368 - (المرأة أحق بولدها ما لم تزوج).
أخرجه الدارقطني من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أمراة خاصمت زوجها في ولدها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذكره).
قال ابن القيم: (ودلّ الحديث على أنه إذا افترق الأبوانِ، وبينهما ولد، فالأمّ أحقُّ به من الأب ما لم يقم بالأمِّ ما يمنعُ تقديمَها، أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفةُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب .... ).
وقد أشار بقوله: " ما يمنع تقديمها ": إلى أنه يشترط في الحاضنة أن تكون مسلمة دينه لأن الحاضن عادة حريص على تربية الطفل على دينه , وأن يربى عليه , فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه , وقد تغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده , فلا يراجعها أبداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة , فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) , فلا يؤمن تهويد الحاضن وتنصيره للطفل المسلم.
وأشار بقوله: (أو بالولد وصف يقتضي تخييره) , إلى أن الصبي إذا كان مميزاً , فيخير , ولا يشمله هذا الحديث , لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه) , وهو حديث صحيح كما بينته في الإرواء.
ومن شاء الاطلاع على الأحكام المستنبطة من هذا الحديث مع البسط والتحقيق , فليرجع إلى كتاب العلامة ابن القيم "زاد المعاد".
من الأدلة على أن وجه المرأة ليس بعورة
441 - (مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ , يعني النساء).
أخرجه أحمد , وأبو نعيم من طريق الطبراني في "الكبير" عَنْ مُعَاوِيَةَ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَرَازِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيَّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَيْءٌ قَالَ أَجَلْ مَرَّتْ بِي فُلَانَةُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي شَهْوَةُ النِّسَاءِ فَأَتَيْتُ بَعْضَ أَزْوَاجِي فَأَصَبْتُهَا فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا فَإِنَّهُ مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ , يعني النساء.
والظاهر من القصة وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أجل ... ): أن المرأة كانت مكشوفة الوجه , فهو من الأدلة الكثيرة على أنه ليس بعورة , وهذا ما كنت حققته في كتابي " حجاب المرأة المسلمة " وقد طبع مرات , ثم زدته تحقيقاً إعداداً له لطبعة جديدة منقحة مزيدة , ثم طبع والحمد لله بعنوان " جلباب المرأة المسلمة " , والله ولي التوفيق.
قدمي المرأة عورة
460 - (جريه شبرا. فقالت [أم سلمة]: إذا تنكشف القدمان! قال: فجريه ذراعا).
أخرجه أبو يعلى في " مسنده ": ثنا إبراهيم بن الحجاج: ثنا حماد عن أيوب عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال في جر الذيل ما قال , قالت: يارسول الله فكيف بنا؟ فقال: (فذكره).
في الحديث دليل على أن قدمي المرأة عورة , وأن ذلك كان أمراً معروفاً عند النساء في عهد النبوة , فإنه لما قال: (جريه شبراً) , قالت أم سلمة: (إذن تنكشف القدمان) , مما يشعر بأنها كانت تعلم أن القدمين عورة , لا يجوز كشفهما , وأقرها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك , ولذلك أمرها أن تجره دراعاً.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذه الحقيقة , وذلك في قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) النور31.
وراجع لهذا كتابنا "جلباب المرأة المسلمة" , بعنوانه الجديد.
لا يجوز للمرأة أن تتصرف بمالها الخاص بها إلا بإذن زوجها
775 - (ليس للمرأة أن تنتهك شيئا من مالها إلا بإذن زوجها).
أخرجه تمام في (الفوائد) (10/ 182/2)، والطبراني (22/ 83/201و85/ 206)، وابن عساكر (4/ 24) من طرق صحيحة عن عنبسة عن حماد مولى بني أمية عن جناح مولى الوليد عن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/154)
قلت: وهذا إسناد ضعيف، حماد مولى بني أمية كأنه مجهول، لم يذكروا فيه شيئاً سوى أن الأزدي تركه، وقد ذكر تمام أن اسم أبيه صالح، وهذه فائدة لم يذكروها في ترجمته، وكذلك لم يذكروا اسم والد شيخه جناح، وقد سماه تمام عباداً، وترجمته ابن أبي حاتم (1/ 1/537) برواية جماعة من الثقات عنه، وأورده ابن حبان في (الثقات) (4/ 118).
وعنبسة بن سعيد، الظاهر أنه أبان ابن سعيد بن العاص أبو خالد الأموي، وثقه الدار قطني.
والحديث عزاه السيوطي للطبراني في ((الكبير)).وقال المناوي:
(قال الهيثمي: وفيه جماعة لم أعرفهم)).
قلت: ما فيهم مجهول سوى حماد، فتنبه.
لكن للحديث شواهد تدل على أنه ثابت، وبعضها حسن لذاته، وهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الحاكم والذهبي.
وروي من حديث عبدا لله بن يحيى الأنصاري عن أبيه عن جده مرفوعاً.
رواه الطحاوي (2/ 403). ومن حديث عبادة بن الصامت.
أخرجه أحمد (5/ 327).
وسيأتي تخريج حديث الأنصاري برقم (820).
ثم وقفت له على شاهد مرسل قوي، ورواه عبد الرزاق (9/ 125/16607) بسند صحيح عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره بنحوه، وسيأتي لفظه (ص473).
ثم روى نحوه عن عكرمة مرسلا بلفظ? (( ... وصية في مالها ... )).
وفيه رجل لم يسم.
قلت: وهذا الحديث-وما أشرنا إليه مما في معناه-يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إلا بإذن زوجها، وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها، ولكن لا ينبغي للزوج-إذا كان مسلماً صادقاً- أن يستغل هذا الحكم-فيتجبر على زوجته ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه، وما أشبه هذا الحق بحق ولي البنت التي لا يجوز لها أن تزوج نفسها بدون إذن وليها، فإذا أعضلها رفعت الأمر إلي القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إذا جار عليها زوجها فمنعها من التصرف المشروع في مالها، فالقاضي ينصفها أيضاً. فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإشكال في سوء التصرف به. فتأمل.
كتاب المرض والطب والعيادة و الجنائز والقبور
ماذا يقول إذا مر بقبر كافر
18 - (حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كافر فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ).
رواه الطبراني عن عامر بن سعد عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن أبي كان يصل الرحم , وكان , وكان , فأين هو؟ قال: في النار. فكأن الأعرابي وجد من ذلك , فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ قال: (فذكره). قال: فأسلم الأعرابي بعد , فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً: ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
وفي هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها عامة كتب الفقه , ألا وهي مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مر بقبره , ولا يخفى ما في هذا التشريع من إيقاظ المؤمن , وتذكيره بخطورة جرم هذا الكافر , حيث ارتكب ذنباً عظيماً تهون ذنوب الدنيا كلها تجاهه ولو اجتمعت , وهو الكفر بالله عز وجل والإشراك به , الذي أبان الله تعالى عن شدة مقته إياه حين استثناه من المغفرة فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء48 , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وقد خلقك) متفق عليه.
وإن الجهل بهذه الفائدة مما أدي ببعض المسلمين إلى الوقوع في خلاف ما أراد الشارع الحكيم منها , فإننا نعلم أن كثيراً من المسلمين يأتون بلاد الكفر لقضاء بعض المصالح الخاصة أو العامة , فلا يكتفون بذلك , حتى يقصدون زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار ويضعون على قبورهم الأزهار والأكاليل , ويقفون أمامها خاشعين محزونين , مما يشعر برضاهم عنهم , وعدم مقتهم إياهم , مع أن الأسوة الحسنة بالأنبياء عليهم السلام تقضي خلاف ذلك , كما في هذا الحديث الصحيح , واسمع قول الله عز وجل: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا) الممتحنة4.
هذا موقفهم منهم وهم أحياء , فكيف وهم أموات؟
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/155)
روى البخاري ومسلم والنسائي وابن حبان و الحميدي وعبدالرزاق عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم لما مر بالحجر:
19 - (لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ , إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ , [و تقنع بردائه وهو على الرحل]).
وقد ترجم لهذا الحديث صديق خان في (نزل الأبرار) (ص 293) (باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم , وإظهار الافتقار إلى الله تعالى , والتحذير من الغفلة عن ذلك).
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا , وأن يلهمنا العمل به , إنه سميع مجيب.
ما لم يعرفه الطب الحديث
37 – (غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ).
أوكوا: أي شدوا رؤوسها بالوكاء , وهو الخيط الذي تشد به القربة ونحوها.
وفي رواية لمسلم وغيره: (غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ وَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً وَلَا يَفْتَحُ بَابًا وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ [يعني الفأر] تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ).
38 - (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ [كله] ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وفي َالْأُخْرَى شِفَاءً).
ورد من حديث أبي هريرة، وابي سعيد الخدري , وأنس بن مالك.
1 - أما حديث ابي هريرة , فله عنه طرق:
الأول: عن عبيد بن حنين قال: سمعت أباهريرة يقول: (فذكره) , أخرجه البخاري , والدارمي , وابن ماجه , وأحمد , وما بين المعكوفتين زيادة له , وهي للبخاري في رواية له.
الثاني: عن سعيد بن أبي سعيد عنه. رواه ابوداود من طريق أحمد وهذا في المسند، والحسن بن عرفة في جزئه , وابن حبان , من طريق محمد بن عجلان عنه به , وزاد: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء , فليغمسه كله).
قلت: واسناده حسن.
الثالث: عن حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبدالله بن أنس عنه به.
أخرجه الدارمي، وأحمد , وسنده صحيح على شرط مسلم , لولا أنه منقطع بين ثمامة وأبي هريرة فإنه لم يدركه، وقال الدارمي عقبه: (قال غير حماد: ثمامة عن أنس , مكان أبي هريرة).
قلت: وهو أصح.
الرابع: عن محمد بن سيرين عنه به , رواه أحمد وسنده صحيح أيضا.
الخامس: عن أبي صالح عنه،رواه أحمد , والفاكهي , بسند حسن.
2 - وأما حديث أبي سعيد الخدري , فلفظه:
39 - (إِنَّ أَحَدَ جَنَاحَيْ الذُّبَابِ سُمٌّ وَالْآخَرَ شِفَاءٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ).
رواه أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ ثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَأَتَانَا بِزُبْدٍ وَكُتْلَةٍ فَأُسْقِطَ ذُبَابٌ فِي الطَّعَامِ فَجَعَلَ أَبُو سَلَمَةَ يَمْقُلُهُ بِأُصْبُعِهِ فِيهِ فَقُلْتُ يَا خَالُ مَا تَصْنَعُ فَقَالَ إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
ورواه ابن ماجه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ به مرفوعا دون القصة.
ورواه الطيالسي , وعنه رواه النسائي وابويعلى وابن حبان.
قلت: وهذا سند صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير سعيد بن خالد – وهو القارظي – وهو صدوق كما قال الذهبي والعسقلاني.
3 - وأما حديث أنس , فرواه البزار من طريق أبي عتاب سهل بن حماد عن عبدلله بن المثنى عن ثمامة عنه.
قلت: وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/156)
وبعد أن ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة عن هؤلاء الصحابة الثلاثة: أبي هريرة , وأبي سعيد الخدري , وأنس , ثبوتاً لا مجال لرده ولا للتشكيك فيه , كما ثبت صدق أبي هريرة رضي الله عنه في روايته إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لبعض غلاة الشيعة من المعاصرين , ومن تبعهم من الزائغين , حيث طعنوا فيه رضي الله عنه لروايته إياه , واتهموه بأنه يكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وحاشاه من ذلك , فهذا هو التحقيق العلمي يثبت أنه برئ من كل ذلك , وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه , لأنهم رموا صحابياً بالبهت , وردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة , وقد رواه عنه جماعة من الصحابة كما علمت.
وليت شعري هل علم هؤلاء بعدم تفرد أبي هريرة بالحديث – وهو حجة ولو تفرد – أم جهلوا ذلك؟
فإن كان الأول , فلماذا يتعللون برواية أبي هريرة إياه , ويوهمون الناس أنه لم يتابعه أحداً من الأصحاب الكرام؟
وإن كان الآخر , فهلا سألوا أهل الاختصاص والعلم بالحديث الشريف؟
وما أحسن ما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة .......... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثم إن كثيراً من الناس يتوهمون أن هذا الحديث يخالف ما يقرره الأطباء , وهو أن الذباب يحمل بأطرافه الجراثيم , فإذا وقع في الطعام أو في الشراب , علقت به تلك الجراثيم.
والحقيقة أن الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك , بل هو يؤيدهم , إذ يخبر أن في أحد جناحيه داء , ولكنه يزيد عليهم فيقول (و فِي الْأُخْرَى شِفَاءً) , فهذا مما لم يحيطوا بعلمه , فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين , وإلا , فالتوقف إذا كان من غيرهم إن كانوا عقلاء علماء، ذلك لأن العلم الصحيح يشهد أن عدم العلم بالشئ لا يستلزم العلم بعدمه.
نقول ذلك على افتراض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة , وقد اختلفت آراء الأطباء حوله , وقرأت مقالات كثيرة في مجلات مختلفة , كل يؤيد ما ذهب إليه تأييداً أو رداً.
ونحن , بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث , وأن النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم 3 , لا يهمنا كثيراً ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب , لأن الحديث برهان قائم في نفسه , لا يحتاج إلى دعم خارجي.
ومع ذلك , فإن النفس تزداد إيماناً حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلم الصحيح , ولذلك فلا يخلو من فائدة أن أنقل إلى القراء خلاصة محاضرة ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية الإسلامية في مصر حول هذا الحديث , قال:
(يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة , فينقل بعضها بأطرافه , ويأكل بعضاً , فيتكون في جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب (مبعد البكتيريا) , وهي تقتل كثيراً من جراثيم الأمراض , ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية , أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود (مبعد البكتيريا) , وإن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب , هي أنه يحول البكتيريا إلى ناحيته , وعلى هذا , فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام , وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب , فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم , وأول واقٍ منها هو (مبعد البكتيريا) الذي يحمله الذباب في جوفه قريباً من أحد جناحيه , فإذا كان هناك داء , فدواؤه قريب منه , وغمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة , وكاف في إبطال عملها).
وقد قرأت قديماً في هذه المجلة بحثاً ضافياً في هذا المعنى للطبيب الأستاذ سعيد السيوطي (مجلد العام الأول) , وقرأت في مجلد العام الفائت (503) كلمة للطبيبن محمود كمال ومحمد عبدالمنعم حسين , نقلاً عن (مجلة الأزهر).
ثم وقفت على العدد (82) من (مجلة العربي) الكويتية (144) تحت عنوان: (أنت تسأل ونحن نجيب) بقلم المدعو عبدالوارث الكبير , جواباً على سؤال عما لهذا الحديث من الصحة والضعف؟ فقال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/157)
(أما حديث الذباب , وما في جناحيه من داء وشفاء , فحديث ضعيف , بل هو عقلاً حديث مفترى , فمن المسلم به أن الذباب يحمل الجراثيم والأقذار .......... ولم يقل أحد قط: إن في جناحي الذبابة داء وفي الآخر شفاء , إلا من وضع هذا الحديث أو افتراه , ولو صح ذلك , لكشف عنه العلم الحديث الذي يقطع بمضار الذباب ويحض على مكافحته).
وفي الكلام – على اختصاره – من الدس والجهل ما لا بد من الكشف عنه , دفاعاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وصيانة له من أن يكفر به من قد يغتر بزخرف القول , فأقول:
أولاً: لقد زعم أن الحديث ضعيف , يعني: من الناحية العلمية الحديثية , بدليل قوله: (بل هو عقلاً حديث مفترى) , وهذا الزعم واضح البطلان , تعرف ذلك مما سبق تخريج الحديث من طرق ثلاث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم , وكلها صحيحة , وحسبك دليلاً على ذلك أن أحداً من أهل العلم لم يقل بضعف الحديث , كما فعل هذا الكاتب الجرئ.
ثانياً: لقد زعم أنه حديث مفترى عقلاً , وهذا الزعم ليس وضوح بطلانه بأقل من سابقه , لأنه مجرد دعوى , لم يسق دليلاً يؤيده به سوى الجهل بالعلم الذي لا يمكن الإحاطة به , أليست تراه يقول (ولم يقل أحد ....... ولو صح , لكشف عنه العلم الحديث .. )؟ , فهل العلم الحديث – أيها المسكين – قد أحاط بكل شئ علما ً , أم أن أهله الذين لم يصابوا بالغرور – كما أصيب من يقلدهم منا – يقولون: إننا كلما ازددنا علماً بما في الكون وأسراره , أزددنا معرفة بجهلنا , وأن الأمر بحق كما قال الله تبارك وتعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
وأما قوله: (إن العلم يقطع بمضار الذباب ويحض على مكافحته) , فمغالطة مكشوفة , لأننا نقول: إن الحديث لم يقل نقيض هذا , وإنما تحدث عن قضية أخرى لم يكن العلم يعرف معالجتها , فإذا قال الحديث: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ .... ) , فلا أحد يفهم – لا من العرب ولا من العجم , اللهم إلا العجم في عقولهم وأفهامهم – أن الشرع يبارك في الذباب ولا يكافحه.
ثالثاً: قد نقلنا لك فيما سبق ما أثبته الطب اليوم , من أن الذباب يحمل في جوفه ما سموه (مبعد البكتيريا) القاتل للجراثيم , وهذا وإن لم يكن موافقاً لما في الحديث على وجه التفصيل , فهو في الجملة موافق لما استنكره الكاتب المشار إليه وأمثاله من اجتماع الداء والدواء في الذباب , ولا يبعد أن يأتى يوم تنجلي فيه معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبوت التفاصيل المشار إليها علمياً (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ص 88.
وإن من عجيب أمر هذا الكاتب وتناقضه , أنه في الوقت الذي ذهب فيه إلى تضعيف هذا الحديث ذهب إلى تصحيح الحديث (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) , فقال: (حديث صحيح متفق عليه).
فإنه إذا كانت صحته جاءت من اتفاق العلماء أو الشيخين على صحته , فالحديث الأول صحيح عند العلماء بدون خلاف بينهم , فكيف جاز له تضعيف هذا وتصحيح ذاك؟
ثم تأوله تأويلاً باطلاً يؤدي إلى أن الحديث غير صحيح عنده في معناه , لأنه ذكر أن المقصود من العدد مجرد الكثرة , وأن المقصود من التراب هو استعمال مادة مع الماء من شأنها إزالة ذلك الأثر , وهذا تأويل باطل بين البطلان , وإن كان عزه للشيخ محمود شلتوت عفا الله عنه.
فلا أدري أي خطأيه أعظم؟ أهو تضعيفه للحديث الأول وهو صحيح؟ أم تأويله للحديث الآخر وهو تأويل باطل؟.
وبهذه المناسبة فإني أنصح القراء الكرام بأن لا يثقوا بكل ما يكتب اليوم في بعض المجلات السائرة , أو الكتب الذائعة , من البحوث الإسلامية – وخصوصاً ما كان منها في علم الحديث – إلا إذا كانت بقلم من يوثق بدينه أولاً , ثم بعلمه واختصاصه فيه ثانياً , فقد غلب الغرور على كثير من كتاب العصر الحاضر وخصوصاً من يحمل منهم لقب (الدكتور) فإنهم يكتبون فيما ليس من اختصاصهم , وما لا علم لهم به , وإني لأعرف واحداً من هؤلاء أخرج حديثاً إلى الناس كتاباً جله في الحديث والسيرة , وزعم فيه أنه أعتمد فيه على ماصح من الأحاديث والأخبار في كتب السنة والسيرة , ثم هو أورد فيه من الرويات والأحاديث ما تفرد به الضعفاء والمتروكون والمتهمون بالكذب من الرواة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/158)
, كالواقدي وغيره , بل أورد فيه حديث (نحن نحكم بالظاهر , والله يتولى السرائر) , وجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم , مع أنه مما لا أصل له عنه بهذا اللفظ , كما نبه عليه حفاظ الحديث , كالسخاوي وغيره.
فاحذروا أيها القراء , أمثال هؤلاء , والله المستعان.
من الطب النبوي
56 - (كَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ).
57 - (كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، [فَيَقُولُ نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا]).
قال ابن القيم في (زاد المعاد) (3/ 175) بعد أن ذكره بالزيادة:
(وفى البِطِّيخ عدةُ أحاديث لا يَصِحُّ منها شىء غيرُ هذا الحديث الواحد، والمرادُ به الأخضر، وهو باردٌ رطب، وفيه جِلاءٌ، وهو أسرعُ انحداراً عن المَعِدَة من القِثَّاء والخيار، وهو سريعُ الاستحالة إلى أى خلط كان صادفه فى المَعِدَة، وإذا كان آكَلُهُ مَحْرُوراً انتفع به جداً، وإن كان مَبْروداً دفع ضررُه بيسير من الزَّنْجَبيل ونحوه، وينبغى أكلُه قبل الطعام، ويُتْبَعُ به، وإلاّ غَثَّى وقيَّأَ. وقال بعض الأطباء: إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلاً، ويُذهب بالداء أصلاً).
وهذا الذي عزاه لبعض الأطباء قد روي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكنه لا يصح , وقد سبق الكلام عليه في (الأحاديث الضعيفة) (رقم 144) , فليراجعه من شاء.
وقوله: (المراد به الأخضر): هو الظاهر من الحديث , ولكن الحافظ رده في (الفتح) وذكر أن المراد به الأصفر , واحتج بالحديث الآتي , ويأتي الجواب عنه فيه وهو:
58 - (كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبِ مع الْخِرْبِزِ , يعني: الْبِطِّيخَ).
قال النسائي:
(و الْخِرْبِزِ: وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي: نوع من البطيخ الأصفر , وقد تكبر القثاء فتصفر من شدة الحر فتصير كالخربز , كما شاهدته كذلك بالحجاز.
وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر , واعتل بأن الأصفر حرارة كما في الرطب , وقد ورد التعليل بأن أحداهما يطفئ حرارة الآخر.
والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة , وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة , والله أعلم).
أقول: وفي هذا التعقيب نظر عندي , ذلك لأن الحديثين مختلفا المخرج , فالأول من حديث عائشة , وهذا من حديث أنس , فلا يلزم تفسير أحداهما بالآخر , لاحتمال التعدد والمغايرة , ولا سيما أن في الأول تلك الزيادة (نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا) , ولا يظهر هذا المعنى تمام الظهور بالنسبة إلى الخربز , ما دام أنه يشابه الرطب في الحرارة , والله أعلم.
ومن فوائد الحديث:
قال الخطيب في (الفقيه والمتفقه) (79/ 1 - 2) بعد أن ساق إسناده إلى عبدالله بن جعفر:
(في هذا الحديث من الفوائد: أن قوماً ممن سلك طريق الصلاح والتزهد قالوا: لا يحل الأكل تلذذاً , ولا على سبيل التشهي والإعجاب , ولا يأكل إلا ما لا بد منه لإقامة الرمق , فلما جاء هذا الحديث , سقط قول هذه الطائفة , وصلح أن يأكل الأكل تشهياً وتفكهاً وتلذذاً.
وقالت طائفة من هؤلاء: إنه ليس لأحد أن يجمع بين شيئين من الطعام , ولا بين أدمين على خوان , فهذا الحديث أيضاً يرد على صاحب هذا القول , ويبيح أن يجمع الإنسان بين لونين وبين أدمين فأكثر).
قلت: ولا يعدم هؤلاء بعض أحاديث يستدلون بها لقولهم , ولكنها أحاديث واهية , وقد ذكرت طائفة منها في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 241و257).
59 - (يَا عَلِيُّ أَصِبْ مِنْ هَذَا فَهُوَ أَنْفَعُ لَكَ).
رواه أبو داود , والترمذي , وابن ماجه , وأحمد , وابن أبي شيبة , والطبراني , والخطيب , من طريق فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَامَ عَلِيٌّ لِيَأْكُلَ فَطَفِقَ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/159)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ مَهْ إِنَّكَ نَاقِهٌ حَتَّى كَفَّ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَتْ وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
قال ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) (3/ 97) بعد أن ساق الحديث:
(واعلم أنَّ فى منع النبىِّ صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ من الأكل من الدَّوالى، وهو ناقِهٌ أحسنَ التدبير، فإنَّ الدَّوالىَ أَقْنَاءٌ من الرُّطَبُ تعُلَّقُ فى البيت للأكل بمنزلة عناقيدِ العِنَب، والفاكهةُ تضرُّ بالناقِه من المرض لسُرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن قُوَّتها، وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلَّة، وإزالتها مِن البدن.
وفى الرُّطَبِ خاصةً نوع ثقلٍ على المَعِدَة، فتشتغل بمعالجتِه وإصلاحه عما هى بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك البقية، وإما أن تتزايدَ، فلمَّا وُضع بين يديه السِّلْقُ والشعيرُ، أمره أن يُصيب منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقِه، ولا سِيَّما إذا طُبِخَ بأُصول السَّلق، فهذا مِن أوفق الغذاء لمن فى مَعِدَتِهِ ضعفٌ، ولا يتولَّد عنه من الأخلاط ما يُخاف منه).
من أشد الناس بلاءً؟
143 - (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ [وفي رواية: قدر] دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
رواه الترمذي , وابن ماجه، والدارمي , والطحاوي , وابن حبان , والحاكم , وأحمد , والضياء من طريق عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ (فذكره).
وله شاهد بلفظ:
144 - (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ التي يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ).
أخرجه ابن ماجه , وابن سعد , والحاكم من طريق هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ ... ) الحديث.
وله شاهد آخر مختصر وهو:
145 - (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).
رواه أحمد والمحاملي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/160)
وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيماناً , ازداد ابتلاءً وامتحاناً , والعكس بالعكس , ففيها رد على ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء , كالحبس أو الطرد أو الإقالة من الوظيفة ونحوها , أن ذلك دليل على أن المومن غير مرضي عند الله تعالى , وهو ظن باطل , فهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفضل البشر , كان أشد الناس – حتى الأنبياء – بلاء , فالبلاء غالباً دليل خير وليس نذير شر كما يدل على ذلك أيضاً الحديث الآتي:
146 - (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).
وهذا الحديث يدل على أمر زائد على ما سبق , وهو أن البلاء إنما يكون خيراً , وأن صاحبه يكون محبوباً عند الله تعالى إذا صبر على بلاء الله تعالى , ورضي بقضاء الله عز وجل.
ويشهد لذلك الحديث الآتي:
147 - (عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ إِلَّا الْمُؤْمِنُ).
أخرجه الدارمي , وأحمد عن حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ فَقَالَ أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِمَّ تَضْحَكُ قَالَ (فذكره).
وله شاهد آخر مختصر بلفظ:
148 - (عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ).
للمسلم أن يتولى دفن قريبه المشرك
161 - (اذهب فوار أباك [يعني: عليا رضي الله عنه] قال: [لا أواريه]؛ [إنه مات مشركا] [فقال: اذهب فواره] ثم لا تحدثن [حدثا] حتى تأتيني. فذهبت فواريته، وجئته [وعلي أثر التراب والغبار]، فأمرني فاغتسلت، ودعا لي [بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء]).
أخرجه أبو داود , والنسائي , و وابن سعد , وابن أبي شيبة , وابن الجارود , والطيالسي , والبيهقي , وأحمد , وأبومحمد الخلدي من طرق عن أَبُي إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قد مَاتَ, [فَمَنْ يُوَارِيهِ؟] قَالَ: (فذكره).
من فوائد الحديث:
1 - أنه يشرع للمسلم أن يتولى دفن قريبه المشرك , وأن ذلك لا ينافي بغضه إياه لشركه , ألا ترى أن علياً رضي الله عنه امتنع أول الأمر من مواراة أبيه , معللاً ذلك بقوله (إنه مات مشركا) , ظناً منه أن دفنه مع هذه الحالة قد يدخله في التولي الممنوع في مثل قوله تعالى: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) الممتحنة 13، فلما أعاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه الأمر بمواراته , بادرا لأمتثاله , وترك ما بدا له أول الأمر , , وكذلك تكون الطاعة: أن يترك المرء رأيه لأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويبدو لي أن دفن الولد لأبيه المشرك أو أمه هو آخر ما يملكه الولد من حسن صحبة الوالد المشرك في الدنيا , وأما بعد الدفن , فليس له أن يدعو له أو يستغفر له , لصريح قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) التوبة 113 , وإذا كان الأمر كذلك , فما هو حال من يدعو بالرحمة والمغفرة على صفحات الجرائد والمجلات لبعض الكفار في إعلانات الوفيات من أجل دريهمات معدودات فليتق الله من كان يهمه أمر آخرته.
2 - أنه لا يشرع له غسل الكافر ولا تكفينه ولا الصلاة عليه ولو كان قريبه , لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لم يأمر بذلك علياً , ولو كان جائزاً لبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , وهذا مذهب الحنابلة وغيرهم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/161)
3 - أنه لا يشرع لأقارب المشرك أن يتبعوا جنازته , لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك مع عمه , وقد كان أبر الناس به وأشفقهم عليه , حتى أنه دعا الله له حتى جعل عذابه أخف عذاب في النار كما في الحديث – 53 - , وفي ذلك كله عبرة لمن يغترون بأنسابهم , ولا يعملون لآخرتهم عند ربهم , وصدق الله العضيم إذ يقول: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). المؤمنون 101.
من فوائد العسل
243 - (صدق الله وكذب بطن أخيك).
أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال: أن أخي استطلق بطنه , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسقه عسلاً , فسقاه , ثم جاء فقال: إني سقيته عسلاً , فلم يزده إلا استطلاقاً , فقال له ثلاث مرات , ثم جاءه الرابعة فقال اسقه عسلاً , فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره) , فسقاه , فبرأ.
قال ابن القيم بعد أن ذكر كثيراً من فوائد العسل: (فهذا الذى وصف له النبىُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل، كان استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة في نواحى المَعِدَةَ والأمعاء، فإن العسلَ فيه جِلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها، فإن المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة، أفسدتها وأفسدت الغِذاء، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط، والعسلُ مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار. وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع، وهو أن الدواءَ يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يُزله بالكلية، وإن جاوزه، أوهن القُوى، فأحدث ضرراً آخر، فلما أمره أن يسقيَه العسل، سقاه مقداراً لا يفى بمقاومة الداءِ، ولا يبلُغ الغرضَ، فلما أخبره، علم أنَّ الذى سقاه لا يبلُغ مقدار الحاجة، فلما تكرر تردادُه إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء، بَرَأ، بإذن الله، واعتبار مقاديرِ الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب. قوله صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ)، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء في نفسه، ولكنْ لكَذِب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طِبُّه صلى الله عليه وسلم كطِبِّ الأطباء، فإن طبَّ النبي صلى الله عليه وسلم متيقَّنٌ قطعي إلهي، صادرٌ عن الوحي، ومِشْكاةِ النبوة، وكمالِ العقل. وطبُّ غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون، وتجارِب، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبِّ النبوة، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآنُ الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يُتلقَّ هذا التلقي لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها، بل لا يزيدُ المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه، فطِب النبوةِ لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخُبثِ الطبيعة، وفساد المحل، وعدمِ قبوله .. والله الموفق).
فضل الزيت
379 - (كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة).
يكفي في فضل الزيت قول الله تعالى (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) النور35.
وللزيت فوائد هامة , ذكر بعضها العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " , فمن شاء رجع إليه.
مشروعية تلقين المحتضر شهادة التوحيد
467 - (أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها , ولقنوها موتاكم).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/162)
في الحديث مشروعية تلقين المحتضر شهادة التوحيد , رجاء أن يقولها فيفلح , والمراد بـ (موتاكم): من حضره الموت , لأنه لا يزال في دار التكليف , ومن الممكن أن يستفيد من تلقينه , فيتذكر الشهادة ويقولها , فيكون من أهل الجنة , وأما تلقينه بعد الموت , فمع أنه بدعة لم ترد في السنة , فلا فائدة منه , لأنه خرج من دار التكليف إلى دار الجزاء , ولأنه غير قابل للتذكر , (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) يس 70.
وصورة التلقين أن يؤمر بالشهادة , وما يذكر في بعض الكتب أنها تذكر عنده ولا يؤمر بها خلاف سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كما حققته في "كتاب الجنائز" فراجعه.
حقيقة حياة الأنبياء في قبورهم
621 - (الأنبياء – صلوات الله عليهم – أحياء في قبورهم يصلون).
اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية , ليست من حياة الدنيا في شيء , ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها , ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا.
هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء , كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره حقيقية , قال: يأكل ويشرب ويجامع نساءه , وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى.
فر من المجذوم فرارك من الأسد
971 - (لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ).
أخرجه البخاري (10/ 198و200)، ومسلم (7/ 32)، وأبو داود (2/ 158)، والطحاوي (2/ 275)، وفي ((المشكل)) (2/ 262)، وأحمد (2/ 406) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً به.
وقد تابعه محمد بن عمرو: ثني ابوسلمة به.
أخرجه ابن ماجه (2/ 363)، وأحمد (2/ 434).
وفي معناه قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم:
((إنا قد بايعناك فارجع))، وسيأتي برقم (1968).
(الممرض): هو الذي له أبل مرضى.
و (المصح): من له أبل صحاح.
واعلم أنه لا تعارض بين هذين الحديثين وبين أحاديث ((لا عدوى ... )) المتقدمة برقم (781 - 789)؛لأن المقصود بهما إثبات العدوى، وأنها تنتقل بإذن الله تعالى من المريض إلى السليم، والمراد بتلك الأحاديث نفي العدوى التي كان أهل الجاهلية يعتقدونها، وهي انتقالها بنفسها دون النظر إلي المشيئة الله في ذلك؛ كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ((فمن أعدى الأول؟)). فقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر الأعرابي بهذا القول الكريم إلي المسبب الأول؛ ألا وهو الله عز وجل، ولم ينكر عليه قوله: ((ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء؛ فيخالطها الأجرب فيخربها))؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم أقره على هذا الذي كان يشاهده، وإنما أنكر عليه عند هذا الظاهر فقط بقوله له? (فمن أعدى الأول؟)).
وجملة القول: إن الحديثين يثبتان العدوى، وهي ثابتة تجربة ومشاهدة. والأحاديث الأخرى لا تنفيها؛ وإنما تنفي عدوى مقرونة بالغفلة عن الله تعالى الخالق لها. وما أشبه اليوم بالبارحة فإن الأطباء الأوروبيين في أشد الغفلة عنه تعالى؛ لشركهم وضلالهم، وإيمانهم بالعدوى على الطريقة الجاهلية فلهؤلاء يقال: ((فمن أعدى الأول)) فأما المؤمن الغافل عن الأخذ بالأسباب؛ فهو يذكر بها، ويقال له كما في حديث الترجمة: ((لا يورد الممرض على المصح)) أخذاً بالأسباب التي خلقها الله تعالى، وكما في بعض الأحاديث المتقدمة: ((وفر من المجذوم فرارك من الأسد)).
هذا هو الذي يظهر لي من الجمع هذه الأخبار، وقد قيل غير ذلك مما هو مذكور في ((الفتح)) وغيره. والله أعلم
كتاب التاريخ والسيرة وفضائل الصحابة
معاوية كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
82 - (لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ يعني: مُعَاوِيَةَ).
رواه أبوداود الطيالسي في (مسنده) حدثنا هشام وأبوعوانة عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس: (أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى معاوية ليكتب له , فقال: إنه يأكل , ثم بعث إليه , فقال: إنه يأكل , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/163)
وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث , ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه , وليس فيه ما يساعدهم على ذلك , كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولذلك قال الحافظ ابن عساكر: (إنه أصح ما ورد في فضل معاوية).
فالظاهر أن هذا الدعاء منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مقصود , بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية , كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض نسائه: (عقرى حلقى) , و (تربت يمينك) , وقوله في حديث أنس الآتي (لا كبر سنك).
ويمكن أن يكون ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متوترة , منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ قَالَ وَمَا ذَاكِ قَالَتْ قُلْتُ لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا قَالَ:
83 - (أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا)
رواه مسلم مع الحديث الذي قبله في باب واحد , وهو (باب من لعنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك , كان له زكاة وأجراً ورحمة) , ثم ساق فيه من حديث أنس بن مالك قال: (كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ فَقَالَ آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ لَا كَبِرَ سِنُّكِ فَرَجَعَتْ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ قَالَتْ الْجَارِيَةُ دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي أبداً أَوْ قَالَتْ قَرْنِي فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:
84 - (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟).
ثم أتبع الإمام مسلم هذا الحديث بحديث معاوية , وبه ختم الباب , إشارة منه رحمه الله إلى أنها من باب واحد , وفي معنى واحد , فكما لا يضر اليتيمة دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها – بل هو لها زكاة وقربة – فكذلك دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاوية.
وقد قال الإمام النووي في (شرحه على مسلم): (وأما دعاؤه على معاوية , ففيه جوابان:
أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد.
والثاني: أنه عقوبة له لتأخره , وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه , فلهذا أدخله في هذا الباب , وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له).
وقد أشار الذهبي إلى هذا المعنى الثاني , فقال في (سير أعلام النبلاء): (قلت: لعل أن يقال هذه منقبة لمعاوية , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم من لعنته أو سببته , فأجعل ذلك له زكاة ورحمة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/164)
واعلم أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحاديث: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ .... ) , إنما هو تفصيل لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ .... ) الآية 110 الكهف.
وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء إلى إنكار مثل هذا الحديث , بزعم تعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتنزيهه عن النطق به , ولا مجال إلى مثل هذا الإنكار , فإن الحديث صحيح , بل هو عندنا متواتر , فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرنا , ومن حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما , وورد من حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي الطفيل وأبي سعيد وغيرهم , انظر (كنز العمال 2/ 124).
وتعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيماً مشروعاً , إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحاً ثابتاً , وبذلك يجتمع الإيمان به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً ورسولاً , دون إفراط ولا تفريط , فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بشهادة الكتاب والسنة , ولكنه سيد البشر وأفضلهم إطلاقاً بنص الأحاديث الصحيحة , وكما يدل عليه تاريخ حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته , وما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة التي لم تكتمل في بشر اكتمالها فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وصدق الله العظيم إذ خاطبه بقوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم 4.
ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة
92 - (ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس).
رواه أبو جعفر البختري , وابن عساكر من طريق أبي يعلى وغيره كلاهما عن يونس بن بكير: نا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة: حدثني عقيل بن أبي طالب قال: (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا , فانهه عن أذانا , فقال: ياعقيل أئتني بمحمد , فذهبت فأتيته به , فقال: يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم , فانته عن ذلك , قال: فلحظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره [وفي رواية: فحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره] إلى السماء , فقال: ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس قال: فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي , فارجعوا) , إسناده حسن.
وأما حديث (يا عم , والله لو وضعوا الشمس في يميني , والقمر في يساري , على أن أترك هذا الأمر , حتى يظهره الله أو أهلك دونه , ما تركته) , فليس له إسناد ثابت ولذلك أوردته في الأحاديث الضعيفة.
من فضائل طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه
125 - (من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة).
أخرجه أبن سعد في الطبقات , أخبرنا سعيد بن مسعود قال: نا صالح بن موسي عن معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: إني لفي بيتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالفناء , وبيني وبينهم الستر , أقبل طلحة بن عبيد الله , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
126 - (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ).
وفي الحديث إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23 , وفيه منقبة عظيمة لطلحة بن عبيدالله رضي الله عنه , حيث أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ممن قضى نحبه , مع أنه لا يزال حياً ينتظر الوفاء بما عاهد الله عليه.
قال ابن الأثير في النهاية: (النحب: النذر , كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب , فوفى به , وقيل: النحب الموت , كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت).
وقد قتل رضي الله عنه يوم الجمل , فويل لمن قتله.
وصية نوح عليه السلام
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/165)
134 - (إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً إلا قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ قَالَ قُلْتُ أَوْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الشِّرْكُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْكِبْرُ قَالَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ قَالَ لَا قَالَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ قَالَ لَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ قَالَ سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ).
رواه البخاري في الأداب المفرد , وأحمد , والبيهقي , من طريق الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ حَمَّادٌ أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ سِيجَانٍ مَزْرُورَةٌ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَ أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ قَالَ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ وَيَرْفَعَ كُلَّ رَاعٍ ابْنِ رَاعٍ قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ وَقَالَ أَلَا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ قَالَ: (فذكره).
غريب الحديث:
مُبْهَمَةً , أي محرمة مغلقة كما يدل عليه السياق , ولم يورد هذه اللفظة من الحديث ابن الأثير في النهاية , ولا الشيخ محمد طاهر الهندي في مجمع بحار الأنوار) وهي من شرطهما.
قَصَمَتْهُنَّ. وفي رواية: فصمتهن , بالفاء , قال ابن الأثير: القصم: كسر الشئ وإبانته , وبالفاء: كسره من غير إبانة.
قلت: فهو بالفاء أليق بالمعنى , والله أعلم.
سَفَهُ الْحَقِّ , أي: جهله , وإلاستخفاف به , وأن لا يراه على ما هو عليه من الرجحان والرزانة , وفي حديث لمسلم: (بطر الحق) , والمعنى واحد.
غَمْصُ النَّاسِ , أي احتقارهم , والطعن فيهم , والاستخفاف بهم , وفي الحديث الآخر (غمط الناس) , والمعنى واحد أيضاً.
فوائد الحديث:
وفيه فوائد كثيرة , أكتفي بالإشارة إلى بعضها:
1 - مشروعية الوصية عند الوفاة.
2 - فضيلة التهليل والتسبيح , وأنها سبب رزق الخلق.
3 - وأن الميزان يوم القيامة حق ثابت وله كفتان , وهو من عقائد أهل السنة , خلافاً للمعتزلة وأتباعهم في العصر الحاضر ممن لا يعتقد ما ثبت من العقائد في الأحاديث الصحيحة , بزعم أنها أخبار آحاد لا تفيد اليقين , وقد بينت بطلان هذا الزعم في كتابي (مع الأستاذ الطنطاوي) يسر الله إتمامه.
4 - وأن الأرضين سبع كالسماوات وفيه أحاديث كثيرة في (الصحيحين) وغيرهما , ولعلنا نتفرغ لتتبعها وتخريجها , ويشهد لها قول الله تبارك وتعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الطلاق 12 , أي في الخلق والعدد , فلا تلتفت إلى من يفسرها بما يؤول إلى نفي المثلية في العدد أيضاً , اغتراراً بما وصل إليه علم الأوروبيين من الرقي , وأنهم لا يعلمون سبع أرضين , مع أنهم لا يعلمون سبع سماوات أيضاً , أفننكر كلام الله وكلام رسوله بجهل الأوروبيين وغيرهم , مع اعترافهم أنهم كلما ازدادوا علماً بالكون , أزدادوا علماً بجهلهم به , وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء 85.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/166)
5 - أن التجمل باللباس الحسن ليس من الكبر في شيء , بل هو أمر مشروع , لأن الله جميل يحب الجمال , كما قال عليه السلام بمثل هذه المناسبة على ما رواه مسلم في صحيحه.
6 - أن الكبر الذي قرن مع الشرك , والذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه , إنما هو الكبر على الحق , ورفضه بعد تبينه , والطعن في الناس الأبرياء بغير حق.
فليحذر المسلم أن يتصف بشئ من مثل هذا الكبر , كما يحذر أن يتصف بشئ من الشرك الذي يخلد صاحبه في النار.
دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس
140 - (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا رزقته).
أخرجه الطاليسي في مسنده: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قال: سمعت أَنَساً يقول قَالَتْ أُمِّ سليم: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَهُ – تعني: أنساً – فقال (فذكره).
وللحديث طريق أخر: قال أحمد حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى أُمَّ حَرَامٍ فَأَتَيْنَاهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ فَقَالَ:
141 - (رُدُّوا هَذَا فِي وِعَائِهِ وَهَذَا فِي سِقَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ).
قَالَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَأَقَامَ أُمَّ حَرَامٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فِيمَا يَحْسَبُ ثَابِتٌ قَالَ فَصَلَّى بِنَا تَطَوُّعًا عَلَى بِسَاطٍ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ فَمَا تَرَكَ يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ إِلَّا دَعَا لِي بِهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ قَالَ أَنَسٌ فَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَنِّي قَدْ رزقت مِنْ صُلْبِي بِضْعًا وَتِسْعِينَ وَمَا أَصْبَحَ فِي الْأَنْصَارِ رَجُلٌ أَكْثَرَ مِنِّي مَالًا ثُمَّ قَالَ أَنَسٌ يَا ثَابِتُ مَا أَمْلِكُ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا خَاتَمِي.
من فوائد الحديث وفقهه:
في هذا الحديث فوائد جمة , أذكر بعضها باختصار , إلا ما لا بد فيه من الإطالة للبيان:
1 - أن الدعاء بكثرة المال والولد مشروع , وقد ترجم البخاري للحديث: (باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة).
2 - وأن المال والولد نعمة وخير إذا أطيع الله تبارك وتعالى فيهما , فما أضل من يسعى لتقليل ولده بشتى السبل , كتحديد النسل أو تنظيمه , فضلاً عن إجهاض الجنين وإسقاطه لأتفه الأسباب , واستصدار الفتاوى لتجويزه.
3 - تحقق استجابة الله لدعاء نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنس , حتى صار أكثر الأنصار مالاً وولداً.
4 - أن للصائم المتطوع إذا زار قوماً وقدموا له طعاماً أن لا يفطر , ولكن يدعو لهم بخير , ومن أبواب البخاري في الحديث (باب من زار قوماً ولم يفطر عندهم).
5 - أن الرجل إذا ائتم بالرجل , وقف عن يمين الإمام , والظاهر أنه يقف محاذياً له , لا يتقدم عليه ولا يتأخر , لأنه لو كان وقع شئ من ذلك لنقله الراوي , لا سيما وأن الاقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفراد الصحابة قد تكرر , فإن في الباب عن ابن عباس في الصحيحين , وعن جابر في مسلم , وقد خرجت حديثهما في إرواء الغليل , وقد ترجم البخاري لحديث ابن عباس رصي الله عنه بقوله: (بَاب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ).
قال الحافظ في الفتح: قوله: (سواء) أي لا يتقدم ولا يتأخر .... وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه .. عن ابن عباس بلفظ " فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذى به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال " دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح , فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه ").
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/167)
قلت: وهذا الأثر في الموطأ بإسناد صحيح عن عمررضي الله عنه , فهو مع الأحاديث المذكورة حجة قوية على المساواة المذكورة.
فالقول باستحباب أن يقف المأموم دون الإمام قليلاً , كما جاء في بعض المذاهب , على تفصيل في ذلك لبعضها , مع أنه مما لا دليل عليه في السنة , فهو مخالف لظواهر هذه الأحاديث , وأثر عمر هذا , وقول عطاء المذكور , وهو الإمام التابعي الجليل ابن أبي رباح , وما كان من الأقوال كذلك , فالأحرى بالمؤمن أن يدعها لأصحابها , معتقد أنهم مأجورون عليها , لأنهم اجتهدوا قاصدين إلى الحق , وعليه هو أن يتبع ما ثبت في السنة , فإن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عمرو بن العاص مؤمن
155 - (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي).
وفي الحديث منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه , إذ شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه مؤمن , فإن هذا يستلزم الشهادة له بالجنة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المشهور (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ) , متفق عليه , وقال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) التوبة 72.
وعلى هذا , فلا يجوز الطعن في عمرو رضي الله عنه – كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين وغيرهم من المخالفين – بسبب ما وقع له من الخلاف – بل القتال – مع علي رضي الله عنه , لأن ذلك لا ينافي الإيمان , فإنه لا يستلزم العصمة كما لا يخفى , لا سيما إن قيل: إن ذلك وقع منه بنوع الاجتهاد , وليس اتباعاً للهوى.
وفي الحديث أيضا إشارة إلى أن مسمى الإسلام غير الإيمان , وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً , والحق ما ذهب إليه جمهور السلف من التفريق بينهما , لدلالة الكتاب والسنة على ذلك فقال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الحجرات 14, وحديث جبريل في التفريق بين الإسلام والإيمان معروف مشهور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان (ص 305 - طبع المكتب الإسلامي): (والرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام والإيمان يوجب أن كلاً من الاسمين , وإن كان مسماه واجباً , ولا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمناً مسلماً , فالحق في ذلك ما بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل , فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات: أولها الإسلام , وأوسطها الإيمان , وأعلاها الإحسان , ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها , فالمحسن مؤمن , والمؤمن مسلم , وأما المسلم , فلا يجب أن يكون مؤمناً).
ومن شاء بسط الكلام على هذه المسألة مع التحقيق الدقيق , فليرجع إلى الكتاب المذكور , فإنه خير ما ألف في هذا الموضوع.
ويشهد للحديث ما يأتي:
156 - (ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ هِشَامٌ وَعَمْرٌو).
تسمية أبي بكر بالصديق
306 - (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا نعم. قال: لئن كان قال ذلك؛ لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة؛ فلذلك سمي أبو بكر: الصديق).
قد جزم الإمام أبو جعفر الطحاوي بأن سبب تسمية أبي بكر رضي الله عنه بالصديق , إنما هو سبقه الناس إلى تصديقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إتيانه بيت المقدس من مكة , ورجوعه منه إلى منزله بمكة في تلك الليلة , وإن كان المؤمنون يشهدون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل ذلك إذا وقفوا عليه.
أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/168)
313 - (أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ [فقال أصحابه: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟] قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر؛ ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: [نحن نحدثك:] إن يوسف لما حضره الموت؛ أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمن يعلم موضع قبره؟ [قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا] عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فقال: دلوني على قبر يوسف. قالت: [لا والله؛ لا افعل] حتى تعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة؛ موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا. قالت: احفروا واستخرجوا عظام يوسف. فلما أقلوها إلى الأرض؛ إذا الطريق مثل ضوء النهار).
أخرجه أبو يعلى , والحاكم من ثلاث طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعربياً فأكرمه , فقال له: ائتنا. فأتاه , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وفي رواية: نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعربي فأكرمه , فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعهدنا ائتنا. فأتاه الأعرابي , فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] سل حاجتك. فقال: ناقة برحلها وأعنزاً يحلبها أهلي , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
فائدة: كنت استشكلت قديماً قوله في هذا الحديث: (عظام يوسف) , لأنه يتعارض بظاهره مع الحديث الصحيح: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) , حتى وقفت على حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َلما بدن , قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى , فأتخذ له منبراً مرقاتين).
فعلمت منه أنهم كانوا يطلقون العظام ويريدون البدن كله , من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل , كقوله تعالى (وقرآن الفجر) الإسراء 78 , أي: صلاة الفجر , فزال الإشكال والحمد لله فكتبت هذا لبيانه.
كثرة الأتباع وقلتهم ليست معياراً لمعرفة الحق
397 - (ما صدق نبي [من الأنبياء] ما صدقت؛ إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد).
ويشهد للحديث ما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (عرضت علي الأمم , فرأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الرهيط , والنبي ومعه الرجل والرجلان , والنبي ليس معه أحد .. الحديث) , أخرجه الشيخان وغيرهما.
وفي الحديث دليل واضح على أن كثرة الأتباع وقلتهم ليست معيارً لمعرفة كون الداعية على حق أو باطل , فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , مع كون دعوتهم واحدة , ودينهم واحداً , فقد اختلفوا من حيث عدد أتباعهم قلة وكثرة , حتى كان فيهم من لم يصدقه إلا رجل واحد , بل ومن ليس معه أحد.
ففي ذلك عبرة بالغة للداعية والمدعوين في هذا العصر , فالداعية عليه أن يتذكر هذه الحقيقة , ويمضي قدماً في سبيل الدعوة إلى الله تعالى , ولا يبالي بقلة المستجيبين له , لأنه ليس عليه إلا البلاغ المبين , وله أسوة حسنة بالأنبياء السابقين الذين لم يكن مع أحدهم إلا الرجل والرجلان.
والمدعوا عليه أن لا يستوحش من قلة المستجيبين للداعية , ويتخذ ذلك سبباً للشك في الدعوة الحق وترك الإيمان بها , فضلاً عن أن يتخذ ذلك دليلاً على بطلان دعوته بحجة أنه لم يتبعه أحد , أو إنما اتبعه الأقلون , ولو كانت دعوته صادقة , لاتبعه جماهير الناس , والله عز وجل يقول: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يوسف 103.
من قصص بني إسرائيل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/169)
486 - (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ فَصَنَعَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَكَانَتْ تَسِيرُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ قَصِيرَتَيْنِ وَاتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أَطْيَبَ الطِّيبِ الْمِسْكَ فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَخَ رِيحَهُ وفي رواية وجعلت له غلقاً , فإذا مرت بالملإ او بالمجلس , قالت به , ففتحته , ففاح ريحه).
أخرجه أحمد في " مسنده " " 3/ 40 " حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
ثم قال " 3/ 46 " حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ به وزاد في أوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدُّنْيَا فَقَالَ إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَاتَّقُوهَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ثُمَّ ذَكَرَ نِسْوَةً ثَلَاثًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ تُعْرَفَانِ وَامْرَأَةً قَصِيرَةً لَا تُعْرَفُ فَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ وَصَاغَتْ .... ) الحديث نحوه , وفيه الرواية الأخرى.
في الحديث تنبيه ظاهر إلى أن عادة النساء الفاسقات لبس ما يلفت الأنظار إليهن , ومن ذلك ما شاع بينهن من انتعال النعال العالية الكعاب , وبخاصة منها التي تنعل من أسفلها بالحديد , ليشتد ظهور صوته عند المشي , ولعل أصل ذلك من اختراع اليهود , كما يشير هذا الحديث , فعلى المسلمات أن يتقن ذلك , والله المستعان.
كتاب المستقبل و أشراط الساعة
المستقبل للإسلام
قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة 33.
تبشرنا هذه الآية الكريمة بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها , وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشيدين والملوك الصالحين , وليس كذلك , فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
1 - (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى فَقالْتُ عائشة يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا قَالَ إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ).
وقد وردت أحاديث أخرى توضح مبلغ ظهور الإسلام ومدى انتشاره , بحيث لا تدع مجالاً للشك في أن المستقبل للإسلام بإذن الله وتوفيقه.
وها أنا أسوق ما تيسر من هذه الأحاديث , عسى أن تكون سبباً لحشذ همم العاملين للإسلام , وحجة على اليائسين المتواكلين:
2 - (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا).
زوى , أي جمع وضم.
وأوضح منه وأعم الحديث التالي:
3 - (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
ومما لا شك فيه: أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم , حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان , وهذا ما يبشرنا به الحديث:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/170)
4 - (عن أبي قَبِيلٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ).
ورومية: هي روما , كما في (معجم البلدان) وهي عاصمة إيطاليا اليوم.
وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني , كما هو معروف , وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبى صلى الله عليه وسلم بالفتح , وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد , ولتعلمن نبأه بعد حين.
ولا شك أيضاً أن تحقيق الفتح الثاني يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمة المسلمة , وهذا مما يبشرنا به صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث:
5 - (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا الله إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَن ْتكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ).
رواه أحمد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ - وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حَدِيثَهُ - فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ فَقَالَ يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَرَاءِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: (فذكره مرفوعا).
قَالَ حَبِيب ٌ:
فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُمَرَ بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ.
ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبدالعزيز , لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة , ولم يكن بعد ملكان: ملك عاض وملك جبرية , والله أعلم.
أما الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن معاذ بن جبل مرفوعاً: (ثلاثون نبوة وملك , وثلاثون ملك وجبروت , وما وراء ذلك لا خير فيه) , فإسناده ضعيف , كما هو مبين في الضعيفة 1399.
هذا , وإن من المبشرات بعودة القوة إلى المسلمين , واستثمارهم الأرض استثماراً يساعدهم على تحقيق الغرض , وتنبئ عن أن لهم مستقبلاً باهراً , حتى من الناحية الاقتصادية والزراعية قوله صلى الله عليه وسلم:
6 - (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا).
وقد بدأت تباشير هذا الحديث تتحقق في بعض الجهات من جزيرة العرب , بما أفاض الله عليها من خيرات وبراكات والآت ناضحات تستنبط الماء الغزير من بطن أرض الصحراء , وهناك فكرة بجر نهر الفرات إلى الجزيرة كنا قرأناها في بعض الجرائد المحلية , فلعلها تخرج إلى حيز الوجود , وإن غداً لناظره قريب.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/171)
هذا , ومما يجب أن يعلم بهذه المناسبة أن قوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ) رواه البخاري في (الفتن) من حديث أنس مرفوعاً.
فهذا الحديث ينبغي أن يفهم على ضوء الأحاديث المتقدمة وغيرها , مثل أحاديث المهدي , ونزول عيسى عليه السلام , فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه , بل هو من العام المخصوص , فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه , فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف 87 , أسأل الله أن يجعلنا مؤمنين به حقاً.
يُسَمُّونَ الْخَمْرِ بِغَيْرِ اسْمِهَا
89 - (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ - يَعْنِي الْإِسْلَامَ - كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ - يَعْنِي الْخَمْرِ - فَقِيلَ فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا).
وقد وجدت للحديث طريقاً آخر أخرجه أبويعلى , ولفظه: (أول ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء في شراب يقال له الطلاء) , إسناده صحيح.
والطلاء: قال في النهاية: (بالكسر والمد: الشراب المطبوخ من عصير العنب , وهو الرب) , ثم ذكر الحديث , ثم قال: هذا نحو الحديث الآخر: سيشرب ناس من أمتي الخمر , يسمونها بغير اسمها. يريد أنهم يشربون النبيذ المسكر المطبوخ , ويسمونه طلاء , تحرجاً من أن يسموه خمراً)
وللحديث شاهد صحيح بلفظ:
90 - (لَيَسْتَحِلَّنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ , وفي رواية: يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا).
91 - (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
رواه البخاري في صحيحه تعليقاً , فقال: (بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره).
وقد وصله أبن حبان , والطبراني , والبيهقي , وابن عساكر , وغيرهم من طرق عن هشام بن عمارة به.
وله طريق آخرى عن عبدالرحمن بن يزيد , فقال ابوداود: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة: ثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به.
ورواه ابن عساكر من طريق آخرى عن بشر به.
قلت: وهذا إسناد صحيح , ومتابعته قوية لهشام بن عمارة وصدقة بن خالد , ولم يقف على ذلك ابن حزم في المحلى , ولا في رسالته في إباحة الملاهي , فأعل إسناد البخاري بالانقطاع بينه وبين هشام وبغير ذلك من العلل الواهية التي بينه العلماء من بعده , وردوا علي تضعيفه للحديث من أجلها , مثل المحقق ابن القيم في تهذيب السنن , والحافظ ابن حجر في الفتح , وغيرهما , وقد فصلت القول في ذلك في جزء عندي في الرد علي رسالة ابن حزم المشار إليها , يسر الله تبييضه ونشره.
وابن حزم رحمه الله , مع علمه وفضله وعقله , فهو ليس طويل الباع في الاطلاع على الأحاديث وطرقها ورواتها , ومن الأدلة علي ذلك تضعيفه لهذا الحديث , وقوله في الإمام الترمذي صاحب السنن (مجهول) – قالها في كتاب الفرائض كما في تهذيب التهذيب – وذلك مما حمل العلامة محمد بن عبدالهادي – تلميذ ابن تيمية – علي ان يقول في ترجمته في (مختصر طبقات علماء الحديث): (وهو كثير الوهم في الكلام في تصحيح الحديث وتضعيفه , وعلى أحوال الرواة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/172)
قلت: فينبغي أن لا يأخذ كلامه علي الأحاديث الا بعد التثبت من صحته وعدم شذوذه , شأنه في ذلك شأنه في الفقه الذي يتفرد به , وعلم الكلام الذي يخالف السلف فيه , فقد قال ابن عبد الهادي بعد ان وصفه بقوة الذكاء وكثرة الاطلاع: (ولكن تبين لي منه إنه جهمي جلد , لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل , كالخالق والحق , وسائر الاسماء عنده لا يدل علي معنى أصلاً , كرحيم والعليم والقدير ونحوها , بل العلم عنده هو القدرة، والقدرة هي العلم , وهما عين الذات , ولا يدل العلم على شئ زائد على الذات المجردة أصلاً , وهذا عين السفسطة والمكابرة , وقد كان ابن حزم قد اشتغل في المنطق و الفلسفة , وأمعن في ذلك , فتقرر في ذهنه لهذا السبب معاني باطلة).
غريب الحديث:
الحر: الفرج , والمراد: الزنا.
المعازف: جمع معزفة، وهي آلات الملاهي، كما في (الفتح).
علم: هو الجبل العالي.
يروح عليهم: بحذف الفاعل , وهو الراعي، بقرينة المقام , إذ السارحة لا بد لها من حافظ.
بسارحة: هي الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها.
يروح: أي: ترجع بالعشي إلى مألفها.
يأتيهم لحاجة: بيانه في رواية الإسماعيلي في (مستخرجه على الصحيح): (يأتيهم طالب حاجة).
فيبيتهم الله: أي يهلكهم ليلاً.
ويضع العلم: أي: يوقعه عليهم.
يستفاد من الأحاديث المتقدمة فوائد هامة نذكر بعضها:
أولاً: تحريم الخمر , وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين والحمد لله , غير أن طائفة منهم – وفيهم بعض المتبوعين – خصوا التحريم بما كان من عصير العنب خاصة , وأما ما سوى ذلك من المشروبات المسكرة , مثل (السكر: وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ , و (الجعة): وهو نبيذ الشعير و (السكركة): وهو خمر الحبشة من الذرة , فذلك كله حلال عندهم إلا المقدار الذي يسكر منه , أما القليل منه فحلال , بخلاف خمر العنب , فقليله ككثيره في التحريم.
وهذا التفريق مع مصادمته للنصوص القاطعة في تحريم كل مسكر , كقول عمر رضي الله عنه: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ). وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خمر حَرَامٌ). وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).
أقول: هذا التفريق مع مصادمته لهذه النصوص وغيرها , فهو مخالف للقياس الصحيح والنظر الرجيح , إذ أي فرق بين تحريم القليل الذي لا يسكر من خمر العنب المسكر كثيره , وبين تحليل القليل الذي لا يسكر من خمر الذرة المسكر؟ وهل حرم القليل إلا لأنه ذريعة إلى الكثير المسكر؟ فكيف يحلل هذا ويحرم ذاك والعلة واحدة؟
تالله إن هذا من الغرائب التي لا تكاد تصدق نسبتها إلى أحد من أهل العلم لولا صحة ذلك عنهم , وأعجب منه أن الذي تبنى القول به هو من المشهورين بأنه من أهل القياس والرأي.
قال ابن القيم في (تهذيب السنن) (5/ 263) بعد أن ساق بعض النصوص المذكورة: (فهذه النصوص الصحيحة الصريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن وخوطب بها الصحابة مغنية عن التكلف في إثبات تسميتها خمراً بالقياس مع كثرة النزاع فيه , فإذ قد ثبت تسميتها خمراً نصاً , فتناول لفظ النصوص لها كتناوله لشراب العنب سواء تناولاً واحداً , فهذه طريقة منصوصة سهلة تريح من كلمة القياس في الاسم والقياس في الحكم , ثم إن محض القياس الجلي يقتضي التسوية بينها , لأن تحريم قليل شراب العنب مجمع عليه وإن لم يسكر , وهذا لأن النفوس لا تقتصر على الحد الذي لا يسكر منه , وقليله يدعو إلى كثيره , وهذا المعنى بعينه في سائر الأشربة المسكرة , فالتفريق بينها في ذلك تفريق بين المتماثلات , وهو باطل , فلو لم يكن في المسألة إلا القياس , لكان كافياً في التحريم , فكيف وفيها ما ذكرناه من النصوص التي لا مطعن في سندها , ولا اشتباه في معناها؟ بل هي صحيحة , وبالله التوفيق).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/173)
وأيضاً , فإن إباحة القليل الذي لا يسكر من الكثير الذي يسكر غير عملي , لأنه لا يمكن معرفته , إذ أن ذلك يختلف باختلاف نسبة كمية المادة المسكرة [الكحول] في الشراب , فرب شراب قليل كمية الكحول فيه كثيرة وهو يسكر , ورب شراب أكثر منه كمية الكحول فيه أقل لا يسكر , كما أن ذلك يختلف باختلاف بنية الشاربين وصحتهم , كما هو ظاهر بين , وحكمة الشريعة تنافي القول بإباحة مثل هذا الشراب , وهي التي تقول: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) , و (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)
واعلم أن ورود مثل هذه الأقوال المخالفة للسنة والقياس الصحيح معاً في بعض المذاهب , مما يوجب على المسلم البصير في دينه الرحيم بنفسه أن لا يسلم قيادة عقله وتفكيره وعقيدته لغير معصوم , مهما كان شأنه في العلم والتقوى والصلاح , بل عليه أن يأخذ من حيث أخذوا من الكتاب والسنة إن كان أهلاً لذلك , وإلا سأل المتأهلين لذلك , والله تعالى يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل 43.
وبالإضافة إلى ذلك , فإنا نعتقد أن من قال بهذا القول من العلماء المشار إليهم , فهو مأجور على خطئه , للحديث المعروف , لأنهم قصدوا الحق فأخطؤوه , وأما من وقف من أتباعهم على هذه الأحاديث المذكورة , فهو – ولا شك - على ضلال مبين , وهو داخل في وعيد هذه الأحاديث التي خرجناها , ولا يفيده شيئاً تسميته لما يشرب بغير اسمه , مثل: الطلاء , أوالنبيذ , أو الوسكي , أو الكونياك .... وغير ذلك من الأسماء التي أشار إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحاديث الكريمة.
وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) النجم 23.
ثانياً: تحريم آلات العزف والطرب , ودلالة الحديث على ذلك من وجوه:
أ- قوله (يَسْتَحِلُّونَ) , فإنه صريح بأن المذكورات – ومنها المعازف – هي في الشرع محرمة , فيستحلها أولئك القوم.
ب- قرن المعازف مع المقطوع حرمته: الزنا والخمر , ولو لم تكن محرمة , ما قرنها معها إن شاء الله تعالى.
وقد جاءت أحاديث كثيرة , بعضها صحيح في تحريم أنواع من آلات العزف التي كانت معروفة يومئذ , كالطبل والقنين – وهو العود – وغيرها , ولم يأت ما يخالف ذلك أو يخصه , اللهم إلا الدف في النكاح والعيد , فإنه مباح على تفصيل مذكور في الفقه , وقد ذكرته في ردي على ابن حزم.
ولذلك اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها , واستثنى بعضهم – بالإضافة إلى ما ذكرنا – الطبل في الحرب , وألحق به بعض المعاصرين الموسيقى العسكرية , ولا وجه لذلك البتة لأمور:
الأول: أنه تخصيص لأحاديث التحريم بدون مخصص سوى مجرد الرأي والاستحسان , وهو باطل.
الثاني: أن المفروض في المسلمين في حالة الحرب أن يقبلوا بقلوبهم على ربهم , وأن يطلبوا منه نصرهم على عدوهم , فذلك أدعى لطمانينة نفوسهم , وأربط لقلوبهم , فاستعمال الموسيقى مما يفسد ذلك عليهم , ويصرفهم عن ذكر ربهم قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال 45.
الثالث: أن استعمالها من عادة الكفار (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) التوبة 29 , فلا يجوز لنا أن نتشبه بهم , لا سيما فيما حرمه الله تبارك وتعالى علينا تحريماً عاماً , كالموسيقى.
ولا تغتر أيها القارئ الكريم بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم من المتفقهة من القول بإباحة ألات الطرب والموسيقى , فإنهم – والله – عن تقليد يفتون , ولهوى الناس اليوم ينصرون , ومن يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي أخطأ فأباح آلات الطرب والملاهي , لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده , وقد عرفت أنه صحيح قطعاً , وأن ابن حزم أتي من قصر باعه في علم الحديث كما سبق بيانه , وليت شعري , ما الذي حملهم على تقليده هنا دون الأئمة الأربعة مع أنهم أفقه منه وأعلم وأكثر عدداً وأقوى حجة؟ لو كان الحامل لهم على ذلك إنما هو التحقيق العلمي ,
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/174)
فليس لأحد عليهم من سبيل , ومعنى التحقيق العلمي – كما لا يخفى – أن يتتبعوا الأحاديث كلها الواردة في الباب , ويدرسوا طرقها ورجالها , ثم يحكموا عليها بما تستحق من صحة أو ضعف , ثم إذا صح عندهم شئ منها , درسوها من ناحية دلالتها وفقهها وعامها وخاصها , وذلك كله حسبما تقتضيه قواعد علم أصول الحديث وأصول الفقه , لو فعلوا ذلك , لم يستطع أحد انتقادهم , ولكانوا مأجورين , ولكنهم – والله – لا يصنعون شيئاً من ذلك , ولكنهم إذا عرضت لهم مسألة , نضروا في أقوال العلماء فيها , ثم أخذوا ما هو الأيسر أو إلى تحقيق المصلحة – زعموا- دون أن ينظروا موافقة ذلك للدليل من الكتاب و السنة , وبعضهم يقول: لا يوجد دليل قطعي على التحريم , فكم شرعوا للناس – بهذه الطريقة – أموراً باسم الشريعة , يبرأ الإسلام منها , فإلى الله المشتكى.
فاحرص أيها المسلم على أن تعرف إسلامك من كتاب ربك وسنة نبيك ولا تقل: قال فلان , فإن الحق لا يعرف بالرجال , بل اعرف الحق تعرف الرجال ورحمة الله على من قال:
العلم قال الله قال رسوله ........... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ........... بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها ........... حذراً من التمثيل والتشبيه
ثالثاً: أن الله عز وجل قد يعاقب بعض الفساق عقوبة دنيوية مادية , فيمسخهم فيقلب صورهم – وبالتالي عقولهم – إلى بهيمة.
قال الحافظ في الفتح في صدد كلامه على المسخ المذكور في الحديث: (قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة , ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: والأول أليق بالسياق).
أقول: ولا مانع من الجمع بين القولين – كما ذكرنا – بل هو المتبادر من الحديثين , والله أعلم.
وقد ذهب بعض المفسرين في العصر الحديث إلى أن مسخ بعض اليهود قردة وخنازير لم يكن مسخاً حقيقياً بدنياً , وإنما كان مسخاً خلقياً وهذا خلاف ظاهر الآيات والأحاديث الواردة فيهم , , فلا تلتفت إلى قولهم , فإنهم لا حجة لهم فيه , إلا الاستبعاد العقلي المشعر بضعف الإيمان بالغيب , نسأل الله السلامة.
رابعاً: ثم قال الحافظ: (وفي هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه , وأن الحكم يدور مع العلة. والعلة في تحريم الخمر الإسكار , فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها , ردا على من حمله على اللفظ).
من عجائب أشراط الساعة
122 - (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ).
رواه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ قَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ بالصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) الحديث.
الرد على من يقول أن النبي هو من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/175)
241 – (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ).
أخرجه مسلم , والسياق له والنسائي , وابن ماجه , وأحمد , من طرق عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (فذكره) , وزاد في آخره: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ وَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي فَقُلْتُ لَهُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا قَالَ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
وليس عند غير مسلم قوله: (فقلت له: هذا ابن عمك .... ) إلخ.
غريب الحديث:
فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا: أي: يجعل بعضها بعضا رقيقا , أي: خفيفاً , لعظم ما بعده , فالثاني يجعل الأول رقيقا.
صَفْقَةَ يَدِهِ: أي: معاهدته له والتزام طاعته , وهي المرة من التصفيق باليدين , وذلك عند البيعة بالخلافة.
ثَمَرَةَ قَلْبِهِ: أي: خالص عهده أو محبته بقلبه.
فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ: قال النووي: (معناه: ادفعوا الثاني , فإنه خارج على الإمام , فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال , فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلي قتله , جاز قتله , ولا ضمان فيه , لأنه ظالم متعدٍ في قتاله).
وفي الحديث فوائد كثيرة , من أهمها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َيجب عليه أن يدعو أمته إلى الخير ويدلهم عليه , وينذرهم شر ما يعلمه لهم , ففيه رد صريح على ما ذكر في بعض كتب الكلام أن النبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ.
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا
274 - (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ).
أخرجه البخاري , ومسلم , ومالك , والطحاوي , وأحمد , والخطيب، وأبويعلى عن ابي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (فذكره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/176)
وفي رواية من طريق أخرى عنه مرفوعاً بلفظ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَلف اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)، أخرجه مسلم , وابن حبان.
الغريب:
1 - (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) , قال الخطيب: (المعنى: أمرت بالهجرة إلى قرية , تَأْكُلُ الْقُرَى , أي يأكل أهلها القرى كما قال الله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) , النحل 112 , يعني: قرية كان أهلها مطمئنين , وكان ذكر القرية عن هذا كناية عن أهلها , وأهلها المرادون بها لا هي , والدليل على ذلك قوله تعالى (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) , النحل 112 , والقرية لا صنع لها , وقوله: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) , النحل 112 , والقرية لا كفر لها.
2 - (تَأْكُلُ الْقُرَى) , بمعنى تقدر عليها , كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) النساء 10 , ليس يعني بذلك أكلتها دون محتجبيها عن اليتامى لا بأكل لها , وكقوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) النساء 6 , يعني: تغلبوا عليها إسرافاً على أنفسكم , وبداراً أن يكبروا , فيقيموا الحجة عليكم بها , فينتزعوها منكم لأنفسهم , فكان الأكل فيما ذكرنا يراد به الغلبة على الشئ , فكذلك في الحديث.
من أعلام نبوته
279 - (لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتا يوشونها وشي المراحل).
المراحل: فسرها إبراهيم شيخ البخاري بأنها الثياب المخططة , وفي النهاية: المرحل: الذي قد نقش فيه تصاوير الرحال , ومنه الحديث: (كان يصلي وعليه من هذه المرحلات) , يعني: المروط المرحلة , وتجمع على المراحل , ومنه هذا الحديث .. يوشونها وشي المراحل , ويقال لذلك العمل الترحيل.
393 - (كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها؛ يبارك لكم فيها. ثم قال: خذوا فكلوا؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ ليفتحن عليكم أرض فارس والروم، حتى يكثر الطعام، فلا يذكر اسم الله عليه).
رواه أبوبكر الشافعي , وعنه ابن عساكر , والبيهقي , والضياء عن عمرو بن عثمان: ثنا أبي: ثنا محمد بن عبدالرحمن بن عرق: ثنا عبدالله بن بسر قال: " أهديت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة , والطعام يومئذ قليل , فقال لأهله: اطبخوا هذه الشاة , وانظروا إلى هذا الدقيق فاخبزوه , اطبخوا وأثردوا عليه , قال: وكان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصعة يقال لها: الغراء , يحملها أربهة رجال , فلما أصبح وسبحوا الضحى , أتى بتلك القصعة , والتقوا عليها , فإذا كثر الناس , جثا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله جعلني عبداً كريماً , ولم يجعلني جباراً عنيداً , ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
والحديث علم من أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقد فتح سلفنا أرض فارس والروم , وورثنا ذلك منهم , وطغى الكثيرون منا , فأعرضوا عن الشريعة وآدبها , التي منها ابتداء الطعام بـ (بسم الله) , فنسوا هذا حتى لا تكاد فيهم ذاكراً.
جواز تمني الموت تديناً
578 - (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولَ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ مَا بِهِ حُبُّ لِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/177)
ومعنى الحديث أنه لا يتمنى الموت تديناً وتقرناً إلى الله وحباً في لقائه , وإنما لما نزل به من البلاء والمحن في أمور دنياه , ففيه إشارة إلى جواز تمني الموت تديناً , ولا ينافيه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به .. ) , لأنه خاص بما إذا كان التمني لأمر دنيوي كما هو ظاهر.
قال الحافظ: (ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف , قال النووي: لا كراهة في ذلك , بل فعله خلائق من السلف , منهم عمر بن الخطاب و ..... ).
من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر
695 - (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر).
أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (61)، وعنه أبو عمرو الداني في ((الفتن)) (62/ 2) و اللا لكائي في ((شرح أصول السنة)) (230/ 1 - كواكب576)، وكذا الطبراني في ((الكبير))،وعنه الحافظ عبد الغني المقدسي في ((العلم)) (ق16/ 2)،وابن منده في ((المعرفة)) (2/ 220/1)، وابن عبدالبر في (جامع العلم) (1/ 157 - 158)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 79) عن ابن المبارك عن لهيعة عن بكر بن سوداة عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وزاد الأول:
((قال ابن المبارك: الأصاغر:أهل البدع)).
قلت: وهذا إسناد جيد، لأن حديث ابن لهيعة صحيح إذا كان من رواية أحد العبادلة عنه، وابن المبارك منهم. فما نقله المناوي عن الهيثمي أنه أعله بقوله (فيه ابن لهيعة ضعيف) ليس بجيد.
ولذلك قال الحافظ المقدسي عقبه:
((وإسناده حسن)).
ورواه الهروي في ((ذم الكلام)) (ق137/ 2) من هذا الوجه مرفوعاً، وعن ابن مسعود موقوفاً عليه.
وكذا رواه اللالكائي عنه وابن عبد البر والخطيب، وهو شاهد قوي لأنه لا يقال بالرأي، ولفظه:
((لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم،فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا)).وإسناده صحيح.
(تنبيه): يبدو لي أن المراد بـ (الأصاغر) هنا الجهلة الذين يتكلمون بغير فقه في الكتاب والسنة، فيضلون ويضلون كما جاء في حديث (انتزاع العلم)،ومن الأمثلة ذاك المصري الذي كتب رسالة أسماها ((اللباب في فريضة النقاب)) فعارضه آخر فيما سماه ((تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)) والحق بينهما وهو الاستحباب.
فضل أهل الشام
965 - (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).
رواه مسلم (6/ 54)، وابويعلى في ((مسنده)) (2/ 118/783)، وأبو عمرو الداني في ((الفتن)) (ق44/ 2)، وابن الأعرابي في ((المعجم)) (31/ 1/112/ 1)، والجرجاني (424)، والدورقي في ((مسند سعد)) (3/ 136/2)، وابونعيم في ((الحلية)) (3/ 95 - 96)، وابن منده في ((المعرفة)) (2/ 179/1) من حديث أبي عثمان سعد بن أبي وقاص مرفوعاً. وقال أبو نعيم:
((حديث ثابت مشهور)).
واعلم أن المراد بأهل الغرب في هذا الحديث أهل الشام؛ لأنهم يقعون في الجهة الغربية الشمالية بالنسبة للمدينة المنورة التي فيها نطق عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث الشريف، وبهذا فسر الحديث الإمام أحمد رحمه الله. وأيده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من ((الفتاوى)) (7/ 446و27/ 41و507و28/ 531و552)، وقد أبعد النجعة من فسره من المعاصرين ببلاد (المغرب) المعروفة اليوم في شمال إفريقيا؛ لأنه مما لا سلف له؛ مع مخالفته لإمام السنة وشيخ الإسلام.
وإذا عرفت هذا ففي الحديث بشارة عظيمة لمن كان في الشام من أنصار السنة المتمسكين بها، والذابين عنها، والصابرين في سبيل الدعوة إليها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم.
الخلافة والملك
976 - (تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ بعد خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا. قُلْتُ: ((وفي رواية: قال عمر يانبي الله) مِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟ قَالَ مِمَّا مَضَى).
هذا حديث صحيح من معالم نبوته صلى الله عليه وسلم، يرويه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وله عنه طرق:
الأولى: عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عنه به.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/178)
أخرجه أبودود (4254)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (1/ 235و236)، والحاكم (4/ 521)، وأحمد (1/ 393)، وأبو يعلى في ((المسند)) أيضاً (ق255/ 1)، وابن الأعرابي في ((معجمه)) (ق141/ 2)، وابن عدي في ((الكامل)) (ق91/ 1)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ق63/ 2)، والخطابي في ((غريب الحديث)) (ق116/ 2 - 117/ 1) من طرق عن منصور به. وقال الحاكم:
((صحيح الإسناد) 9، ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير البراء بن ناجية وهو ثقة.
الثانية: عن قاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه مرفوعاً به دون قوله: ((قلت ... )).
أخرجه أحمد (1/ 390و451)، وأبو يعلى (8/ 425/5009و9/ 201/5298 - ط) والطحاوي وابن الأعرابي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1865 - موارد)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 211/10356)، والخطابي من طرق عنه.
قلت: وهذا سند صحيح أبضاً على شرط الشيخين؛ على ما في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه من الاختلاف، والراجح عندي أنه سمع منه؛ كما هو مبين في غير هذا الموضع.
الثالثة: عن شريك عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عنه.
أخرجه الطحاوي، والطبراني (10/ 195/10311).
(فائدة):قال الخطيب رحمه الله تعالى:
((قوله: ((تدور رحى الإسلام)) مثل؛ يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم، يخاف لذلك على أهله الهلاك، يقال للأمر إذا تغير واستحال: قد دارت رحاه، وهذا _ والله أعلم _ إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة.
وقوله: ((يقم لهم دينهم))، أي: ملكهم وسلطانهم، والدين: الملك والسلطان، ومنه قوله تعالى ((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك))،وكان بين مبايعة الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان _ إلى انقضاء ملك بني أمية من المشرق _ نحواً من سبعين سنة)).
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى:
((وقوله: ((بعد خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين ... )) ليس ذلك على الشك، ولكن يكون ذلك فيما يشاء الله عز وجل من تلك السنين، فشاء عز وجل أن كان ذلك في سنة خمس وثلاثين، فتهيأ فيها على المسلمين حصر إمامهم، وقبض يده عما يتولاه عليهم؛ مع جلالة مقداره؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المهديين، وحتى كان ذلك سبباً لسفك دمه رضوان الله عليه، وحتى كان ذلك سبباً لوقوع اختلاف الآراء، فكان ذلك مما لو هلكوا عليه لكان سبيل من هلك لعظمه، ولما حل بالإسلام منه، ولكن الله ستر وتلافى، وخلف في أمته من يحفظ دينهم عليهم، ويبقي ذلك لهم)).
كتاب المعاملات والآداب والحقوق العامة
حض الإسلام على استثمار الأرض وزرعها
7 - (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ).
8 - (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتْ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ [إلى يوم القيامة]).
يَرْزَؤُهُ: أي ينقصه ويأخذ منه.
9 - (عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ و في َيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيغرسها).
رواه أحمد، والطيالسي، والبخاري (في الأدب المفرد)، وابن الأعرابي عن هشام بن زيد عنه.
الفسيلة: هي النخلة الصغيرة , وهي الودية.
ولا أدل على الحض على الاستثمار في هذه الأحاديث الكريمة , لا سيما الحديث الأخير منها , فإن فيه ترغيباً عظيماً على اغتنام آخر فرصة من الحياة في سبيل زرع ما ينتفع به الناس بعد موته , فيجرى له أجره , وتكتب له صدقته إلى يوم القيامة.
وقد ترجم الإمام البخاري في المصدر السابق لهذا الحديث بقوله: (باب اصطناع المال).
ثم روى عن الحارث بن لقيط قال: (كان الرجل منا تنتج فرسه , فينحرها , فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذه؟ فجاءنا كتاب عمر أن أصلحوا ما رزقكم الله , فإن في الأمر تنفساً) , وسنده صحيح.
وروي أيضا بسند صحيح عن داود قال: قال لي عبد الله بن سلم: (إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت علي ودية تغرسها , فلا تجعل أن تصلحه , فإن للناس بعد ذلك عيشاً).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/179)
وروى أبن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أني شيخ كبير أموت غداً فقال له عمر: أعزم عليك , لا تغرسنها، فلقد رأيت عمر بن خطاب يغرسها بيده مع أبي).
ولذلك عد بعض الصحابة الرجل يعمل في إصلاح أرضه عاملا من عمال الله عز وجل.
فروى البخاري في (الأدب المفرد) عن نافع بن عاصم إنه سمع عبدالله بن عمر قال لابن أخ له خرج من الوهط: أيعمل عمالك؟.قال لا أدري. قال: أم لو كنت ثقفياً , لعلمت ما يعمل عمالك. ثم ألتفت إلينا فقال: إن الرجل أذا عمل مع عماله في داره [وقال الراوي مرة في ماله] , كان عاملا من عمال الله عز وجل) , وسنده حسن أن شاء الله تعالى.
والوهط في اللغة: هو البستان , وهي أرض عظيمة كانت لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من وج , يبدو أنه خلفها لأولاده.
هذا بعض ما أثمرته تلك الأحاديث في جملتها من السلف الصالح رضي الله عنهم.
وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديثين الأولين بقوله: (باب فضل الزرع إذا أكل منه).
قال ابن المنذر: (أشار البخاري إلى إباحة الزرع وأن من نهى عنه – كما ورد عن عمر – فمحله ما إلى شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة وعلى ذلك يحمل حديث أبى أمامة المذكور في الباب الذي بعده).
قلت: سيأتي الكلام على الحديث المشار إليه قريبا ان شاء الله تعالى.
التكالب على الدنيا يورث الذل
ذكرت آنفاً بعض الأحاديث الواردة في الحض على استثمار الأرض , مما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام شرع ذلك للمسلمين , ورغبهم فيه أيما ترغيب.
والآن نورد بعض الأحاديث التي قد يتبادر لبعض الأذهان الضعيفة أو القلوب المريضة أنها معارضة للأحاديث المتقدمة , وهي في الحقيقة غير منافية لها , إذا ما أحسن فهمها , وخلت النفس من اتباع هواها.
10 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ).
وقد وفق العلماء بين هذا الحديث والأحاديث المتقدمة آنفاً بوجهين اثنين:
الأول: أن المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر , فمن أدخل نفسه في ذلك , فقد عرضها للذل.
قال المناوي في (الفيض):
(ليس هذا ذماً للزراعة , فإنها محمودة مثاب عليها , لكثرة أكل العوافي منها , إذ لا تلازم بين ذل الدنيا وحرمان ثواب البعض)
ولهذا قال ابن التين:
(هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات , لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث).
الثاني: أنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات , كالحرب ونحوه , وإلى هذا ذهب البخاري , حيث ترجم للحديث بقوله: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع , أو مجاوزة الحد الذي أمر به).
فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب , ويحمله على التكالب على الدنيا , والإخلاد إلى الأرض , والإعراض عن الجهاد , كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء.
ويؤيد هذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم:
11 - (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
فتأمل كيف بين هذا الحديث ما أجمل في حديث أبي أمامة المتقدم قبله؟ فذكر أن تسليط الذل ليس لمجرد الزرع والحرث , بل لما اقترن به من الإخلاد إليه , والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله , فهذا هو المراد بالحديث , وأما الزرع الذي لم يقترن به شئ من ذلك , فهو المراد بالأحاديث المرغبة في الحرث , فلا تعارض بينها ولا إشكال.
تنبيه:
من البواعث على كتابة هذا المقال: أن مستشرقاً ألمانياً زعم لأحد الطلاب المسلمين السوريين هناك أن الإسلام يحذر أهله من تعاطي أسباب استثمار الأرض , واحتج بهذا الحديث , وقال: إنه في البخاري , متعامياً عن المعنى الذي ذكره البخاري نفسه في ترجمته للحديث كما سبق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/180)
12 - (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا).
واعلم أن هذا التكثر المفضي إلى الانصراف عن القيام بالواجبات – التي منها الجهاد في سبيل الله – هو المراد بالتهلكة المذكورة في قوله تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة 195 , وفي ذلك نزلت الآية , خلافاً لما يظن كثير من الناس , فقد قال أسلم أبو عمران:
13 - (غَزَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ [وعلى أهل مصر عقبة بن عامر] , وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ فَحَمَلَ رَجُلٌ [منا] عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ مَهْ مَهْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ [الأنصاري: إنما تأولون هذه الآية هكذا , أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة ,أو يبلي من نفسه] إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ قُلْنَا [بيننا خفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم]: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ).
من أدبه صلى الله عليه وسلم عند التوديع
14 – (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ).
15 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ قَالَ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ).
16 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا وَدَّعَ أَحَدًا قَالَ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)
يستفاد من هذا الحديث الصحيح جملة فوائد:
الأولى: مشروعية التوديع بالقول الوارد فيه: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)، ويجيبه المسافر فيقول: (أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه) , أنظر " الكلم الطيب "
الثانية: الأخذ باليد الواحدة في المصافحة , وقد جاء ذكرها في أحاديث كثيرة , وعلى ما دل عليه هذا الحديث يدل اشتقاق هذه اللفظة في اللغة , ففي (لسان العرب):
(والمصافحة: الأخذ باليد , والتصافح مثله , والرجل يصافح الرجل: إذا وضع صفح كفه في صفح كفه , وصفحا كفيهما: وجهاهما , ومنه حديث المصافحة عند اللقاء , وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف , وإقبال الوجه على الوجه).
قلت: وفي بعض الأحاديث المشار إليها ما يفيد هذا المعنى أيضاً , كحديث حذيفة مرفوعاً (إن المؤمن إذا لقي المؤمن , فسلم عليه , وأخذ بيده فصافحه , تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر).
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن السنة في المصافحة الأخذ باليد الواحدة , فما يفعله بعض المشايخ من التصافح باليدين كلتيهما خلاف السنة , فليعلم هذا.
الفائدة الثالثة: أن المصافحة تشرع عند المفارقة أيضاً , ويؤيده عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من تمام التحية المصافحة).
وهو حديث جيد باعتبار طرقه , ولعلنا نفرد له فصلاً خاصاً إن شاء الله تعالى , ثم تتبعت طرقه , فتبين لي أنها شديدة الضعف , لا تصلح للاعتبار وتقوية الحديث بها , ولذلك أوردته في (السلسلة الأخرى) (1288).
ووجه الاستدلال – بل الاستشهاد – به إنما يظهر باستحضار مشروعية السلام عند المفارقة أيضاً , لقوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا دخل أَحَدُكُمْ الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ وَإِذَا خرجَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَى) رواه ابوداود والترمذي وغيرهما بسند حسن.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/181)
فقول بعضهم , إن المصافحة عند المفارقة بدعة , مما لا وجه له.
نعم , إن الواقف على الأحاديث الواردة في المصافحة عند الملاقاة يجدها أكثر وأقوى من الأحاديث الواردة في المصافحة عند المفارقة , ومن كان فقيه النفس , يستنتج من ذلك أن المصافحة الثانية ليست مشروعيتها كالأولى في الرتبة , فالأولى سنة , والأخرى مستحبة , وأما أنها بدعة , فلا , للدليل الذي ذكرنا.
وأما المصافحة عقب الصلوات فبدعة لا شك فيها , إلا أن تكون بين اثنين لم يكونا قد تلاقيا قبل ذلك , فهي سنة كما علمت.
من الرفق بالحيوان
20 - (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ).
روه أبوداود، والحاكم، وأحمد، وابويعلى، والبيهقي، وابن عساكر، والضياء من طريق محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ النَخْلٍ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ (فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ سراته إلى سنامه و ذِفْرَاهُ فسكن) فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: (فذكر الحديث)، قال الحاكم (صحيح الإسناد) ووفقه الذهبي، وهو كما قالا.
والزيادة التي بين القوسين لابن عساكر والضياء.
تدئبه: تكده وتتعبه، كما في النهاية.
21 - (ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً وَايْتَدِعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ).
أخرجه ابن حبان , والحاكم , والبيهقي , وأحمد , وابن قانع , وابن عبدالحكم , وابن عساكر , عن الليث بن سعد عن يزيد بن حبيب عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه – وكانت له صحبة – مرفوعاً.
قال الحاكم: صحيح الإسناد , ووافقه الذهبي , وهو كما قالا.
وقد أخرجه أحمد من طريق ابن لهيعة: ثنا الزبان عن سهل به , وزاد: (فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ) , وهذه الزيادة ضعيفة , لما عرفت من حال راويه زبان عن سهل , ولا سيما أن فيه ابن لهيعة , وهو ضعيف أيضاً.
وقوله: وايتدعوه، أي: أتركوها ورفهوا عنها إذا لم تحتاجوا إلى ركوبها، وهو افتعال من ودع – بالضم – وداعة ودعة أي: سكن وترفه , وايتدع , فهو متدع , أي: صاحب دعة , أو من ودع إذا ترك , يقال اتدع وايتدع علي القلب والإدغام والإظهار , كذا في النهاية ولسان العرب، ومنه يتضح ان قوله وايتدعوها صواب خلافاً لظن أحد المصحيحين الفضلاء فقتضى التنبيه والله الموفق.
تنبيه: وقع خطاء مطبعي فاحش في تفسير ابن كثير (3/ 42) , فإنه ساق فيه رواية أحمد من طريق ابن لهيعة عن زبان المتقدمة من روايته عن سهل بن معاذ ابن أنس , فتحرف على الطابع (بن أنس) إلى (عن أنس) فصار الحديث من مسند أنس ولم يتنبه لهذا الخطأ الشيخ الصابوني لجهله الشديد بهذا العلم الشريف , فجعل الحديث في (مختصره) (2/ 379) من رواية أحمد عن أنس وهذا مما لا أصل له في كتب السنة إطلاقاً.
ومع هذا الخطأ الفاحش منه , فإن إراده لهذا الحديث الضعيف مما يؤكد جهله المذكور , ويدل على كذبه فيما ادعاه في مقدمة (مختصره) أنه لم يورد فيه إلا الأحاديث الصحيحة , وقد نبهت على كثير من أحاديثه الواهية في مناسبات كثيرة من هذه السلسلة وغيرها , فانظر مثلاً مقدمة المجلد الرابع من الضعيفة , ومقدمة الصحيحة المجلد الرابع , الأمر الذي يجعل الباحث يقطع بأنه دعي يتشبع بما لم يعط , والله المستعان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/182)
22 - (إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ).
23 - (اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً).
رواه ابوداود من طريق مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَال: (فذكره).
وقد تابعه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ به أتم منه , ولفظه: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَمَرَّ بِبَعِيرٍ مُنَاخٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَقَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَابْتُغِيَ فَلَمْ يُوجَدْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ ثُمَّ ارْكَبُوهَا صِحَاحًا وَارْكَبُوهَا سِمَانًا كَالْمُتَسَخِّطِ آنِفًا.
رواه ابن حبان , وأحمد , والطبراني , وسنده صحيح على شرط البخاري.
تنبيه: قوله: َكُلُوهَا: قيدوها بضم الكاف , من الأكل , وعليه جرى المناوي في شرح هذه الكلمة , فإذا صحة الرواية بذلك , فلا كلام , وإلا فالأقرب عندي أنها: كلوها بكسر الكاف , من وكل يكل كل , أي: اتركوها , هذا هو المتبادر من سياق الحديث ويؤيده الحديث المتقدم بلفظ: (ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً وَايْتَدِعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ) , أي: اتركوها سالمة والله أعلم.
الْمُعْجَمَةِ: أي: التي لا تقدر على النطق , فتشكوا ما أصابها من جوع أو عطش , وأصل الأعجم: الذي لا يفصح بالعربية ولا يجيد التكلام بها , عجمياً كان أو عربياً , سمي به لعجمة لسانه , والتباس كلامه.
24 – (أفلا قبل هذا؟ أو تريد أن تميتها موتتين؟).
رواه الطبراني في الكبير والأوسط , والبيهقي عن يوسف بن عدي: ثنا عبدالرحيم بن سليمان الرازي عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يُحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها , فقال: (فذكره).
25 – (مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا).
رواه البخاري في (الأدب المفرد) , وابوداود , والحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (فذكره).
والسياق لأبي داود , وزاد: (وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) , وسنده صحيح.
الْحُمَرَةُ: بضم الحاء وفتح الميم المشددة: طائر صغير كالعصفور , أحمر اللون.
تَفْرِشُ: بحذف إحدى التاءين , كـ (تذكر) , أي: ترفرف بجناحيها , وتقترب من الأرض.
