بشرع القصاص:
القتل وسفك الدم عمل قديم في البشر فلهم- على الجملة- ضراوة عليه وألف به. وأعظم ما يكف الشخص عن نفس أخيه خوفه على نفسه، فلذلك شرع الله تعالى القصاص بين النفوس وبين تعالى ذلك بقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} المظلوم من قتل عمداً عدواناً، والولي هو القريب، والسلطان هو التسلط- والمعنى: ومن قتل عمداً عدواناً فقد جعلنا لقريبه تسلطاً بتمكينه من القصاص.
لا يحفظ النفوس إلا العدل:
كفاء النفس نفس فلا يقتل إلا القاتل بما قتل دون غيره ودون تمثيل به، وبين تعالى هذا بقوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} أي لا يتجاوز القصاص المشروع، لأن الإسراف ظلم ومثير للحفائط فيتسلسل الشر.
تسكين نفس الموتور:
الموتور هو من قتل قريبه، ولفقد القريب لوعة ربما تذهب بالنفس إلى شر غاية، فذكر بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} فإن قريب المقتول قد نصره الله بما جعل له من القصاص، فإذا لم يستوف له في الدنيا إستوفى له في الأخرى.
والمؤمن بيقينه لا يرى يوم القيامة إلا قريباً. وكفى بالله حسيباً (1).
__________
(2) ش: ج7، م 6، ص 399 - 405 غرة ربيع الأول 1349هـ أوت1930م(1/257)
حِفْظُ الْأَمْوَالِ بِاحْتِرَامِ الْمِلْكِيَّةِ
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
مال الشخص هو ما كان ملكاً له. واليتيم هو من عدم أباه، من اليتم، بمعنى الإنفراد، ومنه الدرة اليتيمة. ومن عدم أباه فقد عدم ناصره. فإذا بلغ النكاح فقد بلغ القوة فاستغنى عن الناصر فلا يقال فيه يتيم في اللغة. واعتبر الشرع الشريف وجود قوة العقل فمنع استقلاله ودفع ماله إليه بعد البلوغ حتى يؤنس منه الرشد. والتي أحسن: الفعلة والخصلة التي هي أنفع، والبلوغ إلى الشيء الوصول والإنتهاء إليه. والأشد، جمع شدة، كأنعم جمع نعمة، فالأشد هو القوي، وبلوغ الأشد هو بلوغ القوي والوصول إلى الحالة التي تحصل فيها القوى للإنسان، القوى البدنية والقوى العقلية. ولا يقال في الشخص قد بلغ أشده إلا إذا حصل على قواه من الجهتين فأما القوى البدنية فعلامة حصولها هو البلوغ. وأما القوى العقلية فعلامة حصولها هو الرشد الذي يظهر في حسن التصرف، وقد جمع العلامتين قوله تعالى في سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2).
__________
(1) 34/ 17 - 35 سورة الإسراء.
(2) 5/ 4 النساء.(1/258)
فابتداء الأشد من البلوغ إذا كان معه رشد، ولا يزال يتدرج حتى يستكمل في الأربعين كما قال تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}. فالأربعون هي سن الإستكمال والإستواء والتمام في القوى، وهي السن التي بعث الله فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للعالمين بشيراً ونذيراً، ولا يزال الإنسان في قوته - ما لم تعرض الطوارىء- إلى الخمسين، قال الشاعر (2):
أَخُو الْخَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ
ثم يأخذ في التراجع.
مال المرء كقطعة من بدنه ويدافع عنه كما يدافع عن نفسه. وبه قوام أعماله في حياته. فالأموال مقرونة بالنفوس كما في الإعتبار، فقرنت في النظم آية حفظ الأموال بآيات حفظ النفوس، كما قرن بينهما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام.
نهى تعالى عن قربان مال اليتيم إلا بالوجه الذي هو أنفع، فلا بد لكافل اليتيم من النظر والتحري عند التصرف في ماله حتى يعرف ما هو ضار وما هو نافع وما هو ضار ولا نافع وما هو أنفع فلا يتصرف إلا بما هو نافع، فإذا تعارض وجهان نافعان تحرى أنفعها لليتيم، وفي هذا النهي- بطريق الأحرى- تحريم أخذ مال اليتيم بالباطل والتعدي عليه ظلماً. ومثل اليتيم في وجهي النهي المتقدمين غيره، فكل ذي ولاية أو أمانة على مال غيره يجب عليه أن يتحرى التحريم المذكور. كما يحرم على كل أحد أن يتعدى على مال غيره. وإنما
__________
(1) هو سحيم عبد بني الحسحاس.(1/259)
خص اليتيم بالذكر لأنه ضعيف لا ناصر له، والنفوس أشد طمعاً في مال الضعيف، فالعناية به أوكد والعقوبة عليه أشد. ومن تأدب بأدب الآية في مال الضعيف، كاليتيم، كان حقيقاً أن يتأدب بأدبها في مال غيره. ومن بليغ إيجاز القرآن في بيانه أنه يذكر الشيء ليدل به على نظيره، أو الذي هو أحرى بالحكم منه، أو لكون امتثال الحكم الشرعي فيه داعياً إلى امتثاله في غيره بالمساواة أو الأحْروية.
وأجاز تعالى لولي اليتيم أن يتصرف في ماله بالإستثناء في قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيجوز له تنميته لليتيم بوجوه التجارة.
الولاية والاستقلال:
الولاية على اليتيم واستقلاله حالتان كلتاهما حق وخير إذا كانت كل واحدة منها في وقتها المناسب لها. وكل واحدة منهما تكون ظلماً وشراً إذا كانت في غير وقتها فلذلك بيّن تعالى الحالتين ووقتها بما قبل {حَتَّى} وما بعدها، فوقت عدم بلوغ الأشد هو وقت الولاية، فمن الفروض الكفائية على الأمة أن يكون أيتامها مكفولين غير مهملين. ووقت بلوغ الأشد- ببلوغ الحلم والرشد- هو وقت استقلال من كان يتيماً ووقت دفع ماله إليه، فلا يجوز حينئذ الإستيلاء على ماله والسيطرة عليه.
الوفاء بالعهد:
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1). أوفى بعهد إذا أتى بما التزم تاماً وافياً. والعهد من عهد إليه بالشيء إذا أعلمه به. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ
__________
(1) 17/ 34 الإسراء.(1/260)
قَبْلُ فَنَسِيَ} (1) أي أعلمناه. فالعهد هو الإعلام بالإلتزام أو الإعلام بما يلتزم. فمن الأول: عاهدت زيداً على كذا، أي أعلمته بالتزامي له، وتعاهد القوم على الموت، أي أعلم بعضهم بعضاً بالتزامه، ومن الثاني: عهد الله إلى العباد إلى أعلامهم بما عليهم أن يلتزموه. وقول عبد الله ابن عمر - رضي الله عنه -: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. أي إعلامه لنا وإعلامنا لكم بما يلتزم. والمسؤول من سأل. وسأل بمعنى طلب، إما طلب علماً وإما طلب شيئاً، فإن كانت الأولى تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بعد، تقول سألته عن كذا فأجابني، وإن كانت الثانية تعدى الفعل إليه بنفسه، تقول: سألته ثوباً فأعطانيه. فقوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، إذا كان من الأولى فالأصل مسؤولاً عنه فحذف إيجازاً لظهور المراد. وإذا كان من الثاني فلا حذف، والمعنى حينئذ مطلوب أي مطلوب الوفاء به.
الوفاء بالعهد شرط ضروري لحصول السعادتين:
عهد الله تعالى لعباده هو ما شرعه لهم من دينه فوفاؤهم بعهده قيام بأعباء ذلك الدين الكريم وانتظام شؤونهم في هذه الحياة - أفراداً وجماعات وأمماً- متوقف على الوفاء من بعضهم لبعض بما بينهم من عهود، فالوفاء ضروري لنجاة العباد مع خالقهم ولسلامتهم من الشرور والفوضى والفتن. وضروري- إذا- لتحصيل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
ولمكانة هذا الأصل وضرورته تكرر في الكتاب والسنة الأمر به على وجه عام بين الأفراد والأمم بلا فرق بين الأجناس، والملل. وجاء هنا في آية الوصاية باليتيم، وهي آية حفظ الأموال باحترام الملكية،
__________
(1) 15/ 20 طه.(1/261)
لوجهين: الأول أن الكامل لليتيم قد أعلن بكفالته- بلسان حاله- أنه ملتزم لحفظه في بدنه وماله، فهذا عهد منه يطالب بالوفاء به ويسأل عن ذلك الوفاء، الثاني أن الآية في حفظ الأموال وعدم التعدي على ملك أحد، والناس يتعاملون بحكم الضرورة ويبنون تعاملهم على تبادل الثقة والعهود المبذولة من بعضهم لبعض بلسان المقال أو بلسان الحال، فأمروا بالوفاء بالعهد الذي هو أساس للتعامل، وفي ذلك سلامة مال كل أحد من التعدي عليه.
ولا ينافي هذا عموم اللفظ الذي يقتضي الأمر بالوفاء عاماً لأنه باق على عمومه، وإنما يدخل فيه هذان الوجهان المذكوران في ارتباط النظم دخولاً أولياً. ومن بديع إيجاز القرآن في نظم الآيات أن يؤتي باللفظ مفيداً للعام ومقوياً للخاص.
الترغيب في الوفاء والترهيب من الخيانة:
{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}
إذا كان مسؤول بمعنى مطلوب، أي مطلوب الوفاء به، فإنه مطلوب في الفطرة وهي الشريعة، فالعباد فطروا على استحسان الوفاء ومطالبة بعضهم بعضاً به، والشرع طالبهم بالوفاء وشرعه لهم ووعدهم الثواب عليه. ففي قوله: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ترغيب لهم في الوفاء بحسنه ومشروعيته وحسن الجزاء عليه. ويتضمن هذا الترغيب بالتخويف من ترك الترغيب بالتخويف من ترك المطلوب. وإذا كان مسؤول بمعنى مسؤول عنه فإن المعنى أن الله تعالى يسأل العباد يوم القيامة عن عهودهم هل أوفوا بها ليجازيهم على الوفاء بحسن الجزاء، وعلى الخيانة بالعذاب والإهانة، فينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ويقال هذه غدرة فلان كما جاء في الصحيح. ففي الآية على هذا- أيضاً- ترغيب وترهيب.(1/262)
إيفاء الحقوق عند التعامل:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1).
إيفاء الكيل إتمامه، والقسطاس هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال والميزان على تعدد أنواعهما، والمستقيم الصحيح الذي لا عيب فيه، ومما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل كسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه. والخير: النافع. والتأويل: مصدر أول، بمعنى رجع، من آل يؤول أولاً، بمعنى رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمئال، أي العاقبة.
الأمر بإيفاء الكيل من موضوع ما قبله في الأمر بحفظ الأموال واحترام الملكية. والمكيلات والموزونات مورد عظيم للتعامل، ومعرضة تعريضاً كبيراً للبخس والتطفيف وأخذ مال الناس بالزيادة أو بالتنقيص، إما بفعل الشخص وإما بفساد الآلة، فأمر تعالى بإيفاء الكيل وأمر باختيار الآلة الصالحة لذلك، وبين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله: {إِذَا كِلْتُمْ} على سبيل التأكيد، حتى لا يتأخر الوفاء عن الكيل بأن يكتل ما نقص أو يرد ما زاد، فإن الذي يفصل الحق ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل.
الترغيب في إيفاء الكيل:
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}
رغب تعالى في الإيفاء بوجهين. الأول: أنه خير، فيفيد العدل والحق وأكل الحلال وراحة البال، وفيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر، وفيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة، وهذه
__________
(2) 35/ 27 الإسراء.(1/263)
كلها وجوه نفع وخير. الثاني: أنه أحسن عاقبة عاجلاً في نفس الشخص وأخلاقه وفي عرضه وسمعته وفي سلامته من المطالبات والمنازعات، وآجلاً بحسن جزائه عند الله بما أعد للموفين من الأجر العظيم.
تركيب على هذا الترغيب:
هذان الوجهان اللذان رغب الله تعالى بهما في الوفاء- ينبغي للعاقل أن يجعلهما نصب عينيه في كل ما يتناوله ويعمله، فيقتصر على ما هو خير ينفعه في الحال، وحسن العاقبة بنفعه وعدم ضرره في المال. والله يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال إنه الكريم الواسع النوال (1).
__________
(1) ش: ج 8 م 6 ص 462 - 467 غرة ربيع الثاني 1349هـ سبتمبر 1930.(1/264)
الْعِلْمُ وَالْأَخْلاقُ
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
العلم الصحيح والخلق المتين هما الأصلان اللذان ينبغي عليهما كمال الإنسان. وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة من أصول التكليف، فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما، فجيء بهما بعده ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع.
آية العلم
المفردات والتراكيب:
القفو: إتباع الأثر، تقول: قفوته أقفوه إذا اتبعت أثره. والمتبع للأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه، فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه ولا نهاية سيره. فالقفو إتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق
__________
(1) 17/ 36 - 37 الإسراء.(1/265)
الإتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا. ولكونه اتباعاً بغير علم جاء في كلام العرب بمعنى قول الباطل قال جرير:
وَطَالَ حِذَارِي غُرْبَةَ البَيْنِ وَالنَّوَى ... وَأُحْدُوثَةٌ مِنْ كَاشِحٍ يَتَقَوَّفُ (1)
أي متقول بالباطن.
والعلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة. سواء كانت تلك البيتة حساً ومشاهدة أو برهاناً عقلياً، كدلالة الأثر على المؤثر والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن، هذا هو الأصل، ويطلق العلم أيضاً على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جداً. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (3). فسمى القرآن إدراكه لما شاهدوا: علماً. لأنه إدراك كان يبلغ الجزم لأنبيائه على ظاهر الحال، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه.
والسمع: القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن. والبصر: القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بآلة العين. وقدم السمع على البصر لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلا من كان ذا سمع وقتاً من حياته. والفؤاد القلب. والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان: تقيد ثبوت خبرها لاسمها وكونها على صورة الماضي لا يدل على انقضاء ذلك الإرتباط. ومثل هذا التركيب
__________
(1) ديوانه 374. والتقوف: قفو الأثر.
(2) 81/ 12 يوسف.(1/266)
يفيد في الإستعمال إستحقاق الإسم للخبر، فالجوارح مستحقة للسؤال ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة. والمسؤول الموجه إليه السؤال ليجيب.
وأولئك إشارة إلى هذه الثلاثة، وضمير كان عائد على كل، وضمير عنه عائد على ما، وضمير مسؤولاً عائد على ما عاد عليه ضمير كان. والتقدير: كل واحد من هذه الثلاثة السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عما ليس لك به علم.
القلب ميزة الإنسان وأداة علمه:
يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير، وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً وارتباط بعضها ببعض نفياً وثبوتاً، وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الإرتباط على صورة مخصوصة ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول. فالتفكير إكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً.
ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير- إمتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته. فمن المشي على الأقدام إلى التحليق في الجو، مثلاً. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خلق عليها دون أي انتقال.
وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها ويستقيم تنظيمه لها- تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول وقسمي العلوم والآداب. وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام بل قرون مدنيتهم. عرَّبوا كتب الأمم إلى ما عندهم ونظروا وصححوا واستدركوا واكتشفوا. فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم(1/267)
وأناروا بالعلم عصرهم ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم. فأدُّوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها، وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم. ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة، وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده، وثمرة تفكيره ونظره فيها. وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه، كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز القرن الماضي لتكاثر المعلومات. فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات فتكثر المعلومات فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها. وهكذا يكون كل قرن ما دام التفكير عمالاً- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.
فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.
وإذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل. لأن المعلومات إذا لم تتعاهد بالنظر زالت من الحافظة شيئاً فشيئاً، وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية- بسنة الله- بسقوطها. وإذا لم يصح إدراكه للحقائق أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها كان ما يتوصل إليه بنظره خطأً في خطأٍ وفساداً في فسادٍ. ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد. وهذا هو طور انحطاط الأمم الإنحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم ويفشو الجهل وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها فتتخذ رؤوساً جهالاً لأمور دينها(1/268)
وأمور دنياها فيقودونها بغير علم فيَضِلُّون ويُضَلَّون ويَهلَكون ويُهلِكون ويفسدون ولا يصلحون. وما أكثر هذا- على أخذه في الزوال بإذن الله- في أمم الشرق والإسلام اليوم.
العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والإعتقادات:
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً، يستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه ويعقم بعقمه. لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الإعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره.
وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف، فمنها ما هو قويٌّ معتبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الإعتبار، فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه وهو عام الإعتبار. ويليه الظن وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما نتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك، وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازاً. والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجوح. والشك وهو إدراك الأمر على وجهين، وجوه متساوية في الإحتمال وكلا هذين لا يعوَّل عليه.
ولما كان الإنسان- بما فطر عليه من الضعف والإستعجال- كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال. بين الله تعالى في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم ولا يصح منهم البناء لأقوالهم وأعمالهم واعتقاداتهم إلا على إدراك واحد وهو العلم فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتبع(1/269)
ما لا علم لك به، فلا يكن منك اتباع بالقول أو بالفعل أو بالقلب لما لا تعلم. فنهانا عن أن نعتقد إلاّ عن علم، أو نفعل إلاّ عن علم، أو نقول إلاّ عن علم. فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه ونفكر فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه وإلا تركناه حيث هو في دائرة الشكوك والأوهام أو الظنون التي لا تعتبر. ولا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله أو نقوله، فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع كما جاء في الصحيح، بل علينا أن نعرضه على محك الفكر فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية ومقتضيات الزمان والمكان والحال.
فقد أمرنا أن نحدث الناس بما يفهمون، وما حدّث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة وإلا طرحناه. ولا كل فعل ظاهر لنا نفعله، بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه لنكون على بينة من خيره وشره ونفعه وضره، فما أمر تعالى إلاّ بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلاّ عما هو شر وفساد لهم أو مؤد إلى ذلك. وإذا كان من المباحثات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها. فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلا تركناه. فلا تكون عقائدنا- إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلا حقاً، ولا تكون أقوالنا إلا صدقاً، ولا تكون أفعالنا إلا سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم ولا كان الفساد والشر في أفعالهم إلا بإهمالهم أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
تفصيل:
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم، أي لنا علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق وأقوال(1/270)
الصدق وأفعال السداد. فأما ما كان من عقائد الحق في أمر الدين أو في أمر الدنيا فلا حضر في اعتقاد شيء منه. وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك. وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل إذ ليس كل قول صادق يقال، فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته لأنها غيبة محرمة ولا يجابه بها في حضوره لأنها إذاية، إلا إذا وجَّه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة التي من أولها أن لا تكون في الملأ. وهكذا يجب في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها والتفصيل في مفاهيمها.
تفريع:
الفرع الأول: من اتبع ما ليس له به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين أو في حق الناس أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحضور فهو آثم من جهتين: إتباعه ما ليس له به علم، واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور. ومن اعتقد حقاً من غير علم أو قال في الناس صدقاً عن غير علم أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه- مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي إتباعه ما ليس له به علم ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني: المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول سمعت الناس يقولون فقلت- هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم لتحصيل هذا الإستدلال له العلم. والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم. ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم وما رفع عن العاجز من الإصر وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.(1/271)
نصيحة على هذا الفرع:
أدلة العقائد مبسوطة كلها في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم. فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم. إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه. أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الإصطلاحية فإنه من الهجر لكتاب الله، وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه. وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
ومما ينبغي لأهل العلم أيضاً- إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم، ويذيقهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائماً على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتاواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب وأثر في النفوس. فإلى القرآن والسنة - أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون.
الفرع الثالث: المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة- هل هو متبع لغير العلم. والجواب لا. بل هو متبع للعلم وذلك من ثلاث وجوه:
الوجه الأول: أنَّ كل دليل يكون ظنياً بمفرده- يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده وشهدت له بالصواب. وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية.(1/272)
الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي الذي يكون جزماً ويسمى- كما تقدم علماً. فما اتبع المجتهد إلاَّ العلم.
الفرع الرابع: لا نعتمد في إثبات العقائد والأحكام على ما ينسب للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم - من الحديث الضعيف لأنه ليس لنا به علم، فإذا كان الحكم ثابتاً بالحديث الصحيح مثل قيام الليل ثم وجدنا حديثاً في فضل قيام الليل بذكر ثواب عليه مما يرغب فيه جاز عند الأكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه الذي لم يكن شديداً على وجه الترغيب. ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز الإلتفات إليه وهذا هو معنى قولهم: "الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال" أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها في أصل ثبوتها.
فما لم يثبت بالدليل الصحيح في نفسه لا يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر فضائله باتفاق من أهل العلم أجمعين.
الفرع الخامس: أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب فلا نقول فيها إلا ما كان لنا به علم بماء جاء في القرآن العظيم أو ثبت في الحديث الصحيح. وقد كثرت في تفاصيلها الأخبار من الروايات مما ليس بثابت، فلا يجوز الإلتفات إلى شيء من ذلك. ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملائكة والجن والعرش والكرسي واللوح والقلم وأشراط الساعة وما لم يصل إليه علم البشر.
سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.(1/273)
من قال ما لم يسمع سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه. ومن قال رأيت ولم ير سئل بصره فشهد عليه. ومن قال عرفت ولم يعرف أو اعتقد ما لم يعلم سئل فؤاده فشهد عليه. لأنه في هذه الأحوال الثلاثة قد اتبع ما ليس له به علم. وهذه الشهادة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
هذه الثلاثة تسأل على وجوه منها ما تقدم وهو الذي يرتبط به هذا الكلام بما تقدم من النهي. ومنها سؤال السمع لِمَ سمع ما لا يحل ولِمَ لَمْ يسمع ما يجب، وسؤال البصر لِمَ رأى ما لا يحل، وعن جميع أعمال البصر من نظر البغض والإحتقار ونحو ذلك. وسؤال الفؤاد عما اعتقد وعما قصد وجميع أعمال القلوب.
فوائد ختام الآية:
فختام هذه الآية تأكيد للنهي السابق وتفصيل لطرق العلم وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحدة وترهيب للإنسان من اتباع ما لا يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة وخزي بشهادة جوارحه عليه.
فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما نعمل، ويثبتنا ما نعمل، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إنّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (2).
__________
(1) 24/ 24 النور.
(2) ش: ج9، م 6، ص 526 - 535 غرة جمادى الأولى 1349 - أكتوبر 1930.(1/274)
آيَةَ الْأَخْلَاقِ
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المفردات والتركيب:
المرح مشية فيها خفة ونشاط واختيال ناشئة عن شدة فرح بالنفس، تقول العرب: أمرح الفرس فمرح فهو فرس مرح وممراح، إذا شبع فاخذ يمشي بخفة ونشاط واختيال. ويقال مرح الرجل إذا اختال في مشيته ونظر في عطفيه، ولا يكون ذلك إلا لفرحه بنفسه واعجابه بها. وخرق الأرض ثقبها، والطول ارتفاع القامة.
نصب مرحا بتمش لأنه متضمن له تضمن الكلي لجزئيه، إذ المرح جزئي من جزئيات المشي، فكأنه قال لا تمرح مرحا. ونظيره قول الشاعر:
يُعْجِبُهُ السَّخُونُ والبُرُودُ ... والتَّمْرُ حُبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ
فنصب حباً بيعجب لأن الإعجاب متضمن للحب، أو نصب على أنه حال كجاءني زيد ركضاً. ونصب طولاً على أنه تمييز أي من جهة الطول. والتقدير: ولن يبلغ طولك طول الجبال.
التفسير:
حب الإنسان لنفسه غريزة فيه، وذلك يحمله على الإعجاب والفرح بها وبكل ما يصدر عنها ويستخفه ذلك حتى يتركه يمشي بين الناس مختالاً متبختراً، وهذه هي مشية المرح التي نهى الله
__________
(2) 37/ 17 - 39 الإسراء. وارتباط الآية بما قبلها تقدم في صدر الجزء السابق.(1/275)
تعالى في هذه الآية عنها. ولما كانت هي فرعاً عن الإعجاب بالنفس والفرح بها فالنهي منصب على أصلها كما انصب عليها.
ولما كانت هذه العلة ناشئة عن علة العجب أعقب الله تعالى بيان الداء الذي نهى عنه بذكر الدواء الذي يقلعه من أصله. فقال تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. فذكر الإنسان بضعفه بين مخلوقين عظيمين من فوقه ومن تحته، فإذا ضرب برجليه الأرض في مرحه فهو لا يستطيع خرقها، وإذا تطاول بعنقه في اختياله فهو لن يبلغ طول الجبال. فقد أحاط به العجز من ناحيتيه، وذكر الإنسان لضعفه وعجزه أنجع دواء لمرض إعجابه بنفسه.
نعم الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحاً، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه ونقائص بشريته، فلا يدعه يعجب بها فلا يكون من المرحين فما مرح إلا وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته.
العجب أصل الهلاك:
اذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهي عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها فعاش ولا أخلاق له مصدراً لكل شر بعيداً عن كل خير.
وعن العجب بالنفس ينشأ الكبر على الناس والاحتقار لهم، ومن احتقر الناس لم ير لهم حقاً، ولم يعتقد لهم حرمة ولم يراقب فيهم إلا ولا ذمة، وكان عليهم- مثل ما كان على نفسه- أظلم الظالمين.
إبليس اللعين- نعوذ بالله تعالى منه- كان أصل هلاكه من عجبه(1/276)
بنفسه، وأنه خلق من النار، وأنه خير من آدم، فتكبر عليه فكان من الظالمين الهالكين.
ترك العجب شرط في حسن وكمال الأخلاق:
تربية النفوس تكون بالتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل، والعجب هو أساس الرذائل. فأول الترك تركه، وهو المانع من اكتساب الفضائل، فشرط وجودها تركه كذلك. ومن لم يكن معجباً بنفسه كان بمدرجة التخلق بمحاسن الأخلاق والتنزه عن نقائصها، لأن الإنسان مجبول على محبة الكمال وكراهة النقص. فإذا سلم من العجب فإن تلك الجبلة تدعوه إلى ذلك التخلق والتنزه. فإذا نبه على نقصه لم تأخذه العزة، وإذا رغب في الكمال كانت له وإليه هزة فلا يزال بين التذكيرات الإلهية والجبلة الإنسانية الخلقية يتهذب ويتشذب حتى يبلغ ما قدر له من كمال. ولهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة- وهي أصول في علم الأخلاق- عنونا عليها بآية الأخلاق.
تأكيد الأوامر والنواهي المتقدمة بطريق الإيجاز:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}
المناسبة:
إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة، وإن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها، ولما كانت أصولها قد تضمنتها الآيات السابقة أمراً ونهياً بطريق الإطناب والتفصيل- أعيد الحديث عنها في هذه الآية بطريق الإيجاز والإجمال. قصداً للتأكيد وتقرير هذه الأصول العظيمة في النفوس، مع اشتمال هذه الآية الموجزة على ما لم يشتمل عليه ما تقدمها. وهذا من بديع التأكيد، لاشتماله على السابق مع شيء جديد.(1/277)
المفردات والتراكيب:
السيء هو القبيح والقبائح المنهي عنها فيما تقدم، قبيحة لذاتها، ولنهي الله تعالى عنها، والمكروه هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه. والمحاسن محبوبة لله أمر بها ويثيب عليها ويرضى على فاعلها، والمقابح مبغوضة له تعالى نهى عنها، ويعاقب عليها ويسخط على مرتكبها. وليس المكروه بمعنى عدم المراد لأنه لا يكون في ملكه تعالى ما لا يريد وما تشاءون إلا أن يشاء الله. وليس بمعنى المنهي عنه نهياً غير جازم لأن ذلك إصطلاح فقهي حادث بعد نزول القرآن، والقرآن لا يفسر بالإصطلاحات الحادثة.
ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة (سيئه)، فالمكروه هو سيء ما تقدم وهو القبائح المنهي عنها. أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة (سيئة)، ومكروهاً خبر كان على القراءة الأولى، وخبر ثان على القراءه الثانية. وتقدير الكلام على القراءة الأولى، كل ذلك المذكور كان سيئه- وهو المنهيات- مكروهاً عند ربك ومفهومه أن حسنه- وهو المأمورات- محبوب عنده، وعلى الثانية كل ذلك المنهي عنه كان سيئة مكروهاً عند ربك. ومفهومه أن المأمور به حسن عنده.
التفسير:
عرَّف- تعالى- عباده في هذه الآية بمنطوقها ومفهومها - على ما تقدم في التقرير- أن ما أمرهم به هو الحسن المحبوب، وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض. فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة، وأنه- تعالى- لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن، وفي علمهم بهذا ما يحملهم على الإمتثال ويرغبهم فيه، فإن الحسن تميل إليه النفوس(1/278)
والقبيح تنفر منه. وفي قوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّكَ} غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح فإن الحسن جد الحسن ما كان حسناً عند الله تعالى، والقبيح جد القبيح ما كان قبيحاً عنده، وفي اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن والقبيح على وجه التفصيل والتدقيق حتى يكون المأمور به حسناً قطعاً والمنهي عنه قبيحاً قطعاً إنما هو له تعالى، وأن أوامره ونواهيه- تعالى- الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته- تعالى- وتدبيره لخلقه.
مكانة هذه الأصول علماً وعملاً:
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}
المناسبة:
لما بينت الأصول تمام البيان وقررت غاية التقرير جاءت هذه الآية للتنويه بها لحث العباد على تحصيل ما فيها من علم والتحلي بما دعت إليه من عمل.
المفردات والتراكيب:
الحكمة هي العلم الصحيح والعمل المتقن المبني على ذلك العلم. وقال مالك بن انس - رضي الله عنه -: هي الفقه في دين الله والعمل به. والقرآن حكمة لدلالته على ذلك كله.
ذلك إشارة إلى ما تضمنته الآيات المتقدمة من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ومن في (مما) تبعيضية. ومن في (من الحكمة) بيانية، مجرورها بين المبهم وهو ما في قوله (مما) والتقدير ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك.
التفسير:
هذا ضرب آخر من تأكيد العمل بما تقدم والترغيب(1/279)
فيه، فبين تعالى أن ما تضمنته الآيات المتقدمة كله حكمة، فالمتحقق بما فيها من علم والمتحلي بما حثت عليه من أعمال هو الحكيم الذي كمل من وجهته العلمية وجهته العملية وتلك أعلى رتب الكمال للإنسان.
وفي ذكرانها بعض من كل تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وتنبيه أيضاً على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي ويعتمد في ذلك على بيانه، وفيه بيان أن الوحي هو المرجع الوحيد لبيان دين الله تعالى وشرعه وما أنزله لعباده من الحكمة، وذلك الوحي هو القرآن العظيم وسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
ختام الآيات:
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}.
المناسبة:
لما كانت هذه الآيات في أصول الهداية وأساس الهداية، وشرطها هو التوحيد ختمت الآيات بالنهي عن الشرك كما بدأت به.
المفردات والتراكيب:
الإلقاء هو الطرح، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت القبيح وما حملك عليه ونحو هذا. والمدحور المبعد، وانتصبا على الحال.
التفسير:
نهى تعالى عن الشرك وأن يعبد معه سواه، فالعبادة بالقلب واللسان والجوارح لا تكون إلا له. وكما حذر في فاتحة(1/280)
الآيات بقعود المشرك في الدنيا مذموماً بالشرك الذي ارتكبه مخذولاً لا ناصر له. كذلك حذر هنا بمثال المشرك في آخرته بإلقائه في جهنم ملوماً على ما قدم مطروداً مبعداً في دركات الجحيم.
نظرة عامة في الآيات المتقدمة:
قد تضمنت هذه الآيات على قلتها الأصول التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته من حفظ النفوس والعقول {وَلَا تَقْفُ} الآية. والأنساب والأموال والحقوق (وأوفوا بالعهد، وأوفوا الكيل) والأعراض {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا- وَلَا تَقْفُ} والدين الذي هو عمدة ذلك كله، وفي حفظه حفظ لجميعها، وفي افتتاح الآيات بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} بيان من الله تعالى لخلقه بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقايتها وسور حفظها، وأن التوحيد هو ملاك الأعمال وقوامها ومنه بدايتها وإليه نهايتها.
وكذلك المسلم الموفق يبتدىء حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها فالله نسأل- كما من علينا بها في البداية- أن يمن علينا بها في النهاية.
اللهم هذا لنا وللمسلمين أجمعين (1).
__________
(1) ش: ج 10، م 6، ص 591 - 596 غرة جمادى الثانية 1349هـ - نوفمبر 1930(1/281)
الْقَوْلُ الْحَسَنُ
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاصلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاقحت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره، وأممه، وبريد عقله وواسطة تفاهمه. فإذا حسن قويت روابط الألفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي على التعاون والتآزر، وجنى العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران. وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك. فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الإسترشاد والإستمداد والتعاون بين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة. وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل، وفي ذلك كل الشر، لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم
__________
(1) 17/ 53 - 54 الإسراء.(1/282)
وهلاكهم- هو القول الحسن، ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الثه عليه وآله وسلم - أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين: الأول أنهم أضيفوا إليه، وهذه إضافة شرف لا يكون إلا للمؤمنين به. الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الإمتثال إنما هم من حصلوا على أصل الإيمان.
والتي هي أحسن: هي الكلمة الطيبة والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم، ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه، وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم، حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء، وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون إذاية لخصمه ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به- وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، وأدنى تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم أو بينهم وبين غيرهم، وقد جاء في الصحيح أن رهطاً من إليهود دخلوا على النبي - صله الله عليه وآله وسلم - فقالوا السام عليكم، ففهمتها عائشة - رضي الله عنها - فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؟ فقال: قد قلت: وعليكم. فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله: وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صلى الله عليه وآله(1/283)
وسلم - القولة التي هي أحسن، وهذا هو أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى: {أَحْسَنُ} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة فننتقي أحسنها في جمبع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام، فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة والإقتصار على الحسن وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم إستعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة، فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً. ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً، وأنقدت أمة أو أمماً. وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: "الكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بكلمة طيبة".
وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول واجتناب السوء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "المسلم أخو المسلم"- إلا بتركهم هذا الأدب وتركهم للتروي عند القول والتعمد للسيء بل للأسوأ في بعض الأحيان.
التحذير من كيد العدو الفتان:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}
{إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}
نزغ الشيطان وسوسته ليهيج الشر والفساد. وعداوته باعتقاده البغض وسعيه في جلب الشر والضر. وإبانته لعداوته بإعلانه لها، كما علمنا القرآن.(1/284)
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء ويهيج غضبه ليقوله، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الضر والفساد. ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح، حتى يقولها، فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته ويهيج غضبه حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا فيتباعدون عمَّا فيه احتمال السوء فضلاً عن صريحة ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز.
المحاسنة على الحال والظاهر- والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر:
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضاً أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سبباً لزيادة شقة الخلاف اتّساعاً، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر. فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله. فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر أو كان من أهل الفسق(1/285)
أو كان من أهل الإبتداع كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك. إلا من جاء النص بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر وسوء عاقبته، ولا يقال للمبتدع يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها، ولا يقال لمرتكب الكبيرة يا فاسق ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها، فتقبح القبائح والرذائل في نفسها وتجتنب أشخاص مرتكبيها. إذ ربّ شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال، تكون عاقبته إلى الخير والكمال، ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله تعالى- على عقبه في هاوية الوبال.
وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرسله وكيلاً على الخلق حفيظاً عليهم كفيلاً بأعمالهم. فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم - خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن، للموافق والمخالف فلا يحملنهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلهما، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه، أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما آمين (1).
..
__________
(1) ش: ج11، م 6، ص 654 - 658 غرة رجب 1349هـ - ديسمبر 1930م.(1/286)
دُعَاءُ غَيْرِ اللَّهِ: مَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ عَبَدَ مَا دَعَاهُ وَهُوَ فِي عِبَادَتِهِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
(الدعاء): هو النداء لطلب شيء من المدعو ولذلك لا يدعى إلا العاقل أو ما نزل منزلته مجازاً من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من الجمادات. وإذا كان لشيء معظم ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشرية فهو عبادة ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضاً لغرض من الأغراض. و (الزعم): القول بغير دليل. و (من دونه): أي غيره. و (الملك) الإستيلاء على الشيء والتمكن من التصرف فيه. و (كشف الضر): إزالته. و (لا تحويلا): نقلا له إلى شخص آخر.
التراكيب:
أمروا بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه، بظهور عجز من يدعون. وحذف مفعولا زعم، والتقدير زعمتموهم آلهة، للعلم
__________
(1) 17/ 57 - 58 الإسراء.(1/287)
بهما لأنهم ما دعوهم الاّ لكونهم آلهة في زعمهم. ولا يملكون: وقع بعهد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهم لا يملكون، وهذا لأن الفاء قصد بها العطف ولم يقصد بها السببية، ولا يصح أن تقصد بها السببية لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسببا عن الدعاء مثلها في قول الشاعر:
رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ ... سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ
فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق. وليس كذلك الأمر في هذه الآية، فإن عدم ملكهم متحقق سواء دعوا أم لم يدعوا، فلذلك امتنع النصب ووجب الرفع على التقدير المتقدم.
المعنى:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين اتخذوا آلهة من دون الله فعبدوها، أدعوا معبوداتكم هذه التي زعمتموها آلهة من دون الله عندما ينزل بكم الضر، وأنظروا هل تستطيع تلك المعبودات الباطلة أن تكشف وتزيل عنكم ذلك أو أن تحوله عنكم إلى غيركم، فإنكم تجدونها عاجزة عن ذلك غير قادرة على شيء منه، وإنما يقدر على ذلك الإله الحق وهو الله الذي خلقها وخلقكم فاعبدوه هو وأدعوه هو واقلعوا عن عبادة ودعاء ما سواه.
الأحكام:
تدل الآية على أن دعاء غير الله تعالى لدفع الضر- ومثله جلب النفع- عبادة للمدعو، فإن المشركين كانوا يتعبدون لآلهتهم بهذا الدعاء الذي نهاهم الله تعالى عنه ببيان خيبتم فيه ووقوعه في غير محله. وتسمية الدعاء عبادة ثابتة لغة وشرعاً بغير ما دليل، منها حديث النعمان بن بشير عند أحمد وأصحاب السنن مرفوعاً(1/288)
(الدعاء هو العبادة) وحديث أنس عند الترمذي مرفوعاً (الدعاء مخ العبادة) وهذا لأن العبادة هي الخضوع والتذلل لمن بيده الخلق والتصرف والعطاء والمنع، ومظهر هذا الخضوع والتذلل هو الدعاء لدفع الضر، أو جلب النفع، فلذلك عبر عنه في الحديث الأول بأنه هو العبادة أي معظمها، وفي الثاني بأنه مخ العبادة أي خالصها. ودلت الآية أيضاً على أنه لا يجوز دعاء غير الله من المخلوقين، أي مخلوق كان، لدفع ضر- ومثله جلب نفع-، لأن الآية نعت على المشركين دعاءهم من لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وهذا أمر يشترك فيه جميع المخلوفين، فلا مخلوق يستطيع كشف الضر أو تحويله عن نفسه ولا عن غيره فلا مخلوق يجوز دعاؤه ودلت على أن كشف الضر أو تحويله- ومثله جلب النفع- إنَّما هو للمعبود الحق لأن الآية استدلت عليهم في مقام الأمر بتوحيد الله بالعبادة بانتفاء ملك كشف الضر أو تحويله عن غير الله، فأفاد ذلك قصر هذا التصرف عليه تعالى وحده.
إستنتاج:
لما ثبت شرعاً أن الدعاء عبادة فمن دعا شيئا فقد عبده ولو كان هو لا يسمي دعاءه عبادة جهلاً منه أو عناداً لأن العبرة بتسمية الشرع واعتباره لا بتسمية المكلف واعتباره. ألا ترى لو أن شخصاً قام للصلاة بدون وضوء مستحلاً لذلك فلما أنكرنا عليه قال إنني لا أعتبر هذه الأفعال والأقوال عبادة ولا أسميها صلاة. أترى ذلك يجيز فعله ويدفع عنه تبعته، كلا! ولا خلاف في ذلك بين المسلمين. بل قد حكموا بردته إن كان يفعل ذلك ويراه حلالاً. لأنه يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة. فالداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه قد عبد من دعاه، وإن لم يعتبر دعاءه عبادة، لأن الله قد سماه عبادة، وإذا استمر على فعله ذلك مستحلاً له(1/289)
بعد تعليمه، وإرشاده، يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أنَّ العبادة -والدعاء منها- لا تكون إلاَّ لله، فيحكم بردته، نظير مستحل الصلاة بلا وضوء بلا فارق.
تطبيق:
إذا علمت هذه الأحكام فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين، الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقاً في هذا الضلال. فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون ويذهبون إلى الأضرحة التي شيدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد، فيدعون من فيها ويدقون قبورهم وينذرون لهم ويستثيرون حميتهم بأنهم خدامهم وأتباعهم فكيف يتركونهم وقد يهددونهم بقطع الزيارة، وحبس النذور، وتراهم هنالك في ذل وخشوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم، فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجههم كلها عبادة لأولئك المدعوين، وإن لم يعتقدوها عبادة، إذ العبارة باعتبار الشرع لا باعتبارهم، فياحسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباساً مقلوباً حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال.
تحذير وإرشاد:
فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله وليحذروا غيرهم منه. ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين بما استطاعوا عسى أن يتنبه الغافل، ويتعلم الجاهل، ويقلع الضالون عن ضلالهم، ولو بطريق التدريج، وبذلك يكون قراؤنا قد أدوا أمانة العلم وقاموا بفريضة النصح، وخدموا الإسلام والمسلمين.(1/290)
نَجَاةُ الْمَعْبُودِينَ بِهُدَاهُمْ وَهَلَاكُ الْعَابِدِينَ بِضَلالِهِمْ:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
ــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
(يبتغون): يطلبون باعتناء واهتمام. (الوسيلة)، سبب الوصول إلى البغية والقرب من المطلوب، والوسيلة الموصلة إلى الله هي عبادته، وطاعته، بامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محابه، واجتناب مكارهه، وهذا المعنى هو المراد هنا. (أقرب): أي في المكانة والمنزلة، (يرجون رحمته): ينتظرون إنعاماته لافتقارهم إليه. (ويخافون عذابه): يخشون عقوبته، وانتقامه لعلمهم بقوته، وسلطانه، وقصورهم عن القيام بجميع واجب حقه. (محذورا): مخيفاً متحرزاً منه.
التراكيب:
أولئك: إشارة إلى المعبودين الذين وصفهم. ويدعون ضميره للداعين، وأصله يدعونهم، يبتغون خير أولئك. و (أيهم): اسم موصول مضاف إلى ضمير المبتغين، وهو يدل بعض من كل من الواو في يبتغون. (وأقرب): خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والجملة صلة الموصمول، ويحتمل أن يكون أيهم استفهاماً مبتدأ وأقرب خبر، وتقدير الكلام ينظهرون أيهم أقرب.
نزول الآية:
قال ابن مسعود: هي في نفر من الإنس كانوا يعبدون(1/291)
نفرا من الجن، فأسلم الجن وبقى الإنس على عبادتهم، وجاء عنه وعن غيره أنها في الذين كانوا يعبدون الملائكة من العرب.
المعنى:
أولئك الجن والملائكة الذين يدعوهم (1) هؤلاء المشركون أرباباً قد أسلموا فصاروا من عباد الله المؤمنين يطلبون أسباب الزلفة والقرب عند ربهم، ينظرون من هو الذي يكون منهم أقرب مكانة باجتهاده، وصالح عمله، (هذا على الإعراب الثاني وعلى الإعراب الأول: يطلب الذي هو أقرب منهم أسباب الزلفة عند الله فأحرى وأولى غيره) ويرجون بأعمالهم الصالحة رحمته ويخافون بمخالفتهم عذابه. إن عذاب ربك كان من حقه وشأنه أن يتقى ويحذر لما فيه من عظيم الخزي وشديد الألم.
الأحكام:
أفادت الآية أن العبادة لا تنفع صاحبها إلا إذا كانت على الوجه الحق وإلا فإنه لا يحصل منها إلا على الخيبة والوبال. وأن المكلف (2) لا يحمل شيئاً من إثم عمل غيره إذا لم يكن راضياً به ولو كان ذلك العمل متسبباً عنه إذا لم يكن متسبباً هو فيه. وأن المكلف مطالب بأن يطلب أسباب القرب إلى الله بجد واجتهاد وأن يكون جامعاً بين الرجاء والخوف في سلوكه.
التطبيق:
نعرف كثيراً من الصالحين - رحمهم الله تعالى - قد شيدت عليهم القباب ونذرت لهم النذور وقصدوا لقضاء الحاجات ودعوا في المهمات وكان ذلك كله مما أحدثه المحدثون بعدهم وبالغ
__________
(1) كذا في الأصل والصواب: يدعونهم.
(2) في الأصل: الملكف.(1/292)
فيه المستغلون له ممن ينتمون إليهم فهم - إن شاء الله تعالى - برءاء من إثم ذلك كله وإنما اثمه على فاعليه.
عبرة وتحذير:
يأتي يوم القيامة أولئك الذين كانوا يدعون الملائكة والجن المسلمين وعباد الله الصالحين ويحسبون أنهم ينفعونهم في ذلك اليوم. فيتبرأ منهم أولئك الذين كانوا يعبدونهم بدعائهم ويتركونهم في ذلك الموقف العصيب. فما أمرَّ خيبتهم يومذاك وما أعظم حسرتهم ويالها من عبرة لقوم يعقلون.
فحذار يا إخواننا من هذه العاقبة السيئة وهذا الموقف المخزي، فبادروا إلى توحيد الله بالدعاء الذي هو مخ العبادة، واقتصروا في جانب الصالحين على محبتهم والترضية عليهم وسؤال الرحمة لهم والإقتداء بهم فيما كان منهم من طاعة وخير ولا تعظموهم بما لا يكون إلا لله رب العالمين.
والله ينصرنا بالحق ويهدينا إليه ويجعلنا من حزبه ويميتنا عليه آمين يا رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 12، م 6، ص 8، 7 - 723 غرة شعبان 1349هـ - جانفي 1930(1/293)
الطَّوْرُ الْأَخِيرِ لِكُلِّ أُمَّةٍ وَعَاقِبَتُهُ
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار، طور الشباب، وطور الكهولة، وطور الهرم، فيشمل الطور الأول نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة، ويشمل الطور الثاني ابتداء أخذها في التقدم والإنتشار وسعة النفوذ وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك، بما كان فيها من مواهب وما كان لها من استعداد وما لديها من أسباب. ويشمل الطور الثالث إبتداءها في التقهقر والضعف والإنحلال، إلى أن يحل بها الفناء والإضمحلال. إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها من عالم السيادة والاستقلال، وما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر كما تختلف الأعمار.
هذه السنة الكونية التي أجرى الله عليها حياة الأمم في هذه الدنيا أشار إليها في كتابه العزيز في غير ما آية. فذكر أعمال الأمم وأنها مقدرة محددة بآجالها في مثل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ
__________
(1) 58/ 17 إلا سراء.(1/294)
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (1). وذكر إنشاء الأمم على أثر الهالكين في مثل قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (2). وذكر طور شباب الأمة ودخولها معترك الحياة في مثل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3) فإن بني إسرائيل ماستخلفوا في الأرض حتى قووا واشتدوا وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة والنجدة والحمية والأنفة بعد خروجهم من التيه، وذلك هو الطور الأول، طور الشباب للأمة الإسرائيلية، وذكر الطور الثاني، وهو طور الكهولة واستكمال القوة وحسن الحال ورغد العيش في مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (4). وذكر الطور الثالث طور الضعف والإنحلال في مثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (.) وإهلاكهم يكون بعد إسباغ النعمة وإقامة الحجة عليهم وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم، فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم الثلاثة. وإلى خاتمة الطور الثالث وعاقبته جاء البيان في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
__________
(1) 33/ 7 الأعراف.
(2) 21/ 11 الأنبياء.
(3) 128/ 7 الأعراف.
(4) 112/ 16 النحل.
(5) 60/ 18 الكهف.(1/295)
نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}.
الألفاظ:
القرية: المساكن المجتمعة، ومادة (ق ر ي) تدل على الجمع، فتصدق على القرية الصغيرة والمدينة الكبرى، وتطلق القرية مجازاً على السكان إطلاقاً لاسم المحل على الحال. ومنه هذه، و (الإهلاك): الإبادة والإفناء بالإستئصال، كما فعل بعاد وثمود. و (قبل يوم القيامة): أي في الدنيا، و (العذاب الشديد): كأمراض الأبدان وفساد القلوب وانحطاط الأخلاق وافتراق الكلمة وتسليط الظلام، كما أرسل على بني إسرائيل عباداً أولي بأس شديد فساؤا وجوههم وجاسوا خلال ديارهم، وكتسليط أهل الحق على أهل الباطل، وكالجدب والقحط وجوائح الأرض وجوائح السماء و (في الكتاب) أي اللوح المحفوط و (مسطورا): أي مكتوباً اسطاراً مبيناً.
التركيب:
(إن) نافية. و (من) زيدت لاستغراق الجنس وتأكيد العموم و (إلا) أفادت مع ان النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعاً. و (أو) تفيد أحد الشيئين المذكورين على الإبهام وعدم التعيين. و (ذلك) إشارة إلى المذكور من الهلاك والتعذيب.
المعنى:
يقول تعالى: ما من قرية على وجه الأرض إلا ولا بد أن يحل بها منا هلاك وفناء بما يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها ولكنه يذيقها أنواع الآلام وشديد النكال، كان هذا قضاء سابقاً في علمنا ماضياً في إرادتنا مكتوباً أسطاراً في اللوح المحفوط.(1/296)
الأحكام:
أحكام الله تعالى: أحكام شرعية وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساروا عليه، وأحكام قدرية، وهي التي فيها بيان تصرفه في خلقه على وفق ما سبق في علمه، وما سبق في إرادته. والأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها فيختلف مقتضاها من الفعل أو الترك، والأحكام القدرية لا تتخلف أصلاً ولا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعاً. وفي هذه الآية حكم من أحكامه القدرية، وهو أن كل قرية لا بد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم ولا تخرج عنه قرية.
إيضاح وتعليل:
الله حكم عدل حَكيم خبير، فما من حكم من أحكامه الشرعية إلا وله حكمته، وما من حكم من أحاكامه القدرية إلا وله سببه وعلته. لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته. قد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك أو العذاب الشديد في هذه الآية، وبيّن في غيرها سبب استحقاقها لها فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (1)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (2) {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (3) {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (4) {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا
__________
(1) 60/ 18 الكهف.
(2) 118/ 11 هود.
(3) 59/ 28 القصص.
(4) 21/ 11 الأنبياء.(1/297)
وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} (1).
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2) فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم والفساد والعتو والتمرد عن أمر الله ورسله والكفر بأنعم الله. وما ربك بظلام للعبيد.
توجيه:
الطور الأخير للأمم هو الذي ذكر في الآيات كثيراً دون الطور الأول والثاني. ووجه ذلك أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد ويعظم فيه الظلم وينتهي فيه الإعذار للأمة ويحل فيه أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب. فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه والتخويف من سوء عاقبته والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع من الظلم والفساد والرجوع إلى طاعة الله تعالى، وإعمال يد الإصلاح في جميع الشؤون فيرتفع العذاب، بزوال ما كان لنزوله من أسباب.
إستنتاج وتطبيق:
القرى التي قضى عليها بالهلاك والإستئصال هذه قد انتهى أمرها بالموت وفات عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة. وأما القرى التي قضى عليها بالعذاب الشديد فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن وعلاجها متيسر. مثل الأمم الإسلامية الحاضرة.
__________
(1) 8/ 65 الطلاق.
(2) 112/ 26 النحل.(1/298)
فمما لا شك أن فينا لظلماً وعتواً وفساداً وكفراً بأنعم الله، وإننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد. ولا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها وأقوى منها في أسباب العذاب والهلاك غيرها من أمم الأرض. وأنَّ لهم لقسطهم من العذاب الشديد، وإذا لم يأت المقدار المماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابهما فلأنَّه لكل أمة أجل ولما يأت ذلك الأجل بعد. فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
إرشاد واستنهاض:
قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقاً وقدراً بمشيئته وحكمته لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها، وقد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم أو نقلع عنها فننجو، فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب. وقد ذكر لنا في كتابه أمّة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعد ما كان ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب فقال تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1) فبمادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر كشف عنهم العذاب، وأرشدنا في ضمن هذا إلى العلاج الناجع في كشف العذاب وإبطال أسبابه، وهو الإيمان. كما أرشدنا إليه أيضاً في قوله تعالى قبل هذا: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} (2) أي نجاها من العذاب، وذكر قوم يونس دليلاً على ذلك. وأرشدنا إليها أيضاً في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (3)
__________
(1) و (2) 10/ 98 يونس.
(3) 7/ 95 الأعراف.(1/299)
فالإيمان والتقوى- هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب. ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفراداً وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه وبدأ به في نفسه، ثم في من إليه ثم في من يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته. فمن جعل هذا من همه وأعطاه ما قدر عليه من سعمه كان خليقاً أن يصل إلى غايته أو يقرب منها. ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك وأخلاقنا من الفساد وأعمالنا من المخالفات، ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد، ولنشرع في ذلك غير محتقرين لأنفسنا ولا قانطين من رحمة ربنا ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله، وليكن دليلنا في ذلك وأمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا. ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق ويبصرنا في العلم ويفقهنا في الدين ويهدينا إلى الأخذ بأسباب القوة والعز والسيادة العادلة في الدنيا، ونيل السعادة الكبرى في الأخرى. وليس هذا عن العاملين ببعيد. وما هو على الله بعزيز.
رجاء وتفاؤل:
إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وأن ذلك وإن كان يبدو اليوم قليلاً لكنه - بما يحوطه من عناية الله وما يبذل فيه من جهود المصلحين - سيكون بإذن الله كثيراً وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين.
حقق الله الآمال وسدد الأعمال بلطف منه وتيسير، إنه نعم المولى ونعم النصير (1).
__________
(1) ش: ج1 م 7 ص 1 - 6 رمضان 1349 - فيفري 1931(1/300)
التَّكْرِيمُ الرَّبَّانِيُّ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
اللغة:
(كرمنا): الكرم ضد اللؤم، يوصف به الشيء لشرفه في ذاته بكمال صفاته أو لحسن أفعاله وما يصدر عنه من النفع لغيره، فيقال فرس كريم وشجرة كريمة وأرض كريمة إذا حسنت هذه الأشياء في ذواتها وكملت فيها صفات أنواعها، ويقال نفس كريمة إذا كملت بمحاسن الأخلاق التي بها كمال النفوس. وقالت بلقيس في كتاب سليمان عليه السلام: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (2). لأنه كان على أكمل ما تكون عليه الكتب من بيان اسم مرسله وذكر اسم الله تعالى في أوله وختم على ما فيه. هذا كله من كرم الذات بما كمل فيها من صفات. ووصف جبريل بأنه رسول كريم لشرف ذاته الملكية وحسن أفعاله بما كان على يده من نفع للخلق بتبليغ الوحي والهدى. وهذا من كرم الذات والأفعال، وهو الكرم الكامل الذي يكون بشرف الذات ونفع الأفعال. ويقال كرُم الشيء - بضم الراء- لازماً، ويتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال أكرمته
__________
(1) 7/ 17 الإسراء.
(2) 29/ 27 النمل.(1/301)
وكرمته بمعنى واحد، أي فعلت له فعلاً فيه رفعة له ومنفعة. فكرمنا بني آدم، أي فعلنا لهم ما فيه رفعتهم ومنفعتهم، من إنعاماتنا عليهم. (وحملناهم) من الحمل بمعنى الرفع أي أركبناهم ورفعناهم على المركوبات مثل قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (1). {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (2). {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (3). و {الطيبات} ما يطيب للأكل والشرب مما يلذ في الطعم وتحمد عاقبته، فلا يكون الطيب إلا حلالاً لأن غير الحلال- وإن لذ طعمه في بعض أقسامه فإنه- لا تحمد عاقبته بما فيه من إثم، وتبعة، وما يكون فيه من ضرر. (وفضلناهم): من الفضل بمعنى الزيادة أي صيرناهم ذوي فضل وزيادة في الكرامة كما تقول: فضلت زيداً على عمر في العطاء، أي صيرته ذا فضل وزيادة عليه فيه.
التراكيب:
متعلق حملناهم محذوف لقصد التعميم المناسب لمقام الإمتنان بالتكريم مع الإختصار، تقديره: على كل ما يصلح لحملهم عليه.
المعنى:
يقول تعالى: "ولقد أنعمنا على بني آدم نعماً عظيمة كثيرة في خلقتهم من تركيب أبدانهم وأرواحهم وعقولهم، وفي حياتهم بما
__________
(1) 93/ 9 التوبة.
(2) 13/ 54 القمر.
(3) 17/ 3 الإسراء.(1/302)
مكناهم منه من أسباب السلطان على غيرهم من الخلق من عالم الجماد والنبات والحيوان، وتسخير هذه العوالم لهم يحصلون منها منافعهم، فأوصلنا إليهم هذه النعم وكرمناهم بها فنفعناهم ورفعنا أقدارهم". ومن هذا التكريم والإنعام الذي فيه المنفعة وفيه الرفعة أننا سخرنا لهم ما يركبونه في البر والبحر ومكناهم من أسباب تسييره والإنتفاع به وإننا بثثنا لهم على وجه الأرض أنواعاً من المآكل والمشارب اللذيذة المباحة من النبات والحيوان والجماد، فخلقناها صالحة لغذائهم ومكناهم من أسباب تحصيلها وإصلاحها والتفنن فيها. فكان لهم بذلك كله زيادة بينة من نعمتنا، وفضل محقق على كثير من مخلوقاتنا.
مسائل:
المسألة الأولى: تكريم الله تعالى لخلقه، قسمان: أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام: فهو إخراجه لهم من العدم إلى الوجود، وإعطاؤه لكل شيء من خلقته اللائقة به من تركيب أجزاء ذاته وتعديل مادة تكوينه ومن أعضائه- إذا كان من ذوي الأعضاء- التي يحتاج إليها في حياته لجلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهدايته وإلهامه ما خلق صالحاً لذلك إلى استعمال تلك الأعضاء وطرق الجلب والدفع بها.
وأما الخاص: فهو تكريمه وإنعامه على عباده المؤمنين بنعمة الإسلام في الدنيا، وبدار السلام في الأخرى. والتكريم المذكور في هذه الآية من القسم الأول العام كما سيتبين في المسألة الرابعة.
المسألة الثانية: جميع المخلوقات التي أخرجها الله تعالى من الوجود إلى العدم وإن كانت متساوية في أصل التكريم العام. فإنها متفاوتة فيه بحسب تفاوتها في شرف الذات وكمال الخلقة. فعالم النبات أكثر حظاً في التكريم من عالم الجماد، وعالم الحيوان أكثر(1/303)
حظاً منهما، ونوع الإنسان أكثر حظاً في التكريم العام من جميع الحيوان.
المسألة الثالثة: عظم حظ الإنسان من هذا التكريم من جهة ذاته بحسن صورته واعتدال مزاجه، ومن جهة روحه بأنها من العالم النوراني العلوي وبأنها مع اتصالها بالبدن قابلة للتحلي بأكمل الصفات وأطهر الأخلاق، ومن جهة عقله الذي به إدراك الحقائق وحصول المعارف، وعرف الأسباب ومسبباتها ووجوه ارتباطاتها واتصالاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، فملك وساد واستفاد وأفاد.
المسألة الرابعة: هذا التكريم المذكور في المسألة السابقة هو عام للنوع الإنساني من حيث هو إنسان لا فرق فيه بين من آمن ومن كفر، لأنه راجع للخلقة الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع، والتمكين من أسباب المنافع الذي هو ثابت لجميع النوع بما عنده من عقل وتفكير. وهذا هو مقتضى العموم المستفاد من لفظ (بني آدم) ومثل هذا التكريم في العموم الحمل في البر والبحر والرزق لأنها من جملة التكريم، كما تقدم في فصل بيان المعنى.
المسألة الخامسة: تفضيل الله تعالى لمن يشاء من خلقه قسمان: تفضيل في الخلقة وتفضيل في الجزاء والمثوبة. فمن الأول تفضيل بني آدم المذكور في هذه الآية بما كرموا به وأعطوه في خلقتهم من الوجوه المتقدمة زائداً على كثير من مخلوقات الله مما كانت لهم به الرفعة والمنفعة لجميع نوعهم على العموم. ومن الثاني تفضيل المجاهدين على القاعدين في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).
__________
(1) 94/ 4 النساء.(1/304)
المسألة السادسة: إقتضى قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ}، أي بما كرمناهم به في خلقتهم أنهم لم يفضلوا على جميع مخلوقات الله، وأن بعض المخلوقات أفضل منهم في الخلقة وأكثر منهم كرماً في الجنس، فمن هو هذا المخلوق المفضل عليهم؟ هذا ما نبينه في المسألة التالية.
المسألة السابعة: إذا نظرنا في عوالم المخلوقات فإننا نجدها منقسمة إلى قسمين: قسم مشاهد، وقسم غير مشاهد علمناه بالوحي الصادق من الكتاب والسنة. فالقسم الأول: هو عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان، وهذا القسم كله قد فضل عليه الإنسان بميزة عقله التي ساد بها الجميع وبغيرها مما تقدم. والقسم الثاني: هو الملائكة والجن. فأما الجن، فالإنسان أشرف منهم خلقة وأكرم عنصراً فهم ظلمانيون خلقوا من النار. وهو ترابي وروحه من عالم النور الذي هو عالم الملائكة. فلذا كان أهلاً لاصطفاء الرسل منه كما اصطفيت من الملائكة ولم يصطف من الجن رسول ولا نبي. وأما الملائكة فخلقتهم أشرف من خلقة الإنسان وأكرم لأنهم خلقوا من نور محض منزهة لأجسام النورانية عن كثافة الأجساد الإنسانية الترابية واخلاطها وظلمتها. فلم يفضل عليهم النوع الإنساني عن الخلقة بل فضلوا عليه فهم غير الكثير الذي فضل عليه الإنسان.
المسألة الثامنة: المفاضلة تقع بين الملائكة وبني آدم على وجهين:
إما من جهة الخلقة وإما من جهة المثوبة. فأما من جهة الخلقة فقد عرفنا في المسألة المتقدمة أن الملائكة أفضل، والآية ظاهرة في ذلك ظهوراً بيناً. وأما من جهة الأجر والمثوبة فهو خارج عن معنى الآية وموضوعها. وأفضل الخلق - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل منهم قطعاً، وفي المفاضلة بين الأنبياء والملائكة في الأجر والثواب خلاف كبير وتفويض أمر ذلك إلى الله تعالى في مقام التذكير أسلم.(1/305)
سلوك المكرمين- حكمة الامتنان بتكريم الإنسان:
إمتن الله تعالى على بني آدم بهذا التكريم لهم في شرف الخلقة ورفعتها، وكثرة المنفعة وتيسير أسبابها تذكيراً لهم بنعمته ليشكروها فيزيدهم منها، وتعريفاً لهم بشرف أنفسهم ليقدروها فينتفعوا بها، فهذان الأمران هما الحكمة المقصودة بهذا الإمتنان. فلنتكلم عليها في الفصلين التاليين.
شكر العبد لنعمة ربه:
قد ابتدأنا بهذه الكرامة في الخلقة، بدون سعي منا ولا عمل، وهو المبتدىء بالنعم قبل استحقاقها. فمن قبل هذه الكرامة وشكرها كان من المكرمين، ومن لم يعرف قيمتها وكفرها كان من المهانين. ومن يهن الله فما له من مكرم، فلنقابل هذا التكريم في الخلقة بالشكر الجزيل بأن نعقد قلوبنا على تعظيم النعمة به، ونطلق ألسنتنا بالإعتراف والثناء على مسديه، ونستعمل هذه الخلقة الكريمة في مراضي ربنا وطاعته. متوسلين بشكر ما ابتدأنا به خالقنا من تكريم الخلقة، إلى ما وعد به الشاكرين من تكريم الجزاء والمثوبة، بأنواع ألطافه وإنعامه وجزيل فضله وإكرامه. فسبحانه ذا الجلال والإكرام.
معرفة العبد لقدر نفسه:
قد استودعنا خالقنا خلقة كريمة، فعلينا أن نعرف قيمتها وأن نقدرها قدرها. وحق على من كرمه ربه أن يكرم نفسه، فعلينا أن نكرم أنفسنا بتكريم أرواحنا بتنزيهها عن مساوىء الأخلاق وتحليتها بمكارمها. وتكريم عقولنا بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الإعتقادات وتكريم جوارحنا بتنزيهها عن المعاصي وتجميلها بالطاعات فنتحرى(1/306)
بأقوالنا وأفعالنا أكرم الأقوال وأكرم الأعمال. ونترفع عن جميع الرذائلة والدنايا، ونتباعد عن كل مواطن السوء والسفالة ونحفظ كرامتنا وشرفنا أمام الله والناس ونجتهد أن لا يمسنا بسوء لا منا ولا من غيرنا. فإذا قدرنا- هكذا- أنفسنا، وشكرنا- كما تقدم- ربنا بلغنا- بإذن الله تعالى- أبعد الغايات من التكريم والتفضيل.
يسرنا الله والمسلمين أجمعين لما يسر له عباده المكرمين المفضلين برحمتك يا أرحم الراحمين (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 7، ص 78 - 83 غرة شوال 1349 مارس1931(1/307)
الصَّلَاةُ لِأَوْقَاتِهَا
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
(أقم) أمر، من أقام، أي اجعلها قائمة وذلك بحفظها، والمحافظة عليها، وحفظها صونها من الخلل في شروطها، وأركانها من أقوالها، وأعمالها في الظاهر والباطن، والمحافظة عليها بالمداومة عليها في أوقاتها، (الصلاة): المراد الصلوات الخمس المكتوبة. (لدلوك) اللام، لام الأجل والسببية (الدلوك) هو الميل، وبدايته عند الزوال، ونهايته بالغروب. (إلى): لانتهاء الغاية، فغسق الليل هو نهاية غاية الإقامة. (الغسق): هو ظلمة الليل وبداية الظلمة بالغروب وتمامها بعد مغيب الشفق، عند اشتداد الظلمة. (قرآن الفجر): ما يقرأ به في صلاة الفجر- وهي الصبح- من القرآن، فسميت قرآناً من تسمية الكل باسم جزئه تنبيها على أهمية ذلك الجزء ومكانته. (مشهودا): محضورا.
التراكيب:
أفادت اللام السببية أن ميل الشمس سبب في وجوب الصلاة وإلى عند التجرد عن القرائن لا يدخل ما بعدها في حكم
__________
(1) 78/ 27 الإسراء.(1/308)
ما قبلها، لكن هنا قامت القرينة الشرعية- وهي مشروعية الصلاة في الليل- على أن ما بعد إلى داخل في حكم ما قبلها، فهو محل أيضاً لإقامة الصلاة فيه، وقرآن الفجر منصوب عطفاً على الصلاة، وخصصت بالذكر، لأنها لم تكن عند ميل الشمس، ولا عند الغسق، بل تكون عند الوقت الذي أضيفت إليه وهو الفجر. وجملة {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تذييل لتأكيد إقامته صلاة الفجر.
المعنى:
أقم يا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وأمره أمر لأمته لأنَّهم مأمورون بالإقتداء به- الصلاة لأجل ميل الشمس، فأَدِّ الظهر والعصر، وفي غسق الليل، فأَدِّ المغرب والعشاء، وأقم صلاة الفجر إنها صلاة مشهودة.
بيان وتوجيه:
هذه الآية قد انتظمت أوقات الصلوات الخمس، ووجه ذلك بوجوه: الأول: أن الظهر تكون أول الميل، والعصر تكون وسطه، وأن المغرب تكون عند أول الغسق، والعشاء تكون عند شدته بمغيب الشفق، والصبح عند الفجر. الثاني: أن الظهر عند أول الميل، والعصر عند وسطه، والمغرب عند نهايته، والعشاء عند الغسق، أي اشتداد الظلمة بمغيب الشفق. والفرق بين الأول والثاني أن الأول اعتبر المغرب عند بداية الظلمة، والثاني اعتبرها عند تمام الميل، وهما في الواقع متلازمان، فإنه إذا تم الميل ابتدأت الظلمة. الثالث: ولم أره لأحد واللفظ يحتمله- أن ميل الشمس يبتدىء بالزوال، وينتهي فيما يرى لنا بالبصر بمغيب الشفق، غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهد بمشاهدة ذاتها، وميلها بعد الغروب(1/309)
مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب إلى أن يغيب بتمامه، ولا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق، فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس، وأما غسق الليل، فهو اشتداد ظلمته، وذلك يكون على أتمه بعد مضي الثلث الأول من الليل، فيكون غسق الليل بهذا المعنى خارجاً عن حكم ما قبل إلى، لأن وقت العشاء ينتهي بانقضاء الثلث الأول، فالأوقات عند غسق الليل.
تفسير نبوي:
أخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال. سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار، في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. فاستشهد أبو هريرة بالآية على الحديث ليبين أنه تفسير لها، وأن صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار. وجاء هذا عند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً إلى النبي- صلى الله عليه وسبلم-. وجاء اجتماع الملائكة بأبسط من هذا عند مالك رحمه الله فأخرج في موطئه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون.
إستنباط:
من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية، أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها(1/310)
على غيرها، فإن قلت أن صلاة العصر أيضاً لها هذه المزية، كما تقدم في حديث مالك، قلت إن ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنص القرآن، ومتفق عليه في روايات الحديث، بخلاف العصر فقد جاء في بعض الروايات دون بعض وتبقى الفجر ممتازة بتخصيصها بالتأكيد في نص الكتاب وكفى هذا مرجحاً لها.
ترغيب وترهيب:
قد جاء عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الترغيب في امثثال هذا الأمر (أقم الصلاة) وفي الترهيب من مخالفته من الأحاديث ما فيه مقنع ومزدجر، فمما جاء فيهما حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً أستخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة رواه مالك وغيره. ومما جاء في الترغيب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل بقي من درنه شئ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شئ. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. رواه الشيخان في صحيحيهما، ومما جاء في الترهيب حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. رواه مسلم وغيره بنحوه. وحديث بريدة - رضي الله عنه - مرفوعاً العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.(1/311)
الأحكام:
قد قال بكفر تارك الصلاة جماعات كثيرة من الفقهاء والمحدثين سلفاً وخلفاً مستدلين بحديث جابر وحديث بريدة الصريحين في كفره، وذهبت جماعات أخرى كذلك إلى عدم كفره على عظم جرمه، مستدلين بحديث عبادة بن الصامت المتقدم الصريح في جعله في المشيئة، والكافر مقطوع له بدخول النار، ويجيبون عن حديث جابر وبريدة بأن المراد من كفر تارك الصلاة هو الكفر العملي، والكفر قسمان: إعتقادي وهو الذي يضاد الإيمان، وكفر عمل، وهو لا يضاد الإيمان، ومنه كفر تارك الصلاة غير المستحل للترك، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كذلك. وبهذا يجمع بين الأحاديث. وكفى زاجراً للمرء عن ترك الصلاة أن يختلف في إيمانه هذا الإختلاف.
تعليم:
في ربط الصلاة بالأوقات تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته، فللنوم وقته، وللأكل وقته، وللراحة وقتها، ولكل شيء وقته. وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته وتطرد له أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير من الأعمال. أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لا بد أن يضطرب عليه أمره ويتشوش باله، ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذة العمل، وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر، فقل سعيه، وكان ما يأتي به من عمل- على قلته وتشويشه- بعيداً عن أي إتقان. وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- مقسماً لزمانه على أعماله، وفيه القدوة الحسنة. فقد روى عياض - رضي الله عنه - في (الشفا) عن علي - رضي الله عنه - قال: كَانَ- صلى الله عليه وآله وسلم- إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ وَجُزْءًا(1/312)
لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ، فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، وَقِسْمَتُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ، مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ، وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ، وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ، وَيَقُولُ: لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ يَدْخُلُونَ رُوَادًا، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً ا. هـ.
فهكذا ينبغي للمسلم أن يقسم أوقاته على أعماله ويعمرها كلها بالخير. وكما ربط الله له صلاته بالأوقات، وهي من أمور دينه، كذلك يربط هو بالأوقات جميع أمور دنياه والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقصرنا على طاعته ويفقهنا في أسرار دينه، ويوفقنا إلى إتباع سنة رسوله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 7، ص 145 - 249 غرة ذي القعدة 1349هـ مارس 1931م.(1/313)
نَافِلَةُ اللَّيْلِ وَحُسْنُ عَاقِبَتِهَا
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
من: للتبعيض. الهجود، النوم والهاجد النائم وج (2) هجود ومنه (أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودٌ) والتهجد ترك الهجود، كالتحرج والتأثم في ترك الإثم والحرج، وبناء تفعل يكثر في التحصيل كتعلم وتقدم، وجاء قليلاً في معنى الترك، والمراد منه هنا ترك النوم للقيام بالعبادة، للنافلة. قال الجوهري: عطية التطوع من حيث لا تحب ومنه نافلة الصلاة ا. هـ. أي أن الصلاة مؤداة على وجه التطوع دون الوجوب، فلذا قيل فيها: نافلة. وهي على كلام الجوهري بمعنى الشيء الزائد، فهي إسم غير مصدر. قال أبو البقاء وغيره: النافلة الزيادة، فهي مصدر كالعاقبة. عسى: للرجاء، وهي من الله تعالى على الوجوب، لأن إطماعه تعالى لعباده في الجزاء على أعمالهم هو من وعده، ومحال عليه تعالى أن يخلفه. مقاماً: محل القيام. محموداً مثنياً عليه.
التراكيب:
من الليل متعلق بفعل محذوف دل عليه تهجد تقديره أسهر.
__________
(1) 79/ 17، الإسراء.
(2) كذا في الأصل ويقصد به (جمع).(1/314)
الضمير في به عائد على القرآن لتقدم ذكره ولا تراعى الإضافة. والباء باء الأداة لأن التهجد بمعنى التعبد يحصل بالقرآن، أي بالصلاة ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على الليل، فالباء بمعنى في، أي فيه. نافلة: مصدر منصوب بتهجد لاتفاقهما في المعنى. والتقدير: تنفل نافلة، وهذا يجري على الوجهين في معاد الضمير. ويحتمل أن يكون حالاً. وهذا يجري على عود الضيير على القرآن بمعنى الصلاة. مقاماً: إما مصدر من غير لفظ عامله الذي هو يبعثك بمعنى يقيمك من مرقدك، وإما ظرف أي يبعثك في مقام، ومحموداً: صفة لمقام، ولكن الذي يحمد حقيقة هو القائم في المقام، فجعل الحمد للمقام توسعاً تنبيها على عظم الحمد وكثرته، فإنه فاض على صاحب المقام حتى غمر مقامه.
المعنى:
أسهر بعضاً من الليل فتعبد بالقرآن في الصلاة زيادة على تعبدك به في صلاة فرضك فتكون على رجاء أن يبعثك ربك من مرقدك يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيقيمك مقاماً يحمدك فيه جميع الناس لما يرون لك من فضل وما يصل إليهم بسببك من خير.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: كيف يكون التهجد؟ فأمَّا اللفظ فإنه يفيد ترك النوم للعبادة فيشمل تركه كله أو بعضه بأن لم ينم أصلاً أو لم ينم أولاً ثم رقد أو نام أولاً ثم قام. لكن ثبت أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان ينام ثم يقوم، فبينت السنة العملية أن التهجد المطلوب هو القيام بعد النوم.
المسألة الثانية: هل كان قيام الليل فرضاً عليه: صلى الله عليه وسلم- دون أمته بمقتضى قوله تعالى {نَافِلَةً لَكَ}. قد ذهب(1/315)
إلى هذا جماعة كثيرة من أهل العلم سلفاً وخلفاً، ويرد عليه أن توجيه الخطاب إليه لا يقتضي تخصيص الحكم به كما في آية: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وآيات كثيرة، ولأن قيام الليل يقع من غيره فيسمى نافلة اتفاقاً، ولحديث عائشة - رضي الله عنها -: ((إن- الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة- تعني سورة المزمل- وهي مكية {قُمِ اللَّيْلَ} فقام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه حولاً وأمسك الله خاتمتها إثني عشر شهراً، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيامه تطوعاً بعد فرضه)). رواه مسلم. فهذا يدل على أنهم فهموا أن الأمر من قوله تعالى (قُمِ) لهم معه، مع أنه موجه إليه بخطاب الإفراد، وأنه كان فرضاً عليه وعلى الناس فصار تطوعاً عليه وعلى الناس، ولحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين وغيرهما ((قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تورمت قدماه - وهذا لمداومته على القيام كل ليلة ببضع عشر ركعة- فقيل له قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً (1) فلو كانوا يعلمون أن قيام الليل واجب عليه ويفهمونه من القرآن لما أنكروا مشفقين عليه أن يقوم بما هو واجب عليه، ولأن قوله: (أفلا أكون عبداً شكوراً) يفيد أنه متطوع بهذا القيام باختيار ليؤدي شكر نعمة ربه عليه، فإن قيل إن السؤال والجواب راجعان إلى تورم قدميه، وذلك ناشيء على المداومة قيل إذا أنكر الشيء الناشيء عن المداومة فقد أنكرت المداومة، والمداومة على الفرض لا تنكر، فبقي الدليل سالماً، ولهذا كله قال هؤلاء الموردون أن قيام الليل تطوع ونفل في حقه وفي حق أمته، وبقي للأولين أن يقولوا أن قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} خاص به- صلى الله عليه وآله وسلم- اتفاقاً، وقد جعل جزاء لتهجده بالليل، ولما كان الجزاء خاصاً به فالعمل المجزى عنه خاص به،(1/316)
فلهذا حملنا قوله على معنى دون غيرك ولما رأيناه واظب على التهجد ولم يتركه حملناه على أنه كان مفروضاً عليه، وحملنا نافلة على معنى أنها فريضة زائدة فوق الصلوات الخمس، فيقول المخالفون في هذا إنكم حملتم النافلة على الفريضة، وهذا خلاف أصل معناها الذي هو التطوع. وأما ما ذكرتم من خصوص الجزاء به فإنا نقول أن الخطاب موجه له في الأول وفي الآخر، ففي الأول لما لم يعارضنا معارض ألحقنا به أمته، وفي الثاني لما منعنا مانع وهو اختصاصه بالمقام المحمود لم نلحقهم به، وبقي الجزاء مساوياً للعمل في صورة اللفظ حيث كان كل منهما موجهاً إليه، وإذا تأملت في هذا البحث الذي سقناه أدركت أن القول بعدم الخصوصية هو الراجح، فالآية حثٌّ وترغيب على قيام الليل للعموم ووعد له- صلى الله عليه وآله وسلم- بالمقام المحمود.
المسألة الثالثة: ما هو المقام المحمود (هو مقامه - صلى الله عليه وسلم - للشفاعة العظمى) يشفع للخلائق وقد جهدوا من كرب الموقف فجاءوا إلى كبراء الرسل عليهم الصلاة والسلام يسألونهم أن يشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل القضاء ويريحهم من كرب الموقف فيتدافع الشفاعة أولئك الرسل صلوات الله عليهم ويتنصلون منها بأعذار رهيبة للرب جلّ جلاله حتى ينتهوا إليه - صلى الله عليه وسلم - فيتقدم فيشفع ويسأل فيعطى، كما جاء هذا كله مفصلاً في الأحاديث الصحيحة المستفيضة. فبحمده الخلق كلهم لما يرون من فضله عند ربه ولما وصل إليهم من الخير المطلوب بسببه.
إختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بالمقام المحمود ودليله:
ثم له - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الشفاعة العظمى شفاعات أخرى بينتها صحاح الأحاديث، ولعموم فضل هذه الشفاعة العظمى(1/317)
لأهل الموقف كلهم قال- صله الله عليه وآله وسلم- كما في صحيح مسلم ((أنا سيد الناس يوم القيامة)) والسيد من يتولى أمر السواد، فظهر عموم سيادته بعموم نفعه. وقد فسر المقام المحمود بمقام الشفاعة عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - رواه عنه البخاري في صحيحه وفسره بها غيره.
المسألة الرابعة: هل المقام المحمود خاص به؟ قد علمت من المسألة السابقة أنه مقام الشفاعة العظمى وهي خاصة به فهو خاص به ويدل عليه حديث جابر الصحيح: ((من قال حين يسمع النداء- الأذان- - اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته- حلت له شفاعتي يوم القيامة)) فهو - صلى الله عليه وسلم - الموعود بالمقام المحمود.
تنبيه وإلحاق:
قد جعل الله تعالى جزاء نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - على تهجده وخلوته بربه في مناجاته هذا المقام الذي يحمده فيه الخلق ويتقبل فيه شفاعته ويستجيب دعوته ويفتح عليه فيه بمحامد من ذكره لم يفتح عليه بها قبل، ففي هذا تنبيه للمؤمنين على حسن عاقبة القائمين لربهم في جنح الليل، وما يكون لهم من مقامات عند ربهم على حسب منازلهم. فكما كان المؤمنون ملحقين بنبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - في مشروعية هذه العبادة كذلك هم ملحقون به في حسن الجزاء عليها. وإن كان قد خصص هو عليه السلام بذلك الجزاء الأعظم فلهم جزاؤهم من مقامات القرب، والزلفى والقبول، والرضا، على ما يناسب منارلهم جزاء بما كانوا يعملون (1).
__________
(1) ش: ج، م 7، ص 220 - 230 غرة ذي الحجة 1349هـ - افريل 1931م.(1/318)
صِدْقُ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
مضى في الآيات السابقة ذكر الله تعالى ما كان من المشركين من الكيد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بمحاولتهم فتنته في دينه والله يثبته، ومبالغتهم في عداوته وإذايته، حتى كادوا يستفزونه ويزعجونه من أرض مكة فيخرجونه منها، وجاء بعدها أمر الله تعالى بإقامة الصلاة والتهجد بالليل، وفي ذلك أمر الله له بالقيام بعبادة ربه والتوجه والإنقطاع إليه وعدم المبالاة والاشغال عن مهام العبادة بهم، فجاء بعد ذلك الأمر الذي في هذه الآية بسؤاله أن يختار له، وفي ذلك تفويض أمره إلى ربه ورضاه بما يختار له. فالآيات السابقة أمر بالتجرد لعبادته، وهذه أمر بالتسليم لمشيئته، فبتلك يكون منقطعاً إليه، وبهذه يكون معتمداً عليه.
الألفاظ:
المدخل يكون بمعنى الإدخال ويكون بمعنى زمانه أو مكانه، الصدق: أصله وصف للقول بمعنى قوله ومطابقته للواقع.
__________
(2) 17/ 80 الإسراء.(1/319)
ويوصف به الفعل إذا وقع على وجهه، وكما ينبغي أن يكون. وتضاف إليه الأشياء الكاملة في أنفسها الحسنة في ظاهرها وباطنها. لدن بمعنى عند. السلطان: بمعنى التسلط، يصدق على التسلط على العقول بالحجة وعلى غيرها بالملك والولاية. النصير: بمعنى ناصر.
التراكيب:
مدخل ومخرج منصوبان على المصدرية أو على الظرفية.
المعنى:
قل يا محمد سائلاً ربك متضرعاً إليه، يا رب أدخلني إدخالاً حسناً كاملاً تساوي في ظاهره وباطنه في الحسن والكمال، وتماثلت بدايته ونهايته وحاله وعاقبته فيهما أكون فيه على بصيرة ويقين وثبات وقوة، وأخرجني إخراجاً كذلك- وإذا كان بمعنى الظرف كان المعنى أدخلني في مكان حسن أو زمان حسن .. الخ. وأخرجني كذلك- واجعل لي من عندك تسلطا بالحق على العقول بالحجة والبرهان وعلى الملك بالعدل والإحسان، ينصرني ويؤيدني على كل من يقف في طريق دعوتي إليك وهداية خلقك من جبابرة البغي أو رؤوس الضلال.
توجيه:
قدمنا احتمال المصدرية في مدخل ومخرج لأنه أعم والعموم أنسب بهذا الدعاء الجليل الذي ليس في ألفاظه ما يدل على التخصص ولما كان الذي يضاف إلى الصدق لا يكون إلا حسناً لا عيب فيه ثابتاً لا خلل فيه وصفنا الإدخال والإخراج بما وصفناهما به لأن ذلك كله من مقتضى الحسن والكمال والثبوت. ولما كان السلطان المطلوب هو من عند الله ولا يكون إلا سلطاناً بالحق سواء(1/320)
أكان في العلم أم في الحكم فسرنا، بالحجة والبرهان والعدل والإحسان.
ترجيح:
إذا نظرنا إلى ما تقدم من قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} قيل إن المراد بمدخل الصدق هو المدينة ومخرج الصدق هو مكة وتكون مكة مخرج صدق لأنه يخرج منها على حق ويقين وبصيرة وبإذن من الله تعالى وتأييده وتكون المدينة مدخل صدق لذلك كذلك. وإذا نظرنا إلى عموم اللفط حملنا الآية على العموم اعتباراً بحكم اللفظ ولا يفوت اعتبار المناسبة لما تقدم فإن الخروج من مكة ودخول المدينة يكون مما دخل في العموم دخولاً أولياً فالحمل على العموم - كما رأيت- محصل لاعتبار اللفظ واعتبار المناسبة ولذلك اخترناه.
تطبيق:
كل فرد من أفراد بني الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته لا ينفك عن المداخل والمخارج فكل ساعة يقضيها من حياته هي مدخل باعتبار دخوله فيها من غيرها ومخرج باعتبار خروجه منها إلى سواها. فإن قضاها صادق العقد صادق القول، صادق العمل وفارقها كذلك فهي مدخل صدق ومخرج صدق. وإن قضاها وفارقها سيء العقد سيء القول سيء العمل فهي ليست كذلك بل هي مدخل كذب وفجور ومخرج كذب وفجور. فالإنسان محتاج في كل لحظة من حياته لتوفيق الله وتأييده، وحفظه وإمداده، فجاء هذا الدعاء القرآني منبهاً على هذه العقيدة، مشتملاً على سؤال ما يحتاج إليه الإنسان في جميع شؤونه في حياته وأطواره فيه- من ألطاف ربه. ولما كان الإنسان في كل لحظة من حياته- لا بد- واجداً معارضاً(1/321)
وصاداً عن الخير والصدق وقاطعاً في طريق الحق- من نفسه وشياطين الإنس والجن- قرن الدعاء السابق بالدعاء الثاني الذي فيه طلب التأييد من الله بالسلطان المبين، فالدعاءان- على (1) اختصارهما وإيجازهما- قد جمعا للإنسان كل حاجته من تحصيل الخير ودفع الشر فهما من أعظم الأدوية الربانية للإنسان ومن أعظم وسائله الشرعية إلى خالقه، فما أحراهما بأن يلهج بهما في كثير من أوقاته.