26 - (وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ).
رواه البخاري في (الأدب المفرد) , والطبراني , وكذا أحمد , والحاكم , وابن عدي , وأبونعيم , وابن عساكر من طرق عن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُل: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فأَرْحَمُهَا. قال: (فذكره) , وزاد البخاري: (مرتين) وسنده صحيح.
27 - (من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/183)
28 – (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْض).
خَشَاشِ الْأَرْض: هي الحشرات والهوام.
29 - (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ إِذْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ وَخَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا فَقَالَ فِي كُلِّ ذِات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).
30 - (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ).
الركية: بئر لم تطو أو طويت.
ومن الآثار في الرفق بالحيوان:
أ – عن المسيب بن دار قال: (رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالاً , وقال: لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟).
ب- عن عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: (أن رجلاً حد شفرة , وأخذ شاة ليذبحها , فضربه عمر بالدرة , وقال: أتعذب الروح؟ ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟).
ج – عن محمد بن سيرين: (أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يجر شاة ليذبحها , فضربه بالدرة وقال: سقها – لا أم لك – إلى الموت سوقاً جميلاً).
د- عن وهب بن كيسان: (أن ابن عمر رأى راعي غنم في مكان قبيح , وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه , فقال ابن عمر: ويحك ياراعي حولها , فإني سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [كل راع مسؤول عن رعيته]).
هـ - عن معاوية بن قرة قال: (كان لأبي الدرداء جمل يقال له: [دمون] , فكان إذا استعاروه منه , قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا , فإنه لا يطيق أكثر من ذلك , فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون لا تخاصمني غداً عند ربي , فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق).
و – وعن أبي عثمان الثقفي قال: (كان لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له , يأتيه بدرهم كل يوم , فجاء يوماً بدرهم ونصف , فقال أما بدا لك؟ قال: نفقت السوق , قال: لا , ولكنك أتعبت البغل أجمه ثلاثة أيام).
تلك هي بعض الآثار التي وقفت عليها حتى الآن، وهي تدل على مبلغ تأثر المسلمين الأولين بتوجهات النبى صلى الله عليه وسلم في الرفق بالحيوان , وهي في الحقيقة قل من جل ونقطة من بحر , وفي ذلك بيان واضح أن الإسلام هو الذي وضع للناس مبدأ الرفق بالحيوان , خلافاً لما يظنه بعض الجهال بالإسلام أنه من وضع الكفار الأوربيين , بل ذلك من الآداب التي تلقوها عن المسلمين الأولين , ثم توسعوا فيها , ونظموها تنظيماً دقيقاً , وتبنتها دولهم , حتى صار الرفق بالحيوان من مزاياهم اليوم , حتى توهم الجهال أنه من خصوصياتهم وغرهم في ذلك أنه لا يكاد يرى هذا النظام مطبقاً في دولة من دول الإسلام , وكانوا هم أحق بها وأهلها.
وقد بلغ الرفق بالحيوان في بعض البلاد الأوربية درجة لا تخلو من المغالاة , ومن الأمثلة على ذلك ما قرأته في (مجلة الهلال) (مجلد 27ج9ص126) تحت عنوان (الحيوان والإنسان):
(إن محطة السكك الحديدية في (كوبنهاجن) كان يتعشعش فيها الخفاش زهاء نصف قرن , فلما تقرر هدمها وإعادة بنائها , أنشأت البلدية برجاٍ كلفته عشرات الألوف من الجنيهات , منعاً من تشرد الخفاش).
وحدث منذ ثلاث سنوات أن سقط كلب صغير في شق صغير بين صخرتين في إحدى قرى (إنكلترا) فجند له أولو الأمر مائة من رجال المطافئ لقطع الصخور وإنقاذ الكلب.
وثار الرأي العام في بعض البلاد أخيراً عندما اتخذ الحيوان وسيلة لدراسة الظواهر الطبيعية , حين أرسلت روسيا كلباً في صاروخها , وأرسلت أمريكا قرداً.
فضل إطعام الطعام
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/184)
44 - (قال عمر لصهيب: أي رجل أنت , لولا خصال ثلاث فيك , قال: وما هن , قال: اكتنيت وليس لك ولد , وانتميت إلى العرب وأنت من الروم , وفيك سرف في الطعام. قال: أما قولك: اكتنيت ولم يولد لك , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى. وأما قولك: انتميت إلى العرب ولست منهم , وأنت رجل من الروم , فإني رجل من النمر بن قاسط , فسبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا غلام عرفت نسبي. وأما قولك: فيك سرف في الطعام , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ).
وفي هذا الحديث فوائد:
الأولى: مشروعية الاكتناء لمن لم يكن له ولد , بل قد صح في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى طفلة صغيرة حينما كساها ثوباً جميلاً , فقال لها (هذا سنا ياأم خالد , هذا سنا يا ام خالد).
وقد هجر المسلمون – لا سيما الأعاجم منهم – هذه السنة العربية الإسلامية , فقلما تجد من يكتني منهم , ولو كان له طائفة من الأولاد , فكيف من لا يولد له؟.
وأقاموا مقام هذه السنة ألقاباً مبتدعة , مثل الأفندي , والبيك , و الباشا , ثم السيد , أو الأستاذ , ونحو ذلك مما يدخل بعضه أو كله في باب التزكية المنهي عنها في أحاديث كثيرة , فلينتبه لهذا.
الثانية: فضل إطعام الطعام , وهو من العادات الجميلة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم , ثم جاء الإسلام واكد أيما توكيد , كما في الحديث الشريف , بينما لا تعرف ذلك أوربا , و تستذوقه اللهم إلا من دان بالإسلام منها , كالألبان ونحوهم.
وإن مما يؤسف له أن قومنا بدؤوا يتاثرون بأوربا في طريقة حياتها – ما وافق الإسلام منها وما خالف – فأخذوا لا يهتمون بالضيافة , ولا يلقون لها بالاً , اللهم إلا ما كان منها في المناسبات الرسمية , ولسنا نريد هذا , بل إذا جاءنا أي صديق مسلم , وجب علينا أن نفتح له دورنا , وأن نعرض عليه ضيافتنا , فذلك حق له علينا ثلاثة أيام كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
وإن من العجائب التى يسمعها المسلم في هذا العصر الاعتزاز بالعربية ممن لا يقدرها قدرها الصحيح , إذ لا نجد في كثير من دعاتها اللفظيين من تتمثل فيه الأخلاق العربية , كالكرم , والغيرة , والعزة , وغيرها من الأخلاق الكريمة التي هي من مقومات الأمم , ورحم الله من قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت .............. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأحسن منه قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
45 - (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم – وفي رواية صَالِحَ – الْأَخْلَاقِ).
من أدب النوم والسفر
60 - (نَهَى عَنْ الْوَحْدَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ).
61 - (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ فِي الْوَحْدَةِ ما أعلم مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ [أَبَدًا]).
62 - (الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ).
رواه مالك , وعنه ابوداود، وكذا الترمذي , والحاكم , والبيهقي , وأحمد، والخطيب من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً.
وسببه كما في " المستدرك " والبيهقي: أم رجلاً قدما من سفره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صحبت؟ فقال: ما صحبت أحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكره
في هذه الأحاديث تحريم سفر المسلم وحده , وكذا لو كان معه آخر , لظاهر النهي في الحديث الذي قبل هذا ولقوله فيه شيطان , أي عاص , كقوله تعالى (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) , فإن معناه: عصاتهم , كما قال المنذري.
وقال الطبري:
(هذا زجر أدب وإرشاد , لما يخاف على الواحد من الوحشة , وليس بحرام فالسائر وحده بفلاة , والبائت في بيت وحده , لا يأمن من الاستيحاش , سيما إن كان ذا فكرة رديئة , أو قلب ضعيف , والحق أن الناس يتفاوتون في ذلك , فوقع الزجر لحسم المادة , فيكره الانفراد سداً للباب , والكراهة في الاثنين أخف منها في الواحد) , ذكره المناوي في الفيض.
قلت: ولعل الحديث أراد السفر في الصحارى والفلوات التي قلما يرى المسافر فيها أحداً من الناس , فلا يدخل فيها السفر اليوم في الطرق المعبدة الكثيرة المواصلات. والله أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/185)
ثم إن فيه رداً صريحاً على خروج بعض الصوفية إلى الفلاة وحده للسياحة وتهذيب النفس – زعموا – وكثيراً ما تعرضوا في أثناء ذلك للموت عطشاً وجوعاً , أو لتكفف أيدي الناس , كما ذكروا ذلك في الحكايات عنهم , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
حكم القيام للداخل
67 - (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزَلُوهُ فَقَالَ عُمَرُ سَيِّدُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنْزِلُوهُ فَأَنْزَلُوهُ).
أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) , والإمام أحمد والسياق له , وابن سعد , وابن حبان عن مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ قَالَتْ:
(خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ قَالَتْ فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي يَعْنِي حِسَّ الْأَرْضِ قَالَتْ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ قَالَتْ فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ قَالَتْ فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ لَبث قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ قَالَتْ فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ سَبْغَةٌ لَهُ يَعْنِي مِغْفَرًا فَقَالَ عُمَرُ مَا جَاءَ بِكِ لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ وَمَا يُؤْمِنُكِ أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوُّزٌ قَالَتْ فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي سَاعَتَئِذٍ فَدَخَلْتُ فِيهَا قَالَتْ فَرَفَعَ الرَّجُلُ السَّبْغَةَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ يَا عُمَرُ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمَ وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ أَوْ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ لَهُ فَقَالَ لَهُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرَقَةِ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَطَعَهُ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَعْدٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ قَالَتْ وَكَانُوا حُلَفَاء وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَتْ فَرَقَى كَلْمُهُ – أي: جرحه - وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوِيًّا عَزِيزًا فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَضَعَ السِّلَاحَ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ فَقَالَ أوَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ قَالَتْ فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْمٍ وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ فَقَالَ مَنْ مَرَّ بِكُمْ فَقَالُوا مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَتْ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ قِيلَ لَهُمْ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/186)
انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ قَالُوا نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَنَزَلُوا وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ وَحَفَّ بِهِ قَوْمُهُ فَقَالُوا يَا أَبَا عَمْرٍو حُلَفَاؤُكَ وَمَوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ وَمَنْ قَدْ عَلِمْتَ فلم يرجع إليهم شيئاً , وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمْ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَدْ آنَ لِي أَنْ لَا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزَلُوهُ فَقَالَ عُمَرُ سَيِّدُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنْزِلُوهُ فَأَنْزَلُوهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْكُمْ فِيهِمْ قَالَ سَعْدٌ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُكْمِ رَسُولِهِ قَالَتْ ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ قَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَالَتْ فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ وَكَانَ قَدْ بَرِئَ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا مِثْلُ الْخُرْصِ وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَ عَلْقَمَةُ قُلْتُ أَيْ أُمَّهْ فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ قَالَتْ كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجِدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ).
فيه فائدتان:
الأولي: اشتهر رواية الحديث بلفظ (لسيدكم) , والرواية في الحديثين كما رأيت: (إلى سيدكم) , ولا أعلم للفظ الأول أصلاً , وقد نتج منه خطأ فقهي , وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره.
قال الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل في (التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها وتصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد الهروي) (ق 17/ 2):
(ومن ذلك ما ذكره في هذا الباب من ذكر السيد , وقال كقوله لسعد حين قال: قوموا لسيدكم , أراد أفضلكم رجلاً , قلت: والمعروف أنه قال: قوموا إلى سيدكم , قاله صلى الله عليه وسلم لجماعة من الأنصار لما جاء سعد بن معاذ محمولاً على حمار وهو جريح ..... أي: أنزلوه واحملوه , لا قوموا له من القيام له , فإنه أراد بالسيد: الرئيس المتقدم عليهم , وإن كان غيره افضل منه).
الثانية: اشتهر الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية القيام للداخل , وأنت إذا تأملت في سياق القصة , يتبين لك أنه استدلال ساقط من وجوه كثيرة: أقواها قوله صلى الله عليه وسلم: (فأنزلوه) , فهو نص قاطع على أن الأمر بالقيام إلى سعد إنما كان لإنزاله من أجل كونه مريضاً , ولذلك قال الحافظ: (وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه , وقد احتج به النووي في كتاب القيام).
و جوب التفكر في خلق السماوات والأرض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/187)
68 - (لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: [إن في خلق السماوات والأرض] الآية).
رواه أبو الشيخ ابن حبان في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حبان في " صحيحه " عن يحيى بن زكريا بن إبراهيم بن سعد بن سويد النخعي: نا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: (دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها , فقال بن عمير: حدثينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي. قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك , وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي , فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتي بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورأً؟ لقد نزلت ... ) الحديث
فيه فضل النبي صلى الله عليه وسلم , وكثرة خشيته وخوفه من ربه , وإكثاره من عبادته , مع أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , فهو المنتهى في الكمال البشري , ولا جرم في ذلك , فهو سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
لكن , ليس فيه ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل كله , لأنه لم يقع فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم , ابتدأ القيام من بعد العشاء أو قريباً من ذلك , بل إن قوله (قام ليلة من الليالي , فقال ... ) الظاهر أن معناه: (قام من نومه .. ) , أي نام أوله ثم قام , فهو على هذا بمعنى حديثها الآخر: (كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِ آخِرَهُ .. ) , أخرجه مسلم.
وإذا تبين هذا , فلا يصح حينئذ الاستدلال بالحديث على مشروعية إحياء الليل كله , كما فعل الشيخ عبد الحي اللكنوي في (إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس بدعة) , قال (ص 13):
(فدل ذلك على أن نفي عائشة قيام الليل كله محمول على غالب أوقاته صلى الله عليه وسلم).
قلت: يشير بـ (نفي عائشة) إلى حديثها الآخر: (َلَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً يُتِمُّهَا حتى الصَّبَاحِ وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ قَطُّ) , أخرجه مسلم , وأبوداود , واللفظ له.
قلت: فهذا نص في النفي المذكور لا يقبل التأويل , وحمله على غالب الأوقات إنما يستقيم لو كان حديث الباب صريح الدلالة على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام تلك الليلة بتمامها , أما وهو ليس كذلك كما بينا , فالحمل المذكور مردود , ويبقى النفي المذكور سالماً من التقييد , وبالتالي تبقى دلالته على عدم مشروعية قيام الليل كله قائمة , خلافاً لما ذهب إليه الشيخ عبد الحي في كتابه المذكور , وفيه كثير من المؤخذات التي لا مجال لذكرها الآن , وإنما أقول: إن طابعه التساهل في سرد الروايات المؤيدة لوجهة نظره , من أحاديث مرفوعة , وأثار موقوفة , وحسبك مثالاً على هذا أنه ذهب إلى تحسين حديث (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) , تقليداً منه لبعض المتأخرين , دون أن ينظر في دعواهم: هل هي تطابق الحقيقة وتوافق القواعد العلمية؟ مع ما في التحسين المذكور من المخالفة لنصوص الأئمة المتقدمين , كما بينته في (الأحاديث الضعيفة 52) , فراجعه لتزداد بصيرة بما ذكرنا.
من أدب الطعام
71 - (كَانَ إِذَا قُرِّبَ إليهُ طَعَامٌ يقَولَ بِسْمِ اللَّهِ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَأَسْقَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وأحييتَ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ).
أقنيت , أي: ملكت المال وغيره.
وفي هذا الحديث الشريف أن التسمية في أول الطعام بلفظ (بِسْمِ اللَّهِ) , لا زيادة فيها , وكل الأحاديث التي وردت في الباب – كهذا الحديث – ليس فيها الزيادة , ولا أعلمها وردت في حديث , فهي بدعة عند الفقهاء بمعنى البدعة , وأما المقلدون , فجوابهم معروف: (شو فيها؟).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/188)
فنقول: فيها كل شئ , وهو الاستدراك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ما ترك شيئاً يقربنا إلى الله إلا أمرنا به وشرعه لنا , فلو كان ذلك مشروعاً ليس فيه شئ , لفعله ولو مرة واحدة , وهل هذه الزيادة إلا كزيادة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العاطس بعد الحمد؟ وقد أنكرها عبد الله بن عمر رضي الله عنه , كما في (مستدرك الحاكم) , وجزم السيوطي في (الحاوي للفتاوي) بأنها بدعة مذمومة , وقال ابن عابدين في (الحاشية) , بكراهيتها , فهل يستطيع المقلدون الإجابة عن السبب الذي حمل السيوطي على الجزم بذلك؟ قد يبادر بعض المغفلين منهم فيتهمه – كما هي عادتهم – بأنه وهابي , مع أن وفاته كانت قبل وفاة محمد بن عبدالوهاب بنحو ثلاث مئة سنة.
ويذكرني هذا بقصة طريفة في بعض المدارس في دمشق , فقد كان أحد الأساتذة المشهورين من النصارى يتكلم عن حركة محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية , ومحاربتها للشرك والبدع والخرافات , ويظهر أنه أطرى في ذلك , فقال بعض تلامذته: يظهر أن الأستاذ وهابي.
وقد يسارع آخرون إلى تخطئة السيوطي , ولكن , أين الدليل؟ والدليل معه , وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) , متفق عليه , وهو مخرج في (غاية المرام) , وفي الباب غيره مما سنجمعه في كتابنا الخاص بالمحدثات , والمسمى بـ (قاموس البدع) نسأل الله تعالى أن ييسر لنا إتمامه بمنه وفضله.
من مكارم الأخلاق
72 - (أحب للناس ما تحب لنفسك).
73 - (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ [مِنْ الْخَيْرِ]).
وأعلم أن هذه الزيادة [مِنْ الْخَيْرِ] زيادة هامة تحدد المعنى المراد من الحديث بدقة , إذ إن كلمة [الْخَيْرِ] كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات , لأن اسم الخير لا يتناولها كما هو واضح , فمن كمال خلق المسلم أن يحب لأخيه المسلم من الخير مثلما يحب لنفسه , وكذلك أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر , وهذا وإن لم يذكر في الحديث , فهو من مضمونه , لأن حب الشئ مستلزم لبغض نقيضه , فترك التنصيص عليه اكتفاء , كما قال الكرماني , ونقله الحافظ في (فتح الباري) وأقره.
وقد عزا هذه الزيادة بعض المخرجين للشيخين , وذلك من جهلهم بهذا العلم.
من آداب الرؤيا
119 - (لَا تَقُصُّوا الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ).
أخرجه الترمذي والدارمي عن يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (فذكره).
وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه زيادة توضح سبب هذا النهي وهو:
120 - (إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا راى أحدكم رؤيا، فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما).
والحديث صريح بأن الرؤيا تقع على مثل ما تعبر , ولذلك أرشدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن لا نقصها إلا على ناصح أو عالم , لأن المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها , فيقع على وفق ذلك , لكن مما لا ريب فيه أن ذلك مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا , ولو على وجه , وليس خطأ محضاً , وإلا , فلا تأثير له حينئذ , والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري في كتاب التعبير من صحيحه بقوله (بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ) , ثم ساق حديث الرجل الذي رأى في المنام ظلة , وعبرها أبوبكر الصديق , ثم قال: فأخبرني يارسول الله بأبي أنت , أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
121 - (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا).
وهو من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ولفظه:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/189)
(أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ بالسَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَه رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَهِ رَجُلٌ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له اعْبُرْهَا قَالَ أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بهُ رَجُلٌ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا قَالَ فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ قَالَ لَا تُقْسِمْ).
غريب الحديث:
ظلة , أي: سحابة لها ظل , وكل ما أظل من سقيفة ونحوها يسمى ظلة.
تنطف , أي: تقطر , والنطف: القطر.
يتكففون , أي: يأخذون بأكفهم.
سبب , أي: حبل.
فضل الكفاف والقناعة به
129 - (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).
وفي هذا الحديث فضل الكفاف والقناعة به , ومثله الحديث الآتي:
130 - (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا).
في هذا الحديث والذي قبله دليل على فضل الكفاف , وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك , رغبة في توفر نعيم الآخرة , وإيثاراً لما يبقى على ما يفنى , فينبغي للأمة أن تقتدي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك , وقال القرطبي: (معنى الحديث أنه طلب الكفاف , فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة , وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً , كذا في فتح الباري).
قلت: ومما لا ريب فيه أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص , والأزمان والأحوال , فينبغي للعاقل أن يحرص على تحقيق الوضع الوسط المناسب له , بحيث لا ترهقه الفاقة , ولا يسعي وراء الفضول الذي يوصله إلى التبسط والترفه , فإنه في هذه الحال قلما يسلم من عواقب جمع المال , لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه مفاتنه , وتيسرت على الأغنياء سبله , أعاذنا الله تعالى من ذلك , ورزقنا الكفاف من العيش.
التكني ممن ليس له ولد
132 - (اكْتَنِي [بابنك عبدالله – يعني: ابن الزبير] أَنْتِ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ).
أخرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ نِسَائِكَ لَهَا كُنْيَةٌ غَيْرِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره بدون الزيادة) قال: فَكَانَ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى مَاتَتْ وَلَمْ تَلِدْ قَطُّ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/190)
وفي الحديث مشروعية التكني ولو لم يكن له ولد , وهذا أدب إسلامي ليس له نظير عند الأمم الأخرى فيما أعلم , فعلى المسلمين أن يتمسكوا به رجالاً ونساء , ويدعوا ما تسرب إليهم من عادات الأعاجم مثل كـ (البيك) و (الأفندي) و (الباشا) , ونحو ذلك كـ (المسيو) , أو (السيد) , و (السيدة) , و (الآنسة) , إذ كل ذلك دخيل في الإسلام , وقد نص فقهاء الحنفية على كراهية (الأفندي) , لما فيه من التزكية , كما في (حاشية ابن عابدين) , والسيد إنما يطلق على من كان له نوع ولاية ورياسة , وفي ذلك جاء حديث (قوموا إلى سيدكم) , وقد تقدم برقم – 66 - ولا يطلق على كل أحد لأنه من باب التزكية أيضاً.
فائدة: وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها , أنها أسقطت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطاً فسماه عبدالله , وكناها به , فهو باطل سنداً ومتناً , وبيانه في المجلد التاسع من الضعيفة.
من حقوق الجار
149 - (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه).
وفي الحديث دليل واضح على أنه يحرم على الجار الغني أن يدع جيرانه جائعين , فيجب عليه أن يقدم إليهم ما يدفعون به الجوع , وكذلك ما يكتسون به إن كانوا عراة , ونحو ذلك من الضروريات.
ففي الحديث إشارة إلى أن في المال حقاً سوى الزكاة , فلا يظنن الأغنياء أنهم قد برئت ذمتهم بإخراجهم زكاة أموالهم سنوياً , بل عليهم حقوق أخرى لظروف وحالات طارئة , من الواجب عليهم القيام بها , وإلا دخلوا في وعيد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة 34 - 35.
النهي عن التقبيل عند اللقاء
160 - (لا و لكن تصافحوا يعني: لا ينحني لصديقه. . . ولا يقبله حين يلقاه).
رواه الترمذي , وابن ماجه , والبيهقي , وأحمد من طريق حَنْظَلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يَلْقَى صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا قَالَ فَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ إِنْ شَاءَ).
إذا عرفت ذلك , ففيه رد على بعض المعاصرين من المشتغلين بالحديث من ذوي الأهواء والطرق , وهو الشيخ عبدالله بن محمد الصديق الغماري , فقد ألف جزءاً صغيراً أسماه (إعلام النبيل بجواز التقبيل) , حشد فيه كل ما وقف عليه من أحاديث التقبيل – ما صح منها وما لم يصح - , ثم أورد هذا الحديث وضعفه بحنظلة , ولعله لم يقف على هذه المتابعات التي تشهد له , ثم تأويله بحمله على ما إذا كان الباعث على التقبيل مصلحة دنيوية , كغنى أو جاه أو رياسة مثلاً , وهذا تأويل باطل , لأن الصحابة الذين سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التقبيل , لا يعنون به قطعاً التقبيل المزعوم , بل تقبيل تحية , كما سألوه عن الانحناء والمصافحة , فكل ذلك إنما عنوا به التحية , فلم يسمح لهم من ذلك بشئ إلا المصافحة , فهل هي المصافحة لمصلحة , دنيوية؟ اللهم لا.
فالحق أن الحديث نص صريح على عدم مشروعية التقبيل عند اللقاء, ولا يدخل في ذلك تقبيل الأولاد والزوجات , كما هو ظاهر , وأما الأحاديث التي فيها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعض الصحابة في وقائع مختلفة , مثل تقبيله واعتناقه لزيد بن حارثة عند قدومه المدينة , واعتناقه لأبي الهيثم بن التيهان , وغيرهما , فالجواب عنها من وجوه:
الأول: أنها أحاديث معلولة لا تقوم بها حجة , ولعلنا نتفرغ للكلام عليها وبيان عللها إن شاء الله تعالى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/191)
الثاني: أنه لو صح شئ منها , لم يجز أن يعارض بها هذا الحديث الصحيح , لأنها فعل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل الخصوصية أو غيرها من الاحتمالات التي توهن الاحتجاج بها , على خلاف هذا الحديث , لأنه حديث قولي وخطاب عام موجه إلى الأمة , فهو حجة عليها , لما تقرر في علم الأصول أن القول مقدم على الفعل عند التعارض , والحاظر مقدم على المبيح , وهذا الحديث قول وحاظر , فهو المقدم على الأحاديث المذكورة لو صحت.
وأما الالتزام والمعانقة , فما دام أنه لم يثبت النهي عنه في الحديث كما تقدم , فالواجب حينئذ البقاء على الأصل وهو الإباحة , وبخاصة أنه قد تأيد ببعض الأحاديث والآثار فقال أنس: (كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تلاقوا , تصافحوا , وإذا قدموا من سفر , تعانقوا).
وروى البخاري في الأدب المفرد , وأحمد , عن جابر بن عبدالله قال: (بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ نَعَمْ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ) الحديث , وإسناده حسن.
وصح التزام ابن التيهان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حديقته , كما في مختصر الشمائل.
وأما تقبيل اليد ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة , يدل مجموعها على ثبوت ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف , فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط الآتية:
1 - أن لا يتخذ عادة بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته , ويتطبع هؤلاء على التبرك بذلك , فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قبلت يده , فإنما كان ذلك على الندرة , وما كان كذلك , فلا يجوز أن يجعل سنة مستمرة , كما هو معلوم من القواعد الفقهية.
2 - أن لا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره ورؤيته لنفسه ,كما هو الواقع مع بعض المشائخ اليوم.
3 - أن لا يؤدي ذلك إلى تعطيل سنة معلومة , كسنة المصافحة , فإنها مشروعة بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله , وهي سبب شرعي لتساقط ذنوب المتصافحين ,كما روي في غيرما حديث واحد , فلا يجوز إلغاؤها من أجل أمر أحسن أحواله أنه جائز.
توحيد الموازين
165 - (الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (تأملنا هذا الحديث , فوجدنا مكة لم يكن بها ثمرة ولا زرع حينئذ , وكذلك كانت قبل ذلك الزمان ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) إبراهيم 37 , وإنما كانت بلد متجر , يوافي الحاج إليها بتجارات فيبيعونها هناك , وكانت المدينة بخلاف ذلك , لأنها دار النخل , ومن ثمارها حياتهم , وكانت الصدقات تدخلها , فيكون الواجب فيها من صدقة تؤخذ كيلاً , فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمصار كلها لهذين المصرين أتباعاً , وكان الناس يحتاجون إلى الوزن في أثمان ما يبتاعون , وفيما سواها مما يتصرفون فيه من العروض ومن أداء الزكوات وما سوى ذلك مما يستعملونه , فيما يسلمونه فيه من غيره من الأشياء التي يكيلونها , وكانت السنة قد منعت من إسلام موزون في موزون , ومن إسلام مكيل في مكيل , وأجازت إسلام المكيل في موزون , والموزون في مكيل , ومنعت من بيع الموزون بلموزون , إلا مثلاً بمثل , ومن بيع المكيل بالمكيل , إلا مثلاً بمثل , وكان الوزن في ذلك أصله مكان عليه كان بمكة , والمكيال مكيال أهل المدينة , لا يتغير عن ذلك , وإن غيره الناس عما كان عليه إلى ما سواه من ضده , فيرحبون بذلك إلى معرفة الأشياء المكيلات التي لها حكم المكيال إلى ماكان عليه أهل المكاييل فيها يومئذ , وفي الأشياء الموزونات إلى ماكان عليه أهل الميزان يومئذ , وأن أحكامها لا تتغير عن ذلك ولا تنقلب عنها إلى أضدادها).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/192)
قلت: ومن ذلك يتبين لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أول من وضع أصل توحيد الموازين والمكاييل , ووجه المسلمين إلى الرجوع في ذلك إلى أهل هذين البلدين المفضلين: مكة المكرمة والمدينة المنورة.
فليتأمل العاقل هذا , ولينظر حال المسلمين اليوم واختلافهم في مكاييلهم وموازينهم , على أنواع شتى , بسبب هجرهم لهذا التوجيه النبوي الكريم , ولما شعر بعض المسؤولين في بعض الدول العربية المسلمة بسوء هذا الاختلاف , اقترح البعض عليهم توحيد ذلك وغيره كالمقاييس بالرجوع إلى عرف الكفار فيها , فوا أسفاه , لقد كنا سادة وقادة لغيرنا بعلمنا وتمسكنا بشريعتنا , وإذا بنا اليوم أتباع ومقلدون , ولمن؟ لمن كانوا في الأمس القريب يقلدوننا , ويأخذون العلوم عنا , ولكن لا بد لهذا الليل من أن ينجلي , ولا بد للشمس أن تشرق مرة أخرى , وها قد لا حت تباشير الصبح , وأخذت بعض الدول الإسلامية تعتمد على نفسها في كل شؤون حياتها , بعد أن كانت فيها عالة على غيرها , ولعلها تسير في ذلك على هدي كتاب ربها وسنة نبيها , ولله في خلقه شؤون.
التحذير من ترك كلمة الحق
168 - (لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ [أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ]).
وفي هذا الحديث: النهي المؤكد عن كتمان الحق خوفاً من الناس , أو طمعاً في المعاش , فكل من كتمه مخافة إيذائهم إياه بنوع من أنواع الإيذاء , كالضرب والشتم وقطع الرزق , أو مخافة عدم احترامهم إياه , ونحو ذلك , فهو داخل في النهي ومخالف للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا كان هذا حال من يكتم الحق وهو يعلمه , فكيف يكون حال من لا يكتفي بذلك , بل يشهد بالباطل على المسلمين الأبرياء , ويتهمهم في دينهم وعقيدتهم , مسايرة منه للرعاع , أو مخافة أن يتهموه هو أيضاً بالباطل إذا لم يسايرهم على ضلالهم واتهامهم؟ فاللهم ثبتنا على الحق , وإذا أردت بعبادك فتنة , فاقبضنا إليك غير مفتونين.
من أدب المجالسة والمباحثة
170 - (إِذَا قُلْتَ لِلنَّاسِ أَنْصِتُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فَقَدْ أَلْغَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ [يعني: يوم الجمعة]).
رواه الإمام أحمد , ثنا عبد الرزاق بن همام , ثنا معمر بن همام عن بي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
قلت: فذكر أحاديث كثيرة هذا أحداها. وهذا سند صحيح علي شرط الشيخين وقد أخرجاه في الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب , فقد لغوت).
أَلْغَيْتَ ,أي: قلت اللغو وما لا يحسن من الكلام , قال الراغب الأصبهاني في المفردات: (اللغو من الكلام ما لا يعتد به , وهو الذي يورد لا عن روية فكر , فيجري مجرى اللغا , وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور , قال أبو عبيدة: لغو ولغا , نحو عيب وعاب , وأنشدهم: عن اللغا ورفث التكلم , يقال: لغيت تلغى , نحو , لقيت تلقى , وقد يسمى كل كلام قبيح لغواً).
قلت: وفي الحديث التحذير من الإخلال بأدب رفيع من آداب الحديث والمجالسة , وهو أن لا يقطع على الناس كلامهم , بل ينصت هو حتى ينتهي كلامهم , وإن كان كبير القوم , ثم يتكلم هو بدوره إن شاء ,فذلك أدعى إلى حصول الفائدة من الكلام المتبادل بين الطرفين , لا سيما إذا كان في بحث علمي شرعي , وقد أخل – مع الأسف – بهذا الأدب أكثر المتباحثين , فإليه نلفت أنظارهم , أدبنا الله تعالى جميعاً بأدب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم وقفت على الحديث في صحيفة همام بن منبه التي يرويها الحافظ الثقة أحمد بن يوسف السلمي (رقم 120) حدثنا عبدالرازاق به , وزاد ما استدركته في هذه الطبعة وجعلته بين المعكوفتين في متن الحديث , وكذلك هي في مصنف عبدالرزاق (3/ 223/5418) من كتاب الجمعة , وهي من رواية الدبري عنه وفيها كلام , فالعمدة على رواية السلمي عنه.
وحينئذ , فالحديث لا علاقة له بما كنا عنوناً عنه , بل هو كحديث سعيد بن المسيب وغيره عن أبي هريرة , فاقتضى التنبيه , والله أعلم.
الصحة خير من الغنى
174 - (لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/193)
أخرجه ابن ماجه , والحاكم , وأحمد من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بن أبي سلمة أنه سمع مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍفقال له بعضنا نَرَاكَ اليوم طَيِّبَ النَّفْسِ فقَالَ أَجَلْ الحمد لله ثُمَّ أفاض الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ).
الشراب قائماً
175 - (لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا).
وقد ورد الحديث بلفظ آخر , وهو:
176 - (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لَاسْتَقَاءَهُ).
وفي الحديث تلميح لطيف إلى النهي عن الشرب قائماً , وقد جاء التصريح بذلك من حديث أنس رضي الله عنه , وهو:
177 - (نَهَى [وفي لفظ زَجَرَ] عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا).
وظاهر النهي في هذه الأحاديث يفيد تحريم الشراب قائماً بلا عذر , وقد جاءت أحاديث كثيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب قائماً , فاختلف العلماء في التوفيق بينهما , والجمهور على أن النهي للتنزيه , والأمر بالاستقاء للاستحباب , وخالفهم ابن حزم , فذهب إلى التحريم , ولعل هذا هو الأقرب للصواب , فإن القول بالتنزيه لا يساعد عليه لفظ (زجر) , ولا الأمر بالاستقاء , لأنه – أعني: الاستقاء – فيه مشقة شديدة على الإنسان , وما أعلم أن في الشريعة مثل هذا التكليف كجزاء لمن تساهل بأمر مستحب , وكذلك قوله (قد شرب معك الشيطان) فيه تنفير شديد عن الشرب قائماً , وما إخال ذلك يقال في ترك مستحب.
وأحاديث الشرب قائماً يمكن أن تحمل على العذر , كضيق المكان , أو كون القربة معلقة , وفي بعض الأحاديث الإشارة إلى ذلك , والله أعلم.
ثم رأيت كلاماً جيداً لابن تيمية يشبه هذا , فراجعه في المجموع.
من آداب زيارة الإخوان
182 - (إذا زار أحدكم أخاه، فجلس عنده؛ فلا يقومن حتى يستأذنه).
وفي الحديث تنبيه على أدب رفيع , وهو أن الزائر لا ينبغي أن يقوم إلا بعد أن يستأذن المزور , وقد أخل بهذا التوجيه النبوي الكريم كثير من الناس في بعض البلاد العربية فتجدهم يخرجون من المجلس دون استئذان , وليس هذا فقط , بل وبدون سلام أيضاً , وهذه مخالفة أخرى لأدب إسلامي آخر , أفاده الحديث الآتي:
183 - (إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ).
والسلام عند القيام من المجلس أدب متروك في بعض البلاد , وأحق من يقوم بإحيائه هم أهل العلم وطلابه , فينبغي لهم إذا دخلوا على الطلاب في غرفة الدرس مثلاً أن يسلموا , وكذلك إذا خرجوا , فليست الأول بأحق من الأخرى , وذلك من إفشاء السلام المأمور به في الحديث الآتي:
184 - (إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم).
والأحاديث في الأمر بإفشاء السلام كثيرة صحيحة , وبعضها في الصحيح , وقد اخترت منها هذا الحديث للكلام عليه , لأنه ليس في الصحيح , مع أن إسناده صحيح , وله تلك الشواهد , فأحببت أن أبين ذلك.
إذا عرفت هذا فينبغي أن تعلم أن إفشاء السلام المأمور به دائرته واسعة جداً ضيقها بعض الناس جهلاً بالسنة , أو تهاملاً في العمل بها.
فمن ذلك السلام على المصلي فأن كثيراً من الناس يظنون أنه غير مشروع , بل صرح النووي في " الأذكار " بكرهته , مع أنه صرح في " شرح مسلم ": (أنه يستحب رد السلام بالإشارة)، وهو سنة , فقد جاءت أحاديث كثيرة في سلام الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأقرهم على ذلك، ورد عليهم السلام، فأنا أذكر هنا حديثاً واحداً منها، وهو حديث ابن عمر قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/194)
185 - (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ فَقُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ يَقُولُ هَكَذَا وَبَسَطَ كَفَّهُ وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ).
وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه , فقال المروزي في المسائل: (قلت: - يعني لأحمد -: يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم , فذكر قصة بلال حين سأله ابن عمر: كيف كان يرد؟ قال: كان يشير , قال إسحاق: كما قال).
واختار هذا بعض محققي المالكية , فقال القاضي أبوبكر بن العربي في العارضة: (قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة , وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي , فإن كانت لرد السلام , ففيها الآثار الصحيحة , كفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قباء وغيره , وقد كنت في مجلس الطرطوشي , وتذاكرنا المسألة , وقلنا الحديث , واحتججنا به , وعامي في آخر الحلقة , فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهياً لئلا يشغلوه , فعجبنا من فقهه , ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب , على حسب ما بيناه في أصول الفقه).
ومن العجب أن النووي بعد أن صرح في الأذكار بكراهة السلام على المصلي قال ما نصه: (والمستحب أن يرد عليه في الصلاة بالإشارة , ولا يتلفظ بشئ).
أقول: ووجه التعجب أن استحباب الرد منه , يستلزم استحباب السلام عليه , والعكس بالعكس , لأن دليل الأمرين واحد , وهو هذا الحديث وما في معناه , فإذا كان يدل على استحباب الرد , فهو في الوقت نفسه يدل على استحباب الإلقاء , فلو كان هذا مكروهاً , لبينه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ولو بعدم الإشارة بالرد , لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , وهذا بين ظاهر , والحمد لله.
ومن ذلك أيضاً السلام على المؤذن وقارئ القرآن , فإنه مشروع , والحجة ما تقدم , فإنه إذا ثبت استحباب السلام على المصلي , فالسلام على المؤذن والقائ أولى وأحرى , وأذكر أنني كنت قرأت في المسند حديثاً فيه سلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جماعة يتلون القرآن وكنت أود أن أذكره بهذه المناسبة وأتكلم على إسناده , ولكنه لم يتيسر لي الآن.
وهل يردان السلام باللفظ أم بالإشارة؟ الظاهر الأول , قال النووي: (وأما المؤذن , فلا يكره له رد الجواب بلفظ المعتاد , لأن ذلك يسير , لا يبطل الأذان ولا يخل به).
ومن ذلك تكرار السلام بعد حصول المفارقة , ولو بعد مدة يسيرة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
186 - (إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا).
وقد ثبت أن الصحابة كانوا يفعلون بمقتضى هذا الحديث الصحيح , فروى البخاري في "الأدب"عن أنس بن مالك: (أن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يكونون , فتستقبلهم الشجرة , فتنطلق طائفة منهم عن يمينها وطائفة عن شمالها , فإذا التقوا , سلم بعضهم على بعض).
ويشهد له حديث المسئ صلاته المشهور عن أبي هريرة: (إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد فدخل رجل فصلى , ثم جاء فسلم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام , قال: ارجع فصل فإنك لم تصل , فرجع الرجل فصلى كما كان صلى , ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه [فعل ذلك ثلاث مرات]) , أخرجه الشيخان وغيرهما , وبه استدل صديق حسن خان في نزل الأبرار على أنه: (إذا سلم عليه إنسان , ثم لقيه على قرب , يسن له أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/195)
وفيه دليل أيضاً على مشروعية السلام على من في المسجد , وقد دل على ذلك حديث سلام الأنصار على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد قباء كما تقدم.
ومع هذا كله نجد بعض المتعصبين لا يعبؤون بهذه السنة , فيدخل أحدهم المسجد ولا يسلم على من فيه , زاعمين أنه مكروه , فلعل فيما كتبناه ذكرى لهم ولغيرهم , والذكرى تنفع المؤمنين.
تعلم لغة الأجانب وكتابتهم
187 - (تعلم كتاب اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابنا).
رواه أبوداود , والترمذي , والحاكم , وأحمد , والفاكهي , واللفظ له , كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة , أتي بي إليه , فقرأت عليه , فقال لي: (فذكره) , قال: فما مر بي خمس عشرة , حتى تعلمته , فكنت أكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأقرأ كتبهم إليه.
قلت: وهذا الحديث في معنى الحديث المتداول على الألسنة: (من تعلم لسان قوم , أمن من مكرهم) , ولكن لا أعلم له أصلاً بهذا اللفظ , ولا ذكره أحد ممن ألف في الأحاديث المشتهرة على الألسنة , فكأنه إنما اشتهر في الأزمنة المتأخرة.
تغييره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأسماء القبيحة
207 _ (كان يغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن).
208 - (كان إذا سمع اسما قبيحا؛ غيره، فمر على قرية يقال لها: عفرة فسماها خضرة).
209 - (كان إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه؛ حوله).
هذه بعض الأسماء التي غيرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في الأحاديث الصحيحة: برة , عاصية , حزن , شهاب , جثامة.
وإليك بعض الأحاديث في ذلك:
210 - (لا تزكوا أنفسكم؛ فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سميها زينب).
211 - (كان اسم زينب برة [فقيل: تزكي نفسها]، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب).
212 - (كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة).
213 - (أنت جميلة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية، وقال: أنت جميلة).
214 - (أنت سهل).
215 - (بل أنت هشام).
216 - (بل أنت حسانة المزنية).
قال الطبري: (لا ينبغي التسمية باسم قبيح المعنى , ولا باسم يقتضي التزكية له , ولا باسم معناه السب , ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص , لا يقصد بها حقيقة الصفة , لكن وجه الكراهة أن يسمع بالاسم , فيظن أنه صفة للمسمى , فلذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحول الاسم إلى ما إذا دعي به صاحبه , كان صدقاً).
قال: (وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسماء) ذكره في الفتح.
قلت: وعلى ذلك , فلا يجوز التسمية بـ[عز الدين] و [محيي الدين] و [ناصر الدين] .... ونحو ذلك , ومن أقبح الأسماء التي راجت في العصر , ويجب المبادرة إلى تغييرها لقبح معانيها , هذه الأسماء التي أخذ الآباء يطلقونها على بناتهم , مثل [وصال] و [سهام] و [نهاد: وهي المرأة إذا كعب ثديها و وارتفع عن الصدر , صارله حجم] و [غادة: وهي المرأة الناعمة اللينة البينة الغيد] و [فتنة] .. ونحو ذلك , والله المستعان.
تحريم البصق إلى القبلة
222 - (مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وتَفْلتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ).
وللحديث شاهد بلفظ:
223 - (يجيء صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه).
وفي الحديث دلالة على تحريم البصاق إلى القبلة مطلقاً , سواء ذلك في المسجد أو غيره , وعلى المصلي وغيره , كما قال الصنعاني في سبل السلام قال: (وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها , وفي المسجد أو غيره).
قلت: وهو الصواب.
والأحاديث الواردة في النهي عن البصق في الصلاة تجاه القبلة كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما , وإنما آثرت هذا دون غيره , لعزته , وقلة من أحاط علمه به , ولأن فيه أداباً رفيعاً مع الكعبة المشرفة , طالما غفل عنه كثير من الخاصة فضلاً عن العامة , فكم رأيت في أئمة المساجد من يبصق إلى القبلة من نافذة المسجد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/196)
وفي الحديث أيضاً فائدة هامة , وهي الإشارة إلى إن النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط إنما هو مطلق , يشمل الصحراء والبنيان , لأنه إذا أفاد الحديث أن البصق تجاه القبلة لا يجوز مطلقاً فالبول والغائط مستقبلاً لها لا يجوز بالأولى , فمن العجائب إطلاق النووي النهي في البصق , وتخصيصه في البول والغائط (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق 37
تحريم مصافحة النساء
226 - (لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له , ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء , لأن ذلك مما يشمله المس دون شك , وقد بلي بها كثير من المسلمين في هذا العصر , وفيهم بعض أهل العلم , ولو أنهم استنكروا ذلك بقلوبهم , لهان الخطب بعض الشيء , ولكنهم يستحلون ذلك بشتى الطرق و التأويلات , وقد بلغنا أن شخصية كبيرة جداً في الأزهر قد رآه بعضهم يصافح النساء , فإلى الله المشتكى من غربة الإسلام.
بل إن بعض الأحزاب الإسلامية قد ذهبت إلى القول بجواز المصافحة المذكورة , وفرضت على كل حزبي تبنيه , واحتجت لذلك بما لا يصلح , معرضة عن الاعتبار بهذا الحديث والأحاديث الأخرى الصريحة في عدم مشروعية المصافحة.
ليس من الآداب الإسلامية أن يقوم الرجل عن مجلسه ليجلس فيه غيره
228 - (لَا يَقُومُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَكِنْ أَفْسِحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ).
وللحديث شاهدان ذكرهما الحافظ في الفتح , وفاته هذا الحديث المشهود له , فقال تعليقاً على قول البخاري: (وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه) , قال: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه , لم يجلس فيه) وكذا أخرجه مسلم.وعن ابن عمر قال: (لايقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يقعد فيه).
والحديث ظاهر الدلالة على أنه ليس من الآداب الإسلامية أن يقوم الرجل عن مجلسه ليجلس فيه غيره , يفعل ذلك احتراماًَ له , بل عليه أن يفسح له في المجلس وأن يتزحزح له إذا كان الجلوس على الأرض , بخلاف ما إذا كان على الكرسي , فذلك غير ممكن , فالقيام والحالة هذه مخالف لهذا التوجيه النبوي الكريم , ولذلك كان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه , ثم يجلس هو فيه كما تقدم عن البخاري , والكراهة هو أقل ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقُومُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ... ) , فإنه نفي بمعني النهي , والأصل فيه التحريم لا الكراهة , والله اعلم.
ثم إنه لا منافاة بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر المتقدم- (لايقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يقعد فيه) - في الصحيح , لأن فيه زيادة حكم عليه , والأصل أنه يؤخذ بالزائدة فالزائدة من الأحكام , وحديث ابن عمر إنما فيه النهي عن الإقامة , وليس فيه نهي الرجل عن القيام , بخلاف هذا الحديث , ففيه هذا النهي , وليس فيه النهي الأول إلا ضمناً , فإنه إذا كان قد نهي عن القيام , فلأن ينهى عن الإقامة من باب أولى , وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى , وعليه يدل حديث ابن عمر , فإنه مع إنه روى النهي عن الإقامة , كان يكره الجلوس في مجلس من قام عنه له , وإن كان هو لم يقمه , ولعل ذلك سداً للذريعة وخشية أن يوحى إلى الجالس بالقيام , ولو لم يقمه مباشرة , والله أعلم.
من أدب المجلس
330 - (كُنَّا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي).
وفي الحديث تنبيه على آداب المجالس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالما أهمله الناس اليوم حتى أهل العلم , وهو أن الرجل إذا دخل المجلس , يجلس فيه حيث ينتهي به المجلس , ولو عند عتبة الباب , فإذا وجد مثله , فعليه أن يجلس فيه ولا يترقب أن يقوم له بعض أهل المجلس من مجلسه , كما يفعل بعض المتكبرين من الرؤساء , والمتعجرفين من المتمشيخين , فإن هذا منهي عنه صراحة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا) , أخرجه مسلم , وزاد في رواية: (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/197)
مجلسه , لم يجلس فيه).
بل ثبت نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل أن يقوم للرجل من مجلسه كما تقدم فنتبه.
يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه
336 - (لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا).
ورد هذا الحديث عن جماعة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , منهم أبوهريرة , وعبدالله بن عمر , وسعد بن أبي وقاص , وأبو سعيد الخدري , وعمر , وغيرهم.
1 - أما حديث أبي هريرة , فأخرجه البخاري , وفي" الأداب المفرد " , ومسلم , وأبوداود , والترمذي , وابن ماجه , والطحاوي , وأحمد من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عنه , وقد صرح الأعمش بالتحديث في رواية البخاري.
2 - وأما حديث ابن عمر , فأخرجه البخاري في صحيحه , وفي "الأداب المفرد " , والدارمي , وأحمد عن حنظلة عن سالم عنه.
3 - وأما حديث سعد بن أبي وقاص , فأخرجه مسلم , والترمذي , وابن ماجه , وأحمد , وأبو يعلى , وأبو عبيدالقاسم من طرق عن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن محمد بن سعد عن سعد به.
4 - وأما حديث أبي سعيد , فأخرجه مسلم , وأحمد من لَيْثٌ عَنِ ابْنِ الْهَادِ عَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عنه به قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا الشَّيْطَانَ أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا.
5 - وأما حديث عمر فأخرجه الطحاوي من طريق خلاد بن يحيى قال: ثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن حريث عن عمر بن الخطاب به , وهذا إسناده صحيح على شرط البخاري.
وفي الباب عن جماعة آحرين من الصحابة , خرج أحاديثهم الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد , فمن شاء الاطلاع عليها فليرجع إليه.
قلت: وكل هذه الأحاديث عن هؤلاء الصحابة موافقة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه , وذلك مما يدل على صدقه وحفظه.
وقد كتبت هذا التحقيق رداً على بعض الشيعة والمتشيعين من المعاصرين الذين يطعنون في أبي هريرة رضي الله عنه أشد الطعن , وينسبونه إلى الكذب على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والافتراء عليه – حاشاه من ذلك – فقد زعم أبوريا من أذنابهم – عاملهم الله بما يستحقون – أن أباهريرة رضي الله عنه لم يحفظ الحديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما نطق به , وزعم أن في آخره زيادة لم يذكرها أبوهريرة , وهي: " هجيت به " , وأن عائشة ححفظت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وردت به على أبي هريرة , وكل ذلك مما لا يصح إسناده , كما بينته في " سلسلة الأحاديث الضعيفة 1111 ".
ونحن , وإن كنا لا ننكر جواز وقوع النسيان من أبي هريرة – على حفظه – لأنه ليس معصوماً , ولكننا ننكر أشد الإنكار نسبته إلى النسيان – بل الكذب – لمجرد الدعوى وسوء الظن به , وهذا هو المثال بين أيدينا , فإذا كان جائزاً كما ذكرنا أن يكون أبوهريرة لم يحفظ تلك الزيادة المزعومة , فهل يجوز أن لا يحفظها أيضاً أولئك الجماعة من أصحابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
على أن هذا الحديث في سياقه ما يدل على بطلان تلك الزيادة من حيث المعنى , فإنه لم يذم الشعر مطلقاً , وإنما الإكثار منه , وإذا كان كذلك , فقوله " هجيت به " يعطي أن القليل من الشعر الذي فيه هجاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جائز , وهذا باطل , وما لزم منه باطل , فهو باطل.
جاء في " فيض القدير ": (وقال النووي: هذا الحديث محمول على التجرد للشعر , بحيث يغلب عليه , فيشغله عن القرآن والذكر , وقال القرطبي: من غلب عليه الشعر , لزمه بحكم العادة الأدبية الأوصاف المذمومة , وعليه يحمل الحديث , وقول بعضهم: عنى به الشعر الذي هجي به هو أو غيره , رد بأن هجوه كفر كثر أو قل , وهجو غيره حرام وإن قل فلا يكون لتخصيص الذم بالكثرة معنى).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/198)
وما ذكره من النهي هو الذي ترجم به البخاري في صحيحه للحديث , فقال: (بَاب مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه).
وتقدمه إلى ذلك الإمام أبوعبيد القاسم بن سلام , فقال بعد أن ذكر قول البعض المشار إليه: (والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول , لأن الذي هجي به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان شطر بيت , لكان كفراً , فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص في القليل منه , ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرأن وعن ذكر الله , فيكون الغالب عليه , فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه , فليس جوفه ممتلئاً).
تحريم لبس الذهب والحرير
337 – (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر , فلا يلبس حريراً ولا ذهباً).
وفي الحديث دلالة بينة على تحريم الذهب والحرير , وهو بعمومه يشمل النساء مع الرجال , إلا أنه قد جاءت أحاديث تدل على أن النساء مستثنيات من التحريم , كالحديث المشهور: (هَذَان حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي , حل لإناثها).
إلا أن هذا ليس على عمومه , فقد جاءت أحاديث صحيحة تحرم على النساء جنساً معيناً من الذهب , وهو ما كان طوقاً أو سواراً أو حلقة , وكذلك حرم عليهن الأكل والشراب في آنية الذهب كالرجال , راجع الأدلة في " آداب الزفاف ".
فبقي الحرير وحده مباحاً لهن إباحة مطلقة , لم يستثن منه شئ.
نعم , قد استثني من جنس المباح لهن أمهات المؤمنين , فقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه منع أهله منه , كما في الحديث الآتي:
338 - (كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ وَيَقُولُ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا).
قال السندي في " حاشية على النسائي: (وقوله: " أهل الحلية " , بكسر فسكون , الظاهر أنه يمنع أزواجه الحلية مطلقاً سواء كان من ذهب أو فضة , ولعل ذلك مخصوص بهم , ليؤثروا الآخرة على الدنيا , وكذا الحرير , ويحتمل أن المراد بـ" الأهل " الرجال من أهل البيت , فالأمر واضح).
قلت: هذا الاحتمال بعيد غير متبادر , فالاعتماد على ما ذكره أولاً , والله أعلم.
وأقول: فهذا الحديث يدل على مثل ما دل عليه الحديث المشهور الذي سبق آنفاً من إباحة الحرير لسائر النساء , إلا أنه قد يقال: إن الأولى بهن الرغية عنه وعن الحلية مطلقاً تشبهاً بنسائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لا سيما وقد ثبت عنه أنه قال:
339 - (ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر).
نقل المناوي في معنى الحديث عن " مسند الفردوس ":
(يعني: يتحلين بحلي الذهب , ويلبسن الثياب المزعفرة , ويتبرجن متعطرات متبخترات – كأكثر نساء زمننا – فيفتن بهن).
سبب النهي عن المشي في نعل واحدة
348 - (إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة).
أخرجه الطحاوي عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (فذكره).
وهذا الحديث في " الصحيحين " , وغيرهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج به بلفظ: (لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا او ليخلعهما جميعاً) , وله شاهد من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: (لَا تَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ) , أخرجه مسلم , وأحمد , وغيرهما.
قلت: فالحديث في النهي عن المشي في نعل واحدة صحيح مشهور , وإنما خرجت حديث الطحاوي هذا لتضمنه علة النهي , فهو يرجح قولاً واحداً من الأقوال التي قيلت في تحديدها , فجاء في الفتح: (قال الخطابي: الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه , فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى فيخرج بذلك عن سجية مشيه , ولا يأمن مع ذلك من العثار. وقيل: لأنه لم يعدل بين جوارحه , وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه. وقال ابن العربي: قيل العلة فيها أنها مشية الشيطان , وقيل: لأنها خارجة عن الاعتدال. وقال البيهقي: الكراهة فيه للشهرة فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه. وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس. فكل شيء صير صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/199)
فأقول: الصحيح من هذه الأقوال هو الذي حكاه ابن العربي: أنها مشية الشيطان , وتصدره إياه بقوله " قيل " , مما يشعر بتضعيفه , وذلك معناه أنه لم يقف على هذا الحديث الصحيح المؤيد لهذا الـ" قيل " , ولو وقف عليه , لما وسعه إلا الجزم به , وكذلك سكوت الحافظ عليه يشعرنا أنه لم يقف عليه أيضاً , وإلا لذكره على طريقته في جمع الأحاديث , وذكر أطرافها المناسبة للباب , لا سيما وليس في تعيين العلة وتحديدها سواه.
فخذها فائدة نفيسة عزيزة ربما لا تراها في غير هذا المكان , يعود الفضل فيها إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي , فهو الذي حفظها لنا بإسناد صحيح في كتابه دون عشرات الكتب الأخرى لغيره.
تنبيه: أما الحديث الذي رواه ليث عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: (ربما مشى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نعل واحدة) , فهو ضعيف لا يحتج به.
فإذا عرفت هذا , فلا يجوز معارضة حديث الباب بهذا الحديث الواهي , كما فعل بعض أهل الجهل بالآثار , فيما ذكره الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى , وبخاصة أنه رواه سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم به عن عائشة موقوفاً عليها , وهذا أصح كما قال الترمذي.
تحريم الصورة واقتناء الكلب لأنهما سبب لمنع دخول الملائكة
356 - (أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَتَيْتُكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَدْخُلَ عَلَيْكَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالُ رَجُلٍ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ يُقْطَعْ فَيُصَيَّرَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ وَمُرْ بِالسِّتْرِ يُقْطَعْ [وفي رواية إن في البيت ستراً في الحائط فيه تمثال فاقطعوا رؤوسها فجعلوها بساطاً او وسائد فأوطئوه , فإنا لا ندخل بيتاً فيه تمثال] , فَيُجْعَلَ مِنْهُ وِسَادَتَانِ تُوطَآَنِ وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجَ فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا الْكَلْبُ جَرْوٌ كَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَام تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمَا قَالَ وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَوْ رَأَيْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه).
أخرجه أحمد والسياق له , وأبو داود , والترمذي , وابن حبان من طريق يُونُسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
فقه الحديث:
الأول: تحريم الصورة , لأنها سبب لمنع دخول الملائكة , والأحاديث في تحريمها أشهر من أن تذكر.
الثاني: أن التحريم يشمل الصورة التي ليست مجسمة ولا ظل لها , لعموم قول جبريل عليه السلام: (فإنا لا ندخل بيتاً فيه تماثيل) , وهي الصور , ويؤيده أن التماثيل التي كانت على القرام لا ظل لها , ولا فرق في ذلك بين ما كان منه تطريزاً على الثوب أو كتابة على الورق أو رسماً بالآلة الفوتوغرافية , إذ كل ذلك صورة وتصوير , والتفريق بين التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي – فيحرم الأول دون الثاني – ظاهرية عصرية , وجمود لا يحمد , كما حققته في " آداب الزفاف ".
الثالث: أن التحريم يشمل الصورة التي توطأ أيضاً إذا تركت على حالها ولم تغير بالقطع , وهو الذي مال إليه الحافظ في " الفتح ".
الرابع: أن قوله: (حتي تصير كهيئة الشجرة) , دليل على أن التغيير الذي يحل به استعمال الصورة , إنما هو الذي يأتي على معالم الصورة , فيغيرها حتى تصير على هيئة أخرى مباحة كالشجرة.
وعليه , فلا يجوز استعمال الصورة , ولو كانت بحيث لا تعيش لو كانت حية كما يقول بعض الفقهاء , لأنها في هذه الحالة لا تزال صورة اسماً وحقيقة , مثل الصورة النصفية وأمثالها , فاعلم هذا , فإنه مما يهم المسلم معرفته في هذا العصر الذي انتشرت فيه الصور وعمت وطمت , وأن شئت زيادة التحقيق في هذا فراجع المصدر السابق (ص 111 – 112).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/200)
الخامس: فيه إشارة إلى أن الصورة إذا كانت من الجمادات , فهي جائزة , ولا تمنع من دخول الملائكة , لقوله: (كهيئة الشجرة) , فإنه لو كان تصوير الشجرة حراماً كتصوير ذوات الأرواح , لم يأمر جبريل عليه السلام بتغييرها إلى صورة شجرة , وهذا ظاهر , ويؤيده حديث ابن عباس رضي الله عنه: (وإن كنت لا بد فاعلاً , فاصنع الشجرة , وما لا نفس له) , رواه مسلم , وأحمد.
السادس: تحريم اقتناء الكلب , لأنه أيضاً سبب يمنع من دخول الملائكة , وهل يمنع منه لو كان كلب ماشية أو صيد؟ الظاهر لا , لأنه يباح اقتناؤه.
ويؤيده أن الصورة إذا كانت مباحة لا تمنع أيضاً من دخول الملائكة , بدليل أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقتني لعب البنات , وتلعب بها هي ورفيقاتها على مراى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فلا ينكرها عليها , كما ثبت في " صحيح البخاري " وغيره , فلو كان ذلك مانعاً من دخول الملائكة , لما أقرها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه , والله أعلم.
تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له
357 - (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الناس قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ).
أخرجه البخاري في " الأدب " , وأبوداود , والترمذي , والطحاوي , واللفظ له , وأحمد , والدولابي , والمخلص , وعبد بن حميد , والبغوي , وأبو نعيم من طرق عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال: " دخل معاوية بيتاً فيه عبدالله بن الزبير وعبدالله بن عامر , فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير , وكان أدربهما – وفي رواية البخاري أرزنهما , ولعلها أصح – فقال معاوية: أجلس يا أبن عامر , فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (فذكره) , وقال الترمذي: حديث حسن.
قلت بل هو صحيح.
وله طريق أخرى , قال المخلص في " الفوائد " حدثنا عبدالله: نا داود: نا مروان: نا مغيرة بن مسلم السراج عن عبدالله بن بريدة قال: (خرج معاوية , فرآهم قياماً لخروجه , فقال لهم: اجلسوا , فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من سره أن يقوم له بنو آدم , وجبت له النار).
قلت: وهذا إسناد صحيح.
وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة أخرجه من طريق عبدالرازق عن سليمان بن علي بن الجعد قال: سمعت أبي يقول: (لما أحضر المأمون أصحاب الجوهر , فناظرهم على متاع كان معهم , ثم نهض المأمون لبعض حاجته , ثم خرج فقام كل من كان في المجلس إلا ابن الجعد , فإنه لم يقم , قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب , ثم استخلاه , فقال: ياشيخ ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك؟ قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قال: وما هو؟ قال علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره بالفظ الأول) , قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث , ثم رفع رأسه , فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ , قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار).
قلت: فصدق في علي بن الجعد – وهو ثقة ثبت – قول الله عز وجل: (وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق2.
ونحو هذه القصة ما أخرج الدينوري في: المنتقى من المجالسة " حدثنا أحمد بن علي البصري قال: (وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء , فجمعهم في داره , ثم خرج عليهم , فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل , فقال المتوكل لعبيدالله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا , فقال له: بلى يا أمير المؤمنين , ولكن في بصره سوء , فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين ما في بصري من سوء , ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى , قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً , فليتبوا مقعده من النار , فجاء المتوكل , فجلس إلى جنبه).
وروى ابن عساكر في " تاريخ دمشق " بسنده عن الأوزاعي: حدثني بعض حرس عمر بن عبدالعزيز قال: (خرج علينا عمر بن عبدالعزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة , فلما رأيناه , قمنا , فقال: إذا رأيتموني , فلا تقوموا , ولكن توسعوا).
فقه الحديث:
دلنا هذا الحديث على أمرين:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/201)
الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له , وهو صريح الدلالة , بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان.
والآخر: كراهية القيام من الجالسين للداخل , ولو كان لا يحب القيام , وذلك من باب التعاون على الخير , وعدم فتح باب الشر , وهذا معنى دقيق , دلنا عليه راوي الحديث معاوية رضي الله عنه , وذلك بإنكاره على عبدالله بن عامر قيامه له , واحتج عليه بالحديث , وذلك من فقهه في الدين , وعلمه بقواعد الشريعة , التي منها سد الذرائع , ومعرفته بطبائع البشر , وتأثرهم بأسباب الخير والشر فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول , لم يعتادوا القيام بعضهم لبعض , فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار , وذلك لعدم وجود ما يذكره به , وهو القيام نفسه , وعلى العكس من ذلك , إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم , قد اعتادوا القيام المذكور , فإن هذه العادة , لا سيما مع الاستمرار عليها , فإنها تذكره به , ثم إن النفس تتوق إليه وتشتهيه حتى تحبه , فإذا أحبه هلك , فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام , حتى لمن نظنه أنه لا يحبه , خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه , فنكون قد ساعدناه على إهلاك نفسه وذا لا يجوز.
ومن الأدلة الشاهدة على ذلك أنك ترى بعض أهل العلم الذين يظن فيهم حسن الخلق , تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فرد لم يقم له , هذا إذا لم يغضبو عليه ولم ينسبوه إلى قلة الأدب , ويبشره بالحرمان من بركة العلم , بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم , بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام , ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم , وإنما تقومون للعلم الذي في صدري , كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده لم يكن لديه علم , لأن الصحابة كانوا لا يقومون له , أو أن الصحابة كانوا لا يعظمونه التعظيم الأئق به , فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟
ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير كما في الفتح " 11/ 41 " ثم قال: (ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس , ولو كان في شغل نفسه , فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها , فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس؟ فقال: أما التلقي , فلا بأس به , وأما القيام حتى يجلس , فلا , فإن هذا فعل الجبابرة , وقد أنكره عمر بن عبدالعزيز).
قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً , والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام – بل استحبابه – استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف , والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك ومن أمثلة القسم الأول حديث: (قوموا إلى سيدكم) , وقد تقدم الجواب عنه من وجوه , أقواه أنه صح بزيادة: (فأنزلوه) , فراجعه.
ومن أمثلة القسم الآخر حديث قيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة , فأجلسه بين يديه , فهو حديث ضعيف معضل الإسناد , ولو صح , فلا دليل فيه أيضاً , وقد بينت ذلك كله في " الأحاديث الضعيفة ".
358 - (ما كان في الدنيا شخص احب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك).
وفي هذا الحديث ما يقوي مادل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام , لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً , لم يجز له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكرهه من أصحابه له , وهو أحق الناس بالإكرام , وهم أعرف الناس بحقه عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً , فقد كره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا القيام له من أصحابه , فعلى المسلم – خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة – أن يكره ذلك لنفسه , اقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأن يكرهه لغيره من المسلمين , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ) , فلا يقوم له أحد , ولا هو يقوم لأحد , بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وذلك لأنهم إن لم يكرهوه , اعتادوا القيام بعضهم لبعض , وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له , وهو سبب يستحقون عليه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/202)
النار , كما في الحديث السابق , وليس كذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية , فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له , كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.
جواز أكل لحوم الخيل
359 - (نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ).
وفي الحديث جواز أكل لحوم الخيل , وهو مذهب الأئمة الأربعة , سوى أبي حنيفة , فذهب إلى التحريم , خلافاً لصاحبيه , فإنهما وافقا الجمهور , وهو الحق , لهذا الحديث الصحيح , ولذلك اختاره أبو جعفر الطحاوي , وذكر أن حجة أبي حنيفة حديث خالد بن الوليد مرفوعاً: (لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير) , ولكنه حديث منكر ضعيف الإسناد , لا يحتج به إذا لم يخالف ما هو أصح منه , فكيف وقد خالف حديثين صحيحين كما ترى؟ وقد بينت ضعفه وعلله في " السلسلة الضعيفة ".
جواز الإشارة باليد إلى القمر
372 - (استَعيََّذِي بِاللَّهِ مِنْ هذا [يعني: القمر] فإنه الغَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ).
أخرجه الترمذي , والطحاوي , وابن السني , والحاكم , والطيالسي , وأحمد , من طرق عن ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ خَالِهِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِها فأشار بها إِلَى الْقَمَرِ فَقَال (فذكره).
في هذا الحديث دلالة على جواز الإشارة إلى القمر , خلافاً لما نقل عن بعض المشايخ من كراهة ذلك , والحديث يرد عليه.
تحريم لبس الحرير وشرب الخمر والشرب في أواني الذهب والفضة
384 - (من لبس الحرير في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا؛ لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا؛ لم يشرب بها في الآخرة. ثم قال: لباس أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة).
اعلم أن الأحاديث في تحريم لبس الحرير , وشرب الخمر , والشرب في أواني الذهب والفضة , هي أكثر من أن تحصر , وإنما احببت أن أخص هذا الحديث بالذكر , لأنه جمع الكلام على هذه الأمور الثلاثة , وساقها مساقاً واحداً , ثم ختمها بقوله: (لباس أهل الجنة ... ) , الذي يظهر أنه خرج مخرج التعليل , يعني: أن الله تعالى حرم لباس الحرير – على الرجال خاصة – لأنه لباسهم في الجنة كما قال تعالى (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) الحج23 , وحرم الخمر على الرجال والنساء , لأنه شرابهم في الجنة قال تعالى (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ) محمد 15 , وحرم الشرب في آنية الذهب والفضة على الرجال والنساء أيضاً , لأنها آنيتهم قال تعالى (ادْخُلُواْ الْجَنّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) الزخرف 71 , فمن استعجل التمتع بذلك غير مبال ولا تائب , عوقب بحرمانه منها في الآخرة جزاء وفاقاً.
وما أحسن ما رواى الحاكم عن صفوان بن عبدالله بن صفوان قال: (استأذن سعد على ابن عامر , وتحته ورافق – وهي شئ يتكأ عليه شبيه بالوسادة – من حرير , فأمر بها فرفعت , فدخل عليه وعليه مطرف خز , فقال له: استأذنت علي وتحتي مرافق من حرير فأمرت بها فرفعت , فقال له: نعم الرجل أنت ياابن عامر إن لم تكن ممن قال الله عز وجل (ِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا) الأحقاف 20 , والله لأن أضطجع على جمر الغضا أحب إلى من أن أضطجع عليها).صحيح على شرط مسلم.
واعلم أن الحرير المحرم إنما هو الحرير الحيواني المعروف في بلاد الشام بالحرير البلدي , وأما الحرير النباتي المصنوع من ألياف بعض النباتات , فليس من التحريم في شئ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/203)
وأما الخمر فهي محرمة بجميع أنواعها وأجناسها , ما اتخذ من العنب أو الذرة أو التمر أو غير ذلك فكله حرام , لا فرق في شئ منه بين قليله وكثيره , لأن العلة الخمرية (السكر) وليس المادة التي يحصل بها (السكر) , كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل مسكر خمر , وكل خمر حرام) , رواه مسلم , وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) , وانظر " الإرواء " و " غاية المرام ".
ولا تغتر بما جاء في بعض الكتب الفقهية عن بعض الأئمة من إباحة جنس منها بتفاصيل تذكر فيها , فإنما هي زلة من عالم , كان الأحرى أن تدفن ولا تذكر , لولا العصبية الحمقاء.
من آداب الشرب
385 - (نهى عن النفخ في الشراب، فقال له رجل: يا رسول الله! إني لا أروى من نفس واحد! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فابن القدح عن فيك، ثم تنفس. قال: فإني أرى القذاة فيه. قال: فأهرقها).
فوائد الحديث:
1 - النهي عن النفخ في الشرب , قال الحافظ في " الفتح ": (وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة أحاديث , وكذا النهي عن التنفس في الإناء , لأنه ربما حصل له تغير من النفس , إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلاً أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة , أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة , والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس).
2 - جواز الشرب بنفس واحد لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على الرجل حين قال: (إني لا أروى من نفس واحد) فلو كان الشرب بنفس واحد لا يجوز لبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ولقال له مثلاً: (وهل يجوز الشرب من نفس واحد؟) , وكان هذا أولى من القول له (فأبن القدح) لو لم يكن ذلك جائزاً , فدل قوله هذا على جواز الشرب بنفس واحد , وأنه إذا أراد أن يتنفس تنفس خارج الإناء , وهذا ما صرح به حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
386 - (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ ثُمَّ لِيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ).
قال الحافظ في الفتح: (واستدل به لمالك على جواز الشرب بنفس واحد , وأخرج ابن أبي شيبة الجواز عن سعيد بن المسيب وطائفة , قال عمر بن عبدالعزيز: إنما نهي عن التنفس داخل الإناء , فأما من لم يتنفس , فإن شاء فليشرب بنفس واحد.
قلت: وهو تفصيل حسن , وقد ورد الأمر بالشراب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعاً , أخرجه الحاكم , وهو محمول على التفصيل المذكور).
قلت: لم أر الحديث المشار إليه عند الحاكم من حديث أبي قتادة , وإنما هو عنده من حديث أبي هريرة , وهو الذي سقت لفظه آنفاً من رواية ابن ماجه , ولفظه عند الحاكم: (لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه , ولكن إذا أراد أن يتنفس , فليؤخره عنه , ثم ليتنفس) , فأنا أظن أنه الذي أراده الحافظ , لكنه وهم في عزوه لحديث أبي قتادة والله أعلم.
ويؤيده أنه عزاه في مكان آخر من " الفتح " للحاكم عن أبي هريرة.
ثم إن ما تقدم من جواز الشرب بنفس واحد لا ينافي أن السنة أن يشرب بثلاثة أنفاس , فكلاهما جائز , لكن الثاني أفضل , لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
387 - (كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ ثَلَاثًا وَقَالَ هُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ).
388 - (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ).
وعن ابن عباس وابن عمر قالا: (يكره أن يشرب من ثلمة القدح وأذن القدح) , رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
من آداب الطعام المتروكة
391 - (إذا أكل أحدكم الطعام؛ فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها، ولا يرفع صحفة حتى يلعقها أو يلعقها؛ فإن آخر الطعام فيه بركة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/204)
في الحديث أدب جميل من آداب الطعام الواجبة , ألا وهو لعق الأصابع ومسح الصحفة بها , وقد أخل بذلك أكثر المسلمين اليوم , متأثرين في ذلك بعادات أوربا الكافرة , وآدابها القائمة على الاعتداد بالمادة , وعدم الاعتراف بخالقها والشكر له على نعمه , فليحذر المسلم من أن يقلدهم في ذلك , فيكون منهم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ... ومن تشبه بقوم , فهو منهم) , فلا تستعملن الورق المنشاف فتمسح به فمك وأصابعك أثناء الطعام.
وإنما قلت: ( ... الواجبة) , لأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك , ونهيه عن الإخلال به , فكن مؤمناً , يأتمر بأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وينتهي عما نهى عنه , ولا تبال بالمستهزئين الذين يصدون عن سبيل الله من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
392 - (إنه أعظم للبركة. يعني: الطعام الذي ذهب فوره).
أخرجه الدارمي , وابن حبان , والحاكم , وابن أبي الدنيا , والبيهقي عن قرة بن عبدالرحمن عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ غَطَّتْهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره).
تحريم آلات الطرب
427 - (صوتان ملعونان: صوت مزمار عند نعمة , وصوت ويل عند مصيبة).
في الحديث تحريم آلات الطرب , لأن المزمار هو الآلة التي يزمر بها , وهو من الأحاديث الكثيرة التي ترد على ابن حزم إباحته لآلات الطرب , وقد تقدم حديث آخر في ذلك برقم " 90 " , فراجعه فإنه مهم , ولي رسالة في الرد عليه يسر الله لي تبييضها ونشرها.
لا شؤم في شئ
442 - (إِنْ يَكُ مِنْ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالدَّار).
والحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم في شيء , لأن معناه: لو كان الشؤم ثابتاً في شيء ما , لكان في هذه الثلاثة , لكنه ليس ثابتاً في شيء أصلاً , وعليه , فما في بعض الرويات بلفظ: (الشؤم في ثلاثة) , أو: (إنما الشؤم في ثلاثة) , فهو اختصار وتصرف من بعض الرواة , والله أعلم.
الحمار الأهلي وكل ذي ناب من الوحوش حرام أكله
475 - (لا تأكل الحمار الأهلي , ولا كل ذي ناب من السباع).
أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " حدثنا علي بن معبد قال: ثنا شبابة بن سوار قال: ثنا أبوزيد عبدالله بن العلاء قال: ثنا مسلم بن مشكم كاتب أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: " أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقلت: يارسول الله , حدثني ما يحل لي مما يحرم علي؟ فقال: (فذكره) ".
وفي " الصحيحين " و " السنن " وغيرها من طريق أخرى بلفظ: " نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ".
وله شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ:
476 - (كل ذِي نَابَ مِنْ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ).
وفي هذه الأحاديث دليل على أن الحمار الأهلي وكل ذي ناب من الوحوش حرام أكله , وليس مكروهاً فقط , كما زعم بعض المفسرين في هذا العصر , وتأول النهي على أنه للتنزيه , ولما رأى التصريح بالتحريم في حديث أبي هريرة , زعم أنه رواية بالمعنى , ويدفعه أنه إن كانت الرواية بالمعنى من الصحابي – وهو أبو هريرة - , فهو أدرى به ممن بعده , وإن كان يعني أنه من بعض من بعده , فيرده مجيئه بلفظ التحريم من الطريق الأخرى , ويؤكده أن أبا ثعلبة سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َعما يحل له وما يحرم؟ فأجابه بقوله: (لا تأكل ... ) , فهذا نص في أن النهي للتحريم , لأنه هو الذي سأل عنه أبوثعلبة , ولا يصح في النظر السليم أن يكون الجواب عليه: (لا تأكل .... ) , وهو يعنى: يجوز الأكل مع الكراهة.
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا
501 - (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا).
وللحديث شاهدان:
الأول عن ابن عمر مرفوعاً به.
والشاهد الآخر هو:
502 - (كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا عَنْ الْإِرْفَاهِ قُلْنَا وَمَا الْإِرْفَاهُ قَالَ التَّرَجُّلُ كُلَّ يَوْمٍ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/205)
أخرجه النسائي: أَخْبَرَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِلًا بِمِصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِذَا هُوَ شَعِثُ الرَّأْسِ مُشْعَانٌّ قَالَ مَا لِي أَرَاكَ مُشْعَانًّا وَأَنْتَ أَمِيرٌ قَالَ: (فذكره).
قلت: وهذا إسناد صحيح.
و له طريق أخرى , يرويها الجريري عن عبدالله بن بريدة: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَمُدُّ نَاقَةً لَهُ فَقَالَ إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا إِنَّمَا أَتَيْتُكَ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ فَرَآهُ شَعِثًا فَقَالَ مَا لِي أَرَاكَ شَعِثًا وَأَنْتَ أَمِيرُ الْبَلَدِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ وَرَآهُ حَافِيًا فَقَالَ مَا لِي أَرَاكَ حَافِيًا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا) , أخرجه أحمد , وأخرجه أبوداود , والنسائي , وليس عند النسائي الأمر بالاحتفاء , وزاد " سئل ابن بريدة عن الإرفاء؟ قال: الترجل ".
غريب الحديث:
1 - الإرفاه: قال في " النهاية ": " هو كثرة التدهن والتنعم , وقيل: التوسع في المشرب والمطعم , أراد ترك التنعم والدعة ولين العيش , لأنه من زي العجم وأرباب الدنيا ".
قلت: والحديث يرد ذلك التفسير , ولهذا قال أبو الحسن السندي في حاشيته على النسائي: " وتفسير الصحابي يغني عما ذكروا , فهو أعلم بالمراد"
قلت: ومثله تفسير عبدالله بن بريدة في رواية النسائي , والظاهر أنه تلقاه عن الصحابي , والله أعلم.
2 - الترجل: هو تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه.
3 - غبا: بكسر المعجمة وتشديد الباء , " أن يفعل يوماً ويترك يوماً , والمراد , كراهة المداومة عليه , وخصوصية الفعل يوماً والترك يوماً غير مراد " قاله السندي.
4 - شعث الرأس: أي متفرق الشعر.
5 - مشعان: بضم الميم وسكون الشين المعجمة وعين مهملة وآخره نون مشددة , هو المتنفش الشعر الثائر الرأس.
6 - يمد ناقة: أي يسيقها مديداً من الماء.
متى يجوز الكذب
545 - (رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ فِي الْحَرْبِ وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ. وفي رواية: حديث الرجل امرأته , وحديث المرأة زوجها).
فقه الحديث:
قال النووي: (قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور , واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه , وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة , وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة , واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {بل فعله كبيرهم} {وإني سقيم} وقوله: إنها أختي وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم: {أيتها العير إنكم لسارقون} قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو , وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية , واستعمال المعاريض , لا صريح الكذب , مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا , وينوي إن قدر الله ذلك. وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة , يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه. وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا , ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم , وينوي إمامهم في الأزمان الماضية: أو غدا يأتينا مدد أي طعام ونحوه. هذا من المعاريض المباحة , فكل هذا جائز. وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض. والله أعلم).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/206)
قلت: لا يخفي على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح والأليق بظواهر هذه الأحاديث , وتأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما لا يخفى بعده , لا سيما في الكذب في الحرب , فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه , ولذلك قال الحافظ في الفتح:
(قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة , لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص وفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال , ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى. ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج ابن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم , وإخباره لأهل مكة أن أهل خبير هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه).
فائدتان هامتان
609 - (إذا كان الذي ابتاعها [يعني: السرقة] من الذي سرقها غير متهم يخير سيدها؛ فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه).
أخرجه النسائي , والحاكم , وأحمد , عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا عَلَى الْيَمَامَةِ وَأَنَّ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ أَيَّمَا رَجُلٍ سُرِقَ مِنْهُ سَرِقَةٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا حَيْثُ وَجَدَهَا ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ إِلَيَّ فَكَتَبْتُ إِلَى مَرْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنْ الَّذِي سَرَقَهَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ يُخَيَّرُ سَيِّدُهَا فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ بِثَمَنِهَا وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِي إِلَى مُعَاوِيَةَ وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ إِنَّكَ لَسْتَ أَنْتَ وَلَا أُسَيْدٌ تَقْضِيَانِ عَلَيَّ وَلَكِنِّي أَقْضِي فِيمَا وُلِّيتُ عَلَيْكُمَا فَأَنْفِذْ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ لَا أَقْضِي بِهِ مَا وُلِّيتُ بِمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ ".
وفي الحديث فائدتان هامتان:
الأولى: أنه من وجد ماله المسروق عند رجل غير متهم اشتراها من الغاصب أو السارق , فليس له أن يأخذه إلا بالثمن , وإن شاء لا حق المعتدي عند الحاكم , وأما حديث سمرة المخالف لهذا بلفظ: (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به , ويتبع البيع من باعه) , فهو حديث معلول كما بينته في التعليق على المشكاة , فلا يصلح لمعارضة هذا الحديث الصحيح , لا سيما وقد قضى به الخلفاء الراشدون.
والأخرى: أن القاضي لا يجب عليه في القضاء أن يتبنى رأي الخليفة إذا ظهر له أنه مخالف للسنة , ألا ترى إلى أسيد بن ظهير كيف امتنع عن الحكم بما أمر به معاوية وقال: " لا أقضي ما وليت بما قال معاوية "؟
ففيه رد صريح على من يذهب اليوم من الأحزاب الإسلامية إلى وجوب طاعة الخليفة الصالح فيما تبناه من أحكام – ولو خالف النص في وجهه نظر المأمور – وزعمهم أن العمل جرى فيما على ذلك من المسلمين الأولين , فهو زعم باطل لا سبيل لهم إلى إثباته , كيف وهو منقوض بعشرات النصوص هذا واحد منها؟ ومنها مخالفة علي رضي الله عنه في متعة الحج لعثمان بن عفان في خلافة , فلم يطعه , بل خالفه صريحة كما في صحيح مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِعُسْفَانَ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ دَعْنَا مِنْكَ فَقَالَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/207)
إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم، فأطعمه من طعامه؛ فليأكل ولا يسأله عنه
627 - (إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم، فأطعمه من طعامه؛ فليأكل ولا يسأله عنه، وإن سقاه من شرابه فليشرب من شرابه، ولا يسأله عنه).
هذا والظاهر أن الحديث محمول على من غلب على ظنه أن الأخ المسلم ماله حلال ويتقي المحرمات , وإلا جاز بل وجب السؤال , كما هو شأن بعض المسلمين المستوطنين في بلاد الكفر , فهؤلاء وأمثالهم لا بد من سؤالهم عن لحمهم مثلاً أقتيل هو أم ذبيح؟
شَرُّ الثَّلَاثَةِ
672 - (وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ).
أخرجه أبو داود (3963)، والطحاوي في ((المشكل)) (1/ 391)، والحاكم (2/ 214/100) والبيهقي (10/ 57 و 59)، واحمد (2/ 311)، وابن عدي (3/ 448). من طرق عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: فذكره. وزاد البيهقي في رواية:
((قال سفيان: يعني: إذا عمل بعمل أبويه)).
وقال الحاكم:
((صحيح على شرط مسلم))،ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ولا ينافيه قول الذهبي في ((سير الأعلام)) (5/ 459) أنه من غرائب سهيل، لأنه إنما يعني أنه من أفرده، وهو ما أشار إليه ابن عدي عقب الحديث، وقد وقال في أخر ترجمته:
((و سهيل عندي مقبول الأخبار، ثبت،لا باس به)).
ومن المعروف عند العلماء أن ما تفرد به الثقة فهو حجة، لا يجوز رد حديثه لمجرد التفرد، ولهذا حسن إسناده ابن القيم كما يأتي، وتبعه المناوي في ((التيسير)).
وتابعه عمر بن أبي سلمة عن آبيه عن أبي هريرة به.
أخرجه الحاكم وعنه البيهقي.
قلت: وإسناده حسن في المتبعات والشواهد.
وتفسير سفيان المذكور قد روى مرفوعا من حديث عبدا لله بن عباس وعائشة.
أما حديث ابن عباس، فيرويه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:
((ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه)).
أخرجه ابن عدي (127/ 2)، ومن طريقه البيهقي، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (3/ 92/2)،و ((الأوسط)) (1/ 183/2) وقال:
((لم يروه عن داود إلا ابن ليلى)).
قلت: واسمه محمد بن عبدا لرحمن بن أبي ليلى ن وهو ضعيف لسوء حفظه، ولهذا قال البيهقي:
((إسناده ضعيف)).
وأما المناوي فحسنه،ولعله يعني لغيره
وأما حديث عائشة، فيرويه إبراهيم بن إسحاق عن محمد بن قيس عنها به.
أخرجه هكذا ابن الأعرابي في ((المعجم)) (8/ 1_2) من طريق إسحاق بن منصور: نا إسرائيل عنه.
وخالفه اسود بن عامر فقال: ثنا إبراهيم بن إسحاق عن إبراهيم بن عبيد بن رافعة عنها به.
أخرجه احمد (6/ 109).
قلت: وهذا الاضطراب من إبراهيم بن اسحق، وهو إبراهيم بن فضل المخزومي المترجم في ((التهذيب)) وهو متروك كما قال في ((التقريب)) وسائر الرواة ثقات.
وهذا التفسير وان لم يثبت رفعه، فالأخذ به لا مناص منه، كي لا يتعارض الحديث مع النصوص القاطعة في الكتاب والسنة، ان الإنسان لا يؤخذ بجرم غيره.
وراجع لهذا المعنى الحديث (1287) من ((الكتاب الآخر)).
وقد روي الحديث عائشة رضي الله عنها على وجه أخر، ولو صح إسناده لكان قاطعا للإشكال ورافعا للنزاع،وهو ما روى سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة قال:
((بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ولد الزنا شر الثلاثة)). فقالت (يرحم الله أبا هريرة) أساء سمعا فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل (من المنافقين) يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال ((من يعذرني من فلان)). قيل: يا رسول الله إنه مع ما به ولد زنا. فقال صلى الله عليه وسلم??هو شر الثلاثة)).
ولله عز وجل يقول: ((وَلاَ تَزِرُ و َازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)).
أخرجه الطحاوي والحاكم وعنه البيهقي وضعفه بقوله:
((سلمة بن الفضل الأبرش يروي المناكير)).
قلت: وقال الحافظ:
((صدوق كثير الخطأ)).
وفيه علة أخرى،وهي عنعنة ابن إسحاق فانه مدلس، ومع ذلك فقد قال الحاكم:
((صحيح على شرط مسلم)).
ورده الذهبي بقوله:
((كذا قال، وسلمة لم يحتج به (م) وقد وثق، وضعفه ابن راهويه)).
قلت: وكذلك ابن إسحاق لم يحتج به مسلم،وإنما روى له متابعة، على انه مدلس وقد عنعنه.
قال الإمام الطحاوي عقبه:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/208)
((فبان لنا بحديث عائشة رضي الله عنها أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عنه أبو هريرة: ((ولد الزنا شر الثلاثة)) إنما كان لإنسان بعينه كان منه من الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منه، مما صار به كافرا شرا من أمه ومن الزاني الذي كان حملها به منه.والله تعالى نسأله التوفيق)).
قلت: ولكن في إسناد حديثها ما علمت من الضعف،وذلك يمنع من تفسير الحديث به، فالأولى تفسيره بقول سفيان المؤيد بحديثين مرفوعين ولو كانا ضعيفين،إلا أن يبدو لأحد ما هو أقوى منه فيصار حينئذ إليه.
ويبدو من كلام ابن القيم رحمه الله في رسالته ((المنار)) انه جنح إلي هذا التفسير، لان مؤداه إلي أن الحديث ليس على عمومه، فقد ذكر حديث ((لا يدخل الجنة ولد زنا)) الأتي عقب هذا،وحكا قول الجوزي انه معارض لأية (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
فقال:
((قلت: ليس معارض لها إن صح، فانه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل إن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص.وقد ورد في ذمه انه ((شر الثلاثة)) وهو حديث حسن،ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإن شر الأبوين عارض، وهذا نطفة خبيثة، وشره من أصله،وشر الأبوين من فعلهما)).
(تنبيه): لقد تبين لكل ذي عين من هذا التخريج والتحقيق أن الحديث بهذه الطرق صحيح بلا ريب، وأقواها حديث سهيل، ولذلك قصر ابن الجوزي – ومن قلده – تقصيرا فاحشا بإيراده الحديث في ((موضوعاته)) (3/ 110) من رواية ابن عدي وحده ن ليتسنى له أن يقول?
??فيه من لا يعرف)) يشير إلي شيخ ابن عدي فيه (حمزة بن داود الثقفي)، فخفيت عليه الطرق الأخرى من تخريج أبي داود وغيره،وقد سبقت الإشارة إليها،وهي عن جرير بن عبد الحميد وخالد الحذاء وأبي حذيفة والثوري ويعقوب بن عبدالرحمن،فهؤلاء الثقات رووه عن سهيل،ولقد تعامى عنها-مع الأسف- المعلق على ((سير الذهبي)) - كعادته فيما لا يوافق هواه من الحديث- فأوهم القراءه أن الحديث من رواية ابن عدي فقط المعللة وتشبث بتضعيف شيخه حمزة وشيخه، وهو واهم أيضا في ذلك،ولا داعي لمناقشته في ذلك، ففي تلك الطرق غنية عن المناقشة لو انصف.
673 - (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ {وَلَا وَلَدُ زِنْيَةٍ})
أخرجه الدارمي (2/ 112)،وكذا النسائي (2/ 332)،والبخاري في ((التاريخ الصغير)) (124)، وعبدا لرزاق في (المصنف) (2/ 205)،وابن خزيمة في ((التوحيد)) (ص236)،وابن حبان (1382و1383)،و الطحاوي في ((المشكل)) (1/ 395)، واحمد (2/ 201 و203) من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابان عن عبدا لله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وليس للبخاري منه إلا الزيادة وقال:
((لا يعلم لجابان سماع من عبد الله،ولا لسالم سماع من جابان، ويروى عن علي بن زيد عن عيسى بن حطان عن عبد الله بن عمرو رفعه في أولاد الزنا،ولا يصح)).
وقال ابن خزيمة:
((ليس هذا خبر من شرطنا، لان جابان مجهول)).
ورواه محمد بن مخلد العطار في ((المنتقى من حديثه)) (2/ 15/1) من طريق عبد الله بن مرة عن جابان عن عبد الله بن عمرو به.
قلت: وعلة هذا الإسناد جابان هذا،فإنه لا يدرى من هو كما قال الذهبي؟ وإن وثقه ابن حبان على قاعدته.والزيادة التي في أخره منكرة، لأنها بظاهرها تخالف النصوص القاطعة بأن احد لا يحمل وزر احد،وأنه لا يجني احد على احد، وفي ذلك غير الآية أحاديث كثيرة خرجتها في ((الإرواء)) (2362)، ولذلك أنكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد روى عبد الرزاق (7/ 454/13860 و13861) عنها أنها كانت تعيب ذلك وتقول:
((ما عليه من وزر أبويه، قال الله تعالى (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))).
وإسناده صحيح.
وقد رواه الطبراني في ((الأوسط)) (1/ 183 - 184) عنها مرفوعا.
وفي إسناده من لم اعرفه.وكذا قال الهيثمي (6/ 257).
وقال البيهقي (10/ 58) عقب الموقوف:
((رفعه بعض الضعفاء، والصحيح موقوف)).
ومن هذا تعلم أن قول السخاوي فيما نقله ابن عراق عنه (2/ 228):
((أخرجه الطبراني من حديث عائشة، وسنده جيد)).
فهو غير جيد.
ثم عرفت الذي رفعه، وانه ضعيف كما أشار إلي ذلك البيهقي، فخرجت الحديث في ((الضعيفة)) (6115).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/209)
وقد وجدت للحديث شواهد يتقوى بها،فقال الطحاوي (1/ 395):حدثنا أبو أمية: حدثنا محمد بن سابق: حدثنا إسرائيل (في الأصل: أبو إسرائيل) عن منصور عن أبي الحجاج عن مولى لأبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:فذكره بتمامه.
قلت: وهذا شاهد قوي رجاله كلهم ثقات، غير مولى أبي قتادة فلم اعرفه،لكنه أن كان صحابيا فلا تضر الجهالة به،لان الصحابة كلهم عدول كما هو معلوم، ومن المحتمل أن يكون منهم،لان الرواي عنه أبا الحجاج هو مجاهد بن جبر التابعي المشهور.
وقد ذكره ابن أبي حاتم في ((العلل)) (2/ 31) من طريق عبيد بن إسحاق عن مسكين بن دينار التيمي عن مجاهد:حدثني زيد الجرشي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. وقال:
((قال أبي:هذا حديث منكر)).
قلت: وعلته عبيد هذا –وهو العطار – ضعفه الجمهور.
وقد اختلف على مجاهد في إسناد هذا الحديث اختلافا كبيرا، استوعب ابونعيم في ((الحلية)) (3/ 307/309) طرقه،وقد جاء الحديث في بعضها بتمامه، منها طريق عبيد هذه وغيرها،وبعضها في ((المسند)) (3/ 28 و 44) دون الزيادة،وهي عند أبي يعلى مع تمام الحديث (2/ 394/1168)،ولم يرد في بعضها الآخر إلا الزيادة التي في أخره، وقد أخرجها الطحاوي (1/ 393 - 394).
وقد رويت هذه الزيادة من حديث أبي هريرة،ولكنها غير محفوظة عنه كما بينته في ((الكتاب الآخر)) (1462).
وجملة القول إن الحديث بهذه الطرق والشواهد لا ينزل عن درجة الحسن.والله اعلم.
وقوله ((لا يدخل الجنة ولد زنية)) ليس على ظاهره،بل المراد به من تحقق بالزنا حتى صار غالبا عليه،فاستحق بذلك أن يكون منسوبا إليه،فيقال:هو ابن له، كما ينسب المتحققون بالدنيا إليها،فيقال لهم: بنوا لدنيا بعملهم وتحققهم بها،وكما قيل للمسافر: ابن سبيل،فمثل ذلك:ولد زنية وابن زنية، قيل لمن تحقق بالزنا، حتى صار تحققه منسوبا إليه،وصار الزنا غالبا عليه،فهو بقوله ((لا يدخل الجنة))، ولم يرد به مولود من الزنا،ولم يكن هو من ذوي الزنا، لما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله.
وهذا المعنى استفدته من كلام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله وشرحه لهذا الحديث. والله اعلم.