إستنباط:
إذا علمنا الله تعالى دعاء ففي ضمن ذلك التعليم تعليم آخر لنا كيف نعمل ما يناسب ذلك الدعاء وكيف نسلك السلوك الذي هو مظنة الاستجابة، فلما علمنا تعالى- مثلا- كيف ندعوه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كان في ذلك إرشاد لنا إلى سلوك الطريق المستقيم والإهتداء بأهله والمباينة لغيرهم، فكذلك هنا لما علمنا كيف ندعوه بالحفظ والتوفيق في المدخل والمخرج كان في ذلك إرشاد لنا إلى ما ينبغي لنا أن نكون عليه في مداخلنا ومخارجنا وجميع مصادرنا ومواردنا من تحري ما فيه مرضاته واجتناب ما فيه سخطه، ولما علمنا كيف ندعوه بالتقوية والتأبيد بسلطان من لدنه مبين كان في ذلك إرشاد لنا أن نكون أهل قوة في الأيدي وقوة في البصائر ودفاع عن الحق بما استطعنا من قوة.
سلوك وامتثال:
فعلينا أن لا ندخل في أمر إلاَّ على بصيرة به وعلم بحكم الله تعالى فيه، وأن دخوله خير، وأن لا نخرج من أمر إلا على بصيرة
__________
(1) في الاصل: على ان اختصارهما وايجازهما.(1/322)
وعلم كذلك، لا فرق بين أمر وأمر من كبير وصغير وجليل وحقير ونكون- مع بذل غاية ما عندنا من نظر واختيار- معتمدين على ربنا واثقين بحسن اختياره لنا مسلمين له فيما اختاره، ضارعين له مظهرين فقرنا وحاجتنا في كل حال. وعلينا أن نحصل من الأسباب ما يحصل لنا قوة العلم وقوة العمل لنكون أهلاً للدفاع عن الحق وحزبه، ومقيمين لسلطان الله في أرضه بالحق والعدل والإحسان. معتمدين- مع تحصيل تلك الأسباب- على الله وحده ومنتظرين منه الفرج والتيسير.
هذان هما الأصلان الأساسيان في سلوك أهل الله: التمسك بالحق ومدافعة الباطل، فاستمسك بهما تكن- بإذن الله- من الفائزين.
مَجِيءُ الْحَقِّ وَزُهُوقُ الْبَاطِلَ وَاسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الصَّادِقِينَ:
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1)
المناسبة:
لما أمر الله تعالى نبيه أن يدعوه بحسن المدخل والمخرج والنصرة والتأييد أمره أن يعلن استجابته لدعوته بمجيء الحق وفي ذلك نصره، وذهاب الباطل وفي ذلك هلاك أعدائه وذهاب دولتهم. هذا على النظر العام، وأما على النظر الخاص فإن الله تعالى بعد ما ذكر أن أعداءه كادوا يستفزونه من الأرض وأمره أن يتوجه إلى عبادته ودعائه ذكر في هذه الآية ما كان من نصره على المشركين وفتح مكة عليه وتنكيس الأصنام التي هي باطلهم وإعلان كلمة التوحيد
__________
(1) 17/ 82 الإسراء.(1/323)
الذي هو دينه وهدايته. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه الآية عندما كان يشير إلى الأصنام فتسقط إلى الأرض.
ففي الصحيح من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل مكة (يعني عام الفتح) وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد".
الحق الثابت الذي لا يعتريه زوال الباطل الذي لا ثبات له في نفسه. فالإسلام حق ويشمل كل ما هو طاعة. والشرك والكفر باطل ومثله كل ما هو معصية. زهقت الروح: خرجت، وزهق الباطل: ذهب واضمحل. الزهوق: الهالك الذاهب.
التراكيب:
جملة أن الباطل كان زهوقاً إطناب بالتذييل، المخرج إخراج المثل لتأكيد منطوق الكلام السابق. وشبه الباطل الذي غلب بأدلة الحق فزالت شبهه من الأذهان وطواغيته من الأرض بالحيوان الذي صرع فذبح فزهقت روحه وذهب على طريق المكنية حيث حذف المشبه به، وهو الحيوان المصروع المذبوح، وذكر المشبه وهو الباطل المغلوب، وأشير إلى المحذوف بذكر لازمه وهو الزهوق.
المعنى:
وقل يا محمد- معلنا بما أظهر الله على يدك وما قضى به من نصرك وما أجاب من دعائك- جاء الإسلام والتوحيد بأدلته وحججه وقوته وسلطانه، وذهب الكفر والشرك فبطلت شبهه.
واضمحلت دولته وأصبح الحق غالباً والباطل مغلوباً، وكذلك كان الباطل شأنه الذهاب والإضمحلال.(1/324)
صدق وعد الله جل جلاله:
نزلت هذه الآية بمكة والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم يلقون من المشركين ما يلقون، والمسلمون في ضعف- من العدد- وقلة، والمشركون في قوة وكثرة. فكانت هذه الآية وعداً بما سيكون من غلبتهم وقوتهم وكثرة عددهم فيبطل الشرك ويذهب سلطانه.
وقد صدق الله وعده ففتح عليهم مكة، وتمت لهم على المشركين النصرة، وللإشارة إلى إنجاز هذا الوعد وصدق الخبر قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية يوم فتح مكة كما تقدم.
تفصيل:
مجيء الحق هو بظهور أدلته وقيام دولته، وزهوق الباطل هو ببطلان شبهه وذهاب دولته. فأما القسم الأول فإنّ الأمر فيه ما زال ولن يزال كذالك ولن تزداد على الأيام أدلة الحق إلا اتضاحاً، ولن تزداد شبه الباطل إلا افتضاحاً. وأما القسم الثاني فإنه مرتبط بأحوال أهل الحق وما يكون عليه من تمسك به وقيام فيه، أو إهمال له وقعود عنه فيدال لهم ويدال عليهم بحسب ذلك.
عقيدة:
يرتبط قلب المسلم مطمئناً على أن ما هو عليه من الإسلام حق لا شك فيه وأنه يومئذ منصور ما تمسك به وأنه إذا خذل فإنما جاءه ذلك من ناحية نفسه، وعلى أن ما عدا الإسلام هو باطل لا شك فيه، وأن صاحبه هالك عند ربه وأن ما يكون له من سلطان لم يأته من جهة باطله وإنما جاءه من أسباب عمرانية مما يقتضيه الحق وفرط فيه أهله فحرموا ثمرته.(1/325)
سلوك:
على أهل الحق أن يكون الحق راسخاً في قلوبهم عقائد، وجارياً على ألسنتهم كلمات، وظاهراً على جوارحهم أعمالاً يؤيدون الحق حيثما كان، وممن كان، ويخذلون الباطل حيثما كان وممن كان. يقولون كلمة الحق على القريب والبعيد، على الموافق والمخالف، ويحكمون بالحق كذلك على الجميع. ويبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نشره بين الناس وهدايتهم إليه بدعوة الحق، وحكمة الحق وأسبابه ووسائله. على ذلك يعيشون وعليه يموتون. فلنجعل هذا السلوك سلوكنا، وليكن من همنا. فما وفينا منه حمدنا الله تعالى عليه، وما قصرنا فيه تبنا واستغفرنا ربنا. فمن صدقت عزيمته ووطن على العمل نفسه - أعين ويسر للخير. وربك التواب الرحيم (1).
__________
(1) ش: ج4، م 7، ص 224 - 231 غرة ذي الحجة 1349هـ - أفريل 1931م(1/326)
الْقُرْآنُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما جاء في الآية السابقة الإخبار بمجيء الحق، وفي مجيئه صحة الأرواح والأبدان والأحوال، وبزهوق الباطل وفي ذهابه ذهاب العلل والأمراض كذلك- جاء في هذه الآية بذكر القرآن والإخبار كما جاء فيه من الشفاء والرحمة تنبيهاً على أنه هو الشافي من أمراض الباطل وعلله، وأنه هو مصدر الحق وحجة ناصره، ومحصل الرحمة لأتباعه والمتمسكين به.
المفردات:
من: لابتداء الغاية أو للتبعيض، لأنه نزل مبعضاً، فكل بعض نزل منه فهو شفاء ورحمة. الشفاء: البرء من المرض، مرض الأبدان أو مرض النفوس. الرحمة: النعمة. الظلم: وضع الشيء في غير محله، كوضع الكفر موضع الإيمان. الخسار: النقص والضياع يكون في الأموال، يقال خسر ماله إذا ضيعه، ويكون في النفوس فيقال خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خلقت له من الطاعة والكمال، ويكون في الدين فيقال خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به. فخاسر القرآن هو من ضيعه ولم يؤمن به.
__________
(1) 82/ 17 الإسراء.(1/327)
التراكيب:
قرنت جملة (نُنَزِّلُ) بالواو مع أن ما قبلها إنشائية وذلك على وجهين: الأول أن تكون معطوفة على جاء الحق، أي وقل ننزل، فعطفت الخبرية على الخبرية التي لها حل، وهو المفعولية بالقول. الثاني: أن تكون الواو للإستئناف وهي في الحقيقة صلة في الكلام لتقويته وقرنت جملة لا يزيد بالواو لأنها معطوفة على جملة الصلة، وعبر بالمضارع في ننزل ويزيد قصداً لمعنى التجدد لأن الآيات كانت تنزل شيأ فشيأ وتنكير شفاء ورحمة للتعظيم. وقدم الشفاء لأنه برء من النقص على الرحمة لأنها حصول الكمال تقديم التخلية على التخلية وآيات القرآن الكريم سبب في حصول الشفاء فجعلت هي شفاء على طريق المبالغة تنبيهاً على تحقق حصوله بها.
المعنى:
وننزل عليك يا محمد بسبب الوقائع والمناسبات آيات من القرآن العظيم، هي شفاء يستشفي بها المؤمنون، ونعمة عظيمة أنعمنا بها عليهم، يؤمنون بها ويحلون حلالها، ويحرمون حرامها، ويعملون بما فيها، فينالون سعادة الدنيا والآخرة. أما الكافرون الظالمون الذين قابلوا بالكفر ما يجب أن يقابل بالإيمان وقابلوا بالرد ما يجب أن يقابل بالقبول فإن نزول تلك الآيات يكون سبباً في زيادة خسارهم وضياع الخير عليهم. إذ كل آية من تلك الآيات كانت كافية في شفائهم لو استشفوا بها ونزول الرحمة عليهم لو اهتدوا بها إلى الإسلام لكنهم يقابلون كل آية بالكفر والجحود فيخسرون في كل مرة كنزاً عظيماً، وهكذا يزداد خسارهم بقدر كفرهم المتجدد بنزول الآيات.
تنظير:
وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه،(1/328)
ومنها قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1). ومنها في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (2).
وأفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان الذين يؤمنون دون غيرهم فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين، وجاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول من هداية القرآن، وأصل لغيره. فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء ونزغات الشكوك واعتقدت الحق وارتبطت على اليقين زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده وجماعاته، ورقي درجات الكمال، فلا ينافي ذلك أن القرآن شفاء أيضاً للنفوس من سيء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه وآية فصلت (3) لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد ولازمة لها ولأنهما كليهما- العقائد والأخلاق- لا تكمل النفس الإنسانية إلا بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضاً حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضاً ومقتضى ما سيأتي من الآثار، وإن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.
__________
(1) 57/ 10 يونس.
(2) 44/ 31 فصلت. وفي الأصل (السجدة) بدل (فصلت).
(3) أصلحنا (السجدة).(1/329)
تقسيم:
الأمراض الإنسانية قسمان أمراض أرواح وأمراض أبدان، وكلاهما أنواع. وأمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين: مرض العقول ومرض النفوس، فالأول بجمود النظر وفساد الإدراك وتقليد الآباء واعتقاد الباطل والشك في الحق. والثاني بفساد الأخلاق وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما، والقرآن قد جاء داعياً إلى النظر والتفكر والإعتبار والتدبر، مبيناً- بما ساق من حجج الله وحجج رسله- الطريق الأقوم في الإدراك الصحيح. والسبيل الأشد في الفهم والتفهيم ناعياً على المقلدين تقليدهم، كاشفاً لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكراً من قواطع البراهين البينة الواضحة ما لا يبقى معه خفاء في الحق ولا ريب. وجاء أيضاً مبيناً للأخلاق الفاسدة وذاكراً سوء أثرها وقبح مغبتها، مبيناً كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها وحسن عاقبتها فهذا شفاؤه للنفوس والعقول. وهو راجع إلى تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح وكمالها وعليهما قوام الهيئة الإجتماعية وانتظامها. على أن القرآن هو شفاء للإجتماع البشري كما هو شفاء لأفراده فقد شرع من أصول العدل وقواعد العمران ونظم التعامل وسياسة الناس ما فيه العلاج والدواء الشافي لأمراض المجتمع الأنساني مع جميع أمراضه وعلله. شفاء العقائد والأخلاق- وهما أساس الأعمال- والمجتمع. هذه الثلاثة لا تكاد تخلو آيات القرآن من معالجتها وبيان ما هو شفاء لها. ولا شفاء لها إلا بالقرآن- وبيان النبي راجع إلى القرآن- ومن طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلا مرضاً، فهذه الأمم الغربية بسجونها ومشانقها ومحاكمها وقوتها قد إمتلأت بالجنايات والفضائح المنكرة التي تقشعر منها الأبدان، وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية(1/330)
كالمملكة النجدية الحجازية والمملكة اليمنية قد ضرب الأمن رواقه عليهما واستقرت السكينة فيها دون سجون ولا مشانق مثل أولئك، وما ذلك إلا لأنهم داووا الملك بدواء القرآن فكان الشفاء التام.
وأما الأمراض البدنية فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" رواه البخاري من طريق أبي هريرة وقال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى" رواه مسلم من طريق جابر، وثبت عنه أنه داوى وتداوى، وروى الأئمة من ذلك عنه الكثير الطيب في كتاب الطب من صحيح البخاري وغيره. وثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن العظيم، وأقر على ذلك من فعله من أصحابه. روى البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلى فراشه" وروى الشيخان واللفط للبخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: "انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطع من الغنم فانطلق يتفل عليه(1/331)
ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط (1) من عقال (2). فانطلق يمشي وما به قلبة (3). قال: فأوفهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم أقسموا فقال الذي رقي لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكروا له فقال وما يدريك (4) أنها رقية. ثم قال: قد أصبتم، أقسموا واضربوا لي معكم سهماً، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فثبت بهذين الحديثين أن في القرآن شفاء للأبدان، وحصل عندنا من جميع ما تقدم أنه شفاء للأرواح والأبدان للأفراد والمجتمع.
مداواة الأبدان، بالطب والقرآن:
ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمر بالتداوي قولاً وعملاً، وثبت عنه الإستشفاء بالقرآن، ولا منافاة بينهما، فإن الإنسان مركب من روح من عالم النور وجسم من عالم المادة المركبة. فمن الحكمة الإلهية أن شرع الله لنا عند الأمراض على لسان رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - الجمع بين الأدوية المادية التي هي المناسبة للبدن والآيات القرآنية التي هي المناسبة للروح مع ما في الأدوية القرآنية من اطمئنان القلب بالله وقوته به وانتعاشه بذكره وفي ذلك من تقوية للروح ونعيمها ما يهون عليها ألم المرض ويغلبها بإذن الله تعالى عليه. ومثل الآيات القرآنية في ذلك كل ما ثبت من الرقي النبوية المأثورة.
__________
(1) حل.
(2) حبل يشد به ذراع البهيمة.
(3) بحركات، أي علة.
(4) تعجب من وقوفه على أنها رقية وإصابته في ذلك.(1/332)
تحذير:
فرط قوم فأهملوا الإستشفاء بالذكر المأثور واقتصروا على الدواء المادي فحرموا أنفسهم من خير كبير إذا لم يكونوا له كالمنكرين، وأفرط آخرون فأهملوا الدواء المادي وزهدوا الناس فيه وتزيدوا في جانب المأثور حتى خرجوا عنه واتخذوا لهم من ذلك حرفة ومورداً لمعاش ونسوا أنواع أشفية القرآن الروحية والإجتماعية التي هي المقصودة بالقصد الأول من تنزيله، مقتصرين على الوجه الذي وجدوا منه سبيلاً إلى الإسترزاق على ما أحدثوا فيه وما ابتدعوا. فعكسوا الأمر وخالفوا السنة ووقعوا في المحظور من عدة وجوه. هذان الطرفان مذمومان. والعدل هو الوسط الذي لا يهمل هذا ولا ذاك ويقف في الوارد عندما ورد ويتناوله على ما ورد.
تطبيق:
نزول الآيات في الكافرين لا يمنع من تطبيقها على من شاركهم في مثل الحال الذي أنكرته عليهم من المؤمنين لأن الوصف المذموم سواء أكان المتصف به مؤمنا أم كان كافراً. فالذين تتلى عليهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتوضح لهم الدلائل الشرعية وهم عنها معرضون وعن تدبرها غافلون وبها متهاونون- يزدادون بكل مرة إثما بإعراضهم وغفلتهم وتهاونهم فيخسرون بقدر ما بقوتهم من الهداية على حسب حالهم، وإذا لم يكن خسارهم كخسار الكافرين فهو كخسار المعرضين الغافلين المتهاونين، وكفى به خساراً يتنزه عنه المؤمنون ويأباه الراشدون.
سلوك:
نتناول القرآن العظيم دواء من عند ربنا شفاء لأمراض عقولنا، وأمراض نفوسنا، وأمراض مجتمعنا، فنتطلب ذلك منه بتدبر آياته(1/333)
وتفهم إشاراته ووجوه دلالاته، وشفاء أيضاً لأبداننا فنفعل كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه على ما تقدم في حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها. وعلى ما جاء من نحو ذلك مما ثبت عنه - عليه وآله الصلاة والسلام - وانتهى إليه علمنا. غير مقصرين ولا غالين وعلى ربنا متوكلين، سائلين أن يشفينا بالقرآن الكريم أجمعين آمين يا رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 5 م 7 ص 289 - 295. محرم 1350 - ماي 1931(1/334)
صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ: الْإِعْرَاضُ مِنَ النِّعْمَةِ - وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
في النوع الإنساني غرائز غالبة عليه لا يسلم منها إلا من عصم الله أو وفق إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي آيات القرآن العظيم بيان لكثير من تلك الغرائز للتحذير من شرها والتنبيه على سوء مغبتها، منها هذه الآية الكريمة.
المناسبة:
لما ذكر الله- تعالى- أن القرآن يكون شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، بين تعالى سبب خسار أولئك الظالمين، وهو إعراضهم عن الله وبعدهم منه ويأسهم من رحمته. وعلم منه أن المؤمنين الذين كان القرآن لهم شفاء ورحمة هم على الضدِّ منهم، فهم أهل إقبال على الله- تعالى- وقرب منه ورجاء فيه.
المفردات:
(أنعمنا): أوصلنا أنواع الإحسان. (الإنسان): المراد به النوع باعتبار مجموعه، فلا ينافي خروج أفراد كثيرين بالعصمة والتوفيق
__________
(1) 83/ 27 - 84 الإسراء.(1/335)
(أعرض): صد بوجهه إلى ناحية أخرى، فأرى عرض وجهه، أي ناحية وجهه. (نئا): بعد. (بجانبه): بناحيته، بشقه الأيمن أو الأيسر، والباء للتعدية، أي أبعد جانبه. (مسه): أصابه. (الشر): البلايا والرزايا بأنواعها. (يئوسا) شديد اليئوس والقنوط وعدم انتظار الفرج.
التركيب:
جييء بفعل الشرط وجوابه ماضين لتحقق وقوعهما، ولذلك كان التعليق بإذا، وجواب الشرط والفعل والمعطوف عليه فيهما الصورة التامة للمعرض غاية الإعراض، فإنه يصرف عنك وجهه، وهذا مفاد الفعل الأول. ويلوي عنك عطفه ويعد جانبه ويوليك ظهره، وهذا مفاد الفعل الثاني. ثم هما كناية عن الإستكبار وعدم الإكتراث والإلتفات إلى مولى النعم، سواء حصلت هذه الصورة بالفعل أو لم تحصل.
المعنى:
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض تمام الإعراض إما بعدم قبول تلك النعمة استكباراً أو تهاوناً، كما يكون من الذين يكفرون بالقرآن أو يخالفونه، وهو من أعظم نعم الله عليهم، وإما بعدم القيام بحق الله في تلك النعمة وعدم شكره عليها، كنعمة العقل والبدن والحال وغيرها إذا لم تستعمل في طاعة الله ولم يقم بحقه فيها. وإذا مس الإنسان الشر ونزلت به المصائب وحلت به النوائب إستولى عليه اليأس والقنوط وانسدت في وجهه أبواب الرجاء.
توجيه:
يرتبط اليئوس من رحمة الله بالإعراض عن نعمته من جهتين: الأول أن من أعرض عن نعمة الله فقد قطع صلته بخالقه وذهب ممعنا في(1/336)
بعده فإذا نزلت به المصيبة كان كالمنقطع به في البيداء يجد نفسه وحده فيأخذه اليأس والقنوط من كل جانب، الثانية أن الإعراض عن النعمة ترك لها ولموليها، والآيس متروك لوحده مغضوب عليه قد ترك فترك وكان جزاؤه من جنس عمله.
إنتقال واعتبار:
هذه حالة أهل الإعراض، أما أهل الإقبال على الله تعالى والقبول لإنعامه فإن قلوبهم عامرة بالله وصلتهم متينة به، فإذا نزلت بهم المصائب رجعوا إليه وانتظروا رحمته، فكان ذكره غناهم في الفقر وإنسهم في الوحشة، ونعيمهم في الألم. وكان لهم من الرجاء في أنواع رحمته ما يهون عليهم جميع المصائب.
تبصير وتحذير:
بصرنا القرآن في هذين الوصفين الذميمين الإعراض عن النعمة، واليؤس من الرحمة، ونحن نراهما فاشيين في أكثر الناس على تفاوت بينهم على حسب ما عندهم من إيمان وعمل صالح. بصَّرنا القرآن بهما ليحذرنا منهما ومن سوء عواقبهما، فإن الإعراض عن النعمة كفر بها ومقتض لسلبها، وأن اليئوس من رحمة الله جهل به وكفر بما هو متقلب فيه من نعمه وموجب لانطماس القلب وشلل البدن وانقطاع الأعمال. فليحذر المؤمن من هذين الوصفين الذميمين وليعمل على اجتنابهما واجتثاثهما من أصلهما.
سلوك:
على المرء أن يقبل نعم الله تعالى ويقبل عليها إقبال المستعظم لها، العارف بحقها وعظيم الفضل بها، ليقوم بشكرها وذكر الله عندها، وليتفحصهما وليتأملها نعمة نعمة، ليشكر الله عليها واحدة واحدة، بالقلب واللسان، وإلا كان حسب المستطاع حتى ما يكون من باب(1/337)
المصائب والآلام فإنه يتناوله على أنه نعمة من الله تعالى بها فيه من أجر وتمحيص، وما يحصل به من رجوع وإنابة، وما يكون منه من تربية وتدريب على السلوك اللازم في الحياة الفردية والإجتماعية:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1).
وليكن دائماً متمسكاً بحبل الرجاء في الله في تسيير الأسباب وكشف الكروب ودفع المكروه، فالرجاء حسن ظن في الرب وقوة في القلب وباعث على العمل ومخفف أو مذهب للألم. فياله من طاعة عظيم أجرها جليل نفعها في الدنيا والدين، فهنيئاً للشاكرين الراجين، ويا ويح الكافرين- كفر عقيدة أو كفر نعمة- القانطين.
مُبَايَنَةُ سُلُوكِ أَهْلِ الْحَقِّ لِسُلُوكِ أَهْلِ الْبَاطِلِ:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (2).
المناسبة:
قد استفيد مما تقدم تقسيم الخلق إلى قسمين: أهل إيمان ورجاء، وأهل كفر وقنوط، فجاء البيان في هذه الآية بأن كل فريق له مذهبه وطريقه الذي يكون عليه.
المفردات:
(شاكلته): طريقته ومذهبه. المشاكلة له اللائقة به التي صارت له طبيعة وخلقاً. (أهدى سبيلا): أسد مذهباً وأقوم طريقاً.
__________
(1) 42/ 30 الشورى.
(2) 17/ 84 الإسراء.(1/338)
التراكيب:
التعبير بالمضارع مع لفظة على يفيد تجدد العمل وانبناؤه على الخلق والطبيعة.
المعنى:
قل يا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- كل فريق منا ومنكم يعمل في حياته على طريقته ومذهبه. فأعمالنا مباينة لأعمالكم لأن طريقتنا مباينة لطريقتكم فربكم أعلم بمن هو أقوم طريقاً وأسد مذهباً، فيثبت المهتدين ويعاقب الضالين.
ومن فوائد الآية الكريمة إستدراج الضال لقبول الهداية.
وذلك بمناصفته بأنك على ناحيتك وهو على ناحيته، وإظهار التساوي معه أمام علم الله وقدرته، وهذا من أنفع الأسباب في نجاح الدعوة، وعليه في القرآن آيات كثيرة منها سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) فينبغي لدعاة الحق أن يلتزموه ولا يهملوه. والبراءة من أهل الباطل. وذلك بإعلان المباينة والمخالفة لهم في عملهم وما انبنى عليه عملهم بأسلوب المناصفة الذي جاءت به الآية فتحصل البراءة مع الفائدة المتقدمة.
إنبناء الأعمال على العقائد والأخلاق فإن الآية، وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين ثم لأمثالهم من الكافرين فإنها تفيد أن كل واحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته التي هي خلقه وطبيعته، ونأخذ من هذا أن الذي نوجه إليه الإهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر. وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فعل
__________
(1) 1/ 109 الكافرون.(1/339)
المؤمن ما يناسب إيمانه: فإن كل أحد يعمل على طريقته وطبيعته اللائقة به، ولا يليق بالمؤمن ولا يشاكله إلا الصدق في القول والعمل والعدل والاحسان والوفاء والأمانة، فلا يظلم من ظلمه ولا يخون من خانه ولا يكذب على من كذب عليه، فلا تجرى أفعاله في مقابلة الناقص على ما يشاكل ذلك الناقص، بل تجرى أفعاله على ما يشاكله هو في إيمانه وكماله.
مراقبة الله في السلوك:
فإن علمنا بأنه أعلم بمن هو أهدى سبيلاً يدعونا إلى المبالغة في تقويم سلوكنا حتى تكون على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فإنه هو أهدى الطرق وأقربها، وما ذلك الصراط المستقيم إلا القرآن العظيم والهدي النبوي الكريم وسلوك السلف الصالح، وذلك هو دين الإسلام.
نسأل الله تعالى أنَّ لنا ولجميع المسلمين الإستقامة والنجاة يوم القيامة بمنه وكرمه آمين (1).
..
__________
(1) ش: ج7 م7 ص423 - 428 ربيع الأول 1350 - جويليه 1931(1/340)
الْوُدُّ مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
سبب النزول، ووعد السابقين:
كان السابقون الأولون من المؤمنين أول الاسلام بمكة -مبغوضين من أهل مكة المشركين مهجورين منهم مزهوداً فيهم. ومن أشد الآلام على النفس وأشقها أن يعيش الإنسان بين قومه مبغوضاً مهجوراً، مزهوداً فيه، خصوصاً مثل تلك النفوس الحية الأبية. فأنزل الله هذه الآية تأنيساً لأولئك السادة ووعداً لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنه سيجعل لهم وداً فيصيرون محبوبين مرغوباً فيهم.
وقد حقق الله وعده: فكان أولئك النفر بعد السادة المقدمين من أقوامهم وعشائرهم لسبقهم وفضلهم وكانوا- وهم قادة الجيوش في الفتوحات الاسلامية- المحبوبين هم وجيوشهم المرغوب فيهم من الأمم التي فتحوها لعدلهم ورحمتهم ورفعهم لنير الإستعباد الديني والدنيوي الذي كانت تئن تحته تلك الأمم، وأثبت التاريخ أن بعض الأمم الأجنبية دعتهم إلى إنقاذها من أيدي رؤسائها. فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز بالإعلام بما يتحقق في الإستقبال مما هو كالمحال في الحال فكان على وفق ما قال.
عموم الوعد لعموم اللفظ:
الإيمان- وهو التصديق الصادق المثمر للأعمال- والأعمال
__________
(1) 96/ 19 مريم.(1/341)
الصالحة- وهي المستقيمة النافعة المبينية على ذلك الإيمان- هما اللذان جعلهما الله سبباً في تحقيق جعل هذا الود لما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
فيعم ذلك كل أهل الإيمان والعمل الصالح. وهم أولياء الله و {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}
سبب الود وسبب الجعل:
تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم، منها القرابة ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان. أما هذا الود الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم دون تودد منهم ولا توقف على تلك الأسباب فيودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة ولا وصل إليه منهم معروف فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويجددها لهم زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح- ومنه الإحسان- من مودة القلوب. أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله لهذا الود والإكرام به فهو الإيمان والعمل الصالح، وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى. هذا الجعل للود منها.
بشارة وتثبيت:
في الآية من سبب نزولها بشارة لدعاة الحق وأنصار السنة ومرشدي الأمم عندما يقومون بدعوة القرآن في عشائرهم ويلقون منهم النفور والإعراض والبغض والإنكار ويجدون أنفسهم غرباء بينهم، يعاديهم من كانوا أحبابهم ويقاطعهم أقرب الناس قرابة إليهم، ويصبح يؤذيهم(1/342)
من كان يحميهم ويدافع عنهم- في الآية بشارة لهم بأن تلك الحالة لا تدوم وأنهم سيكون لهم على كلمة الحق مؤيدون وفي الله محبون، وسيكون لهم ود في القلوب ممن يعرفون وممن لا يعرفون. وفيها أيضاً تثبيت لهم في تلك الغربة ووحشة الإنفراد بما يكون لهم من أنس الود وأي ود هو. ود يكون من جعل الرحمن.
دفع إشكال:
الآية منظور فيها إلى مجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وغالبهم، فلا يشكل علينا أن منهم من يموت في غربة الحق قبل أن يكون له على الحق أنصاره، ومنهم من يموت غير معروف من الناس. كما أن الود الذي يجعل لهم غير منظور فيه للعموم فلا يشكل ببغض من يبغضهم تعصباً لهوى آو تقليداً لضال أو حرصاً على منفعة ومحافظة على جاه أو منصب أو مال.
تفسير نبوي:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اذا أحب عبد دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول اني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي (جبريل) في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض) رواه بهذا اللفظ مسلم ورواه البخاري وغيرهما. وزاد الطبراني: (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم):
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}
فارتبط الحديث بالآية بزيادة الطبراني. وبين النبي- صلى الله عليه وسلم-(1/343)
بقراءة الآية أن هذا القبول الذي يجعل لمن أحبه الله في أهل الأرض- والمراد بهم من يعرفونه منهم- هو نوع الود المذكور في الآية، وبين أن أهل القبول في الأرض محبوبون في أهل السماء قبل أهل الأرض، وبين أن سبب ذلك القبول هو محبة الله لهم، فمن أحبهم حببهم لعباده. ولما كان سبب القبول محبة الله لهم بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أن بغض الله سبب في بغض الخلق لهم إذا ما تسبب عن أحد الضدين يتسبب عن الآخر ضده. ولما كانت محبة الله مسببة عن الإيمان والعمل الصالح فبغض الله مسبب عن ضدهما، إذ ما تسبب عنه أحد الضدين يتسبب عن ضده الضد الآخر. وكما كان ذلك الود والقبول يكون شيئاً زائداً على ما تقتضيه أسباب الود بين الناس، كذلك تكون هذه البغضاء التي يهين الله بها ويعاقب من يشاء زيادة على ما تقتضيه أسباب البغضاء بينهم، فيكون هذا الذي وضعت له البغضاء- والعياذ بالله- مبغوضا حتى ممن لم يكن منه إليه شيء من أسباب البغض.
تبيين وتعيين:
قد يكون الإتباع والمحبون والراغبون لأهل الحق ولأهل الباطل لأئمة الهدى ولرؤوس الضلال لدعاة الإتباع ولدعاة الإبتداع. ولكن أهل المحبة من الله والود والقبول من العباد هم أهل الحق وأئمة الهدى ودعاة الإتباع للكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالحون، لا لأنفسهم والتحزب لهم وجلب النفع لهم، والذي يعينهم لهذه الكرامة دون غيرهم هو إتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته. وما كانت دعوته إلا للقرآن وبالقرآن دون أن يسأل على ذلك من أجر. وهذا لأن الود والقبول عند العباد مسببان عن محبة الله للعبد، ومحبة الله لا تكون إلا للمتبعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:(1/344)
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1).
فكرامة الود والقبول إنما هي للمتبعين له- صلى الله عليه وآله وسلم- فأما غيرهم فما يكون لهم من قبول عند أمثالهم فهو فتنة وبلاء عليهم.
إرشاد:
أفادت الآية الكريمة والحديث الشريف أن على المسلم أن يتمسك بالإيمان والعمل الصالح والإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان في قوم انفرد بينهم بذلك وحده. ولا يستوحش من انفراده بينهم. فحسبه رضى الله ومحبته وكفى بهما أنساً وليثق بأنه- إن صدق- ومد الله في عمره يكون له ود وقبول في عباد الله وأنس بمن يحبهم ويحبونه لله وتلك المحبة النافعة الدائمة والصلة المتينة الجامعة التي تجمع بين أهلها في الدنيا والأخرة.
جمعلنا الله والمسلمين من العاملين له المتحابين فيه (2).
__________
(1) 3/ 31 آل عمران.
(2) ش: ج4 م12 ص 199 - 203 ربيع الثاني 1354 - 3 جويلية 1935(1/345)
مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ حُسْنُ التَّلَقِّي وَطَلَبُ الْمَزِيدِ
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
لا حياه إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالماً إلا من كان متعلماً، كما لن يصلح معلماً إلا من قد كان متعلماً. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله معلماً، كان أيضاً متعلماً. علمه الله بلسان جبريل، فكان متعلماً عن رب العالمين ثم كان معلماً للناس أجمعين. أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومتعلموه؟ ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم. لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها. وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في آدابهما بما أدبه الله وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها.
لزوم الصمت عند السماع:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنزل عليه جبريل- عليه السلام- بالوحي وقرأه عليه قرأ معه وساوقه في القراءة وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه. ولأن تعلق قلبه بما يسمع من جبريل وامتلأه به واستيلاء ذلك المسموع على لبه يدعوه إلى النطق به لما بين القلب واللسان
__________
(1) 114/ 20 طه.(1/346)
من الإرتباط، ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه تبعثه على التعجيل بقراءته، غير أن القراءة عند السماع وقبل تمام الإلقاء تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يُضْعِفُ عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل من قبل أن يقضي ويتمم إليه وحيه فقال تعالى:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}
تأكيد الصمت بكف اللسان:
لا يتم تفرغ القلب للوعي إلا بسكون اللسان فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة فلا تكون قراءة لا جهراً ولا سراً فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) ثم بين أن الله يجمعه في قلبه- صلى الله عليه وآله وسلم- بالحفظ وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) أي قراءتك إياه، ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه فيقرأه كما قرأه بعد فراغه بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) أي فإذا قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأ كما قرأه. وأنه تعالى يبينه بأقوال نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وأفعاله بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (4)
__________
(1) 16/ 75 القيامة.
(2) 17/ 75 القيامة.
(3) 18/ 75 القيامة.
(4) 19/ 75 القياهة.(1/347)
هذا الأدب أدب عام:
إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد. فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض مما يلقيه إليه حتى يفرغ المعلم من إلقائه كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته، وعلى كل قارىء لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ وفهم المناظر فيرد ويقبل وفهم القارىء فيعرف ما يأخذ ويترك وفهم السامع لتحصل فائدة الإستماع، وبترك هذا الأدب كثيراً ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم وفوات القصد من المناظرة أو القراءة أو الكلام.
دوام التعلم للإزدياد من العلم:
يتعلم الإنسان حتى يصير عالماً ويصير معلماً، ولكنه مهما حاز
من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل به فلن يزال بحاجته إلى العلم ولن تزال أمامه فيما علمه، وعلمه أشياء مجهولة يحتاج إليها فعليه أبداً أن يتعلم وأن يطلب المزيد. ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأعظم- أن يطلب من الله- وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم- أن يزيده علماً فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
تحذير واقتداء:
ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا من علم عن العلم فوقف
بهم عندما انتهوا إليه فجمدوا وأكسبهم الغرور بما عندهم فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا فضلوا وأضلوا وكانوا على أنفسهم وعلى الناس شر فتنة وأعظم بلاء فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى(1/348)
بهذا المرض فيقلع عن جموده وغروره ويزداد مما ليس عنده ممن عنده علم ما لم يعلم. ويحذر من أن يقف عن طلب العلم ما دام فيه زمن من الحياة، ويقتدي بهذا النبي الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علماً بما ييسر له من أسباب وما يفتح له من خزائن رحمته وما يلقيه في قلبه من نور وما يجعل له من فرقان وما يوفقه إليه من أصل ذلك كله وهو تقوى الله والعمل بما عليه.
نسأل الله لنا وللمسلمين العلم النافع والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق (1).
__________
(1) ش: ج5 م11 ص 275 - 278 جمادى الأولى 1354 - أوت 1935(1/349)
مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لِلْصَّالِحِينَ
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما مضى في السورة ذكر الأنبياء عليهم السلام وأممهم وختم الحديث عنهم بذكر الساعة وقربها ومقدماتها وأحوال الخلق يوم القيامة- جاء في هذه الآية ذكر الأمة التي جاءت بعد تلك الأمم كلها، وهي أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-.
توجيه:
وإنما كانت هذه الآية في أمة محمد، لأنه لما تكلم على الأمم الخالية لم يبق الكلام إلا عليها، فخوطبت بما قضاه الله وكتبه من إرث الصالحين الأرض. والمخاطبون به بهذه الآية المكية هم المؤمنون بالله الموحدون له المتبعون لرسوله محمد- صلى الله عليه وسلم- المصدق لجميع الرسل عليهم السلام، وهم أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وهم الصالحون الموجودون يوم ذلك على وجه الأرض، فكانت الآية إعلاماً بما كتبه الله لهم ووعداً بإرثهم الأرض.
الألفاظ:
(الزبور): بمعنى المزبور، أي المكتوب. والمراد به جنس ما أنزله
__________
(1) 21/ 105 الأنبياء.(1/350)
الله من الوحي على رسله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بكتابته. وقرأ حمزة: الزبور جمع زبر، أي كتاب فعَيَّنت هذه القراءة المراد بالزبور في القراءة الأولى الكتب المنزلة، لا خصوص زبور داوود عليه السلام.
الذكر: المراد به هنا اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق الخلق، وجاء تسميته بالذكر فيما رواه البخاري في مواضع من صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله ضليه وسلم-: كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر شيء وخلق السموات والأرض ومما كتبه في الذكر ما أنزله على رسله عليهم السلام كما قال تعالى:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}.
الأرض: جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق إنصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق علي ابن طلحة، وهي أصح طرقه.
يرثها: تنتقل إليهم من يد غيرهم، وأصل الإرث الإنتقال من سالف إلى خالف، وقد يطلق في غير هذا الموضع على أصل التمليك مجازاً.
الصالحون: الصالح من كل شيء هو ما استقام نظامه فحصلت منفعته، وضده الفاسد وهو ما اختل نظامه فبطلت منفعته. ويظهر هذا من تتبع مواقع الإستعمال فإذا قالوا هذه آلة صالحة عنوانها محصلة للمنفعة المرادة منها لانتظام أجزائها، وإذا قالوا آلة فاسدة عنوانها لا تحصل المنفعة لاختلال في تركيبها. والصالح في لسان الشرع- قرآناً وسنة- لم يخرج عن هذا المعنى حيثما جاء. فالصالح
__________
(2) 85/ 21 - 22 البروج(1/351)
هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقة، وزكت نفسه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعماله وطابت أقواله، فكان مصدر خير ونفع لنفسه وللناس. استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصالحين حيثما جاء كما في قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وكما في التشهد: «السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» وقد بين القرآن من هم الصالحون بياناً شافياً وكافياً بذكر صفاتهم مثل قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1).
المعنى:
يخبرنا الله تعالى أنه كتب في الكتب التي أنزلها على رسوله من بعد ما كتب في اللوح المحفوط الذي هو أصل تلك الكتب أن الأرض يرثها ويملكها عباده الصالحون أهل العقائد الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال المستقيمة الذين ينفعون العباد والبلاد.
تطبيق:
خاطب الله بهذه الآية المؤمنين بمكة وهم في قلة عَدد وعُدد يعدهم بذلك- لا بطريق صريح- أنهم يرثون الأرض ويكون لهم فيها القوة والنفوذ. ويبعثهم بتعليق الوعد بوصف الصلاح على التمسك به والإزدياد منه والإستمرار عليه، ثم صرح لهم بالوعد بعد في سورة النور وهي مدنية بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
__________
(1) 113/ 3 - 114 آل عمران.(1/352)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1).
وقد حقق الله لهم هذا الوعد ففتح لهم الفتوح وأورثهم ملك كسرى وقيصر ومد لهم ملكهم في الشرق والغرب، وأولئك الذين كانوا في قلة وخوف يوم نزلت الآية المكية هم الذين شاهدوا ذلك النصر وتلك الفتوح وترأسوا ذلك الملك العريض.
تعميم وتقييد:
علق الوعد بالوصف، وهو الصلاح، ليعلم أنه وعد عام، ولتعلم كل أمة صالحة أنها نائلة حظها- ولا محالة- من هذا الوعد. واقتضى هذا التعليق بالوصف أيضاً تقييده بأهله، فإذا زال وصف الصلاح من أمة زال من يدها ما ورثت. ونظير هذا التقييد قوله في آية النور: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
تنظير:
مثل هذه الآية فيما تضمنته من الوعد الذي يقوي به قلوبهم ويثبت إيمانهم ويظهر به صدق نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما أعلمه به من غيب- أحاديث صحيحة (2). كقول النبي- صلى الله
__________
(1) 55/ 24 النور.
(2) البخاري في باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين.(1/353)
عليه وسلم- لخباب رضي الله عنه وقد لقي الصحابة من المشركين شدة فسأله أن يدعو فقال له النبي- صلى الله عليه وسم-: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله". وكقوله (1) - صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم: (فان طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى) وقد امتدت به الحياة حتى رأى ذلك ومثل هذا أحاديث أخرى في الصحيح. فقد تطابقت الآيات والأحاديث في هذا الوعد وقد صدق الله وعده لعباده الصالحين. وصدق نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن يعلمه أحد ولا يرى شيئاً من أسبابه بل لا يرى إلا ما هو مناف له. ولكن العاقبة للمتقين.
إشكال وحله:
قال أناس إن أرض الدنيا كما يستولي عليها الصالحون يستولي عليها غيرهم، والأرض التي لا يرثها إلاَّ الصالحون هي أرض الجنة، فيجب تأويل الآية بها.
والجواب: أن هذا التأويل إنما يحتاج إليه إن لو كانت الآية هكذا (إن الأرض لا يرثها إلا عبادي الصالحون) بطريق الحصر فيهم. أما لما كانت الآية لا حصر فيها فلا حاجة إلى هذا التأويل بل في لفظ الإرث وربطه بوصف الصلاح دلالة على أنها كانت لغيرهم، فانتقلت إليهم، وأنها تزول مع زوال وصف الصلاح. وقد جاء التنبيه على أن الأرض يرثها الصالحون وغيرهم في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
__________
(1) البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام.(1/354)
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) فيرثها الصالحون نعمة ويرثها غيرهم فتنة ونقمة كل ذلك حسب مشيئة الحكيم الخبير.
إيراد وجوابه:
قد يقال: فما هي الفائدة إذاً في تخصيص الصالحين بالذكر في هذه الآية؟ والجواب:
1 - أن هذه الآية خوطب بها أول الناس الصحابة بمكة، وهم الصالحون في الأرض ليعلموا ما وعدهم الله به وليعلموا أن قوة الباطل إلى ضعف، وأن ضعف الحق إلى قوة.
2 - ولأن شأن الصالحين- أنَّى كانوا أن يكو نوا- قليل سيما أول أمرمم فهم بحاجة إلى أن يعلموا هذا الوعد ليزدادوا إيماناً وقوة وثباتاً.
3 - ولأن الخلق مفتونون بالكثرة في العدد والعدة غافلون عن القوة الروحية والأخلاقية وما ينشأ عنهما من استقامة لا يحسبون لذلك حساباً، فيحتاجون إلى العلم بأن الصالحين نائلون حظهم من هذا الوعد، وإن كانوا قلة في الناس.
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2).
تحذير من تحريف:
رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة على الأرض- وهي
__________
(1) 227/ 7 الأعراف.
(2) 249/ 2 البقرة.(1/355)
مدنية مادية في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان- فقالوا إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدم الله بإرث الأرض. وزعموا أن المراد بالصالحين في الآية: الصالحون لعمارة الأرض. فيالله للقرآن وللإنسان، من هذا التحريف السخيف، كان عبارة الأرض هي كل شيء ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق، واعوجت الأعمال وساءت الأحوال، وعذبت الإنسانية بالاأزمات الخانقة، وروعت بالفتن والحروب المخربة الجارفة وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها، هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمرت الأرض وأفسدت الإنسان، ثم يريد هذا المحرف أن يطبق عليها آية القرآن: كتاب الحق والعدل والرحمة والإحسان، وإصلاح الإنسان ليصلح العمران. فاما الصالحون فهو لفظ قرآني قد فسره القرآن كما قدمناه وقد شرَّف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله: {عِبَادِي} فحمله على الصالحين لعمارة الأرض تحريف للكلام عن مواضعه أبشع التحريف وأبطله فليحذر المؤمن منه ومن مثله من تحريفات المبطلين والمفتونين.
موعظة وإرشاد:
فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظها من هذا الوعد أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بينه القرآن، فأما إذا لم يكن لها حظ من ذلك الصلاح فلا حظ لها من هذا الوعد، وإن دانت بالإسلام. ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء وكل محاولة لصدها عن غايتها- وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل. سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؟(1/356)
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (1) ثم {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2 و 3).
__________
(1) 42/ 35 فاطر.
(2) 33/ 7 الأعراف.
(3) ش: ج 6 م 11 ص 339 - 345 جمادى الثانية 1354 - سبتمر 1935(1/357)
دِفَاعُ اللَّهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الكلمات:
دفع الشيء صده ورده، والدفاع عن الشيء حمايته بصد ما يؤذيه عنه وقُرىء في المتواتر (يدفع) وقُرىء (يدافع) وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع، فجيء بفاعل الذي يقتضي المغالبة في أصله، لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ. أو لأن ما يهيئه الله لهم من أسباب الدفع التي يباشرونها مقابلة لما يقصدُهم به أضدادهم، فكان الدفع من الجانبين، خان إذا ضيع ما جعل في حفظه وعهدته، والخوان الكثير التضييع لما استحفظ. والكفور الكثير الجحود للنعم فلا يعترف بها أو لا يؤدي شكرها.
التراكيب:
عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف وأعداؤهم في كثرة وقوة- كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعيد الهجرة- تشك النفوس في سالامتهم من كيد عدوهم، فلذا جاء هذا الخبر مؤكداً بأن. ولكون هذا الدفع متجدداً جيء بالفعل مضارعاً. ولبيان سبب الدفع جيء بالجملة المستأنفة بعد الجملة الأولى وأكدت بأن لأن الأولى
__________
(1) 22/ 38 الحج.(1/358)
تحمل المخاطب علا أن يسال سؤال المتردد: هل هؤلاء المدفوعون أعداء مبغوضون؟ فأجيب بالتأكيد. وحذف مفعول يدافع ليعم كل ما يدفع فشمل كيد الكائدين.
التفسير:
هذا من الله تعالى خبر حق ووعد صدق للمؤمنين بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم ويبطل مكرهم ويكف شرهم وإن عظم ذلك منهم وكثر. وأن هذا منه لهم متكرر متجدد. ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم وعهده لديهم واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضي عنهم فأيدهم ونصرهم ودافع عنهم، ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم بارتكاب المنهيات وترك المأمورات وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو ما جاءهم به من شرعه فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين.
تحرير في التعليل:
إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله لا تقع إلا على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم. فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم. واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم وليست من صفاتهم. فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم في نفوسهم وعقولهم وأبدانهم وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره، وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر إيمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان ورسوخه في قلوبهم. فإذا أعدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم وفشت الفواحش والمناكر والبدع فيهم وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه،(1/359)
وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات- إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته وحرموا نصرته ودفاعه وكانوا هم الظالمين.
خيانة دون خيانة وكفر دون كفر.
الخيانة خيانتان خيانة عقيدة وخيانة أعمال، وكذلك الكفر وكذلك النفاق وكذلك الشرك وإنما يخرج المرء عن أصل الإسلام بما كان في أصل العقيدة، لا بما كان في الأعمال إلا عملاً يدل دلالة ظاهرة على فساد العقيدة وانحلالها. وعلى هذا عقد البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح أبواباً في ظلم دون ظلم وكفر دون كفر.
تطبيق:
لما كان المسلمون أهل الإيمان والصدق والشكر والأمانة دافع الله عنهم وقد شهد التاريخ بذلك من الله لهم، فلما خانوا وكفروا تركهم ومكن منهم. ولكنه برحمته وعدله لم ينس لهم أصل إسلامهم فأبقى لهم أصل وجودهم الذاتي. وهم لحم على وضم بين الأمم لا يستطيعون دفعاً عن أنفسهم. وأبقى لهم أصل وجودهم الروحي بكتابه المثلو بين ظهرانيهم رغم إعراضهم عن تدبره وهجرهم لما فيه- عساهم يرجعون.
تنبيه وتحذير:
كل عمل لا يحل فهو خيانة وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبَّه الله على هذا بقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} (1) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.
__________
(1) 19/ 40 المؤمن.(1/360)
وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم آثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم. فحَق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها وخصوصاً ما اتصل بالناس منها ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في ضطرها.
سؤال وجوابه:
فإن قيل: قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة فيعذب وقد يقتل وكأين من نبي قتل، وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم. فالجواب: أن دفع الله يكون بأسباب وأنواع وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة ولا تخلو كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم هو ابتلاء يكسبهم القوة والجلد ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصير منهم، فيتداركوا أمرهم بالإصلاح والمتاب، فإذا هم بعد ذلك الإبتلاء أصلب عوداً وأطهر قلوباً وأكثر خبرة وأمنع جانبا، وإنَّ في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه والظلم الذي لا يقدر على إزالته لبعثاً للقوة في نفس غيره ممن يأتسى به، وضعفاً في قلب ظالمه. وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
مشاهدة وتوصية:
نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلاَّ بدفع الله وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها- فيما نرى- على شيء من العمل لله. فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله. وهذه المشاهدة التي شاهدنا- ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على العهد(1/361)
والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع وينيل أهله العزة والحفظ، فعلى المسلم أن يعمل لذلك ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد (1).
__________
(1) ش: ج 9 م11 ص 491 - 495 رمضان 1354 - ديسمبر 1935(1/362)
أَكْلُ الْحَلَالِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الكلمات:
الطيب ما صلح واعتدل في نفسه وسلم من كل ما يفسده ويخرجه
عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذاً للنفوس سواءاً كان مما يدرك بالسمع أو بالبصر أو بالذوق أو بالشم أو باللمس أو بالعقل. فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية. ويقابله الخبيث وهو المستقذر حساً أو عقلاً وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) فما أحلَّ الله إلا الطيب المستلذ، وما حرم إلا الخبيث المستقذر. فلهذا صار الطيب في لسان الشرع يجيء كثيراً بمعنى الحلال ويكون ضده الخبيث بمعنى الحرام. ومنه: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي المحللات، فملك غيرك، وإن كان مستلذا في الحس فإنه ليس طيباً لك شرعاً، وذلك لأنه مستقذر في العقل بما فيه عند تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل. وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد، والخبيث بمعنى الرديء، وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
__________
(1) 23/ 51 المؤمنون.
(2) 156/ 7 الأعراف.(1/363)
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1).
الصالح هو المستقيم النافع، وهو فعل المأمورات وترك المنهيات وتناول المباحات من حيث أنها مباحات أو وسائل لفعل المأمورات وترك المنهيات.
التراكيب:
للإهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء. ولأن هذا المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل. ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء والأمر للجميع، وقد دخل في الجمع عيسى- عليه الصلاة والسلام- الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (2). كما دخل في الجمع محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي نزلت عليه هذه الآية. ولأن المقصود من الأكل- وهو الغذاء واللذة- يحصل ببعض قبل (من الطيب) بمن التبعيضية. ولما كان المخاطب بكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تتشرف نفسه لتعيين ثمرة ذلك جاء الخبر مؤكداً بأن في {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم فهو جزاء الله العليم وكفى به.
__________
(1) 267/ 2 البقرة.
(2) 23/ 50 المؤمنون.(1/364)
التفسير:
خلق الإنسان مركباً من روح وبدن، وإنما بقاء بدنه بالغذاء، وإنما كمال روحه بالعمل، فأمر الله بالأكل لبقاء البدن واشترط أن يكون من الطيبات لأنها هي التي تغذي ولا تؤذي. أما الخبائث ففيها الأذى ويتفه أو يعدم منها الغذاء. وأمر بالعمل الصالح الذي فيه زكاء للنفس ونفع لها في العاجل والآجل وخير للعباد والبلاد. وأخبر بعلمه بعمل العاملين ليجتهدوا في العمل ويخلصوا له فيه وينتظروا جزاءهم من عنده. والدِّين كله عمل صالح وتوحيد خالص. وقد انتظمتهما الآية تصريحاً في العمل واستلزاماً في التوحيد. وبيَّن- تعالى- بهذه الآيتان هذا الذي اشتملت عليه هو دين الله لجميع الأمم أوصى به رسله- صلوات الله عليهم- ليبلغوه لخلقه فهو حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.
توجيه الترتيب:
تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحاقظة على الأبدان
من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلَّها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم، وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها كما يفعله متصوفة الهنادك ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام. والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه- رضي الله عنهم- وقد بيَّن ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله، وقد جوده مالك- رضي الله عنه- في كتاب الجامع من الموطأ. وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها، لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن فتصلح الأعمال كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن فتفسد الأعمال.(1/365)
بيان نبوي:
خرج مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. وإن الله تعالى أمر المؤمنينن بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) (2).
فبين الحديث الشريف أن الله طيب أي منزه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، تنعم العقول والأرواح بمعرفته- كما يليق به- ومحبته.
وأنه لا يقبل من الأعمال إلا طيباً أي صالحاً في نفسه خالصاً من شوائب المخالفة والرياء والشرك وبين أن الشرع عام للرسل وللأمم ولا يستثنى من هذا إلا ما دل الدليل على اختصاصه بالرسل وبيَّن أن أكل الحلال هو الذي يثمر قبول الدعاء والدعاء هو مخ العبادة فإذا ردَّ عليه فقد ردت عليه عبادته فكان هذا البيان النبوي على مقتضى ما أفاده ترتيب الأمرين في الآية.
تكميل:
في آية الرسل الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالعمل الصالح واستلزام الأمر بالإخلاص، وفي آية المؤمنين الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالشكر والتصريح بلزوم توحيده تعالى في العبادة لأن تمامها هكذا:(1/366)
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1)
واقتصر في الحديث على الأمر بالأكل من الطيبات إما لأن الأكل كان في الحديث على أكل الحلال، وإما لأن الراوي اختصر الرواية.
الإهتداء:
على المؤمن أن يتحرى في مأكله ومشربه وكل ما فيه قوام ذاته الحلال الطيب يمتثل بذلك أمر الله ويقصد التوصل به إلى العمل الصالح وعليه أن يتحرى في فعله وتركه أمر الله ونهيه حتى يكون عمله عملاً صالحاً طيباً متقبلاً. يمتثل بذلك أمر الله ويقصد قبول عبادته ودُعائه لديه. والمتحري للحق والخير جدير بالتوفيق إليه وكثرة إصابته.
رزقنا الله والمسلمين التحري لطاعته والتوفيق لمرضاته والتأدب بكتابه آمين (1).
__________
(1) 172/ 2 البقرة.
(2) ش: ج11 م11 ص 587 - 590 ذو القعدة 1354 - ففري 1936(1/367)
الْإِجْتِمَاعُ الْعَامُّ لِلْأَمْرِ الْهَامِّ وَارْتِبَاطِ الْجَمَاعَةِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ
-1 -
القرآن العظيم:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
الأمر الجامع هو الحادث الذي يتطلب الاجتماع بطبيعته فيجمع الإمام الناس من أجله، من ذوي الرأي والمعرفة بمثله، والخبرة والتجربة فيه، من كل من يعم نفعه، أو ضرره من أمور السلم والحرب وشؤون الحياة والاجتماع، ليتشاوروا فيما بينهم ويستضيئوا بعضهم لرأي بعض. والإستئذان: هو طلب الإذن من الإمام بمفارقة الإجتماع لعذر قاض بالمفارقة.
__________
(1) 24/ 62 - 63 النور.(1/368)
المعنى:
يأمر الله المؤمنينن إذا كانوا مع رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- على أمر جامع ألا يفارقوا مجلسه كلهم أو بعضهم إلاَّ بإذنه. وأكَّد هذا الأمر بما وطأ له من ذكر الإيمان بالله ورسوله تنبيهاً على أنه من مقتضاهما، وبقرنه بهما وجعله ثالثاً لهما تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على ملازمته لهما ممن صدق فيهما (1). حتى كان غير المستأذنين لا إيمان لهم، وبإعادته في الجملة الثانية، ببيان أن الذين يستأذنون هم دون غيرهم الثابتون في إيمانهم المستمرون عليه، تعريضاً بالذين لا يستأذنون وتقبيحاً لحالهم، بأنهم لا ثبات لهم في الإيمان ولا استمرار منهم على العمل به، فليسوا بالمؤمنينن ولا بالذين يؤمنون.
ثم جعل الخيار لرسوله في الإذن وعدم الإذن لهم إذا استأذنوه لبعض شأنهم تعظيماً لأمر الاجتماع وتعظيماً للصالح العام وتوكيداً لحق الإمام على الجماعة لحفظ الإجتماع وتتميم الأعمال.
ثم أمره أن يستغفر لهم، فقد يكون العذر دون الاضطرار، وقد يكون ما فاته من بركات الاجتماع، وحسنات المشاركة فيه بالرأي والإهتمام، وتكثير السواد- بسبب ذنب كان منهم في أمر غير الاجتماع، وأكد هذا الأمر بأنه الكثير المغفرة لعباده الدائم الرحمة بهم.
الأحكام:
لما كان الاجتماع شُرع للمصلحة، والذهاب بدون استئذان حُرِّم للمفسدة، فالمشروعية والتحريم دائمان بدوام المصلحة والمفسدة: فأحكام الآية مستمرة الأحكام عامة للمسلمين في كل زمان وكل مكان، مع أئمتهم وقادتهم المقدمين منهم فيهم في كل ما يعرض من اجتماع لصالح عام.
__________
(1) كذا في الأصل ولعله (بهما).(1/369)
فمن أحكام الآية الكريمة- أن على أئمة المسلمين وذوي القيادة فيهم إذا نزل بهم أمر هام أن يجمعوا جماعة المسلمين الذين يرجى منهم الرأي والعمل فيما نزل، فلا يجوز لهم أن يهملوا أمرهم، ولا أن يسبتدوا عليهم، وأن على المسلمين أن يجتمعوا إليهم ويكونوا معهم، يظاهرونهم ويؤيدونهم وينصحون لهم، فلا يجوز لهم أن يتخلفوا عنهم، ولا أن يخذلوهم، وأنَّ على المجتمعين أن لا يذهب واحد منهم إلا بإذن- وأن لا يستأدن إلا لعذر ببعض الشأن، وأن على الإمام أن ينظر في الإذن وعدمه فيفعل ما هو أولى.
بيان مراد، ودفع اغترار واعتراض:
تجد في آيات القرآن العظيم أخباراً ووعوداً من الله- تعالى- للمؤمنين ولربما حسب من لا يعلم أنها تشمل كل من كان على أصل الإيمان من اعتقاده مع بعض أعماله، وإن فرط في كثير من أصول الأعمال. فيبين الله- تعالى- في هذه الآية وأمثالها مراده بالمؤمنين عند إطلاق لفظ المؤمنين في تلك الأخبار والوعود، حتى لا يغتر المفرطون ولا يعترض الجاهلون.
توجيه وإرشاد:
إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله، ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر، وتدبر، وتتشاور، وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة متساندة في العمل عن فكر وعزيمة. ولهذا قرن الله في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالإجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الإجتماع، ونظامه، ولزوم الحرص، والمحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام.
موعظة:
ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلاَّ بإهمالهم لأمر(1/370)
الاجتماع ونظامه، إمَّا باستبداد أئمتهم وقادتهم وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما ذلك إلا من سكوت علمائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم في مقاومة المستبدين، وتعليم الجاهلين، وبث روح الإسلام الإنساني السامي في المسلمين. فعلى أهل العلم- وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة، فينفخوا في المسلمين روح الإجتماع الشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم، ممن ينتسب إليهم فينبذ ويطرح ويستغني عنه بالله وبالمؤمنين.
موازنة وترجيح:
هنالك المصلحة العامة وهنالك المصلحة الخاصة، ومحال أن تساوي هذه بتلك، أنظر إلى الذكر الحكيم كيف عبر عن الأولى بالأمر الجامع، وفي هذا ما فيه من تفخيم، وعبر عن الثالية ببعض الشأن وفي هذا ما فيه من التحقير والتقليل. وفي قرنها بالإستغفار تنبيه على ترجيح الأولى على الثانية وأنها ما كانت تعتبر إلا على وجه الرخصة والإستغراق في الإهتمام والتدبير للمصلحة العامة أحق وأولى.
إمتثال ورجاء:
لنجعل المصلحة العامة غايتنا، والمقدمة عندنا حتى لا يكون- إن شاء الله- في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا إنه نعم الموفق ونعم المعين (1).
__________
(1) ش: ج1، م13، ص 1 - 4
غرة محرم 1356 هـ - 14 مارس 1937م(1/371)
-2 -
القرآن العظيم:
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة والإرتباط:
لما بينت الآية السابقة وجوب الإستئذان عند إرادة الإنصراف من مجلسه عليه الصلاة والسلام بينت هذه الآية وجوب تلبية دعوته إذا دعا، وفضحت حالة الذين يتسللون غير مستأدنين وحذرت من فعلهم وأوعدت الوعيد الشديد المخالفين أمثالهم.
الألفاظ:
الدعاء: النداء وطلب الإقبال للحضور. بينكم: في اعتقادكم ومعاملتكم. يتسللون:. يذهبون قليلاً قليلاً من الجماعة متخفين. لواذاً: ملاوذة بأن يلوذ هذا بهذا ويلوذ هذا بهذا متستراً به حتى لا يرى عند خروجه. فليحذر: فليتيقظ، وليتحرز. وذلك باجتناب المخالفة. يخالفون عن أمره: يصدون ويعرضون عن طريقته وسنته ومنهاجه وما كان عليه من سير في الحياة. الفتنة: البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم، هذا معنى الفتنة لأنها ذكرت في مساق الوعيد. عذاب أليم: في الآخرة.
المعنى:
لا تنزلوا دعاء الرسُول لكم إذا دعاكم إلى الحضور عنده منزلة
__________
(1) 63/ 2 النور.(1/372)
دعاء بعضكم بعضا للحضور، فتحسبون أنفسكم مخيرين إن شئتم أجبتم وإن شئتم تخلفتم، فتارة تجيبون وتارة تتخلفون، فإجابة دعوته والإسراع إليه واجب محتم عليكم، والتخلف أو التباطؤ- لغير عذر واضح- محرم عليكم، ذلك لأنه إذا دعاكم لا يدعوكم إلا لمصلحة قطعية وخير محقق يعود عليكم في أمر الدين أو أمر الدنيا، ففي تخلفكم أو تباطئكم تفويت أو تعطيل أو تثبيط. وإذا حضرتم مجلسه فابقوا كلكم عنده ولا تذهبوا من مجلسه واحداً واحداً أو اثنين اثنين يتستر بعضكم ببعض عند الخروج حتى لا يراه الناس ولا يراه الرسول، فإن الله يعلم قطعاً أولئك الذين يخرجون متسللين متسترين بعضهم بعض، فإذا نجوا من ملام الرسول فإنهم لا ينجون من عذاب الله.
وإذا كان الله عالماً بصنعهم ومفارقتهم لمجلس رسوله وثلمهم لجماعته وصدهم وإعراضهم عما هو عليه هو ومن معه- فهو معاقبهم على ما ارتكبوا بالبلايا، يصبها عليهم في الدنيا، أو العذاب الأليم ينزله بهم في الآخرة، أو يجمع لهم ما بينهما، فليتجنب أولئك المخالفون لأمره هذه الفتنة وهذا العذاب وليحذروا منهما. وما ذلك إلا بترك المخالفة والإقلاع عنها والرجوع إلى الموافقة والإتباع.
تنظير وتعميم:
أمراء المسلمين وقادتهم ومن يتولون أمراً من أمورهم العامة تجاب دعوتهم إذا دعوا لأمر عام وشأن مما يرتبط بما في عهدتهم من أمر الناس، ويسرع إليهم ولا يتسلل من مجالسهم. ذلك لما لهم من حق الخلافة عن الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما كان يقوم به من أمر الناس وتدبير شؤونهم وضبط نظامهم ورعاية مصالحهم.
ميزان:
كل الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، وكل الأحوال والسير(1/373)
توزن بسيرته وحاله. فما وافقها فهو الحق والخير والهدَى، وهو الذي يقبل من كائن من كان. وما خالفها فهو الباطل والشر والضلال، وهو الذي يرد على صاحبه كائناً من كان. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد).
وجوه الفتنة وسببها:
مخالفة السنة النبوية والهدى المحمدي وما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في تنفيذ شرع الله وتطبيق أحكامه وتمثيل الإسلام تمثيلاً عملياً، تلك المخالفة هي سبب كل بلاء لحق المسلمين حتى اليوم بحكم صريح هذه الآية. وقد ذكر المفسرون في تفسير الفتنة أشياء على وجه التمثيل لا على وجه الحصر والتحديد، فذكروا الكفر، والقتل، والاستدراج بالنعم، وقسوة القلب، عن معرفة المعروف والمنكر، والطَّبع على القلب حتى لا يفقه شيئاً، وكل هذا قد أصاب المسلمين بسبب مخالفتهم.
أعظم الفتنة:
غير أن أعظم الفتنة- فيما نرى- هو ما قاله الإمام جعفر الصادق: (أن يسلط عليهم سلطان جائر) فإنه إذا جار السلطان- وهو من له السلطة في تدبير أمر الأمة والتصرف في شؤونها- فسد كل شيء، فسدت القلوب والعقول والأخلاق والأعمال والأحوال، وانحطت الأمة في دينها ودنياها إلى أحط الدركات، ولحقها من جرائه كل شر وبلاء وهلاك. ثم بتفاوت ذلك الفساد بحسب ذلك الجور في قدره وسعته ومدة بقائه. هذا إذا كان ذلك الجائر من جنسها ويدين- بحسبب ظواهره- بدينها، فكيف إذا لم يكن من جنسها ولا من دينها في شيء. حقاً إن أعظم ما لحق الأمم الإسلامية من الشر والهلاك كله جاءها على(1/374)
يد السلاطين الجائرين منها ومن غيرها. وهذا ما يشهد به تاريخها في ماضيها وحاضرها. فما أصدق كلمة جعفر الصادق وما أعمق نظره فيها، ومن أحق بمثلها من بيت النبوة ومعدن الحكمة؟ عليهم الرضوان والرحمة.
تطبيق وتحذير:
من أبين المخالفة عن أمره وأقبحها الزيادة في العبادة التي تعبد لله بها على ما مضى من سنته فيها وإحداث محدثات على وجه العبادة في مواطن مرت عليه ولم يتعبد بمثل ذلك المحدث فيها. وكلا هذين زيادة وأحداث وابتداع مذموم. يكون مرتكبه كمن يرى أنه اهتدى إلى طاعة لم يهتد إليها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وسبق إلى فضيلة قصر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عنها. وكفى بهذا وحده فتنة وبلاء، دع ما يجر إليه من بلايا أخرى، وقد طبق الأمام مالك رضي الله عنه هذه الآية الكريمة، على هؤلاء المتزيدين أحسن تطبيق وأبلغه وأردعه لمن كان له فهم وإيمان.
روى الإمام ابن العربي- رحمه الله- بسنده المتصل إلى سفيان ابن عيينه رحمه الله قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة (1) من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (إني أريد أن أحرم من المسجد) فقال: لا تفعل. قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى
__________
(1) ذو الحليفة: تصغير حلفة، وهي ماءة بين بني جشم بن بكر بن هوازن، بينه وبين المدينة ستة أميال، وهو كان منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة لحج أو عمرة (أنظر البكري 464 - 465).(1/375)
أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فليتأمل المسلمون- وخصوصاً المنتسبين إلى مذهب مالك- في فقه هذا الإمام العظيم ووقوفه عند حدود الله وليحذروا من عاقبة المتزيدين المتغالين.
بوارق أمل:
لقد شعر المسلمون عموماً بالبلايا والمحن التي لحقتهم وفي أولها سيف الجور المنصب على رؤوسهم، وإدرك المصلحون منهم أن سبب ذلك هو مخالفتهم عن أمر نبيهم- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخذت صيحات الإصلاح ترتفع في جوانب العالم الإسلامي في جميع جهات المعمور. تدعوا الناس الى معالجة أدوائهم بقطع سببها واجتثاث أصلها. وما ذلك إلا بالرجوع إلى ما كان عليه محمد- عليه الصلاة والسلام- وما مضت عليه القرون الثلاثة المشهود لها منه بالخير في الإسلام، وقد حفط الله علينا ذلك بما إن تمسكنا به لن نضل أبداً- كما في الحديث الصحيح- الكتاب والسنة. وذلك هو الإسلام الصحيح الذي أنقذ الله به العالم أولاً، ولا نجاة للعالم مما هو فيه اليوم إلا إذا أنقذه الله به ثانيا. وقد أخذ المسلمون يصيغون أسماعهم ويستجيبون- أفواجاً أفواجاً- لداعي الإصلاح أينما دعاهم، وفي ذلك- والحمد لله- ما يقوي الرجاء والأمل، ويبعث على الجد والعمل. الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (1).
__________
(1) ش: ج2، م13، ص 72 - 76 صفر 1356 - أفريل 1937(1/376)
الْفُرْقَانُ
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
تبارك: مادة برك كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها بروك الإبل استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء، والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنه النماء والزيادة ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن الثبوت، وتبارك من البركة، فمعناه تزايد خيره والله تعالى له الكمال ومنه الإنعام فتبارك أي تزايد كماله وإنعامه فلا تحصى إنعاماته ولا تحد كمالاته. وثبوت الكمال ينافي وينفي ضده، فيقتضي التنزه عن النقص. فانتظم اللفظ ثلاثة معاني: التنزه عن النقص، والإتصاف بالكمال، والإفاضة للإنعام. فتبارك: (تقدس وتعاظم) الفعل الأول مفيد للاول، والفعل الثاني مفيد للثاني، والثالث (نزل) مادة نزل كلها ترجع إلى معنى الهبوط من علٍ والحلول في أسفل. ونزل المضاعف أبلغ في المعنى، من أنزل، وقد يفيد كثرة النزول كما هنا، لأنه نزله مفرقاً على نيف وعشرين سنة، وقد يفيد القوة في نزول
__________
(1) 25/ 1 - 2 الفرقان.(1/377)
واحدكما في: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} لان تنزيل الجملة أقوى من إنزال التفصيل. (الفرقان): أصله مصدر فرق بمعنى فصل وهو أبلغ في الدلالة على المعنى من فرق المصدر المجرد بما فيه من زيادة الألف والنون كما كان القرآن أبلغ من القراءة لذلك. وهو هنا اسم من أسماء هذا الكتاب الكريم. (نذير): مادة نذر كلها ترجع إلى الإعلام والتحتيم، فمنها نذر على نفسه الصوم أوجبه وحتمه وأعلم به ونذر بالعدو كفرح علم به وأنذره أعلمه، ولا يستعمل إلاَّ في إبلاغ ما فيه تخويف فهو إعلام بتأكيد وتحتيم. ونذير هنا بمعنى منذر من فعيل بمعنى مفعل.
التراكيب:
(الَّذِي نَزَّلَ): عرف المسند إليه بالموصولية لزيادة تقرير الغرض الذي إليه سيق الكلام، لأن الغرض بين كمالات الله تعالى وإنعاماته وتنزيل الفرفان منها، فهو من أعظم نعم الله على البشر ومن آيات الله الدالة على قدرته وعلمه وحكمته. (عبده): إضافة تشريف لأنه أكمل العباد.
المعنى:
تقدس وتعاظم الرب الذي نزل الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال وحزبيهما من الناس مفصلاً آيات آيات على محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أكمل عباده ليكون بذلك الكتاب لجميع الأنس والجن منذراً لهم، بعلمهم بعذابه ويخوفهم بشديد عقابه إن لم يعبدوه وحده ويخلعوا غيره من آلهتهم الباطلة ويدخلوا في الدين الذي جاءهم به وهو الإسلام.
توحيد:
هذا الفعل وهو (تبارك) لا يسند إلاّ إلى الله تعالى، ذلك لأن(1/378)
العظمة الحقيقية بالكمال والإنعام والتقديس بالتنزه التام ليسا إلا له وما من كامل من مخلوقاته إلا وهو- جل جلاله- الذي كمله وما من منعم عليه منهم إلا وهو- تعالى- الذي أنعم عليه وما من زكي منهم إلا وهو- سبحانه- الذي زكاه.
سلوك:
هذا الرب الكامل المكمل المنعم المتفضل القدوس المقدس هو الذي أنرل هذا الفرقان، فإذا أردت أن ترقى في درجات الكمال وتظفر بأنواع الإنعام وتزكي نفسك الزكاء التام فعليك بهدى هذا الفرقان، فهو بساط القدس ومعراج الكمال ومائدة الإكرام وقد سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت كان خلقه القرآن.
تفقه واستنباط:
لما سمى الله كتابه الفرقان علمنا أنه به يفرق بين الحق والباطل وأهل هذا وذاك، فهو الحكم العدل والقول الفصل بين كل متنازعين يدعي كل منهما أنه على الحق فيما هو عليه من عقد أو قول أو عمل، فما تقابل حق وباطل وما تعالجت حجة وشبهة إلا وفي هذا الكتاب الحكيم ما يفرق ما بينهما وإنما يتفاوت الناس في إدراك ذلك منه على حسب ما عندهم من قوة علم وصدق بصيرة وحسن إخلاص، فعلينا - إذاً- أن يكون أول فزعنا في الفرق والفصل إليه، وأن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه ومراميه مستعينين بالسنة القولية والعملية على استخراج لآليه. فإذا حكم قبلنا وسلمنا وكنا مع ما حكم له وفارقنا ما حكم عليه، فالله سماه الفرقان لنعلم أنه فارق بنفسه ولنعمل بالفرق به ولا يكمل إيماننا بأنه الفرقان إلا بالعلم والعمل.
ولما جعل- تعالى- غاية تنزيل الفرقان أن يكون عبده نذيراً(1/379)
إقتضى ذلك أن نذارته تكون بالفرقان لتقوم الحجة وتتم الحكمة وتحصل الفائدة وتشمل النعمة. وقد صرح بهذا في قوله تعالى بالأعراف: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ}. وبالأنعام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. وبالنمل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. وبق: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. وبالتوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فعلينا- إذاً- أن نعلم أنَّ القرآن هو كتاب النذارة والهداية، فنستخرج أصولهما وفنونهما من آياته، وهذا حظ العلم، وأن يكون اهتداؤنا في أنفسنا وهدينا لغيرنا به، وهذا حظ العمل، وهما ركنا الإيمان.
تطبيق وتحاكيم:
في العالم الإسلامي كله اليوم طائفتان من المؤمنين تتنازعان خطة الهداية والنذارة والتذكير، ولكل منهما في سلوكها للقيام بتلك الخطة سبيل، وكل منهما تدَّعي أنها هي التي على الصواب، وأنها الأحق والأولى بنفع العباد. فرأينا أن نطبق فصل الفرقان عليهما وننظر كيف يفرق ما بينهما وبين المصيبة من المخطئة منهما، وفي ضمن ذلك تحاكمهما إليه وفصل النزاع بينهما بحكمه. وإنما اخترناهما للتطبيق والتمثيل لخطر الخطة التي تنازعا عليها، وعظيم النفع والضرر الذي يحصل من خطأ المخطىء وصواب المصيب بها، ولأن الهداية والنذارة والتذكير أمور لها أنزل القرآن فتنازعهما عليها تنازع عليه فأحق فصل نمثل به(1/380)
لنعلمه هو فصله بين المتنازعين فيه. وها نحن نعرض بعض حال كل طائفة في قيامها بالخطة ثم نسوق آيات القرآن وننظر من أسعد الطائفتين بها.
حكم القرآن بين الطائفتين:
الطائفة الأولى: يذكرون من يدعونهم بغير القرآن بأحزاب وأوراد من وضعهم لا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا قليلاً: ولهم عليهم في أموالهم حق في أوقات من السنة معلومة.
والطائفة الثانية: يذكرون الناس بالقرآن فيأمرونهم بقراءته وتدبره ويبينون لهم معانيه ويحثونهم على التمسك به والرجوع إليه.
ويدعونهم إلى الأذكار النبوية الثابتة في الكتب الصحاح لرجوعها إلى القرآن بحكم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) ولا يطلبون عليهم في ذلك أجراً.
والله تعالى يقول في الحال الأول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} وغيرها من الآيات المتقدمة في هذا المجلس ويقول- تعالى- في الحال الثاني لنبيه- صلى الله عليه وآله وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} (2) {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (3). ويقول في آية صريحة صراحة تامة في بيان من يجب أن يتبع من الدعاة {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا
__________
(1) 59/ 7 الحشر.
(2) 57/ 25 الفرقان.
(3) 12/ 23 الشورى.(1/381)
وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) ومن هم المهتدون؟ هم المتبعون للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لقوله تعالى في الأعراف: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) واتباعه بالنسبة لموضوعنا هو اتباعه في طريق دعوته الخلق إلى الله. وقد ثبت بالقرآن أنه كان يدعو بالقرآن ويذكر به وأنه لا يسئل على ذلك أجراً.
بان- والحمد لله- بما ذكرنا حكم القرآن بين الطائفتين واتضح طريق الحق في الدعوة والإرشاد لمن يريد سلوكه منهما. والله نسأل لنا ولهم قبول الحق والتعاون عليه والقوة والإخلاص في الصدع به والثبات عليه و {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (3 و 4).
__________
(1) 21/ 36 يس.
(2) 157/ 7 الأعراف.
(3) 27/ 14 إبراهيم.
(4) ج12، م7، ص 732 - 737
غرة شعبان 1350هـ - ديسمبر 1931م.(1/382)
كَلَامُ الظَّالِمِينَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وَالرَّسُولُ الْكَرِيمِ، وَرَدُّ رَبُّ الْعَالَمِينَ
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
كفروا، غطوا الحق بإنكاره وعدم الإعتراف والإعلان به. وكل من غطى شيئاً وستره فقد كفره، وسمي الليل كافر لأنه يغطي الأشياء بظلامه، والزارع كافر لأنه يغطي البذر بالتراب. إفك: كذب مصروف عن وجهه الحق من أفكه يفكه أفكاً أي صرفه. إفتراه: اختلقه واخترع صورته. جاؤوا: وردوه واتنهوا إليه. ظلماً: وضع الشيء في غير موضعه. زوراً. شهادة بالباطل. أساطير: جمع أسطورة أي أخبار وحكايات مسطورة في كتب الأوائل ليست محل الثقة. إكتتبها: أمر بكتابتها له، وافتعل يأتي للطلب كاحتجم واقتصد. تملى: تلقى عليه ليحفظها فيلقيها على الناس. بكرة: ما بين الفجر والطلوع. أصيلا: ما بعد العصر إلى الغروب. السر: الخفي من كل شيء. غفورا: ستاراً للذنوب كثير التجاوز عنها. رحيما: دائم الإفاضة للنعم.
__________
(1) 4/ 25، 5، 6 الفرقان.(1/383)
المعني:
وقال الذين أنكروا الحق مع ظهوره، وجحدوه مع وضوحه، ما هذا الكلام الذي يتلوه محمدٌ علينا إلا كلام كذب مصروف عن وجه الحق اخترعه وصوره وأعانه عليه غيره من أناس آخربن، فقد سموا الحق الصراح والصدق الخالص إفكاً، وجعلوا أخبار الأمين الذي كانوا يدعونه هم أميناً، افتراء وجعلوا القرآن الذي عجزوا عن معارضته كلاماً عادياً متعاوناً على تركيبه وتصويره، فسموا الشيء بغير اسمه ووضعوا الوصف في غير موضعه، فانتهوا بذلك إلى ظلم عظيم أتوه ووقعوا فيه وقد شهدوا بالباطل، فنسبوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما هو برىء منه من الافتراء والاستعانة بغيره فانتهوا إلى زور عظيم تحملوه.
وقالوا:- أيضاً- هذا الذي يتلوه علينا هو من أخبار الأوائل وكتبهم المسطورة التي سطروها من أعاجيب أحاديثهم مما يتلى به ولا يوثق بصحته توصل إليها من غيره، أمر فكتبت له فكاتبها له يمليها عليه دائماً في طرفي النهار فيحفظها هو ويأتينا بها.
قل- يا محمد- أنزل هذا الذي أتلوه عليكم الخالق الذي يعلم الشيء الخفي والأمر المكتوم في العالم العلوي والعالم السفلي. وما أمهلكم فلم يعاجلكم بالعذاب، وبقي يجدد لكم التذكير مع إعراضكم وعنادكم وقبح صنيعكم وسوء ردكم إلا أنَّه من شأنه الصفح والتجاوز ودوام الإنعام والتفضل، فهل لكم أن ترجعوا إلى هذا الرب الغفور الرحيم؟
مزيد بيان:
بهر العرب ما رأوا وما سمعوا، من رجل كان بالأمس معرضاً عنهم تاركاً لهم وشأنهم يشهد موسم الحج معهم ويجتنب مشاهد(1/384)
وثنيتهم ولكنه لا يعاديهم ولا ينكر عليهم ويسير بينهم بالصدق والجد والعفاف وكمال المروءة سيرة تخالف سيرتهم فهم لذلك يحبونه ويعظمونه ويدعونه الأمين لقباً خصوه به فصار يدعى به بينهم. فأصبح اليوم- وقد جاوز الأربعين- ينكر عليهم ويسفه أحلامهم ويقبح عبادتهم وما يعبدون ويصبر على أذاهم ولا يقابلهم بالمثل ويستمر على دعوته غير مبال بهم ولا حاسب شيئاً لكثرتهم ولا لسطوتهم. ومن كلام مثل كلامهم في ألفاظه وفي تراكيبه ثم هم يعجزون عن معارضته بمثل أقصر سورة منه ثم يشهدون الفرق بينه وبين كلام محمد نفسه فهو إذا حدَّثهم بما اعتادوا من حديثه معهم حتى إذا تلى عليهم القرآن جاءهم بما هو فوق كلامه وكلامهم وما تقصر عن معارضته ألسنتهم.
بهرهم هذا وهذا وأخذ العناد بعقولهم واستحوذت عليهم شياطينهم فحاروا فيما يقذفون به هذا الرسول وهذا الكتاب، فأخذوا يقولون عن الكتاب أنه إفك مفتري ورأوه أكبر مما كانوا يسمعون من كلام محمد، فلم يكن ليأتي به وحده، وهو فوق المعتاد من كلامه، فإذا هنالك أقوام يعينونه. ومن هم الأقوام؟ وهو- بعد- في نفر قليل ممن آمن به، وهم هم في كثرتهم وتساندهم وقد عجزوا عن الإتيان بشيء مثله فالقليل أحرى بالعجز من الكثير ويقولون أنه أساطير الأولين وقد كان منهم من عرف شيئاً من أخبار الفرس وملوكهم وكان يحدثهم بها ويقصها عليهم ويزعم لهم أنها مثل ما يأتي به محمد فقالوا- وقد علموا الفرق- هذه منها وهي مثلها ولكن محمداً عرفوه أمينا لا يقرأ ولا يكتب فكيف اتصل بهاته التي زعموها أساطير فاخترعوا وسيلة لذلك أنه يكتبها له غيره ويمليها عليه وهو يحفظها ومن هو هذا الذي يكتب ويملي عليه وهم قد عرفوا مدخل محمد ومخرجه ومغداه ومجلسه وعرفوا بلدتهم ومن يساكنهم فكيف لا يرونه ولا مرة بين يدي هذا الكاتب المملي ولا يشاهدونه يوماً في صحبته فاخترعوا لذلك(1/385)
أنه يمليها عليه في طرفي النهار في ظلام من الوقت وسكون من الناس. وقالوا في الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه مفتر يستعين على افترائه بغيره، ويتظاهر باستقلاله وينسب لله ما هو حكايات الأوائل وأوضاعهم. فيكذب عليه- تعالى- لديهم.
رد الله عليهم كل ما قالوا فيهما بأنه ظلم وزور وأن ما يتلوه عليه هذا النبي الكريم من ذلك الكتاب الحكيم ليس مما يكون إلا من خالق المخلوقات العالم بأسرارها.
أسلوب في البيان:
لقد جاؤوا الظلم والزور في قولهم الأول وقوله الثاني: {قُلْ} أمر بما يرد قولهم الأول وقولهم الثاني. غير أنه قصد إلى الإيجاز وعدم التكرار فجعل مع قولهم الأول الوصف وهو الظلم واكتفى بذكره هنا عن إعادته وجعل مع قولهم الثاني الدليل وهو إنزال من يعلم السر واكتفى بذكره هنا عن ذكره مع الأول فحذف من كل ما أثبت مع الآخر. وجعل الوصف مع الأول والدليل مع الثاني ترقياً من الدعوى للدليل.
وجه الدليل:
القرآن أعجز العرب ببلاغته حتى عرفوا وعرف العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم أنه ليس مثله من طوق البشر. هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والإستدلال به له ولمن أتى به صلى الله عليه وآله وسلم. وهنالك ناحية أخرى هي أعظم وأعم وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كل ذي فهم من جميع الأمم في كل قطر وفي كل زمن. وهذه الناحية هي التي احتج بها في هذا الموطن. فقد استدل على أن القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره ولا أن يكون من أوضاع الأوائل- بأنه ينطوي على أشياء من أسرار هذا الكون لا يعلمها إلا خالقه فمن ذلك ما أنبأ به من أسرار الأمم(1/386)
الخالية وبين من أسرار الكتب الماضية وما أنبأ من أحداث مستقبلة وما ذكر من حقائق كونية كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة كالزوجية في كل شيء وسبح الكواكب في الفضاء وسير الشمس إلى مستقر مجهول معين عند الله لها وغير ذلك من أسرار العمران والإجتماع وما تصلح عليه حياة الإنسان مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم. فكتاب اشتمل على كل هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق.