ثم وجدت للحديث شاهداً أخر دون الزيادة،ولفظه:
((لا يلج حائط القدس:مدمن خمر،ولا العاق لوالديه، ولا المنان عطاءه))
أخرجه احمد (3/ 226) قال ثنا هشيم: ثنا محمد بن عبد الله العمي عن علي بن زيد عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وعلي بن زيد – وهو ابن جدعان- ضعيف.
ومحمد بن عبد الله العمي أورده ابن حبان في ((الثقات)) (7/ 425)،والسمعاني في ((الأنساب)) من روايته عن ثابت البناني، ورواية النضر وغيره عنه، فهو مستور.
ومن طريق أخرجه البزار أيضا (3/ 355/2931).
وبالجملة، فهو شاهد لا بأس به.
ويقويه ما أخرجه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (ص237) من طريقين عن خالد بن الحارث قال:ثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع عن عروة بن مسعود عن عبد الله بن عمرو انه قال:
((لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق،ولا منان)).
وإسناده صحيح،وهو موقوف في حكم المرفوع،فهو شاهد قوي لحديث انس هذا.
ومما يشهد له الحديث الأتي:
674 - (ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ،وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْه، ِ وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى).
أخرجه النسائي (1/ 357)، واحمد (2/ 134)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (235)، وابن حبان (56) عن عمر بن محمد- يعني: ابن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب- عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال: اشهد لسمعت سالماً يقول: قال عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وسياق المتن للنسائي.
ورواه ابن عدي (5/ 21) من هذا الوجه مختصراً.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عبد لله بن يسار، وقد روى عنه جماعة من الثقات، ووثقه ابن حبان، فهو حسن الحديث أن شاء الله تعالى.
ثم رواه احمد (2/ 69 و128) عن قطن بن وهب بن عويمر بن الأجدع عمن حدثه عن سالم بن عبدا لله به مختصراً بلفظ:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/210)
((ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن خمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث)).
وقطن هذا ثقة من رجال مسلم، ولكن شيخه لم يسم فهو مجهول، ويمكن أن يكون عبد الله بن يسار المتقدم.
وقد تابعه محمد بن عمرو عن سالم به نحوه، و سيأتي أن شاء الله تعالى في ((المجلد السابع)) برقم (3099).
ضرب الحية
676 - (كفاك الحية ضربة بالسوط، أصبتها أم أخطأتها).
أخرجه أبو العباس الأصم في ((حديثه)) (رقما150 - نسختي)، و الدار قطني في ((الأفراد)) (ج3 رقم 48 نسختي) من طريق إسماعيل بن مسلمة بن قعنب: ثنا حميد بن الأسود عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال:
((حديث غريب من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، تفرد به أبو الأسود حميد بن الأسود عنه، ولا نعلم حدث به غير إسماعيل بن سلمة بن قعنب عنه)).
قلت: والذهبي: هذا صدوق كما قال أبو حاتم، وهو اخو الإمام عبد الله بن مسلمة. وقال الذهبي:
((وما علمت به بأساً، إلا انه ليس في الثقة كأخيه)).
قلت: ثم ذكر له حدثيا اخطأ في رفعه، وذلك مما يخدع فيه، لان الخطأ لا يسلم منه بشر، وقد وثقه ابن حبان والحاكم، فالحديث حسن الإسناد، فان من فوقه من الثقات المعروفين،على خلاف مشهور في محمد بن عمرو لا يضره، ولا يمنع من الاحتجاج بحديثه.
والحديث أخرجه البيهقي في ((السنن)) لا (2/ 266) من هذا الوجه، وقال:
((وهذا أن صح، فإنما أراد-والله اعلم- وقوع الكفاية بها في الإتيان بالمأمور، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها، وأراد –والله اعلم- إذا امتنعت بنفسها عند الخطأ، ولم يرد به المنع من الزيادة على الضربة واحدة)).
والحديث لم يتكلم عليه المناوي بشئ، فكأنه لم يقف على سنده، ولكنه قال ((ورواه عنه (يعني: اباهريرة) الطبراني أيضا)).
وأقول: لم يذكره الهيثمي في ((المجموع)) (4/ 47) من حديث أبي هريرة وإنما من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعزاه للطبراني في ((الأوسط)) وليس في ((الكبير)) كما يوهمه إطلاق المناوي العزو للطبراني، فان ذلك يعني ((المعجم الكبير)) اصطلاحاً.
وقال: رجه في ((الأوسط)) (3/ 391/2840ط) من طريق سليمان بن داود الشاذ كوني قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: حدثني ربيعة بن سعيد الاسلمي عن عبدالرحمن بن إبان بن عثمان عن أبيه عن عثمان مرفوعاً. وقال:
((لا يروي عن عثمان إلا بهذا الإسناد تفرد به الشاذ كوني)).
والشاذ كوني أعله الهيثمي وقال:
((وهو ضعيف)).
قلت: بل هو هالك.
لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ
704 - (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ).
أخرجه مسلم،والبخاري في ((الأدب المفرد)) وأحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعاًً، وهو مخرج في ((أرواء الغليل)) (1271)،وفيما يأتي (1411).
والغرض من إيراده هنا،أنه جمعنا مجلس فيه طائفة من أصحابنا أهل الحديث، فأبدى أحدهم فهماً للحديث مؤداه: أن النهي الذي فيه إنما هو إذا لقيه في الطريق،وأما إذا أتاه في حانوته أو منزله،فلا مانع من بدئه بالسلام،ثم جرى نقاش حوله طويلاً. وكل يدلي بما عنده من رأي،وكان من قولي يومئذ: إن قوله ??تبدؤوا) مطلق ليس مقيداً بالطريق، وأن قوله (وإذا لقيتم أحدهم في الطريق ... ) لا يقيده، فإنه من عطف الجملة على الجملة، ودعمت ذلك بالمعنى الذي تضمنته هذه الجملة، وهو أن اضطرارهم إلي أضيق الطريق إنما هو أشارة إلي ترك إكرامهم لكفرهم، فناسب أن لا يبدؤوا من أجل ذلك بالسلام لهذا المعنى، وذلك يقتضي تعميم الحكم.
هذا ما ذكرته يومئذ، ثم وجدت ما يقويه ويشهد له في عدة روايات:
الأولى: قول راوي الحديث سهيل بن صالح:
((خرجت مع أبي إلي الشام،فكان أهل الشام يمرون بأهل الصوامع فيسلمون عليهم، فسمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)) فذكره.
أخرجه أحمد (2/ 346)،و أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم.
فهذا نص من راوي الحديث-وهو ابوصالح، واسمه ذكوان تابعي ثقة-أن النهي يشمل الكتابي ولو كان في منزله ولم يكن في الطريق. وراوي الحديث أدري بمرويه من غيره، فلا أقل من أن يصلح للاستعانة به على الترجيح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/211)
ولا يشكل على هذا لفظ الحديث عند البخاري في (أدبه) (1111)، وأحمد في (مسنده) (2/ 444):
((إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطروهم إلي أضيقها)).فأنه شاذ بهذا اللفظ.
فقد أخرجه البخاري أيضاً (1103)،ومسلم، وأحمد (2/ 266و459) وغيرهما من طرق عن سهيل بن أبي صالح بللفظ الأول.
الثانية: عن أبي عثمان النهدي قال:
((كتب أبو موسى إلي دهان يسلم عليه في كتابه،فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟ قال: إنه كتب إلي فسلم علي، فرددت عليه)).
أخرجه البخاري في (أدبه) (1101) بسند جيد.
ووجه الاستدلال به، أن قول القائل: (أتسلم عليه وهو كافر؟) يشعر بأن بدء الكافر بالسلام كان معروفاً عندهم أنه لا يجوز على وجه العموم، وليس خاصاً بلقائه في الطريق، ولذلك استنكر ذلك السائل على أبي موسى، وأقره هذا عليه ولم ينكره، بل أعتذر بأن فعل ذلك رداً عليه لا مبتدئاً به، فثبت المراد.
الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إلي هرقل ملك الروم-وهو في الشام- لم يبدأه بالسلام، وإنما قال فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله غلي هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى ... )).
أخرجه البخاري ومسلم،وهو في ((الأدب المفرد) (1109).
فلو كان النهي المذكور خاصاً بالطريق، لبدأه عليه السلام بالسلام الإسلامي ولم يقل له: (سلام على من اتبع الهدى)).
الرابعة: أن النبي الله صلى الله عليه وسلم لما عاد الغلام اليهودي قال له (أسلم ... ) الحديث، فلم يبدأه بالسلام.
وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في (الإرواء) (1272).
فلو كان البدء الممنوع إنما هو إذا لقيه في الطريق، لبدأه عليه السلام بالسلام
،لأنه ليس في الطريق كما هو ظاهر. ومثله.
الخامسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء عمه أبا طالب في مرض موته، لم يبدأه أيضاً بالسلام، وإنما قال له?? يا عم قل: لا أله الا الله ... )) الحديث.
أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في ((الإرواء)) (1273).
فثبت من هذه الرويات أن بدء الكتابي بالسلام لا يجوز مطلقاً، سواء كان في الطريق أو في المنزل أوغيره.
فإن قيل: فهل يجوز أن يبدأه بغير السلام من مثل قوله: كيف أصبحت أو أمسيت، أو كيف حالك ونحو ذلك؟
فأقول: الذي يبدو لي_والله أعلم- الجواز، لأن النهي المذكور في الحديث إنما هو عن السلام، وهو عند الإطلاق إنما يراد به السلام الإسلامي المتضمن لاسم الله عز وجل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم
((السلام أسم من أسماء الله وضعه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم)).
أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد) (989)،وقد تقدم برقم (184)،وسيأتي الإشارة إليه تحت الحديث (1894).
ومما يؤيد ما ذكرته قول علقمة:
((إنما سلم عبدالله (يعني: ابن مسعود) على الدهاقين إشارة)).
أخرجه البخاري (1104) مترجماً له بقوله ((من سلم على الذمي إشارة)).وسنده صحيح.
فأجاز ابن مسعود ابتداءهم في السلام بالإشارة، لأنه ليس السلام الخاص بالمسلمين، فكذلك يقال في السلام عليهم بنحو ما ذكرنا من الألفاظ.
وأما ما جاء في بعض كتب الحنابلة-مثل (الدليل) -أنه يحرم بداءتهم أيضاً بـ ((كيف أصبحت أو أمسيت؟)) أو ((كيف أنت أو حالك؟)) فلا أعلم له دليلاً من السنة، بل قد صرح في شرحه ((منار السبيل)) أنه قيس على السلام.
أقول: ولا يخفى أنه قياس مع الفرق، لما في السلام من الفضائل التي لم ترد في غيره من الألفاظ المذكورة. والله أعلم.
مسألة أخري جري البحث فيها في المجلس المشار إليه، وهي: هل يجوز أن يقال في رد على السلام على غير المسلم: وعليكم السلام؟
فأجبت بالجواز بشرط أن يكون سلامه فصيحاً بيناً، ولا يلوي فيه لسانه كما كان اليهود يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقولهم: السام عليكم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجابتهم بـ ((وعليكم)) فقط، كما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما من حديث عائشة.
قلت: فالنظر في سبب هذا التشريع يقتضي جواز الرد بالمثل عند تحقق الشرط المذكور، وأيدت ذلك بأمرين اثنين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم ((إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليك فقولوا: وعليك)).
أخرجه الشيخان، والبخاري أيضاً في (الأدب المفرد) (1106). وهو مخرج في ((الإرواء)) (5/ 112).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/212)
فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم قوله??فقولوا: وعليك)) بأنهم يقولون: السام عليكم. فهذا تعليل يعطي أنهم أذا قالوا: (السلام عليكم) أن يرد عليهم بالمثل: (وعليكم السلام)،ويؤيده الأمر التالي وهو:
الثاني: عموم قوله تعالى: ((وإذا حييتم بتحيةً فحيوا بأحسن منها أو ردوها))،فأنها بعمومها تشمل غير المسلمين أيضاً هذا ما قلته في ذلك المجلس. وأزيد الآن فأقول:
ويؤيد أن الآية على عمومها أمران:
أول: ما أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1107) والسياق له، وابن جرير الطبري في ((التفسير)) (10039) من طريقين عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال:
((ردوا السلام على من كان يهودياً، أو نصرانياً، أوماجوسياً، ذلك بأن الله يقول:
(وإذا حييتم بتحية ... ) الآية)).
قلت: وسنده صحيح لولا أنه من رواية سماك عن عكرمة، وروايته عنه خاصة مضطربة، ولعل ذلك إذا كانت مرفوعة، وهذه موقوفة كما ترى، ويقويها ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو قال لي فرعون (بارك الله فيك))، قلت: وفيك. وفرعون قد مات.
أخرجه البخاري في ((أدبه)) (1113)،وسنده صحيح على شرط مسلم.
والآخر: قول الله تبارك وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
فهذه الآية صريحة بالأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين ولا يؤذونهم، و العدل معهم، ومما لا ريب فيه أن أحدهم إذا سلم قائلاً بصرحة (السلام عليكم)،فرددناه عليه باقتضاب: (وعليك)،أنه ليس من العدل في شئ بله البر، لأننا في هذه الحالة نسوي بينه وبين من قد يقول منهم: (السام عليكم)،وهذا ظلم ظاهر. والله أعلم. (انظر: الاستدراك4).
ما جاء في لحوم الأضاحي
805 - (كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ).
أخرجه الإمام أحمد (3/ 309): ثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن جابر: فذكره.
وبهذا الإسناد أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (4/ 291) من طرق أخرى عن سفيان بن عيينة به.
وتابعه شعبة عن عمرو بن دينار به.
أخرجه الدارمي (2/ 80)،وابن حبان (7/ 569/5901)، وأحمد (3/ 368).
وتابع عمراً ابن جريج فقال: حدثنا عطاء به،ولفظه:
((كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا، وتزودوا. قلت: قال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم.
هكذا أخرجه مسلم من طريق محمد بن حاتم: حدثنا يحيي بن سعيد عن ابن جريج به.
وخالفه الإمام أحمد فقال ((3/ 317):ثنا يحيى بن سعيد به، إلا أنه قال??لا)) مكان ((نعم)).
وكذلك أخرجه البخاري والبيهقي عن مسدد: ثنا يحيى به.
وتابعه عمرو بن علي عند النسائي كما في ((الفتح)) (9/ 455).
فهؤلاء الثلاثة من الثقات الحفاظ-أحمد ومسدد، وعمرو بن علي-خالفوا محمد بن حاتم، فقالوا: ((لا)) مكان ((نعم))،ولا شك أن روايتهم أرجح، وهو الذي جزم به الحافظ فقال:
((والذي وقع في (البخاري) وهو المعتمد، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في (جمعه)،وتبعه عياض، ولم يذكرا ترجيحاً، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلاً فيما وقفت عليه)).
وأقول: لكن الحديث قد جاء من طريق غير يحيى عن ابن جريج، وهي طريق عمرو بن دينار عن عطاء بمعنى لفظ حديث محمد بن حاتم كما رأيت.
وعلى ذلك فيكون هناك خلاف أقدم حول هذه للفظة بين عمرو بن دينار من جهة وابن جريج من جهة أخرى، وكلاهما ثقة حافظ، فلا بد من التوفيق بين روايتيهما أو الترجيح، والمصير إلي الأول هو الأصل، وقد حاول ذلك الحافظ ابن حجر فقال عقب ترجيحه السابق لرواية البخاري النافية على رواية مسلم المثبتة:
((ثم ليس المراد بقوله?لا) نفي الحكم، بل مراده أن جابراً لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار ((كنا نتزود لحوم الهدي إلي المدينة))، أي: لتواجهنا إلي المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة. والله أعلم)).
قلت: لكن هناك طرق أخرى عن عطاء تبطل هذا التأويل مع مخالفته للظاهر، منها ما عند ابن أبي شيبة: نا علي عن عبدالملك عن عطاء به بلفظ:
((كنا نبلغ المدينة بلحوم الأضاحي)).
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وتابعه أبو الزبير عن جابر قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/213)
((أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الأضاحي، وتزودنا حتى بلغنا بها المدينة)).
أخرجه أحمد (3/ 386) من طريق زهير، والطحاوي (2/ 308)، وابن حبان (5900) من طريقين أخريين، ثلاثتهم عن أبي الزبير به.
وهو على شرط مسلم مع عنعنة أبي الزبير، لكنه يتقوى برواية عبدالملك-وهو ابن أبي سليمان-وهو ثقة.
ومما يشهد لروايتهما رواية شعبة عن عمرو بن دينار المتقدمة بلفظ:
((إنا كنا لنتزود من مكة إلي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الأضاحي)).
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
قلت: فهذا اللفظ عن عمرو بن دينار ومتابعة عبد الملك وأبو الزبير-على معناه، المصرحة بأنهم بلغوا بما تزودوا به من الأضاحي أو الهدي إلي المدينة-يبطل بكل وضوح ذلك المعنى الذي تقدم ذكره عن الحافظ في سبيل التوفيق بين رواية البخاري النافية وروايته الأخرى ن عمرو المثبتة، فتعين أنه لا بد من الترجيح، ولا شك أي باحث ذي نظر ثاقب أن رواية عمرو هي الراجحة، لما لها من شواهد التي ذكرنا، ولأنها مثبتة، ومن المعلوم في الأصول أن المثبت مقدم على النافي، لاسيما وأن للحديث شواهد عن غير جابر من الصحابة، ولعلي إذا نشطت ذكرت ما تيسر لي منها.
وتبين بهذا التخريج أن رواية ابن جريج غير محفوظة، وهو ما أشار إليه الإمام البيهقي بقوله عقب رواية عمرو:
((فالتزود غلي المدينة حفظه عمرو بن دينار عن عطاء (أي: ولم يحفظه ابن جريج عنه)، وحفظه أيضاً عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء، وحفظه زهير بن معاوية (قلت: وغيره كما تقدمت الإشارة إليه) عن ابي الزبير عن جابر)).
وقد روى التزود المذكور من الصحابة غير جابر:
1 - ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه مسلم والدارمي وأبن حبان (2902) والبيهقي، وهو مخرج في ((صحيح أبي داود)) (2505).
2 - وأبو سعيد الخدري:
((كنا نتزود من وشيق الحج حتى يكاد يحول عليه الحول)).
أخرجه أحمد (85/ 3) بسند حسن.
وروى ابن حبان وغيره من حديث عائشة مرفوعاً بلفظ:
((كلوه من ذي الحجة إلي ذي الحجة))،وسيأتي تخرجه برقم (1309).
(تنبيه):لقد شاع بين الناس الذين يعودون من الحج التذمر البالغ مما يرونه من ذهاب الهدايا والضحايا في منى طعماً للطيور والسباع الوحوش، أو لقماً للخنادق الضخمة التي تحفرها الجرفات الآلية ثم تقبرها فيها، حتى لقد حمل ذلك بعض المفتين الرسميين على إفتاء بعض الناس بجواز-بل وجوب- صرف أثمان الضحايا والهدايا في منى إلي الفقراء، او يشتري بها بديلها في بلاد المكلفين بها، ولست الآن بصدد بيان ما في هذه الفتوى من الجور، ومخالفة النصوص الموجبة لما استيسر من الهدي دون القيمة، وإنما غرضي أن أنبه أن التذمر المذكور يجب أن يعلم أن المسؤول عنه إنما هم المسلمون أنفسهم، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، وإنما أذكر هنا سبباً واحداً منها، وهو عدم اقتدائهم بالسلف الصالح رضي الله عنهم في الانتفاع من الهدايا:
بذبحهاو سلخها وتقطيعها، وتقديمها قطعاً إلي الفقراء، والأكل منها، ثم إصلاحها بطريقة فطرية؛ كتشريقه وتقديمه تحت أشعة الشمس بعد تمليحه، أو طبخه مع التمليح الزائد ليصلح للادخار، أو بطريقة أخرى عملية فنية إن تيسرت، لو أن المسلمين صنعوا في الهدايا هذا وغيره مما يمكن استعماله من الأسباب والوسائل؛ لزالت الشكوى بإذن الله، ولكن إلى الله المشتكى من غالب المسلمين الذين يحجون إلى تلك البلاد المقدسة وهم في غاية الجهل بأحكام المناسك الواجبة، فضلاً عن غيرها من الآداب والثقافة الإسلامية العامة. والله المستعان.
بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ
866 - (بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا).
أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (رقم377):أخبرنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي مسعود قال: قيل له: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ((زعموا))؟ قال فذكره.
وهكذا أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (762)، وأبو داود (4972)، والطحاوي في ((المشكل)) (1/ 67) من طرق عن الأوزاعي به؛ إلا أنهم قالوا:
((عن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله، أو قال أبو عبدالله لأبي مسعود: ما سمعت ... )) إلخ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/214)
هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وأبو قلابة قد صرح بالتحديث في رواية الواليد بن مسلم قال: نا الأوزاعي: نا يحيى بن أبي كثير: نا أبوقلابة: نا أبو عبدالله مرفوعاً به.
أخرجه الطحاوي وابن منده في ((المعرفة)) (2/ 251/2).
قلت: وهذا إسناد صحيح متصل بالتحديث، وقال أبودود:
((أبو عبد الله هذا حذيفة)).
قلت: وقد جاء ذلك مفسراً في إسناد أحمد:
((أ, قال أبو مسعود لأبي عبد الله، يعني: حذيفة)).
ولذلك أورده في ((مسند حذيفة)).
وخالفهم جميعاً يحيى بن عبد العزيز فقال: عن يحيى بن أبي كثير عن قلابة عن أبي المهلب أن عبد الله بن عامر قال: يا أبا سعيد ما سمعت ... )) إلخ.
أخرجه البخاري في ((الدب المفرد)) (رقم763)، والخرائطي في (مساوئ الأخلاق)) (301/ 688).
وهذه رواية شاذة بل منكرة؛ فإن يحيى هذا ليس بالمشهور بالحفظ والضبط، ولهذا قال الحافظ:
((مقبول)). يعني عند المتابعة؛ وإلا فلين عند التفرد كما هو اصطلاحه، فكيف وقد خالف؟
قلت: وفي الحديث ذم استعمال هذه الكلمة ((زعموا))؛ وإن كانت في اللغة قد تأتي بمعنى قال كما هو معلوم، ولذلك لم تأت في القرآن إلا في الإخبار عن المذمومين بأشياء مذمومة كانت منهم؛ مثل قوله تعالى??زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا)،ثم أتبع ذلك بقوله (بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم)، ونحو ذلك من الآيات، قال الطحاوي رحمه الله تعالى بعد أن ساق بعضها:
((وكل هذه الأشياء فإخبار من الله بها عن قوم مذمومين في أحوال لهم مذمومة، وبأقوال كانت منهم كانوا فيها كاذبين، فكان مكروهاً لأحد من الناس لزوم أخلاق المذمومين في أخلاقهم، الكافرين في أديانهم، الكاذبين في أقوالهم. وكان الأولى بأهل الإيمان لزوم أخلاق المؤمنين الذين سبقوهم بالإيمان، وما كانوا عليه من المذاهب المحمودة والأقوال الصادقة التي حمدهم الله عليها، رضوان الله عليهم ورحمته. وبالله التوفيق)).
وقال البغوي في ((شرح السنة)) (12/ 362):
((إنما ذم هذه اللفظة؛ لأنها تستعمل غالباً في حديث لا سند له ولا ثبت فيه؛ إنما هو شئ يحكى على الألسن، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدمه الرجل أمام كلامه ليتوصل به إلى حاجته من قولهم ((زعموا)) بالمطية التي يتوصل بها الرجل إلى مقصده الذي يؤمه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتثبت فيما يحكيه، والاحتياط فيما يرويه، فلا يروي حديثاً حتى يكون مروياً عن ثقة؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))، وقال عليه السلام: (من حدث بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين)).
الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ
935 - (الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ).
أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (481)، وأبو داود (4790)، والترمذي (1/ 356)، والحاكم (1/ 43)، والعقيلي في ((الضعفاء)) (ص56)، وابن عدي في ((الكامل)) (33/ 2)، والبيهقي في ((الشعب)) (6/ 270/8117) من طريق بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
وقال الترمذي:
((حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)).
كذا قال، وفيه نظر يبينه قول العقلي:
((لا يتابع عليه بشر بن رافع إلا من هو قريب منه في الضعف)).
قلت: بشر هذا ضعيف الحديث كما في ((التقريب)).
وقد تابعه الحجاج بن فرافصة عن يحيى بن أبي كثير به.
أخرجه ابوداود، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 202)، وأحمد (2/ 394)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (2/ 3/1 - 2)، وأبو نعيم (3/ 110)، والخطيب (9/ 38)، والحاكم أيضاً، وكذا في ((علوم الحديث)) (ص117)، والبيهقي أيضاً (رقم8115و8116)، و ((السنن)) (10/ 195)، وقال في ((المستدرك)):
((الحجاج بن فرافصة قال ابن معين: لا بأس به. وقال ابوحاتم: شيخ صالح متعبد))
ولكنه في ((معرفة العلوم)) أعله بأن الحجاج لم يسم شيخه في رواية سفيان عنه، بل قال??عن رجل عن أبي سلمة))، وهي رواية أحمد وأبي داود، وهذه علة غير قادحة؛ فقد سماه سفيان عنه في بعض الروايات الأخرى، وهي ثابتة عنه.
والحجاج هذا قال الحافظ في ((التقريب)):
((صدوق عابد يهم)).
فإذا ضم إلي روايته رواية بشر بن رافع؛ تقوي الحديث بمجموعها، وارتقى إلي درجة الحسن.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/215)
وقد أخرجه عنه عبد الله بن المبارك في ((الزهد)) (679) مرسلاً؛ فقال: أخبرنا أسامة بن يزيد عن رجل من بلحارث بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
وهذا الرجل هو أبو الأسباط الحارثي بشر بن رافع؛ كما ذكر المعلق الفاضل على ((الزهد)).
وبهذا الإسناد أخرجه ابن وهب في ((الجامع)) (ص39): حدثني أسامة بن زيد به.
وقد وجدت للحديث شاهداً- ولكنه مما لا يفرح به لشدة ضعفه، أذكره لبيان حاله-أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (19/ 82/166)،وابن عدي أيضاً (7/ 163) عن يوسف بن السفر: ثنا الأوزاعي عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعاً به.
قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 82):
((وفيه يوسف بن السفر وهو كذاب)).
(فائدة): قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله:
(("الغر" في كلام العرب: هو الذي لاغائلة ولا باطن له يخالف ظاهره، ومن كان هذا سبيله أمن المسلمون ((الأصل: من المسلمين)) من لسانه ويده، وهي صفة المؤمنين. و (الفاجر): ظاهره خلاف باطنه؛ لأن باطنه هو ما يكره؛ وظاهره مخالف لذلك؛ كالمنافق الذي يظهر شيئا غير مكروه منه؛ وهو الإسلام الذي يحمده أهله عليه، ويبطن خلافه؛ وهو الكفر الذي يذمه المسلمون عليه)).
َلَا يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ
986 - (خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَا يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ).
أخرجه ابوداود (1/ 407)، والترمذي (1/ 294)، والطحاوي في ((المشكل)) (1/ 239)، وابن خزيمة في ((صحيحه)) (1/ 255/1)، وابن حبان (1663) من طريق أبي يعلى، وهذا في ((المسند)) (4/ 459/2587)، والحاكم (1/ 443و 2/ 101)، وأحمد (1/ 294)، وعبد بن عبد الحميد في ((لمنتخب من المسند)) (73/ 1)، ومحمد بن مخلد في ((المنتقى من حديثه)) (2/ 3/2)، والضياء في ((المختارة)) (62/ 292/2) من طريق وهب بن جرير: ثنا أبي: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبدا لله عن ابن عباس مرفوعاً. وقال الحاكم:
((صحيح على شرط الشيخين؛ ولم يخرجاه لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري)).
وكذا قال الذهبي.
وقال الترمذي:
((حديث حسن غريب، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما روى هذا الحديث عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد رواه حبان بن علي العنزي عن عقيل عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً))).
قلت: جرير بن حازم ثقة احتج به الشيخان، وقد وصله، وهي زيادة يجب قبولها، ولا يضره رواية من قصر به على الزهري، ولذلك قال ابن القطان كما في ((الفيض)):
((هذا ليس بعلة، فالأقرب صحته)).
وقد تابعه حبان بن علي العنزي على وصله كما ذكره الترمذي.
ووصله لوين في ((حديثه)) (ق2/ 2): حدثنا حبان بن علي به.
وهكذا وصله ابن عدي (108/ 1)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (2/ 226) من طريق أخرى عنه.
وأخرجه الطحاوي في ((المشكل)) (1/ 238) من طريق النسائي عن لوين به.
وزاد في آخره:
((إذا صبروا وصدقوا)).
وقال النسائي:
((وحبان ليس بالقوي)).
وأخرجه الدارمي (2/ 215) هكذا: ثنا محمد بن صلت: ثنا حبان بن علي عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس مرفوعاً به نحوه بلفظ:
((وما بلغ أثنى عشر ألفاً فصبروا وصدقوا، فغلبوا من قلة)).
وأخرجه أحمد (1/ 299)، وأبو يعلى (5/ 103/2714) عن حبان عن عقيل وحده.
ورجاله كلهم ثقات رجال البخاري؛ غير حبان بن علي وهو ضعيف؛ لكنه لم يترك كما قال الذهبي، فمثله يستشهد به.
ورواية الليث التي علقها الترمذي عن عقيل عن الزهري مرسلاً وصلها الطحاوي من طريق ابن صالح عنه.
وابن صالح اسمه عبد الله كاتب الليث، وفيه ضعف؛ فلا يحتج به عند التفرد؛ فكيف عند المخالفة؟
استدراك:
هذا ما كان وصل إليه علمي منذ أكثر من عشرين سنة، ثم وقفت على أمور اضطررت من أجلها إلي أن اعدل عن القول بصحة الحديث، راجياً من المولى سبحانه وتعالى أن يلهمني الصواب في ذلك، وإليك الأمور المشار إليها:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/216)
أولا: أنه لا يصح التعلق بضعف عبد الله بن صالح الذي رواه عن الليث عن عقيل عن الزهري مرسلاً؛ لأن الليث قد توبع كما سأذكر قريباً، وذلك من أسباب العدول المذكور.
ثانياً: أن ما تقدم في كلام الترمذي أن جرير بن حازم تفرد بروايته عن يونس عن الزهري بسنده المتصل عن ابن عباس، وبناءً عليه أجبت بأن جريراً ثقة ... فهذا كان جواباً ناقصاً؛ لأن الرجل فيه ضعف يسير من قبل حفظه؛ كما يستفاد من قول الحافظ في ((التقريب)):
((ثقة؛ لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه)).
ونحوه ذكر الذهبي في ((الضعفاء)).
وعليه فالجواب المشار إليه ضعيف، وقد أشار إلي ذلك البيهقي في ((سننه)) (9/ 156) عقب روايته للحديث بقوله:
((تفرد به جرير بن حازم موصولاً، ورواه عثمان بن عمر عن يونس عن عقيل عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعاً. قال أبو داود: أسنده جرير بن حازم، وهو خطأ)).
قلت: وعثمان بن عمر هو ابن فارس العبدين وهو أوثق من جرير، فقد اتفقوا على توثيقه، بل قال العلجي:
((ثقة ثبت)).
ومما يؤيد ما قلت؛ إذا قابلت قول الحافظ المتقدم في جرير بقوله في عثمان هذا:
((ثقة، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه)).
وقول يحيى جرح غير مفسر؛ فلا قيمة له، وبخاصة مع اتفاق الأئمة الآخرين على توثيقه.
ثالثاً: وعلى افتراض أن جريراً حفظه عن يونس-وهو ابن يزيد الأيلي-فيكون هذا هو المخطئ في وصله؛ فإنه وإن كان ثقة محتجاً به في ((الصحيحين))؛ فإن له أوهاماً كما بينه الحافظ في ((مقدمة الفتح)) _ (ص455)؛ فقال:
((وثقه الجهور مطلقاً، وإنما ضعفوا بعض رواياته؛ حيث تخالف أقرانه؛ أو يحدث من حفظه، فإذا حدث عن كتابه فهو حجة)).
وقال في ((التقريب)):
((ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ)).
قلت: وهذا الحديث مما أخطأ فيه على الزهري- إن لم يكن أخطأ عيه جرير بن حازم كما تقدم-وذلك لأنه خالفه ثقتان احتج بهما الشيخان:
الأول: عقيل-وهو ابن خالد الأيلي-فقال: عن الزهري مرفوعاً. لم يجاوز به الزهري. وعقيل قال الحافظ:
((ثقة ثبت)).
أخرجه سعيد بن منصور في ((سننه)) (3/ 2/160/ 2387)، وعنه أبوداود في ((المراسيل)) (238/ 313).
والآخر: معمر-وهو ابن راشد البصري-فقال: عن الزهري به.
أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف) ((5/ 306/9099).
ومعمر قال الحافظ:
((ثقة ثبت فاضل؛ إلا أن روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة)).
قلت: فاتفاق هذين الثقتين على رواية الحديث عن الزهري مرسلاً مما يؤكد للمتأمل وهم جرير أو يونس في وصله عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس.
وإذا تبينت هذا، فستعرف أن رواية حبان بن علي عن يونس وعقيل مما لا يصلح للاستشهاد به لمخالفته-مع ضعفه في نفسه كما تقدم-لرواية الثقتين المذكورين كما هو ظاهر.
وإنه مما يؤكد ما تقدم من التحقيق جزم أبي داود والبيهقي بخطأ الرواية المسندة كما تقدم، وكذلك قال غيرهما؛ مثل أبي حاتم وابنه، فقد ساق هذا الحديث في كتابه ((العلل)) (1/ 347/1024) من الوجهين المسندين-أعني طريق جرير وحبان- ثم قال:
((فسمعت أبي يقول: مرسل أشبه. لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم)).
قلت: ولعل نفي أبي حاتم رحمه الله لهذا الاحتمال إنما هو لمخالفة الحديث لظاهر قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ {65} الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
والشاهد منه التخفيف المذكور فيه، فقد قال ابن كثير في تفسير قوله عز وجل: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً):
((فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا منهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم)).
وظاهر الحديث أنه لا يجوز لهم التحوز إذا كان عددهم اثني عشر ألفاً؛ مهما كان عدد عدوهم، وهذا خلاف قول ابن عباس-راوي الحديث-:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/217)
((إن فر من رجلين فقد فر، وإن فر من ثلاثة لم يفر)).
رواه الطحاوي بسند صحيح عنه، وكذا رواه ابن أبي شيبة (12/ 537) وزاد: ((يعني من الزحف))، وقد روي مرفوعاً ولا يصح، وبيانه في ((الضعيفة)) (6182).
هذا وقد روي الحديث عن أنس بنحوه وفيه زيادات في متنه، وإسناده ضعيف بمرة، وقد خرجته في ((الضعيفة)) (6180).
وجملة القول: إن الحديث لا يصح، فما جاء مخالفاً لهذا في بعض كتاباتي فأنا راجع عنه قائلاً: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
كتاب فضائل القرآن والأدعية والأذكار والرقى
وجوب ذكر الله والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مجلس
74 - (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ).
ترة: أي: نقص , والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة.
75 - (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَغَشَّتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
76 - (مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَا يَذْكُرُونَ فيه اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ).
77 - (مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَان عليهم ْ حَسْرَةً يوم القيامة)
78 - (مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ).
79 - (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقًا فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً).
80 - (مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
لقد دل هذا الحديث الشريف – وما في معناه – على وجوب ذكر الله سبحانه , وكذا الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مجلس , ودلالة الحديث على ذلك من وجوه:
أولاً: قوله (فَإِنْ شَاءَ عذبهم وإن شاء غَفَرَ لَهُمْ) , فإن هذا لا يقال إلا فيما كان فعله واجباً وتركه معصية.
ثانياً: قوله (وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ) , فإنه ظاهر في كون تارك الذكر والصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحق دخول النار , وإن كان مصيره إلى الجنة ثواباً على إيمانه.
ثالثاً: قوله (وإِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ) , فإن هذا التشبيه يقتضي تقبيح عملهم كل التقبيح , وما يكون ذلك – إن شاء الله تعالى – إلا فيما هو حرام ظاهر التحريم , والله أعلم.
فعلى كل مسلم أن ينتبه لذلك , ولا يغفل عن ذكر الله عز وجل , والصلاة على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , في كل مجلس يقعده , وإلا كان عليه ترة وحسرة يوم القيامة.
قال المناوي في (فيض القدير): (فيتأكد ذكر الله والصلاة على رسوله عند إرادة القيام من المجلس , وتحصل السنة في الذكر والصلاة , بأي لفظ كان , لكن الأكمل في الذكر: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ , وفي الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما في آخر التشهد).
قلت: والذكر المشار إليه هو المعروف بكفارة المجلس , وقد جاء فيه عدة أحاديث , أذكر واحداً منها هو أتمها , وهو:
81 - (من قال: سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لاإله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكر، كانت كالطابع يطبع عليه، ومن قالها في مجلس لغو، كانت كفارة له).
تدارسوا القرآن قبل رفعه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/218)
87 - (يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا).
اخرجه ابن ماجه , والحاكم , ونعيم بن حماد من طريق أَبُي مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مرفوعاً به , وزاد قَالَ صِلَةُ بن زفر لحذيفة: (مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ثَلَاثًا).
ويدرس: من درس الرسم دروساً: إذا عفا وهلك , ووشي الثوب: نقشه.
وفي هذا الحديث نبأ خطير , وهو أنه سوف يأتي يوم على الإسلام يمحى أثره , وعلى القرآن فيرفع , فلا يبقى منه ولا آية واحدة , وذلك لا يكون إلا بعد أن يسيطر الإسلام على الكرة الأرضية جميعها , وتكون كلمته فيها هي العليا , كما هو نص قول الله تبارك وتعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة33. وكما شرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك في أحاديث كثيرة سبق ذكر بعضها.
وما رفع القرآن الكريم في آخر الزمان , إلا تمهيداً لإقامة الساعة على شرار الخلق , الذين لا يعريفون شيئاً من الإسلام البتة , حتى ولا توحيده.
وفي الحديث إشارة إلى عظمة القرآن , وأن وجوده بين المسلمين هو السبب لبقاء دينهم ورسوخ بنيانه , وما ذلك إلا بتدارسه وتدبره وتفهمه , ولذلك تعهد الله تبارك وتعالى بحفظه إلى أن يأذن الله برفعه.
فما أبعد ضلال بعض المقلدة الذين يذهبون إلى أن الدين محفوظ بالمذاهب الأربعة , وأنه لا ضير على المسلمين من ضياع قرآنهم لو فرض وقوع ذلك , هذا ما كان صرح لي به أحد كبار المفتين من الأعاجم , وهو يتكلم العربية الفصحى بطلاقة , وذلك لما جرى الحديث بيني وبينه حول الاجتهاد والتقليد , قال – ما يردده كثير من الناس: إن الاجتهاد أغلق بابه منذ القرن الرابع , فقلت له: وماذا نفعل بهذه الحوادث الكثيرة التي تتطلب معرفة حكم الله فيها اليوم؟ قال: إن هذه الحوادث مهما كثرت فستجد الجواب عنها في كتب علمائنا إما عينها أو مثلها. قلت: فقد اعترفت ببقاء باب الاجتهاد مفتوحاً ولا بد. قال كيف ذلك؟ قلت: لأنك اعترفت أن الجواب قد يكون مثلها لا عن عينها , إذا الأمر كذلك فلابد من النظر في كون الحادثة في هذا العصر هي مثل التي أجابوا عنها وحين ذلك فلا مناص من استعمال النضر والقياس , وهو الدليل الرابع من أدلة الشرع , وهذا معناه الاجتهاد بعينه لمن هو له أهل , فكيف تقولون بسد بابه؟.
ويذكرني هذا بحديث آخر جرى بيني وبين أحد المفتين شمال سورية , سألته: هل تصح الصلاة في الطائرة؟ قال: نعم. قلت هل تقول ذلك تقليداً أم اجتهاداً؟ قال: ماذا تعني؟ قلت لا يخفى أن من أصولكم في الإفتاء , أنه لا يجوز الإفتاء باجتهاد , بل اعتماداً على نص من إمام , فهل هناك نص بصحة الصلاة في الطائرة؟ قال: لا. قلت فكيف إذن خالفتم أصلكم هذا فأفتيتم دون نص؟ قال: قياساً. قلت ما هو المقيس عليه؟ قال الصلاة في السفينة. قلت هذا حسن , ولكنك خالفت بذلك أصلاً وفرعاً: أما الأصل , فما سبق ذكره , وأما الفرع , فقد ذكر الرافعي في (شرحه) أن المصلي لو صلى في أرجوحة غير معلقة بالسقف ولا مدعمة بالأرض فصلاته باطلة. قال لا علم لي بهذا. قلت فراجع الرافعي إذن اتعلم أن (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) يوسف76 , فلو أنك تعرف أنك من أهل القياس والاجتهاد , وأنه يجوز لك ذلك – ولو في حدود المذهب فقط - , لكانت النتيجة أن الصلاة في الطائرة باطلة , لأنها هي التي يتحقق فيها ما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/219)
ذكره الرافعي من الفرضية الخيالية يومئذ , أما نحن , فنرى أن الصلاة في الطائرة صحيحة لا شك في ذلك , ولئن كان السبب في صحة الصلاة في السفينة أنها مدعمة بالماء بينها وبين الأرض , فالطائرة أيضاً مدعومة بالهواء بينها وبين الأرض , وهذا هو الذي بدا لكم في أول الأمر حين بحثتم استقلالاً , ولكنكم لما علمتم بذلك الفرع المذهبي , صدكم عن القول بما أداكم إليه بحثكم؟.
أعود إلى إتمام الحديث مع المفتي الأعجمي: قلت له: وإذا كان الأمر كما تقولون: إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مجتهدين , لأن المفتي يجد الجواب عن عين المسألة أو مثلها , فهل يترتب ضرر ما لو فرض ذهاب القرآن؟ قال: هذا لا يقع. قلت: إنما أقول لو فرض. قال: لا يترتب أي ضرر لو فرض وقوع ذلك , قلت: فما قيمة امتنان الله عز وجل إذن على عباده بحفظ القرآن حين قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحج 9 , إذا كان هذا الحفظ غير ضروري بعد الأئمة؟.
والحقيقة أن هذا الجواب الذي حصلنا عليه من المفتي بطريق المحاورة هو جواب كل مقلد على وجه الأرض , وإنما الفرق أن بعضهم لا يجرؤ على التصريح به , وإن كان قلبه قد انطوى عليه , نعوذ بالله من الخذلان.
فتأمل أيها القارئ اللبيب , مبلغ ضرر ما نشكو منه , لقد جعلوا القرآن في حكم المرفوع وهو لا يزال بين ظهرانينا والحمد لله , فكيف يكون حالهم حين يسرى عليه في ليلة , فلا يبقى في الأرض منه آية , فاللهم هداك.
من الأذكار بعد الفريضة
100 - (يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تُدْرِكُ بِهِنَّ مَنْ سَبَقَكَ وَلَا يَلْحَقُكَ مَنْ خَلْفَكَ إِلَّا مَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ عَمَلِكَ تُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُسَبِّحُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَخْتِمُهَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
رواه أبو داود: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أهل الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا وَلَيْسَ لَنَا مَالٌ نَتَصَدَّقُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكرة) وزاد في آخره (غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ).
ومن الظاهر أنها غير منسجمة مع سياق الحديث _ زيادة غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ _ وقد جاءت هذه الزيادة في حديث آخر لأبي هريرة , فأخشى أن يكون اختلط على بعض الرواة أحد الحديثين بلآخر , فدمجهما في سياق واحد , ولفظ الحديث المشار إليه يأتي بعده إن شاء الله.
101 - (مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ثم َقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ له خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ).
وقد جاء هذا العدد في حديث آخر , ولكنه جعل بدل التهليلة تكبيرة أخرى مع الثلاث والثلاثين , ويأتي عقب هذا إن شاء الله تعالى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/220)
فائدة: أخرج النسائي والحاكم عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: (أُمِرُوا أَنْ يُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَأُتِيَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي مَنَامِهِ فَقِيلَ لَهُ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاجْعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ [يعني:خَمْسًا وَعِشْرِينَ] فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ اجْعَلُوهَا كَذَلِكَ).
وله شاهد من حديث ابن عمر نحوه , أخرجه النسائي بسند صحيح.
102 - (مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً).
معقبات , أي كلمات تقال عقب الصلاة , والمعقب ما جاء عقب قبله.
قلت: والحديث نص على أن هذا الذكر إنما يقال عقب الفريضة مباشرة , ومثله ما قبله من الأوراد وغيرها , سواء كانت الفريضة لها سنة بعدية أو لا , ومن قال من المذاهب بجعل ذلك عقب السنة – فهو مع كونه لا نص لديه بذلك – فإنه مخالف لهذا الحديث وأمثاله مما هو نص في المسألة , والله ولي التوفيق.
فضل الدعاء والبر
154 - (لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ).
قوله: القضاء: أراد به هنا الأمر المقدور لولا دعاؤه.
وقوله وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ: يعني العمر الذي كان يقصر لولا بره.
الخطبة الجذماء
169 - (كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ).
فائدة: قال المناوي في فيض القدير: (وأراد بالتشهد هنا الشهادتين , من إطلاق الجزء على الكل , كما في التحيات. قال القاضي: أصل التشهد الإتيان بكلمة الشهادة , وسمي التشهد تشهداً لتضمنه إياهما , ثم اتسع فيه فاستعمل في الثناء على الله تعالى والحمد له).
قلت وأنا أظن أن المراد بالتشهد في الحديث إنما هو خطبة الحاجة التي كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمها أصحابه: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
ودليلي على ذلك حديث جابر بلفظ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَيَقُولُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ... ) الحديث.
وفي رواية عنه بلفظ: (كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ... ) الحديث رواه أحمد وغيره.
فقد أشار في هذا اللفظ إلى أن ما في اللفظ الأول قبيل (إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ ...... ) , هو التشهد , وهو وأن لم يذكر فيه صراحة , فقد أشار إليه بقوله فيه: (فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ).
وقد تبين في أحاديث أخرى في خطبة الحاجة أن الثناء عليه تعالى كان يتضمن الشهادتين , ولذلك قلنا: إن التشهد في هذا الحديث إشارة إلى التشهد المذكور في خطبة الحاجة , فهو يتفق مع اللفظ الثاني في حديث جابر في الإشارة إلى ذلك , وقد تكلمت عليه في خطبة الحاجة ,فليراجعه من شاء.
وقوله كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ , أي المقطوعة , والجذم سرعة القطع , يعني: أن كل خطبة لم يؤت فيها بالحمد والثناء على الله فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة بها. مناوي.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/221)
قلت: ولعل هذا هو السبب أو على الأقل من أسباب عدم حصول الفائدة من كثير من الدروس والمحاضرات التي تلقى على الطلاب أنها لا تفتتح بالتشهد المذكور , مع حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البالغ على تعليمه أصحابه إياه , كما شرحته في الرسالة المشار إليها , فلعل هذا الحديث يذكر الخطباء بتدارك ما فاتهم من إهمالهم لهذه السنة التي طالما نبهنا عليها في مقدمة هذه السلسلة وغيرها.
الذكر بعد السلام من الفريضة
196 - (كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة [حين يسلم]: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وفي هذا الحديث مشروعية هذا الذكر بعد السلام من الفريضة , وقد حرم فضله من ذهب إلى عدم مشروعية الزيادة على قوله: (اللهم أنت السلام .... ) , إلخ عقب الفرض وأن ما سواه من الأوراد إنما عقب السنة البعدية , وفي هذا الحديث رد صريح عليهم لا يقبل الرد.
التسمية على الطعام هي بسم الله فقط
344 - (يا غلام إذا أكلت , فقل: بسم الله , وكل بيمينك , وكل مما يليك).
وفي الحديث دليل على أن السنة في التسمية على الطعام إنما هي: " بسم الله " فقط , ومثله حديث عائشة مرفوعاً: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ).
قال الحافظ: (وأما قول النووي في آداب الأكل من " الأذكار ": " صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته , والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم , فإن قال: بسم الله , كفاه وحصلت السنة " , فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً).
وأقول: لا أفضل من سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , "وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" , فإذا لم يثبت في التسمية على الطعام إلا "بسم الله " , فلا يجوز الزيادة عليها , فضلاً عن أن تكون الزيادة أفضل منها , لأن القول بذلك خلاف ما أشرنا إليه من الحديث "وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
النهي عن الزيادة في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
346 - (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيِْ وَقَالَ أَرْبَعٌ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ لَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ أَفْلَحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا يَسَارًا , [فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون , فيقول: لا]).
في الحديث آداب ظاهرة , وفوائد باهرة , أهمها النهي عن الزيادة في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا وإن كان معناه في رواية حديثه ونقله , فإنه يدل على المنع من الزيادة فيه تعبداً قصداً للاستزادة من الأجر بها من باب أولى , وأبرز صور هذا الزيادة على الأذكار الواردة الثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كزيادة " الرحمن الرحيم " في التسمية على الطعام , فكما أنه لا يجوز للمسلم أن يروي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتقدم " 344 ": "قل: بسم الله " , بزيادة "الرحمن الرحيم" فكذلك لا يجوز له أن يقول هذه الزيادة على طعامه , لأنه زيادة على النص فعلاً , فهو بالمنع أولى , لأنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل بسم الله " , تعليم للفعل , فإذا لم يجز الزيادة في التعليم الذي هو وسيلة للفعل , فلأن لا يجوز الزيادة في الفعل الذي هو الغاية أولى وأحرى , ألست ترى إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على من زاد الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الحمد عقب العطاس بحجة أنه مخالف لتعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وقال له: (وأنا أقول: الحمد لله , والسلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , علمنا إذا عطس أحدنا أن يقول: الحمد لله على كل حال؟) , صحيح الإسناد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/222)
فإذا عرفت ما تقدم من البيان , فالحديث من الأدلة الكثيرة على رد الزيادة في الدين والعبادة , فتأمل في هذا واحفظه , فإنه ينفعك إن شاء الله تعالى في إقناع المخالفين , هدانا الله وإياهم صراطه المستقيم.
وفي الحديث النهي عن التسمية بـ (يسار) و (رباح) و (أفلح) و (نجيح) , ونحوها , فينبغي التنبه لهذا , وترك تسمية الأبناء بشئ منه , وقد كان في السلف من دعي بهذه الأسماء , فالظاهر أنه كان ذلك لسبب عدم علمهم بالحديث إذا كان من التابعين فمن بعدهم , أو قبل النهي عن ذلك إذا كان من الصحابة رضي الله عنهم , والله أعلم.
استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى
472 - (مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ).
أخرجه مسلم , وابن حبان , وأحمد , والخرئطي من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: "أرخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رقية الحية لبني عمرو".
قال أبوالزبير: سمعت جابر بن عبدالله يقول: " لدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل: يارسول الله أرقي؟ قال: فذكره".
وفي رواية لمسلم وأحمد من طريق أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ لِي خَالٌ يَرْقِي مِنْ الْعَقْرَبِ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّقَى قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قد نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى وَأَنَا أَرْقِي مِنْ الْعَقْرَبِ فَقَالَ: (فذكره).
وفي الحديث استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى , وذلك ما كان معناه مفهوماً مشروعاً , وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ , فغير جائز , قال المناوي: "وقد تمسك ناس بهذا العموم , فأجازوا كل رقية جربت منفعتها , وإن لم يعقل معناها , لكن دل حديث عوف الماضي أن ما يؤدي إلى شرك يمنع , وما لا يعرف معناه لا يؤمن أن يؤدي إليه , فيمنع احتياطاً".
قلت: ويؤيد ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمح لآل عمرو بن حزم بأن يرقي إلا بعد أن اطلع على صفة الرقية , ورآها مما لا باس به , بل إن الحديث بروايته الثانية من طريق أبي سفيان نص في المنع مما لا يعرف من الرقى , لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى نهياً عاماً أول الأمر ثم رخص فيما تبين أنه لا باس به من الرقى , وما لا يعقل معناه منها لا سبيل إلى الحكم عليها بأنه لا بأس بها , فتبقى في عموم المنع , فتأمل.
وأما الاسترقاء – وهو طلب الرقية من الغير – فهو وإن كان جائزاً , فهو مكروه , كما يدل عليه حديث: (هم الذين لا يسترقون .... ولا يكتوون ولا يتطيرون , وعلى ربهم يتوكلون) متفق عليه.
وأما ما وقع من الزيادة في رواية لمسلم: (هم الذين [لا يرقون و] يسترقون ... ) , فهي زيادة شاذة , ولا مجال لتفصيل القول في ذلك الآن من الناحية الحديثية , وحسبك أنها تنافي ما دل عليه هذا الحديث من استحباب الترقية , وبالله التوفيق.
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ
746 - (اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي سُوَرٍ من القرآن ثَلَاثٍ "الْبَقَرَةِ" و"َآلِ عِمْرَانَ" وَ"طه").
أخرجه ابن معين في ((التاريخ والعلل)) (10/ 152/2)،وابن ماجه (3856)،والطحاوي في (مشكل الآثار) (1/ 63)،والفريابي في (فضائل القرآن) (184/ 1)، وتمام في (الفوائد) (36/ 2)، وأبو عبدالله بن مروان القرشي في (الفوائد) (25/ 110/2) والسياق له، والحاكم (1/ 506)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق) (14/ 155) من طريق عبدالله بن علاء قال: سمعت القاسم أبا عبدالرحمن يخبر عن أبي إمامة مرفوعاً به. قال القاسم أبو عبدالرحمن:
((فالتمست في (البقرة) فإذا هو في آية الكرسي (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) وفي (آل عمران) فاتحتها: (اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي (طه)، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)).
(فائدة): قول القاسم أن الاسم الأعظم في آية (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) من سورة (طه) لم أجد في المرفوع ما يؤيده فالأقرب عندي أنه في قوله في أول السورة (إنني أنا الله لا إله إلا أنا. .) فإنه الموافق لبعض الأحاديث الصحيحة فانظر ((الفتح)) (11/ 225)، ((وصحيح أبي داود)) (1341).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/223)
كتاب الجنة والنار
مافي الدنيا من أنهار الجنة
110 - (سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ).
رواه مسلم , وأحمد , وأبوبكر الأبهري , والخطيب من طريق حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً.
وله طريق أخرى بلفظ:
111 - (فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ الْجَنَّةِ الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ).
وله شاهد من حديث أنس بن نالك مرفوعاً بلفظ:
112 - (رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَانِ قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ).
لعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها , كما أن أصل الإنسان من الجنة , ويدل على ذلك لفظ الحديث المتقدم-111 - : (فُجِّرَتْ .... ) , فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض , فإن لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه , فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها والتسليم للمخبر عنها , (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء65.
الشمس والقمر في النار يوم القيامة
124 - (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة).
وليس المراد من الحديث ما تبادر إلى ذهن الحسن البصري: أن الشمس والقمر في النار يعذبان فيها عقوبة لهما , كلا , فإن الله عز وجل لا يعذب من أطاعه من خلقه , ومن ذلك الشمس والقمر , كما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) الحج 18 , فأخبر تعالى أن عذابه إنما يحق على غير من كان يسجد له تعالى في الدنيا , كما قال الطحاوي , وعليه , فإلقاؤهما في النار يحتمل أمرين:
الأول: أنهما من وقود النار.
قال الإسماعيلي: (لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما , فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها , لتكون لأهل النار عذاباً , وآلة من آلات العذاب , وما شاء الله من ذلك , فلا تكون هي معذبة).
والثاني: أنهما يلقيان فيها تبكيتاً لعبادهما.
قال الخطابي: (ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك , ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا , ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلاً).
قلت: وهذا هو الأقرب إلى لفظ الحديث , ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى – كما في الفتح -: (ليراهما من عبدهما) , ولم أرها في مسنده , والله تعالى أعلم.
تمني الكافر الفداء من النار
172 - (يقول الله لأهون أهل النار عذابا [يوم القيامة]: [يا ابن آدم! كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع. فيقال له:] لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: [كذبت] قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب [وفي رواية: في ظهر] آدم: أن لا تشرك [بي شيئا]، [ولا أدخلك النار]، فأبيت إلا الشرك. فيؤمر به إلى النار).
قوله: فيقول: كذبت , قال النووي (معناه: لو رددناك إلى الدنيا , لما افتديت , لأنك سئلت أيسر من ذلك فأبيت , فيكون من معنى قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).الأنعام 28.وبهذا يجتمع معنى هذا الحديث مع قوله سبحانه وتعالى: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) , الرعد 18.
قوله: قد أردت منك , أي أحببت منك.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/224)
والإرادة في الشرع تطلق ويراد بها ما يعم الخير والشر والهدى والضلال و كما في قوله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) الأنعام125 , وهذه الإرادة لا تتخلف.
وتطلق أحياناً ويراد بها ما يرادف الحب والرضى , كما في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة185.
وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في هذا الحديث: (أردت منك) , أي أحببت.
والإرادة بهذا المعنى قد تتخلف , لأن الله تبارك وتعالى لا يجبر أحداً على طاعته , وإن كان خلقهم من أجلها (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف29 , وعليه فقد يريد الله تبارك وتعالى من عبده ما لا يحبه منه , ويحب منه مالا يريده.
وهذه الإرادة يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى بالإرادة الكونية , أخذاً من قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس82 , ويسمي الإرادة الأخرى المرادفة للرضى بالإرادة الشرعية.
وهذا التقسيم من فهمه , انحلت له كثير من مشكلات مسألة القضاء والقدر , ونجا من فتنة القول بالجبر او الأعتزال , وتفصيل ذلك في الكتاب الجليل شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم رحمه الله تعالى.
وقوله: وأنت في صلب آدم , قال القاضي عياض: (يشير بذلك إلى قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) , فهذا الميثاق الذي أخذه عليهم في صلب آدم , فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا, فهو مؤمن , ومن لم يوف به فهو كافر , فمراد الحديث: اردت منك حين أخذت الميثاق , فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك) ذكره في الفتح.
أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ
959 - (أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ).
أخرجه ابوداود (4278)، والحاكم (4/ 444)، وأحمد (4/ 410و418) من طريق المسعودي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وقال الحاكم:
((صحيح الإسناد)) ووفقه الذهبي وقال الحافظ ابن حجر في ((بذل الماعون)) (54/ 2):
((سنده حسن)).
كذا قالوا، والمسعودي كان اختلط.
ولكن الحديث صحيح؛ فقد أخرجه أحمد (3/ 408)، والبخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 1/38 - 39)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (ص3)، والقاضي الخولاني في ((تاريخ داريا)) (ص82 - 38)،وأبوبكر الكلاباذي في ((مفتاح المعاني)) (154/ 1)،و الواحدي في ((الوسيط)) (1/ 128/1) من طرق أخرى كثيرة عن أبي بردة به نحو، فهو إسناد صحيح جداً.
ولأبي بردة فيه إسناد آخر؛ فقال محمد بن فضيل بن غزوان: ثنا صدقة بن المثنى: ثنا رياح عن أبي بردة قال:
((بينما أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى تعجبا، فقال رجل من الأنصار -قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-:مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض قال: فلا تعجب فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
أخرجه البخاري في ((التاريخ))، والحاكم (4/ 353 - 354) والسياق له، وقال:
((صحيح الإسناد))،ووافقه الذهبي.
قلت: هو كما قالا لولا الرجل الأنصاري الذي لم يسم.
ثم أخرجه الحاكم (1/ 49و4/ 254)، وكذا الطحاوي في ((المشكل)) (1/ 105)، والخطيب في ((التاريخ)) (4/ 205) من طريق أبي حصين عن أبي بردة عن عبدا لله بن يزيد مرفوعاً بلفظ:
((جعل عذاب هذه الأمة في دنياها)).
قال الحاكم:
((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي، وإنما هو على شرط البخاري وحده؛ فإن أبا بكر بن عياش لم يخرج له مسلم.
وتابعه الحسن بن الحكم النخعي عن أبي بردة به دون الزيادة.
أخرجه الحاكم (1/ 50)، وله متابعون آخرون في ((التاريخ الكبير)) و ((الصغير)) (ص118 - هند).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/225)
(تنبيه) واعلم أن المقصود بـ ((الأمة)) هنا غالبها، للقطع بأنه لابد من دخول بعضهم النار للتطهير، أفاده المناوي، خلافاً لمن جهل، انظر ((الاستدراك)) (13).
كتاب التوبة والمواعظ والرقانق
خصال توجب الجنة
88 - (ما اجتمع هذه الخصال في رجل في يوم، إلا دخل الجنة).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
وفي هذا الحديث فضلية أَبُو بَكْرٍ الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , والبشارة له بالجنة , والأحاديث في ذلك كثيرة طيبة.
وفيه فضلية الجمع بين هذه الخصال في يوم واحد , وأن اجتماعها في شخص بشير له بالجنة , جعلنا الله من أهلها.
المعاصي هي سبب القحط والجور وغيرها من المصائب
106 - (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).
السنن: جمع سنة , أي: جدب وقحط.
يتخيروا , أي: يطلبوا الخير , أي: وما لم يطلبوا الخير والسعادة مما أنزل الله.
ولبعض الحديث شاهد من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعاً بلفظ:
107 - (ما نقض قوم العهد قط، إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط، إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة، إلا حبس الله عنهم القطر).
من هم َالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
162 - (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ [أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]).
أخرجه الترمذي , وابن جرير , والحاكم , والبغوي , وأحمد , من طريق , مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْدَانِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ (فذكره).
والسر في خوف المؤمنين أن لا يقبل منهم عبادتهم , ليس هو خشيتهم أن لا يوفيهم الله أجورهم , فإن هذا خلاف وعد الله إياهم في مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) النساء173 , بل إنه ليزيدهم عليها , كما قال: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فاطر 30 , والله تعالى لا يخلف وعده , كما قال في كتابه , وإنما السر أن القبول متعلق بالقيام بالعبادة كما أمر الله عز وجل , وهم لا يستطيعون الجزم بأنهم قاموا بها على مراد الله , بل يظنون أنهم قصروا في ذلك , ولهذا فهم يخافون أن لا تقبل منهم.
فليتأمل المؤمن هذا عسى أن يزداد حرصاً على إحسان العبادة والإتيان بها كما أمر الله , وذلك بالإخلاص فيها له , واتباع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هديه فيها , وذلك معنى قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف 110.
ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً جيداً حول هذا الحديث بنحو ما ذكرت , فراجعه في رسالته في التوبة (1/ 257 - جامع الرسائل).
مثل الدنيا
382 - (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلا؛ فانظر ما يخرج من ابن آدم - وإن قزحه وملحه - قد علم إلى ما يصير).
قزحه: بتشديد الزاي , هو من القزح , وهو التوابل , يقال , قزحت القدر , إذا طرحت فيها الأبزار.
ملحه: بتخفيف اللام , أي , ألقى فيه الملح بقدر للإصلاح , يقال منه , ملحت القدر بالتخفيف , وأملحتها وملحتها , إذا أكثرت ملحها حتى تفسد.
تم وبحمد الله الجزء الاول من سلسلة عون الودود لتيسير ما في السلسلة الصحيحة من الفوئد والردود وهي تحتوي على جميع ما ذكره الشيخ الالباني رحمه الله من فوائد في المجلد الاول والثاني من السلسلة الصحيحة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/226)
ـ[ابو سند محمد]ــــــــ[21 - 09 - 06, 06:11 م]ـ
عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله , وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد
فهذه الفوائد والردود التي ذكرها الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة جمعتها في هذا الكتاب حتى يسهل الأستفادة منها للعامة والخاصة وأسميته (عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود) , فأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعنني على هذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يتغمد برحمته الشيخ الألباني , ويسكنه فسيح جناته آمين.
ملاحظات:
1 - ترقيم الأحاديث هي نفس الترقيم الموجودة في السلسلة لكي يسهل الرجوع إليها.
2 - تبويب المواضيع هي نفس ما بوب لها الشيخ إلا ما لم يبوب لها فقد وضعت لها أبواباً من عندي.
3 - كتابة جميع الفوائد والردود كاملة بدون أي أختصار.
ملاحظة:
بناءً على اقتراح بعض الاخوة جزاهم الله خير فقد أورد الاحاديث كاملة بتخريجاتها، وتعليق الشيخ عليها مع الفوائد والردود.
هذه الفوائد المذكورة في المجلد الثالث والرابع , ونسأل الله العون والتوفيق في اتمام بقية الأحاديث.
كتاب العقيدة
الأئمة من قريش
1007 - (الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم).
أخرجه البخاري (6/ 413) ومسلم (6/ 2) والطيالسي (رقم2380) وأحمد (2/ 242 - 243) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً.
وله عنه طرق أخرى:
1 - فأخرجه مسلم وأحمد (2/ 319) عن همام بن منبه.
2 - وأحمد (2/ 395) عن خلاس عنه. ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما.
3 - وأحمد (2/ 261) من طريق أبي سلمة عنه بلفظ: ((الناس تبع لقريش في هذا الأمر، خيارهم تبع لخيارهم، وأشرارهم تبع لشرارهم)).
وإسناده حسن.
4 - وأخرجه أحمد أيضاً (2/ 261) عن القاسم عن نافع بن جبير عنه به. رواه عنه ابن أبي ذئب.
ورجاله ثقات رجال الستة غير القاسم هذا، والظاهر أنه ابن رشد بن عمر، فقد ذكروا في الرواة عنه ابن أبي ذئب، لكنهم ذكروا أيضاً أنه سمع أبا هريرة، وهو هنا يروي عنه بالواسطة فالله أعلم. وقد ذكر الحافظ في التقريب: أنه مجهول.
وله شاهد، ولفظه:
((الناس تبع لقريش في هذا الأمر، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والله لولا أن تتبطر قريش لأخبرتها ما لخيارها عند الله عز وجل)).
أخرجه أحمد (4/ 101) من حديث معاوية بن أبي سفيان بإسناد صحيح.
قلت: وفي هذه الأحاديث الصحيحة رد صريح على بعض الفرق الضالة قديماً، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً. وأعجب من ذلك، أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في ((الدولة الإسلامية)) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة إلا هذا الشرط، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها، ولما ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن هذا الموضوع، ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية، وسواء كان هذا أو ذاك، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي، أو تيار سياسي ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور، أو مخالفتهم. والله ولي التوفيق.
علم الله محيط بكل مكان وهو على العرش
1046 - (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/227)
أخرجه أبوداود (1/ 250) قال: قرأت في كتاب عبد الله بن سالم-بحمص- عند آل عمرو بن الحارث الحمصي: عن الزبيدي قال: وأخبرني يحيى بن جابر عن جبير بن نفير عن عبدا لله بن معاوية الغاضري مرفوعاً به.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات لكنه منقطع بين ابني جابر وجبير، ولكن وصله الطبراني في ((المعجم)) (ص115) والبيهقي في ((السنن) (4/ 95) من طريقين عن عبد الله بن سالم عن محمد بن الوليد الزبيدي: ثنا يحيى بن جابر الطائي أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه أن أباه حدثه به. وزاد:
((وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان)).
قلت: وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات رجال مسلم غير عبد الله بن سالم وهو الزبيدي، وهو ثقة.
وأخرجه البخاري في ((تاريخه)) من طريق يحيى بن جابر به كما في ترجمة الغاضري من ((الإصابة)).
(فائدة): قوله صلى الله عليه وسلم ((أن الله معه حيث كان)). قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي:
((يريد أن علمه محيط بكل مكان، والله على العرش)).
ذكره الحافظ الذهبي في ((العلو)) رقم الترجمة (73) بتحقيقي واختاري.
وأما قول العامة وكثير من الخاصة: الله موجود في كل مكان، أو في كل الوجود، ويعنون بذاته، فهو ضلال بل هو مأخوذ من القول بوحدة الوجود، الذي يقول به غلاة الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق ويقول كبيرهم: كل ما تراه بعينك فهو الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
عالم الغيب، فلا يظهر على غيبه أحدا
1110 - (يا سارية الجبل يا سارية الجبل).
رواه أبو بكر بن خلاد في ((الفوائد)) (1/ 215/2): حدثنا محمد ابن عثمان بن أبي شيبة: ثنا أحمد بن يونس: ثنا أيوب بن خوط عن عبد الرحمن السراج، عن نافع أن عمر بعث سرية فاستعمل عليهم رجلاً يقال له سارية، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة فقال: فذكره. فوجدوا سارية قد أغار إلي الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر.
قلت: وأيوب بن خوط متروك، كما في ((التقريب)).
لكن رواه أبو عبد الرحمن السلمي في ((الأربعين الصوفية)) (3/ 2) والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (2/ 181/1 - مخطوطة حلب)) من طرق عن ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان: عن نافع به نحوه.
ومن هذا الوجه رواه ابن عساكر (7/ 6/1) إلا أنهما قالا: عن نافع عن ابن عمر أن عمر ... وزاد في آخره وكذا البيهقي:
((قال ابن عجلان: حدثني إياس بن قرة بنحوه ذلك))، وقال الضياء:
((قال الحاكم (يعني أبا عبد الله): هذا غريب الإسناد والمتن لا أحفظ له إسناداً غير هذا)).
وذكره ابن كثير في ((البداية)) (7/ 131) فقال: (وقال عبد الله بن وهب .... )) مثل رواية ((الضياء)) ولفظه: فجعل ينادي: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل ثلاثاً. ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا منادياً: يا سارية الجبل ثلاثاً، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك. ثم قال ابن كثير:
((وهذا إسناد جيد حسن)). وهو كما قل، ثم ذكر له طرقاً أخرى وقال:
((فهذه طرق يشد بعضها بعضاً)).
قلت: وفي هذا نظر، فان أكثر الطرق المشار إليها مدارها على سيف ابن عمر والواقدي وهما كذابان، ومدار إحداهما على مالك عن نافع به نحوه. قال ابن كثير:
((في صحته من حديث مالك نظر)).
رواه ابن الأثير في ((أسد الغابة)) (5/ 65) عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر عن أبيه أنه كان يخطب يوم الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له في خطبته أنه قال: يا سارية بن الحصن الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم فتلفت الناس بعضهم إلي بعض فقال علي: صدق والله ليخرجن ما قال، فلما فرغ من صلاته قال له علي: ما شيء سنح لك في خطبتك؟ قال: وما هو؟ قال: قولك: يا سارية الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم، قال: وهل كان مني ذلك؟ قال: نعم وجميع أهل المسجد قد سمعوه، قال إنه وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا فركبوا أكتافهم، وإنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وقد ظفروا وإن جازوا هلكوا، فخرج مني ما تزعم أنك سمعته. قال: فجاء البشير بالفتح بعد شهر فذكر أنه سمع في ذلك اليوم في تلك الساعة حين جازوا الجبل صوتاً يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن محصن الجبل الجبل، قال: فعدنا إليه ففتح الله علينا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/228)
قلت: وهذا سند واه جداً، فرات بن السائب، قال البخاري: ((منكر الحديث)) وقال الدارقطني وغيره: ((متروك)) وقال أحمد ((قريب من محمد بن زياد الطحان، يتهم بما به ذلك)).
فتبين مما تقدم أنه لا يصح شيء من هذه الطرق إلا طريق ابن عجلان، وليس فيها إلا منادة عمر ((يا سارية الجبل))، وسماع الجيش لندائه، وانتصاره بسببه.
ومما لا شك فيه، أن النداء المذكور إنما كان إلهاماً من الله تعالى لعمر، وليس ذلك غريب عنه، فأنه ((محدث)) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولكن ليس فيه أن عمر كشف له حال الجيش، وأنهم رآهم رأي العين، فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء، وعلى أمكان إطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين، المنفرد بعلم الغيب والإطلاع على ما في الصدور. وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله عز وجل يقول في كتابه: ((عالم الغيب، فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)). فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل الله حتى يصح أن يقال إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
على أنه لو صح تسمية ما وقع لعمر رضي الله عنه كشفاً، فهو من الأمور الخارقة للعادة، التي قد يقع من الكافر أيضاً، فليس فجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه فضلاً عن أنه يدل على ولايته، ولذلك يقول العلماء إن الخارق للعادة أن صدر من مسلم فهو كرامة، وألا فهو إستدراج، ويضربون على هذا مثلاً الخوارق التي تقع على يد الدجال الأكبر في آخر الزمان كقوله للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي نباتك فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما قرأته اليوم من عدد (أغسطس) من السنة السادسة من مجلة ((المختار)) تحت عنوان ((هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس)) ص23 قصة ((فتاة شابة ذهبت إلي جنوب أفريقيا للزواج من خطيبها، وبعد معارك مريرة فسخت خطبتها بعد ثلاثة أسابيع، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع: ((أواه يا أماه ... ماذا أفعل؟)) ولكنها قررت ألا تزعج أمها بذكر ما حدث لها؟ وبعد أربعة أسابيع تلقت منها رسالة جاء فيها: ((ماذا حدث؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة: ((أواه يا أماه ... ماذا أفعل؟)). وكان تاريخ الرسالة متفقاً مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها)).
وفي المقال المشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ ((التخاطر)) و ((الاستشفاف)) ويعرف باسم ((البصيرة الثانية)) اكتفينا بالذي أوردناه لأنها أقرب الأمثال مشابهة لقصة عمر رضي الله عنه، التي طالما سمعت من ينكرها من المسلمين لظنه أنها مما لا يعقل! أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلي عمر، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة يستغلونها لإثبات إمكان إطلاع الأولياء على الغيب، والكل مخطئ. فالقصة صحيحة ثابتة، وهي كرامة أكرم الله بها عمر، حيث أنقذ به الجيش المسلمين من الأسر أو الفتك به، ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الإطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع) أو (التخاطر) في عرف العصر الحاضر، الذي ليس معصوماً، فقد يصيب، كما في هذه الحادثة، وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر، ولذلك كان لا بد لكل ولي من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله تعالى بوصف جامع شامل فقال: ((ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون). ولقد أحسن من قال:
إذا رأيت شخصاً قد يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف على حدود الشرع فانه مستدرج وبدعي
جواز إطلاق لفظة (المشرك) على أهل الكتاب
1133 - (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم).
أخرجه البخاري (6/ 208) ومسلم (5/ 75) وأبوداود (2/ 43) والطحاوي (4/ 16) والبيهقي (9/ 207) وأحمد (رقم1935) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة فقال: قلت: فذكر الحديث ثم قال: قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة، أو فأنسيتها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/229)
قلت: وفيه دلالة على جواز إطلاق لفظة ((المشرك)) على أهل الكتاب، فإنهم هم المعنيون بهذا الحديث، كما يدل عليه الحديث السابق، ومثله الحديث الآتي:
1134 - (لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلما).
الحلف بصفات الله تعالى
1167 - (يؤتى بأشد الناس كان بلاء في الدنيا من أهل الجنة، فيقول اصبغوه صبغة في الجنة، فيصبغونه فيها صبغة، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط أو شيئا تكرهه؟ فيقول لا وعزتك ما رأيت شيئا أكرهه قط، ثم يؤتى بأنعم الناس كان في الدنيا من أهل النار فيقول: اصبغوه فيها صبغة، فيقول يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط، قرة عين قط، فيقول لا وعزتك ما رأيت خيرا قط، ولا قرة عين قط).
أخرجه أحمد (3/ 253): ثنا عفان: ثنا حماد: أنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في ((صحيحه)) (8/ 135) عن يزيد بن هارون: أخبرنا حماد بن سلمة به نحوه، و فيه ((لا والله يا رب)) في موضعين.
ورواه محمد بن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس به مختصراً.
أخرجه ابن ماجه (2/ 587).
(فائدة) في الحديث جواز الحلف بصفة من صفات الله تعالى، ومن أبواب البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 41) ((باب ما جاء في حلف بصفات الله تعالى كالعزة، والقدرة، والجلال، والكبرياء، والعظمة، والكلام، والسمع، ونحو ذلك)).
ثم ساق تحته أحاديث، وأشار إلي هذا الحديث، واستشهد ببعض الآثار عن ابن مسعود وغيره، وقال:
((فيه دليل على أن الحلف بالقرآن يكون يميناً ... )).
ثم روى بإسناده الصحيح عن التابعي الثقة عمرو بن دينار قال:
((أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله عز وجل)).
بدع الشيعة وغلوهم في تعظيم أهل البيت وآثارهم
1171 - (قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات).
أخرجه أحمد (1/ 85) عن عبد الله بن نجي عن أبيه أنه سار مع علي وكان صاحب مطهرته، فلما حاذي (نينوي) وهو منطلق إلي صفين، فنادى علي: أصبر أبا عبد الله: أصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلت: وماذا؟ قال:
((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام ... قال: فقال: هل لك إلي أن أشمك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا)).
قلت: وهذا إسناد ضعيف، نجي والد عبد الله لا يدري من هو كما قال الذهبي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وابنه أشهر منه، فمن صحح هذا الإسناد فقد وهم.
والحديث قال الهيثمي (9/ 187):
((رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا)).
قلت: يعني أن له شواهد تقويه، وهو كذلك.
1 - روى عمارة بن زاذان: حدثنا ثابت عن أنس قال:
((أستأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له، فكان في يوم أم سلمة ... فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين بن علي ... فجعل يتوثب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يتلثمه ويقبله، فقال له الملك: تحبه؟ قال: نعم. قال: أما إن أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه. فأراه إياه فجاء سهلة، أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة، فجعلته في ثوبها، قال ثابت: كنا نقول: أنها كربلاء)).
أخرجه أحمد (3/ 242و265) وابن حبان (2241) وأبو نعيم في ((الدلائل)) (202).
قلت: ورجاله ثقات غير عمارة هذا قال الحافظ:
((صدوق كثير الخطأ)).
وقال الهيثمي:
((رواه أحمد وأبويعلى والبزار والطبراني بأسانيد، وفيها عمارة بن زاذان وثقة جماعة، وفيه ضعف، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح)).
2 - وروى محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد بن عبد الله عن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت ... يوماً إلي رسول صلى الله عليه وسلم فوضعته (تعني الحسين) في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك؟ قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء)).
أخرجه الحاكم (3/ 176و177) وقال:
((صحيح على شرط الشيخين))!
ورده الذهبي بقوله:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/230)
((قلت: بل منقطع ضعيف، فإن شداداً لم يدرك أم الفضل، ومحمد بن مصعب ضعيف)).
3 - وروى عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة- شك عبد الله بن سعيد- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحداهما:
((لقد دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها. قال: فأخرج تربة حمراء)).
أخرجه أحمد (6/ 294): ثنا و كيع قال: حدثني عبد الله بن سعيد.
قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان سعيد وهو ابن أبي هند سمعه من عائشة أو أم سلمة، ولم أطمئن لذلك، فإنهم لم يذكروا له سماعاً منهما، وبين وفاته ووفاة أم سلمة نحو أربع وخمسين سنة، وبين وفاته ووفاة عائشة نحو ثمان وخمسين. والله أعلم.
وأخرجه الطبراني عن عائشة نحوه بلفظ:
((يا عائشة إن جبريل أخبرني أن ابني حسين مقتول في أرض الطف .... )).
قال الهيثمي (9/ 188):
((رواه الطبراني في ((الكبير)) و ((الأوسط))، وفي إسناد ((الكبير)) ابن لهيعة، وفي إسناد ((الأوسط)) من لم أعرفه)).
4 - وأخرجه الطبراني أيضاً عن أم سلمة نحوه بلفظ:
((إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء، فتناول جبريل من تربتها، فأراها النبي صلى الله عليه وسلم ... )). (انظر الاستدراك رقم 161/ 21)
قال الهيثمي (9/ 189):
((رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات)). (انظر الاستدراك رقم 161/ 26).
5 - وعن أبي الطفيل قال:
((استأذن ملك القطر أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ... )).
قلت: فذكره نحو حديث أنس المتقدم. قال الهيثمي (9/ 190).
((رواه الطبراني وإسناده حسن)).
6 - ويروي حجاج بن نصير: ثنا قرة بن خالد: ثنا عامر بن عبد الواحد عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
((ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين بن علي يقتل بـ (الطف))).
أخرجه الحاكم (3/ 179) وسكت عليه، وتعقبه الذهبي بقوله:
((قلت: حجاج متروك))
قلت: وبجملة فالحديث المذكور أعلاه والمترجم له، صحيح بمجموع هذه الطرق، وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف، ولكنه ضعف يسير، لا سيما وبعضها قد حسنه الهيثمي، والله أعلم.
(تنبيه) حديث عائشة وعلي عزاهما السيوطي (فتح 1/ 55و56) لابن سعد في ((الطبقات)) ولم أره فيها، فعله في القسم الذي لم يطبع منها، والله أعلم.
فائدة: ليس في شيء من هذه الأحاديث ما يدل على قداسة كربلاء وفضل السجود على أرضها، وأستحبابها اتخاذ قرص منها للسجود عليه عند الصلاة، كما عليه الشيعة اليوم، ولو كان ذلك مستحباً لكان أحرى به أن يتخذ من أرض المسجدين الشرفين المكي والمدني، ولكنه من بدع الشيعة وغلوهم في تعظيم أهل البيت وآثارهم، ومن عجائبهم أنهم يرون أن العقل من مصادر التشريع عندهم، ولذلك فهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، ومع ذلك فإنهم يروون في فضل السجود على أرض كربلاء، من الأحاديث ما يشهد العقل السليم ببطلانه بداهة، فقد وقفت على رسالة لبعضهم وهو المدعو السيد عبد الرضا (!) المرعشي الشهرستاني بعنوان ((السجود على التربة الحسينية). ومما جاء فيها (ص15):
((وورد أن السجود عليها أفضل لشرفها وقدستها وطهارة من دفن فيها. فقد ورد الحديث عن أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام أن السجود عليها ينور إلي الأرض السابعة. وفي آخر: أنه يخرق الحجب السبعة، وفي آخر: يقبل الله صلاة من يسجد عليها ما لم يقبله من غيرها، وفي [آخر] أن السجود على الطين قبر الحسين ينور الأرضين)).
ولم يكتف مؤلف الرسالة بتسويدها بمثل هذه النقول المزعومة عن أئمة البيت حتى راح يوهم القراء أنها مروية مثلها في كتبنا نحن أهل السنة، فها هو يقول: ((ص19)):
((وليس أحدايث فضل هذه التربة الحسينية وقداستها منحصرة بأحاديث الأئمة عليهم السلام، إذ أن أمثال هذه الأحاديث شهرة وافرة في أمهات كتب بقية الفرق الإسلامية، عن طريق علمائهم ورواتهم، ومنها ما رواه السيوطي في كتابه ((خصائص الكبرى)) في ((باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين عليه السلام، وروى فيه ما يناهز العشرين حديثاً عن أكابر ثقاتهم كالحاكم والبيهقي وأبي نعيم والطبراني والهيثمي في ((المجمع) (9: 191) وأمثالهم من مشاهير رواتهم)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/231)
فاعلم أيها المسلم أنه ليس عند السيوطي ولا الهيثمي ولو حديث واحد يدل على فضل التربة الحسينية وقداستها، وكل ما فيها مما اتفقت عليه مفرداتها إنما هو إخباره صلى الله عليه وسلم بقتله فيها، وقد سقت لك آنفاً نخبة منها، فهل ترى فيها ما ادعاه الشيعي في رسالته على السيوطي والهيثمي؟!
اللهم لا، ولكن الشيعة في سبيل تأييد ضلالاتهم وبدعهم، يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت!.
ولم يقف أمره عند هذا التدليس على القراء، بل تعداه إلي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ص13):
((وأول من اتخذ لوحة من الأرض للسجود عليها هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة من الهجرة، لما وقعت الحرب الهائلة بين المسلمين وقريش في أحد، وانهدم فيها أعظم ركن للإسلام وهو حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساء المسلمين بالنياحة عليه في كل مأتم، واتسع الأمر في تكريمه إلي أن صاروا يأخذون من تراب قبره فيتبركون به ويسجدون عليه لله تعالى، ويعملون المسبحات منه كما جاء في كتاب ((الأرض والتربة الحسينية)) وعليه أصحابه، ومنهم الفقيه ... )).
والكتاب المذكور هو من كتب الشيعة، فتأمل أيها القارئ الكريم كيف كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أنه اتخذ قرصاً للسجود عليه، ثم لم يسق لدعم دعواه إلا أكذوبة أخرى، وهي أمره صلى الله عليه وسلم النساء بالنياحة على حمزة في كل مأتم، ومع أنه لا ارتباط بين هذا لو صح، وبين اتخاذ القرص كما هو ظاهر، فإنه لا يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وهو قد صح عنه أنه أخذ على النساء في مبايعته إياهن ألا ينحن، كما رواه الشيخان وغيرهما عن أم عطية (انظر كتابنا ((أحكام الجنائز)) ص28)، ويبدو لي أنه بنى الأكذوبتين السابقتين على أكذوبة ثالثة وهي قوله في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
((واتسع الأمر في تكريمه إلي أن صاروا يأخذون من تراب قبره فيتبركون به ويسجدون عليه لله تعالى ... ))، فهذا كذب على الصحابة رضي الله عنهم وحاشاهم من أن يقارفوا مثل هذه الوثنية، وحسب القارئ دليلاً على افتراء هذا الشيعي على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنه لم يستطع أن يعزو ذلك لمصدر معروف من مصادر المسلمين، سوى كتاب ((الأرض والتربة الحسينية)) وهو من كتب بعض متأخريهم ولمؤلف مغمور منهم، ولأمر ما لم يجرؤ الشيعي على تسميته والكشف عن هويته حتى لا يفتضح أمره بذكره إياه مصدراً لأكاذبيه!
ولم يكتف حضرته بما سبق من الكذب على السلف الأول، بل تعداه إلي الكذب إلى من بعدهم، فاسمع إلي تمام كلامه السابق:
((ومنهم الفقيه الكبير المتفق عليه مسروق بن الأجدع المتوفى سنة (63) تابعي عظيم من رجال الصحاح الست كان يأخذ في أسفاره لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها (!)، كما أخرجه شيخ المشايخ الحافظ إمام السنة أبوبكر ابن أبي شيبة في كتابه ((المصنف)) في المجلد الثاني في ((باب من كان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه، فأخرجه بإسنادين أن مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها)).
قلت: وفي هذا الكلام عديد من الكذبات:
الأولى: قوله: ((كان يأخذ في أسفاره)) فإنه بإطلاقه يشمل السفر براً، وهو خلاف الأثر الذي ذكره!
الثانية: جزمه بأنه كان يفعل ذلك، يعطي أنه ثابت عنه وليس كذلك، بل ضعيف منقطع كما يأتي بيانه.
الثالثة: قوله: (( ... بإسنادين)) كذب، وإنما هو إسناد واحد مداره على محمد بن سيرين، اختلف عليه فيه، فرواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 43/2) من طريق يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: ((نبئت أن مسروقاً كان يحمل لبنة في السفينة. يعني يسجد عليها)).
ومن طريق ابن عون عن محمد ((أن مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/232)
فأنت ترى أن الإسناد الأول من طريق ابن سيرين، والآخر من طريق محمد، وهو ابن سيرين، فهو في الحقيقة إسناد واحد، ولكن يزيد بن إبراهيم قال عنه: ((نبئت))، فأثبت أن ابن سيرين أخذ ذلك بالواسطة ع مسروق، ولم يثبت ذلك ابن عون، وكل منهما ثقة فيما روى، إلا أن يزيد بن إبراهيم قد جاء بزيادة في السند، فيجب أن تقبل كما هو مقرر في ((المصطلح))، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وبناء عليه فالإسناد بذلك إلي مسروق ضعيف لا تقوم به حجة، لأن مداره على راوٍ لم يسم مجهول، فلا يجوز الجزم بنسبة ذلك إلي مسروق رضي الله عنه ورحمه كما صنع الشيعي.
الرابعة: لقد أدخل الشيعي في هذا الأمر الأثر زيادة ليس لها أصل في ((المصنف)) وهي قوله: ((من تربة المدينة المنورة))! فليس لها ذكر في كل الروايتين عنده كما رأيت. فهل تدري لم افتعل الشيعي هذه الزيادة في هذا الأثر؟ لقد تبين له أنه ليس فيه دليل مطلقاً على اتخاذ القرص من الأرض المباركة (المدينة المنورة) للسجود عليه إذا ما تركه على ما رواه ابن أبي شيبة، ولذلك ألحق به هذه الزيادة ليوهم القراء أن مسروقاً رحمه الله اتخذ القرص من المدينة للسجود عليه تبركاً، فإذا ثبت له ذلك ألحق به جواز اتخاذ القرص من أرض كربلاء بجامع اشتراك الأرضين في القداسة!!
وإذا علمت أن المقيس عليه باطل لا أصل له، وإنما هو من اختلاق الشيعي عرفت أن المقيس باطل أيضاً لأنه كما قيل: وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟
فتأمل أيها القاريء الكريم مبلغ جرأة الشيعة على الكذب حتى على النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل تأييد ما هم عليه من الضلال، ويتبين لك صدق من وصفهم من الأئمة بقوله: ((أكذب الطوائف الرافضة))!
ومن أكاذيبه قوله (ص9):
((ورد في صحيح البخاري صحيفة (!) (331ج1) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض))!
وهذا كذب من وجهين:
الأول: أنه ليس في ((صحيح البخاري)) هذا النص لا عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من السلف.
الآخر: أنه إنما ذكره الحافظ ابن حجر في ((شرحه على البخاري)) (ج1/ ص388 - المطبعة البهية) عن عروة فقال:
((وقد روى ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض)).
قلت: وأكاذيب الشيعة وتدليسهم على الأمة لا يكاد يحصر، وإنما أردت بيان بعضها مما في هذه الرسالة بمناسبة تخريج هذا الحديث على سبيل التمثيل، وإلا فالوقت أعز من أن يضيع في تتبعها.
الدجال من البشر
1193 - (الدجال أعور، هجان أزهر ((وفي رواية: أقمر)) كأن رأسه أصلة، أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، فإما هلك الهلك، فإن ربكم تعال ليس بأعور).
أخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (1900 - موارد) وأحمد (1/ 240 و 313) وأبو إسحاق الحربي في ((غريب الحديث)) (5/ 73/1 و 93/ 1) وابن منده في ((التوحيد)) (83/ 1) من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
غريب الحديث.
(هجان) أي أبيض. وبمعناه (أزهر).
(أقمر) أي لونه لون الحمار الأقمر، أي الأبيض.
(أصله) الأصلة بفتح الهمزة والصاد: الأفعى. وقيل هي الحية العظيمة الضخمة القصيرة، والعرب تشبه الرأس الصغير الكثير الحركة برأس الحية. كما في ((النهاية)).
(الهلك) جمع هالك، أي فإن هلك به الناس جاهلون وضلوا، فاعلموا أن الله ليس بأعور.
والحديث صريح في أن الدجال الأكبر من البشر، له صفات البشر، لا سيما وقد شبه به عبد العزى بن قطن، وكان من الصحابة. فالحديث من الأدلة الكثيرة على بطلان تأويل بعضهم الدجال بأنه ليس بشخص، وإنما هو رمز للحضارة الأوروبية وزخارفها وفتنتها! فالدجال من البشر، وفتنة أكبر من ذلك، كما تضافرت على ذلك الأحاديث الصحيحة، نعوذ بالله منه.
فضل إتيان لوازم لا إله إلا الله
1314 - (أبشروا، وبشروا الناس؛ من قال لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة).
أخرجه أحمد (4/ 411): ثنا بهز ثنا حماد بن سلمة: ثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فذكره).
فخرجوا يبشرون الناس، فلقيهم عمر رضي الله عنه فبشروه، فردهم. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ردكم؟)). قالوا: عمر قال: ((لم رددتهم يا عمر؟)) قال: إذاً يتكل الناس يا رسول الله!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/233)
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وأبو عمران الجوني هو عبد الملك بن حبيب الأزدي. وحسنه الحافظ (1/ 200) فقصر، وكأنه أراد طريق مؤمل الآتية.
ثم أخرجه أحمد (4/ 402): ثنا مؤمل بن إسماعيل: ثنا حماد بن سلمة به وزاد في آخره.
((قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
لكن مؤمل بن إسماعيل فيه ضعف من قبل حفظه، إلا أنه يشهد له حديث أبي هريرة بمثل هذه القصة مطولاً بينه وبين عمر، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم)).
أخرجه مسلم (1/ 44) من طريق عكرمة بن عمار قال: حدثني أبو كثير قال: حدثني أبو هريرة.
وفي قصة أخرى نحو الأولى وقعت بين جابر وعمر، وفي آخرها:
((قال: يا رسول الله! إن الناس قد طعموا وخبثوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني لجابر): اقعد)):
أخرجه ابن حبان (رقم7) بإسناد صحيح من حديث جابر.
وفي الباب عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو الآتي بعده، وفيه:
((قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا)).
وقد أخرجه البخاري (1/ 199 - فتح) ومسلم (1/ 45) وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: يا معاذ ... )) الحديث وفيه:
((أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا. وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً)).
وأخرجه أحمد (5/ 228 و 229 و 230 و 232 و 236) من طرق عن معاذ قال في أحدها: ((أخبركم بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكموه إلا أن تتكلوا، سمعته يقول:
((من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، أو يقيناً من قلبه لم يدخل النار، أو دخل الجنة. وقال مرة: دخل الجنة، ولم تمسه النار)).
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقد ترجم البخاري رحمه الله لحديث معاذ بقوله:
((باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)).
ثم ساق إسناده بذلك. وزاد آدم بن أبي إياس في ((كاتب العلم)) له: ((ودعوا ما ينكرون)). أي ما يشتبه عليهم فهمه. ومثله قول ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتة)).
ورواه مسلم (1/ 9). قال الحافظ:
((وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب. ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من فتن. ونحوه عن حذيفة. وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنبين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلي ما كان يعتمد من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير المراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم)).
هذا وقد اختلفوا في تأويل حديث الباب وما في معناه من تحريم النار على من قل لا إله إلا الله، على أقوال كثيرة، ذكر بعضها المنذري في ((الترغيب)) (2/ 238)، وترى سائرها في ((الفتح)). والذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر، وبه تجتمع الأدلة، ولا تتعارض، أن تحمل على أحوال ثلاثة:
الأولى: من قام بلوازم الشهادتين من التزام الفرائض والابتعاد عن الحرمات، فالحديث حينئذٍ على ظاهره، فهو يدخل الجنة وتحرم عليه النار مطلقاً.
الثانية: أن يموت عليها، وقد قام بالأركان الخمسة، ولكنه ربما تهاون ببعض الواجبات، وارتكب بعض المحرمات، فهذا ممن يدخل في مشيئة الله ويغفر له كما في الحديث الآتي بعد هذا وغيره من الأحاديث المكفرات المعروفة.
الثالثة: كالذي قبله، ولكنه لم يقم بحقها ولم تحجزه عن المحارم الله كما في حديث أبي ذر المتفق عليه: ((وإن زنى وإن سرق ... )) الحديث، ثم هو إلى ذلك لم يعمل من الأعمال ما يستحق به مغفرة الله، فهذا إنما تحرم عليه النار التي وجبت على الكفار فهو وإن دخلها، فلا يخلد معهم فيها، بل يخرج منها بالشفاعة أو غيرها ثم يدخل الجنة ولا بد، وهذا صريح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله نفعته يوماً من دهره، ويصيبه قبل ذلك ما أصابه)). وهو حديث صحيح كما سيأتي في تحقيقه إن شاء الله برقم (1932)
والله تعالى أعلم.
المسلم لا يستحق مغفرة الله إلا إذا لقى الله عز وجل ولم يشرك به شيئا ً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/234)
1315 - (من لقي الله لا يشرك به شيئا، يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان غفر له. قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال دعهم يعملوا).