ترغيب:
قد دعانا الله إلى العلم ورغبنا فيه في غير ما آية وأعلمنا أنه خلق لنا ما في السموات وما في الأرض جميعاً وأمرنا بالنظر فيما خلقه لنا، وأعلمنا هنا أن في هذه المخلوقات أسراراً بينها القرآن واشتمل عليها وكان ذلك من حجته العلمية على الخلق فكان في هذا ترغيب لنا في التقصي في العلم والتعمق في البحث لنطلع على كل ما نستطيع الإطلاع عليه من تلك الأسرار: أسرار آيات الأكوان والعمران وآيات القرآن فنزداد علماً وعرفاناً ونزيد الدين حجة وبرهاناً ونجني من هذا الكون جلائل ودقائق النعم، فيعظم شكرنا للرب الكريم المنعم.
فقهنا الله في كتابه، ووفقنا إلى الاهتداء به، والسير على سننه (1).
..
__________
(1) ش: ج3، م13، ص 116 - 120 غرة ربيع الأول 1356هـ - 2 ماي 1937م.(1/387)
مَنْزِلَةُ الرِّسَالَةِ الْعَلِيَّةِ وَالضَّرُوْرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ... } (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما طعنوا في رسالته بأنه بشر يفعل ما يفعله البشر بقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (2) رد الله عليهم بأن هذا هو حال جميع المرسلين من قبله، واحتج عليهم بما يعملون من ذلك بما يسمعون من أهل الكتاب جيرانهم وبما عندهم من أخبار عاد وثمود من بني جلدتهم.
المفردات:
الإرسال: هو البعث لتبليغ شيء أو قضائه. وفي لسان الشرع
هو إنزال الله تعالى الوحي على من اصطفاه من خلقه لينذر به من أمره بإنذاره من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3).
فالرسالة وحي مع أمر التبليغ.
__________
(1) 25/ 20 الفرقان.
(2) 7/ 25 الفرقان.
(3) 192/ 26 - 194 الشعراء.(1/388)
التراكيب:
مفعول أرسلنا محذوف تقديره رجالاً، وعليه عاد الضمير في أنهم، وهو صاحب الحال، والحال هي الجملة التي بعد إلا، والجملة الثانية حال بالعطف على الأولى، والاستثناء مفرغ من الأحوال وتقدير الكلام: وما أرسلنا قبلك رجالا من المرسلين إلاَّ حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلاّ في هذه الحال. وأن اللام والحصر بما والأكل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، وهو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشراً رداً على منكري ذلك من المشركين، وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون لأن ذلك من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم، وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية من البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها.
المعنى:
وما ينكر عليك هؤلاء من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق مع أنك رسول الله، وقد علموا أنه ما من رسول كان قبلك إلا وهذه حالته، وما أنت إلا واحد منهم فلا عيب عليك في ذلك ولا حجة لهم عليك به.
تاريخ:
هذه المقالة شنشنة قديمة من الأمم التي أرسلت إليها الرسل فقابلتها بالجهل والعناد فقد قال لنوح قومُه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} (1) وقال لهود قومه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
__________
(2) 27/ 11 هود.(1/389)
تَشْرَبُونَ} (1) ولصالح: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (2) ولشعيب: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 31) ولموسى وهرون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} (4) وفي سورة إبراهيم عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أنهم قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (5) فقال المشركون للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما قاله أمثالهم لإخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
تعليل:
ما اعترض المعترضون على الرسل ببشريتهم إلا من جهلهم وسوء نظرهم وغباوتهم، أما جهلهم فقد جهلوا ما في البشرية من استعداد لنيل أرقى الكمالات وجهلوا ما تقتضيه الرسالة من مشاكلة بين الرسول والمرسل إليهم لتحصل المفاهمة والإتصال. وجهلوا ما يؤهل به البشر لرتبة الرسالة من كمال في الروح والعقل، والأخلاق والسلوك مما كان الرسل متصفين به كله أمام أعين أقوامهم، وأما سوء نظرهم فإنهم نظروا إلى بشرية الرسل فقاسوهم بهم وقالوا لهم أنتم مثلنا مع وجود الفارق الواضح بينهم وبين الرسل في الصفات النفسية التي بها كمال الإنسان، وأما غباوتهم فإنهم لغلبة الجسمانيات على حسهم وإهمالهم استعمال عقولهم لم يتفطنوا للكمال المشاهد الذي امتاز به الرسل بين أقوامهم.
__________
(1) 33/ 23 المؤمنون.
(2) 154/ 26 الشعراء.
(3) 186/ 26 الشعراء.
(4) 48/ 23 المؤمنون.
(5) 14/ 10 إبراهيم.(1/390)
تعليم:
هذه العلل التي صدر اعتراض المعترضين عنها قد علمنا الله تعالى
في كتابه العزيز ما يعصمنا منها، فعلمنا أن الإنسان مستعد لأن تخضع له العوالم بما فيه روح الله وأنه يلتحق بعالم الملائكة الأطهار بتلك الروح عندما تكون على أصل طهرها وقدسها، علمنا هذا بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) فأخضع له ملائكته أشرف العوالم وبقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (2) فاتصل بهم وخاطبهم وعلمهم، فلا عجب أن يأتي المماثلون له من أبنائه في طهره وعصمته على سنته في الإتصال بالملائكة ومخاطبتهم، وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم ليحصل الاتصال ويمكن التلقي، وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك وأنهم لو أنزل عليهم ملك وهم بشر لكسي حلة البشرية ولا التبس عليهم أمره ولقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر. علمنا بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (3) وبقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (4). وعلمنا أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله تعالى له ومن مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه
__________
(1) 5 29/ 1 الحجر و 72/ 38 ص.
(2) 33/ 2 البقرة.
(3) 17/ 95 الإسراء.
(4) 9/ 6 الأنعام.(1/391)
على غاية الطهر والعلوية النورانية مستعدة للإتصال بالملأ الأعلى حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي. علمنا هذا بمثل قوله تعالى. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (1) وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (2). وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} (3) وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (4) وغيره كثير. وعلمنا أن الرسل وإن كانوا موافقين لنا في الخلقة البشرية فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية من حيث الطهر والكمال. فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء ونفوسنا لا تخلو من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات، وكمالهم فطري ويبلغون فيه بعملهم المتواصل وعصمتهم الربانية إلى الغايات التي لا تنال وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة الفطرة والعمل المتواصل والعصمة.
علمنا هذه بقوله تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (5) فبالنظر الصحيح فيما منَّ الله عليهم به ندرك أنهم ليسوا مثلنا وإن ساوونا في الخلقة البشرية. وعلمنا أن لا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية بل نعبر من
__________
(1) 22/ 75 لحج.
(2) 47/ 38 ص.
(3) 42/ 3 آل عمران.
(4) 6/ 124 الأنعام.
(5) 11/ 14 إبراهيم.(1/392)
الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير. وعلمنا هذا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (1) فلا ينظر إلى بهرجة الكثرة ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما وبقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} (2) فلا يجوز أن نغتر بالمال والقوة والجاه وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق والعسر والضعف فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر أو ضجر ويأس وفجُور فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبيت ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحْكم الحاكمين. وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) فعلمنا أنه بشر ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله وبما يقتضيه من مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال حتى لا تعجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندْركه ببصائرنا.
__________
(1) 103/ 5 المائده.
(2) 89/ 15 - 17 الفجر.
(3) 111/ 18 الكهف و 6/ 41 السجدة.(1/393)
عقيدة:
الرسول إنسان ذو روح طاهرة نورانية علوية بها تأتى له تلقي الوحي من الملائكة وذو جسد بشري عليه ضروريات البشرية الخلقية دون نقائصها الكسبية لأنه مصرف بتلك الروح العلوية الظاهرة التي لا يصدر عنها إلا الخير، وبهذا الجسد البشري تأتي للبشر الأخذ عنه والإاقتداء به ومأخذ هذه العقيدة من الآيات التي تلوناها في فصل التعليم المتقدم.
تحذير:
علينا أن نحذر من أن نعترض أو نحكم بالأنظار السطحية دون بحث عن الحقائق أو أن نلحق شيئاً بشيء دون أن تتحقق انتفاء جميع الفوارق. فقد انتشرت بعدم الحذر من هذين الأمرين جَهالات وارتكبت ضلالات، وبالنظر السطحي ازدرى إبليس آدم فامتنع من السجود له واعترض على خالقه فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين وبعدم النظر إلى الفوارق قال أحد ابني آدم لأخيه لما تقبل قربانه دونه هو {لَأَقْتُلَنَّكَ} حتى ذكره أخوه بوجود الفارق فقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) وحقيقة الأول ترجع إلى الجهل المركب وحقيقة الثاني ترجع إلى القياس الفاسد وهما أعظم أصول الفساد والضلال.
سلوك:
الأنبياء والمرسلون أكمل النوع الإنساني وهم المثل الأعلى في كماله وقد كان أصل كمالهم بطهر أرواحهم وكمالها فأقبل على روحك بالتزكية والتطهير والترقية والتكميل ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاقتداء بهم
__________
(1) 5/ 30 المائدة.(1/394)
والإهتداء بهديهم وقد قال الله تعالى لنبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1) فاقرأ ما قصه القرآن الكريم من أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم وسيرهم وتفقه فيه وتمسك به تكن- إن شاء الله تعالى- من الكاملين (2).
__________
(1) 6/ 90 الأنعام.
(2) ش: ج1، م7، ص 1 - 7
غرة رمضان 1350 هـ - جانفي 1932م(1/395)
فِتْنَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
أفاد ما تقدم من الآية أن الرسل يأكلون الطَّعام فيحتاجون للغذاء وتحصيله، وأنهم يمشون في الأسواق للسعي والتكسب، وأفاد آخر الآية الحكمة الربانية في ذلك، وهو أن يكون بذلك فتنة واختبارا للعباد، وتلك سنة الله تعالى في خلقه، فقد جعل بعضهم لبعض فتنة.
المفردات:
قال في (لسان العرب): الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة الإبتلاء والإمتحان والإختبار، وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد ا. هـ، ومنه قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) و {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (3) و {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (4) و {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
__________
(1) 25/ 20 الفرقان.
(2) 2/ 29 العنكبوت.
(3) 28/ 8 الأنفال و 25/ 64 التغابن.
(4) 40/ 20 طه.(1/396)
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (1). (أتصبرون): الصبر حبس النفس على المكروه. والمكروه لها فعل ما فيه تعب، وترك ما فيه لذة. ويكون في المشروع والمقدور، ففي الأول بالقيام بالمأمورات والترك للمنهيات. وفي الثاني- وهو المصَائب والبلايا- بالرضا والتسليم للخالق وعدم الاعتراض عليه وعدم السعي في إزالتها بغير الوجه المأذون فيه. و (الصبر): هو المشاهد للأشياء ظاهرها وباطنها، ذواتها ونعوتها وأحوالها، مبادئها وغاياتها وعواقبها.
التركيب:
الاستفهام في (أتصبرون) بمعنى الأمر، أي اصبروا. وخرج الأمر في صورة الإستفهام تنبيهاً على قلة الصبر في الوجود فهو من الأمر المعدوم الذي يسأل عنه هل يوجد، وفي ذلك بحث للهمم على تحصيله والتمسك به. وجملة (وكان ... الخ) معطوفة على جملة {وَجَعَلْنَا} وعدل عن مقتضى الظاهر، وهو وكنا بصراء بالإضمار إلى {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} بالإظهار للتنبيه على أن فتنته لعباده من مقتضى ربوبيته لهم وحسن تدبيره فيهم. موقع هذه الجملة بعد الجملة الأولى لبيان أن فتنته لهم هي من علم وبصر بصواب ذلك وحكمته، وأنه مطَّلع على حقيقة ما يكون منهم عند الاختبار ليجازيهم عليه، وفي هذا وعد ووعيد للممتحنين.
المعنى:
امتحنا بعضكم ببعض لتظهر حقائقكم عند الإمتحان. جلنا الرسل يأكلون كما يأكل البشر ويتكسبون كما يتكسبون لنمتحن العباد بهم فيظهر من يتبعهم بالإيمان واليقين لما معهم من الحق والكمال
__________
(1) 35/ 21 الأنبياء.(1/397)
ويصبر على ما يلحقه في أتباعهم من الجهد والبلاء ممن يحتقرهم ويعرض عنهم لما يرى من بشريتهم، كما جعلنا الأمم فتنة لرسلها وامتحاناً لهم ليظهر صبرهم على ما يلاقون منهم من إذاية وشر، فتعلو درجاتهم ويضاعف أجرهم. وجعلنا الغني إمتحاناً للفقير حتى يظهر صبره على حاله وكفه لعيْنه ويده عن شيء غيره، كما جعلنا الفقير امتحاناً للغني حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه، وجعلنا الصحيح فتنة للمريض حتى يظهر صبره على بلواه ورضاء بما أعطاه الله، كما جعلنا المريض فتنة للصحيح حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه من العطف عليه وعيادته ومواساته: وجعلنا الرعية فتنة للراعي حتى يظهر صبره على القيام بواجب رعايتها، كما جعلنا للراعي فتنة للرعية ليظهر صبرها على طاعته، وهكذا في جميع أقسام الناس. أتصبرون على هذا الإمتحان فإن الصبر عليه عزيز شديد فاصبروا فإنه لا يخرجكم من هذا الإمتحان خالصين خلوص الذهب الإبريز إلا الصبر، وكان ربك يا محمد بصيراً عالماً بعاقبة الإمتحان في عباده، مطلعاً على كل ما يكون منهم عند الإمتحان ليجازيهم عليه.
سؤال وجوابه:
الله تعالى عالم بما يكون من عباده بعد امتحانهم قبل أن يمتحنهم فما هي حكمة الإمتحان؟ والجواب: أن الله تعالى إنما يحاسب عباده على ما عملوا وكسبوه واكتسبوه بما عندهم من التمكن من الفعل والترك وما عندهم من الاختيار لا على ما علمه منهم قبل أن يعملوه، فلهذا يمتحنون لتظهر حقائقهم ويقع جزاؤهم على ما كسبت أيديهم باختيارهم، ولا حجة لهم في تقدم علمه تعالى بما يكون منهم، لأن تقدم العلم لم يكن ملجئاً لهم على أعمالهم، ففي هذا الإمتحان قيام حجة الله على العاملين أمام أنفسهم وأمام الناس، كما فيه إظهار لحقيقتهم لأنفسهم ولغيرهم.(1/398)
تطبيق:
كما يفتن الفرد بالفرد كذلك تفتن الأمة بالأمة، من ذلك أننا- معشر الأمة الإسلامية- قد فتنا بغيرنا من أمم الغرب وفتنوا هم أيضاً بنا. فنحن ندين بالإسلام وهو دين السعادة الدنيوية والأخروية، ولكن حيثما كنا- إلا قليلاً- لسنا سعداء لا في مظاهر تديننا ولا في أحوال دنيانا، ففي الأولى نأتي بما يبرأ منه الإسلام ونصرح بأنه من صميمه. وفي الثانية ترانا في حالة من الجهل والفقر والتفرق والذل والاستعباد يرثي لها الجماد، فلما يرانا الغربيون على هذه الحالة ينفرون من الإسلام ويسخرون منه إلا من نظر منهم بعين العلم والإنصاف فإنه يعرف ما نحن عليه هو ضد الإسلام، فكنا فتنة عظيمة عليهم وحجاباً كثيفاً لهم عن الإسلام، فكنا- ويا للأسف- فتنة للقوم الظالمين. وهم من ناحيتهم نراهم في عز وسيادة، وتقدم علمي عمراني فننظر إلى تلك الناحية منهم فنندفع في تقليدهم في كل شيء حتى معائبهم ومفاسدهم ونزدري كل شيء عندنا حتى أعز عزيز إلا من نظر بعين العلم فعرف أن كل ما عندهم من خير هو عندنا في ديننا وتاريخنا، وأن ذلك هو هو الذي تقدموا وسادوا به وأن ما عندهم من شر هو شر على حقيقته وأن ضرره فيهم هو ضرره وأنه لا يجوز أن يتابعوا عليه فكانوا فتنة لنا حتى يظهر من ينظر بعين الحق للحقائق ممن تبهره الظواهر فتسلبه إدراكه فيغدو لا يفرق بين اللب والقشور.
إقتداء:
علمنا من هذه الآية وغيرها أن الله تعالى يمتحن عباده ويختبرهم ليظهر حقائقهم، فلنقتد به تعالى في هذا فنبني أمورنا على الإمتحان والإختبار فلا نقرر علماً، ولا نصدر حكماً إلا بعد ذلك وخصوصاً في معرفة الناس والحكم عليهم، فالظواهر كثيراً ما تخالف البواطن(1/399)
والتصنع والتكلف قلما يسلم منهما أحد ولا يعصم من الخطأ مع هذه المغالطات كلها إلا الإمتحان والإختبار فاعتصم بهما.
إهتداء:
كل من اتصل بك من أهلك وبنيك وأبيك وأمك وأصحابك وعشيرتك وقومك وكل من ترتبط به برباط من أبناء جنسك- هو فتنة وامتحان لك هل تقوم بواجبك نحوه من جانب خير له أو دفع شر عنه أو جلب خير منه لغيره أو دفع شره عن غيره. وهل تكف يدك عن شيئه وتكف بصرك عما متع به وتسأل الله مما عنده من فضله؟ وإنما تقوم بواجبك نحوه مما تقدم وتكف يدك وعينك عنه وتسأل الله مما عنده راضياً بما قسم لك معتقداً الخير كل الخير في قسمته- إذا تذرعت بالصبر على إتيان ما يطلب منك إتيانه وإن كان عليك ثقيلاً. والكف عما يُطْلب منك الانكفاف عنه وإن كان منك قريباً وفي طبعك لذيذاً، وإنما يكون لك هذا الصبر إذا كنت دائم اليقين بعلم الله بك واطلاعه عليك وأنه كان بك بصيراً.
هذه الحقائق كلها هدتنا هذه الآية الكريمة إليها: هدتنا إلى أنَّا امتحنا ببعضنا، وأن الذي يخلصنا في هذا الإمتحان ويخرجنا سالمين هو الصبر، وأن حالتنا في الإمتحان منكشفة لمن سيجازينا عليها. فلنهتد بهدايتها إلى ما هدتنا إليه، ولنتدرع في هذا الإمتحان بالصبر المتين ولنستحضر في قلوبنا مراقبة الله لنا لتثبت قدمنا في مقام الصبر بروح اليقين، فبذلك نخرج- إن شاء الله تعالى- من نار الفتنة ذهباً خالصاً نقياً، وجوهراً طيباً زكياً فنسعد في الدارين برضى رب العالمين، والله ولي التوفيق (1).
__________
(1) ش: ج1، م 8، ص 7 - 12
غرة شوال 1350 - فيفري 1932(1/400)
نَدَامَةُ الظَّالِمِ عَلَى تَرْكِهِ السَّبِيلَ الْقَوِيمِ وَصُحْبَتِهِ لِلْمُضِلِّينَ
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما سأل المشركون أن يروا الملائكة أخبروا بأنهم سيرونهم في يوم يكون شره عليهم عظيماً. وذكر في الآيات السابقة ما يكون في ذلك اليوم من حبوط أعمالهم وتشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة وغير ذلك، وذكر في هذه الآيات ما يكون في ذلك اليوم من ندم الظالم وسوء حاله.
المفردات:
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، كوضع الكفر موضع الإيمان، ووضع المعصية موضع الطاعة. وحق الله تعالى أن يؤمن به ويوحد ويطاع، فمن كفر أو أشرك به أو عصاه فقد ظلم. وهو هنا الكافر والمشرك لأنه الذي لم يتخذ مع الرسول سبيلاً. الويلة: الهلكة كالويل بمعنى الهلاك، فلان: يكنى به عن الأعلام كما يكنى بالهن
__________
(1) 27/ 25 - 29 الفرقان.(1/401)
عن الأجناس. الخليل: فعيل بمعنى فاعل، وهو من تخللت مودته القلب وامتزجت بالنفس فكانت له مكانة منهما وسلطان عليهما. هذا في جانب الخلق وأما في جانب الله تعالى فبالمعنى الذي يليق بقدسه وتنزيهه فإبراهيم- عليه السلام- خليل الرحمن بما له عنده تعالى من عظيم المنزلة ورفعة الشأن وقبول الدعوة وما له عليه من جزيل الإنعام. الإضلال: الصد والصرف عن طريق الحق والنجاة. الذكر: القرآن العظيم، وفسر بالشهادتين وبالإسلام، والقرآن فيه ذلك كله وهو الذي سيأتي على الأثر ذكر هجرهم له، ولذلك اخترناه في معنى الذكر هنا. الشيطان: الخبيث الشرِّير الذي استولى عليه وتمكن منه خلق الإفساد، والإضرار من الجن والإنس. الخذول: الكثير الخذل أي التسليم والترك لمن نزل به البلاء في وقت الحاجة إلى إنقاذه.
التراكيب:
شأن من وقع في غيظ وحسرة وندامة أن يعض يديه ويأكل بنانه كأنه لمَّا لم يجد شيئاً يطفيء فيه غيظه رجع على نفسه بذلك، فعض اليد لازم لحالة الحسرة والغيط والندامة، فلذا يكنى به عنها من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، وذلك لا يمنع من وقوع العض منه حقيقة بل وقوع ذلك هو الشأن الغالب. وجملة {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} حالية فهو يعض حالة كونه قائلاً يا ليتني فبينت هذه الجملة ما يقول كما بينت التي قبلها ما يعمل، فصورتاه في حاله الشنيع الفظيع. ويوم: منصوب بأذكر أو معطوف على {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} كما عطف عليه {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} ويوم يرون: منصوب بأذكر أو بيمنعون البشرى كما يدل عليه {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} والتنكير في قوله {سَبِيلاً}، للإفراد أي سبيلاً واحداً لا تعدد فيه، بخلاف ما كان عليه الظالم من سبل أهوائه(1/402)
المتعددة المتشعبة، والألف في {يَا وَيْلَتَى} منقلبة عن ياء المتكلم، والأصل يويلتي، نادَى ويلته أي هلكته لتحضر في ذلك الوقت لأنه وقتها وليس نداؤها رغبة في حضورها، فالهلاك لا يرغب فيه وإنما نادى الهلاك ليحضر لما حصل له من اليأس والقنوط من أسباب النجاة، فلم يبق له إلا الهلاك، كما يقول العليل للطبيب وقد آيس من معالجة جرح بيده مثلاً: اقطع فهذا وقت القطع، وهكذا يخرج كل نداء في حالة شدة لما لا يخلص منها، وإنما يزيد في اشدادها كما ينادي الشقي (يا شقوتاه) والمفتضح (يا فضيحتاه) والمصاب (يا مصيبتاه) وكنى بفلان لأن لكل ظالم خليلاً له اسمه الخاص فلا يمكن التصريح بأسماء الجميع، فما بقي إلا الكناية عنها بفلان، وجملة {لَقَدْ أَضَلَّنِي} بيان لسبب تمنيه السابق وأل في الشيطان والإنسان للجنس، فيدخل في جنس الشيطان خليل الظالم الذي صده عن الذكر وقرين خليله من الجن الذي سول له ذلك وأعانه. وقرينه هو الذي زينه له ودعاه إليه، والجملة من كلام الظالم لإعلان خيبته وإظهار ألمه منها لما وجد نفسه وحده مخذولاً ممن أضله وأغواه.
المعنى:
ويوم يعض الظالم لنفسه بالكفر لربه أو الشرك على يديه ندماً وحسرة على تفريطه وعدم اتباعه لسبيل الحق مع الرسول الذي أرسل إليه وعلى توريطه لنفسه بصحبته لخليله وطاعته له حتى صرفه عن الإيمان بالقرآن بعد ما جاءه وسمعه وتمكن من الإيمان به فأغواه ذلك الخليل وقرينه، وقرينه (1) هو حتى أردوه ثم خذلوه في ذلك اليوم العظيم وفي وقت الحسرة والندامة فلم يجد منهم نصراً ولا معونة كما هو شأن الشياطين في خذلان من يغووه ويردوه (2).
__________
(1 و 2) كذا في الأصل.(1/403)
إلحاق واعتبار:
كما علينا أن نتبع سبيل الرسول- عليه وآله الصلاة والسلام- التي جاء بها من عند الله- تعالى- وهي الإسلام كذلك علينا أن نتبع سبيله في القيام بشرائع الإسلام علماً وعملاً في أبواب العبادات وأحكام المعاملات، وفي تطبيق أصول الإسلام وفروعه على الحياة الخاصة والعامة، وهذه هي سنته التي كان عليها وكان عليها أصحابه وأهل القرن الثاني من التابعين وأهل القرن الثالث من أتباع التابعين، تلك القرون المشهود لها بالخيرية على غيرها بلسان المعصوم. وكما أن من عدل عن الإسلام ولم يسلك سبيله وقع في ضلال الكفر كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل الإسلام يندم أشد الندم ويتحسر أعظم الحسرة على ما كان من تفريطه كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل السنَّة إذ كل منهما قدظلم نفسه وفرط في سبيل نجاته. فالآية وإن كانت في الكافر والمشرك فهي تتناول بطريق الإعتبار أهل الأهواء والبدع، وبهذا كانت متناولة بوعظها وترهيبها جميع الخلق ممن لم يدخل في الإسلام أو دخل فيه، ولم يلتزم سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
تحذير:
عندما تتخلل محبة شخص من الناس قلبك وتمتزج بروحك ويستولي بسلطان مودته عليك تصير أقواله وأفعاله كلها عندك مرضية وعيوبه ونقائصه عنك محجوبة. فتمسي طوع بنانه ورهن إشارته، يوجهك حيث شاء، ويصرفك عما أراد. وهذه حالة من أخطر الأحوال عليك لأنك فيها قد سلبت تمييزك وخسرت إرادتك وصرت آلة في يد غيرك، فقد ترى الخير وتدعى إليه فيصرفك عنه، وقد ترى الشر وتحذر منه ويوقعك فيه، وهب هذا الخليل كان مخلصاً لك وحدباً عليك فإنه غير معصوم من الخطأ والضلال، أما إذا كان شريراً مفسداً فهنالك الهلاك المحقق والوبال الشديد، وقد ذكر لنا الله- تعالى- في(1/404)
هذه الآية ما كان من سوء مآل الظالم بسبب انقياده لخليله واتباعه له عن غير روية وصدق تمييز يحذرنا من سلطان الخلة الذي يهمل معه شأن الإرادة والتمييز ويعلمنا أن علينا أن نحافظ على إرادتنا وتمييزنا ونظرنا لأنفسنا مع الصديق والعدو، ومع الخليل وغير الخليل، بل نحافظ عليهما مع الخليل أكثر لأنه مظنة الخوف بما له من المكانة في القلب والسلطان على النفس.
إرشاد:
لما كان خليل المرء بهذه المنزلة فعليك أن تختار من تخال، فلا تخال
إلا من حسنت سريرته واستقامت سيرته وغلب الصواب على أقواله وأعماله ليكون دليلك إلى الخير وسائقك إليه، مع محافظتك على إرادتك وتمييزك معه على كل حال.
علامة:
إذا أردت أن تعرف شر خلانك وأحقهم بهجرك له وابتعادك عنه فانظر فيما يرغبك هو فيه وما يرغبك عنه، فإذا وجدته يرغبك عن القرآن وعما جاء به القرآن فإياك وإياه فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا قبل أن تعض على يديك على صحبتك له في الأخرى. وإذا وجدته يرغبك في القرآن وما جاء به القرآن فذلك الخليل الزكي الصادق فاستمسك به وحافظ عليه. وإن خلة أسست على الرجوع إلى القرآن والتحاب على القرآن والتناصح بالقرآن لخلة نافعة دنيا وأخرى لأنها أسست على أساس التقوى. وقد قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) (2).
__________
(1) 67/ 43 الزخرف.
(2) ش: ج2، م8، ص 63 - 75 غرة شوال 1350 - فيفري 1932(1/405)
شَكْوَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن والإعراض والصد عنه وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما كان منهم من ذلك في الدنيا ذكر ما قاله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
المفردات:
مهجورا: متروكاً مقاطعاً مرغوباً عنه. الرسول: محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقومه: قريش.
التراكيب:
في قوله {يَا رَبِّ} إظهار لعظيم اِلتجائه وشدة اعتماده وتمام تفويضه لمالكه، ومدبر أمره وموالي. الإنعام عليه. وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب،
__________
(1) 25/ 30 الفرقان.(1/406)
بيان لعظيم جرمهم، فتركهم للقرآن وهو قريب منهم في متناولهم وقد أتاهم به واحد منهم أقرب الناس إليهم. فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب. وهذا أقبح الصد وأظلمه. وفي قوله: {اتَّخَذُوا ... الخ} بيان أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وذلك أعظم من أن يقال هجروه، الذي يفيد وقوع الهجران منهم دون دلالة على الثبوت والملازمة.
المعنى:
وقال الرسول شاكياً لربه إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم قد صدوا عنه فتركوه وثبتوا على تركه وهجره.
إستنتاج واعتبار:
في شكوى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من هجر القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه، وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للمهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه، ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.
تنزيل:
ونحن- معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة. وبيَّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والإعتبار مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح(1/407)
الخاص والعام فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاط المختصرة تفني الأعمار قبل الوصول إليها، وبيَّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساويء الأخلاق ومضارها، وبيَّن السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بقدسيتها فهجرنا ذلك كلها (1) ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا واصطلاحات من اختراعاتنا خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع، وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والتبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيُّل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقي بين أهلها بذور الشقاق والخصام وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها والإقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها. وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل، فهحجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وفرن الثور! ودعانا القرآن الى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير، كتفسير الجلالين، مثلاً بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك. وفي جامع الزيتونة عمره الله- تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه- ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً أو شهوراً، فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً دون أن
__________
(1) كذا في الأصل.(1/408)
يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية. فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسم أنهم في خدمة القرآن.
وعلَّمنا القرآن أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما أتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن، فهجرناها كما هجرناه وعاملناه بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة. وكم وكم وكم بيَّن القرآن وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران.
بيان واستشهاد:
شر المهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه، لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك، وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم في كتاب (أعلام الموقِّعين) عن حماد بن سلمة ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال: ((تكون فتن فيكثر المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرؤه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنَّه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة))(1/409)
قاله معاذ ثلاث مرات ا. هـ فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة ووضع كتباً من عنده أو مما وضعه أسلافه من قبله وروَّجها بين أتباعه فأقبلوا عليها وهجروا القرآن. وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه إذ لا نفع بما صرف عباد الله عن كتاب الله، وإنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير. وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على معاذ فهو في حكم المرفوع لأنه إخبار بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- إلا بتوقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سبيل النجاة:
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه إلا بالرجوع إلى القرآن. إلى علمه، وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقه فيه وفي السنة النبوية شرحه وبيانه، والإستعانة على ذلك بإخلاص القصد وصحة الفهم والإعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والإهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين، وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه ييسِّر على من توكل على الله فيه، وقد بدت طلائعه والحمد لله وهي آخذة في الزيادة إن شاء الله وسبحان من يحيي العظام وهي رميم.(1/410)
التَّسْلِيَةُ وَالتَّثْبِيتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما شكا عليه الصلاة والسلام قومه سلاَّه الله تعالى وعزَّاه وأمره بالصبر والثبات ووعده ورجاه.
المفردات:
العدو: وزنه فعول يكون للواحد والجماعة.
التراكيب:
كاف كذلك بمعنى مثل، والإشارة (2) للجعل المفهوم مما تقدم، أي مثل ذلك الجعل للأعداء لك جعلنا لكل نبي ... الخ.
المعنى:
مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بك وهجروا كتابك وصدوا عنك وبالغوا في إذايتك جعلنا لكل نبيء مما نبأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام، فما أصابك إلا ما أصابهم فاصبر كما صبروا وكفى بربك
__________
(1) 25/ 31 الفرقان.
(2) في الأصل: الإشار.(1/411)
هادياً يهديك إلى طريق الحق ويبصرك الرشد ويعرفك بما تؤدي به رسالة ربك، فلا تتحير في أمرك لما ترى من صدود قومك وناصراً ينصرك على أعدائك يأمره بالصبر ويثبته بالتآسي، يعده بأنه يهديه في طريق التبليغ وينصره على معارضيه حتى يتم أمر الله على يده.
ترهيب:
هؤلاء الذي (1) سماهم الله- تعالى- أعداء لنبيه ووصفهم بالإجرام هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه فهذا تخويف عظيم ووعيد شديد لكل من كان هاجراً للقرآن العظيم بوجه من وجوه الهجران.
إقتداء وتأس:
حق على حزب القرآن الداعين به والداعين إليه أن يقتدوا بالأنبياء والمرسلين في الصبر على الدعوة والمضي فيها والثبات عليها وأن يداووا أنفسهم عند ألمها واضطرابها بالتآسي بأولئك السادة الأخيار.
بشارة:
قد وعد الله تعالى نبيه بعد ما أمره بالتآسي والصبر- بالهداية والنصر- وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده السائرين في الدعوة بالقرآن وإلى القرآن على نهجه أنه يهديهم وينصرهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) معهم بالفضل والنصر والتأييد، وهذا عام للمجاهدين المحسنين والحمد لله رب العالمين (3).
__________
(2) كذا في الأصل وصوابه الذين.
(2) 69/ 29 العنكبوت.
(3) ش: ج2، م8، ص 68 - 75
غرة شوال 1350 - فيفري 1932(1/412)
تَثْبِيتُ الْقُلُوبِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيِمِ
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة نسق مع ما تقدم منها ليجاب عنه ويبين خطؤهم فيه كما فعل تقدمة.
المفردات:
{لَوْلَا}: مع المضارع للتحضيض نحو {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ} (2) ومع الماضي للوم والتوبيخ نحو {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (3) وهي هنا مع الماضي فتكون للوم على عدم حصول المذكور وحصول ضده، والمقصود من اللوم هنا الإعتراض على عدم نزوله جملة واحدة ونزوله مفرقاً، فالمعترض عليه هو نزوله مفرقاً. {نُزِّلَ}: يأتي مرادفاً لأنزل، والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير فيفيد تكرر النزول وتجديده. وخرج على هذا قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
__________
(1) 25/ 32 الفرقان.
(2) 46/ 27 النمل.
(3) 13/ 24 النور.(1/413)
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ- من الكتاب- وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (1) وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة. وعندي أن {نزَّل} المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته، فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية، لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كل جزء من الأجزاء بمفرده. (كَذَلِكَ): الإشارة للإنزال المفرق المفهوم من قولهم {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً} لأنه في معنى: لمه نزل عليه جملة ولم ينزل عليه مفرقا. (التثبيت): ثبات الشيء إقامته ورسوخه دون اضطراب وذلك من قوته، كما أن اضطراب المضطرب من ضعفه، فتفسير تثبيت الفؤاد هنا بتقويته تفسير يلازم معناه، على أنه مراد منه أيضاً أصل المعنى، وهو السكون وعدم الإضطراب. فتثبيته- إذاً- هو تسكينه وتقويته. (الترتيل): مادة رتل كلها ترجع إلى تناسق الشيء وحسن تنضيده، منه ثغر رتل- بالتحريك- أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضاً، وترتيل القرآن في التلاوة هو القاء حروفه حرفاً حرفاً وكلماته كلمة كلمة وآياته آية آية على تؤدة ومهل حتى يتبين للقارىء وللسامع، ولا يخفى عليه منه شيء، وأما ترتيله في نزوله وهو المراد هنا فإنه (2) إنزاله آية وآيتين وآيات مفرقاً نجوماً على حسب الوقائع.
التراكيب:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وصل لأنه قيل من أقوالهم فعطف على ما تقدم من مثله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ} الأصل أنزلناه كذلك
__________
(1) 3/ 3 آل عمران.
(2) كذا في الاصل.(1/414)
فأوجز بحذف المتعلق لوجود ما يدل عليه في اعتراضهم وفصل لأنه جواب عن اعتراضهم. {وَرَتَّلْنَاهُ}: وصل لأنه معطوف على أنزلناه المحذوف، والتنوين في {تَرْتِيلًا} تنوين تنويع وتعظيم أي نوعاً من الترتيل عظيماً.
المعنى:
وقال الذين كفروا- وهم قريس أو اليهود أو الجميع، وهو الظاهر لأن قريشاً واليهود كان يتصل بينهم الكلام في شأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وشأن القرآن- قالوا معترضين ومقترحين: لمه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة وغيرها ونزل عليه مفرقاً. فقال الله- تعالى- جواباً لهم وأنزلناه كذلك الإنزال مفرقاً لنثبت به قلبك فيسكن ويطمئن وتقوية فيصبر ويتحمل. وأنزلناه مرتلاً مفرقاً تفريقاً مرتباً منزلاً كل قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله والحالة الداعية إليه اللائقة به.
مزيد بيان للإعتراض والجواب:
أما اعتراضهم فكان لأنهم سمعوا القرآن يذكر أن الكتاب أنزل على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما أنزلت الكتب على الأنبياء- عليهم السلام- من قبله بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} فقالوا لماذا نزل هذا الكتاب مفرقاً ولم ينزل مثل تلك الكتب جملة واحدة؟ وهم لما عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه أخذوا يباهتون بالباطل ويعترضون بمثل هذا الإعتراض. وأما الجواب فكان ببيان حكمتين في إنزاله مفرقاً: الحكمة الأولى تثبيت قلبه والحكمة الثانية تفريقه مرتباً على الوقائع وكان في تينك الحكمتين مزيتان عظيمان للقرآن العظيم على غيره من كتب الله تعالى فكان ما اعترضوا به على أنه نقص فيه عنها هو كمال له عليها.(1/415)
شرح الحكمة الأولى.
كان كل نجم ينزل من القرآن العظيم- والنجم القسم الذي ينزل معاً آية أو آيتين أو أكثر- يزداد به عجزهم وعنادهم ظهوراً وتزداد به حجة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وصدقه وضوحاً فيزداد بذلك سكون قلبه وطمأنينته بظهور أمره على عدوه وعلو كلمة الحق على كلمة الباطل وفي ذلك تقوية له وأي تقوية لا عن شك كان في قلبه أو تردد ولكن البراهين المتوالية والحجج المتتالية تزيد في سكون القلب واطمئنانه، وإن كان معقوداً من أول أمره على اليقين فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرقات في النزول. وقد كان كل نجم من نجوم القرآن ينزل بشيء من العلم والعرفان مما يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام أو التذكير بالأمم الماضية وأخبار الرسل المتقدمين أو باليوم الآخر أو بسنة الله في المكذبين إلى غير ذلك من علوم القرآن فيتقوى قلبه عند نزول كل نجم بما يكتسبه منه من معرفة وعلم. وكان يلقى من الجهد والعناء في تبليغ الرسالة ما تضعف عن تحمله القوى البشرية، فإذا نزل عليه القرآن واتصل بالملك الروحاني النوراني وقذف في قلبه ذلك الوحي القرآني تقوى قلبه على تحمله أعباء الرسالة ومشاق التبليغ ولما كان البلاء والعناء في سبيل التبليغ متكرراً متجدداً كان محتاجاً إلى تجديد تقوية قلبه وكان ذلك مقتضياً لتفريق نزول الآي عليه. فهذه ثلاثة وجوه من التثبيت.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
قلوبنا معرضة لخطرات الوساوس بل للأوهام والشكوك. فالذي يثبتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم. ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم، ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلاّ شكاً وما ازدادت قلوبهم إلا مرضاً حتى(1/416)
رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن، وأدلة القرآن، فشفوا بعد ما كادوا، كإمام الحرمين والفخر الرازي. وقلوبنا معرضة لران المعصية الذي تظلم منه القلوب وتقسوا حتى تحجب عنها الحقائق وتنطمس أمامها سبل العرفان. فالذي يجلو عنها ذلك الران ويزيل منها تلك القسوة ويكشف لها حقائق العلم ويوضح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم. فقراؤه المتفقهون فيه قلوبهم نيرة مستعدة لتلقي العلوم والمعارف، مستعدة لسماع الحق وقبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل وتميز به بين الهدى والضلال، وقلوبنا معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكليف وما نحن مطالبون به من الأعمال والذي يجدد لنا فيها القوة ويبعث فيها الهمة هو القرآن العظيم فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبره أكيدة جدا لتقوية قلوبنا باليقين، وبالعلم، وبالهمة والنشاط للقيام بالعمل.
شرح الحكمة الثانية:
من محاسن هذه الشريعة المطهرة أنها نزلت بالتدريج المناسب كما كان في تحريم الخمر وكما كان في العدد المفروض عليه الثبات للعدو في آيات الأنفال وكما كان في مشروعية قيام الليل في آيات سورة المزمل وما كان ليكون هذا التدريج بغير تفريق الآيات في التنزيل. ومن محاسنها نسخ المحكم عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه وانقضاء زمنها لحكم آخر أنسب منه للبقاء في الأزمان كما كان في آيتي المتوفى عنها في سورة البقرة وما كان ذلك ليتأتى إلا بتفريق الآيات في الإنزال. وكانت الوقائع تقع والحوادث تحدث والشبه تعرض والإعتراضات ترد فكانت الآيات تنزل بما تتطلبه تلك الوقائع من بيان وما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام وما تستدعيه تلك الشبه من رد وتلك الإعتراضات من إبطال إلى غير ما ذكرنا من مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النزول وفي بيان الواقعة عند وقوعها(1/417)
وذكر حكم الحادثة عند حدوثها ورد الشبهة عند عروضها وإبطال الإعتراض عند وروده، ما فيه من تأثير في النفوس ووقع في القلوب ورسوخ في العقول وجلاء في البيان وبلاغة في التطبيق واستيلاء على السامعين وما كان هذا كله ليتأتى لولا تفريق الآيات في التنزيل وترتيلها وتنضيدها هذا الترتيل العجيب وهذا التنضيد الغريب الذي بلغ الغاية من الحسن والمنفعة حتى إنه ليصح أن يعد وحده وجهاً من وجوه الإعجاز.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
أن نقرأ القرآن ونتفهمه حتى تكون آياته على طرف ألسنتنا ومعانيه نصب أعيننا لنطبق آياته على أحوالنا وننزلها عليها كما كانت تنزل على الأحوال والوقائع فإذا حدث مرض قلبي أو اجتماعي طلبنا دواءه في القرآن وطبقنماه عليه وإذا عرضت شبهة أو ورد اعتراض طلبنا فيه الرد والإبطال وإذا نزلت نازلة طلبنا فيه حكمها وهكذا نذهب في تطبيقه وتنزيله على الشؤون والأحوال إلى أقصى حد يمكننا.
اقتداء:
انظر الى هذه الحكمة في هذا التنزيل كيف تنزل آياته على حسب الوقائع في هذا قدوة صالحة لأئمة المجتمع وخطبائها في توخيهم بخطبهم الوقائع وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال. بلى والله بلى والله، ولقد كانت الخطب النبوية والخطب السلفية كلها على هذا المنوال تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال، وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلا مظهر من مظهر (1) قصورنا وجمودنا. فإلى الله المشتكى وبه المستعان (2).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) ش: ج3، م8، ص 133 - 139 غرة ذي القعدة 1350 - مارس 1932(1/418)
الْحَقُّ وَالْبَيَانُ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1).
المناسبة:
لما رد تعالى إعتراضاتهم وأبطل شبهاتهم أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه. ويصدع غشاء تمويهم بصادق بيانه فيمزقه لطمْأنة قلب نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وتثبيته ووعداً له بدوام النصر والتأييد.
المفردات:
(المثل): هو الشبه، هذا أصله، ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام، ثم لحسنه وإيجازه حفط وجرى على الألسنة وصار يقال في كل مقام يشابه مقامه الأصلي الذي قيل فيه أولاً لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول. ثم صار يطلق أيضاً على كل كلام فيه بيان لشيء وتصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع وأتى بالحق أم لم يطابق الواقع ولم يأت بالحق، وهذا المعنى هو المراد هنا، فإن المشركين جاؤوا بكلمات في حق الله- تعالى- وفي حق كتابه وفي حق ملائكته وفي حق نبيه، لم يطابقوا فيها الواقع ولا أتوا فيها بحق كقولهم في الله وملائكته: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
__________
(1) 33/ 25 الفرقان.(1/419)
الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}. وفي نبيه: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}. وفي القرآن: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}، {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا. وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بكلمات الحق الدامغة مثل قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق وأحسن تفسيراً، التفسير: الكشف عن المعنى.
التراكيب:
وصلت الجملة لمشاركتها لما قبلها في الخبرية والمخبر عنهم والموضوع المتحدث عنه مما جاؤوا به من الباطل وما رد عليهم به من الحق، وجملة {جِئْنَاكَ} حالية من كاف الخطاب المفعول في {لَا يَأْتُونَكَ} والحصر بالنفي، وإلا في تلك الحال والتقدير: ولا يأتونك بمثل في حال من أحوالك إلا في حال مجيئنا بالحق وأحسن تفسيرا، والتعبير بالمضارع في يأتونك يفيد الحدوث وتجدد الإتيان منهم، والتعبير بالماضي في جئناك مع أنه في معنى المستقبل يفيد تحقق المجيىء، وهو المناسب لمقام الوعد والتثبيت.
المعنى:
ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون وأمثالهم بكلام يحسنونه ويزخرفونه يصورون به شبهة باطلة أو اعتراضاً فاسداً إلا جئناك بالكلام(1/420)
الحق الذي يدمغ باطلهم ويدحض شبهتهم وينقض اعتراضهم ويكون أحسن بياناً وأكمل تفصيلاً.
إهتداء:
اذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شبه الظالمين واعتراضاتهم ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه، وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية ومزيد دراية وخبرة. ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام إلاَّ وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة، فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى آي القرآن ولا أخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلا واجديها فيها وكيف لا نجدها في آيات ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيراً.
إقتداء:
لنقتد بالقرآن فيما نأتي به من كلام في مقام الحجاج أو مقام الإرشاد فلنتوج دائماً الحق الثابت بالبرهان أو بالعيان ولنفسره أحسن التفسير ولنشرحه أكمل الشرح ولنقربه إلى الأذهان غاية التقريب وهذا يستدعي صحة الإدراك وجودة الفهم ومتانة العلم لتصور الحق ومعرفته ويستدعي حسن البيان وعلوم اللسان لتصوير الحق وتجليته والدفاع عنه فللإقتداء بالقرآن في الإتيان بالحق وأحسن بيان علينا أن نحصل هذه كلها ونتدرب فيها ونتمرن عليها حتى نبلغ إلى ما قدر لنا منها. هذا ما على أهل الدعوة والإرشاد وخدمة الإسلام والقرآن، فأما ما على عموم المسلمين من هذا الإقتداء فهو دوام القصد إلى الإتيان بالحق وبذل الجهد في التعبير بأحسن لفظ وأقربه ومن أخلص قصده في شيء وجعله من وكده أعين- بإذن الله تعالى- عليه.(1/421)
حَشْرُ الْكُفَّارِ إِلَى النَّارِ
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما أبطل شبههم بين مآلهم وجزاءهم.
المفردات:
(الحشر): السوق والجمع. (المكان): المنزل. (والسبيل): الطريق.
التراكيب:
فصلت الجملة لأنها بيان لحالهم في الآخرة وهو غير الموضوع المتقدم: عرف المسند إليه بالإشارة في قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} للتنبيه على أن المشار إليه وهو الذي (2) المتقدم حقيق بما بعد اسم الإشارة من قوله: {شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} بسبب ما اتصف به المشار إليه المتقدم مما دلت عليه الصلة، وهو حشرهم على وجوههم إلى جهنم الذي ما أصابهم إلا بما قدمت أيديهم، ففي الحقيقة هم الحقاء بكونهم شراً مكاناً وأضل سبيلا بسبب ما أداهم إلى ذلك الحشر. فاكتفى بذكر المسبب عن السبب وأفعل التفضيل لم يذكر
__________
(1) 34/ 25 الفر قان.
(2) كذا في الأصل.(1/422)
معه المفضل عليه ليفيد أن مكانهم شر مكان من أمكنة الشر وسبيلهم أضل سبيلاً من سبيل الضلال. وإسناد الضلال للسبيل مجاز.
المعنى:
هؤلاء المشركون القائلون للمقالات المتقدمة ومن كان على شاكلتهم في الكفر، والعناد الذين يجمعون ويساقون إلى جهنم مقلوبين على وجوههم أولئك شر مكاناً ومستقراً فإنهم أهل النار وأضل طريقاً فإنهم سلكوا طريق الكفر الذي أداهم إلى ذلك المستقر.
حديث:
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة.
فقه:
من هذا الحديث علمنا أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره ولو كان غير معتاد في الدنيا لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم.
توجيه:
رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر، ورفعوا رؤوسهم كبراً عن الحق فنكَّسها الله يوم القيامة، ومشوا في طريق النظر والاستدلال مشياً مقلوباً فمشوا في الآخرة مشياً مقلوباً فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاءاً وفاقاً لما أتوا من قبيح الأعمال. وما ربك بظلام للعبيد.(1/423)
تحذير:
فيما يذكره الله تعالى من هذا الجزاء العادل تخويف عظيم لنا من سوء الأعمال التي تؤدي إلى سوء الجزاء وخصوصاً من مثل ما ذكر فيما تقدم من ترك السُّجود والكبر على الحق والنظر المقلوب. عصمنا الله والمسلمين أجمعين بالعلم والدين وهدانا سنن المرسلين آمين يا رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج3، م8، ص 140 - 142 غرة ذي القعدة 1350 - مارس 1932(1/424)
مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ تَحْمِيلُهُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ وَحْدَهُ
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
قد استفيد من الآيات المتقدمة ما كان يكابده النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من إذاية قومه وما كان يلقاه من مكابرتهم للحق، وتعنتهم بالباطل، وما كان يعانيه من الجهد الجهيد في إنذارهم وتبليغ دين الله- تعالى- إليهم وقد أحاط به الأعداء من كل جانب، ولقيته العقبات من كل ناحية، وهو في ذلك كله جاهد في القيام بتبليغ الأمانة، ناهض بأعباء الرسالة في تلك السبيل ليس معه من نذير وقد كان ذلك مما تتفسخ له القوى البشرية لولا تأييد من الله، فأراد تعالى في هذه الآية أن يثبته في مقامه ويؤنسه في انفراده، فيبين له أن تخصيصه بالقيام هذا المقام العظيم هو لأجل تعظيمه، وتكريمه، وتخصيصه بالأجر الكثير، والثواب الذي ليس له من مثيل.
المفردات:
البعث: الإرسال. القرية: منازل الناس حيث يقيمون ويكونون مجتمعاً كبيراً أو صغيراً. النذير: المخوف من الوقوع في الشر والهلاك.
__________
(1) 25/ 51 الفرقان.(1/425)
التراكيب:
مفعول المشيئة محذوف قياساً، وتقدير الكلام ولو شئنا أن نبعث، والبعث في كل قرية منتف بحكم لوْ لأنَّها هنا تدل على امتناع شرطها.
المعنى:
لو أردنا لأرسلنا في كل بلدة ومصر رسولاً ينذرهم ويخوفم من حلول نقمتنا بهم بكفرهم بنا، ومعصيتهم لنا، فيخف عنك عبء ما حملت ويسقط عنك بذلك تعب كثير ولكنا لم نرد ذلك وحملناك أنت وحدك أعباء وأثقال النذارة لجميع القرى ليظهر فضلك بعموم رسالتك ويعظم أجرك بعظم جهادك وصبرك ويكثر ثوابك بكثرة من يؤمن بك، ومن تودُّ وتعمل ليؤمن بك.
حديث:
صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة)). وذكر اللونين الأحمر والأسود لقصد التعميم، هكذا جاء هذا الحديث عن جابر بن عبد الله في صحيح مسلم وجاء فيه من طريق أبي هريرة زيادة ((وختم بي النبيون " فتعميم رسالته وختم النبوة به في هذا الحديث الصحيح من طريقيه من مقتضى معنى الآية فإنه لما عمت رسالته ولم يكن معه رسول في حياته وختمت به النبوة فلا يكون كذلك بعد وفاته ثبتبت له كرامة الخصوصية، وعظمة المنزلية وجزالة المثوبة، وهو ما كنا بيناه في معنى الآية، وما أحسن التفسير تعضده الأحاديث الصحاح.(1/426)
تأسي ورجاء:
قد ثبت في السُّنَّة ما يكون من كثرة الجهل، وموت السنة، وانتشار البدعة، وقد أيد ذلك الواقع والمشاهدة، فإذا كان دعاة العلم، والسنة، وخصوم الجهل، والبدعة، فلا بد أن يكونوا قليلاً في العدد الكثير خصوصاً في مبدأ أمرهم وأول دعوتهم، ولا بد أن يلقوا ما يلقون ويقاسوا ما يقاسون، ومما يثبت قلوبهم في عظيم مواقفهم تآسيهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء وحده بالحق والناس كلهم على الباطل فما زال يجاهد حتى لقي ربه، ومما يثبت قلوبهم أيضاً رجاؤهم- إذا أخلصوا النية وأحسنوا الإقتداء- فيما يكون لهم من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، في جهادهم على قلتهم، وفيما يكون لهم من الثواب كذلك فيمن اهتدى بهم وفيمن بذلوا جهدهم في هدايته، وكانت لهم الرغبة العظيمة في إيصال الخير إليه، وإن لم يرجع إليهم.
عَدَمُ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ. وَالْجِهَادُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1).
المناسبة:
لما بين ما خصصه به من الكرامة دعاه إلى مقابلة ذلك بعدم طاعة أهل الكفر والثبات على جهادهم بالقرآن.
المفردات:
الفاء تعريفية- الطاعة: الإمتثال للطلب. والجهاد: بذل الجهد من
__________
(1) 25/ 52 الفرقان.(1/427)
ناحيتك في مقابلة من هو باذل جهده في الناحية المقابلة لك، هذا مقتضى صيغة فعال.
التراكيب:
جهاداً كبيراً مصدر مبين للنوع المطلوب بصفته وهي كبيرا.
المعني:
لما أكرمناك بعموم رسالتك وختم النبوة بك فقابل هذه النعمة، بإخلاص الطاعة لربك ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعدائك في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم كالرجوع إليهم والسكوت عن بعض كفرهم، وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق، ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم، وجاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء وإذاية والصبر عليه والثبات على الدعوة والمقاومة.
تعميم:
كما لا تجوز طاعة الكافرين في شيء مما يمليه عليهم كفرهم كذلك لا تجوز طاعة العصاة في شيء مما تمليه عليهم معصيتهم لأن الجميع فيه مخالفة لدين الله وكما يجاهد أهل الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير كذلك يجاهد به أهل المعصية لأنه كتاب الهداية لكل ضال والدعوة لكل مرشد، وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة من التنبيه بالأعلى على الأدنى لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة.
إقتداء:
ما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليطيع الكافرين وإنما جاء هذا النهي تهييجاً له على تمام مخالفتهم ومعاكستهم في جميع(1/428)
مناحي ومظاهر كفرهم، والخطاب وإن كان له فالحكم شامل لأمته فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو عاصياً في أيِّ شيء من نواحي الكفر ونواحي المعصية، وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه فكذلك هو فرض على أمته هكذا على الإجمال وعند التفصيل تجده فرضاً على الدعاة والمرشدين الذين (1) يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين، فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر.
إستدلال:
هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة إلى الله وإحقاق الحق من الدين وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين، وإنكار الجاحدين، هو بالقرآن العظيم، ففيه بيان العقائد وأدلتها ورد الشبه عنها. وفيه بيان الأخلاق، محاسنها ومساوئها، وطرق الوصول إلى التحلي بالأولى والتخلي عن الثانية ومعالجتها. وفيه أصول الأحكام وعللها وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم.
ميزان:
عندما يختلف عليك الدعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن- ومثله ما صح من السنة لأنها تفسيره وبيانه- فاتبعه لأنه هو المتبع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وجهاده بالقرآن والمتمثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن.
__________
(1) في الأصل "الذي".(1/429)
نعمة ومنقبة:
قد سمى الله تعالى الجهاد بالقرآن جهاداً كبيراً وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم وفي ذلك نعمة عظيمة من الله عليهم حيث يسرهم لهذا الجهاد حتى ليصح أن يسمُّوا بهذا الإسم الشريف (مجاهدون) فحق عليهم أن يقدروا هذه النعمة ويؤيدوا شكرها با لقول والعمل، والإخلاص والثبات والصبر واليقين. جعلنا الله والمسلمين منهم وحشرنا في زمرتهم أجمعين (1).
__________
(1) ش: ج4، م8، ص 200 - 220 غرة ذي الحجة 1350 - افريل 1932(1/430)
تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلتَّفْكِيرِ وَالْعَمَلِ
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما سأل المشركون بقولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} كما يسألون عن المجهول ذكر لهم القرآن ما يعرفهم به من عظيم آياته وجلائل إنعاماته التي هي من آثار رحمته، فذكر لهم بروج السماء والشمس والقمر، ثم ذكر لهم تعاقب الليل والنهار.
المفردات:
(خلفة): يقولون خلفت الفاكهة بعضها بعضاً خَلَفا- بالتحريك- وخلفة إذا صارت خلفا، من الأولى، وخلف زيد عمرا يخلفه إذا جاء بعده في مكانه، فالخِلْفة مصدر، وهو لما كان على وزن فِعْلَة دال على الهيبة كالركبة، بمعنى الهيئة من الركوب، فالخلفة إذاً هيئة من الخلوف. فإذا قلت خلفه خلفا أو خلوفا فقد أردت مطلق الحدث، وإذا قلت خلفه خلفة فقد أردت هيئة خاصة من الخلوف. (التذكر): قبول التذكير: فإن مخلوقات الله مذكرات للعبد بربه، فتذكره هو قبوله ذلك التذكير واعتباره واتعاظه به. (الشكور): مصدر شكر، بمعنى القيام بعبادته وطاعته لأجل نعمه. (أو): للتفصيل والتنويع،
__________
(1) 25/ 62 الفرقان.(1/431)
لأن المستفيدين من اختلاف الليل والنهار هم المتذكرون والشاكرون، فلا تمنع من أن يكون الشخص الواحد متذكرا شاكرا في آن واحد.
التراكيب:
خلفة: مفعول ثان لجعل، على معنى جعلهما ذوي خلفة، وفي الأخبار تقول الليل والنهار خلفة، والرجلان خلفة على هذا المعنى، أي يخلف أحدهما الآخر، وكان مفردا عن الاثنين لأنه مصدر والجار في {لِمَنْ أَرَادَ} يتعلق بجعل، وكان الجعل لهما لأنهما المستفيدان منه. ولم يكرر الإسم الموصول لأن الشخص الواحد يمكن أن يتصف بالصلتين معا، وكرر فعل الإرادة لأنها لا بد منها في التذكر وفي الشكر، وقيل (أن يتذكر) ليفيد المضارع الحدوث والتجدد فإن الغفلة مستولية على الإنسان والآيات المرئية ما تزال تحدث له التذكر وتجدده له. وقيل {شُكُورًا} لمناسبة رؤوس الآي.
المعنى:
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ووضعهما يختلفان ويتعاقبان على هيئة مخصوصة في التخالف والتعاقب ليستفيد من ذلك من العباد من أراد أن يتذكر فيعتبر بما فيهما من انتقال وتغير ونظام وتقدير، ويستدل بذلك على وجود خالقهما وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ورحمته بمخلوقاته، أو أراد أن يشكر فيقوم بعبادة خالقه المنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها التي منها هذا الإختلاف والتعاقب بين هذين الوقتين اللذين لا يصلح حال الإنسان ولا تنتظم أعماله ولا يستقيم عمرانه إلا به.
فقه لغوي:
اختيرت لفظة الخلفة هنا لدلالتها على الهيئة فتكون منبهة على(1/432)
هيئة هذا الإختلاف بالطول والقصر المختلفين في جهات من الأرض وذلك منبه على أسباب هذا الاختلاف من وضع جرم الأرض وجرم الشمس وذلك كله من آيات الله الدالة عليه وبتلك الهيئة المقدر المنظم عظمت النعمة على البشر وشملتهم الرحمة فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة ومن نعمة عامة. وهكذا جميع ألفاط القرآن في انتقائها لمواضعها.
فقه شرعي:
لما كان جعل الليل والنهار خلفة لأجل التذكر والعمل كان كل واحد منهما صالحا للعمل الذي يعمل فيه صاحبه، فمن فاته عمل بالليل أتى به في النهار، ومن فاته عمل بالنهار أتى به في الليل، وهذا إذا كان من العادات فهو على سبيل التدارك، وإذا كان من العبادات فهو على سبيل القضاء. وقد روى ابن جرير بسند حسن: ان رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتها في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ومن هذا ما رواه مسلم والأربعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل.
فقه قرآني:
حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: الإرادة والفكر والعمل، وهي المذكورات في هذه الآية، لأن التذكر بالتفكر والشكر بالعمل. فاستفادة الإنسان مما خلقه الله له وجعله لأجله لا تكون إلا بهذه الثلاثة، وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بد للإنسان منها، فالعمل متوقف على(1/433)
البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح من العقل الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، فلهذا كان الإنسان مأموراً بالمحافظة على هذه الثلاثة عقله وخلقه وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء وتوقي الأذى والتريض على العمل.
موعظة:
قال الإمام ابن العربي: سمعت ذانشمند الأكبر- يعني الغزالي- يقول إن الله خلق العبد حيا عالما وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة، إذ الكمال للأول الخالق فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في الطاعة فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب له ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ولا يتلف عمره سهرة في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم. اهـ
سلوك:
حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكراً ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعا مطيعا- تكن عبدا ذاكرا شاكرا سعيدا- إن شاء الله- في الدارين. وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين (1).
__________
(1) ش: ج5، م8، ص 245 - 249 غرة محرم 1351 - ماي 1932(1/434)
الْقُرْآنُ يَصِفُ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
الصِّفَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما تجاهل المشركون الرحمن واستكبروا عن السجود له عرفهم القرآن بالرحمن بخلقه وتدبيره وإنعامه كما مضى في الآيات المتقدمة، ثم عرفهم بعباده الذين عرفوه بذلك فآمنوا به وخصوا له بما اشتملت عليه هذه الآيات من صفاتهم. وكما كانت مخلوقات الله المذكورة سابقاً دالة عليه ومعرفة به بما فيها من آثار قدرته وآثار رحمته كذلك كان عباده المذكورون أدلة عليه ومعرفين به بأقوالهم وأفعالهم وهديهم وسلوكهم ومظاهر آثار رحمة الله عليهم، فذكروا بعد ذكر تلك المخلوقات وذكرت هي قبلهم لأنها كانت أدلة لهم، والدليل سابق على المستدل سبق المستفاد منه على المستفيد. وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن تشريف كبير لهم وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين، ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذكر والشكر في الليل والنهار في الآية المتقدمة ذكر صفات المتذكرين الشاكرين وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم ترغيباً في التذكر والشكر.
__________
(2) 63/ 25 الفرقان.(1/435)
وقولهم للجاهلين سلاماً من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه.
المفردات:
عباد: جمع عبد، بمعنى المملوك الذليل الخاضع، أو جمع عابد كصاحب وصحاب وتاجر وتجار بمعنى المطيع والقائم بما يرضي ربه، والأول هنا أظهر، الرحمن: المنعم الذي تتجدد نعمه في كل آن، يمشون على الأرض: يتنقلون عليها. هونا: هان الأمر يهون هونا بمعنى سهل، ومنه (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي سهل، وشيء هين على وزن فيعل، أي سهل، ويقال هين بالتخفيف. ومن صفات المؤمن أنه هين لين من الهون بمعنى السهولة في أخلاقه ومعاملته، وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا: ((حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس) وهو على ما فسرنا من السهولة في أخلاقه ومعاملته وذلك هو الذي يقرِّبه من الناس، وفسر الهون في الآية بالحلم والوقار والسكينة والتواضع والطاعة، وكلها ترجع إلى السهولة واللين، وفسر بعدم الفساد في الأرض وعدم التجبر والتكبر لأنها كلها أضداد للسهولة واللين. خاطبهم: كَالَمهم. الجاهلون: السفهاء القليلو الأدب السيئو الأخلاق. والجهل ضد العلم ويطلق بمعنى السفه والطيش لأنهما عنه ينشآن ومنه قول الشاعر:
أَلاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا (1)
ومنه الجاهلون في الآية. سلاما: السلام كالسلامة معناهما التعري. من الآفات والمكروهات.
__________
(1) من معلقة عمرو بن كلثرم، وقوله: فنجهل فوق جهل الجاهلينا، قال التبريزي: معناه فنهلكه ونعاقبه بما هو أعظم من جهله.(1/436)
التراكيب.
وصلت الجملة بما قبلها بالواو لاشتراكهما في القصد وهو التعريف بالرحمن وبعباده. وعباد مبتدأ والذين خبر وأضاف العباد للرحمن تخصيصا لهم وتفضيلا وتقريبا وفيه تعويض بأولئك المتجاهلين المتكبرين المبعدين، وهونا منصوبا على أنه مفعول مطلق والتقدير: مشياً هوناً، أو على أنه حال من فاعل يمشون أي هينين، ومجيء المصدر حالا كثير ولمصدريته أفرد، والموصوف جمع (1) نظير الزيدون عدل. ويمشون على الأرض هونا تركيب كنائي أريد به معناه ولازم معناه، فهم يمشون هينين برفق وتثبت، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا. هذا أصل المعنى وهو مراد ومراد أيضا لازم وهو سهولتهم وتواضعهم وعدم تكبرهم ورفقهم في الأمور وبعدهم عن الإفساد. ومراد لازم آخر أيضاً، وهو سيرهم في الحياة وتصرفهم في جميع الأمور ومعاملتهم للناس، فإذا كانوا أهل رفق وسهولة في مشيهم في الأرض فكذلك هم أهل رفق وسهولة في الأمور الأخرى، مما ذكرنا، لأن الرفق والسهولة خلق فيهم فكما هو في المشي هو في غيره. وكانت الصلة بالمضارع ليفيد التجدد، فإن المشي في الأرض ضروري للإنسان وكان المعطوف على الصلة بصورة الشرط لأن خطاب الجاهلين لهم ليس مما يكون دائما، وكان التعليق بإذا لأن مخاطبة الجاهلين لهم بالسوء أمر محقق، ومتى سلم أهل العلم والدين من الجاهلين ولم يذكر ما يخاطبهم به الجاهلون للعلم بأن خطاب الجاهل أي السفيه لا يكون إلا سوءا مما يمليه عليه جهله وسفهه. ونصب سلاما على أنه مفعول مطلق، والتقدير قالوا قولا سلاما، أي ذا سلام، فيشمل كل قول فيه سلامة من الأذى والمكروه، كسلام عليكم
__________
(2) في الأصل جميع.(1/437)
ويغفر الله لكم وسامحكم الله ونحو ذلك. أو نصب على أنه مفعول به، أي قالوا هذا اللفظ سلاما نفسه.
المعنى:
يقول تعالى وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودة (1) له هم أهل الرفق والسهولة الذين يمشون على الأرض هينين في مشيهم وفي معالجتهم لشؤون الحياة ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم غير مستكبرين ولا متجبرين ولا ساعين في الأرض بالفساد. وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم وقالوا لهم سلاما لأنهم سلموا من الجهل، فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولو جهل (2) أو قالوا لهم من الكلام ما فيه سلامة من الأذى والمكروه.
الأحكام:
في الآية استحباب الرفق في المشي وكراهية العنف والإضطراب، ومن العنف الضرب بالرجل والخفق بالنعل، فإذا كانا بعجب وخيلاء فهو حرام. وفيها الإغضاء عن الجاهل ومقابلة كلمته السيئة بالكلام الحسن. وكراهة مجاراته في خطابه ومماثلته، وإذا كان في ذلك فتنة أو مفسدة محققة كان حراما.
تمييز:
ليس من الهون في المشي التثاقل والتماوت فيه، وروي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال لجماعة رآهم كذلك: ((لا تميتوا علينا ديننا أماتكم الله) وأن عائشة- رضي الله عنها- رأت
__________
(1) كذا في الأصل ولعله العبودية.
(2) كذا في الأصل.(1/438)
قوما يتماوتون فسألت عنهم فقيل لها هؤلاء قوم من القراء، فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان مشيه- رضي الله عنه- إلى السرعة خلقة لا تكلفا والخير في الوسط. وليس هون المشي وحده يعرفك بأن صاحبه من عباد الرحمن، فرب ماشٍ هوناً رويداً وهو ذئب أطلس، ولكن بالهون في المشي وبما ذكرنا في فصل التراكيب والمعنى من لوازمه.
بيان ورد:
اشتملت الآية على بيان الأدب في معاملة الجاهلين من أفراد الناس، أكانوا مسلمين أم غيرهم، وما اشتملت عليه من الأدب قد جاء في آيات كثيرة مثل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) و {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (2) فهو أدب مشروع مؤكد، وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى. فلا ينافي ما شرع من الحرب عند وجود أسبابها وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات، وهي من الأمور العامة كما ترى فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف لأن هذه الآية ثابت حكمها في حالٍ وآية السيف ثابت حكمها في حال أخرى، فلا تنسخ إحداهما الأخرى. وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه، وهي عند التحقيق غير معارضة لها لمباينة حالها لحالها.
__________
(1) 198/ 7 الأعراف.
(2) 55/ 28 القصص 0(1/439)
تمثيل واستدلال:
جاء في الصحيح من طرق مجموع ألفاظها ان رهطا من إليهود دخلوا
على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا: السام عليكم (والسام الموت) ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: عليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، إن الله يحب الرفق في الأمور كلها. فقالت عائشة: أولم تسمع ما قالوا؟ فقال لها: أولم تسمعي ما قلت رددت عليهم. قد قلت ((وعليكم)) فيستجاب لي فيهم ((لأنه دعاء بحق)) ولا يستجاب لهم في ((لأنه دعاء بباطل وظلم)). فقد خاطبه هؤلاء الجاهلون بالسوء فقال لهم كلمة سالمة من القبح ليس فيها لفظ الإذاية وهو السام بعيدة عن الايحاش خالصة للرفق، فهي من القول السلام، أي ذي السلام من مقتضى الآية على الوجه الأولى من وجهيها، ففي الحديث مثال لقول السلام في خطاب الجاهل ودليل على عموم الحكم وأحكامه.
سؤال وجوابه:
على الوجه الثاني في الآية، وهو أنه يقول للجاهل سلاما، يقال هل يسلم عليه إذا كان كافراً، فيقال نعم كما قال إبراهيم لأبيه {سَلَامٌ عَلَيْكَ} وقد قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} (1) ولم يستثن إلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} نعم هو سلام موادعة ومتاركة لا سلام تحية وكرامة.
__________
(2) 14/ 60 الممتحنة.(1/440)
لطيفة تاريخية:
قالوا إن إبراهيم بن المهدي العباسي كان منحرفا عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فرآه في النوم قد تقدمه لعبور قنطرة، فقال له إبراهيم: إنما تَدَّعي هذا الأمر، يعني الخلافة، بامرأة، يعني فاطمة رضي الله عنها، ونحن أحق به منك، وحكى إبراهيم رؤياه للمأمون وقال له: فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه، فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي: {سَلَامًا سَلَامًا}، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال: يا عم، قد أجابك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا اهـ، فرضي الله عن الإمام الهاشمي ما أبلغه حيا وميتا.
توجيه وسلوك:
القول السلام محمود ومطلوب في كل حال، وإنما خصت حالة خطاب الجاهل لأنها الحالة التي تثور فيها ثائرة الغضب بما يكون من سفهه ومهاترته، فعلى المؤمن أن يكون حاضر البال بهذه الآية عند ما تسوق إليه الأقدار جاهلا، فيخاطبه بما لا يرضيه حتى يسلم من شره، ويكسر من شرته، فيسلم له عرضه ومروءته ودينه ويسلم ذلك الجاهل أيضاً من اللجاج في الشر، والتمادي فيه فيكون المؤمن بقوله السلام وتأدبه بأدب القرآن قد حصل السلامة للجميع وأعظم به من فضل وأجر في الدنيا والدين وفقنا الله لذلك والمسلمين أجمعين (1).
__________
(1) ش: ج6، م8، ص 299 - 306 غرة صفر 1351 - جوان 1932(1/441)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ:
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
لما ذكر فيما تقدم سلوكهم مع الخلق، ذكر في هذه الآية سلوكهم في القيام بعبادة الحق. وفيما تقدم بيان حالهم عند اختلاطهم بالعباد، وفي هذه بيان حالهم عند تفردهم لرب العباد.
المفردات:
يبيتون من البيتوتة وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، ويقابلها الظلول وهو أن يدركك النهار. السجد: جمع ساجد، والقيام: جمع قائم، وهو من الأوزان التي يشترك فيها المصدر والجمع.
التراكيب:
الذين عطف على الخبر الأول وأعيد لفظ الذين لاستقلال الحالة الثانية عن الأولى، وقدم الجار ليفيد تخصيص عبادتهم بربهم ويفيد الكلام عبادتهم وإخلاصهم، وقدم سجداً لأن السجود أقرب أحوال العبد للرب لحديث: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. ووقع قياما في موقعه مناسبا للفاصلة.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يحيون الليل فيبيتون يصلون لربهم يوافون بين السجود والقيام.
__________
(1) 25/ 64 الفرقان.(1/442)
بيان وترغيب:
هذه الآية من آيات الحث على قيام الليل مثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (1) وقد بينت السنة المطهرة مقداره فثبت في الموطأ من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا والسلام بعد كل ركعتين لحديث: ((صلى الليل مثنى)). وثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين، فتلك ثلاث عشرة، وقد ثبت ذلك في الموطأ من طريق عروة عنها، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يصلي الليل ثلاث عشرة ركعة، وهذا هو الغالب من أحواله، وقد كان يصلي أقل منه في بعض الأحوال، فقد ثبت عند البخاري من طريق مسروق عنها أن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم بالليل سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومثل ما جاء عن عائشة من إنتهاء ركعاته إلى ثلاث عشرة. جاء في الموطأ من حديث ابن عباس، وجاء فيه أيضاً من حديث زيد بن خالد الجهني، وفي هذه السنة العملية الثابتة بيان للقدر الأكمل الذي يكون به العبد ممن يصدق عليهم هذا الوصف من صفات عباد الرحمن.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (2).
__________
(1) 16/ 32 السجدة.
(2) 65/ 25 - 66 الفرقان.(1/443)
المناسبة:
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق ذكر خوفهم منن ربهم واعتمادهم عليه في نجاتهم وعدم اغترارهم بأعمالم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال ولا يعتمدونه إلا على الكبير المتعال.
المفردات:
الغرام مادة (غ رم) تدور على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر وبالعذاب وبالهلاك الملازم. ساءت: بمعنى قبحت مثل بئس لإنشاء الذم، المستقر: محل الإستقرار إلى الثبوت، والمقام: محل الإقامة أي البقاء.
المفردات:
ساءت: فاعله الضمير المخصوص بالذم، ومستقراً ومقاما تمييز مفسر للضمير، وجملة {إِنَّ عَذَابَهَا} تعليل للجملة الدعائية، وفصلت عنها لكمال الإنقطاع بينهما لإنشائية الأولى وخبرية الثانية، وجملة {إِنَّهَا سَاءَتْ} مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى، فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته أكدته الثانية بما أفاد من مقامه ومستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الإتصال نظير: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}. والتأكد فيهما بأن، لأنه لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخير وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد، فيؤكد له الخبر ووجه التلويح بهذا الخبر أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيراً إلى قبح هذا العذاب وشدته فهذا نظير: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (1)
__________
(1) 11/ 37 هود و27/ 23 المؤمنون.(1/444)
المعنى:
ومن صفاتهم أنهم يدعن الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لأن عذابها عذاب شديد فادح ملح ملازم، ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه.
رد واستدلال:
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم ومثلها قول إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة والسلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (1) في نصوص لا تحصى كثرة، وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه، وأخطأوا فيما زعموا، فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والإفتقار والشعور بالحاجة والإضطرار وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها أن يخاف ويطمع كما يذل ويخضع ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، ولهذا كان الأنبياء- عليهم وآلهم الصلاة والسلام- وهم أشد الخلق تعظيما لله، ومن أكثرهم خوفا من الله وتعوذا من عذاب الله، وسؤالا لما عند الله وكفى بهم حجة وقدوة، وأن هذه المقالة تكاد تفضي إلى صرح الرجاء والخوف، وعليهم مبني الأعمال لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والإحتياج، ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ ((وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد)) وهذا ضروري في الدين. ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليه الغلو وقلة الفقه في الدين في الكتاب والسنة وما كان عليه هدى السابقين الأولين.
__________
(1) 26/ 82 الشعراء.(1/445)
إعتبار ونصيحة:
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام، وأن الدنيا هي مطية الآخرة، فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة وأن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا فمن لازمها بالكفر ومات عليه دامت له تلك الملازمة ومن لازمها بالإصرار على الكبائر كانت له على حسب تلك الملازمة. فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة ويلازم مجالس الطاعة والسنة وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب وأن لا يصر على شيء من القبائح والعيوب وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه فالله يحب التوابين ويغفر للاوابين جلنا منهم أجمعين. آمين (1).
__________
(1) ش: ج9، م8، ص 454 - 458
غرة جمادي الأولى 1351 - سبتمبر 1932.(1/446)
أَيُّهُمَا أَكْمَلُ (1) الْعِبَادَةُ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ أَمِ الْعِبَادَةُ دُونَهُمَا؟
زيادة بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (2).
ــــــــــــــــــــــــــ
قد قال قوم إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات. وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} في الجزء الصادر في غرة جمادى الأولى.
وقلنا في الإنكار عليهم: "وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه وأخطأوا فيما زعموا". وذكرنا أثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها، وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا دون أن يذكر جميع أدلتنا ودون أن يتعرض لنقضها في سندها أو متها أو عدم انطباقها أو إفادتها لما سيقت لافادته، ودون
__________
(1) فيه رد على مقال الشيخ الحافظي المدرج في جريدة البلاغ منذ بضعة أسابيع (المؤلف).
(2) 65/ 25 - 66 الفرقان.(1/447)
أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة. وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال. فرأينا أثر اطلاعنا على مقاله أن نعود في هذا الجزء لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه من أن وضع العبادة الشرعية على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي، ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول:
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع مع الشعور بغاية الضعف والافتقار، ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع. فخوف العبد من عقاب ربه هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه وشهوده لعزته وقهره وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه وأنه لا يؤمن من مكره، وطمعه في ثوابه هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه وفضله وتصديقه بوعده فهو يعبده ويخاف أن لا يقبل عبادته ويخشى نقمته. ويعبده ويرجو رحمته وينتظر مثوبته، وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية والإعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب ورجاء الثواب لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين. والدليل على هذا ستسمعه من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ(1/448)
يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1). ووجه الدليل من الآية أن هؤلاء المذكورين فيها هم الكمل من عباد الله الصالحين يدليل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- المروي في الصحيح قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومع كمالهم لم تتجردْ عبادتهم من الخوف والطمع. ووجه آخر: وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون فذكرها مع الخوف والطمع فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم لنقتدي بهم فيها فعلم أن العبادة التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا.
ومثل هذه الآية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- إلى- رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ووجه الدليل منها كالتي قبلها وتزيد
__________
(1) 15/ 32 - 17 السجدة.
(2) 3/ 191 - 194 آل عمران.(1/449)
عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار وغفران وتكفير السيئات.
ومثلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}. ووجه الدليل منها كالتي قبلها. ومثلها قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا" (1) ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد ببيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله. ومثلها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (2).
__________
(1) 7/ 76 - 9 الدهر.
(2) 13/ 21 - 24 الرعد(1/450)
ووجه الدليل كما تقدم وفيها أيضاً بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبر ابتغاء وجه الله.
ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. (1) ووجه الدليل ما تقدم ومعنى الآية إنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم فيخافون أن لا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها وضعفها وحاجتها وفقرها وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية مقام ذي الجلال والإكرام.
ولا تجد في القرآن العظيم آية واحدة دالة صريحة على ذكر عباده- هكذا- دون خوف أوطمع. ونزيد على الآيات المتقدمة آية دالة على حال عباده المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى (2): {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
__________
(1) 58/ 23 - 62 المؤمنون.
(2) 82/ 26 الشعراء.(1/451)
الدِّينِ} ووجه الدليل من الآية أن إبراهيم- عليه السلام- أخبر عن نفسه بصيغة المضارع المفيد للتجدد أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته، فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعاً ومعلوم أنه معصوم وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئة هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل وهو أنه خاف المؤاخذة- المؤاخذة اللائقة بمقامه- وطمع في الغفران وكانت عبادته على الطمع والخوف. ولا يقال أنه كان معلما للناس لأنه إخبار عن نفسه وخبره صدق ثابت فلا بد أن يكون كما أخبر.
وأما السنة فمنها دعاء القنوت المشهور (نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد) ووجه الدليل منه أن الصلاة أشرف أحوال العبد وأجل مقاماته وأعظم عباداته وقد علم أن يدعو فيها هذا الدعاء الصريح في رجاء الرحمة وخوف العذاب وما كان ذلك إلا لأن العبادة الشرعية موضوعة عليهما.
ومنها حديث: (وأما السجود فادعوا فيه، فقمن أن يستجاب لكم) وهو حديث صحيح، وفي الصحيح أيضاً (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ووجه الدليل أن أقرب أحوال العبد من ربه هو محل للدعاء، والداعي يرجى القبول ويخاف المنع، فالعبادة في أقرب أحوال العبد موضوعة على الرجاء والخوف.
ومنها الحديث الصحيح: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذي أنرلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) ووجه الدليل منه أنه تعليم لما يقوله المسلم فيما قد يكون آخر حال يلقى(1/452)
عليه ربه ولا ينبغي أن يلقاه إلا على أكمل حال. فعلمنا هذا الدعاء الصريح في الرغبة والرهبة ليقوله المؤمن ولو كان من أكمل الكمل فدل على أن الرغبة والرهبة عليهما وضعت العبادة في جميع الأحوال. ومنها الحديث الصحيح: " قالت عائشة (رضي الله عنها): كنت نائمة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ففقدته فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك) ووجه الدليل أنه في الحال التي هو فيها أقرب ما يكون من ربه وهي حالة سجوده استعاذ برضى الله من سخطه وبعافيته من عقوبته، ثم لما لم يستطع الإلحاطة بأفعاله رد الأمر لذاته فاستعاذ به منه وهو في الجميع مستعيذ والمستعيذ طالب والطالب راج وطامع في نيل المطلوب فلم يفارق عبادته الرجاء والطمع حتى في هذه الحالة التي هي بينه وبين ربه لأنه كان ساجداً في جنح الليل دون حضور أحد من الناس إلا عائشة التي كانت نائمة واستيقظت ففقدته فاطلعت عليه في تلك الحال.
ومنها الحديث الصحيح عن ابن عباس الذي كان يعلمهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إياه كما يعلمهم السورة من القرآن رواه مالك وفيه: (اللهم أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ووجه الدليل منه أنه علمهم هذه الاستعاذة الصريحة في الخوف والرجاء كسائر ما علمهم من الدعوات المبنية عليهما.
وهكذا تجد جميع دعواته المأثورة على الرغبة والرهبة والرجا والخوف ولا تجد دعاء واحداً علمهم فيه أن يتوجوا إلى الله تعالى دون رغبة ولا رهبة ولا رجاء ولا خوف، ولو كانت العبادة الخالية(1/453)
من الطمع والخوف هي أكمل العبادة لكان بينها لهم بيانا شافيا صريحا كعادته في بيان الكمالات، وهو الحريص على دلالتهم على كل خير، فكيف لم يدلهم على هذا المقام بصريح المقام لو كان من الكمال بحيث يدعى لها بعض الناس.
فقد بان لنا بما ذكرناه توارد آيات الكتاب وأحاديث السنة في صراحة وجلاء على مشروعية العبادة مقرونة بالرغبة والرجاء والخوف، ولم نظفر بآية واحدة أو حديث واحد فيه التصريح بمشروعيتها مجردة منهما فضلا عن أنها أكمل منها معهما، وما كنا لنترك أدلة الكتاب والسنة الصريحة لرأي أحد كائنا من كان، وإننا نورد فيما يلي حديثا من صحيح البخاري يبين لنا كيف كان الصحابة سادة هذه الأمة يعبدون الله تعالى يرجون قبول أعمالهم لديه: (قال أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري، قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال قلت لا قال فإن أبي قال لأبيك يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وهجرتنا معه وجهادنا وعملنا كلنا معه بَرْدٌ لنا وإن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا رأساً برأس قال أبي (يعني أبا موسى) لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك فقال أبي (يعني عمر) لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس فقلت- أبو بردة- إن أباك والله خير من أبي) ووجه الدليل عملهم على الرجاء وخوفهم من عدم القبول والعقاب على المخالفة وإن اختلفا فيما اختلفا فيه ولا تجد في كلام واحد منهم أنه كان يجرد عبادته عن الطمع والخوف وما كان المقام الأكمل ليفوتهم وهم أفقه الناس في الدين وأحرصهم على الخير.
هذه هي أدلتنا فيما ذهبنا إليه ورددنا على مخالفيه وهي أكثر من(1/454)
هذا عدا في كتاب الله وسنة رسوله وفيما ذكرناه كفاية- إن شاء الله- لمن نصح وأنصف وأخلص الإيمان بقوله تعالى (1): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
والآن نعطف بالكلام على مقال الشيخ ونحْصره في مواضع:
1 - أنكرنا على من زعموا أن مرتبة العبادة العليا أن يعبد الله تعالى لذاتِه دون الطَّمع في ثوابه ولا الخوف من عقابه ونسبنا إليهم الخطأ ولما وجدنا آيات الكتاب وأحاديث السنة طافحة بأن عبادة الكمل من عباد الله مقرونة بالخوف والطمع كما قدمنا نسبنا خطأهم إلى قلة التفقه في الدين أي في أدلة الدين وهي الآيات والأحاديث المذكورة، وما عسى أن يقال فيمن لم تكفه تلك الآيات والأحاديث كلها على صراحتها واتفاقها إلا أنه لم يتفقه فيها. ولما لم نجد آية واحدة ولا حديثا واحداً يصرح بمدعاهم حملناهم على الغلو هذا كله دون أن نصرح بشخص ولا بطائفة لأن الكلام مع القول والدليل. فأبى حضرته إلا أن يحمل كلامنا على طائفة مخصوصة يحب هو اليوم التظاهر بالدفاع عنها ثم تطرق من ذلك إلى رمينا بما يناسب غرضه من الجرأة وقلة النصيحة والتطاول على الأئمة إلى ما يريد أن يصفنا به ليقول القارىء أن حضرته موصوف بضده. وربك أعلم بتلك الأوصاف وأهلها.
2 - كان استدلالنا بآية (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) على الوجه الذي بيناه فيما تقدم دون أن نذكر الحصر ولا أن نشير إليه ولا من مقتضى
__________
(1) 4/ 85 النساء0(1/455)
موضوعنا أن نقصر عباد الرحمن على تلك الصفات، لكن حضرته أخذ يقرر في قواعد الحصر الضرورية عند المبتدئين وخرج من ذلك إلى أن الآية لا حصر فيها وإننا تسرعنا وما تدبرنا ولم نحسن تطبيق قواعد العلوم على موضوع النزاع. وفي الحق أن حضرته هو الذي لم يحسن تنزيل ما طولب به في الحصر على كلام لم ندع فيه الحصر ولم نستدل به وإنما استدللنا بالآية مثل ما استدللنا بغيرها على الوجه الذي تقدم وعلى ما معه من الوجوه.
3 - ما في كلام الإمام الرازي من أن الله مستحق للعبادة لذاته وأنه لو أمرنا بالعبادة بلا ثواب ولا عقاب لوجبت فهو حق مسلم وليس هو موضوع النزاع، كان موضوع النزاع هل العبادة مع الخوف والرجاء أكمل أم العبادة دونهما وما فيه من أن (من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والله واسطة) - إذا كان يعني به أنه عبد الله للثواب من حيث ذاته والعقاب من حيث ذاته دون الإمتثال للأمر وتوجه للرب، فهذا ليس كلامنا فيه، وإن كان يعني أنه يعبد للثواب والعقاب من حيث أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب وخوف العقاب فهو يعبد الله امتثالا لأمره- فكلامه منوع لأن العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالا لأمره وقياما بحقه مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية وذلك يبعث على الرجاء المأمور به، فالمعبود في الحقيقة والواقع هو المتوجه إليه بالطاعة وهو الله تعالى لا الثواب الذي تعلق به الرجاء ولا العقاب الذي تعلق به الخوف. وكيف يكون الثواب وهو المعبود والعقاب هو المعبود والله هو الذي شرعهما، فهل يشرع عبادة غيره، وما هذا إلا من عدم التأمل في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ(1/456)
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1). أي شأنه أن يحذر ومن حقه أن يحذر وهل هذا إلاَّ من عدم التفقه في قوله تعالى- في أم القرآن والسبع المثاني التي يناجي بها المصلي ربه وهو في أعظم عبادة-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن المستعين طالب للإعانة والطالب راج قبول طلبه خائف من عدم قبوله. وقوله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} طلبا كذلك فليتفقه المتففهون في كلام رب العالمين.
4 - ونقل كلام الإمام الرازي في باب المحبة قوله: (وأما العارفون فقد قالوا قد يحب الله تعالى لذاته وأما حب خدمته وحب ثوبه فدرجة نازلة) ونحن نقول إن الذات أقدس الموصوف بالكمالات المفيض للإنعامات تتعلق به قلوب المحبين موصوفا بكمالاته وإنعاماته التي منها ثوابه وجزاءه وتلك المحبة تبعث على خدمته بطاعته والتقرب إليه بأنواع العبادات وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعامات فهو نوع من التعطيل في الإعتقاد والتقصير في الشهود وإذ كانت المحبة عملا من أعمال العبد القلبية التي يتقرب بها إلى الله فهي عبادة. وقد بينا بالأدلة المتقدمة أن العبادة في الإسلام موضوعة على مصاحبة الرجاء والخوف والمحب للرب ذي الجلال والإكرام والبطش والإنعام لا يغيب عن إجلاله بالخوف والتذلل له بالطمع كحاله في سائر العبادات.
5 - ونقل من كلام النيسبوري قوله: (المحققون نظرهم على المعبود
لا على العبادة وعلى المنعم لا على النعمة) فإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي إعتمادهم في القبول على المعبود لا على العبادة فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي توجههم
__________
(1) 57/ 17 الاسراء.(1/457)
إلى المعبود دون العبادة فهذا ايضا حق لان العبادة متوجة بها لا إليها وليس كلامنا في هذا. وإن كان مراده دون تقرب بالعبادة فهذا باطل لأن الله تعالى قال: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي ما يقربكم إليه من طاعته وإن كان مراده دون شعور بالعبادة فهذا أيضا باطل لأن العابد ينوي العبادة ويقصد بها القربة ويتوجه بها مخلصا فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فكيف يكون لا شعور له بها وأما قوله (وعلى المنعم لا على النعمة) فإن أراد أن المتقرب إليه هو الله المنعم دون النعمة، فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن أراد أن رجاء نعمة الثواب حين التوجه لله والتقرب إليه بالطاعة ينافي التقرب إلى المنعم ويعد تقربا للنعمة فهذا هو الذي أبطلناه بالأدلة السابقة ونقضناه في الموضع الثالث. وإن أراد أن ذكر العبد لنعم الله عليه مخل بكمال عبادته فهذا باطل أيضا لأن عبادة الله شكرا على ما أتى من النعم وطلبا للمزيد من أرفع المقامات وقد قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا - إلى- شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} (2)، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (3) {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (4) و {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (5).
6 - إستدل النيسبوري: (بأنه قيل لبني إسرائيل اذكروا نعمتي
__________
(1) 34/ 13 سبأ.
(2) 120/ 16 - 121 النحل.
(3) 19/ 27 النمل و 25/ 46 الأحقاف.
(4) 14/ 31 لقمان.
(5) 7/ 14 إبراهيم.(1/458)
ولأمة محمد اذكروني) وهذا منقوض بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (1)، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} (2).
7 - نقل من كلام النيسبوري ما يفيد أن عبادة الله لكونه إلاهاً وكون المخلوق عبداً لا يكون معها رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب وأنها هي أعلى الرتب ونحن نقول من مقتضى شعورك بعبوديتك شعورك بضعفك وفقرك وإن من مقتضى علمك بالله شهودك لقوته وفضله وذاك الشعور وهذا الشهود يبعثان فيك الرجاء والخوف فتكون وأنت تعبده لأنه إله ولأنك عبد راجيا خائفا. ودعوى تجرد العبادة عنهما قد أبطلناها بالأدلة السابقة.
8 - نقل قول الإمام ابن العربي ((أمر الله عباده بعبادته وهي أداة الطاعة بصفة القربة وذلك بإخلاص النية بتجربد العمل عن كل شيء إلا لوجهه وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه)) ثم زعم هو من عنده أن من مقتضى تجريد العمل عن كل شيء تجريده من رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص هو ما كان لوجه الله لكونه إلاهاً لا غير. وهذا صريح منه في أن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص وهو باطل لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .. (3) " الآية، وقد تقدمت فخافوا وعملهم لوجه الله بنص القرآن. وروي الأئمة في الصحيح أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إني أسمع الله
__________
(1) 3/ 103 آل عمران.
(2) 33/ 9 الأحزاب.
(3) 9/ 76 الدهر.(1/459)
تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة الله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح. فأقره على قوله أرجو برها وذخرها ولم يقل له أن هذا مناف للإخلاص كما يقول الشيخ، وهو يسمبط ويشنبط في كلام الإمام ابن العربي ثم مالك- ياخي- ولابن العربي حسبك ابن سينا وأمثاله الذين يحاولون تطبيق العبادة الإسلامية على الفلسفة اليونانية والآراء الأفلاطونية، أما إبن العربي فهو حكيم إسلامي وفقيه قرآني وعالم سني- حقيقي- لا يبني أنظاره إلا على أصول الإسلام ودلائل الكتاب والسنة. وهاك كلامه في إرادة المأذون فيه مع العبادة من أمور الدنيا بله الرجاء والخوف والسمع كلامه الصريح من الدليل الصحيح في الرد على مثل زعمك قال على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.
المسألة الثانية: قال علماؤنا: (في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء إن الحج دون تجارة أفضل أجراً) وقال على قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} (1): (وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب).
9 - ونقل كلاما للإمام الغزالي في المحبة وقد قدمنا في الموضع
__________
(1) 33/ 29 الأحزاب.(1/460)
الثامن الكلام على مثله وبين أن المحبة عبادة وأنها موضوعة كسائر العبادات الشرعية على الرجاء والخوف بالأدلة المتقدمة.
10 - وقال: وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم:
(اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك) وقد تقرر أن خوفه خوف اجلال وتعظيم لا خوف النار والعقاب اهـ، ونقول أن خوف الإجلال لا يخرج به العبد عن ضعف وذل العبودية ومشاهدة قوة وفضل الربوبية فلا يتجرد خوفه الإجلالي عن خوف المؤاخذة: المؤاخذة التي ليست ناراً ولا عذاباً ولكنها مؤاخذة مناسبة لذلك المقام العالي بدليل أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وهو مثل نبينا عليه الصلاة والسلام في العصمة وعدم النار والعقاب وقد خاف المؤاخذة فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ولا خطيئة له ولجميع الأنبياء والمرسلين لا من الكبائر ولا من الصغائر على كل حال، وبدليل أنه هو عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري، وليس هذه لذنب لا صغير ولا كبير وانما هو لعلمه بالله وعظيم حقه وشدة تعظيمه لربه فيخاف المؤاخذة فيطلب المغفرة فبان بهذا أن خوف الإجلال لا يتجرد عن خوف المؤاخذة. وبعد هذا البيان نقول لحضرته لا تستدل بالحديث دون بيان رتبته ولا ذكر لمخرجه، وما هكذا يكون استدلال الأمناء من العلماء وأنه يرمي الأحاديث هكذا مهملة اختلط الحق بالباطل وتجرأ على السنة النبوية الغبي والجاهل حتى بلغ الأمر إلى نسبة الأحاديث إلى كتب الإسلام المتفق عليها ولا وجود لها فيها، أما نحن فلا نعرف هذا الدعاء في الصحاح المتداولة عندنا فليتك تبين من أين جئت به حتى نعرف مقدار ما تعتمد في احتجاجك عليه.(1/461)
11 - وقال: فللأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حالتان: حالة مع الله- تعالى- لا يرون فيها غير جلاله وعظمته: وحالة مع الخلق يستغفرون ويستعيذون من النار وسوء المنقلب وفتنة القبر والدجال، ويطلبون الرحمة والثواب والجنان اهـ، ونقول قد بينا أن رؤية جلال الله مما يبعث على الخوف من المؤاخذه كما مضى عن إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام- فلا يتجردون عن الخوف خوف الاجلال وخوف المؤاخذة في حالتهم مع الله وقد دل حديث عائشة الذي قدمناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سجوده في جوف الليل والناس نيام فيما بينه وبين ربه استعاذ برضا الله من سخطه وبمعافاته من عقابه فكانوا يستعيذون ويرجون ويخافون في حالتهم مع الله وأما حالتهم مع الناس فإنهم كانوا يعلمون وكانوا يخبرون عن أنفسهم بخوفهم وطمعهم كما أخبر إبراهيم- عليه السبلام- بطمعه وأخبر محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه بأنه أتقاهم لله وأخوفه له وأخبر عن استغفاره لربه وأخبارهم حق صدق لا شك فيه ولا يجوز أن يقال إنهم قالوه لمجرد التعليم وهو في الواقع لا حقيقة له إذ الإخبار عن النفس بشيء أنه كان وهو لم يكن هو الكذب الذي عصمهم الله منه ونزههم عنه ولو تفطن حضرته لهذا لما قال ما قال.
12 - وذكر حديث الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورها وأتم الإخلاص بها وقد علمت أن من مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عزٍّ وقوة وفضل الربوبية فينبعث الرجاء والخوف في العابد وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة بإتقانها والإخلاص(1/462)
فيها. ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى مشاهدته، أي مشاهدة جلاله وجماله: بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع فصدق الشهود لا يد معه من الرجاء والخوف وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات الباعثين للخوف والرجاء وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجردا فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهدا بل غافلا معطلا جامدا وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث عن أن تكون فاضلة كاملة. فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين اللتين يكون فيها العبد عابدا العبادة الشرعية الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الادلة المتقدمة.
13 - ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة. وإذ كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله فإننا لا نعرفها إلا من الكتاب والسنة وقد قدمنا من أدلتهما ما جلى المسألة للعيان وأغنى فيها عن كل كلام.
وتلخص وتبين لنا مما تقدم أن العبادة المشروعة هي القصد إلى الطاعة مع الشعور بضعف العبد وذله، وحاجته وفقره ومشاهدته لجلال ربه وقدرته وعزته، وجماله وفضله ورحمته فيكون بتلك المشاهدة خائفا من عقابه أو مؤاخذته، راجيا لثوابه وإنعامه، وأن هذه العبادة هي عبادة الكمل من عباد الله الذين وصفهم بأفضل صفاتهم في كتابه وهي عبادة أنبيائه ورسله الذين ذكر عبادتم القرآن وهي عبادة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- التي دلت عليها صحاح الآثار وعبادة أصحابه الثابتة في النقول، وخلصنا من هذا إلى أن(1/463)
العبادة المجردة عن الخوف والرجاء منافية لصدق مشاهدة الجلال والجمال مخالفة لعبادة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين وأنه لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة مثل واحد من الأدلة المتقدمة المتكاثرة وأنها ما دامت كذلك ليس لنا أن نعدها مشروعة فضلا عن أن نعدها كاملة فضلا عن أن ندعى أنها أكمل لأن مشروعية الشيء لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح. وأنى لنا ذلك في العبادة المجردة عن الرجاء والخوف والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين (1).
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ:
{الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2).
المناسبة:
مضى وصفهم بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما، والصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وتربي النفس على استصغار الدنيا وما فيها، وعلى تعظيم الرب والوقوف عند حدوده، فلا يعظم شيء من الدنيا عند أهل الصلاة فيمسكوا عن بذله في الحق، ولا يستهويهم شيء منها فينتهكوا لأجله حدود الله وحرماته. ولما كان المال هو أعز شيء من هذه الدنيا، وهو أعظم سبب لنيل مبتغياتها، وصفوا بأنهم في تصرفهم فيه على أكمل حال، وهي حالة العدل التي أثمرتها لهم الصلاة، فلا يمسكونه عن حق ولا يبذلونه في باطل.
__________
(1) ش: ج1، م9، ص 1 - 8
غرة رمضان 1351 - جانفي 1933
(2) 67/ 25 الفرقان.(1/464)
المفردات:
أنفقوا: بذلوا المال في وجه من الوجوه. الإسراف: مجاوزة الحد المشروع. الإقتار والتقتير: التضييق. القوام: العدل بين الشيئين، أي المعتدل ما ينهما، وسمي العدل بين الشيئين قواما لاستقامة طرفيه واعتدالهما فلا إلى هذا ولا إلى ذاك.
التراكيب:
وكان: أي هو، أي إنفاقهم المفهوم من أنفقوا. بين ذلك: خبر كان، وقواما: حال مؤكدة، فلو قيل: وكان بين ذلك لكان كافياً، ولكن أكد بِقِوَاماً لما فيه من صريح اللفظ المفهم للعدل. والإنفاق يكون ولا يكون، والشأن أن يكون، ولهذا علق وكان التعليق بإذا، وقدم نفي السرف على نفي التقتير لأن الإسراف شرهما، ففيه مجاوزة الحدود وضياع المال، وفي التقتير مفسدته مع بقاء المال، فينفقه في الخير وقد يبقى لغيره فينتفع به.
المعنى:
إذا أنفقوا أموالهم لم يتجاوزوا الحد المشروع ولم يضيقوا فيقصروا
في القدر المطلوب، وكان إنفاقهم بين التجاوز والتضييق عدلا مستويا لا إفراط فيه ولا تفريط، وصفهم بالقصد الذي هو وسط بين الغلو والتقصير وهو الحالة بين الحالتين والحسنة بين السيئتين.
تحديد:
الإسراف مذموم فهو ما كان في منهي عنه نهي تحريم أو كراهة، أو في مباح قد يؤدي إليهما. فالأول كمن أَوْلَمَ وليمة أنفق فيها جميع ماله، وأصبح بعدها هو وأهله للضبيعة والحاجة، والثاني كمن أَوْلَمَ وليمة دعته إلى الإستدانة وإن كان يظن القدرة على الأداء(1/465)
لأن الدَّين محذر ومستعاذ منه، والثالث: كالإستمرار على إيلام الولائم مع القدرة عليها في الحال مما قد يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين في المآل.
والتقتير مذموم أيضا، فهو ما كان إمساكا عن مأمور به أمر وجوب، أو استحباب أو عن مباح يؤدِّي إليهما، فالأول: كمن يمسك عن أهله شحاً حتى يذيقهم ألم الجوع والبرد، والثاني: كمن لا يذيقهم بعض الطيبات التي يخص بها نفسه من السوق. والثالث: كمن يمسك عن تطبيب خاطر زوجته ببعض الكماليات مع قدرته عليها مما قد يفسد قلب زوجته عليه أو يحملها على ما لا يرضيه.
والقوام العدل هو الممدوح، فهو أن ينفق في الواجب والمندوب
وما يؤدي إليهما ويمسك عن المحرم والمكروه وما يؤدي إليهما ويتسع في الحلال دون مداومة في الأوقات واستيفاء لجميع اللذات واستهتار بالمشتهيات.
تطبيق:
حالة وطننا في الأعم الأغلب في الولائم والمآتم لا تخلو من السرف فيها الذي يؤدي إلى التقتير من بعدها فيكون الإثم قد أصاب صاحبها بنوعيه وأحاط به من ناحيتيه والشر يجر إلى الشر والإثم يهدي إلى مثله، وعلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين علق كثير ممن سمعناهم يشكون هذه الحالة آمالهم في معالجتها خصوصا في المآتم حقق الله الآمال. وثم نوع آخر موجود في غالب القطر ويكثر في بعض الجبال، وهو أن بعض المأمورين من بعض شيوخ الطوائف يأتون بثلة من أتباعهم فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس فيذبح لهم العناق إن كانت ويستدين لشرائها إن لم تكن ويفرغ المزاود ويكنس لهم ما في البيت ويصبح معدما فقيرا مدينا ويصبح من يومه صبيته يتضاغون(1/466)
ويمسي أهل ذلك البيت المسكين يطحنهم البؤس ويميتهم الشقاء ميتات متعددة في اليوم وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين ويحسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين، فأما إذا جاء وقت الرحال إلى الأحياء والأموات وتقديم النذور والزيارات فحدث هنالك عن أنواع السرف والتكلفات والتضييع للحقوق والواجبات.
نصيحة:
فياليت الذين تأتيهم تلك الوفود يسألونهم فردا فردا عن حالهم ومن أين جاؤوهم بما جاؤوهم به من أموالهم فعساهم أن يطَّلعوا على بؤس أولئك المساكين فترق لهم قلوبهم ويرجعوا إليهم مالهم أو يزيدوهم من عندهم وليقتصروا على من يجدونهم أهل قدرة على ما دفعوه لهم من أموالهم فهذه نصيحة إذا عملوا بها خففت من الشر والبؤس عن الزائرين ومن الإثم واللوم عن المزورين. فهل بها من عاملين، وفقنا الله والمسلمين (1).
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (2).
سبب النزول:
ثبت في الصحيحين- واللفظ لمسلم- أن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر؟ قال: أن تدعو الله ندًّا
__________
(1) ش: ج10، م8، ص 497 - 503 غرة جمادى الثانية 1352 - أكتوبر 1932
(2) 68/ 25 الفرقان.(1/467)
وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ- إلى- أَثَامًا}.
المطابقة بين الآية وسبب نزولها:
تواردت الآية والحديث في الإثم الأول على شيء واحد. وتوارد أيضاً في الثاني والثالث، إلا أن في الحديث ذكر فرد من العام هو شر أفراده وأكبرها إثماً، وفي الآية ذكر العام، ولا شك أنَّ شر قتل الولد لما في ذلك زيادة على قتل النفس من الخروج عن حنان الفطرة وارتكاب ضد ما توجبه الرعاية والكفالة، وسوء الظن بالله المتكفل برزق الخليقة. كما أن الزنى بحليلة الجار هو شر أفراد الزنى لما فيه زيادة على الزنى من انتهاك حرمة الجار وخيانة الأمانة، فإنهم ما تجاوروا حتى أمن بعضهم بعضا وأدخل الفساد على أساس التكوين الاجتماعي في الناس، وهو التجاور والتقارب.
المناسبة:
لما أثبت لهم أصول الطاعات في الآيات المتقدمة نفى عنهم أمهات المعاصي في هذه الآية تنبيها على أن الإيمان الكامل هو ما تثبت معه الطاعات وتنتفي المعاصي، وذلك هو غاية الإمتثال للأوامر والنواهي، وفيه تعريض بما كان عليه المشركون من الإتصاف بهذه المعاصي من دعائهم آلهتهم مع الله وقتلهم النفس وارتكابهم فاحشة الزنى. وقدم إثبات الطاعات على إنتفاء المعاصي تنبيها على أن من راض نفسه على الطاعة ودانت نفسه، والإنقياد للأوامر الشرعية ضعفت منه أو زالت دواعي الشر والفساد فانكف عن المعصية.(1/468)
نكتة استطرادية:
فمن هنا نعلم أن على المسلم الذي يعمل لتزكية نفسه أن يواظب على الطاعات بأنواعها وأن يجتهد في حصول الأنس بها والخشوع فيها، فإن ذلك زيادة على ما يثبت فيه من أصول الخير يقلع منه أصول الشر ويميت منه بواعثه.
وجه ترتيب هذه الصفات المنفيات:
قامت الشريعة على المحافظة على حقوق الله وحقوق عباده، وحق
الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فمن دعا مع الله غيره وأشرك به سواه فقد أبطل حق الله وأعدم عبادته، ومن قتل النفس فقد تعدى على أول حق جعله الله لعباده بفضله وهو حق الوجود وعمل على إبطال وجودهم وفناء نوعهم وزوال عبادتم. فلهذا قرن قتل النفس بدعاء غير الله معه. ولما كان الزنى فيه بطلان النسب وفساد الخلق والجسد وذلك مؤد إلى الإضمحلال والزوال والشرور والأهوال قرن بقتل النفس فذلك قتل حقيقي وهذا قتل معنوي.
المفردات:
الدعاء: هو النداء لطلب أمر أو تنبيه عليه. الإله: هو المعبود. حرم الله النفس: جعل لها حرمة ومنعة فلا يجوز التعدي عليها ومادة (ح رم) تفيد المنع في جميع تصاريفها، الحق: هو الثابت من مقتضيات القتل في الشرع.
التراكيب:
وصف النفس بالإسم الموصول المعروف الصلة، لأن تحريم الله
لها أمر مركوز في النفوس معروف للبشر بما جاءهم من جميع الشرائع، وكان النفي للفعل بصيغة المضارع للإشارة إلى استمرار ذلك النفي.(1/469)
المعنى:
والذين لا يدعون ولا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون به سواه في عبادتهم إياه ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة ويوحدونه في ربوبيته وألوهيته، ولا يقتلون النفس التي جعل الله لها حرمة وحرم قتلها بالسبب إلا الحق الثابت في دين الله المعارض لحرمتها المقتضي لقتلها بالزنى بعد الإحصان أو الكفر بعد الإيمان أو القتل للنفس العمد العدوان، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.
مزيد بيان لتوحيد الرحمن:
من دعا غير الله فقد عبده. ما يزل الذكر الحكيم يسمي العبادة
دعاء يعبر به عنها. ذلك لأنه عبادة فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها فإن العابد يظهر ذله أمام عز المعبود وفقره أمام غناه وعجزه أمام قدرته وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه، ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه. فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله، ولهذا كان مخ عبادته. وقد جاء التنبيه على هذا في السنة المطهرة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عيه وآله وسلم-: الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. رواه أحمد والترمذي وأبو داوود رحمهم الله والنسائي وابن ماجة. وعن أنس - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي- رضي الله عنه- فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة. فمن دعا غير الله فقد عبده، وإذا كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميته(1/470)
لها باسمها وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته.
من دعا شيئا فقد اتخذه إلها:
لما ثبت أن الدعاء عبادة فالدَّاعي عابد والمدعو معبود والمعبود إله، فمن دعا شيئا فقد اتخده إلهه لأنه فعل له ما لا يفعل إلا للاله، فهو وإن لم يسمه إلها بقوله فقد سماه بفعله. ألا ترى إلى أهل الكتاب لما اتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم- وهما لا يكونان إلا من الرب الحق العالم بالمصالح- قال الله تعالى فيهم: ({اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1). وإن كانوا لا يسمونهم أربابا فحكم عليهم بفعلهم ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أربابا بألسنتهم). فكذلك يقال فيمن دعا شيئا أنه اتخذه إلهاً نظرا لفعله وهو دعاؤه، ولا عبرة بعدم تسميته له إلها بلسانه. وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره أنه قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لما سمعه يقرأ هذه الآية، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا أحلوه! قال: قلت: نعم، فتلك عبادتهم إياهم. قال الإمام الجصَّاص: ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم بالمصالح ثم قلد هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل صاروا متخذين لهم أربابا إذ نزولهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب اهـ وعلى وزانه نقول: لما كان الدعاء عبادة والعبادة لا تكون إلا للاله كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذا اياه إلهاً لما نزله
__________
(1) 32/ 9 التوبة.(1/471)
بدعائه إياه منزلة الاله، سواء دعاه وحده دون الله أو دعاه مع الله والعياذ بالله.
تحذير وإرشاد:
ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس "يا ربي والشيخ"، "يا ربي وناس ربي"، "يا ربي والناس الملاح" وهذا من دعاء غير الله مع الله فإياك أيها المسلم وإياه. وادع الله ربك وخالقك وحده وحده، وحده، وأنف الشرك راغم.
الوعد بالعذاب الشديد:
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1).
المناسبة:
إذا أمر القرآن بشيء ذكر فائدته وثمرته للعباد في الدارين، وكذلك إذا نهى عن شيء ذكر مضرته وسوء عاقبته عليهم فيهما، فلما ذكر في صدر الآية نفي تلك المعاصي عن عباد الرحمن الذي يفيد النهي عنها ذكر هذا الوعيد لبيان سوء عاقبتها وقبح أثرها.
نكتة استطرادية:
هذه هي سنة القرآن في التربية وهي أنجح الطرق في جعل المأمور والمنهي يمتثل للأمر والنهي من كل نفسه ويعمل لتنفيذهما بعقله وإرادته، فالتربية التي تنبني على امتثال الأمر والنهي من غير المعصوم
__________
(1) 69/ 25 الفرقان.(1/472)
والإنقياد لهما إنقيادا أعمى، مخالفة لتربية القرآن، والخير كله في اتباع القرآن في جميع ما يفيده القرآن.
المفردات:
إسم الإشارة راجع للثلاثة المذكورة من قبل. يلق: يقابل ويصادف وينال، آثاما: عقابا جزاء على إثمه، فالأثام جزاء الإثم. يضاعف: يزاد له على الأصل فيعذب عذابين أو أنواعا من العذاب، يخلد: يلقى، وطول البقاء يسمِّه خلودا كما قالت العرب في أثافي الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الأطلال لا لدوام بقائها إذ لا دوام لها، وعلى هذا قول المخبَّل السعدي (1):
إِلاَّ رَمَادًا هَامِدًا دَفَعَتْ ... عَنْهُ الرِّيَاحَ خَوَالِدٌ سُحْمُ
المهان: الذليل المحتقر الذي يفعل به ما يذله ويحقره.
التراكيب:
يضاعف بدل من يلق، بدل كل من كل، قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هي لقي الاثام، وعندي أنه بدل بعض من كل لان لقي العذاب جزاء على تلك الاثام يكون في الدنيا والآخرة، ومضاعفة العذاب والخلود فيه تكون في الآخرة، وبهذا تكون الآية قد أفادت أن المرتكب لما تقدم من المعاصي الشرك وقتل النفس والزنى ينال جزاءه دنيا وأخرى، وعذاب الآخرة المضاعف المستمر أشد وأبقى، وهذا هو الجاري على سنة القرآن في التخويف بسوء عاقبة المعصية عاجلا وآجلا، والتنبيه على أن الآجل أشد وأفدح من العاجل.
__________
(1) من مفضليته، وانظر المفضليات للانباري 209.(1/473)
المعنى:
ومن يأت هذه الأفعال فدعا مع الله إلها آخر أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو زنى فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه وجزاءها في أخراه ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفا مزيدا عليه أنواع ويستمر فيه باقيا مذللا محقرا.
توجيه:
إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب، لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور ففي دعاء غير الله الجهل بالله والكفر بنعمة الله والإبطال لحق الله، وفي قتل النفس تأييم وتيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول وتعد على جميع النوع وتهوين لهذا الجرم الكبير، وفي الزنى جناية على النسل المقطوع وعلى من ادخل عليهم من الزنى من ليس منهم، وعلى أصحاب الارث في خروج حقهم لغيرهم وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل وهو من مقتضى الحكمة والعدل.
تذكير:
يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الأثام لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سوء عاقبتها وتعدد شرورها وتشعب مفاسدها ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها لنزدجر وننكف فنسلم من الشر المتراكم والعذاب المضاعف ونفوز بأجر التذكر وثمرة التذكير.
جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى وسلم من فتن الدنيا والأخرى بمنه وكرمه آمين (1).
__________
(1) ش: ج11، م8، ص 552 - 564
غرة رجب 1351 - نوفمبر 1932(1/474)
إِسْتِثْنَاءُ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُذْنِبَينِ
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
سبب النزول:
أخرج الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما- واللفظ لمسلم، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى {مُهَانًا}. فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} إلى آخر الآية.
المناسبة:
لما ذكر تعالى عظائم الذنوب وأكبر كبائرها وتوعد بالوعيد الشديد عليها، عقبها بذكر التوبة منها ورغب فيها لينبه عباده على طريق الرجوع إليه، وأن من تاب منهم إلى الله تاب الله عليه.
المفردات:
التوبة: الرجوع إلى الله، أي الرجوع من معصية الله إلى طاعته،
__________
(1) 25/ 170 الفرقان.(1/475)
وذلك بالندم على ما فات والعزم على عدم العود إليه وهذان من عمل القلب. وبالإقلاع عما هو متلبس به وهذا من عمل الجوارح، الإيمان عندما يذكر مع الأعمال يراد به تصديق القلب ويقينه واطمئنانه بعقائد الحق، والعمل الصالح هو العمل الطيب المشروع من طاعة الله على العباد سواء كان من عمل الباطن، وهو عمل القلب، أو من عمل الظاهر، وهو عمل الجوارح، والعمل الصالح من ثمرات الايمان الدال وجودها على وجوده وكمالها على كماله ونقصها على نقصه وعدمها على اضطرابه ووشك انحلاله واضمحلاله. التبديل: التحويل فتجعل الحسنة مكان السيئة. الغفور: الستار للذنوب المتجاوز عنها. الرحيم: المنعم الدائم الإنعام.
التراكيب:
إلاّ من تَابَ: استثناء من يفعل استثناء متصلاً لأن الذي يتوب من جملة من فعل والفاء في (فأولئك) تفريعية لتفرع التبديل على التوبة وعاطفة لجملة أولئك على جملة استثني التي قامت مقامها إلا، كما عطفت عليها الجملة الأخيرة جملة وكان، ونظير هذا: من يقم منكم فله درهم إلا زيدا فله درهمان.
المعنى:
يستثني من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا من رجع إلى الله من الشرك وقتل النفس والزنى بالتوبة الصادقة وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقبلهم الله ويجعل مكان سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا يتجاوز عن ذنوب عباده ضد تجاوز عما كان منهم من شرك أو قتل أو زنا رحيما منعما على عباده فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيئاتهم.(1/476)
ترتيب وتوجيه:
يكون العاصي في غمرات معصيته فإذا ذكر الله ووفقه الله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته فإذا استشعر قلبه اليقين واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية والإقبال على الطاعة، فإذا كان صادقا في هذا العزم فلا بد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة والثانية فذكر الإيمان والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد واقتداء:
روى الأئمة عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خلفوا أنه لما جلس بين يدي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بعد ما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن انخلع من مالي إلى الله وإلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: أمسك بعض مالك فهو خير لك، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي هو بخيبر. فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلا على صدق توبته كما اقتضته الآية، فتأيد بفهمه ما قدمنا وكان خير قدوة للتائبين.
وجوه التبديل:
لما كانت السيئة لا تنقلب حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة وهذا على وجوه أولها محق السيئات الماضية بالتوبه وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم. وثانيهما تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، فصار يعمل الصالحات بعد ما كان يعمل السيئات. وثالثهما أن نفسه كانبت بالمعصية مظلمة شريرة(1/477)
فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس.
مسألتان أصوليتان:
الأولى: هل يخرج غير التائب من النار: استثنى الله التائب من مضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا، فبقي غير التائب للخلود. والخلود كما قدمنا في الآية السابقة طول البقاء، ولا يقتضي التأييد فقد يكون معه التأييد وقد لا يكون، فمع التأييد لا خروج ومع عدمه الخروج. وغير التائب الذي بقي للخلود المطلق في الآية هو المشرك والقاتل والزاني، فأما المشرك فلا خروج له من النار لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وأما القاتل والزاني إذا كانا من أهل الإيمان فإنهما يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان لأحاديث صحيحة منها ما رواه الشيخان البخاري والمسلم عن أنس- رضي الله عنهم-:
"يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ذرة"، زاد البخاري في رواية قتادة عن أنس: "من إيمان" مكان "خير". وهذا من عدل الله ورحمته، فإنه أذاقهم من العذاب الشديد والهوان المخزي جزاءهم، ثم أخرجهم من النار وما أضاع عليهم إيمانهم. إن الله بالناس لرؤوف رحيم.
الثانية: هل لقاتل النفس ظلما وعدوانا من توبة: ذهب ابن عباس
في المشهود عنه الذي رواه الشيخان وغيرهما أنه لا توبة له، وقال في هذه الآية إنها نزلت في المشركين، وذكر سبب نزولها كما تقدم وقال- إثره-: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له(1/478)
وقال في هذه الآية أنها آية مكية نسختها آية مدنية وهي آية الفرقان (1): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. ومراده بالنسخ التخصص، يعني أن لفظة من في {إِلَّا مَنْ تَابَ} عامة تشمل القاتل فتقتضي بعمومها أن له توبة وأن آية الفرقان (النساء) التي جاءت في القاتل خصصتها وأخرجته من عمومها. قال ابن رشد- بنقل الابي-: وإلى هذا ذهب مالك لأنه قال: "لا يؤم القاتل وإن تاب" قال ابن رشد: وهذا لأن القتل فيه حق لله وحق للمقتول، وشرط التوبة من مظالم العباد رد التبعات أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل. وذهب جمهور السلف وأهل السنة إلى أنَّ للقاتل توبة، ونظروا في هذه الآية إلى عموم لفظها لا إلى خصوص سبب نزولها، وجعلوا عموم {وَمَنْ يَقْتُلْ} في آية الفرقان (النساء) مخصصا بمن تاب المستثنى في هذه الآية فابن عباس خصص من تاب بمن يقتل، وهم عكسوا فخصصوا من يقتل بمن تاب، ويرجح تخصيصهم العمومات الدالة على قبول التوبة من كل مذنب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقوله: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (3) وقوله: {قَابِلِ التَّوْبِ} (4).
__________
(1) كذا في الأصل ولكنها آية "النساء".
(2) 109/ 4 النساء.
(3) 42/ 25 الشورى.
(4) 3/ 40 المؤمن وتمام الآية: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.(1/479)
وحديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له في عمومات كثيرة، والظواهر إذا كثرت تفيد القطع.
قدوة في الفتوى:
قال ابن رشد: كان ابن شهاب إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح. قال ابن رشد: وإنه لحسن من الفتوى. فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال في تنزيل الأقوال، فإن من لم يقتل يجب التشديد عليه وسد الباب في وجهه، ومن قتل ينبغي ترغيبه في الرجوع إلى الله، وفي مراعاة هذا الأصل والإقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث على الخير والكف عن الشر والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها كانت أعمالا أو كانت أقوالا.
ترهيب:
ما أعظم هذا الذنب وما أكبره. ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبة، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر، ولعظم شأن الدماء كانت أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين الخلق فأيَّاك أيها الأخ أن تلقي الله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلما ولو بكلمة، فإن الأمر صعب والموقف خطير.
بِشَارَةُ التَّائِبِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ:
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (1).
__________
(1) 25/ 71 الفرقان.(1/480)
المناسبة:
لما أفادت الآية السابقة أن التوبة تمحو السيئات، جاءت هذه الآية إثرها تبين ما لأهلها من جزيل الإنعامات وعظيم الدرجات.
المفردات:
المتاب: مصدر كالمرجع.
التراكيب:
خالف جواب الشرط وهو يتوب فعل الشرط وهو تاب بمتعلقه وهو إلى الله ومعموله وهو متابا، وعبر بالمضارع في الجواب ليفيد التجدد باعتبار تجدد المثوبات للراجعين إلى الله، وتنوين متابا تنوين تفخيم وتعظيم.
المعنى:
ومن تاب التوبة الصادقة وعمل عملا صالحا دليلا على صدق توبته فإنه يرجع إلى الله الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحسن لقاءهم ويجزل ثوابهم، رجوعا وأي رجوع رجوع العز والتكريم إلى الحليم الكريم.
ترغيب:
دعا الله بهذا عباده المذنبين حتى لا يتسرب القنوط إلى قلوبهم، وهو محرم عليهم ولا يحول بينهم وبين خالقهم ذنب، وإن عظم، ورغبهم في التوبة بأنها رجوع إليه وكفى، وأن الرجوع إليه فيه من الخير والشرف فوق ما تصوره الألفاط، فما أحلمه من رب كريم وما أرحمه بعباده المذنبين، فهذا داعي الله فأجيبوه وهذا باب الله فَلِجُوه فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردون ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.(1/481)
اللهم فكما فتحت لنا بابك فوفقنا إليه وتب علينا لنتوب إنك أنت التواب الرحيم (1).
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ... } (3).
المناسبة:
لما وصفهم بالصفات المتقدمة الدالة كلها على كمال أخلاقهم، واستقامة أعمالهم في ظواهرهم وبواطنهم، بأنبائها على قوة إيمانهم، وصحة علمهم، فكانوا أهل الحق المتصفين به في علمهم وعملهم، القائمين عليه في جميع أحوالهم، وصفهم هنا ببعدهم عن الباطل، ومشاهده، ومجانبتهم لأهله.
المفردات:
الشهود: هو الحضور الذي يكون فيه إدراك بالحواس أو بالبصيرة. والشهادة هي الإخبار عن علم حصل عن شهود. ولا يشهدون: يحتمل أن يكون من الشهود وأن يكون من الشهادة. والزور: أصله الميل ويطلق على الكذب لأنه ميل عن الحقيقة وعلى كل باطل من الأقوال، والأعمال، لأنه ميل عن الحق.
التراكيب:
إذا كان {لَا يَشْهَدُونَ} بمعنى لا يحضرون فالزور مفعول به، وإذا كان بمعنى لا يخبرون فالزور مفعول مطلق بعد حذف المضاف، والأصل: ولا يشهدون شهادة الزور.
__________
(1) ش: ج12، م8، ص 608 - 615
شعبان 1351 - ديسمبر 1932
(2) 25/ 72 الفرقان.(1/482)
المعني:
- على الإحتمال الأول- والذين لا يحضرون مشاهدة الباطل والإثم من كل من مجلس تتعدى فيه الحدود، أو تنتهك فيه الحرمات أو يحكم فيه بالجور، أو تعظم فيه الطواغيت أو يدعى فيه بدعوى الجاهلية، أو تحيا فيه معالم الوثنية أو تطمس فيه السنة النبوية أو يدعي فيه أحد مع الله، أو يضرع إلى سواه. وعلى الاحتمال الثاني- والذين لا يشهدون شهادة الزور ولايخبرون إلا بالحق الواقع.
ترجيع وترجيح:
يلزم من أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين: الأول لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه. والثاني أن يشهد شيادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها. فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل.
توسع في البيان:
على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضاته فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات نظير مجيء الآية بقراءتين: فتكون كآيتين مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا - فَتَثَبَّتُوا} (1) وقوله تعالى في آية الوضوء: {وَأَرْجُلَكُمْ} (2) بالنصب عطفاً على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة
__________
(1) 49/ 6 الحجرات.
(2) 7/ 5 المائدة، وتمام الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .. }.(1/483)
الأصلية العامة. وبالخفض عطفا على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف. فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة تنزههم عن شهود الباطل وعن شهادته.
موعظة:
قال جار الله في الكشاف عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن: إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعلية في الإثم لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وهذا كما قال فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها وترك للنهي عن المنكر، وقد قال الله تعاله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (1) وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3) فتعم الآية كل ظالم فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، ولا
__________
(2) 5/ 82 - 82 المائدة.
(2) 68/ 6 الأنعام.(1/484)
يكفي أن ينكر ويجلس لأنه يكون ببقائه معهم، قد أظل ما يدلُّ على الرضا بفعلهم ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول، وروى الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ولا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه). فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرضا بها. وروى الشيخان عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأصحابه: لما وصلوا الحجر ديار ثمود- ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم)) فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم، وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني أو اللزوم على الوجه الأول من أكبر الذنوب إثما، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق وتضيع بها الحقوق وتبطل المعاملات وتزول الثقة بين الناس وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم. وصح عنه عليه وآله الصلاة والسلام أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور) وكان متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا (شفقة عليه) ليته سكت. فجلس لها وبقي يكررها لعظم شرها وكبر مفسدتها وعظم الإثم فيها
__________
(4) 6/ 68 الأنعام.(1/485)
على حسب ذلك منها. أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور وذي زور.
الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ:
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1)
المناسبة:
نفى عنهم فيما تقدم حضور مشاهد الزور وأخبر هنا أنهم لا يقفون
عند اللغو عندما يمرون عليه ترقيا في وصفهم بالبعد عن الباطل والإثم والعبث ومجالبة أهله.
المفردات:
اللغو: مصدر لغا يلغو، أى قال باطلا فهو القول الباطل ومثله الفعل الباطل من كل ما لا فائدة فيه ولا نتيجة له مما شأنه أن يلغي ويطرح. والكريم: الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه واستقامة أعماله وسلامته من الرذائل.
التراكيب:
كراما حال من فاعل مروا الثاني ليبين وصفهم عند المرور.
المعنى:
وإذا مروا في طريقهم بقول يقال أو فعل يفعل مما لا فائدة فيه جاوزوه معرضين عنه أزكياء غير متدنسين بشيء ولا متلفتين لأهله.
موعظة.
في الإقبال على اللغو شغل للباطل به وتكدير للخاطر بظلمته،
__________
(1) 25/ 72 الفرقان.(1/486)
وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك، وإن قلَّ، وقد يعقبها ضدها فتزول بعد ما شغلت وعطلت، وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين، وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من زكائك وبقدر ما تتساهل بالوقوف عليه تقرب من الدخول فيه وإذا دخلت فيه واستأنست بأهله جرك إلى الزور وعظائم الأمور وللشرِّ أسباب متواصلة وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض فينتقل المغرور الغافل من خفيها إلى جليها، ومن صغيرها إلى كبيرها، فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، وتباعد كل البعد عنها، وعن أهلها، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي وذكرت عباد الرحمن لنقتدي والله المستعان ولا توفيق إلا به (1).
الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (2).
المناسبة:
لما وصفهم فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه متفهمين مستبصرين.
الألفاظ:
ذكروا: وعظوا ونبهوا. بآيات ربهم: هي آيات القرآن، وفيها
__________
(1) ش: ج2، م9، ص 66 - 0 7 غرة شوال 1351 - فيفري 1923
(2) 25/ 73 الفرقان 0(1/487)
التذكير بآيات الأكوان التي ترى بالعيان. الخرور: هو السقوط كسقوط الساجد، الأصم: فاقد حاسة السمع أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به وهو المراد هنا. والأعمى: فاقد حاسة البصر، أي الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك القلبي، وهو عمى البصيرة وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين.
التراكيب:
عبر بإذا لأن التذكير مما هو واقع محقق كالذي يسمع من القرآن
في الصلاة من الخطب في الجمع. وبنى الفعل للنائب لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان. وصما وعميانا: حال من الواو ضمير الجماعة في لم يخروا، والنفي منصب على الحال التي هي قيد في الكلام وإذا كان الكلام مقيدا بقيد كما هنا فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي، ونظيره ما رأيت زيدا راكبا نفيا للركوب لا للروية، ولا يلقاني مسلما نفيا للسلام لا للقاء، فلم ينف عنهم الخرور وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم إذا ذكرهم مذكر بآيات ربهم التي أنزلها على نبيهم- صلى الله عليه وآله وسلم- بما فيها من ذكر مخلوقاته وإنعاماته وأيامه في أوليائه وأعدائه ووعده ووعيده وترغيبه وترهيبه، أقبلوا عليها وأكبوا على سماعها بآذان واعية، وأبصار راعية، وقلوب حاضرة، وعقول متدبرة، لا كمن يقبلون عليها ويكبون على سماعها ولكنهم لا يسمعون ولا يبصرون لأنهم لا يعقلون ولا يتدبرون.(1/488)
عموم الحاجة للتذكير:
بعد ما ذكر تعالى من صفات عباد الرحمن ما ذكر ذكر استماعهم للتذكير تنبيها على أن التذكير محتاج إليه في كل حال فإذا كان الموصوفون بتلك الصفات يحتاجون إليه فغيرهم أولى وذلك لأن الغفلة من طبع الإنسان ودوام الغفلة صدأ القلوب وصقالها هو التذكير.
قبول التذكير من كل مذكر:
كما تقبل كلمة الحق من كل قائل كذلك يقبل التذكير من كل مذكر ولو كان المذكر من كمل العباد والمذكر من أوساطهم أو أدناهم وفي عباد الرحمن المذكورين في استماعهم إذا ذكروا من أي مذكر، القدوة الحسنة.
ما يكون به التذكير:
قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1) {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) فالتذكير بآيات القرآن والأحاديث النبوية هذا هو التذكير المشروع المتبوع والدواء الناجع المجرب ولذلك تجد مواعظ السلف كلها مبنية عليه راجعة إليه، والنصح لله ولرسوله وللمسلمين في لزوم ذلك والسير عليه.
__________
(1) 45/ 50 ق.
(2) 17/ 54 القمر.
(3) 7/ 59 المجادلة.(1/489)
أقسام الناس عند التذكير:
الناس عند تلاوة القرآن على قسمين معرضين ومقبلين. فالمعرضون غير المؤمنين. والمقبلون على قسمين مقبلين بظاهرهم دون باطنهم ومقبلين بظاهرهم وباطنهم، فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون، والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين: مستمعين مستبصربن حاضرين متدبرين، وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين، والأقسام كلها مذمومة إلا قسم المقبلين بظواهرهم وبواطنهم المستمعين المستبصرين، وهذا القسم هو الذي وصف به عباد الرحمن فكانوا مباينين لأهل الإعراض من الكافرين والمنافقين ولأهل الغفلة وعدم التدبر من المؤمنين.
تحذير وتنبيه:
قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه ويتلقاه بالقبول ثم لا يتفهمه ولا يتدبره بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه تقبيحا لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات وتحذيرا منه وتنبيها على أن الإنتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر وتتسع به المدارك وتتهذب به الأخلاق وتتزكى به النفوس وتتقوم به الأعمال وتستقيم به الأحوال إنما يكون بتفهمه وتدبره دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر.
أمر وإرشاد:
الآيات الدالة على طلب التدبر والتفهم لآيات القرآن العظيم كثيرة منها هذه الآية ومنها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)
__________
(1) 29/ 38 ص.(1/490)
فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها ونستعمل عقولنا في فهمها ونحمل أنفسنا على الاتِّعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل- بإذن الله- بما لم يكن له في بال، وأن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين- ترغيبا لنا في فهمه وتدبره واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه، فاقبل- يا أخى على القرآن على استماعه وعلى تفهمه والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك- تر من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك- إن شاء الله- ويعليك ويعود بالخير الجزيل عليك .. والله نسأل لنا ولكم الإقبال على الله بتلاوة وتدبر كتابه، والتأدب بجميع آدابه حتى نحشر في زمرة أحبابه، بمنه وكرمه آمنين (1).
الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2).
المناسبة:
لما وصفهم في الآيات المتقدمة بما دل على أنهم أهل خير وكمال
في أنفسهم وصفهم في هذه بما دل على محبتهم الخير والكمال لغيرهم من قرابتهم أزواجهم وذريتهم ومن سواهم، وقدم الأزواج على الذرية لأنهم ألصق ولأنهم الأصل.
__________
(1) ش: ج3، م9 ص 120 - 125
غرة ذي 2 لقعدة 1351 - مارس 1933
(2) 25/ 74 الفرقان.(1/491)
فقه هذه المناسبة:
فطر الإنسان على محبته لنفسه لتحمله هذه الفطرة على المحافظة عليها والدفاع عنها وتكميلها بكل وجوه الكمال. وكان من مقتضى هذه المحبة رغبته في الوجود والبقاء ومما هو قوة في وجوده ومظهر لبقائه أن يرى الناس على فكره وصفاته وأحواله، فيرى نفسه ممثلة في غيره، وأفكاره وصفاته وأحواله باقية ببقاء الناس، فالخير الكامل من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انتشار الخير والكمال في الناس. والشرير الناقص من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انشار الشر والنقص فيهم فلذا كان لازما لتتميم وصف عباد الرحمن ذكر محبتهم الخير والكمال لغيرهم.
ميزان هذه المناسبة:
قد تخفي عليك دخيلة نفس الإنسان فيمكنك أن تعرفها بما يجري به لسانه فإذا جرت كلماته بمحبة انتشار الخير والكمال، فهو من أهلهما وإذا جرت بالضد فهو على الضد. فما يحب الإنسان انتشاره هو الدليل على صفات نفسه وهو ميزان تزنه به في الشر والخير والنقص والكمال.
المفرادت:
الهبة: العطاء من غير عوض، ولا تكون على الحقيقة التامة إلا من الله، فهو الغني الوهاب. من: ابتدائية فمن ناحية الأزواج والذرية تكون قرة الأعين، الأزواج: جمع زوج، وهو يصدق على الرجل والمرأة، والنساء شقائق الرجال، وهذا الدعاء كما يكون من المؤمنين يكون من المؤمنات، كما تصدق الآيات المتقدمة على الموصوفين من الصنفين بتلك الصفات. الذرية: ما تناسل منهم من أبنائهم وبناتهم، وقرئت بالإفراد لاتحادها في أصل النسل، وبالجمع(1/492)
لاختلافها في الفروع والانساب. قرة الأعين: بردها إن كانت من القر وهو البرد. وسكونها إن كانت من القرور، بمعنى الاستقرار، الإمام: هو المتبع المقتدى به وأفرد لأن المراد به الجنس، وحسن الافراد من جهة اللفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها وما بعدها ومن جهة المعنى، أن أئمة الهدى كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم بالسير على الصراط المستقيم واتحاد وجهتهم بالقصد إلى الله تعالى وحده.
التراكيب:
قرة أعين: تركيب كنائي، فإذا كان القرة من القر فهو كناية عن السرور، لأن العين في حالة السرور باردة، وإذا سَالَتْ منها دموع في حالة الفرح كانت باردة، وإذا كان الإنسان في حالة حزن فالعين تكون سخنة بسبب ثورة النفس وآلامها التي تثير الحرارة، فإذا سَالَتْ منها دموع الحزن كانت سخنة ومما يقال على هذا أقر الله عين المحق وأسخن عين المبطل وجاء عليه قول أبي تمام (1):
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأُسْخِنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتْ
فقرة أعينهم على هذا كناية عن سرورهم بأزواجهم وذريتيم، بما يرونهم عليه من الخير والكمال، وإعانتهم لهم عليهما. وإذا كانت القرة من القرور فهي كناية عن سكون النفس بحصولها على ما يرضيها من الأزواج والذرية، ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين ويطمح إليه
__________
(1) من قصيدة يمدح حبيش بن المعافي قاضي نصيبين ورأس العين مطلعها:
نُسَائِلُهَا أَيَّ الْمَوَاطِنِ حَلَّتِ ... وَأَيَّ دِيَارٍ أَوْطَئَتْهَا وَأَنَّتَ(1/493)
البصر، وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها ولم يطمح البصر إليه، ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (1). فقرة أعينهم على هذا كناية عن رضى أنفسهم بما يكون لهم من أزواج وذرية موصوفين بالصفات المرضية من طاعة الله في القيام بوظائف الدين والدنيا وإعانتهم لهم على القيام بها.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يدعون ربهم يسألونه أن يهب لهم أزواجا وذرية تقر بهم أعينهم بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على منهاجهم معينين لهم على ما هم عليه، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والإستقامة يقتدي بهم فيها المتقون.
الأحكم:
الأول: التزوج وطلب النسل هو السنة، سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسنة أصحابه عليهم الرضوان، وسنة عباد الرحمن، وليس من شريعته الحنيفية السمحة الرهبانية والتبثل، وقد رأى قوم من الزهاد رجحان الإنقطاع إلى العبادة على التزوج والإشتغال بالسعي على الزوج والذرية فرد عليهم أئمة الدين والفتوى بأنَّ في التزوج
__________
(1) 131/ 20 طه.(1/494)
اتباعا للسنة، وفي السعي على الأهل ما هو من أعظم العبادة، وفي التزوج تكثير سواد الأمة والمدافعين عن الملة والقائمين بمصالح الدين والدنيا، وفي هذا ما فيه من الأجر والمثوبة. وفي التبتل مخالفة السنة وانقطاع النسل وضعف الأمة وتعطيل المصالح وخراب العمران وكفى بهذا كله شرا وفسادا.
الثاني: سؤال العبد من ربه أن يهب له من الزوج والذرية ما تقرء به عينه، يقتضي سعيه بقدر استطاعته لتحصيل ذلك فيهما ليقوم بالسببين المشروعين من السعي والدعاء، فعليه أن يختار ويجتهد عندما يريد التزوج، وأن يقصد إلى ذات الدين، وفي اختياره واجتهاده في جانب الزوجة سعي في اختيار الولد، فإن الزوجة الصالحة شأنها أن تربي أولادها على الخير والصلاح. ثم عليه أن يقوم بتعليم زوجه وأولاده وتهذيبهم وإرشادهم فيكون قد قام بما عليه في الإبتداء والإستمرار مع دوام التضرع إلى الله تعالى والابتهال.
الثالث: ما تقرُّ به الأعين يحصل به الفرح والسرور فالفرح والسرور بما هو خير وطاعة من حيث أنه نعمة من الله وفضل محمود ومشروع.
الرابع: طلب الرتب العليا، في الخير والكمال، والسبق إليها والتقدم فيها مما يدعونا إليه الله، ويرغبنا بمثل هذه الآية فيه كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} لأن طلب الكمال كمال ولأن من كانت غايته الرتب العليا إنْ لَم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإنْ لم يساو أهلَها لم يبعد عنهم. ومن لم يطلب الكمال بقي في النقص ومن لم تكن له غاية سامية قصر في السعي وتوانى في العمل، فالمؤمن يطلب أسمى الغايات حتى إذا لم يصل لم يبعد وحتى يكون في مظنه الوصول بصحة القصد وصدق النية.(1/495)
الخامس: من الدين الإقتداء بأهل العلم والعمل والإستقامة في الهدى والسمت.
السادس: لا يكون الإمام إلا تقياً فاق غيره في التقوى.
السابع: إن اقتداء المتقين بأئمتهم إنما هو في التقوى لأنهم ما كانوا أئمة إلاَّ بها. فالآية أفادت إن المتقين يقتدون بأئمتهم وإن أئمتهم متقون مثلهم وأكمل منهم في التقوى، وأن اقتداءهم بهم في التقوى لا في غيرها فمن حاد عنها فلا إمامة له.
تمييز:
الخير الكامل المقدم في الخير والكمال المقتدى به فيهما إذا طلب الإمامة من حيث الخير والكمال نفسهما ومن حيث حمل الناس عليهما بالقدوة الصالحة فيهما، لأن فعل الخير والاتصاف بالكمال دعوة إليهما بالعمل وهي أبلغ من الدعوة بالقول، ومن حيث انتشارهما في الناس وسعادة الناس بهما، إذا طلب الإمامة من هذه الحيثيات فطلبه مشروع محمود وهو طلب عباد الرحمن المذكور في الآية، وإذا طلب الإمامة والتقدم لأجل الترأس والتقدم فهذا طلب مذموم من عمل المتكبرين لا من عمل المتقين، فعلى الداعي أن يميز هذا التمييز ليخلص القصد في دعائه ويكون على صواب فيه.
كلمة عظيمة من إمام عظيم:
قال مجاهد- التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير-:
((أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا)) ذكره البخاري ورواه ابن جرير بسند صحيح. يعني أن الذين يقتدي بهم الناس من بعدهم هم الذين كانوا يقتدون بسلفهم الصالح من قبلهم، فالذين أحدثوا في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح لم يقتدوا بمن قبلهم فليسوا أهلاً(1/496)
لأن يقتدي بهم من بعدهم فكل من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح فهو ساقط عن رتبة الإمامة فيه.
سلوك واقتداء:
كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي- صلى الله عليه وآلهه وسلم- فيؤمن به ويصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى، فيرجع إلى قومه هادياً مهدياً، أما ما يقتدي به، ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأخذ عنه. فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله وأحاديث رسوله ما يصحح عقده ويزكي نفسه ويقوِّم عمله وليطبق ما يسمعه على نفسه وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه وليداوم على هذا حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره، في حاله، وسلوكه، وطلبة العلم الذين (1) وهبوا نفوسهم لله وقصروا أعمارهم على طلب العلم لدعوة الخلق إلى الله هم المطالبون على الأخص بهذا السلوك ليصلوا إلى إمامة الحق. وهداية الخلق، على أكمل حالة ومن أقرب طربق. فاللهم وفقنا واهدنا إلى سنة نبينا إذا اقتدينا وإذا اقتدي بنا آمين. يا رب العالمين (2).
__________
(1) في الأصل: الذي.
1 2) ش: ج6، م9، ص 223 - 229. غرة محرم 1352هـ - ماي 1933م.(1/497)
جَزَاءُ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (1).
المناسبة وفقهها:
لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم ذكر ما أعدَّ لهم
من عظيم الجزاء عدلى تلك الأعمال تنبيها على ما وضعه تعالى بمشيئته وحكمته ورحمته من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه إفضاء السبب لمسببه ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها وتوقي جميع الأمور من أبوابها. وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون. وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون ((والكيس من دان نفسه (قهرها على الطاعة وحاسبها) وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)).
المفردات:
يجزون: يعطون في مقابلة أعمالهم، الغرفة: البيت الأعلى فوق بيت، وأل: فيه للجنس فيصدق بالمتعدد. صبروا: حسبوا نفوسهم.
__________
(1) 25/ 75 - 76 الفرقان.(1/498)
والباء: فيه سببية. يلقون: من لقي بمعنى يجدون. ويلقون: من لقي بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم. تحية: دعاء بالحياة. سلاما: دعاء بالسلامة. خالدين: باقين. مستقرا: هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه. مقاما: هو المكان الذي يقام ويمكث فيه.
التركيب:
جملة أولئك مستأنفة بيانيا، فإنَّ تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة ما لهم وثمرة أعمالهم فيسأل عنهما، فكانت الجملة جواباً لذلك السؤال المقدَّر وعرف المسند إليه بالإشارة تنبيها على أن استحقاقه للمسند كان بما تقدم من صفات. وجملة (حسنت) مستأنفة بيانياً، لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء يتشوف لمعرفة حال مكان هذه الحياة السالمة الباقية فيسأل عنه فوقعت جملة حسنت موقع الجواب عن هذا السؤال المقدَّر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن وقدم المستقر لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الإستقرار واستمرار المكث.
المعنى:
أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالم يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة بسبب صبرهم وحبسهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات، وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم المقيم وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر ينتهي إليه الإنسان ومقام يمكث فيه.
تطبيق حديث وفقهه:
" روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهم- أن رسول(1/499)
الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إن إهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى- والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ... )، فهذا الحديث بيَّن أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآيات المتقدمة على أتمها، ومن لم يكن مثلهم فيها لم يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها وكان على حسب حظه من الإيمان في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف. فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (1).
دلالة:
دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم وهو أعمالهم، ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال وهو الصبر لقوله تعالى: {بِمَا صَبَرُوا} ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلاَّ من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنمو بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف
__________
(1) 45/ 20 - 21 الجاثية.(1/500)
الشرعية إلا به بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدُّنيا الموضوعة على المحنة والإبتلاء إلا إذا تمسك بسببه.
بيان القرآن للقرآن:
في هذه الآية إنهم يلقون تحية وسلاما وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (1). فالملائكة هم الذين يتلقونهم بالسلام والدعاء لهم بالطيب وهو مما يدخل في التحية، لأن من طيبهم طيب حياتهم، وما أكثر ما تجد في القرآن بيان القرآن، فاجعله من بالك تهتد- إن شاء الله- إليه.
إقتداء ورجاء:
هؤلاء هم السالكون وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم،
ولما سلكوا الصراط المستقيم بالعمل المستقيم انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم في جوار الرحمن الرحيم، فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم وزن أعمالك بأعمالهم وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا، فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الاقتداء وصدق الرجاء، وحسن الجزاء: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2). (3)
__________
(1) 73/ 39 المزمر.
(2) 97/ 26 النحل 0
(3) ش: ج7، م9، ص263 - 267 غرة صفر 1352هـ - جوان 1933م(1/501)
قِيمَةُ الْعِبَادِ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِقَدَرِ عِبَادَتِهِمْ
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (1).
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
قد أفادت الآيات السابقة كمال حال عباد الرحمن في نفوسهم وعقولهم وأخلاقهم وأعمالهم، وأفادت عظيم منزلتهم عند ربهم ورفيع ما أُعدَّ لهم من درجاتهم جزاء على صالحاتهم وحسناتهم، وجاءت هذه الآية تفيد أن ذلك المقام العظيم الذي كان لهم عند ربهم إنما هو بسبب عبادتهم، وتعلن للناس أن عبادتهم هي الشيء الوحيد الذي يكون لهم به قدر وقيمة عند ربهم وبدونها لا يكون لهم وزن عند خالقهم ولا يكونون شيئا يبالي به. وأن من كذب وخلع بتكذيبه ربقة العبادة فقد حقَّت عليه كلمة العذاب، وهو واقع به لا محالة.
المفردات:
ما يعبؤ بكم: ما يبالي بكم، العبء: هو الثقل فما عبأت به بمعنى ما كان له عندي وزن ولا مقدار، وعبأت به كان له عندي وزن ومقدار، وعدِّي بالباء لأنه بمعنى ما باليت، دعاؤكم: عبادتكم من إطلاق الجزء على الكل. كذبتم: كفرتم فلم تعبدوا. لزاما: ملازما واصل اللزام مصدر لازم واختير هنا للتنبيه على أن بين المكذبين
__________
(1) 25/ 77 الفرقان.(1/502)
والعذاب ملازمة من الطرفين فهم بتكذيبهم قد ألزموا أنفسهم العذاب فلازمهم العذاب.
التراكيب:
جواب لولا محذوف لدلالة ما تقدم وتقدير الكلام: لولا دعاؤكم ما عبأ بكم، وجملة فقد كذبتم واقعة موقع التعليل الكلام مقدر تقديره- والله أعلم- لا يعبأ بكم فقد كذبتم، أي لأنكم قد كذبتم فالفاء تعليلية وأما جملة فسوف يكون فمتسببة عما قبلها فالفاء فيها سببية. وضمير يكون عائد على العذاب المفهوم من المقام.
المعنى:
قل للذين أرْسِلْتَ إليهم ما يبالي بكم ربِّي ولا يعبأ بكم ولا يكون لكم عنده وزن لولا إيمانكم وعبادتكم، فإذا كذبتم وكفرتم فهو لا يعبأ بكم وسوف يكون العذاب ملازما بسبب تكديبكم.
تحرير في المخاطب:
المخاطبون هم الذين كذبوا، ثم ان ما لحقم بسبب التكذيب من العذاب الملازم، فهو خاص بهم وبالمكذبين أمثالهم، وما كان موجها لم من جهة أنهم عباد- وهو أن الله لا يعبأ بهم لولا دعاؤهم- فهو عام لجميع العباد لمماثلتهم لهم في العبودية لله واستغناء الله عنهم وفرض العبادة عليهم وعدم التقدير لهم إلا بها.
تفسير أثري:
أخرج البخاري في كتاب التفسير، عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام. ورواه في مواضع أخرى من صحيحه. وعنى بالدخان(1/503)
المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (1) وبالقمر المذكور في: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وبالبطشة المذكورة في: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} (3) وباللزام المذكور في هذه الآية. وفسَّر ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وفسر اللزام به أيضاً فهي في الحقيقة أربع وعدها خمسا باعتبار الوصفين البطش والملازمة. وفسر الحسن اللزام بعذاب يوم القيامة ومن عادة السلف أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه ولا منافاة حينئذ بين التفسيرين فيكونون قد توعدوا تكذيبهم بلزوم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ترهيب:
رتب لزوم العذاب على التكذيب فأعظم العذاب لأكمل التكذبب وهو تكذيب الكفر ثم أصناف العذاب لازمة لتكذيب العصيان بالعدل والحكمة في التفسير والترتيب.
إستنباط:
لما كانت مقادير العباد عند ربهم بحسب عبادتهم فالأنبياء- عليهم السلام- أعلى الناس منزلة عند الله هم أعظمهم عبادة لله، وهم أتقاهم له، وأشدهم، خشية منه. وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مالك وغيره ((والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وألمكم بما أتقي)). وقال أيضاً: ((والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده)).
__________
(1) 44/ 10 الدخان.
(2) 44/ 16 الدخان.(1/504)
سؤال استطرادي وجوابه:
كيف يخشى وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ أجاب العلماء عن هذا بأجوبة منه أنه لا يخشى العقاب ولكنه يخشى العتاب ومنها- وهو قول الأكثر- أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بشرط امتثاله لما أمر به. ذكر هذين ابن العربي في "القبس" ومنها أنها خشية الإجلال ومشاهدة عظمة الربوبية وأنه لا يجب عليه تعالى شيء. وهذان (1) الحديثان الصحيحان من الأدلة الصريحة عند أهل العلم على أن العبادة الشرعية الإسلامية لا تتجرد من الخوف حتى عبادة أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
تعليل:
الإنسان مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من أخلاط عناصر جزئه الأرضي الظلمائي وهو جسده، ولا يخلص من كدرت جثمانه ولا ينجو من أسباب نقصانه إلا بعبادة ربه التي بها صفاء عقله وزكاء نفسه وطهارة بدنه في ظاهره وباطه فبعبادة ربه يكمل فيرقى في مراتب الكمال ويدنو من الملأ الأعلى عند الرب الأعلى ذي الجلال والإكرام فالله طيب لا يقبل إلا الطيب وإليه يصعد الكلم الطيب، ولا طيب ولا كمال إلا للعابدين فلا قيمة ولا قبول لغيرهم عند رب العالمين.
إرشاد وتحذير:
قد بيَّن لك الطريق الذي يوصلك إلى مولاك، ويرقيك في مراتب كمالك وعلاك، وما هو إلاَّ عبادة ربك. فكن عبدا له في اختيارك واضطرارك وفي جميع أحوالك، واحذر أن تعتمد على شيء
__________
(1) في الأصل: هذا.(1/505)
غير عبادته، واحذر أن تتوجه بشيء من عبادتك لغيره، ومن عبادتك بل هو مخ عبادتك، ودعاؤك وسؤالك واستغاثتك فإياك إياك أن تتوجه بشيء منه لغيره، فكن دائما عبداً لله وكن دائما عبدا له وحده فذلك حقه عليك وذلك السبب الوحيد الذي ينجيك ويعليك.
والله نسأل أن يقصرنا على عبادته، ويديمنا على الإخلاص في التوجه إليه حتى نلقاه على ملة الإسلام وهدى عباده الصالحين آمين يا رب العالمين (1).
__________
(1) ش: ج 8، م9، ص 303 - 307 غرة ربيع الأول 1352 - جويليه 1933(1/506)
انتهى الجزء الأول من المجلد الأول من هذا الكتاب، وقد اشتمل على مدخل الحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعلى آثاره المتعلقة بالتفسير وشرح الحديث. ويليه الجزء الثاني من المجلد الأول، وفيه تتمة دروس التفسير وشرح الأحاديث.(1/507)
آثاَرُ ابْنُ بَادِيسَ(2/1)
الطبعة الأولى
عام 1388 هـ - 1968 ميلادية
يشتمل المجلد الأول من هذه الطبعة على مدخل للحياة العقلية والثقافية للمغرب الإسلامي، وعلى حياة ابن باديس وآثاره المتعلقة بالتفسير، وشرح الحديث، ويشتمل المجلد الثاني على المقالات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية والسياسية التي دبجها يراع الشيخ الإمام الأستاذ عبد الحميد ابن باديس.
وقد كلفت دار اليقظة العربية لجنة من كبار علماء دمشق للقيام بتصحيح آثار ابن باديس أثناء طبعها، وذلك حرصا منها على أن يصدر هذا الكتاب الذي له أهمية بالغة في النهضة الإسلامية العربية الحديثة في المغرب الإسلامي سليما من الأخطاء، خاليا من التحريف(2/2)
كتاب
آثار ابن باديس
المجلد الأول
تفسير وشرح أحاديث
اعداد وتصنيف
الأستاذ عمّار طالبي
بالإشتراك مع الناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما
الجزائر-24 شارع عزون هاتف 56 - 76 - 62(2/3)
طبع هذا الكتاب بموافقة واشراف
الناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر لأصحابها مرازقة وبوداود وشركائهما
الجزائر- 24 شارع عزون هاتف 56 - 76 - 62
ملتزم الطبع والتوزيع
في الأقطار العربية والبلاد الأجنبية دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر(2/4)
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
كتاب
آثار ابن باديس
الجزء الثاني من
المجلد الأول
تفسير وشرح أحاديث
إعداد وتصنيف الأستاذ عمّار طالبي
بالإشتراك مع دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر
الطبعة الأولى 1388 هجرية - 1968 ميلادية(2/5)
جميع حقوق الترجمة والطبع والنشر والاقتباس محفوظة للناشر
دار ومكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والتوزيع والنشر(2/6)
- صورة -
.....
العلامة الثائر الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الحديثة بالمغرب العربي وقائد الحركة الإصلاحية ومؤسسها بالجزائر
ــــــــــــــــــــــــــ(2/7)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم الأول
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
النبوة:
منزلة من الكمال التام البشري يهيء الله لها من يشاء من عباده فيكون بذلك مستعدا لتلقي الوحي والاتصال بعالم الملائكة ولتحمل أعباء ما يلقى إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل، وتحمل كل بلاء يلقاه في سبيل ذلك التبليغ.
والملك:
ولاية على المجتمع لحفط نظامه، تقتضي عموم النظر وشمول التصرف في روابط الناس ومعاملاتهم وتصرفاتهم، وتسييرهم في ذلك كله على أصول عادلة توصل كل أحد إلى حقه وتكـ فه (2) عن حق غيره، ليعيشوا في رخاء وسلام، ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة.
__________
(1) 15/ 27 النمل.
(2) كذا في الأصل، ولعلها: (وتصرفه).(2/9)
وقد يتصف الشخص بالنبوة دون الملك فيكون مبلغا عن الله ولا يكون له التنفيذ والإدارة والتنظيم، وقد يتصف الشخص بالملك دون النبوة؛ وقد وجد الشخصان في شمويل وطالوت فكان الأول نبيا وكان الثاني ملكا كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (1) وقد يجمع بينهما مثل داود وسليمان عليهما السلام.
ثم إن الملك قد تكون الأصول التي يستند إليها مستمدة من أوضاع البشر لحفط مصالحهم في الحياة الدنيا ليكون ملكا بشريا. وقد تكون الأصول مستمدة من وحْي الله بما فيه حفظ مصالح العباد في الدنيا وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى فيكون ملك نبوة.
ومن طبيعة ملك النبوة إلتزام الحق ونصرته حيثما كان، بإقامة ميزان العدل في القول والحكم والشهادة بين الناس أجمعين، المعادين والموالين، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2) {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (3) {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
__________
(1) 7/ 2، 2 البقرة.
(2) 152/ 6 الانعام.
(3) 57/ 4 النساء.
(4) 9/ 5 المائدة.(2/10)
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1). وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات كما قال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2)
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (3) {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (4)
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (5). وبغير هذا من وجوه إلتزام الحق ونصرته.
ومن طبيعته بث الخير بين الناس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان كما قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (7)
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
__________
(1) 4/ 134 النساء.
(2) 1/ 5 المائدة.
(3) 152/ 6 الانعام.
(4) 191/ 16 لنحل.
(5) 92/ 16 النحل.
(6) 22/ 77 الحج.
(7) 195/ 2 البقرة.(2/11)
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (1).
ومن طبيعة الدعوة إلى القوة والتنويه بها وبناء الحياة عليها، لكن في نطاق العدل والرحمة ولدفاع المعتدين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (3) وقبلها: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فقوة الحديد لحفظ الكتاب، والميزان وحمل الناس عليها. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (5).
ومن طبيعته الدعوة إلى الجمال والتحبيب فيه في جميع مظاهر الحياة لكن في نطاق الفضيلة والعفاف كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، (6)، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
__________
(1) 8/ 60 الممتحنة.
(2) 8/ 61 الأنفال.
(3) 25/ 57 الحديد.
(4) 2/ 194 البقرة.
(5) 42/ 39 - 140 الشورى.
(6) 4/ 95 التين.(2/12)
صُوَرَكُمْ} (1) {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (2) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (3) {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (4) {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} (5) {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (6) {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (7) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (8) {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (9).
ومن طبيعة الملك البشري- وإن روعيت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة- أنه لا يقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم فتراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال. ولا يرعى من العهود- في الغالب- إلاَّ ما لا يعارض مصلحته أو تلزمه براعاته قوة خصمه.
كما أنه يكاد يقصر بره وإحسانه على أبناء جلدته ومن كانوا من جنسه ولونه، كما أنه يبني أمره على القوة المطلقة فتندفع مع رغباته
__________
(1) 40/ 64 المؤمنون.
(2) 50/ 20 طه.
(3) 6/ 37 الصافات.
(4) 24/ 10 يونس.
(5) 60/ 27 النحل.
(6) 5/ 22 الحج و7/ 50 ق.
(7) 31/ 7 الأعراف.
(8) 6/ 5 المائدة.
(9) 30/ 24 النور.
13(2/13)
إلى أقصى ما يمكنها أن تصل إليه فيكون البغي والتسلط والعدوان. كما أنه تستهويه زينة الحياة الدنيا وزخارفها فتمتد يده إليها حيثما وجدها فتتنازعها الأيدي بالقوة والحيلة وتذهب في أفانينها الشهوات بالناس إلى النقص والرذيلة.
ثم إن طبيعة الملك من حيث أنه ملك- سواء أكان بشريا أم نبويا- مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة، لما جبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتأثر بها، وهذا إذا كان في الحق فهو محمود مطلوب وإذا كان للباطل والبغي والتحظيم النفسي فمذموم متروك. ومن الأول أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عمه العباس- رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى تمر عليه كتائب المسلمين وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة، فحبسه العباس فجعلت الكتائب تمر به فيسأل العباس عن كل كتيبة فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال العباس: فقلت له: إنها النبوة، فقال: فنعم إذن. قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي ولم يرد نفي الملك جملة، ومنه ما كان معاوية بالشام: لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة فاستنكر ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد فسكت عمر وأقره. فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو(2/14)
ملك وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب. فلما كان للحق والمصلحة أقره.
ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام.
نعم في مسند أحمد أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- خير من أن يكون نبيا ملكا أو يكون نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا. وكان ذلك تواضعا منه. ولا ينفي هذا أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- كما كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى كان قائما على الحكم والتنفيذ وإدارة الشؤون العامة وتنظيم المجتمع مما يسمى ملكا نبويا مستندا إلى الوحي الإلهي، لأن التخيير راجع إلى حالته الشخصية الكريمة فخير بين أن يكون لشخصه من مظاهر الملك مثل ما كان سليمان أو لا تكون له تلك المظاهر فاختار أن لا تكون وأن يكون مظهره مظهرا عاديا مثل مظهر العبد العادي. كما سليمان- عليه السلام- الذي كان ملكا نبيا لم ينف ذلك عنه العبودية، وإنما ينفي عنه مظهرها العادي.
فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان، كان على إحداهما سليمان وعلى الأخرى محمد- عليهما الصلاة والسلام- وحالة أفضل النبيين أفضل الحالتين. وقد اختار عمر- رضي الله عنه- الفضلى وأقر معاوية على الفاضلة الأخرى.
ولما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بملك النبوة كان القرآن العظيم جامعا للأصول التي ينبني عليها ذلك الملك، وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها ليبين صورة من صور ملك النبوة ومظهرا صادقا من مظاهره فيما قصت علينا من ملك سليمان-(2/15)
عليه السلام- وهي ثلاثون آية، من الآية الخامسة عشر من سورة النمل إلى الآية الرابعة والأربعين منها.
الآية الأولى وهي: 15
الألفاظ والتراكيب:
علماً: نوعا عظيما ممتازا من العلم جمعا به بين الملك والنبوة، وقاما بأمر الحكم والهداية. وقالا: قولهما متسبب وناشيء عن العلم لكنه لو قيل فيقالا، بالفاء، أفاد أن غير القول تسبب منهما عن العلم ولما عطف بالواو على أن هنالك أعمالا كثيرة عظيمة كانت منهما في طاعة الله وشكره، ونشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا. فضلنا: أعطانا ما فقنا به غيرنا. على كثير: فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما. من عباده المؤمنين: ففضلا بين أهل الفضل فكانا من أفضل الفاضلين وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها.
المعنى:
يخبرنا الله تعالى عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، وعما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه. وإظهار السرور به مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانهما ما كان لله عليهما من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه.
تنويه وتأصيل:
قد ابتدىء الحديث عن هذا الملك العظيم بذكر العلم وقدمت النعمة به على سائر النعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنَّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا. وأن الممالك انما تبني عليه وتشاد، وأن الملك(2/16)
إنما ينظم به ويساس وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار. وأنه هو سياج المملكة ودرعها، وهو سلاحها الحقيقي وبه دفاعها وأن كلَّ مملكة لم تحم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض.
أحماض:
قال أبو الطيب المتنبي:
أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَسَلِ ... وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ
نعم إن محبي الممالك الصادقين في محبتها والذين تصلح لهم ويصلحون لها هم الذين يستعذبون في سبيلها الموتَ، ويكون الطعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان، فأما الممالك التي تبنى على السيف فبالسيف تهدم. وما يشاد على القوة فبالقوة يؤخذ، وإنما أعلى الممالك وأثبتها ما بني على العلم، وحمي بالسيف، وإنما يبلغ السيف وطره ويؤثر أثره، إذا كان العلم من ورائه.
ولكن أبا الطيب شاعر الرجولة والبطولة، شاعر المعارك والمعامع، لا يرى أمامه إلا الحرب، وآلات الطعن والضرب فلا يمكن أن يقول- وقد غمرته لذة الانتصار، واستولت نشوة الغلب والظفر على لبه وخياله- إلا ما قال.
فقه وأدب:
يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمة وفضله بفضيلة أن يفرح بتلك النعمة ويظهر فرحه بها في معرض حمد الله عليها، من حيث أنها كرامة من الله لا من حيث إنها مزية من مزاياه فاق بها سواه، مثلما فعل هذين النبيين الكريمين، وكما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ(2/17)
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (1).
وكثيرا ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجبا له عن غيره فيذكر من شأنه ما أفرحه ويسكت عن غيره وفيهم من هو مثله ومن يفوقه، فقد يجر هذا إلى عجب بنفسه وغمط لحق من عداه. فلهذا كان من أدب مقام الفرج بنعمة الله وحمده عليها، ذكر نعمته العامة عليه وعلى غيره، والإاشارة إلى من فضلوا عليه. فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها، ويرضى الله باعترافه لدى الفضل بفضله وحكمة الله وعدله، وبوقوفه كواحد ممن أنعم عليهم من عباده.
إرشاد وإشادة:
إذكار الأنبياء- صلى الله عليهم- من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار وأجمها وأسلمها، وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها، فعلى المسلم الحرص على الخير بها علما وعملا، فقد رأيت ما يحف بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يتنبه لها، وقد جاء هذا الحمد النبوي محصلا للقصد سالما من كل خطره بعباراته الموزونة الشاملة، التي لا يصدر مثلها إلا منهم لكمال علمهم وأدبهم. عليهم الصلاة والسلام (2).
__________
(1) 58/ 10 يونس.
(2) ش. ج2، م15، ص 57 - 66 غرة صفر 1358 - مارس 1939(2/18)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم االثاني
الآية الثانية وهي: 16 سورة النمل (27) (1)
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ والتراكيب:
الارث: انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث. سواء كان مالاً أو ملكاً أو علماً أو مجداً، والمراد هنا الملك والنبوة، علمنا: أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم- وهو الله- للعلم به، فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر ولا من طوقهم، منطق الطير: نطقها، وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق والجماد صامت، وأوتينا: أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها، من كل شيء: هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي فيما تقتضيه تلك العظمة مما يؤتاه الأنبياء والملوك، الفضل: الزيادة، المبين: الظاهر الذي لا خفاء به.
__________
(1) المؤلف هو الذي عين رقم الآية واسم السورة دون رقمها.(2/19)
المعنى:
قام سليمان مقام أبيه داوود- عليهما الصلاة والسلام-، فكان في بني إسرائيل من بعد نبياً ملكاً. وأراد سليمان أن يشهر نعمة الله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته، فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير وعظائم الأمور مما هو خارق للعادة معجز للبشر آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته.
فقه وتحقيق:
من ميزة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يتعلقوا بشيء منها فلا يورثون ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم. وفي الصحيح: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، فلم يرث سليمان من داوود مالاً وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك وما دل عليه ذلك من النبوة. وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته.
تفرقة:
الشيء الموروث إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي وينقطع عنه ملك الميت. وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت- لبقاء الروح- وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما يؤديه الميت من أعمالٍ متصفاً بمثل ما كان متصفاً به الميت، متحلياً بمثل حليته. فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول، فداوود بعد موته لم يبق ملكاً وإرثه للعلم والنبوة، هو من المعنى الثاني، فداوود بعد موته على علمه ونبوته.(2/20)
تفرقة أخرى:
إذا كان الموروث مالا فإنه يستحق بالقرابة شرعا، وإذا كان علما أو نبوة أو ملكا فإنها لا تستحق بها. فلم يرث سليمان من داوود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلا من الله ونعمة. ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داوود. وإنما ذكر لهم ما كان به أهلا لمقامه مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة.
عجائب الخلقة وحكمة العربية:
الحيوانات كلهم فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا، ومنها ما نسمعه، ومما نسمعه ما نفهم مرادها به ومنه مما لا نفهمه. فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة- مثلا-، ونميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها وصوتها الذي تدل به على طلبها. وفي مملكة النمل ومملكة النحل- مثلا- من النطام والترتيب والتقدير والتدبير ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز وما بينهما من تفاهم. بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيرا من العبارات والإشارات وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها وتدل عليه. فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبرنا بهما القرآن، وتلك الغاية من الإدراك والنطق لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات. وقد أدركها سليمان- عليه السلام- بتعليم من الله كرامة له وآية على نبوته ومعجزة للناس.
فمن حكمة اللغة العربية الشريفة أن سمت أصوات الحيوانات نطقا كما سمت في، المتعارف، اللفط الذي يعبر به عما في الضمير نطقا. لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي(2/21)
طريق تفاهمها، وطريق فهم ما يمكن لإنسان فهمه عنها. فلله هذه اللغة ما أعمق غورها وما أدق تعبيرها.
نظر وإيمان:
قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات حسن تدبيرها لأمر معاشها ودقة سعيها في جلب منافعها ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها. وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد، فنحن به مؤمنون لجوازه عقلا وثبوته سمعا، مثل سائر السمعيات.
تمييز:
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده. فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة وتمكن من ناصيتها واستعمل حيوانها وجمادها في مصلحته ورقي أطوار التقدم في حياته. ولفقد الحيوان غير الإنسان هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته. فإدراك الحيوان فطري إلهامي يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطى أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه ويستمر في درجات التقدم وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل. وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه:
ذكر سليمان- عليه السلام- منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا، فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات غير(2/22)
الإنسان مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة فاقتصر على الطير تنبيها بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين:
عبر سليمان- عليه السلام- عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام- ليتعظم بسلطان- ولا ليتطاول بفضل. فالأنبياء- صلى الله عليهم- أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده، وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة. وهذا هو الذي توخاه سليمان- عليه السلام- من المصلحة بإظهار العظمة. ولذا لم يقل: علمت، ولا: لي، وعندي من كل شيء. ولم يقل: فضلي فهو فضل من علمه أتاه فضله به عمن سواه.
ترغيب واقتداء:
يذكر الله تعالى لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم وما مكنه منه من عظيم الأشياء ترغيبا لنا في طلب العلم والسعي في تحصيل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا، وتشويقا لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد وعوالم الأحياء وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة، وحثا لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة. فقد كان سليمان- عليه السلام- نبيا وما كان ملكه ذلك إلا بإذن الله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمره قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين. عليهم الصلاة والسلام أجمعين
__________
(1) ش: ج3، م15، ص 105 - 109 غرة ربيع الأول 1358 - أفريل 1939(2/23)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم الثالث
الآية الثالثة، وهي: 17 من النمل (27) (1)
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ والتراكيب:
الحشر: الجمع من أماكن متفرقة، جنوده: هم المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده. يوزعون: يكفرون عن الخروج عن النظام في السير فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون عن الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشمال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى وأعلاهم في ذلك الجن ثم الانس ثم الطير وفي عطف الجملة الثانية بالفاء إفادة سرعة الانتظام بعد الاجتماع. وفاعل حشرهم الاعوان الحاشرون، وفاعل وزع هم الضباط المنظمون.
المعنى:
كان لسليمان- عليه الصلاة والسلام- من الجن والانس والطير(2/24)
جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين فإذا عرض أمر جمعهم. وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم. فإراد سليمان أن يسافر فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام.
تفصيل:
كما أن للانس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير، وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له وخصوصية ملك لم ينبغ لأحد من بعده.
تاريخ وقدوة:
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان. فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة. وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة. وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة، وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم، وكان النظام محكما لضبط تلك الكثرة ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى. تعرض علينا الآية هذه السورة التاريخية الواقعية تعليماً لنا وتربيةً على الجندية المضبوطة المنظمة. ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم وأن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفاً عندهم في الجاهلية، وبقيت الآية على الدَّهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوى والكثرة(2/25)
وحدهما لا يغنيان بدون نظام وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة:
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة- بصنع الله- تستخلص الأعلى من الأدنى والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق، وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم والشجر، وتجد المملكة من النمل والنحل مثلا. فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي، ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته، فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنسان ومقررات الشرع الإسلامي مثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين. ولما ولي الحسن البصري القضاء، قال لا بدَّ للسلطان من وزعة أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد ويتولون تربيتهم وتنظيمهم. وفي رواية: لا بد للناس من وازع، أي كاف يكف بعضهم عن بعض وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزم السلطان أكثر ممن يزع القرآن ومعناه، أن من يكفهم عن الشر خوف السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن. وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}.
الآية الرابعة: وهي 18 من النمل (27): {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ}:(2/26)
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.