أخرجه الإمام أحمد (5/ 232): ثنا روح: ثنا زهير بن محمد: ثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح كما كنت ذكرت في تعليقي على ((مشكاة المصابيح)) (رقم47)، وبيان ذلك أن إسناده كلهم ثقات رجال الشيخين، وزهير بن محمد-وهو أبو المنذر الخرساني- وإن كان ضعفه بعضهم من قبل حفظه، فالراجح فيه التفصيل الذي ذهب إليه كبار أئمتنا، فقال البخاري:
((ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح)).
قلت: وروح الراوي عنه هنا هو ابن عبادة البصري الحافظ، وقال الأثرم عن أحمد:
((في رواية الشاميين عن زهير مناكير، أما رواية أصحابنا عنه فمستقيمة؛ عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر)).
قلت: وابن مهدي بصري، ومثله أبو عامر وهو عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي البصري الحافظ.
وقال ابن عدي:
((ولعل أهل الشام أخطأوا عليه، فإنه إذا حدث عنه أهل العراق فروايتهم عنه مستقيمة، وأرجو نه لا بأس به)). وقال العلجي:
((لا بأس به، وهذه الأحاديث التي يرويها أهل الشام عنه ليست تعجبني)).
وهذا هو الذي اعتمده الحافظ، فقال في ((التقريب)):
((رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة؛ فضعف بسببها، قال البخاري عن أحمد: كأن زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه)).
ولذلك فإن ابن عبد البر غلا حين قال فيه: ((ضعيف عند الجميع))
فرده عليه الذهبي بقوله:
((كلا، بل خرج له (خ و م) مات سنة 162)).
قلت: وفي الحديث دلالة ظاهرة على أن المسلم لا يستحق مغفرة الله إلا إذا لقى الله عز وجل ولم يشرك به شيئاً، ذلك لأن الشرك أكبر الكبائر كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة. ومن هنا يظهر لنا ضلال أولئك الذين يعيشون معنا، ويصلون صلاتنا، ويصومون صيامنا، و .... ولكنهم يواقعون أنواعاً من الشركيات والوثنيات، كالاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين ودعائهم في الشدائد من دون الله، والذبح لهم والنذر لهم، ويظنون أنهم بذلك يقربونهم إلى الله زلفى، هيهات هيهات. (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)
فعلى كل من كان مبتلى بشيء من ذلك من إخواننا المسلمين أن يبادروا فيتوبوا إلى رب العالمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم النافع المستقى من الكتاب والسنة. وهو مبثوث في كتب علمائنا رحمهم الله تعالى، وبخاصة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، ومن نحا نحوهم، وسار سبيلهم.
ولا يصدنهم عن ذلك بعض من يوحي إليهم من الموسوسين بأن هذه الشركيات إنما هي قربات وتوسلات، فإن شأنهم في ذلك شأن من أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم ممن يستحلون بعض المحرمات بقوله ((يسمونها بغير اسمها)). (انظر الحديث المتقدم90 و 415).
هذه نصيحة أوجهها إلى من يهمه أمر آخرته من إخواننا المسلمين المضللين، قبل أن يأتي يحق فيه قول رب العالمين في بعض عباده الأبعدين: (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً).
المهدي من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة
1529 - (لتملأن الأرض جورا وظلماً، فإذا ملئت جورا وظلماً، بعث الله رجلا مني، اسمه اسمي، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).
أخرجه البزار (ص236 - 237 - زوائد ابن حجر) وابن عدي في ((الكامل)) (129/ 1) وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (2/ 165) عن داود بن المحبر: ثنا أبي المحبر بن قحذم عن أبيه قحذم بن سليمان عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا. وقال البزار:
((رواه معمر عن هارون عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق عن أبي سعيد، وداود وأبوه ضعيفان)).
وكذا ضعفهما الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 314) فقال:
((رواه البزار والطبراني في ((الكبير)) و ((الأوسط)) من طريق داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه، وكلاهما ضعيف)).
كذا قال! وأما في ((زوائد البزار)) فقد تعقب البزار بقوله عقب كلامه الذي نقلته آنفاً:
((قلت: بل داود كذاب)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/235)
وأقول: هو كما قال، ولكن ألا يصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة شيطان أبي هريرة: ((صدقك وهو كذوب))، فإن هذا الحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة، عن جمع من الصحابة، منها طريق أبي الصديق التي أشار إليها البزار، غاية ما في الأمر أن يكون داود ابن المحبر كذب خطأ أو عمداً في إسناده الحديث إلى والد معاوية بن قرة، فإن المحفوظ أنه من رواية معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري به.
هكذا أخرجه الحاكم (4/ 465) من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني: ثنا عمر (وفي ((تلخيص المستدرك)): عمرو) بن عبيد الله العدوي عن معاوية ابن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به أتم منه وقال:
((صحيح الإسناد))!
قلت: ورده الذهبي بقوله:
((قلت: سنده مظلم)).
وكأنه يشير إلى جهالة العدوي هذا، فإني لم أجد من ترجمه، لا فيمن اسمه (عُمَر)، ولا في (عَمْرو). لكن رواية معمر عن هارون-وهو بن رياب- التي علقها البزار، تدل على أنه قد حفظه عن معاوية، وهذا هو الصواب الذي نقطع به، لأن لمعاوية متابعات كثيرة، بل هو عندي متواتر عن أبي الصديق عن أبي سعيد الخدري، أصحها طريقان عنه:
الأولى: عوف بن أبي جميلة: ثنا أبو الصديق الناجي عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ:
((لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدوانا، ثم يخرج رجل من عترتي، أو من أهل بيتي يملؤها فسطاً وعدلا، كما ملئت ظلماً وعدونا)).
أخرجه أحمد (3/ 36) وابن حبان (1880) والحاكم (4/ 557) وأبو نعيم في ((الحلية)) (3/ 101)، وقال الحاكم:
((صحيح على شرط الشيخين)). ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وأشار إلى تصحيحه أبو نعيم بقوله عقبه:
((مشهور من حديث أبي الصديق عن أبي سعيد)).
فإنه بقوله: ((مشهور)) يشير إلى كثرة الطرق عن أبي الصديق، كما تقدم، وأبو الصديق اسمه بكر بن عمرو، وهو ثقة اتفاقاً محتج به عند الشيخين وجميع المحدثين، فمن ضعف حديثه هذا من المتأخرين، فقد خالف سبيل المؤمنين؛ بل أقر الحاكم على تصحيحه لهذه الطريق والطريق الآتية، فمن نسب إليه أنه ضعف كل أحاديث المهدي فقد كذب عليه سهواً أو عمدا.
الثانية: سليمان بن عبيد: ثنا أبو الصديق الناجي به، وبلفظه:
((يخرج في أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً يعني حججاً)).
أخرجه الحاكم (4/ 557 - 558) وقال:
((صحيح الإسناد)). ووافقه الذهبي وابن خلدون أيضاً فإنه قال عقبه في ((المقدمة)) (فصل53ص250):
((مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة، لكن ذكره ابن حبان في ((الثقات))، ولم يرد أن أحداً تكلم فيه)).
قلت: ووثقه ابن معين أيضاً، وقال أبو حاتم:
((صدوق)).
فهو إسناد صحيح كما تقدم عن الحاكم والذهبي وابن خلدون. وبقية الطرق والشواهد قد خرجتها في ((الروض النضير)) تحت حديث ابن مسعود (647) من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عنه. ورواه أصحاب السنن وكذا الطبراني في ((الكبير)) أيضاً (10213 - 10230)، وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان (1878)، ولفظه عند أبي داود ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني، أو من أهل بيتي، ويواطئ اسمه أسمى واسم أبي، يملأ الأرض ... )) الحديث وممن صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في ((منهاج السنة)) (4/ 211):
((إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره)).
وكذا في ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) للذهبي (ص534).
قلت: فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث قد صححوا أحاديث خروج المهدي، ومعهم أضعافهم من المتقدمين والمتأخرين أذكر أسماء من تيسير لي منهم:
1 - أبو داود في ((السنن)) بسكوته على أحاديث المهدي.
2 - العقيلي.
3 - ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)).
4 - القرطبي كما في ((أخبار المهدي)) للسيوطي.
5 - الطيبي كما في ((مرقاة المفاتيح)) للشيخ القارئ.
6 - ابن القيم الجوزية في ((المنار المنيف))، خلافاً لمن كذب عليه.
7 - الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)).
8 - أبو الحسن الآُبري في ((مناقب الشافعي)) كما في ((فتح الباري)).
9 - الشيخ علي القارئ في ((المرقاة)).
10 - السيوطي في ((العرف الوردي)).
11 - العلامة المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/236)
وغيرهم كثير وكثير جدا.
بعد هذا كله أليس من العجيب حقاً قول الشيخ الغزالي في ((مشكلاته)) التي صدرت عنه حديثاً (ص139):
((من محفوظاتي وأنا طالب أنه لم يرد في المهدي حديث صريح، وما ورد صريحاً فليس بصحيح))!
فمن هم الذين لقنوك هذا النفي وحفظوك إياه وأنت طالب؟ أليسوا هم علماء الكلام الذين لا علم عندهم بالحديث، ورجاله، وإلا فكيف يتفق ذلك مع شهادة علماء الحديث بإثبات ما نفوه؟! أليس في ذلك ما يحملك على أن تعيد النظر فيما حُفظته طالباً، لا سيما فيما يتعلق بالسنة والحديث تصحيحاً وتضعيفاً، وما بني على ذلك من الأحكام والآراء، ذلك خير من أن تشكك المسلمين في الأحاديث التي صححها العلماء لمجرد كونك لُقنته طالباً، ومن غير أهل الاختصاص والعلم؟!
واعلم يا أخي المسلم أن كثيراً من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع، فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لا تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً، بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فكما أن ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه وترك الاستعداد والعمل لإقامة حكم الله في الأرض، بل العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعياً من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ظل ثلاثاً وعشرين عاماً وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً، وعلماءهم- إلا القليل منهم- اتخذهم الناس رؤوساً! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا بلا شك يحتاج إلى زمن مديد الله أعلم به، فالشرع والعقل معاً يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين، حتى إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر، وإن لم يخرج فقد قاموا هم بواجبهم، والله يقول: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله).
ومنهم- وفيهم بعض الخاصة- من علم أن ما حكيناه عن العامة أنه خرافة، ولكنه توهم أنها لازمة لعقيدة خروج المهدي فبادر إلى إنكارها، على حد قول من قال (وداوني بالتي كانت هي الداء)! وما مثلهم إلا كمثل المعتزلة الذين أنكروا القدر لما رأوا أن طائفة من المسلمين استلزموا منه الجبر!! فهم بذلك أبطلوا ما يجب اعتقاده، وما استطاعوا أن يقضوا على الجبر!
وطائفة منهم رأوا أن عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالاً سيئاً، فادعاها كثير من المغرضين، أو المهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة، كان من آخرها فتنة مهدي (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأو أن قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة! وإلى ذلك يشير الشيخ الغزالي عقب كلامه السابق!
وما مثل هؤلاء إلا كمثل من ينكر عقيدة نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة، لأن بعض الدجاجلة ادعاها، مثل ميرزا غلام أحمد القادياني، وقد أنكرها بعضهم فعلاً صراحة، كالشيخ شلتوت، وأكاد أقطع أن كل من أنكر عقيدة المهدي ينكرها أيضاً، وبعضهم يظهر ذلك من فلتات لسانه، وإن كان لا يبين. وما مثل هؤلاء المنكرين جميعاً عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله عز وجل بدعوى أنه ادعاها بعض الفراعنة! (فهل من مدكر).
الخلافة في قريش ما أطاعوا الله
1552 - (أما بعد يا معشر قُريش! فإنكم أهلُ هذا الأمر ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يُلحى هذا القضيب-لقضيب في يده).
أخرجه أحمد (1/ 458): ثنا يعقوب: ثنا أبي عن صالح: قال ابن شهاب: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/237)
((بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريب من ثمانين رجلاً من قريش، ليس فيهم إلا قرشي، لا والله ما رأيت صفيحة وجوه رجال قط أحسن من وجوههم يومئذ، فذكروا النساء، فتحدثوا فيهن، فتحدث معهم، حتى أحببت أن يسكت، قال: ثم أتيته فتشهد، ثم قالك (فذكره)، ثم لحى قضيبه، فإذا هو أبيض يصلد)).
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 192):
((رواه أحمد وأبويعلى والطبراني في ((الأوسط)) ورجال أحمد رجال الصحيح، ورجال أبي يعلى ثقات)).
ورواه القاسم بن الحارث عن عبيد الله فقال: عن أبي مسعود الأنصاري.
أخرجه أحمد (4/ 118و5/ 274و274 - 275) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1118و1119 - بتحقيقي).
والقاسم هذا مجهول كما بينته في ((تخريج السنة)) فقوله: ((أبي مسعود)) مكان ((ابن مسعود))، وهم منه لا يلتفت إليه.
(يلحى): أي يقشر.
وهذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد استمرت الخلافة في قريش عدة قرون، ثم دالت دولتهم، بعصيانهم لربهم، وإتباعهم لأهوائهم، فسلط الله عليهم من الأعاجم من أخذ الحكم من أيديهم، وذل المسلمون من بعدهم إلا ما شاء الله. ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية أن يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويتبعوا أحكام شريعتهم، ومن ذلك أن الخلافة في قريش بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه، ولا يحكموا آراءهم وأهواءهم، وما وجدوا عليه أباءهم وأجدادهم، وإلا فسيظلون محكومين من غيرهم، وصدق الله إذ قال: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). والعاقبة للمتقين.
الميثاق الرباني
1623 - (أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بـ (نعمان) _ يعني عرفة _ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون).
أخرجه أحمد (1/ 272) وابن جرير في ((التفسير)) (15338) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (17/ 1) والحاكم (2/ 544) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص326 - 327) كلهم من طريق الحسين بن محمد المروذي: ثنا جرير بن حازم عن كُلْثُوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وقال الحاكم:
((صحيح الإسناد)). ووافقه الذهبي.
قلت: وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم، فإن كلثوم بن جبر من رجاله وسائرهم من رجال الشيخين.
وتابعه وهب بن جرير: ثنا أبي به دون ذكر (نعمان) وقال أيضاً: ((صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر)).ووافقه الذهبي أيضاً. وأما ابن كثير فتعقبه بقوله في ((التفسير)) (2/ 262)):
((هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه. وكذا رواه إسماعيل بن عُلَية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلى بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت. والله أعلم)).
قلت: هو كما قال رحمه الله تعالى، ولكن ذلك لا يعني أن الحديث لا يصح مرفوعاً، وذلك لأن الموقوف في حكم المرفوع، لسببين:
الأول: أنه في تفسير القرآن، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع، ولذلك اشترط الحاكم في كتابه ((المستدرك)) أن يخرِج فيه التفاسير عن الصحابة كما ذكر ذلك فيه (1/ 55).
الآخر: أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة، وهم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، وأبو أمامة، وهشام بن حكيم أو عبد الرحمن ابن قتادة السلمي على خلاف عنهما-ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو الدرداء، وأبو موسى، وهي وإن كان غالبهما لا تخلوا أسانيدها من مقال، فإن بعضها يقوي بعضاً، بل قال الشيخ صالح المقبلي في ((الأبحاث المسددة)): (ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والرويات في ذلك))، ولا سيما وقد تلقاها أو تلقي ما اتفقت عليه من إخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادهم على أنفسهم؛ السلف الصالح من الصحابة والتابعين دون اختلاف بينهم، منهم عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وناس من الصحابة، وأبي بن كعب وسلمان الفارسي، ومحمد بن كعب، والضحاك بن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/238)
مزاحم، والحسن البصري، وقتادة، وفاطمة بنت الحسين، وأبو جعفر الباقر وغيرهم، وقد أخرج هذه الآثار الموقوفة وتلك الأحاديث المرفوعة الحافظ السيوطي في ((الدر المنثور)) (3/ 141 - 145)، وأخرج بعضها الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 251 - 252)، ومن قبله الحافظ ابن كثير في ((تفسيره)) (2/ 261 - 264)، وخرجت أنا حديث عمر في ((الضعيفة)) (3070) وصححته لغيره في ((تخريج شرح الطحاوية) (266)، وحديث أبي هريرة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (204و205 - بتحقيقي)، وصححته أيضاً هناك (ص267)، وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاً، وقد سبق برقم (49)، وعن أنس، وسبق برقم (172) وهو متفق عليه، فهو أصحها وفيه:
((إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً؟ فيقول: نعم. فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتْ إلا أن تشرك بي)).
إذا عرفت هذا فمن العجيب قول الحافظ ابن كثير عقب الأحاديث والآثار التي سبقت الإشارة إلى أنه أخرجها:
((فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم)).
قلت: وليس الأمر كما نفى، بل الإشهاد وارد في كثير من تلك الأحاديث:
الأول: حديث أنس هذا، ففيه كما رأيت قول الله تعالى: ((قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً)). قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 284):
((فيه إشارة إلى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) الآية)).
قلت: ولفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير بالوقف إنما هو: أخذ من ظهره .... ))، فأي فرق بينه وبين لفظ حديث أنس الصحيح؟!
الثاني: حديث عمر بلفظ: ((ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ... )).
الثالث: حديث أبي هريرة الصحيح: (( .... مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة .... )).
الرابع: حديث هشام بن حكيم: ((إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم .... )).
الخامس: حديث أبي أمامة: ((لما خلق الله الخلق وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال: ... ألست بربكم، قالوا: بلى .... )).
ففي ذلك رد على قول ابن القيم أيضاً في كتاب ((الروح)) (ص161) بعد أن سرد طائفة من الأحاديث المتقدمة:
((وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية- فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية، والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه)).
وقد أفاض جداً في تفسير الآية وتأويلها تأويلاً ينافي ظاهرها بل ويعطل دلالتها أشبه ما يكون بصنيع المعطلة لآيات وأحاديث الصفات حين يتأولونها، وهذا خلاف مذهب ابن القيم رحمه الله الذي تعلمناه منه ومن شيخه ابن تيمية، فلا أدري لماذا خرج عنه هنا لا سيما وقد نقل (ص163) عن الأنباري أنه قال:
((مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وصلب أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك للبعير لما سجد، والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دُعِيَت)).
كما نقل أيضاً عن إسحاق بن راهويه:
((وأجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأنه استنطقهم وأشهدهم)).
قلت: وفي كلام ابن الأنباري إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الآية والحديث وهو قوله: ((إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده)).
وإليه ذهب الفخر الرازي في ((تفسيره)) (4/ 323)، وأيده العلامة ملاَ على القاريء في ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 140 - 141) وقال عقب كلام الفخر:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/239)
((قال بعض المحققين: إن بني آدم من ظهره، فكل ما أخرج من ظهورهم فيما لا يزال إلى يوم القيامة هم الذين أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم، وأخذ منهم الميثاق الأزلي ليعرف منه أن النسل المخرج فيما لا يزال من أصلاب بنيه هو المخرج في الأزل من صلبه، وأخذ منهم الميثاق الأول، وهو المقالي الأزلي، كما أخذ منهم فيما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الثاني، وهو الحالي الإنزالي. والحاصل أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الحاملة على الاعتراف الحالي، وثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة ويخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقاً آخر أزلياً فقال (ما) قال من مسح ظهر آدم في الأزل وإخراج ذريته وأخذه الميثاق عليهم اهـ.
وبهذا يزول كثير من الإشكالات، فتأمل فيها حق التأمل)).
وجملة القول أن الحديث صحيح، بل هو متواتر المعنى كما سبق، وأنه لا تعارض بينه وبين آية أخذ الميثاق، فالواجب ضمه إليها، وأخذ الحقيقة من مجموعهما، وقد تجلت لك إن شاء الله مما نقلته لك من كلام العلماء، وبذلك ننجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين:
الأولى: رد الحديث بزعم معارضته للآية.
والأخرى: تأويلها تأويلاً يبطل معناها، أشبه ما يكون بتأويل المبتدعة والمعتزلة. كيف لا وهم أنفسهم الذين أنكروا حقيقة الأخذ والإشهاد والقول المذكور فيها بدعوى أنها خرجت مخرج التمثيل! وقد عز علي كثيراً أن يتبعهم في ذلك مثل ابن القيم وابن كثير، خلافاَ للمعهود منهم من الرد على المبتدعة ما هو دون ذلك من التأويل. والعصمة لله وحده.
ثم إنه ليلوح لي أننا وإن كنا نتذكر جميعاً ذلك الميثاق الرباني وقد بين العلماء سبب ذلك-فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تشهد فعلاً بأن الله هو الرب وحده لا شريك له، إنما هي أثر ذلك الميثاق، وكأن الحسن البصري رحمه الله أشار إلى ذلك حين روى عن الأسود بن سريع مرفوعاً:
((ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ... )) الحديث، قال الحسن عقبه: ((ولقد قال الله ذلك في كتابه: (وإذ أخذ ربك ... ) الآية)).
أخرجه ابن جرير (15353)، ويؤيده أن الحسن من القائلين بأخذ الميثاق الوارد في الأحاديث، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعليه فلا يصح أن يقال: إن الحسن البصري مع الخلف القائلين بأن المراد بالإشهاد المذكور في الآية إنما هو فطرهم على التوحيد، كما صنع ابن كثير. والله أعلم.
أشرف حديث في صفة الأولياء
1640 - (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته).
أخرجه البخاري (4/ 231) وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 4) والبغوي في ((شرح السنة)) (1/ 142/2) وأبو القاسم المهرواني في ((الفوائد المنتخبة الصحاح)) (2/ 3/1) وابن الحمامي الصوفي في ((منتخب من مسموعاته)) (171/ 1) وصححه ثلاثتهم، ورزق الله الحنبلي في ((أحاديث من مسموعاته)) (1/ 2 - 2/ 1) ويوسف بن الحسن النابلسي في ((الأحاديث الستة العراقية)) (ق26/ 1) والبيهقي في ((الزهد)) (ق83/ 2) وفي ((الأسماء والصفات)) ص (491) من طريق خالد بن مخلد: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، وهو من الأسانيد القليلة التي انتقدها العلماء على البخاري رحمه الله تعالى، فقال الذهبي في ترجمة خالد بن مخلد هذا وهو القطواني بعد أن ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتضعيفه وساق له أحاديث تفرد بها هذا منها:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/240)
((فهذا حديث غريب جداً، ولولا هيبة ((الجامع الصحيح)) (!) لعددته في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد. ولا أخرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في ((مسند أحمد)) وقد اختلف في عطاء، فقيل: هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء بن يسار)).
ونقل كلامه هذا بشيء من الاختصار الحافظ في ((الفتح)) ((11/ 292 - 293)، ثم قال:
((قلت: ليس هو في ((مسند أحمد)) جزماً، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد-فيه مقال أيضاً. وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص، وقدم وأخر، وتفرد فيه بأشياء لم يتابع عليها، ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً.
1 - منها عن عائشة أخرجه أحمد في ((المسند)) (6/ 256) وفي ((الزهد)) وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في ((الحلية)) والبيهقي في ((الزهد)) من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها. وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به. وقد قال البخاري: إن منكر الحديث.
لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد عن عروة وقال:
((لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد)).
2 - ومنها عن أبي أمامة. أخرجه الطبراني والبيهقي في ((الزهد)) بسند ضعيف.
3 - ومنها عن علي عند الإسماعيلي في ((مسند علي)).
4 - وعن ابن عباس. أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف.
5 - وعن أنس أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني. وفي سنده ضعف أيضاً.
6 - وعن حذيفة. أخرجه الطبراني مختصراً. وسنده حسن غريب.
7 - وعن معاذ بن جبل. أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم في ((الحلية)) مختصراً وسنده ضعيف أيضاً.
8 - وعن وهب بن منبه مقطوعاً. أخرجه أحمد في ((الزهد)) وأبو نعيم في ((الحلية))، وفيه تعقب على ابن حبان حيث قال بعد إخراج حديث أبي هريرة:
(لا يعرف لهذا الحديث إلا طريقان- يعني غير حديث الباب- وهما هشام الكناني عن أنس، وعبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة، وكلاهما لا يصح))).
هذا كله كلام الحافظ. وقد أطال النفس فيه. وحق له ذلك، فإن حديثاً يخرجه الإمام البخاري في ((المسند الصحيح)) ليس من السهل الطعن في صحته لمجرد ضعف في إسناده، لاحتمال أن يكون له شواهد تأخذ بعضده وتقويه .. فهل هذا الحديث كذلك؟
لقد ساق الحافظ هذه الشواهد الثمان، وجزم بأنه يدل مجموعها على أن له أصلاً.
ولما كان من شروط الشواهد أن لا يشتد ضعفها وإلا لم يتقو الحديث بها كما قرره العلماء في ((علم مصطلح الحديث))، وكان من الواجب أيضاً أن تكون شهادتهما كاملة، وإلا كانت قاصرة، لذلك كله كان لا بد لي من إمعان النظر في هذه الشواهد أو ما أمكن منها من الناحيتين اللتين أشرت إليهما: قوة الشهادة وكمالها أو العكس؛ وتحرير القول في ذلك، فأقول:
1 - ذكر الحافظ لحديث عائشة طريقين أشار إلى أحدهما ضعيف جداً. لأن من قال فيه البخاري: منكر الحديث. فهو عنده في أدنى درجات الضعف. كما هو معلوم، وسكت عن الطريق الأخرى فوجب بيان حالهان ونص متنها، فأقول:
أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (15/ 16 - زوائده): حدثنا هارون بن كامل: ثنا سعيد بن أبي مريم: ثنا إبراهيم بن سويد المدني: حدثني أبو حزرة يعقوب بن مجاهد: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بتمامه مثله إلا أنه قال:
((إن دعاني أجبيته)) بدل ((إن استعاذني لأعيذنه)) وقال:
((لم يروه عن أبي حزرة إلا إبراهيم. ولا عن عروة إلا أبو حزرة وعبد الواحد بن ميمون)).
قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات معرفون مترجمون في ((التهذيب)) غير هارون بن كامل وهو المصري كما في ((معجم الطبراني الصغير)) ص (232) ولم أجد له ترجمة، فلولاه الإسناد جيداً. لكن الظاهر من كلام الطبراني السابق أنه لم يتفرد به.
فإنه ذكر التفرد لإبراهيم شيخ شيخه.
والحديث أورده الهيثمي (10/ 269) بطرقه الأول ثم قال:
((رواه البزار واللفظ له أحمد و الطبراني في ((الأوسط)) وفيه عبد الواحد بن قيس وقد وثقه غير واحد. وضعفه غيرهم. وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. ورجال الطبراني في ((الأوسط)) رجال ((الصحيح)) غير شيخه هارون بن كامل))!
قلت: يعقوب بن مجاهد وإبراهيم بن سويد ليسا من رجال ((الصحيح)) وإنما أخرج لهما البخاري في ((الأدب المفرد)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/241)
ثم إن قوله: ((وفيه عبد الواحد بن قيس)) يخالف فول الحافظ المتقدم أنه عبد الواحد بن ميمون. ولا أدري هل منشؤه من اختلاف الاجتهاد في تحديد المراد من عبد الواحد الذي لم ينسب فيما وقفت عليه من المصادر، أم أنه وقع منسوباً عند البزار؟ فقد رأيت الحديث في ((المسند)) (6/ 257) و ((الحلية)) (1/ 5) و ((الزهد)) للبيهقي (83/ 2) من طرق عن عبد الواحد مولى عروة عن عروة به.
ثم تبين لي أن الاختلاف سببه اختلاف الاجتهاد. وذلك لأن كلاً من عبد الواحد ابن ميمون، وعبد الواحد بن قيس روى عن عروة.
فمال كل من الحافظين إلى ما مال إليه. لكن الراجح ما ذهب إليه الحافظ ابن حجرن لأن الذين رووه عن عبد الواحد لم يذكروا في الرواة عن ابن قيس وإنما عن ابن ميمون. وفي ترجمته ذكر ابن عدي (305/ 1) هذا الحديث وكذلك صنع الذهبي في ((الميزان)) والحافظ في ((اللسان))، فقول الهيثمي أنه ابن قيس مردود. ولو كان هو صاحب هذا الحديث لكان شاهداً لا بأس به. فإنه أحسن حالاً من ابن ميمون. فقد قال الحافظ فيه:
((صدوق الأول له أوهام ومراسيل)).
وأما الأول فمتروك.
ثم رأيت ما يشهد لمارجحته. فقد أخرجه أبو نعيم في ((الأربعين الصوفية)) (ق60/ 1) وأبو سعد النيسابوري في ((الأربعين)) (ق52/ 1 - 2) وقال:
((حديث غريب ... وقد صح معنى هذا الحديث من حديث عطاء عن أبي هريرة))، وابن النجار في ((الذيل)) (10/ 183/2) عن عبد الواحد بن ميمون عن عروة بن فنسبه إلى ميمون.
وجملة القول في حديث عائشة هذا أنه لا بأس به في الشواهد من الطريق الأخرى إن لم يكن لذاته حسنا.
2 - ثم ذكر حديث أبي أمامة وضعفه، وهو عند البيهقي من طريق ابن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عنه. وكذلك رواه السلمي في ((الأربعين الصوفية)) (9/ 1).
وهذا الإسناد يضعفه ابن حبان جداً، ويقول في مثله إنه من وضع أحد هؤلاء الثلاثة الذين دون أبي أمامة.
لكن أخرجه أبو نعيم في ((الطب)) (ق11/ 1 - نسخة الشيخ السفرجلاني) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد به نحوه.
وعثمان هذا قال الحافظ في ((التقريب)):
((ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني)).
3 - حديث علي لم أقف الآن على إسناده.
4 - وأما حديث ابن عابس، فقد ضعفه الحافظ كما تقدم، وبين علته الهيثمي فقال (10/ 270):
((رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم)).
قلت: وإسناده أسوأ من ذلكن وفي متنه زيادة منكرة، وكذلك أوردته في ((الضعيفة)) (5396).
5 - وأما حديث أنس فلم يعزه الهيثمي إلا للطبراني في ((الأوسط)) مختصراً جداً بلفظ:
(( ... من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)). وقال:
((وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف)).
وقد وجدته من طريق أخرى بأتم منه، ويرويه الحسن بن يحيى قال: حدثنا صدقة ابن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس به نحو حديث الترجمة، وزاد:
((وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة، فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ... )) الحديث.
أخرجه محمد بن سليمان الربعي في ((جزء من حديثه)) (ق216/ 2) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص121).
قلت: وإسناده ضعيف، مسلسل بالعلل:
الأولى: هشام الكناني لم أعرفه، وقد ذكره ابن حبان في كلامه الذي سبق نقله عنه بواسطة الحافظ ابن حجر، فالمفروض أن يورده ابن حبان في ((ثقات التابعين)) ولكنه لم يفعل، وإنما ذكر فيهم هشام بن زيد بن أنس البصري يروي عن أنس، وهو من رجال الشيخين، فلعله هو.
الثانية: صدقة بن عبد الله، وهو أبو معاوية السمين-ضعيف.
الثالثة: الحسن بن يحيى وهو الخشني، وهو صدوق كثير الغلط كما في ((التقريب)).
6 - وحديث حذيفة لم أقف على سنده أيضاً. ولم أره في ((مجمع الهيثمي))
7 - وحديث معاذ مع ضعف إسناده فهو شاهد مختصر ليس فيه إلا قوله:
((من عادى وليا فقد بارز الله بالمحاربة)).
وهو مخرج في ((الضعيفة)) (1850).
وحديث وهب بن منبه، أخرجه أبو نعيم (4/ 32) من طريق إبراهيم بن الحكمك حدثني أبي: حدثني وهب بن منبه قال:
((إني لأجد في بعض كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إن الله تعالى يقول:
ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبضِ روح المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته ولا بد له منه)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/242)
قلت: وإبراهيم هذا ضعيف، ولو صح عن وهب فلا يصلح للشهادة، لأنه صريح في كونه من الإسرائيليات التي أمرنا بأن لا نصدق بها، ولا نكذبها.
ونحوه ما روى أبو الفضل المقري الرازي في ((أحاديث في ذم الكلام)) (204/ 1) عن محمد بن كثير الصنعاني عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: ((قال الله ... )) فذكر الحديث بنحوه معضلاً موقوفاً.
ولقد فات الحافظ رحمه الله تعالى حديث ميمونة مرفوعاً به بتمامه مثل حديث الطبراني عن عائشة.
أخرجه أبو يعلى في ((مسنده)) (ق334/ 1) و أبوبكر الكلاباذي في ((مفتاح المعاني)) (13/ 1 رقم 15) عن يوسف بن خالد السمتيك ثنا عمر بن إسحاق أنه سمع عطاء بن يسار يحدث عنها.
لكن هذا إسناد ضعيف جداً؛ لأن السمتي هذا قال الحافظ:
((تركوه، وكذبه ابن معين)).
فلا يصلح للشهادة أصلاً. وقد قال الهيثمي:
((رواه أبو يعلى وفيه يوسف خالد السمتي وهو كذاب)).
وخلاصة القول: إن أكثر هذه الشواهد لا تصلح لتقوية الحديث بها، إما لشدة ضعف إسناده، وإما لاختصارها، اللهم إلا حديث عائشة، وحديث أنس بطريقيه؛ فإنهما إذا ضما إلى إسناد حديث أبي هريرة اعتضد الحديث بمجموعها وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء الله تعالىن وقد صححه من سبق ذكره من العلماء.
(تنبيه) جاء في كتاب ((مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار)) (في باب الحادي عشر في كلمات القدسية) (2/ 338) أن هذا الحديث أخرجه البخاري عن أنس وأبي هريرة بلفظ:
((من أهان لي (ويروى من عادى لي) ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء أنا فاعله، ما ترددت في قبض نفس عبد المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه، وما تقرب إلى عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا، ولا تعبد لي بمثل أداء ما افترضته عليه)).
قلت: فهذا خطأ فاحش من وجوه:
الأول: أن البخاري لم يخرجه من حديث أنس أصلاً.
الثاني: أنه ليس في شيء من طرق الحديث التي وقفت عليها ذكر للزهد.
الثالث: أنه ليس في حديث أبي هريرة وأنس قوله: ((ولابد له منه)).
الرابع: أنه مخالف لسياق البخاري ولفظه كما هو ظاهر.
ونحو ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية أورد الحديث في عدة أماكن من ((مجموع الفتاوى)) (5/ 511و10/ 58و11/ 75 - 76و17/ 133 - 134) من رواية البخاري بزيادة ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)) ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلاً عن الطوفي ولم يعزها لأحد.
ثم إن لشيخ الإسلام جواباً قيماً على سؤال حول التردد المذكور في هذا الحديث، أنقله هنا بشيء من الاختصار لعزته وأهميته، قال رحمه الله تعالى في ((المجموع)) (18/ 129 - 131):
((هذا حديث شريف، وهو أشرف حديث روى في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، فإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة التردد!
والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة، ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدباً، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة. ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور (فإنه) لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء، ثم هذا باطل (على إطلاقه) فإن الواحد يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد، الذي يُحب من وجه ويُكره من وجه، كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب.
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه. بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من الباب، وفي ((الصحيح)):
((حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)) وقال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) الآية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/243)
ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث، فإنه قال: ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) فإن العبد الذي حاله صار محبوباً للحق محباً له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق. فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة، بحيث ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه قد قضى بالموت. فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مراداً من وجه مكروهاً من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده. وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته)).
وقال في مكان آخر (10/ 58 - 59):
((فبين سبحانه أنه يتردد، لأن التردد تعارض إرادتين، فهو سبحانه يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت، فهو يكرهه كما قال: ((وأنا أكره مساءته)) وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت، فسمى ذلك ترددا. ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك)).
الرد على القول بعصمة آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم
1904 - (الشاهد يرى ما لا يرى الغائب).
أخرجه أحمد (1/ 83) وعنه الضياء في ((المختارة)) (1/ 248) والبخاري في ((التاريخ)) (1/ 1/177) عن يحيى بن سعيد عن سفيان، ثنا محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن علي رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: فذكره.
وخالفه أبو نعيم فقال: نا سفيان به، إلا أنه زاد: ((عن أبيه عن علي)).
أخرجه الضياء (1/ 233) وقال:
((رواه إسحاق بن راهويه في ((مسنده)) عن أبي نعيم)).
لكن أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 92): حدثنا سليمان بن أحمد (هو الطبراني): ثنا علي بن عبد العزيز: ثنا أبو نعيم: ثنا سفيان به دون الزيادة، ولذلك قال أبو نعيم عقبه:
((رواه عصام بن يزيد: جبر، فوصله)).سم أسنده من طريين عن محمد بن يحيى بن منده: ثنا محمد بن عصام بن يزيد عن أبيه عن سفيان عن محمد بن عمر بن علي عمن حدثه عن علي قال:
((بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن نسيب لأم إبراهيم شيء، فدفع إلى السيف، فقال: اذهب فاقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو فوق نخلة، فلما رآني عرف، ووقع، ألقي ثوبه، فإذا هو أجب، فكففت عنه، فقال: أحسنت)). وقال:
((جوده محمد بن إسحاق وسماه)).
ثم ساق هنا مختصراً وفي ((3/ 177/178) بتمامه من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن إبراهيم بن محمد بن علي بن الحنفية عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال:
((أُكِثَر على مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في قبطي-ابن عم لها- كان يزورها ويختلف إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: خذ هذا السيف فانطلق إليه، فإن وجدته عندها فاقتله. فقلت: يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أرسلتني به، أو الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: (فذكره)، فأقبلت متوشحا السيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما أقبلت نحوه عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقى فيهان ثم رمى بنفسه على قفاه، وشَفَرَ برجليه، فإذا هو أجب أمسَح، ما له ما للرجال، قليل ولا كثير، فأغمدت سيفي، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت)). وقال:
((هذا غريب لا يعرف مسنداً بهذا السياق إلا من حديث محمد بن إسحاق)).
قلت: ومن هذا الوجه أخرجه البخاري في ((التاريخ)) وأبو عبد الله بن منده في (معرفة الصحابة)) (42/ 531) وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/ 232/1) والضياء في ((المختارة)) (1/ 247) وصرح البخاري وابن منده بتحديث ابن إسحاق، فزالت شبهة تدليسه، وسائر رجاله ثقات، فهو إسناد متصل جيد.
وروى الخطيب في ((التاريخ)) (3/ 64) من هذا الوجه حديث الترجمة فقط دون القصة.
وقد وجدت له شاهداً، يرويه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب وعقيل عن الزهري عن أنس مرفوعاً به.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/244)
أخرجه القضاعي في ((مسند الشهاب)) (9/ 2) من طريق الطبراني.
وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد.
والقصة وحدها دون الحديث لها طريق أخرى عند مسلم (8/ 119) وأحمد (3/ 281) من طريق ثابت عن أنس نحوه.
واستدركه الحاكم (4/ 39) على مسلم فوهم، كما وهم بعض المعلقين على ((المقاصد الحسنة)) في جزمه بأن حديث الترجمة من حديث أنس عند مسلم.
وأخرجها الحاكم من حديث عائشة أيضاً، وفيه أبو معاذ سليمان بن الأرقم الأنصاري وهو ضعيف جداً، وسيأتي تخريجه وبيان ما فيه من الزيادات المنكرة برقم (4964) من الكتاب الآخر.
قلت: و الحديث نص صريح في أن أهل البيت رضي الله عنهم يجوز فيهم ما يجوز في غيرهم من المعاصي، إلا من عصم الله تعالى، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في قصة الإفك:
((يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه .. )).
أخرجه مسلم.
ففيهما رد قاطع على من ابتدع القول بعصمة زوجاته صلى الله عليه وسلم محتجاً بمثل قوله تعالى فيهن: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) جاهلاً أو متجاهلاً أن الإرادة في الآية ليست الإرادة الكونية التي تستلزم وقوع المراد، وإنما هي الإرادة الشرعية المتضمنة للمحبة والرضا، إلا لكانت الآية حجة للشيعة في استدلالهم بها على عصمة أئمة أهل البيت وعلى رأسهم علي رضي الله عنه، وهذا مما غفل عنه ذلك المبتدع، مع أنه يدعي أنه سلفي!
ولذلك قال الشيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الشيعي الرافضي (2/ 117).
((وأما آية التطهير فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم ... ومما يبين أن هذا مما أمروا به لا مما أخبر بوقوعه؛ ما ثبت في ((الصحيح)) أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على فاطمة وعلي وحسن وحسين ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)).
رواه مسلم. ففيه دليل على أنه لم يخبر بوقوع ذلك؛ فإنه لو كان وقع لكان يثني على الله بوقوعه، ويشكره على ذلكن لا يقتصر على مجرد الدعاء)).
الصورةُ الرأس
1921 - (الصورةُ الرأس، فإذا قطِعَ الرأس، فلا صورة).
عزاه السيوطي في ((الجامع الصغير)) للإسماعيلي في ((معجمه))، وبيض له المناوي، فلم يتكلم على إسناده بشيء، وقد وقفت على سنده على ظهر الورقة الأولى من الجزء الحادي عشر من ((الضعفاء)) للعقيلي، بخط بعض المحدثين، أخرجه من طريق عدي بن الفضل وابن عُلَية جميعاً عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره مرفوعاً، ومن طريق عبد الوهاب عن أيوب به موقوفاً عليه.
قلت: وابن عُلَية واسمه إسماعيل؛ أحفظ من عبد الوهاب وهو ابن عبد المجيد الثقفي، فروايته المرفوعة أرجح، لا سيما ومعه المقرون به عدي بن الفضل على ضعفه، فإذا كان السند إليهما صحيحاً، فالسند صحيح، ولم يسقه الكاتب المشار إليه. ولكن يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة:
((أتاني جبريل. . .)) الحديث، وفيه:
((فمر برأس التمثال الذي في البيت يُقطعْ فيصير كهيئة الشجرة. . .))، فهذا صريح في أن قطع رأس الصورة، أي التمثال المجسم، يجعله كلا صورة.
قلت: وهذا في المجسم كما قلنا، وأما في الصورة المطبوعة على الورق أو المطرزة على القماش، فلا يكفي رسم خط على العنق ليظهر كأنه مقطوع عن الجسد، بل لابد من الإطاحة بالرأس. وبذلك تتغير معالم الصورة، وتصير كما قال عليه الصلاة والسلام: ((كهيئة الشجرة)).
فاحفظ هذان ولا تغتر بما جاء في بعض كتب الفقه ومن اتخذها أصلاً من المتأخرين. راجع ((آداب الزفاف)) (ص103 - 104 - الطبعة الثالثة).
إثبات العدوى
1978 - (إنا قد بايعناك فارجع).
هو من حديث الشريد بن سويد قال:
كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
أخرجه مسلم (7/ 37) والنسائي (2/ 184) وابن ماجه (2/ 364) و الطيالسي (رقم1270) وأحمد (4/ 389 - 390) عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن الشريد عن أبيه به.
وأخرجه الطبراني في ((معجم الكبير)) (7247) من طريق شريك عن يعلى بن عطاء بلفظ:
أن مجذوماً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأتيته فذكرت له، فقال:
((ائته فأعلمه أني قد بايعته فليرجع)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/245)
قلت: وفي الحديث إثبات العدوى والاحتراز منها، فلا منافاة بينه وبين حديث ((لا عدوى)) لأن المراد به نفي ما كانت الجاهلية تعتقده أن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى وقدره، فهذا هو المنفي، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله ومشيئته، وهذا ما أثبته حديث الترجمة، وأرشد فيه إلى الابتعاد عما قد يحصل الضرر منه بقدر الله وفعله.
كتاب الصلاة
التوقيت للوتر، كالتوقيت للصلوات الخمس
1712 - (إنما الوتر بالليل).
أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (رقم891) عن خلد بن أبي كريمة: نا معاوية بن قرة عن الأغر المزني:
((أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر، فقال: (فذكره). قال يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر، قال: فأوتر)).
قلت: وهذا إسناد حسن على الأقل في الشواهد، خالد بن أبي كريمة قال الحافظ:
((صدوق يخطىء)).
وسائر رجاله ثقات، غير شيخ الطبراني محمد بن عمرو بن خالد الحراني، فلم أجد له ترجمة. لكن يشهد للحديث قوله صلى الله عليه وسلم:
((أوتروا قبل أن تصبحوا)).
أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وهو مخرج في ((الإرواء)) (421).
وهذا التوقيت للوتر، كالتوقيت للصلوات الخمس، إنما هو لغير النائم وكذا الناسي، فإنه يصلي الوتر إذا لم يستيقظ له في الوقت، يصليه متى استيقظ، ولو بعد الفجر، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم للرجل في هذا الحديث: ((فأوتر)). بعد أن قال له: ((إنما الوتر بالليل)). وفي ذلك حديث صريح فانظره في ((المشكاة)) (1268) و ((الإرواء)) (422).
شرعية الصلاة بعد الوتر
1993 - (إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له).
أخرجه الدارمي (1/ 374) وابن خزيمة في ((صحيحه) (2/ 159/1103) وابن حبان (683) من طرق عن ابن وهب: حدثني معاوية بن صالح عن شريح بن عبيد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان قال:
((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال:)) فذكره، وليس عند الدارمي هذه الجملة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم قال الحديث في السفر، ولذلك عقب على الحديث بقوله:
((ويقال: ((هذا السفر))، وأنا أقول: السهر))!
وبناءً عليه وقع الحديث عنده بلفظ: ((هذا السهر)). ويرده أمران:
الأول: ما ذكرته من مناسبة ورود الحديث في السفر.
والآخر: أن ابن وهب قد تابعه عبد الله بن صالح: ثنا معاوية بن صالح به مناسبة ولفظاً.
أخرجه الدارقطني (ص177) والطبراني رفي ((الكبير)) (1410).
وعبد الله بن صالح من شيوخ البخاري، فهو حجة عند المتابعة.
فدل ذلك كله على أن المحفوظ في الحديث ((السفر)) وليس ((السهر)) كما قال الدارمي.
والحديث استدل به الإمام ابن خزيمة على ((أن الصلاة بعد الوتر مباح لجميع من يريد الصلاة بعده، وأن الركعتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالركعتين بعد الوتر أمر ندب وفضيلة، لا أمر إيجاب وفريضة)).
وهذه فائدة هامة، استفدناها من هذا الحديث، وقد كنا من قبل مترددين في التوفيق بين صلاته صلى الله عليه وسلم الركعتين وبين قوله: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً))، وقلنا في التعليق على ((صفة الصلاة)) (ص123 - السادسة):
((والأحوط تركهما اتباعاً للأمر. والله أعلم)).
وقد تبين لنا الآن من هذا الحديث أن الركعتين بعد الوتر ليستا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، لأمره صلى الله عليه وسلم بهما أمته أمراً عاماً، فكأن المقصود بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وتراً، أن لا يهمل الإيتار بركعة، فلا ينافيه صلاة ركعتين بعدهما، كما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم وأمره. والله أعلم.
كتاب الزكاة
فضل القرض الحسن وأنه يعدل التصدق بنصفه
1553 - (إن السلف يجري مجرى شَطْرِ الصدقة).
أخرجه أحمد (1/ 412) وأبو يعلى (3/ 1298 - مصورة المكتب) من طريق حماد بن سلمة: أخبرنا عطاء بن السائب عن ابن أذنان قال:
((أسلفت علقمة ألفي درهم، فلما خرج عطاؤه قلت له: اقضيني، قال: أخرني إلى قابل، فأتيت عليه فأخذتها، قال: فأتيته بعد، قال: بَرحْتَ بي وقد منعتني، فقلت: نعم، هو عملك، قال: وما شأني، قلت: إنك حدثتني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فذكره)، قال: نعم فهو كذلكن قال: فخذ الآن)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/246)
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن ابن أذنان لم يوثقه غير ابن حبان، وقد اختلف في اسمه والراجح أنه سليم كما ذهب غليه المحقق أحمد شاكر رحمه الله تعالى، ويأتي التصريح بذلك قريباً في بعض الطرق.
وعطاء بن السائب كان اختلط.
لكن للحديث طريق أخرى، فقال الطبراني في ((المعجم الكبير)) (رقم9180): حدثنا علي بن عبد العزيز: نا ابونعيم: نا دلهم بن صالح: حدثني حميد بن عبد الله الثقفي أن علقمة بن قيس استقرض من عبد الله ألف درهم ... الحديث نحوه ولم يرفع آخره، ولفظه:
((قال عبد الله: لأن أقرض مالاً مرتين أحب إلي من أن أتصدق به مرة)).
ودلهم هذا ضعيف.
وحميد بن عبد الله الثقفي، أورده ابن أبي حاتم (1/ 2/224) لهذا الإسناد، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا.
والجملة الأخيرة منه قد رويت من طريقين آخرين عن ابن مسعود مرفوعاً، فهو بمجموع ذلك صحيح. والله أعلم. راجع ((تخريج الترغيب)) (2/ 34).
وتابعه على الجملة الأخيرة منه قيس بن رومي عن سليم بن أذنان به مرفوعاً بلفظ:
((من أقرض ورِقاً مرتين كان كعدل صدقةٍ مرةً)).
أخرجه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص19) وابن شاهين في ((الترغيب والترهيب)) (314/ 1) والبيهقي في ((السنن)) (5/ 353).
وله طريق أخرى عن الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ:
((من أقرض مرتين كان له مثلُ أجر أحدهما لو تصدق به)).
أخرجه ابن حبان (1155) والخرائطي والهيثم بن كليب في ((مسنده)) (53/ 2 - 54/ 1) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (3/ 68/1) وابن عدي (212/ 2) من طريق أبي حريز أن إبراهيم حدثه عنه.
قلت: وهذا سند لا بأس به المتابعات، رجاله ثقات، غير أبي حريز واسمه عبد الله بن الحسين الأزدي، قال الذهبي:
((فيه شيء)). وقال الحافظ:
((صدوق يخطىء)).
(السَلَفُ): القرض الذي لا منفعة للمقرض فيه.
قلت: ومع هذه الفضيلة البالغة للقرض الحسن، فإنه يكاد أن يزول من بيوع المسلمين، لغلبة الجشع والتكالب على الدنيا على الكثيرين أو الأكثرين منهم، فإنك لا تكاد نجد فيهم من يقرضك شيئاً إلا مقابل فائدة إلا نادراً، فإنك قليلاً ما يتيسر لك تاجر يبيعك الحاجة بثمن واحد نقداً أو نسيئة، بل جمهورهم يطلبون منك زيادة في بيع النسيئة، وهو المعروف اليوم ببيع التقسيط، مع كونها ربا في صريح قوله صلى الله عليه وسلم:
((من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهما أو الربا)).
وقد فسره جماعة من السلف بأن المراد به بيع النسيئة، ومنه بيع التقسيط، كما سيأتي بيانه عند تخريج الحديث برقم (2326).
كتاب الصيام
من الطب النبوي
1830 - (خصاء أمتي الصيام).
رواه أحمد (2/ 173) وابن عدي (111/ 2) والبغوي في ((شرح السنة)) (3/ 1/2) عن ابن لهيعة: حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله ابن عمرو بن العاص.
أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتأذن لي أن أختصي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: فذكره، وزاد: ((والقيام)).
قلت: وهذا إسناد ضعيف، لسواء حفظ ابن لهيعة، وقد رويت أحاديث بمعنى حديثه هذا دون ذكر القيام.
فروى ابن سعد (3/ 394) بسند جيد عن ابن شهاب:
أن عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أليس لك في أسوة حسنة؟ فأنا آتي النساء، وآكل اللحم، وأصوم وأفطر، إن خصاء أمتي الصيام، وليس من أمتي من خصى أو اختصى)).
وأخرج الحسين المروزي في ((زوائد الزهد)) (1106) كم طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن سعد بن مسعود قال: قال عثمان بن مظعون ... فذكره نحوه دون قوله: ((وليس من أمتي ... )).
لكن أخرجه ابن المبارك نفسه في ((الزهد)) (845) من طريق رشدين بن سعد قال: حدثني ابن أنعم به أتم منه.
وعبد الرحمن بن أنعم ضعيف لسوء حفظه، ومثله رشدين.
ثم أخرج المروزي (1107) وأحمد (3/ 378و382 - 383) من طريق رجل عن جابر بن عبد الله قال:
جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الخصاء؟ فقال:
((صُمْ، وسل الله من فضله)).
وإسناده صحيح لولا الرجل الذي لم يسم.
وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح، دون ذكر القيام فإنه منكر. والله أعلم.
ويشهد له الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود مرفوعاً:
((يا مشعر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/247)
وهو مخرج في ((صحيح أبي داود)) (1785)، وروي من حديث عثمان، وهو مخرج في التعليق على ((الأحاديث المختارة) (رقم-356 - بتحقيقي).
وفي الحديث توجيه نبوي كريم، لمعالجة الشبق وعرامة الشهوة في الشباب الذين لا يجدون زواجاً، ألا وهو الصيام، فلا يجوز لهم أن يتعاطوا العادة السرية (الاستمناء باليد).لأنه قاعدة من قيل لهم: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، ولأن الاستنماء في ذاته ليس من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله في القرآن الكريم: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون).
قالت عائشة رضي الله عنها في تفسيرها:
((فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا)).
أخرجه الحاكم (2/ 393) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
كتاب المرأة والنكاح وما يتعلق به و تربية الأولاد
الضرب بالدف معصية في غير النكاح والعيد
1609 - (إن الشيطان ليفرق منك يا عمر).
أخرجه أحمد (5/ 353) والترمذي (4/ 316) وابن حبان (2186) مختصراً من طريق الحسين بن واقد: حدثني عن عبد الله بن بريدة عن أبيه:
((أن أمَةً سوداء أتت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ورَجَعَ من بعض مغازيه، فقالت: إني كنتُ نذرتُ: إن ردك الله صالحاً أن أضرب عندك بالدف! قال:
((إن كنتِ فعلتِ فافعلي، وإن كنتِ لم تفعلي فلا تفعلي)). فَضَرَبَتْ، فدخل أبو بكر وهي تَضْرِبُ، ودخل غيره وهي تَضْرِبُ، ثم دخل عمر، قال: فجعلتْ دُفها خلفها وهي مُقنعة، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكره) وزاد: ((أنا جالس ههنا، ودخل هؤلاء، فلما أن دَخَلْتَ فَعلَتْ ما فعلَتْ)).
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وفي الحسين كلام لا يضر.
وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس، لأن الضرب بالدف معصية في غير النكاح والعيد، والمعصية لا يجوز نذرها ولا الوفاء بها. والذي يبدو لي في ذلك أن نذرها لما كان فرحاً منها بقدومه صلى الله عليه وسلم صالحا سالما منتصرا، اغتفر لها السبب الذي نذرته لإظهار فرحها، خصوصية له صلى الله عليه وسلم دون الناس جميعا، فلا يؤخذ منه جواز الدف في الأفراح كلها، لأنه ليس هناك من يفرح به كالفرح به صلى الله عليه وسلم، ولمنافاة ذلك لعموم الأدلة المحرمة للمعازف والدفوف وغيرها، إلا ما استثني كما ذكرنا آنفا.
هذا الحديث دلالته ليس على عمومه، بل قد دخله التخصيص في بعض أجرائه
1865 - (الذهب والحرير حلال لإناث أمتي، حرام على ذُكورها).
رواه سمويه في ((الفوائد)) (35/ 1): حدثنا سعيد بن سليمان: ثنا عباد: ثنا سعيد بن أبي عروبة: حدثني ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسه بنت زيد بن أرقم عن أبيها زيد بن أرقم مرفوعاً.
ومن هذا الوجه أخرجه الطحاوي في ((شرح المعاني)) (2/ 245) والطبراني في ((الكبير)) (5125) و العقيلي في ((الضعفاء)) (ص62) وقال:
((وهذا يروى بغير هذا الإسناد بأسانيد صالحة)).
قلت: ورجاله ثقات غير أنيسة بنت زيد بن أرقم، فلم أعرفها.
وثابت بن زيد بن ثابت، روى العقيلي عن عبد الله بن أحمد قال:
((سألت أبي عنه؟ فقال: روى عنه ابن أبي عروبة، وحدثنا عنه معتمر، له أحاديث مناكير، قلت: تحدث عنه؟ قال: نعم، فقلت: أهو ضعيف؟ قال: أنا أحدث عنه)).
وقال ابن حبان:
((الغالب على حديثه الوهم، لا يحتج به إذا انفرد)).
وبه أعله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 143).
والحديث صحيح؛ لأن له شواهد يتقوى بها، كما أشار إلى ذلك العقيلي في كلامه السابق، وقد خرجتها في ((إرواء الغليل)) (277) و ((غاية المرام في تخريج الحلال والحرام)) (78).
وهو من حيث دلالته ليس على عمومه، بل قد دخله التخصيص في بعض أجرائه، فالذهب بالنسبة للنساء حلال، إلا أواني الذهب والفضة، فهن يشتركن مع الرجال في التحريم اتفاقاً، وكذلك الذهب المحلق على الراجح عندنا، عملاً بالأدلة الخاصة المحرمة، ودعوى أنها منسوخة مما لا ينهض عليه دليل، كما هو مبين في كتابي ((آداب الزفاف في السنة المطهرة))، ومن نقل عني خلاف هذا فقد افترى.
وكذلك الذهب و الحرير محرم على الرجال، إلا لحاجة؛ لحديث عرفجة بن سعد الذي اتخذ أنفاً من ذهب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث عبد الرحمن بن عوف الذي اتخذ قميصاً من حرير، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك.
عمرة الحائض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/248)
1984 - (طوافُكِ بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيكِ لحجك وعمرَتك).
أخرجه مسلم (4/ 34) وأبو داود (1897) عن عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء- وقال مسلم: عن مجاهد-عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: فذكره. لفظ عطاء، ولفظ مجاهد:
أنها حاضت بـ (سَرِف)، فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك)).
ثم أخرج مسلم وأحمد (6/ 124) من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عائشة:
((أنها أهلت بِعُمرة، فقدمت ولم تَطُفْ بالبيت حتى حاضت، فَنَسكَتْ المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر:
((يَسَعُكِ طوافُكِ لحجكِ وعمرتك)).
فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج)).
قلت: فالعمرة بعد الحج إنما هي للحائض التي تتمكن من الإتيان بعمرة الحج بين يدي الحج، لأنها حاضت، كما علمت من قصة عائشة هذه، فمثلها من النساء إذا أهلت بعمرة الحج كما فعلت هي رضي الله عنها، ثم حال بينها وبين إتمامها الحيض، فهذه يشرع لها العمرة بعد الحج، فما يفعله اليوم جماهير الحجاج من تهافتهم على العمرة بعد الحج، مما لا نراه مشروعاً، لأن أحداً من الصحابة الذين حجوا معه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها. بل إنني أرى أن هذا من تشبه الرجال بالنساء، بل بالحيض منهن! ولذلك جريت على تسمية هذه العمرة بـ (عمرة الحائض) بياناً للحقيقة.
كتاب التاريخ والسيرة وفضائل الصحابة
هذا هو شأن كثير من قصاص زماننا
1681 - (إن بني إسرائيل لما هلكوا قَصُوا)]
أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (رقم-3705) وأبو نعيم في ((الحلية)) (4/ 362) عن أبي أحمد الزبير: نا سفيان عن الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي الهذيل عن خباب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو نعيم:
((غريب من حديث الأجلح والثوري، تفرد به أبو أحمد)).
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال مسلم غير الأجلح وهو ابن عبد الله بن حجية، وهو صدوق كما قال الذهبي في ((الضعفاء)) والحافظ في ((التقريب))، ولا عيب فيه سوى أنه شيعي، ولكن ذلك لا يضر في الرواية لأن العمدة فيها إنما هو الصدق كما حرره الحافظ في ((شرح النخبة)).
وقال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 189):
((رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله موثقون، واختلف في الأجلح الكندي، والأكثر على توثيقه)).
والحديث أورده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام)) (ق8/ 1) وقال:
((رواه البزار من حديث شريك-هو عبد الله-عن أبي سنان عن أبي-لعله عن ابن أبي-هذيل عن خباب مرفوعاً. وقال: هذا إسناد حسن. كذا قال، وليس مما يحتج به)).
قلت: وذلك لضعف شريك بن عبد الله القاضي، ولكن الطريق الأولى تشهد له وتقويه. ولم يورده الهيثمي في ((كشف الأستار عن زوائد البزار)) فلعله في غير ((المسند)) له.
(قصوا) قال في ((النهاية)):
وفي رواية: ((لما هلكوا قصوا)) أي اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس، لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص)).
وأقول: ومن الممكن أن يقال: إن سبب هلاكهم اهتمام وعاظهم بالقصص والحكايات دون الفقه والعلم النافع الذي يعرف بدينهم فيحملهم ذلك على العمل الصالح، لما فعلوا ذلك هلكوا. وهذا هو شأن كثير من قصاص زماننا الذين جل كلامهم في وعظهم حول الإسرائيليات والرقائق والصوفيات. نسأل الله العافية.
حديث العترة وبعض طرقه
1761 - (يا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي).
أخرجه الترمذي (2/ 308) والطبراني (2680) عن زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال:
((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطبن فسمعته يقول:)) فذكره، وقال:
((حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم)).
قلت: قال أبو حاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في ((الثقات)). وقال الحافظ: ((ضعيف))
قلت: لكن الحديث صحيح، فإن له شاهداً من حديث زيد بن أرقم قال:
((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى (خُما)) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/249)
أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور (من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ظل))، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به-فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:-وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)).
أخرجه مسلم (7/ 122 - 123) والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 368) وأحمد (4/ 366 - 367) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1550و1551) والطبراني (5026) من طريق يزيد بن حيان التميمي عنه.
ثم أخرج أحمد (4/ 371) والطبراني (5040) والطحاوي من طريق علي بن ربيعة قال:
((لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني تارك فيكم الثقلين (كتاب الله وعترتي)؟ قال: نعم)).
وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
وله طرق أخرى عند الطبراني (4969 - 4971و4980 - 4982و5040) وبعضها عند الحاكم (3/ 109و148و533). وصحح هو والذهبي بعضها.
وشاهد آخر من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً:
(((إني أوشك أن أدعى فأجيب، و) إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).
أخرجه أحمد (3/ 14و17و26و59) وابن أبي عاصم (1553و1555) والطبراني (2678 - 2679) والديلمي (2/ 1/45).
وهو إسناد حسن في الشواهد.
وله شواهد أخرى من حديث أبي هريرة عند الدارقطني (ص529) والحاكم (1/ 93) والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (56/ 1).
وابن عباس عند الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وعمرو بن عوف عند ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (2/ 24و110)، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف؛ فبعضها يقوي بعضاً، وخيرها حديث ابن عباس.
ثم وجدت له شاهداً قوياً من حديث علي مرفوعاً به.
أخرجه الطحاوي في ((مشكل الآثار)) (2/ 307) من طريق أبي عامر العقدي: ثنا يزيد بن كثير عن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن علي مرفوعاً بلفظ:
(( .... كتاب الله بأيديكم، وأهل بيتي)).
ورجاله ثقات غير يزيد بن كثير فلم أعرفه، وغالب الظن أنه محرف على الطابع أو الناسخ. والله أعلم.
ثم خطر في البال أنه لعله انقلب على أحدهم، وأن الصواب كثير بن زيد، ثم تأكدت من ذلك بعد أن رجعت إلى كتب الرجال، فوجدتهم ذكروه في شيوخ عامر العقدي، وفي الرواة عن محمد بن عمر بن علي، فالحمد لله على توفيقه.
ثم ازددت تأكداً حين رأيته على الصواب عند ابن أبي عاصم (1558).
وشاهد آخر يرويه شريك عن الركين بن الربيع عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت مرفوعاً به.
أخرجه أحمد (5/ 181 - 189) وابن أبي عاصم (1598 - 1549) والطبراني في ((الكبير)) (4921 - 4923).
وهذا إسناد حسن في الشواهد والمتابعات، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 170):
الطبراني في ((الكبير)) ورجاله ثقات))!
وقال في موضع آخر (9/ 163):
((رواه أحمد، وإسناد جيد))!
بعد تخريج هذا الحديث بزمن بعيد، كتب علي أن أهاجر من دمشق إلى عمان، ثم أن أسافر منها إلى الإمارات العربية؛ أوائل سنة (1402) هجرية، فلقيت في (قطر) بعض الأساتذة والدكاترة الطيبين، فأهدى علي أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا الحديث، فلما قرأتها تبين لي أنه حديث عهد بهذه الصناعة، وذلك من ناحيتين ذكرتهما له:
الأولى: أنه أقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة، ولذلك قصر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه، وفاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلاً عن الشواهد والمتابعات، كما يبدو لكل ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا.
الثانية: أنه لم يلتفت على أقوال المصححين للحديث من العلماء، ولا إلى قاعدتهم التي ذكروها في ((مصطلح الحديث)): أن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق، فوقع في هذا الخطاء الفادح من التضعيف الحديث الصحيح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/250)
وكان قد نمى إلي قبل الالتقاء به واطلاعي على رسالته أن أحد الدكاترة في (الكويت) يضعف هذا الحديث، وتأكدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك، يستدرك علي إيرادي الحديث في ((صحيح الجامع الصغير)) بالأرقام (2453و2454و2745و7754) لأن الدكتور المشار إليه قد ضعفه، وأن هذا استغراب مني تصحيحه! ويرجو الأخ المشار إليه أن أعيد النظر في تحقيق هذا الحديثين وقد فعلت ذلك احتياطاً، فلعله يجد فيه ما يدله على خطأ الدكتور، وخطئه هو في استرواحه واعتماده عليه، وعدم تنبهه للفرق بين ناشيء في هذا العلم، ومتمكن فيه، وهي غفلة أصابت كثيراً من الناس الذين يتبعون كل من كتب في هذا المجال، وليست له قدم راسخة فيه. والله المستعان.
واعلم أيها القارئ الكريم، أن من المعروف أن الحديث مما يحتج به الشيعة، ويلهجون بذلك كثيراً، حنى يتوهم بعض أهل السنة أنهم مصيبون في ذلك، وهم جميعاً واهمون في ذلك، وبيانه من وجهين:
الأولى: أن المراد من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: ((عِترتي)) أكثر مما يريده الشيعة، ولا يرده أهل السنة، بل هم مستمسكون به، ألا وهو أن العترة فيه هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك موضحاً في بعض طرقه كحديث الترجمة: ((وعِترتي أهل بيتي)) وأهل بيته في الأصل هم نساؤه صلى الله عليه وسلم وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعاً، كما هو صريح قوله تعالى في (الأحزاب): (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهركم تطهيرا) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: (يا نساءَ النبي لَستُن كأحدٍ من النساءِ إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا)، وتخصيص الشيعة (أهل البيت) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصاراً لأهوائهم كما هو مشروح في موضعه، وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الأية، ودخول علي وأهله فيها، كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره، وكذلك حديث ((العترة)) قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود أهل بيته صلى الله عليه وسلم بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله. ولذلك قال التوربشتي-كما في ((المرقاة)) (5/ 600):
((عترة الرجل: أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم ((العترة)) على أنحاء كثيرة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهل بيتي)) ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه)).
الوجه الآخر: أن المقصود من ((أهل البيت)) إنما هم العلماء الصالحون منهم، والمتمسكون بالكتاب والسنة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: (((العترة) هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم؛ الذين هم على دينه، وكذلك التمسك بأمره)).
وذكر نحوه الشيخ علي القاريء في الموضع المشار إليه آنفاً. ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله:
((أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته، الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته. وبهذا يصلح أن يكون مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال (ويعلمهم الكتاب والحكمة))).
قلت: ومثله قوله تعالى في خطاب أزواجه صلى الله عليه وسلم في آية التطهير المتقدمة: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة).
فتبين أن المراد بـ (أهل البيت) المتمسكين بسنته صلى الله عليه وسلم، فتكون هي المقصود بالذات في الحديث، ولذلك جعلها أحد (الثقلين) في حديث زيد بن أرقم المقابل للثقل الأول وهو القرآن، وهو ما يشير إليه قول ابن الأثير في ((النهاية)):
((سماهما (ثقلين)؛ لأن الآخذ بهما (يعني الكتاب والسنة) والعمل بهما ثقيل، ويقال لكل خطير نفيس (ثَقَلَ)، فسماهما (ثقلين) لقدرهما وتفخيماً لشأنهما)).
قلت: والحاصل أن ذكر أهل البيت في مقابل القرآن في هذا الحديث كذكر سنة الخلفاء الراشدين مع سنته صلى الله عليه وسلم في قوله ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... )). قال الشيخ القارئ (1/ 199):
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/251)
((فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم، أما لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها)).
إذا عرفت ما تقدم فالحديث شاهد قوي لحديث ((الموطأ)) بلفظ:
((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنة رسوله)). وهو في ((المشكاة)) (186).
وقد خفي وجه هذا الشاهد على بعض من سود صفحات من إخواننا الناشئين اليوم في تضعيف حديث الموطأ. والله المستعان.
فضل أبي عبيدة والحجة بخبر الآحاد
1964 - (هذا أمين هذه الأمة. يعني أبا عبيدة).
أخرجه مسلم (1297) والحاكم (3/ 267) وأحمد (3/ 125) وأبو يعلى (2/ 831) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس:
((أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عبيدة، فقال ... )) فذكره، والسياق لمسلم، ولفظ الحاكم:
((يعلمنا القرآن)). وقال:
((صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بذكر القرآن)).
قلت: وفي الحديث فائدة هامة، وهي أن خبر الآحاد حجة في العقائد، كما هو حجة في الأحاكم، لأننا نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث أبا عبيدة إلى أهل اليمن ليعلمهم الأحكام فقط، بل والعقائد أيضا ً، فلو كان خبر الآحاد لا يفيد العلم الشرعي في العقيدة، ولا تقوم به الحجة فيها، لكان إرسال أبي عبيدة وحده إليهم ليعلمهم، أشبه شيء بالبعث. وهذا مما يتنزه الشارع عنه. فثبت يقيناً إفادته العلم. وهو المقصود، ولي في هذه المسألة الهامة رسالتان معروفتان مطبوعتان مراراً، فليراجعهما من أراد التفصيل فيها.
كتاب المستقبل و أشراط الساعة
ظلالات القاديانية
1683 - (إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالاً كذاباً).
أخرجه أحمد (2/ 117 - 118) عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عمر أنه كان عنده رجل من أهل الكوفة، فجعل يحدثه عن المختار فقال ابن عمر:
((إن كان كما تقول فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )) فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، يوسف بن مهران هذا لين الحديث لم يروِ عنه غير علي بن زيد وهو ابن جدعان وهو ضعيف.
لكن له طريق أخرى عند أحمد أيضاً (2/ 104) من طريق عبد الرحمن بن نعيم الأعرجي قال:
((سأل رجل ابن عمر-وأنا عنده-عن متعة النساء، فغضب وقال: والله ما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زنائين ولا مسافحين، ثم قال: والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((ليكونن قبل المسيح الدجال كذابون ثلاثون، أو أكثر)).
ورجاله ثقات غير عبد الرحمن هذا فقال ابن أبي حاتم (2/ 2/293) عن أبي زرعة:
((لا أعرفه إلا في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليكونن .... )) فذكره.
ولهذا قال الحسيني: ((فيه جهالة)). وأقره الحافظ في ((التعجيل)).
وجاء في ((اللسان)):
((عبد الرحمن بن نعيم بن قرش. كان في عصر الدارقطني. وقال في ((المؤتلف والمختلف)): إن له أحاديث غرائب انتهى. وقال: قال: سألت أبا زرعة عنه فقال: كوفي لا أعرفه إلا في حديث واحد عن ابن عمر. روى عنه طلحة بن مصرف)).
قلت: وهذا خلط فاحش بين ترجمتين؛ فإن قول أبي زرعة هذا إنما هو في عبد الرحمن الأعراجي صاحب هذا الحديث، وتابعي كما ترى، فأين هو ممن كان في عصر الدارقطني. ويغلب على الظن أن في النسخة سقطاً بين قوله: انتهى. وقوله: ((وقال))، ثم لينظر من الفاعل في ((وقال: قال))؟
لكن الحديث بمجموع الطريقين حسن، وهو صحيح بشواهد الكثيرة من حديث أبي هريرة، وجابر بن سمرة، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 - أما حديث أبي هريرة، فله عنه طرق وألفاظ أقربها إلى حديث الترجمة رواية خِلاس عنه مرفوعاً بلفظ:
((بَيْنَ يَدَي الساعةِ قريبٌ من ثلاثين دجالين كذابين، كلُهم يقول: أنا نبي، أنا نبي!)).
أخرجه أحمد (2/ 429) بسند صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه البخاري (2/ 406و4/ 380) ومسلم (8/ 189) والترمذي (2/ 34) وأحمد أيضاً (2/ 236 - 237و313و530) من طرق أخرى عنه بلفظ:
((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)). وقال الترمذي:
((حديث حسن صحيح)).
2 - وأما حديث جابر بن سمرة، فيرويه سماك عنه مرفوعاً بلفظ:
((أن بين يدي الساعة كذابين (فاحذروهم))).
أخرجه مسلم وأحمد (5/ 86 - 90و92و94 - 96و100و101و106و107).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/252)
3 - وأما حديث ثوبان، فيرويه أبو أسماء الرحبي عنه مرفوعاً في حديث ((إن الله زوى لي الأرض .... )) وفيه:
(( ... وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)).
أخرجه أبو داود (4252) وابن ماجه (3952) وأحمد (5/ 278) بسند صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في ((صحيحه)) (8/ 171) بدون هذه الزيادة وغيرها مما في طريق الأولين، وكذلك أخرجه الترمذي (2/ 27) وقال:
((حسن صحيح)).
واعلم أن من هؤلاء الدجالين الذين ادعوا النبوة ميراز غلام أحمد القادياني الهندي، الذي ادعى في عهد استعمار البريطانيين للهند أنه المهدي المنتظر، ثم أنه عيسى عليه السلام، ثم ادعى أخيراًً النبوة، واتبعه كثير ممن لا علم عنده بالكتاب والسنة، وقد التقيت مع بعض مبشريهم من الهنود والسوريين، وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة كانت إحداها تحريرية، دعوتهم فيها إلى مناظرتهم في اعتقادهم أنه يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون! منهم ميراز أحمد القادياني. فبدأوا بالمراوغة في أول جوابهم، يريدون بذلك صرف النظر عن المناظرة في اعتقادهم المذكور، فأبيت وأصررت على ذلك، فانهزموا شر هزيمة، وعلم الذين حضروها أنهم قوم مبطلون.
ولهم عقائد أخرى كثيرة باطلة، خالفوا فيها إجماع الأمة يقيناً، منها نفيهم البعث الجسماني، وأن النعيم والجحيم للروح دون الجسد، وأن العذاب بالنسبة للكفار منقطع. وينكرون وجود الجن، ويزعمون أن الجن المذكورين في القرآن هم طائفة من البشر! ويتأولون نصوص القرآن المعارضة لعقائدهم تأويلاً منكراً على نمط تأويل الباطنية والقرامطة، ولذلك كان الإنكليز يؤيدونه ويساعدونه على المسلمين، وكان هو يقول: حرام على المسلمين أن يحاربوا الإنكليز! إلى غير ذلك من إفكه وأضاليله. وقد ألفت كتب كثيرة في الرد عليه، وبيان خروجه عن جماعة المسلمين، فليراجعها من شاء الوقوف حقيقة أمرهم.
الرؤيا الصالحة جزء من النبوة
1869 - (الرؤيا الصالحة جزء من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوة).
أخرجه الخطيب في ((التاريخ)) (5/ 189) من طريقين عن حمزة بن محمد بن العباس: حدثنا أحمد بن الوليد: حدثنا أبو أحمد الزبيري: حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير أحمد بن الوليد وهو ابن أبي الوليد أبو بكر الفحام وحمزة بن محمد بن العباس وكلاهما ثقة، كما صرح بذلك الخطيب في ترجمتهما (5/ 188و8/ 183).
والحديث عزاه السيوطي لابن النجار فقط!
واعلم أنه لا منافاة بين قوله في هذا الحديث: إن الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وعشرين، وفي الحديث التالي: ((جزء من ستة وأربعين))، وفي حديث ابن عمر: ((جزء من سبعين)) رواه مسلم (7/ 54) وغيره، فإن هذا الاختلاف راجح إلى الرائي فكلما كان صالحاً كانت النسبة أعلى، وقيل غير ذلك، فراجع ((شرح مسلم)) للإمام النووي.
كتاب المعاملات والآداب والحقوق العامة
حكم (الباروكة)
1008 - (أيما امرأة أدخلت في شعرها من شعر غيرها فإنما تدخله زوراً).
أخرجه أحمد من حديث معاوية بإسناد السابق عنه. وله شواهد كثيرة في ((الصحيحين)) وغيرهما.
وإذا كان هذا حكم المرأة التي تدخل في شعرها من شعر غيرها، فما حكم المرأة التي تضع على رأسها قلنسوة من شعر مستعار، وهي التي تعرف اليوم بـ (الباروكة)، وبالتالي ما حكم من يفتي بإباحة ذلك لها مطلقاً أو مقيداً تقليداً لبعض المذاهب، وغير مبال بمخالفة الأحاديث الصحيحة، وقد هداه الله إلي القول بوجوب الأخذ بها، ولو كانت مخالفة لمذهبه بله المذاهب الأخرى. أسأل الله تعالى أن يزيدنا هدى على هد، ويرزقنا العلم والتقوى.
السنة السنة أيها المسلمون
1404 - (إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده فليمط ما رابه منها وليطعمها، ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل، حتى يلعق يده، فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارك له، فإن الشيطان يرصد الناس _ أو الإنسان _ على كل شيء، حتى عند مطعمه أو طعامه، ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها، فإن في آخر الطعام البركة).
أخرجه ابن حبان (1343) والبيهقي في ((شعب الإيمان) (2/ 187/2) من طريقين عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير عن جابر- وقال البيهقي: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/253)
وتابعه ابن لهيعة: حدثنا أبو الزبير عن جابر به.
أخرجه أحمد (3/ 393).
والحديث في ((صحيح مسلم)) (6/ 114) من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر به دون قوله: ((فإن الشيطان يرصد ... )) و لهذا تعمدت إخراجه من طريق ابن حبان والبيهقي، ولما في رواية الثاني منهما من تصريح أبي الزبير بالتحديث، فتصل السند وزالت شبهة العنعنة الواردة في رواية ((مسلم)).
على أن هذا قد شد من عضدها بأن ساق الحديث من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به نحوه.
(يرصد) أي يرقب. جاء في ((المصباح)):
((الرصد: طريق، والجمع (أرصاد) مثل: سبب وأسباب. ورصدته رصداً، من باب قتل: قعدت له الطريق، والفاعل: راصد، وربما جمع على (رصد) مثل خادم وخدم. و (الرصيدي) نسبته إلي الرصد، وهو الذي يقعد على الطريق ينتظر الناس ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً)).
قلت: ومن المؤسف حقاً أن ترى كثيراً من المسلمين اليوم وبخاصة أولئك الذين تأثروا بالعادات الغربية والتقاليد الأوروبية- قد تمكن الشيطان من سلبه قسماً من أموالهم ليس عدواناً بل بمحض اختيارهم، وما ذاك إلا لجهلهم بالسنة، أو إهمالاً منهم إياها، ألست تراهم يتفرقون في طعامهم على موائدهم، وكل واحد منهم يأكل لوحده- دون ضرورة- في صحن خاص، لا يشاركه فيه على الأقل جاره بالجنب، خلافاً للحديث السابق (664).
وكذلك إذا سقطت اللقمة من أحدهم، فإنه يترفع عن أن يتناولها ويميط الأذى عنها ويأكلها، وقد يوجد فيهم من المتعالمين والمتفلسفين من لا يجيز ذلك يزعم أنها تلوثت بالجراثيم والميكروبات ضربا منه في صدر الحديث إذ يقول صلى الله عليه وسلم:
((فليمط ما رابه منها، وليطعمها، ولا يدعها للشيطان)).
ثم إنهم لا يلعقون أصابعهم، بل إن الكثيرين منهم يعتبرون ذلك قلة ذوق وإخلالاً بآداب الطعام، ولذلك اتخذوا في موائدهم مناديل من ورق الخفيف الناشف المعروف بـ (كلينكس)، فلا يكاد أحدهم يجد شيئاً من الزهومة في أصابعه، بل وعلى شفتيه إلا بادر إلى مسح ذلك المنديل. خلافاً لنص الحديث.
وأما لعق الصحفة، أي لعق ما عليها من الطعام بالأصابع، فإنهم يستهجنونه غاية الاستهجان، وينسبون فاعله إلى البخل أو الشراهة في الطعام، ولا عجب في ذلك من الذين لم يسمعوا بهذا الحديث فهم جاهلون، وإنما العجب من الذين يسايرونهم ويداهنونهم، وهم به عالمون.
ثم تجدهم جميعاً قد أجمعوا على الشكوى من ارتفاع البركة من رواتبهم وأرزاقهم، مهما كان موسعاً فيها عليهم، ولا يدرون أن السبب في ذلك إنما هو إعراضهم عن إتباع سنة نبيهم، وتقليدهم لأعداء دينهم، في أساليب حياتهم ومعاشهم.
فالسنة السنة أيها المسلمون (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون)).
وجوب رفع الإزار على ما فوق الكعبين
1568 - (إن كنت عبد الله فارفع إزارك).
أخرجه أحمد (2/ 141): ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي: ثنا أيوب عن زيد ابن أسلم عن ابن عمر قال:
((دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي إزار يَتَقَعْقَعُ، فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله ابن عمر، قال: إن كنت عبد الله فارفع إزارك، فرفعت إزاري إلى نصف الساقين، فلم تزل إزرته حتى مات)).
ثم أخرجه (2/ 147): ثنا عبد الرازق:أنا معمر عن زيد بن أسلم به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وقال الهيثمي (5/ 123):
((رواه أحمد والطبراني في ((الأوسط)) بإسنادين، وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح)).
كذا قال، وحقه أن يقول: ورجال إسناديه رجال الصحيح، فإن الطفاوي في الإسناد الأول من رجال البخاري! وسائره وكذا جميع رجال الإسناد الثاني رجال الشيخين.
قلت: وفي الحديث دلالة ظاهرة على أنه يجب على المسلم أن لا يطيل إزاره إلى ما دون الكعبين، بل يرفعه إلى ما فوقهما، ولو كان لا يقصد الخيلاء، ففيه رد واضح على بعض المشايخ الذين يطيلون ذيول جُبَبهم حتى تكاد أن تمس الأرض، ويزعمون أنهم لا يفعلون ذلك خُيلاء! فَهَلا تركوه اتباعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر، أم هم أصفى قلباً من ابن عمر؟!
أدب توديع الجيش
1605 - (كان إذا ودع الجيش قال: أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/254)
أخرجه المحاملي في ((الدعاء)) (ق30/ 2): حدثنا العباس بن محمد: حدثنا يحيى بن إسحاق: نا حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي مرفوعاً به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات من رجال مسلم غير العباس بن محمد وأبي جعفر الخطمي-واسمه عمير بن يزيد- وهما ثقتان مترجمان في ((التهذيب)).
وعبد الله بن يزيد الخطمي صحابي صغير، له في ((مسند أحمد)) (4/ 307) حديثان.
وقد تقدم هذا الحديث برقم (15) من مصدرين آخرين أبي داود وابن السني، فقدر أن أعيده هنا بهذا المصدر الجديد لعزته وندرته، كما تقدم له هناك بعض الشواهد (14و16).
هذا، وإن مما يؤسف له حقاً أن ترى هذا الأدب النبوي الكريم، قد صار مما لا أثر له ولا عين عند قواد جيوش زماننا، فإنهم يودعون الجيوش على أنغام الآلات الموسيقية، التي يرى بعض الدعاة الإسلاميين اليوم أنه لا شيء فيها، تقليداً منهم لظاهرية ابن حزم التي قد يسخرون منها عندما تخالف آراءهم- ولا أقول: أهواءهم، ولا يتبعون أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم الموافقة للأحاديث الصحيحة الصريحة في تحريم المعازف، تيسيراً على الناس بزعمهم! فإلى الله المشتكى من غربة الإسلام، وقلة من يعمل بأحكامه في هذا الزمان، ويشكك فيها بالخلاف الواقع في الكثير منها، ليأخذ منها ما يشتهي، دون أن يحكم فيه قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، فكأن هذه الأية منسوخة عندهم. والله المستعان.
النهي عن لباس الكفار
1704 - (إن هذه من ثيابِ الكفارِ فلا تلبسها).
رواه مسلم (6/ 144) وأحمد (2/ 162و207و211) وابن سعد (4/ 265) من طرق عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث أن ابن معدان أخبره أن جبير بن نفير أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبيه معصفرين فقال: فذكره.
ومن أسانيد أحمد: ثنا يحيى عن هشام الدستوائي به.
ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم (4/ 190) إلا أنه لم يذكر جبير بن نفير في إسناده، وقال:
((صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه))! ووافقه الذهبي، وقد وهما في استدراكه على مسلم.
وتابعه عند-أعني مسلماً-على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به.
وأخرجه من طريق طاووس عن ابن عمرو قال:
((رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: أأمك أمرتك بهذا؟! قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما)).
وأخرجه الحاكم أيضاً من طريق أخرى عن ابن عمرو ونحوه، وزاد في آخره: ((ففعلت)). وقال:
((صحيح الإسناد)).
قلت: وإنما هو حسن فقط.
وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يلبس لباس الكفار وأن يتزيا بزيهم، والأحاديث في ذلك كثيرة، كنت قد جمعت منها قسماً طيباً مما ورد في مختلف ابواب الشريعة، وأودعتها في كتابي ((حجاب المرأة المسلمة))، فراجعها فإنها مهمة، خاصة وأنه قد شاع في كثير من البلاد الإسلامية التشبه بالكفار في البستهم وعاداتهم، حتى فرض شيء من ذلك على الجنود في كل أوجل البلاد الإسلامية، فألبسوهم القبعة، حتى لم يعد أكثر الناس يشعر بأن في ذلك أدنى مخالفة للشريعة الإسلامية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
من أدب الإسقاء البدء بالأيمن
1771 - (الأيمنُ فالأيمن. وفي طريق: الأيمنون، الأيمنون، ألا فيمنوا).
ورد من حديث أنس، وسهل بن سعد.
1 - أما حديث أنس، فيرويه البخاري (2/ 75و130و4/ 35) ومسلم (6/ 112 - 113) وأبوعوانة في ((صحيحه)) (8/ 148 - 149) وكذا مالك (2/ 926/17) وعنه أبوداود (3726) وكذا الترمذي (1/ 345) وصححه الدارمي (2/ 118) وابن ماجه (3425) والطيالسي (2094) وأحمد (3/ 110و113و197و231و239) وابن سعد (7/ 20) والدولابي (2/ 19) من طرق عنه:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن شماله أبو بكر، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال:)) فذكره، واللفظ للبخاري من طريق مالك عن ابن شهاب عنه.
وفي رواية للشيخين وأحمد من طريق أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن قال: سمعت أنساً يقول:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/255)
((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا شاة لنا، ثم شبته من ماء بئرنا هذه، فأعطيته، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه، وأعرابي عن يمينه، فلما فرغ قال عمر: هذا أبو بكر، فأعطى الأعرابي فضله، ثم قال:)) فذكره باللفظ الآخر، والسياق للبخاري: قال أنس: فهي سنة، فهي سنة، فهي سنة.
2 - وأما حديث سهل بن سعد الساعدي نحوه دون قوله: ((الأيمن ... )).
أخرجه مالك (رقم18) والبخاري (2/ 75و100و138و4/ 36) ومسلم (6/ 113) وأحمد (5/ 233و338) والطبراني (5780و 5890و5948و5989و6007) من طريق أبي حازم عنه وفي رواية للبخاري (4/ 39) والطبراني (5792) من هذا الوجه عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
((اسقنا يا سهل!)).
وفي الحديث أن بدء الساقي بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لأنه صلى الله عليه وسلم كان طلب السقيا، فلا يصح الاستدلال به على أن السنة البدء بكبير القوم مطلقاً كما هو الشائع اليوم، كيف وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل أعطى الأعرابي الذي كان عن يمينه دون أبي بكر الذي كان عن يساره، ثم بين ذلك بقوله: ((الأيمن فالأيمن)).
ولعلي شرحت هذا في مكان آخر من هذا الكتاب أو غيره.
من عادات الجاهلية
1799 - (ثلاث لن تزال في أمتي: التفاخر في الأحساب، والنياحة، والأنواء).
أخرجه أبو يعلى (3/ 975) والضياء (156/ 2) عن زكريا بن يحيى بن عمارة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذكره).
قلت: وهذا إسناد حسن، ورجاله ثقات رجال البخاري، وفي زكريا كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن إن شاء الله، وقال الحافظ:
((صدوق يخطئ)).
وللحديث شاهد من حديث أبي مالك الأشعري وأبي هريرة، وقد مضى تخريجهما (733و734) بلفظ: ((أربع في أمتي .... )).
وقد جاء عن أبي هريرة بلفظ: ((ثلاث .... ))، وهو الآتي بعد حديث.
(الأنواء) ك جمع نوء، وهو النجم إذا سقط في المغرب مع الفجر، ومع طلوع آخر يقابله في المشرق. والمراد الاستسقاء بها كما يأتي في الحديث المشار إليه، أي طلب السقيا. قال في ((النهاية)):
((إنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء. لأن العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل الله تعالى، وأراد بقوله: ((مطرنا بنوء كذا)): في وقت كذا، وهو هذا النوء الفلاني، فإن ذلك جائز، أي أن الله قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات)).
تحريم كل مسكر
1814 - (حرم الله الخمر، وكل مسكر حرام).
رواه النسائي (2/ 333) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13225) وابن عساكر (17/ 56/2) عن شبيب بن عبد الملك قال: حدثني مقاتل بن حيان عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، غير شبيب بن عبد الملك وهو ثقة. وقد توبع من جمع عن نافع به نحوه عند مسلم (6/ 100) وغيره، وهو مخرج في ((الإرواء)) (2431) وغيره.
والحديث من الأدلة الكثيرة لقاطعة على تحريم كل مسكر، سواء كان متخذاً من العنب أو التمر أو الذرة أو غيرها، وسواء في ذلك قليله أو كثيره، وأن التفريق بين خمر وخمر، والقليل منه والكثير باطل، خلافاً لما ذهب إليه بعض غليه بعض من تقدم. واغتر به بعض المعاصرين في مجلة ((العربي)) الكويتية منذ سنين ثم رد عليه بعض مشايخ الشام، فما أحسن الرد، منعه منه تعصبه للمذهب، عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه. والعصمة لله وحده.
كتاب من فضائل القرآن والأدعية والأذكار والرقى
تحريف الصوفية الراقصة
1317 - (سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله ومن (المفردون) قال: الذين يهترون في ذكر الله عز وجل)
أخرجه أحمد (2/ 323) والحاكم (1/ 495 – 496) ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) (1/ 314 – هندية) عن أبي عامر العقدي: ثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)). ووافقه الذهبي.
وأقول: إنما هو على شرط مسلم وحده، فإن ابن يعقوب هذا إنما أخرج له البخاري في ((جزء القراءة) ولم يحتج به في ((صحيحه)) وهو ثقة. وسائر رواته رجال الشيخين.
وأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو القيسي البصري.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/256)
وعلي بن المبارك، قد تكلم فيه بعضهم فيما رواه خاصة عن يحيى بن أبي كثير، وذلك لأنه كان له عنه كتابان، أحدهما سماع منه، والآخر مرسل عنه. ولكن المحققين من الحفاظ قد وضعوا قاعدة في تمييز أحد الكتابين عن الآخر، فقال أبوداود لعباس العنبري:
((كيف يعرف كتاب الإرسال؟ قال: الذي عند وكيع عنه عن عكرمة من كتاب الإرسال، وكان الناس يكتبون كتاب السماع)).
وقال ابن عمار عن يحيى بن سعيد:
((أما ما روينا نحن عنه فمما سمع، وأما ما روى الكوفيون عنه فمن الكتاب الذي لم يسمعه)).
وهذا هو الذي اعتمده الحافظ، فقال في ((التقريب)):
((كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء)).
على أن ابن عدي قد أطلق الثقة في روايته عن يحيى فقال في ((الكامل)) (ق192/ 1) بعد أن ساق له بعض الأحاديث:
((ولعلي بن المبارك غير هذا، وهو ثبت عن يحيى بن أبي كثير، ومقدم في يحيى، وهو عندي لا بأس به)).
إذا عرفت هذا، فقد خالفه عمر بن راشد إسناداً ومتناً، فقال: عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة به إلا أنه قال:
((المستهتر في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً)).
أخرجه البيهقي والترمذي (2/ 279) وقال:
((حديث حسن غريب)).
وأقول: بل هو منكر ضعيف، فان عمر بن راشد وهو أبو حفص اليمامي مع أنه ضعيف اتفاقاً، فقد خالف علي بن المبارك سنداً ومتناً كما ذكرنا.
أما السند، فذكر أبا سلمة مكان عبد الرحمن بن يعقوب.
وأما المتن، فانه أسقط منه تفسير (المفردون) وزاد قوله:
((يضع الذكر ... )).
فلا جرم أن قال أحمد وغيره:
((حدث عن يحيى وغيره بأحاديث مناكير)).
ولذلك قال البيهقي عقبه:
((والإسناد الأول أصح)).
وللحديث طريق أخرى، ويرويه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: (جمدان)، فقال:
((سيروا هذا حمدان، سبق المفردون)). قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً والذكرات)).
رواه مسلم (8/ 63) والبيهقي (1/ 313 – 314).
غريب الحديث:
1 - (المفردون): أي المنفردون. قال ابن الأثير:
((يقال: فرد برأيه، وأفرد، وفرد، استفرد، بمعنى انفرد به)).
قال النووي رحمه الله:
((وقد فسرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ (الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، وتقديره: و الذاكراته، فحذفت الهاء كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤوس الآي؛ ولأنه مفعول يجوز حذفه. وهذا التفسير هو مراد الحديث)).
2 - (يهترون): أي يولعون. قال ابن الأثير:
((يقال: (اهتر فلان بكذا واستهتر فهو مهتر به ومستهتر) أي مولع به لا يتحدث بغيره، ولا يفعل غيره)).
(تنبيه): كان من دواعي تخريج هذا الحديث أنه وقعت هذه اللفظة في (الشعب) هكذا (يهتزون) بالزاي، بحيث تقرأ (يهتزون)، فبادرت إلى تخريجه وضبط هذه اللفظة منه، خشية أن يبادر بعض الصوفية الراقصة، إلى الإستدلال به على جواز ما يفعلونه في ذكرهم من الرقص والاهتزاز يميناً ويساراً، جاهلين أو متجاهلين أنه لفظ محرف. وقد يساعدهم على ذلك ما جاء في ((شرح مسلم)) للنووي: ((وجاء في رواية: ((هم الذين اهتزوا في ذكر الله)). أي لهجوا به)) وكذلك .. جاء في حاشية ((مسلم- استانبول)) نقلاً عن النووي:
على أنه لو صح لكان معناه: يفرحون ويرتاحون بذكر لله تبارك وتعالى كما يؤخذ من مادة (هزز) من ((النهاية)) فهو حينئذ على قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا بها يا بلال)) أي بالصلاة. وهو قريب من النعنى الذي قاله النووي. والله أعلم.
وبهذه المناسبة لا بد من التذكير نصحاً للأمة، بأن ما يذكره بعض المتصوفة، عن علي رضي الله عنه أنه قال وهو يصف صحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
((كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح)).
فاعلم أن هذا لا يصح عنه رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 76) من طريق محمد بن يزيد أبي هشام: ثنا المحاربي عن مالك بن مغول عن رجل من (جعفي) عن السدي عن أبي أراكة عن علي.
قلت: وهذا إسناد ضعيف مظلم.
1 - أبو أراكة، لم أعرفه، ولا وجدت أحداً ذكره، وإنما ذكر الدولابي في ((الكنى)) (أبو أراك) وهو من هذه الطبقة، وساق له أثراً عن عبد الله بن عمرو، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً كعادته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/257)
2 - الرجل الجعفي لم يسم كما ترى فهو مجهول.
3 - محمد بن يزيد قال البخاري: ((رأيتهم مجمعين على ضعفه)).
الحض على الإكثار من الاستغفار
1963 - (لولا أنكم تُذنبون لَخَلَقَ الله خلقاً يُذنبون فيغفر لهم).
أخرجه مسلم (8/ 94) والترمذي (2/ 270) وأحمد (5/ 414) من طريق محمد بن قيس- قاص بن عبد العزيز- عن أبي صرمة عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. وقال الترمذي:
((حديث حسن غريب)).
قلت: وإنما لم يصححه الترمذي- والله أعلم- مع ثقة رجاله لأن فيه انقطاعاً بين أبي صرمة وهو صحابي اسمه مالك بن قيس- وبين محمد بن قيس ولم يسمع منه. قال الحافظ في ترجمته من ((القريب)):
((ثقة من السادسة، وحديثه عن الصحابة مرسل)).
لكن قد تابعه عند مسلم محمد بن كعب القرظي، وقد روي عن جمع من الصحابة وقد سبق بلفظ:
((لو أنكم لم تكن لكم ذنوب)) (رقم968). وذكرنا له هناك بعض الشواهد (969 - 970)، وأشرت إلى هذا الحديث.
وتقدم له شاهدان من حديث أبي هريرة (1950). وحديث أنيس بن مالك (1951). وفي كل منهما زيادة هامة بلفظ:
((فيستغفرون الله، فيغفر لهم)).
وذلك لأنه ليس المقصود من هذه الأحاديث- بداهة- الحض على الإكثار من الذنوب والمعاصي، ولا الإخبار فقط بأن الله غفور رحيم، وإنما الحض على الإكثار من الاستغفار، ليغفر الله له ذنوبه، فهذا هو المقصود بالذات من هذه الأحاديث، وإن اختصر ذلك منه بعض الرواة. والله أعلم.
كتاب الجنة والنار
خلود الكفار في النار وعدم فنائها بمن فيها
1551 - (أما أهل النار الذين هم أهلها (وفي رواية: الذين لا يريد الله عز وجل إخراجهم) فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (يريد الله عز وجل إخراجهم) فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل).
أخرجه مسلم (1/ 118) وأبوعوانة (1/ 186) والدارمي (2/ 331 - 332) وابن ماجه (2/ 582 - 583) وأحمد (3/ 11و78 - 79) والطبري في ((التفسير)) (1/ 552/797) من طريق سعيد بن أبي سمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً به.
وتابعه أبوسعيد الجريري عن أبي نضرة به. والرواية الثانية مع الزيادة له.
أخرجه أحمد (3/ 20) وعبد بن حميد في ((منتخب من المسند)) (ق95/ 2).
وتابعه أيضاً سليمان التيمي عنه.
أخرجه أبو عوانة وعبد بن حميد.
وتابعه عثمان بن غياث وعوف عن أبي نضرة به نحوه. وزاد عثمان:
((فيحرقون فيكونون فحماً)).
أخرجه أحمد (3/ 25و90) بإسناد صحيح.
وله عنده (3/ 90) طريق أخرى عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
((سيخرج ناس من النار قد احترقوا وكانوا مثل الحمم، ثم لا يزال أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتون نبات القثاء في السيل)).
وخالفه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أن أبا سعيد أخبره به.
وابن لهيعة سيء الحفظ، والأول أصح، وهو على شرط مسلم.
(ضبائر): جمع (ضبارة): جماعة الناس.
وفي الحديث دليل صريح على خلود الكفار في النار، وعدم فنائها بمن فيها، خلافاً لقول بعضهم، لأنه لو فنيت بمن فيها لماتوا واستراحوا، وهذا خلاف الحديث، ولم ينتبه لهذا ولا غيره من نصوص الكتاب والسنة المؤيدة له؛ من ذهب من أفاضل علمائنا إلى القول بفنائها، وقد رده الإمام الصنعاني رداً علمياً متيناً في كتابه ((رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار))، وقد حققته، وخرجت أحاديثه، وقدمت له بمقدمة ضافية نافعة، وهو تحت الطبع، وسيكون في أيدي القراء قريباً إن شاء الله تعالى.
كتاب التوبة والمواعظ والرقانق
تفسير أحتجاج موسى على أدم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/258)
1702 - (إن موسى قال: يارب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم، فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال: له آدم نعم، فقال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك، قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال: آدم ومن أنت؟ قال أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فما تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قبلي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).
أخرجه أبو داود (4702) وعنه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص193) وابن خزيمة في ((التوحيد)) (ص94) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير هشام بن سعد وهو صدوق له أوهام، وقد حسنه ابن تيمية في أول رسالته في ((القدر)).
والحديث في ((الصحيحين)) وغيرهما من حديث أبي هريرة مختصراً.
قوله: (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة.
واعلم أن العلماء قد اختلفوا في توجيه ذلك، وأحسن ما وفقت عليه ما أفادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ إنما هو موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لذريته من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لا لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب، وموسى عليه السلام يعلم أن بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، ولهذا قال: ((فما حملك على أن أخْرجتنا ونفسك من الجنة؟))، لم يقل: لماذا خالفت الأمر؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر وشهود الربوبية ... فراجع كلامه في ذلك فإنه مهم جداً في الرسالة المذكورة، وفي ((كتاب القدر)) من ((الفتاوى)) المجلد الثامن، وكلام غيره في ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 123 - 124).
تفسير (وكل إنسان ألزمناه طائره).
1907 - (طائر كل إنسان في عنقه).
أخرجه أحمد (3/ 342و349و360) من طرقٍ عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. قال ابن لهيعة: يعني الطيرة.
قلت: وهذا إسناد ضعيف لسوء حفظ ابن لهيعة، وعنعنة أبي الزبير.
لكنه قد توبع، فأخرجه ابن جرير في ((التفسير)) (15/ 39) من طريق قتادة عن جابر بن عبد الله به مرفوعاً بلفظ:
((لا عدوى، ولا طيرة، (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه))).
قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين، لكن قتادة لم يسمع من جابر، وروايته عنه صحيفة، قال أحمد: ((قريء عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها)).
ولعل أحد الإسنادين يتقوى بالآخر، والحديث صحيح على كل حال، فإنه مقتبس من قوله تعالى في سورة (الإسراء): (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونُخْرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا).
قال ابن جرير:
((يقول تعالى ذكره: وكل إنسان ألزمناه ما قُضِيِ له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة يعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله: (ألزمناه طائره) مَثَلٌ لِما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنات عدن)).
حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض
1967 - (يقتص الخلق بعضهم من بعض، حتى الجماء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة).
أخرجه أحمد (2/ 363): حدثنا عبد الصمد: حدثنا حماد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
وواصل هو مولى أبي عيينة.
وحماد هو ابن سلمة البصري.
وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث البصري.
والحديث قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 352) تبعاً للمنذري في ((الترغيب)) (4/ 201):
((رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح)).
قلت: وأصله في ((الصحيح)) من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ:
((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/259)
أخرجه مسلم (7/ 18 - 19). والترمذي (4/ 292بشرح التحفة) وأحمد (2/ 235و301و411) من طرق عنه به. وقال الترمذي:
((حديث حسن صحيح)).
وفي لفظ لأحمد:
((حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة؛ تنطحها)).
وإسناده صحيح أيضاً على شرط مسلم.
وله طريق أخرى، فقال ابن لهيعة: عن دراج أبي السمح عن أبي حجيرة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
((ألا والذي نفسي بيده لَيَخْتَصِمَن كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا)).
أخرجه أحمد (2/ 290) بإسناد قال المنذري: ((حسن)).
قلت: ولعله يعني لغيره، فإن ابن لهيعة سيء الحفظ، وكذلك دراج أبو السمح.
ورواه الطبراني في ((الأوسط)) بنحوه، قال الهيثمي:
((وفيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف)).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في ((البعث)) عن أبي هريرة أيضاً قال:
((يحشر الخلائق كلهم يوم القيامة، والبهائم والدواب والطير، وكل شيء، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فلذلك حين يقول الكافر: (يا ليتني كنت تراباً))):
أورده السيوطي في ((الدر المنثور)) (6/ 310) ولم يتكلم على إسناده كما هي عادته، وهو عند ابن جرير (30/ 17) قوي كما سبق قريباً، وموضع الشاهد منه صحيح قطعاً عنه مرفوعاً للطرق السابقة، ولشواهده الآتية:
الأول: عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً مثل حديث أبي هريرة من الطريق الأخرى.
أخرجه أحمد أيضاً (3/ 29) عن ابن لهيعة أيضاً: ثنا دراج عن أبي الهيثم عنه.
وقد عرفت حال ابن لهيعة وشيخه آنفاً.
الثاني: عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً، وشاتان تقترنان، فنطحت إحداهما الأخرى فأجهضتها، قال: فضحك رسول الله! قال:
((عجبت لها، والذي نفسي بيده، ليقادن لها يوم القيامة)).
أخرجه أحمد (5/ 173) عن ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن الهزيل بن شرحبيل عنه. وهذا إسناد جيد في الشواهد والمتابعات، رجاله ثقات رجال ((الصحيح)) غير ليث، وهو ابن أبي سليم، ضعيف لاختلاطه، ولكنه قد توبع، فرواه منذر الثوري عن أشياخ له (وفي رواية لهم) عن أبي ذر مختصراً وفيه:
((يا أباذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما)).
أخرجه أحمد أيضاً (5/ 162).
قلت: وهذا إسناد صحيح عندي، فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير الأشياخ الذين لم يسموا، وهم جمع من التابعين، يغتفر الجهل بحالهم لاجتماعهم على رواية هذا الحديث، ولا يخدج في ذلك قوله في الرواية الأولى: ((أشياخ له)) فإنه لا منافاة بين الروايتين، لأن الأقل يدخل في الأكثر، وزيادة الثقة مقبولة، وقد خفيت هذه الرواية الأخرى على الهيثمي، فقال عقب الرواية المطولة والمختصرة:
((رواه كله أحمد والبزار بالرواية الأولى، وكذلك الطبراني في ((المعجم الأوسط)) وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس (!) وبقية رجال أحمد رجال الصحيح غير شيخه ابن أبي عائشة وهو ثقة، ورجال الرواية الثانية رجال الصحيح، وفيها راوٍ لم يسم))!
الثالث: عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن الجماء لَتَقْتَصُ من القرناء يوم القيامة)).
أخرجه أحمد (1/ 72) عن حجاج بن نُصَيْر: ثنا شعبة عن العوام بن مراجم- من بني قيس بن ثعلبة- عن أبي عثمان النهدي عنه.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات، غير حجاج بن نصير وهو ضعيف كما في ((التقريب)).
الرابع: عن عبد الله بن أبي أوفى مرفوعاً بلفظ:
((إنه ليبلغ من عدل الله يوم القيامة حتى يقتص للجماء من ذات القرن)).
أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (9582) عن علي بن سنان: نا بشر بن أبي أوفى، وقال:
((لم يروه عن عطاء إلا عبد الله بن عمران، ولا عنه إلا بشر بن محمد، تفرد به على بن سنان)).
قال الهيثمي:
((رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه من لم أعرفهم، وعطاء بن السائب اختلط)).
الخامس: عن ثوبان مرفوعاً نحو الحديث الذي قبله.
أخرجه الطبراني في ((الكبير)) (1421)، وفيه زيد بن ربيعة، وقد ضعفه جماعة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، بقية رجاله ثقات.
(فائدة) قال النووي في ((شرح مسلم)) تحت حديث الترجمة:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/260)
((هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، إعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة. وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة، قال الله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت)، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع، وجب حمله على ظاهره. قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة، و (الجلحاء) بالمد هي الجماء التي لا قرن لها. والله أعلم)).
وذكر نحوه ابن الملك في ((مبارق الأزهار)) (2/ 293) مختصراً. ونقل عنه العلامة الشيخ علي القاريء في ((المرقاة)) (4/ 761) أنه قال:
((فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل، والغرض منه إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم)). قال القاريء:
((وهو وجه حسن، وتوجيه مستحسن، إلا أن التعبير عن الحكمة بـ (الغرض) وقع في غير موضعه. وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوى والضعيف؟)).
قلت: ومن المؤسف أن ترد كل هذه الأحاديث من بعض علماء الكلام بمجرد الرأي، وأعجب منه أن يجنح إليه الألوسي! فقال بعد أن ساق الحديث عن أبي هريرة من رواية مسلم ومن رواية أحمد بلفظ الترجمة عند تفسيره آية (وإذا الوحوش حشرت) في تفسيره ((روح المعاني)) (9/ 306):
((ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين؛ لعدم كونه مكلفاً ولا أهلاً لكرامة بوجه، وليس في هذا الباب نص كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش، وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحاً، لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام. وإلى هذا القول أميل، ولا أجزم بخطاء القائلين بالأول، لأن لهم ما يصلح مستنداً في الجملة. والله تعالى أعلم)).
قلت: كذا قال- عفا الله عنا وعنه-وهو منه غريب جداً لأنه على خلاف ما نعرفه عنه في كتابه المذكور، من سلوك الجادة في تفسير آيات الكتاب على نهج السلف، دون تأويل أو تعطيل، فما الذي حمله هنا على أن يفسر الحديث على خلاف ما يدل عليه ظاهره، وأن يحمله على أنه كناية عن العدل التام، أليس هذا تكذيباً للحديث المصرح بأنه يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، فيقول هو تبعاً لعلماء الكلام: إنه كناية! ... أي لا يقاد للشاة الجماء. وهذا كله يقال لو وقفنا بالنظر عند رواية مسلم المذكور، أما إذا انتقلنا به إلى الروايات الأخرى كحديث الترجمة، وحديث أبي ذر وغيره قاطعة في أن القصاص المذكور هو حقيقة وليس كناية، ورحم الله الإمام النووي، فقد أشار بقول السابق: ((وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره)).
قلت: أشار بهذا إلى رد التأويل المذكور، وبمثل هذا التأويل أنكر الفلاسفة، وكثير من علماء الكلام كالمعتزلة وغيرهم رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وعلوه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، ومجيئه تعالى يوم القيامة. وغير ذلك من آيات الصفات وأحاديثها.
وبالجملة، فالقول بحشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض هو الصواب الذي لا يجوز غيره، فلا جرم أن ذهب إليه الجمهور كما ذكر الألوسي نفسه في مكان آخر من ((تفسيره)) (9/ 281)، وبه جزم الشوكاني في تفسير آية ((التكوير)) من تفسيره ((فتح القدير))، فقال ((/377):
((الوحوش ما توحش من دواب البر، ومعنى (حشرت) بعثت، حتى يقتص بعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء)).
وقد اغتر بكلمة الألوسي المتقدمة، النافية لحشر الوحوش؛ محرر ((باب الفتاوى)) في مجلة الوعي الإسلامي السنة الثانية، العدد89ص107، فنقلها عنه، مرتضياً لها معتمداً عليها، وذلك من شؤم التقليد، وقلة التحقيق. والله المستعان، وهو ولي التوفيق.
تم وبحمد الله الجزء الثاني من سلسلة عون الودود لتيسير ما في السلسلة الصحيحة من الفوئد والردود وهي تحتوي على جميع ما ذكره الشيخ الالباني رحمه الله من فوائد في المجلد الثالث من السلسلة الصحيحة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/261)
ـ[ابو سند محمد]ــــــــ[24 - 09 - 06, 03:42 م]ـ
عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد
فهذه الفوائد والردود التي ذكرها الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة جمعتها في هذا الكتاب حتى يسهل الأستفادة منها للعامة والخاصة وأسميته (عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود) , فأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعنني على هذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يتغمد برحمته الشيخ الألباني , ويسكنه فسيح جناته آمين.
ملاحظات
1 - ترقيم الأحاديث هي نفس الترقيم الموجودة في السلسلة لكي يسهل الرجوع إليها.
2 - تبويب المواضيع هي نفس ما بوب لها الشيخ إلا ما لم يبوب لها فقد وضعت لها أبواباً من عندي.
3 - كتابة جميع الفوائد والردود كاملة بدون أي أختصار إلا ماكان يتعلق بالموضيع الحديثة فلم اكتبها.
هذه الفوائد المذكورة في المجلد الخامس والسادس من سلسلة الأحاديث الصحيحة , ونسأل الله العون والتوفيق في اتمام بقية الأحاديث.
كتاب العقيدة
عاقبة الابتداع والغلو في الدين
2005 - (إن قوما يقرءون القرآن , لا يجاوز تراقيهم , يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية).
أخرجه الدارمي (1/ 68 - 69) , و بحشل في "تاريخ واسط" (ص198 - تحقيق عواد) من طريقين عن عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني قال: حدثني أبي قال: حدثني أبي قال: " كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة , فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد , فجاءنا أبو موسى الأشعري , فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا , فجلس معنا حتى خرج , فلما خرج قمنا إليه جميعا , فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إنى رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته , و لم أر و الحمد لله إلا خيرا , قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه , قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا , ينتظرون الصلاة , في كل حلقة رجل , و في أيديهم حصى , فيقول: كبروا مائة , فيكبرون مائة , فيقول هللوا مائة , فيهللون مائة , و يقول سبحوا مائة , فيسبحون مائة , قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك , قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم , و ضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى و مضينا معه , حتى أتى حلقة من تلك الحلق , فوقف عليهم , فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التكبير و التهليل و التسبيح , قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء , و يحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون , و هذه ثيابه لم تبل , و آنيته لم تكسر , والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد , أو مفتتحوا باب ضلالة؟! قالوا والله: يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير , قال: و كم من مريد للخير لن يصيبه , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (فذكر الحديث) , وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم! ثم تولى عنهم , فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج ".قلت: و السياق للدارمي و هو أتم , إلا أنه ليس عنده في متن الحديث: " يمرقون ... من الرمية ". و هذا إسناد صحيح , إلا أن قوله: " عمر بن يحيى " أظنه خطأ من النساخ , و الصواب: " عمرو بن يحيى " , و هو عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة ابن الحارث الهمداني. كذا ساقه ابن أبي حاتم في كتابه " الجرح و التعديل " (3/ 1/269) , و ذكر في الرواة عنه جمعا من الثقات منهم ابن عيينة , و روى عن ابن معين أنه قال فيه: "صالح". و هكذا ذكره على الصواب في الرواة عن أبيه , فقال (4/ 2/176): "يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني , و يقال: الكندي. روى عن أبيه روى عنه شعبة و الثوري و
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/262)
المسعودي و قيس بن الربيع و ابنه عمرو بن يحيى". و لم يذكر فيه جرحا و لا تعديلا , و يكفي في تعديله رواية شعبة عنه , فإنه كان ينتقي الرجال الذين كانوا يروي عنهم , كما هو مذكور في ترجمته , و لا يبعد أن يكون في " الثقات " لابن حبان , فقد أورده العجلي في "ثقاته" و قال: " كوفي ثقة ". و أما عمرو بن سلمة , فثقة مترجم في "التهذيب" بتوثيق ابن سعد , و ابن حبان (5/ 172) , و فاته أن العجلي قال في "ثقاته" (364/ 1263): "كوفي تابعي ثقة". و قد كنت ذكرت في "الرد على الشيخ الحبشي" (ص 45) أن تابعي هذه القصة هو عمارة بن أبي حسن المازني , و هو خطأ لا ضرورة لبيان سببه , فليصحح هناك. و للحديث طريق أخرى عن ابن مسعود في "المسند" (1/ 404) , و فيه الزيادة , و إسنادها جيد , و قد جاءت أيضا في حديث جمع من الصحابة خرجها مسلم في "صحيحه" (3/ 109 - 117).
و إنما عنيت بتخريجه من هذا الوجه لقصة ابن مسعود مع أصحاب الحلقات , فإن فيها عبرة لأصحاب الطرق و حلقات الذكر على خلاف السنة , فإن هؤلاء إذا أنكر عليهم منكر ما هم فيه اتهموه بإنكار الذكر من أصله! و هذا كفر لا يقع فيه مسلم في الدنيا , و إنما المنكر ما ألصق به من الهيئات و التجمعات التي لم تكون مشروعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , و إلا فما الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه على أصحاب تلك الحلقات؟ ليس هو إلا هذا التجمع في يوم معين , و الذكر بعدد لم يرد , و إنما يحصره الشيخ صاحب الحلقة , و يأمرهم به من عند نفسه , و كأنه مشرع عن الله تعالى! (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). زد على ذلك أن السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فعلا و قولا إنما هي التسبيح بالأنامل , كما هو مبين في "الرد على الحبشي" , و في غيره.
و من الفوائد التي تؤخذ من الحديث و القصة , أن العبرة ليست بكثرة العبادة و إنما بكونها على السنة , بعيدة عن البدعة , و قد أشار إلى هذا ابن مسعود رضي الله عنه بقوله أيضا: "اقتصاد في سنة , خير من اجتهاد في بدعة".و منها: أن البدعة الصغيرة بريد إلى البدعة الكبيرة , ألا ترى أن أصحاب تلك الحلقات صاروا بعد من الخوارج الذين قتلهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب؟ فهل من معتبر؟!
الحلف بغير الله شرك لفظي او قلبي
2042 - (كل يمين يحلف بها دون الله شرك).
أخرجه البغوي في "الجعديات" (2332) و الحاكم في "المستدرك" (1/ 18) عن شريك بن عبد الله عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
و قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" , و أقره الذهبي.
(فائدة): قال أبو جعفر الطحاوي: " لم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجا عن الإسلام , و لكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى لأن من حلف بغير الله تعالى , فقد جعل ما حلف به محلوفا به كما جعل الله تعالى محلوفا به , و بذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكا فيما يحلف به و ذلك أعظم , فجعله مشركا بذلك شركا غير الشرك الذي يكون به كافرا بالله تعالى خارجا عن الإسلام ".
يعني - و الله أعلم - أنه شرك لفظي , و ليس شركا اعتقاديا , و الأول تحريمه من باب سد الذرائع , و الآخر محرم لذاته. و هو كلام وجيه متين , و لكن ينبغي أن يستثني منه من يحلف بولي لأن الحالف يخشى إذا حنث في حلفه به أن يصاب بمصيبة , و لا يخشى مثل ذلك إذا حلف بالله كاذبا , فإن بعض الجهلة الذين لم يعرفوا حقيقة التوحيد بعد إذا أنكر حقا لرجل عليه و طلب أن يحلف بالله فعل , و هو يعلم أنه كاذب في يمينه , فإذا طلب منه أن يحلف بالولي الفلاني امتنع و اعترف بالذي عليه , و صدق الله العظيم: (و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون).
من الكبائر التعرب بعد الهجرة ونحوه التغرب
2244 - (اجتنبوا الكبائر السبع , فسكت الناس فلم يتكلم أحد , فقال: ألا تسألوني عنهن؟ الشرك بالله و قتل النفس و الفرار من الزحف و أكل مال اليتيم و أكل الربا و قذف المحصنة و التعرب بعد الهجرة).
(التعرب بعد الهجرة) , قال ابن الأثير في "النهاية": " هو أن يعود إلى البادية , و يقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا. و كان من رجع بعد الهجرة إلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/263)
موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد ". قلت: و نحوه: (التغرب): السفر إلى بلاد الغرب و الكفر , من البلاد الإسلامية إلا لضرورة و قد سمى بعضهم بـ (الهجرة)! و هو من القلب للحقائق الشرعية الذي ابتلينا به في هذا العصر , فإن (الهجرة) إنما تكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام. و الله هو المستعان.
وجوب الوفاء بالنذر المباح
2261 - (إن كنت نذرت فاضربي , و إلا فلا).
أخرجه الترمذي (3691) و ابن حبان (4371 - الإحسان) و البيهقي (10/ 77) و أحمد (5/ 353) من طريق الحسين بن واقد قال: حدثني عبد الله بن بريدة قال: سمعت بريدة يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه , فلما انصرف , جاءت جارية سوداء , فقالت: يا رسول الله! إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف و أتغنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. (فذكره) , فجعلت تضرب , فدخل أبو بكر و هي تضرب , ثم دخل علي و هي تضرب , ثم دخل عثمان و هي تضرب , ثم دخل عمر , فألقت الدف تحت استها , ثم قعدت عليه ,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر! إني كنت جالسا و هي تضرب , فدخل أبو بكر و هي تضرب , ثم دخل علي و هي تضرب , ثم دخل عثمان و هي تضرب , فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف". و قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
قلت: و إسناده جيد رجاله ثقات رجال مسلم و في الحسين كلام لا يضر قال الحافظ في "التقريب": "صدوق له أوهام". و لحديث الترجمة شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم , فقالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف , قال: "أوفي بنذرك".
(تنبيه): جاء عقب حديث بريدة في "موارد الظمآن" (493 - 494/ 2015) زيادة: "و قالت: أشرق البدر علينا , من ثنيات الوداع , وجب الشكر علينا , ما دعا لله داع , و ذكر محققه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله تعالى في الحاشية أن هذه الزيادة من الهامش , و بخط يخالف خط الأصل. و كم كنت أتمنى على الشيخ رحمه الله أن لا يطبعها في آخر الحديث , و أن يدعها حيث وجدها: "في الهامش" و أن يكتفي بالتنبيه عليها في التعليق , خشية أن يغتر بها بعض من لا علم عنده , فإنها زيادة باطلة , لم ترد في شيء من المصادر المتقدمة و منها "الإحسان" الذي هو "صحيح ابن حبان" مرتبا على الأبواب الفقهية , بل ليس لها أصل في شيء من الأحاديث الأخرى , على شهرتها عند كثير من العامة و أشباههم من الخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بذلك من النساء و الصبيان حين دخل المدينة في هجرته من مكة , و لا يصح ذلك كما كنت بينته في "الضعيفة" (2/ 63/598) , و نبهت عليه في الرد على المنتصر الكتاني (ص48) و استندت في ذلك على الحافظ العراقي , و العلامة ابن قيم الجوزية. و قد يظن بعضهم أن كل ما يروى في كتب التاريخ و السيرة , أن ذلك صار جزءا لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي , لا يجوز إنكار شيء منه! و هذا جهل فاضح , و تنكر بالغ للتاريخ الإسلامي الرائع , الذي يتميز عن تواريخ الأمم الأخرى بأنه هو وحده الذي يملك الوسيلة العلمية لتمييز ما صح منه مما لم يصح , و هي نفس الوسيلة التي يميز بها الحديث الصحيح من الضعيف , ألا و هو الإسناد الذي قال فيه بعض السلف: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. و لذلك لما فقدت الأمم الأخرى هذه الوسيلة العظمى امتلأ تاريخها بالسخافات و الخرافات , و لا نذهب بالقراء بعيدا , فهذه كتبهم التي يسمونها بالكتب المقدسة , اختلط فيها الحامل بالنابل , فلا يستطيعون تمييز الصحيح من الضعيف مما فيها من الشرائع المنزلة على أنبيائهم , و لا معرفة شيء من تاريخ حياتهم , أبد الدهر , فهم لا يزالون في ضلالهم يعمهون , و في دياجير الظلام يتيهون! فهل يريد منا أولئك الناس أن نستسلم لكل ما يقال: إنه من التاريخ الإسلامي. و لو أنكره العلماء , و لو لم يرد له ذكر إلا في كتب العجائز من الرجال و النساء ?! و أن نكفر بهذه المزية التي هي من أعلى و أغلى ما تميز به تاريخ الإسلام ?! و أنا أعتقد أن بعضهم لا تخفى عليه المزية و لا يمكنه أن يكون طالب علم بله عالما دونها , و لكنه يتجاهلها و يغض النظر عنها سترا لجهله بما لم يصح منه , فيتظاهر بالغيرة على التاريخ الإسلامي ,
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/264)
و يبالغ في الإنكار على من يعرف المسلمين ببعض ما لم يصح منه , بطرا للحق , و غمصا للناس. و الله المستعان.
(فائدة): من المعلوم أن (الدف) من المعازف المحرمة في الإسلام و المتفق على تحريمها عند الأئمة الأعلام , كالفقهاء الأربعة و غيرهم و جاء فيها أحاديث صحيحة خرجت بعضها في غير مكان , و تقدم شيء منها برقم (9و1806) , و لا يحل منها إلا الدف وحده في العرس و العيدين , فإذا كان كذلك , فكيف أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تفي بنذرها و لا نذر في معصية الله تعالى. و الجواب - و الله أعلم - لما كان نذرها مقرونا بفرحها بقدومه صلى الله عليه وسلم من الغزو سالما , ألحقه صلى الله عليه وسلم بالضرب على الدف في العرس و العيد و ما لا شك فيه , أن الفرح بسلامته صلى الله عليه وسلم أعظم - بما لا يقاس - من الفرح في العرس و العيد , و لذلك يبقى هذا الحكم خاصا به صلى الله عليه وسلم , لا يقاس به غيره , لأنه من باب قياس الحدادين على الملائكة , كما يقول بعضهم. و قد ذكر نحو هذا الجمع الإمام الخطابي في "معالم السنن" , و العلامة صديق حسن خان في "الروضة الندية" (2/ 177 - 178).
من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر
2354 - (من شهر سيفه ثم وضعه , فدمه هدر).
(فائدة): معنى الحديث أن "من شهر" - بالتخفيف و قد يشدد - أي: سل , "سيفه , ثم وضعه" أي: في الناس يضربهم به , "فدمه هدرا" أي: لا دية و لا قصاص بقتله. و قد ترجم له بذلك الإمام النسائي بقوله: "من شهر سيفه ثم وضعه في الناس".
قبول توبة الكافر
2545 - (إن الله تبارك و تعالى لا يقبل توبة عبد كفر بعد إسلامه)
أخرجه أحمد (4/ 446و5/ 2و3) من طريق أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح , رجاله كلهم ثقات , و اسم أبي قزعة سويد بن حجير. و في لفظ له:" لا يقبل الله عز وجل من أحد توبة أشرك بعد إسلامه". و تابعه عليه بهز بن حكيم عن أبيه به , إلا أنه قال: "عملا" مكان: "توبة". أخرجه أحمد (5/ 5).
قلت: و بهز ثقة حجة , لاسيما في روايته عن أبيه , و فيها ما يفسر رواية أبي قزعة , و يزيل الإشكال الوارد على ظاهرها , فهي في ذلك كقوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم) آل عمران 90 و لذلك أشكلت على كثير من المفسرين , لأنها بظاهرها مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة من قبول توبة الكافر , و من الأدلة على ذلك قوله تعالى قبل الآية المذكورة: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) إلى قوله: (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين. خالدين فيها ... ) إلى قوله: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم) آل عمران 86 - 89 فاضطربت أقوال المفسرين في التوفيق بين الآيتين , و إزالة الإشكال على أقوال كثيرة لا مجال لذكرها الآن , و إنما أذكر منها ما تأيد برواية بهز هذه , فإنها كما فسرت رواية أبي قزعة فهي أيضا تفسر الآية و تزيل الإشكال عنها. فكما أن معنى قوله في الحديث: " لا يقبل توبة عبد كفر بعد إسلامه " , أي توبته من ذنب في أثناء كفره , لأن التوبة من الذنب عمل , و الشرك يحبطه كما قال تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) الزمر65 فكذلك قوله تعالى في الآية: (لن تقبل توبتهم) , أي من ذنوبهم , و ليس من كفرهم. و بهذا فسرها بعض السلف , فجاء في " تفسير روح المعاني "للعلامة الآلوسي (1/ 624) ما نصه بعد أن ذكر بعض الأقوال المشار إليها: "و قيل: إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر , و إنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه , فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر , فردت عليهم لذلك , و يؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: هؤلاء اليهود و النصارى كفروا بعد إيمانهم , ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها , ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم , فلم تقبل توبتهم , ولو كانوا على الهدى قبلت , و لكنهم على ضلالة".
قلت: و هذا هو الذي اختاره إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى , فليراجع كلامه من أراد زيادة تبصر و بيان.
تفسير سبب نزول (و من لم يحكم بما أنزل الله) وأن الكفر العملي غير الاعتقادي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/265)
2552 - (إن الله عز وجل أنزل: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (أولئك هم الظالمون) و (أولئك هم الفاسقون). قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود , و كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا و اصطلحوا على أن كل قتيل قتله (العزيزة) من (الذليلة) فديته خمسون وسقا , و كل قتيل قتله (الذليلة) من (العزيزة) فديته مائة وسق , فكانوا على ذلك , حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة , فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم , و يؤمئذ لم يظهر و لم يوطئهما عليه و هو في الصلح , فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا , فأرسلت (العزيزة) إلى (الذليلة) أن ابعثوا إلينا بمائة وسق , فقالت (الذليلة): و هل كان هذا في حيين قط دينهما واحد , و نسبهما واحد , و بلدهما واحد , دية بعضهم نصف دية بعض؟! إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا , و فرقا منكم , فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك , فكادت الحرب تهيج بينهما , ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما , ثم ذكرت (العزيزة) فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم , و لقد صدقوا , ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم , فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه , إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله و ما أرادوا , فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا: آمنا) إلى قوله: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) , ثم قال: فيهما والله نزلت , و إياهما عنى الله عز وجل).
(فائدة هامة): إذا علمت أن الآيات الثلاث: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) , (فأولئك هم الظالمون) , (فأولئك هم الفاسقون) نزلت في اليهود و قولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم: " إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه , و إن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه " , و قد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه , و إن لم تؤتوه فاحذروا) , إذا عرفت هذا , فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين و قضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية , أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك , و إخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله و رسوله , و إن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله , لا يجوز ذلك , لأنهم و إن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور , فهم مخالفون لهم من جهة أخرى , ألا و هي إيمانهم و تصديقهم بما أنزل الله , بخلاف اليهود الكفار , فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: " ... و إن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه " , بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا , و سر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي و عملي. فالاعتقادي مقره القلب. و العملي محله الجوارح. فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع , و كان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به , فهو الكفر الاعتقادي , و هو الكفر الذي لا يغفره الله , و يخلد صاحبه في النار أبدا. و أما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه , فهو مؤمن بحكم ربه , و لكنه يخالفه بعمله , فكفره كفر عملي فقط , و ليس كفرا اعتقاديا , فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه , و إن شاء غفر له , و على هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين , و لا بأس من ذكر بعضها:
1 - اثنتان في الناس هما بهم كفر , الطعن في الأنساب و النياحة على الميت. رواه مسلم.
2 - الجدال في القرآن كفر.
3 - سباب المسلم فسوق , و قتاله كفر. رواه مسلم.
4 - كفر بالله تبرؤ من نسب و إن دق.
5 - التحدث بنعمة الله شكر , و تركها كفر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/266)
6 - لا ترجعوا بعدي كفارا , يضرب بعضكم رقاب بعض. متفق عليه. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها. فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي , فكفره كفر عملي , أي إنه يعمل عمل الكفار , إلا أن يستحلها , و لا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم , لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا , و الحكم بغير ما أنزل الله , لا يخرج عن هذه القاعدة أبدا , و قد جاء عن السلف ما يدعمها , و هو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر" , صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه , ثم تلقاه عنه بعض التابعين و غيرهم , و لابد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة , و نحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي , و إن كانوا يصلون و يصومون!
1 - روى ابن جرير الطبري (10/ 355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: هي به كفر , و ليس كفرا بالله و ملائكته و كتبه و رسله.
2 - و في رواية عنه في هذه الآية: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه , إنه ليس كفرا ينقل عن الملة , كفر دون كفر. أخرجه الحاكم (2/ 313) و قال: "صحيح الإسناد". و وافقه الذهبي , و حقهما أن يقولا: على شرط الشيخين. فإن إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في " تفسيره " (6/ 163) عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين" , فالظاهر أن في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطا , و عزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار.
3 - و في أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر , و من أقر به و لم يحكم فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (12063). قلت: و ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس , لكنه جيد في الشواهد.
4 - ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (و ذكر الآيات الثلاث): كفر دون كفر , و فسق دون فسق , و ظلم دون ظلم. و إسناده صحيح.
5 - ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (و ذكر الآية) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. و إسناده صحيح , و سعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي , وثقه ابن معين والعجلي و ابن حبان و غيرهم , و روى عنه جمع.
6 - و روى (12025و12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس (و في الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) أحق هو؟ قال: نعم.
قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ? قال: هو دينهم الذي يدينون به , و به يقولون و إليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا. فقالوا: لا والله , و لكنك تفرق. قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى , و إنكم أنتم ترون هذا و لا تحرجون , و لكنها أنزلت في اليهود و النصارى و أهل الشرك. أو نحوا من هذا , و إسناده صحيح.
و قد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/ 346 - 357) بأسانيده إلى قائليها , ثم ختم ذلك بقوله (10/ 358): "و أولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب , لأن ما قبلها و ما بعدها من الآيات ففيهم نزلت , و هم المعنيون بها , و هذه الآيات سياق الخبر عنهم , فكونها خبرا عنهم أولى. فإن قال قائل:فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله , فكيف جعلته خاصا ? قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين , فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم -على سبيل ما تركوه- كافرون. و كذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر , كما قال ابن عباس , لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه , نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي ". و جملة القول أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله , فمن شاركهم في الجحد , فهو كافر كفرا اعتقاديا ,
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/267)
و من لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم , فهو بذلك مجرم آثم , و لكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه. وقد شرح هذه و زاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم ابن سلام في "كتاب الإيمان" "باب الخروج من الإيمان بالمعاصي" (ص84 - 87 - بتحقيقي) , فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق. و بعد كتابة ما سبق , رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في "مجموع الفتاوي" (3/ 268): "أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله". ثم ذكر (7/ 254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها ? فقال: كفر لا ينقل عن الإيمان , مثل الإيمان بعضه دون بعض , فكذلك الكفر , حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. و قال (7/ 312): "و إذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان و نفاق , فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان و كفر , و ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة , كما قال ابن عباس و أصحابه في قوله تعالى: (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * , قالوا: كفرا لا ينقل عن الملة. و قد اتبعهم على ذلك أحمد و غيره من أئمة السنة".
تقديم الإيمان و التصديق على العاطفة و الهوى
2592 - (إن أبي و أباك في النار).
أخرجه الطبراني في "الكبير" (3552): حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن العباس بن عبد الرحمن عن عمران بن الحصين قال:
جاء حصين إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت رجلا كان يصل الرحم , و يقري الضيف مات قبلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره: فما مضت عشرون ليلة حتى مات مشركا.
قلت: و هذا إسناد رجاله كلهم ثقات غير العباس بن عبد الرحمن , و هو مولى بني هاشم , لا يعرف إلا برواية داود عنه كما في " تاريخ البخاري" (4/ 1/5) و "الجرح و التعديل" (3/ 211) و لم يذكرا فيه جرحا و لا تعديلا , فهو مجهول , و قول الحافظ في " التقريب ": " مستور " سهو منه لأنه بمعنى: " مجهول الحال " , و ذلك لأنه نص في المقدمة أن هذه المرتبة إنما هي في " من روى عنه أكثر من واحد و لم يوثق".
قلت: و ذهل عنه الهيثمي , فقال في " المجمع " (1/ 117): "رواه الطبراني في" الكبير" , و رجاله رجال (الصحيح) "! و ذلك لأن العباس هذا لم يخرج له الشيخان , و لا بقية الستة , و إنما أخرج له أبو داود في " المراسيل " و " القدر " , و حديثه في " المراسيل " يشبه هذا في المعنى , فقد أخرجه فيه (برقم508) من طريق داود أيضا عنه قال: جاء رجل إلى العباس فقال: أرأيت الغيطلة - كاهنة بني سهم - في النار مع عبد المطلب ? فسكت: ثم قال: أرأيت الغيطلة .. , فوجأ العباس أنفه , فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال أحدكم يؤذي أخاه في الأمر و إن كان حقا ?! " و كذا رواه ابن سعد في " الطبقات " (4/ 24 - 25) بأتم منه. و الحديث أخرجه الجورقاني في " الأباطيل و المناكير " (1/ 235) من طريق أخرى عن داود بن أبي هند في جملة أحاديث أخرى تدل كلها - كهذا - على أن من مات في الجاهلية مشركا فهو في النار , و ليس من أهل الفترة كما يظن كثير من الناس , و بخاصة الشيعة منهم , و من تأثر بهم من السنة! و من تلك الأحاديث , ما رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ? قال: في النار.
فلما قفى دعاه , فقال: فذكر حديث الترجمة حرفا بحرف. أخرجه مسلم (1/ 132 - 133) و أبو عوانة (1/ 99) و أبو داود (4718) و الجورقاني (1/ 233) و صححه , و أحمد (3/ 268) و أبو يعلى (6/ 229/3516) و ابن حبان (578 - الإحسان) و البيهقي (7/ 190) من طرق عن حماد بن سلمة به. و منها سعد بن أبي وقاص المتقدم في المجلد الأول برقم (18) بلفظ: " حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ". فراجع سببه هناك , فإنه بمعنى حديث الترجمة لمن تأمله. و إن مما يتصل بهذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم لما زار قبر أمه: " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي , و استأذنته في أن أزور قبرها , فأذن لي .. " الحديث. رواه مسلم و غيره , و هو مخرج في " أحكام الجنائز " (ص187 - 188) من حديث أبي هريرة و بريدة , فليراجعهما من شاء. و الأحاديث في هذا الباب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/268)
كثيرة , و فيما ذكرنا خير كبير و بركة.
و اعلم أيها الأخ المسلم أن بعض الناس اليوم و قبل اليوم لا استعداد عندهم لقبول هذه الأحاديث الصحيحة , و تبني ما فيها من الحكم بالكفر على والدي الرسول صلى الله عليه وسلم , بل إن فيهم من يظن أنه من الدعاة إلى الإسلام ليستنكر أشد الاستنكار التعرض لذكر هذه الأحاديث ودلالتها الصريحة! و في اعتقادي أن هذا الاستنكار إنما ينصب منهم على النبي صلى الله عليه وسلم الذي قالها إن صدقوا بها. و هذا - كما هو ظاهر - كفر بواح , أوعلى الأقل: على الأئمة الذين رووها و صححوها , و هذا فسق أو كفر صراح , لأنه يلزم منه تشكيك المسلمين بدينهم , لأنه لا طريق لهم إلى معرفته و الإيمان به , إلا من طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه , فإذا لم يصدقوا بها لعدم موافقتها لعواطفهم و أذواقهم و أهوائهم - و الناس في ذلك مختلفون أشد الاختلاف - كان في ذلك فتح باب عظيم جدا لرد الأحاديث الصحيحة , و هذا أمر مشاهد اليوم من كثير من الكتاب الذين ابتلي المسلمون بكتاباتهم كالغزالي و الهويدي و بليق و ابن عبد المنان و أمثالهم ممن لا ميزان عندهم لتصحيح الأحاديث و تضعيفها إلا أهواؤهم!.
و اعلم أيها المسلم - المشفق على دينه أن يهدم بأقلام بعض المنتسبين إليه - أن هذه الأحاديث و نحوها مما فيه الإخبار بكفر أشخاص أو إيمانهم , إنما هو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها و تلقيها بالقبول , لقوله تعالى: * (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة:1 - 3) و قوله: (و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. ) * (الأحزاب:36) , فالإعراض عنها و عدم الإيمان بها يلزم منه أحد أمرين لا ثالث لهما - وأحلاهما مر -: إما تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم , و إما تكذيب رواتها الثقات كما تقدم.
و أنا حين أكتب هذا أعلم أن بعض الذين ينكرون هذه الأحاديث أو يتأولونها تأويلا باطلا كما فعل السيوطي - عفا الله عنا و عنه - في بعض رسائله , إنما يحملهم على ذلك غلوهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم , وحبهم إياه , فينكرون أن يكون أبواه صلى الله عليه وسلم كما أخبر هو نفسه عنهما, فكأنهم أشفق عليهما منه صلى الله عليه وسلم!! و قد لا يتورع بعضهم أن يركن في ذلك إلى الحديث المشهور على ألسنة بعض الناس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحيا الله له أمه , و في رواية: أبويه , و هو حديث موضوع باطل عند أهل العلم كالدارقطني و الجورقاني , و ابن عساكر و الذهبي و العسقلاني , وغيرهم كما هو مبين في موضعه , و راجع له إن شئت كتاب " الأباطيل و المناكير " للجورقاني بتعليق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي (1/ 222 - 229) و قال ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 284):
" هذا حديث موضوع بلا شك , و الذي وضعه قليل الفهم , عديم العلم , إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافرا لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة , لا بل لو آمن عند المعاينة , و يكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى: * (فيمت و هو كافر) * , و قوله صلى الله عليه وسلم في (الصحيح): " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ". و لقد أحسن القول في هؤلاء بعبارة ناصعة وجيزة الشيخ عبد الرحمن اليماني رحمه الله في تعليقه على " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للإمام الشوكاني , فقال (ص322): " كثيرا ما تجمح المحبة ببعض الناس , فيتخطى الحجة و يحاربها , و من وفق علم أن ذلك مناف للمحبة الشرعية. و الله المستعان ".
قلت: و ممن جمحت به المحبة السيوطي عفا الله عنه , فإنه مال إلى تصحيح حديث الإحياء الباطل عند كبار العلماء كما تقدم , و حاول في كتابه " اللآلىء " (1/ 265 - 268) التوفيق بينه و بين حديث الاستئذان و ما في معناه , بأنه منسوخ , و هو يعلم من علم الأصول أن النسخ لا يقع في الأخبار و إنما في الأحكام! و ذلك أنه لا يعقل أن يخبر الصادق المصدوق عن شخص أنه في النار ثم ينسخ ذلك بقوله: إنه في الجنة! كما هو ظاهر معروف لدى العلماء.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/269)
و من جموحه في ذلك أنه أعرض عن ذكر حديث مسلم عن أنس المطابق لحديث الترجمة إعراضا مطلقا , و لم يشر إليه أدنى إشارة , بل إنه قد اشتط به القلم وغلا , فحكم عليه بالضعف متعلقا بكلام بعضهم في رواية حماد بن سلمة! و هو يعلم أنه من أئمة المسلمين و ثقاتهم , و أن روايته عن ثابت صحيحة , بل قال ابن المديني و أحمد و غيرهما: أثبت أصحاب ثابت حماد , ثم سليمان , ثم حماد بن زيد , و هي صحاح.
وتضعيفه المذكور كنت قرأته قديما جدا في رسالة له في حديث الإحياء - طبع الهند - و لا تطولها يدي الآن لأنقل كلامه , و أتتبع عواره , فليراجعها من شاء التثبت.
ولقد كان من آثار تضعيفه إياه أنني لاحظت أنه أعرض عن ذكره أيضا في شيء من كتبه الجامعة لكل ما هب و دب , مثل " الجامع الصغير " و " زيادته " و " الجامع الكبير "! و لذلك خلا منه " كنز العمال " و الله المستعان , و لا حول و لا قوة إلا بالله.
و تأمل الفرق بينه و بين الحافظ البيهقي الذي قدم الإيمان و التصديق على العاطفة و الهوى , فإنه لما ذكر حديث: " خرجت من نكاح غير سفاح " , قال عقبه: " و أبواه كانا مشركين , بدليل ما أخبرنا .. " , ثم ساق حديث أنس هذا و حديث أبي هريرة المتقدم في زيارة قبر أمه صلى الله عليه وسلم.
العمل الصالح سببا لدخول الجنة ولكنه ليس ثمنا لدخولها
2602 - (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة [و لا ينجيه من النار] , قالوا: و لا أنت يا رسول الله؟ قال: و لا أنا -[و أشار بيده هكذا على رأسه:]- إلا أن يتغمدني الله منه بفضل و رحمة , [مرتين أو ثلاثا] [فسددوا و قاربوا] [وأبشروا] [و اغدوا و روحوا , و شيء من الدلجة , و القصد القصد تبلغوا] [واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل]).
ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم , منهم: أبو هريرة و عائشة و جابر و أبو سعيد الخدري و أسامة بن شريك.
و اعلم أن هذا الحديث قد يشكل على بعض الناس , و يتوهم أنه مخالف لقوله تعالى: * (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) * و نحوها من الآيات و الأحاديث الدالة على أن دخول الجنة بالعمل , و قد أجيب بأجوبة أقربها إلى الصواب: أن الباء في قوله في الحديث: " بعمله " هي باء الثمنية , و الباء في الآية باء السببية , أي أن العمل الصالح سبب لابد منه لدخول الجنة , و لكنه ليس ثمنا لدخول الجنة , و ما فيها من النعيم المقيم و الدرجات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض فتاويه:
" و لهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد , و محو الأسباب أن تكون سببا نقص في العقل , و الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع , و مجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب , فإن المطر إذا نزل و بذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات , بل لابد من ريح مربية بإذن الله , و لابد من صرف الانتفاء عنه , فلابد من تمام الشروط و زوال الموانع , و كل ذلك بقضاء الله و قدره. و كذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج , بل كم ممن أنزل و لم يولد له , بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة و تربيه في الرحم و سائر ما يتم به خلقه من الشروط و زوال الموانع.
و كذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة , بل هي سبب , و لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذكر الحديث) , و قد قال تعالى: * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *. فهذه باء السبب , أي بسبب أعمالكم , و الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة , كما يقال: اشتريت هذا بهذا. أي ليس العمل عوضا و ثمنا كافيا في دخول الجنة , بل لابد من عفو الله و فضله و رحمته , فبعفوه يمحو السيئات , و برحمته يأتي بالخيرات , و بفضله يضاعف الدرجات.
و في هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
1 - فريق آمنوا بالقدر و ظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية و الأعمال الصالحة. و هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله و رسله و دينه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/270)
2 - و فريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر , متكلين على حولهم وقوتهم و عملهم , و كما يطلبه المماليك. و هؤلاء جهال ضلال: فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه , و لا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به , و لكن أمرهم بما فيه صلاحهم , و نهاهم عما فيه فسادهم. و هو سبحانه كما قال: " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني , و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ". فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم , و هم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك , و الله تعالى غني عن العالمين , فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم , و إن أساءوا فلها. لهم ما كسبوا , و عليهم ما اكتسبوا , * (من عمل صالحا فلنفسه , و من أساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد) * ".
انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله منقولا من " مجموعة الفتاوى " (8/ 70 - 71) و مثله في " مفتاح دار السعادة " لتلميذه المحقق العلامة ابن قيم الجوزية (ص 9 - 10) و " تجريد التوحيد المفيد " (ص 36 - 43) للمقريزي.
دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم
2641 - (لا تقاتل قوما حتى تدعوهم).
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (5/ 217 / 9424): أخبرنا عمر بن ذر عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عليا بعث خلفه رجلا فقال: " اتبع عليا , و لا تدعه من ورائه , و لكن اتبعه و خذ بيده , و قل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقم حتى يأتيك. قال: فأقام حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ... فذكره ". قال عبد الرزاق: و سمعته أنا من يحيى ابن إسحاق.
(تنبيه): هذا الحديث قاعدة هامة في دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم , فإن استجابوا فبها و نعمت , و إلا فرضت عليهم الجزية , فإن رفضوا قوتلوا , و على هذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه , و لا يخالف ذلك ما في " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق , و هم غارون .. أي غافلون , أي أخذهم على غرة. فإنه ليس فيه أنه لم يكن قد بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم , كيف و هي قد بلغت فارس و الروم بله العرب , فمن البلاهة بمكان إنكار بعض الكتاب المعاصرين لهذا الحديث بحجة أنه مخالف للقاعدة المذكورة , فإنه ليس من الضروري أن يدعى الكفار قبل قتالهم مباشرة! و قد أشار إلى هذا الحسن البصري حين سئل عن العدو ? هل يدعون قبل القتال ? قال: " قد بلغهم الإسلام منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ". أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 365) و سعيد بن منصور (3/ 2 / 206/ 2486) و انظر الرد على البعض المشار إليه مع تخريج حديث " الصحيحين " في " صحيح أبي داود " (2367).
و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
2663 - (ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب).
أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 228) حدثنا علي بن سعيد الرازي: أخبرنا عقبة بن قبيصة حدثنا أبي حدثنا مالك بن مغول عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره
قلت: و الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم كما يشهد بذلك واقع المسلمين في كثير من البلاد , و ما حادثة مهاجمة اليهود للمسلمين و هم سجود صبح الجمعة من رمضان هذه السنة (1414) في مسجد الخليل في فلسطين ببعيد. و صدق الله: * (و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير) *. اسأل الله تعالى أن يلهم المسلمين الرجوع إلى فهم دينهم فهما صحيحا , و العمل به ليعزهم و ينصرهم على عدوهم.
تفسر آيات و من لم يحكم بما أنزل الله وأنها في الكفار
2704 - (قوله: * (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * , * (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) *,* (و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * , قال: هي في الكفار كلها).
أخرجه أحمد (4/ 286): حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ... قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/271)
و الحديث دليل صريح في أن المقصود بهذه الآيات الثلاث الكفار من اليهود و النصارى و أمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية و أحكامها , و يلحق بهم كل من شاركهم في ذلك و لو كان يتظاهر بالإسلام , حتى و لو أنكر حكما واحدا منها.
و لكن مما ينبغي التنبه له , أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك , فلا يجوز الحكم على مثله بالكفر و خروجه عن الملة لأنه مؤمن , غاية ما في الأمر أن يكون كفره كفرا عمليا.
و هذه نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام , و لذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام , فتقع فتن كثيرة , و سفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته , و الواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة , و الأحكام العاطلة , و الآراء الكاسدة المخالفة للسنة , و تربية الجيل على هذا الإسلام المصفى. و الله المستعان.
و قد مضى الكلام على هذه المسألة الهامة بشيء من التفصيل المفيد إن شاء الله تعالى تحت الحديث المتقدم (2552).
وجوب التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم و سنة الخلفاء الراشدين الأربعة ومن سار سيرتهم
2735 - (أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن كان عبدا حبشيا , فإنه من يعش منكم بعدي يرى اختلافا كثيرا , فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي , عضوا عليها بالنواجذ [و إياكم و محدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة] ").
أخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " (ص 136) من طريقين , و في " المعجم الكبير " (18/ 248 / 623) من أحدهما عن أرطاة بن المنذر عن المهاصر بن حبيب عن العرباض بن سارية قال:
وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون , و وجلت منها القلوب , فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع , فقال: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات كما بينته في " ظلال الجنة " (رقم 28 و 29) و هو في تخريج " كتاب السنة " لابن أبي عاصم , و الزيادة له , و قد أخرجها هو و أصحاب السنن و غيرهم من طرق كثيرة عن العرباض رضي الله عنه , فانظرها في " الظلال " (26 - 34 و 1037 - 1045) , و " مسند الشاميين " (ص 237 و 276 و 403) و إنما آثرت هذه بالتخريج هنا لعزتها , و شهرة تلك , و بعضها في " الشاميين " (ص 154).
و الحديث من الأحاديث الهامة التي تحض المسلمين على التمسك بالسنة و سنة الخلفاء الراشدين الأربعة و من سار سيرتهم , و النهي عن كل بدعة , و أنها ضلالة , و إن رآها الناس حسنة , كما صح عن ابن عمر رضي الله عنه. و الأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة معروفة , و مع ذلك فقد انصرف عنها جماهير المسلمين اليوم , لا فرق في ذلك بين العامة و الخاصة , اللهم إلا القليل منهم , بل إن الكثيرين منهم ليعدون البحث في ذلك من توافه الأمور , و أن الخوض في تمييز السنة عن البدعة , يثير الفتنة , و يفرق الكلمة , و ينصحون بترك ذلك كله , و ترك المناصحة في كل ما هو مختلف فيه ناسين أو متناسين أن من المختلف فيه بين أهل السنة و أهل البدعة كلمة التوحيد , فهم لا يفهمون منها وجوب توحيد الله في العبادة , و أنه لا يجوز التوجه إلى غيره تعالى بشيء منها , كالاستغاثة و الاستعانة بالموتى من الأولياء و الصالحين * (و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *.
(تنبيه): هذا الحديث الصحيح مما ضعفه المدعو (حسان عبد المنان) مع اتفاق الحفاظ قديما و حديثا على تصحيحه , ضعفه من جميع طرقه , مع أن بعضها حسن , وبعضها صحيح كما بينته في غير ما موضع , و سائر طرقه تزيده قوة على قوة. و مع أنه أتعب نفسه كثيرا في تتبع طرقه , و تكلف تكلفا شديدا , في تضعيف مفرداته , و لكنه في نهاية مطافه هدم جل ما بناه بيده , و صحح الحديث لشواهده , مستثنيا أقل فقراته , منها: " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي " , و ذلك في آخر كتيبه الذي سماه " حوار مع الشيخ الألباني " , و مع أنه لم يكن فيه صادقا و منصفا , فقد كان يدلس على القراء و يكتم الحقائق , و يطعن في الحفاظ المشهورين , و يرميهم بالتساهل و التقليد , إلى غير ذلك من المخازي التي لا مجال الآن لبيانها , و لاسيما و قد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/272)
قمت بشيء من ذلك بردي الجديد عليه , متتبعا تضعيفه للأحاديث الصحيحة التي احتج بها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان " الذي قام المذكور بطبعه و تخريج أحاديثه , فأفسده أيما إفساد بأكثر مما كان فعله من قبل بكتاب الإمام النووي: " الرياض "!
النشرة من الشيطان
2760 - (النشرة من عمل الشيطان).
أخرجه أحمد في " المسند " (3/ 294) و عنه أبو داود في " السنن " (3868) و من طريقه البيهقي (9/ 351): حدثنا عبد الرزاق حدثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة ? فقال: " هو من عمل الشيطان ".
و " النشرة ": الرقية. قال الخطابي:
" النشرة: ضرب من الرقية و العلاج , يعالج به من كان يظن به مس الجن ".
قلت: يعني الرقى غير المشروعة, و هي ما ليس من القرآن و السنة الصحيحة و هي التي جاء إطلاق لفظ الشرك عليها في غير ما حديث , و قد تقدم بعضها , فانظر مثلا: (331 و 1066) , و قد يكون الشرك مضمرا في بعض الكلمات المجهولة المعنى , أو مرموزا له بأحرف مقطعة , كما يرى في بعض الحجب الصادرة من بعض الدجاجلة , و على الرقى المشروعة يحمل ما علقه البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب (أي سحر) أو يؤخذ عن امرأته , أيحل عنه أو ينشر ? قال: لا بأس به , إنما يريدون به الإصلاح , فأما ما ينفع فلم ينه عنه.
و وصله الحافظ في " الفتح " (10/ 233) من رواية الأثرم و غيره من طرق عن قتادة عنه. و رواية قتادة أخرجها ابن أبي شيبة (8/ 28) بسند صحيح عنه مختصرا.
هذا و لا خلاف عندي بين الأثرين , فأثر الحسن يحمل على الاستعانة بالجن و الشياطين و الوسائل المرضية لهم كالذبح لهم و نحوه , وهو المراد بالحديث , و أثر سعيد على الاستعانة بالرقى و التعاويذ المشروعة بالكتاب و السنة. و إلى هذا مال البيهقي في " السنن " , و هو المراد بما ذكره الحافظ عن الإمام أحمد أنه سئل عمن يطلق السحر عن المسحور ? فقال: " لا بأس به". و أما قول الحافظ: " و يختلف الحكم بالقصد , فمن قصد بها خيرا , و إلا فهو شر ".
قلت: هذا لا يكفي في التفريق , لأنه قد يجتمع قصد الخير مع كون الوسيلة إليه شر , كما قيل في المرأة الفاجرة: ... ... ... ... ... ليتها لم تزن و لم تتصدق.
و من هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ (الطب الروحاني) سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن كما كانوا عليه في الجاهلية , أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح , و نحوه عندي التنويم المغناطيسي , فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تشرع لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم: * (و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) * أي خوفا و إثما.
و ادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم , دعوى كاذبة لأنهم مما لا يمكن - عادة - مخالطتهم و معاشرتهم , التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم , و نحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس , يتبين لك أنهم لا يصلحون , قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم) * هذا في الإنس الظاهر , فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم: * (إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم) *.
إلى دينكم أيها المسلمون حكاما و محكومين
2856 - (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين).
أخرجه البخاري (6/ 416 و 13/ 99) و الدارمي (2/ 242) و ابن أبي عاصم في " السنة " (1112) و أحمد (4/ 94) و الطبراني (19/ 337 و 779 - 81/ 3) من طريق الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية - و هم عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك من قحطان , فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله , و لا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , و أولئك جهالكم , فإياكم و الأماني التي تضل أهلها , إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/273)
وسلم يقول: فذكر الحديث.
قوله: (ما أقاموا الدين) أي: مدة إقامتهم أمور الدين , و مفهومه أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم , و في ذلك أحاديث أخرى تقدم أحدها (1552) و انظر الآتي بعده. و إليها أشار الحافظ في شرحه لهذا الحديث بقوله (13/ 117): " و يؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من الله أولا , و هو الموجب للخذلان و فساد التدبير , و قد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية , ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليهم , و وجد ذلك في غلبة مواليهم حيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه, يقتنع بلذاته و يباشر الأمور غيره , ثم اشتد الخطب فغلب عليهم الديلم , فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة , و اقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم , ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة , حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار , و لم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار ".
قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة , بل الأمر أسوأ , فإنه لا خليفة اليوم لهم , لا اسما و لا رسما , و قد تغلبت اليهود و الشيوعيون و المنافقون على كثير من البلاد الإسلامية. فالله تعالى هو المسؤول أن يوفق المسلمين أن يأتمروا بأمره في كل ما شرع لهم , و أن يلهم الحكام منهم أن يتحدوا في دولة واحدة تحكم بشريعته , حتى يعزهم الله في الدنيا , و يسعدهم في الآخرة , و إلا فالأمر كما قال تعالى: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * , و تفسيرها في الحديث الصحيح: " إذا تبايعتم بالعينة , و أخذتم أذناب البقر , و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد في سبيل الله , سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم , فإلى دينكم أيها المسلمون حكاما و محكومين.
حض من أسلم على مفارقة المشركين
2857 - (إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله و أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و فارقتم المشركين و أعطيتم من الغنائم الخمس و سهم النبي صلى الله عليه وسلم , و الصفي - و ربما قال: و صفيه - فأنتم آمنون بأمان الله و أمان رسوله).
أخرجه البيهقي (6/ 303 و 9/ 13) و أحمد (5/ 78) و الخطابي في " غريب الحديث " (4/ 236) من طريق مرة بن خالد: حدثنا يزيد بن عبد الله بن الخير قال: بينا نحن بالمربد إذ أتى علينا أعرابي شعث الرأس , معه قطعة أديم أو قطعة جراب , فقلنا: كأن هذا ليس من أهل البلد , فقال: أجل , هذا كتاب كتبه لي رسول الله عليه وسلم , فقال القوم: هات , فأخذته فقرأته فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لبني زهير بن أقيش - قال أبو العلاء: و هم حي من عكل -: إنكم إن شهدتم ... الحديث. و اللفظ للبيهقي. و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين و جهالة الصحابي لا تضر كما تقرر. و رواه أحمد (5/ 77) من طريق عبد الرزاق (4/ 300 / 7877) عن الجريري عن أبي العلاء ابن الشخير به نحوه.
(الصفي): ما كان صلى الله عليه وسلم يصطفيه و يختاره من عرض المغنم من فرس أو غلام أو سيف , أو ما أحب من شيء , و ذلك من رأس المغنم قبل أن يخمس , كان صلى الله عليه وسلم مخصوصا بهذه الثلاث (يعني المذكورة في الحديث: الخمس و السهم و الصفي) عقبة و عوضا عن الصدقة التي حرمت عليه. قاله الخطابي.
قلت: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام , من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم , و منها: أن يفارقوا المشركين و يهاجروا إلى بلاد المسلمين. و في هذا أحاديث كثيرة , يلتقي كلها على حض من أسلم على المفارقة , كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين , لا تتراءى نارهما " , و في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك. و في بعضها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا , أو يفارق المشركين إلى المسلمين".
إلى غير ذلك من الأحاديث , و قد خرجت بعضها في " الإرواء " (5/ 29 - 33) و فيما تقدم برقم (636).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/274)
و إن مما يؤسف له أشد الأسف أن الذين يسلمون في العصر الحاضر - مع كثرتهم و الحمد لله - لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة , و هجرتهم إلى بلاد الإسلام , إلا القليل منهم , و أنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين:
الأول: تكالبهم على الدنيا , و تيسر وسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة , لا روح فيها , كما هو معلوم , فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم.
و الآخر - و هو الأهم -: جهلهم بهذا الحكم , و هم في ذلك معذورون , لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية , أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة لأن أكثرهم ليسوا فقهاء و بخاصة منهم جماعة التبليغ , بل إنهم ليزدادون لصوقا ببلادهم , حينما يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم و المسلمون أنفسهم مخالفون له؟!
ألا فليعلم هؤلاء و هؤلاء أن الهجرة ماضيه كالجهاد , فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل " , و في حديث آخر: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة , و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " و هو مخرج في " الإرواء " (1208).
و مما ينبغي أن يعلم أن الهجرة أنواع و لأسباب عدة , و لبيانها مجال آخر , و المهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن الإسلام , أو مقصرين في تطبيق أحكامه , فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد الكفر أخلاقا و تدينا و سلوكا , و ليس الأمر - بداهة - كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء: " والله لو خيرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود
و بين أن أعيش في أي عاصمة عربية لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود "! و زاد على ذلك فقال ما نصه: " ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى (تل أبيب) "!!.
كذا قال فض فوه , فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبيا! و لتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على معرفته و اتباعه , الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين , و صراخ الممثلين , و اضطراب الموتورين من الحاسدين و الحاقدين من الخطباء و الكاتبين: أقول لأولئك المحبين: تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحدهما: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها ". أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما.
و الآخر: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون " , و هو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الصحابة , و تقدم تخريجه عن جمع منهم برقم (270 و 1108 و 1955 و 1956) , و " صحيح أبي داود " (1245) , و في بعضها أنهم " أهل المغرب " أي الشام , و جاء ذلك مفسرا عند البخاري و غيره عن معاذ , و عند الترمذي و غيره مرفوعا بلفظ: " إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم , و لا تزال طائفة من أمتي .. " الحديث.
و في هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان و ليس بالحيطان. و قد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو الدرداء إليه: أن هلم إلى الأرض المقدسة , فكتب إليه سلمان: إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا , و إنما يقدس الإنسان عمله. (موطأ مالك 2/ 235).
و لذلك فمن الجهل المميت و الحماقة المتناهية - إن لم أقل و قلة الدين - أن يختار خطيب أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي , و يوجب على الجزائريين المضطهدين أن يهاجروا إلى (تل أبيب) , دون بلده المسلم (عمان) مثلا , بل و دون مكة و المدينة , متجاهلا ما نشره اليهود في فلسطين بعامة , و (تل أبيب) و (حيفا) و (يافا) بخاصة من الفسق و الفجور و الخلاعة حتى سرى ذلك بين كثير من المسلمين و المسلمات بحكم المجاورة و العدوى , مما لا يخفى على من ساكنهم ثم نجاه الله منهم , أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/275)
و ليس بخاف على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة لصريح قوله تعالى * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم ? قالوا: كنا مستضعفين في الأرض , قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا , و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما (أي تحولا) كثيرا و سعة , و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله و كان الله غفورا رحيما) * (النساء 97 - 100).
قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 542): " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين , و هو قادر على الهجرة , و ليس متمكنا من إقامة الدين , فهو ظالم لنفسه , مرتكب حراما بالإجماع , و بنص هذه الآية ".
و إن مما لا يشك فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر , و قد صرح بذلك الإمام القرطبي , فقال في " تفسيره " (5/ 346): " و في هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي , و قال سعيد ابن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها , و تلا: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ?) * ".
و هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " (2/ 174 / 1) بسند صحيح عن سعيد. و أشار إليه الحافظ في " الفتح " فقال (8/ 263): " و استنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية ".
و قد يظن بعض الجهلة من الخطباء و الدكاترة و الأساتذة , أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " ناسخ للهجرة مطلقا , و هو جهل فاضح بالكتاب و السنة و أقوال الأئمة , و قد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني و بينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب المشار إليه آنفا , فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم بلفظ: " لا تنقطع الهجرة .. " إلخ .. لم يحر جوابا!
و بهذه المناسبة أنقل إلى القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين , و أنه لا تعارض بينهما , فقال في " مجموع الفتاوى " (18/ 281): " و كلاهما حق, فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه , و هي الهجرة إلى المدينة من مكة و غيرها من أرض العرب , فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة و غيرها دار كفر و حرب , و كان الإيمان بالمدينة , فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها , فلما فتحت مكة و صارت دار الإسلام و دخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام , فقال: " لا هجرة بعد الفتح " , و كون الأرض دار كفر و دار إيمان , أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة عارضة بحسب سكانها , فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت , و كل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت , و كل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت , فإن سكنها غير ما ذكرنا و تبدلت بغيرهم فهي دارهم
و كذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه , و كذلك دار الخمر و الفسوق و نحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك , و كذلك الرجل الصالح يصير فاسقا و الكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك , كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال و قد قال تعالى: * (و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) * الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر و هي ما زالت في نفسها خير أرض الله , و أحب أرض الله إليه , و إنما أراد سكانها. فقد روى الترمذي مرفوعا أنه قال لمكة و هو واقف بالحزورة: " والله إنك لخير أرض الله , و أحب أرض الله إلى الله , و لولا ان قومي أخرجوني منك لما خرجت , و في رواية: " خير أرض الله و أحب أرض الله إلي " , فبين أنها أحب أرض الله إلى الله و رسوله , و كان مقامه بالمدينة و مقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم , و لهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة و
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/276)
المدينة , كما ثبت في الصحيح: " رباط يوم و ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر و قيامه , و من مات مرابطا مات مجاهدا , و جرى عليه عمله , و أجرى رزقه من الجنة , و أمن الفتان ".
و في السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوما فيما سواه من المنازل ". و قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. و لهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله و رسوله , و هذا يختلف باختلاف الأحوال , و لا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل , و إنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى و الطاعة و الخشوع و الخضوع و الحضور , و قد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا و إنما يقدس العبد عمله. و كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان و أبي الدرداء. و كان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا.
و قد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: * (سأريكم دار الفاسقين) * و هي الدار التي كان بها أولئك العمالقة , ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين , و هي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة , و أرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل , فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما و تارة كافرا , و تارة مؤمنا و تارة منافقا , و تارة برا تقيا و تارة فاسقا , و تارة فاجرا شقيا.
و هكذا المساكن بحسب سكانها , فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان و الطاعة كتوبته و انتقاله من الكفر و المعصية إلى الإيمان و الطاعة , و هذا أمر باق إلى يوم القيامة , و الله تعالى قال: * (والذين آمنوا [من بعد] و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم) * [الأنفال: 75]. قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن و هاجر و جاهد إلى يوم القيامة , و هكذا قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * [النحل: 110] يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات و جاهد نفسه و غيرها من العدو , و جاهد المنافقين بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر , و غير ذلك , و صبر على ما أصابه من قول أو فعل. و الله سبحانه و تعالى أعلم ".
فأقول: هذه الحقائق و الدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , يجهلها جهلا تاما أولئك الخطباء و الكتاب و الدكاترة المنكرون لشرع الله * (و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * , فأمروا الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم و حرموا عليهم الهجرة منها , و هم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم و دنياهم , و هلاك رجالهم و فضيحة نسائهم , و انحراف فتيانهم و فتياتهم , كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبر اليهود عليهم , و كبسهم لدورهم و النساء في فروشهن , إلى غير ذلك من المآسي و المخازي التي يعرفونها , ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون , و يجهلون أنهم يجهلون , كيف لا و هم في القرآن يقرؤون: * (و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) *!
و ليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين , و تارة باسم نازحين , أيقولون فيهم: إنهم كانوا من الآثمين , بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود؟! بلى. و ماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى (بشاور) مع أن أرضهم لم تكن محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين؟!
و أخيرا .. ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية و منها الأردن , هل يحرمون عليهم أيضا خروجهم , و يقول فيهم أيضا رأس الفتنة: " يأتون إلينا؟ شو بساووا هون؟! ".
إنه يجهل أيضا قوله تعالى: * (و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم , و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة) * , أم هم كما قال تعالى في بعضهم: * (يحلونه عاما و يحرمونه عاما) *؟!
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا و يأتيك بالأنباء من لم تزود.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/277)
الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم و طلب الشفاعة منه بعد وفاته من أبطل الباطل
2928 - (من استطاع منكم أن لا يموت إلا بالمدينة فليمت بها , فإنه من يمت بها يشفع له , أو يشهد له).
أخرجه ابن حبان في " صحيحه " (1032 - موارد) و الطبراني في " المعجم الكبير " (24/ 331 / 824) و البيهقي في " الشعب " (2/ 1 / 83/ 1) من طريق يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن الصميتة - امرأة من بني ليث - سمعها تحدث صفية بنت أبي عبيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
(تنبيه): أورد البيهقي هنا في " الشعب " (2/ 1 / 82/ 2) بإسناده عن أبي يزيد الرقاشي عن محمد بن روح بن يزيد البصري: حدثني أيوب الهلالي قال: " حج أعرابي , فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها , ثم دخل المسجد حتى أتى القبر و وقف بحذاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله! جئتك مثقلا بالذنوب و الخطايا , أستشفع بك على ربك لأنه قال في محكم كتابه: * (و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * .. ثم أقبل في عرض الناس و هو يقول:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع و الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف و فيه الجود و الكرم.
قلت: و هذا إسناد ضعيف مظلم , لم أعرف أيوب الهلالي و لا من دونه. و أبو يزيد الرقاشي , أورده الذهبي في " المقتنى في سرد الكنى " (2/ 155) و لم يسمه , و أشار إلى أنه لا يعرف بقوله: " حكى شيئا ". و أرى أنه يشير إلى هذه الحكاية.
و هي منكرة ظاهرة النكارة , و حسبك أنها تعود إلى أعرابي مجهول الهوية! و قد ذكرها - مع الأسف - الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: * (و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم .. ) * و تلقفها منه كثير من أهل الأهواء و المبتدعة , مثل الشيخ الصابوني , فذكرها برمتها في " مختصره "! (1/ 410) و فيها زيادة في آخرها:" ثم انصرف الأعرابي, فغلبتني عيني, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم , فقال: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له ".
و هي في " ابن كثير " غير معزوة لأحد من المعروفين من أهل الحديث , بل علقها على " العتبي " , و هو غير معروف إلا في هذه الحكاية , و يمكن أن يكون هو أيوب الهلالي في إسناد البيهقي.
و هي حكاية مستنكرة , بل باطلة , لمخالفتها الكتاب و السنة , و لذلك يلهج بها المبتدعة , لأنها تجيز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم , و طلب الشفاعة منه بعد وفاته, و هذا من أبطل الباطل , كما هو معلوم, و قد تولى بيان ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه و بخاصة في " التوسل و الوسيلة ", و قد تعرض لحكاية العتبي هذه بالإنكار, فليراجعه من شاء المزيد من المعرفة و العلم.
الفرق بين الشرك و بين غيره من الذنوب
2999 - (تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا , و لا تسرقوا , و لا تزنوا , و لا تقتلوا أولادكم , و لا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم , و لا تعصوني في معروف , فمن وفى منكم فأجره على الله , و من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له , و من أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله , إن شاء عاقبه , و إن شاء عفا عنه).
و في الحديث رد كما قال العلماء على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب , و على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة , لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة , و لم يقل لابد أن يعذبه.
قلت: و مثله قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به , و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *. فقد فرق تعالى بين الشرك و بين غيره من الذنوب , فأخبر أن الشرك لا يغفره , و أن غيره تحت مشيئته , فإن شاء عذبه و إن شاء غفر له , و لابد من حمل الآية و الحديث على من لم يتب , و إلا فالتائب من الشرك مغفور له , فغيره أولى , و الآية قد فرقت بينهما , و بهذا احتججت على نابتة نبتت في العصر الحاضر , يرون تكفير المسلمين بالكبائر تارة , و تارة يجزمون بأنها ليست تحت مشيئة الله تعالى و أنها لا تغفر إلا بالتوبة , فسووا بينها و بين الشرك فخالفوا الكتاب و السنة , و لما أقمت عليهم الحجة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/278)
بذلك في ساعات , بل جلسات عديدة , رجع بعضهم إلى الصواب , و صاروا من خيار الشباب السلفيين , هدى الله الباقين.
قوله: (و لا يعضه): أي لا يرميه بـ (العضيهة) , و هي البهتان و الكذب.
كتاب الطهارة
الوضوء مما مست النار
2322 - (من أكل لحما فليتوضأ).
(فائدة): الأمر في الحديث للاستحباب إلا في لحم الإبل , فهو للوجوب لثبوت التفريق بينه و بين غيره من اللحوم , فإنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا" , و عن لحوم الغنم؟ فقال: "إن شئتم".رواه مسلم و غيره. و هو مخرج في "الإرواء" (1/ 152/118).
من خصوصياته أن النوم لا ينقض وضوءه صلى الله عليه وسلم
2925 - (كان ينام و هو ساجد , فما يعرف نومه إلا بنفخه , ثم يقوم فيمضي في صلاته).
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (1/ 133) و من طريقه البغوي في " شرح السنة " (1/ 338): حدثنا إسحاق بن منصور عن منصور بن أبي الأسود عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: فذكره مرفوعا.
و رواه الطبراني في " الكبير " (9995) من طريق آخر عن ابن أبي الأسود.
قلت: و هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير منصور بن أبي الأسود , و هو ثقة على تشيع فيه.
و قد أرسله بعضهم , فقال ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في المسجد حتى نفخ , ثم قام فصلى و لم يتوضأ , كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه و لا ينام قلبه. ثم قال ابن أبي شيبة , و أحمد أيضا (6/ 135): حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ , ثم يقوم فيصلي و لا يتوضأ ". و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. و للحديث شاهد من حديث ابن عباس مرفوعا نحوه. أخرجه أبو داود و غيره بإسناد ضعيف , و فيه زيادة منكرة بلفظ: " إنما الوضوء على من نام مضطجعا .. ". و لذلك خرجته في " ضعيف أبي داود " (25) و هو في " الصحيحين " بغير هذه الزيادة نحوه , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " (1224 - 1229). و أما زيادة مرسل إبراهيم: " كان تنام عيناه و لا ينام قلبه ". فهي صحيحة جاءت موصولة في " الصحيحين " و غيرهما , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " (1212) , و من حديث أبي هريرة و غيره. انظر " صحيح الجامع الصغير " (2997).
قلت: و هذه الزيادة صريحة في أن النوم لا ينقض وضوءه صلى الله عليه وسلم , و أن ذلك من خصوصياته. و قد اختلف العلماء في نوم الجالس المتمكن في جلوسه , و الراجح أنه ناقض كما بينته في " تمام المنة " , فليراجعه من شاء.
الأحاديث في المسح على الخفين متواترة
2940 - (لا بأس بذلك. يعني المسح على الخفين).
أخرجه ابن حبان في " صحيحه " (172 - موارد) من طريق فضيل بن سليمان: حدثنا موسى بن عقبة عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحدث فيتوضأ و يمسح على خفيه , أيصلي؟ قال: فذكره.
و اعلم أن الأحاديث في المسح على الخفين متواترة , كما صرح بذلك غير ما واحد من أئمة الحديث و السنة , و الآثار بعمل الصحابة و السلف بها كثيرة جدا مشهورة , و ما روي عن بعضهم من الإنكار , فذلك قبل أن تصل بذلك إليهم الأخبار , كما هو شأن كثير من المسائل الفقهية , و لذلك عادوا إلى القول و العمل بها لما وصلتهم , و ذلك مطابق لقراءة الجر في قوله تعالى في آية الوضوء: * (و أرجلكم إلى الكعبين) *.
فبقاء بعض الفرق الإسلامية على إنكار هذه السنة كالرافضة و الخوارج و منهم الإباضية مما يؤكد أنهم من أهل الأهواء المتوعدين بقوله تعالى: * (و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا) *.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/279)
و إن تعجب فالعجب من الشيخ عبد الله بن حميد السالمي الإباضي أن يصر إصرار هؤلاء على المشاققة للرسول و اتباع غير سبيل المؤمنين , و يتمسك في ذلك بالآثار الواهية رواية و دراية التي ذكرها إمامهم المزعوم الربيع بن حبيب في " المسند " المنسوب إليه! (1/ 35 - 3) و مدارها على شيخه أبي عبيدة المجهول عنده , و غير معروف عندهم في الرواية بالضبط و الحفظ و الإتقان! ثم يعرض في شرحه إياه (1/ 177 - 179) عن تلك الأحاديث الصحيحة المتواترة , و الآثار الكثيرة الثابتة المشهورة , و يضعفها تعصبا لإباضيته بشطبة قلم , فيقول: " و قد عرفت أن السنة لم تثبت في ذلك "!! و هو غير صادق فيما قال لوجهين:
الأول: أنه جحد التواتر , فصدق في مثله قوله تعالى: * (و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم) *.
و الآخر: قوله: " قد عرفت .. " , إذ لا يمكن معرفة صحة الدعوى إلا بتقديم الحجة و البرهان كما هو مستقر بداهة في الأذهان , و هو لم يفعل شيئا من ذلك مطلقا إلا مجرد الدعوى , و هذا شأن عالمهم الذي زعم بعض الكتاب أنه معتدل غير متعصب , وايم الحق إن من بلغ به التعصب من أهل الأهواء إلى رد أخبار التواتر التي عني بها أهل الحديث عناية لا قبل لأهل الأهواء بمثلها , لحري به أن يعجز عن إقامة البرهان على صحة مذهبهم الذي شذوا فيه عن أهل السنة و الحديث.
فهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق.
و قبل أن أمسك القلم أقول: لقد اعتاد الرجل السالمي أن يسوق كلامه على عواهنه مؤيدا به مذهبه و هواه , من ذلك أنه قرن مع الشيعة و الخوارج بعض علماء السنة من الظاهرية , فقال (ص 178) عطفا على المذكورين: " و أبو بكر بن داود الظاهري ".
فأقول: أبو بكر هذا هو محمد بن داود بن علي الظاهري , ترجمه الحافظ الذهبي في " السير " (13/ 109): " حدث عن أبيه , و عباس الدوري .. و له بصر تام بالحديث و بأقوال الصحابة , و كان يجتهد و لا يقلد أحدا ".
فأقول: فيستبعد جدا من مثله أن يخالف الحديث و الصحابة , و أن يوافق الخوارج في إنكار سنة المسح على الخفين , لاسيما و هو قد تفقه على أبيه داود , و هذا مع أئمة الفقه و الحديث في القول بالمسح على الخفين كما ذكر ذلك الإمام ابن حزم في " المحلى " (2/ 89) فمن أين جاء السالمي بما عزاه لأبي بكر الظاهري ?! و ما أحسن ما قيل:
و الدعاوي ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء!
كتاب الصلاة
قنوت النوازل
2071 - (كان إذا رفع رأسه من الركوع في صلاة الصبح في آخر ركعة قنت).
رواه ابن نصر في " قيام الليل "ص (132) قال: حدثنا محمد بن عبيد بن حساب حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن # أبي هريرة # أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ... قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط مسلم , و قد أخرجه (2/ 135) من طريقين آخرين عن ابن عيينة به. و أخرجه هو و البخاري (3/ 217 - 218) و أحمد (2/ 255) من طرق أخرى عن الزهري به أتم منه.
(تنبيه): القنوت الوارد في هذا الحديث هو قنوت النازلة , بدليل قوله في حديث الشيخين: "فيدعوا للمؤمنين و يلعن الكفار". و انظر "الإرواء" (2/ 160 - 164). و أصرح منه رواية ابن خزيمة بلفظ: " كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد , أو على أحد". و سنده صحيح.
مشروعية القبض في القيام الذي قبل الركوع دون الذي بعده
2247 - (كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه).
أخرجه يعقوب الفسوي في "المعرفة" (3/ 121) و من طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 28) و الطبراني في "الكبير" (22/ 9/1) من طريق آخر: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا موسى بن عمير العنبري قال: حدثني علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ... و رأيت علقمة يفعله. قال الفسوي: "و موسى بن عمير كوفي ثقة". قلت: و وثقه آخرون من الأئمة و سائر الرواة ثقات من رجال مسلم , فالسند صحيح. و أخرجه النسائي (1/ 141) من طريق عبد الله بن المبارك عن موسى بن عمير العنبري و قيس بن سليم العنبري قالا: حدثنا علقمة بن وائل به نحوه دون فعل علقمة. و رواه أحمد (4/ 316) و ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 390): حدثنا وكيع حدثنا موسى بن عمير العنبري به مختصرا بلفظ: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة". فلم يذكر القيام. و رواه البغوي في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/280)
"شرح السنة" (3/ 30) من طريق أخرى عن وكيع. و هكذا رواه أحمد (4/ 316 - 319) من طريق أخرى عن وائل بن حجر دون القيام. و لا يشك الباحث في طرق هذا الحديث أنه مختصرا أيضا -كرواية وكيع - من حديث وائل المبين لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم و القيام الذي قبض فيه يديه , و هو الذي قبل الركوع , جاء ذلك من طريقين:
الأولى: عن عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل و مولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل الصلاة , كبر -وصف همام - حيال أذنيه. ثم التحف بثوبه. ثم وضع يده اليمنى على اليسرى. فلما أراد أن يركع أخرج يده من الثوب ثم رفعها ثم كبر فركع. فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يده. فلما سجد سجد بين كفيه. أخرجه مسلم (2/ 13) و أبو عوانة (2/ 106107) و أحمد (4/ 317 - 318) و البيهقي (2/ 28و71).
الثانية: عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: "قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي؟ قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه. ثم أخذ شماله بيمينه. فلما أراد أن يركع رفعها مثل ذلك. ثم وضع يديه على ركبتيه. فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك. فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه , ثم جلس فافترش رجله اليسرى .. و أشار بالسبابة .. " الحديث. أخرجه أبو داود و النسائي و أحمد و غيرهم بسند صحيح , و هو مخرج في "صحيح أبي داود" (716 - 717) برواية آخرين من الأئمة عن جمع من الثقات عن عاصم , يزيد بعضهم على بعض , و أتمهم سياقا زائدة بن قدامة و بشر بن المفضل , و هو ثقة ثبت , و السياق له , و لابن ماجة منه قوله: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فأخذ شماله بيمينه".
قلت: فإذا نظر الناظر إلى هذه الجملة لوحدها , و لم يعلم , أو على الأقل لم يستحضر أنها مختصرة من الحديث , فهم منها مشروعية الوضع لليدين في كل قيام سواء كان قبل الركوع أو بعده , و هذا خطأ يدل عليه سياق الحديث , فإنه صريح في أن الوضع إنما هو في القيام الأول , و هو في سياق عاصم بن أصرح , فإنه ذكر رفع اليدين في تكبيرة الإحرام , ثم الركوع و الرفع منه , يقول فيهما: مثل ذلك , فلو كان في حفظ وائل وضع اليدين بعد الرفع لذكره أيضا كما هو ظاهر من ذكره الرفع ثلاثا قبله , و لكن لما فصلت تلك الجملة عن محلها من الحديث أوهمت الوضع بعد الرفع , فقال به بعض أفاضل العلماء المعاصرين , دون أن يكون لهم سلف من السلف الصالح فيما علمت. و مما يؤكد ما ذكرنا رواية ابن إدريس عن عاصم به مختصرا بلفظ: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كبر أخذ شماله بيمينه". و مثل هذا الوهم بسبب الاختصار من بعض الرواة أو عدم ضبطهم للحديث يقع كثير , و لقد كنت أقول في كثير من محاضراتي و دروسي حول هذا الوضع و سببه: يوشك أن يأتي رجل ببدعة جديدة اعتمادا منه على حديث مطلق لم يدر أنه مقيد أيضا , ألا و هي الإشارة بالإصبع في غير التشهد! فقد جاء في "صحيح مسلم" حديثان في الإشارة بها في التشهد أحدهما من حديث ابن عمر , و الآخر من حديث ابن الزبير , و لكل منهما لفظان مطلق و مقيد , أو مجمل و مفصل: "كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه و رفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها .. " , فأطلق الجلوس. و الآخر: "كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى , و وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى .. " الحديث. فقيد الجلوس بالتشهد. و نحوه لفظا حديث ابن الزبير. فاللفظ الأول "جلس" يشمل كل جلوس , كالجلوس بين السجدتين , و الجلوس بين السجدة الثانية و الركعة الثانية المعروفة عند العلماء بجلسة الاستراحة. فكنت أقول: يوشك أن نرى بعضهم في هاتين الجلستين! فلم يمض على ذلك إلا زمن يسير حتى قيل لي بأن بعض الطلاب يشيرون بها بين السجدتين! ثم رأيت ذلك بعيني من أحد المتخرجين من الجامعة الإسلامية حين زارني في داري في أول سنة (1404)! و نحن في انتظار حدوث البدعة الثالثة , ألا و هي الإشارة بها في جلسة الاستراحة! ثم حدث ما انتظرته , و الله المستعان! و قد وقع مثل هذا الاختصار الموهم لشرعية الإشارة في كل جلوس في حديث وائل أيضا من رواية عاصم بن كليب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/281)
عن أبيه عنه , و هو في "مسند أحمد" (4/ 316 - 319) على وجهين:
الأول: الإشارة مطلقا دون تقييد بتشهد. أخرجه (4/ 116 - 117) من طريق شعبة عنه بلفظ: "و فرش فخذه اليسرى من اليمنى , و أشار بإصبعه السبابة". و كذا أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 345/697) , لكنه قال في آخره: "يعني في الجلوس في التشهد". و هذا التفسير , إما من وائل و إما من أحد رواته و الأول هو الراجح لما يأتي. و في لفظ له في "المسند" (4/ 316) من رواية عبد الواحد بلفظ: "فلما قعد افترش رجله اليسرى .. و أشار بإصبعه السبابة".و تابعه عنده (4/ 317/318) سفيان -و هو الثوري- و زهير بن معاوية , و رواه الطبراني (22/ 78و83و84و85و90) من طريقهما و آخرين.
و الآخر: الإشارة بقيد التشهد. و هو في "المسند" (4/ 319) من طريق أخرى عن شعبة بلفظ: "فلما قعد يتشهد .. أشار بإصبعه السبابة و حلق بالوسطى". و سنده صحيح , و أخرجه ابن خزيمة أيضا (698). و تابعه أبو الأحوص عند الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 152) و الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 34/80) , و زاد: "ثم جعل يدعو بالأخرى". و تابعهما زائدة بن قدامة بلفظ: "فحلق حلقة , ثم رفع إصبعه , فرأيته يحركها يدعو بها". أخرجه أبو داود و غيره من أصحاب السنن , و أحمد (4/ 318) و الطبراني (22/ 35/82) و صححه ابن خزيمة و ابن حبان و ابن الجارود و النووي و ابن القيم , و هو مخرج في "صحيح أبي داود" (717). و تابعه أبو عوانة بنحوه , و فيه: "ثم دعا". أخرجه الطبراني (22/ 38/90). و ابن إدريس مثله. رواه ابن حبان (486). و سلام بن سليم عند الطيالسي (1020). قال الطحاوي عقب رواية أبي الأحوص المتقدمة: "فيه دليل على أنه كان في آخر الصلاة". قلت: و هذا صريح في رواية أبي عوانة المشار إليها آنفا , فإنه قال: "ثم سجد , فوضع رأسه بين كفيه , ثم صلى ركعة أخرى , ثم جلس فافترش رجله اليسرى , ثم دعا و وضع كفه اليسرى على ركبته اليسرى , و كفه اليمنى على ركبته اليمنى , و دعا بالسبابة". و إسناده صحيح. و نحوه رواية سفيان (و هو ابن عيينة) , و لفظه: "و إذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى و نصب اليمنى و وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى و نصب إصبعه للدعاء و وضع يده اليسرى على رجله اليسرى". أخرجه النسائي (1/ 173) بسند صحيح , و الحميدي (885) نحوه. قلت: فتبين من هذه الرواية الصحيحة أن التحريك أو الإشارة بالإصبع إنما هو في جلوس التشهد , و أن الجلوس المطلق في بعضها مقيد بجلوس التشهد , هذا هو الذي يقتضيه , الجمع بين الروايات , و قاعدة حمل المطلق على المقيد المقررة في علم أصول الفقه , و لذلك لم يرد عن أحد من السلف القول بالإشارة مطلقا في الصلاة و لا في كل جلوس منها فيما علمت , و مثل ذلك يقال في وضع اليدين على الصدر , إنما هو في القيام الذي قبل الركوع , إعمالا للقاعدة المذكورة. فإن قال قائل: قد روى عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم بن كليب بإسناده المتقدم عن وائل .. فذكر الحديث و الافتراش في جلوسه قال: "ثم أشار بسبابته و وضع الإبهام على الوسطى حلق بها و قبض سائر أصابعه , ثم سجد فكانت يداه حذو أذنيه". فهذا بظاهره يدل على أن الإشارة كانت في الجلوس بين السجدتين , لقوله بعد أن حكى الإشارة: "ثم سجد .. ". فأقول: نعم قد روى ذلك عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 68 - 69) , و رواه عنه الإمام أحمد (4/ 317) و الطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 34 - 35) و زعم الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه عليه: "أنه أخرجه الأربعة إلا الترمذي و البيهقي مفرقا في أبواب شتى". و هو زعم باطل يدل على غفلته عن موجب التحقيق فإن أحد منهم ليس عنده قوله بعد الإشارة: "ثم سجد" , بل هذا مما تفرد به عبد الرزاق عن الثوري , و خالف به محمد بن يوسف الفريابي و كان ملازما للثوري , فلم يذكر السجود المذكور. رواه عنه الطبراني (22/ 33/78). و قد تابعه عبد الله بن الوليد حدثني سفيان ... به. أخرجه أحمد (4/ 318). و ابن الوليد صدوق ربما أخطأ , فروايته بمتابعة الفريابي له أرجح من رواية عبد الرزاق , و لاسيما و قد ذكروا في ترجمته أن له أحاديث استنكرت عليه , أحدها من روايته عن الثوري , فانظر "تهذيب ابن حجر" و " ميزان الذهبي" , فهذه الزيادة من أوهامه. و إن مما يؤكد ذلك , أنه قد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/282)
تابع الثوري في روايته لمحفوظة جمع كثير من الثقات الحفاظ منهم عبد الواحد بن زياد و شعبة و زائدة بن قدامة و بشر بن المفضل و زهير بن معاوية و أبو الأحوص و أبو عوانة و ابن إدريس و سلام بن سليمان و سفيان بن عيينة , و غيرهم , فهؤلاء جميعا لم يذكروا في حديث وائل هذه الزيادة , بل إن بعضهم قد ذكرها قبيل الإشارة , مثل بشر و أبي عوانة و غيرهما , و قد تقدم لفظهما , و بعضهم صرح بأن الإشارة في جلوس التشهد كما سبق. و هذا هو الصحيح الذي أخذ به جماهير العلماء من المحدثين و الفقهاء , و لا أعلم أحدا قال بشرعيتها في الجلوس بين السجدتين , إلا ابن القيم , فإن ظاهر كلامه في "زاد المعاد" مطابق لحديث عبد الرزاق , و لعل ذلك الطالب الجامعي الذي تقدمت الإشارة إليه قلده في ذلك , أو قلد من قلده من العلماء المعاصرين , و قد بينت له و لغيره من الطلاب الذين راجعوني شذوذ رواية عبد الرزاق و وهاءها , و لقد أخبرني أحدهم عن أحد العلماء المعروفين في بعض البلاد العربية أنه يعمل بحديث عبد الرزاق هذا و يحتج به! و ذلك مما يدل على أنه لا اختصاص له بهذا العلم , و هذا مما اضطرني إلى كتابة هذا التخريج و التحقيق , فإن أصبت فمن الله , و إن أخطأت فمن نفسي. سائلا المولى سبحانه و تعالى أن يأخذ بأيدينا و يهدينا إلى الحق الذي اختلف فيه الناس , إنه يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. و الحمد لله رب العالمين.