الألفاظ والتراكيب:
أتوا على وادي النمل: هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه. نملة: لفظها مؤنث ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة. مساكنكم: هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب، والتقسيم، ولذلك قيل فيها مساكن ولم يقل غيرها. لا يحطمنكم: لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام. لا يشعرون: لا يحسون بوجودكم.
الإتيان بإذا وجوابها لإفادة أن قولها كان يسبب إتيانهم عند أول ما أتوا. لا يحطمنكم: نعتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه. وإنما المعنى لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم فنهتهم عن السبب والمراد النهي عن السبب لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر السبب وهو الحطم من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول، والجملة مؤكدة للأولى فكأنها قالت أدخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها. ونظير التركيب في التعبير بالمسبب عن السبب لا أرينك ههنا .. أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى:
سار سليمان- صلى الله عليه وسلم- في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظلهم الطير حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته فصاحت في بني جنسها فنادتهم للتنبيه وأرشدتهم إلى طريق النجاة بأمرهم بالدخول في مساكنهم وحذرتهم من(2/27)
الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم عن غير شعور منهم فلا يكون اللوم عليهم وإنما اللوم على النمل إذا لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم:
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية، فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها. ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند، إنذار بني جنسها إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم فانذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلا بحياة قومه ولا نجاة له إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلا إذا شعر بأنه جزء منهم ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه وأن لا يكون اهتمامه بهم دون اهتمامه بها.
واجب القائد والزعيم:
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقهد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها فبادرت بالإنذار. فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر وصدق الحدس وصائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة:
هذه نملة وفت لقومها وأدت نحوهم واجبها، فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه. هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهماً لقومه فيسكت(2/28)
ويتعامى ولن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم.
آه، ما أحْوجنا- معشر المسلمين- إلى أمثال هذه النملة!
الآية الخامسة وهي: 19 من النمل (27):
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
الألفاظ والتراكيب:
التبسم: إنفراج الشقنين على الأسنان، وقد يكون للغضب وقد يكون للسخرية وقد يكون للضحك، وهو الأكثر وهو بدايته ولهذا قيد بضاحكا. أوزعني أن اشكر: ألهمني شكر نعمتك وتحقيقه في اللغة والتصريف أنك تقول: وزعت الشيء أي كففته وأوزعني الله الشيء أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما تقول ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك أي إجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت منِّي، فالمقصود اجعلني ملازما لشكرك فلا أنفك لك شاكرا. نعمتك: عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلى والديه. وأن أعمل: معطوف على أن أشكر فيقدر مثل تقديره كما تقدم. ترضاه: وصف مؤكد للتقييد على ما سيأتي لأن العمل الصالح مرضي عنه الله. وإنما ذكر الوصف ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح. أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين: إجعلني معهم وأكمل الصالحين الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وتحقيقه أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم لا يدخل عليهم فيه إلا من كان مثلهم(2/29)
فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى ولهم منازلهم في الجنة ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد، وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلا برحمة من الله بتيسير لأسبابها وتفضل عظيم.
المعنى:
لما سمع سليمان- عليه الصلاة والسلام- كلام النملة تبسم تبسم السرور والتعجب من قولها وطلب من ربه تعالى أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه وأن يلهمه عملا صالحا ينال به رضاه وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين بأن يثبت اسمه بينهم ويقرن ذكره بذكرهم ويلحقه بهم ويسكنه الجنة معهم بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه:
صدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره، فهذا مبعث تعجب سليمان- عليه السلام- وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه من غير شعور. فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء، هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان -عليه السلام- لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره حتى فهم به ما همست به النملة وهي من الحِكم الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرته النعمة:
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والاكبار لنواله. ومن أدب العبد حينئذ أن(2/30)
يسأل الله التوفيق، بشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة والتوفيق لشكرها بما يقوم به من أعمال صالحة في رضى الله كما فعل سليمان- عليه السلام-.
النعمة المزدوجة:
إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح فهي نعمة على ولدهما إذا أتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة، كما أن نعمة الله على الولد هي نعمة على والديه فهو من أثرهما ومثل حسناته في ميزانهما لأنهما أصل ذلك وسببه ويدعو له الناس فيدعون لهما ويدعو هو لهما. وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد أو على الولد هي نعمة مزدوجة بينهما ولهذا ذكر سليمان- عليه السلام- نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة:
إن شعور العبد برضى الله عنه هو أعظم لذة روحية تعجز عن تصويرها الألسن. واحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم. فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله. فالعمل الصالح ترتضيه العقول وتستعذبه الفطر. ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله. ولهذا قال سليمان- عليه السلام-: (تَرْضَاهُ).
جمع وتحقيق:
قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1)
__________
(1) 16/ 32 النمل.(2/31)
فأفادَ أن الأعمال سبب في دخول الجنة وفي هذه الآية: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} فأفاد أن الدخول بالرحمة، ولا منافاة ما بينهما فَالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله. والعمل من حيث ذاته لا يستحق على الله جزاء لأنه لا ينتفع به إذ هو الغني عن خلقه. وإنما تفضل فجعله سبباً في نيل ثوابه ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشر، إلى أضعاف كثيرة إلى الموفي للصابرين بغير حساب.
دقيقة روحية:
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس وفي الرفيق الأعلى الأطهر وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية. في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه والانجذاب نحوه. ولذا كان من دعوات الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الدخول في الصالحين واللحوق بهم. مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (1). وقول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2).
وفقنا الله لشكر ما من به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين (3).
__________
(1) 82/ 26 الشعراء.
(2) 101/ 12 يوسف.
(3) ش: ج4، م 15، ص 157 - 165 غرة ربيع الثاني 1358 - ماي 1939(2/32)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم الرابع
الآية السادسة وهي: 20 من النمل (27):
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ والتراكيب:
تفقد: التفقد تطلبك ما فقدته وغاب عنك وتعرفك أحْواله.
لا أرى: لا أبصر، الهدهد: هو (تبيب) وهو طائر صغير الجرم منتن الريح ليس من كرام الطير ولا من سباعها. ما لي لا أرى: استفهم عما حصل له فمنعه من الرؤية حيث ظن أولا أن الهدهد كان حاضراً وإنما هو لم يره. أم كان من الغائبين: استفهم عن غيبته حيث ظن ثانيا أنه غائب فاستفهم عن صحة ما ظن، فكلمة أم فيها اضراب وفيها استفهام، فأضرب إضراب إنتقال من ظن إلى ظن. كان من الغائبين: تعريض بقبح فعله لما انحط عن شرف الحضور وكان من الغائبين.
المعنى:
تطلب سليمان- عليه السلام- معرفة ما غاب عنه من أحوال الطير فلم ير الهدهد وأخذ يتساءل فظن أن شيئاً ستره عنه فلم يره،(2/33)
ولما لم يكن شيء من ذلك ظن أنه كان غائباً غير حاضر وذلك هو الظن الأخير الذي حصل به اليقين.
تعليم وقدوة:
من حق الرعية على راعيها أن يتفقدها ويتعرف أحوالها إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته منها ويضع الوسائل التي تطلعه على ما غاب عليه منها وينيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة تفقد أحْوالها حتى تكون أحوال كل ناحية معروفة مباشرة لمن كلف بها. فهذا سليمان على عظمة ملكه واتساع جيشه وكثرة أتباعه قد تولى التفقد بنفسه ولم يهمل أمر الهدهد على صغره وصغر مكانه، وقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: "لو أن سخلة بشاطىء الفرات يأخذها الذئب ليسأل عنها عمر" وهذا التفقد والتعرف هو على كل راع في الامم والجماعات والاسر والرفاق وكل من كانت له رعية.
تعليل وتحرير:
تفقد سليمان جنس ما معه من الطير للتعرف كما ذكرنا وذكر الطير لأنه هو الذي تعلهقت به القصة وليس في السكوت عن غير الطير ما يدل على أنه لم يتفقده فالتفقد لم يكن للهدهد بخصوصه وإنما لما تفقد جنس الطير فقده ولم يجده فقال ما قال. فلا وجه لسؤال من سأل: كيف تفقد الهدهد من بين سائر الطير.
تدقيق لغوي وغوص علمي:
سأل سليمان عن حال نفسه فقال: ما لي لا أرى الهدهد ولم يسأل عن حال الهدهد فيقل (1) ما للهدهد لا أراه فأنكر حال نفسه قبل أن ينكر حال غيره. فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام
__________
(1) كذا في الأصل.(2/34)
عبد الكريم بن هوازن القشيري شيخ الصوفية في زمانه قال: " إنما قال مالي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه ذا علم أنه أوتي الملك العظيم وسخر له الخلق فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه فقال: مالي، وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم، هذا في الآداب فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض".
توجيه:
مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره إذ هي معاني صحيحة في نفسها، ومأخوذة من التركيب القرآني أخذاً عربياً صحيحاً، ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع. وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول، ومنه فهم عمر وابن عباس- رضي الله عنهما- أجل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من سورة النصر، أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة وخصوصا الأول والثاني، فهو لا يجوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية. كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين.
الآية السابعة وهي: 21 من النمل (27):
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
الألفاظ والتراكيب:
عذابا شديدا: ينتف ريشه هكذا فسره ابن عباس وجماعة من(2/35)
التابعين. بسلطان مبين: بحجة قاطعة توضح عذره في غيبته. سميت الحجة سلطاناً لما لها من السلطة على العقل في إخضاعه، أفادت أو إن المخلوف على حصوله هو أحد الثلاثة، فإذا حصلت الحجة فلا تعذيب ولا ذبح، ولو لم تحصل لفعل أحدهما، وقدم التعذيب لأنه أشد من القتل، وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشد.
المعنى:
يقسم سليمان على معاقبة الهدهد- وقد تحقق غيبته- بالتعذيب أو بالذبح إذا لم يأته بالحجة التي تبين عذره في تلك الغيبة ولا يستثنى للعفو ولا يجعل سببا لسلامته من العقوبة إلاّ الحجة.
توجيه واستنباط:
ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفط العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس- رضي الله عنه- وأئمةٌ من التابعين ذالك بالنظر العقلي والاعتبار، فإنَّ نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم ان المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش.
والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم انسا- فردا أو جماعة- من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية وحوله إلى عيشة العجماوات وذلك نوع من المسخ فهو عذاب شديد وأي عذاب شديد؟
صرامة الجندية:
كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخلل في جنسه استحق العقاب الصارم الذي لا هوادة فيه. وهذا(2/36)
أصلٌ في صرامة أحكام الجندية وشدتها لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها.
تقدير العقوبة:
جرم الهدهد صغير وما كلف الا بما يستطيعه من الوقوف في مكانه والبقاء في مركزه، ولكن جرمه باخلاله بهذا الواجب كان جرماً كبيراً فإن الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته.
تنبيه وإرشاد:
كل واحد في قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخل ولا الخلل يقع من جهته فإنه إذا قصَّر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السبيل يفضي إلى خراب السد بتمامه. فاخلال أي أحد بمركزه ولو كان أصغر المراكز مؤد إلى الضرر العام. وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام والتضامن وهما أساس القوة.
الحق فوق كل أحد:
لقد أغضب سليمان غياب الهدهد فلذا توعده هذا الوعيد وأكده هذا التأكيد. ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه: هو سلطان الحق، والحق فوق كل أحد. وملك سليمان ملك حق فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة ليقيم ميزان العدل، والعدل أساس الملك وسياج العمران (1).
__________
(1) ش: ج 5، م 15، ص 203 - 208
غرة جمادى الأولى 1358 - جوان 1939(2/37)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم الخامس
الآية الثامنة وهي: 22 من النمل (27):
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}
ـــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ والتراكيب:
مكث: أقام، وقرأ عاصم بفتح الكاف. غير: صفة زمان محذوف، فالتقدير غير بعيد. فاعل مكث هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي. أحطت: الاحاطة بالشيء، عقليا هي العلم به من جميع نواحيه. سبأ: إسم مدينة باليمن سميت باسم سبأ جد العرب اليمانية حمير وغيرها، وصرفه الجمهور على اعتبار المكان، ومنعه من الصرف المكي والبصري على اعتبار البلدة. بنبأ: النبأ الخبر الذي له شأن وخطورة. واليقين: المحقق، جعله نفس اليقين مبالغة في تحقيقه. وفي الكلام إيجاز بالحذف، اذ المعنى: فجاء الهدهد فسأله سليمان- عليه السلام- ءن سبب مغيبه فقال.
المعنى:
لم تطل غيبة الهدهد عن مركزه في جنود سليمان، فلم يلبث في غيبت إلاَّ زمانا قصيراً، وكان سؤال سليمان له عن غيبته فور رجوعه،(2/38)
فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة والدفاع عن نفسه فقال: اطلعت على شيء لم تطلع أنت عليه وعرفته من جميع نواحيه، وقد أتيتك من بلدة سبأ بخبر خطير ذي شأن عظيم تيقنته غاية اليقين.
توجيه واستنباط:
كان في جواب الهدهد حجة بينة لسبب غيابه، وذلك لأنه لم يذهب عابثا ولا لغرض خاص به، وإنما ذهب مستطلعا مكتشفا فحصل علما وجاء بخبر عظيم في زمن قصير فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجند فسقطت عنه المؤاخذة.
فإن قيل: ان أصل مفارقته لمركزه دون استئذان كان مخالفة يستوجب عليها العقوبة فالجواب أن هذه المخالفة كانت لقصد حسن وهو الاستطلاع وأثمرت خيرا فاستحق العفو عن تلك المخالفة التي كانت عن نظر ولم تكن عن تهاون وانتهاك للحرمة.
فإن قيل: ما الذي أوقع في نفس الهدهد رغبته في طلب ما طلب، فالجواب: انه يجوز أن يكون شاهد عمران اليمن من مكان بعيد ببصره الحاد فرغب في المعرفة أو أن يكون قد مر باليمن من قبل ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق.
وهذه الآية مأخذ من مآخذ الأصل القائل: ان المخالف للأمر عن غير انتهاك للحرمة لا يؤاخذ بتلك المخالفة. ومن فروع هذا الأصل سقوط الكفارة عمن أفطر في رمضان متعمدا متأولا تأويلا قريبا.
عزة العلم وسلطانه:
ابتدأ الهدهد جوابه معتزا بما أحاط به من العلم متجملا بما حصل منه مظهرا لارتفاع منزلته به متحصنا به من العقاب. ولم تمنعه عظمة سليمان- عليه السلام- من اظهار علمه واعلان اختصاصه به دون سليمان.(2/39)
أدب واقتداء:
قد سمع سليمان هذا من الهدهد وأقره عليه، فللصغير أن يقول للكبير، وللحقير أن يقول للجليل، علمت ما لم تعلم وعندي ما ليس عندك، إذا كان من ذلك على يقين وكان لقصد صحيح. ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيرا جليلا أن يتقبل ذلك ولا يبادر برده وعليه أن ينظر فيه ليعرف مقدار صدق قائله فيقبله أو يرده بعد النظر والتأمل، اذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها من يحيط علما بما لم يعلم مثل سليمان- عليه السلام- في علمه وحكمته واتساع مدركاته. وكفى بمثل هذا زاجرا لكل ذي علم عن الاعجاب بعلمه والاعتزاز بسعة اطلاعه والترفع عن الاستفادة ممن دونه.
مدرك عقيدة:
لا يعلم أحد من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- شيئا مما غاب عنه إلا باعلام الله، فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون، وإنما يعلمون منه ما اطلعهم الله عليه. ومن مدارك ذلك هذه القصة، فإن سليمان- عليه السلام- لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئا حتى اطلعه الله عليه بواسطة الهدهد. وإذا كان هذا حال الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فغيرهم من عباد الله الصالحين من باب أحرى وأولى.
تحقيق تاريخي:
رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الاسرائيليات الباطلة التي امتلات بها كتب التفسير مما تلقى من غير تثبت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه. وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه وصرح الذهبي ببطلانه، ومن هذه المبالغات الباطلة انه ملك الارض كلها(2/40)
مشارقها ومغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه ومجهولة لديه على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام (1).
معذرة إلى القراء الكرام
ما قرأتموه من التذكير بهذه الآية الكريمة في هذا الجزء قد كتبت شطره مساء يوم الإثنين 2 جمادى الأولى و 19 جوان وشطره بكرة الثلاثاء الغد منه. وفي صبيحة هذه الثلاثاء ابتدئت المحاكمة في قضية مقتل المفتي ابن دالي عمر التي اتهم الشيخ الطيب العقبي والسيد عباس التركي باطلا ظلما عدوانا، فكان من واجبي أن أحضر جميع الجلسات، فانشغل بالي عن تتميم مجالس التذكير. ولقد مات ابني الوحيد ومات أخ لي عزيز فما شغل ذلك بالي مثل اليوم ولا منعني عن دروسي وأعمالي ذلك لأن هذه القضية اليوم قضية الإسلام والعربية والجزائر، لا قضية فرد أو جماعة. فمعذرة يا قرائي الاعزة، والله نسأل أن يظهر الحق ويدحض الباطل.
__________
(1) ش: ج 6، م 15، ص 251 - 254 غرة جمادى الثانية 1358 - جويلية 1939(2/41)
ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
القسم السادس
الآية التاسعة وهي: 23 من النمل (27):
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ والتراكيب:
وجدت: اصبت، امرأة: هي بلقيس بإجماع المفسرين والمؤرخين. تملكهم: تتولى أمرهم ملكة عليهم. وعبر بالمضارع تصويرا للحال العجيب، وهو أن تتولى ملكهم امرأة، وعاد الضمير على سبأ ضمير جمع مذكر على معنى القوم، اذ كانوا يسمون باسم أبيهم. فذكر لفظ سبأ أولا بمعنى المدينة، وأعيد عليه الضمير بمعنى القوم على أسلوب الاستخدام. من كل شيء: لفظ عام أريد به كل ما تحتاج إليه من أشياء الملك والسلطان والقوة والعمران. عرش: هو سرير الملك الذي تجلس عليه. عظيم: في كبره وقوته وحسنه.
المعنى:
يقول الهدهد لسليمان- عليه السلام- مبينا الخبر العظيم الذي جاء به: اني وجدت أولئك القوم الذين يسكنون تلك المدينة قد جعلوا امرأة ملكة عليهم. وقد أعطيت تلك الملكة كل ما تحتاج اليه(2/42)
في نظام ملكها وعظمته، ومن مظاهر تلك العظمة السرير العظيم الذي تجلس عليه بين أهل مملكتها.
عظمة المملكة العربية اليمنية:
كانت بلقيس ملكة على اليمن في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد وقد كانت ملكة عظيمة على مملكة عظيمة راقية. والهدهد الذي شاهد ملك سليمان وعظمته قد استعظم ملكها وعرشها، وعظمة العرش عنوان عظمة الملك، فلذا خصصه الهدهد بالذكر ورغب سليمان في الإتيان به.
تفوق العرب على الإسرئيليين:
كل ذلك الرقي وتلك العظمة بلغتهما المملكة العربية اليمنية بنفسها من تفكيرها وعملها من قرون بعيدة. فأما الإسرائيليون- وهم إذ ذاك في القرن الخامس من تاريخهم- فإنهم لم يبلغوا في ذلك العهد إلى شيء من ذلك. وما كان لسليمان من بناءات ومنشآت فهو مما صنعته له الجن والشياطين، كما جاء في آيات من القرآن عديدة، ولم يترك بنو إسرائيل من الآثار ما يدل على شيء ذي بال من الفن والقوة، فأما ما تركته اليمن فهو شيء كثير قائم مشاهد، والاكتشافات ما زالت تظهر منه شيئا فشيئا.
ولاية المرأة للملك:
ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((لن يفلع قوم ولّوا أمرهم امرأة)) قاله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة. فاقتضى هذا أن لا تلي المرأة ولاية لا إمارة ولا قضاء، وأيدت هذا النص الصحيح السنة العملية فأخذ به جمهور أئمة الإسلام، وجاءت روايات عليلة عن بعضهم لم يلتفت إليها ولم يعمل بها.(2/43)
تعليل:
لا تصلح المرأة للولاية من ناحية خلقتها النفسية، فقد أعطيت من الرقة والعطف والرأفة ما أضعف فيها الحزم والصرامة اللازمين للولاية، وفي اشتغالها بالولاية إخلال بوظيفتها الطبيعية الاجتماعية التي لا يقوم مقامها فيها سواها، وهي القيام على مملكة البيت وتدبير شؤونه وحفظ النسل بالاعتناء بالحمل والولادة وتربية الأولاد.
رفع اعتراض:
في تواريخ الأمم نساء تولين الملك، ومن المشهورات في الأمم الإسلامية شجرة الدر في العصر الأيوبي، ومنهن من قضت آخر حياتها في الملك وازدهر ملك قومها في عهدها. فما معنى نفي الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة؟
هذا اعتراض بأمر واقع ولكنه لا يرد علينا لأن الفلاح المنفي هو الفلاح في لسان الشرع، وهو تحصيل خير الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في مرضاة الله، ومن لم يكن في طاعة الله فليس من المفلحين، ولو كان في أحسن حال فيما يبدو من أمر دنياه. على أن أكثر من ولوا أمرهم امرأة من الأمم إذا قابلهم مثلهم كانت عاقبتهم أن يُغْلبَوا.
الآية العاشرة وهي: 24 من النمل (27): {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}.
الألفاظ والتركيب:
من دون الله: تجاوزوا عبادة الله إلى عبادة الشمس. زين: حسن.(2/44)
أعمالهم: سجودهم للشمس وغيره من أعمال كفرهم. فصدهم: صرفهم صرفا شديدا. السبيل: هو الطريق الوحيد المعهود للنجاة وهو توحيد الله. لا يهتدون: لا يكون منهم سلوك في طريق الحق والسداد.
جملة وجدتها مستأنفة للبيان جواباً على تقدير سؤال، فالكلام السابق بين حالتها من ناحية الدنيا فتشوقت نفس السامع إلى معرفة حالتها من ناحية الدين ..
عدم اهتدائهم مسبب عن صد الشيطان لهم، وصده مسبب عن تزييفه لأعمالهم لهم، هذا ما تفيده الفاء.
المعنى:
وجدتهها وقومها مجوساً يعبدون الشمس فيسجدون لها ولايسجدون لله، وقد تمكن الشيطان منهم فحسن في أعينهم أعهمالهم فصرفهم عن عبادة الله وتوحيده مع ظهور الدلائل ووضوح الآيات فثبتوا على ضلالهم لا يكون منهم اهتداء لطريق النجاة الظاهر في حال من الأحوال.
سلاح الشيطان وأصل الضلال:
محبة الإنسان نفسه غريزة من غرائزه، وهو محتاج إليها ليجلب لنفسه حاجتها ويدفع عنها ما يضر بها ويسعى في تكميلها. هذه هي الناحية النافعة والمفيدة من هذه الغريزة ولكنها من جهة أخرى هي مدخل من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان فيحسن له أعماله وهو لمحبة نفسه يحب أعماله ويغتر بها فيذهب مع هواه في تلك الأعمال على غير هدى ولا بيان فيهلك هلاكاً بعيداً فاستحسان المرء لأعماله هو أصل ضلاله وتزيين الشيطان لتلك الأعمال هو أحد أسلحة الشيطان.
الوقاية:
فعلى المرء ان يتهم نفسه في كل ما تدعوه إليه، وأن يزن جميع(2/45)
أعماله بميزان الشرع الدقيق خصوصا ما تشتد رغبته فيه ويعظم حسنه في عينه.
الآية الحادية عشر وهي: 35 من النمل (27): {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
الألفظ والتراكيب:
ألا يسجدوا: عدم سجودهم، فاِنْ مصدرية، ولا نافية، وهو بدل بعض من أعمالهم، خصص بالذكر لانه أصل كفرهم ومبعث فساد أعمالهم. الخبء: الشيء المخبوء، فعل بمعنى مفعول، يقال خبأت الشيء أخبؤه خبأً بمعنى سترته عن العيون، فالخبء يشمل كل ما احتوته السموات والأرض مما يبرزه الله للخلق لمنفعتهم فتشاهده العيون مثل المطر والنبات، أو تدركه العقول مثل بدائع الخلق ودقائق الصنع، ومنه ما يكشفه الله لعلماء الأكوان من أسرار الخلقة عندما يستعملون عقولهم ووسائلهم العلمية فيأتون بما فيه نفع للعباد ورقي للعمران. ما يخفون: ما يكتمون في أنفسهم أو عن غيرهم. وما يعلنون: يظهرون للناس.
المعنى:
زين لهم الشيطان من أعمالهم على الخصوص عدم سجودهم لله الذي أقام عليهم الحجة بما يخرجه لهم من الخيرات المخبئات من السموات والأرض من أمطار السماء ونبات الأرض مما يدل على عظيم قدرته ولطف علمه الذي أحاط بما (1) ببواطن الأشياء وظواهرها وبما
__________
(1) كذا في لاصل.(2/46)
تنطوي عليه السرائر تواريه الستائر وما هو ظاهر للعموم.
استدلال وتوجيه:
السجود مظهر لغاية الذل والخضوع والانقياد والاستسلام، وتلك أصل العبادة ولا يستحقها من العبد الا من هو- حقيقة- المنعم الغني الكامل القوي، وما هو الا خالقه. فاستدل على استحقاق الله السجود دون غيره بما ذكر من اخراجه الخبء ويشمل علمه لما خفي وما علن. وذلك متضمن لكماله وانعامه وشمول علمه وعموم سلطانه.
حكم وانبناؤه:
انبنى على ان السجود عبادة ولا يستحقها الا الخالق، تحريم السجود للمخلوق فلا يجوز أن يعظم به أحد أحدا ولو لم يقصد به العبادة اما إذا قصد به العبادة فهو الكفر البواح.
تحذير:
كثيرا ما رأينا في الرسوم التي تنشرها الصحف أناسا من المسلمين راكعين أو مقاربين للسجود لذي سلطان. فعلى المسلم أن يحذر من ذلك فلا يفعله ولا ينحني لأحد من الخلق وان ينكره إذا رآه.
تشويق القرآن إلى علوم الأكوان:
من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية أن يعرض علينا القرآن صوراً من العالم العلوي والسفلي في بيان بديع جذاب يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها، وهنا يذكر لنا ما خبأه، في السموات والأرض لنشتاق اليه. وتبعث في البحث عنه واستجلاء حقائقه ومنافعه غريزة حب الاستطلاع ومعرفة المجهول وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم واستثمار ما في الكون إلى أقصى(2/47)
ما استطاعوا ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم ولن نعز عزَّهم الا إذا فهمنا الدين فهمهم وخدمنا العلم خدمتهم.
ترتيب في الاستدلال:
إخراج الخبء لا يكون إلاَّ من العالم بذلك الخبء الذي أحاط علمه به في حال ستره وفي حال ظهوره فيدل ذلك على شمول علمه لما ظهر وما بطن، ومنه ما يخفون وما يعلنون، ولذلك عطفه عليه لترتبه عليه ترتب المدلول على دليله.
الآية الثانية عشر وهي: 26 من النمل (27):
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
تعميم:
العرش: مخلوق عظيم من عالم الغيب أعظم من السموات والأرض.
المعنى:
الموصوف بتلك الصِّفات والمنعم بتلك الانعامات المستحق للسجود منهم، وقد زين لهم الشياطين عدم السجود له، هو الله الذي لا معبود غيره ولا يستحق العبادة سواه خالق المخلوقات كلها، والمالك لها والمدبر لامرها، والمتصرف فيها من أصغر مخلوق إلى أعظم مخلوق، وهو عرشه العظيم الذي فاق كل ما نرى من عالم الشهادة.
توجيه الترتيب:
لما ذكر استحقاقه للعبادة بكمالاته وانعاماته ذكر أن لا مستحق للعبادة غيره، إذ لا يشاركه في تلك الكمالات والانعامات سواه، فكأن الجملة كالنتيجة لما قبلها. ولما ذكر وحدانيته في الألوهية فلا(2/48)
يعبد سواه، ذكر وحدانيته في الربوبية بانفراده بالخلق والملك والتصرف والتدبر لهذا المخلوق العظيم، ونبه به على ما دونه من المخلوقات، ولما كان الحديث على عظمة ملك العباد ملك النبوة وغيره ذكر عظمة ملك الله التي تصغر ازاءها كل عظمة.
بيان مراد:
قد يتماثلان (1) اللفظان ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل فيه فلقد جاء في حق سليمان- عليه السلام- {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ووصف الهدهد بلقيس بأنها أوتيت من كل شيء، ولما كان المتحدث عنه أولا هو سليمان فكل شيء يعم ما يحتاج اليه من أمر النبوة وملك النبوة.
كما انه قد قال عنها: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقال عن الله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. فعرش بلقيس عظيم بين عروش الملوك، وعرش الله عظمته أعظم من السموات والارض. وهكذا لا بد من اعتبار المقام في فهم الكلام.
العبرة والقدوة:
قد ألهم الله الحيوانات إلى ما قد يخفي عن بعض العقلاء، ومضى منا كلام عن هذا فيما تقدم من هذه الآيات الكريمة، وهذا الهدهد بين الهداهد فلهم إلْهام خاصٌ يقتضيه تخصيصه بهذا الموقف واتصاله بسليمان- عليه السلام-، وزمن الانبياء زمن خرق العوائد وظهور الآيات، وقد كان في حسن بيانه وترتيب أخباره وبديع تهديه عبارة بالغة لأولي الألباب، فقد تحصن بالعلم ونـ ره (2) بالنبأ المتيقن وفصل
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: يتماثل.
(2) كذا في الأصل، ولعل: ونبأه.(2/49)
النبأ فشرح حاليها الدنيوية والدينية وتنقل من تشويق إلى تشويق أبلغ منه فكان متثبتا فيما أخبره. بارعا فيما صور مستدلا فيما قرر وفيما أنكر، بصيرا بكيد الشيطان للإنسان متفطنا لانبناء الضلالات بعضها على بعض خبيرا بترتيب الادلة وحسن الاستنتاج.
وفيما ذكر الله لنا من هذه العبر البالغة من هذا الحيوان الأعجم حث لنا على أن نسلك عندما نخبر ونبين أو نبحث وننظر ونستدل ونرتب ونعلل، أن نسلك هذا المسلك.
واذا كان الله تعالى قد بعث غرابا ليتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه فكذلك ذكر لنا أمر هذا الهدهد الممتاز بين الهداهد لنقتدي به، تنبيها لنا على أخذ العلم من كل أحد والاستفادة من كل مخلوق والشعور دائما بالنقص للسلامة من شر ادواء الإنسان: العجب والكبر والغرور ... {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
لمحة نفسية:
الظواهر دلائل البواطن فالمرء يعرف من سبحات وجهه وفلتات لسانه، وكثير ما تدل كلماته على مهنته أو فكرته وعقيدته، كما تدل هيبته أو لبسته وشمائله.
وما يباشره المرء تنطبع به نفسه ويصطبغ خياله فيجري على لسانه في تشبيهاته وتمثيلاته وفنون قوله فقد تختلف العبارات عن شيء واحد في وقت واحد باختلاف نفسيات المتكلمين عليه. وقد عرف الهدهد بين الطيور بثقوب البصر والاهتداء إلى الماء في جوف الأرض خصوصا هدهد سليمان الممتاز بين الهداهد فلما استدل ذكر من صنع الله ما هو أقرب اليه وأغلب عليه وهو اخراخ الخبء الذي منه الماء المخبوء في جوف الأرض.(2/50)
إشارة علمية:
دَلالة الصنعة على الصانع دلالة فطرية عقلية قطعية، فكل ذي صنعة في مكنته أن يستدل بصنعته على وجود خالق هذا العالم وكماله.
يشاهد ان صنعته ما كانت الا به وبما له من قدرة فينا وعلم بها فيهديه ذلك إلى ان هذا العالم ما كان الا من خالق قادر عالم. فالهدهد ذكر ما هو من عمله في الاستدلال على وجود الخالق تعالى ووحدانيته.
ومثله كل ذي صنعة.
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ (1)
__________
(1) ش: ج 7، م 15، ص 312 - 320 غرة رجب 1358 - أوت 1939.(2/51)
يس (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
مثل هذا اللفظ مما افتتحت به بعض سور القرآن، وللعلماء فيه طريقتان: الأولى أنه لفظ له معنى يعلمه الله، فهو من التشابه الذي لا يعلمه الراسخون، وإنما يؤمنون به ويردون علمه إلى عالمه.
سؤال وجوابه:
القرآن أنزل للبيان، ولا بيان إلاَّ بالإلهام، فكيف يكون في القرآن لفظ لا يفهم له معنى؟ والجواب: أنَّ عدم فهم معنى من بضع عشرة كلمة افتتحت بها بعض السور لا يخل ببيان القرآن لما أنزل لبيانه من عقائد وآداب وأحكام وغيرها من مقاصد القرآن.
توجيه وتنيظير:
ان الله تعالى أعطانا العقل الذي به ندرك الآيات التي نصبها لنا لنستدل بها على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته. وبالنظر في هذه الآيات نصل- بتسيير الله- بعقولنا إلى إدراك بدائع عجيبة وأسرار غريبة ما تزال تتجلى لنا ما دمنا نتأمل فيها ونعتبر بها. وما يزال الإنسان يكتشف منها حقائق مضت عليه أزمان وهو يعدها من المحال. ويجتني منها فوائد ما كانت تخطر له في أحقابه الماضية على بال.
غير أن استجلاء هذه الحقائق واستحصال هذه الفوائد من الآيات الكونية- على نفاستها وعظيم نفعها- محفوف بخطر الاعجاب بذلك
__________
(1) 36/ 1 يس.(2/52)
العقل، حتى يحسب أنه محيط بالحقائق كلها، وأن مدركاتها يقينيات بأسرها، فيؤديه حسبانه الأول إلى الفتنة بالمدركات، فيحسب أن لا شيء بعدها، فقد يخرج إلى انكار خالقها، ويؤديه حسبانه الثاني إلى الذهاب في ظنونه وأوهامه وفرضياته إلى غايات لا نسب بين اليقين وبينها. فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حداً يقف عنده وينتهي اليه، ليسلم من هذا الخطر، خطر الاعجاب بالعقل، ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان، فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان اليه عنها خاسئا وهو حسير. هي التي تعرفه بقدره وبعظمة هذا الكون وفخامة أمره. فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة ومنته السابغة، دون خلط للاوهام بالحقائق ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق.
هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري فلم يدرك كنهها لم تقدح في دلالة آيات الأكوان على ما دلَّت عليه من وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته، وفضله واحسانه ورحمته، فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته، وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية ايقافا للعقل عند حده وتعريفا له بقدره، وتنبيها له على عظم آيات ربه، كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام والخفاء الخاص جملة من الأحكام، كعدد الصلوات والركعات والسجدات التي خفيت على العقول حكمتها وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجلية في سائر أحكام الشريعة غيرها، ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها، خفاء ما خفي في بعضها، كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات(2/53)
الكونية ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها. والحكمة هنا في هذه الاحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما.
ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية والأحكام الشرعية في هذا الخفاء الجزءي تصرفات الله في خلقه بمجاري اقداره فقد تظهر حكم الله فيها وقد تخفى، وقد تخفى دهراً وتظهر بعد مدة. وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولا من حكم قدر الله في مبدأ أمره وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره، وبما قصه علينا في قصة أم موسى لما أوحي اليها بقذفه في اليم وعدم الخوف عليه وما كان من عواقب امره، وكما لا ينفي الحكمة عن تدبير الله عدم ظهورها كذلك لا ينفي الحكمة عن شرعه عدم فهمها ولا يقدح في دلالة الآيات وبيانها عدم إدراك كنهها أو عدم فهم معناها.
ففي خلق الله وفي شرع الله وفي قدر الله وفي كلام الله ما يخفي على العقول إدراك حقيقته أو حكمته، أو معناه لطفاً من الله بالإنسان وتنبيها له، وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف. وتجلت له بدائع الخلقة وجلائل النعمة فيما ظهر، فآمن بوجود مثلها فيما خفي. إذ الرب الحكيم الرحيم لا يكون منه إلا ما هو حكمة وفيه نعمة، فكان الإنسان في القسم الأول مدركا مستدلا معتبرا، قد استعمل عقله فأدَّاه إلى الإيمان واليقين فيما ظهر. وكان في القسم الثاني مصدِّقا مذعنا لربه صاغرا، قد أدرك الحجة فآمن بالغيب فيما استتر.
فجمع بين النظر والاستدلال، والتسليم والاذعان.
فهذا توجيه وجود لفظ لا نفهم معناه من كتاب الله- عند من يقول به- ببيان حكمته، مع تنظيره بمثله في خلق الله وشرعه وقدره.
بناء العمل على هذا العلم:
قد رأيت كيف يقف العقل عاجزاً أمام بعض أسرار الخلق والقدر(2/54)
والشرع والقرآن، مع يقينه بما علم منها، ان ما عجز عن إدراكه ما هو إلاّ مثل ما عرف في الحق والحكمة والنعمة، إذ الجميع- ما عرف وما عجز عنه- من إله واحد حكيم خبير رحمن رحيم. فليذكر الناظر في خلق الله وقدره وشرعه وكلامه دائما هذه الحقيقة، وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتعليل والاكتشاف واستجلاء الحقائق الكونية واستخراج الفوائد العلمية والعملية إلى أقصى حد توصله اليه معلوماته وآلاته حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه ولم يرتكب من الأوهام والفروض البعيدة ما يكسوا الحقيقة ظلمة، ويوقع الباحث من بعده في ضلالة أو حيرة، فكثيراً ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات سببا في صد العقول عن النظر وطول أمد الخطأ والجهل، ويكون عمله في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، والاتعاظ بأحوال البشر، واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة، فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه ولم يتبين له ما فيه من عدل وحكمة واحسان ورحمة، فليذكر عجزه وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت ثم ظهر له فيوقن ان هذا مثله، وانه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الآن بالتسليم والتنزيه، راداً علمه إلى الله تعالى مفوضا أمره إليه، ويكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف، وتحصيل الاحكام وحكمها، والعقائد وأدلتها، والآداب وفوائهدها، والمفاسد وأضرارها، حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر علته ذكر عجزه فوقف عنده، فلم يكن من المرتابين ولا من المتكلفين، ولم يمنعه عجزه عن تعليل وتبين وجهه ذلك القليل عن المضي في التفهم والتدبر لما بقي له من(2/55)
الكثير، ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لآياته والتفطن لتنبيهاته ووجوه دلالاته واستثارة علومه من منطوقه ومفهومه، على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها، وما جاء من التفاسير المأثورة وما نقل من فهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم، المشهود لهم بذلك من أمثالهم، فإذا وقف أمام المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فآمن بما لها من معنى وقال: الله أعلم به. فهذا السير النظري والعمل العلمي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله وحكمته ورحمته في خلقه وقدره وشرعه وكلامه ومعرفة العبد بقدره ومقامه يزداد السائر على مقتضاه ايمانا وعلماً وفوائد جمة، ويسلم من الغرور والأوهام والفتنة، وهو سبيل الراسخين الذين يقولون فيما لا يفهمونه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1).
القول الثاني في فواتح السور:
وذهبت جماعة من أهل العلم- من السلف والخلف- إلى ان هذه الفواتح قد فهمت العرب المراد منها، ولذلك لم تعترض على البيان بها ولا طعنت في عربيته بعدم فهمها، وان كنا لا نجد في كلامها ما نعرف به المعنى الذي فهمته منها، وممن ذهب إلى ذلك الامام أبو بكر بن العربي فقال في كتاب ((القبس على موطأ مالك بن أنس)): "وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فان محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذلك أقوى أسبابها في الطعن عليه، وكانوا يقولون: هذا يتكلم بما لا نفهم وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين. وما حمعسق في اللسان؟ وما كفهيعص في الكلام؟ فدل أنهم فهموا الغرض وعرفوا المقصود؟.
__________
(1) 3/ 7 آل عمران.(2/56)
اختلاف المتؤلين:
منهم طائفة تكلمت على كل لفظ من ألفاط الفواتح وذكرت له معنى، واختلفوا في تلك المعاني التي ذكروها، وهي كما ذكر الامام ابن العربي: "لا سبيل إلى تمييز واحد منها بدليل لأنه معدوم، ولا بأثر لأنه غير منقول" ولا تطمئن إلى شيء منها القلوب التي عاشت على اليقين، ولا تسلم واحداً منها العقول التي اعتادت قفو العلم على نور الدليل.
ومنهم طائفة أخذتها كلها بوجه واحد، فقال بعضٌ: إنها حروف تنبيه تقرع الأسماع فتلفت السامعين إلى الاستماع والتدبر، لما اشتملت عليه السورة من الأحكام والعقائد والآداب وغيرها من مقاصد القرآن، فهي نظير الا والهاء في مألوف الاستعمال. وقال بعضهم: انها حروف تعجيز وافحام وتقريع، لأن القرآن الذي عجزوا عن معارضته من هذه الحروف وأخواتها تركبت كلماته، فكأنما يقال لهم: ما هذا الذي عجزتم عنه إلاَّ كلام جنس كلامكم، وما ركبت لكلماته الا مما ركبت منه كلماتكم، وهذا لعجزهم، ولتقريعهم أوجع. ومما يؤيد هذا أن أكثر هذه الفواتح ذكر بعده الكتاب المعجز وصفاته، مثل قوله تعالى:
{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} (1) {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... الآية} (2). {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (3). {الر * تِلْكَ آيَاتُ
__________
(1) 1/ 1 - 2 البقرة.
(2) 3/ 1 - 3 آل عمران.
(3) 7/ 1 - 2 الأعراف.(2/57)
الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (1). {الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} (2). {الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3). {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (4). {الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (6) وغيرها ...
الفائدة العملية:
قد افتتحت هذه السور من القرآن العظيم بكلمات التنبيه، وجاءت أول سورة منه بعد الفاتحة مفتتحة به، فلنكن عند قراءته في انتباه واقبال على استيعاب لفظه وتفهم معناه، فإن التالي للقرآن والسامع له في حضرة الرب على بساط القرب، والغفلة في هذا المقام من قلة الأدب، ومن قل أدبه في مقام الاحسان والكرامة استوجب أضعاف ما يستوجبه غيره من العتب والملامة وتعرض لموجبات الحسرة والندامة، فالله نسأل أن يجعلنا من قرائه على اتنباه واستحضار أناء الليل وأطراف النهار العاملين به بالعشي والأبكار، إنه الجواد الكريم الستار.
...
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا
__________
(1) 10/ 1 يونس.
(2) 11/ 1 هود.
(3) 12/ 1 يوسف، وانظر: 13/ 1 الرعد، و 15/ 1 الحجر.
(4) 26/ 1 - 2 الشعراء.
(5) 32/ 1 - 2 السجدة.
(6) 40/ 1 - 2 المؤمن.(2/58)
مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (1).
بيان المفردات:
الحكيم: هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم، بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات، والضلالات، والسفالات، فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم، لا يحكم الا عن تفكير، ولا يقول الا عن علم، ولا يفعل الا على بصيرة، فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أطاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب. ووصف القرآن بالحكيم لأنه هو العلم الصحيح، المثمر لهذا كله، والصراط المستقيم، هو دين الإسلام، الذي جاء به جميع المرسلين، قبل النبي- صلى الله عليه وعليهم وسلم-. تنزيل: بمعنى منزل، وهو الصراط المستقيم. العزيز: القوي الغالب، الممتنع الذي لا نظير له. الرحيم: المنعم الدائم الانعام والاحسان. الإنذار: الاعلام بوقوع ما يخاف منه، وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل. والغافل عن الشيء: التارك له المعرض عنه، مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه.
المعنى:
أقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- من المرسلين رداً على من قالوا له: لست مرسلا، في حال أنه على دين الإسلام، الذي بعثه الله به ثابتا عليه في عقده، وقوله، وفعله، وجميع أمره. وأخبر تعالى أنَّ هذا الإسلام الذي جاء به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نزَّله عليه الله القوي الغالب، الذي لا يغالب، العديم الشبيه والنظير، والمنعم الدائم الانعام المستمر الاحسان. وبيَّن تعالى أنه كان من المرسلين لينذر الأمة العربية
__________
(1) 36/ 2 - 6 يس.(2/59)
ويعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال، تلك الأمة التي ما أنذر آباؤها فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها، من عبادة الأوثان، وارتكاب الاثم والعدوان، وأنواع الضلال، والخسران، معرضة عن توحيد خالق الأرض والسموات، وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات، طال عليها أمد الجهالة، واستولت عليها أسباب الضلالة، فتمكنت منها الغفلة، التمكن التام، فتركت في أوديتها البعيدة المدى، كالأنعام أو أضل من الأنعام.
أصل المعرفة والسلوك من هذه الآيات الكريمة:
تمهيد:
خلق الله الخلق حنفاء موحِّدين، فأتتهم الشياطين فأضلتهم عن سواء السبيل، فمن رحمته تعالى بهم، أن أرسل اليهم، رجالا منهم، لهدايتهم، وأنزل عليهم كتبا منه، لدلالتهم. فالله هو المرسل وتلك الكتب هي رسائله، وأولئك الرجال هم رسله، والخلق هم المرسل اليهم.
المعرفة:
فللمرسل العلوُّ والكمال، وله الخلق، والأمر، ومنه الرحمة، والعدل، والاحسان، والفضل، وله الربوبية، والالوهية، دون شريك ولا مثال.
وفي تلك الوسائل الحق، والحكمة، والنور المخرج، من كل ظلمة والفرقان في كل شبهة، والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر، وتطةَر الضمائر، وتعرف طريق الحق، والهدى من طرائق الباطل والضلال.
ولأولئك الرسل-عليهم الصلاة والسلام- أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسل- تعالى-، وأعظم الخشية له، وأكمل الرحمة بالخلق، وأشد الشفقة عليهم، وأكمل العلم بما جاءوا(2/60)
به وأعظم التمسك به، وأكثر الاتباع له، فلا كمال الا بالاقتداء بهم، ولا نجاة الا باتباعهم، ولا وصول إلى الله تعالى الا باقتفاء آثارهم. وللمرسل إليهم عجز المخلوق وضعفه، أمام خالقه، وحاجته وافتقاره اليه، وعليه حق عبادته، وطاعته، والرجاء لفضله، والخوف من عقابه، والفكر في آياته، ومخلوقاته، والنهوض للعمل في مرضاته، واستثمار أنواع نعمائه، والشكر له على جميع آلائه. فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها، ومعرفة مقام كل واحد منها، وما له فيه- كمال الإنسان العلمي الذي هو أصل كماله العملي، والشروط اللازم فيه.
وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية فالمرسل هو {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} والرسالة هي: {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} والرسول هو "محمد"- صلى الله عليه وآله وسلم- المخاطب بـ {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} والمرسل اليهم هم العرب الذين {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}.
تمهيد:
لما ضل الخلق عن طريق الحق، والكمال، الذي يوصلهم اليه، إلى مرضاته والفوز بما لديه أرسل اليهم الرسل ليعرفوهم بأن ذلك الطريق هو الإسلام، ويكونوا أدلتهم في السير وقادتهم إلى الغاية، وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق، ويقودهم على بصيرة، ويتركوهم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يهلك عليها إلاَّ من ظلم نفسه، فحاد عن السواء، أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين. فالقافلة هم الخلق، والطريق هو الإسلام، والادلة هم الرسل، والمصابيح هي الكتب، والغاية هو الله جل جلاله.
السلوك:
فعلى مريد النجاة من المهالك والفوز بأسنى المطالب، وأعلى المراتب(2/61)
- أن ينضم إلى القافلة الربانية يتعاون مع أفرادها ويقوم بحق الرفقة فيها، ويعد نفسه جزءا منها لا سلامة له الا بسلامتها، فهو يحب لكل واحد منها ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويهديه إلى ما يهديها اليه من خير ويقيه مما يقيها منه من سوء. وان يطيع أولئك الأدلة ويقتفي آثارهم، وينزل بنزولهم، ويرتحل بارتحالهم، وأن يرجع في معرفة وجوه السير، وأصنافه، وأوقاته، ومراحله، ومنازله، اليهم دون أدنى اعتراض، ولا مخالفة، ويقابل ما يتحملونه من مشاق الدلالة، ومتاعب القيادة، بغاية ما يستطيع من الأدب معهم، والتعظيم، والانقياد لهم، والمحبة فيهم، وحسن الثناء عليهم، وطلب عظيم الجزاء، من الله لهم تعالى على عظيم إحسانهم. وان يلتزم ذلك الطريق ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في بنيَّاته (1) لا مفرطا في السير يسبق الرفقة فينفر بلا دليل، ولا مفرطا فيه، فيتخلف عنها بلا معين نمطا وسطا مع الجماعة لا من الغلاة ولا من المقصرين. وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية، وأن يسير تحت أنوارها الساطعة، مفتح البصر، للاستضاءة بها غير مغلق الأجفان عنها، متعرفا بها أديم الأرض ومواقع قدمه منها. وأن يعرف عظم الغاية التي هو سائر إليها، فيقصر همه كله في الوصول اليها، ويحضرها قلبه في كل لحظات سيره، ليسرع مع الرفقة إليها، وتخف عليه مشاق الطريق وأتعابها، ويعذب لديه كل ألم في الانتهاء إليها.
فبسلوك هذا الطريق القويم، بدلالة الرسول الكريم، وأنوار الكتاب المبين، إلى ربِّ العالمين الرحمن الرحيم، كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.
__________
(1) بنيات الطرق جميع بنية تصغر بنت هي ما يخرج من نواحيه من طرق صغيرة تضل السائر عن الغاية وتبعده عن الرفقة فى السير.(2/62)
وقد اشتملت هذه الآيات على ذكر السالكين، وهم المنذرون وعلى الدليل وهو الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الطريق وهو الصراط المستقيم المنزل من الله، وعلى ما بين الطريق وهو القرآن الحكيم.
الحكمة في هذه الآية:
قال ابن وهب: سمعت مالك رضي الله عنه يقول: "الحكمة: الفقه في دين الله والعمل به" ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي، وفي العمل به الكمال العملي، وهذه الآيات- على إيجازها- قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي وكماله العملي اللذان بهما كماله الروحي والبدني ونعيمه الدنيوي، والأخروي، وما كماله العلمي، وكماله العملي الا بالمعرفة الصحيحة والسلوك المستقيم، وهما اللذان تقدم في الفصل السابق بيانهما وفسر مالك الحكمة بهما اذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة، والعمل به، هو السلوك المستقيم، وهما الحكمة التي وصف به، في الآية الأولى القرآن العظيم، لا انه كتاب العلم، والعمل اللَّذين لا يكون بدونهما حكيم. فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة دلت على أصلها، ومأخذها، وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها، وهو القرآن الحكيم.
توجيه القسم في الآيات:
أقسم الله بالقرآن الحكيم على أن محمداً من المرسلين، لينذر الغافلين حال انه على صراط عظيم مستقيم منزل من العزيز الرحيم، لأن القرآن هو كتاب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي كان يتخلق به ويهتدي بما فيه وينذر به ويدعو اليه ويبينه للناس بقوله، وفعله، وهو برهانه، وحجته، وآيته، ومعجزته.
كما أنه كتاب الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم، فيه حجته،(2/63)
ودلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله، فيه بيان حقيقته، وما هو منه ونفى ما ليس منه عنه، فيه بيان تاريخه، وتاريخ الإنسانية معه، فيه ذكر أوليائه، وحسن بلائهم في سبيله، وحسن أثره فيهم، والعود بالعاقبة المحمودة عليهم، وذكر أعدائه وجهدهم في مقاومته وسقوط شبههم أمام حجته وذهاب باطلهم أمام حقه، وشدة أخذه لهم، على ظلمهم، ونزول تقمته بهم، وحلول دائرة السوء عليهم، فيه الإسلام كله، فمن طلبه فيه، وجده، ونجا به، ومن طلبه في غيره (1) ضل، وكان من الهالكين.
عقائد وأدلتها من هذه الآيات:
العقيدة الأولى: محمد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-:
دليلها الأول القرآن الحكيم جاء رجل أمي ما قرأ ولا كتب ولا دارس العلماء ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني: موافقة دعوته- صلى الله عليه وآله وسلم- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده وتصديق مما جاءهم به من عنده دون أن يسألهم على ذلك أجراً وهذا من قوله: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فهو من المرسلين. من جهة ارساله لأنه منهم في أقواله وَأفعاله نظير قوله تعالى:
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (3) وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا
__________
(1) بيان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- للقرآن من القرآن لقوله، تعالى: {تُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
(2) 35/ 9 الأحقاف.
(3) 37/ 37 الصافات.(2/64)
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (1).
ودليلها الثالث: هذا الدين الكامل الجامع الذي هدى به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه سعادته، فاطلق فكره وسدد نظره وقوم عقائده وهذب أخلاقه ونظم اجتماعه، ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان ووجههم إلى خالقهم وما أعدَّ لهم عنده- ان آمنوا وعملوا الصالحات- من النعيم المقيم والرضوان التام.
ودليلها الرابع: سلوكه هو في حياته على هذا الصراط المستقيم من يوم عرف الدنيا حتى فارقها، فكان يمثله على اكمل وجه لا يخل بشيء منه ثابتا عليه لا يحيد قيد شعرة عنه دون أن تحفظ عنه زلة. ولا تعرف منه في القيام به والدعوة اليه فترة، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمة ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة، فكان في كرم خلقه وتمام زهده وعظيم تألهه وتوجهه لربه بعدما فتح الله له الفتح المين ودخل الناس أفواجا في الدين كما كان أيام كان وحيدا بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العيقدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه، ودليلها أنه حكيم فما فيه من العلم وأصول العمل. لا يمكن أن يكون الا من عند الله في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها، إلى ما فيه من حقائق كونية كانت مجهولة عند جميع البشر وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير، ومن أشهرها مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين موجبة وسالبة، جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها
__________
(1) 4/ 162 النساء.(2/65)
قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1). ومنها مسألة حياة النبات التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (2). ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (3) فهذه حقائق علمية كونية أجمع علماء العصر أنها من المكتشفات الحديثة ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها ولا كانت عندهم الآلات الموصلة إلى معرفتها.
وكفى بهذا القل من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلا من عند الله الذي خلق الأشياء ويعلم حقائقها.
العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه. ودليلها مستفاد من وضعه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان، أعمال قلبه وأعمال لسانه وأعمال جوارحه وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئياته عن هذا الأصل العام التجلي في جميع الاحكام وهو "الحق والخير والعدل والاحسان" وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يقتئون يتبعونها بالتكميل والتقويم والتعديل على ممر الأيام، ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه لوجدته منطبقا عليه ظاهرا فيه حتى
__________
(1) 51/ 49 الذاريات.
(2) 21/ 30 الأنبياء.
(3) 15/ 22 الحجر.(2/66)
ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية عن الإسلام أيام تاريخها، قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها، فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام، ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم للمادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق وتعدد الزوجات وتحريم الربا تحريما باتا، فكم من عالم غير مسلم صرح بأنَّ الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل هو ما شرعه الإسلام على الوجه الذي شرعه الإسلام.
فهذه الاستقامة التامة العامة المطردة في شرع جاء به رجل أمي من أمة أمية جاهلية يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد وإنما هو من وضع خالق العباد (1).
__________
(1) ش: ج2، م 10، ص 47 - 57 غرة شوال 1352 - جانفي 1934.(2/67)
اَلْوَحْيُ مَصْدَرُ الْإِسْلَامِ
جملة هو {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (1) بينت وجه استقامة ذلك الصِّراط الذي هو الإسلام بأنه تنزيل العزيز الرحيم، وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن وهو وحي من الله والى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) وكل دليل من أدلة الشريعة فانه يرجع إلى هذين الأصلين ولا يقبل الا إذا قبلاه ودلا عليه. وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما فهو مردود على قائله، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
الإسلام دين العز والرحمة:
ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن العزيز: {الرَّحِيمِ} للتنبيه على أن هذا الدِّين الذي نزَّله الرب الموصوف بالعزة والرحمة هو دين عزة ورحمة.
ومن مقتضى العزة: القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة: الفضل، والخير، والمصلحة. وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام.
والعدل والاحسان اللذان أمر الله بهما وأنبنت أحكام الإسلام عليهما
__________
(1) 36/ 5 يس.
(2) 53/ 4 - 5 النجم.(2/68)
لا يكونان إلاَّ عن العزة والرحمة فالدَّليل لا ينهض بالحكم ولا يقيم ميزان العدل والقاسي لا يكون منه إحسان.
اهتداء واقتداء:
فالمسلم المتحقق بالإسلام المهتدي بهدايته لا يكون إلاّ عزيزا رحيما، فالذلة من المسلم نقص إسلامه والقساوة مثلها نقص فيه، وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (1). وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) ونعم القدوة هم لجميع المسلمين.
النذارة ثمرة الرسالة:
كان من المرسلين لينذر الغافلين، فالأول كمال والثاني تكميل، وقد فطر الله رسلَه- صلى الله عليهم وسلم- على الرحمة وحب الخير، فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم واذايتهم حتى أدُّوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم. وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم وينزل عقوبته بالمكذبين لهم وينصرهم عليهم، فأعلم محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه من المرسلين لينذر- ليأتسى بهم ويصبرهم ويرجو من نصر الله له واهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.
__________
(1) 42/ 39 الشورى.
(2) 59/ 9 الحشر.(2/69)
إقتداء:
العلماء ورثة الأنبياء وما ورث الانبياء دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم. والعلم مستمد من الرسالة فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة وقد قالى الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1).
التدريج في الإنذار:
أرسل الله محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم- للعالمين بشيراً ونذيراً، ودرَّجه في النذارة على مقتضى الحكمة من القريب إلى البعيد، فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه وصفية عمته وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» وأمر بانذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (3) على الوجه الأقرب في معنى {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (4) ومثلها في
__________
(1) 9/ 123 التوبة.
(2) 26/ 214 الشعراء.
(4) 6/ 92 الانعام و42/ 7 الشورى.
(4) 42/ 7 الشورى.(2/70)
إنذار العرب ما في هذه الآية وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (1)، فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم. وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) فارسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام.
اندفاع إشكال:
قد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس عامة بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي بالقرآن كل من بلغه القرآن ولا يشكل على ذلك مثل ما تقدم من الآيات في انذار عشيرته الأقربين وقومه العرب، لأنه ابتدأ بهما لحكمة التَّدريج وحق القريب لا للتخصيص، بدليل ما جاء من آيات التعميم.
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب النَّاس إليه، ثم من بعدهم على التدريج، وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع، فمن الأسر تتركب الأمة، فعندما يعني كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلُّها بارتقاء أسرها كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه، فيكون المعتني باسرته في الوقت نفسه معتنيا بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته
__________
(1) 36/ 6 يس.
(2) 7/ 157 الأعراف.(2/71)
خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع أسرته بالفعل وأمته بالقصد أو أسرته مباشرته وأمته بواسطة وكل هذا مما يثاب المرء شرعا عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، بنص (1) هذه الآية وغيرها فهم في فترتهم ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) و {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (3) وغيرهما، وكلها آيات قواطع في نجاة أهل الفترة، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ من جاء فيهم نص ثابت خاص كعمر بن لحي أول من سيب السوائب وبدَّل في شريعة إبراهيم وغيَّر وحلل للعرب وحرَّم فأبوا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ناجيان بعموم هذه الأدلة، ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس- رضي الله عنهما-: "أن رجلا قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفا الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار" لأنه خبر آحاد فلا يعارض القواطع وهو قابل للتأويل، يحمل الأب على العم مجازاً يحسنه المشاكلة اللفظية ومناسبته لجبر خاطر الرجل وذلك من رحمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وكريم أخلاقه.
سبب الغفلة ودواؤها:
أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أنَّ غفلتهم
__________
(1) في الأصل بص.
(2) 17/ 15 الإسراء.
(3) 5/ 21 المائدة.(2/72)
تسببت عن عدم انذارهم، فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولا كان ترك الإنذار والتذكير موقعا في الغفلة فالإنذار والتذكير يزيلانها، فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها.
تطبيق:
كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم والاقتداء بهدى الرسول الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- والسير بسيرة السلف الصالح في النهوض بأعباء الدنيا والدين وهم- إلاَّ قليلا- عن هذا غافلون، أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم ونشروا دعوة الحق في قومهم فقد أصبح ذلك معروفا عند أكثر الناس محن (1) وعناية طلاب العلم ومناط رغبتهم وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم وانا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك- والحمد لله- كل يوم يزيد فالحمد لله على ما علَّم وألْهم وبصَّر ويسَّر. نسأله دوام التوفيق والتسديد رب العالمين (2).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) ش: ج 3، م 10، ص 90 - 99.
غرة ذي القعدة 1352هـ - 5 فيفري 1934م.(2/73)
لَا يُؤْمِنُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَدَمَ إِيمَانِهِ
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .. } (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
علم الله أن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وانقاذهم من الهلكة، وعلم أنهم لا يؤمن به إلاَّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم. ولعدم ظهوره ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم- على تحمل ذلك باعلامه به من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا، فان التوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع هو ايمان أكثرهم لا كفره.
المفردات:
حق: وجب وثبت. القول: قول الله فيهم بما سبق في علمه، فهم لا يؤمنون. فهم: أي أكثرهم.
التراكيب:
نفي الايمان عنهم نفياً مؤكداً بالاخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون.
__________
(1) 36/ 7 - 11 يس.(2/74)
وقرنت الجملة بالفاء السببية لتفيد أن من سبق في علم الله عدم ايمانه لا يرجى ايمانه بحال، فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له.
المعنى:
لقد وجب وثبت ما سبق في علم الله في أكثرهم وما كان من قوله بعدم ايمانهم فلا يرجى من ذلك الأكثر الذي سبق في علم الله عدم ايمانه ايمان.
سؤال:
ما مات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى عم الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولا شك ان الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}.
جوابه:
الذين قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بانذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكررا للنذارة عليهم صباح مساء مدة ثلاث عشرة سنة هم أهل مكة. فهم الذين تتعين ارادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن اكثر من انذارهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب:
هذا يقتضي أن المراد بلفظه "قوما" المتقدمة أهل مكة، مع ان المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه:
نسلم هذا ويكون تفسير "قوما" بالعرب نظرا لمماثلتهم لأهل(2/75)
مكة في وجوب انذارهم باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف وهو غفلتهم لعدم انذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله:
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم من آيات مشاهدات وما أرسل اليهم من رسل بآيات بينات، وهذه كلها أمور معلومة لديهم ضرورية عندهم لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها، فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار، ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل اليهم وما تلوا عليهم من آيات، وبهذه الاشياء قامت حجة الله عليهم وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم. فأما ما سبق من علم الله فيهم فهو أمر مغيب عنهم غير مؤثر فيهم- لأن العلم ليس من صفات التأثير- ولا دافع لهم. فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب عنهم.
وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب:
تقوم حجة الله على العبد أولاً ويعمل هو- كاسباً ومكتسباً- باختياره ثانيا، ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثا. ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب:
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما وأخلاقهما وسيرتهما ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما وهو يعلم- بما علم من أحدهما- انه يمتثل ويعلم- بما علم من الأخر- انه يخالف. ويقول لأهل(2/76)
بيته ان فلانا سيمتثل، وان فلانا سيخالف. ويظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما فجازى الممتثل على طاعته وجازى المخالف على عصيانه. فلا شك ان هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والارشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما. كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما يستحق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى فقد أحاط بكل شيء علما فعلم من سيطيعه ومن سيعصي، ولكنه الحكم العدل فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه، بل جعل جزاءهم بعد اقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت أيديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.
تعليم:
أرأيت كيف أن الله تعالى لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم اعى أعمالهم. فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض فلا نجازي على مجرد الظن بل ولا على مجرد اليقين وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال. فرب شخص قدرت فيه الخير أو الشر ففعل ضد ما قدرت، فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه ولنال كل ما لا يستحقه، فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه وهذا ما ينبغي ان نربط به المجازاة بيننا.
تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه:
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ}(2/77)
فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (1).
المناسبة:
لما ذكر عدم إيمانهم وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الايمان ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الاعراض عنه.
المفردات:
الغل: ما يجعل في العنق محيطا به. الذقن: مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم. مقمحون: رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: اقمحه الغل: إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه. السد: الحاجز بين الشيئين. فأغشيناهم: جعلنا عليهم غشاء أي غطاء أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الأبصار.
التراكيب:
فهي إلى الأذقان أي الاغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها ولذا فرع عليه فهم مقمحون. فرع عدم أبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم لالتزاق السدين بهم وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركا لا يستطيعون أبصارا، وكيف يبصرون وجهه ملتزق بالحائط مثلا.
المعنى:
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالا ضيقة عريضة
__________
(1) 36/ 8 و 9 يس.(2/78)
تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الايمان لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا. وجعلنا أمامهم حجابا وخلفهم حجابا محيطين وملتزقين بهم ومغطيين لجميع ذواتهم فلا يستطيعون معهما تحركا ولا أبصارا.
توجيه التمثيل:
دعوا إلى الايمان والتوحيد ومكارم الاخلاق وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالابل المقمحة عن الماء. ثم ان هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها، فلما اعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملتزقين ومحيطين به فجمد في مكانه فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئا.
ترهيب:
كل ما دعا اليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال فهو مما تقبله الفطرة السليمة وتدركه العقول بالنظر الصحيح، فمن قابل دعوة الإسلام بالاعراض والعناد وخالف فطرته وعاكس عقله كان حقيقا بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة والطبع على القلب، فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ الذي صورها في أبشع وأفظع صورة. ليحذرنا من الاعراض عن الحق والعناد له ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم:
لكل إنسان فطرته وعقله فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما(2/79)
راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الاغراض والاهواء والأوهام والشبهات. فإذا كان هلاك هولاء بعدم الاستفادة منهما فان النجاة عند ما تعرض الامور بالرجوع اليهما، وتجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة ليعلمنا الرجوع اليهما والاستفادة منهما.
من استوى عنده الانذار وعدم الانذار لا يرجى منه ايمان:
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1).
المناسبة:
لما ذكر- تعالى- عدم ايمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سببا آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
الترتيب:
ذكر هذا السبب أثر ما تقدم من وصفه حالهم في شدة الاعراض للتنبيه على أن من فسدت فطرته وانطمس عقله يسوي عنده الانذار وعدمه فلا يكون منه ايمان على كل حال.
المفردات والتراكيب:
سواء: بمعنى مستو. والهمزة الأولى أصلها للاستفهام، وليس مرادا هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية لوقوعها بعد لفظها ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك، ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم انذارك وعدم انذارك.
__________
(1) 36/ 10 يس.(2/80)
المعنى:
ان أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم ايمانهم بلغوا من شدة الاعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الايمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم.
تحذير:
يذكر الله تعالى حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها ومما يؤدي اليها من اهمال الفطرة وترك النظر، فان الإنسان انما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات بل كانت العجماوات خيرا منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداد لإدراكه.
تحذير الانذار للمنتفعين وتبشيرهم:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (1)
المناسبة:
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بانذار النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر الذين ينتفعون به تأنيسا له بهم وتقوية له بظهور ثمرة انذاره فيهم.
المفردات والتراكيب:
الذكر: القرآن، وهو من أسمائه التي تكررت في التنزيل،
__________
(1) 36/ 11 يس.(2/81)
وأل فيه للعهد. الغيب: الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر، التبشير الاخبار بما يسر، المغفرة ستره الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به. الأجر: الجزاء على العمل. الكريم: الطيب الشريف في نفسه النافع في أثره الذي لا يشوب ذاته نقص، ولا منفعته ضرر، وأفاد المضارع في تنذر تحديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم الرحمن ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
الترتيب:
ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء، وذكرت الخشية بعد الاتباع لانها لا تحصل إلاَّ به. وجيء بعد بالتبشير مقرونا بالفاء لأنه إنَّما يكون لأهل الاتباع والخشية بسبب اتباعهم وخشيتهم. وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية والتزين بعد ازالة الادران.
المعنى:
انما يتجدد انذارك وينتفع به الذين آمنوا وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم لصدق ايمانهم خاشين نقمته راجين رحمته، وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بانذارك بشرهم على اتباعهم للقرآن وخشيتهم بالغيب للرحمن بمغفرة ذنوبهم وجزاء شريف رفيع طيب نافع لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم.
دفع إشكال:
أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى:(2/82)
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ... } الآية (1). اذ لا فائدة من انذارهم، وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية. فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي يقتضي التخصيص، لأن الأول في مقام الإنذار العام، والثاني في مقام تجديد الإنذار والانتفاع به. واما الاعراض فلا يكون الا عن المأيوس منه من الكافرين.
إرشاد:
طريق السلوك الشرعي انما هي اتباع القرآن وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته، وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام. وتذكير المؤمنين بانذارهم وتبشيرهم فلا يؤمنون من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات:
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده وخلقه وعمله، واستوت خلوته وجلوته وسره وعلنه، وعبد الله راجيا رحمته خائفا عذابه، يخوفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والاجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات آمين يا رب العالمين (2).
__________
(1) 53/ 29 النجم.
(2) ش: ج5، م10، ص 186 - 196 غرة محرم 1353هـ - افريل 1934م.(2/83)
الحياة بعد الموت
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
المناسبة:
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل اليهم وتعميمهم بالنذارة وانقسامهم إلى معرضين معاندين ومقبلين متبعين. فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته وهو يوم القيامة. ووجه آخر وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الايمان بالله والايمان برسول الله والايمان باليوم الآخر. وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني بالقسم عليه على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول ضمنا بذكر العزيز الرحيم فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث.
سؤال:
كيف لم يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- الا بما ذكر به من الذكر الضمني.
الجواب:
ذلك لأمرين: الأول أنَّ هذه الأصول الثلاثة تذكر في اكثر السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الاصول
__________
(1) 36/ 12 يس.(2/84)
أكثر من غيره ولا يذكر فيها غيره الا ضمنا كما هنا. الثاني أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للاصل الأول اذ جميع دلائل النبوة دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
المفردات:
الاحياء: ايجاد الحياة في الجسم ولا يكون الا من الله. والميت: الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه سواء كانت فيه وزالت أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
التركيب:
أكدت الجملة (بأن) لان الخطاب مع منكري البعث والنشور. وأكد اسم ان بنحن ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره- وعبر بنحيي فعلا مضارعا ليفيد تجديد الاحياء واستمراره فيشمل احياءه للأجنة في الدنيا واحياءه الأحياء الثاني في الأخرى، وكثيرا ما جاء في القرآن الاستدلال على الاحياء الثاني بالاحياء الأول، فتكون كلمة (نحيي) قد اشتملت على العقيدة وهي الاحياء الثاني ودليلها وهو الأحياء الأول.
المعنى:
يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم، فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}
المناسبة:
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة(2/85)
وغير المباشرة مكتوبة عليهم لأن حياتهم بعد الموت لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
المفردات:
قدم الشيء: جعله قدامه، وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إلى الآخرة فهي محفوظة حتى يلحقها. والأثر: ما يحصل من العمل كالذي يحصل على- وجه التراب من وضع الأقدام- ويبقى بعد رفعها. فآثار الإنسان ما يحصل من أعماله التي باشرها.
التراكيب:
عبر بنكتب مضارعا ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلا ويكتب. وأسند الكتابة اليه، والكاتبون الملائكة لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى:
يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم إذا كان متسببا عن أعمالهم وأثرا لها.
تنظير:
مثل هذه الآية في الدلالة على ان العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة وما عمله غيره وكان من آثار عمله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (1). فالذي أخره هو أثره المذكور في هذه الآية.
__________
(1) 75/ 13 القيامة.(2/86)
تأييد وبيان:
في صحيح مسلم من طريق جابر بن عبد الله- رضي الله عنهم- قال: جاء ناس من الاعراب إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه، قال: ثم ان رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء».
وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه-: ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: من دعا إلى هدىً كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثار من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه مثل ماله وعليه من أعماله التي باشرها.
وبين الحديث الأول ان ما تسبب عن عمل المرء يعد أثرا لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته. اذ الذي جاء بالصرة أولا قد تسبب عن مجيئه مجيء من بعده على أثره، والحديث سيق في شأنهم، فتكون حالتهم أول ما يشمل كما بين الحديث الثاني ان أثر القول كأثر الفعل، اذ الكل عمل. وبين الحديثان ان نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره ولا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه:
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا ان المراد به:(2/87)
من سن سنة حسنة أو سيئة هو من ابتدأ طريقا من الخير في أعمال البر والاحسان وما ينتفع به الناس من شؤون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات اذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتئات عليه واستنقاص له، وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كل بدعة ضلالة» «وكل ضلالة في النار».
تحذير:
على العاقل وقد علم انه محاسب عن أفعاله وعلى آثار أقواله أن لا يفعل فعلاً ولا يقول قولا حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل، فقد يقول القول مرة ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة. حقا ان هذا لشيء تنخلع منه القلوب وترتعد منه الفرائض وصدق القائل من السلف- رضي الله عنهم-: السعيد من ماتت معه سيئاته.
الاحصاء العام في الكتاب الإمام:
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}
المناسبة:
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كلَّ الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميما بعد تخصيص.
المفردات:
الاحصاء: تحصيل الشيء بالعد وضبطه والاحاطة به. الامام: ما يؤتم ويقتدى به. والكتاب: إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه. والمبين: المظهر لما فيه فكل ما فيه ظاهر فيه.(2/88)
التراكيب:
أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه، فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الاحصاء ووقوعه على كل شيء.
المعنى:
يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد مظهر للأشياء التي فيه فهي فيه ثابتة ظاهرة جلية.
إعتبار:
قد أحاط الله بكل شيء علما فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب اظهارا لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والاحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطاهم لم يكن ليصيبهم. فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وان يعيذنا من الخوف إلاَّ منه، ومن الخضوع إلاَّ له. آمين يا رب العالين (1).
...
__________
(1) ش: ج 6، م 10، ص 244 - 250 غرة صفر 1353هـ - ماي 1934م.(2/89)
الفرار إلى الله
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
ــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
المقصود الأساسي من الآيات هو تحذير الخلق من الهلاك وترغيبهم في النجاة ولا سبيل إلى ذلك الا بالفرار إلى الله. فمهد لذلك بالآيات الثلاث الأول للترغيب فيه، وختم بالخامسة لبيان الفرار الصحيح المنجي عند الله.
الآية الأولى:
الألفاظ والتراكيب:
السماء: هي الجرم الأعظم الذي أحاط بالأجرام السابحة في الفضاء كلها وعلا عليها. بنيناها: ضممنا أجزاءها بعضها إلى بعض بغاية الدقة والإحكام فكانت كالقبة فوق الجميع. بأيد: بقوة. لموسعون: لمقتدرون ومطيقون، على احتمال أن يكون من الوسع، بمعنى القدرة.
__________
(1) 51/ 47 - 50 الذاريات.(2/90)
والطاقة. أو لموسعون ومبعدون بين أرجائها على احتمال أن يكون من السعة. وقدمت السماء لأنها الشاهد المحسوس الذي تقوم به الحُجة. وليقع البناء عليها مرتين على لفظها وعلى ضميرها لأن الأصل: وبنينا السماء بنيناها. لتحقيق أنها مبنية وأن بناءها لم يكن إلاَّ من الله القادر الحكيم. ولذلك علق بالفعل قوله بأيدٍ. والجملة الحالية تدل على ان الاتساع ثابت له عند البناء فذلك البناء العظيم لم ينقص من قدرته أو لم يمنع من توسيعه.
المعنى:
ان هذه القبة التي أحاطت بكم من جميع الأرجاء نحن بنيناها بقدرتنا ذلك البناء المحكم المتقن، بنيناها ونحن على قوتنا وقدرتنا نقدر على بناء أعظم منها لو شئنا، أو، ونحن على قدرتنا وطاقتنا في افاضة الخيرات والبركات منها عليكم. - هذا على انه من الوسع- أو بنيناها وقد وسعنا أديمها حتى أحالت بهذه الأجرام السابحة التي منها ما لا يكون معه جرم الكرة الأرضية إلا كحمصة فوق مائدة كبيرة. - هذا على أنه من السعة-.
تحقيق آية كونية من الآيات القرآنية:
السماء في اللغة هي كل ما علاك. فكل ما علا الأرض من سحب وطبقات هواء وكواكب تسبح في الفضاء، وما وراء ذلك من القبَّة المحيطة الكبرى هو للأرض سماء، وكل هذه متقنة الصنع محكمة الوضع متلاحمة الأجزاء، مرتبط بعضها ببعض ارتباطا مقدرا بالمسافات المدققة التي لا يكون معها تصادم ولا ارتخاء. ووضعها على هذه الصورة المنظمة المحكمة هو البناء وعليها كلها ينبغي ان يحمل لفظ السماء في الآية المتقدمة.
وقد جاء لفط السماء في القرآن مراداً به القبة المحيطة في مثل:(2/91)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (1) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (2) وجاء مرادا به السحاب في مثل: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} (3) فإن المطر ينزل من السحاب لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (4). وجاء مراداً به طبقات الجو في مثل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (4) والبرد يتكوَّرُ في طبقات الجو. والمتتبع لمواقع لفظة السماء من الكتاب العزيز يتحقق هذا.
الآية الثانية:
الألفاظ والتراكيب:
الأرض: هي هذه الكرة التي تعيش عليها. فرشناها: بسطناها بزينتها ومنافعها. الماهدون: من مهد الشيء وضعه وسواه وهيأه للنوم والجلوس والراحة. ويجري في تقديم الأرض ما تقدم في تقديم السماء. ومن يسير على هذا البساط المفروش ويطلع على ما هي فيه من أسباب الحياة لكل ما فيه من حيوان لا يتمالك أن ينطق بالمدح والثناء على من هيأ هذه التهيئة ومهد هذا التمهيد، ولذا قرنت الجملة الأخيرة بالفاء فقيل: فنعم الماهدون، ولا يغني فرش الأرض عن مهدها لأن المهد يتضمن ما حصل فيها من مرافق ومواد وأسباب للعيش على أديمها والتنعم بخيراتها.
__________
(1) 67/ 65 الملك.
(2) 37/ 6 الصافات.
(3) 43/ 11 الزخرف.
(4) 24/ 43 النور.(2/92)
المعنى:
ان الأرض التي أنتم متمكنون من الوجود على ظهرها والسيْر في مناكبها والانتفاع بخيراتها نحن فرشناها لكم وهيأنا لكم أسباب الحياة والسعادة فيها على أكمل وجه وأنفعه وأبدعه. مما نستحق به منكم الحمد والثناء.
دقيقة كونية في الآية القرآنية:
شأن الفراش أن يكون ما تحته لا يصلح للجلوس والنوم عليه.
وما تحت وجه الأرض هو كذلك لا يصلح للحياة فيه، فان تحت القشرة العليا من الأرض المواد المصهورة والمياه المعدنية والأبحرة الحارة مما تنطق به البراكين المنتشرة على وجه الارض في أماكن عديدة فكانت القشرة العليا من الأرض مثل الفراش تماما.
الآية الثالثة:
الألفاظ والتراكيب:
من كل شيء: من كل جنس من الأجناس. خلقنا: كونا. زوجين: فردان متباينان يكمل أحدهما الآخر في عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الجماد. تذكرون: تذكرون ما أودع في فطرتكم من المعرفة لا تنظرون بعقولكم في عجائب الخلق فتدركون ما له جلَّ جلاله من الألُوهية والربوبية والوحدانية. وقدم من كل شيء لأن الأشياء هي المستدل بها ولبعث الهمم على النظر فيها.
المعنى:
إنَّا خلقنا الأشياء التي تشاهدونها على الزوجية والتركيب من شيئين متضادين لتكونوا بحيث يرجى منكم أن تعلموا أنَّ النقص والعجز(2/93)
عم المخلوقات كلها لحاجة كل شيء منها إلى ضده، وقصوره بنفسه. فالقدرة والكمال للخالق وحده فلا يستحق العبادة سواه فاعبدوه ووحدوه.
توسع في التذكر:
النظر في الأزواج مفض للعلم بما ذكرنا وللعلم بأن الخلق غير صادر عن طبيعة الأشياء، فان النار- مثلا- لا يصدر عنها التبريد والتسخين لأن السبب لا ينتج الضدين، فالمخلوقات كلها صادرة بطريق الخلق عن فاعل مختار وللعلم بوجوه كثيرة من احاطة علمه وشمول حكمته وعموم نعمته.
حقيقة نفسية، في نكتة بلاغية:
إذا نظر العاقل في هذه الأزواج وفكر انكشفت له وجوه سر دلائل الربوبية والألوهية والتوحيد وإذا حصل الانكشاف الأول تبعته انكشافات فإذا حصل منه التذكر أفضى به إلى تلك الوجوه الكثيرة. ولهذا نزل الفعل منزلة اللازم الذي لا يراد منه إلا حصول الحدث.
آية كونية في الآية القرآنية:
من الأزواج ما هو ظاهر مشاهد معلوم من قديم مثل السماء والأرض والليل والنهار والحر والبرد والذكر والأنثى في الحيوان وبعض النبات. ومنها ما كشفه العلم بما مهد الله له من أسباب كالجزء الموجب والجزء السالب في القوة الكهربائية وفي الذَّرة التي هي أصل التكوين فلا فردية الا لخالق هذه الازواج كلها الذي أنبأنا بها قبل ان تصل إلى تمام معرفتها العقول فكان من معجزات القرآن العلمية التي يفسرها الزمان بتقدم الإنسان في العلم والعمران.
بلاغة التنويع والتنزيل:
لما كانت السماء متلاحمة الأجزاء في العلاء ثابتة على حالة مستمرة(2/94)
في هذه الدنيا على البقاء ناسبها لفط البناء، ولما كانت مظهر العظمة والجلال ناسبها لفط القوة. ولما كانت الأرض طرأ عليها التبديل والتغيير بما ينقص البحر من أطرافها ربما قد يتحول من سهولها وجبالها وبما يتعاقب عليها من حرث وغراسة وخصب وجدب ناسبها لفط الفراش الذي يبسط ويطوى ويبدل ويغير، ولما كانت أسباب الانتفاع بها الميسرة ضرورية للحياة عليها وكلها مهيأة وكثير منها مشاهد وغيره معد يتوصل إليه بالبحث والاستنباط- ناسب ذكر التمهيد-. ولما كانت الأزواج مكونا بعضها من بعض ناسبها لفظ الخلق ولما كان النظر في الزوجية هو نظر في أسباب التكوين لتلك المذكورات السابقة وهو محصل للعلم الذي يحصل من النظر فيها قرن بلفط التذكر.
الآية الرابعة:
الألفاظ والتراكيب:
الفاء: للترتيب لأن ما قبلها على ما فيه من عظمة وكمال وجمال فهي مخلوقة موسومة بسمة العجز والنقصان، فلا يصلح شيء منها للتعويل عليه، فلم يبق إلاَّ الخالق القادر ذو الجلال والاكرام، فهو الذي يفر اليه دون جميع المخلوقات. فروا: اهربوا. النذير: المعلم بما فيه هلاك لتجتنب الأسباب المؤدية اليه. المبين: الذى يوضح ما نذر منه والأسباب المؤدية اليه والوسائل المنجية منه. مع اقامة الحجة على صدقه ونصحه. وقدم لكم ليفيد اهتمامه بهم وذلك ليجلبهم اليه فيستمعوا لنصحه وبعده منه ليبين مصدر رسالته وذلك ليبين لهم أنه مأمور فلا يستكبروا عن قبول دعوته. وأكد الجملة لأنهم في مقام التردد أو الإنكار.
المعنى:
هذه المخلوقات كلها عاجزة في نفسها مفتقرة- ابتداء ودواما-(2/95)
إلى خالقها فاهربوا من شرها إلى خالقها فهو الذي ينجيكم من شرها ويهديكم إلى خيرها ولا تغتروا بشيء منها فإنها لا تملك حفظا لنفسها فكيف تملكه لغيرها. إنني أحذركم الهلاك إذا اغتررتم بها وقطعتكم عن خالقها ولم تهربوا إلى الله منها وقد أبنت لكم مصدر الهلاك وطريق النجاة.
نكتة التنويع:
جاءت الثلاث الآيات الأول كما يكون قولها من الله، وجاءت هذه الآية كما يكون قولها من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنويعا للخطاب وتفننا، فإنه لما كان ما في هذه الآية هو المقصود حول أسلوب الكلام من الاخبار إلى الأمر تجديدا لنشاط السامع وبعثا لاهتمام المخاطبين وحثا لهم وتوكيدا عليهم. وفيه تنبيه على أن ما يقوله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مثل ما يقوله الله في وجوب الإيمان والامتثال.
بيان وتوحيد:
هذا العالم بمائه وأرضه وأزواجه هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال وما فيه من قوة وما فيه من سلطان. وقد ركبت في الإنسان شهواته وأهوائه وسلط عليه الشيطان يغويه ويزين له. فكل هذا العالم إذا ذهب فيه الإنسان مع أهوائه وشهواته تحت إغواء الشيطان وتزيينه فانه ينحط إلى أسفل سافلين ويصير عبدا لأهوائه وشهواته وشيطانه ولكل ما فتنه من العالم وذهب بلبه. وقد ينتهي به ذلك إلى عبادته من دون خالقه. فالعالم بهذا الاعتبار شر وبلاء وهلاك يجب الفرار والهروب منه ولا يكون هذا الفرار منه إلا إلى خالقه بالايمان به والتصديق لرسله، والدخول تحت شرعه، فبذلك يعرف الإنسان كيف يجعل جدا لاهوائه وشهواته وكيف يضبطها(2/96)
بنطاق الشرع وزمامه، وكيف يدفع عنه كيد شيطانه، وكيف يتناول سماء العالم وأرضه وأزواجه بيد الشرع فيعرف ما فيها من نعمة وحكمة فيستغلها بهداية الشرع مفرقا علميا وعمليا- بين منافعها ومضارها، فيعظم بها انتفاعه ويزداد فيها اطلاعه واكتشافه فتتضاعف عليه منها الخيرات والبركات ويزداد علمه وعرفانه، ويقوى يقينه وايمانه ويعظم لله بره وشكرانه. فيكون له ذلك العالم جنة الدنيا وقنطرة لجنة الاخرى، ويفوز من الدارين بالمبتغى، كل هذا بفراره من المخلوقات إلى خالقها فسلم من شرها وفاز بخيرها فمن هرب من المخلوقات إلى خالقها نجا ومن فر من الخالق إلى شيء من مخلوقاته كان من الهالكين.