الإشارة بالإصبع في التشهد فقط
2248 - (كان إذا جلس في الثنتين أو في الأربع يضع يديه على ركبتيه , ثم أشار بإصبعه).
أخرجه النسائي (1/ 173) و البيهقي (2/ 132) من طريقين عن ابن المبارك قال: أنبأنا مخرمة بن بكير حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: فذكره مرفوعا. قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط مسلم و قد أخرجه (2/ 90) من طريق ابن عجلان عن عامر به نحوه بلفظ: "كان إذا قعد يدعو .. " ليس فيه ذكر الثنتين و الأربع و هي فائدة هامة تقضي على بدعة الإشارة بإصبعه في غير التشهد , و لذلك خصصتها بالتخريج بيانا للناس. و رواه أحمد (4/ 3) بلفظ: "كان إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى و يده اليسرى على فخذه اليسرى و أشار بالسبابة و لم يجاوز بصره إشارته". و أخرجه أبو داود و غيره نحوه , و زاد في رواية: "و لا يحركها". و هي زيادة شاذة كما بينته في "ضعيف أبي داود" (175). و خرجت الرواية الأولى في "صحيح أبي داود" (908و909). و في الحديث مشروعية الإشارة بالإصبع في جلسة التشهد , و أما الإشارة في الجلسة التي بين السجدتين التي يفعلها بعضهم اليوم , فلا أصل لها إلا في رواية لعبد الرزاق في حديث وائل بن حجر و هي شاذة كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله بيانا لا تراه في مكان آخر , و الحمد لله على توفيقه , و أسأله المزيد من فضله.
النهى عن عقص الشعر في الصلاة
2386 - (نهى أن يصلي الرجل و هو عاقص شعره).
أخرجه ابن ماجة (1/ 323) و أحمد (6/ 8و391) و الدارمي (1/ 320) نحوه عن مخول قال: سمعت أبا سعد - رجلا من أهل المدينة - يقول: "رأيت أبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الحسن و هو يصلي و قد عقص شعره , فأطلقه , أو نهى عنه , و قال: ... " فذكره.
قوله: "معقوص الشعر": أي: مجموع بعضه إلى بعض كالمضفور و هذا - بالطبع - لمن كان له شعر طويل على عادة العرب قديما , و في بعض البلاد حديثا , فنهى عن ذلك , و أمر بنشره , ليكون سجوده أتم , كما يستفاد من "النهاية" و غيره. و انظر "صفة الصلاة" (ص151 - الطبعة الخامسة).
من هديه صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء
2491 - (كان إذا دعا (يعني: في الاستسقاء) جعل ظاهر كفيه مما يلي وجهه).
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (ق167/ 2 - مكتب2): حدثنا زهير حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن # أنس بن مالك # مرفوعا به.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/283)
قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط مسلم و قد أخرجه (3/ 24) بنحوه من طريق الحسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء". و أخرجه أحمد (3/ 153): حدثنا حسن بن موسى به. ثم أخرجه (3/ 241) عن مؤمل: حدثنا حماد به. ثم قال (3/ 271): حدثنا عفان بلفظ: "إن الناس قالوا: يا رسول الله! هلك المال و أقحطنا , و هلك المال فاستسق لنا , فقام يوم الجمعة و هو على المنبر , فاستسقى - وصف حماد- و بسط يديه حيال صدره و بطن كفيه مما يلي الأرض , و ما في السماء قزعة , فما انصرف حتى أهمت الشاب القوي نفسه أن يرجع إلى أهله , فمطرنا إلى الجمعة الأخرى , فقالوا: يا رسول الله! تهدم البنيان , و انقطع الركبان , ادع الله أن يكشطها عنا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال: اللهم حوالينا لا علينا. فانجابت حتى كانت المدينة كأنها في إكليل". و أخرجه أبو يعلى أيضا (ق 166/ 2): حدثنا زهير: حدثنا عفان به. و أخرجه أبو داود من طريق أخرى عن عفان بموضع الشاهد فقط منه. و تابعه عمر بن نبهان عن قتادة عن أنس به مختصرا بلفظ: "كان يدعو ببطن كفيه , و يقول: هكذا بظهر كفيه". أخرجه أبو يعلى (2/ 264 - 265). و عمر هذا ضعيف.
(فائدة): قد ذهب إلى العمل بالحديث و أفتى به الإمام مالك رحمه الله تعالى كما جاء في "المدونة" لابن القاسم (2/ 158).
استحباب أن يفسح لمن يريد الدخول إلى الصف
2533 - (خياركم ألينكم مناكب في الصلاة , و ما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها)
(فائدة): قال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 334): "قلت: معنى "لين المنكب": لزوم السكينة في الصلاة و الطمأنينة فيها , لا يلتفت و لا يحاك
بمنكبه منكب صاحبه , و قد يكون فيه وجه آخر , و هو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان. بل يمكنه من ذلك , و لا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف , و يتكاتف الجموع".
قلت: هذا المعنى الثاني هو المتبادر من الحديث , و المعنى الأول بعيد كل البعد عن سياقه لمن تأمله. و إن مما يؤيد ذلك لفظ حديث ابن عمر عند أبي داود (666) مرفوعا: "أقيموا الصفوف. و حاذوا بالمناكب و سدوا الخلل و لينوا بأيدي إخوانكم , و لا تذروا فرجات للشيطان , و من وصل صفا وصله الله و من قطع صفا قطعه الله". و إسناده صحيح كما قال النووي , فإنه يوضح أن الأمر باللين إنما هو لسد الفرج , و وصل الصفوف , و لذلك قال أبو داود عقبه: "و معنى" لينوا بأيدي إخوانكم": إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبه حتى يدخل في الصف". و لذلك استدل به النووي في "المجموع" (4/ 301) على أنه "يستحب أن يفسح لمن يريد الدخول إلى الصف .. ". و ليس يخفى على كل محب للسنة عارف بها أن قول الخطابي: "و لا يحاك منكبه بمنكب صاحبه" مخالف لما كان يفعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين يصلون خلفه , و ذلك تنفيذا منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا صفوفكم , فإني أراكم من ورائي". رواه البخاري (725) عن أنس , قال أنس: "و كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه , و قدمه بقدمه". وله شاهد من حديث النعمان بن بشير , و هما مخرجان في "صحيح أبي داود" (668).
و قد أنكر بعض الكاتبين في العصر الحاضر هذا الإلزاق , و زعم أنه هيئة زائدة على الوارد , فيها إيغال في تطبيق السنة! و زعم أن المراد بالإلزاق الحث على سد الخلل لا حقيقة الإلزاق , و هذا تعطيل للأحكام العملية , يشبه تماما تعطيل الصفات الإلهية , بل هذا أسوأ منه لأن الراوي يتحدث عن أمر مشهود رآه بعينه وهو الإلزاق. و مع ذلك قال: ليس المراد حقيقة الإلزاق! فالله المستعان. و أسوأ منه ما صنع مضعف مئات الأحاديث الصحيحة المدعو (حسان عبد المنان) , فإنه تعمد إسقاط رواية البخاري المذكورة عن أنس .. من طبعته لـ"رياض الصالحين" (ص306/ 836) و ليس هذا فقط , بل دلس على القراء , فأحال ما أبقي من حديث البخاري المرفوع إلى البخاري برقم (723) حتى إذا رجع القراء إليه لم يجدوا قول أنس المذكور! و الرقم الصحيح هو المتقدم مني (725) , و له من مثل هذا الكتم للعلم ما لا يعد و لا يحصى , و قد نبهت على شيء من ذلك في غير ما مناسبة , فانظر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/284)
على سبيل المثال الاستدراك رقم (13) من المجلد الأول من هذه السلسلة , الطبعة الجديدة.
إذا أمن الإمام فأمنوا
2534 - (إذا قرأ الإمام: (غير المغضوب عليهم و لا الضالين) , فأمن الإمام فأمنوا , فإن الملائكة تؤمن على دعائه , فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)
أخرجه أبو يعلى (4/ 1408): حدثنا عمرو الناقد أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين , و عمرو هو ابن محمد بن بكير الناقد أبو عثمان البغدادي , ثقة حافظ , احتج به الشيخان و غيرهما. و قد أخرجاه و غيرهما , و هو مخرج في "الإرواء" (344) بلفظ: " إذا أمن الإمام فأمنوا , فإنه من وافق .. " إلخ. و إنما أخرجته بلفظ الترجمة لما فيه من الزيادة , و هي قوله بعد (و لا الضالين): " فأمن الإمام فأمنوا " , فإنها صريحة بأمرين اثنين:
الأول: أن الإمام يؤمن بعد ختمه الفاتحة , و الآخر: أن المأموم يؤمن بعد فراغ الإمام من التأمين. و قد قيل في تفسير رواية الشيخين أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في "الفتح" (2/ 218 - 219) , منها أن معنى قوله: إذا أمن , بلغ موضع التأمين , كما يقال: أنجد إذا بلغ نجدا , و إن لم يبلغها. قال ابن العربي: "هذا بعيد لغة و شرعا".
و قال ابن دقيق العيد: "و هذا مجاز , فإن وجد دليل يرجحه عمل به , و إلا فالأصل عدمه". قال الحافظ: "استدلوا له برواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: إذا قال الإمام: (و لا الضالين) فقولوا: (آمين) , قالوا: فالجمع بين الروايتين يقتضي حمل قوله: إذا أمن على المجاز".
وأقول: يمكن الجمع بطريقة أخرى , و هي أن يؤخذ بالزائد من الروايتين فيضم إلى الأخرى , و هو قوله في رواية سعيد: " إذا أمن الإمام فأمنوا " , فتضم الزيادة إلى رواية أبي صالح فيصير الحديث هكذا: "إذا قال الإمام: (و لا الضالين) آمين , فقولوا آمين". و هذا الجمع أولى من الجمع المذكور , و ذلك لوجوه.
الأول: أنه مطابق لرواية أبي يعلى هذه , الصريحة بذلك. الثاني: أنه موافق للقواعد الحديثية من وجوب الأخذ بالزيادة من الثقة. الثالث: أنه يغنينا عن مخالفة الأصل الذي أشار إليه ابن دقيق العيد. الرابع: أنه على وزن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده , فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد , فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". أخرجه الشيخان و غيرهما من حديث أبي هريرة أيضا. و هو مخرج في " صحيح أبي داود " (794). فكما أن هذا نص في أن المقتدي يقول التحميد بعد تسميع الإمام , فمثله إذا أمن فأمنوا , فهو نص على أن تأمين المقتدي بعد تأمين الإمام. الخامس: أنه هو الموافق لنظام الاقتداء بالإمام المستفاد من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به , فإذا كبر كبروا [و لا تكبروا حتى يكبر] و إذا ركع فاركعوا و إذا قال سمع الله لمن حمده , فقولوا: ... " الحديث. أخرجه الشيخان و غيرهما من حديث عائشة و أبي هريرة و غيرهما , و هو مخرج في المصدر السابق (614و618) , و الزيادة لأبي داود. فكما دل الحديث أن من مقتضى الائتمام بالإمام عدم مقارنته بالتكبير , و ما ذكر معه , فمن ذلك عدم مقارنته بالتأمين. و إخراج التأمين من هذا النظام يحتاج إلى دليل صريح , و هو مفقود , إذ غاية ما عند المخالفين إنما هو حديث أبي صالح المتقدم , و ليس صريحا في ذلك , بل الصحيح أنه محمول على رواية سعيد هذه لاسيما على لفظ أبي يعلى المذكور أعلاه. السادس: أن مقارنة الإمام بالتأمين تحتاج إلى دقة و عناية خاصة من المؤتمين , و إلا وقعوا في مخالفة صريحة و هي مسابقته بالتأمين , و هذا مما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/285)
ابتلي به جماهير المصلين , فقد راقبتهم في جميع البلاد التي طفتها , فوجدتهم يبادرون إلى التأمين , و لما ينته الإمام من قوله: * (و لا الضالين) * , لاسيما إذا كان يمدها ست حركات , و يسكت بقدر ما يتراد إليه نفسه , ثم يقول: آمين فيقع تأمينه بعد تأمينهم! و لا يخفى أن باب سد الذريعة يقتضي ترجيح عدم مشروعية المقارنة خشية المسابقة , و هذا ما دلت عليه الوجوه المتقدمة. و هو الصواب إن شاء الله تعالى , و إن كان القائلون به قلة , فلا يضرنا ذلك , فإن الحق لا يعرف بالرجال , فاعرف الحق تعرف الرجال. ذلك ما اقتضاه التمسك بالأصل بعد النظر و الاعتبار , و هو ما كنت أعمل به و أذكر به مدة من الزمن. ثم رأيت ما أخرجه البيهقي (2/ 59) عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم , فاشترط أن لا يسبقه بـ (الضالين) حتى يعلم أنه دخل الصف , و كان إذا قال مروان: (و لا الضالين) قال أبو هريرة: " آمين " , يمد بها صوته , و قال: إذا وافق تأمين أهل الأرض أهل السماء غفر لهم. و سنده صحيح.
قلت: فهذا صريح في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يؤمن بعد قول الإمام: (و لا الضالين). و لما كان من المقرر أن راوي الحديث أعلم بمرويه من غيره , فقد اعتبرت عمل أبي هريرة هذا تفسيرا لحديث الترجمة , و مبينا أن معنى " إذا أمن الإمام فأمنوا .. " , أي: إذا بلغ موضع التأمين كما تقدم عن الحافظ , و هو و إن كان استبعده ابن العربي , فلابد من الاعتماد عليه لهذا الأثر. و عليه فإني أكرر تنبيه جماهير المصلين بأن ينتبهوا لهذه السنة , و لا يقعوا من أجلها في مسابقة الإمام بالتأمين , بل عليهم أن يتريثوا حتى إذا سمعوا نطقه بألف (آمين) قالوها معه. و الله تعالى نسأل أن يوفقنا لاتباع الحق حيثما كان إنه سميع مجيب. و في هذا الأثر فائدة أخرى و هي جهر المؤتمين بـ (آمين) , و ذلك مما ملت إليه في الكتاب الآخر لمطابقته لأثر آخر صحيح عن ابن الزبير , و حديث لأبي هريرة مرفوع تكلمت على إسناده هناك (956) فراجعه.
تحريم المبادرة إلى صلاة السنة بعد الفريضة دون تكلم أو خروج
2549 - (أحسن ابن الخطاب)
أخرجه أحمد (5/ 368): حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر , فقام رجل يصلي , فرآه عمر , فقال له: اجلس , فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال البخاري , و جهالة الصحابي لا تضر , و هو أبو رمثة كما في رواية أبي داود (1007) من طريق المنهال بن خليفة عن الأزرق بن قيس به نحوه. و المنهال ضعيف. و للحديث شاهد من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم أو يخرج. رواه مسلم و غيره , و هو مخرج في "صحيح أبي داود" (1034).
و الحديث نص صريح في تحريم المبادرة إلى صلاة السنة بعد الفريضة دون تكلم أو خروج , كما يفعله كثير من الأعاجم و بخاصة منهم الأتراك , فإننا نراهم في الحرمين الشريفين لا يكاد الإمام يسلم من الفريضة إلا بادر هؤلاء من هنا و هناك قياما إلى السنة! و في الحديث فائدة أخرى هامة , و هي جواز الصلاة بعد العصر , لأنه لو كان غير جائز , لأنكر ذلك على الرجل أيضا كما هو ظاهر , و هو مطابق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين , و يدل على أن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وسلم , و ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس "محمول على ما إذا كانت الشمس مصفرة , لأحاديث صحت مقيدة بذلك. و قد سبق تخريج بعضها مع الكلام عليها من الناحية الفقهية تحت الحديث (200و314).
السنة أن يقتدي المصلي مع الإمام عن يمينه و حذاءه
2590 - (ما شأني (و في رواية: ما لك) أجعلك حذائي فتخنس؟).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/286)
أخرجه الحاكم (3/ 534) و الرواية الثانية و الزيادة الآتية بين المعقوفتين له , وأحمد (1/ 330) والسياق له عن حاتم بن أبي صغيرة أبي يونس عن عمرو بن دينار أن كريبا أخبره أن ابن عباس قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهو يصلي من آخر الليل] فصليت خلفه , فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه , فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست , فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما انصرف قال لي .. فذكره , فقلت: يا رسول الله! أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك , و أنت رسول الله الذي أعطاك الله , قال: فأعجبته , فدعا الله لي أن يزيدني علما و فهما , زاد أحمد: " قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعته ينفخ , ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله! الصلاة. فقام فصلى ما أعاد وضوءا ".
و قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي , وهو كما قالا , وقال الهيثمي (9/ 284) " رواه أحمد , و رجاله رجال الصحيح " , و الجملة الأخيرة في الدعاء له , قد جاءت من طرق أخرى بأتم منها , و قد سبق ذكرها قبل هذا الحديث.
و فيه فائدة فقهية هامة , قد لا توجد في كثير من الكتب الفقهية , بل في بعضها ما يخالفها , و هي: أن السنة أن يقتدي المصلي مع الإمام عن يمينه و حذاءه , غير متقدم عليه , و لا متأخر عنه , خلافا لما في بعض المذاهب أنه ينبغي أن يتأخر عن الإمام قليلا بحيث يجعل أصابع رجله حذاء عقبي الإمام , أو نحوه , و هذا كما ترى خلاف هذا الحديث الصحيح , وبه عمل بعض السلف , فقد روى الإمام مالك في " موطئه " (1/ 154) عن نافع أنه قال: " قمت وراء عبد الله بن عمر في صلاة من الصلوات و ليس معه أحد غيري , فخالف عبد الله بيده , فجعلني حذاءه".
ثم روى (1/ 169 - 170) عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة , فوجدته يسبح , فقمت وراءه , فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه , فلما جاء (يرفأ) تأخرت فصففنا وراءه. وإسناده صحيح أيضا.
بل قد صح ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم في قصة مرض وفاته حين خرج و أبو بكر الصديق يصلي الناس , فجلس صلى الله عليه وسلم حذاءه عن يساره , (مختصر البخاري/366) , و من تراجم البخاري (57 - باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين). انظر المختصر (10 - كتاب الأذان) والتعليق عليه.
من السنة قول المؤذن في البرد الشديد ونحوه من الاعذار ومن قعد فلا حرج
2605 - (و من قعد فلا حرج. يقوله المؤذن في آخر أذانه في اليوم البارد).
أخرجه ابن أبي شيبة في " المسند " (2/ 5 /2): أخبرنا خالد بن مخلد قال: حدثني سليمان بن بلال قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث (الأصل: بن نعيم بن الحارث) عن نعيم النحام - من بني عدي بن كعب - قال:
نودي بالصبح في يوم بارد و أنا في مرط امرأتي , فقلت: ليت المنادي ينادي و من قعد فلا حرج , فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
(فائدة): في هذا الحديث سنة هامة مهجورة من كافة المؤذنين - مع الأسف - و هي من الأمثلة التي بها يتضح معنى قوله تبارك و تعالى: * (و ما جعل عليكم في الدين من حرج) * , ألا و هي قوله عقب الأذان: " و من قعد فلا حرج " , فهو تخصيص لعموم قوله في الأذان: " حي على الصلاة " المقتضى لوجوب إجابته عمليا بالذهاب إلى المسجد و الصلاة مع جماعة المسلمين إلا في البرد الشديد و نحوه من الأعذار. و في ذلك أحاديث أخرى منها حديث ابن عمر:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن , ثم يقول في أثره:
" ألا صلوا في الرحال ". في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر ". متفق عليه , و لم يذكر بعضهم " في السفر " <2> و هي رواية الشافعي في " الأم " (1/ 76) و قال عقبه:
" و أحب للإمام أن يأمر بهذا إذا فرغ المؤذن من أذانه. و إن قاله في أذانه فلا بأس عليه ".
و حكاه النووي في " المجموع " (3/ 129 - 131) عن الشافعي , و عن جماعة من أتباعه , و ذكر عن إمام الحرمين أنه استبعد قوله: " في أثناء الأذان " , ثم رده بقوله:
" و هذا الذي ليس ببعيد بل هو السنة , فقد ثبت ذلك في حديث ابن عباس أنه قال لمؤذن في يوم مطير - و هو يوم جمعة -:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/287)
" إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله , فلا تقل: حي على الصلاة , قل: صلوا في بيوتكم ". رواه الشيخان ".
قلت: و هو مخرج في " الإرواء " أيضا (554). و نقل الحافظ في " الفتح " (2/ 98) عن النووي بعد أن حكى عنه جواز هذه الزيادة في الأذان و آخره أنه قال: " لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان ". و لم أره في " المجموع ". و الله أعلم.
و اعلم أن في السنة رخصة أخرى , و هي الجمع بين الصلاتين للمطر جمع تقديم , و قد عمل بها السلف , و فصلت القول فيها في غير ما موضع , و من ذلك ما سيأتي تحت الحديث (2837) و هذه الرخصة كالمتممة لما قبلها , فتلك و الناس في بيوتهم , و هذه و هم في المسجد و الأمطار تهطل , فالرخصة الأولى أسقطت عنهم فرضية الصلاة الأولى في المسجد , و الرخصة الأخرى أسقطت عنهم فرضية أداء الصلاة
الأخرى في وقتها , بجمعهم إياها مع الأولى في المسجد. و صدق الله القائل: * (و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *.
السنة أن لا ينحني المأموم للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض
2616 - (كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإذا ركع ركعوا , و إذا قال: " سمع الله لمن حمده " لم يزالوا قياما حتى يروه قد وضع وجهه (و في لفظ: جبهته) في الأرض , ثم يتبعونه)
أخرجه مسلم (2/ 46) و أبو داود (622) و عنه أبو عوانة (2/ 179) و الطبراني في " الأوسط " (2/ 295 / 1 - 2).
و إنما أخرجت الحديث هنا لأمرين:
الأول: أن جماهير المصلين يخلون بما تضمنه من التأخر بالسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض , لا أستثني منهم أحدا حتى من كان منهم حريصا على اتباع السنة , للجهل بها أو الغفلة عنها , إلا من شاء الله , و قليل ما هم.
قال النووي رحمه الله في " شرح مسلم ":
" في الحديث هذا الأدب من آداب الصلاة , و هو أن السنة أن لا ينحني المأموم للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض إلا أن يعلم من حاله أنه لو أخر إلى هذا الحد لرفع الامام من السجود قبل سجوده. قال اصحابنا رحمهم الله تعالى في هذا الحديث وغيره ما يقتضي مجموعه أن السنة للمأموم التأخر عن الإمام قليلا بحيث يشرع في الركن بعد شروعه , و قبل فراغه منه ".
و الآخر: أنني وجدت للحديث مصدرا جديدا لم أكن قد وقفت عليه من قبل , بل كان في حكم المفقود عندي , ألا و هو " المعجم الأوسط " للإمام الطبراني , فأحببت أن أعرف القراء الكرام بذلك بطريق العزو إليه , لعل أحدا منهم ممن يشاركنا في هذا العلم , و يوجد لديه فراغ من الوقت ,يسعى إلى تحقيقه , و إخراجه إلى عالم المطبوعات <1> , فإنه غزير المادة جدا , " فيه كل نفيس و عزيز و منكر " كما قال الذهبي في ترجمته من " التذكرة ".
و قد صورته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة , و منها حصلت على نسخة مصورة على الورق في طريقي إلى الحج السنة الماضية (1399) جزى الله القائمين عليها خيرا.
و أنا الآن في صدد ترقيم أحاديثه , و وضع فهارس له , و قد انتهيت منها و الحمد لله , فكانت أربعة:
1 - فهرس رواتها من الصحابة على الحروف , و عددهم قرابة ستمائة , و بجانب اسم الواحد منهم أرقام أحاديثه , و بذلك يتبين المقل منهم من المكثر.
2 - فهرس أسماء رواة الآثار من الصحابة و غيرهم و عددهم نحو الستين , و بجانب الواحد رقم أثره.
3 - فهرس الآثار , و بجانبها أرقامها , وعددها يزيد على المئتين من أصل نحو عشرة آلاف هي مجموع أحاديث الكتاب , وسائرها مرفوعة.
4 - أسماء شيوخ الطبراني , و عددهم قرابة الثمانمئة , و بجانب اسم أحدهم أرقام أحاديثه , و هي تساعد على معرفة المقل منهم من المكثر , و هو مفيد في غير المشهورين منهم.
اتمام المسافر وراء المقيم
2676 - (تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. يعني إتمام المسافر إذا اقتدى بالمقيم , و إلا فالقصر).
هذه السنة الصحيحة يرويها قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس رضي الله عنه. و يرويه عن قتادة جمع:
الأول: أيوب عنه عن موسى قال: كنا مع ابن عباس بمكة , فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا , و إذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين ? قال: فذكره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/288)
أخرجه أحمد (1/ 216) و السراج في " مسنده " (ق 120/ 1) و الطبراني في " المعجم الأوسط " (1/ 278 / 1 - مصورة الجامعة الإسلامية) و أبو عوانة في " مسنده " (2/ 340) من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي , و الطبراني أيضا (2/ 92 / 2) من طريق الحارث بن عمير كلاهما عن أيوب عنه به , و زاد هو و السراج: " و إن رغمتم " , و قال: " لم يروه عن أيوب إلا الحارث بن عمير و الطفاوي ".
الثاني: شعبة عنه به , و لفظه: قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام ? فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
أخرجه مسلم (2/ 143 - 144) و النسائي (1/ 212) و ابن خزيمة في " صحيحه " (951) و البيهقي (3/ 153) و ابن حبان (4/ 185 / 2744) و أحمد (1/ 290 و 337) و أبو عوانة و الطحاوي (1/ 245) و لفظ البيهقي: " كم أصلي إذا فاتتني الصلاة في المسجد الحرام ? ... ". والباقي مثله.
الثالث: سعيد بن أبي عروبة عنه نحوه. أخرجه مسلم (3/ 144) والنسائي , و أحمد (1/ 369).
الرابع: هشام الدستوائي. قال الطيالسي في " مسنده " (2742): حدثنا هشام عنه به. و لفظه: قلت لابن عباس: إذا لم أدرك الصلاة في المسجد الحرام كم أصلي بـ (البطحاء) ? قال: ركعتين .. إلخ.
وأخرجه أحمد (1/ 226): حدثنا يحيى عن هشام به.
الخامس: همام: أخبرنا قتادة به مثل لفظ هشام. أخرجه أحمد (1/ 290). و قد صرح قتادة بالتحديث عنده في رواية شعبة.
قلت: و في الحديث دلالة صريحة على أن السنة في المسافر إذا اقتدى بمقيم أنه يتم و لا يقصر , و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم , بل حكى الإمام الشافعي في " الأم " (1/ 159) إجماع عامة العلماء على ذلك , و نقله الحافظ ابن حجر عنه في " الفتح " (2/ 465) و أقره , و على ذلك جرى عمل السلف , فروى مالك في " الموطأ " (1/ 164) عن نافع: أن ابن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة , إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها بصلاته.
و في رواية عنه: أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعا , فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين.
و رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (954) من طريق أخرى عن ابن عمر.و أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (1/ 244) من طريق مالك , و من قبله الإمام محمد في " موطئه " (ص 127 - 128) و قال: " و بهذا نأخذ إذا كان الإمام مقيما و الرجل مسافر , و هو قول أبي حنيفة رحمه الله ". و قوله:
" إذا كان الإمام مقيما ... " مفهومه - و مفاهيم المشايخ معتبرة عندهم! - أن الإمام إذا كان مسافر فأتم - كما يفعل بعض الشافعية - , أن المسافر المقتدي خلفه يقصر و لا يتم , و هذا خلاف ما فعله ابن عمر رضي الله عنهما , و تبعه على ذلك غيره من الصحابة , منهم عبد الله بن مسعود - الذي يتبنى الحنفية غالب أقواله - فإنه مع كونه كان ينكر على عثمان رضي الله عنه إتمامه الصلاة في منى , و يعيب ذلك عليه كما في " الصحيحين " , فإنه مع ذلك صلى أربعا كما في " سنن أبي داود " (1960) و " البيهقي " (3/ 144) من طريق معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعا , قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا ?! قال: الخلاف شر.
و هذا يحتمل أنه صلاها أربعا وحده , و يحتمل أنه صلاها خلف عثمان , و رواية البيهقي صريحة في ذلك , فدلالتها على المراد دلالة أولوية , كما لا يخفى على العلماء.
و منهم سلمان الفارسي , فقد روى أبو يعلى الكندي قال: " خرج سلمان في ثلاثة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة , و كان سلمان أسنهم , فأقيمت الصلاة , فقالوا: تقدم يا أبا عبد الله! فقال: ما أنا بالذي أتقدم , أنتم العرب , و منكم النبي صلى الله عليه وسلم , فليتقدم بعضكم , فتقدم بعض القوم , فصلى أربع ركعات , فلما قضى الصلاة , قال سلمان: ما لنا و للمربعة , إنما يكفينا نصف المربعة ". أخرجه عبد الرزاق (4283) و ابن أبي شيبة (2/ 448) و الطحاوي (1/ 242) بإسناد رجاله ثقات , و لولا أن فيه عنعنة أبي إسحاق السبيعي و اختلاطه لصححت إسناده , فسكوت الشيخ عبد الله الغماري عنه في رسالته " الرأي القويم " (ص 30) ليس بجيد , لاسيما و قد جزم بنسبته إلى سلمان في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/289)
رسالته الأخرى " الصبح السافر " (ص 42)!!
هذا و لقد شذ في هذه المسألة ابن حزم كعادته في كثير غيرها , فقد ذهب إلى وجوب قصر المسافر وراء المقيم , واحتج بالأدلة العامة القاضية بأن صلاة المسافر ركعتان , كما جاء في أحاديث كثيرة صحيحة.
و ليس بخاف على أهل العلم أن ذلك لا يفيد فيما نحن فيه , لأن حديث الترجمة يخصص تلك الأحاديث العامة , بمختلف رواياته , بعضها بدلالة
المفهوم , و بعضها بدلالة المنطوق. و لا يجوز ضرب الدليل الخاص بالعام , أو تقديم العام على الخاص , سواء كانا في الكتاب أو في السنة , خلافا لبعض المتمذهبة.
و ليس ذلك من مذهب ابن حزم رحمه الله , فالذي يغلب على الظن أنه لم يستحضر هذا الحديث حين تكلم على هذه المسألة , أو على الأقل لم يطلع على الروايات الدالة على خلافه بدلالة المنطوق , و إلا لم يخالفها إن شاء الله تعالى , و أما رواية مسلم فمن الممكن أن يكون قد اطلع عليها و لكنه لم يرها حجة لدلالتها بطريق المفهوم , و ليس هو حجة عنده خلافا للجمهور , و مذهبهم هو الصواب كما هو مبين في علم الأصول , فإن كان قد اطلع عليها فكان عليه أن يذكرها مع جوابه عنها , ليكون القاريء على بينة من الأمر.
و إن من غرائبه أنه استشهد لما ذهب إليه بما نقله عن عبد الرزاق - و هو في " مصنفه " (2/ 519) - من طريق داود بن أبي عاصم قال: " سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر ? فقال: ركعتان.قلت: كيف ترى و نحن ههنا بمنى ? قال: ويحك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم و آمنت به ? قلت: نعم. قال: فإنه كان يصلي ركعتين. فصل ركعتين إن شئت أو دع ".
قلت: و سنده صحيح , و قال عقبه: " و هذا بيان جلي بأمر ابن عمر المسافر أن يصلي خلف المقيم ركعتين فقط ".
قلت: و هذا فهم عجيب , و اضطراب في الفهم غريب , من مثل هذا الإمام اللبيب , فإنك ترى معي أنه ليس في هذه الرواية ذكر للإمام مطلقا , سواء كان مسافرا أم مقيما. و غاية ما فيه أن ابن أبي عاصم بعد أن سمع من ابن عمر أن الصلاة في السفر ركعتان , أراد أن يستوضح منه عن الصلاة و هم - يعني الحجاج - في منى: هل يقصرون أيضا ? فأجابه بالإيجاب , و أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيها ركعتين.
هذا كل ما يمكن فهمه من هذه الرواية , و هو الذي فهمه من خرجها , فأوردها عبد الرزاق في " باب الصلاة في السفر " في جملة أحاديث و آثار في القصر , و كذلك أورده ابن أبي شيبة في باب " من كان يقصر الصلاة " من " مصنفه " (2/ 451). و داود بن أبي عاصم هذا طائفي مكي , فمن المحتمل أنه عرضت له شبهة من جهة كونه مكيا , و المسافة بينها و بين منى قصيرة , فأجابه ابن عمر بما تقدم , و كأنه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في منى هو و من كان معه من المكيين الحجاج. و الله أعلم.
و إن مما يؤكد خطأ ابن حزم في ذلك الفهم ما سبق ذكره بالسند الصحيح عن ابن عمر أنه كان إذا صلى في مكة و منى لنفسه قصر , و إذا صلى وراء الإمام صلى أربعا.
فلو كان سؤال داود عن صلاة المسافر وراء المقيم , لأفتاه بهذا الذي ارتضاه لنفسه من الإتمام في هذه الحالة , ضرورة أنه لا يعقل أن تخالف فتواه قوله , و يؤيد هذا أنه قد صح عنه أنه أفتى بذلك غيره , فروى عبد الرزاق (2/ 542 / 4381) بسند صحيح عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: أدركت ركعة من صلاة المقيمين و أنا مسافر ? قال: صل بصلاتهم.
أورده في " باب المسافر يدخل في صلاة المقيمين ". و ذكر فيه آثارا أخرى عن بعض التابعين بمعناه , إلا أن بعضهم فصل , فقال في المسافر يدرك ركعة من صلاة المقيمين في الظهر: يزيد إليها ثلاثا , و إن أدركهم جلوسا صلى ركعتين. و لم يرو عن أحد منهم الاقتصار على ركعتين على كل حال كما هو قول ابن حزم!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/290)
و أما ما ذكره من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن عبد الرحمن بن تميم بن حذلم قال: " كان أبي إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة و هو مسافر صلى إليها أخرى , و إذا أدرك ركعتين اجتزأهما " , و قال ابن حزم: " تميم بن حذلم من كبار أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ". قلت: نعم , و لكنه مع شذوذه عن كل الروايات التي أشرت إليها في الباب و ذكرنا بعضها , فإن ابنه عبد الرحمن ليس مشهورا بالرواية , فقد أورده البخاري في " التاريخ " (3/ 1 / 265) و ابن أبي حاتم (2/ 2 / 218) و لم يذكرا فيه جرحا و لا تعديلا , و ذكر ابن أبي حاتم أنه روى عنه أبو إسحاق الهمداني أيضا , و ذكره ابن حبان في " الثقات " (7/ 68) برواية المغيرة. و هذا قال فيه الحافظ في " التقريب ": " كان يدلس ".
و ذكر أيضا من طريق مطر بن فيل عن الشعبي قال: " إذا كان مسافرا فأدرك من صلاة المقيم ركعتين اعتد بهما ". و مطر هذا لا يعرف. و عن شعبة قال: سمعت طاووسا و سألته عن مسافر أدرك من صلاة المقيم ركعتين ? قال: " تجزيانه ". قلت: و هذا صحيح إن سلم إسناده إلى شعبة من علة , فإن ابن حزم لم يسقه لننظر فيه.
و جملة القول أنه إن صح هذا و أمثاله عن طاووس و غيره , فالأخذ بالآثار المخالفة لهم أولى لمطابقتها لحديث الترجمة و أثر ابن عمر و غيره. و الله أعلم.
عقوبة من صلى بغير طهور
2774 - (أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة , فلم يزل يسأل و يدعو حتى صارت جلدة واحدة , فجلد جلدة واحدة , فامتلأ قبره عليه نارا , فلما ارتفع عنه و أفاق قال: على ما جلدتموني ? قالوا: إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور , و مررت على مظلوم فلم تنصره).
أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (4/ 231): حدثنا فهد بن سليمان قال: حدثنا عمرو بن عون الواسطي قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن عاصم عن شقيق عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فذكره.
من فقه الحديث: قال الطحاوي عقبه:
" فيه ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافرا , لأنه لو كان كافرا لكان دعاؤه باطلا لقول الله تعالى: * (و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * "
. و نقله عنه ابن عبد البر في " التمهيد " (4/ 239) و أقره , بل و أيده بتأويل الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة على أن معناها:
" من ترك الصلاة جاحدا لها معاندا مستكبرا غير مقر بفرضها.
و ألزم من قال بكفره بها و قبلها على ظاهرها فيهم أن يكفر القاتل و الشاتم للمسلم , و أن يكفر الزاني و .. و .. إلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث لا يخرج بها العلماء المؤمن من الإسلام , و إن كان بفعل ذلك فاسقا عندهم , فغير نكير أن تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك ".
قلت: و هذا هو الحق , و انظر الحديث الآتي (3054) فإنه نص قاطع.
حكم الصلاة قبل دخول وقتها
2780 - (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر , فقلنا: زالت الشمس , أو لم تزل صلى الظهر ثم ارتحل).
أخرجه الإمام أحمد (3/ 113): حدثنا أبو معاوية حدثنا مسحاج الضبي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح ثلاثي من ثلاثيات أحمد رحمه الله تعالى , و أخرجه أبو داود عن طريق مسدد: حدثنا أبو معاوية به.
و قد أوردته في " صحيح أبي داود " برقم (1087) منذ سنين , ثم وقفت على كلام لابن حبان يصرح فيه بإنكار الحديث , فرأيت أنه لابد من تحقيق الكلام عليه , فأقول:
قال ابن حبان في ترجمة مسحاج بن موسى الضبي من كتابه " الضعفاء " (3/ 32): " روى حديثا واحدا منكرا في تقديم صلاة الظهر قبل الوقت للمسافر - لا يجوز الاحتجاج به "! ثم قال: " سمعت أحمد بن محمد بن الحسين: سمعت الحسن بن عيسى: قلت لابن المبارك: حدثنا أبو نعيم بحديث حسن. قال: ما هو ? قلت: حدثنا أبو نعيم عن مسحاج .. (فذكر الحديث) , فقال ابن المبارك:وما حسن هذا الحديث ?! أنا أقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الزوال وقبل الوقت ?! ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/291)
قلت: و هذا إن صح عن ابن المبارك , فهو عجيب من مثل هذا الإمام , فإن الحديث ليس فيه الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الزوال .. و إنما فيه أن الصحابة أو بعضهم كانوا إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر , يشكون هل زالت الشمس أم لا , و ما ذلك إلا إشارة من أنس إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أول وقتها بعد تحقق دخوله كما أفاده الشيخ السفاريني في " شرح ثلاثيات مسند أحمد " (2/ 196) و نحوه ما في " عون المعبود " (1/ 467):
" أي: لم يتيقن أنس و غيره بزوال الشمس و لا بعدمه , و أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان أعرف الناس للأوقات , فلا يصلي الظهر إلا بعد الزوال , و فيه الدليل إلى مبادرة صلاة الظهر بعد الزوال معا من غير تأخير ".
و قد بوب أبو داود للحديث بقوله: " باب المسافر يصلي و هو يشك في الوقت " , و علق عليه صاحب " العون " فقال: " هل جاء وقت الصلاة أم لا ? فلا اعتبار لشكه ,وإنما الاعتماد في معرفة الأوقات على الإمام , فإن تيقن الإمام بمجيء الوقت, فلا يعتبر بشك بعض الأتباع ". و قوله: " على الإمام " , و أقول: أو على من أنابه الإمام من المؤذنين المؤتمنين الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة , و هم الذين يؤذنون لكل صلاة في وقتها , و قد أصبح هؤلاء في هذا الزمن أندر من الكبريت الأحمر , فقل منهم من يؤذن على التوقيت الشرعي , بل جمهورهم يؤذنون على التوقيت الفلكي المسطر على التقاويم و (الروزنامات) , و هو غير صحيح لمخالفته للواقع , و في هذا اليوم مثلا (السبت 20 محرم سنة 1406) طلعت الشمس من على قمة الجبل في الساعة الخامسة و خمس و أربعين دقيقة , و في تقويم وزارة الأوقاف أنها تطلع في الساعة الخامسة و الدقيقة الثالثة و الثلاثين! هذا و أنا على (جبل هملان) , فما بالك بالنسبة للذين هم في (وسط عمان) ? لا شك أنه يتأخر طلوعها عنهم أكثر من طلوعها على (هملان). و مع الأسف فإنهم يؤذنون للفجر هنا قبل الوقت بفرق يتراوح ما بين عشرين دقيقة إلى ثلاثين , و بناء عليه ففي بعض المساجد يصلون الفجر ثم يخرجون من المسجد و لما يطلع الفجر بعد , و لقد عمت هذه المصيبة كثيرا من البلاد الإسلامية كالكويت و المغرب و الطائف و غيرها , و يؤذنون هنا للمغرب بعد غروب الشمس بفرق 5 - 10 دقائق.
و لما اعتمرت في رمضان السنة الماضية صعدت في المدينة إلى الطابق الأعلى من البناية التي كنت زرت فيها أحد إخواننا لمراقبة غروب الشمس و أنا صائم , فما أذن إلا بعد غروبها بـ (13 دقيقة)! و أما في جدة فقد صعدت بناية هناك يسكن في شقة منها صهر لي , فما كادت الشمس أن تغرب إلا و سمعت الأذان. فحمدت الله على ذلك.
لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة
2786 - (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).
أخرجه الإسماعيلي في " المعجم " (112/ 2) عن شيخه العباس بن أحمد الوشا: حدثنا محمد بن الفرج , و البيهقي في " السنن " (4/ 316) من طريق محمد بن آدم المروزي , كلاهما عن سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي شداد عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبد الله [يعني ابن مسعود رضي الله عنه]: [قوم] عكوف بين دارك و دار أبي موسى لا تغير (و في رواية: لا تنهاهم) ?! و قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره ?! فقال عبد الله: لعلك نسيت و حفظوا , أو أخطأت و أصابوا.
قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين , و قول ابن مسعود ليس نصا في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث , بل لعله خطأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة , لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملا , كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له , و لا دين لمن لا عهد له " و الله أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/292)
ثم رأيت الطحاوي قد أخرج الحديث في " المشكل " (4/ 20) من الوجه المذكور , و ادعى نسخه! و كذلك رواه عبد الرزاق في " المصنف " (4/ 348 / 8016) و عنه الطبراني (9/ 350 / 9511) عن ابن عيينة به إلا أنه لم يصرح برفعه. و رواه سعيد ابن منصور: أخبرنا سفيان بن عيينة به, إلا أنه شك في رفعه و اختصره فقال: .. عن شقيق بن سلمة قال: قال حذيفة لعبدالله بن مسعود: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة , أو قال: مسجد جماعة ".
ذكره عنه ابن حزم في " المحلى " (5/ 195) , ثم رد الحديث بهذا الشك. و هو معذور لأنه لم يقف على رواية الجماعة عن ابن عيينة مرفوعا دون أي شك , و هم:
1 - محمد بن الفرج , عند الإسماعيلي.
2 - محمود بن آدم المروزي , عند البيهقي.
3 - هشام بن عمار , عند الطحاوي. و كلهم ثقات.
قلت: فموافقته للثقتين اللذين قبله دليل على أنه قد حفظه , فلا يضرهم من تردد في رفعه أو أوقفه ,لأن الرفع زيادة من ثقات يجب قبولها. ثم رأيت الفاكهي قد أخرجه في " أخبار مكة " (2/ 149 / 1334): حدثنا سعيد بن عبد الرحمن و محمد بن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان به. إلا أنهما لم يشكا , و هذه فائدة هامة. و هما ثقتان أيضا.
و بالجملة , فاتفاق هؤلاء الثقات الخمسة على رفع الحديث دون أي تردد فيه لبرهان قاطع على أن الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم , و أن تردد سعيد بن منصور في رفعه لا يؤثر في صحته , و لاسيما أن سياق القصة يؤكد ذلك عند إمعان النظر فيها , ذلك لأن حذيفة رضي الله عنه ما كان لينكر بمجرد رأيه على ابن مسعود رضي الله عنه سكوته عن أولئك المعتكفين في المساجد بين الدور , و هو يعلم فضله و فقهه رضي الله عنهما , فلولا أن الحديث عنده مرفوع لما تجرأ على الإنكار عليه بما لا تقوم الحجة به عليه , حتى رواية عبد الرزاق الموقوفة تؤيد ما ذكرته , فإنها بلفظ: " قوم عكوف بين دارك و دار أبي موسى لا تنهاهم! فقال له عبد الله: فلعلهم أصابوا و أخطأت , و حفظوا و نسيت! فقال: حذيفة: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة .. " فذكرها.
ومثلها رواية إبراهيم قال: " جاء حذيفة إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من قومك عكوف بين دارك و دار الأشعري , يعني المسجد! قال عبد الله: و لعلهم أصابوا و أخطأت , فقال حذيفة: أما علمت أنه: لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد. (فذكرها) , و ما أبالي أعتكف فيه أو في سوقكم هذه [و كان الذين اعتكفوا - و عاب عليهم حذيفة - في مسجد الكوفة الأكبر] ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 91) و السياق له , و كذا عبد الرزاق (4/ 347 - 348) و الزيادة له , و عنه الطبراني (9510) و رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن إبراهيم - و هو النخعي - لم يدرك حذيفة. فاحتجاج حذيفة على ابن مسعود بهذه الجملة " لا اعتكاف " يشعر بانها في موضع الحجة عنده والا لم يقل له: (اما علمت ... ) الخ والله أعلم.
و اعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف و صفته كما تراه مبسوطا في " المصنفين " المذكورين و " المحلى " و غيرهما , و ليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: * (و أنتم عاكفون في المساجد) * , و هذا الحديث الصحيح , و الآية عامة , و الحديث خاص , و مقتضى الأصول أن يحمل العام على الخاص , و عليه فالحديث مخصص للآية و مبين لها , و عليه يدل كلام حذيفة و حديثه , و الآثار في ذلك مختلفة أيضا , فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
أخرجه ابن أبي شيبة و ابن حزم بسند صحيح عنه.
ثم رأيت الذهبي قد روى الحديث في " سير أعلام النبلاء " (15/ 80) من طريق محمود بن آدم المروزي: حدثنا سفيان به مرفوعا , و قال: " صحيح غريب عال ". و علق عليه الشيخ شعيب بعد ما عزاه للبيهقي و سعيد بن منصور بقوله: " و قد انفرد حذيفة بتخصيص الاعتكاف في المساجد الثلاثة "! و هذا يبطله قول ابن المسيب المذكور , فتنبه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/293)
على أن قوله هذا يوهم أن الحديث موقوف على حذيفة , و ليس كذلك كما سبق تحقيقه , فلا تغتر بمن لا غيرة له على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف , و الله عز وجل يقول: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *.
هذا , و قد كنت أوردت هذا الحديث في رسالتي " قيام رمضان " (36) و خرجته باختصار , مصرحا بصحة إسناده عن حذيفة رضي الله عنه , و أحلت في تفصيل ذلك إلى هذا الموضع من هذه السلسلة.
ثم جاءني بعد سنين تحرير بتاريخ (13/ 7 / 1413 هـ) - و هذا المجلد تحت الطبع - من أحد إخواننا المحبين في الله و في الغيب المشتغلين بهذا العلم الشريف كما بدا لي من خطابه , و فيه نقد منه لثلاثة أحاديث كنت صححتها في بعض مؤلفاتي منها هذا الحديث , فاهتبلتها فرصة لبيان أنه لم يصب كبد الحقيقة في إعلاله إياه من جميع طرقه , معترفا بأنه كان أديبا في كتابته , لطيفا في نقده , زد على ذلك أنه صرح في آخر رسالته أنه فعل ذلك للاستفادة مني و من بعض إخواني فجزاه الله خيرا على تواضعه , و إحسانه الظن بإخوانه.
جواز الصلاة في اللحاف الذي يتغطى به النائم
2791 - (كانت لحفنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبسها و نصلي فيها).
أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1/ 335 / 563): حدثنا أحمد بن القاسم قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة قال: حدثنا راشد أبو محمد الحماني قال: رأيت أنس بن مالك عليه فرو أحمر فقال: فذكره.
و في الحديث جواز الصلاة في اللحاف الذي يتغطى به النائم. و يشهد له الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي و عليه مرط , و على بعض أزواجه منه و هي حائض , و بعضها مخرج في " صحيح أبي داود " (393 - 394) , و لا يخالفها حديث عائشة فيه (392): " كان لا يصلي في ملاحفنا " لأنه محمول على الورع أو الاحتياط , خشية أن يكون فيها أذى لحديث معاوية رضي الله عنه أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه ? فقالت: " نعم , إذا لم ير فيه أذى ". أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي ,و إسناده صحيح , وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (390).
فرضت الصلاة في مكة ركعتين ركعتين والرد على المخالف
2814 - (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين , فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها غير المغرب , فإنها وتر النهار , و صلاة الصبح لطول قراءتها , و كان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى).
أخرجه الطحاوي في " معاني الآثار " (1/ 241) من طريق مرجى بن رجاء قال: حدثنا داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فذكره.
قلت: و هذا إسناد حسن رجاله ثقات غير مرجى بن رجاء فإنه مختلف فيه و أورده الذهبي في " المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد " , و قال (173/ 319): " علق له البخاري , جائزالحديث ". و قد لخص كلام الأئمة فيه الحافظ , فقال في " التقريب ": " صدوق ربما وهم ".
قلت: قد قام الدليل على أنه قد حفظ و لم يهم , بمتابع له معتبر و شاهد. أما المتابع فهو محبوب بن الحسن: حدثنا داود به. وتابعهما أبو معاوية الضرير - و هو ثقة - في " مسند ابن راهويه " (3/ 933 - 934) لكنه لم يذكر فيه (مسروقا).
و بعضه في " صحيح البخاري " (3935) و " أبي عوانة " (2/ 28) و ابن راهويه (2/ 107 / 31) من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة مختصرا بلفظ: " فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا و تركت صلاة السفر على الأولى ". و هو متفق عليه دون ذكر الهجرة , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " (1082).
و أما الشاهد , ففي " المطالب العالية المسندة " للحافظ ابن حجر (ق 25/ 2): " إسحاق: قلت لأبي أسامة: أحدثكم سعد بن سعيد الأنصاري قال: سمعت السائب ابن يزيد يقول: كانت الصلاة فرضت سجدتين سجدتين: الظهر و العصر , فكانوا يصلون بعد الظهر ركعتين و بعد العصر ركعتين , فكتب عليهم الظهر أربعا و العصر أربعا , فتركوا ذاك حين كتب عليهم , و أقرت صلاة السفر [ركعتين] , و كانت الحضر أربعا ? فأقر به , و قال: نعم ". و قال الحافظ: " هذا حديث حسن ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/294)
(فائدة): دلت الأحاديث المتقدمة على أن صلاة السفر أصل بنفسها , و أنها ليست مقصورة من الرباعية كما يقول بعضهم , فهي في ذلك كصلاة العيدين و نحوها , كما قال عمر رضي الله عنه: " صلاة السفر و صلاة الفطر و صلاة الأضحى و صلاة الجمعة , ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ".
رواه ابن خزيمة و ابن حبان في " صحيحيهما " , و هو مخرج في " إرواء الغليل " (638).
و ذلك هو الذي رجحه الحافظ في " فتح الباري " بعد أن حكى الاختلاف في حكم القصر في السفر , و دليل كل , فقال (1/ 464): " و الذي يظهر لي - و به تجتمع الأدلة السابقة - أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب , ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح , (ثم ذكر حديث محبوب , و فاته متابعة المرجى , و قال:) ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة و هي قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * , و يؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في " شرح المسند ": أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة .. ".
و خالف ما تقدم من التحقيق حديثيا و فقهيا بعض ذوي الأهواء من المعاصرين , و هو الشيخ عبد الله الغماري المعروف بحبه للمخالفة و حب الظهور , و قديما قيل: حب الظهور يقصم الظهور! و الأمثلة على ذلك كثيرة كنت ذكرت بعضها في مقدمة المجلد الثالث من السلسلة الأخرى: " الضعيفة " , و في تضاعيف أحاديثها. و أمامنا الآن هذا المثال الجديد: لقد زعم في رسالته " الصبح السافر " (ص 12) في عنوان له: " فرضت الصلاة أربعا لا اثنتين " , و استدل لذلك - مموها على القراء - بأمور ثلاثة:
الأول: الآية السابقة * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .. ) * , و ذكر أنها نزلت في صلاة الخوف في العهد المدني.
الثاني: أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن المسافر الصيام و شطر الصلاة ". رواه أصحاب السنن و غيرهم , و هو مخرج عندي في " صحيح أبي داود " (2083) و غيره.
الثالث: أنه ساق خمسة أحاديث صريحة في أن قصر الصلاة كان في مكة حين نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم , و صلى به الصلوات الخمس. و الجواب على الترتيب السابق:
1 - أما الآية فقد اعترف هو (ص 20) أنها نزلت بعد الهجرة في السنة الرابعة أو الخامسة , و زاد ذلك بيانا فقال (ص 21): " بل الذي وقع أنه كان بين زيادة صلاة الحضر و قصر صلاة السفر فترة زادت على ثلاث سنوات كما مر "!
قلت: فهو قد هدم بهذا القول الصريح ذلك العنوان , و ما ساقه تحته من الأدلة , و هذا أولها , فإن معنى ذلك أن صلاة الحضر فرضت اثنتين اثنتين , ثم زيدت في المدينة , و هذا يوافق تماما حديث عائشة وبخاصة حديث الترجمة ,وما استظهره الحافظ كما تقدم , ويخالف زعمه أنها فرضت أربعا أربعا في مكة!
2 - الأحاديث التي ذكرها و أشرت إليها , و نقلت إلى القراء واحدا منها , لأن الجواب عنه جواب عنها , و هو في الحقيقة نفس الجواب عن الآية السابقة , لأن الوضع المذكور في الحديث يصح حمله في كل من الاحتمالين أي سواء كانت الزيادة مكية كما يزعم الغماري , أو مدنية
كما يدل عليه ما تقدم من الأحاديث , فقوله (ص 12): " فهذه ثلاثة أحاديث تصرح بأن صلاة المسافر مقصورة من أربع ركعات , لأن معنى وضع شطر الصلاة حط نصفها بعد أن كان إتمامها واجبا عليه ". قلت: فهذا الكلام لا ينافي ما ذكرته , و لادليل فيه يؤيد به انحرافه! 3 - أما الأحاديث الخمسة الصريحة , فهي في الحقيقة أربعة لأن الثالث و الخامس منها مدارهما على الحسن البصري مرسلا , و هي كلها
ضعيفة منكرة , و قد دلس فيها على القراء ما شاء له التدليس , و أوهمهم صحة بعض أسانيدها و صراحة متونها و هو في ذلك غير صادق , و إليك البيان بإيجاز و تفصيل: أما الإيجاز: فهو أن الأحاديث الخمسة منكرة كلها , لضعف أسانيدها و مخالفتها للأحاديث الصحيحة التي لم تذكر تربيع الركعات في الظهر و العصر و العشاء , و بعضها يصرح أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين , فأقرت في السفر و زيدت في الحضر.
رفع الحرج عن الأمة بالجمع الحقيقي لا الصوري ففيه الحرج
2837 - (صنعت هذا لكي لا تحرج أمتي. يعني الجمع بين الصلاتين).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/295)
أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (10/ 269 / 10525): حدثنا إدريس بن عبد الكريم الحداد حدثنا أحمد بن حاتم الطويل حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن عبد الرحمن بن ثروان عن زاذان قال: قال عبد الله بن مسعود: قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأولى و العصر , و بين المغرب و العشاء , فقيل له , فقال: فذكره.
و اعلم أن الشوكاني رحمه الله ذهب إلى أن المقصود بالحديث إنما هو الجمع الصوري , و أطال البحث في ذلك جدا , و تكلف في تأويل الحديث و صرف معناه عن الجمع الحقيقي الثابت صراحة في بعض أحاديث الجمع في السفر. و احتج لذلك بأمور يطول الكلام عليها جدا , و الذي أريد أن ألفت النظر إليه إنما هو أنه لم يتنبه إلى أن قوله: " كي لا يحرج أمته " نص في الجمع الحقيقي , لأن رفع الحرج إنما يعني في الاصطلاح الشرعي رفع الإثم و الحرام (راجع النهاية) كما في أحاديث أخرى , الأصل فيها المؤاخذة لولا الحرج , كمثل ترك صلاة الجمعة و الجماعة من أجل المطر و البرد , كما في حديث ابن عباس لما أمر المؤذن يوم الجمعة أن يقول: " الصلاة في الرحال " , فأنكر ذلك بعضهم ,
فقال: " كأنكم أنكرتم هذا , إن هذا فعله من هو خير مني. يعني النبي صلى الله عليه وسلم , إنها عزمة , إني كرهت أن أحرجكم ". رواه البخاري (616 و 668 و 901) و ابن أبي شيبة (2/ 153) نحوه , ثم روى (2/ 234) الموقوف منه. و حديث نعيم بن النحام قال: " نودي بالصبح في يوم بارد و هو في مرط امرأته , فقال: ليت المنادي نادى: " و من قعد فلا حرج " , فنادى منادي النبي صلى الله
عليه وسلم في آخر أذانه: " و من قعد فلا حرج ". رواه عبد الرزاق في " المصنف " (1/ 501 / 1926) و أحمد (4/ 320) و البيهقي (1/ 398 و 323) و أحد إسناديه صحيح , و صحح الحافظ (2/ 98 - 99) إسناد عبد الرزاق! و قد مضى تخريجه و ما يستفاد منه في هذا المجلد برقم (2605).
و من المعلوم وجوب الحضور لصلاة الجمعة و الجماعة , فإذا ثبت في الشرع أنه لا حرج على من لم يحضر في المطر. كان ذلك حكما جديدا لولاه بقي الحكم السابق على ما كان عليه من العموم و الشمول.
فكذلك نقول: لما كان من المعلوم أيضا وجوب أداء كل صلاة في وقتها المحدد شرعا بفعله صلى الله عليه وسلم , و إمامة جبريل عليه السلام إياه , و قوله: " الوقت بين هذين " , ثم ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين , لرفع الحرج عن أمته صلى الله عليه وسلم , كان ذلك دليلا واضحا على أن جمعه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت , كان جمعا حقيقيا , فحمله على الجمع الصوري و الحالة هذه تعطيل للحديث كما هو ظاهر للمنصف المتأمل , إذ إنه لا حرج في الجمع الصوري أصلا , و لذلك فلم يبالغ الإمام النووي رحمه الله حين قال في حمل الحديث على الجمع الصوري: " إنه باطل , لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ".
و إن مما يؤكد ذلك أمران:
الأول: إن في حديث ابن عباس أن الجمع كان في غير خوف و لا مطر , ففيه إشارة قوية إلى أن جمعه صلى الله عليه وسلم في المطر كان معروفا لدى الحاضرين , فهل كان الجمع في المطر صوريا أيضا ?! اللهم لا. يخبرنا بذلك نافع مولى ابن عمر قال: كانت أمراؤنا إذا كانت ليلة مطيرة أبطأوا بالمغرب , و عجلوا بالعشاء قبل أن يغيب الشفق , فكان ابن عمر يصلي معهم لا يرى بذلك بأسا , قال عبيد الله (هو الراوي عن نافع): و رأيت القاسم و سالما يصليان معهم في مثل تلك الليلة. أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (2/ 234) بسند صحيح غاية.
قلت: فقوله: " قبل أن يغيب الشفق " صريح في أن جمعهم كان جمعا حقيقيا , لأن مغيب الشفق آخر وقت المغرب كما في حديث ابن عمرو عند مسلم (2/ 104 - 105) و غيره , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " (425).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/296)
و الأمر الآخر: أن التعليل المتقدم برفع الحرج قد ثبت أيضا في الجمع في السفر من حديث معاذ: جمع رسول صلى الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر و العصر, و بين المغرب و العشاء. قال أبو الطفيل: فقلت: ما حمله على ذلك ? قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته. أخرجه مسلم , و ابن خزيمة (2/ 81 / 966) و غيرهما , و هو مخرج في " الإرواء " (3/ 31) و في رواية لأبي داود و غيره: أن الجمع كان تقديما تارة , و تأخيرا تارة. و هو مخرج في المصدر المذكور برقم (578) و ثبت نحوه من حديث أنس و غيره , و هو مخرج هناك (579).
قلت: و إذا عرفت ما تقدم تأكدت إن شاء الله أن الصحيح في الجمع المعلل برفع الحرج إنما هو الجمع الحقيقي , لأن الجمع الصوري في أصله لا حرج فيه مطلقا لا في السفر و لا في الحضر و لذلك كان من أدلة الجمهور على الحنفية الذين لا يجيزون الجمع الحقيقي في السفر أيضا أنه ثبت فيه جمع التقديم أيضا , و هو يبطل تأويلهم الجمع بالجمع الصوري كما ثبت في بعض الأحاديث المشار إليها آنفا جمع التأخير بلفظ صريح يبطل أيضا تأويلهم , كحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر , فيجمع بينهما , و يؤخر المغرب حتى يجمع بينها و بين العشاء حين يغيب الشفق. متفق عليه.
و بهذه المناسبة أقول: يبدو لي من تعليل الجمع في حديث ابن عباس برفع الحرج - أنه إنما يجوز الجمع حيث كان الحرج , و إلا فلا , و هذا يختلف باختلاف الأفراد و ظروفهم , و لعل القائلين بجوازه مطلقا من السلف أشاروا إلى ما ذكرته حين اشترطوا أن لا يتخذ ذلك عادة كما تفعل الشيعة. و لا أتصور ذلك إلا لمن كان حريصا على أداء الصلوات في أوقاتها الخمسة , و في المساجد مع الجماعة. و الله سبحانه و تعالى أعلم.
صلاة المودع
2839 - (اذكر الموت في صلاتك , فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته , و صل صلاة رجل لا يظن أن يصلي صلاة غيرها , و إياك و كل أمر يعتذر منه).
(تنبيه): لقد اعتاد بعض الأئمة أن يأمروا المصلين عند اصطفافهم للصلاة ببعض ما جاء في هذا الحديث كقوله: " صلوا صلاة مودع " , فأرى أنه لا بأس في ذلك أحيانا , و أما اتخاذه عادة فمحدثة و بدعة.
سنية رد المصلي السلام ايشارة ونسخه لفظا
2917 - (إنا كنا نرد السلام في صلاتنا , فنهينا عن ذلك).
أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (1/ 263) و البزار في " مسنده " (1/ 268 / 554 - كشف الأستار) و الطبراني في " المعجم الأوسط " (2/ 246 / 1/ 8795) من طرق عن عبد الله بن صالح: حدثني الليث حدثني محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو في الصلاة , فرد النبي صلى الله عليه وسلم بإشارة , فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
من فقه الحديث: و في الحديث دلالة صريحة على أن رد السلام من المصلي لفظا كان مشروعا في أول الإسلام في مكة , ثم نسخ إلى رده بالإشارة في المدينة. و إذا كان ذلك كذلك , ففيه استحباب إلقاء السلام على المصلي , لإقراره صلى الله عليه وسلم ابن مسعود على " إلقائه " , كما أقر على ذلك غيره ممن كانوا يسلمون عليه و هو يصلي , و في ذلك أحاديث كثيرة معروفة من طرق مختلفة , و هي مخرجة في غير ما موضع.
و على ذلك فعلى أنصار السنة التمسك بها , و التلطف في تبليغها و تطبيقها , فإن الناس أعداء لما جهلوا , و لاسيما أهل الأهواء و البدع منهم.
كتاب الزكاة
صدقت الولد عن الوالد
2779 - (احبس عليك مالك. قاله لمن أراد أن يتصدق بحلي أمه و لم توصه).
أخرجه الطبراني (17/ 281 / 773) من طريقين عن وهب بن جرير: حدثني أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي توفيت و تركت حليا و لم توص , فهل ينفعها إن تصدقت عنها ? فقال: فذكره.
من فقه الحديث:
و اعلم أن ظاهر الحديث يدل أنه ليس للولد أن يتصدق عن أمه إذا لم توص.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/297)
و قد جاءت أحاديث صريحة بخلافه , منها حديث ابن عباس: أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله! إن أمي توفيت - و أنا غائب عنها - فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها ? قال: نعم.
و هو مخرج في " أحكام الجنائز " (ص 172) و " صحيح أبي داود " (2566) و في معناه أحاديث أخرى مذكورة هناك.
أقول: فلعل الجمع بينه و بينها أن يحمل على أن الرجل السائل كان فقيرا محتاجا , و لذلك أمره بأن يمسك ماله. و يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يجبه على سؤاله: فهل ينفعها إن تصدقت عنها ? بقوله مثلا: " لا " , و إنما قال له: " احبس عليك مالك " , أي لحاجته إليه. هذا ما بدا لي. و الله أعلم.
أخذه صلى الله عليه وسلم زكاة الحلي وتوزيعه إياها
2978 - (" يا فاطمة! (هي بنت قيس) إن الحق [عز وجل] لم يبق لك شيئا. قاله صلى الله عليه وسلم لها حين قالت: خذ من طوقي الذهبي ما فرض الله).
أخرجه أبو الشيخ في جزئه " انتقاء ابن مردويه " (83/ 30 - طبع الرشد) , قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث حدثنا محمد بن المغيرة حدثنا النعمان حدثنا أبو بكر: أخبرني شعيب بن الحباب عن الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب , فقلت: يا رسول الله! خذ منه الفريضة التي جعل الله فيه. قالت: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثقالا و ثلاثة أرباع مثقال , فوجهه. قالت: فقلت: يا رسول الله! خذ منه الذي جعل الله فيه. قالت: فقسم رسول الله على هذه الأصناف الستة , و على غيرهم , فقال: فذكره. [قالت:] قلت: يا رسول الله! رضيت لنفسي ما رضي الله عز وجل به و رسوله.
قلت: و في الحديث دلالة صريحة على أنه كان معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الزكاة على حلي النساء , و ذلك بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم بها في غير ما حديث صحيح كنت ذكرت بعضها في " آداب الزفاف " , و لذلك جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بطوقها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ زكاتها منه , فليضم هذا الحديث إلى تلك , لعل في ذلك ما يقنع الذين لا يزالون يفتون بعدم وجوب الزكاة على الحلي , فيحرمون بذلك الفقراء من بعض حقهم في أموال زكاة الأغنياء!
و قد يحتج به بعضهم على جواز الذهب المحلق للنساء , و الجواب هو الجواب المذكور في الأحاديث المشار إليها آنفا , فراجعه إن شئت في " الآداب ".
على أن هذا ليس فيه أنها تطوق به , بخلاف بعض تلك الأحاديث , فيحتمل أن فاطمة رضي الله عنها كان قد بلغها الحكمان: النهي عن طوق الذهب , فانتهت منه , و وجوب الزكاة , فبادرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ منه الزكاة , و هذا هو اللائق بها و بدينها رضي الله عنها.
كتاب الصيام
صفة الفجر الذي يوجب الامساك
2031 - (كلوا و اشربوا و لا يهيدنكم الساطع المصعد , فكلوا و اشربوا حتى يعترض لكم الأحمر).
أخرجه أبو داود (1/ 369 - 370) و الترمذي (705) و ابن خزيمة (1930) و الدارقطني (ص 231) من طريق عبد الله بن النعمان السحيمي قال: " أتاني قيس ابن طلق في رمضان في آخر الليل بعدما رفعت يدي من السحور لخوف الصبح , فطلب مني بعض الإدام , فقلت له: "يا عماه! لو كان بقي عليك من الليل شيء لأدخلتك إلى طعام عندي و شراب , قال: عندك؟ فدخل , فقربت إليه ثريدا و لحما و نبيذا , فأكل و شرب و أكرهني فأكلت و شربت , و إني لوجل من الصبح , ثم قال حدثني طلق ابن علي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " فذكره , و السياق للدارقطني.
قوله: (و لا يهيدنكم): أي: لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور , فإنه الصبح الكاذب. و أصل (الهيد): الحركة. "نهاية".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/298)
و اعلم أنه لا منافاة بين وصفه صلى الله عليه وسلم لضوء الفجر الصادق بـ (الأحمر) و وصفه تعالى إياه بقوله: (الخيط الأبيض) لأن المراد -و الله أعلم- بياض مشوب بحمرة أو تارة يكون أبيض و تارة يكون أحمر , يختلف ذلك باختلاف الفصول و المطالع. و قد رأيت ذلك بنفسي مرارا من داري في (جبل هملان) جنوب شرق (عمان) , و مكنني ذلك من التأكد من صحة ما ذكره بعض الغيورين على تصحيح عبادة المسلمين , أن أذان الفجر في بعض البلاد العربية يرفع قبل الفجر الصادق بزمن يتراوح بين العشرين و الثلاثين دقيقة , أي قبل الفجر الكاذب أيضا! و كثيرا ما سمعت إقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصادق , و هم يؤذنون قبلها بنحو نصف ساعة , و على ذلك فقد صلوا سنة الفجر قبل وقتها , و قد يستعجلون بأداء الفريضة أيضا قبل وقتها في شهر رمضان , كما سمعته من إذاعة دمشق و أنا أتسحر رمضان الماضي (1406) و في ذلك تضييق على الناس بالتعجيل بالإمساك عن الطعام و تعريض لصلاة الفجر للبطلان , و ما ذلك إلا بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي و إعراضهم عن التوقيت الشرعي: (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) "فكلوا و اشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" , و هذه ذكرى , (و الذكرى تنفع المؤمنين).
مراقبة غروب الشمس لتعجيل الافطار
2081 - (كان إذا كان صائما أمر رجلا فأوفى على نشز , فإذا قال: قد غابت الشمس أفطر).
أخرجه الحاكم (1/ 434) عن محمد بن أبي صفوان الثقفي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي حازم عن # سهل بن سعد # رضي الله عنه مرفوعا. و قال: "صحيح على شرط الشيخين" , و وافقه الذهبي. و أقول: إنما هو صحيح فقط , فإن الثقفي - و هو محمد بن عثمان بن أبي صفوان - لم يخرج له الشيخان شيئا و من فوقه من رجال الشيخين , لكن ابن مهدي ليس من شيوخهما. قوله: (نشز) أي: مرتفع من الأرض.
قلت: و في الحديث اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالتعجيل بالإفطار بعد أن يتأكد صلى الله عليه وسلم من غروب الشمس , فيأمر من يعلو مكانا مرتفعا , فيخبره بغروب الشمس ليفطر صلى الله عليه وسلم , و ما ذلك منه إلا تحقيقا منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"متفق عليه , و هو مخرج في "الإرواء" (917). و إن من المؤسف حقا أننا نرى الناس اليوم , قد خالفوا السنة , فإن الكثيرين منهم يرون غروب الشمس بأعينهم , و مع ذلك لا يفطرون حتى يسمعوا أذان البلد , جاهلين:
أولا: أنه لا يؤذن فيه على رؤية الغروب , و إنما على التوقيت الفلكي.
و ثانيا: أن البلد الواحد قد يختلف الغروب فيه من موضع إلى آخر بسبب الجبال و الوديان , فرأينا ناسا لا يفطرون و قد رأوا الغروب! و آخرين يفطرون و الشمس بادية لم تغرب لأنهم سمعوا الأذان! و الله المستعان!
لا يجوز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم
2595 - (أما يكفيك في سبيل الله و مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصوم؟!).
أخرجه أحمد (3/ 327): حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين بن واقد عن أبي الزبير قال: سمعت جابرا يقول:
مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقلب ظهره لبطنه , فسأل عنه ? فقالوا: صائم يا نبي الله! فدعاه , فأمره أن يفطر فقال: فذكره.
و هذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
و له طرق أخرى عن جابر بنحوه في " الصحيحين " و غيرهما , و هي مخرجة في " الإرواء " (925).
و في الحديث دلالة ظاهرة على أنه لا يجوز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم , و عليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " و قوله: " أولئك هم العصاة " , و فيما سوى ذلك فهو مخير إن شاء صام و إن شاء أفطر , و هذا خلاصة ما تدل عليه أحاديث الباب , فلا تعارض بينها و الحمد لله.
متى يجوز صوم الفرض بنية النهار
2624 - (أذن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء: من [كان] أكل فليصم بقية يومه [إلى الليل] , و من لم يكن أكل فليصم).
ورد من حديث سلمة بن الأكوع و الربيع بنت معوذ و محمد بن صيفي و هند بن أسماء و أبي هريرة و عبد الله بن عباس و رجال لم يسموا من أسلم و معبد القرشي و محمد بن سيرين مرسلا.
. من فقه الحديث. في هذا الحديث فائدتان هامتان:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/299)
الأولى: أن صوم يوم عاشوراء كان في أول الأمر فرضا , و ذلك ظاهر في الاهتمام به الوارد فيه , و المتمثل في إعلان الأمر بصيامه , و الإمساك عن الطعام لمن كان أكل فيه , و أمره بصيام بقية يومه , فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد الفطر كما قال ابن القيم رحمه الله في " تهذيب السنن " (3/ 327). و هناك أحاديث أخرى تؤكد أنه كان فرضا , و أنه لما فرض صيام شهر رمضان كان هو الفريضة كما في حديث عائشة عند الشيخين و غيرهما , و هو مخرج في " صحيح أبي داود " برقم (2110).
و الأخرى: أن من وجب عليه الصوم نهارا , كالمجنون يفيق , و الصبي يحتلم , و الكافر يسلم , و كمن بلغه الخبر بأن هلال رمضان رؤي البارحة , فهؤلاء يجزيهم النية من النهار حين الوجوب , و لو بعد أن أكلوا أو شربوا , فتكون هذه الحالة مستثناة من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " , و هو حديث صحيح كما حققته في " صحيح أبي داود " (2118).
و إلى هذا الذي أفاده حديث الترجمة ذهب ابن حزم و ابن تيمية و الشوكاني و غيرهم من المحققين.
فإن قيل: الحديث ورد في صوم عاشوراء و الدعوى أعم.
قلت: نعم , و ذلك بجامع الاشتراك في الفريضة , ألست ترى أن الحنفية استدلوا به على جواز صوم رمضان بنية من النهار , مع إمكان النية في الليل طبقا لحديث أبي داود , فالاستدلال به لما قلنا أولى كما لا يخفى على أولي النهى.
و لذلك قال المحقق أبو الحسن السندي في حاشيته على " ابن ماجه " (1/ 528 - 529) ما مختصره: " الأحاديث دالة على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا , من جملتها هذا الحديث , فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض. نعم الافتراض منسوخ بالاتفاق و شهادة الأحاديث على النسخ.
و استدل به على جواز صوم الفرض بنية من النهار , لا يقال صوم عاشوراء منسوخ فلا يصح الاستدلال به. لأنا نقول: دل الحديث على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء.
و الثاني: أن الصوم واجب في يوم بنية من نهار , و المنسوخ هو الأول , و لا يلزم من نسخه نسخ الثاني , و لا دليل على نسخه أيضا.
بقي فيه بحث: و هو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوما من الليل , و إنما علم من النهار , و حينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقهم ضروريا , كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك , فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة " أهـ.
قلت: و هذا هو الحق الذي به تجتمع النصوص , و هو خلاصة ما قال ابن حزم رحمه الله في " المحلى " (6/ 166) و قال عقبه:
" و به قال جماعة من السلف كما روينا من طريق ... عبد الكريم الجزري أن قوما شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس , فقال عمر بن عبد العزيز: من أكل فليمسك عن الطعام , و من لم يأكل فليصم بقية يومه ".
قلت: و أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 69) و سنده صحيح على شرط الشيخين.
و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية , فقال في " الاختيارات العلمية " (4/ 63 - الكردي):
" و يصح صوم الفرض بنية النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل , كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار , فإنه يتم بقية يومه و لا يلزمه قضاء و إن كان أكل "
و تبعه على ذلك المحقق ابن القيم , و الشوكاني , فمن شاء زيادة بيان و تفصيل فليراجع " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (25/ 109 و 117 - 118) و " زاد المعاد " لابن القيم (1/ 235) و " تهذيب السنن " له (3/ 328) و " نيل الأوطار " للشوكاني (4/ 167).
و إذا تبين ما ذكرنا , فإنه تزول مشكلة كبرى من مشاكل المسلمين اليوم , ألا و هي اختلافهم في إثبات هلال رمضان بسبب اختلاف المطالع , فإن من المعلوم أن الهلال حين يرى في مكان فليس من الممكن أن يرى في كل مكان , كما إذا رؤي في المغرب فإنه لا يمكن أن يرى في المشرق , و إذا كان الراجح عند العلماء أن حديث " صوموا لرؤيته ... " إنما هو على عمومه , و أنه لا يصح تقييده باختلاف المطالع , لأن هذه المطالع غير محدودة و لا معينة , لا شرعا و لا قدرا , فالتقييد بمثله لا يصح , و بناء على ذلك فمن الممكن اليوم تبليغ الرؤية إلى كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة و نحوها , و حينئذ فعلى كل من بلغته الرؤية أن يصوم , و لو بلغته قبل غروب الشمس بقليل , و لا قضاء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/300)
عليه , لأنه قد قام بالواجب في حدود استطاعته , و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها , و الأمر بالقضاء لم يثبت كما سبقت الإشارة إليه , و نرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم و يوم فطرهم , كما يوحدون يوم حجهم , و لريثما يتفقون على ذلك , فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم , فبعضهم يصوم مع دولته , و بعضهم مع الدولة الأخرى , و ذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول. و الله تعالى ولي التوفيق.
سنة أهملها كثيرا من الصائمين
2840 - (كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن رطبات فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء).
أخرجه الإمام أحمد , و غيره من أصحاب السنن بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه. و حسنه الترمذي , و صححه الحاكم و الذهبي و الضياء في " المختارة ". و قد خرجته مفصلا في " الإرواء " (4/ 45 - 51) و " صحيح أبي داود " (2040).
و الغرض من ذكري للحديث مع الإيجاز في التخريج إنما هو التذكير بهذه السنة التي أهملها أكثر الصائمين , و بخاصة في الدعوات العامة التي يهيأ فيها ما لذ و طاب من الطعام و الشراب , أما الرطب أو التمر على الأقل فليس له ذكر. و أنكر من ذلك , إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء! فطوبى لمن كان من * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب) * (الزمر: 18).
الصيام في السفر
2884 - (أي ذلك عليك أيسر فافعل. يعني إفطار رمضان أو صيامه في السفر).
أخرجه تمام في " الفوائد " (ق 161/ 1): أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن فضالة ابن غيلان بن الحسين السوسي الحمصي الصفار: حدثنا أبو عبد الله بحر بن نصر حدثنا ابن وهب حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمران ابن أبي أنس حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن حمزة بن عمرو: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال: فذكره.
و إنما آثرت تخريج هذا اللفظ هنا لعزة مصدره أولا , و لتضمنه سبب ترخيصه صلى الله عليه وسلم و تخييره للمسافر بالصوم أو الإفطار ثانيا , و هو التيسير , و الناس يختلفون في ذلك كل الاختلاف كما هو مشاهد و معلوم من تباين قدراتهم و طبائعهم , فبعضهم الأيسر له أن يصوم مع الناس, و لا يقضي حين يكونون مفطرين , و بعضهم لا يهمه ذلك فيفطر ترخصا ثم يقضي , فصلى الله على النبي الأمي الذي أنزل عليه: * (يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر) *.
كتاب الحج
كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا و راجعا
2072 - (كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا و راجعا).
رواه الترمذي (1/ 170) قال: حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا ابن نمير عن عبيدالله عن نافع عن # ابن عمر # أن النبي صلى الله عليه وسلم ... وقال: "هذا حديث حسن صحيح". قلت: و إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(فائدة): قال الترمذي عقب الحديث: " و العمل على هذا عند أكثر أهل العلم , و قال بعضهم: يركب يوم النحر و يمشي في الأيام التي بعد يوم النحر , (قال أبو عيسى) و كأنه من قال هذا إنما أراد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله , لأنه إنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ركب يوم النحر حيث ذهب يرمي الجمار , و لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة ". قلت: رميه صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة راكبا هو في حديث جابر الطويل في "حجة النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية مسلم و غيره (ص82 - الطبعة الثانية) و لذلك فحديث ابن عمر يفسر على أنه أراد الجمار في غير يوم النحر توفيقا بينه و بين حديث جابر. والله أعلم. ثم رأيت ما يؤيد ذلك من رواية عبد الله بن عمر عن نافع بلفظ: "عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا و راجعا , و يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك". أخرجه أبو داود (1969) و أحمد (2/ 156). و في رواية له (2/ 114و138): "كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر , و كان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا و راجعا , و زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا و راجعا". و رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عمر و هو المكبر أخو عبيد الله بن عمر المصغر الذي في الطريق الأولى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/301)
, و هو سيء الحفظ , لكن موافقته لأخيه في بعضه , و لحديث جابر في بعضه الآخر , دليل على أنه قد حفظ و الله أعلم.
التقاط الجمرات من منى لا المزدلفة
2144 - (عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة).
أخرجه مسلم (4/ 71) و النسائي (2/ 49) و البيهقي (5/ 127) و أحمد (1/ 210و213) عن أبي الزبير عن أبي معبد عن عبد الله بن عباس عن الفضل ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس حين دفعوا عشية عرفة و غداة جمع: "عليكم بالسكينة" , و هو كاف ناقته حتى إذا دخل منى فهبط حين هبط محسرا قال: فذكره. قال: و النبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان. و صرح أبو الزبير بالتحديث في رواية لأحمد و غيره.
(فائدة): ترجم النسائي لهذا الحديث بقوله: "من أين يلتقط الحصى؟ " , فأشار بذلك إلى أن الالتقاط يكون من منى , و الحديث صريح في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم به حين هبط محسرا , و هو من منى كما في رواية مسلم و البيهقي و عليه يدل ظاهر حديث ابن عباس قال: قال لي رسول الله غداة العقبة و هو على راحلته: هات القط لي , فلقطت له حصيات هن حصى الخذف , فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء , و إياكم و الغلو في الدين , فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. أخرجه النسائي و البيهقي و أحمد (1/ 215و247) بسند صحيح و وجه دلالته إنما هو قوله: " غداة العقبة " , فإنه يعني غداة رمي جمرة العقبة الكبرى , و ظاهره أن الأمر بالالتقاط كان في منى قريبا من الجمرة , فما يفعله الناس اليوم من التقاط الحصيات في المزدلفة مما لا نعرف له أصلا في السنة , بل هو مخالف لهذين الحديثين على ما فيه من التكلف و التحمل بدون فائدة!
وجوب الرمل على أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم
2573 - (ارملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم).
أخرجه أحمد (1/ 373): حدثنا روح حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن أيوب بن جبير عن # ابن عباس #: أن قريشا قالت: إن محمدا و أصحابه قد وهنتهم حمى يثرب , فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي اعتمر فيه قال لأصحابه: فذكره , فلما رملوا قالت قريش: ما وهنتهم. هذا سند صحيح على شرط مسلم. و قد علقه البخاري في " صحيحه " (5/ 86) عن حماد بن سلمة به نحوه , و تابعه حماد بن زيد عن أيوب به نحوه , و لفظه: " و أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط , و يمشوا ما بين الركنين ليري المشركين جلدهم , فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم , هؤلاء أجلد من كذا و كذا! ". و في " المسند " (1/ 305) طريق آخر رواه عن أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل (مر الظهران) في عمرته بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف! فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه و حسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم و بنا جمامة , قال: " لا تفعلوا و لكن اجمعوا إلي من أزوادكم " , فجمعوا له و بسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تولوا <1> , و حثا كل واحد منهم في جراب , ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد - و قعدت قريش نحو الحجر - فاضطبع بردائه ثم قال: " لا يرى القوم فيكم غمزة " , فاستلم الركن ثم دخل حتى إذا تغيب عن الركن اليماني مشى إلى الركن الأسود , فقالت قريش: ما يرضون بالمشي , إنهم لينقزون نقز الظباء , ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة , قال أبو الطفيل: و أخبرني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. و سنده صحيح على شرط مسلم أيضا. و أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (3/ 3 / 1) من الوجهين. و رواه مسلم (4/ 64) من طريق الجريري عن أبي الطفيل نحوه. و هو مخرج في " الإرواء " (4/ 315). ثم روى من طريق عطاء عن ابن عباس قال: " إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم و رمل بالبيت ليري المشركين قوته ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/302)
(فائدة): قد يقول قائل: إذا كان علة شرعية الرمل إنما هي إراءة المشركين قوة المسلمين , أفلا يقال: قد زالت العلة فيزول شرعية الرمل ?و الجواب: لا , لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمل بعد ذلك في حجة الوداع كما جاء في حديث جابر الطويل و غيره مثل حديث ابن عباس هذا في رواية أبي الطفيل المتقدمة. و لذلك قال ابن حبان في " صحيحه " (6/ 47 - الإحسان): " فارتفعت هذه العلة , و بقي الرمل فرضا على أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ".
أمره صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج الى العمرة
2593 - (أما شعرت أني أمرتهم بأمر فهم يترددون , و لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي و لا اشتريته حتى أحل كما حلوا).
أخرجه إسحاق ابن راهويه في " مسنده " (4/ 126 / 2): أخبرنا النضر و وهب قالا: حدثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن علي بن حسين عن ذكوان مولى عائشة عن عائشة قالت:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع ليال خلون أو خمس من ذي الحجة في حجته و هو غضبان , فقلت: يا رسول الله من أغضبك أدخله الله النار ?! فقال: فذكره.
قلت: و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين , و قد أخرجه مسلم (4/ 33 - 34) و أحمد (6/ 175) و البيهقي (5/ 19) من طرق أخرى عن شعبة به.
قلت: و هذا الحديث مثل أحاديث كثيرة ذكرها ابن القيم في " زاد المعاد " , فيها كلها أمره صلى الله عليه وسلم المفردين و القارنين الذين لم يسوقوا الهدي بفسخ الحج إلى العمرة , و آثرت هذا منها بالذكر ههنا لعزة مخرجه الأول: " مسند إسحاق " , و حكاية عائشة غضبه صلى الله عليه وسلم بسبب تردد أصحابه في تنفيذ الأمر بالفسخ , علما أن ترددهم رضي الله عنهم لم يكن عن عصيان منهم , فإن ذلك ليس من عادتهم , و إنما هو كما قال راويه الحكم عند أحمد و غيره: " كأنهم هابوا " ,و ذلك لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعرفون العمرة في أيام الحج كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة , هذا من جهة. و من جهة أخرى: أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل معهم , فظنوا أن في الأمر سعة فترددوا , فلما عرفوا منه السبب و أكد لهم الأمر بادروا إلى تنفيذه رضي الله عنهم.
و إذا كان الأمر كذلك فما بال كثير من المسلمين اليوم - و فيهم بعض الخاصة - لا يتمتعون , و قد عرفوا ما لم يكن قد عرفه أولئك الأصحاب الكرام في أول الأمر , و من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأحاديث: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " , ألا يخشون أن تصيبهم دعوة عائشة رضي الله عنها؟!
عمرة التنعيم
2626 - (" أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم , فإذا هبطت الأكمة فمرها فلتحرم , فإنها عمرة متقبلة).
أخرجه الحاكم (3/ 477) من طريق داود بن عبد الرحمن العطار: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: فذكره. و سكت عنه. و قال الذهبي: " قلت: سنده قوي ". قلت: و قد أخرجه أحمد أيضا (1/ 198): حدثنا داود بن مهران الدباغ: حدثنا داود - يعني العطار - به. و أخرجه أبو داود أيضا و غيره و هو في " صحيح أبي داود " برقم (1569).
و قد أخرجه البخاري (3/ 478) و مسلم (4/ 35) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكر مختصرا. و كذلك أخرجاه من حديث عائشة نفسها , و في رواية لهما عنها قالت: فاعتمرت , فقال:" هذه مكان عمرتك ".
و في أخرى: بنحوه قال: " مكان عمرتي التي أدركني الحج و لم أحصل منها ". و في أخرى: " مكان عمرتي التي أمسكت عنها ".
و في أخرى: " جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا ". رواها مسلم.
و في ذلك إشارة إلى سبب أمره صلى الله عليه وسلم لها بهذه العمرة بعد الحج. و بيان ذلك: أنها كانت أهلت بالعمرة في حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم , إما ابتداء أو فسخا للحج إلى العمرة (على الخلاف المعروف) , فلما قدمت (سرف). مكان قريب من مكة - , حاضت , فلم تتمكن من إتمام عمرتها و التحلل منها بالطواف حول البيت , لقوله صلى الله عليه وسلم لها - و قد قالت له: إني كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي ? قال: - " انقضي رأسك و امتشطي و أمسكي عن العمرة و أهلي بالحج , و اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/303)
و لا تصلي حتى تطهري. (و في رواية: فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها) " , ففعلت , و وقفت المواقف , حتى إذا طهرت طافت بالكعبة و الصفا و المروة , و قال لها صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر:
" قد حللت من حجك و عمرتك جميعا " , فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت , و ذلك يوم النفر , فأبت , و قالت: أيرجع الناس بأجرين و أرجع بأجر؟ و في رواية عنها: يصدر الناس بنسكين و أصدر بنسك واحد؟ و في أخرى: يرجع الناس (و عند أحمد (6/ 219): صواحبي , و في أخرى له (6/ 165 و 266): نساؤك) بعمرة و حجة , و أرجع أنا بحجة ? و كان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه , فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن , فأهلت بعمرة من التنعيم.
فقد تبين مما ذكرنا من هذه الروايات - و كلها صحيحة - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها بالعمرة عقب الحج بديل ما فاتها من عمرة التمتع بسبب حيضها , و لذلك قال العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: " هذه مكان عمرتك " أي: العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة , ثم أنشأوا الحج مفردا.
إذا عرفت هذا , ظهر لك جليا أن هذه العمرة خاصة بالحائض التي لم تتمكن من إتمام عمرة الحج , فلا تشرع لغيرها من النساء الطاهرات , فضلا عن الرجال. و من هنا يظهر السر في إعراض السلف عنها , و تصريح بعضهم بكراهتها , بل إن عائشة نفسها لم يصح عنها العمل بها , فقد كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة , كما في " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (26/ 92).
و قد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 344) بمعناه عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة. و إسناده صحيح.
و أما ما رواه مسلم (4/ 36) من طريق مطر: قال أبو الزبير:
فكانت عائشة إذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم. ففي ثبوته نظر , لأن مطرا هذا هو الوراق فيه ضعف من قبل حفظه , لاسيما و قد خالفه الليث بن سعد و ابن جريج كلاهما عن أبي الزبير عن جابر بقصة عائشة , و لم يذكرا فيها هذا الذي رواه مطر , فهو شاذ أو منكر , فإن صح ذلك فينبغي أن يحمل على ما رواه سعيد بن المسيب , و لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص 119): " يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع , و ذلك بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم , و لا أصحابه على عهده , لا في رمضان و لا في غيره , و لم يأمر عائشة بها , بل أذن لها بعد المراجعة تطييبا لقلبها , و طوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقا , و يخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز ".
و هذا خلاصة ما جاء في بعض أجوبته المذكورة في " مجموع الفتاوى " (26/ 252 - 263) , ثم قال (26/ 264): " و لهذا كان السلف و الأئمة ينهون عن ذلك , فروى سعيد بن منصور في " سننه " عن طاووس - أجل أصحاب ابن عباس - قال: " الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت , و يخرج إلى أربعة أميال و يجيء , و إلى أن يجيء من أربعة أميال [يكون] قد طاف مائتي طواف , و كلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء ".
و أقره الإمام أحمد. و قال عطاء بن السائب: " اعتمرنا بعد الحج , فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وقد أجازها آخرون , لكن لم يفعلوها ... ".
و قال ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " (1/ 243): " و لم يكن صلى الله عليه وسلم في عمره عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم , و إنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة , و قد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة , لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا , فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها فهي عمرة الداخل إلى مكة , لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر , ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه , لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت , فأمرها فأدخلت الحج على العمرة و صارت قارنة , وأخبرها أن طوافها بالبيت و بين الصفا و المروة قد وقع عن حجتها و عمرتها , فوجدت في نفسها أن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/304)
ترجع صواحباتها بحج و عمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات و لم يحضن و لم يقرن , و ترجع هي بعمرة في ضمن حجتها , فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها , و لم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة و لا أحد ممن كان معه " أهـ.
قلت: و قد يشكل على نفيه في آخر كلامه , ما في رواية للبخاري (3/ 483 - 484) من طريق أبي نعيم: حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة , فذكر القصة - , و فيه: " فدعا عبد الرحمن فقال: اخرج بأختك الحرم فلتهل بعمرة , ثم افرغا من طوافكما ". لكن أخرجه مسلم (4/ 31 - 32) من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح به , إلا أنه لم يذكر: " ثم افرغا من طوافكما ".
و إنما قال: " ثم لتطف بالبيت ". فأخشى أن يكون تثنية الطواف خطأ من أبي نعيم , فقد وجدت له مخالفا آخر عند أبي داود (1/ 313 - 314) من رواية خالد - و هو الحذاء - عن أفلح به نحو رواية مسلم , فهذه التثنية شاذة في نقدي لمخالفة أبي نعيم و تفرده بها دون إسحاق بن سليمان و خالد الحذاء و هما ثقتان حجتان. ثم وجدت لهما متابعا آخر و هو أبو بكر الحنفي عند البخاري (3/ 328) و أبي داود.
و يؤيد ذلك أنها لم ترد لفظا و لا معنى في شيء من طرق الحديث عن عائشة , و ما أكثرها في " مسند أحمد " (6/ 43 و 78 و 113 و 122 و 124 و 163 و 165 و 177 و 191 و 219 و 233 و 245 و 266 و 273) و بعضها في " صحيح البخاري " (3/ 297 و 324 و 464 و 477 - 478 و 482 و 4/ 99 و 8/ 84) و مسلم (4/ 27 - 34) و كذا لم ترد في حديث جابر عند البخاري (3/ 478 - 480) و مسلم (4/ 35 - 36) و أحمد (3/ 309 و 366) و كذلك لم ترد في حديث الترجمة لا من الوجه المذكور أولا , و لا من الطريق الأخرى عند الشيخين و غيرهما.
نعم في رواية لأحمد (1/ 198) من طريق ابن أبي نجيح أن أباه حدثه أنه أخبره من سمع عبد الرحمن بن أبي بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره نحوه.
إلا أنه قال: " فأهلا و أقبلا , و ذلك ليلة الصدر " , لكن الواسطة بين أبي نجيح و عبد الرحمن لم يسم , فهو مجهول , فزيادته منكرة , و إن سكت الحافظ في " الفتح " (3/ 479) على زيادته التي في آخره: " و ذلك ليلة الصدر " , و لعل ذلك لشواهدها. و الله أعلم.
و جملة القول أنه لا يوجد ما ينفي قول ابن القيم المتقدم أنه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة , و لذلك لما نقل كلامه مختصرا الحافظ في " الفتح " لم يتعقبه إلا بقوله (3/ 478): " و بعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته "!