إرشاد وتعميم:
كل ما يصيب الإنسان من محن الدنيا ومصائبها وأمراضها وخصوماتها ومن جميع بلائها لا ينجيه من شيء منه إلاَّ فراره إلى الله. ففي العدالة الشرعية ما يقطع كلَّ نزاع، وفي المواعظ الدينية ما يهون كل مصاب، وفي الهداية القرآنية والسيرة النبوية ما ينير كل سبيل من سبل النجاة والسعادة في الحياة. يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السنيون، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
تنبيه على وهم:
ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها، ومن المصائب بمقاومتها فرارا من الله لأنَّ الأمراض هو قدَّرها والأدوية هو وضعها ودعا إلى استعمالها والتعالج بها، وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها فكلها منه بقدره والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم فما فر من قدره إلاَّ إلى قدره ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الوباء: " أفراراً من قدر الله يا عمر! " قال عمر: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله". وفي الحقيقة كان الفرار من شرٍ في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.(2/97)
تحذير من الجهالة:
ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل وتعاطي الأسباب المشروعة، لتحصيل القوت ورغد العيش وتوسيع العمران وتشييد المدنية بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها. وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار اليه والدخول تحت شرعه كما قدمناه وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة فعطلوا الأسباب وخالفوا الشريعة وحادوا عمَّا ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله، سئل عن القائل اجلس لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال: "هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي، وقوله: تغدو خماصا وتروح بطانا، وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة".
تطبيق:
إذا رأينا طائفتين من المؤمنين تنازعتا فأما أحداهما فالتجأت إلى السلطان تستغيثه وتستعين به وتحطب في حبله، فأغاثها وانتقم لها وأمدها وقربها وأدناها، وأما الأخرى فلم تستغث الا بالله ولم تستنصر الا به ولم تعتمد الا عليه ولم تعمل الا فيما يرضيه من نشر هداية الإسلام وما فيها من خير عام لجميع الانام وتحملت في سبيل ذلك كل ما تسببت لها فيه الطائفة الاخرى ومن تولته وهربت اليه، إذا رأينا هاتين الطائفتين عرفنا منهما- يقينا- الفارة من الله والفارة اليه فكنا- ان كنا مؤمنين- مع من فر إلى الله.
الآية الخامسة:
الألفاظ والتراكيب:
ولا تجعلوا: ولا تضعوا من عند أنفسكم ما لا وجود له.(2/98)
إلهاً: معبودا تخضعون له وترجون منه التصرف في الكون ليجلب لكم النفع ويدفع عنكم الضر. وتقدمت ألفاظ آخر الآية.
المعني:
ولا تجعلوا في فراركم إلى الله شيئا معه من مخلوقات تعتمدون عليه وتلجئون إليه فتكونوا قد اشركتم به سواه فإني أحذركم ما في ذلكم من هلاككم بالشرك الذي لا يقبل الله معه من عمل والتي قد أبنت لكم لزوم توحيده في الفرار اليه، كما بينت لكم لزوم ذلك الفرار.
نكتة التكرير:
أعاد {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} مع الآية الخامسة ليبين لهم ان عبادة الله مع الاشراك به كتعطيل عبادته فهلاك المشرك كهلاك الجاحد. والنجاة أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا لا في ربوبيته ولا في ألوهيته.
تنبيه وتحذير:
جاء في الحديث فيما رواه أصحاب السنن ان الدعاء هو العبادة فمن دعا غير الله فقد عبده ومن دعا مخلوقا مع الخالق فقد اشرك فإذا دعوت فادع ربك ولا تدع معه أحدا. وكيف تدعو من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وإذا توسلت فتوسل بأعمالك بإيمانك وتوحيدك وباتباعك لمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ومحبتك فيه واعتقادك ما له عند الله من عظيم المنزلة وسمو المقام عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
بيان نبوي قولي:
قال عليه الصلاة والسلام فيما يقال عند النوم: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» والملجأ هو المهرب الذي يهرب اليه، والمنجى هو مكان النجاة فبين لنا أنه لا يكون الهرب الا إلى الله، ولا تكون النجاة الا(2/99)
بالهرب اليه فمن هرب لغيره كان من الهالكين. كما بين لنا ان كل ما يجري في هذا العالم فهو بقدره فلا مهرب ولا نجاة مما خلق وقدر إلا إليه.
بيان نبوي عملي:
روى أحمد وابن جرير عن حذيفة بن اليمان: ان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا حزبه أمر صلى. وفزع للصلاة. يعني إذا نزل به مهم أو أصابه غم فزع للصلاة، فبين لنا بالفعل أنَّ الفرار إلى الله بالتلبس بطاعته وصدق التوجه اليه، والدعاء والتضرع والخشوع له، والاستسلام لدينه وشرعه والاخلاص في عبادته والاعتماد عليه، وذلك كله موجود على أكمله في الصلاة التي هي عمود الدين ومظهر كماله. جعلنا الله والمسلمين من الفارين اليه والمقبولين لديه. آمين (1).
__________
(1) ش: ج1، م 15، ص2 - 10 غرة محرم 1358هـ - 1939م.(2/100)
خُلَاصَةُ تَفْسِيرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ
من درس الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ختم به تفسير القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــ
كلمة بين يدي التلخيص:
أكمل طرائق المتقدمين من علماء هذه الملة في تلقين العلوم- طريقة الإملاء. والإملاء نتيجة لاستحكام الملكة في العلم واستقلال الفكر فيه، أو سعة المحفوظ ورحابة آفاق الحافظة. واستحكام الملكة واستقلال الفكر وقوّة الحافظة مزايا تكاد تكون خالصة لعلماء سلف هذه الأمة لم يبلغ علماء الأمم الأخرى مدا حدهم (1) فيها ولا نصيبه.
وكانت وظيفة السامعين كتابة ما يُملى عليهم كلّه أو خلاصته، وكانت المحابر والأقلام والأوراق هي الأدوات اللازمة لروّاد مجالس العلم إلّا في مقامات مقابلة الأصول وضبطها. فهنا لا بدّ من إحضار النسخ الكاملة من الكتب.
ومن ثمرات تلك الطريقة المثلى في التلقين والتلقي كتب الأمالي في الحديث واللغة والأدب، وفي تراجم المحدثين والأدباء الشيء الكثير من ذلك، وإن لم يبق لنا الدَّهر منها إلّا الأقل من القليل.
ولما انتهى عصر الرواية بجمع روايات السلف في التفسير ورواياتهم للأحاديث والسنن ودونت أصول اللغة والأدب والعلوم المتفرعة عنها وجاء دور الاستغلال لها -نشأت عوامل الانحطاط في العلوم الإسلامية، وكان من أظهر مظاهرها جفاف
__________
(1) كذا بالأصل ولعلها مدى أحدهم(2/101)
القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم. وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له يحل الشيخ عباراته ويشرح معانيه. وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد.
ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء. وإنما ننعي على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها.
ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها وبيان وجوه النقص والكمال فيها وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرؤه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ وربط المعمولات بالعوامل البعيدة وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها. والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر، وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التَّاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم.
والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة:(2/102)
كان أقوم الناس على كتاب الجمل للخونجي. أو على كتاب التهذيب للبرادعي، أو على كتاب الشامل لابن الصباغ. كان نافذا في إقراء المحصّل للرازي. كان سديد البحث في مختصر ابن الحاجب الأصلي كثير المناقشة لعباراته. وأين سداد البحث وكثرة المناقشة في عبارة كتاب من تحصيل الملكة في علم؟ إن الأصولي الحقيقي هو الذي ينفق مما عنده أو يقرئه من أي كتاب كان. ولا يفتتن بكتاب عين هذا الافتتان، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي يفهم الفقه، لا الذي يفهم كتابًا في الفقه، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء التنقيح للقرافي على هذه الطريقة بالأصولي المحقق ..
ولقد حاول جماعة من العلماء الحفّاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي فلم ينجحوا لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى كتب في العلم. حاول ذلك الحافظ ابن حجر وهو أهل لذلك، ولكن أهل زمانه لم يكونوا أهلًا له، ونعى معاصره ابن خلدون المؤرخ طرق التلقين في زمنه وكثرة المؤلفات والمختصرات في العلم وعدّها عائقة عن التحصيل، وحاول ذلك بعد ابن حجر تلميذه الحافظ السيوطي وهو أهل لذلك على ما فيه من تبجح واستطالة، وقد شكا في بعض رسائله إخفاقه في هذه المحاولة بعبارة مرّة، ووصف انصراف الجمهور عنها بأنه من غلبة الجهل وكلال الهمم وضعف العزائم.
نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرّم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها. وكان الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده أعلى الحكماء صوتًا بلزوم إصلاحها وأبلغهم بيانًا لأضرارها وسوءاتها ومعايبها وأسدهم رَأيًا في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع وأكثرهم عملًا جديًّا في ذلك.
وكان من إصلاحاته العملية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان- رحمه الله- وهو من هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق(2/103)
الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عبارته.
ولكن السامعين لتلك الدروس- على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها ممّا لم تنطو عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلّا قليلا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد. ولو لم يقيّض الله محمد رشيد رضا لهذا العمل الجليل لضاع كله ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس وسدّد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله فأبقى لهذه الأمة تلك الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار.
مدّت حركة الاصلاح العلمي مدّها بعد موت الإمام، وانتشرت في الأقطار الإسلامية، وأسفرت عن إصلاح حقيقي لأساليب التعليم في المعاهد الحرّة، وعن إصلاح صوري في المعاهد الرسمية. ولا تزال الحرب قائمة في هذه المعاهد بين طلاب الإصلاح وبين أنصار الجمود، وستكون العاقبة للمصلحين بإذن الله. ولقد كان من حسن حظ الجزائر أن باعث النهضة العلمية فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد وضع أساس هذه النهضة على قواعد صحيحة من أول يوم، فسلك في درس كلام الله أسلوبا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى، مستمدا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ممّا هو مستمد من التفاسير وأسفارها. وقد قرأنا له في بعض افتتاحيات مجلة "الشهاب" أنه يعتمد في هذه الدروس على تفاسير مخصوصة في مواضيع مخصوصة، كالطبري في المأثور والكشاف للزمخشري في أسرار الإعجاز، وذلك صحيح ومفيد لمن يجعل فهوم الرجال مقاييس لفهمه ولا يعطيها أكثر من أنها فهوم تصيب وتخطيء، أما المعنى الصحيح لكتاب الله فيستجليه من البيان العربي والشرح النبوي ومن مقاصد(2/104)
الدين وأسرار التشريع، ومن عجائب الكون وسنن الله فيه ومن أحكام الاجتماع الإنساني. ومن تصاريف الزمن ونتائج العقول وثمرات العلوم التجريبية وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن بها على هذه الطريقة في القطر الجزائري فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيّدها بالكتابة، ولو وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخزاً لا يُقوم بمال، ولاضطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية. ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير على أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال.
ولما كان اليوم المشهود بختم هذه الدروس جمع أحد الحاضرين ما وعته ذاكرته وأمكنه تقييده من معنى درس الختم في تفسير المعوذتين وتصرف في ألفاظه بما لا يخرج عن معانيه إذ لم يكن من الميسور أن يلتقط الألفاظ كلها. فجاء بهذه الخلاصة التي ننشرها على الناس في هذا العدد (الخاص بالاحتفال) لافتين أنظارهم إلى أن هذه الخلاصة محيطة بمعاني الدرس مع تصرف ضروري اقتضته مساوقة ما كتب لما قيل.
استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد المأثور: الحمد لله إن الحمد لله. نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل، ونشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ثم عقّب بما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ به خطبته. وجرت عادة المحدثين والمفسرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير، وإن اختلفت الروايات في ألفاظه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم قال توطئة للدخول في تفسير المعوذتين ما معناه مع تصرف وتوضيح:(2/105)
بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بها دائرة بينهما موصوفة بأحدهما، ولا بد من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني، وحكمته المبينة في وجيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمة -وحكمة أخرى وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافغ والناقغ على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه.
والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة وسائق لها ومهيىء لما يظهر أنه من بدواتها.
وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع.
والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد. وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة. والمبصرات عند عروض الشبهة والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه. ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر. وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. وأعمال تثبت فاعلها على الحق. وأقوال يلفيها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة(2/106)
لتكون شهادة لها وعنوانًا عليها. والألسنة تراجمة القلوب فكان ممّا شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن. وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ بالله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.
أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُر خير منهن قط قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ برب الناس». وفي رواية أخرى في مسلم عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضًا وصف عقبة بن عامر بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. فتسمية هاتين السورتين بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة كأسماء جميع سور القرآن وقد يقال المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص. وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذًا من الشرك وهو أصل الشرور كلها ..
وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما. وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما ولنا فيما صح غنية عما لم يصح.
وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة. وهي ناحية التعوذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيهما ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له يا ابن عابس ألا أدلّك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون قال بلى يا رسول الله، قال قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس هاتين السورتين.(2/107)
فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به.
ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما، وهما كالسورة الواحدة. فما هي الحكمة في ختم القرآن بهما؟ وترتيب السور توقيفي ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة.
يستطيع ممارس القرآن ومتدبره ومتلقيه بالذهن المشرق والقريحة الصافية أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعًا ولكن أجلاها وأوضحها أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن. وتحصين لهذه النعم المنشالة من القرآن عليه أن يكدِّرها عليه كيد كائد أو حسد حاسد، فإن من أوتي الشيء الكريم ورزق النعمة الهنية هو الذي تمتدُّ إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء وتقذفه عيونهم بالشرر وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء ويشتد عليه تكالبهم سعيًا في سلبه منه أو تكديره عليه وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار نفاسة ما تملك تكون هدفًا لمكائد الكائدين وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري ومن أوتي القرآن فقد طوى الوحي بين جنبيه وأوتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين ومهوى أفئدة الكائدين فكان حقيقًا وقد ختم القرآن حفظًا أو مدارسة أو تلاوة أن يلتجىء إلى الله طالبًا منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم الذي كمل له وهذه النعمة الشاملة التي تمت عليه هذه حكمة.
وأخرى وهي أن من أوتي القرآن وتفقّه فيه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب وأحاط بالعلم من أطرافه وملك كنزه الذي لا ينفذ. وان من آفات العلم اغترار صاحبه به وقد يتمادى به الغرور حتى يسول له أن ما أوتيه من العلم كاف في وقايته من الأضرار ونجاته من الأشرار فكان من رحمة الله(2/108)
بصاحب القرآن ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به أن ختم بهاتين السورتين كتابه لتكونا آخر ما يستوقف القاريء المتفقه، وينبهه إلى أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلى الآن. وهي أنه مهما امتدّ في العلم باعه واشتد بالحكمة اضطلاعه. فإنه لا يستغني عن الله ولا بد له من الالتجاء إليه والاعتصام به يستدفع به شر الأشرار وحسد الحاسدين وكفى بهذه التربية قامعًا للغرور. وإنه لشر الشرور.
هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتبًا ترتيبه التوقيفي وبين هاتين السورتين في اتحاد موضوعهما.
وأما المناسبة الخاصة بين السورتين وبين سورة الإخلاص فهي أن سورة الإخلاص قد عرَّفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد. فإذا قرأت القرآن وتدبّرتَه على ترتيبه ووجدت توحيد الله منبثًا في آياته وسوره متجليًّا ذلك التجلي الباهر بمعارضه وصوره مادا ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع - كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد وكأنها وصية مودعّ مشفق بمهمّ يخشى عليك نسيانه فليعمد فيها من الكلام إلى ما قلّ ودلّ ولم يملّ.
ومن صدقك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه بصدق معاملتك لله وإخلاص توحيدك إياه. فأنت وقد آمنت وصدّقت وخرجت من سورة الإخلاص متشبعًا بمعانيها ومنها معنى الصمد - تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدّرة بالشرور. وأن لا ملجأ إلّا ذلك الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد. فَتَجِيءُ المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الالتجاء الذي هو من تمام التوحيد.
ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاث جمع بينهنَ التَسْمِيَةِ، ففي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث عن نفسه بالمعوذات وسياق النسائي لحديث عقبة بن عامر المتقدم أن رسول الله(2/109)
قرأ وقرأت معه الإخلاص ثم قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فلما ختمهن قال: ما تعوّذ بمثلهن أحد. وكما جمع - صلى الله عليه وسلم - بينهن في التسمية والتعوذ جمع بينهن عمليًّا في قراءة الوتر.
هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث.
...
سُورَةُ الْفَلَقِ:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1).
الأمر المفرد للنبي- عليه السلام-. ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدِّر في مثل هذا الأمر أيُّها الرسول أو أيُّها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي- عليه السلام-، وأن لا نقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه والأمر لنبيّنا أمر لنا لأننا المقصودون بالتكليف ولا دليل على الخصوصية فهو في قوّة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون.
وأعوذ: أستجير وألتجيء ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء، كأستجير. والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام، وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي: يعوذون برجال من الجنّ (2) ومن كلام العرب: قد استعذت بمعاذٍ (3).
والرب: الخالق المكوّن المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل.
__________
(1) 113/ 1 الفلق.
(2) وتمام الآية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} وهي 72/ 6 الجن.
(3) في الأساس (عوذ): لقد عذت بمعاد.(2/110)
والفلق: الفجر المفلوق المفري، ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم.
ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن فالق الإصباح، وفالق الحَبّ والنوى، فهما من أسمائه تعالى.
ومواقع هذه الألفاظ التى تضاف إلى كلمة رب في القرآن كمواقع أسماء المخلوقات التى أقسم بها الله، كلاهما عجيب معجز، فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوّة وفي معناه وضوحا وجلاء، وسر إضافة الفلق إلى ربّ هنا أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأرواق. فإذا جاء الصبح حصل الانفلاق. والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة. ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلّا أنوار الخير والهدى والحق من خالقها، وفالق أنوارها. وكما أضيف الفلق، بمعنى الفجر، إلى كلمة رب هنا أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ}.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1).
من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلّا كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم الناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق. ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة. ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة فهي في نفسها خير، فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلا الخير فهي
__________
(1) 113/ 2 الفلق(2/111)
الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانًا أو دائمًا فعملها هو الشر وهو المستعاذ منه. وتصخ نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف، فالله لا يرضى بالشرّ ولا يكلف به، وقصارى إبليس -وهو مادة الشر في هذا الوجود- أن يزيد الشر ويلبسه بالخير. فالشر بيد الله خلقة وحكمة لا رِضًا وتكليفًا، والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمرًا.
وقد يكون الشرّ ذاتيًا لا ينفك، وقد يكون نسبيًّا باعتبار حالة تعرض واتجاه يقصد ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شرًا وبلاءً بسبب سوء تصرفهم فيها، كالمال الذي سماه الله خيرًا في القرآن - يكسبه صاحبه من الوجوه الشرعية وينفقه في الوجوه المشروعة. ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه فيكون خيرًا بذاته وبعمل صاحبه. ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شرًا لا من ذاته بل من عمل صاحبه.
وهذا العالم الإنساني المكلف هو الذي يتجلّى الخير والشرّ في أعماله. ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقًا. وإنما عيب عليه الشر وقبح منه لأنه قادر على تمييزه واجتنابه ومكلف بذلك، وقد وضع له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وَوَضَّح له أن الخير ما نفع وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أُوتي قوّة التمييز لم يؤت قوّة الاستعصام ابتلاء من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامدًا متعمدًا وهو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز، والخير والشر لا يوزنان بميزان حيي يستوي الناس كلهم في إدراكه وقد تَدِقُّ الفوارق بينهما حتى تخفى، وفي هذه المواقف يجب الالتجاء إلى الله ليرينا الخير خيرًا ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء، وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح تندفع ألسنتنا ونقول:(2/112)
{أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}.
وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين رب والفلق، فإن ربَّ الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
ومناسبة أخرى: وهي أنَّ الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان.
هذه الثلاثة هي: الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد. والغاسق: الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة. ووقب: دخل في الوقب، وهو النقرة في الشيء. والنفاثات: السواحر ينفثن الريق واللفظ، جمع نفاثة، كثيرة النفث.
والعقد: جمع عقدة، بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين. فالثلاثة كما ترون شرها خفي،(2/113)
وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره. فيعسر التوقّي منه والاحتياط له. لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن لا ما يخفى ويستتر. لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص، أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور. والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر. بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيا لهما. ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الإثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه. فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد. ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد، فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد. وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد. الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظّلم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبا باسفار من أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلو لك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب. والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني. وفائدة القيد حينئذٍ أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم. فالطارق يطرق والسارق يسرق والحيات تنتهش، والضواري تفترس. وظلام الليل يستر ذلك كله ويعين عليه ويعوق عن الاستسراح والاستنجاد، والعرب تقول في ما يشير إلى هذا: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ.
فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال شرٌ يقع في زمان، والاحتمال(2/114)
الثاني أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسّيًّا فيقتضي ظرفًا مكانيًّا، وما هذا الظرف إلّا الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها ويكون دخوله فيها أبين من دخولها في الفضاء وملؤه إياها أشد، فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء خصوصا من الآدميين، والمستعاذ منه شر يقع في مكان، وعلى الاحتمالين لما كان الليل معوانًا لذوي الشر على شرهم أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه. والنفاثات: صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلًا كان أو امرأة، وأما للنساء وخُصِّصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهُنَّ به أشهر. والنفث: إخراج الهواء من الفم مدفوعًا بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل، والنفث وإن كان عامًا لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطًا ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم وينفثون على كل عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلّا لأنه يؤثّر في بعض النفوس القابلة للتأثر به، حاش النفوس المعصومة كنفوس الأنبياء، فإن شرور الدنيا وأسوأها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني.
ونحن نعتقد دينًا أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده. ونقطع علمًا وتجربة أن للقوى النفسية تأثيرًا أعظم من تأثير القوى الجسمانية، وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون وتأثير التنويم في المنوّم، وأن التأثير والتأثر النفسانيين(2/115)
يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوّة وضعفًا، وأن تأثير العين ليس من ذاتها وإنما هو من النفس التي من وراء العين، ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تُحدث ذلك الأثر، وإن هذا التأثير لون من ألوان النفس، فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيرًا، وإن كانت شريرة كان شرًا. فالنفث المذكور في الآية إنْ أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم. وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة. هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة، وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه، يبدأ برأسه ووجهه، يفعل ذلك ثلاث مرات، فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله، ثم قالت في تمامه: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك. وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها. وفي رواية مسلم عنها: أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله.
فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها. وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة. والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من(2/116)
روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحرلك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادِّي. وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة. ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا ((تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل)) ثم رفعها وقال: «بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا».
...
[بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع]:
إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون، وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصف القرآن: «لا تنقضي عجائبه».
والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات، لم يأت مصداقها أو تأويلها(2/117)
بعد. يعنون أنه آتٍ وأن الآتي به حوادث الزمان ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه.
ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا تراهم يقولون؟
يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بِرِيق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شفاء ما بعده من شفاء.
ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال في التراب مكروب. وفي الريق مكروب. فأنَّى يشفيان مريضا أو ينفسان عن مكروب.
ويقول الكيمياوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل.
ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمدًا رسول الله. فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تشفي من القروح والجروح. ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له. وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به وليقرر لهم من منن الوطن منة كانوا عنها غافلين. فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تُغذي وتُروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تَشْفي، فليس هذا الحديث إرشادا لمعنى طبي ولكنه درس في الوطنية عظيم. ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب فإنه بباب حب الوطن أشبه، وما نرى رافع لعقيرة بقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذْخر وجليل
وهل أرِدَنَّ يومًا مياه مجنة ... وهل يبدوَنَّ لي شامة وطفيل(2/118)
إلّا سائرًا على شعاعه. وما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك؟ فقال: شمة من تربة اصطخر. وشربة من ماء نهاوند إلّا من تلامذة هذا الدرس، ولقد زادنا إيمانًا به بعد ايمان أنه يقول: تربة أرضنا بريقة بعضنا، يقل: تربة الأرض بريق بني آدم، فليس السر في تربة وريق ومرض، ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوطنية والقومية لا ما يتبجح به المفتونون.
ويقول الروحانيون: إن هناك روحًا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوّها وهوائها. من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية. فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني. وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب.
ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول، فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون، والعلوم حرف العقول، والزمان من وراء الكل يصيح أن انتظروا ...
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1).
الحاسد: الذي قامت به صفة الحسد. وهو الذي يُحب أن تسلب النعم من غيره وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزين له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد
__________
(1) 113/ 5 الفلق(2/119)
ويتمنى أن لا يبقى على وجه الأرض منعم عليه. وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلًا لنعم الله، وكفى بهذا محادة للمنْعِم.
والحسد شر تلازمه شرور، العجب والاحتقار والكِبْر، وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها حسد آدم عجْبا بنفسه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (1)، ورآه لا يستحق السجود احتقارًا له فقال: أهذا الذي أكرمْتَ علي ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي، ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إمامًا.
والحسد شر على صاحبه قبل غيره لأنه ياكل قلبه ويؤرق جفنه ويقضّ مضجعه، ولا يكون شرًا على غيره إلا إذا ظهرت آثاره بأن كان قادرًا على الإضرار أو ساعيًا فيه، ولهذا قال تعالى: {إِذَا حَسَدَ}. والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلا العجز. وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين، ونعمة العافية والعلم، والجاه والحكم وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء للغزالي (1).
...
__________
(1) 7/ 11 الاعراف و 38/ 76 ص.
(2) 20/ 131 طه.
(3) ج 4، م4، ص 186 - 212
غرة ربيع الثانى وجمادى الأولى 1357 - جوان جوليت 1938(2/120)
سُورَةُ النَّاسِ:
قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (1).
قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان) وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما. أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفلق. والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة.
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول. وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يرديه من القبائح ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك. ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود(2/121)
ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منَّ به عليهم فيما ينفعهم، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وأصله من ربه يربه ربا، إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال. ولفظه المصدر ولكن معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل.
ومَالِكِ النَّاسِ: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، وبشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.
وإِلَهِ النَّاسِ: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني، فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية، والثانى: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك، والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية.
والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (1) أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. وكقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
__________
(1) 2/ 267 البقرة.
(2) 38/ 82 ص.(2/122)
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (1). وكقوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (2). فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها. والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه. ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير، وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما، فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال. وقد ضلُّوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته .. ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ويصدّوهم بذلك عما شرع الله. وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها(2/123)
ما دام لا يملك لنفسه ذلك وما دام محاسبًا عليه وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء.
ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (1).
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} (2) - الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة، وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء. والعرب
__________
(1) 2/ 13 البقرة.
(2) 114/ 4 الناس(2/124)
تسمي حركة الحلي وسواسًا، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكي الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات. وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون لكلمة الحق مجلجلة ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا ويستترون إذا فعلوا ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات. ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا وهجومًا وانتهازًا واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (1). يرشدنا بذلك لنعِدَّ لكل حالة من حالاته عدتها. ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها، كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام. وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ، وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}: قال يوسوس
__________
(1) 7/ 16 الأعراف(2/125)
بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها. وقال: فِي صُدُورِ النَّاسِ. والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى. والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1).
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح والحرج والضيق والشفاء والإخفإء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى.
وقال: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقبًا.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين. واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (2) ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه.
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة،
__________
(1) 22/ 46 الحج
(2) 7/ 183 الأعراف(2/126)
إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعضٍ زخرف القول، وشيطان الجن ميسر للشر فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء.
وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1) وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} (2) وهو من باب توزيع الجمع على الجمع، أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس يزينون له ما بين يديه وما خلفه ويصدّونه عن ذكر الله فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجى إلى الله ويستعيذ به ويتذكر فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (4).
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخِّر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن
__________
(1) 43/ 36 الزخرف.
(2) 41/ 25 فصلت.
(3) 7/ 199 الأعراف و41/ 36 فصلت.
(4) 7/ 200 الأعراف.(2/127)
في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح. وفي آية (الناس) قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرَّ. فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرا منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبيإء عليهم الصلاة
والسلام.
فإلإنسإن إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال.
...
انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته (1).
__________
(1) ش: ج4، م14، ص 206 - 212
غرة ربيع الثاني وجمادى الأولى 1357 - جوان جويلية 1938.(2/128)
حَوْلَ كَلِمَاتِ الْأُسْتَاذِ الْكَبِيرِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الزِّيْنَةِ وَالسَّتْرِ
-1 -
نشرت جريدة " الزهرة " الغراء حديثا لفضيلة العلامة الكبير الشيخ محمد بن يوسف المفتي الحنفي بحضرة تونس، أفضى به لأحد محرري جربدة " اللواء التونسي"، فرأينا في بعض ما قاله الاستاذ نظراً لا ينبغي السكوت عليه فكتبنا عليه ما يلي:
قال الحرر: " ثم تلا- الاستاذ- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ .. } (1) الآية، يقال للمرأة إذا زال ثوبها عن وجهها: أدني عليك من ثوبك، أي استري وجهك، وتلا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .. } الآية قلت- المحرر- وما المراد من الزينة؟ قال: الزينة هي الوحه إذ الوجه هو مناط جمال المرأة".
فظاهر من مساق تلاوة الاستاذ للآية ان يستشهد بها على وجوب ستر الوجه. وظاهر من السؤال انه عن المراد بلفظ الزينة من:
__________
(1) 33/ 59 الأحزاب.
(2) 24/ 31 النور.(2/129)
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وظاهر من الجواب أنه فسر الزينة بالوجه في قوله: {زِينَتَهُنَّ}.
ولو ذهبنا على هذا الرأي في الاستشهاد والجواب لكان تقدير الآية هكذا، ولا يبدين وجوههن الا ما ظهر من وجوههن. وهذا لا قائل به وتكاد لا تكون فائدة لمعناه.
والصواب: أن الذي فسر بالوجه والكفين-لا بالوجه فقط- هو لفظة "ما" في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وهي واقعة على الزينة الظاهرة. إذ الزينة منها باطن كالسوار للذراع والدملج للعضد والقُرط للأذن والقلادة للنحر والخلخال للساق، ومنها ظاهر كالكحل للعين والخاتم للأصبع. والزينة هي هاته الأشياء المتزين بها ونحوها. فتعلق بها هذا الخطاب باعتبار محالها فالمقصود محالها بدليل انها إذا لم تكن في محالها لا يتعلق بها هذا الخطاب وقد جاء تفسير الزينة الظاهرة عن السلف مرة بالوجه والكف ومرة بالكحل والخاتم، والثاني راجع للأول لأن الوجه محل الكحل والكف محل الخاتم، فالثاني فسر على حقيقة اللفظ والأول على المراد.
ولما قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} عمَّ اللفظ الباطنة والظاهرة. ولما قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} خص الظاهرة فجاز ابداؤها وبقيت الباطنة على المنع. وأفادت الآية منع كشف العنق والصدر والساق والذراع وجميع الباطن، وأباحت كشف الظاهر، وهو الوجه والكفان، إذ هما ليس بعورة من المرأة بإجماع.
فبان بهذا بطلان تفسير الأستاذ الزينة من {زِينَتَهُنَّ} الوجه، وبطلان استدلاله بالآية على وجوب ستره، إذ هي بالعكس دالة على جواز ابدائه بحكم الاستثناء الصريح.(2/130)
ونرى أن نزيد المقام تقريراً وتوضيحاً بما ننقله عن إمامين كبيرين في الحديث والفتوى: الإمام الجصاص الحنفي والقاضي عياض المالكي. ثم عن إمام دار الهجرة.
قال الجصاص: - وهو يريد {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} -. "وقال أصحابنا: المراد الوجه والكفان، لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف، فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين. ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين، فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة. وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة".
وقال عياض " في هذا كله- وهو يعني حديث نظر الفجأة- عند العلماء حجة انه ليس بواجب ان تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب وسنة لها. وعلى الرجل غض بصره عنها إلى ان قال: ولا خلاف ان فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ من الاكمال بنقل المواق. ونقل صدره النووي وأقره.
وفي الموطأ: (سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ فقال: ليس بذلك بأس، إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال. قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يواكله أو مع أخيها على مثل ذلك).
فمالك يرى جواز مواكلة المرأة للأجنبي إذا لم تكن في خلوة معه، بأن كان ذلك بحضرة زوجها أو أخيها مثلا. وهي تقتضي ابداء وجهها وكفيها للأجنبي إذ ذلك لازم عند المواكلة كما قاله الباجي وأقره.
فهذه النقول كلها مفيدة لما دلت عليه الآية من أن الوجه والكفين(2/131)
ليسا بعورة وأنه لا يجب على المرأة سترهما. نعم نصَّ أكثر الفقهاء المتأخرين مع جميع المذاهب على أن المرأة يجب عليها ستر وجهها إذا خشيت منها الفتنة، وهذا حكم عارض معلل بهذه العلة، فيدور معها وجودا وعدما. ولذا لنا كانا نتحقق الفساد بسفور نساء المدن والقرى - وحالتنا هي حالتنا- لا نرى لهن جواز السفور ما دامت هاته الحال، ونعرف نساء جهات في بادية قطرنا لا يسترن وجوههن وليس بهن فساد ولم تقع بهن من فتنة، فلما سئلنا عن سفورهن اجبنا بتركهن على حالهن أخذاً بأصل الجواز.
إننا بما كتبنا أردنا اعتراض عبارة الأستاذ وبيان الحكم الأصلي لستر الوجه والكفين والحكم العارض، وتد بينا ذلك حسب المستطاع. وبقي الكلام على آية الإدناء التي ربما تظن معارضتها لآية الابداء المتقدمة وسنتكلم عليها في العدد الآتي إن شاء الله.
-2 -
نعيد اليوم- وقد عدنا إلى تمام هذا الوضوع- ما كنا صرحنا به في القسم الأول من قولنا: " ... فهذه النقول كلها مفيدة لما دلت عليه الآية من أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأنه لا يجب على المرأة سترهما. نعم نص أكثر الفقهاء المتأخرين مع جميع المذاهب على أن المرأة يجب عليها ستر وجهها إذا خشيت منها الفتنة، وهذا حكم عارض معلَّل بهذه العلة فيدور معها وجوداً وعدماً. ولذا لما كنا نتحقق الفساد بسفور نساء المدن والقرى- وحالتنا هي حالتنا- لا نرى لهن جواز السفور ما دامت هاته الحال. ونعرف نساء جهات في بادية قطرنا لا يسترن وجوههن وليس بهن فساد ولم تقع بهن من فتنة فلما سئلنا عن سفورهن اجبنا بتركهن على حالهن أخذاً بأصل الجواز". نعيد هذا ليتقرر مما نريده عند قارئنا بجلاء تام.(2/132)
قد فرغنا في القسم الأول من الكلام على آية الإبداء وهي آية قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ونريد أن نتكلم في هذا القسم على آية الإدناء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وفي هذه الآية تفسيران أخذ الاستاذ بأحدهما وهو مرجوح في نظرنا بما نقيمه من الأدلَّة على مرجوحيته، وسنتكلم على الآية في ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: في معنى الإدناء والجلابيب:
الإدناء من الدنو وهو القرب، فالإدناء التقريب، فيدنين عليهن من جلابيبهن بمعنى يقرِّبن عليهن، وأصل فعل دنا أن يتعدلى بمن، تقول: دنوت منه وأدنيته منه، وإنما يتعدى بعلى إذا كان في الكلام معنى الارخاء أو الضم كما في قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} (1) وكما في: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}.
والجلباب- على اختلاف عبارات اللغويين في تفسيره- هو الثوب الأعلى الذي تجعله المرأة فوق رأسها وترسله على بدنها كالملحفة ونحوها.
و"من" للتبعيض لأن الذي تدنيه عليها من ناحية وجهها. إنما هو بعض جلبابها.
فأفادت الآية طلب تقريب المرأة بعض جلبابها وإرخائها وضمه عليها
__________
(1) 76/ 14 الدهر.(2/133)
من ناحية وجهها. وهذا محتمل لأن يكون بتغطية جميع الوجه وبتغطية بعضه. واختلاف المفسرين من السلف في معنى الآية دليل على وجود هذا الاحتمال. وما نقله الاستاذ بالمعنى من تفسير الزمخشري هو أحد الوجهين المحتملين وأجود ما نقل عن أئمة العربية في تفسير الآية قول الكسائي: "يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن" قال الزمخشري: "أراد بالانضماه معنى ادناء" والتقنع لا يقتضي ستر الوجه كله.
المبحث الثاني: في اختلاف المفسرين من السلف:
في الآية قولان لهم نقلهما ابن جرير في تفسيره الشهير.
الأول - هو أن يغطين وجوههن ورؤسهن فلا يبدين منهن إلاَّ عيناً واحدة. وهذا قول عبيدة وقول ابن عباس من طريق أبي صالح.
الثاني- أُمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن، وهو قول قتادة وقول ابن عباس من طريق محمد بن سعد.
المبحث الثالث: في الترجيح:
قد مضت آية الابداء مفيدة جواز إبداء الوجه والكفين على مقتضى ما تقدم من البيان، وجاءت بعدها هذه آية الادناء محتملة لطلب ستر الوجه كله كما في القول الأول. وتكون عليه معارضته لآية الابداء المتقدة. تلك تبيح كشف الوجه وهذه تُحْظره، ومحتملة لطلب الارخاء والضم لبعض الجلباب على بعض الوجه وهو الجبين كما في القول الثاني ولا تكون حينئذ معارضة لآية الابداء.(2/134)
وحملها على ما لا تكون به معارضة بين الآيتين- وهو الوجه الثاني- أرجح وأولى إن لم يكن متعينا.
ثم ان قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} يفيد أن علة طلب الادناء هي تمييزهن عن الاماء اللاتي كن يمشين حاسرات أو بقناع مفرد فيتعرضن لهن أهل الشطارة والسفهاء. وفي الادناء على الوجه الثاني في الآية تحصيل لهذا المقصود من التمييز، فحملها عليه مناسب للعلة وسالم من المعارضة فهو المختار.
وبهذا التقرير تكون كل آية مفيدة معنى غير الذي أفادته الأخرى، فآية الابداء أفادت طلب ستر الأعضاء إلا الوجه والكفين، وآية الادناء أفادت طلب الستر الأعلى الذي يحيط بالثياب ويعم الرأس وما والاه من الوجه وهو الجبين وينضم على البدن، ليحصل به تمييز الحرائر بالمبالغة في التستر والاحتشام. وهذا هو المناسب لجوامع كلم القرآن والله أعلم (1).
__________
(1) ج 3، م 5، ص 19 - 21
غرة ذي القعدة 1347هـ - أفريل 1929.(2/135)
كَلِمَةُ الْمُحْتَفَلِ بِهِ
ختم الاستاذ عبد الحميد بن باديس حفلة تكريمه بكمة بليغة شكر بها الوفود الحاضرة، وعاد بهم إلى الماضي فوزع معاني التمجيد والتكريم التي تجلت عنها الحفلة- على الأصول التي كونته. فكانت كلمته درسا في التواضع وعرفان الجميل عرف منه الحاضرون ناحية نفسية من أخلاق الأستاذ المحتفل به. وقد حافظنا ما استطعنا على معاني تلك الكلمة إذ فاتنا أن ننقل ألفاظها، قال حفظه الله (1):
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الإخوان:
أنتم ضيوف القرآن. وهذا اليوم يوم القرآن. وما أنا إلا خادم القرآن.
فاجتماعكم على تنائي الديار وتباعد الأقطار هو في نفسه تنويه بفضل القرآن ودعوة جهيرة إلى القرآن في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعوة المسلمين إلى قرآنهم. فهل علمتم أنكم باحتفالكم هذا قمتم بواجبات أهونها ما سميتموه احتفالا بشخصي.
إن أقوال خطبائكم وشعرائكم كلها في الحقيقة اشادة بيوم القرآن ووفود القرآن وكل ما لي من فضل في هذا فهو أنني كنت السبب فيه.
أيها الإخوان.
أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي. وبكل من له يد في
__________
(1) كلمة ألقاها الأستاذ الإمام ابن باديس بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.(2/136)
[صورة]
الشيخ عبد الحميد يلقي كلمة شكر للمحتفين به بمناسبة ختم القرآن
----------
[صورة] تمثل تقديم الهدايا لفضيلة الأستاذ عبد الحميد بمناسبة الاحتفال بختم القرآن(2/137)
تكويني. وان الانصاف الذي هو خير ما ربى عليه امرؤ نفسه- ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف التاريخي العظيم بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم على شخصي الضعيف من ثناء ومدح بالقول والفعل. فإني أشهد الله أنكم بالغتم في التحفي بي والتنويه بأعمالي، وأشهد أن هذا التحفي عسير عليَّ جزاؤه ثقيل علي حمله، فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر ووفيتها حقها من الاعتراف لها بالفضل توزعت حصصها من التنويه وتقاضت حقوقها من الثناء الذي أثقلتم به كاهلي. فأكون بذلك قد أرضيت ضميري وخففت عن نفسي.
إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربَّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة. ورضي لي العلم طريقة اتبعها ومشربا أرده وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا. وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر. ولأكل ما عجزت عنه من ذلك لله الذي لا يضيع جزاء العاملين.
ثم لمشائخي الذي علموني العلم وخطوا لي مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية، وهما من مشائخي اللذان تجاوزا بي حد التعليم المعهود من أمثالهما لأمثالي- إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة. أحد الرجلين الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله.
وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها وعهداً عهد بي إليَّ وأذكر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله فأجدني مدينا لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدَّد عليَّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت ولا أتخذ علمي مطية لها كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.(2/138)
صورة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أخذت له بمناسبة الاحتفال بختم القرآن.(2/139)
وأذكر للثاني كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية وذلك انني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله. فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح.
فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها.
ثم لأخواني العلماء الأفاضل الذين وازوني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن حظ الجزائر السعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار أنه لم يجتمع في بلدٍ من بلدان الإسلام فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء وافرة الحظ من العلم مؤتلفة القصد والاتجاه مخلصة النية متينة العزائم متحابة في الحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألف بينها العلم والعمل- مثل ما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار فهؤلاء هم الذين ورى بهم زنادي وتأثل بطارفهم تلادي، أطال الله أعمارهم ورفع أقدارهم، ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير المنطوية على أصول الكمال ذات النسب العريق في الفضائل والحسب الطويل العريض في المحامد.
هذه الأمة التي ما عملت يوما- علم الله- لارضائها لذاتها. وإنما عملت وما أزال اعمل لارضاء الله بخدْمة دينها ولغتها ولكن الله سددها في الفهم وأرشدها إلى صواب الرأي فتبينت قصدي على وجهه وأعمالي على حقيقتها فأعانت ونشطت بأقوالها وأموالها وبفلذات(2/140)
صورة أخذنت بمناسبة ختم القرآن في قاعة كلية الشعب يقسنطينة يوم الإثنين 14 ربيع الثاني 1357هـ - 1938م.(2/141)
أكبادها. فكان لها بذلك كله من الفضل في تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر في تكويني العلمي.
ثم الفضل أولاً وأخيرً لله ولكتابه الذي هدانا لفهمه والتفقه في أسراره والتأدب بآدابه. وان القرآن الذي كوَّن رجال السلف لا يكثر عليه أن يكوِّن رجالاً في الخلف لو احسن فهمه وتدبره وحملت الأنفس على منهاجه.
أيها الاخوان.
إذا لم يكن لي في حياتي العلمية من لافت للقرآن إلا تلك الكلمة التي سمعتها من الشيخ النخلي، وقد فعلت فعلها في نفسي وأوصلتني في فهمي إلى الدرجة التي تحمدونها اليوم فإننا- والحمد لله- نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها. وان أعز ما وصلنا إليه هو تبين الغاية وتلاقي الجهود وفقنا الله واياكم للأعمال الصالحة ورزقنا الإخلاص فيها والثبات عليها إنه سميع مجيب (1).
كلمة الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس (2)
أيها الاخوان:
الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وايمان وجمال،
__________
(1) ش: ج4، م14، ص 288 - 291
غرة جمادى الثانية وربيع الثاني 1357 - جوان وجويلية 1938
(2) كلمات قالها بمناسبة احتفال ختم تفسير القرآن أيضا.(2/142)
أخذت هذه الصورة بمناسبة الاحتفال بختم الشيخ عبد الحميد لتفسير القرآن يوم الأحد 12 ربيع الثاني 1357هـ - 1938م في الجامع الأخضر بقسنطينة، وقد وقع الاحتفال في كلية الشعب.(2/143)
والعلم يمثل القوة، والفن يمثل الجمال وبهذا تحتفل بكم- ياضيوف القرآن- جمعيات قسنطينة الحيوية التي تمثل القوة والايمان والجمالى.
أيها الاخوان:
إذا كنت استمد القوة والحياة فإنما استمدهما ممن أولوني شرف الثقة والإخلاص لديني ولأمتي وأخص منهم الأسود الكبار، وهم إخواني الأقوياء من رجال العلم الذين اجدني مهما وقفت موقفا إلا وجدتهم معي كالأسود. وأما الاشبال الصغار فهؤلاء الأبناء الذين تشاهدونهم يحتفلون بكم الليلة. ولقد جاءت قسنطينة تحييكم بكبارها وصغارها. فذكراكم يا ضيوف القرآن خالدة وهي منقوشة في قلبي لا تفنى ولا تنمحي.
انني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما، وأنها لواجبات ... وإنِّي سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم.
وأطلب منكم شيئا واحداً وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن.
انا زارع محبة، ولكن على أساس من العدل والانصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان ومن أي دين كان، من كل جنس من كل دين.
فاعملوا للأخوة ولكن مع كل من يعمل للأخوة فبذلك تكون الأخوة صادقة (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 15، ص 346
غرة رجب 1358هـ - أوت 1939م.(2/144)
آثار ابن باديس
قسم الحديث(2/145)
الْفَنُّ الْأَدَبِيُّ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ.
كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الحَادِي، وَكَانَ يَحْدُو بِهِنَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ». رواه البخاري في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه وفي باب المعاريض وغيرهما من طريق أبي قلابة وثابت البناني وقتادة ثلاثتهم عن أنس - رضي الله تعالى عنهم- وسقناه من مجموع ألفاظهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الأشخاص:
انجشة غلام حبشي كان يحدو في السفر بالنساء كما كان البراء بن مالك يحدو بالرجال. أبو قلابة: إمام شهير من فقهاء التابعين نزل الشام ومات بها.
المفردات:
الحدو والحَداء: سوق الابل والغناء لها لتنشط وتسرع في السير. ويح: كلمة تقال لمن وقع في بلية أو توقعت له رحمة له، بخلاف ويل فإنها تقال لمن وقع في عذاب أو توقع له وهو يستحقه ولا يرحم فيه. وانجشة: هنا شارف أن يقع في بلية كسر القوارير فخوطب خطاب رحمة من الوقوع في ذلك. رويدك: مصدر مصغر(2/147)
بمعنى امهال القوارير، جمع قارورة، وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. القوارير: النساء.
التراكيب:
ويحك: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف لم يستعمل، وتقدير الكلام: هلكت هلاكك الذي تستحق عليه الرحمة. رويدك مثله وتقديره أمهل امهالك. ونصب سوقك على التوسع بإسقاط الخافض أي في سوقك، ولما كان يدعوه إلى الرفق اقتضى الحال أن يعبر عن المطلوب الرفق به، وهن النساء بالقوارير على طريق الاستعارة التصريحية حيث شبهن بها بجامع الرقة واللطف والضعف، وحذف لفظ المشبه وذكر لفظ الشبه به. فكانت اللفظة المجازية بالغة غاية البيان عن حالة النساء وكان التركيب بها بالغا غاية البلاغة باشتماله على ما اقتضاه حال الدعاء إلى الرفق مما صورهن بصورة تدعو إلى الرفق وتستوجبه.
المعنى:
لما غنى انشجة للإبل وعلى ظهورها النساء نشطت واعنقت في السير فاتعبتهن فأشفق النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهن فأمر انجشة بالرفق بهن لأنهن ضعيفات عن تحمل شدة الاضطراب فوق ظهور الإبل المسرعة.
الفن:
إدراك صفات الشيء على ما هي عليه من حسن وقبح إدراكا صحيحا، والشعور بها كذلك شعورا صادقا والتصوير لها تصويرا مطابقا، بالتعبير عنها بعبارات بليغة في الإبانة والمطابقة للحال ذلك هو الفن الأدبي، والنفوس تميل إلى الحسن وتنشرح له وتنفر من(2/148)
القبيح وتنقبض عنه، ولذا كان أكثر الفن الأدبي في تصوير الحسن وعرضه على الناس ليشاركوا الفنان في إدراك ذلك الحسن والشعور به والتذوق للذة ذلك الإدراك والشعور. وفي ذلك تربية لملكة الذوق الحسن في النفوس. وان النفوس لفي أشد الحاجة إلى تلك الملكة لتنعم بصور هذا الكون العظيم وما فيها من حسن فتقاوم بذلك ما تعانيه من متاعب الحياة وأوصابها وتدفع بلذة ذلك الشعور بالحسن ما تجده من آلامها، وإذا رجعت إلى القرآن العظيم فإنك تجد العدد العديد من آياته الكريمة يعرض علينا أنواعا من مخلوفات الله تعالى في صورها الحسنة الجذابة واقرأ في ذلك- مثلا- سورة الرحمن فإنك واجد ما قلناه. وكذلك في الأحاديث النبوية عدد كثير من مثل ذلك، ومنها هذا الحديث الشريف الذي بين أيدينا، فقد صور النساء في صورة حسنة جذابة بما في القوارير من بياض ولمعان ودقة ولطف مع التصوير لحقيقة حالهن في الضعف الخلقي وفي الضعف القلبي وسرعة انكسار قلوبهن وعسر انجبارها، فكانت هذه العبارة آية من آيات الفن الأدبي، التي تدخل على النفوس بهجة وانشراحا وتثير فيها حاسة الذوق للحسن والجمال. وقد القى كعب بن زهير قصيدته المشهورة في حضرة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فوصف المرأة والماء الذي مزجت به الخمرة والناقة وصورها تصويرا فنيا ولم ينكر عليها (1) لأنه لم يكن يصف شخصا معينا يؤدي وصفه إلى اثارة الشهوة البهيمية نحوه وإنما كان يعرض صوراً من محاسن تلك الأشياء التي تلذ للنفوس البشرية صورها الجمالية وتنمي فيها قوة الشعور والذوق.
الرد على المتشددين:
علم أبو قلابة- رضي الله تعالى عنه- تشدداً وتنطعا مما كان
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: عليه.(2/149)
حدثهم بهذا الحديث يحملانهم على الامتناع من الكلمات التي فيها بعض وصف النساء فرد عليهم بتكلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهذا (1) الكلمة التي لو تكلم بها أحدهم لعابوها عليه وبين لهم أن لا عيب فيها وفي مثلها مما لا فحش في لفظه ولا قبح في معناه ولا غاية سوء من ذكره.
فقه:
في الحديث سماع النساء لصوت الحادي وفيه للعناية بهن في السفر والرفق بهن فيه. وفيه التنبيه على المحافظة على قلوبهن وعواطفهن ليدوم ودَّهن وسلامتهن، ويدوم الهناء معهن والاستمتاع بهن لأنهن ضعيفات القلوب رقيقات العواطف شديدات الاحسان (2) يصبرن على كل شيء من الرجل إلا على كسر قلوبهن ومس عواطفهن، فهذا الحديث الشريف من الأحاديث الكثيرة التي جاءت في الوصاية بالنساء والمحافظة عليهن ومراعاة جانبهن، ويمتاز هذا الحديث بما فيه من ذكر السبب الذي يوجب ذلك ويقتضيه، على أبين تصوير وأبلغه فليكن دائما على بالنا، في معاملتنا للنساء وحياتنا معهن والله المستعان (3).
__________
(1) كذا في الأصل وصوابه: بهذه.
(2) كذا في الأصل والصواب: الاحساس.
(3) ش: ج 2، م 8 ص 75 - 79
غرة شوال 1350 هـ- فيفري 1932 م.(2/150)
الرَّاعِي الْغَاشُّ لِرَعِيَّتِهِ.
((عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ. إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)). (رواه مسلم)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابي الجليل والأمير الظالم:
معقل بن يسار (رضي الله عنه): أسلم قبل الحديبية وشهد بيعة الرضوان. سكن البصرة وبها مات في خلافة معاوية- رضي الله عنه- وحفر نهرا بالبصرة بأمر عمر- رضي الله عنه- وإليه ينسب، وفيه جاء المثل: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل).
عبيد الله بن زياد: أبوه زياد بن سمية، ألحقه معاوية بأبي سفيان فنسب اليه. ولَّى (عبيدَ الله) معاويةُ البصرة وأقره عليها يزيد. وعبيد الله هذا هو الذي جهز الجيوش لقتال الحسين بن علي- رضي الله عنهما- وهو ألزمهم بقتاله- قتله الله- وقد قتله إبراههيم بن الأشعث بعد، وخبره مذكور ومعروف.
ترك الموعظة خوف المفسدة:
كان معقل بن يسار يرى من ظلم عبيد الله بن زياد وغشه للرعية(2/151)
ولم يستطع ان يواجهه بما في هذا الحديث من الموعظة خوف أن يبطش به فتثور من أجل قتله أو إذايته ثائرة بالبصرة تؤدي إلى سفك دماء المسلمين دون ان تكف ابن زياد عن ظلمه فاتقاء لهذا لم يواجهه بالموعظة حتى جاء عبيد الله لعيادته وقد علم معقل أنه في مرض موته فاغتنم الفرصة وجابهه بالموعظة لما خلصت للمصلحة وأمن المفسدة.
ما الراعي وما الرعية:
الرعاية: حفظ الشيء وتفقد أحواله واعطاؤه ما يحتاج اليه وصرفه عما يؤذيه وما لا فائدة له فيه ووقايته مما يعدو عليه، وكل من جعل الله تحت يده شيئا من مخلوقاته فقد استرعاه ذلك الشيء أي: جعله في رعايته وطالبه وكلفه بأن يرعاه، فصار مسؤولا عنه عند الله، وما من بالغ عافل ذكرا أو انثى إلا وقد جعل الله شيئا في رعايته ولو لم يكن من ذلك إلا نفسه وعقله وبدنه، وأعظم بهما من شيء تجب رعايته. وهذا معنى التعميم في الحديث.
الواجب على الراعي في رعيته:
يجب على كل راع- بالتعميم المتقدم المستفاد من الحديث السابق- أن ينصح لما استرعاه الله من رعية في القول والعمل وان لا يدخر شيئا من جهده في حفظه وتفقد أحواله، واعطائه ما يحتاج اليه، وصرفه عما يؤذيه وما لا فائدة له فيه، ووقايته من كل ما يعدو عليه، وان يستصفي له من الآراء والأعمال والأقوال أبلغ ما يقدر عليه، فإذا قصر في شيء من هذا فقد غش رعيته بما يدخله عليها من الضرر في ولايته عليها وارتكب بذلك الكبيرة التي توعد عليها بالنار.
توجيه:
لما كانت أعظم الرعايات رعاية أمر العامة بالامرة والولاية حدَّث(2/152)
معقل بن يسار بهذا الحديث عبيد الله بن زياد لأنه كان أميرا لمصر عظيم، فيكون من أول من يشمله عموم لفظ: (ما من أحد). وهذا هو وجه تخريج مسلم لهذا الحديث في كتاب الامارة. واما اللفط فهو على عمومه.
الوعيد- معناه وشرطه وعمومه:
توعد الله على لسان نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- الراعي الغاش بتحريم الجنة عليه. والتحريم هو المنع ويكون موقتا موقوتا ويكون مؤبدا، فإن مات الغاش مستحلا للغش أو عوقب على اصراره بسوء الخاتمة- عياذا بالله- فتحريمها عليه مؤبد، وان مات مسلما مصرا فتحريمها عليه كل وقت، يدخل النار بغشه ثم يخرج منها بما في قلبه من ايمان {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وهذا المعنى- على تفصيله- عام بحسب صريح لفظه لكل راع غاش واقتضى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: «يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته» أن هذا الوعيد فيمن مات مصراً ولم يتب، فأما من تاب ولم يمت يوم مات على غشه فليس داخلا في هذا الوعيد. نعم ينجو التائب من غقوبة الغش بتوبته ولكنه تبقى عليه تبعات العباد وما ألحق بهم من ضرر وهي حقوق أخرى جنى عليها زيادة على أصل الغش. فلهما عقوباتها والقصاص عليها.
تطبيق:
كل من تولى أمراً من أمور الأمة فهو من رعاتها المسؤولين عنها المتوعدين بهذا الوعيد الشديد إذا غشوها على أي وجه كانت تلك الولاية من الوجوه التي تختلف باختلاف الأمم وأوضاعها ومما هو من أعظم الولاية على الأمة اليوم بحسب وضعها، النيابة عنها والتكلم بلسانها من أدنى درجات تلك النيابة إلى أعلاها. فليعلم هذا من(2/153)
يتقدم لهذه الولاية وليراقب الله فيها، كما على كل راع أن يعلم هذا الوعيد ويحذر ان يقتحمه.
نسأل الله لنا وللمسلمين أن يوفقنا إلى القيام بأحسن الرعاية في كل ما استرعانا من أنفسنا وغير أنفسنا (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 11، ص 204 - 206 ربيع الثاني 1354 هـ - جويليه 1935 م.(2/154)
إِتِّحَادُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ.
«الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري، ومسلم عنه أيضا إلى قوله بعضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
المؤمن، (ال) في اللفظين جنسية استغراقية، فالمراد جميع الأفراد. (للمؤمن): اللام لام الاختصاص. و (يشد): يقوي بعضه بعضا بالتضام والالتحام. (شبك): أدخل أصابع اليمنى بين أصابع اليسرى وأصابع اليسرى بين أصابع اليمنى.
التراكيب:
الجملة الأولى خبرية لفظا طلبية معنى، أي ليكن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وجيء بالطلب على صورة الخبر تنبيها على أن هذا المطلوب هوالشأن الذي لا ينبغي أن يكون سواه، فهو بحيث يخبر عنه لا أن يطلب. والجملة الثانية استئنافية لبيان وجه التشبيه.
المعنى:
الواجب على كل فرد من أفراد المؤمنين أن يكون لكل فرد من أفراد المؤمنين كالبنيان في التضام والالتحام، حتى يكون منهم جسد واحد كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».(2/155)
زيادة بيان:
لقد قرر الحديث الشريف معنى الاتحاد الذي يجب أن يكون بين جميع أفراد المؤمنين على أكمل وجه في التصوير وأبلغه في التأثير، فقد شبههم بالبنيان وذلك وحده كاف في افادة الاتحاد، وزاد عليه التصريح بالشد والتقوية ليبين أن في ذلك الاتحاد القوة للجميع تأكيدا للزوم الاتحاد بذكر فائدته، ثم زاد عليه التصوير بالمحسوس لما شبك صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه، هذا كله ليبين للمؤمنين لزوم الاتحاد وضرورته.
تبصر:
ألا ترى البنيان كيف يتركب من الحجارة الكبيرة والحجارة الصغيرة والمواد الأخرى التي تلحم بها الحجارة وتكسى، وكل ذلك محتاج اليه في تشييد البنيان، فكذلك بنيان المؤمنين فإنه متكون من جميع أفرادهم على اختلاف طبقاتهم، فالكبير والجليل له مكانه، والصغير والحقير له مكانه، وعلى كل حال أن يسد الثغرة التي من ناحيته مع شعوره بارتباطه مع غيره من جميع أجزاء البنيان التي لا غناء لها عنه كما لا غناء له عن كل واحد منها، فكل واحد من المؤمنين عليه تبعته بمقدار المركز الذي هو فيه والقدرة التي عنده، ولا يجوز لأحد وان كان أحقر حقير أن يخل بواجبه من ناحيته، فإنه إذا أزيل حجر صغير من بنيان كبير دخل فيه الخلل بمقدار ما أزيل، وإذا ابتدأ الخلل من الصغير تطرق للكبير. ثم ألا ترى أصابعك وفيها القوي وفيها الضعيف حتى إذا شبكتها صارت كشيء واحد له قوة ومتانة زائدة، وكل أصبع منها يمكن أن يلوى ما دام وحده، فإذا شبكتها عسر ليها وقوي أمرها، فكذلك المؤمنين باتحادهم- وفيهم القوي وفيهم الضعيف- تكون لهم قوة عامة زائدة، وكل واحد منهم بمفرده يمكن قهره، فأما إذا اتحدوا فإنهم يكونون بقوة اتحادهم في مأمن من كل قهر.(2/156)
تفقه:
لما قال صلى الله عليه وآله وسلم (المؤمن للمؤمن .. الخ) علق الحكم على الوصف فاقتضى ذلك أن هذا هو واجب كل مؤمن من حيث انه مؤمن مع كل مؤمن من حيث انه مؤمن، فيجب لهذا أن تطرح في مقام الاتحاد والتعاون جميع المفرقات من المذاهب والمشارب وينظر إلى وصف الايمان فقط، فهذه المذاهب وهذه المشارب أهلها كلهم أهل ايمان لا يدفع بعضهم بعضا عن ذلك، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أمرهم بالاتحاد والتعاون باعتبار الوصف الأصلي الذين هم مشتركون فيه ليكون الاتحاد والتعاون في مكنتهم دون التفات إلى ما أحدثوه من مفرقاتهم. فمن تعامى عن وصف الايمان الموجب للاتحاد ونظر إلى مذهب أو مشرب من موجبات الافتراق فقد عصى أبا القاسم- صلى الله عليه وآله وسلم- وحاد الله ورسوله وأعرض عن دعوة الحق وأجاب داعي الشيطان.
سلوك:
علينا أن نعتقد بقلوبنا أن الاتحاد واجب أكيد محتم علينا مع جميع المؤمنين، وأن فيه قوتنا وحياتنا وفي تركه ضعفنا وموتنا. وأن نعلن ذلك بألسنتنا في كل مناسبة من أحاديثنا. وأن نعمل على تحقيق ذلك بالفعل باتحادنا وتعاوننا مع إخواننا في كل ما يقتضيه وصف الايمان الجامع العام والله المستعان وعليه التكلان (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 7، ص 429 - 431 ربيع الأول 1350هـ - جويلية 1931م.(2/157)
دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْكَلِمَةُ الْمُنْتِنَةُ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» السند رواه الشيخان وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
كسعه: ضرب دبره بيده أو صدر قدمه. رجل ... رجلا: كان الرجلان من الموالي. يا للانصار، يا للمهاجرين: استغاثة من كل بقومه ومواليه لينصروه على الآخر. دعوى الجاهلية: الدعاء الذي كان يدعو به أهل الجاهلية بنعرة العصيبة لاثارة الحمية، يدعو الرجل قومه لينصروه ولو على الباطل. دعوها: اتركوها. منتنة: مكروهة في العقل والدين ككراهة الشيء النتن في الشم ومفرقة للجمع كما يفرق النتن المجتمعين.
المعنى:
كان الرجل في الجاهلية- إذا نزل له أمر- استنصر بقبيلته وتعضد بهم ودعاهم إلى معونته ونصرته، بما بينه وبينهم من عصبية قبلية فتثور حميتهم فيندفعون إلى مؤازرته فيؤيدونه ظالما أو مظلوما، فإذا كان ظالما زادوا في ظلمه وإذا كان مظلوما لم ينتهوا عند حد في الانتقام له من ظالمه، فلما جاء الإسلام أبطل الانتصار بالعصبية،(2/158)
والتعضد على الانتقام بالقبيلة. وجعل الحكم بالقضاء الشرعي والتوصل إليه بالبينات والحكام. فلو أن ذلك المكسوع كان ممن تأدب بالإسلام وتغلغلت روح الإسلام في قلبه لكان دعا بدعوى الإسلام فقال: يامسلمون قد ضربني هذا. وأقام عليه البينة وساقه إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليقتص له منه، ولما لم يكن كذلك وكانت الروح الجاهلية لا تزال منها عقابيل في صدره دعا بدعوى الجاهلية، وكان صاحبه مثله فقابله بمثلها، فلما سمع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منهما سأل عن السبب الذي أثار تلك الدعوى فلما عرَّفوه بسببها نهى عنها وحذر منها فأبرزها في أقوى صورة تنفر منها ابرازا للمعقول في صورة المحسوس لأنه أبلغ فى التأثير على السامع فوصفها بأنها منتنة.
الدعويان وأثرهما:
دعوى الجاهلية- يا بني عمي، أو يا قومي، أو يا أهل بلدي، أو يا أهل وطني- انتقموا لي. فإذا دعا بها وقعت التفرقة بين عشيرة وعشيرة أو بين قوم وقوم، أو بين بلد وبلد، أو بين وطن ووطن، وأثارت الحمية في كل واحدة من الناحيتين على الأخرى ودفعت إلى الإسر اف والتعدي فأوسعت الظلم والشر وأبقث الإحن والأحقاد والتّرات مما يسترسل معه الظلم والفساد في المستقبل. أما دعوى الإسلام فهي: يا عباد الله، أو يا مسلمون، إني ظُلمت فأنقذوني اشهدوا لي. فإذا دعا بها كانت جامعة لا تفريق فيها، وأهابت بالسامعين كلهم كذاتٍ واحدَةٍ كلهم ينصرون الحق فيكفوا الظلم إن كان واقعا على المظلوم في الحال ويشهدون بالظلم عند الحاكم ليجري العدل مجراه. فأين تلك الآثار من هذه الآثار؟ ولقد ظهرت آثار الأولى في الأمة العربية في جاهليتها، وظهرت الثانية فيها بعد إسلامها فأرى الله العباد- عيانا(2/159)
جهرة- اختلاف الأثرين في أمة واحدة في زمن قريب وأقام عليهم حجته. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تفرقة وتمييز:
كل من سعى إلى تحصيل شيء مستعينا بذوي عصبية له لنسبة جنس أو قبيلة أو بلد أو حرفة أو فكرة غير ناظر إلى أنه على حق أو على باطل، فقد دعا دعوى الجاهلية، وكل من أجابه فقد شاركه في دعواه. أما من عرف الحق وتيقن من نفسه الصدق في طلبه واستعان على تحصيله بمن تربطهم به روابط خاصة ولا يأبى أن يعينه عليه من لم يكن من جماعته، لأن قصده إلى تحصيل الحق بإعانة أي كان، فهذا لا يكون دعا دعوى الجاهلية بل دعا دعوى إسلامية لأنها لم تخرج عن التعاون على الحق وهو من التعاون على البر والتقوى.
استدلال:
ثبت في صحيح مسلم في غزوة حنين أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أبا عباس ناد أصحاب السمُرة) فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة؟ وكانت الدعوة: يا معشر الانصار يا معشر الانصار ثم قُصِرَت على بني الحرث بن الخزرج فصارت يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخنررج. فكانت الدعوة- في ذلك اليوم الشديد- لمن جمعتهم بيعة الرضوان، وهم أهل السمرة ثم لمن جمعهم اسم الانصار ثم لمن جمعهم اسم أب. وكان ذلك كله حقا لأنه دعوة إلى الحق.
تحذير وإرشاد:
ليحذر المسلم من كل كلمة مفرقة من كل ما يثير عصبية للباطل وحمية جاهلية، يدعو بها ولا يجيب من دعا إليها .. فإن بلاء كثيراً حل بنا وفتنة كثيرة أصابتنا من تلك الكلمات المفرقة.(2/160)
ولتكن دعوته- إذا دعا- بالكلمات الجامعة التي تشعر بالأخوة العامة وتبعث على القيام بالواجب بأيد متشابكة وقلوب متحدة. حتى إذا دعا جماعة خاصة يعلم منه نفعا خاصا في مكان خاص، فليكن بما يفهمهم أنه إلى الحق دعاهم وعلى القيام به استعان بهم دون إباية من انضمام كل من ينضم إليهم، فإنه ما توجه قوم إلى نصرة الله- ورضا الله قصدهم- إلا كان الله معهم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 13، ص 77 - 80 صفر 1356هـ- افريل 1937م.(2/161)
تَكْثِيرُ السَّوَادِ .. !
((مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))
عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، قَالَ: ((قُطِعَ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ)). ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ المُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} رواه البخاري في كتاب الفتن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
سواد القوم: أشخاصهم. قطع عليهم: بعث، فرض عليهم جيش يبعث للقتال. اكتتبت: كتب اسمه في جملة الجيش.
المعنى:
كان عبد الله بن الزبير قائما بمكة، وكان عبد الملك بن مروان، بالشام، والفتنة مشتعلة بين المسلمين، بسبب النزاع ما بينهما. فكان عبد الله بن الزبير يبعث البعوث من الحجاز إلى قتال عبد الملك بالشام ففرض على أهل المدينة جيشا، فكتب فيه أبو الأسود محمد ابن عبد الرحمن الأسدي اسمه ليكون من جملته. ثم لقي عكرمة مولى ابن عباس، فذكر ذلك له، فنهاه عكرمة عن أن يكون (1) في
__________
(1) في الأصل: أيكون.(2/162)
ذلك الجيش، وأخبره عن ابن عباس، بما كان من سبب نزول قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وهو أن قوما من المسلمين كان المشركون يخرجون معهم لا ليقاتلوا المسلمين، وإنما ليكثروا سواد المشركين، ويظهروا عظيم جيشهم، وكثرة عددهم في أعين المسلمين. فكانوا يقتلون بما يصيبهم من رمي السهام وضرب السيوف، فواخذهم الله لمجرد تكثيرهم سواد المشركين، وإن لم يشاركوهم في القتال، ولا حضروه طائعين، وانزل الآية الكريمة فيهم.
المطابقة:
ذكر عكرمة هذا لأبي الأسود لأنه أفاد حكم الله فيمن كثر سواد المقاتلين للمسلمين دون أن يقاتل، أو يكون راضيا أو طائعا بالحضور. فكيف بمن اكتتب للقتال مثل أبي الأسود؟ ولا فرق في المؤاخذة في قتال المسلمين بين أن يكون مع المشركين، أو مع المسلمين في الفتنة.
الأحكام:
من حضر مع قوم وكثر جمعهم فهو منهم وشريك لهم في عملهم، سواء أكان خيراً أم شرا، كما يفيده الحديث الذي جعلناه ترجمة. وهو في مسند أبي يعلي. فأما في الشر فالنص فيه حديث ابن عباس هذا، وأما في الخير فحديث أبي هريرة في الصحيح، في القوم الذين يجتمعون فيسبحون الله ويكبرونه ويهللونه ويحمدونه ويسألونه، ويستجيرونه ويستخبرونه ويستغفرونه فيقول الله للملائكة عليهم السلام، قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، فتقول الملائكة: ربِّ، فيهم فلان عبد أخطأ، إنما مر فجلس معهم فيقول تعالى: «وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».(2/163)
الاهتداء:
فحق على المسلم أن يختار من يصاحب من رفقة، أو يجالس من جماعة، أو يكثر من سواد قوم فإنه محاسب على أعماله، ومن أعماله مجرد حضور بدنه.
جنبنا الله الفتن ودعاتها، والمظالم وأهلها، وكثر بنا سواد المؤمنين وحشرنا في زمرة الصالحين آمين (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 15، ص 166 - 168
غرة ربيع الثانى 1358هـ- ماي 1939م.(2/164)
مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي
السنة:
قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ».
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ومسلم يحيى عن ابن يحيى عن مالك.
المتن:
روي بوجهين ثابتين: الأول فهو أهلكُهم برفع الكاف، اسم تفضيل، والثاني بفتح الكاف فعل ماض.
الألفاظ:
الهلاك: الاستحالة إلى الفساد وذهاب حالة الصحة والاستقامة التي تصدر عنها الفوائد، ويكون بها الاستعداد، يقال هلك زيد إذا مات، وهلك الطعام إذا تغير واستحال. فهلاك الناس فسادهم في أحوالهم بفساد عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك عنوان ذهابهم واضمحلالهم. وأهلكُهم على الوجه الأول أشدهم هلاكا، وعلى الوجه الثاني أوقعهم في الهلاك.
المعنى على الوجه الأول:
إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس، يعيبهم وينقصهم ويحقر من(2/165)
أمر جماعتهم، فقد صار بذلك أعظم هلاكا منهم لارتكابه معصية كبيرة تعدت إلى غيره وعمتهم، وهي معصية الكبر الذي هو احتقار المرء من عداه، فهذا قد تكبر على جميع الناس فكان عظم هلاكه على حسب عظم معصيته بهذا العموم في الكبر والاحتقار.
وعلى الوجه الثاني:
إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس يثبطهم ويقنطهم فهو بذلك التثبيط والتقنيط أيْأسهم من رحمة الله وصدهم عن الرجوع إليه وبالتوبة ودفعهم إلى الاستمرار فيما هم عليه، فأوقعهم بكلمته تلك في الهلاك، هلاك اليأس والقنوط والاندفاع في الشر.
الأحكام:
على الوجه الأول: لا يجوز الحكم على عموم الناس بالشر والفساد ولو كان ذلك ظاهراً بينهم فاشيا فيهم، لأنه حكم بدون علم، وظن سوء بمن قد يكون في غمار الناس على خلاف ما عليه أكثرهم. هذا إذا حكم حكما لمجرد الإخبار فأحرى وأولى إذا زاد على ذلك تحقيرهم.
وعلى الوجه الثاني: لا يجوز لمن رآى الناس في حالة سيئة أن يقنطهم من رحمة الله وإمكان تدارك أمرهم واصلاح حالهم. هذا إذا كان يحمله على ذلك ما تعظمه من سوء حالهم في ظاهر أكثرهم وأحرى وأولى إذا كان يحمله على ذلك صدهم وتثبيطهم عن التوبة والأخذ بأسباب الإصلاح.
توجيه:
كان الحديث الشريف مفيدا لعدم الجواز لما ذكر، لأنه سيق مساق الذم لهذا القول ووصف قائله بأنه أعظم الناس هلاكا أو أوقع الناس في الهلاك وما أدى إلى أحد هذين لا يكون إلا ممنوعا.(2/166)
ويؤيد هذا الحديث في المنع الأدلة الدالة على منع الحكم بدون علم. وظن السوء بالناس وتحقيرهم وتقنيطهم عن الخير وصدُّهم عنه.
تقييد وتعميم:
قد يقول الإنسان هلك الناس اشفاقا عليهم وتحزنا لما هم فيه فلا يكون مثل من قاله تحقيرا وتقنيطا غير أنه يبقى في عبارته ذلك التعميم الذي هو حكم بغير علم.
مع ما توقعه هذه العبارة من القنوط- خصوصا إذا تكررت- ولو لم يقصده القائل فلا ينبغي أن تقال هذه العبارة ومثلها من كل ما يفيد هلاك جميع الناس.
الآداب:
على الوجه الأول: على من يريد أن يرشد المسلمين ويعمل لإصلاح حالهم أن ينظر إليهم بعين الشفقة والحنانة لا بعين الزراية والاحتنقار. فإن الشفوق تدفعه شفقته إلى المبالغة في العناية بتتبع الأدواء واستقصاء أنواع العلاج، بخلاف الزاري المحتقر فإنه يترفع بنفسه عن الناس ويتركهم فيما هم عليه وإن باشر شيئا من معالجتهم فإنه يباشره من استثقال واشمئزاز لا يصل معهما إلى داء الأمة شيء من علاجه ولن يستطيع هو معهما صبرا على الاستمرار في عمله أو على إتقان القليل منه.
على أن الشفوق تشعر نفوس الأمة منه بتلك الشفقة فتقابله بمثلها وبالامتثال لما يأتيها منه لمعالجتها واثقة منه بنصحه منقادة لإرشاده راجية نيل الخير على يده.
والزاري المحتقر تشعر منه الأمة بذلك فتقابله بمثله وتنقبض نفوسها عنه وتقوي ريبتها في قوله وفعله وقد تصارحه ببعضه فتؤدي الحال(2/167)
بينهما إلى العداوة والمقاطعة. ويكون خيرا له لو تركهم من أول الأمر وشأنهم.
وعلى الوجه الثاني: على مرشدي المسلمين أن يعانوا أدواءهم بالعلاجات النافعة ويشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة في رفق وهوادة مجتنبين كل ما فيه تقنيط أو تثبيط، وأن يعرِّفوهم بأنهم- وإن ساءت نواح من أحوالهم- فهنالك (1) نواح ما تزال صالحة. وهنالك علاجات من الإسلام قريبة ناجعة وأن يعرفوا ما فيهم من فضائل وما لهم من مجد، وما لهم بهذا الإسلام من قدر وعز ليثيروا فيهم النخوة ويبعثوهم على العمل والخير. وإذا ذكروا لهم سيئاتهم ذكروا لهم قرب السبيل إلى النجاة منها بالإقلاع عنها فيسرعون بالتوبة والإنابة.
أصل عام في التربية:
هذا الحديث أصل عظيم في التربية المبنية على علم النفس البشرية فإن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب. وعندما تشعر بحقارتها وعجزها تقعد عن العمل، وترجع إلى أحطِّ دركات السقوط. فجاء هذا الحديث الشريف يحذر من تحقير الناس وتقنيطهم، وذلك يقتضي أن المطلوب هو احترامهم وتنشيطهم وهذا الأصل العظيم الذي دل عليه هذا الحديث الشريف يحتاج إليه كل مرب سواء أكان مربِّيا للصغار أم للكبار، وللأفراد أم للأمم، إذ التحقير والتقنيط وقطع حبل الرجاء قتل لنفوس الأفراد والجماعات، وذلك ضد التربية، والاحترام والتنشيط وبعث الرجاء احياء لها وذلك هو غرض كل مرب ناصح في تربيته.
__________
(1) في الأصل: فهالك.(2/168)
فاللهم صلي على هذا النبي الكريم العظيم الرحيم الذي علمته ما لم يكن يعلم وكان فضلك عليه وعلينا به عظيما، فكم من علوم وأسرار انطوت عليها أحاديثه الشريفة قد أتت على ما لم تعرفه البشرية إلاَّ بعد حين ولا عجب فهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (1).
__________
(1) ش: ج3، م 10، ص 99 - 102
غرة ذي القمدة 1352هـ- 15 فيفري 1935 م.(2/169)
نَظَافَةُ الطُّرُقِ وَالْمَجَالِسِ
أَوْ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ الْبَلَدِيَّةِ.
" قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ». رواه مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
اتقوا: اجتنبوا. اللعانين: الكثيرو اللعن، واللعن الابعاد من رحمة الله، واللعان في الحقيقة من يصدر منه اللعن بكثرة، وقيل في التخلي في الطريق والتخلي في الظل لعانان لأنهما سبب في صدور اللعن بكثرة من الناس لفاعلهما، فأسند ما في معنى الفعل إلى سببه مجازا. التخلي أصل معناه الذهاب إلى الخلاء، والمراد به هنا قضاء الحاجة البشرية من بول أو غائط، وأطلق التخلي عليها لأن الشأن أن تكون في الخلاء ففي اسمه أدب من آدابه.
المعنى:
إذا أردتم قضاء الحاجة فاجتنبوا الطرقات وانجتنبوا الأماكن التي اتخذها الناس للجلوس في ظلها، ومن تخلى في واحد من هذين فإنه يجلب على نفسه لعنا كثيرا.
الحكم:
التخلي في طرقات الناس وأماكن جلوسهم متعد عليهم مؤذ ظالم لهم فهو داخل في لعن الله للظالمين، وشأن الناس عندما يجدون القذر(2/170)
في طرقاتهم وأماكن جلوسهم أن يلعنوا من آذاهم بذلك، وهم مظلومون منه، فيكون لعنهم من دعوة المظلوم، ودعوة المظلوم مستجابة، فصار المتخلي قد أوقع نفسه في لعنة الله ولعنة الناس المظلومين، والذنب الذي يؤدي إلى هذا اللعن لا يكون إلا من الكبائر. فالتخلي في طربق الناس أو في ظلهم كبيرة من الكبائر.
تعميم:
تشمل الطرق الطرق إلى البيوت والأسواق والقرى وموارد الماء والطرقات كلها ومثل المكان الذي اتخذه الناس للجلوس في ظله كل مكان اتخذوه للجلوس فيه لمنفعة من منافعهم فيدخل في ذلك الأسواق والمنتزهات وغيرها، فكل ذلك مما يحرم التخلي فيه ويلحق بالتخلي وضع القذر والوسخ والزبل والشوك وكل ما فيه مضرة لما في الجميع من التعدي والإذاية.
تتميم:
كما انتظم الحديث الصحيح المتقدم النهي عن تقذير الطرقات والأماكن العامة بذلك الترهيب الشديد كذلك جاء الترغيب في تنقيتها وإزالة الأذى عنها شاملا ذلك ما كان من المستقذرات وغيرها من كل ما فيه أذى، فقد ثبت في الصحيح اأن أبا برزة الأسلمي- رضي الله عنه- قال للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: يا نبي الله علمني شيئا انتفع به، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعزل الأذى عن طريق المسلمين» وثبت قول صلى الله عليه وسلم: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره فشكر الله له فغفر له. وإذا كانت إزالة الأذى عن الطريق- ومثلها كل مجتمع عام- فيها الأجر والمثوبة فوضع الأذى فيه الاثم والعقوبة.(2/171)
تطبيق:
من أحسن المصالح التي يقوم عليها اجتماع الناس في التمدن الحاضر وألزمها، مصلحة التنظيف في الإدارات البلدية، وأنت ترى أن الأحاديث النبوية المتقدمة قد انتظمت ذلك التنظيف بالترهيب من التقذير وكل مؤذ، والترغيب في إزالتها، فوضع الإسلام بذلك أصل هذه المصلحة قبل أن يعرفها تمدن اليوم، فعلى المسلم أن يلتزم ذلك كأمر ديني يثاب عليه عند ربه ليكون دافعه إلى القيام به من نفسه ورقيبه في تنفيذه ضميره الديني وإيمانه، وقد شهد التاريخ لمدن الإسلام أيام مدنيته الزاهرة بانفرادها بين مدن عصرها النظافة وحسن المظهر، وما ذلك إلا من تطبيق مثل ما تقدم مما وضعه الإسلام من أصول المصالح التي تقوم عليها الحياة ويترقى بها المجتمع. فعلينا- معشر المسلمين- أن نعني بما دعتنا إليه هذه الأحاديث النبوية الشريفة لنكون بين الناس مثلا حسنا راقيا في النظافة البلدية لنفع أنفسنا ومجتمعنا ونرفع اسم ديننا ونفوز بالأجر والرضى من ربنا.
وفقنا الله لإحياء معالم الدين، ورفع اسم الإسلام والمسلمين (1).
__________
(1) ش: ج4، م 11،
ربيع الثانن 1354هـ - جويلية 1935م.(2/172)
الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ
إِسْتِغْلَالَهُمَا وَالاِسْتِفَادَةَ مِنْهُمَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». (البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة:
النعمة: ما يفعل على وجه الإحسان ضد النقمة، وهي ما يفعل على وجه العقوبة. المغبون: المنقوص في حقه، أصله من غبن في البيع إذا نقص من حقه، ثم يستعمل في كل من نقص من حظه في كل شيء. الصحة: اعتدال المزاج وقوة البنية ضد المرض. الفراغ: الخلاء، ومصدر فرغ يفرغ إذا كان خاليا من الشغل، وهذا هو المراد.
التراكيب:
مغبون خبر مقدم لكثير والجملة نعمتان. والصحة والفراغ خبر لهما مقدر والجملة مستأنفة بيانيا.
المعنى:
إن كثيرا من الناس يكونون في صحة من أبدانهم وفراغ من أشغالهم ولا يعمرون أوقاتهم الفارغة بطاعة الله، ولا يستعملون أبدانهم الصحيحة فيها، فتضيع عليهم تلك الأوقات، وتلك الصحة باطلا فيخسرونهما، ولا يستفيدون منهما فيكون ما خسروه منهما نقصا في حظهم من حياتهم، وإذ كانت الحياة هي أغلى شيء عند(2/173)
الإنسان يحافظ عليه، ولا يبذل شيئا منه إلا بحقه، فهؤلاء الذين نقصوا حظهم في حياتهم هم أعظم المغبونين.
فقه الحديث ومقصوده:
عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه وكل لحظة ثمرة معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة، فقد غبن حظه منها وخسرها. وكذلك بدنه فهو أنفس آلة عنده، وإنما فائدة الآلة بالعمل، فإذا كانت الآلة، في عمل فهو ربح وزيادة، وإذا كانت في بطالة فهو في نقص وخسران، فالرشيد الرشيد، هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، وتلك الآلة العظيمة، فعمر وقته بالأعمال، وداوم على استعمال ذاته فيها فربحهما، والسفيه السفيه من أساء التصرف فيهما فأخلى وقته من العمل، وعطل ذاته عن الشغل فخسرها.
ولما كان الإنسان مضطرا إلى السعي في معاشه فيشغله ذلك عن وجوه الطاعات، من العلم ونوافل الصلاة والصوم والحج وغيرها. ومعرضا للأمراض فتمنعه منها، ولكنه لا يخلو من حالة يكون فيها فارغا من الشغل لمعاشه، ومعافى من المرض في بدنه، ذكره هذا الحديث الشريف بما عليه في هذه الحالة من المحافظة عليها وعمارتها بالطاعات حتى لا يخسرها وتنقص من عمره بلا فائدة فيكون مغبونا فيها.
تفريغ على الحديث:
فإذا عمَّر الإنسان وقت فراغه من الكد لعيشه، بطاعة من طاعات الله واستعمل بدنه مغتنما فرصة صحته فيها، ثم عرض شغل من اشغال عيشه فقطعه عنها، او طرأ عليه مرض فمنعه منها ونيته المداومة على تلك الطاعة لولا الشاغل والمانع، فإنه يكتب له في شغله وفي مرضه، ثواب ما كان يعمله في صحته وفراغه، ومن الدليل على ذلك حديث البخاري-(2/174)
رضي الله عنه- عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنهم- سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا، والسفر نوع من الشغل.
تفريغ آخر:
وإذا كان المؤمن عاملا في طاعة الله- تعالى- أيام صحته، وفراغه، ثم مرض فإن له أجرين أجرا على ما كان يعمل في صحته بدليل ما تقدم، وأجرا على مرضه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه». رواه البخاري- رضي الله عنه- وكذلك إذا شغل بالسعي على نفسه أو على العيال، فإن له أجرين أجر ما شغل عنه، وأجر سعيه على عياله، وأدلة ثواب الساعي على عياله كثيرة منها حديث الرجل الذي رأى الصحابة- رضي الله عنهم- من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: إن خرج يسعي على ولده صغارا فهو في سبييل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو فبي سبيل الله. رواه الطبراني بسند صحيح. ومثله من شغل بطاعة عن طاعة كمن شغل بالرباط عن نافلة الحج، مثلا لأنه إذا كان المشغول بالسفر المأذون فيه يكتب له ما كان يعمله مقيما لأن نيته المداومة لولا عارض السفر- فالمشغول بالطاعة عن طاعة كان ينوي فعلها لولا عروض الطاعة الأخرى- أحرى وأولى.
سلوك العاملين بهذه الأحديث:
يعمرون أوقاتهم كلها بالأعمال، أعمال القلب أو أعمال اللسان وأعمال(2/175)
الجوارح فلا يشتغلون عن طاعة إلا بطاعة ولا يخرجون من عمل إلا إلى عمل فإذا مرضوا صبروا واحتسبوا وأتوا بما يستطيعون فتتضاعف أجورهم بأعمالهم وبنيانهم ويربحون جميع حياتهم، وأولئك هم الفائزون، سلك الله بنا وبالمسلمين مسلكهم بمنه وكرمه آمين (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 7، ص 84 - 86
غرة شوال 1349هـ- مارس 1931م.(2/176)
نِظَامُ الْغِذَاءِ.