و من تأمل ما سقناه من الروايات الصحيحة , و ما فيها من بيان سبب أمره صلى الله عليه وسلم إياها بذلك تجلى له يقينا أنه ليس فيه تشريع عام لجميع الحجاج , و لو كان كما توهم الحافظ لبادر الصحابة إلى الإتيان بهذه العمرة في حجته صلى الله عليه وسلم و بعدها , فعدم تعبدهم بها , مع كراهة من نص على كراهتها من السلف كما تقدم لأكبر دليل على عدم شرعيتها. اللهم إلا من أصابها ما أصاب السيدة عائشة رضي الله عنها من المانع من إتمام عمرتها. و الله تعالى ولي التوفيق.
و إن مما ينبغي التنبه له أن قول ابن القيم المتقدم: " إنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة " , لا ينافيه اعتماره صلى الله عليه وسلم من (الجعرانة) , كما توهم البعض لأنها كانت مرجعه من الطائف , فنزلها , ثم قسم غنائم حنين بها , ثم اعتمر منها.
كتاب المرأة والنكاح وما يتعلق به و تربية الأولاد
جواز الطلاق دون تدخل القاضي
2007 - (كان طلق حفصة , ثم راجعها).
(فائدة): دل الحديث على جواز تطليق الرجل لزوجته و لو أنها كانت صوامة قوامة و لا يكون ذلك بطبيعة الحال إلا لعدم تمازجها و تطاوعها معه , و قد يكون هناك أمور داخلية لا يمكن لغيرها الاطلاع عليها , و لذلك , فإن ربط الطلاق بموافقة القاضي من أسوأ و أسخف ما يسمع به في هذا الزمان! الذي يلهج به كثير من حكامه و قضاته و خطبائه بحديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " و هو حديث ضعيف كما بينته في غير ما موضع مثل " إرواء الغليل " (رقم 2040).
لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله
2444 - (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/305)
أخرجه أبو داود (1/ 321) و الحاكم (2/ 166و193) و أحمد (2/ 324) عن عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا.
و في رواية للحاكم من طريق حبيب المعلم , قال: جاء رجل من أهل الكوفة إلى عمرو بن شعيب , فقال: ألا تعجب أن الحسن يقول: الزاني المجلود لا ينكح إلا مجلودة مثله؟ فقال عمرو: و ما يعجبك؟ حدثناه سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم و كان عبد الله بن عمرو ينادي بهذا". و قال: "صحيح الإسناد" و وافقه الذهبي و هو كما قالا.
قوله: "المجلود" قال الشوكاني (6/ 124): هذا الوصف خرج مخرج الغالب , باعتبار من ظهر منه الزنى. و فيه دليل على أنه لا يحل للمرأة أن تتزوج من ظهر منه الزنى و كذلك لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنى و يدل على ذلك قوله تعالى: (و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك).
بيان ما يأخذ الأب من مال ابنه
2564 - (إن أولادكم هبة الله لكم (يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور) , فهم و أموالهم لكم إذا احتجتم إليها)
و في الحديث فائدة فقهية هامة قد لا تجدها في غيره , و هي أنه يبين أن الحديث المشهور: "أنت و مالك لأبيك" (الإرواء838) ليس على إطلاقه , بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء , كلا , و إنما يأخذ ما هو بحاجة إليه.
العلم في البيوت أولى للنساء من المساجد
2680 - (ما من امرأة تقدم ثلاثا من الولد تحتسبهن إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهن: أو اثنان ? قال: أو اثنان).
أخرجه الإمام أحمد (2/ 246): حدثنا سفيان حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: جاء نسوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله! ما نقدر عليك في مجلسك من الرجال , فواعدنا منك يوما نأتيك فيه. قال " موعدكن بيت فلان ". و أتاهن في ذلك اليوم , و لذلك الموعد. قال: فكان مما قال لهن , يعني: فذكره.
و فيه فوائد كثيرة , أذكر بعضها:
1 - أن من مات له ولدان دخل الجنة و حجباه من النار , وليس ذلك خاصا بالإناث آباء و أولادا , لأحاديث أخرى كثيرة تعم الجنسين , و تجد جملة طيبة منها في " الترغيب و الترهيب " (3/ 89 - 91) و يأتي بعد هذا أحدها.
2 - فيه فضل نساء الصحابة و ما كن عليه من الحرص على تعلم أمور الدين.
3 - و فيه جواز سؤال النساء عن أمر دينهن , و جواز كلامهن مع الرجال في ذلك , و فيما لهن الحاجة إليه.
4 - جواز الوعد , و قد ترجم البخاري للحديث بقوله: " هل يجعل للنساء يوما على حدة في العلم ? ".
قلت: و أما ما شاع هنا في دمشق في الآونة الأخيرة من ارتياد النساء للمساجد في أوقات معينة ليسمعن درسا من إحداهن , ممن يتسمون بـ (الداعيات) زعمن , فذلك من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم و لا في عهد السلف الصالح , و إنما المعهود أن يتولى تعليمهن العلماء الصالحون في مكان خاص كما في هذا الحديث , أو في درس الرجال حجزة عنهم في المسجد إذا أمكن , و إلا غلبهن الرجال , و لم يتمكن من العلم و السؤال عنه.
فإن وجد في النساء اليوم من أوتيت شيئا من العلم و الفقه السليم المستقى من الكتاب و السنة , فلا بأس من أن تعقد لهن مجلسا خاصا في بيتها أو بيت إحداهن , ذلك خير لهن , كيف لا و النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الجماعة في المسجد: " و بيوتهن خير لهن " , فإذا كان الأمر هكذا في الصلاة التي تضطر المرأة المسلمة أن تلتزم فيها من الأدب و الحشمة ما لا تكثر منه خارجها فكيف لا يكون العلم في البيوت أولى لهن , لاسيما و بعضهن ترفع صوتها , و قد يشترك معها غيرها فيكون لهن دوي في المسجد قبيح ذميم. و هذا مما سمعناه و شاهدناه مع الأسف.
ثم رأيت هذه المحدثة قد تعدت إلى بعض البلاد الأخرى كعمان مثلا. نسأل الله السلامة من كل بدعة محدثة.
جمهور العلماء على أن وجه المراءة ليس عورة
2688 - (المرأة عورة و إنها إذا خرجت استشرفها الشيطان , و إنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها).
(فائدة): يطيب لبعض المتشددين على المرأة أن يستدلوا بهذا الحديث على أن وجه المرأة عورة على الأجانب , و لا دليل فيه البتة , لأن المعنى كما قال ابن الأثير في " النهاية ": " جعلها نفسها عورة , لأنها إذا ظهرت يستحيا منها كما يستحيا من العورة إذا ظهرت ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/306)
و يؤكد هذا المعنى تمام الحديث: " و إذا خرجت استشرفها الشيطان ".
قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (3/ 411): " أي زينها في نظر الرجال. و قيل أي نظر إليها ليغويها , و يغوي بها ".
و أصل (الاستشراف) أن تضع يدك على حاجبك و تنظر , كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء و أصله من الشرف: العلو , كأنه ينظر إليه من موضع مرتفع فيكون أكثر لإدراكه. " نهاية ".
و إن مما لا شك فيه أن الاستشراف المذكور يشمل المرأة و لو كانت ساترة لوجهها , فهي عورة على كل حال عند خروجها , فلا علاقة للحديث بكون وجه المرأة عورة بالمعنى الفقهي , فتأمل منصفا.
و جمهور العلماء على أنه ليس بعورة , و بيان ذلك في كتابي " جلباب المرأة المسلمة " , و قد طبع حديثا بهذا الاسم " جلباب ... " بديل " حجاب ... "سابقا لنكتة ذكرتها في المقدمة.
و قد رددت فيه على المتشددين بما فيه الكفاية , و أحلت من شاء التفصيل على كتابي المفرد في الرد بإسهاب و تفصيل , تتبعت فيه شبهاتهم , و أنها قائمة على أدلة واهية رواية و دراية , و اجتماعيا , و سميته اسما يلخص لك مضمونه: " الرد المفحم على من خالف العلماء و تشدد و تعصب و ألزم المرأة أن تستر وجهها و كفيها و أوجب و لم يقنع بقولهم إنه سنة و مستحب ". يسر الله لي تبيضه و نشره بفضله و كرمه.
جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها
2722 - (إن وجدت رجلا صالحا فتزوجي).
أخرجه ابن ماجه (1/ 625 - 626) و ابن راهويه في " مسنده " (4/ 266 / 1 - 2) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق و عمرو بن عتبة أنهما كتبا إلى سبيعة بنت الحارث يسألانها عن أمرها؟ فكتبت إليهما:
أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمسة و عشرين [ليلة] فتهيأت تطلب الخير , فمر بها أبو السنابل بن بعكك , فقال: قد أسرعت , اعتدي آخر الأجلين , أربعة أشهر و عشرا , فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم , فقلت: يا رسول الله! استغفر لي. قال: و فيم ذاك؟ فأخبرته [الخبر] , فقال: و الزيادتان لابن راهويه.
قلت: و إسناده صحيح على شرط مسلم , و قد أخرجه هو و البخاري و غيرهما من طرق أخرى عن سبيعة و غيرها من الصحابة مختصرا و مطولا , و خرجت أحدها في " الإرواء " (2113) و إنما آثرت هذه الرواية بالتخريج لأنها تفردت عن سائر الطرق بهذه الفائدة التي فوق هذا التخريج , حيث أمرها صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج بالرجل الصالح إن وجدته. وقد وهم الحافظ رحمه الله فعزاها في "الفتح" (9/ 476) لرواية الأسود عن أبي السنابل نفسه عند ابن ماجه. و هذه رواية أخرى لابن ماجه ليس فيها هذه الفائدة , و هي عند ابن راهويه أيضا. و سبب الوهم - فيما يبدو لي و الله أعلم - أن هذه عند ابن ماجه قبيل حديث الترجمة , فكأنه انتقل بصره عند النقل عنه إليها. والله أعلم.
و في الحديث فوائد فقهية أخرى ساق الحافظ الكثير الطيب منها كقوله: " و فيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها , لأن في رواية الزهري عند البخاري: فقال: مالي أراك تجملت للخطاب , و في رواية ابن إسحاق: فتهيأت للنكاح و اختضبت. و في رواية معمر عن الزهري: و قد اكتحلت , و في رواية الأسود: فتطيبت و تصنعت ".
قلت: فما رأي المتحمسين للقول بأن المرأة كلها عورة دون استثناء في هذا الحديث الصحيح , و ما ذكره الحافظ من الفائدة؟! لعلهم يقولون - كما هي عادتهم في مثل هذا النص الصريح -: كان ذلك قبل نزول آية الحجاب! فنجيبهم: رويدكم! فقد كان ذلك بحجة الوداع كما في " الصحيحين " * (فهل من مدكر) * انظر كتابي " جلباب المرأة المسلمة " (ص 69 - الطبعة الجديدة).
تدريب النساء على أساليب القتال و إنزالهن إلى المعركة بدعة عصرية
2740 - (لولا أن تكون سنة , يقال: خرجت فلانة! لأذنت لك و لكن اجلسي في بيتك).
أخرجه الطبراني في " المعجم الأوسط " (1/ 270 / 4604) و ابن منده في " المعرفة " (2/ 362 / 2) عنه , و ابن حجر في " تخريج المختصر " (ق 137/ 1) من طريق عبد الله بن زيدان البجلي قال: أخبرنا محمد بن طريف البجلي قال: أخبرنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح عن الأسود بن قيس قال: حدثني سعيد بن عمرو القرشي عن أم كبشة - امرأة من بني عذرة - أنها قالت:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/307)
يا رسول الله! إيذن لي أن أخرج مع جيش كذا و كذا. قال: لا. قالت: يا نبي الله! إني لا أريد القتال , إنما أريد أن أداوي الجرحى و أقوم على المرضى. قال: فذكره , و ليس عند الطبراني: " في بيتك " , و قال:
" لا يروى عن أم كبشة إلا بهذا الإسناد , تفرد به الحسن بن صالح ".
و له شاهد من حديث أم ورقة أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر , قلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أغزو معك. قال: قري في بيتك .. الحديث. أخرجه أبو داود .. ". قلت: و هذا إسناده حسن كما حققته في " صحيح أبي داود " (605)
فائدة: ثم قال الحافظ عقب الحديث في " الإصابة ":
" و يمكن الجمع بين هذا و بين ما تقدم في ترجمة أم سنان الأسلمي , أن هذا ناسخ لذاك لأن ذلك كان بخيبر , و قد وقع قبله بأحد كما في (الصحيح) من حديث البراء بن عازب , و هذا كان بعد الفتح ".
قلت: و يشير بما تقدم إلى ما أخرجه الخطيب في " المؤتلف " عن الواقدي عن عبد الله بن أبي يحيى عن ثبيتة عن أمها قالت:
" لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر قلت: يا رسول الله! أخرج معك أخرز السقاء, و أداوي الجرحى .. الحديث , و فيه: فإن لك صواحب قد أذنت لهن من قومك و من غيرهم , فكوني مع أم سلمة ".
قلت: و الواقدي متروك , فلا يقام لحديثه وزن , ولاسيما عند المعارضة كما هنا. نعم ما عزاه لـ (الصحيح) يعارضه و هو من حديث أنس بن مالك - لبس البراء بن عازب - قال:
" لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: و لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر و أم سليم وأنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهن تنقزان - و قال غيره: تنقلان - القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم , ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ". أخرجه البخاري (2880 و 2902 و 3811 و 4064) , و انظر " جلباب المرأة المسلمة " (ص 40) - طبعة المكتبة الإسلامية.
و له شاهد من حديث عمر رضي الله عنه: " أن أم سليط - من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم - كانت تزفر (أي تحمل) لنا القرب يوم أحد ". أخرجه البخاري (2881).
و لكن لا ضرورة - عندي - لادعاء نسخ هذه الأحاديث و نحوها , و إنما تحمل على الضرورة أو الحاجة لقلة الرجال , و انشغالهم بمباشرة القتال , و أما تدريبهن على أساليب القتال و إنزالهن إلى المعركة يقاتلن مع الرجال كما تفعل بعض لدول الإسلامية اليوم , فهو بدعة عصرية , و قرمطة شيوعية , و مخالفة صريحة لما كان عليه سلفنا الصالح , و تكليف للنساء بما لم يخلقن له , و تعريض لهن لما لا يليق بهن إذا ما وقعن في الأسر بيد العدو. و الله المستعان.
إحرام المرأة في وجهها
2930 - (مروها فلتركب و لتختمر [و لتحج] , [و لتهد هديا]).
أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (2/ 74) و الطبراني في " المعجم الكبير " (17/ 320 / 886) و الزيادة له من طرق عن عبد العزيز بن مسلم قال: حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة , فأتى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال هذه ? ". قالوا: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة! فقال: فذكره.
و في الحديث فوائد هامة منها: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. و فيه أحاديث كثيرة صحيحة معروفة.
و منها: أن إحرام المرأة في وجهها , فلا يجوز لها أن تضرب بخمارها عليه , و إنما على الرأس و الصدر , فهو كحديث: " لا تنتقب المرأة المحرمة , و لا تلبس القفازين ". أخرجه الشيخان.
و منها: أن (الخمار) إذا أطلق , فهو غطاء الرأس و أنه لا يدخل في مسماه تغطية الوجه , و الأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب و السنة و آثار السلف كما كنت بينته في كتابي " جلباب المرأة المسلمة " , و قد طبع مرات , و زدت ذلك بيانا في ردي على بعض العلماء النجديين الذين ادعوا أن الخمار غطاء الوجه أيضا في مقدمتي الضافية للطبعة الجديدة من كتابي المذكور , نشر المكتبة الإسلامية / عمان.
لا يحل لأحد أن يكتني بأبي القاسم كان اسمه محمدا أو غيره
2946 - (لا تجمعوا بين اسمي و كنيتي , [أنا أبو القاسم , و الله يعطي , و أنا أقسم]).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/308)
لقد اختلف العلماء في مسألة التكني بأبي القاسم على مذاهب ثلاثة , حكاها الحافظ في " الفتح " , و استدل لها , و ناقشها , و بين ما لها و ما عليها , و لست أشك بعد ذلك أن الصواب إنما هو المنع مطلقا , و سواء كان اسمه محمدا أم لا , لسلامة الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عن المعارض الناهض كما تقدم , و هو الثابت عن الإمام الشافعي رحمه الله , فقد روى البيهقي (9/ 309) بالسند الصحيح عنه أنه قال: " لا يحل لأحد أن يكتني بأبي القاسم كان اسمه محمدا أو غيره ". قال البيهقي: " و روينا معنى هذا عن طاووس اليماني رحمه الله ".
و يؤكد ما تقدم حديث علي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن ولد لي بعدك , أسميه محمدا و أكنيه بكنيتك ? قال: " نعم ". قال: فكانت رخصة لي. أخرجه الترمذي (2846) و قال: " حديث صحيح ". و قواه الحافظ في " الفتح " (10/ 573) و هو مخرج في " المشكاة " (4772 / التحقيق الثاني).
كتاب المرض والطب والعيادة و الجنائز والقبور
نسخ القيام للجنازة
2017 - (قوموا! فإن للموت فزعا).
رواه ابن ماجة (1/ 468) و أحمد (2/ 287, 343) و محمد بن مخلد العطار (2/ 19/1) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة. فقام و قال: فذكره".
(تنبيه): هذا الحديث من الأحاديث القليلة التي ثبت نسخها بفعل النبي صلى الله عليه وسلم و أمره , و قد ذكرت بعض الأحاديث الواردة في ذلك في "أحكام الجنائز" (ص 78) , فلتراجع.
جواز صلاة الجنازة في المسجد والأفضل في المصلى
2351 - (من صلى على جنازة في المسجد , فليس له شيء).
أخرجه أبو داود (2/ 66) و ابن ماجة (1/ 462) و اللفظ له و الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 284) و ابن عدي (198/ 2) و البيهقي (4/ 52) و عبدالرزاق في "المصنف" (6579) و ابن أبي شيبة (3/ 364 - 365) و كذا الطيالسي (1/ 165) و أحمد (2/ 444و455) من طرق (عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا به. و لفظ الآخرين: "فلا شيء له" , إلا رواية لأحمد , فهي باللفظ الأول , و شذ عنهم جميعا أبو داود في روايته , فلفظها: "فلا شيء عليه". و مما يؤكد شذوذها , و يؤيد أن المحفوظ رواية الجماعة , زيادة الطيالسي و ابن أبي شيبة عقب الحديث: "قال صالح: و أدركت رجالا ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر إذا جاؤا فلم يجدوا إلا أن يصلوا في المسجد رجعوا فلم يصلوا". فهذا صريح في أن صالحا كان يروي الحديث بلفظ الجماعة , فإنه هو الذي يناسب ما حكاه عمن أدركهم من الصحابة من تركهم الصلاة على الجنازة في المسجد بخلاف رواية أبي داود: "فلا شيء عليه" ,فإنها تباينه و تنافيه , و يدل ذلك أيضا على بطلان تأويل رواية الجماعة إلى رواية أبي داود: أي فلا شيء عليه! قالوا: ليتحد معنى اللفظين و لا يتناقضان.
و أقول: التأويل فرع التصحيح , فبعد أن بينا شذوذ رواية أبي داود بما لا ريب فيه , فلا مبرر للتأويل , و قد جاء في "نصب الراية" (2/ 275): "قال الخطيب: المحفوظ: "فلا شيء له" , و روي: "فلا شيء عليه" , و روي: "فلا أجر له" , انتهى.
قال ابن عبد البر: رواية: "فلا أجر له" خطأ فاحش , و الصحيح: "فلا شيء له". و صالح مولى التوأمة من أهل العلم , منهم من لا يحتج به لضعفه , و منهم من يقبل منه ما رواه ابن أبي ذئب خاصة , انتهى".
قلت: و السبب في ذلك أنه كان اختلط , فمنهم من سمع منه قبل الاختلاط - كابن أبي ذئب - فهو حجة , و منهم من سمع منه بعد الاختلاط فليس بحجة , و هذا التفصيل هو الذي استقر عليه رأى أهل العلم قديما و حديثا , فروى ابن أبي حاتم (2/ 1/417) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه قال: "كان مالك قد أدرك صالحا , و قد اختلط و هو كبير , من سمع منه قديما فذاك , و قد روى عنه أكابر أهل المدينة , و هو صالح الحديث , ما أعلم به بأسا". ثم روى عن ابن معين نحوه , فقال عنه: "ثقة , و قد كان خرف قبل أن يموت , فمن سمع منه قبل أن يختلط , فهو ثبت , و هو صالح بن نبهان".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/309)
إذا عرفت هذا التفصيل , و أن الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه , تبينت أنه ثابت , فلا تعويل على من ذهب إلى تضعيفه متمسكا بالطعن المجمل فيه كما فعل البيهقي , و نحوه عن الإمام أحمد , فقال ابنه عبد الله في "مسائله" (ص125): "سألت أبي عن حديث أبي هريرة هذا ? فقال: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد". ثم قال: حتى يثبت حديث صالح مولى التوأمة. كأنه عنده ليس بثبت , أو ليس بصحيح".
قلت: و لعل الإمام أحمد رحمه الله توقف عن تصحيح هذا الحديث لأنه لم يكن يومئذ تبين له التفصيل الذي نقلته عنه آنفا , أو أنه ظن أنه معارض لحديث عائشة المذكور , و هو دونه في الصحة بلا ريب. و الذي أراه أنه لا ينبغي عند نقد الحديث أن يلاحظ الناقد أمورا فقهية يتوهم أنها تعارض الحديث , فيتخذ ذلك حجة للطعن في الحديث , فإن هذا - مع كونه ليس من قواعد علم الحديث - لو اعتمد عليه في النقد للزم منه رد كثير من الأحاديث الصحيحة التي وردت بالطرق القوية. وعلى هذا فكون حديث صالح مخالفا لحديث عائشة , فلا ينبغي الطعن فيه بسبب ذلك , بل ينبغي التوفيق بينهما بعد ثبوت كل منهما من الوجهة الحديثية , كما قرره الحافظ في "شرح النخبة" و غيره في غيره , و لذلك قال الإمام ابن قيم الجوزية في "زاد المعاد" (1/ 198 - 199) بعد أن ذكر بعض ما قيل في صالح هذا: "و هذا الحديث حسن , فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه و سماعه منه قديم قبل اختلاطه , فلا يكون اختلاطه موجبا لرد ما حدث به قبل الاختلاط".
هذا , و أحسن ما يمكن أن يقال في سبيل التوفيق المشار إليه آنفا هو أن حديث عائشة غاية ما يدلي عليه إنما هو جواز صلاة الجنازة في المسجد , و حديث صالح لا ينافي ذلك , لأنه لا ينفي أجر الصلاة على الجنازة مطلقا , و إنما ينفي أجرا خاصا بصلاتها في المسجد , قال أبو الحسن السندي رحمه الله تعالى: "فالحديث لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات , فأجر أصل الصلاة باق , و إنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد , فيكون الحديث مفيدا لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة زائدة على كونها خارجة. و ينبغي أن يتعين هذا الاحتمال دفعا للتعارض و توفيقا بين الأدلة بحسب الإمكان. و على هذا , فالقول بكراهة الصلاة في المسجد مشكل , نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على أن الغالب أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي خارج المسجد , و فعله في المسجد كان مرة أو مرتين. و الله أعلم ". قلت: و بهذا الجمع , التقى حديث الترجمة مع حديث عائشة من حيث دلالة كل منهما على إباحة الصلاة في المسجد , و أما كون الأفضل الصلاة خارج المسجد , فهذا أمر لا يشك فيه من تجرد عن الهوى و التعصب المذهبي , لثبوت كون ذلك هو الغالب على هديه صلى الله عليه وسلم كما بينته في "أحكام الجنائز" (ص106 - 107) , فلا التفات بعد هذا البيان إلى قول ابن حبان في " الضعفاء" (1/ 366): "و هذا خبر باطل , كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المصلي في الجنازة لا شيء له من الأجر , ثم يصلي هو صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن البيضاء في المسجد؟ "!!
(تنبيه): ذكر الزيلعي أن ابن أبي شيبة روى الحديث في "مصنفه" بلفظ: "فلا صلاة له"! و لم أر هذا اللفظ عنده , و إنما رواه بلفظ: "فلا شيء له" , كما سبقت الإشارة إليه في صدر هذا التخريج , فاقتضى التنبيه.
صلاح وفساد القلب معنويان وليس ماديان
2708 - (إن في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده و إذا فسدت فسد سائر جسده , ألا و هي القلب).
كان الحامل على تخريج حديث الترجمة هنا أمرين:
الأول: أنني رأيت الحديث في " النهاية " بلفظ الترجمة , أورده في مادة (مضغ) مفسرا إياه بقوله: " يعني القلب لأنه قطعة لحم من الجسد ". فخشيت أن يكون غير محفوظ , لأن الثابت المعروف في الصحيحين و غيرهما إنما هو بلفظ " الجسد " كما تقدم , فتتبعت روايات الحديث في دواوين السنة حتى وجدت الحديث في " المسند " بلفظ الإنسان " , و هو شاهد قوي لحديث الترجمة , و بمعناه لفظ " الشيخين ": الجسد " , خلافا لأحد الأطباء المعاصرين كما يأتي بيانه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/310)
و الآخر: أنني اجتمعت مع أحد الأطباء هنا في (عمان) , فأخذ يحدثني ببعض اكتشافاته الطبية - و زملاؤه من الأطباء في ريب منها كما أفاد هو - منها أن بجانب السرة من كل شخص مضغة صغيرة هي سبب الصحة و المرض , و أنه يعالج هو بها الأمراض , و أنها هي المقصودة - زعم - بقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " إذا صلحت .. " , فلما عارضته بقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: " ألا و هي القلب ". قال: " هذه الزيادة غير صحيحة ". قلت: كيف و هي في الحديث عند البخاري ?! قال: هل البخاري معصوم ? قلت: لا , و لكن تخطئته لابد لها من دليل , ببيان ما يدل على ما ذكرت من ضعفها. قال: هي مدرجة! قلت: من قال ذلك من علماء الحديث , فإن لكل علم أهله المتخصصين به. قال: سمعت ذلك من أحد كبار علماء الحديث في مصر.
و قد سماه يومئذ , و لم أحفظ اسمه جيدا. فقلت: إن كان قال ذلك فهو دليل على أنه ليس كما وصفته في العلم بالحديث , فإنه مجرد دعوى لم يسبق إليها , و لا دليل عليها.
ثم قلت له: يبدو من كلامك أنك تفهم بالحديث أنه يعني الصلاح و الفساد الماديين ? قال: نعم. قلت له: هذا خطأ آخر , ألا تعلم أن الحديث تمام
حديث أوله: " إن الحلال بين و الحرام بين .. " الحديث , و فيه: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه " الحديث , فهذا صريح في أنه في الصلاح و الفساد المعنويين. فلم يجب عن ذلك بشيء سوى أنه قال: لو أراد ذلك لقال: " ألا و إن في الإنسان .. " مكان " الجسد "! قلت: هذا غير لازم , فإنهما بمعنى واحد , و بذلك فسره العلماء , فيجب الرجوع إليهم , و ليس إلى الأطباء! و لم أكن مطلعا يومئذ على هذا اللفظ الذي أنكره , فبادرت إلى تخريجه بعيد وقوفي عليه , لعل في ذلك ما يساعده و أمثاله على الرجوع إلى الصواب. و الله الهادي.
و قد جرنا الحديث إلى التحدث عن القلب و أنه مقر العقل و الفهم , فأنكر ذلك , و ادعى أن العقل في الدماغ , و أن القلب ليس له عمل سوى دفع الدم إلى أطراف البدن.
قلت: كيف تقول هذا و قد قال الله تعالى في الكفار: * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * , و قال: * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) * ?! فحاول تأويل ذلك على طريقة بعض الفرق الضالة في تعطيل دلالات النصوص , و قلت له: هذه يا دكتور قرمطة لا تجوز , ربنا يقول: * (القلوب التي في الصدور) * لا في الرؤوس!
و أقول الآن: من فوائد الحديث قول الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (1/ 128 - 129): " و فيه تنبيه على تعظيم قدر القلب و الحث على صلاحه , والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه , و المراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه.
و يستدل به على أن العقل في القلب. و منه قوله تعالى: * (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) * , و قوله تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) *. قال المفسرون: أي عقل , و عبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره ".
ثم إن تلك الزيادة التي أنكرها الطبيب المشار إليه يشهد لها آيات كثيرة في القرآن الكريم , جاء فيها وصف القلب بالإيمان و الاطمئنان و السلامة , و بالإثم , و المرض و الختم و الزيغ و القسوة , و غير ذلك من الصفات التي تبطل دعوى أنه ليس للقلب وظيفة غير تلك الوظيفة المادية من ضخ الدم. فأسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من المرض و الزيغ , و اتباع جهل الجاهلين من الكفار و غيرهم.
كتاب التاريخ والسيرة وفضائل الصحابة
من فضائل علي ومعني الموالاة
2223 - (ما تريدون من علي؟ إن عليا مني و أنا منه و هو ولي كل مؤمن بعدي).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/311)
أخرجه الترمذي (3713) و النسائي في "الخصائص" (ص13و16 - 17) و ابن حبان (2203) و الحاكم (3/ 110) و الطيالسي في "مسنده" (829) و أحمد (4/ 437 - 438) و ابن عدي في "الكامل" (2/ 568 - 569) من طريق جعفر بن اليمان الضبعي عن يزيد الرشك عن مطرف عن # عمران بن حصين # رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا , و استعمل عليهم علي بن أبي طالب , فمضى في السرية , فأصاب جارية , فأنكروا عليه , و تعاقدوا أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما صنع علي و كان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدأوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه , ثم انصرفوا إلى رحالهم , فلما قدمت السرية سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم , فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله! ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا و كذا , فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قام الثاني , فقال مثل مقالته , فأعرض عنه , ثم قام إليه الثالث , فقال مثل مقالته , فأعرض عنه , ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا , فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم و الغضب يعرف في وجهه فقال: " فذكره. و قال الترمذي: "حديث حسن غريب , لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان". قلت: و هو ثقة من رجال مسلم و كذلك سائر رجاله و لذلك قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" , و أقره الذهبي. و للحديث شاهد يرويه أجلح الكندي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثين إلى اليمن , على أحدهما علي بن أبي طالب .. فذكر القصة بنحو ما تقدم , و في آخره: " لا تقع في علي , فإنه مني و أنا منه و هو وليكم بعدي و إنه مني و أنا منه و هو وليكم بعدي ".
أخرجه أحمد (5/ 356). قلت: و إسناده حسن , رجاله ثقات رجال الشيخين غير الأجلح , و هو ابن عبد الله الكندي , مختلف فيه , و في " التقريب ": "صدوق شيعي".
فإن قال قائل: راوي هذا الشاهد شيعي , و كذلك في سند المشهود له شيعي آخر , و هو جعفر بن سليمان , أفلا يعتبر ذلك طعنا في الحديث و علة فيه؟!
فأقول: كلا لأن العبرة في رواية الحديث إنما هو الصدق و الحفظ , و أما المذهب فهو بينه و بين ربه , فهو حسيبه , و لذلك نجد صاحبي " الصحيحين " و غيرهما قد أخرجوا لكثير من الثقات المخالفين كالخوارج و الشيعة و غيرهم , و هذا هو المثال بين أيدينا , فقد صحح الحديث ابن حبان كما رأيت مع أنه قال في راويه جعفر في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" (159/ 1263): "كان يتشيع و يغلو فيه".بل إنه قال في ثقاته (6/ 140): " كان يبغض الشيخين ". و هذا , و إن كنت في شك من ثبوته عنه , فإن مما لا ريب فيه أنه شيعي لإجماعهم على ذلك , و لا يلزم من التشيع بغض الشيخين رضي الله عنهما , و إنما مجرد التفضيل. و الإسناد الذي ذكره ابن حبان برواية تصريحه ببغضهما , فيه جرير بن يزيد بن هارون , و لم أجد له ترجمة , و لا وقفت على إسناد آخر بذلك إليه. و مع ذلك فقد قال ابن حبان عقب ذاك التصريح: " و كان جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت , و لم يكن بداعية إلى مذهبه , و ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة و لم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز ". على أن الحديث قد جاء مفرقا من طرق أخرى ليس فيها شيعي. أما قوله: "إن عليا مني و أنا منه". فهو ثابت في " صحيح البخاري " (2699) من حديث البراء بن عازب في قصة اختصام علي و زيد و جعفر في ابنة حمزة , فقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: " أنت مني و أنا منك ". و روي من حديث حبشي بن جنادة , و قد سبق تخريجه تحت الحديث (1980). و أما قوله: " و هو ولي كل مؤمن بعدي ". فقد جاء من حديث ابن عباس , فقال الطيالسي (2752): حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت ولي كل مؤمن بعدي ". و أخرجه أحمد (1/ 330 - 331) و من طريقه الحاكم (3/ 132 - 133) و قال: "صحيح الإسناد" , و وافقه الذهبي , و هو كما قالا. و هو بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه .. " و قد صح من طرق كما تقدم بيانه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/312)
في المجلد الرابع برقم (1750).
فمن العجيب حقا أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث و تكذيبه في " منهاج السنة " (4/ 104) كما فعل بالحديث المتقدم هناك , مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير أن الموالاة هنا ضد المعاداة و هو حكم ثابت لكل مؤمن , و علي رضي الله عنه من كبارهم , يتولاهم و يتولونه. ففيه رد على الخوارج و النواصب , لكن ليس في الحديث أنه ليس للمؤمنين مولى سواه , و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أسلم و غفار و مزينة و جهينة و قريش و الأنصار موالي دون الناس , ليس لهم مولى دون الله و رسوله ". فالحديث ليس فيه دليل البتة على أن عليا رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة من الشيخين كما تزعم الشيعة لأن الموالاة غير الولاية التي هي بمعنى الإمارة , فإنما يقال فيها: والي كل مؤمن. هذا كله من بيان شيخ الإسلام و هو قوي متين كما ترى , فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث إلا التسرع و المبالغة في الرد على الشيعة , غفر الله لنا و له.
عائشة رضي الله عنها محفوظة غير معصومة
2507 - (أما بعد يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا و كذا , [إنما أنت من بنات آدم] , فإن كنت بريئة فسيبرئك الله , و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. و في رواية: فإن التوبة من الذنب الندم).
أخرجه البخاري (8/ 363 - 364 - فتح) و مسلم (8/ 116) و أحمد (6/ 196) و الرواية الأخرى له (6/ 364) و أبو يعلى (3/ 1208و1218) و الطبري في "التفسير" (18/ 73و75) و البغوي (6/ 74) من حديث عائشة رضي الله عنها , في حديثها الطويل عن قصة الإفك , و نزول الوحي القرآني ببراءتها في آيات من سورة النور: (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم ... ) الآيات (11 - 20) , و الزيادة التي بين المعقوفتين هي لأبي عوانة في " صحيحه " , و الطبراني في " معجمه " كما في " الفتح " (8/ 344و364).
و قوله: " ألممت ". قال الحافظ: أي وقع منك على خلاف العادة , و هذا حقيقة الإلمام , و منه: ألمت بنا و الليل مرخ مستورة. قال الداوودي: "أمرها بالاعتراف , و لم يندبها إلى الكتمان , للفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و غيرهن , فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن و لا يكتمنه إياه , لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس , فإنهن ندبن إلى الستر".
ثم تعقبه الحافظ نقلا عن القاضي عياض فيما ادعاه من الأمر بالاعتراف , فليراجعه من شاء , لكنهم سلموا له قوله: إنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك. و ذلك غيرة من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم , و لكنه سبحانه صان السيدة عائشة رضي الله عنها وسائر أمهات المؤمنين من ذلك كما عرف ذلك من تاريخ حياتهن , و نزول التبرئة بخصوص السيدة عائشة رضي الله عنها , و إن كان وقوع ذلك ممكنا من الناحية النظرية لعدم وجود نص باستحالة ذلك منهن , و لهذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم في القصة موقف المتريث المترقب نزول الوحي القاطع للشك في ذلك الذي ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الترجمة: "إنما أنت من بنات آدم , فإن كنت بريئة فسيبرئك الله , و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله .. " , و لذلك قال الحافظ في صدد بيان ما في الحديث من الفوائد: "و فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي. نبه عليه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به". يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع ببراءة عائشة رضي الله عنها إلا بعد نزول الوحي. ففيه إشعار قوي بأن الأمر في حد نفسه ممكن الوقوع , و هو ما يدندن حوله كل حوادث القصة و كلام الشراح عليها , و لا ينافي ذلك قول الحافظ ابن كثير (8/ 418) في تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا و قيل ادخلا النار مع الداخلين) التحريم 10. " و ليس المراد بقوله: (فخانتاهما) في فاحشة , بل في الدين , فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما قدمنا في سورة النور". و قال هناك (6/ 81): "ثم قال تعالى: (و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم) , أي: تقولون ما تقولون في شأن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/313)
أم المؤمنين , و تحسبون ذلك يسيرا سهلا , و لو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هينا , فكيف و هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الأنبياء و سيد المرسلين , فعظيم عند الله أن يقال في زوجة نبيه و رسوله ما قيل , فإن الله سبحانه و تعالى يغار لهذا , و هو سبحانه لا يقدر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك , حاشا و كلا , و لما لم يكن ذلك , فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء زوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا و الآخرة , و لهذا قال تعالى: (و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم) ".
أقول: فلا ينافي هذا ما ذكرنا من الإمكان , لأن المقصود بـ"العصمة" الواردة في كلامه رحمه الله و ما في معناها إنما هي العصمة التي دل عليها الوحي الذي لولاه لوجب البقاء على الأصل , و هو الإمكان المشار إليه , فهي بالمعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فالمعصوم من عصمه الله" في حديث أخرجه البخاري و غيره , و ليس المراد بها العصمة الخاصة بالأنبياء عليهم الصلاة و السلام , و هي التي تنافي الإمكان المذكور , فالقول بهذه في غير الأنبياء إنما هو من القول على الله بغير علم , و هذا ما صرح به أبو بكر الصديق نفسه في هذه القصة خلافا لهواه كأب , فقد أخرج البزار بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رضي الله عنها رأسها , فقالت: ألا عذرتني؟ فقال: أي سماء تظلني , و أي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟! و هذا هو الموقف الذي يجب على كل مسلم أن يقفه تجاه كل مسألة لم يأت الشرع الحنيف بما يوافق هوى الرجل , و لا يتخذ إلهه هواه.
من رأى النبي صلي الله عليه وسلم على صورته التى خلق عليها فقد رأه
2729 - (كان لا يخيل على من رآه).
أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (10/ 264 / 10510): حدثنا محمد بن عبدوس ابن كامل: حدثنا الوليد بن شجاع حدثنا المطلب بن زياد عن عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن مسعود قال: فذكره مرفوعا.
قلت: و قد صح من قوله صلى الله عليه وسلم من طريق أخرى عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: " من رآني في المنام , فأنا الذي رآني , فإن الشيطان لا يتخيل بي ". أخرجه الإمام أحمد.
و له شاهد من حديث عبد الله بن عباس مرفوعا بلفظ: " من رآني في المنام فإياي رأى , فإن الشيطان لا يتخيل بي. و في لفظ: لا يتخيلني ". أخرجه أحمد (1/ 279) من طريق جابر عن عمار عن سعيد بن جبير عنه. و رجاله ثقات رجال مسلم غير جابر و هو الجعفي , و هو ضعيف. لكن جاء من طريق أخرى من رواية عوف بن أبي جميلة عن نذير الفارسي - و كان يكتب المصاحف - قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام زمن ابن عباس , فقلت له: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم , فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إن الشيطان لا يستطيع لا يستطيع أن يتشبه بي , فمن رآني في النوم فقد رآني " هل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الذي رأيته في النوم؟ قال: نعم , أنعت لك رجلا بين الرجلين , جسمه و لحمه أسمر إلى البياض , أكحل العينين , حسن الضحك , جميل دوائر الوجه , قد ملأت لحيته ما بين هذه إلى هذه , قد ملأت نحره - قال عوف: و لا أدري ما كان مع هذا النعت - فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا. أخرجه أحمد (1/ 361) و الترمذي في " الشمائل " (347 - "مختصر الشمائل بقلمي) , و إسناده جيد في المتابعات. و شاهد آخر من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " .. فإن الشيطان لا يتمثل بي. و قال ابن فضيل مرة: يتخيل بي ". أخرجه أحمد (2/ 332) عنه عن عاصم بن كليب عن أبيه عنه. و في رواية أخرى له (2/ 342) من طريق عبد الواحد بن زياد: حدثنا عاصم بن كليب به باللفظ الأول لابن فضيل , و زاد: " قال عاصم: قال أبي: فحدثنيه ابن عباس , فأخبرته أني قد رأيته. قال: رأيته ? قال: أي والله لقد رأيته. قال: فذكرت الحسن بن علي , قال: إني والله قد ذكرته و نعته في مشيته. قال: فقال ابن عباس: إنه كان يشبهه ". و أخرجه الترمذي في " الشمائل " (رقم - 346) من هذا الوجه , و كذا الحاكم (4/ 393) و قال: " صحيح الإسناد ". و وافقه الذهبي , و كذا العسقلاني , فإنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/314)
قال في " فتح الباري " (12/ 384) بعد أن عزاه للحاكم: " و سنده جيد ". و لفظه عنده: " قال: قلت لابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. قال: صفه لي. قال: ذكرت الحسن بن علي فشبهته به , قال: قد رأيته ".
قلت: و لم أره في " مستدرك الحاكم " بهذا اللفظ. و الله أعلم. و له شاهد ثالث من حديث أنس مرفوعا بلفظ: " من رآني في المنام فقد رآني , فإن الشيطان لا يتخيل بي ".
أخرجه الترمذي في " الشمائل " (349) و الطبراني في " الأوسط " (1/ 218/2/ 3906) و إسناده صحيح على شرط الشيخين.
و قد أخرجه البخاري (6994) بلفظ: " .. لا يتمثل بي " , و المعنى واحد , قال المناوي في " شرح الشمائل ": " (لا يتخيل بي) أي لا يمكنه أن يظهر لأحد بصورتي , فمعنى (التخيل) يقرب من معنى التصور ".
و اعلم أن الحديث قد جاء في الصحيحين و غيرهما بألفاظ أخرى مثل: " لا يتزايا بي " و " لا يتراءى بي " و " يتكونني " , و كلها متساوية المعاني , كما بينه الحافظ في " الفتح " (12/ 386) و هو بالجملة حديث متواتر و قد خرجته في " الروض النضير " عن عشرة من الصحابة تحت الحديث (995) , و في الباب عن جمع آخر منهم خرج أحاديثهم الهيثمي في " المجمع " (7/ 181 - 182) و عن البراء بن عازب , و في حديثه فائدة مثل ما تقدم عن ابن عباس , و لذلك فمن المفيد أن أسوقه , لاسيما و هو في مصدر عزيز من كتب السنة , و هو " مسند الروياني " , أخرجه (21/ 2) من طريق يحيى بن أبي بكير: أخبرنا علي - و يكنى أبا إسحاق - عن عامر بن سعد البجلي قال: لما قتل الحسين بن علي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام , فقال: إن رأيت البراء بن عازب فأقرئه السلام , و أخبره أن قتلة الحسين بن علي في النار , و إن كاد الله أن يسحق أهل الأرض منه بعذاب أليم. قال: فأتيت البراء فأخبرته , فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رآني في المنام فقد رآني , فإن الشيطان لا يتصور بي ".
و هكذا أخرجه الدولابي في " الكنى " (1/ 101) في ترجمة علي أبي إسحاق هذا , و لم يذكر فيه جرحا و لا تعديلا , و لا وجدت له ترجمة في شيء من كتب التراجم المعروفة , فالله أعلم به.
(فائدة): في هذه الأحاديث أنه من الممكن أن يرى الرائي النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته , و لو لم يكن معاصرا له , لكن بشرط أن يراه على صورته التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في برهة من حياته , و إلى هذا ذهب جماعة من العلماء كما في " فتح الباري " (12/ 384) , و هو قول ابن عباس في رواية يزيد الفارسي و كليب والد عاصم , و كذا البراء كما تقدم , و علقه البخاري عن محمد بن سيرين إمام المعبرين , و قد وصله القاضي بسنده الصحيح عن أيوب قال: " كان ابن سيرين إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته , فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره ".
و به قال العلامة ابن رشد , فقال كما في " الاعتصام " للإمام الشاطبي (1/ 355): " و ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " من رآني فقد رآني حقا " أن كل من رأى في منامه أنه رآه , فقد رآه حقيقة , بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة , و يراه الرائي على صفة , و غيره على صفة أخرى , و لا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه وسلم , و لا صفاته , و إنما معنى الحديث: من رآني على صورتي التي خلقت عليها فقد رآني , إذ لا يتمثل الشيطان بي , إذ لم يقل صلى الله عليه وسلم: من رأى أنه رآني فقد رآني , و إنما قال: " من رآني فقد رآني " , و أنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورته الحقيقية أنه رآه عليها , و إن ظن أنه رآه ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها , و هذا ما لا طريق لأحد إلى معرفته ".
قال الحافظ: " و منهم من ضيق الفرض في ذلك , فقال: لابد أن يراه على صورته التي قبض عليها , حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة. والصواب التعميم في جميع حاله بشرط أن تكون صورته الحقيقة في وقت ما , سواء كان في شبابه أو رجولته أو كهولته , أو آخر عمره .. ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/315)
و قال الشيخ علي القارىء في " شرح الشمائل " (2/ 293): " و قيل إنه مختص بأهل زمانه صلى الله عليه وسلم , أي من رآني في المنام يوفقه الله تعالى لرؤيتي في اليقظة. و لا يخفى بعد هذا المعنى , مع عدم ملاءمته لعموم (من) في المبنى , على أنه يحتاج إلى قيود , منها: أنه لم يره قبل ذلك , و منها أن الصحابي غير داخل في العموم .. ".
قلت: و لا أعلم لهذا التخصيص مستندا إلا أن يكون حديث أبي هريرة عند البخاري (6993) مرفوعا بلفظ: " من رآني في المنام فسيراني في اليقظة , و لا يتمثل الشيطان بي ". فقد ذكر العيني في " شرح البخاري " (24/ 140) أن المراد أهل عصره صلى الله عليه وسلم , أي من رآه في المنام وفقه الله للهجرة إليه و التشرف بلقائه صلى الله عليه وسلم .. ".
و لكنني في شك من ثبوت قوله: " فسيراني في اليقظة " , و ذلك أن الرواة اختلفوا في ضبط هذه الجملة: " فسيراني في اليقظة " , فرواه هكذا البخاري كما ذكرنا , و زاد مسلم (7/ 54): " أو فكأنما رآني في اليقظة ". هكذا على الشك , قال الحافظ (12/ 383): " و وقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة: " فقد رآني في اليقظة " , بدل قوله: " فسيراني ". و مثله في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه , و صححه الترمذي و أبو عوانة. و وقع عند ابن ماجه من حديث أبي جحيفة: " فكأنما رآني في اليقظة ". فهذه ثلاثة ألفاظ " فسيراني في اليقظة ". " فكأنما رآني في اليقظة ". (انظر ما تقدم برقم 1004). " فقد رآني في اليقظة ". و جل أحاديث الباب كالثالثة إلا قوله في (اليقظة) ". و كلها في تأكيد صدق الرؤيا , فاللفظ الثاني أقرب إلى الصحة من حيث المعنى , فهو فيه كحديث ابن عباس و أنس المتقدم: " فقد رآني " , و آكد منه حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: " فقد رآني الحق ". أخرجه البخاري (6997) و أحمد (3/ 55) و هو لابن حبان (6019 و 6020) عن أبي هريرة.
كتاب المستقبل و أشراط الساعة
نزول عيسى واجتماعه بالمهدي
2236 - (ينزل عيسى بن مريم , فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا , فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض , تكرمة الله لهذه الأمة).
و أصل الحديث في " صحيح مسلم " (1/ 95) من طريق أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". قال: "فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم , فيقول أميرهم: تعال صل لنا , فيقول لا , إن بعضكم على بعض أمراء , تكرمة الله هذه الأمة". فالأمير في هذه الرواية هو المهدي في حديث الترجمة و هو مفسر لها. و بالله التوفيق.
و اعلم أيها الأخ المؤمن! أن كثيرا من الناس تطيش قلوبهم عن حدوث بعض الفتن , و لا بصيرة عندهم تجاهها , بحيث إنها توضح لهم السبيل الوسط الذي يجب عليهم أن يسلكوه إبانها , فيضلون عنه ضلالا بعيدا , فمنهم مثلا من يتبع من ادعى أنه المهدي أو عيسى , كالقاديانيين الذين اتبعوا ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى المهدوية أولا , ثم العيسوية , ثم النبوة , و مثل جماعة (جهيمان) السعودي الذي قام بفتنة الحرم المكي على رأس سنة (1400) هجرية , و زعم أن معه المهدي المنتظر , و طلب من الحاضرين في الحرم أن يبايعوه , و كان قد اتبعه بعض البسطاء و المغفلين و الأشرار من أتباعه , ثم قضى الله على فتنتهم بعد أن سفكوا كثيرا من دماء المسلمين , و أراح الله تعال العباد من شرهم. و منهم من يشاركنا في النقمة على هؤلاء المدعين للمهدوية , و لكنه يبادر إلى إنكار الأحاديث الصحيحة الواردة في خروج المهدي في آخر الزمان , و يدعي بكل جرأة أنها موضوعة و خرافة!! و يسفه أحلام العلماء الذين قالوا بصحتها , يزعم أنه بذلك يقطع دابر أولئك المدعين الأشرار! و ما علم هذا و أمثاله أن هذا الأسلوب قد يؤدي بهم إلى إنكار أحاديث نزول عيسى عليه الصلاة و السلام أيضا , مع كونها متواترة! و هذا ما وقع لبعضهم , كالأستاذ فريد وجدي و الشيخ رشيد رضا , و غيرهما , فهل يؤدي ذلك بهم إلى إنكار ألوهية الرب سبحانه و تعالى لأن بعض البشر ادعوها كما هو معلوم ?! نسأل الله السلامة من فتن أولئك المدعين , و هؤلاء المنكرين للأحاديث الصحيحة الثابتة عن سيد المرسلين , عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/316)
من علامات المهدي
2293 - (منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه).
عزاه السيوطي في "الجامع" لأبي نعيم في "كتاب المهدي" عن أبي سعيد و قال المناوي: "و فيه ضعف". و أقول: لم يتيسر لي حتى الآن الوقوف على
إسناده , و مع ذلك فالحديث عندي صحيح لأنه جاء مفرقا في أحاديث. أما أنه من أهل البيت , ففيه ثلاثة أحاديث:
الأول: من حديث أم سلمة. أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح , و هو مخرج في "الضعيفة" تحت الحديث (80) , و في "الروض النضير" (2/ 54).
الثاني: من حديث علي , و هو مخرج في "الروض" أيضا (2/ 53).
الثالث: من حديث أبي سعيد , و هو مخرج في "الروض" أيضا و في "المشكاة" (5454).
و أما صلاته بعيسى عليه السلام , ففيه حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا. "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة , قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال: صل لنا , فيقول لا , إن بعضكم على بعض أمراء , تكرمة الله هذه الأمة ". أخرجه مسلم و غيره , و قد سبق تخريجه برقم (1960). و له شاهد من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا بالشطر الثاني مطولا. أخرجه أحمد (4/ 216 - 217) و الحاكم (4/ 478) و قال: "صحيح الإسناد". و رده الذهبي بأن المحفوظ أنه من رواية علي بن زيد بن جدعان وحده. يعني و هو ضعيف. و في الباب أحاديث أخرى فيها التصريح بأن الإمام الذي يصلي خلفه عيسى عليه السلام إنما هو المهدي , تراها في " العرف الوردي " للسيوطي (ص81, 83, 84) , و قد مضى منها حديث جابر قريبا (2236). و ختم السيوطي ذلك بما نقله عن أبي الحسن السحري (!): " قد تواترت الأخبار و استفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي و أنه من أهل بيته , ... و أنه يخرج مع عيسى بن مريم , فيساعده على قتل الدجال ... و أنه يؤم هذه الأمة , و عيسى يصلي خلفه ... ".
غزو الكعبة والخسف بالجيش الغازي
2432 - (لا تنتهي البعوث عن غزو هذا البيت , حتى يخسف بجيش منهم).
(فائدة): اعلم أنه لا منافاة بين هذا الحديث و الحديث المتقدم (2427): "لا تغزى مكة بعد إلى يوم القيامة " لأن المثبت من الغزو في هذا غير المنفي في
ذاك , ألا ترى إلى تفسير سفيان إياه بقوله: "إنهم لا يكفرون أبدا و لا يغزون على الكفر".و يؤيده قوله في هذا الحديث: "يخسف بجيش منهم".
فهو صريح في أن هذا الجيش من الكفار , أو البغاة , و إن كان فيهم مؤمنون مكرهون , فهم يؤمون البيت ليغزوا من فيه من المسلمين , فلا تعارض , و الحمد لله.
الفتنة من العراق
2494 - (ألا إن الفتنة ههنا , ألا إن الفتنة ههنا [قالها مرتين أو ثلاثا] , من حيث يطلع قرن الشيطان , [يشير [بيده] إلى المشرق , و في رواية: العراق]).
هو من حديث ابن عمر و له عنه طرق:
الأولى: عن نافع عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو مستقبل المشرق يقول: فذكره. أخرجه البخاري (2/ 275و4/ 374) و مسلم (8/ 180 - 181) و أحمد (2/ 18و92) من طرق عنه. و السياق و الزيادة الأولى لمسلم. و في رواية لأحمد: "كان قائما عند باب عائشة فأشار بيده نحو المشرق". و هو رواية لمسلم. و لفظ البخاري في الموضع الأول المشار إليه: "قام خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة". و في أخرى لمسلم: عند باب حفصة. و هي شاذة عندي.
الثانية: عن سالم عنه مثل رواية نافع الأول إلا أنه كرر الجملة ثلاثا و قال فيها: "ها" , بدل: "ألا". أخرجه البخاري (2/ 384و4/ 374) و مسلم أيضا و الترمذي (2/ 44) , و قال: "حسن صحيح". و أحمد (2/ 23و40و72و140و143) و السياق له في رواية و كذا مسلم و في إحدى روايتي البخاري: "و هو على المنبر .. يشير إلى المشرق". و في الأخرى: "قام إلى جنب المنبر فقال ... ". و في أخرى لأحمد: "صلى الفجر فاستقبل مطلع الشمس , فقال ... ". و إسناده صحيح. و في أخرى له و لمسلم من طريق عكرمة بن عمار عن سالم بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: "رأس الكفر من ههنا ... ". لكن عكرمة فيه ضعف من قبل حفظه , فلا يحتج به فيما يخالف الثقات. و في أخرى لأحمد قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده يؤم العراق: ها إن الفتنة ... " الحديث بتمامه. و هو رواية لمسلم. و يشهد لها رواية أخرى له من طريق ابن فضيل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/317)
عن أبيه قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة , و أركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: فذكره مرفوعا.
الثالثة: عن عبد الله بن دينار عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق فقال: فذكره , مثل رواية سالم الأولى , إلا أنه كرر الجملة
مرتين. أخرجه مالك (3/ 141 - 142) و البخاري (2/ 321و3/ 471) و أحمد (2/ 23, 50, 73, 110) , و كرر الجملة ثلاثا في رواية له و السياق للبخاري.
الرابعة: عن بشر بن حرب: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم بارك لنا في مدينتنا , و في صاعنا و مدنا و يمننا و شامنا. ثم استقبل مطلع الشمس فقال: من ههنا يطلع قرن الشيطان من ههنا الزلازل و الفتن". أخرجه أحمد (2/ 126) و رجاله ثقات رجال مسلم , غير بشر هذا فإنه لين. لكن يشهد له حديث توبة العنبري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. إلى قوله: "و شامنا" مع تقديم و تأخير و زاد: "فقال رجل: يا رسول الله! و في عراقنا؟ فأعرض عنه , فقال: فيها الزلازل و الفتن و بها يطلع قرن الشيطان". أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 133) و إسناده صحيح. و له طريق أخرى عند الطبراني في "المعجم الكبير" (3/ 201/1) عن ابن عمر نحوه و فيه: "فلما كان في الثالثة أو الرابعة قالوا: يا رسول الله! و في عراقنا؟ ... " الحديث. و إسناد صحيح أيضا. و أصله عند البخاري و أحمد فراجع له كتابي "تخريج فضائل الشام" (ص9 - 10). و قد تقدم تخريجه و الذي قبله برقم (2246) بزيادة. ثم إن للحديث شاهدا من رواية أبي مسعود مرفوعا بلفظ: "من ههنا جاءت الفتن نحو المشرق و الجفاء و غلظ القلوب في الفدادين ... " الحديث. أخرجه البخاري (2/ 382).
قلت: و طرق الحديث متضافرة على أن الجهة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي المشرق , و هي على التحديد العراق كما رأيت في بعض الروايات الصريحة , فالحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم , فإن أول الفتن كان من قبل المشرق , فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين , و كذلك البدع نشأت من تلك الجهة كبدعة التشيع و الخروج و نحوها. و قد روى البخاري (7/ 77) و أحمد (2/ 85, 153) عن ابن أبي نعم قال:" شهدت ابن عمر و سأله رجل من أهل العراق عن محرم قتل ذبابا فقال: يا أهل العراق! تسألوني عن محرم قتل ذبابا , و قد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم , و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتي في الدنيا".
و إن من تلك الفتن طعن الشيعة في كبار الصحابة رضي الله عنهم , كالسيدة عائشة الصديقة بنت الصديق التي نزلت براءتها من السماء , فقد عقد عبد الحسين الشيعي المتعصب في كتابه "المراجعات" (ص237) فصولا عدة في الطعن فيها و تكذيبها في حديثها , و رميها بكل واقعة , بكل جرأة و قلة حياء , مستندا في ذلك إلى الأحاديث الضعيفة و الموضوعة , و قد بينت قسما منها في "الضعيفة" (4963 - 4970) مع تحريفه للأحاديث الصحيحة , و تحميلها من المعاني ما لا تتحمل كهذا الحديث الصحيح , فإنه حمله - فض فوه و شلت يداه - على السيدة عائشة رضي الله عنها زاعما أنها هي الفتنة المذكورة في الحديث - (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) معتمدا في ذلك على الروايتين المتقدمتين:
الأولى: رواية البخاري: فأشار نحو مسكن عائشة ...
و الأخرى: رواية مسلم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ههنا ... فأوهم الخبيث القراء الكرام بأن الإشارة الكريمة إنما هي إلى مسكن عائشة ذاته , و أن المقصود بالفتنة هي عائشة نفسها!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/318)
و الجواب , أن هذا هو صنيع اليهود الذين يحرفون الكلم من بعد مواضعه , فإن قوله في الرواية الأولى: "فأشار نحو مسكن عائشة " , قد فهمه الشيعي كما لو كان النص بلفظ: "فأشار إلى مسكن عائشة"! فقوله: "نحو" دون "إلى" نص قاطع في إبطال مقصوده الباطل , و لاسيما أن أكثر الروايات صرحت بأنه أشار إلى المشرق. و في بعضها العراق. والواقع التاريخي يشهد لذلك. و أما رواية عكرمة فهي شاذة كما سبق , و لو قيل بصحتها , فهي مختصرة جدا اختصارا مخلا , استغله الشيعي استغلالا مرا , كما يدل عليه مجموع روايات الحديث , فالمعنى: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة رضي الله عنها , فصلى الفجر , ثم قام خطيبا إلى جنب المنبر (و في رواية: عند باب عائشة) فاستقبل مطلع الشمس , فأشار بيده , نحو المشرق. (و في رواية للبخاري: نحو مسكن عائشة) و في أخرى لأحمد: يشير بيده يؤم العراق.فإذا أمعن المنصف المتجرد عن الهوى في هذا المجموع قطع ببطلان ما رمى إليه الشيعي من الطعن في السيدة عائشة رضي الله عنها. عامله الله بما يستحق.
من اعلام نبؤته صلى الله عليه وسلم
2683 - (سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال , ينزلون على أبواب المساجد , نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف , العنوهن فإنهن ملعونات , لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمهن نساؤكم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم).
(تنبيه هام): وقعت هذه اللفظة (الرحال) في " فوائد المخلص " بالحاء المهملة خلافا لـ " المسند " و " الموارد " و غيرهما , فإنها بلفظ (الرجال) بالجيم , و على ذلك شرحه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في " الفتح الرباني " (17/ 301) , فقال: " معناه: أنهم رجال في الحس لا في المعنى , إذ الرجال الكوامل حسا و معنى لا يتركون نساءهم يلبسن ثيابا لا تستر أجسامهن ".
و لم ينتبه للإشكال الذي تنبه له الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى إذ قال في تعليقه على الحديث في " المسند " (12/ 38): " و قوله: " سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرجال " إلخ مشكل المعنى قليلا , فتشبيه الرجال بالرجال فيه بعد , و توجيه متكلف , و رواية الحاكم ليس فيها هذا التشبيه , بل لفظه: " سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم , نساؤهم كاسيات عاريات " إلخ .. و هو واضح المعنى مستقيمه , و رواية الطبراني - كما حكاها الهيثمي في " الزوائد " -: " سيكون في أمتي رجال يركبون نساؤهم على سروج كأشباه الرجال ". و لفظ " يركبون " غيره طابع " مجمع الزوائد " - جرأة منه و جهلا - فجعلها " يركب " , و الظاهر عندي أن صحتها " يركبون نساءهم ".
و على كل حال فالمراد من الحديث واضح بين , و قد تحقق في عصرنا هذا , بل قبله وجود هاته النسوة الكاسيات الملعونات ".
قلت: لو أن الشيخ رحمه الله اطلع على رواية (الرحال) بالحاء المهملة , لساعدته على الإطاحة بالإشكال , و فهم الجملة فهما صحيحا , دون أي توجيه أو تكلف , و هذه الرواية هي الراجحة عندي للأسباب الآتية:
أولا: ثبوتها في " الفوائد " و نسختها جيدة.
ثانيا: أنها وقعت كذلك بالحاء المهملة في نسخة مخطوطة من كتاب " الترغيب و الترهيب " للحافظ المنذري محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق في مجلد ضخم فيه خرم , و هي و إن كانت نسخة مؤلفة من نسخ أو خطوط متنوعة , فإن الجزء الذي فيه هذا الحديث من نسخة جيدة مضبوطة متقنة , و مما يدلك على ذلك أنه كتب تحت الحاء من هذه الكلمة حرف حاء صغير هكذا (الرحال) , إشارة إلى أنه حرف مهمل كما هي عادة الكتاب المتقنين قديما فيما قد يشكل من الأحرف , و كذلك فعل في الصفحة التي قبل صفحة هذا الحديث , فإنه وقع فيها اسم (زحر) فكتب تحتها (ح) هكذا (زحر).
ثالثا: أن رواية الحاكم المتقدمة بلفظ: " يركبون على المياثر .. " تؤكد ما رجحنا , لأن (المياثر) جمع (ميثرة) و (الميثرة) بالكسر قال ابن الأثير: " مفعلة من الوثارة , يقال: وثر وثارة فهو وثير , أي وطيء لين , تعمل من حرير أو ديباج , يجعلها الراكب تحته على الرحال فوق الجمال ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/319)
فإذا عرفت هذا , فرواية الحاكم مفسرة للرواية الأولى , و بالجمع بينهما يكون المعنى أن السروج التي يركبونها تكون وطيئة لينة , و أنها (أعني السروج) هي كأشباه الرحال , أي من حيث سعتها.
و عليه فجملة " كأشباه الرحال " ليست في محل صفة لـ (رجال) كما شرحه البنا و غيره , و إنما هي صفة لـ (سروج). و ذلك يعني أن هذه السروج التي يركبها أولئك الرجال في آخر الزمان ليست سروجا حقيقية توضع على ظهور الخيل , و إنما هي أشباه الرحال. و أنت إذا تذكرت أن (الرحال) جمع رحل , و أن تفسيره كما في " المصباح المنير " و غيره: " كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع و مركب للبعير
" إذا علمت هذا يتبين لك بإذن الله أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير بذلك إلى هذه المركوبة التي ابتكرت في هذا العصر, ألا و هي السيارات , فإنها وثيرة وطيئة لينة كأشباه الرحال , و يؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سماها (بيوتا) في حديث آخر تقدم برقم (93) , لكن تبين فيما بعد أن فيه انقطاعا.
و إذا ففي الحديث معجزة علمية غيبية أخرى غير المتعلقة بالنساء الكاسيات العاريات , ألا و هي المتعلقة برجالهن الذين يركبون السيارات ينزلون على أبواب المساجد. و لعمر الله إنها لنبوءة صادقة نشاهدها كل يوم جمعة حينما تتجمع السيارات أمام المساجد حتى ليكاد الطريق على رحبه يضيق بها , ينزل منها رجال ليحضروا صلاة الجمعة , و جمهورهم لا يصلون الصلوات الخمس , أو على الأقل لا يصلونها في المساجد , فكأنهم قنعوا من الصلوات بصلاة الجمعة , و لذلك يتكاثرون يوم الجمعة و ينزلون بسياراتهم أمام المساجد فلا تظهر ثمرة الصلاة عليهم , و في معاملتهم لأزواجهم و بناتهم , فهم بحق " نساؤهم كاسيات عاريات "!
و ثمة ظاهرة أخرى ينطبق عليها الحديث تمام الانطباق , ألا و هي التي نراها في تشييع الجنائز على السيارات في الآونة الأخيرة من هذا العصر. يركبها أقوام لا خلاق لهم من الموسرين المترفين التاركين للصلاة , حتى إذا وقفت السيارة التي تحمل الجنازة و أدخلت المسجد للصلاة عليها , مكث أولئك المترفون أمام المسجد في سياراتهم , و قد ينزل عنها بعضهم ينتظرون الجنازة ليتابعوا تشييعها إلى قبرها نفاقا اجتماعيا و مداهنة , و ليس تعبدا و تذكرا للآخرة , و الله المستعان.
هذا هو الوجه في تأويل هذا الحديث عندي , فإن أصبت فمن الله , و إن أخطأت فمن نفسي , و الله تعالى هو المسؤول أن يغفر لي خطئي و عمدي , و كل ذلك عندي.
من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
2812 - (من اقتراب (و في رواية: أشراط) الساعة أن ترفع الأشرار و توضع الأخيار و يفتح القول و يخزن العمل و يقرأ بالقوم المثناة , ليس فيهم أحد ينكرها. قيل: و ما المثناة ? قال: ما استكتب سوى كتاب الله عز وجل).
ملاحظة: استكتب: الأصل: " اكتتب " , و التصويب من " النهاية " لابن الأثير و غيره. اهـ
(فائدة):
هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم , فقد تحقق كل ما فيه من الأنباء , و بخاصة منها ما يتعلق بـ (المثناة) و هي كل ما كتب سوى كتاب الله كما فسره الراوي , و ما يتعلق به من الأحاديث النبوية و الآثار السلفية , فكأن المقصود بـ (المثناة) الكتب المذهبية المفروضة على المقلدين. التي صرفتهم مع تطاول الزمن عن كتاب الله , و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما هو مشاهد اليوم مع الأسف من جماهير المتمذهبين , و فيهم كثير من الدكاترة و المتخرجين من كليات الشريعة , فإنهم جميعا يتدينون بالتمذهب , و يوجبونه على الناس حتى العلماء منهم , فهذا كبيرهم أبو الحسن الكرخي الحنفي يقول كلمته المشهورة: " كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة , و كل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ ". فقد جعلوا المذهب أصلا , و القرآن الكريم تبعا , فذلك هو (المثناة)
دون ما شك أو ريب. و أما ما جاء في " النهاية " عقب الحديث و فيه تفسير (المثناة): " و قيل: إن المثناة هي أخبار بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وضعوا كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله , فهو (المثناة) , فكأن ابن عمرو كره الأخذ عن أهل الكتاب , و قد كان عنده كتب وقعت إليه يوم اليرموك منهم. فقال هذا لمعرفته بما فيها ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/320)
قلت: و هذا التفسير بعيد كل البعد عن ظاهر الحديث , و أن (المثناة) من علامات اقتراب الساعة , فلا علاقة لها بما فعل اليهود قبل بعثته صلى الله عليه وسلم , فلا جرم أن ابن الأثير أشار إلى تضعيف هذا التفسير بتصديره إياه بصيغة " قيل " و أشد ضعفا منه ما ذكره عقبه: " قال الجوهري: (المثناة) هي التي تسمى بالفارسية (دوبيتي). وهو الغناء "!
كتاب المعاملات والآداب والحقوق العامة
جواز الدعاء بطول العمر وكثرة المال والولد
2241 - (اللهم أكثر ماله و ولده و بارك له فيما أعطيته. يعني أنسا رضي الله عنه).
ففيه جواز الدعاء للإنسان بطول العمر , كما هي العادة في بعض البلاد العربية , خلافا لقول بعض العلماء و يؤيده أنه لا فرق بينه و بين الدعاء بالسعادة و نحوها , إذ إن كل ذلك مقدر , فتأمل.
بما يجيب الكافر اذا سلم
2242 - (إذا مررتم باليهود ... فلا تسلموا عليهم و إذا سلموا عليكم فقولوا: و عليكم).
أخرجه الفسوي في "المعرفة" (2/ 491): حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن # أبي بصرة الغفاري # قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكره بزيادة (و النصارى). قلت: و هذا إسناد صحيح , رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أن البخاري روى لعبد الحميد بن جعفر تعليقا. لكني أرى أن ذكر (النصارى) في هذا الحديث خطأ لعله من بعض الناسخين.
و اعلم أن عدم ثبوت لفظه (النصارى) لا يعني جواز ابتدائهم بالسلام لأنه قد صح النهي عن ذلك في غيرما حديث صحيح , و في بعضها اللفظ المذكور , كما صح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: و عليكم". و هي مخرجة في "الإرواء" (5/ 111 - 118) , و الرد عليهم بـ (و عليكم) محمول عندي على ما إذا لم يكن سلامهم صريحا , و إلا وجب مقابلتهم بالمثل: (و عليكم السلام) لعموم قوله تعالى: (و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) , و لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم اليهود - فإنما يقول أحدهم:السام عليكم - فقل: و عليك ". أخرجه البخاري (6257) و مسلم و غيرهما. و لعل هذا هو وجه ما حكاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 45) عن جماعة من السلف أنهم ذهبوا إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم: "عليكم السلام" كما يرد على المسلم. و الله سبحانه و تعالى أعلم.
بيع الأجل بزيادة في الثمن
2326 - (من باع بيعتين في بيعة , فله أوكسهما أو الربا).
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 120/502) و عنه (3461) و ابن حبان في "صحيحه" (1110) و كذا الحاكم (2/ 45) و البيهقي (5/ 343): أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
قلت: و هذا سند حسن و قد صححه الحاكم , و وافقه الذهبي , ثم ابن حزم في "المحلى" (9/ 16). و رواه النسائي (7/ 296 - الطبعة الجديدة) و الترمذي (1/ 232) و صححه , و ابن الجارود (286) و ابن حبان أيضا (1109) و البغوي في "شرح السنة" (8/ 142/211) و صححه أيضا , و أحمد (2/ 432و475و503) و البيهقي من طرق عن محمد بن عمرو به بلفظ: "نهى عن بيعتين في بيعة".و قال البيهقي: " قال عبد الوهاب (يعني: ابن عطاء): "يعني: يقول: هو لك بنقد بعشرة , و بنسيئة بعشرين". و بهذا فسره الإمام ابن قتيبة , فقال في "غريب الحديث" (1/ 18): "و من البيوع المنهي عنها ... شرطان في بيع , و هو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين و إلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير و هو بمعنى بيتعتين في بيعة". و الحديث بهذا اللفظ مختصر صحيح , فقد جاء من حديث ابن عمر و ابن عمرو , و هما مخرجان في "الإرواء" (5/ 150 - 151). و لعل في معنى الحديث قول ابن مسعود: "الصفقة في الصفقتين ربا". أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8/ 138 - 139) و ابن أبي شيبة أيضا (6/ 199) و ابن حبان (163و1111) و الطبراني (41/ 1) و سنده صحيح , و في سماع عبد الرحمن من أبيه ابن مسعود خلاف , و قد أثبته جماعة و المثبت مقدم على النافي. و رواه أحمد (1/ 393) و هو رواية لابن حبان (1112) بلفظ: " لا تصلح سفقتان في سفقة (و لفظ ابن حبان: لا يحل صفقتان في صفقة) و إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه ". و سنده صحيح أيضا. و
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/321)
كذا رواه ابن نصر في "السنة" (54). و زاد في رواية: "أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا و كذا , و إن كان إلى أجل فبكذا و كذا". و هو رواية لأحمد (1/ 398) , و جعله من قول سماك , الراوي عن عبد الرحمن بن عبد الله. ثم إن الحديث رواه ابن نصر (55) و عبد الرزاق في "المصنف" (8/ 137/14629) بسند صحيح عن شريح قال: فذكره من قوله مثل لفظ حديث الترجمة بالحرف الواحد.
قلت: و سماك هو ابن حرب و هو تابعي معروف , قال: أدركت ثمانين صحابيا. فتفسيره للحديث ينبغي أن يقدم - عند التعارض - و لاسيما و هو أحد رواة هذا الحديث , و الراوي أدرى بمرويه من غيره لأن المفروض أنه تلقى الرواية من الذي رواها عنه مقرونا بالفهم لمعناها , فكيف و قد وافقه على ذلك جمع من علماء السلف و فقهائهم:
1 - ابن سيرين , روى أيوب عنه: أنه كان يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقدا , أو بخمسة عشر إلى أجل. أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8/ 137/14630) بسند صحيح عنه. و ما كره ذلك إلا لأنه نهي عنه.
2 - طاووس , قال: إذا قال: هو بكذا و كذا إلى كذا و كذا , و بكذا و كذا إلى كذا و كذا , فوقع المبيع على هذا , فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. أخرجهعبد الرزاق أيضا (14631) بسند صحيح أيضا. و رواه هو (14626) و ابن أبي شيبة (6/ 120) من طريق ليث عن طاووس به مختصرا , دون قوله: "فوقع البيع .. ". و زاد: "فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه , فلا بأس به". فهذا لا يصح عن طاووس لأن ليثا - و هو ابن أبي سليم - كان اختلط.
3 - سفيان الثوري , قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا , و بالنسيئة بكذا و كذا , فذهب به المشتري , فهو بالخيار في البيعين , ما لم يكن وقع بيع على أحدهما , فإن وقع البيع هكذا , فهو مكروه و هو بيعتان في بيعة و هو مردود و هو منهي عنه , فإن وجدت متاعك بعينه أخذته , و إن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين , و أبعد الأجلين. أخرجه عبد الرزاق (14632) عنه.
4 - الأوزاعي , نحوه مختصرا , و فيه: "فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين". ذكره الخطابي في "معالم السنن" (5/ 99). ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث و اللغة , فمنهم:
5 - الإمام النسائي , فقال تحت باب "بيعتين في بيعة": " و هو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمئة درهم نقدا , و بمئتي درهم نسيئة ". و بنحوه فسر أيضا حديث ابن عمرو: " لا يحل شرطان في بيع " , و هو مخرج في "الإرواء" (1305) و انظر "صحيح الجامع" (7520).
6 - ابن حبان , قال في "صحيحه" (7/ 225 - الإحسان): "ذكر الزجر عن بيع الشيء بمئة دينار نسيئة , و بتسعين دينارا نقدا". ذكر ذلك تحت حديث أبي هريرة باللفظ الثاني المختصر.
7 - ابن الأثير في "غريب الحديث" , فإنه ذكر ذلك في شرح الحديثين المشار إليهما آنفا.
حكم بيع التقسيط: و قد قيل في تفسير (البيعتين) أقوال أخرى , و لعله يأتي بعضها , و ما تقدم أصح و أشهر , و هو ينطبق تماما على المعروف اليوم بـ (بيع التقسيط) , فما حكمه؟
لقد اختلف العلماء في ذلك قديما و حديثا على ثلاثة
أقوال: الأول: أنه باطل مطلقا. و هو مذهب ابن حزم.
الثاني: أنه لا يجوز إلا إذا تفرقا على أحدهما. و مثله إذا ذكر سعر التقسيط فقط.
الثالث: أنه لا يجوز , و لكنه إذا وقع و دفع أقل السعرين جاز.
1 - جليل هذا المذهب ظاهر النهي في الأحاديث المتقدمة , فإن الأصل فيه أنه يقتضي البطلان. و هذا هو الأقرب إلى الصواب لولا ما يأتي ذكره عند الكلام على دليل القول الثالث.
2 - ذهب هؤلاء إلى أن النهي لجهالة الثمن , قال الخطابي: "إذا جهل الثمن بطل البيع. فأما إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد , فهو صحيح".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/322)
و أقول: تعليلهم النهي عن بيعتين في بيعة بجهالة الثمن , مردود لأنه مجرد رأي مقابل النص الصريح في حديث أبي هريرة و ابن مسعود أنه الربا. هذا من جهة.و من جهة أخرى أن هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب و القبول في البيوع , و هذا مما لا دليل عليه في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل يكفي في ذلك التراضي و طيب النفس , فما أشعر بهما و دل عليهما فهو البيع الشرعي و هو المعروف عند بعضهم ببيع المعاطاة " , قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 126): "و هذه المعطاة التي تحقق معها التراضي و طيبة النفس هي البيع الشرعي الذي أذن الله به , و الزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع". و قد شرح ذلك شيخ الإسلام في "الفتاوي" (29/ 5 - 21) بما لا مزيد عليه , فليرجع إليه من أراد التوسع فيه.
قلت: و إذا كان كذلك , فالشاري حين ينصرف بما اشتراه , فإما أن ينقد الثمن , و إما أن يؤجل , فالبيع في الصورة الأولى صحيح , و في الصورة الأخرى ينصرف و عليه ثمن الأجل -و هو موضع الخلاف- فأين الجهالة المدعاة ? و بخاصة إذا كان الدفع على أقساط , فالقسط الأول يدفع نقدا , و الباقي أقساط حسب الاتفاق. فبطلت علة الجهالة أثرا و نظرا.
3 - دليل القول الثالث حديث الترجمة و حديث ابن مسعود , فإنهما متفقان على أن "بيعتين في بيعة ربا" , فإذن الربا هو العلة , و حينئذ فالنهي يدور مع العلة وجودا و عدما , فإذا أخذ أعلى الثمنين , فهو ربا , و إذا أخذ أقلهما فهو جائز كما تقدم عن العلماء الذين نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين , فإنه بذلك لا يكون قد باع بيعتين في بيعة , ألا ترى أنه إذا باع السلعة بسعر يومه , و خير الشاري بين أن يدفع الثمن نقدا أو نسيئة أنه لا يصدق عليه أنه باع بيعتين في بيعة كما هو ظاهر , و ذلك ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في قوله المتقدم: "فله أوكسهما أو الربا" , فصحح البيع لذهاب العلة , و أبطل الزيادة لأنها ربا , و هو قول طاووس و الثوري و الأوزاعي رحمهم الله تعالى كما سبق. و منه تعلم سقوط قول الخطابي في "معالم السنن" (5/ 97): "لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث , و صحح البيع بأوكس الثمنين , إلا شيء يحكى عن الأوزاعي , و هو مذهب فاسد , و ذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر و الجهل".
قلت: يعني الجهل بالثمن كما تقدم عنه و قد علمت مما سلف أن قوله هو الفاسد لأنه أقامه على علة لا أصل لها في الشرع , بينما قول الأوزاعي قائم على نص الشارع كما تقدم , و لهذا تعقبه الشوكاني بقول في "نيل الأوطار" (5/ 129): "و لا يخفى أن ما قاله الأوزاعي هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع".
قلت: الخطابي نفسه قد ذكر أن الأوزاعي قال بظاهر الحديث , فلا فرق بينه و بين الخطابي من هذه الحيثية إلا أن الخطابي تجرأ في الخروج عن هذا الظاهر و مخالفته لمجرد علة الجهالة التي قالوها برأيهم خلافا للحديث. و العجيب حقا أن الشوكاني تابعهم في ذلك بقوله: "و العلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين .. ". و ذلك لأن هذه المتابعة تتماشى مع الذين يوجبون الإيجاب و القبول في البيوع , و الشوكاني يخالفهم في ذلك , و يقول بصحة بيع المعاطاة , و في هذه الصورة (أعني المعطاة) الاستقرار متحقق كما بينته آنفا. ثم إنه يبدو أن الشوكاني -كالخطابي - لم يقف على من قال بظاهر الحديث - كالأوزاعي - , و إلا لما سكت على ما أفاده كلام الخطابي من تفرد الأوزاعي , و قد روينا لك بالسند الصحيح سلفه في ذلك - و هو التابعي الجليل طاووس - و موافقة الإمام الثوري له , و تبعهم الحافظ ابن حبان , فقال في "صحيحه" (7/ 226): "ذكر البيان بأن المشتري إذا اشترى بيعتين في بيعة على ما وصفنا و أراد مجانبة الربا كان له أوكسهما". ثم ذكر حديث الترجمة , فهذا مطابق لما سبق من أقوال أولئك الأئمة , فليس الأوزاعي وحده الذي قال بهذا الحديث.
أقول هذا بيانا للواقع , و لكي لا يقول بعض ذوي الأهواء أو من لا علم عنده , فيزعم أن مذهب الأوزاعي هذا شاذ! و إلا فلسنا - و الحمد لله - من الذين لا يعرفون الحق إلا بكثرة القائلين به من الرجال , و إنما بالحق نعرف الرجال.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/323)
و الخلاصة أن القول الثاني ثم أضعف الأقوال لأنه لا دليل عنده إلا الرأي , مع مخالفة النص , و يليه القول الأول لأن ابن حزم الذي قال به ادعى أن حديث الترجمة منسوخ بأحاديث النهي عن بيعتين في بيعة , و هذه دعوى مردودة لأنها خلاف الأصول , فإنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع , و هذا من الممكن هنا بيسر , فانظر مثلا حديث ابن مسعود , فإنك تجده مطابقا لهذه الأحاديث , و لكنه يزيد عليها ببيان علة النهي , و أنها (الربا). و حديث الترجمة يشاركه في ذلك , و لكنه يزيد عليه فيصرح بأن البيع صحيح إذا أخذ الأوكس , و عليه يدل حديث ابن مسعود أيضا لكن بطريق الاستنباط على ما تقدم بيانه. هذا ما بدا لي من طريقة الجمع بين الأحاديث و التفقه فيها , و ما اخترته من أقوال العلماء حولها , فإن أصبت فمن الله , و إن أخطأت فمن نفسي , و الله أسأل أن يغفره لي و كل ذنب لي. و اعلم أخي المسلم! أن هذه المعاملة التي فشت بين التجار اليوم , و هي بيع التقسيط , و أخذ الزيادة مقابل الأجل , و كلما طال الأجل زيد في الزيادة , إن هي إلا معاملة غير شرعية من جهة أخرى لمنافاتها لروح الإسلام القائم على التيسير على الناس و الرأفة بهم , و التخفيف عنهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى , سمحا إذا اقتضى". رواه البخاري. و قوله: من كان هينا , لينا , قريبا حرمه الله على النار". رواه الحاكم و غيره , و قد سبق تخريجه برقم (938). فلو أن أحدهم اتقى الله تعالى , و باع بالدين أو بالتقسيط بسعر النقد , لكان أربح له حتى من الناحية المادية لأن ذلك مما يجعل الناس يقبلون عليه و يشترون من عنده و يبارك له في رزقه , مصداق قوله عز وجل: (و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب). و بهذه المناسبة أنصح القراء بالرجوع إلى رسالة الأخ الفاضل عبد الرحمن عبد الخالق: "القول الفصل في بيع الأجل" فإنها فريدة في بابها , مفيدة في موضوعها , جزاه الله خيرا.
تحريم الخمر وبيعها
2348 - (إن الله تعالى حرم الخمر , فمن أدركته هذه الآية و عنده منها شيء , فلا يشرب و لا يبع).
أخرجه مسلم (5/ 39) و أبو يعلى في "مسنده" (2/ 320/1056) قالا - و السياق لمسلم -: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى أبو همام حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بالمدينة قال: "يا أيها الناس إن الله تعالى يعرض بالخمر , و لعل الله سينزل فيها أمرا , فمن كان عنده منها شيء , فليبعه و لينتفع به". فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره. قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طرق المدينة فسفكوها. (سفكوها): أي: أراقوها. و من هذا الوجه أخرجه البيهقي في "السنن" (6/ 11).
و الظاهر أن الآية التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى في سورة المائدة (91): (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل أنتم منتهون). و هو آخر آية أنزلت في تحريم الخمر كما يبدو من حديث عمر المروي في الترمذي و غيره , و قد صححه ابن المديني كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 92) و لعله من شواهده المذكورة في "الدر المنثور" (2/ 314 - 316) و صححه الحاكم (4/ 143) و وافقه الذهبي.
و في الحديث فائدة هامة , و هي الإشارة إلى أن الخمر طاهرة مع تحريمها , و إلا لم يرقها الصحابة في طرقهم و ممراتهم و لأراقوها بعيدة عنها , كما هو شأن النجاسات كلها , كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا اللاعنين". قالوا: و ما اللاعنان؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس , أو في ظلهم". رواه مسلم و غيره , و هو مخرج في "الإرواء" (1/ 100 - 101) و غيره.
و قد اختلف الناس في ذلك , و قد قال كثير من الأئمة المتقدمين بطهارتها , مثل ربيعة الرأي و الليث بن سعد , و كثير من المحدثين و غيرهم , و قد كنت فصلت القول في ذلك في "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" , و قد تم طبعه و الحمد لله , و أصبح في متناول أيدي القراء.
من آداب الطريق
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/324)
2501 - (إياكم و الجلوس في الصعدات (و في رواية: الطرق) فإن كنتم لابد فاعلين , فأعطوا الطريق حقه. قيل: و ما حقه؟ قال: غض البصر و رد السلام و إرشاد الضال).
و اعلم أن في هذه الأحاديث مجموعة طيبة من الآداب الإسلامية الهامة بأدب الجلوس في الطرق و أفنية الدور , ينبغي على المسلمين الاهتمام بها , و لاسيما ما كان منها من الواجبات مثل غض البصر عن النساء المأمور به في كثير من الأحاديث الأخرى , و في قول ربنا تبارك و تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) النور30.
فإذا كان هذا الأمر الإلهي قد وجه مباشرة إلى ذاك الجيل الأول الأطهر الأنور و لم يكن يومئذ ما يمكن أن يرى من النساء إلا الوجه و الكفان و من بعضهن , كما تواترت الأحاديث بذلك كحديث الخثعمية , و حديث بنت هبيرة و غيرهما مما هو مذكور في "جلباب المرأة" و "آداب الزفاف". أقول: إذا لم يكن إلا هذا مما يمكن أن يرى من النساء يومئذ , فإن مما لا شك فيه أنه يتأكد الأمر بغض النظر في هذا الزمن الذي وجدت فيه "النساء الكاسيات العاريات" اللاتي قال فيهن النبي صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد .. " الحديث , و فيه: "و نساء كاسيات عاريات , مميلات مائلات , رؤوسهن كأسنمة البخت , لا يدخلن الجنة .. " الحديث. و قد مضى بتمامه مع تخريجه برقم (1326). فالواجب على كل مسلم - و بخاصة الشباب منهم - أن يغضوا من أبصارهم , و عن النظر إلى الصور الخليعة المهيجة لنفوسهم , و المحركة لكامن شهواتهم , و أن يبادروا إلى الزواج المبكر إحصانا لها , فإن لم يستطيعوا , فعليهم بالصوم فإنه وجاء كما قال عليه الصلاة والسلام , و هو حديث صحيح مخرج في "الإرواء" (1781) , و لا يركنوا إلى الإستمناء (العادة السرية) مكان الصيام , فيكونوا كالذين قال الله فيهم من المغضوب عليهم (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)؟! (البقرة61). أسأل الله تعالى أن يستعملنا و المسلمين في طاعته , و أن يصرفنا عما لا يرضيه من معصيته , إنه سميع مجيب.
من الآداب المهجورة في الانتعال
2570 - (إذا لبست نعليك فابدأ باليمنى و إذا خلعت فابدأ باليسرى و ليكن اليمنى أول ما تنتعل , و اليسرى آخر ما تحفى , و لا تمش في نعل واحد , اخلعهما جميعا أو البسهما جميعا)
و اعلم أن ما في هذا الحديث من الأدب في الانتعال , و التفريق بين البدء به والخلع , هو مما غفل عنه أكثر المسلمين في هذا الزمان لغلبة الجهل بالسنة , و فقدان المربين للناس عليها , و فيهم بعض من يزعم أنه من الدعاة إلى الإسلام , بل و فيهم من يقول في هذا الأدب: إنه من القشور , و توافه الأمور! فلا تغتر بهم أيها المسلم , فإنهم - والله - بالإسلام جاهلون , و له معادون من حيث يشعرون أو لا يشعرون , و قديما قيل: من جهل شيئا عاداه. و من عجيب أمرهم أنهم يطنطنون في خطبهم و محاضراتهم بوجوب تبني الإسلام كلا لا يتجزأ , فإذا بهم أول من يكفر بما إليه يدعون , و إن ذلك لبين في أعمالهم و أزيائهم , فتراهم أو ترى الأكثرين منهم لا يهتمون بالتزيي بزي نبيهم صلى الله عليه وسلم , و إنما بالتشبه بحسن البنا و أمثاله: لحية قصيرة , وكرافيت (عقدة العنق) , و بعضهم تكاد لحيتهم تكون على مذهب العوام في بعض البلاد: "خير الذقون إشارة تكون"! مع تزييه بلباس أهل العلم , العمامة و الجبة , و قد تكون كالخرج , و طويلة الذيل كلباس النساء! فإنا لله و إنا إليه راجعون.
قصة عمير مولى ابي اللحم رضي الله عنه وما فيها من الفقه
2580 - (أقبلت مع سادتي نريد الهجرة , حتى دنونا من المدينة , قال: فدخلوا المدينة وخلفوني في ظهرهم , قال: فأصابني مجاعة شديدة , قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا لي: لو دخلت المدينة فأصبت من ثمر حوائطها , فدخلت حائطا فقطعت منه قنوين , فأتاني صاحب الحائط , فأتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أخبره خبري , و علي ثوبان , فقال لي: " أيهما أفضل ? " , فأشرت له إلى أحدهما , فقال: " خذه " , و أعطى صاحب الحائط الآخر و خلى سبيلي).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/325)
من فقه الحديث: فيه دليل على جواز الأكل من مال الغير بغير إذنه عند الضرورة , مع وجوب البدل. أفاده البيهقي. قال الشوكاني (8/ 128): " فيه دليل على تغريم السارق قيمة ما أخذه مما لا يجب فيه الحد , و على أن الحاجة لا تبيح الإقدام على مال الغير مع وجود ما يمكن الانتفاع به أو بقيمته , و لو كان مما تدعو حاجة الإنسان إليه , فإنه هنا أخذ أحد ثوبيه و دفعه إلى صاحب النخل ". و من هنا يتبين خطأ الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه " النظام الاقتصادي في الإسلام " , فإنه أباح فيه (ص20 - 21) للفرد إذا تعذر عليه العمل و لم تقم الجماعة الإسلامية بأوده " أن يأخذ ما يقيم به أوده من أي مكان يجده , سواء كان ملك الأفراد أو ملك الدولة , و يكون ملكا حلالا له , و يجوز أن يحصل عليه بالقوة , و إذا أخذ الجائع طعاما يأكله أصبح هذا الطعام ملكا له "! و وجه الخطأ واضح جدا , و ذلك من عدة نواح , أهمها معارضته للحديث , فإنه لم يملك الجائع ما أخذه من الطعام ما دام يجد بدله. و منها أن المحتاج له طرق مشروعة لابد له من سلوكها كالاستقراض دون فائدة , و سؤال الناس ما يغنيه شرعا , و نحو ذلك من الوسائل الممكنة. فما بال الشيخ - عفا الله عنه - صرف النظر عنها , و أباح للفرد أخذ المال بالقوة دون أن يشترط عليه سلوك هذه الطرق المشروعة ?! و لست أشك أنه لو انتشر بين الناس رأي الشيخ هذا لأدى إلى مفاسد لا يعلم عواقبها إلا الله تعالى.
من السنة المصافحة عند التلاقي والمعانقة بعد العودة من السفر
2647 - (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا , و إذا قدموا من سفر تعانقوا).
فقه الحديث: يؤخذ من هذا الحديث فائدتان: الأولى: المصافحة عند التلاقي. و الأخرى: المعانقة بعد العودة من السفر. و لكل منهما شواهد عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الأولى , ففيها أحاديث كثيرة معروفة من فعله صلى الله عليه وسلم و قوله , و قد مضى بعضها في هذه " السلسلة " برقم (160 و 529 و 530 و 2004 و 2485). و انظر " الترغيب " (3/ 270 - 271) و " الآداب الشرعية "
لابن مفلح (2/ 277).
و أما الأخرى , ففيه حديث جابر رضي الله عنه قال: " لما قدم جعفر من الحبشة عانقه النبي صلى الله عليه وسلم ". و هو حديث صحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله في هذا المجلد برقم (2657).
قلت: و في ذلك من الفقه تفريق الصحابة بين الحضر و السفر في أدب التلاقي , ففي الحالة الأولى: المصافحة , و في الحالة الأخرى: المعانقة. و لهذا كنت أتحرج من المعانقة في الحضر , و بخاصة أنني كنت خرجت في المجلد الأول من هذه " السلسلة " (رقم 160) حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن الانحناء و الالتزام و التقبيل. ثم لما جهزت المجلد لإعادة طبعه , و أعدت النظر في الحديث , تبين لي أن جملة " الالتزام " ليس لها ذكر في المتابعات أو الشواهد التي بها كنت قويت الحديث , فحذفتها منه كما سيرى في الطبعة الجديدة من المجلد إن شاء الله , و قد صدر حديثا و الحمد لله.
فلما تبين لي ضعفها زال الحرج و الحمد لله , و بخاصة حين رأيت التزام ابن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث خروجه صلى الله عليه وسلم إلى منزله رضي الله عنه الثابت في " الشمائل المحمدية " (رقم 113 ص 79 - مختصر الشمائل) و لكن هذا إنما يدل على الجواز أحيانا , و ليس على الالتزام و المداومة كما لو كان سنة , كما هو الحال في المصافحة فتنبه.
و قد رأيت للإمام البغوي رحمه الله كلاما جيدا في التفريق المذكور و غيره , فرأيت من تمام الفائدة أن أذكره هنا , قال رحمه الله في " شرح السنة " (12/ 293) بعد أن ذكر حديث جعفر و غيره مما ظاهره الاختلاف:
" فأما المكروه من المعانقة و التقبيل , فما كان على وجه الملق و التعظيم , و في الحضر , فأما المأذون فيه فعند التوديع و عند القدوم من السفر , و طول العهد بالصاحب و شدة الحب في الله. و من قبل فلا يقبل الفم , و لكن اليد و الرأس و الجبهة.
و إنما كره ذلك في الحضر فيما يرى لأنه يكثر و لا يستوجبه كل أحد , فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم , و ظنوا أنه قصر بحقوقهم , و آثر عليهم , و تمام التحية المصافحة ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/326)
و اعلم أنه قد ذهب بعض الأئمة كأبي حنيفة و صاحبه محمد إلى كراهة المعانقة , حكاه عنهما الطحاوي خلافا لأبي يوسف.
و منهم الإمام مالك , ففي " الآداب الشرعية " (2/ 278): " و كره مالك معانقة القادم من سفر , و قال: " بدعة " , و اعتذر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بجعفر حين قدم , بأنه خاص له , فقال له سفيان: ما تخصه بغير دليل , فسكت مالك. قال القاضي: و سكوته دليل لتسليم قول سفيان و موافقته , و هو الصواب حتى يقوم دليل التخصيص ".