«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ. فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ». رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الإنسان بجزئه الترابي، وهو بدنه- مخلوق أرضي، وبجزئه النوراني- وهو روحه- مخلوق سماوي، فإذا جذبه جزؤه الترابي بزمام الشهوة إلى السفليات الارضية، طار به جزؤه النوراني على بساط العقل إلى علويات السماء. وهو لن يزال دائما بين هذا وذاك في انحطاط واعتلاء.
لم يخلق الإنسان للأرض وإن خلق منها، وإنما خلق للسماء وللملأ الأعلى، وآخر كلمة قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» وإنما ينتهي إلى هذا بصفاء روحه واستنارة عقله، وما البدن الترابي إلا آلة لهما، لاستكمال قوتهما، ومظر لتلك الاستنارة وذلك الصفاء، وعيار على ما فيهما من قوة وضعف بما يكسبانه ويكتسبانه في طريق الاختبار والابتلاء. لينال الإنسان ما يستحقه على حسن تصرفه أو سوء تصرفه من عادل الجزاء، بعد خروجه من دار الفناء إلى دار البقاء.
فالجسد آلة بديعة للروح لازمة لها في الدنيا وملازمة لها في الأخرى، فمن العدل الإلهي أن يكون لها حظها هنالك، كما كان لها حظها هنا. ومن العدل الواجب على الإنسان أن يعطيها- كما يعطي الروح- حقها من الاعتناء، فكما يغذي روحه بما ينير عقلها(2/177)
من العلوم والمعارف، وما يزكيها من الأخلاق والأداب، وما يقويها من صالح العمل، ومفيد السعي في وجوه الحياة ويحفظها من كل ما يغشى العقل من جهالات وأوهام، وما يدسي النفس من رذائل، وما يضعفها من كسل وبطالة، كذلك عليه أن يغذي بدنه بما ينميه وما يصلحه وما يقويه، ويحفظه من كل ما يفسده أو ينهكه أو يؤذيه.
يتوقف هذا البدن وصلاحه على الغذاء، وقد جعل الله فيه وعً، وأي وعاء، وهو المعدة، مخزن الغذاء وبيت الداء، وعلى حفط نظام هذا الوعاء تترتب الصحة والمرض والسقم والشفاء.
فإذا ملأ ابن آدم بطنه كان عليه شر وعاء، وانبعثت منه شر الأدواء: أسقام للبدن وأثقال على الروح وظلمات للعقل، فانقلب على الانسان مع انتفاع به إلى أصعب الشر وأقسى البلاء.
وإذا اقتصر على أكلات تقيم الصلب وتمسك البدن حصل من البدن على العمل، وسلم من آلام المرض، ونعم بالعافية، وكان انتفاعه بالآلة البدنية خالصا من شوائب الضرر.
واذا غلبته الشهوة، وكان- لا محالة- منقادا للذة، فليقف دون الشبع، ولا يملأ كل الملأ المعدة حتى لا تثقل حركتها في الهضم، وحتى لا تنتفخ في البطن فتسد مجاري النفس وبذلك يكون قد عدل بين أصول الحياة البدنية الثلاث: طعامه وشرابه ونفسه، فأعطى لكل واحد الثلث من بطنه.
غير أن الإنسان إذا كان هكذا تغلبه الشهوة، وتقوده اللذة، فإنه بمظنة أن يتجاوز- ولو في بعض الأحيان- العدل إلى الامتلاء. فشرع له الصوم ليقاوم شر ذلك بما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات واللذات وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء، هذا للمعتدل وللمالئي للبطن الملوك للشهوة بالأحرى والأولى، اما ذاك المقتصر على الاكلات فهو له(2/178)
زيادة في القوة ورسوخ لما تمكن منه من العادة المشروعة الحسنة.
فالصوم ضرورة لنظام الغذاء وحفظ الصحة البدنية وعون للإنسان على حسن استعماله لآلته الترابية الأرضية للترقي إلى آفاقه الروحية النورانية وكمالاته العلوية.
فالحمد لله الذي شرع لنا الصيام وفرض علينا رمضان ووفقنا إلى القيام به في كل عام. نسئله المزيد إنه الحميد المجيد.
ليس الخبز كل ما نريد:
نحن- المسلمين- ربينا تربية إسلامية على الفة الجوع، والتقلل من الأكل والاقتصار على قدر الحاجة، والمواساة في المطعم والمشرب. فطعام الواحد عندنا يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الثلاثة يكفي الستة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ونعتقد عن تجربة أن الرجل لا يهلك عن نصفه قوته.
بهذه التربية استطعنا أن نبقى ونعيش في مثل ما عليه حالة معظم الأمة الجزائرية من الفاقة والعوز والجوع والمسغبة، بينما هي تنظر إلى ما ينعم فيه غيرها من النعمة والرخاء، مما لو أصاب أمة أخرى لاجتاحها وأفناها، أو لأثارها ودفعها إلى موارد العذاب والردى.
وكما ربانا الإسلام هذه التربية من ناحية الغذاء فقد ربانا تربية أخرى من نواحي أخرى. ربانا على محبة العلم والمعرفة والرغبة فيهما والتلهف على ما فات منهما والاحترام لمن كان له حظ فيهما.
وبهذه التربية استطعنا، رغم الفاقة ورغم الجوع ورغم التثبيط والمعاكسة أن نحافظ على قرآننا وخطنا، وبقايا علوم لغتنا وديانتنا، وجملة معارفنا، واندفعنا إلى تأسيس المكاتب العربية رغم ما يحول بينها وبيننا واندفعنا إلى المكاتب الحكومية فضاقت عنا وبقيت مئات الآلاف في أنياب الجهل والفقر من أبنائنا.(2/179)
ولولا تلك التربية الإسلامية التي زرعتها القرون فاستقرت في قرارات النفوس، وصارت من الخلق الموروث لكان ما نحن فيه من ظلم وتعاسة وتقديم كل أحد علينا في وطننا والترك لمعامل التجويع والتجهيل تخرج آلاتها الفتاكة المتنوعة للقضاء عليها، شاغلا لنا عن العلم وعن الشعور به وعن طلبه وعن المزاحمة عليه.
جهل قوم من ذوي السلطة هذا الخلق منا فحسبوا- وهم جد عالمين بما فيه الأمة من جوع وفاقة- أننا قوم لا نريد إلا الخبز، وأن الخبز عندنا هو كل شيء وأننا إذا ملئت بطوننا مهدنا ظهونا، وانهم إذا أعطونا الخبز فقد أعطونا كل ما نطلب، اذ الخبز- في زعمهم- هو كل ما نريد، فإذا حادثناهم في حالنا سكتوا عن كل شيء الا عن الجوع والخبز، وإذا رفعنا أصواتنا بمطالبتهم بحقوقنا لديهم، أو بإنجاز مواعيدهم خرجت المراسيم بتوزيع قناطير القمح أو الفرينة أو الدقيق أو سلفات البذر التي لا ينال المحتاج الحقيقي منها ما يسد حاجته وتذهب في أثناء توزيعها في تعاريج والتواءات أخرى ... فإذا صدرت تلك المراسم طبل المطبلون وزمر المزمرون-، وحسب المغرورون اننا قد رضينا وفرحنا وانتهى أمرنا.
يا قوم، إنتا أحياء، وإننا نريد الحياة وللحياة خلقنا، وأن الحياة لا تكون بالخبز وحده، فهنالك ما علمتم من مطالبنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلها ضروريات في الحياة. ونحن نفهم جيدا ضروريتها للحياة، وقد بذلنا فيها لكم ما كان- يوما- سببا قويا في حياتكم فلا تبخلوا علينا اليوم بما فيه حياتنا إن كنتم منصفين، وللأيام والأمم مقدرين. وإلا فالله يحكم بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين (1).
__________
(1) ش: ج9، م 12، ص394 - 396 غرة رمضان 1355هـ - ديسمبر 1936م.(2/180)
أَثَرُ النِّيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ.
«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
أخرجه الشيخان في صحس جحهما
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
الأعمال: هي الأفعال التي تصدر عن الجوارح فتدخل فيها الأقوال، والغالب أن الأعمال أخص من الأفعال فهذه فيما كان عن قصد وغيره وتلك فيما كان عن قصد. النية: هي القصد إلى الفعل. الهجرة: الترك، والمراد هنا مفارقة دار الكفر إلى دار السلام خوف الفتنة على الدين بالمنع من إقامته. يصيبها: يحصل عليها. ينكحها: يتزوجها.
التراكيب:
بالنيات يتعلق بمحذوف تقديره معتبرة، ودل هذا المتعلق الخاص ما جاء بعده من التفصيل بين الهجرتين والمقام الذي القى فيه الكلام. كما سنبينه في مورد الحديث. ونظيره في هذا التقدير قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، أي معتبر بهما. والمرء بأدبه، أي معتبر أو يعتبر به والباء سببية. وإنما للحصول والمحصور فيه هو الجار والمجرور وما أفادته الباء من معنى السببية أي لا سبب تعتبر به الأعمال إلا النيات نظيره إنما زيد قوي بقومه أي لا سبب لقوته إلا قومه. فأفاد التركيب حصر اعتبار الأعمال في نياتها والمقصود بها لا في صورها وظواهرها.(2/181)
ولكل امرىء خبر ما نوى، أي نواه. قدم عليه ليحصر فيه بإنما فأفاد التركيب ان حظ كل عامل من عمله هو ما قصده أي عين ما قصده في كميته ومقداره دون ما لم يقصد فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله أي قصدا فهجرته إلى الله ورسوله أي وقوعا واعتبارا ففعل الشرط وجوابه لم يردا على معنى واحد. ومثل هذا يقال في الشرط الثاني وجوابه وذكر تزوج امرأة بعد دنيا يصيبها تخصيص بعد تعميم لأن ذلك الخاص هو سبب الحديث، واللام في الدنيا لام الأجل والعلة فتفيد أن طلب الدنيا أو طلب التزوج هو العلة الباعثة له دون قصد طاعة الله فلا يدخل فيه ما إذا كان الباعث هو الطاعة. وطلب هذه الأشياء، جاء على سبيل التبع.
سبب الورود:
قال القسطلاني: قد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس، المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجال ثقات من رواية الأعمش. ولفظه: " عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها. قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس".
المعنى:
إن أعمال الناس قد تشترك في صورها ومظاهرها، حتى لا يكون في ذلك فرق بينها ولكنها بذلك التساوي الصوري الظاهري لا تكون متساوية في الاعتبار والحقيقة وما يتبعها من القبول والرد في نظر الشرع فقد هاجر مهاجر أم قيس كما هاجر سائر المهاجرين. الجميع قد كان منهم مفارقة الديار وترك دار الكفر إلى دار الإسلام واللحوق بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فالعمل عمل واحد قطعا، ولكن القصد مختلف فقد كان قصدهم بهجرتهم طاعة الله ورسوله، وكان(2/182)
قصده بهجرته التزوج بأم قيس فكانت هجرتهم واقعة عند الله- تعالى- موقعها محصلة لهم رضاء ومثوبته، وكانت هجرته لا موقع لها عند الله ولا حظ لها من ثوابه، وكانت معتبرة من عمله الدنيوي لا من عمله الديني ومثله كل من قصد بهجرته غرضا من أغراض الدنيا ما حمله على الهجرة إلا هو. هذا معنى الجملة الأولى من الحديث الشريف.
ومعنى الثانية: أن الأعمال المعتبرة عند الله التي قصد بها طاعته تتساوى أيضا في صورها ومظاهرها ولكنها لا تتساوى منازلها في الاعتبار والقبول والمثوبة، بل تتفاوت حظوظ أصحابها في ذلك بحسب تفاوتهم في مقاصدهم منها فيهاجر المهاجران- مثلا- كلاهما يقصد بهجرته طاعة الله ورسوله هذا لا يقصد إلا ذلك، وذاك يقصد معه على سبيل التبع غرضا دنيويا من تجارة أو تزوج. فحظ الأول من هجرته هو طاعة الله ورسوله وحدها غير متبعة بشيء وحظ الثاني هو الطاعة المتبعة بشيء. وثواب الأولى- قطعا- أعظم من ثواب الثانية. أو يكون أحدهما قصد الهجرة وما يكون معها من جهاد بالنفس والمال ومصاحبة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وخدمته وصحبته والتفقه عليه وتكثير سواد أصحابه وعمارة مدينته. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله عظيم وثوابه كثير على حسب كثرة مقاصده وتنوعها وحظ الثاني واحد وهو الهجرة، وثوابه عليها بالخصوص. وذلك على حسب قصده ونيته. ومثل هذين القاصدان للمسجد لأجل صلاة واحدهما يقصده مع ذلك عمارة المسجد وحبس الجوارح على الطاعة وإرشاد الضال وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل، وتكثير الجماعة والتعاون على الخير بحضور مشاهده وبعث غيره على الاقتداء به فيه. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله وثوابه عليه أكثر بكثير من حظ الثاني وثوابه وإن كانا كلاهما في طاعة الله.(2/183)
فالنيات والمقاصد كما تفرق بين المسلمين المتماثلين وتؤثر فيها بالقبول والرد، وهو مقتضى الجملة الأولى، كذلك تفرق بين العملين المقبولين وتؤثر فيهما باختلاف مقدار الثواب وحظ العامل منه وهو مقتضى الجملة الثانية، وهذا أثر كبير للنيات في الأعمال.
الأحكام:
أفاد الحديث إن العمل الديني لا يكون مقبولا حتى تقصد به طاعة الله وإن من قصد به غير ذلك فعمله مردود عليه وان أجر العامل يقل ويكثر على حسب نيته بعمله وأنه يمكنه أن يقصد مقاصد كثيرة من الخير بعمل واحد فيتضاعف ثوابه عليه بحسب نيته وإن لم يقع ذلك فعلا بعمله، كقصد إرشاد الضال في المسجد ولم يجده أو تعليم الجاهل ولم يلقه وقصد الجهاد من الهجرة ومات قبله وأمثال ذلد كثيرة.
تفريع:
كما أثرت النية في الأفعال التعبدية بالقبول والرد أو بتفاوت الأجر كذلك تؤثر في الأعمال المباحة فإن المباحات في نفسها لا يثاب ولا يعاقب عليها ولكنها بالنية والقصد منها يدخلها ذلك وتلحق بما أريد منها إلحاق الوسائل بمقاصدها. فالشيء- مثلا- مباح وقد ينوي به الذهاب إلى التعلم فيصير عمل طاعة فيثاب عليه ولو لم يجد المعلم فلم يتعلم، وقد ينوي به الذهاب إلى السرقة فيصير عمل معصية فيأثم به وإن حيل بينه وبين ما قصد فلم يسرق وكذا سائر المباحات.
إرشاد وترغيب:
كما حكينا أن نجتهد في تطهير أعمالنا من المخالفات وقصرها على الطاعات والمباحات، كذلك علينا أن نجتهد في طاعتنا أن تكون خالصة لوجه الله وأن نبعد عنا كل خاطر يلفتنا إلى غيره حتى يسلم لنا القصد(2/184)
كله خالصا والعمل كاملا أو يسلم لنا القصد الأول الذي هو شرط القبول فإذا كان شيء آخر بعده يكون لاحقا وتابعا وأن نتفقه ونتدبر بعد ذلك في نيتنا بطاعتنا فنوفرها ونستثمرها ونقصد بها ما حضرنا من وجوه الخير التي يمكن أن تقصد بها. وأن ننظر مثل ذلك في أعمالنا المباحة كأكلنا وشربنا ونومنا ومشينا وراحتنا ورياضتنا فنقصد بها الإستعداد للطاعات والتقوى لفعل الخيرات وكل ما يمكن أن تؤدي إليه أو تعين عليه من معروف فتصير أعمالنا المباحات من قسم الطاعات فما أسعدنا حينئذ وما أعظم ثروتنا من الخير.
نحن لا نسلم من مخالفة وتقصير وفي ذلك علينا خسار كثير ولا يجبر ذلك الخسار إلا بسلوك هذا الطريق الشرعي القويم، فهلم أيها الإخوان في الله إليه، ففيه- والله- التجارة الرابحة، والحياة الناجحة وإرضاء الرحمن وإرغام الشيطان والسعادة في الدارين.
تنبيه وتحذير:
الأعمال إما طاعات لأنها مأمور بها وجوبا أو استحبابا، وإما مخالفات لأنها منهي عنها تحريما أو كراهة، واما مباحات لأنها غير مأمور بها ولا منهي عنها، فالمخالفات بقسميها لا تقبلها النيات طاعات لأنها في قسمها غير عمل صالح ولأننا علمنا بالنهي عنها ان قصد الشارع هو تركها وعدم وجودها فقصد المكلف مضاد لقصد الشارع فكان ساقطا لا عبرة به ولا أهلية له لقلب الموضع الشرعي ... والطاعات بقسميها هي التي تؤثر فيها النية بالقبول والرد بحسب قصد الله بها وقصد غيره أو بتفاوت درجات القبول وبحسب المقصود على ما تقدم وهي المقصودة بالقصد الأول من الحديث.
والمباحات مثلها تؤثر فيها النيات فتقبلها طاعة أو معصية لأن الشرع لما أباحها علمنا أنه لا قصد له لا في وجودها ولا في عدمها من حيث(2/185)
ذاتها فكان لقصد المكلف حينئذ سبيل إلى التأثير فيها. وقد غفل عن هذه الحقيقة أقوام- عفا الله عنهم- فتراهم يستدلون على أعمالهم بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى» قاصدين إلى تبريرها غير ملتفتين إلى كونها من قسم الطاعات أو المخالفات أو المباحات. وكثيرا ما يرتكبون البدع كدعاء المخلوقات وكالحج إلى الأضرحة وإيقاد الشموع عليها والنذور لها وكالرقص وضرب الدف في بيوت الله وغير هذا من أنواع البدع والمنكرات، ويتوكؤون في ذلك كله على «إنما الأعمال بالنيات» كلا، ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب فإن البدع كلها من قسم المخالفات وأن المخالفات لا تنقلب طاعات بالنيات.
فحذار أيها الأخوان في الله من هذا الجهل الذي أدى إلى تحريف الكلم عن مواضعه وإلى المداومة على المنكر والفرح به، ونعوذ بالله- لنا ولجميع إخواننا المسلمين- أن نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ونسأله تعالى- لنا ولإخواننا المسلمين- أن نكون من الذين يرجون لقاء ربهم فيعملون الأعمال الصالحة ولا يشركون بعبادة ربهم أحدا (1).
__________
(1) ش: ج1، م 7، ص 6 - 11
رمضان 1349هـ - فيفري 1931م.
186(2/186)
التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو عيسى الترمذي: ((حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ: فَادْعُهْ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»، - هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر -وهو غير الخطمي))
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
محمود بن غيلان: ثقة من رجال البخاري ومسلم. عثمان بن عمر هو ابن فارس العبدي المتوفي سنة (209هـ) ثقة، روي عنه الستة، وهو الراوي عن شعبه. ولهم عثمان بن عمر بن موسى التيمي متقدم غير هذا. أبو جعفر، هكذا عند الترمذي غير منسوب وقال فيه: هو غير الخطمي، يعني أبا جعفر يزيد بن عمير الأنصاري الخطمي، لكن ابن ماجة قال: حدثنا أحمد بن منصور بن يسار، ثنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة عن أبي جعفر المدني إلى آخر السند والمتن. فصرح بأن أبا جعفر هو المدني. وهذا هو أبو جعفر القاري يزيد بن القعقاع. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وكان إمام أهل المدينة في(2/187)
القراءة فسمي القارئي لذلك. عمارة بن خزيمة بن ثابت الانصاري روي له أصحاب السنن الأربعة وثقه النسائي وابن حبان وابن سعد. عثمان بن حنيف هو الأنصاري الأوسي الصحابي المشهور.
مخرجو الحديث:
رواه ابن ماجة في باب ما جاء في صلاة الحاجة من سننه والنسائي والحاكم والبيهقي وابن خزيمة والطبراني.
رتبة الحديث العلمية والعملية:
قال فيه الترمذي كما تقدم حسن صحيح غريب. فالصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى آخر سنده سالما من العلة والشذوذ فإذا خف الضبط في بعض رواته فهو الحسن. وما يقول فيه أبو عيسى الترمذي حسن صحيح أقوى مما يقول فيه حسن فقط، لأن وصفه بالصحة مع وصفه بالحسن يفيد أن خفة الضبط في بعض رجاله تكاد لا تؤثر عليه حتى كأنها لم تحطه عن رتبة الصحبح التام. وأما الغريب فهو ما انفرد بروايته راو فقط وإذا كان ذلك المنفرد ثقة فذلك الانفراد لا يضر فالغرابة لا تنافي الصحة والحسن. وغرابته جاءته من انفراد أبي جعفر به كما تقدم. وصححه أيضا ابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني. فبعدما عرفنا من حال سنده وتصحيح هؤلاء الأئمة له حصل لنا العلم الكافي- وهو الظن الغالب- بثبوت. وحيث كان بهذه المنزلة من الثبوت فإنه صالح لاستنباط الأحكام الشرعية العملية منه.
ألفاظ المتن:
زاد ابن ماجة بعد قوله: ((فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه)) قوله ((ويصلي ركعتين)) ولذلك أخرجه في باب ما جاء في صلاة الحاجة.(2/188)
وهذه زيادة عدل فهي مقبولة. والأمر بالوضوء مما يؤيدها. وزاد النسائي بعد قوله: اللهم شفعه في: وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره.
المفردات:
التوجه إلى الشيء: هو القصد إليه، فأتوجه إليك أي أقصد إليك. و (الباء) في بنبيك وفي اني توجهت بك هي باء الاستعانة، والمستعان به هو السبب الحصل للمستعان عليه ولذلك جعل بعضهم باء الاستعانة من باء السببية، فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مستعان به على السؤال أي على نجح السؤال بحصول الشيء المسؤول من الله تعالى، ومستعان به على التوجه بمعنى القصد أي على نجح ذلك القصد بحصول المطلوب منه تعالى فهو متوصل به إلى نجح السؤال ونجح القصد، وكل ما يتوصل به إلى الشيء يقال فيه وسيلة إليه، فالسؤال به توسل به، فيمكن أن تسمي هذه الباء باء التوسل، وهي الداخلة على ما هو وسيلة في حصول شيء و (الهاء) في قوله (فادعه) هاء السكت أو ضمير عائد على الله تعالى. الشفاعة: سؤال الخير لغير السائل، فقوله شفعه فيّ أي اقبله في أي اقبل دعاءه وسؤاله لي.
التراكيب:
قوله أسالك وأتوجه إليك بنبيك. وقوله إني أتوجه بك يحتمل أن يكون على ظاهره، فالسؤال والتوجه والتوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه عند الله تعالى ويكون هذا نظير قول القائل: أسألك بالله، من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}، وفي سنن أبي داود والنسائي مرفوعا: «وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ» وقول القائل: أسألك بالرحم، من قوله تعالى:(2/189)
{وَالْأَرْحَامٍ} بالجر في قراءة الشاميين، وقول عائشة لفاطمة رضي الله عنمها: "عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" ويحتمل أن يكون على تقدير مضاف هكذا بدعاء نبيك في العبارة الأولى وبدعائك في العبارة الثانية، لأنه إنما سأله أن يدعو لك، فيكون التوسل بدعائه ولقوله: فشفعه فيَّ أي اقبل دعاءه لي. وجملة (فشفعه) معطوفة على جملة (أسألك)، وجملة (اني توجهت بك) معترضة بين المتعاطفين.
المعنى:
هذا رجل أعمى جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسأله أن يدعو الله تعالى له أن يشفيه من العمى فخير بين أن يدعو له وأن يصبر على بلواه، وأخبره أن الصبر خير له من جهة الأجر والمثوبة، فاختار الرجل أن يدعو له فأمر أن يتوضأ وضوءاً حسنا مستكملا لفرائضه وفضائله في ظاهره وباطنه، وأن يصلي ركعتين ويدعو بالدعاء المذكور. والظاهر أنه بعد الفراغ من الركعتين مثل ما جاء في دعاء الاستخارة بعد ركعتيها، وكان الدعاء سؤالا من الله تعالى وتوجها إليه وتوسلا بنبيه أو بدعائه وثناءاً على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما بعثه الله من الرحمة المناسب ذكرها غاية المناسبة في مقام الدعاء والتوسل وخطابا له عليه السلام بأنه توجه به إلى ربه لتقضى حاجته ثم رجوعا إلى سؤال الله تعالى أن يقبل فيه شفاعة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.
سؤال:
الرجل قد اختار أن يدعو له فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو بذلك الدعاء ولم يدع هو له مع أنه قال له في التخيير إن شئت دعوت وإن شئت صبرت.(2/190)
جوابه:
الظاهر أنه دعا له وإن لم يصرح بذلك في متن الحديث لقول الأعمى: (اللهم شفعه فيَّ) أي اقبل دعاءه وسؤاله لي.
الأحكام:
لم يدع الأعمى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسأله أن يشفيه هو، لأن الدعاء لقضاء الحوائج وكشف البلايا ونجو ذلك هو العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع «الدُّعاءُ هوَ العِبَادةُ» رواه أحمد وأصحاب السنن. والعبادة لا تكون إلا لله لم يدعه لا وحده ولا مع الله، لأن الدعاء لا يكون إلا لله. وهذا بخلاف ما يفعله الجهال والضلال من طلبهم من المخلوقين من الأحياء والأموات أن يعطوهم مطالبهم ويكشفوا عنهم بلاياهم، وإنما سأله أن يدعو له الله تعالى أن يعافيه وهذا جائز أن يسأل المؤمن من أخيه في حال حياته أن يدعو الله تعالى له. ومن هذا حديث البخاري في سؤال أم أنس ابن مالك من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو لأنس خادمه، فدعا له. ومن هذا ما رواه الترمذي وأبو داود عن عمر بن الخطاب قال: استأذنت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في العمرة فأذن لي وقال اشركنا يا أخي في دعائك ولا تنسنا زاد في رواية الترمذي فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. يعني قوله: أشركنا ... الخ ثم انه توسل بذاته بحسب مقامه عند ربه وهذا على الوجه الأول من الوجهين المتقدمين في فصل التراكيب أو توسل بدعائه، وهذا على الوجه الثاني منهما. فمن أخذ بالوجه الأول قال يجوز التوسل بذاته، ومن أخذ بالوجه الثاني قال إنما يتوسل بدعائه، ثم ان من أخذ بالوجه الأول فهذا الدعاء حكمه باق بعد وفاته كما كان في حياته، ومن أخذ بالوجه الثاني لا يكون بعد وفاته. لأن دعاءه إنما(2/191)
كان في حياته لمن دعا له. فالوجهان المتقدمان- كما ترى- هما مثار الخلاف في جواز التوسل بذاته وعدم جوازه، فمن أخذ بالوجه الأول جوَّز ومن أخذ بالثاني منع.
سؤال:
فان قلت قد عرفنا القولين وعرفنا مدركهما فما هو الراجح عندك منهما؟
جوابه:
الراجح هو الوجه الأول الذي يجيز السؤال بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه العظيم عند ربه لوجهين: الأول: ان ذلك هو ظاهر اللفط ولا موجب للتقدير ولا منافاة بين أن يكون في قوله أسالك وأتوجه اليك بنبيك وقوله اني توجهت بك قد سأل بذاته. وفي قوله: (اللهم شفعه فيَّ) قد سأل قبول دعائه له وسؤاله. والثانى: أنه لما كان جائزاً السؤال من المخلوقين بما له من مقام عظيبم عندهم فلا مانع من أن يسأل الله تعالى بنبيه بحسب مقامه العظيم عنده.
سؤال آخر:
بعدما رجحت جواز التوسل بذاته -صلى الله عليه وآله وسلم - نظرا لمقامه العظيهم عند الله تعالى فهل يقاس عليه غيره من كل ذي مقام عند الله تعالى فيتوسل به أو يكون هذا مقصورا عليه؟
جوابه:
القياس في باب العبادات ضعيف، وإذا ارتكب هنا فلا يقاس عليه الاَّ كلُّ ذي مقام محقق عند الله تعالى.
سؤال آخر:
بعد ما عرفنا حكم سؤال الله تعالى بأهل المكانة عنده من مخلوقاته.(2/192)
فهل الأفضل هو سؤاله بمخلوقاته أو سؤاله بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في طاعاته؟
جوابه:
الأفضل هو سؤاله تعالى بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته، وذلك لوجهين: الأول: ان ذلك هو مقتضى النص القرءاني الصريح القطعي في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ويشمل ذلك تسميته بها ونداءه بها. الوجه الثاني: مما جاء في السنة العملية في أحاديث كثيرة ثابتة مستفيضة، كان سؤاله تعالى فيها كلها بأسمائه وصفاته منها حديث: «أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسد الخ» رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود، ومنها حديث رجل كان يصلي في المسجد فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والاكرام يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق أنس، ومنها حديث: إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق. رواه النسائي والحاكم من طريق عمار بن ياس، وهكذا سائر الأحاديث التي جاءت في هذا الباب كلها متواردة على دعاء الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهي كلها تحقيق وبيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. هذا كله في دعائه تعالى بأسمائه وصفاته. وأما ما جاء في دعائه والتوسل إليه بعمل العبد في أنواع طاعاته، فمنها حديث بريدة: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد (والشهادة عمل العبد) أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: لقد سألت الله بالإسم الأعظم(2/193)
الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب. رواه أبو داوود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم إلا أنه قال: لقد دعوت الله باسمه الأعظم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، قال الحافظ عبد العظيم المنذري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه. ومنها حديث الثلاثة الذي (1) آووا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعله يفرجها عنكم فدعا أحدهم ببروره والديه، فانفرجت منها فرجة، ودعا الثاني بعفته عن الزنا بعد ما كاد فانفرجت فرجة، ودعا الثالث بوفائه لأجيره، فانفرجت البقية. وهذا حديث صحيح مشهور رواه الشيخان وغيرهما (2). ومن ذلك حديث سارة زوج إبراهيم عليه السلام لما مدَّ الجبار الظالم إليها يده يريدها على السوء، قامت تتوضأ وتصلي وقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله. فقالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل فعاد إليها وعادت إلى الدعاء كالمرة الأولى، وفي الثالثة تركها وقال: ارجعوها إلى إبراهيم. رواه مفصلا البخاري في كتاب البيوع من صحيحه من طريق أبي هريرة، فانظر إليها كيف توسلت لربها بإيمانها الذي هو أشرف أعمالها، وبعفتها
__________
(1) كذا فى الأصل وجوابه: الذين.
(2) رويت القصة باختلاف الالفاظ في كتاب الفرج بعد الشدة ص 28 - 29 وقال التنوخي صاحب الكتاب: هذا حديث مشهور رواه عن النبى- صلى الله عليه وآله وسلم- علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن أبى أوفى، والنعمان بن بشير الأنصاري، رضي الله عنهم. وعن كل واحد منهم عدة طرق. وقد اختلف في ألفاظه والمعنى واحد.(2/194)
وإحصانها لفرجها ولم تتوسل إليه برسوله وخليله زوجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
سؤال آخر:
بعد ما عرفنا رجحان سؤاله تعالى بالأسماء والصفات والطاعات فهل ثبت عن الصحابة سؤالهم وتوسلهم بذاته؟
جوابه:
لم يثبت عن واحد منهم شيئا (1) من ذلك فيما لدينا من كتب السنة المشهورة، بل ثبت عدولهم عن ذلك في وقت مقتض له لو كانوا يفعلونه وذلك في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. ومعنى الحديث أنهم كانوا يتوسلون بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يدعو لهم في الاستسقاء ويودعون، ثم صاروا يتوسلون بالعباس فيدعو لهم ويدعون، فالتوسل هنا قطعا بدعائهما لا بذاتهما. ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مرجوحية التوسل بالذات أن الصحابة لم يقولوا في موقفهم ذلك: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا أي بذاته ومقامه بل عدلوا عن ذلك إلى التوسل بالعباس يدعو لهم ويدعون كما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل في الاستسقاء. ولقد استدل بعضهم بعدول الصحابة عن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا المقام على منعه، ونحن لما بينا قبل من دليل جوازه إنما نستدل بعدولهم على مرجوحيته.
__________
(1) كذا في الأصل جوابه شيء.(2/195)
سؤال آخر:
قد عرفنا فيما تقدم مشروعية سؤال المؤمن من أخيه المؤمن في حياته أن يدعو له فهل يشرع الذهاب إلى القبر وطلب الدعاء من الميت؟
جوابه:
لو كان هذا جائزا لفعله الصحابة في الحديث المتقدم ولذهبوا لقبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسألونه أن يدعو لهم كما كان يدعو لهم في حياته، ولم يرد في حديث عن واحد منهم أنه كان يذهب إلى القبر النبوي ويطلب منه- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له، بل جاء عن ابن عمر- وهو من عرف بشدة اتباعه وتحريه- أنه كان يقف فيسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم على أبي بكر ثم على عمر رضي الله تعالى عنهما ثم ينصرف لا يزيد شيئا. أخرجه مالك في الموطأ.
تلخيص وتحصيل:
تحصل لنا من جميع ما تقدم: (1) أن دعاء المخلوق وحده أو مع الله ممنوع. (2) وأن التوسل بدعائه في حياته وهو من المؤمنين مطلوب ومشروع. (3) وأن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله ومسلم- جائز مرجوح. (4) وأن التوسل بذات غيره من أهل المكانة المحققة له وجه في القياس. (5) وأن التوسل بذات غيره ممن ليس لنا اليقين القاطع بمقامه لا وجه له. (6) وأن طلب الدعاء منه بعد موته بدعة لم يفعلها الصحابة. (7) وأن الراجح في التوسل إلى الله هو التوسل إليه بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته.
هذه سبع مسائل كثر فيها هذه الأيام القال والقيل، وتعرض لها من الكتّاب الأصيل والدخيل، وقد منَّ الله بتحريرها على هذا الوجه الذي لم أره لغيري، وقد كنت في تحريرها علم الله باحثاً منصفاً(2/196)
متجرداً فما كان فيها من حق وصواب فهو من الله وما كان فيها - عياذاً بالله- من باطل وخطأ فهو مني وأستغفر الله والخير قصدت وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 8، ص 145 - 155
غرة ذي القعدة 1350هـ - مارس 1932م.(2/197)
حَقُّ النِّسَاءِ فِي التَّعْلِيمِ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ" فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ. فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: «وَاثْنَتَيْنِ». رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح:
كان الرجال يلازمون النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيحيطون به للتعلم فلا يستطيع النساء مزاحمتهم عليه وكن يجلسن في آخر صفوف المسجد، فإذا تحدث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالعلم بعد الصلاة لا يتمكن من كمال السماع، وكانت لهن رغبة في العلم مثل الرجال إذ كلهن يعلمن أنَّهنّ مكلفات بأحكام الشريعة مثلهم. فلذا سألن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعيِّن لهن يوما باختياره هو يخصصهن به. فأجابهن إلى ما طلبن ووعدهن يوما يعينه ووفى لهن بوعده، فلقيهن في ذلك اليوم وحدهن فوعظهن وأمرهن بأشياء مما عليهن من أمر الدين. وأخبرهن بأن كل واحدة منهن يموت لها ثلاثة من ولدها فتقدمهم قبلها فإن ذلك التقديم يكون لها حجابا ووقاية من النار لعظم الأجر بعظم المصيبة، فطمعت إحداهن في فضل الله وخافت أن يكون هذا الفضل محصورا فيمن قدمت ثلاثة فسألت عمن قدمت اثنتين فأخبرها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه لمن قدمت اثنتين أيضا.(2/198)
الأحكام والفوائد:
النساء شقائق الرجال في التكليف، فمن الواجب تعليمهن وتعلمهن وقد علمهن- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقرهن على طلب التعلم، واعتنى بهن وتفقدهن كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم. وبلال يأخذ في طرف ثوبه.
لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في التعلم، فأما أن يفردن بيوم كما في هذا الحديث، وإما أن يتأخرن عن صفوف الرجال كما مرَّ في حديث ابن عباس- رضي الله عنه- يجعل لتعليم (1) النساء يوم خاص بهن ويتكرر هذا اليوم بقدر الحاجة. ولما كانت الحاجة دائمة فاليوم مثلها.
فيه عظيم أجر من أصيب في أفلاذ كبده إذا حزن ولم يقل قبيحا وجاء التنصيص على الرجال فهم مثل النساء في هذه المثوبة.
وفيه البداية في التعليم بما تشتد إليه حاجة المتعلم. فإن حنان النساء وضعفهن يحملانهن على الجزع الشديد وقد يخرج بهن إلى القبيح فذكر لهن ما يكون عدة لهن ووقاية عند نزول المصيبة.
وفيه ما ينبغي من تهيئة القلوب وتحضير النفوس لتلقي التكاليف الشرعية لتنشرح لها الصدور وتنشط فيها الجوارح ولذا قدم الوعظ على الأمر.
اقتداء:
إن الجهالة التي فيها نساؤنا اليوم هي جهالة عمياء، وأن على
__________
(1) في الأصل لتعيلم.(2/199)
أوليائهن المسؤولين عنهن إثما كبيرا فيما هن فيه. وأن أهل العلم والإرث النبوي مسؤولون عن الأمة، رجالها ونسائها، فعليهم أن يقوموا بهذا الواجب العظيم في حقِّ النساء بتعليمهن خلف صفوف الرجال، وفي يوم خاص بهن اقتداء بالمعلم الأعظم: عليه وعلى آله الصلاة والسلام (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 15، ص 64 - 66. صفر 1358هـ - مارس 1939م.(2/200)
تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.
عَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ». رواه ابو داوود.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي فلم يخرج له فيهما، لكنه ثقة. وثقه أبو حاتم وابن نافع وابن حيان، وقد تابعه غيره. وخرج الحديث أيضا النسائي والبيهقي في السنن الكبرى والإمام أحمد.
المتن:
الأشخاص: الشفاء هي بنت عبد الله القرشية العدوية من السابقات والمهاجرات الأول- رضي الله عنها- وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما.
الألفاظ:
النملة قروح تخرج في الجنب، ورقيتها كلام كانوا يقولونه عليها مما لا محظور فيه فأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-. ولم يذكر الرواة نصه.
المعنى:
عرف - صلى الله عليه وآله وسلم- أن الشفاء كانت علمت حفصة(2/201)
الكتابة، وكانت الشفاء من عاقلات النساء وعارفاتهن، فدعاها إلى تعليم حفصة رقية النملة وحثها عليها، ونشطها لذلك بتذكيرها بتعليمها لها الكتابة، فمن كان من شأنه عمل من الأعمال خف عليه القيام به. مبينا لها بذلك أن تعليم هذه مثل تعليم تلك في النافع وفعل الخير.
الأحكام والفوائد:
فيه مشروعية الرقية وذلك بشرط أن تكون بالكلام المفهوم الذي لا محظور فيه كما دلت عليه الآثار، وإذا كانت الأدوية سببا للشفاء بخواصها فبعض الأقوال تكون في ذلك مثلها تلك من ناحية البدن وهذه من ناحية الروح وقد دلت على هذا وذاك التجربة وأقرَّت الجميع الشريعة.
وفيه تعلم الرقية وتعليمها مثل كل ما يمكن أن ينتفع به على الوجه المشروع وفيه حث العارف بشيء مما يحتاج إليه الناس أن ينشره بينهم ويعلمهم إياه.
وفيه تعليم النساء الكتابة واستدل به على ذلك جماعة من الأئمة منهم الخطابي في شارح السنن، وصاحب المنتقى.
توسع في الاستدلال:
وأقوى منه في الاستدلال العمومات القرآنية المتكاثرة الشاملة للرجال والنساء، فإن مذهب الجماهير وهو المذهب الحق أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص يخرجهن من نص إو إجماع أو بضرورة طبيعية. لأن النساء شقائق الرجال في التكليف ولا خلاف في أنه إذا اجتمع النساء والرجال ورد الخطاب أو الخبر مذكرا على طريقة التغليب.
وتأمل قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}(2/202)
وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. كيف نص في الثانية على الرجال لما كان الحال مقتضيا لهم، وأطلق في الأولى فدل على أنه لا فرق بين أن يكون الكاتب رجلاً أو امرأة، وهو من أدلته مشروعية تعلم النساء الكتابة، وكل آية دعت للعلم، قد دعت للكتابة لأن الله قد بين لنا أنه علم بالقلم ليبين لنا أن القلم هو طريق العلم وآلة حفظه وتدوينه وأقسم بالقلم تنويها بشأنه وجاء ذلك كله على الخطاب العام الشامل للنساء شموله للرجال والعمومات إذا تكاثرت أفادت القطع ولهذا جعلنا هذا الطريق من الاستدلال أقوى من الاستدلال بالحديث الذي هو خبر آحاد وخبر الآحاد- من حيث ذاته- يفيد الظن وإن كان صحيحا. وحيث تواردت تلك العمومات وثبت هذا الحديث فقد بلغ الدليل بنصه وقطعيته غاية القوة والبيان.
الاقتداء:
فاستنادا إلى هذه الأدلة، وسيراً على ما استفاض في تاريخ الأمة، من العالمات الكاتبات الكثيرات- علينا أن ننشر العلم بالقلم في أبنائنا وبناتنا في رجالنا ونسائنا على أساس ديننا وقوميتنا إلى أقصى ما يمكننا أن نصل إليه من العلم الذي هو تراث البشرية جمعاء، وثمار جهادها في أحقاب التاريخ المتطاولة، وبذلك نستحق أن نتبوأ منزلتنا اللائقة بنا والتي كانت لنا بين الأمم (1).
**
__________
(1) ش: ج 3، م 15، ص 110 - 112.
غرة ربيع الأول 1358 هـ- أفريل 1939م.(2/203)
سِتْرُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ.
((مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
هذا سند من بيت البركات على المسلمين: بيت الصديق رضي الله عنه، فعروة هو ابن الزبير وأمه أسماء. والمنذر أخوه شفيقه. وهشام وفاطمة زوجان وأبناء عم وجدتهما أسماء، رضي الله عنهم.
المتن:
خمير الوجه: تغطيته بغير النقاب وما في معناه مما يشد على الوجه. وذلك بأن تسدل الثوب على وجهها نازلا من رأسها. وجاء هذا مبينا في حديث عائشة الذي رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم، قالت: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- محرمات. فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجها، فإذا جاوزونا كشفناه)).
الاحتجاج:
أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أهل العلم والدين، فما كان يخفي عليها ما جاء من نهي المرأة عن النقاب وهي محرمة.(2/204)
فلو كان التخمير مثله لما أقرتهن عليه وما كانت لتفرق بينهما برأيها، وفي كليهما ستر وتغطية لولا أنها على توقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في التفريق ما بينهما. ولهذا احتج مالك رضي الله عنه بتقريرها فخرجه في موطئه.
التأييد:
يؤيد هذا حديث عائشة المتقدم وفيه تقرير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن على ما فعلن. وهو حديث محتج به: والذي وقع فيه كلام من رواته- وهو يزيد بن أبي زياد- قد قبله مسلم وجعله ممن يشمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم. كما في مقدمة صحيحه.
الأحكام والاستدلال:
ستر وجه المرأة عن رؤية الأجنبي مشروع بالتقرير النبوي له في وقت الإحرام الذي هو وقت كشف وجه المرأة: ولذلك كن- كما في حديث عائشة- يكشفن وجوههن إذا جاوزهن الركبان. وما نهيت المرأة عن النقاب في الإحرام إلا وقد كان النقاب من شأنها وعادتها- والعادة التي يقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لمصلحة تصير من الدين باستنادها إلى التقرير النبوي الذي هو أصل من أصول التشريع، والمصلحة المراعاة هنا هي سد ذريعة افتتان الرجال بالنساء بسبب النظر، ودفع هذه الفتنة على اعتباره القول والفعل النبويان كما في حديث الخثعمية الآتي قريبا، ولما لم يكن وقوع الافتتان محققا دائما لم يكن ستر الوجه حتما لازما في كل حال بل يجوز للمرأة الكشف عند عدم تحقيقها كما في حديث الخثعمية أيضا على ما سيأتي من البيان.
حديث الخثعمية:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس(2/205)
رديف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ا. هـ
المقصود منه:
رواه مالك والجماعة، وفي رواية الترمذي من طريق علي كرم الله وجهه قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج أفيجز لي أن أحج عنه، قال: حجي عن أبيك، قال- علي- ولوى عنق الفضل فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما. ففي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لم آمن عليهما الشيطان أن الفتنة لم تقع وإنما خاف وقوعها فسد ذريعتها، وفي قوله هذا وفعله دليل على مراعاة الفتنة، وسد ذريعتها، وفي عدم أمره للمرأة بستر وجهها دليل على جواز ذلك لها، وهذا بناء على أنها كانت مكشوفة الوجه، كما هو الظاهر من نظر الفضل إليها، ومن خوف الفتنة وهو الذي فهمه أكثر الناس، وإن احتمل أن تكون مستورة الوجه بما سدلته من رأسها كما قاله ابن العربي.
تحصيل:
ستر وجه المرأة مشروع راجح وكشفه عند أمن الفتنة جائز وعند تحققها واجب، وأمر الفتنة يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص والأحوال فيختلف الحكم باختلاف ذلك ويطبق في كل بحسبه.
تطبيق:
من المسلمين اليوم أقوام- معظمهم من غير أهل المدن والقرى-(2/206)
ألفوا خروج نسائهم سافرات فلا يلفتن أنظارهم بذلك، فهؤلاء لا يطالبن بستر الوجوه مع بقاء حكم غض البصر وحرمة تجديد النظر، ومن المسلمين أقوام- معظمهم من أهل المدن أو القرى- ألفوا ستر وجوه النساء فكشف المرأة بينهم وجهها يلفت الأنظار إليها، ويغري أهل الفساد بها، ويفتح بابا للقال والقيل في شأنها، وشأن أهلها، وعشيرتها، فهؤلاء يجب عليهن ستر وجوههن، اتقاء للشر والفتنة والوقيعة في الأعراض.
هذه أحكام عامة لنساء المؤمنين- ولأمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أحكام خاصة بهم، على أنهن خير القدوة للنساء أجمعين.
تفرقة وتحذير:
هنا سفور إسلامي وهو كشف المرأة وجهها- دون شعرها وعنقها- عند أمن الفتنة، مع عدم إظهار الزينة، غير الوجه والكفين، وعدم إثارة الفتنة بروائح الطيب وخشخشة الحلي ورنين الخلخال.
وهنالك سفور إفرنجي فيه كشف الشعر والعنق والأطراف مع التبرج بالزينة وما إليها، فعلينا- معشر المسلمين- أن نوجه قوتنا كلَّها إلى منع السفور الافرنجي الذي قد طغى حتى على نساء أمراء الشرق المسلمين ووزرائه، وأن نحذر كل ما يؤدي إليه وأن نحافظ على الوضعية الإسلامية العفيفة الطاهرة بسفورها- إذا كان سفوراً على ما فصلناه- في دائرة محدودة ليس فيها إثارة ولا إغراء.
توصية:
على المربين لأبنائنا وبناتنا أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائق(2/207)
الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها وبما يطبعوهم ويطبعوهن (1) عليه من التربية الإسلامية العالية، لميادين الحياة فيكونوا ويكنَّ - إن شاء الله تعالى- مثال الطهر والعفاف، والصون للأجيال، حقق لله الآمال ويسر الصالح من الأعمال إنه عظيم الفضل كريم النوال (2).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) ش: ج 1، م 13، ص 5 - 8.
غرة محرم 1356 هـ- 14 مارس 1937م.(2/208)
النساء والكمال.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ».
رواه البخاري- ومسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم وقوة الإرادة وقوة العمل، فهي أسس في الخلق الكريم، والسلوك الحميد، اللذين ينهض بهما بجلائل الأعمال ويبلغ بهما إلى أسمى غايات الشرف والكمال، والمرأة لما خلقت لقسم الحياة الداخلي أعطيت من القوى الثلاث القدر الذي تحتاج إليه منها وهو دون ما يحتاج إليه الرجل الذي خلق للقيام بقسم الحياة الخارجي فكانت بخلقتها أضعف منه في العلم والإرادة والعمل فكانت لذلك دونه في الكمال، وتقسيم الحياة إلى قسميها ضروري لبقاء النسل وحفظه وتقسيم وظيفة الحياة بين الرجل والمرأة، وإعطاء كل واحد منهما القدر الذي يحتاج إليه في وظيفته من بديع صنع الحكيم الخبير، فلو لم يعط الرجل ما أعطى من كمال القوى لما استطاع القيام بالأعمال الكبيرة في قسه ولو اعطيت المرأة مثل ما أعطى لما صبرت على البقاء في قسمها فأخلته فاختل النظام فحصل الفساد. ونحن نرى اليوم المرأة في المدنية الغربية ومقلديها لما خيل إليها أنها قوية مثل الرجل هجرت وظيفتها أو أهملتها وخرجت(2/209)
تزاحم الرجل في وظيفته فأضرت بالقسم الداخلي من الحياة بإهماله واضطرابه وأضرت بالقسم الخارجي بمزاحمة الرجل وزحزحة قسم كبير منه عن العمل وتعريضه للفتن، والأمم الغربية اليوم تشكو مر الشكوى من تفكك نظام الاسرة وانحلال رباط الأخلاق الزوجية وبعضها عاجز عن تدارك أمره بما فيه من فوضى الآراء وتشعب الأهواء وتأصل الداء، وبعضها قد أخذ يعالج الحالة بما فرضه على العزابة من ضريبة مالية وما جعله من مكافآت المتزوجين والمتزوجات.
الإرشاد النبوي:
فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعرفنا بهذا الضعف في جنس المرأة حتى لا نعدو بها ما خلقت له من وظيفة القسم الداخلي من الحياة فنظلمها ونظلم الحياة، وأراد أن يدلنا على ضعفها بدليل تاريخي مشاهد للأجيال، فذكر لنا تخلفها عن الرجل في بلوغ ذروة الكمال، فأخبرنا أنه قد كمل في الأمم الماضية من الرجال كثير وما كمل منهم من النساء غير امرأتين. وذكر فضل عائشة على نساء وقتها كفضل الثريد على الطعام من أطعمة العرب ليجمع بين الحديث على الأمم الماضية وأمته ويدل على استمرار الكمال في النساء مثل استمراره في الرجال كل بما قدر ويسر له.
إلى أي درجات الكمال بلغتا:
قد بينت درجات الكمال في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقد ذهب بعض الناس إلى أن كمال مريم وآسية ببلوغهما درجة النبوة، وذهب الأكثرون إلى أنهما لم تبلغا إليها وإنما بلغتا ما دونها من رتبة الصديقية، واستدلوا بما تقتضيه(2/210)
رتبة النبوة من الظهور لهداية الناس وإرشادهم، وذلك غير ما خلقت له المرأة، وهذا الحديث ليس نصا في كمال النبوة فلا تقوم الحجة. وقد جاء في صحيح مسلم- من طريق علي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة». فأخبر بخير نساء الدنيا في الأمم الماضية وخير نساء الدنيا في هذه الأمة، فكما لم تكن هذه نبية لم تكن تلك نبية، على ظاهر الفرق ما بينهما في الخيرية. وذهب قوم إلى نبوة مريم بدليل أن الملائكة خاطبتها باصطفاء الله لها وأمرها بالقنوت والسجود والركوع في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وهذه هي النبوة: تبليغ الملائكة وحي الله بالاصطفاء والتكليف لمن يشاء من عباده. فهذا الدليل القوي دليل على خصوصية مريم البرة النقية عليها السلام بهذه المزية بين بنات حواء كلهن.
الاقتداء:
هؤلاء السيدات الكاملات كلهن قد كملن في الدين فمنهن أمُّ نبي ومنهن زوجة نبي ومنهن منقذة نبي. فعلينا أن نكمل النساء تكميلا دينيا يهيئن للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة وإعداد الكاملين ومساعدتهم للنهوض بالقسم الخارجي منها. وبذلك تنتظم الحياة انتظاما طبيعيا تبلغ به الإنسانية سعادتها وكمالها (1).
__________
(1) ش: ج6، م 11، ص 346 - 348 جمادى الثانية 1354هـ - 1935م.(2/211)
شَهِيدَةٌ فِي مَيْدَانِ الْوَغَى (1).
((مَالِك، عَنْ إِسْحَقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَا يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ -وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ -يَشُكُّ إِسْحَقُ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، قَالَتْ: فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
ثبت عند البخاري من طريق الليث تصريح أنس بالرواية عن أم حرام خالته، فكان أنس مرة يصرح بها ومرة لا يصرح، وإذا روى الصحابي ما هو من أقوال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وشؤونه عن غيره فلا يقدح في حديثه عدم تصريحه بمن روى عنه لأن غيره
__________
(1) العنوان من وضع المعلق.(2/212)
صحابي مثله، والصحابة كلهم عدول، ورواة هذا الحديث- غير مالك- أقارب، فإن اسحاق ابن عم أنس وأم حرام خالة أنس، وقد روى هذه القصة بلفظ أخصر عن أم حرام أو آخر عمير بن الأسود العنسي. أخرجه البخاري.
المتن:
جاء عنه بألفاظ متقاربة كلها متفقة على أصل المعنى، وخرجه البخاري بتلك الألفاظ في مواضع من صحيحه.
العربية:
فلي الرأس: تفتيشه لإخراج الهوام أو للتنظيف من غبار ونحوه، والمقصود هنا الثاني لأن الأخبار متواترة تواتراً معنويا بنظافة جسمه- صلى الله عليه وآله وسلم- وطيب ريحه وعرقه. وثبج البحر: وسطه، وهو معظمه ومحل هوله.
سؤال وجوابه:
ما وجه دخوله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليها وتمكينها من فلي رأسه؟ كانت كل محرما له بالخؤولة أو بالرضاعة؛ حكاه الأئمة.
تحقيق تاريخي:
أول ما ركب المسلمون البحر للغزو في خلافة عثمان- رضي الله عنه- استأذنه معاوية- رضي الله عنه- فأذن له فغزا قبرص سنة سبع وعشرين. ذكره ابن الأثير وغيره، وأول ما غزا المسلمون القسطنطينية وركبوا إليها البحر كان في خلافة معاوية سنة 28هـ، وكان في ذلك الجيش أبو أيوب الأنصاري دفينها.
تطبيق على هذا الحديث:
خرجت أم حرام مع زوجها وركبت البحر في زمان معاوية، أي(2/213)
في زمان إمارته، وكان ذلك أول جيش ركب البحر، وكانت هي معهم وتوفيت بعد خروجها من البحر ونزولها في أرض قبرص، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، وأما الجيش الثاني فهو الجيش الذي غزا القسطنطينية ولم تكن أم حرام معهم. وما جاء في صحيح البخاري صريح فيما قلناه من تعين الجيش الأول والجيش الثاني. ونصه من طريق عمير بن الأسود عن أم حرام قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قالت أم حرام قلت: يا رسول الله، أنا فيهم، قال: أنت فيهم. ثم قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا.
فكانت مع أول جيش غزا البحر وهو جيش معاوية إلى قبرص لا غيره كما حققنا.
الأحكام:
فيه دخول الرجل على محرمة دون حضور الزوج. وفيه سنة إطعام الزائر، وفيه تصرف المرأة فيما تحت يدها من مال زوجها من الطعام بالمعروف. وفيه مباشرة محرم الرجل له في غير العورة. وفيه سنة القيلولة. وفيه سنة إظهار السرور بالنعم والطاعات، وفيه جواز سؤال من بدر منه ما لا يعرف سببه، وفيه الاهتمام بكل ما يصدر منه- صلى الله عليه وآله وسلم-، وفيه جواز ركوب البحر، وفيه جواز التوسع بالحلال، وفيه فضل الغزو في البحر، وفيه سؤال الشهادة، وفيه سنة طلب الدعاء ممن ترجى إجابته، وفيه الدعاء ممن طلب منه، وفيه غزو النساء مع الرجال.
الفوائد:
منها: أن رؤيا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وحي محفوظ، وقد(2/214)
كان الصحابة يعلمون هذا علما عاماً ولذلك سألت أم حرام أولا وثانيا سؤال المتيقن بوقوع الغزو على الوجه الذي ذكر- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قد تكون رؤياهم بالمثال كما رأى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بقرة تنحر فأولها بمن قتل من أصحابه في غزوة أحد، وقد تكون بالصريح الذي لا يحتاج إلى التأويل كما هنا، ومنها تحقيق استجابة دعائه إذا دعا، ولهذا قال لها في الثانية- جازما-: أنت من الأولين. وهذا فيما لم يعلم بالمنع منه كما في حديث وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، يعني أمته فمنعنيها. ومنها أن من معجزاته- صلى الله عليه وآله وسلم- إخباره بأمور غيبية لم يكن شيء مما يدل عليها أو يقتضي وقوعها يوم أخبر فوقعت كما أخبر فركب أصحابه البحر وغزوا الروم ومدينة قيصر من بعده بينما كانوا يوم أخبر بهذا من أبعد الأمم عن ركوب البحر والبراعة فيه وكانت أم حرام مع الطائفة الأولى كما أخبرها، وكانت منهم على أبلغ وجه حيث فازت بالثمرة المقصودة من الغزو وهي الشهادة وإن كان موتها في غير مباشرة القتال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد. رواه مسلم ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
الموعظة:
علم الله أن السيادة في البر لمن ساد في البحر، وأن أقسام الأرض المتقاطعة وأصناف الأمم المتباينة، لا يقرب بينها. ويفتح الطريق لتواصلها وتعارفها، وينقل مدنياتها من بعض إلى بعض منها إِلاَّ ركوب البحر وملك ناصيتها، فجاءت الآيات القرآنية العديدة في ذكر البحر(2/215)
وصفاته ومنافعه وسفنه وبديع الصنعة فيه وعظيم النعمة به. وجاء هذا الحديث يبشر الأمة الإسلامية بما هيء لها من أسباب السيادة ويعرفها أنها أمة ملك وسلطان وقوة وأنها ستملك البحار، وتغزو الأمصار الكبار، يعرفها بهذا ويدعوها إليه لتعد له عدته وتأخذ له طريقه وتتوصل إليه بأسبابه. إذ لا يكون ملك إلا بأسباب الملك، ولا تكون قوة إلا بأسباب القوة ولا تكون السيادة إلا بأسباب السيادة، وقد علمت من دينها أن السيادة لا تكون إلا بالملك وأن الملك لا يكون إلا بالقوة: قوة الأبدان وقوة العقول وقوة الأخلاق وقوة المال- وبهذه يكون العدل الذي هو أساس الملك- وأن لا قوة إلا بالعلم والعمل والتهذب، فإذا دعاهم هذا الحديث إلى السيادة فقد دعاهم إلى هذا كله ونبههم على هذا التقدير المحكم الذي ارتبط بعضه ببعضه وعلى أنه لا سبيل إلى غايته إلاَّ بإتيانه من بدايته، وقد فهم المسلمون هذا دهرا فسلكوه فأنجز لهم الله وعده، وجهلوه أدهارا فتركوه فأذاقهم الله بأسه، وما ربك بظلام للعبيد. ولئن عادوا إليه ليعودن إليهم، ولن يخلف الله الميعاد (1).
__________
(1) ش: ج1، م 10، ص 9 - 14
غرة رمضان 1352هـ - فيفري 1934م.(2/216)
خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.
((روى مسلم في صحيحه بسنده عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللهَ بْنَ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا». قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.))
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح:
قد صح من السنة العملية والسنة القولية خروج النساء إلى المساجد وحضورهن مشاهد الخير، وثبت نهي الرجال عن منعهن من ذلك، ومنه ما في هذا الحديث. وعليهن قبل الخروج أن يستأذن الرجال كما هو مقتضى قوله إذا استأذنكم إليها، كما ثبت أيضا نهيهن عن مس الطيب إذا أردن الخروج وعليهن لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وأن يضربن بخمرهن على جيوبهن وأن يدنين عليهن من جلابيبهن وهي ما يجعل فوق الثياب كلها كالملاءة ونحوها وأن لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فلا يسمع منها خشخشة الحلي ولا رنين الخلخال. وأن يمشين في حافات الطريق ولا يحاققن الطريق، أي لا يمشين في وسطه وهذه كلها مأخوذة من الآيات والأحاديث في هذا الباب ولما سمع بلال بن عبد الله أباه يحدث بهذا الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قابله بالرد وقال والله لنمنعهن فغضب أبوه غضبا شديدا وسبه وشتمه سبا سيئا مقابلا لقوله السيء ومقابلته للحديث النبوي بالمعارضة.(2/217)
نفي تعارض:
ثبت عن عائشة أنها قالت: لو أن رسول الله- صلى الله عليه وآله ولسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، وهذا لا يعارض ما تقدم، لأن الذي أحدثته هو الطيب والزينة وهو نهي عن منعهن ونهاهن عن مس الطيب عند إرادة الخروج فلو رأى ما أحدثن لمنعهن لإخلالهن بالشرط حتى يلتزمنه ولا يمنعهن منعا يكون إبطالا لنهيه الأول عن منعهن.
قدوة:
لما سمع عبد الله بن عمر ابنه بلالا يصارحه بمعارضة السنة ومخالفتها لم يملك نفسه واستشاط غضبا حتى سبه سبا سيئا لم يكن من عادة ابن عمر صدور مثله منه. وهكذا كل مسلم غيور على الإسلام والكتاب والسنة يسمع من أهل الإسلام التكذيب بهما أو التعدي عليهما أو المعارضة لهما بالرأي والهوى أو تحريفهما عن مواضعهما كذلك فإنه لا يملك نفسه أن يدافع عنهما وقد يملكه الغضب لله فيكون منه بعض ما ليس من عادته أن يصدر منه من قول.
تحذير وإرشاد:
هذا الذي وقع من بلال كثيرا ما يقع مثله أو نحوه من أهل الجهل والبدعة الذين شبوا عليهما وشاخوا حتى صارت البدعة عندهم سنة والسنة بدعة فإذا ذكرت لهم الحكم الشرعي بدليله من الكتاب والسنة صدوا ونفروا وأبوا واستكبروا وصارحوا بالمخالفة أو سكتوا وأضمروا الخلاف. وما هذا شأن المؤمنين فحذار إذا سمعت حكما شرعيا ونصا قرآنيا أو حديثا صحيحا نبويا أن تقابل بالخلاف بل انشرح بذلك صدر ولا يكن في صدرك من حرج مما قضى الله ورسوله وسلم تسليما (1).
__________
(1) ش: ج5، م 8، ص 250 - 252
غرة محرم 1351هـ - ماي 1932م.(2/218)
تَحْرِيمُ الْخُلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ خُصُوصًا عَلَى الْأَقَارِبِ.
((أخرج مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
الحمو: على وزن دَلو قال الليث بن سعد: هو أخ الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه، فالأحماء أقارب الزوج والأختان أقارب الزوجة والأصهار يقال عليهما.
التراكيب:
نصب إياكم على التحذير. أفرأيت معناه أخبرني. الحمو الموت تشبيه بليغ كزيد أسد، وفي الموت استعارة تصريحية شبه فساد البيوت وخرابها وانحلال روابطها بالموت بجامع الهلاك والزوال في كل. فجاء عليه وآله الصلاة والسلام بهذا التركيب البليغ البالغ للمبالغة في التحذير والبلوغ إلى غاية التأثير.
المعنى:
حذر عليه وآله الصلاة والسلام الرجال من الدخول على النساء، وكانوا يتساهلون في الدخول على نساء أقاربهم، فسأل هذا الأنصاري - رضي الله تعالى عنه-عن أقارب الزوج، فأجابه- صلى الله عليه وآله وسلم-(2/219)
بأن الخوف منه أكثر والشر منه أقرب والفتنة به أشد، لأنه متمكن الدخول إلى بيت أخيه دون إنكار عليه، فيتوصل إلى المرأة ويخلو بها دون كلفة ولا مراقبة، بخلاف الأجنبي فهو بعيد عن الدار ينكر عليه دخولها ويخشى من مراقبة أهلها، فإذا كان الأجنبي ممنوعا من الخلوة بالأجنبية فأحرى وأولى قريب زوجها. وبيَّن عليه وآله الصلاة والسلام أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الهلاك والفتنة في الدين وإلى خراب البيت وفساد الأسرة واضمحلالها.
الأحكام:
حرم الحديث الخلوة بالأجنبية خصوصا على الأقارب أما المحرم كزوجة الإبن أو زوجة الأب فلا تحرم الخلوة بها للمحرمية وأما الدخول دون خلوة فإذا انتفت الريبة فهو غير ممنوع.
العمل بالحديث:
الناس- إلا من شاء الله- بهذا الحديث جاهلون، وعن سوء العاقبة التي حذر منها غافلون، وفي الهلاك الديني والعرضي واقعون، فحق على من قرأ هذا الحديث أن يعلمه للناس وينشره فيهم ويحث نفسه وإياهم على العمل به والسير على أدبه ولا يستعظمن ما يراه من جهل فإنه ما جاء إلا من قلة نشر العلم فإذا نشر العلم- ولو كان في أوله قليلا- فإنه لا يلبث بإذن الله أن يصير كثيرا، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (1).
**
__________
(1) ش: ج 9، م 8، ص 459 - 460
غرة جمادى الأولى 1351هـ - سبتمبر 1932م.(2/220)
خَيْرُ النِّسَاءِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَلِي عِيَالٌ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
الحديث ثابت في الصحيحين وإنما انفرد مسلم بهذه الرواية التي فيها ذكر سبب ورود الحديث وهو خطبة النبي- صلى الله وآله وسلم- أم هانيء- رضي الله عنها- وما أجابت به.
الكلمات:
حنا عليه: يحنو حنوا عطف فالأحنى هو الأكثر عطفا. وحنت المرأة على ولدها حنوا فهي حانية إذ لم تتزوج بعد أبيه فإذا تزوجت فلا يقال فيها حانية. رعي الشيء يرعاه رعاية حفظه فالأرعى هو الأحفظ. وذات اليد هي الأموال لأنها صاحبة اليد تجعل فيها.
التراكيب:
ركبن الإبل: كناية عن نساء العرب وقصد بها التعميم أي خير نساء العرب كلهن. وجملة أحناه مستأنفه لبيان ما كن به خير النساء، وأفردَ الضمير في أحناه باعتبار الجنس.(2/221)
الأشخاص:
أم هانيء بنت أبي طالب كانت تزوجت هبيرة بن عمر المخزومي أسلمت عام الفتح وهرب زوجها إلى نجران فأولادها منه هم العيال الذين اعتذرت به وأبت أن تتزوج عليهم فقبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عذرها.
المعنى:
خير نساء العرب نساء قريش لجمعهن بين: الرأفة بالولد والشفقة عليه والعناية به في تربيته حتى يتركن التزوج من أجل التفرغ للقيام به، وحفظهن للمال وحسن التدبير فيه والأمانة عليه. فيكفين الزوج أعز شيء لديه وهو ماله وولده اللذان بهما حسن حاله وبقاء أثره.
تنبيه على استلزام:
لا تستطيع ترك التزوج بعد تأيمها للتفرغ لتربية أولادها إلا المرأة الكاملة العفاف الشديدة الرأفة التي أنساها حبها في أولادها والشفقة عليهن داعية النفس إلى الزواج وما استطاعت ذلك إلا بما عندها من ملكة العفاف فوصفها بأنها حانية يستلزم أنها عفيفة.
توجيه:
لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها وقد خصص الله المرأة للقيام بهذين الأمرين العظيمين وزودها من الرحمة والشفقة ما يعينها عليهما، وإنما تقوم بهما إذا جمعت ما بين العفة في نمسها والاقتصاد في نفقتها والتفرغ للقيام بأولادها ولهذا لما جمع نسوة قريش ذلك كله كن خير نساء العرب.
إرشاد:
يبين لنا هذا الحديث الشريف ما خلقت له المرأة من العمل العظيم(2/222)
في الحياة ويرشدنا بذلك لوجوب القيام عليها وتهيئتها لذلك بالتربية والتعليم فتكون تربيتنا وتعليمنا لها بما يقوي فيها هذه الصفات: العفة وحسن تدبير المنزل والنفقة فيه، والشفقة على الولد وحسن تربيته، وكل زيادة على هذه- بعد تهذيب أخلاقها وتصحيح دينها وتحبيبها في قومها- فهي ضارة بها أو مخرجة لها عن مهمتها العظيمة ملحقة الضرر بقومها فلنجعل هذا الحديث الشريف دليلنا ومرشدنا في كل ما نسعى إليه من تعليم النساء والبنات.
الأحكام:
امتنعت أم هانيء من التزوج للقيام بأولادها فأقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأثنى على المتصفات به فدل ذلك على استحسانه لمن ملكت عفتها وقدرت عليه. وثناء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على نساء قريش بوصفهن دليل على ما ينبغي من اختيار المرأة المتصفة بمثل هذا الوصف. ودليل ما ينبغي أن يتخير من معادن النساء في بيوتهن وأقوامهن فإن الأخلاق تتوارث والبنات متأثرات بالأمهات في الغالب.
تصديق:
إن نساء أنجبن من أنجبن من رجالات قريش في الجاهلية والإسلام وولدن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن خير نساء في كل ما توصف به النساء من خير فصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وبرَّ وشهدت بصدقه الأيام (1).
**
__________
(1) ش: ج 9، م11، ص 496 - 498 رمضان 1354هـ - ديسمبر 1935م.(2/223)
الآيه الخالدة لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم.
أَبُو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
رواه البخاري ومسلم وغيرهما
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما كان المقصود من الرسالة هو هداية الخلق وإقامة الحجة عليهم كان الرسل- صلوات الله عليهم- أكمل الناس في أخلاقهم وأنزههم في سيرتهم، معروفين بذلك بين أقوامهم قبل نبوتهم، ثم إذا بعثهم الله تعالى آتاهم من العلم وقوة الإدراك ووضوح البيان ما تنهض به حجتهم وتتضح به دعوتهم ويقطع بكل من يعارضهم بشبهة ويموه بباطل، وإذا قرأت ما قصَّه علينا القرآن العظيم من مواقف الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم- رأيت كيف أنهم كانوا يدعون الناس بالحجج والبراهين والأدلة العقلية الجلية، وأنهم كانوا إذا سئلوا الآيات المعجزات الخارقة للعادة ردوا الأمر إلى الله ونفوا أن تكون لهم قدرة على الإتيان بها إلا بإذن الله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فيظهر الله على أيديهم الآيات تأييدا لهم وتخويفا لأقوالهم وقطعا لمشاغبتهم، فيخضع لها بَعضهم ويستمر الأكثرون على العناد، فما من نبي من الأنيياء إلا وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما مثله في وضوحه، وظهوره والعجز عن(2/224)
معارضته ما يؤمن عليه العباد، ويتفقون عليه لولا ما يصدهم عنه من العناد، وهو معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أوتي مثل هذه الآيات، وقد غفل الكثير منها كثير من أصحابه- رضي الله عنهم- واشتهرت عند أئمة الحديث والنقل، غير أن آيته الخالدة الدائمة كعموم رسالته ودوامها هي القرآن العظيم وهو الوحي الذي أوحاه الله إليه، فهي المعول عليها في دوام الحجة على تعاقب العصور والأجيال، اذ لا يقوم غيرها مقامها في بقائها مشاهدة لجميع الناس، ولذا حصر آيته فيها فقال: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي».
تفرقة وترجيح:
آيات الرسل- صلوات الله عليهم- كانت معجزات كونية لا يشهدها إلاَّ من حضرها، ثم تبقى أخبارا يمكن للجاحد إنكارها ويتأتي للمشاغب أن يصنع من الخزعبلات والمخارق ما يموه به على ضعفه العقول ويدعي مماثلتها.
وآية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهي القرآن العظيم معجزة علمية عقلية يخضع لسلطانها كل من يسمعها ويفهمها ولا يستطيع معارضتها، لا في لفظها وأسلوبها وبيانها، الذي عجزت عن معارضة أقصر سوره العرب، على ما كان من حميتها وانفتها وشدة رغبتها في إبطالها لو وجدت سبيلا إليها فقط- بل لا تستطاع معارضتها فيما اشتملت عليه من أصول العلوم التي يحتاج إليها البشر في كمالهم وسعادتهم أفرادا وجماعات، وأمما وما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة والحكم الباهرة في كل ما دعت إليه إلى ما اشتملت عليه من حقائق كونية كانت مجهولة عند البشر حتى كشفها العلم في هذا العصر مثل(2/225)
انباء الخلق كله على أساس الزوجية في أشياء كثيرة. مصداق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. فبهذا كانت آية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أعظم الآيات وأبقاها، وكانت مغنية عن غيرها كافية عما عداها كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
تفريع:
لما بقيت هذه الآية الكبرى على العصور- وانبنت على الاحتجاج بالعلم والعقل كان لها في كل عصر اتباعها الكثيرون عن اقتناع واطمئنان ويزداد ويكثر عددهم بتوالي الأزمان. ويكثر الداخلون فيهم بقدر ما يزداد تقدم البشر في العلم والعرفان، وقد شوهد هذا اليوم وقبل اليوم. ونحن نرى في هذا العصر كيف ينتشر الإسلام تباعا لهذه الآية بين الأمم وفي علمائها دون نشر للدعوة من المسلمين تبينها ولا قوة لهم تؤيدها. وإنما بما فيه من علم وحجة وأدب وحكمة تخضع العقول وتجذب القلوب. ولهذا فرع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على كون آيته، وحيا رجاء أن يكون أكثر الأنبياء- صلوات الله عليهم- أتباعا يوم القيامة الذي تظهر فيه التابعية الصادقة فقال: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
إنفراده- صلى الله عليه وآله وسلم- بالاتباع من يوم بعثته:
ليس المنتمون لموسى- صلى الله عليه وسلم- ولعيسى - صلى الله عليه وسلم- باتباع لهم، لأن دعوة الأنبياء- صلوات الله عليهم- واحدة ودينهم- وهو الإسلام- واحد وإن اختلفت بعض الفروع العملية في شرائعهم، فمن لم يؤمن بواحد منهم كمن لم(2/226)
يؤمن بهم كلهم، وما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بدعا من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاؤا به، وما جاء إلا مصدقا لهم. فالذين لم يتبعوه من المنتمين إليهما عليهما السلام غير متبعين لهما فانقطعت تابعيتهما ببعثة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فمن آمن به كان من اتباعه وإلا كان من الهالكين. وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم- «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار».
إقتداء:
كل داع له من الأجر مثل أجور من اتبعه على دعوته لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، فرجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعه إذ في ذلك انتشار الهداية، وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- أحرص الناس على هداية الناس، وفي ذلك مضاعفة أجره وجزائه عند الله، فلنا فيه الأسوة الحسنة بالحرص على نشر هدايته وتبليغ دعوته ورجاء كثرة الأجر والثواب بكثرة ما نوفر من اتباعه فليعمل العاملون لهذا وليجهدوا فيه.
وقد رجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعه لدوام وظهور آيته الخالدة، وهي القرآن العظيم، فعلى الناشربن لهدايته والمبلغين لدعوته أن يجعلوا القرآن أمامهم وحجتهم ومرجعهم، فإنه هو كتاب الدعوة، ومنشور الهداية، ومظهر الحجة. وأتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- هم أتباع القرآن وخلفاؤه في التبليغ، وورتثه في العلم هم الذين يبلغون القرآن ويتلون القرآن وينذرون بالقرآن كما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك وكما قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}(2/227)
{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}.
جعلنا الله ممن اتبعوا دينه، ونشروا هدَايته وبلغوا حجته غير مبدلين ولا مغيرين (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 11، ص 145 - 149 صفر 1354 هـ-3 جوان 1935م.(2/228)
قِيمَةُ الرَّجُلِ بِقِيمَةِ قَوْمِهِ.
لما قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» (1) نبه على معنى عظيم في ارتباط كل فرد بأمته ارتباط الجزء بكله وهذا الارتباط يقتضي أمورا كثيرة منها ما جاء نصا في الحديث الشريف ومنها ما يؤخذ مما يقتضيه التشبيه ومن هذا أن الفرد منظور إليه في النظر الاجتماعي العام بما ينظر به إلى أمته، سواء أساواها في المستوى الذي هو فيه من رقي وانحطاط، أم كان أسمى منها أو أدنى فقيمته في النظر الاجتماعي العام هي قيمتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جمعتني ليلة بثلاثة من شبابنا المتعلم التعليم الأوروبي والمتأدب الأدب الإفرنجي ممن لا ينقصه شيء عن الطبقات الراقية منهم، وانساق بنا الكلام إلى ما تكتسب به الأمم والأفراد الاحترام في عين غيرها، واتفقنا على أن الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعد أمة بين الأمم، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار مع القضاء عليها في ميادين الحياة بالتقهقر والاندحار. وان الفرد الذي لا يحافظ على ذلك من أمته لتأخرها في سير الزمان بما أحاط بها من ظروف الحياة وأن تحلى بأعظم وأحسن ما يتحلى به الراقون من أمة أخرى لا ينظر إليه إلا بالعين التي ينظر بها إلى أمته.
أخذ أولئك الشبان- وقد زالت عن أبصارهم غشاوة الغرور
__________
(1) رواه مسلم ولفطه: تداعى له سائر الجسد (المعلق).(2/229)
والغفلة لما أقنعتهم بأن قيمة الرجل بقيمة أمته- يقصون علي من الوقائع التي وقعت لهم هم أنفسهم ما يثبت تلك الحقيقة ويؤيدنها. قلت لأولئك الأخوان- وقد اندهشت مما لم أكن أحسبه يقع-: لا تلوموا من عاملكم بما تقتضيه نظرة اجتماعية عامة، ولكن لوموا أنفسكم إن جهلتم هذه الحقيقة، وأنتم أبناء دين قررها من أول أيامه في مثل الحديث الشريف الذي افتنحنا به هذا المقال. واليوم- وقد تجلت لكم الحقيقة علميا وعمليا- عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنشلوها مما هي فيه بما عندكم من علم وما اكتسبتم من خبرة محافظين لها على مقوماتها سائرين بها في موكب المدنية الحقة بين الأمم، وبهذا تخدمون أنفسكم وتخدمون الإنسانية بإنهاض أمة عظيمة تاريخية من أممها، ثم لا يمنع هذا من أخذ العلم عن كل أمة وبأي لسان واقتباس كل ما هو حسن مما عند غيرنا ومد اليد إلى كل من يريد التعاون على الخير والسعادة والسلام (1).
__________
(1) ش: ج 8، م 11، ص 443 - 444 شعبان1354 هـ- نوفمبر 1935م.(2/230)
مِنَ السُّنَّةِ تَعَلُّمُ اللُّغَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ قَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ» قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ. قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. رواه الترمذي وحسنه ورواه غيره
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما نزل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالمدينة مهاجراً كان بها وبضواحيها مع الأوس والخزرج- رضي الله عنهم- اليهود، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكتب بينه وبينهم عهداً، وكانت الكتب تدور بينه وبينهم في الشؤون والمصالح من الطرفين. فكانوا يكاتبونه بالخط العبراني، كانت لغتهم العربية، ولكنهم كانوا يكتبون بالخط العبري، فأمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كاتبه زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أن يتعلم الخط العبري ليكتب له إليهم ويقرأ له ما يرد عليه منهم فيكون على يقين من كلامهم إليه وبلوغ كلامه إليهم، وما كان ليحصل له هذا اليقين- وهم ليسوا بمحل الثقة- لو تولى ذلك واحد منهم فقد لا يكتب عنه كل ما يقوله لهم وقد لا يقول له كل ما كتبوه إليه، فتعاطى زيد تعلم الخط العبراني، فما مضى عليه نصف شهر حتى حذقه وتولى الكتابة عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- والقراءة له.(2/231)
الفوائد والأحكام:
الأولى: كل قوم تربط بينهم المصالح لا بد لهم من التعاون، ولا يتم التعاون إلا بالتفاهم والتفاهم بالمشافهة والكتابة، فعلى القوم المترابطين بالمصلحة أن يفهموا بعضهم لغة بعض وخطه، وبقدر ما تكثر الأقوام المترابطة بالمصلحة تكثر اللغات والخطوط ويلزم تعلمها، لأن العلة هي الحاجة. وسواء كانت المصلحة التي تربط الأقوام عمرانية أو علمية لأن المصلحة من حيث هي مصلحة محتاج إلى تحصيلها، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر زيداً بتعلم الكتابة، لأن اللغة كانت عربية ولو كانت لغة أخرى لأمره بتعلمها لعلة الحاجة، والحكم يدور مع العلة. وقد جاء عن زيد من طريق أخرى- ذكرها الترمذي- أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمره أن يتعلم السريانية. فنحن اليوم وقد ربطت بيننا وبين أمم أخرى مصالح علينا أن نعرف لغتهم وخطهم كما عليهم هم أن يعرفوا لغتنا وخطنا.
الثانية: هذه السنة أصل في اتخاذ الكتبة والتراجمة في الدولة وما يشترط فيهم من العلم والأمانة.
الثالثة: كان في إمكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكاتبهم بالخط العربي ويلزمهم أن يكاتبوه به ولكن تسامح الإسلام واحترامه لمحترمات الأمم في دينهم وقوميتهم قضيا بترك اليهود يكتبون ويكاتبون بخطهم، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ما أرادوا وكلف هو من تعلم خطهم. وتركها لاتباعه سنة بعده.
الرابعة: هذه السنة أصل في ضبط أمور الدولة بالكتابة فيما يصدر عنها وفيما يوجه إليها. ومثلها ضبط كل العاملات، فهي أصل في التسجيل على العموم. وهكذا تجد سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا تتبعتها- قد قررت - بالفعل- أصولا كثيرة(2/232)
من أصول المدنية والعمران، ولهذا كان على قارئها أن يتناولها للفهم والاستنباط والتطبيق على الأحوال (1).
__________
(1) ش: ج 2، م 11، ص 77 - 78 صفر 1354 هـ- 5 ماي 1935م.(2/233)
التَّسَتُّرُ بِالنَّقَائِصِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ -وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ- فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ».
رواه البخاري في الأدب ومسلم في الزهد والرقائق
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلمات:
المعافى: من العافية وهي السلامة، فالمعافى هو السالم. ويحتمل أن يكون المراد هنا سلامة العرض من القدح أو سلامة البدن من الحد أو سلامة العاقبة من المؤاخذة بالذنب. والمجاهر: هو المعلن بفسقه.
المعنى:
قد يرتكب المذنب المعصية مع شعوره بقبح ما أتى وخجله به من ربه وانكسار قلبه من أجل معصيته، فهو لذلك يتستر بذنبه فلا يطلع عليه غيره لا بقول ولا بفعل، فهذا قد سلم منه الناس فلم يؤذهم بشره ولم يدعهم إلى الاقتداء به، وسلم منه الشرع فلم يكسر من هيبته ولم ينقص عند الناس من حرمته، فسلم له هو عرضه من القدح وبدنه من الحد وسلم له أصل إيمانه، وهو حياؤه من الله وخوفه منه، واحترامه لدينه وبعضه لما يأتي من معصيته فيوشك بهذه الحياة التي في قلبه أن يقلع عن ذنبه ويتوب فيسلم عن المؤاخذة بسبب الثوبة، وقد يترجح(2/234)
ما في قلبه من خوف وخجل واحترام وبغض للمعصية وتألم بها- على نفس المعصية- فيسلم من المؤاخذة بها عند الموازنة يوم القيامة. فصدق فيه هذا الوعد بأنه معافى من ذنبه وسالم من المؤاخذة به.
أما الذي يجاهر بمعصيته ويعلن بها فهذا قد تعدَّى على مجتمع الناس بما أظهر من فساد وما أوجد من قدوة سيئة وما عمل لمجاهرته على شيوع الفاحشة فيهم. وقد تعدى على الشرع بما انتهك من حرمته وجرأ من السفهاء عليه. وهو بمجاهرته قد دل على استخفافه بحق الله وحق عباده وعلى عناده للدين وخلو قلبه من الخوف والحياة، وأي إيمان يبقى بعدهما. ولما كانت المجاهرة بالمعصية تطلق في الغالب على من يعلن أمره للجماعات بين النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن مجاهرة الفرد كمجاهرة الجماعة من باب التنبيه على الجزئي الخفي من جزئيات المنهي عنه لأنه هو الذي شأنه أن لا يتنبه له فيتساهل فيه ومن تساهل في الجزئي الخفي أدَّاه ذلك إلى التساهل في غيره. وهذا الجزئي الخفي هو أن يعمل عملا يستره الله فيه ثم يحدث به رفيقه فيكشف ستر الله عنه.
إستنباط:
قد تبين ما في المجاهرة من المفاسد والظلم، وقد دل الحديث على أن أهلها غير معافين، فهم هالكون، فهي حرام، ومعصية زائدة في أصل المعصية، فالمجاهر بمعصيته ارتكب معصيتين: المعصية والمجاهرة بها، وقد تجر عليه المجاهرة آثاما كثيرة بما يتسبب عن معصيته من شيوع الفاحشة وسوء القدوة، ويستمر ذلك يكتب عليه من آثاره ما بقي متسبب عن آثاره إلى يوم القيامة. فيا لفداحة الحمل يوم الفزع الأكبر وكما يحرم تحدث الشخص بمعصية نفسه لما فيه من المجاهرة كذلك يحرم عليه أن يتحدث بمعصية غيره ولو كان هو الذي(2/235)
حدثه لما في ذلك من إذاعة الفاحشة ومن الغيبة.
تنبيه وتحذير:
المجاهر بفسقه الذي لا يستتر من أحد يجوز ذكره بفسقه الذي جاهر به إذا كان في ذكره به مصلحة أو دفع مفسدة، ويجب أن يحذر من ذكره لغير ذلك فإنه من الغيبة وإذاعة الفاحشة.
إعتبار:
هذا في الأفراد، ومثلها الأمم، فالأمة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضرب على يد سفهائها وأهل الفساد منها وتهجرهم وتنبذهم من مجتمعها تسلم من الشرور والبلايا، وتقل أو تنعدم منها المفاسد والمنكرات، والأمة التي تسكت عن سفهائها وأهل الشر من كبرائها وتدعهم يتجاهرون فيها بالفواحش والقبائح، هي أمة هالكة متحملة جريرة المجاهرة، بالمعاصي، بالهلاك في الدين والعذاب في الآخرة.
تربية:
روى الحاكم في مستدركه، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله). فليعمل المسلم على اجتناب المعاصي كلها. حتى إذا ألم بشيء منها فليجتهد في إخفائه وستره وليضرع إلى الله تعالى في سجوده أن يتوب عليه من ذنبه وليتوسل إليه- تعالى- بإيمانه به وحيائه وخوفه منه واحترامه لشرعه وعباده، فهو- جل جلاله- يحب التوابين ويحب المتطهرين (1).
__________
(1) ش: ج11، م 11، ص 591 - 593 غرة ذي القعدة 1354هـ- فيفري 1936م(2/236)
الشِّرْكُ وَالْوَثَنِيَّةُ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ.
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف أصحابه بما يكون في أمته من بعده، وهو تعريف للأمة بما يكون فيها، يعرفهم بذلك ليحذروه ويجتنبوا أسبابه ويبادروا إلى معالجته عند وقوعه. لا يستبعد مسلم صدور الشرك والوثنية ودعوى النبوة من غير المسلمين، وإنما يستبعد ويستنكر أن يكون شيء من هذا ممن يقولون أنهم مسلمون. ولهذا قدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا التعريف والإنذار. حتى إذا وقع شيء من هذا من هذه الأمة بودر إلى إنكاره وعلاجه ولم يتساهل معهم في شيء من ذلك لأنهم يقولون أنهم مسلمون.
اللحوق بالمشركين:
من اعتقد مثل عقيدتهم أو فعل مثل أفعالهم أو قال مثل أقوالهم فقد لحق بهم، وقد يكون اللحوق تاما مخرجا عن أصل الإسلام، وقد يكون دون ذلك. فأصل عقيدة الشرك عند عرب الجاهلية أنهم يعلمون أن الله هو خلقهم وهو يرزقهم وهو المالك لجميع مخلوقاته، ولكنهم كانوا يجعلون توجههم وتقربهم وتضرعهم لآلهتهم على اعتقاد(2/237)
أنها هي تقربهم إلى الله. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تتوجه لبعض الأموات وتتضرع لهم وتقف أمام قبورهم بخضوع وخشوع تامين وتتضرع وتناديهم على اعتقاد أنهم يقربونها إلى الله ويتوسطون لها إليه. ويزيدون أنهم يتصرفون لها بقضاء الحوائج وجلب الرغائب ودفع المصائب. ومن أعمال المشركين في الجاهلية أنهم يسوقون الأنعام لطواغيتهم فينحرونها عندها طالبين رضاها ومعونتها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تسوق الأنعام إلى الأضرحة والمقامات تنحرها عندها إرضاءً لها وطلبا لمعونتها أو جزاء على تصرفها وما جلبت من نفع أو دفعت من ضر.
ومن أقوال المشركين في الجاهلية حلفهم بطواغيتهم تعظيما لها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة يحلفون بالله فيكذبون ويحلفون بمن يعظمونه من الأحياء أو الأموات فلا يكذبون. فهذه الطوائف الكثيرة كما قد لحقت بالمشركين وصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين».
عبادة الأوثان:
كانت عبادة الأوثان في الجاهلية بالخضوع والتذلل لها ورجاء النفع وخوف الضر منها، فينذرون لها النذور وينحرون لها النحائر يلطخونها بالدماء ويتمسحون لها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة لها أشجار ولها أحجار تسميها بأسماء وتذكرها بالتعظيم وتذبح عندها الذبائح وتوقد عليها الشموع وتحرق عندها البخور وتتمسح بها وتتمرغ عليها. مثل فعل الجاهلية أو تزيد. فصدق عليهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: (وحتى يعبدوا الأوثان) هذا كله واقع في الأمة لا شك فيه. وكما كان من نصح نبيها- صلى الله عليه وآله وسلم- أن أنذرها بوقوعه فيها قبل وقوعه- فإن من نصح علمائها لها أن يعرفوها به اليوم بعد وقوعه ويصوروه لها على صورته(2/238)
الشركية الوثنية التي ينفر منها المسلم بطبعه. ولو أن الأمة سمعت صيحات الإنكار من كل ذي علم لأقلعت عن ضلالها ورجعت إلى رشدها، فما أسعد من نصحها من أهل العلم وجاهد لإنقاذها. وما أشقى من غشها وزادها رسوخا في ضلالها وتماديا في هلاكها. فَحَيَّهَلَّا على العمل أيها المصلحون الناصحون المخلصون، فإنَّ عهد الغش والخديعة قد آذن بذهاب، وأن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.
دعوى النبوة:
قد ضلت وهلكت باتباع أشخاص ادعوا النبوة من هذه الأمة طوائف كثيرة، وقد كان منهم أول الإسلام مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ثم كان المختار بن عبيد الثقفي، ثم كان منهم في عصرنا قبيله الباب، وإليه تنسب البابية، والبهاء وإليه تنسب البهائية، وغلام القادياني وإليه تنسب القاديانية، وقد كادت هذه القاديانية تدخل الجزائر على يد طائفة الحلول وشيخها لولا أن قام في وجوههم العلماء المصلحون وفضحوهم على صفحات (الشهاب) أيام كان أسبوعيا فردَّ الله كيدهم ووقى الله الجزائر شراً عظيما. وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن هؤلاء الكذابين بأنهم ثلاثون فلا بد أن يصلوا إلى هذا العدد وقد تكون بقيتهم في أحشاء الأيام.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم كذابون وأنه لا نبي بعده، وقد صدق قوله صلى الله عليه وآله وسلم، فما من واحد منم إلا وقد ظهر من كذبه ما عسر تأويله على أصحابه، ومن غلطه وخلطه ما يدل على أنه لا مستند له من اليقين. فصلى الله على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين (1).
__________
(1) ش: ج1 - م11، ص 11 - 13 محرم 1354 هـ- أفريل 1935م.(2/239)
كَلِمَاتُ الشِّرْكِ
(النَّهْيُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) (1).
قال الإمام ابن ماجة في سننه: " حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ»، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِهِ".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند الأول:
هشام ثقة أخرج له البخاري والأربعة. وابن عيينه أحد أئمة الإسلام المشهورين. وابن عمير روى له الستة وابن حراش مثله. وحذيفة الصَّحابي الشهير.
السند الثاني:
ابن أبي الشوارب ثقة روى عنه مسلم والترمذي والنسائي. وأبو عوانه أحد الأعلام روى له الستة. وعبد الملك وربعي تقدما. والطفيل صحابي.
__________
(1) ما بين الهلالين هو ما ترجم به ابن ماجة على الباب.(2/240)
رتبة الحديث:
الحديث صحيح بسنديه مرفوع بهما، ولا يضر إبهام الرجل الرائي، لأن حذيفة قال: انه من المسلمين، والمسلمون يومئذ هم الصحابة، وكلهم عدول. ولأن حذيفة نقل بلوغ الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسم- ونقل قوله عند سماعها.
مزيد بيان:
ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب: " أن سفيان وشعبة وزائدة (يعني ابن قدامة ثقة روى له البخاري) وجماعة رووا عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل حديثه هذا. وقال أبو عمر: وفي حديث زائدة عن الطفيل أنه رأى في المنام أن قائلا يقول له من اليهود: نِعْمَ القوم أنتم لولا قولكم ما شاء الله وما شاء محمد. ثم رأى ليله أخرى رجلاً من النصارى فقال له مثل ذلك. فأخبر بذلك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقام خطيبا فقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وقولوا ما شاء الله وحد» وزاد بعضهم فيه: ثم ما شاء محمد". فأفادنا كلام ابن عبد البر تعدد الرواة عن عبد الملك، وبينت لنا رواية زائدة بن قدامة أن الرائي هو الطفيل بن سخبرة، وأن الرؤيا تكررت، وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قام خطيبا في الناس لمزيد العناية والاهتمام بالأمر. وأنه قال ما شاء الله وحده.
الجمع:
لا تعاوض بين الروايات، فيعمل بها كلها، وقوله في رواية زائدة: (ما شاء الله وحده) لا ينافي. (ثم ما شاء محمد) فيكفي الاقتصار على ثم ما شاء محمد، كما عند ابن ماجة. والأحسن أن يزيد قبله لفظة وحده ليأتي بجميع الوارد.(2/241)
الألفاظ:
تشركون: أي تقرنون بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق بعبارة تفهم التسوية، وهي العبارة المذكورة في الجملة التالية المبينة، وهي قوله: «تقولون ما شاء الله وشاء محمد» وهذه العبارة قد تكون في نحو قولهم: افعل ذلك ما شاء الله وشاء محمد، أو لا أفعله ما شاء الله وشاء محمد. وفي الاستثناء في اليمين نحو: إلا ما شاء الله وشاء محمد. وفي باب اليمين أورد الحديث ابن ماجة. إن كنت لأعرفها لكم، ان: نافية. واللام: في (لاعرفها) لام الجحود، والفعل بعدها منصوب، فنفى معرفته بهذه العبارة منهم على وجه يفيد أنها شيء ما كان ليخطر في باله لمنافاته لإيمانهم وتوحيدهم وعدم مناسبتها لحالهم، ثم: تفيد انحطاط مشيئة المخلوق عن مشيئة الخالق وتأخرها وتلك هي رتبتها، وقد شاء الله ما شاء وحده، ثم كانت مشيئة المخلوق. فلفظة وحده أصرح في استقلال مشيئة الله.
المعنى:
كان بعض من الصحابة يقولون هذه العبارة دون أن يعلم بهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأراد الله أن يطلع عليها نبيه لينهاهم عنها، وكان من حكمتها أن اطلعهُ عليها بهذا الوجه، أرى بعض الصحابة رؤيا فيها تعبير لهم بالشرك الذي هو أبغض الأشياء إليهم من بعض أهل الكتاب، وهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، والمسيح ابن مريم ليكون ذلك أشد في الزجر وأعظم في التوبيخ، فذكرت الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكانوا يقصُّون عليه رؤاهم فنفى علمه بصدور تلك العبارة منهم، وأظهر إنكاره وتعجبه من صدور تلك العبارة الشركية التي ما كان ليظن صدورها منهم، وفي هذا ما فيه من اللوم والتعنيف فقام(2/242)
خطيبا فيهم فنهاهم عن العبارة الشركية الباطلة وبين عبارة التوحيد والحق الصحيحة وهي أن يقولوا (ما شاء الله وحده ثم ما شاء محمد) أو (ما شاء الله ثم ماشاء محمد).
الأحكام:
أفاد الحديث النهي عن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق. ومشيئة المخلوق بالواو وجواز القرن بينهما بثم، وأثبت للمخلوق مشيئة، ولكنها مقيدة ومتأخرة بخلاف مشيئة الخالق فإنها سابقة ومطلقة مستقلة، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. وأفاد أن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق شرك وأن من فعل ذلك يقال له قد أشركت، لأنه لما قصت عليه الرؤيا وفيها قوله: لولا أنكم تشركون، أقر ذلك ولم ينكره، وأن كلمة الشرك لا يجوز أن تقال ولو كان قائلها لا يعتقد المساواة بين الخالق والمخلوق، كما هو حال الصحابة الذين لا يشك في عملهم بذلك وأن قائل كلمة الشرك هذه وإن كان يقال له أشركت كما تقدم لا يخرج بذلك من الإيمان حيث كان لا يعتقد التسوية، فإنه لم يحكم بردتهم بتلك الكلمة وإنما نهاهم عن قولها.
تأييد:
روى ابن ماجة في هذا الباب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت» وهذا الحديث في معنى الحديث الذي تكلمنا عليه.
تفصيل أول:
الشرك يكون بالاعتقاد، وهذا مخرج عن الايمان ويكون بالقول مثل الكلمة المتقدمة، وهذا لا يخرج صاحبه من الإيمان وإنما يحرم عليه النطق به.(2/243)
تفصيل ثان:
من الصفات ما يثبت لله على ما يليق بجلاله ويثبت للمخلوق على ما يليق بحدوثه وافتقاره كالمشيئة وكااعطاء عندما تكون للمخلوق أسباب فيها، فهذا يسند إليهما ويحرم أن يسوى بينهما في العبارة، ويجب الإتيان بعبارة صريحة في عدم التسوية، فأما المشيئة فقد تقدمت وأما العطاء فكأن تقول لمن أعطاك شيئا هذا من فضل الله ثم من فضلك، ومنها ما لا يجوز أن يجمع فيه بين الإسناد للمخلوق والخالق أبدا كالعطاء الذي لا دخل للمخلوق فيه لخروجه عن الأسباب الممكن هو منها، فلا يجوز أن تقول في غيث نزل مثلا هذا من الله ومن فلان ولا ثم من فلان، لأنه لا دخل لأحد فيما وراء الأسباب.
تطبيق:
إذا نظرنا في حالة السواد الأعظم منا معشر المسلمين الجزائريين فإننا نجهد هذه الكلمات شائعة بينهم. فاشية على ألسنتهم وهي (بربي والشيخ) وهم يعنون أن ما يفعلونه هو بالله وبتصرف الشيخ (بربي والصالحين)، (بربي والناس الملاح)، (إذا حب ربي والشيخ) (شوف ربي والشيخ)، وهي كلها من كلمات الشرك كما ترى، فأما قولهم: (بربي والشيخ) ونحوه فمما لا يجوز أن يذكر فيه المخلوق مع الخالق قطعا لأن ما تفعله هو بالله وحده أي بتقديره وتيسيره ولا دخل للمخلوق فيه، وأما قوله: (إذا حب الله والشيخ) فمما لا يجوز إلا بلفظة ثم. فيكون بمعنى إذا شاء الله ثم شاء الشيخ إذا كان هذا الشيخ حيا وكان الأمر مما يكن أن تدخل مشيئته فيه ولقد شب على هذه الكلمات ونحوها الصغير وشاب عليها الكبير وانقطع عنها النهي والتغييرحتى صارت كأنها من الكلمات المشروعة، وصار قلعها من الألسنة من أصعب الأمور وأصبحت كلمة بالله وحده ونحوها(2/244)
مهجورة لديهم منسية عندهم ثقيلة على أسماعهم ثقل من يدعوهم إليها ويلهج بها على قلوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
العلاج:
على من عرف هذا الحديث النبوي أن يعمل به في نفسه وأن ينشره بين الناس وأن يعالجهم به بتفهيمهم فيه وتحذيرهم من مغبة مخالفته والإصرار على معاندته، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. فإلى التوحيد أيها المسلمون وإلى الإرشاد أيها العالمون والله مع الصابرين (1).
__________
(1) ش: ج 6، م 8، ص 306 - 311 غرة صفر 1351 هـ- جوان 1932م.(2/245)
بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ
مَنْ فِعْلِ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»)).
رواه الشيخان رحمة الله عليهما
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث أحد الأحاديت الكثيرة المستفيضة التي جاءت في التحذير من بناء المساجد على القبور، والتنبيه على أن ذلك يؤدي إلى عبادتها والتأكيد لذلك بذكر ما كان ممن قبلنا من ذلك وما أداهم إليه فأخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث أن أصحاب تلك الكنيسة كانوا يبنون المساجد على قبور صلحائهم ويصورون صورهم. وإنما يفعلون ذلك تعظيما لهم واستئناسا بصورهم وليعبدوا الله تعالى عند قبورهم تبركا بهم. فكانوا بسبب فعلهم من بناء المساجد على القبور ونحتهم للصور شرار الخلق عند الله يوم القيامة، لأن تعريف المسند إليه بالإشارة- وهو أولئك- يفيد أن المشار إليه الموصوف بصفات- وهي بناء المساجد على القبور وتصوير الصور- حقيق وجدير بما يذكر بعد اسم الإشارة- وهو قوله شرار الخلق- من أجل اتصافه بتلك الصفات. وذلك لأن القبر المعظم ببناء المسجد عليه والصورة المعظمة لتمثيلها ذلك الصالح يصيران مما يعبد ويعتقد(2/246)
فيه النفع والشر والعطاء والمنع، فيدعو ويسأل ويطلب منه الحوائج وتخشع عنده القلوب وتنذر له النُّذور، وهذه من العبادة التي لا تكون إلا لله، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-: أن وداً وسواعا ويغوث ويعوق ونسراً التي كانت أصناما لقوم نوح وعبدتها العرب من بعدهم، كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك- الذين نصبوها، وتنسخ، وتغير العلم- عبدت. فعلم من هذا أن ما يكون موضوعا في أصله بقصد حسن يمنع وينهى عنه إذا كان يؤدي بعد ذلك إلى مفسدة.
الأحكام:
هذا الحديث نص صريح في المنع من بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم وفيه الوعيد الشديد على ذلك. ونظيره حديث جندب- رضي الله عنه- عند مسلم- رضي الله عنه- سمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول- قبل أن يموت عليه السلام بخمسة أيام-: «ألا وأن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك».
تطبيق:
هذه هي حالتنا اليوم معشر مسلمي الجزائر وأحسب غيرنا مثلنا. نجد أكثر أو كثيرا من مساجدنا مبنية على القبور المنسوب أصحابها إلى الصلاح، ومنهم من كانوا معروفين بذلك ومنهم المجهولون، فإن قيل إنما بنيت المساجد على تلك القبور للتبرك بأصحابها لا لعبادتهم قلنا إن النهي جاء عاما لبناء المسجد على القبر بقطع النظر على قصد(2/247)
صاحبه به، ولو كانت صورة البناء للتبرك مرادة بالنهي. لاستثناها الشرع فلما لم يستثنيها علمنا أن النهي على العموم، وذلك لأنها وإن لم تؤد إلى عبادة المخلوق في الحال فإنها في مظنة أن تودي إلى ذلك في المآل. وذرائع الفساد تسد لا سيما ذريعة الشرك ودعاء غير الله التي تهدم صروح التوحيد. وانظر إلى ما جاء في حديث ابن عباس في أصنام قوم نوح وكيف كان أصل وضعها وكيف كان مآلها، وتعال إلى الواقع المشاهد نتحاكم إليه فإننا نشاهد جماهير العوام يتوجهون لأصحاب القبور ويسألونهم وينذرون لهم ويتمسحون بتوابيتهم، وقد يطوفون بها ويحصل لهم من الخشوع والابتهال والتضرع ما لا يشاهد منهم إذا كانوا في بيوت الله التي لا مقابر فيها، فهذا هو الذي حذر منه الشرع قد أدت إليه كله وهبها لم تؤد إلى شيء منه أصلا فكفانا عموم النهي وصراحته والعاقل من نظر بإنصاف ولم يغتر بكل قول قيل.
إيمان وامتثال:
علينا أن نصدق بهذا الحديث بقلوبنا فنعلم أن بناء المساجد على القبور من عمل شرار الخلق كما وصفهم النبي- صلى الله عليه وآله وسام- وأن تنطق بذلك ألسنتنا كما نطق به هذا الحديث الشربيف وأن نبني عليه أعمالنا فلا نبني مسجداً على قبور ولا نعين عليه، وأن ننكره كما ننكر سائر المنكرات حسب جهدنا، ومن أعظم الإنكار تبليغ هذا الحديث بنصه وتذكير الناس به والعمل على نشره حتى يصير معروفا عند عامة الناس وخاصتهم، إذ لا دواء للبدع الشيطانية إلا نشر السنة النبوية، ولا نستعظم انتشار هذه البدعة وكثرة ناصريها فإنها ما انتشرت وكثر أهلها إلا بالسكوت عن مثل هذا الحديث والجهل به. ولنكن في إرشادنا مقتصرين على إيراد لفط الحديث وشرحه(2/248)
على أنه واضح مفهوم بنفسه- دون أن نمس شيئا من شؤون أولئك المقبورين فإنهم إخواننا سبقونا بالإيمان فلهم علينا حق الدعاء والاستغفار. فإذا عملنا كلنا على هذا من حسن قصد ومحبة في الخير للمسلمين رجون! أن يؤيدنا الله تعالى ويجعل النفع بأيدينا. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (1).
__________
(1) ش: ج5، م 7، ص 295 - 297 محرم 1350 هـ- ماي 1931م.(2/249)
النَّهْيُ عَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ.
«نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ».
مسلم من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا حديث صحيح صريح في النهي عن البناء على القبر ومعضداته من السنة كثيرة. وهو من الظهور والصراحة بحيث لا يحتاج إلى تفسير، وإنما نسأل كل مؤمن بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} نسأل كل مؤمن بهذه الآيات أن يعمل بنهي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن البناء على القبر فلا يبن على قبر ولا يعن بانيا، ويعلن هذا الحديث في الناس ويذكرهم به ولا يفتأ يقرع به أسماع الغافلين ويفتح به أعين الجاهلين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)
__________
(1) ش: ج 2، م 9، ص 71
غرة شوال 1351 هـ- فيفري 1933 م.(2/250)
لَعْنُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ.
«لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لما أخبر عليه وآله الصلاة والسلام أن الله لعن اليهود والنصارى بين علة وسبب لعنهم، وهي اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد. وذلك بأن بنوا عليها المساجد أي أماكن العبادة كما هو صريح في حديث آخر هكذا ((بنوا على قبره مسجداً))، وسنذكره في الجزء الآتي إن شاء الله. فالمتخذ للمساجد على القبور ملعون بنص هذا الحديث الصحيح الصريح.
فيا أيها المؤمنون بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- المصدقون لحديثه إياكم والبناء على القبور، إياكم واتخاذ المساجد عليها إن كنتم مؤمنين. وعليكم تبليغ هذا الحديث والتذكير به والتكرير لذكره يكن لكم أجر المجاهدين في سبيل رب العالمين وثواب العاملين لإحياء سنة سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين (1).
__________
(1) ش: ج3، م9، ص 125
غرة ذي القعدة 1351 هـ - مارس 1933م.(2/251)
بِنَاءً الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُوْرِ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
" أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»)).
البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كانوا شرار الخلق بسبب بنائهم المساجد على قبور صالحيهم واتخاذ الصور لهم وكلاهما ذريعة الشرك والوثنية، وإن كان النصارى يقصدون التبرك بآثار الصالحين. ولا يقال أن هذا فيمن جمع بين البناء والتصوير لأنه قد جاء لعنهم على البناء وحده كما في الحديث المتقدم في جزء مضى ولا يقال أن هذا لأنهم نصارى لأن المقصود النهي عن مثل فعلهم هذا والتحذير منه ببيان العقاب المترتب عليه حتى لا يفعل المسلمون هذا الفعل فيترتب عليه عقابه.
فحذار أيها المسلم من فعل أهل الضلال ومشاكلة الأشرار ولا تغتر بكثرة الهالكين (2).
__________
(1) كرر شرح هذا الحديث في ج5، م 7، ص 295 - 297 وانظر ص 246 من هذا الجزء.
(2) ش: ج 6، م 9، ص 230
غرة محرم 1352 هـ- ماي 1923م.(2/252)
تَأْكِيدُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورَ مَسَاجِدَ.
" عَنْ جُنْدَبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث كالأحاديث الماضية صريح في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. وذلك ببناء المساجد عليها كما تقدم في حديث أم حبيبة وأم سلمة- رضي الله عنهما- في الجزء الماضي، وبالصلاة إليها كما فيما سننقله في الجزء الآتي، وفي هذا الحديث تأكيد النهي بكلمة (ألا) مرتين، وبتكرير النهي المستفاد أولا من (لا) وثانيا من الجملة الأخيرة المصرح فيها بمادة النهي مع التأكيد بأن، وبعد هذا التأكيد في هذه الصراحة لا يبقى من يشك أو يشكك في معناه إلا من أعمى الله بصيرته واستولى الغرض والهوى على لبه وران كسبه على قلبه عياذا بالله. هذا وإننا بعد أن نفرغ من نقل متون هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة نأتي بكلام الأئمة من شراحها عليها ثم بكلام الأئمة من فقهائنا المالكية رحم الله الجميع ونفعنا بمحبتهم وحشرنا في زمرتهم لا مبدلين ولا مغيرين آمين (1).
__________
(1) ش: ج 7، م 6، ص 267.
غرة صفر 1352 هـ - جوان 1933م.(2/253)
مِنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا.
" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». قَالَتْ: وَلَوْ ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
رواه الشيخان واللفظ للبخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أفادت عائشة- رضي الله عنها- أنهم لم يبرزوا قبره- صلى الله عليه وآله وسلم- للناس خوفا من أن يتخذ مسجدا بالصلاة إليه فاتخاذ القبور مساجد الذي تكرر النهي عليه ولعن مرتكبه يكون بالبناء عليها كما في الأحاديث الماضية وبالصلاة أيها كما في هذا الحديث (1).
__________
(1) كرر شرح هذا الحديث في ج3، م 9، ص 125 وانظر ص 251 من هذا الجزء.
(2) ش: ج 8، م 9، ص 308
غرة ربيع الأول 1352 هـ- جويلية 1933م.
، 25(2/254)
حَدِيثُ تَزْكِيَةِ الْأَمْوَاتِ
لَا يُجْزَمُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ.
" قال ابن شهاب: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ -امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.» فَقَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا" رواه البخاري في صحيحه من طرق في عدة أبواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المتن:
ثبت عند البخاري أيضا «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» وثبت عنده أيضا «ما أدري ما يفعل به».
ترجمة شخصي الحديث:
شخصا الحديث هما اللذان كانا سببا في وروده، وهما أم العلاء المزكية وعثمان المزكى، فأما أم العلاء فهي بنت الحارث بن ثابت الأنصارية الخزرجية، وهي أم خارجة بن زيد الراوي عنها. وأما عثمان بن مظعون فهو أبو السائب بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي(2/255)
من السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، وهو أول من مات من الهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم.
الشرح:
لما جاء المهاجرون إلى المدينة ولا أهل لهم ولا مال نزلوا على الأنصار من الأوس والخزرج، فاقتسمهم الأنصار بالقرعة فطار في قسمة بيت زيد بن ثابت، عثمان بن مظعون، فأنزلوه في أبياتهم فمرض مرضه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقامت أم العلاء في حضرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- تثني على عثمان فدعت له بالرحمة وشهدت له جازمة بأن الله أكرمه، أي بالجنة، لأنها هي دار كرامة الله لعباده. فأنكر عليها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال لها: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أي من أين علمت ذلك، ففدته بأبيها تادبا معه- صلى الله عليه وآله وسلم- في الخطاب، وقالت: فمن يكرمه الله، أي إذا لم يكن عثمان مع سابقيته وهجرته وبدريته فمن يمكرم، فبين لها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما يجوز أن يقطع به وما لا يجوز أن يتعدى حد الظن، فقال لها: أما هو فقد أتاه اليقين، يعني الموت، وهذا مقطوع به، وإني لأرجو له الخير، وهذا هو الذي لا يجاوز حد الظن، ثم بين لها أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن البشر لا يعلمون الغيب حتى الأنبياء- عليهم السلام- فإنهم لا يعلمون إلا ما علمهم، فقال لها: «والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» فاهتدت إلى ما هداها إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقالت: والله لا أزكي أحدا بعده أبداً، تعني مثل هذه التزكية التي قطعت له فيها بالكرامة.(2/256)
توضيح:
ما في لفظ الحديث موافق لما في سورة الأحقاف المكية من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}. قال البيضاوي: أي في الدارين على التفضيل إذ لا علم بالغيب. يعني إلاَّ ما علمه الله وقد أعلمه الله بأنه مغفور له ما تقدم وما تأخر في سورة الفتح المدنية، وأعلمه بما أخبره به في الصحيح من منازله الكريمة يوم القيامة ومقامه المحمود وغيره من أنواع الخصوصية والكرامة.
الأحكام:
في الحديث اقتسام أهل القدرة أهل العجز عند الضرورة والشدة، وفيه الدخول على الميت بعد تسجيته في أكفانه، وفيه الدعاء للميت بالرحمة، وفيه المنع من القطع لأحد بالجنة دون نص شرعي، وفيه المبادرة بإنكار القول الباطل في الدين فور سماعه، وفيه مراجعة المعلم بإبداء وجه النظر الذي وقع الخطأ فيه، وفيه جواز ظن ورجاء الخير لأهله.
تفرقة:
ذكر الميت بما علم من حاله في حياته ثناء عليه جائز والقطع له بالنجاة ممنوع، فأما هذا الثاني فدليل منعه من الحديث المذكور، وأما الأول فدليل جوازه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي عباس قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من وراءي فالتفت اليه فإذا هو علي. فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت أكثر، اسمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: جئت أنا وأبو(2/257)
بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما. وهذا في ذلك الجمع دليل على إجماعهم على جوازه وهو لم يخرج عن ذكره بما علمه منه في حياته وظن الخير له بذلك بعد مماته.
تحذير وإرشاد:
لقد ابتلى كثير من الناس بالغلو فيمن يعتقدون فيهم الصلاح فيجزمون لهم بما لا يعلمه إلا الله، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا مات في رتبة كذا وحصل عند الله على منزلته كذا، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا يشفع لأتباعه ويعديهم على الصراط أو يجعله في بطنه ويمر بهم وأنه يحضر لهم عند الموت ويحضر لهم عند السؤال ويكون معهم في مواقف يوم القيامة، وكل هذه الدعاوى انبنت على الجزم بأنه ممن أكرمه الله وأنه من أهل الجنة، ذلك الجزم الذي سمعت النهي والإنكار صريحين فيه من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على أم العلاء في رجل من السابقين الأولين البدريين، وليست هذه الدعاوى المبنية على المخالفة لهذا النهي النبوي الصريح قاصرة على العوام بل تجدها عند غيرهم وتسمعها ممن يرفعون أنفسهم عن طبقتهم وتقرأها في الكتب التي عدلت عن الأحاديث النبوية الصحيحة والطريقة النبوية الواضحة وذهبت في نيات الطريق فكانت بلاء على العامة وأشباههم ووبالا. فاحذر أيها الأخ المسلم من عقيدة الجزم بالكرامة والجنة لغير من نص عليه المعصوم عليه وآله الصلاة والسلام، ومن تلك الدعاوى الباطلة التي انبنت عليها. ولا تجزم بالكرامة على الله لأحد غير المنصوص عليه وإن كان عظيما فإن قول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أحق وأعظم وأنف من لا يقول هذا ولا يقبله مرغم. وكل من استعظمته ممن هو على جانب من الصلاح والخير فإنه لا يداني(2/258)
مقام عثمان بن مظعون البدري في الصلاح والخير وقد سمعت ما سمعت من النهي النبوي عن القطع له بالكرامة، ومهما أعدنا القول في هذا فإننا لا نفيه حقه من الإنكار والاستئصال لما نعلمه من رسوخ هذه الضلالة وقدمها والتهاون فيها وعظيم التجري على الله بها، وهذا الحديث النبوي هو دواؤها والقاطع لها فليتأمله قراؤنا ولينشروه في المسلمين وليذيعوه بالتلاوة والتفسير والتأكيد والتقرير عسى أن يشفي الله به القلوب من داء الغلو والادعاء والغرور والتغرير وليظن المسلم الخير بأهل الخير وليرج لهم حسن الجزاء والمصير كما رجا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- الخير لعثمان بن مظعون- رضي الله تعالى عنه- بعد ما نهى عن الجزم بالكرامة له وهذا هو دين الله الحق الوسط السالم من الغلو والتقصير والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقف بنا عند حدود الشرع الشريف، ويحفظنا من الغلو والتقصير والتحريف إنه هو الولي الحفيظ اللطيف (1).
__________
(1) ش: ج1، م 8، ص 592 - 594
غرة رجب 1351هـ- نوفمبر 1932م.(2/259)
تَفَاوُتُ الصَّدَقَاتِ
بِنِسْبَتِهَا لَأَمْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ.
" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ». فَقَالَ رَجُلٌ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ دِرْهَمٍ تَصَدَّقَ بِهَا وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ».
رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له، والحاكم قال: صحيح على شرط مسلم، المنذري.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
السبق الوصول للغاية قبل غيره، وأصله في الأبدان، ويكون للعقول في الوصول للفهم وللأعمال في الوصول للأجر والفضيلة، ومنه هذا. العُرض- بضم العين- هو الجانب، كعرض الحائط أي جانبه.
المعنى:
يقول- صلى الله عليه وآله وسلم- إن درهما واحداً تصدق به صاحبه نال به من الأجر والفضل أعظم مما نال صاحب مائة ألف درهم تصدق بها. فبلغ درهمه إلى غاية من الأجر والفضل ولم يبلغ إليها الآخر. ولما خفي وجه هذا على السائل لأن المعروف أن ثواب الكثير أكثر بيَّن له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا حيث يكون الدرهم(2/260)
بالنسبة لمال صاحبه كثيرا، فإن درهم ذى درهين هو شطر ماله، وتكون المائة ألف بالنسبة لمال صاحبها قليلة، فإنها لم تكن إلا من جانبه، وسلم أصله ومعظمه.
توجيه:
الأجرُ على قدر المشقة، والثواب على قدر النصب، وما يجده ذو الدرهمين من إنفاق أحدهما، وهما كل ما يملك من المشقة والنصب، أعظم مما يجده ذو المائة ألف، وهي بعض ماله الكثير، وذو الدرهمين كان عنده من الإيمان واليقين ما أنفق به شطر ماله فهو أعظم إيمانا ممن أنفق جزءا من مائة منه. وما عند ذى الدرهمين من خلق الإيثار والتضحية والبذل في سبيل الله أعظم بكثير مما عند ذى المائة ألف. فهو أعظم منه أجرا وفضلا، فقد كان أعظم منه مشقة.
فقد كان أعظم منه مشقة وأقوى منه إيمانا، وأبلغ منه تضحية وبذل جهد في سبيل الله وإيثارا. لا جرم كان أعظم منه فضلا واجرا.
تبصرة:
يقعد الشيطان للقليل المال في طريق الإنفاق فيزهده فيه. ومن مداخله عليه أنه يحقر له ما ينفقه من قليل بأنه لا غناء فيه فيقبض يده عن الصدقة بذلك القليل الذي يستطيعه فيفوته أجر كبير. فبصرنا نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- بالحقيقة، وبين لنا أن ذلك القليل بالنسبة لمال صاحبه هو كثير حتى أنه يسبق كثير غيره من أهل المال العظيم ليشارك فقيرنا غنينا بقليله فيكون من السابقين إلى الأجر الكثير.
تربية:
الأخلاق الفاضلة التي هي موجودة في فطرة الإنسان بأصولها،(2/261)
وتنمو بحسن التربية وتنطمس بالإهمال- قد حفظهما الله تعالى علينا بما وفقنا إليه من الإسلام، وما علمنا من آداب وما شرعه لنا من أعمال. ومما ينمي تلك الأخلاق ويقويها المداومة على الأعمال التي تنشأ عنها. ومن أعظم تلك الأخلاق وأدخلها في باب النهوض بجلائل الأعمال وحفظ سعادة الاجتماع خلق البذل، فجاء هذا الحديث الشريف وغيره يبين لنا عظيم أجر صدقة المقل ليحثه على مشاركة الغني في العطاء بما استطاع فيكون البذل من الجميع عاما، والسخاء بينهم مشتركا، وآثاره عليهم ظاهرة فينمو خلقه بذللك في الأمة كلها وترسخ أصوله في نفوسها فتصبح وهي أمة سخية بما عندها في سبيل ما ينفعها متعاونة بالبذل في مهماتها مشتركة بجميع طبقاتها في كل مشروع خيري من مشاريعها، وإذا تربت الأمة على هذه الصفة وتدرجت إلى الكمال فيها فذلك عنوان نجحها وفوزها وبلوغها غاية آمالها، وسعادتها في الدارين وفقنا الله لبذل كل عزيز وغال في سبيله والمسلمين اجمعين (1).
__________
(1) ش: ج4، م 7، ص 230 - 231
غرة ذي الحجة 1349هـ- أفريل 1931م.(2/262)
إِتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ.
" عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»)).
رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وجاء بمعناه عن ثوبان وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
تقول العرب: اتبع الفرس لجامها، أي ألحقه بها في العطاء. يضرب مثلا في الأمر باستكمال المعروف واستتمامه، ويصدق هذا ولو كان بين العطاء الأول، والعطاء الثاني مهلة، وكذلك جاء قوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعض القرون ببعض في الهلاك الناشيء عن تكذيبهم مع أن بين كل قرن وقرن مدة طويلة، فالإتباع هو الإلحاق لشيء بشيء في أمر سواء، أكان عن اتصال أو عن انفصال. الدهر: أصل معناه مدة الدنيا، ويطلق على أمد من الزمان قل، أو كثر، والمراد به هنا السنة، كما جاء مصرحا به في بعض روايات الحديث.
التراكيب:
أفادت ثم أن الاتباع متأخر عن الصوم، وإن كان قد جاء من طريق غير أبي أيوب العطف بالواو. والضمير في (كان) عائد على عمل المفهوم من الكلام السابق، أي كان عمله، وهو صومه شهرا وستة أيام.(2/263)
المعنى:
من صام رمضان وصام بعده ستة أيام من شوال كان ذلك من عمله كصيام الدهر، لأن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشر أشهر، وستة أيام بعده بشهرين، فذلك تمام السنة. وجاء هذا التفسير عند النسائي من طريق ثوبان مرفوعا.
توجيه كلام مالك:
تطبيق:
قد علمت ان الإتباع يصدق بالإلحاق متصلا أو منفصلا، والفصل هنا واجب بيوم الفطر للعلم بحرمة صومه، فمن فصل به فقط فهو متبع، ومن فصل بأكثر منه فهو متبع، ومقتضى الإطلاق في لفظة (ستا) أنه لا فرق في حصول الفضل بين أن تكون متوالية أو متفرقة، وما تقدم في فصل المعنى من حديث ثوبان يؤيد هذا الإطلاق، لأن المقصود تحصيل ستة أيام لتكون بمقتضى جزاء الحسنة بعشر ستين يوما، وهذا حاصل عند تفرقها وعند اجتماعها.
الأحكام:
ذهب الشافعية والحنابلة وغيرهم- وهو المصحح عند الحنفية- إلى استحباب صوم هذه الأيام محتجين بهذا الحديث الصحيح الصريح. وأما المالكية فقد قال يحيى إن يحيى راوي الوطأ: سمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك.(2/264)
والذي يظهر من عبارات مالك أن المكروه هو صوم ستة أيام متوالية بيوم الفطر، كما يفهم من قوله: (في صيام ستة أيام بعد الفطر) ومن قوله (وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) وإنما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متوالية ومتصلة بيوم الفطر. فالكراهة إذا عنده منصبة على صومها بهذه الصفة من التوالي والاتصال لا على أصل صومها. وهذا هو التحقيق في مذهبه.
فقه مالك واحتياطه:
أنبني فقه مالك واحتياطه على أصلين:
الأصل الأول: أن العبادة المقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهو أصل عام في جميع العبادات، وفي خصوص الصيام قد ثبت نهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر أن وجه هذا النهي هو خوف أن يعدَّ ذلك من رمضان، فحمى الشارع بهذا النهي العبادة من الزيادة في أولها. فبنى مالك- بسعة علمه وبعد نظره- على ذلك حمايتها من الزيادة في آخرها فكره صوم تلك الأيام متوالية متصلة بيوم الفطر مخافة- كما قال-: (أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) فكان احتياطه في الأخير مطابقا لاحتياط النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأول، وذلك كله لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدرة على حالها غير مختلطة بغيرها. وقد جاء نظير هذا الاحتياط في الصلاة، فقد روى أبو داود في سننه: أن رجلاً دخل إلى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: اجلس خنى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا. فقال له عليه وآله الصلاة والسلام: (أصاب الله بك يا ابن الخطاب). يعني أن الذين كانوا قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فأدى ذلك إلى اعتقاد جهالهم وجوب الجميع(2/265)
فأدى ذلك إلى تغيير شرع الله وهو سبب الهلاك. لا يقال أن مقدار العبادة معلوم من الدين بالضرورة فكيف يظن أنه قد يعتقد الجميع من الأصل والزيادة عبادة واحدة، لأننا نقول إذا دام وصل النافلة بالفريضة وطال العهد وخلفت الخلوف أدى ذلك أهل الجهالة إلى ذلك الاعتقاد، والاحتياط للعبادة يقتضي قطع ذلك الاعتقاد من أصله بالنهي عما يؤدي إليه وهو من سد الذرائع الذي هو أحد أصول مالك في مذهبه. ومع هذا فقد نقل الإمام القرافي، عن الإمام عبد العظيم المنذري أن الذي خشي منه مالك رحمه الله تعالى قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والقوانين (1) وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد ا. هـ.
فلله مالك ما أوسع علمه، وما أدق نظره، وما أكثر اتباعه فرحمة الله تعالى عليه وعلى أئمة الهدى أجمعين.
الأصل الثاني: أن ما ورد من العبادة مقيداً بقيد يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه. والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه، وهو أصل في جميع العبادات. ومثال ما ورد من العبادة مقيدا، التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة والختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فقيدت هذه العبادة المحددة بإيقاعها دبر كل صلاة، فالإتيان بها في غير دبر الصلوات مخالفة للوضع الشرعي ومثال ما ورد مطلقا (2) لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة (3) وسبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة فيلتزمها في وقت
__________
(1) كذا بالأصل ولعله القوالين.
(2) و (3) رواهما مالك في الوطأ.(2/266)
معين من النهار فيخرج عن مقتضى الإطلاق في لفظ يوم من نص الحديث فيكون مخالفا للوضع الشرعي.
ولفظ الحديث الوارد في هذه الأيام جاء مطلقا في الاتباع، صادقا بالاتصال والانفصال، وفي لفظ ستة صادقا بتواليها وتفرقها فالتزام اتصالها وتواليها تقييد لما أطلقه الشرع وتزيد عليه.
اقتداء وتحذير:
هذان الأصلان اللذان قررنا بهما فقه مالك هما اصلاح مجمع عليهما كثيرة في الشريعة المطهرة أدلتهما والفروع التي تنبني عليهما فلنا في مالك وغيره من أئمة الهدى القدوة الحسنة في التمسك بهما. فنحتاط لعبادتنا حتى لا نخلط بين فرضها ونفلها. ونتقبل ما جاء من العبادات مقيدا أو محددا بقيده وحده، ونتقبل ما جاء منها مطلقا على إطلاقه فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق. ولنحذر كل الحذر من الأخلاق بقيود الشارع أو التقييد لمطلقاته، ففي ذلك استظهار عليه وقلة أدب معه وتبديل لوضعه واختيار عليه وإنما الخير لله ولرسوله لا لأحد من الناس وأن الغالب على الناس أنهم لا يتعمدون الإخلال بالقيود وإنما يتعمدون التقييد للمطلقات وأنواع الالتزامات مع أنهما في المخالفة سواء فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص.
إمتثال:
نصوم هذه الستة كما رغبنا نبينا، طمعا في فضل ربنا، غير ملتزمين وصلها ولا موالاتها. والله يلهمنا والمسلمين أجمعين أنواع المبرات وإقامتها بمنه وكرمه آمين (1).
__________
(1) ش: ج3، م 7، ص 150 - 154
غرة ذي القعدة 1349هـ - مارس 1931(2/267)
عَلَى رِسْلِكُمَا.
عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: " أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
تنقلب: ترجع إلى بيتها، يقلبها: يردها ويمشي معها، وما يزال هذا الفعل قلب بمعنى رد مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة، على رسلكما: على هينتكما، أي مشيتكما الهينة التي لا عجلة فيها، أي لا تسرعا. كبر عليهما: عظم وشق يبلغ مبلغ الدم يصل حيث يصل. أن يقذف: أن يرمي.
الأشخاص:
صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- سنة سبع من الهجرة سبيت في فتح خيبر فأعتقا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتزوجها، توفيت في شهر رمضان سنة (50هـ).(2/268)
المعنى:
كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يواظب على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فجاءته زوجته صفية ليلة تؤنسه وتحادثه فلما أرادت الانصراف إلى بيتها قام معها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يؤنسها إلى بيتها كما جاءت هي إليه، وبلغ معها باب المسجد فمر بهما رجلان من الأنصار فأسرعا في مشيهما واستحييا لما رأيا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، فخشي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهما من وسوسة الشيطان المسلط على الإنسان بأن يلقي في قلوبهما شيئا من وجود امرأة مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- والشيطان يقنع بالخطرة يلقيها في قلب المؤمن يؤلمه بها ولو كان صدق إيمانه يرد عنه كيد الشيطان، ويدفعه ويقنع بإذاية المؤمن ولو بخطرة السوء تمر بالقلوب تمسه في دينه أو عرضه، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسد في وجه الشيطان باب الكيد لذينك الرجلين الصَّحابيين- رضي الله عنهما- ويقطع عليه طريق إذايتهما وإذايته معهما، فقال لهما تمهلا ولا تسرعا في مشيكما وأعلمهما بأنها زوجته صفية. وكان الصحابيان الجليلان لم يقع في قلوبهما شيء ولم يخطر أدنى خاطر منه في بالهما، فاستعظما وكبر عليهما واشتد عليهما أن يظن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيهما خطور مثل هذا ببالهما، حتى يحتاج إلى تعريفهما، وهما كانا يريان أنفسهما بصدق إيمانهما أبعد ما يكون عن هذا. فبين لهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الداعي الذي دعاه إلى تعريفهما بالواقع، وهو الخوف عليهما مما قد يكون بإلغاء الشيطان دون قصد منهما، لا شيء هو واقع منهما وبين لهما ما يعرفهما بإمكان ذلك وسهولته بما فعل للشيطان من التمكن من إلقاء الوسواس للإنسان وبلوغه منه في الإحاطة والتمكن مبلغ الدم.(2/269)
الْأُسْوَةُ: وَلَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
حماية الأعراض من التهم:
كما على المسلم أن يقي عرضه من طعنات الألسن بالسوء عليه أن يقيه من هواجس النفوس به فإن الهواجس مبادي الظنون والظنون مطايا الأقوال والأقوال سهام نافذة وقلما يثبت غرض على كثرة الرمي ومن خسر عرضه خسر قيمته وخسر كل شيء فلخطر هذه النهاية لزم الاحتفاظ على العرض من تلك البداية.
فلا ينبغي للمسلم أن يرى حيث تقع في أمره شبهة وتتوجه عليه تهمة ولو كان عند نفسه بريئا وعما يرمي به بعيدا، فليس الإنسان يعيش في هذه الدنيا لنفسه بل يعيش لنفسه ولإخوانه، وإذا تعرض للتهم خسر نفسه وخسره إخوانه، وأدخل على نفسه البلاء منهم وأدخل البلاء عليهم به. فكانت مصيبته على الجميع وضرره عائدا على الإسلام وجماعة المسلمين خصوصا إذا كان المؤمن يقتدى به ويرجع إليه فإن زوال الثقة به خسارة كبرى وهدم لأركان الدين وتعطيل لانتفاع الناس بالعلم وانتفاعه هو بعلمه.
وإذ وقف الإنسان موقفا مشروعا وخاف أن تتطرق إليه في خواطر الناس شبهة كان عليه أن يبادر للتصريح بحقيقة حاله والتعريف بمشروعية موقفه.
وليس لأحد، بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يغتر بمنزلته عند الناس فلا يبالي بما قد يخطر لهم. بل ذو المنزلة(2/270)
أحق بالتبيين والتصريح لعظيم حاجة الناس إلى بقاء ثقتهم به وتوقف استفادتهم منه وقيامه بما ينفعهم على تلك الثقة.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: " في الحديث دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم".
مدافعة الشيطان عن القلوب:
علينا وقد علمنا أن الشيطان متمكن من الوسوسة لنا من جميع نواحينا متصلا بنا اتصالا، وقريبا منا قربا مثل اتصال وقرب الدم لا يمكننا الانفصال عنه كما لا يمكننا الانفصال عن الدم، أن نأخذ جميع الحيطة لرد كيده وإبطال تدبيره وإحباط وسوسته وذلك بالمبادرة إلى الاستعاذة بالله منه بالاستعاذة الثانية عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأحوال المختلفة وبمقابلة كل نوع من وسوسته بما يبطله من ذكر الله فإذا جاء من ناحية الإيمان بادرنا إلى لا إله إلا الله وإذا جاء من ناحية التنزيه بادرنا إلى سبحان الله، وإذا جاء من ناحية الإنعام: بادرنا إلى الحمد لله وإذا جاء من ناحية التخويف من الخلق بادرنا إلى " الله أكبر" وهكذا نبادر إلى رد ما يوسوس به من كلمات الباطل إلى ضدها من كلمات الحق.
وكما على المؤمن أن يدفع ذلك عن قلبه عليه أن يدفعه عن قلب أخيه بمصارحته بما يزيل إساءة الظن به، أو حمل شيء عليه، أو نفرة من ناحيته، أو إشغال لأمره، وأن يبين له ما يقصد بذلك من مدافعة الشيطان ورده عن نفسه وعن أخيه ليكون عينا له على قصده، فيرجع الشيطان عنهما مذموما مدحورا. وهذه المدافعة للشيطان وحماية(2/271)
القلوب منه من أعظم الجهاد وأوجبه وألزمه بل هي أصل الجهاد كله فإنه هو أصل البلاء كله فالسلامة منه هي السلامة من كل سوء والتمكن من نيل كل خير والفوز بكل سعادة في الدنيا والآخرة (1).
__________
(1) ش: ب 2، م 10، ص 58 - 60
غرة شوال 1352 هـ- جانفي 1934 م.(2/272)
إِنَّمَا يُؤْخَذُ الدِّينُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ عَلَيْه وَآلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِهُ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ»
رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ:
الراهب: هو العابد، وكانت الرهبنة فيمن قبلنا بالانقطاع عن الناس والتفرغ للعبادة، ابتدعها أهلها دون أن يكتبها الله عليهم كما في سورة الحديد. ثم جاء الإسلام فشرع الجمعة والجماعة فأبطل الانقطاع عن الناس للعبادة إلا من فرَّ بدينه أيام الفتنة خوفا على نفسه منها. والعالم: من له دراية وملكة واشتغال بالعلم، والمقابلة(2/273)
ما بينهما في الحديث تقتضي أن الراهب لم يكن عنده من العلم ما يقال في صاحبه عالم، والعالم لم يكن عنده من الانقطاع للعبادة ما يقال في صاحبه راهب. قال الإمام محمد السنوسي- رادا على الأبي-: تسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الرجل الثاني بالعالم والأول بالراهب يدل على أن الراهب ليس بعالم، والحجة فيما دل عليه لفظه صلى الله عليه وآله وسلم من أن كل واحد إنما ثبت له في نفس الأمر معنى الوصف الذي أطلقه عليه، وأما دلالة الدال على الراهب وهو إنما سئل عن العالم فليس فيه دليل على أن الراهب كان عالما لاحتمال أن يكون الدال رجلا جاهلا ولا يعرف العالم إلا من هو عالم، لاسيما والرهبانية كثيرا ما يعتقد الجهلة ملازمتها للعلم. والترهب إن سلم أنه يقتضي العلم فإنما يقتضي العلم بما يحتاج إليه في ترهبه وإلا فكم من مترهب جاهل.
المعنى:
هذا رجل جنى هذه الجنايات العديدة ثم ذكر الله تعالى فأراد الرجوع إليه فسأل عن أعلم أهل الأرض ليوجده سبيلا إلى ذلك فدله من دله على راهب لاعتقاد العامة العلم في كل مظهر للتعبد، فلم يجد عنده مخرجا من جنايته فكمل بقتله المائة محمولا على ذلك باليأس والجرأة والاستهانة بقتل النفس. ولكنه بقي مع ذلك يطمع أن يجد عند غيره سبيلا فدل على عالم فأفتاه بإمكان التوبة مستدلا بأنه لا شيء يحول بينه وبينها، وأشار عليه بمفارقة أرضة التي ضري فيها على الجنايات فإنها كانت أرض سوء عليه، وأمره أن يذهب إلى أخرى بها قوم صالحون يعبدون الله ويسيرون بطاعته فيصاحبهم ويعبد الله معهم لإصلاح نفسه بمعاشرة الصالحين وتحقيق توبته بالعمل الصالح معهم. فذهب الرجل على هذه النية وأدركه الموت قبل أن يصل إلى تلك الأرض، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وحجتهم نيته التي(2/274)
خرج عليها، وملائكة العذاب وحجتهم أنه لم يعمل عملا صالحا، فكان القضاء لملائكة الرحمة تغليبا لجانب القصد والنية، وتأيدت النية بجده في السير إلى الأرض التي قصد حتى كان أقرب إليها من الأرض التي خرج منها.
الأحكام:
في الحديث لزوم السؤال للجهال. وفيه أن أهل العلم هم الذين يسألون عنه لا غيرهم، وإن كان أكثر عبادة. ولذا قال مالك رحمه الله: (لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في حديث الناس وإن كان لا يكذب على الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به). ذكره ابن عبد البر في جامع العلم، وفيه صحة توبة القاتل وهو مذهب جمهور السلف، وهذا الحديث من أدلتهم.
عبرة وتحذير:
العلم قبل العمل، ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربما اغتر به الجهال فسألوه فاغتر هو بنفسه فتكلم بما لا يعلم فضل وأضل. فهذا الراهب قد دل عليه من دل عليه يحسبه أعلم أهل الأرض فسئل فأجاب بما لا يعلم فعادت مصيبة ذلك عليه وعلى سائله، ولو دل هو سائله على غيره من العلماء لسلم هو وسلم السائل. فحذار من التقصير في العلم اللازم للعبادة، وحذار من الكلام في دين الله والإفتاء للناس بغير علم مؤهل لذلك، وحذار من صرف الناس عن العلم وأصله إذا رأيتهم قد افتتنوا بك.(2/275)
إستشهاد:
جاء في حديث رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما عن ابن عباس- رضي الله عنهم- وخرجه ابن عبد البر في جامع العلم عنه وعن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن فقيها واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد. وواقع هذا حديثنا مما يشهد لذلك فقد رأيت ماذا جر الراهب على نفسه وعلى غيره، وكيف أنقذ العالم ذاك الشرين من الهلاك.
نسأل الله الفقه في الدين وعمل الصالحين وتوبة الأوابين لنا ولجميع المسلمين آمين يا رب العالين (1).
__________
(1) ش: ج12، م 8، ص 616 - 618 شعبان 1351 هـ- ديسمبر 1932م.(2/276)
فَضْلُ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ.
" قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ»، فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ»، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» ".
رواه مسلم، واللفظ له. وأبو داوود والطبراني في الكبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الراوي:
هو أبو فراس، قديم الصحبة، كان من أهل الصفة يلازم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في السفر والحضر مات سنة " ثلاث وستين".
الألفاظ:
مع: ظرف مكان مبهم واسع، وهو كان يبيت عند بابه كما في رواية الطبراني، وذالك هو المراد من مع هنا. حاجته: ما يحتاج إليه في الوضوء أو على وجه تسكنينها هي أو التي للتخيير أو للإضراب، وعلى وجه الواو هما كلمتان: همزة الاستفهام والواو العاطفة، هو: أي مسؤولي ذَاكَ أي المذكور وهو المرافقة. الإعانة: مشاركة الفاعل في العمل ليخف عليه ويسهل وينتهي منه إلى غرضه.
التراكيب:
حذف مفعول سل للتعميم وهو المناسب لمقام الافضال في النوال.
غير معطوف على موافقتك من عطف لفظ في كلام على لفط في كلام(2/277)
آخر عند ما يقصد المتكلم ربط كلامه بكلام المتكلم قبله لنحو تلقينه، فيكون مجموع الكلام هكذا: أسألك مرافقتك في الجنة أو غير ذلك، والكلام وإن كان خبرا فهو في قوة الطلب ولذلك كانت أو للتخبير هذا كله على وجه أو التي للتخبير وإما إذا كانت للإضراب فتقدير الكلام بل اسأل غير ذلك. وأما إذا كانت الهمزة للاستفهام فإن الواو عطفت على جملة، وتقدير الكلام: أتترك ما سألت وتسأل غير ذلك. والإستفهام هنا المراد به الطلب، يطلب منه أن يترك سؤال المرافقة ويسأل غيره، هو ذاك: تفيد الحصر، أي مسؤولي هو المرافقة لا غيرها.
المعنى:
كان هذا الصحابي- رضي الله تعالى عنه- يخدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ويبيت عند باب بيته ليأتيه بما يحتاج إليه من ماء يتوضأ به أو غيره، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يجازيه على خدمته فأمره أن يسأله ليعطيه، فأعرض هذا الصحابي عن جميع مطالب الدنيا وسأله أعز مطلب في الآخرة وهو مرافقته له في الجنة، ولما كانت هذه المرافقة تقتضي درجة رفيعة في الجنة أخص من مطلق دخول الجنة، وهذه الدرجة تقتضي العمل الشاق، حاول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- صرفه عن هذا السؤال الذي فيه العمل الشاق الذي ربما لا يطيقه إلى غيره مما هو أسهل من المطالب، فصمم الصحابي على سؤاله وأبى أن يسأل غيره، فقبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- سؤاله على أن يعينه على نفسه لتحصيل المطلوب، وأرشده إلى ما هو وسيلة في رفع الدرجات، وهو كثرة السجود فإن العبد لا يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة كما ثبت في الصحيح.(2/278)
زيادة بيان:
قد جاء هذا الحديث عند الطبراني بأبسط من رواية مسلم، وذكر الرواية المطولة. يوضح لنا الرواية المختصرة، ورواية الطبراني كما في (الترغيب والترهيب) هي هذه: (قال كعب: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- نهاري فإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فبت عنده فلا أزل أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي، حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال، يوماً: يا ربيعة سلني فأعطيك؟ فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: من أمرك بهذا؟ قلت: ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان، الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي. قال: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود).
النظر في الروايتين:
بينت المطولة أنه كان يخدمه بالنهار والليل وأنه ما سأل إلا بعد النظر والتفكر، وأنه لم يسأل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعطيه الجنة وإنما سأله أن يدعو الله تعالى له لعلمه أن دعاءه مستجاب، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بأنه يفعل ما طلبه منه، وهو دعاء الله تعالى له. غير أن الرواية المطولة فيها أنه سأله النجاة من النار ودخول الجنة، والرواية المختصرة فيها أنه سأل مرافقته له في الجنة وهي أخص من مطلق الدخول.
الجمع والترجيح:
كل ما في المطولة مما هو زائد على المختصرة غير معارض لشيء فيها فهو مع المختصرة حديث واحد روى مطولا ومختصرا وإن تفاوتت(2/279)
طريقاه. وما جاء فيها معارضا لشيء في المختصرة وهو سؤال دخول الجنة المعارض لسؤال المرافقة فإننا نأخذ بما في المختصرة ترجيحا لها لقوة سندها.
توجيه:
المرافقة في الجنة لا تقتضي المساواة في المنزلة والكرامة، أصله قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ - إلى- وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ولهذا سألها هذا الصحابي. ولما كان من الملازمين للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الدنيا توجهت همته إلى مرافقته في الأخرى فسأله ذلك.
فوائد الأحكام:
في الحديث جواز قبول التبرع بالخدمة من الناس، وخصوصا لأهل المقامات العامة في مصالح الناس، وفيه فضل القيام من جوف الليل، - من قوله آتيه بوضوئه - وفيه سنة مكافأة المحسن على إحسانه، وفيه مشروعية سؤال الدعاء، وخصوصا ممن ترجى له الاستجابة، وفيه عدم الاكتفاء بالدعاء وحده عن التوسل بالطاعات ونوافل الخيرات، وفيه فضل السجود والحث عليه، وفيه دليل لمن يقول بأفضلية كثرة السجود على طول القيام.
إرشاد وتحذير:
سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له الله ولم يسأله هو أن يعطيه الجنة لأن الذي يعطى هو الله تعالى ولأن الذي يسأل منه العطاء هو الله تعالى، كما قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لابن عباس فيما رواه (وإذا سألت فاسأل الله) فمن المخلوق تسأل الدعاء ومن الخالق تسأل العطاء، ومن أدلة الأول هذا(2/280)
الحديث ومن أدلة الثاني حديث أبي عباس المذكور. وكثير من الناس يسألون ممن يعظمون نفس العطاء وخصوصا من الأموات- رحمهم الله- في قبورهم فأرشدهم بمثل ما سمعت وحذار أن تكون منهم.
بيان عقيدة وإبطال ادِّعاء:
لما سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بالدعاء وأرشده إلى العمل الصالح وهو كثرة السجود، ولم يقل له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إنني ضامن لك ذلك ولا أنت مضمون ولا أنت في ضماني، لأن العبد لا يجوز له أن يضمن على خالقه بدون إذنه شيئا، وإذا كانت الشفاعة التي هي طلب منه لا تكون عنده إلا بإذنه فكيف الضمان الذي هو التزام على القطع، فمن الغرور العظيم والجهل الكبير والجراءة الكبرى على الله تعالى قول بعض المدَّعين "روح راك مضمون" وقول آخرين (من دخل دار كذا فهو مضمون) و (أنا ضامني الشيخ) و (يا دار الضمان) ونحو ذلك، مما يقوله الجاهلون وينكره العالمرن ويبرأ منه الصالحون.
حقيقة نفسية:
العبد بين داعيين مختلفين دينه يدعوه إلى الحسنى وينهض به للعلاء ونفسه تدعوه إلى السوأى وتنحط به إلى الحضيض. ولا ينحط المسلم عن مقامات الكمال إلا بإجابته داعي نفسه واعراضه عن داعي دينه. فالنفس هي الجاذب القوي إلى دركات الانحطاط. ولما كان دعاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الصحابي سببا في رفع درجاته، وكانت نفسه إذا خلاها على هواها ما نفعه له من ذلك الرفع فصار الدعاء النبوي والنفس الأمارة كالمتنازعين فيه- أمره بأن يعينه على نفسه بكثرة السجود ولم يقل له أعني على مطلوبك أو(2/281)
تحصيل مرادك، بل قال له أعني على نفسك. وفي هذا تنبيه له على أن النفس هي المعرقلة للعبد عن الصعود في سلم السعادة وأنه إذا قهرها وغلبها فقد تيسرت له أسباب الكمال (1).
__________
(1) ش: ج 4، م 8، ص 205 - 210
غرة ذي الحجة 1350 هـ- أفريل 1932 م.(2/282)
الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَيْنَ يَهْدِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
((قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».
رواه البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ لمسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المفردات:
عليكم: اسم فعل بمعنى تمسكوا. وإياكم: منصوب على التحذير في معنى احذروا. والصدق مطابقة الخبر للواقع وتصويره على ما هو عليه. والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع وتصويره على خلاف مما هو عليه. يهدي إلى كذا: يعني يوصل إليه بتحري الشيء يقصده ويتعمده ولا ينحرف عنه. البر: اسم جامع للخير كله. والفجور: الانبعاث في الشر، الصدِّيق: الكثير الصدق. والكذاب: الكثير الكذب.
التراكيب:
عبر بالمضارع في يصدق ويكذب ويتحرى ليفيد التجدد، وأن ذلك هو شأنه الذي يتكرر منه.(2/283)
المعنى:
تمسكوا بالصدق وألزموه فإن الصدق يوصل إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، وإن العمل الصالح يوصل إلى الجنة، وإن الرجل ليتكرر منه الصدق ويتكرر منه تعمد الصدق والقصد إليه والتزامه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة صديقا فيثاب ثواب الصديقين ويرضى عليه رضاهم. واحذروا الكذب واجتنبوه فإن الكذب يوصل إلى الشر والانبعاث فيه وأن الشر يوصل إلى النار. وأن الرجل ليتكرر منه الكذب ويتكرر منه تعمده والقصد إليه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة كذابا فيؤثم إثم الكذابين ويسخط عليه سخطهم.
تفصيل وتقسيم:
الصدق والكذب يكونان باللسان على ما تقدم من التفسير وهو الأصل في إطلاقهما، وعليه محمل الحديث. ويكونان في القلب من حيث الاعتمقاد فالعقد الحق الجازم صدق والعقد الباطل كذب ويكونان في الجوارح من حيث الأفعال، فالأفعال الموفر حقه الواقع على وجهه (1) صدق، والفعل الناقص الواقع على غير وجهه كذب، وجماعها كلها الحق والكمال في الصدق والباطل والنقص في الكذب فأقسام كل منهما مرتبط بعضها ببعض ارتباطا يكاد لا ينفصل ويكاد من التزم بعضها ألاَّ يفارق الآخر. ولا يكمل العبد في مقام الصديقة إلا بكماله في أقسام الصدق كلها، وبعده عن أقسام الكذب كلها.
توجيه وتعليل:
كان الصدق يوصل إلى البر والكذب يوصل إلى الفجور لوجوه: الأول: ما بيناه في الفصل السابق من الارتباط بين أقسام كل منهما
__________
(1) في الأصل (وجه).(2/284)
ورجوعهما إلى أصل واحد. الثاني: أن إلتزام الصدق يحمل على الوفاء بالعقود والعهود والوعود في معاملة الناس، فتجري أعمال المرء مع غيره على سداد واستقامة والكذب بعد ذلك. الثالث: أن الملتزم للصدق يمسك نفسه عن أعمال السوء مخافة أن يسئل عنها فيصدق فيجر على نفسه سوءا أو يكذب وهو لا يرضى مواقعة الكذب فتجري أعماله على البر سالمة من الفجور. والملتزم للكذب الضاري عليه يرتكب العظائم ولا يبالي أن ينفي عن نفسه كاذبا. أما البر فيوصل إلى الجنة لأنها دار المتقين، وأما الفجور فيوصل إلى النار لأنها دار الفاسقين. وأما كتابة الملازم للصدق صديقا فجزاء له من جنس عمله، فإنه داوم على الصدق وثبت عليه حتى رسخ فيه وتمكن خلقا من أخلاقه، فأثبت اسمه كذلك في الصديقين ومثله ملازم الكذب.
إستفادتان:
الأولى: أن بين الخصال خصال البر وخصال الشر تناسبا وتوالداً أو هذا أصل يحتاج إليها في تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وعلاج أدوائها، فإن من عرف المرض الأصلي الذي نشأت منه أمراض أخرى سهل عليه إذا عالجه أن يقتلع- بإذن الله- الباقي، ومن عرف أصل الخير سهل عليه إذا تمسك به أن يحصل على فروعه. الثانية: إن تكرر العمل بمقتضى خلق من الأخلاق يقويه ويثبته وأن العمل على مقتضى ضده يضعه ويزيله، وهذا أصل عظيم أيضا في التربية يعلمنا أن التساهل في الأعمال السيئة ولو كانت في نظرنا طفيفة يفضي بنا إلى استعصاء داء الرذيلة، وأن القيام بالأعمال الحسنة ولو كانت طفيفة يبلغ بنا إلى رسوخ الفضيلة.
إستنتاج:
قد كتب الله مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض وجفَّت(2/285)
الأقلام وجرت المقادير كما في الصحيح، فهذه الكتابة كناية أخرى من باب الجزاء للعامل على عمله يستحق بها صاصبها وصف الصدِّيقين وثوابهم، أو وصف الكذابين وعقابهم، ويظهر بذلك في الملا الأعلى عند ملائكة الرحمن ويكسي حلته بين الناس ويعرف به {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
ترهيب:
إن من داوم على الكذب حتى كتب من الكذابين يخشى عليه أن يحرم من التوفيق إلى التوبة، وتلك هي أكبر مصيبة، فإن الله من فضله على هذه الأمة أن فتح أمامها أبواب التوبة، وإذا داوم العبد على الإعراض عن باب سيده، متهاونا بمخالفة أمره، حتى كتب عنده في سىجل الشريرين كان ذلك خطرا عظيما عليه في أن يسد في وجهه الباب ويضرب بسوط الحرمان. ففي هذا الحديث الشريف ترهيب شديد من سوء عاقبة هذه الحال.
تحذير:
مواطن الهزل ومجالس البسط مما يتساهل فيها الناس فيلقون فيها الكلام بلا ضبط، وتجري ألسنتهم بالكذب من غير مبالاة ولا احتياط فيقعون في الإثم على الكذب والإثم على التهاون بالمعصية، ويتعودون ذلك التساهل حتى يقعوا في الوعيد المذكور في هذا الحديث، فليحذر المسلم من مثل هذه الحال وليتفطن لنفسه في مثل هذه المقامات.
تحذير أوكد:
من قلة الاحتياط في الدين وعدم الاحترام للعلم ما يجري على ألسنة كثير من الناس قولهم: (قال رسول الله) - صلى الله عليه وآله وسلم -. دون معرفة برتبة الحديث عند أهله، ومصيبة بعض المتسمين(2/286)
بالعلم والقائمين بالخطب الجمعية في هذا أشد وأضر لتعديها منهم إلى غيرهم ونشرهم الموضوعات الكثيرة في الناس، ولا يكفيهم أنهم سمعوا أو وجدوا، فقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم في مقدمة صحيحه، والكذب عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- عظيم، والتحري فيما دونه واجب فكيف به، خصوصا وقد قال هو عليه وآله الصلاة والسلام «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم». رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وقال الإمام سيدي محمد السنوسي- رحمة الله عليه- في شرحه لهذا الموضع: (وعلماء السوء والرهبان على غير أصل سنة كلهم داخلون في هذا المعنى وما أكثرهم في زماننا (القرن التاسع) نسأل الله تبارك وتعالى السلامة من شر هذا الزمان وشر أهله) انتهى كلامه.
سلوك:
على العاقل أن يضبط لسانه في الجد والهزل، وأن يحترس من الكذب في الجليل والحقير، وأن يتثبت فيما ينقل ويروي من حديث الناس، وأن يتثبت أكثر وأبلغ فيما يروي في الدين والعلم، وأن يتحرى الصدق وتصوير الحقائق، وأن يجعل ذلك من همه وأعظم قصده، وأن يبادر بالتوبة فيما يزل به لسانه إلى ربه، ويعمل دائما على أن يطابق بين عقدهِ بقلبه ونطقه بلسانه وعمله بجوارحه حتى يكون متحريا للصدق بجميع أقسامه ويكتب به- بفضل الله ورحمته- في الصديقين. وفقنا لهذا ويسرنا له نحن والمسلمين أجمعين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين (1)
__________
(1) ش: ج 10، م 8، ص 500 - 503
غرة جمادى الثانية 1351 هـ- أكتوبر 1932 م.(2/287)
لَا لَوْمَ عَلَىَ صِدْقِ الْمَتَابِ
مُحَاجَّةِ آَدَمَ وَمُوَسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدَمُ، مُوسَى. قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». رواه الأئمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بعد موتهم الدنيوي أحياء حياة برزخية روحية أسمى وأرقى من حياة غيرهم بمقتضى كمالاتهم ومقاماتهم، فتتلاقى أرواحهم في العالم العلوي القدسي، ويكون بينهما التعارف والتخاطب. وعلى هذا الوجه وقعت هذه المحاجَّة بين آدم وموسى عليهما السلام، وقصها علينا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لنستفيد ما فيها من العلم ونقتدي بما فيها من عمل.
الألفاظ:
تحاج: تنازعا وذكر كل واحد حجته. فحج آدم موسى: غلبه في الحجة. أغويت الناس: أضللتهم، أي كنت سببا في إخراجهم إلى الأرض فأغويتهم وأضلتهم الشياطين. وأخرجتهم: أي كنت سببا في إخراجهم بأكلك من الشجرة. علم كل شيء: أي مما يحتاج إليه في(2/288)
هداية الناس، واصطفاه على الناس من غير المرسلين. قدر علي أي سبق به علم الله ومضت به إرادته في الأزل.
المعنى:
إلتقى هذان النبيان الكريمان التقاء روحيا في العالم العلوي، فوجه موسى إلى آدم لومه على ما كان منه من الأكل من الشجرة والمخالفة مما أدى إلى إخراجه من الجنة فنسل ذريته بالأرض فكان سببا في خروجهم إليها وتمكنت منهم الشياطين في دار التكليف فأغوت وأضلت من أغوت وأضلت منهم وكان ذلك كله بسببه. فدفع آدم هذا اللوم بأن ما كان منه كان مقدرا عليه قبل أن يخلق فلا لوم عليه فيه، إذ لا دخل له في التقدير، وعرض آدم لموسى بأنه ما كان ينبغي له أن يكون منه هذا اللوم على المقدر، مع علو مقامه بالعلم والاصطفاء, فغلب آدم موسى وقامت حجته عليه.
بسط وبيان:
دلت الأدلة القطعية أن ما يكون من العبد سبق به علم الله ومضت به إرادته وكتب عليه قبل أن يخلق {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} كما دلت الأدلة القطعية على أن الإنسان موأخذ بعمله ملوم عليه لما عنده من التمكن وما له من الاختيار {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وأنه لا مؤاخذة عليه بعد التوبة ولا لوم {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.(2/289)
وآدم عليه السلام كانت منه المخالفة على التأويل وتاب الله عليه، وكل ذلك قد كان في حياته فلم يبق عليه لوم بعد ذلك المتاب، فلما لامه موسى لم يكن سبب اللوم من ناحيته- وهو المخالفة- قائما لزواله بما كان من التوبة، ولم يبق إلا التقدير السابق، وهو لا دخل له فيه، فكيف يلام. فقلت حجته على موسى بسبب انعدام ما يوجب عليه اللوم، وهو المخالة، فكان لوم موسى في غير محله.
دفع شبهة:
قد احتج آدم بالقدر السابق فنهضت حجته، فهل يحتج كل مخالف بالقدر السابق فتنهض حجته؟ كلا: فإن الأدلة القطعية المتقدمة تمنع من ذلك منعا قاطعا. والتحقيق أن المخالف له حالتان: حالة التوبة الصادقة التي أسقطت المؤاخذة، وهذه هي حالة آدم التي احتج فيها فنهضت حجته، وحالة عدم التوبة، وهذه لا حجة فيها بالقدر لوجود المؤاخذة بالعمل المكتسب. وآدم وإن لم يذكر توبته. بمقاله فهي مفهومة من حالة معروفة مما أنزله الله من كتبه على موسى وغيره.
دفع شبهة أخرى:
فإذا كان آدم لا لوم عليه لسقوط المؤاخذة بالتوبة فكيف لامه موسى؟ والجواب: أن موسى لا يجهل هذا ولكنه غفل عنه أو غفل عما كان من آدم من التوبة، وتجوز عليه الغفلة وهو ليس في دار التكليف ولا في مقام التبليغ، فلما ذكر آدم دليله ذكر موسى ما غفل عنه فسلم.
إقتداء:
المناظرة في العلم والدين والمحاجة بالحق عن الأصول الشرعية والكمالات الإنسانية لا يتعالى عنها كبير لكبره، ولا يحتقر فيها صغير(2/290)
لصغره، فالحق هو الحق على أي لسان ظهر، والحجة هي الحجة من أي ناحية قامت. وعلى هذا الأصل حاج موسى آدم وهو أبوه.
ومن حق المناظر أن يذكر كل ما يراه من الحجة الحقة لإثبات قوله ولو كان فيه ثقل على خصمه، وعلى هذا الأصل نسب موسى لآدم الإغواء والإخراج- وإن لم يكن من فعله- لأنه متسبب عنه.
ومن الواجب على من لاح له الحق في حجة خصمه أن يسكت ويسلم. فقد علمنا أن النبيان الكريمان (1) كيف يعتمد (2) على الحجة في البداية وكيف يخضع (3) لها في النهاية والقدوة هما صلى الله وسلم عليهما (4).
__________
(1 و2 و3) كذا في الأصل ويبدو أن التعبىر مضطرب لنقص بعض الجمل أو لسقوطها حين الطبع.
(4) ش: ج5ـ، م 15، ص 208 - 211
غرة جمادى الأولى 1358هـ - جوان 1939م.(2/291)
مَجَالِسُ الْعُلُومِ
الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا.
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَذَهَبَ وَاحِدٌ. فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» ".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
خرَّجه مالك وتلقاه من طريقه الأئمة البخاري ومسلم والترمذي والنَّسائي رضي الله عنهم.
ألفاظ المتن:
الفرجة: الخلل بين الشيئين. أوى:! أوى إلى منزله، نزله واستقر فيه، وأوى إلى الله لجأ إليه ودخل مجلس ذكره ومنزل أوليائه. آواه: أنزله منزله وأدخله مسكنه، وآواه الله قبله وضمه إلى أهل مجلس ذكره وأناله ما ينيلهم من رحمته. استحيا: الحياء تغير(2/292)
وانكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يذم به أو يلام عليه فيمنعه منه. فاستحيا هذا معناه امتنع من الذهاب كما ذهب صاحبه أو ترك المزاحمة في الحلقة. فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهة أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب.
البيان:
كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يجلس في المسجد النبوي لأصحابه ويجلسون إليه حلقة فيعلمهم القرآن، والحكمة، ويعظهم، ويرشدهم، فجاء هؤلاء الثلاثة من طرف المسجد والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في حلقته، فأقبل اثنان وذهب الثالث ودخل أحد الإثنين في الحلقة فسد فرجة وجلس الآخر خلف الحلقة فلما فرغ النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- من درسه أراد أن يعرف القوم بصنيع الثلاثة ليعلموا حكم عمل كل واحد منهم في الشرع، فبين لهم أن الأول نال الأجر والمدح بإقباله على مجلس العلم وسده الفرجة، وأن الثاني سلم من الذم ولم يكن له من الأجر للأول، وأن الثالث حرم من الأجر وتحمل الملامة.
تحرير:
فسر الإعراض بالغضب والسخط، وفسرناه بالحرمان من الأجر مع الملامة، لأن ترك الإتيان ليس تركا لواجب حتى يستوجب صاحبه الغضب والسخط الذي من مقتضاه الإثم، بدليل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يمنعه من الذهاب. ويؤيد تفسيرنا ما جاء عن أنس عند الحاكم ولفظه (فاستغنى فاستغنى الله عنه) وهذا ظاهر أن معناه لم يقبل على ما فيه أجر وثواب فلم يعط أجرا ولا ثوابا.
وفسر بعضهم استحياء الثاني بأنه لم يدخل للحلقة، وفسره آخرون(2/293)
بأنه استحيا من الذهاب عن الجلس، والتفسير الثاني أرجح لأن سد الفرجة مطلوب فلا يمدح بالاستحياء منه. ولأنه جاء في رواية أنس عند الحاكم (ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس). وهذا نص في المراد.
الفوائد والأحكام:
الأولى: الجلوس في المساجد حلقا للتعلم والتعليم.
الثانية: تعليم الناس ووعظهم وإرشادهم في المساجد، وهذان مما أجمع عليه المسلمون في جميع الأعصار والأمصار وجرى عليه عملهم وعلم بالضرور عندهم فلا يتعرض لهم فيها إلا ظالم من شر الظالمين. له في الدنيا خزي وله في الآخرة عذاب عظيم.
الثالثة: التعليق للعلم وتنظيم الحلقة وسد فرجها فهي في ذلك كصفوف الصلاة فيجوز التخطي لسد الخلل كما فعل الأول ويجلس خلفها إذا لم يكن موضع فيها كما فعل الثاني.
الرابعة: فضل الإقبال على مجالس العلم وكراهة الإعراض عنها إلا لعذر.
الخامسة: بيان أحكام الأعمال التي تقع أمام الناس حين وقوعها ليرسخ علمها ويتعظ بما فيها.
السادسة: لوم من زهد في الخير ولم يحرص عليه وإن لم يكن ذلك الخير من الواجبات عليه في تلك الحال.
إهتداء:
إن من يؤمن بأنه يحاسب على مثاقيل (1) الذر من أعماله لا يكون إلا حريصا على الخير أقل القليل منه، ومن شأن الحريص على الخير
__________
(1) في الأصل ميثاقيل.(2/294)
أن يسارع إليه ويسابق فيه فلا يرى موطنا يشغله بين أهله إلا ملأه ولا نقصا يمكنه تكميله إلا كمَّله. حتى إذا سبق إلى خير وقف عندما حصل وكان له بنيته أجر من سبق. فهذا المجلس النبوي الكريم مثله في المعنى جميع مواطن الخير ومشاهد الفلاح. بصرنا الله بالخير وحببنا فيه وأعاننا عليه وجعلنا من أهله (1).
__________
(1) ش: ج 3، م 13، ص 121 - 124
غرة شعبان 1356هـ- 2 ماي 1937م.(2/295)
دَرْسُ خَتْمِ الْمُوَطَّأِ (1)
كما نقله في وقت الإلقاء بعض التلامذة وقد اجتهد أن يؤدي أغلب المقصود.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. وَبِهِ ثِقَتِي وَأَسْتَعِينُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَسْعَدِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم تَسْلِيمًا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بالسند المتصل إلى الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس- رضي الله عنه- قال: " أَسْمَاءُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- " وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ».
السند:
روى مالك هذا الحديث مرسلا، ورواه عنه كذلك يحيى بن يحيى
__________
(1) ش: اكتفينا بهذا الدرس الجليل عن الحديث المعتار لمجالس التذكببر (المؤلف).(2/296)
والأكثرون، وجاء مرويا عنه مسندا عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وكثيرا ما يروي مالك الحديث مسندا ومرسلا. ولا يرسل مالك ولا يأتي ببلاغ في الغالب إلا وهو على علم بمن يترك من السند أنه محل الثقة والقبول والاعتماد. فأما إذا شك فإنه يصرح بشكه. وتصريحه بالشك حين يشك يدلنا على ما عنده من العلم واليقين عندما يسكت دون أن يصرح بالراوي. ومن الدليل على أنه إذا كان على شك من الأمر يصرح ما تقدم لنا قريبا في باب التعفف عن المسألة، فلما روي عن العلاء بن عبد الرحمن قوله: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلاَّ عزَّ وما تواضع عبد إلا رفعه الله)) قال لا أدري أيرفع هذا الحديث إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أم لا.؟
ثم إن هذا الحديث قد جاء مسندا في الصحيحين وغيرههما.
المتن:
في قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أسماء، مفهومان: مفهوم الحصر ومفهوم العدد. فأما الأول: فمن تقديم الجار والمجرور، وأما الثاني: فمن لفظ خمسة، لكن المفهومين ليسا سواء، فإن مفهوم العدد- غير معتبر كما هو أصح الأقوال، نعم يسئل عن وجه الاقتصار على هذا العدد إذ كان هناك غيره، فإن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- له أسماء كثيرة قد أنهاها بعضهم إلى الألف. فاقتصاره هنا على ذكر خمسة لا بد أن يكون لوجه اقتضى الاقتصار عليها. ووجه ذلك أنها هي التي سمي بها في الكتب المنزلة. وهي الخمسة التي يختص بها وليس لغيره ألفاظها ولا معانيها كما سيتبين. وإذا كان سمي بغيرها في الكتب المتقدمة فهذه هي الأشهر والأكثر وكفى بهذا الذي ذكرنا وجها لتخصيصها بالذكر.(2/297)
وأما مفهوم الحصر في قوله لي خمسة أسماء أي ليست لغري فهو مفهوم معتبر وهو حصر صحيح ثابت من جهة المعنى ومن جهة اللفط.
فأما الأول: فإننا نجد معانيها ليست إلا له- صلى الله عليه وآله وسلم- مختصا بها بين أخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- وهم المشاركون له في الكمالات ولكن الله يفضل منهم من يشاء بما يشاء لا لنقص في الفضل عليه ولكن لخصائص زائدة في المفضل، وأما الثاني: فكذلك أيضا على ما سنبين.
«أَنَا مُحَمَّدٌ»: مشتق من الحمد، والحمد هو الثناء بذكر الكمالات والصفات الفاضلة المشتملة على ما هو من صفات الذات، أو من صفات الأفعال وعلى ما هو من باب الكمالات أو من باب الإنعام. وإنما يعبر من الثناء ما كان حقا وصدقا بمطابقته للواقع وبمطابقته لما في القلب. ومحمد: اسم مفعول من حمد المضاعف العين، وهو يقتضي التكثير، فالحمد هو ذو الخصال الكثيرة الحميدة التي تقتضي حمده مرة بعد أخرى. فالمحمود هو من وقع عليه الحمد ولو مرة وأما المحمد فالذي يكثر حمده. وهو في الأصل صفة وقد نقل من الوصفية إلى العلمية وجعل دالا على الذات المسماة بهذا الاسم.
والمسمي له بهذا الاسم هو جده عبد المطلب بإلهام من الله، - والإلهام من الله هو ما يوفق الله إليه العبد ويهديه إليه دون علم سابق ولا دليل ظاهر، وإنما هي هداية ربانية تكون بإرشاد القلب إلى الشيء الملهم إليه- فهذا الاسم النبوي علم منقول من الصفة وهو وإن كان موضرعا للذات، فإن الواضع يلاحظ عند الوضع معنى تلك الصفة التي نقل منها. ويدل لهذا ما جاء أن عبد المطلب لما سئل عن تسمية ابنه بهذا الاسم- ولم يكن من أسماء آبائه وأجداده، ومن عاداتهم أن يحيوا ذكر آبائهم وأجدادهم بتسمية أبنائهم بأسمائهم- أجاب(2/298)
إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. فدل هذا على أن العربي الواضع للعلم الوصفي يلاحظ معناه لما كان صفة، وبهذا يكون الاسم وغيره- مع العلمية- منطويا ومشتملا على الثناء عليه. ولهذا يعبر القاضي عياض بقوله: "فمن خصائصه تعالى له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن ضمن أسماءه ثناءه، فطوى أثناء ذكره، عظيم شكره" وما كانت الأسماء منطوية على الثناء إلا مع ملاحظة ما كانت عليه قبل العلمية.
والثناء الذي يشتمل عليه هذا الاسم الشريف هو ما دل عليه من كثرة خصاله التي يحمد عليها ويكون حمده عليها متجددا. وهذا قد تحقق وهو واقع مشاهد فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد حمده الخلق ويمحدونه دنيا وأخرى ويزداد ذلك في المواطن التي يزداد علم الناس بما أعطاه الله من كمالات وما أظهر على يده من إنعامات ويزداد علمهم بذلك بقدر ما يزداد تقدمهم في العلم والمعرفة، حتى أننا نرى في عصرنا هذا من غير المسلمين ممن ينصفونه فيذكرون من كمالاته والخير الذي أصاب البشرية على يده، فيشكرونه ويكررون الثناء عليه. فأما من أهل الإيمان به فهو كثير شهير، ثم إن الخلق كلهم يوم القيامة يحمدونه بما يشاهدون من النعم التي أعظمها وأجلها موقفه في الشفاعة العامة، فيحمدونه الحمد المتجدد المتكرر عندما يشاهدون ما لم يكونوا من قبل يعرفون.
«وَأَنَا أَحْمَدُ»: وهو مشتق أيضا من الحمد، غير أن فعله حمد السالم المسند إلى الفاعل، وهو علم منقول من اسم التفضيل، والأحمد هو الأكثر حمدا من غيره. وقد علمنا أن النقل تصحبه تلك الملاحظة، فقد سمي أحمد على اعتبار أنه أكثر الخلق حمدا لله، فالخلق كلهم يحمدون الله بلسان الحال أو بلسان المقال. وهو أكثرهم حمدا لله على كل حال.(2/299)
هذا وقد ذهب قوم إلى أن أحمد من فعل حمد المبني للغائب على معنى أنه أكثر محمودية من غيره. وتنتفي مرادفته للأول بجعل الأول راجعا للملكية أي لكثرة الصفات التي يحمد عليها، وجعل هذا راجعا للكيفية أي أفضلية ما يحمد به. والذي يقرر هذا هو الإمام ابن قيم الجوزية ويقول في تقريره؛ لو كان أحمد من المبني للفاعل لكان الأولى أن يسمى حمَّادا لأنه هو الذي يفيد كثرة الحمد. وهذا من هذا الإمام على جلالته سهو وغفلة فإن أحمد عندما يكون منقولا من اسم التفضيل المسند للفاعل يفيد تفضيله على جميع الحامدين المقلين والمكثرين فهو الأكثر حمدا لله من كل من أقل أو كثر. وأما حماد فإنما يفيد كثرة حمده ومن كثر حمده قد يساويه أو يفوقه فيه غيره فأما أحمد فيفيد- خصوصا مع حذف المتعلق- أنه بلغ من كثرة الحمد إلى مقام كان فيه أكثر حمدا لله من كل حامد.
على أن- هنالك شيئا آخر لا بد من ملاحظته وهو أن الإسمين يراد بهما الدلالة على تكميل الله له من ناحيتين، الناحية التي يكون فيها في مقام التعظيم والتكريم بالثناء عليه وهو ما يقتضيه اسم محمد. والناحية التي يكون فيها في مقام الخضوع والخشوع بحمده لله تبارك وتعالى وثنائه عليه، وهو ما يقتضيه اسم أحمد المنقول من المسند للفاعل، فمحمد دلنا على مقامه الأول الذي يكثر فيه له الحمد، وأحمد دلنا على مقامه الثاني الذي يكثر فيه منه الحمد، ودلنا على أنه في هذا المقام قد فاق سواه وكان فيه لا تظير له. وهذا المعنى لا يمكن أبدا أن يستفاد من حماد. على أن أحمد المأخوذ من السند إلى الفاعل هو الذي يجري القياس، والمتبادر إلى الأذهان عند سماع اسم التفضيل هو الإسناد إلى الفاعل ولا يفهم الاسناد إلى المفعول إلا بقرينة.
وحمده الله الذي فاق فيه كل حامد لا يكون إلا عن إيمانه ومعرفته(2/300)