هذا و قد تقدم في كلام الإمام البغوي قوله بأنه لا يقبل الفم , و بين وجه ذلك الشيخ ابن مفلح في " الآداب الشرعية " , فقال (2/ 275): " و يكره تقبيل الفم , لأنه قل أن يقع كرامة ".
و يبدو لي من وجه آخر , و هو أنه لم يرو عن السلف , و لو كان خيرا لسبقونا إليه , و ما أحسن ما قيل: و كل خير في اتباع من سلف و كل شر في ابتداع من خلف. فالعجب من ذاك الدكتور الحلبي القصاص الواعظ الذي نصب نفسه للرد على علماء السلفيين و أتباعهم , و تتبع عثراتهم , و أقوالهم المخالفة لأقوال العلماء بزعمه , و ينسى نفسه , فقد سمعت له شريطا ينكر فيه على أحدهم عدم شرعية تقبيل الفم , و يصرح بأنه كتقبيل الجبهة و اليد و أنه لا فرق! فوقع في المخالفة التي ينكرها على السلفيين , و لو أن أحدا منهم قاس هذا القياس (البديع!) لأبرق و أرعد و صاح و تباكى , و حشد كل ما يستطيع حشده من أقوال العلماء! و أما هو فلا بأس عليه من مخالفتهم! * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *. أصلحه الله و هداه.
موضع الإزار
2682 - (يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه. يا عمرو! - و ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: - هذا موضع الإزار , ثم رفعها , [ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع الأولى ثم قال: يا عمرو! هذا موضع الإزار] , ثم رفعها , ثم وضعها تحت الثانية , فقال: يا عمرو! هذا موضع الإزار).
أخرجه أحمد (4/ 200): حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الوليد بن سليمان أن القاسم بن عبد الرحمن حدثهم عن عمرو بن فلان الأنصاري قال: بينا هو يمشي قد أسبل إزاره , إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم , و قد أخذ بناصية نفسه , و هو يقول: " اللهم عبدك ابن عبدك ابن أمتك ". قال عمرو: فقلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين. فقال: فذكره. و أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (8/ 277 / 7909).
قلت: و له شاهد من حديث أبي أمامة قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة , إزار و رداء , قد أسبل , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه , و يتواضع لله , و يقول: " اللهم عبدك و ابن عبدك و ابن أمتك ". حتى سمعها عمرو بن زرارة .. الحديث نحوه , و زاد: " يا عمرو بن زرارة إن الله لا يحب المسبل ". قال الهيثمي: " رواه الطبراني بأسانيد , و رجال أحدها ثقات ". و للزيادة شاهد في " شعب الإيمان " (2/ 222 / 2) و آخر سيأتي أول المجلد التاسع برقم (4004) و له شاهد ثالث يرويه عمرو بن الشريد يحدث عن أبيه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلا من ثقيف حتى هرول في أثره , حتى أخذ بثوبه فقال: " ارفع إزارك ". فكشف الرجل عن ركبتيه. فقال: يا رسول الله! إني أحنف , و تصطك ركبتاي , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل خلق الله عز وجل حسن ". قال: و لم ير ذلك الرجل إلا و إزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات ".
قلت: و إسناده صحيح على شرط الشيخين , و قد مضى برقم (1441). و يشهد لبعضه حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " موضع الإزار إلى أنصاف الساقين و العضلة , فإن أبيت فأسفل , فإن أبيت فمن وراء الساق , و لا حق للكعبين في الإزار "
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/327)
و اعلم أن الأحاديث في موضع الإزار استحبابا و إباحة و تحريما كثيرة , و بعضها في " الصحيحين " , و قد خرج الكثير الطيب منها الحافظ المنذري في " الترغيب و الترهيب " , و ليس هذا منها , و من الغريب أنه لم يذكره الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في هذا الباب من كتاب اللباس من " الفتح الرباني " (17/ 234) و لا أدري إذا كان قد ذكره في مكان آخر منه , و الوقت لايتسع للتحقق من ذلك , و لكن إن كان أورده فكان عليه أن ينبه على ذلك و أن يرشد إليه , تسهيلا للمراجعة على الباحث.
ثم أخبرني أحد إخواني أنه أخرجه (17/ 294).
و إنما آثرت تخريجه لأمرين:
الأول: أن فيه تحديدا عمليا بديعا لموضع الإزار المشروع و غير المشروع , لم أره في غيره من الأحاديث.
والآخر: أن فيه بيانا واضحا أن التفاوت الذي يرى في الناس بياضا و سوادا , و طولا و قصرا , و بدانة و نحولة , و هذا أشعر , و ذاك أجرد , و هذا ألحى (عظيم اللحية) و ذاك كوسج! أو زلهب , و غير ذلك من الفوارق الخلقية أن كل ذلك من خلق الله حسن , فلا ينبغي للمسلم أن يحاول تغيير خلق الله عز وجل , و إلا استحق اللعن كما في حديث " النامصات و المتنمصات , و الواشمات و المستوشمات , و الفالجات المغيرات لخلق الله للحسن ". متفق عليه , و يأتي تخريجه بإذن الله رقم (2792).
و كأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تسلية عمرو الأنصاري الذي أطال إزاره ليغطي حمش ساقيه بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أحسن كل شيء خلقه ".
و هذا مما يحمل المسلم على الرضا بقدر الله و قضائه في خلقه مهما بدا لبعض الناس ممن ضعف إيمانهم و تكاثف جهلهم أنه غير حسن! و هذا في الواقع مما يعطي قوة للرأي القائل بأن المرأة إذا نبت لها لحية أنه لا يجوز لها أن تحلقها أو تنتفها , لأن الله قد أحسن كل شيء خلقه. و لا شك أنها حين تنتفها إنما تفعل ذلك للحسن و التجمل كما تفعل الواصلة لشعرها , فتستحق بذلك لعنة الله , و العياذ بالله تعالى.
و أما بالنسبة للإزار , فالأحاديث صريحة في تحريم جره خيلاء , و أما بدونها فقد اختلفوا , فمنهم من حرمه أيضا , و هو الذي يدل عليه تدرجه صلى الله عليه وسلم مع عمرو في بيان مواضع الإزار استحبابا و جوازا , ثم انتهاؤه به إلى ما فوق الكعبين , و قوله له: " هذا موضع الإزار " , فإنه ظاهر أنه لا جواز بعد ذلك , و إلا لم يفد التدرج مع القول المذكور شيئا كما لا يخفى. و يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم " ما أسفل من الكعبين في النار ".
رواه البخاري عن ابن عمر. و يزيده قوة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة المتقدم " ... و لا حق للكعبين في الإزار ". قال أبو الحسن السندي في تعليقه عليه: " و الظاهر أن هذا هو التحديد , و إن لم يكن هناك خيلاء. نعم إذا انضم إلى الخيلاء اشتد الأمر , و بدونه الأمر أخف ".
قلت: نعم , و لكن مع التحريم أيضا لما سبق. و يقويه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن للنساء أن يرخين ذيولهن ثم أذن لهن أن يزدن شبرا لكي لا تنكشف أقدامهن بريح أو غيرها , لم يأذن لهن أن يزدن على ذلك , إذ لا فائدة من وراء ذلك فالرجال أولى بالمنع من الزيادة. استفدت هذا من الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح ".
و جملة القول: إن إطالة الثوب إلى ما تحت الكعبين لا يجوز للرجال , فإذا اقترن مع ذلك قصد الخيلاء اشتد الإثم , فمن مصائب الشباب المسلم اليوم إطالته سرواله (البنطلون) إلى ما تحت الكعبين , لاسيما ما كان منه من جنس (الشرلستون)! فإنه مع هذه الآفة التي فيه , فهو عريض جدا عند الكعبين , و ضيق جدا عند الفخذين و الأليتين , مما يصف العورة و يجسمها , و تراهم يقفون بين يدي الله يصلون و هم شبه عراة! فإنا لله و إنا إليه راجعون.
و من العجيب أن بعضهم ممن هو على شيء من الثقافة الإسلامية يحاول أن يستدل على جواز الإطالة المذكورة بقول أبي بكر لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ": يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لست ممن يصنعه خيلاء ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/328)
أخرجه البخاري و غيره كأحمد , و زاد في رواية: " يسترخي أحيانا " , و كذلك رواه البيهقي في " شعب الإيمان " (2/ 221 / 2).
قلت: فالحديث صريح في أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يطيل ثوبه , بل فيه أنه كان يسترخي بغير قصد منه , و أنه كان مع ذلك يتعاهده , فيسترخي على الرغم من ذلك أحيانا.
قال الحافظ (10/ 217) عقب رواية أحمد: " فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره , فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي , لأنه كلما كاد يسترخي شده ". ثم ذكر أن في بعض الروايات أنه كان نحيفا.
قلت: فهل يجوز الاستدلال بهذا و الفرق ظاهر كالشمس بين ما كان يقع من أبي بكر بغير قصد , و بين من يجعل ثوبه مسبلا دائما قصدا! نسأل الله العصمة من الهوى.
و إنما تكلمت عن إطالة البنطلون و السروال , لطرو هذه الشبهة على بعض الشباب , و أما إطالة بعض المشايخ أذيال جببهم خاصة في مصر , و إطالة الأمراء في بعض البلاد العربية لأعبئتهم فأمر ظاهر نكارته. نسأل الله السلامة و الهداية.
كتبت هذا لعل فيمن طرأت عليه الشبهة السابقة كان مخلصا , فحينما تتجلى له الحقيقة يبادر إلى الانتهاء عن تلك الآفة كما انتهى ذلك الشاب الذي كان عليه حلة صنعانية يجرها سبلا. فقال له ابن عمر رضي الله عنه: يا فتى هلم! قال: ما حاجتك يا أبا عبد الرحمن ? قال: ويحك أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة ? قال: سبحان الله! و ما يمنعني أن لا أحب ذلك ? قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا ينظر الله ... ". فلم ير ذلك الشاب إلا مشمرا حتى مات. رواه البيهقي بسند صحيح , و رواه أحمد (2/ 65) من طريق أخرى عن ابن عمر نحوه دون قوله: " فلم ير .... ".
صرف المسلم عن الاهتمام بما فوق حاجته
2830 - (أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا , إلا ما لا , يعني: ما لابد منه).
2831 - (إن الرجل يؤجر في نفقته كلها إلا في هذا التراب).
و اعلم أن المراد من هذا الحديث و الذي قبله - و الله أعلم - إنما هو صرف المسلم عن الاهتمام بالبناء و تشييده فوق حاجته , و إن مما لا شك فيه أن الحاجة تختلف باختلاف عائلة الباني قلة و كثرة , و من يكون مضيافا , و من ليس كذلك , فهو من هذه الحيثية يلتقي تماما مع الحديث الصحيح: " فراش للرجل , و فراش لامرأته , و الثالث للضيف , و الرابع للشيطان ". رواه مسلم (6/ 146) و غيره , و هو مخرج في " صحيح أبي داود ". و لذلك قال الحافظ بعد أن ساق حديث الترجمة و غيره: " و هذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه
, مما لابد منه للتوطن و ما يقي البرد و الحر ".
ثم حكى عن بعضهم ما يوهم أن في البناء كله الإثم! فعقب عليه الحافظ بقوله: " و ليس كذلك , بل فيه التفصيل , و ليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم .. فإن في بعض البناء ما يحصل به الأجر , مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني , فإنه يحصل للباني به الثواب , و الله سبحانه و تعالى أعلم ".
الأمر بعدم التشبه بالكفار
2834 - (إنهم يوفرون سبالهم و يحلقون لحاهم فخالفوهم. يعني المجوس).
أخرجه ابن حبان في " صحيحه " (5452 - الإحسان) و البيهقي في " سننه " (1/ 151) و أبو حامد الحضرمي في " حديثه " (ق 2/ 2) و أبو عروبة الحراني في " حديث الجزريين " (ق 146/ 1) من طرق عن معقل بن عبيد الله عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: فذكره , و زاد: " فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير ".
و اعلم أن في هذا الحديث توجيها نبويا كريما طالما غفل عنه كثير من خاصة المسلمين فضلا عن عامتهم , ألا و هو مخالفة الكفار المجوس و غيرهم كما في الحديث المتفق عليه: " إن اليهود و النصارى لا يصبغون فخالفوهم ".
و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة جدا معروفة. فالذي أريد بيانه إنما هو التنبيه على أن المخالفة المأمور بها هي أعم من التشبه المنهي عنه , ذلك أن التشبه أن يفعل المسلم فعل الكافر , و لو لم يقصد التشبه , و بإمكانه أن لا يفعله. فهو مأمور بأن يتركه. و حكمه يختلف باختلاف ظاهرة التشبه قوة و ضعفا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/329)
و أما المخالفة فهي على العكس من ذلك تماما فإنها تعني أن يفعل المسلم فعلا لا يفعله الكافر , إذا لم يكن في فعله مخالفة للشرع , كمثل الصلاة في النعال , فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها مخالفة لليهود , و قد تكون المخالفة لهم فيما هو من خلق الله في كل البشر لا فرق في ذلك بين مسلم و كافر , و رجل و امرأة , كالشيب مثلا , و مع ذلك أمر بصبغه مخالفة لهم كما تقدم , و هذا أبلغ ما يكون من الأمر بالمخالفة , فعلى المسلم الحريص على دينه أن يراعي ذلك في كل شؤون حياته , فإنه بذلك ينجو من أن يقع في مخالفة الأمر بالمخالفة , فضلا عن نجاته من التشبه بالكفار , الذي هو الداء العضال في عصرنا هذا. و الله المستعان.
الايات المنسوخة
2907 - (لو كان لابن آدم واديان من مال (و في رواية: من ذهب) لابتغى [واديا] ثالثا , و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , و يتوب الله على من تاب).
أقول: هذا حديث صحيح متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم , رواه عنه جماعة من أصحابه بألفاظ متقاربة , و قد خرجته عن جماعة منهم في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (18/ 14) منهم أنس عند الشيخين , و قد أخرجاه عن ابن عباس أيضا , و منهم ابن الزبير عند البخاري , و أبو موسى عند مسلم و غيره , و يأتي لفظه , و غيرهم , و عددهم نحو عشرة , و في الباب عن غيرهم تجد تخريجها في " مجمع الزوائد " (7/ 140 - 141 و 10/ 243 - 245) و يأتي تخريج بعضها مع سوق ألفاظها المناسبة لما أنا متوجه إليه الآن , و هو تحرير القول في الروايات المختلفة في حديث الترجمة:
هل هو حديث نبوي , أو حديث قدسي , أو قرآن منسوخ التلاوة؟
فأول ما يواجه الباحث و يلفت نظره للتحري ثلاثة أخبار عن الصحابة:
الأول: قول ابن عباس في رواية عنه عقب حديثه المشار؟ إليه آنفا: " فلا أدري من القرآن هو أم لا؟ ".
الثاني: قول أنس نحوه في رواية لمسلم و أحمد.
الثالث: قول أبي بن كعب من رواية أنس عنه قال: " كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) * ".
أخرجه البخاري (6440) و الطحاوي في " مشكل الآثار " (2/ 420).
و لا يخفى على البصير أن القولين الأولين لا يدلان على شيء مما سبقت الإشارة إليه , لأنه اعتراف صريح بعدم العلم , و لكنه مع ذلك فيه إشعار قوي بأنه كان من المعلوم لدى الصحابة أن هناك شيئا من القرآن رفع و نسخ , و لذلك لم يكتب في المصحف المحفوظ , فتأمل هذا , فإنه يساعدك على فهم الحقيقة الآتي بيانها.
و أما قول أبي: " كنا نرى .. " , فهو يختلف عن القولين الأولين , من جهة أنه كان الحديث المذكور أعلاه من القرآن , إما ظنا غالبا راجحا , و إما اعتقادا جازما , ذلك ما يدل عليه قوله: " نرى " , قال الحافظ (11/ 257): " بضم النون - أوله - أي نظن , و يجوز فتحها , من (الرأي) أي نعتقد ".
قلت: و الثاني هو الراجح عندي , بل الصواب الذي لا يجوز سواه لما سيأتي عنه و عن غيره من الصحابة الجزم به.
و لا ينافيه قوله: " حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) * " , لأنه يعني: فنسخت هذه تلك.
إذا عرفت هذا فإليك الآن الأحاديث المؤكدة لما دل عليه حديث أبي هذا: أن قوله: " لو كان لابن آدم واديان .. " إلخ كان قرآنا يتلى , ثم رفع و نسخ.
الحديث الأول: عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
2908 - (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن. فقرأ عليه: * (لم يكن الذين كفروا) * , و قرأ فيها: " إن ذات الدين الحنيفية المسلمة , لا اليهودية و لا النصرانية و لا المجوسية , من يعمل خيرا فلن يكفره ". و قرأ عليه: " لو أن لابن آدم واديا من مال لابتغى إليه ثانيا , و لو كان له ثانيا لابتغى إليه ثالثا .. " إلخ [قال: ثم ختمها بما بقي منها]).
الحديث الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/330)
2909 - (جاء رجل إلى عمر يسأله , فجعل ينظر إلى رأسه مرة , و إلى رجليه أخرى هل يرى من البؤس شيئا؟ ثم قال له عمر: كم مالك؟ قال: أربعون من الإبل! قال ابن عباس: صدق الله و رسوله: " لو كان لابن آدم واديان من ذهب .. " الحديث. فقال عمر: ما هذا؟ فقلت: هكذا أقرأنيها أبي. قال: فمر بنا إليه. قال: فجاء إلى أبي , فقال: ما يقول هذا؟ قال أبي: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الحديث الثالث: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال:
2910 - (" لقد كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب و فضة لابتغى إليهما آخر , و لا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب , و يتوب الله على من تاب).
الحديث الرابع: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:
2911 - (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا , و لو أعطي ثانيا لابتغى إليه ثالثا , و لا يملأ جوف ابن آدم .. " الحديث ").
الحديث الخامس عن أبي موسى الأشعري قال:
2912 - (" نزلت سورة فرفعت و حفظت منها: " لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثا , .. " الحديث).
و هذا البحث مما ساقني إلى تخريج حديث " الشيخ و الشيخة إذا زنيا " , لأنه من مشاهير منسوخ التلاوة عند العلماء , و أتبع ذلك بما ذكره الحافظ عن الصحابة في منسوخ التلاوة , ليعلم المومى إليه و غيره من المخرجين أن العلم و الفقه في الكتاب و السنة شيء , و مهنة تخريج الأحاديث شيء آخر. و الله المستعان.
2913 - (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة).
ورد من حديث عمر و زيد بن ثابت و أبي بن كعب و العجماء خالة أبي أمامة بن سهل.
إذا علمت ما تقدم , فاتفاق هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على رواية هذه الأحاديث الصريحة في رفع تلاوة بعض الآيات القرآنية , هو من أكبر الأدلة على عدالتهم و أدائهم للأمانة العلمية , و تجردهم عن الهوى , خلافا لأهل الأهواء الذين لا يستسلمون للنصوص الشرعية , و يسلطون عليها تأويلاتهم العقلية , كما تقدم عن بعض المعلقين! و لا ينافي تلك الأحاديث قول ابن عباس لما سئل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء ? فقال: " ما ترك إلا ما بين الدفتين ". رواه البخاري (5019).
فإنه إنما أراد من القرآن الذي يتلى , كما في " الفتح " , و من الدليل على ذلك أن ابن عباس من جملة من روى شيئا من ذلك كما يدل عليه قوله في الحديث المتقدم (2909): " صدق الله و رسوله: لو كان .. ".
ثم قال الحافظ (9/ 65) في آخر شرحه لحديث ابن عباس: " و يؤيد ذلك ما ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها , و بقي أمر حكمها أو لم يبق مثل حديث عمر: " الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ". و حديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة , قال: فأنزل الله فيهم قرآنا: " بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا " , و حديث أبي بن كعب: " كانت الأحزاب قدر البقرة ". و حديث حذيفة: " ما يقرؤون ربعها. يعني براءة ".
و كلها أحاديث صحيحة. و قد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه " كان يكره أن يقول الرجل: قرأت القرآن كله , و يقول: إن منه قرآنا قد رفع , و ليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ".
الأيمنون , الأيمنون , الأيمنون
2941 - (جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا بـ (قباء) , فجئت و أنا غلام [حدث] حتى جلست عن يمينه , [و جلس أبو بكر عن يساره] ثم دعا بشراب فشرب منه , ثم أعطانيه , و أنا عن يمينه , فشربت منه , ثم قام يصلي , فرأيته يصلي في نعليه ").
أخرجه أحمد (4/ 221) و ابن أبي عاصم في " الوحدان " (4/ 167 / 2148) من طريق مجمع بن يعقوب: أخبرنا محمد بن إسماعيل قال: قيل لعبد الله بن أبي حبيبة رضي الله عنه: هل أدركت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ? قال: فذكره.
و للحديث شاهد مختصر يرويه الصلت بن غالب الهجيمي عن مسلم به بديل عن أبي هريرة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرب على راحلته , ثم ناول الذي عن يمينه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/331)
وله شاهدا آخر أصح منه و أتم من حديث أنس. و فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " الأيمن فالأيمن ". رواه الشيخان و غيرهما , و قد سبق تخريجه برقم (1771).
ففي هذا نص على أن الساقي يبدأ بمن عن يمينه , و ليس بكبير القوم , أو أعلمهم , أو أفضلهم , و على ذلك جرى السلف الصالح كما تراه في " مصنف ابن أبي شيبة " (8/ 223). و قد روى هو و مسلم و عبد الرزاق و الحميدي في حديث أنس المشار إليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شرب: كان عن يمينه أعرابي و عن يساره أبو بكر , و عمر تجاهه , فقال: يا رسول الله! أعط أبا بكر , و خشي أن يعطي الأعرابي , فأبى صلى الله عليه وسلم و أعطى الأعرابي , و قال: الحديث.
و في رواية لمسلم: و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأيمنون , الأيمنون , الأيمنون ". قال أنس: فهي سنة , فهي سنة , و هي سنة.
فأقول: فمن الغرائب أن يصر كثير من الأفاضل على مخالفة هذه السنة , بل هذا الأدب الاجتماعي الذي تفرد الإسلام به - في مجالسهم الخاصة - , حيث لا يخشى أن يقع أي محظور في العمل بها سوى مخالفة عادة الآباء و الأجداد! و لقد كان إعراضهم عن هذه السنة الصحيحة اعتمادا منهم على تلك الفلسفة التي نفيتها آنفا - سببا لمخالفتهم هم أنفسهم إياها , حين لم يلتزموها عمليا , فصار الساقي يبدأ - على علم منهم - بأكابرهم و أمرائهم , و لو كانت فلسفتهم لا تنطبق عليهم! و أنا حين أقول هذا - أعلم أنهم إنما يصرون على هذه المخالفة من باب الحكمة و السياسة و المداراة , و أنهم لا يملكون غير ذلك لفساد النفوس و الأخلاق.
و لكني أقول: لو أنهم التزموا العمل بهذه السنة في مجالسهم الخاصة , و حضرها أحد أولئك الأمراء لانقلب الأمر و لاضطر هؤلاء إلى أن يسايسوا أهل المجلس , و لاسيما و هم من الساسة! و لما طمعوا أن يعاملوا بخلاف السنة , ثم لانتشرت هذه إلى مجالس الساسة الخاصة! و يشبه هذه المسألة إيجابا و سلبا مسألة القيام للداخل , فلما تركت هذه السنة بدعوى الاحترام و الإكرام لأهل العلم و الفضل , تحول ذلك مع الزمن إلى القيام لمن ليس في العير و لا النفير كما يقال , بل إلى القيام للفساق و الفجار. بل و لأعداء الله! فهل من معتبر ?!.
أما صلاته صلى الله عليه وسلم في نعليه الوارد في آخر حديث الترجمة فله شواهد كثيرة تبلغ مبلغ التواتر في " الصحيحين " , و غيرهما , و بعضها مخرج في " صحيح أبي داود " (657 و 658 و 659 و 660).
ليس للجار أن يمنع جاره من الوضع
2947 - (" من بنى بناء فليدعمه حائط جاره. و في لفظ: من سأله جاره أن يدعم على حائطه فليدعه).
قد اختلف العلماء في الأمر المذكور في الحديث هل هو للوجوب أو الندب , و قد أطال الكلام فيه كثير من العلماء كأبي جعفر الطحاوي و ابن جرير الطبري و ابن حجر العسقلاني و غيرهم , و ذهب إلى الوجوب الإمام أحمد و غيره , و مذهب الجمهور الاستحباب و إلى هذا مال الطبري في أول بحثه , و أطال النفس و المناقشة فيه.
و لكنه انتهى في آخره إلى أنه ليس للجار أن يمنع جاره من الوضع , قال (ص 796 - 797): " فهو بتقدمه على ما نهاه عنه عليه السلام من ذلك لله عاص , و لنهي نبيه صلى الله عليه وسلم مخالف , من غير أن يكون ذلك لجاره الممنوع منه حقا يلزم الحكام الحكم به على المانع , أحب المانع ذلك أو سخط ".
فأقول: و هذا الذي انتهى إليه الإمام الطبري هو الصواب إن شاء الله تعالى , إلا ما ذكره في الحكام , فأرى أن يترك ذلك للقضاء الشرعي يحكم بما يناسب الحال و الزمان , فقد وصل الحال ببعض الناس إلى وضع لا يطاق من الأنانية و الاستبداد و منع الارتفاق , بسبب القوانين الوضعية القائمة على المصالح المادية دون المبادىء الخلقية , فقد حدثني ثقة أنه لما استعد لبناء داره في أرضه رمى مواد البناء في أرض بوار بجانبه , فمنعه من ذلك صاحبها , و ساعده القانون على ذلك و لم يتمكن من متابعة البناء إلا بعد أن دفع لهذا الظالم الجشع من الدنانير ما أسكته , و أسقط الدعوى التي كان أقامها على الباني! مع أنه من كبار الأغنياء , و صدق الله: * (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) * , و لا ينفع في مثل هذا الطاغي إلا مثل ما فعل الأنصار في مثله , و هو ما رواه البيهقي في " سننه " (6/ 69) من طريق
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/332)
إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بإسناده الصحيح إلى يحيى بن جعدة - و هو تابعي ثقة - قال: أراد رجل بالمدينة أن يضع خشبة على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه , فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله أنه نهاه أن يمنعه , فجبر على ذلك. و في الطريق إلى إسحاق - و هو ابن راهويه - شيخ البيهقي أبو عبد الرحمن السلمي , و فيه كلام كثير , فإن كان قد توبع فالأثر صحيح , و هو الظاهر من صنيع الحافظ , فقد عزاه في " الفتح " (5/ 111) لإسحاق في " مسنده " , و البيهقي , و سكت عنه. فإن " مسند إسحاق " الذي طبع حديثا بعض مجلداته ليس من رواية السلمي هذا
. و الله أعلم.
كتاب فضائل القرآن والأدعية والأذكار والرقى
فضل حافظ القرآن
2240 - (يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارتق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا , فإن منزلتك عند آخر آية (كنت) تقرأ بها).
أخرجه أبو داود (1464) و الترمذي (2915) و ابن حبان (1790) و الزيادة له و الحاكم (1/ 552 - 553) و ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 498) و ابن نصر في "قيام الليل" (ص 70) و أحمد (2/ 192) و الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص76 - 77) و البغوي في "شرح السنة" (4/ 435/1178) و ابن عبد الهادي في "هداية الإنسان" (2/ 44/1) من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله - زاد بعضهم: ابن عمرو - مرفوعا , و أوقفه بعضهم و هو في حكم المرفوع , و قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". و قال الذهبي: "صحيح".
و اعلم أن المراد بقوله: "صاحب القرآن", حافظه عن ظهر قلب على حد قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله .. " , أي أحفظهم , فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا , و ليس على حسب قراءته يومئذ و استكثاره منها كما توهم بعضهم , ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن , لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك و تعالى , و ليس للدنيا و الدرهم و الدينار , و إلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أكثر منافقي أمتي قراؤها". و قد مضى تخريجه برقم (750).
دعاؤه صلى الله عليه وسلم لمكة والمدينة والشام بالبركة
2246 - (اللهم بارك لنا في مكتنا , اللهم بارك لنا في مدينتنا , اللهم بارك لنا في شامنا , و بارك لنا في صاعنا , و بارك لنا في مدنا , فقال رجل: يا رسول الله! و في عراقنا , فأعرض عنه , فرددها ثلاثا , كل ذلك يقول الرجل: و في عراقنا , فيعرض عنه , فقال: بها الزلازل و الفتن , و فيها يطلع قرن الشيطان).
و إنما أفضت في تخريج هذا الحديث الصحيح و ذكر طرقه و بعض ألفاظه لأن بعض المبتدعة المحاربين للسنة و المنحرفين عن التوحيد يطعنون في الإمام محمد بن عبد الوهاب مجدد دعوة التوحيد في الجزيرة العربية , و يحملون الحديث عليه باعتباره من بلاد (نجد) المعروفة اليوم بهذا الاسم , و جهلوا أو تجاهلوا أنها ليست هي المقصودة بهذا الحديث , و إنما هي (العراق) كما دل عليه أكثر طرق الحديث , و بذلك قال العلماء قديما كالإمام الخطابي و ابن حجر العسقلاني و غيرهم. و جهلوا أيضا أن كون الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنه هو مذموم أيضا إذا كان صالحا في نفسه , و العكس بالعكس. فكم في مكة و المدينة و الشام من فاسق و فاجر , و في العراق من عالم و صالح. و ما أحكم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء حينما دعاه أن يهاجر من العراق إلى الشام: "أما بعد , فإن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا , و إنما يقدس الإنسان عمله". و في مقابل أولئك المبتدعة من أنكر هذا الحديث و حكم عليه بالوضع لما فيه من ذم العراق كما فعل الأستاذ صلاح الدين المنجد في مقدمته على "فضائل الشام و دمشق" , و رددت عليه في تخريجي لأحاديثه , و أثبت أن الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم العلمية , فانظر الحديث الثامن منه.
فضل أخذ السبع الأول من القرآن
2305 - (من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر).
(تنبيه): "حبر" بفتح المهملة و كسرها , أي عالم. كذا وقع في المصادر المذكورة , سوى "المشكل" و "المستدرك" , فوقع فيهما بلفظ " خير " بالخاء المعجمة , و كذلك وقع في "الجامع الصغير "معزوا للحاكم و البيهقي في "الشعب" و عليه شرح المناوي. و الله أعلم.
(فائدة): المقصود من (السبع الأول): السور السبع الطوال من أول القرآن , و هي مع عدد آياتها:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/333)
1 - البقرة (286) , 2 - آل عمران (200)
3 - النساء (176) , 4 - المائدة (120)
5 - الأنعام (165) , 6 - الأعراف (206)
7 - التوبة (129).
ايزار المؤمن
2506 - (ما استجار عبد من النار سبع مرات في يوم إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلانا قد استجارك مني فأجره , و لا يسأل الله عبد الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب! إن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة)
(فائدة): لقد اعتاد بعض الناس في دمشق و غيرها التسبيع المذكور في هذا الحديث جهرا و بصوت واحد عقب صلاة الفجر , و ذلك مما لا أعلم له أصلا في السنة المطهرة , و لا يصلح مستندا لهم هذا الحديث لأنه مطلق , ليس مقيدا بصلاة الفجر أولا , و لا بالجماعة , و لا يجوز تقييد ما أطلقه الشارع الحكيم , كما لا يجوز إطلاق ما قيده , إذ كل ذلك شرع يختص به العليم الحكيم. فمن أراد العمل بهذا الحديث , فليعمل به في أي ساعة من ليل أو نهار , قبل الصلاة , أو بعدها. و ذلك هو محض الاتباع , والإخلاص فيه. رزقنا الله تبارك و تعالى إياه. و أما حديث: " إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم: "اللهم أجرني من النار" سبع مرات .. " الحديث , فهو ضعيف كما تراه محققا في "الضعيفة" (1624) فلا تغتر بمن حسنه , فإنها زلة عالم , و لا بمن قلده , فإنه لا علم عنده. ثم طبع "مسند أبي يعلى" بتحقيق الأخ حسين سليم أسد , فإذا به يضيف حديث الترجمة! و يقول في التعليق عليه: "إسناده ضعيف , يونس هو ابن خباب , قال يحيى بن سعيد: كان كذابا .. ". ثم أفاض في نقل أقوال الأئمة في تضعيف يونس هذا , ثم نقل عن "مجمع الزوائد" (10/ 171) أنه قال: "رواه البزار , و فيه يونس بن خباب , و هو ضعيف".
قلت: أصاب البزار , و أخطأ المعلق المشار إليه خطأ فاحشا , و خلط خلطا قبيحا بين راويين , أحدهما ثقة , و هو يونس بن يزيد الأيلي في إسناد أبي يعلى , و الآخر واه , و هو يونس بن خباب , و ذلك لمجرد التقائهما في الاسم و الطبقة , و إن اختلف شيوخهما والرواة عنهما! و الواجب في مثل هذا التأني و التحري في شأنهما حتى يتمكن من التعرف على شخصيتهما , و إلا وقع في الخطأ و لابد , كما حصل للمشار إليه ذلك لأن البزار رحمه الله قد ساق الحديث بأسانيد له عن يونس بن خباب كما في "كشف الأستار" (4/ 51) منها قوله: و حدثنا يوسف بن موسى: حدثنا جرير بن عبدالحميد عن ليث عن يونس بن خباب عن أبي علقمة عن أبي هريرة به. و من هذا الوجه أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة" (1/ 9/68) من طريق أخرى عن جرير به , إلا أنه وقع فيه: "أبي حازم بن يونس". و أظن أن قوله: " ابن يونس " خطأ من الناسخ أو الطابع , فإنه في "حادي الأرواح" على الصواب من الطريق نفسها. على أن قول يونس بن خباب: "عن أبي حازم" غير محفوظ عن يونس و الظاهر أنه من تخاليط ليث , و هو ابن أبي سليم , كان تارة يرويه هكذا , و تارة عن أبي علقمة , كما في رواية البزار , و هو الصواب عن يونس , لأنه كذلك هو في الطرق و الأسانيد المشار إليها عند البزار. و يؤيده طريق أخرى عند الطيالسي في " مسنده " قال (2579): حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت أبا علقمة - قال شعبة: حدثني يونس بن خباب سمع أبا علقمة عن أبي هريرة - و لم يرفعه يعلى إلى أبي هريرة قال: قال: "من سأل الله الجنة سبعا قالت الجنة .. " الحديث. فقد دارت الطرق الصحيحة على يونس بن خباب عن أبي علقمة عن أبي هريرة , بينما طريق أبي يعلى تدور على جرير بن حازم الذي لم يذكر في تلك الطرق عن يونس , فتبادر في ذهن ذلك المعلق أن يونس في هذه الطريق هو يونس بن خباب في تلك الطرق , و ليس كذلك , لاحتمال أن يكون راويا آخر متابع , و هذا هو الراجح , لأن جرير ابن حازم من المعروف من ترجمته أنه يروي عن يونس بن يزيد الأيلي كما تقدم , فهذا هو ملحظ أولئك الحفاظ الذين صرحوا بصحة الحديث , و أنه على شرط الصحيحين. فهل خفي هذا على ذاك المعلق فوقع في الخطأ , أم أصابه غرور بعض الشباب بما عندهم من علم ضحل بهذا الفن الشريف؟! ذلك ما لا أدريه , و لكنني فوجئت بمعلق آخر اطلع على تصحيح الحفاظ المشار إليهم , و هم ضياء الدين المقدسي , و المنذري , و ابن القيم , بل و أضاف إليهم رابعا , و هو الحافظ ابن كثير! ثم أخذ يرد عليهم بأن يونس بن خباب ليس من رجال الشيخين ,
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/334)
و بأنه متكلم فيه , قال: " فالإسناد ضعيف واه " ذلك هو المعلق على كتاب أبي نعيم المتقدم ذكره: "صفة الجنة". لقد كان يكفي لردع هذا الشاب عن تسرعه في الرد على أولئك الحفاظ و تخطئتهم , أن يفكر قليلا في السبب الذي حملهم على تصحيح الحديث , إنه لو فعل ذلك لوجد أن الصواب معهم , و أنه هو المخطىء في مخالفتهم , و لكن المصيبة إنما هي التزبب قبل التحصرم. والله المستعان , و لا حول و لا قوة إلا بالله.
المراد بالسبعة أحرف سبع لغات في حرف واحد و كلمة واحدة باختلاف الألفاظ و اتفاق المعاني
2581 - (اقرأ القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف).
و في ذلك بيان أن المراد بالسبعة أحرف سبع لغات في حرف واحد و كلمة واحدة باختلاف الألفاظ و اتفاق المعاني , كما شرحه و بينه بيانا شافيا الإمام الطبري في مقدمة تفسيره , كما أوضح أن الأمة ثبتت على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية , و أنه ليس هناك نسخ و لا ضياع , و أن القراءة اليوم على المصحف الذي كان عثمان رضي الله عنه جمع الناس عليه , في كلام رصين متين , فراجعه , فإنه مفيد جدا.
الدعاء هو العبادة
2654 - (من لم يدع الله يغضب عليه).
للحديث شاهدين من حديث أنس , و النعمان بن بشير.
1 - أما حديث أنس فيرويه حماد بن عبد الرحمن الكلبي , عن المبارك بن أبي حمزة عن الحسن عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن ربه عز وجل: " يا ابن آدم! إنك إن سألتني أعطيتك , و إن لم تسألني أغضب عليك ". أخرجه الطبراني في " الدعاء " (رقم 24). و حماد , وابن أبي حمزة ضعيفان.
2 - أما حديث النعمان , فهو بلفظ: " الدعاء هو العبادة
" , ثم قرأ: * (و قال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) *. أخرجه أصحاب السنن و غيرهم , و صححه ابن حبان و الحاكم و الذهبي و غيرهم , و هو مخرج في " أحكام الجنائز " (ص 246 / المعارف) , و"صحيح أبي داود" (1329) , و " الروض النضير " (888).
و إن مما لا شك فيه أن الاستكبار عن عبادته تعالى و دعائه يستلزم غضب الله تعالى على من لا يدعوه , فشهادة هذا الحديث لحديث الترجمة شهادة قوية لمعناه دون مبناه.
و قد غفل عن هذه الأحاديث بعض جهلة الصوفية أو تجاهلوها , بزعمهم أن دعاء الله سوء أدب مع الله , متأثرين في ذلك بالأثر الإسرائيلي: " علمه بحالي يغني عن سؤاله "! فجهلوا أن دعاء العبد لربه تعالى ليس من باب إعلامه بحاجته إليه سبحانه و تعالى * (يعلم السر و أخفى) * , و إنما من باب إظهار عبوديته و حاجته إليه و فقره , كما تقدم بيانه في المجلد الأول من " الضعيفة " رقم (22).
ريح واحدة لا رياح
2756 - (لا تسبوا الريح , فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح و خير ما فيها و خير ما أمرت به , و نعوذ بك من شر هذه الريح, وشر ما فيها, و شر ما أمرت به).
حديث صحيح , يرويه حبيب بن أبي ثابت عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب مرفوعا.
و في الحديث دلالة واضحة على أن الريح قد تأتي بالرحمة , و قد تأتي بالعذاب , و أنه لا فرق بينهما إلا بالرحمة و العذاب , و أنها ريح واحدة لا رياح , فما جاء في حديث الطبراني عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: " اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا ". فهو باطل , و قال الطحاوي:"لا أصل له ". و قد صح عن ابن عباس خلافه , كما بينته تحت حديث الطبراني المخرج في الكتاب الآخر:" الضعيفة " (5600).
أن الشيطان قد يتلبس الإنسان و لو كان مؤمنا صالحا
2912 - (يا شيطان اخرج من صدر عثمان! [فعل ذلك ثلاث مرات]).
هو من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه , و له عنه طرق أربعة:
الأولى: عن عبد الأعلى: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الله بن الحكم عن عثمان بن بشر قال: سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن , فضرب صدري بيده فقال: فذكره.
قال عثمان: " فما نسيت منه شيئا بعد , أحببت أن أذكره ".
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/335)
الثانية: يرويه معتمر بن سليمان قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عمه عمرو بن أويس عن عثمان بن أبي العاص قال: استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم و أنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف , و ذلك أني كنت قرأت سورة * (البقرة) * , فقلت: يا رسول الله! إن القرآن ينفلت مني , فوضع يده على صدري و قال: " يا شيطان! اخرج من صدر عثمان ". فما نسيت شيئا أريد حفظه.
الثالثة: يرويه الحسن عنه , قال: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوء حفظي للقرآن , فقال: " ذاك شيطان يقال له: (خنزب) , ادن مني يا عثمان! ". ثم وضع يده على صدري , فوجدت بردها بين كتفي , ثم قال: (فذكره).
فما سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظته.
الرابعة: يرويه عيينة بن عبد الرحمن: حدثني أبي عن عثمان بن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف , جعل يعرض لي شيء في صلاتي , حتى ما أدري ما أصلي! فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: " ابن العاص ? ". قلت: نعم يا رسول الله! قال: " ما جاء بك ? ". قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي! قال: " ذاك الشيطان , ادنه ". فدنوت منه , فجلست على صدور قدمي , قال: فضرب صدري بيده , و تفل في فمي و قال: " اخرج عدو الله! ". ففعل ذلك ثلاث مرات , ثم قال: " الحق بعملك ".
و في الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان و يدخل فيه و لو كان مؤمنا صالحا , و في ذلك أحاديث كثيرة , و قد كنت خرجت أحدها فيما تقدم برقم (485) من حديث يعلى بن مرة قال: " سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت منه شيئا عجبا .. " و فيه: " و أتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين , يأخذه كل يوم مرتين , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدنيه " , فأدنته منه , فتفل في فيه , و قال: اخرج عدو الله! أنا رسول الله ".
ثم وقفت على كتاب عجيب من غرائب ما طبع في العصر الحاضر بعنوان (طليعة " استحالة دخول الجان بدن الإنسان ")! لمؤلفه (أبو عبد الرحمن إيهاب بن حسين الأثري) - كذا الأثري موضة العصر! - و هذا العنوان وحده يغني القارئ اللبيب عن الاطلاع على ما في الكتاب من الجهل و الضلال , و الانحراف عن الكتاب و السنة , باسم الكتاب و السنة و وجوب الرجوع إليهما , فقد عقد فصلا في ذلك , و
فصلا آخر في البدعة و ذمها و أنها على عمومها , بحيث يظن من لم يتتبع كلامه و ما ينقله عن العلماء في تأييد ما ذهب إليه من الاستحالة أنه سلفي أو أثري - كما انتسب - مائة في المائة! و الواقع الذي يشهد به كتابه أنه خلفي معتزلي من أهل الأهواء , يضاف إلى ذلك أنه جاهل بالسنة و الأحاديث , إلى ضعف شديد باللغة العربية و آدابها , حتى كأنه شبه عامي , و مع ذلك فهو مغرور بعلمه , معجب بنفسه , لا يقيم وزنا لأئمة السلف الذين قالوا بخلاف عنوانه كالإمام أحمد و ابن تيمية و ابن القيم , و الطبري و ابن كثير و القرطبي , و الإمام الشوكاني و صديق حسن خان القنوجي , و يرميهم بالتقليد! على قاعدة (رمتني بدائها و انسلت) , الأمر الذي أكد لي أننا في زمان تجلت فيه بعض أشراط الساعة التي منها قوله صلى الله عليه وسلم: " و ينطق فيها الرويبضة. قيل: و ما الرويبضة ? قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ".
و نحوه قول عمر رضي الله عنه: " فساد الدين إذا جاء العلم من الصغير , استعصى عليه الكبير , و صلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير , تابعه عليه الصغير ".
و ما أكثر هؤلاء (الصغار) الذين يتكلمون في أمر المسلمين بجهل بالغ , و ما العهد عنا ببعيد ذاك المصري الآخر الذي ألف في تحريم النقاب على المسلمة! و ثالث أردني ألف في تضعيف قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين " , و في حديث تحريم المعازف , المجمع على صحتهما عند المحدثين , و غيرهم و غيرهم كثير و كثير!!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/336)
و إن من جهل هذا (الأثري) المزعوم و غباوته أنه رغم تقريره (ص 71 و 138) أن: "منهج أهل السنة و الجماعة التوقف في المسائل الغيبية عندما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, و أنه ليس لأحد مهما كان شأنه أن يضيف تفصيلا, أو أن ينقص ما ثبت بالدليل , أو أن يفسر ظاهر الآيات وفق هواه , أو بلا دليل ".
أقول: إنه رغم تقريره لهذا المنهج الحق الأبلج , فإنه لم يقف في هذه المسألة الغيبية عند حديث الترجمة الصحيح. بل خالفه مخالفة صريحة لا تحتاج إلى بيان ,و كنت أظن أنه على جهل به , حتى رأيته قد ذكره نقلا عن غيره (ص 4) من الملحق بآخر كتابه , فعرفت أنه تجاهله , و لم يخرجه مع حديث يعلى و غيره مما سبقت الإشارة إليه (ص 1002).
و كذلك لم يقدم أي دليل من الكتاب و السنة على ما زعمه من الاستحالة , بل توجه بكليته إلى تأويل قوله تعالى المؤيد للدخول الذي نفاه: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * تأويلا ينتهي به إلى إنكار (المس) - الذي فسره العلماء بالجنون - و إلى موافقة بعض الأشاعرة و المعتزلة! الذين فسروا (المس) بوسوسة الشيطان المؤذية! و هذا تفسير بالمجاز , و هو خلاف الأصل , و لذلك أنكره أهل السنة كما سيأتي , و هو ما صرح به نقلا عن الفخر الرازي الأشعري (ص 76 و 78): " كأن الشيطان يمس الإنسان فيجن "! و نقل (ص 89) عن غيره أنه قال: " كأن الجن مسه "! و عليه خص المس هذا بمن خالف شرع الله , فقال (ص 22): " و ما كان ليمس أحد (كذا غير منصوب!) إلا بالابتعاد عن النهج المرسوم "!
و لو سلمنا جدلا أن الأمر كما قال , فلا يلزم منه عند العلماء ثبوت دعوى النفي , لإمكان وجود دليل آخر على الدخول كما في هذا الحديث الصحيح , بينما توهم الرجل أنه برده دلالة الآية على الدخول ثبت نفيه إياه , و ليس الأمر كذلك لو سلمنا برده , فكيف و هو مردود عليه بهذا الحديث الصحيح , و بحديث يعلى المتقدم و بهما تفسر الآية , و يبطل تفسيره إياها بالمجاز.
و من جهل الرجل و تناقضه أنه بعد أن فسر الآية بالمجاز الذي يعني أنه لا (مس) حقيقة , عاد ليقول (ص 93): " و اللغة أجمعت على أن المس: الجنون ". و لكنه فسره على هواه فقال: أي من الخارج لا من الداخل , قال: " ألا ترى مثلا إلى الكهرباء و كيف تصعق المماس لها من الخارج ... " إلخ هرائه. فإنه دخل في تفاصيل تتعلق بأمر غيبي قياسا على أمور مشاهدة مادية , و هذا خلاف المنهج السلفي الذي تقدم نقله عنه , و مع ذلك فقد تعامى عما هو معروف في علم الطب أن هناك جراثيم تفتك من الداخل كجرثومة (كوخ) في مرحلته الثالثة! فلا مانع عقلا أن تدخل الجان من الخارج إلى بدن الإنسان , و تعمل عملها و أذاها فيه من الداخل , كما لا مانع من خروجها منه بسبب أو آخر , و قد ثبت كل من الأمرين في الحديث فآمنا به , و لم نضربه كما فعل المعتزلة و أمثالهم من أهل الأهواء , و هذا المؤلف (الأثري) - زعم - منهم. كيف لا و قد تعامى عن حديث الترجمة , فلم يخرجه البتة في جملة الأحاديث الأخرى التي خرجها و ساق ألفاظها من (ص 111) إلى (ص 126) - و هو صحيح جدا - كما رأيت , و هو إلى ذلك لم يأخذ من مجموع تلك الأحاديث ما دل عليه هذا الحديث من إخراجه صلى الله عليه وسلم للشيطان - من ذاك المجنون - , و هي معجزة عظيمة من معجزاته صلى الله عليه وسلم , بل نصب خلافا بين رواية " اخرج عدو الله " و رواية " اخسأ عدو الله" , فقد أورد على نفسه (ص 124) قول بعضهم: " إن الإمام الألباني قد صحح الحديث " , فعقب بقوله: " فهذا كذب مفترى , انظر إلى ما قاله الشيخ الألباني لتعلم الكذب: المجلد الأول من سلسلته الصحيحة ص 795 ح 485 ". ثم ساق كلامي فيه , و نص ما في آخره كما تقدم: " و بالجملة فالحديث بهذه المتابعات جيد.والله أعلم ".
قلت: فتكذيبه المذكور غير وارد إذن , و لعل العكس هو الصواب! و قد صرح هو بأنه ضعيف دون أي تفصيل (ص 22) , و اغتر به البعض!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/337)
نعم , لقد شكك في دلالة الحديث على الدخول بإشارته إلى الخلاف الواقع في الروايات , و قد ذكرت لفظين منها آنفا. و لكن ليس يخفى على طلاب هذا العلم المخلصين أنه ليس من العلم في شيء أن تضرب الروايات المختلفة بعضها ببعض , و إنما علينا أن نأخذ منها ما اتفق عليه الأكثر , و إن مما لا شك فيه أن اللفظ الأول: " اخرج " أصح من الآخر " اخسأ " , لأنه جاء في خمس روايات من الأحاديث التي ساقها , و اللفظ الآخر جاء في روايتين منها فقط! على أني لا أرى بينهما خلافا كبيرا في المعنى , فكلاهما يخاطب بهما شخص , أحدهما صريح في أن المخاطب داخل المجنون , و الآخر يدل عليه ضمنا.
و إن مما يؤكد أن الأول هو الأصح صراحة حديث الترجمة الذي سيكون القاضي بإذن الله على كتاب " الاستحالة " المزعومة , مع ما تقدم من البيان أنها مجرد دعوى في أمر غيبي مخالفة للمنهج الذي سبق ذكره.
و لابد لي قبل ختم الكلام على هذا الموضوع أن أقدم إلى القراء الكرام و لو مثالا واحد على الجهل بالسنة الذي وصفت به الرجل فيما تقدم , و لو أنه فيما سلف كفاية للدلالة على ذلك! لقد ذكر الحديث المشهور في النهي عن اتباع سنن الكفار بلفظ لا أصل له رواية و لا دراية , فقال (ص 27): " و صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: " لتتبعن من قبلكم من الأمم حذاء القذة بالقذة , حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم. قالوا: اليهود و النصارى يا رسول الله ? قال: فمن ? ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم "!
و مجال نقده في سياقه للحديث هكذا واسع جدا , و إنما أردت نقده في حرف واحد منه أفسد به معنى الحديث بقوله (حذاء) , فإن هذا تحريف قبيح للحديث لا يخفى على أقل الناس ثقافة , و الصواب (حذو). و ليس هو خطأ مطبعيا كما قد يتبادر لأذهان البعض , فقد أعاده في مكان آخر. فقال (ص 34) مقرونا بخطأ آخر: " حذاء القذة بالقذة "! كذا ضبطه بفتح القاف! و إنما هو بالضم. و نحو ذلك مما يدل على جهله بالسنة قوله (ص 240): " يقول السلف: ليس الخبر كالمعاينة ". و هذا حديث مرفوع رواه جماعة من الأئمة منهم أحمد عن ابن عباس مرفوعا , و فيه قصة. و هو مخرج في " صحيح الجامع الصغير " (5250).
و من أمثلة جهله بما يقتضيه المنهج السلفي أنه حشر (ص 74) في زمرة التفاسير المعتبرة " تفسير الكشاف " , و " تفسير الفخر الرازي " , فهل رأيت أو سمعت أثريا يقول مثل هذا , فلا غرابة بعد هذا أن ينحرف عن السنة , متأثرا بهما و يفسر آية الربا تفسيرا مجازيا!
و أما أخطاؤه الإملائية الدالة على أنه (شبه أمي) فلا تكاد تحصى , فهو يقول في أكثر من موضع: " تعالى معي "! و قال (ص 131): " ثم تعالى لقوله تعالى " , و ذكر آية. و في (ص 129): " فمن المستحيل أن تفوت هذه المسألة هذان الإمامان الجليلان "! و (ص 130). " أضف إلى ذلك أن الإمامين ليسا طبيبان "! فهو يرفع المنصوب مرارا و تكرارا.
و في الختام أقول: ليس غرضي مما تقدم إلا إثبات ما أثبته الشرع من الأمور الغيبية , و الرد على من ينكرها. و لكنني من جانب آخر أنكر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة , و يتخذون استحضار الجن و مخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين و المصابين بالصرع , و يتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزل الله به سلطانا , كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحيانا قتل المصاب , كما وقع هنا في عمان , و في مصر , مما صار حديث الجرائد و المجالس.
لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادا قليلين صالحين فيما مضى , فصاروا اليوم بالمئات , و فيهم بعض النسوة المتبرجات , فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لا يقوم بها إلا الأطباء عادة , إلى أمور و وسائل أخرى لا يعرفها الشرع و لا الطب معا , فهي - عندي - نوع من الدجل و الوساوس يوحي بها الشيطان إلى عدوه الإنسان * (و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * , و هو نوع من الاستعاذة بالجن التي كان عليها المشركون في الجاهلية المذكورة في قوله تعالى: * (و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) *. فمن استعان بهم على فك سحر - زعموا - أو معرفة هوية الجني المتلبس بالإنسي أذكر هو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/338)
أم أنثى ? مسلم أم كافر ? و صدقه المستعين به ثم صدق هذا الحاضرون عنده , فقد شملهم جميعا وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول , فقد كفر بما أنزل على محمد " , و في حديث آخر: " .. لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
فينبغي الانتباه لهذا , فقد علمت أن كثيرا ممن ابتلوا بهذه المهنة هم من الغافلين عن هذه الحقيقة , فأنصحهم - إن استمروا في مهنتهم - أن لا يزيدوا في مخاطبتهم على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اخرج عدو الله " , مذكرا لهم بقوله تعالى * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *. و الله المستعان و لا حول و لا قوة إلا بالله.
كتاب يوم القيامة والجنة والنار
من أهوال يوم القيامة والاستغاثة بآدم
2460 - (إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن , فبيناهم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست صاحب ذلك , ثم بموسى , فيقول كذلك , ثم محمد صلى الله عليه وسلم , فيشفع بين الخلق , فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة , فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا , يحمده أهل الجمع كلهم).
(فائدة): قوله صلى الله عليه وسلم: "استغاثوا بآدم" , أي: طلبوا منه عليه السلام أن يدعو لهم , و يشفع لهم عند الله تبارك و تعالى. و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة معروفة في "الصحيحين" , و غيرهما. و ليس فيه جواز الاستغاثة بالأموات , كما يتوهم كثير من المبتدعة الأموات! بل هو من باب الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه , كما في قوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه .. ) الآية. و من الواضح البين أنه لا يجوز - مثلا - أن يقول الحي القادر للمقيد العاجز: أعني! فالميت الذي يستغاث به من دونه تعالى أعجز منه , فمن خالف , فهو إما أحمق مهبول , أو مشرك مخذول لأنه يعتقد في ميته أنه سميع بصير , و على كل شيء قدير , و هنا تكمن الخطورة لأن الشرك الأكبر , و هو الذي يخشاه أهل التوحيد على هؤلاء المستغيثين بالأموات من دون الله تبارك و تعالى , و هو القائل: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين. ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها). و قال: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم و لو سمعوا ما استجابوا لكم و يوم القيامة يكفرون بشرككم و لا ينبئك مثل خبير).
تم وبحمد الله الجزء الرابع من سلسلة عون الودود لتيسير ما في السلسلة الصحيحة من الفوئد والردود وهي تحتوي على جميع ما ذكره الشيخ الالباني رحمه الله من فوائد في المجلد الخامس والسادس من السلسلة الصحيحة(68/339)
عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود من المجلد الاول الى السادس
ـ[ابو سند محمد]ــــــــ[21 - 09 - 06, 05:51 م]ـ
عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد
فهذه الفوائد والردود التي ذكرها الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة جمعتها في هذا الكتاب حتى يسهل الأستفادة منها للعامة والخاصة وأسميته (عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود) , فأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعنني على هذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يتغمد برحمته الشيخ الألباني , ويسكنه فسيح جناته آمين.
ملاحظات:
1 - ترقيم الأحاديث هي نفس الترقيم الموجودة في السلسلة لكي يسهل الرجوع إليها.
2 - تبويب المواضيع هي نفس ما بوب لها الشيخ إلا ما لم يبوب لها فقد وضعت لها أبواباً من عندي.
3 - كتابة جميع الفوائد والردود كاملة بدون أي أختصار إلا ماكان يتعلق بالموضيع الحديثة فلم اكتبها.
هذه الفوائد المذكورة في المجلد الأول والثاني من سلسلة الأحاديث الصحيحة , ونسأل الله العون والتوفيق في اتمام بقية الأحاديث.
كتاب العقيدة
القدر وحديث القبضتين حق
46 - (هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه).
رواه المخلص , والبزار , والطبراني من حديث إبراهيم بن سعيد الجوهري: ثنا أبوأحمد: ثنا سفيان عن أيوب وإسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في القبضتين (هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه) , وزاد (فتفرق الناس , وهم لا يختلفون في القدر).
47 - (إن الله عز وجل قبض قبضة، فقال: في الجنة برحمتي، وقبض قبضة، وقال: في النار ولا أبالي).
48 - (إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر).
49 - (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمْ الذَّرُّ وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمْ الْحُمَمُ فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي).
50 - (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِ وَقَبْضَةً أُخْرَى يَعْنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِ فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا).
رواه أحمد والبزار مختصرأً عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ مَرِضَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ فَبَكَى فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْ شَارِبِكَ ثُمَّ أَقِرَّهُ حَتَّى تَلْقَانِي قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي وَقَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى بِيَدِهِ الْأُخْرَى جَلَّ وَعَلَا فَقَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا.
اعلم أن الباعث على تخريج هذا الحديث وذكر طرقه أمران:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/340)
الأول: أن أحد أهل العلم وهو الشيخ محمد طاهر الفتني الهندي أورده في كتابه (تذكرة الموضوعات) (12) , وقال فيه (مضطرب الإسناد) , ولا أدري ما وجه ذلك؟ فالحديث صحيح , ولا اضطراب فيه , إلا أن يكون اشتبه عليه بحديث آخر مضطرب , أو عنى طريقاً أخرى من طرقه , ثم لم يتتبع هذه الطرق الصحيحة له , والله أعلم.
والثاني: أن كثيراً من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث – ونحوها أحاديث كثيرة – تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية , ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق: بالجنة أو النار.
وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ , فمن وقع في القبضة اليمنى , كان من أهل السعادة , ومن كان من القبضة الأخرى , كان من أهل الشقاوة.
فيجب أن يعلم جميعاً أن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى 11 , لا في ذاته , ولا في صفاته , فإذا قبض قبضة , فهي بعلمه وعدله وحكمته , فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته , وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته , ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى , والعكس بالعكس , كيف والله عز وجل يقول (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم 35 - 36.
ثم إن كلاً من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار , بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم , من إيمان يستلزم الجنة , أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها , وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان , لا يكره الله تبارك وتعالى أحداً من خلقه على واحد منهما (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف 29 , وهذا مشاهد معلوم بالضرورة , ولولا ذلك , لكان الثواب والعقاب عبثاً , والله منزه عن ذلك.
ومن المؤسف حقاً أن نسمع من كثير من الناس – حتى من بعض المشايخ – التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له , وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس , مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة , وإعلانه بأنه قادر على الظلم , ولكنه نزه نفسه عنه , كما في الحديث القدسي المشهور (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي .. ) , وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة , بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) الأنبياء 23 , مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم , ولكنه لا يسأل عن ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وفاتهم أن الآية حجة عليهم ,لأن المراد بها – كما حققه العلامة ابن القيم في (شفاء العليل) وغيره- أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل , لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح , فلا داعي للسؤال.
وللشيخ يوسف الدجوي رسالة مفيدة في تفسير هذه الآية , لعله أخذ مادتها من كتاب ابن القيم المشار إليه آنفاً , فليراجع.
هذه كلمة سريعة حول الأحاديث المتقدمة , حاولنا فيها إزالة شبهة بعض الناس حولها , فإن وفقت لذلك , فبها ونعمت , وإلا أحيل القارئ إلى المطولات في هذا البحث الخطير , مثل كتاب ابن القيم السابق , وكتب شيخه ابن تيمية الشاملة لمواضيع هامة هذا أحدها.
لا خير في العرب ولا في العجم إلا بالإسلام
51 - (أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْعَرَبِ و الْعُجْمِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ ثُمَّ تَقَعُ الْفِتَنُ كَأَنَّهَا الظُّلَلُ).
رواه أحمد , والحاكم , والبيهقي , وابن الأعرابي , وقال الحاكم: صحيح وليس له علة , وأقره الذهبي , وهو كما قالا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/341)
وروى الحاكم (1/ 61 - 62) من طريق ابن شهاب قال: (خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك فقال عمر أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).
والظلل: هي كل ما أظلك , واحدتها ظلة , أراد كأنها الجبال والسحب.
إن المؤمن لا يقبل منه عمله الصالح إذا لم يقصد به وجه الله
52 - (إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ).وسببه كما رواه أَبِو أُمَامَةَ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: (فذكره).
فهذا الحديث وغيره يدل على أن المؤمن لا يقبل منه عمله الصالح إذا لم يقصد به وجه الله عز وجل وفي ذلك يقول تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف110 , فإذا كان هذا شأن المؤمن , فماذا يكون حال الكافر بربه إذا لم يخلص له في عمله؟ الجواب في قول الله تبارك وتعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) الفرقان23.
وعلى افتراض أن بعض الكفار يقصدون بعملهم الصالح وجه الله على كفرهم , فإن الله تعالى لا يضيع ذلك عليهم , بل يجازيهم عليها في الدنيا , وبذلك جاء النص الصحيح الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو:
53 - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَتةً يُعْطَى بِهَا [وفي رواية: يثاب عليها الرزق فِي الدُّنْيَا] , وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا).تلك هي القاعدة في هذه المسألة: أن الكافر يجازى على عمله الصالح شرعاً في الدنيا , فلا تنفعه حسناته في الآخرة , ولا يخفف عنه العذاب بسببها , فضلاً عن أن ينجو منه.
(تنبيه): هذا في حسنات الكافر الذي يموت على كفره , كما هو ظاهر الحديث , وأما إذا أسلم , فإن الله تبارك وتعالى يكتب له كل حسناته التي عمل بها في كفره , ويجازيه بها في الآخرة , وفي ذلك أحاديث كثيرة , كقوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا) الحديث.
هذا , وقد يظن بعض الناس أن في السنة ما ينافي القاعدة المذكورة من مثل الحديث الآتي:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ:
54 - (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ).وجوابنا على ذلك من وجهين أيضاً:
الأول: أننا لا نجد في الحديث ما يعارض القاعدة المشار إليها , إذ ليس فيه أن عمل أبي طالب هو السبب في تخفيف العذاب عنه , بل السبب شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي التي تنفعه.
ويؤيد هذا الحديث التالي:
عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/342)
55 - (نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا [أي: شفاعته] لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ).فهذا الحديث نص في أن السبب في التخفيف إنما هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شفاعته كما في الحديث قبله , وليس هو عمل أبي طالب , فلا تعارض حينئذ بين الحديث وبين القاعدة السابقة.
ويعود أمر الحديث أخيراً إلى أنه خصوصية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرامة أكرمه الله تبارك وتعالى بها , حيث قبل شفاعته في عمه وقد مات على الشرك , مع أن القاعدة في المشركين أنهم كما قال الله عز وجل. (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) المدثر 48 , ولكن الله تبارك وتعالى يخص بتفضله من شاء , ومن أحق بذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله؟.
والجواب الثاني: أننا لو سلمنا جدلاً أن سبب تخفيف العذاب عن أبي طالب هو انتصاره للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كفره به , فذلك مستثنى من القاعدة , ولا يجوز ضربها بهذا الحديث , كما هو مقرر في علم أصول الفقه , ولكن الذي نعتمده في الجواب إنما هو الأول لوضوحه , والله أعلم.
كَرَاهِيَةِ الْحَلْفِ بِالْأَمَانَةِ
94 - (مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا).
قال الخطابي في (معالم السنن) تعليقاً على الحديث: (هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وصفاته , وليست الأمانة من صفاته , وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه , فنهوا عنه , لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عز وجل وصفاته).
من عظمة العرش والكرسي
109 - (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة).
رواه محمد بن أبي شيبة عن أبي ذر الغفاري قال: (دخلت المسجد الحرام , فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده , فجلست إليه , فقلت: يارسول الله أيما نزلت آية عليك أفضل؟ قال: آية الكرسي , ما السماوات السبع ... ) الحديث.
والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) البقرة 255 , وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش , وأنه جرم قائم بنفسه وليس شيئاً معنوياً , ففيه رد على من يتأوله بمعنى الملك وسعة السلطان , كما جاء في بعض التفاسير , وما روي عن ابن عباس أنه العلم , فلا يصح إسناده إليه , لأنه من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه , رواه ابن جرير.
قال ابن منده: (ابن أبي المغيرة ليس بالقوي في ابن جبير).
وأعلم أنه لا يصح في صفة الكرسي غير هذا الحديث , كما في بعض الرويات أنه موضع القدمين , وأن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد , وأنه يحمله أربعة أملاك , لكل ملك أربعة وجوه , وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة .... إلخ , فهذا كله لا يصح مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وبعضه أشد ضعفاً من بعض , وقد خرجت بعضها فيما علقناه على كتاب (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان) ملحقاً بآخره طبع المكتب الإسلامي.
جواب: من خلق الله
116 - (إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَقُولُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقْرَأْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ).
رواه أحمد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
117 - (يَأْتِي شَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ من خلق كذا؟ حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ).
وللحديث طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/343)
118 - (يوشك الناس يتساءلون بينهم، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله عز وجل؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: [الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد]، ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثا، وليستعذ من الشيطان).
لقد دلت هذه الأحاديث الصحيحة على أنه يجب على من وسوس إليه الشيطان بقوله: من خلق الله؟ أن ينصرف عن مجادلته إلى إجابته بما جاء في الأحاديث المذكورة , وخلاصتها أن يقول: (آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ , الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم يتفل عن يساره ثلاثا، ويستعيذ بالله من الشيطان , ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة).
وأعتقد أن من فعل ذلك , طاعة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مخلصاً في ذلك , أنه لا بد أن تذهب الوسوسة عنه , ويندحر شيطانه , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ).
وهذا التعليم النبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة من المجادلة العقلية في هذه القضية , فإن المجادلة قلما تنفع في مثلها , ومن المؤسف أن أكثر الناس في غفلة عن هذا التعليم النبوي الكريم , فتنبهوا أيها المسلمون , وتعرفوا إلى سنة نبيكم , واعملوا بها , فإن فيها شفاءكم وعزكم.
أول مخلوق
133 - (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون).
في الحديث إشارة إلى رد ما يتناقله الناس , حتى صار ذلك عقيدة راسخة في قلوب كثير منهم , وهو أن النور المحمدي هو أول ما خلق الله تبارك وتعالى , وليس لذلك أساس من الصحة , وحديث عبدالرزاق غير معروف إسناده , ولعلنا نفرده بالكلام في الأحاديث الضعيفة إن شاء الله تعالى.
وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق , ولا نص في ذلك عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وإنما يقول به من قال كابن تيمية وغيره استنباطاً واجتهاداً , فالأخذ بهذا الحديث – وفي معناه أحاديث أخرى – أولى , لأنه نص في المسألة , ولا اجتهاد في مورد النص كما هو معلوم.
وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل , لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها , ومنها القلم , أما ومثل هذا النص مفقود , فلا يجوز هذا التأويل.
وفيه رد أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها , وأنه ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بمخلوق قبله , وهكذا إلى ما لا بداية له , بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أول مخلوق , فالحديث يبطل هذا القول , ويعين أن القلم أول مخلوق , فليس قبله قطعاً أي مخلوق.
ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله في الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها , وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول , ولا تقبله أكثر القلوب , حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها , مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم , ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له , كما يقول هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية , فذلك القول منه غير مقبول , بل هو مرفوض بهذا الحديث , وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج , لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه , ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال: (ما منا من أحد إلا رد عليه إلا صاحب هذا القبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
حديث البطاقة
135 - (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَقَالَ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/344)
السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ).
وفي الحديث دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان , وأن الأعمال وإن كانت أعراضاً فإنها توزن , والله على كل شئ قدير , وذلك من عقائد أهل السنة , والأحاديث في ذلك متضافرة إن لم تكن متواترة.
من الآداب الواجبة مع الله
136 - (قولوا: ماشاء الله ثم شئت، وقولوا: ورب الكعبة).
أخرجه الطحاوي , والحاكم , والبيهقي , وأحمد , من طريق المسعودي عن سعيد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت: (إن حبراً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنكم تشركون , تقولون: ما شاء الله وشئت , وتقولون: والكعبة , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
ولعبدالله بن يسار حديث آخر نحو هذا , وهو:
137 - (لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ).
138 - (إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا قَالَ لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ).
وللحديث شاهد آخر من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرَاجِعُهُ في بعض الْكَلَامَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
139 - (أجعلتني مع الله عدلاً [وفي لفظ: نداً]؟! لا، بل ما شاء الله وحده).
وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره (ما شاء الله وشئت): يعد شركاً في الشريعة , وهو من شرك الألفاظ , لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى , وسببه القرن بين المشيئتين , ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعي العلم (مالي غير الله وأنت) و (وتوكلنا على الله وعليك) , ومثله قول بعض المحاضرين: (باسم الله والوطن) , أو (باسم الله والشعب) , ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها , أدباً مع الله تبارك وتعالى.
ولقد غفل عن هذا الأدب الكريم كثير من العامة , وغير قليل من الخاصة الذين يسوغون النطق بمثل هذه الشركيات , كمناداتهم غير الله في الشدائد , والاستنجاد بالأموات من الصالحين , والحلف بهم من دون الله تعالى , والإقسام بهم على الله عز وجل , فإذا ما أنكر ذلك عليهم عالم بالكتاب والسنة , فإنهم بدل أن يكونوا عوناً على إنكار المنكر , عادوا بالإنكار عليه , وقالوا: إن نية أولئك المنادين غير الله طيبة , وإنها الأعمال بالنيات كما جاء في الحديث.
فيجهلون أويتجاهلون – إرضاء للعامة – أن النية الطيبة وإن وجدت عند المذكورين , فهي لا تجعل العمل السيئ صالحاً , وأن معنى الحديث المذكور إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة , لا أن الأعمال المخالفة للشريعة تنقلب إلى أعمال صالحة مشروعة بسبب اقتران النية الصالحة بها , ذلك ما لا يقوله إلا جاهل أو مغرض , ألا ترى أن رجلاً لو صلى تجاه القبر , لكان ذلك منكراً من العمل , لمخالفته للأحاديث والآثار الواردة في النهي عن استقبال القبر بالصلاة , فهل يقول عاقل: إن الذي يعود إلى الاستقبال – بعد علمه بنهي الشرع عنه – إن نيته طيبة وعمله مشروع؟ كلا ثم كلا , فكذلك هؤلاء الذي يستغيثون بغير الله تعالى , وينسونه تعالى في حالة هم أحوج ما يكونون فيها إلى عونه ومدده , لا يعقل أن تكون نياتهم طيبة , فضلاً عن أن يكون عملهم صالحاً , وهم يصرون على هذا المنكر وهم يعلمون.
مسمى الإسلام غير مسمى الإيمان
155 - (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/345)
وفي الحديث منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه , إذ شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه مؤمن , فإن هذا يستلزم الشهادة له بالجنة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المشهور (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ) , متفق عليه , وقال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) التوبة72.
وعلى هذا , فلا يجوز الطعن في عمرو رضي الله عنه – كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين وغيرهم من المخالفين – بسبب ما وقع له من الخلاف – بل القتال – مع علي رضي الله عنه , لأن ذلك لا ينافي الإيمان , فإنه لا يستلزم العصمة كما لا يخفى , لا سيما إذا قيل: إن ذلك وقع منه بنوع الاجتهاد , وليس اتباعاً للهوى.
وفي الحديث إشارة إلى أن مسمى الإسلام غير الإيمان , وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً , والحق ما ذهب إليه جمهور السلف من التفريق بينهما , لدلالة الكتاب والسنة على ذلك فقال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الحجرات14, وحديث جبريل في التفريق بين الإسلام والإيمان معروف مشهور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان (ص 305 - طبع المكتب الإسلامي): (والرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام والإيمان يوجب أن كلاً من الاسمين , وإن كان مسماه واجباً , ولا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمناً مسلماً , فالحق في ذلك ما بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل , فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات: أولها الإسلام , وأوسطها الإيمان , وأعلاها الإحسان , ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها , فالمحسن مؤمن , والمؤمن مسلم , وأما المسلم , فلا يجب أن يكون مؤمناً).
ومن شاء بسط الكلام على هذه المسألة مع التحقيق الدقيق , فليرجع إلى الكتاب المذكور , فإنه خير ما ألف في هذا الموضوع.
عاقبة من لم يؤمن به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
157 - (والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي؛ إلا كان من أهل النار).
والحديث صريح في أن من سمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أرسل به , بلغه ذلك على الوجه الذي أنزله الله عليه , ثم لم يؤمن به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أن مصيره إلى النار , لا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني.
واعتقادي أن كثيراً من الكفار لو اتيح لهم الاطلاع على الأصول والعقائد والعبادات التي جاء بها الإسلام , لسارعوا إلى الدخول فيه أفواجاً , كما وقع ذلك في أول الأمر , فليت أن بعض الدول الإسلامية ترسل إلى بلاد الغرب من يدعو إلى الإسلام ممن هو علىعلم به علي حقيقته , وعلى معرفة بما ألصق به من الخرافات والبدع والافتراءات , ليحسن عرضه على المدعوين إليه , وذلك يستدعي أن يكون على علم بالكتاب والسنة الصحيحة , ومعرفة ببعض اللغات الأجنبية الرائجة , وهذا شئ عزيز يكاد يكون مفقوداً , فالقضية تتطلب استعدادات هامة , فلعلهم يفعلون.
الجاهليون ليسوا من أهل الفترة
158 - (لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ [من] عَذَابَ الْقَبْرِ [ما أسمعني]).
قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِنَخْلٍ لِبَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قَبْرُ رَجُلٍ دُفِنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
وله شاهد من حديث جابر قال: (دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رِجَالٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ تَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)، أخرجه أحمد بسند صحيح متصل علي شرط مسلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/346)
وله شاهد آخر من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مرفوعاً , وهو:
159 - (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا , فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا , لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْه. قال زيد:ُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ , فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).
أخرجه مسلم من طريق ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ وَأَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ – شك الجريري - فَقَالَ مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا قَالَ فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ فَقَالَ (فذكره).
وفي هذه الأحاديث فوائد كثيرة أذكر بعضها أو أهمها:
1 - إثبات عذاب القبر , والأحاديث في ذلك متواترة , فلا مجال للشك فيه بزعم أنها آحاد , ولو سلمنا أنها آحاد , فيجب الأخذ بها لأن القرآن يشهد لها , قال تعالى (وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر45 - 46 , ولو سلمنا أنه لا يوجد في القرآن ما يشهد لها , فهي وحدها كافية لإثبات هذه العقيدة , والزعم بأن العقيدة لا تثبت بما صح من أحاديث الآحاد زعم باطل دخيل في الإسلام , لم يقل به أحد من الأئمة الأعلام – كالأربعة وغيرهم- بل هو مما جاء به بعض علماء الكلام بدون برهان من الله ولا سلطان , وقد كتبنا فصلاً خاصاً في هذا الموضوع الخطير في كتاب لنا , أرجو أن أوفق لتبييضه ونشره على الناس.
2 - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع ما لا يسمع الناس , وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام , كما أنه كان يرى جبريل ويكلمه والناس لا يرونه ولا يسمعون كلامه , فقد ثبت في البخاري وغيره أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوماً لعائشة رضي الله عنها: (هذا جبريل يقرئك السلام , فقالت: وعليه السلام يارسول الله ترى ما لا نرى).
ولكن خصوصياته عليه السلام إنما تثبت بالنص الصحيح , فلا تثبت بالنص الضعيف ولا بالقياس والأهواء , والناس في هذه المسألة على طرفي نقيض , فمنهم من ينكر كثيراً من خصوصياته الثابتة بالإسانيد الصحيحة , إما لأنها غير متواترة بزعمه , وإما لأنها غير معقولة لديه , ومنهم من يثبت له عليه السلام ما لم يثبت , مثل قولهم: إنه أول المخلوقات , وإنه كان لا ظل له في الأرض , وإنه إذا سار في الرمل , لا تؤثر قدمه فيه , بينما إذا داس على الصخر علم عليه , وغير ذلك من الأباطيل.
والقول الوسط في ذلك أن يقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة , فلا يجوز أن يعطى له من الصفات والخصوصيات إلا ما صح به النص في الكتاب والسنة , فإذا ثبت ذلك , وجب التسليم له , ولم يجز رده بفلسفة خاصة علمية أو عقلية زعموا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/347)
ومن المؤسف أنه قد انتشر في العصر الحاضر انتشاراً مخيفاً رد الأحاديث الصحيحة لأدنى شبهة ترد من بعض الناس , حتى ليكاد يقوم في النفس أنهم يعاملون أحاديثه عليه السلام معاملة أحاديث غيره من البشر الذين ليسوا معصومين , فهم يأخذون منها ما شاؤوا , ويدعون ما شاؤوا , ومن أولئك طائفة ينتمون إلى العلم وبعضهم يتولى مناصب شرعية كبيرة , فإنا لله وإنا إليه راجعون , ونسأله تعالى أن يحفظنا من شر الفريقين المبطلين والغالين.
3 - إن سؤال الملكين في القبر حق ثابت , فيجب اعتقاده أيضاً , والأحاديث فيه أيضاً متواترة.
4 - إن فتنة الدجال فتنة عظيمة , ولذلك أمر بالاستعاذة من شرها في هذا الحديث وفي أحاديث أخرى , حتى أمر بذلك في الصلاة قبل السلام , كما ثبت في البخاري وغيره , وأحاديث الدجال كثيرة جداً , بل هي متواترة عند أهل العلم بالسنة.
ولذلك جاء في كتب العقائد وجوب الإيمان بخروجه في آخر الزمان , كما جاء فيها وجوب الإيمان بعذاب القبر وسؤال الملكين.
5 - إن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام معذبون بشركهم وكفرهم , وذلك يدل على أنهم ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة نبي , خلافاً لما يظنه بعض المتأخرين إذ لو كانوا كذلك , لم يستحقوا العذاب لقوله سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الإسراء 15.
وقد قال النووي في شرح حديث مسلم: (إن رجلاً قال: يارسول الله , أين أبي؟ قال في النار ... ) الحديث , قال النووي: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار , ولا تنفعه قرابة المقربين , وفيه أن من مات علي الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار , وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة , فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.
لا طاعة لبشر في معصية الله
179 - (لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى).
رواه أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: أَرَادَ زِيَادٌ أَنْ يَبْعَثَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَلَى خُرَاسَانَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَتَرَكْتَ خُرَاسَانَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا قَالَ فَقَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أُصَلِّيَ بِحَرِّهَا وَتُصَلُّونَ بِبَرْدِهَا إِنِّي أَخَافُ إِذَا كُنْتُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ أَنْ يَأْتِيَنِي كِتَابٌ مِنْ زِيَادٍ فَإِنْ أَنَا مَضَيْتُ هَلَكْتُ وَإِنْ رَجَعْتُ ضُرِبَتْ عُنُقِي قَالَ فَأَرَادَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ عَلَيْهَا قَالَ فَانْقَادَ لِأَمْرِهِ قَالَ فَقَالَ عِمْرَانُ أَلَا أَحَدٌ يَدْعُو لِي الْحَكَمَ قَالَ فَانْطَلَقَ الرَّسُولُ قَالَ فَأَقْبَلَ الْحَكَمُ إِلَيْهِ قَالَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ فَقَالَ عِمْرَانُ لِلْحَكَمِ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره)؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ عِمْرَانُ لِلَّهِ الْحَمْدُ أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ.
180 - (لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى).
وللحديث شاهد من حديث علي , وفيه تفصيل قصة الأمير الذي أمر جنده بدخول النار , وهو:
181 - (لَا طَاعَة [لبشر] َ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ).
أخرجه البخاري , ومسلم , و وأبوداود , والنسائي , والطيالسي , وأحمد , عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ ادْخُلُوهَا فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ الْآخَرُونَ إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا وَقَالَ: (فذكره).
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة , أهمها أنه لا يجوز إطاعة أحد في معصية الله تبارك وتعالى و سواء في ذلك الأمراء والعلماء والمشايخ.
ومنه يعلم ضلال طوائف من الناس:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/348)
الطائفة الأول: بعض المتصوفة الذين يطيعون شيوخهم , ولو أمروهم بمعصية ظاهرة و بحجة أنها في الحقيقة ليست بمعصية , وأن الشيخ يرى ما لا يرى المريد , وأعرف شيخاً من هؤلاء نصب نفسه مرشداً قص على أتباعه في بعض دروسه في المسجد قصة خلاصتها أن أحد مشايخ الصوفية أمر ليلة أحد مريديه بأن يذهب إلى أبيه فيقتله على فراشه بجانب زوجته , فلما قتله عاد إلى شيخه مسروراً لتنفيذ أمر الشيخ , فنظر إليه الشيخ , وقال: أتظن أنك قتلت أباك حقيقة؟ إنما هو صاحب أمك , وأما أبوك فهو غائب , ثم بنى على هذه القصة حكماً شرعياً بزعمه , فقال لهم: إن الشيخ إذا أمر مريده بحكم مخالف للشرع في الظاهر أن على المريد أن يطيعه في ذلك , قال: ألا ترون إلى هذا الشيخ أنه في الظاهر أمر الولد بقتل والده , ولكنه في الحقيقة إنما أمره بقتل الزاني بوالدة الولد , وهو يستحق القتل شرعاً , ولا يخفى بطلان هذه القصة شرعاً على وجوه كثيرة:
أولاً: أن تنفيذ الحد ليس من حق الشيخ مهما كان شأنه , وإنما هو من حق الأمير أو الوالي.
ثانياً: أنه لو كان له ذلك , فلماذا نفذ الحد بالرجل دون المرأة , وهما في ذلك سواء؟.
ثالثاً: أن الزاني المحصن حكمه شرعاً القتل رجماً , وليس القتل بغير الرجم.
ومن ذلك يتبين أن ذلك الشيخ قد خالف الشرع من وجوه , وكذلك شأن ذلك المرشد الذي بنى على القصة ما بنى من وجوب إطاعة الشيخ ولو خالف الشرع ظاهراً , حتى لقد قال لهم: إذا رأيتم الشيخ على عنقه الصليب , فلا يجوز لكم أن تنكروا عليه.
ومع وضوح بطلان مثل هذا الكلام , ومخالفته للشرع , والعقل معاً نجد في الناس من ينطلي عليه كلامه , وفيهم بعض الشباب المثقف.
ولقد جرت بيني وبين أحدهم مناقشة حول تلك القصة , وكان قد سمعها من ذلك المرشد , وما بنى عليها من حكم , ولكن لم تجد المناقشة معه شيئاً , وظل مؤمناً بالقصة , لأنها من باب الكرامات في زعمه , قال: وأنتم تنكرون الكرامة , ولما قلت له: لو أمرك شيخك بقتل والدك فهل تفعل؟ فقال إنني لم أصل بعد إلى هذه المنزلة.
فتباً لإرشاد يؤدي إلى تعطيل العقول والإستسلام للمضلين إلى هذه المنزلة فهل من عتب بعد ذلك على من يصف دين هؤلاء بأنه أفيون الشعب؟
الطائفة الثانية: وهم المقلدة الذين يؤثرون اتباع كلام المذهب على كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع وضوح ما يؤخذ منه , فإذا قيل لأحدهم مثلاً لا تصل سنة الفجر بعد أن أقيمت الصلاة لنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك صراحة , لم يطع , وقال المذهب: يجيز ذلك , وإذا قيل له: إن نكاح التحليل باطل , لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن فاعله , أجابك بقوله: لا , بل هو جائز في المذهب الفلاني , وهكذا إلى مئات المسائل , ولهذا ذهب كثير من المحقيقين إلى أن أمثال هؤلاء المقلدين ينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى في النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) التوبة31 , كما بين ذلك الفخر الرازي في تفسيره.
الطائفة الثالثة: وهم الذين يطيعون ولاة الأمور فيما يشرعونه للناس من نظم وقرارات مخالفة للشرع , كالشيوعية وما شابهها , وشرهم من يحاول أن يظهر أن ذلك موافق للشرع غير مخالف له , وهذه مصيبة شملت كثيراً ممن يدعي العلم والإصلاح في هذا الزمان , حتى اغتر بذلك كثير من العوام , فيصح فيهم وفي متبوعيهم الآية السابقة (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) التوبة31 , نسأل الله الحماية والسلامة.
كراهة الاكتواء والاسترقاء
244 - (مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ).
وفي الحديث كراهة الاكتواء والاسترقاء: أما الأول , فلما فيه من التعذيب بالنار , وأما الآخر , فلما فيه من الاحتياج إلى الغير فيما الفائدة فيه مظنونة غير راجحة , ولذلك كان من صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون , كما في حديث ابن عباس عند الشيخين , وزاد مسلم في روايته فقال: لا يرقون ولا يسترقون , وهي زيادة شاذة كما بينته فيما علقته على كتابي مختصر صحيح مسلم.
الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/349)
247 – (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا).
قال الحافظ في الفتح:
(وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام , وقوله " كتب الله " أي أمر أن بكتب , وللدارقطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ " يقول الله لملائكته اكتبوا " فقيل إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد وقال المازري: الكافر ليس كذلك , فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه , لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك. وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال , واستضعف ذلك النووي فقال: الصواب الذي عليه المحققون - بل نقل بعضهم فيه الإجماع - أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ثم مات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له , وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه انتهى).
ثم قال الحافظ: (والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله وإحسانا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا , والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول , ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا , وهذا قوي , وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين , قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره , وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل , وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر , فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح , وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح , بل يكون هباء منثورا. فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني , وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان: وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال " إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر).
قلت: وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه , لتضافر الأحاديث على ذلك ولهذا قال السندي رحمه الله في حاشيته على النسائي: (وهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة إن أسلم تقبل وإلا ترد وعلى هذا فنحو قوله تعالى (والذين كفروا أعمالهم كسراب) النور 29 , محمول على من مات على الكفر والظاهر أنه لا دليل على خلافه وفضل الله أوسع من هذا وأكثر فلا استبعاد فيه وحديث الإيمان يجب ما قبله من الخطايا في السيئات لا في الحسنات).
قلت: ومثل الآية التي ذكرها السندي رحمه الله سائر الآيات الواردة في إحباط العمل بالشرك , كقوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر 65 , فإنها كلها محمولة على من مات مشركاً , ومن الدليل على ذلك قوله عز وجل: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة217.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/350)
ويترتب على ذلك مسألة فقهية , وهي أن المسلم إذا حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام , لم يحبط حجه , ولم يجب عليه إعادته , وهو مذهب الإمام الشافعي , وأحد قولي الليث بن سعد , واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد متين , أرى أنه لا بد من ذكره , قال رحمه الله تعالى: (مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ , ثُمَّ ارْتَدَّ , ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحَدُ قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة , وَمَالِكٌ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) الزمر65 , مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَهَا , وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِيهَا: لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ تُشْرِكَ , وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ , أَوْ صَلَّى , أَوْ صَامَ , أَوْ زَكَّى , لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَنِ الْوَاجِبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا: (وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) الزمر65 , بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلى الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ , بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ , فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ , وَهَذَا هُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ , لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ، عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) البقرة217 , فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِر.
وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) ال عمران195 , وَقَالَ تَعَالَى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) الزلزلة7 , ُوَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ , فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.
وروينا من طرق كالشمس عن الزهري وعن هشام بن عروة المعنى كلاهما عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله عليه السلام: أي رسول الله , أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم , أفيها أجر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
248 - (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أسَلَفتَ مِنْ خَيْرٍ).
أخرجه الشيخان وغيرهما.
قال ابن حزم: (فَصَحَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ , وَالْكَافِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَطُّ , إذَا أَسْلَمَا فَقَدْ أَسْلَمَا عَلَى مَا أَسَلَفَا مِنْ الْخَيْرِ , وَقَدْ كَانَ الْمُرْتَدُّ إذَا حَجَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ قَدْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ , وَمَا كُلِّفَ كَمَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ الآنَ عَلَيْهِ , فَهُوَ لَهُ كَمَا كَانَ , وَأَمَّا الْكَافِرُ يَحُجُّ كَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ دِينِهِمْ , فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ; لإِنَّ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا أَنْ لاَ تُؤَدَّى إلاَّ كَمَا أَمَرَ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/351)
بِهَا رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ , الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى دِينًا غَيْرَهُ , وَقَالَ عليه السلام: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرْنَا فَهُوَ رَد) ٌّ, وَالصَّابِئُ إنَّمَا حَجَّ كَمَا أَمَرَهُ يوراسف , أَوْ هُرْمُسُ فَلاَ يُجْزِئُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَيَلْزَمُ مَنْ أَسْقَطَ حَجَّهُ بِرِدَّتِهِ أَنْ يُسْقِطَ إحْصَانَهُ , وَطَلاَقَهُ الثَّلاَثَ , وَبَيْعَهُ , وَابْتِيَاعَهُ , وَعَطَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ فِي الإِسْلاَمِ , وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا ; فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ).
وإذا تبين هذا , فلا منافاة بينه وبين حديث: (أن الكافر يثاب على حسناته ما عمل بها لله في الدنيا) , لأن المراد به الكافر الذي سبق في علم الله أنه يموت كافراً , بدليل قوله في آخره: (حتى إذا أفضى إلى الآخرة , لم يكن له حسنة يجزى بها) , وأما الكافر الذي سبق في علم الله أنه يسلم ويموت مؤمناً , فهو يجازى على حسناته التي عملها حالة كفره في الآخرة , كما أفادته الأحاديث المتقدمة , ومنها حديث حكيم بن حزام الذي أورده ابن حزم في كلامه المتقدم وصححه ولم يعزه لأحد من المؤلفين , وقد أخرجه البخاري , ومسلم , وأبوعوانة , وأحمد.
ومنها حديث عائشة في ابن جدعان الذي ذكره الحافظ غير معزو لأحد , فأنا أسوقه الآن وهو:
249 - (لَا يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).
أخرجه مسلم , وأبو عوانة , وأحمد , وابنه عبدالله , وأبوبكر العدل , والواحدي , من طرق عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوق – ولم يذكر الأخيران مسروقاً - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ (فذكر).
وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية , بخلاف ما إذا مات على كفره , فإنه لا ينفعه , بل يحبط بكفره , وقد سبق بسط الكلام في هذا في الحديث الذي قبله.
وفيه دليل أيضاً على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسل , إذ لو كانوا كذلك , لم يستحق ابن جدعان العذاب , ولما حبط عمله الصالح , وفي هذا أحاديث أخرى كثيرة سبق أن ذكرنا بعضها.
تحريم سؤال شئ من أمور الدنيا بوجه الله تعالى وتحريم عدم إعطاء من سأل به تعالى
255 - (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا قُلْنَا بَلَى قَالَ رَجُلٌ ممسك بِرَأْسِ فَرَسِه- أو قال فرس - ِ فِي سَبِيلِ اللَّه حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ. قال - وَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: امرؤ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ , يُقِيمُ الصَّلَاةَ , وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ , وَيَعْتَزِلُ النَّاسِ , قال: فَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاس منزلة؟ قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ العظيم وَلَا يُعْطِي بِهِ).
في هذا الحديث تحريم سؤال شئ من أمور الدنيا بوجه الله تعالى , وتحريم عدم إعطاء من سأل به تعالى.
قال السندي في حاشية على النسائي: (الذي يسأل بالله على بناء الفاعل أي الذي يجمع بين القبيحتن أحدهما السؤال بالله والثاني عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى فما يراعي حرمة اسمه تعالى في الوقتين جميعا وأما جعله مبنيا للمفعول فبعيد إذ لا صنع للعبد في أن يسأله السائل بالله فلا وجه للجمع بينه وبين ترك الإعطاء في هذا المحل).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/352)
قلت: ومما يدل على تحريم عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى حديث ابن عمر (من استعاذكم بالله؛ فأعيذوه، ومن سألكم بالله؛ فأعطوه، ومن دعاكم؛ فأجيبوه، [ومن استجار بالله؛ فأجيروه]، ومن أتى إليكم معروفا؛ فكافئوه، فإن لم تجدوا؛ فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه) , وحديث ابن عباس مرفوعاً (من استعاذ بالله فأعيذوه , ومن سألكم بوجه الله فأعطوه) , ويدل على تحريم السؤال به تعالى حديث: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) , ولكنه ضعيف الإسناد , كما بينه المنذري وغيره , ولكن النظر الصحيح يشهد له , فإنه إذا ثبت وجوب الإعطاء لمن سأل به تعالى كما تقدم , فسؤال السائل به قد يعرض المسؤول للوقوع في المخالفة , وهي عدم إعطائه إياه ما سأل , وهو حرام , وما أدى إلى محرم فهو حرام , فتأمل.
ولقد كره عطاء أن يسأل بوجه الله أو بالقرآن شئ من أمور الدنيا.
ووجوب الإعطاء إنما هو إذا كان المسؤول قادراً على الإعطاء , ولا يلحقه ضرر به أو بأهليه , وإلا , فلا يجب عليه , والله أعلم.
بطلان الحديث الشائع: لهم ما لنا وعليهم ما علينا
303 - (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا وَيَأْكُلُوا ذَبِيحَتَنَا وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتَنَا فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ [فقد] حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ).
في هذا الحديث دليل على بطلان الحديث الشائع اليوم على ألسنة الخطباء والكتاب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في أهل الذمة: (لهم ما لنا , وعليهم ما علينا).
وهذا مما لا أصل له عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بل هذا الحديث الصحيح يبطله , لأنه صريح في أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قال فيمن أسلم من المشركين وأهل الكتاب , وعمدة أولئك الخطباء على بعض الفقهاء الذين لا علم عندهم بالحديث الشريف , كما بينته في الأحاديث الضعيفة والموضوعة , فراجعه , فإنه من المهمات.
وللحديث شاهد بلفظ آخر , وهو:
304 - (من أسلم من أهل الكتاب؛ فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين، فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا).
إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ
331 – (إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ).
والرقى: هي هنا كل ما فيه الاستعاذة بالجن أو لا يفهم معناها مثل كتابة بعض المشايخ من العجم على كتابهم لفظة (يا كبيكج) لحفظ الكتب من الأرضة زعموا.
والتمائم: جمع تميمة , وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين , ثم توسعوا فيها , فسموا بها كل عوذة.
قلت: ومن ذلك تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار , أو في صدر المكان , وتعليق بعض السائقين نعلاً في مقدمة السيارة أو مؤخرتها , أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل , كل ذلك من أجل العين زعموا.
وهل يدخل في - التمائم – الحجب التي يعلقها بعض الناس على أولادهم أو على أنفسهم إذا كانت من القرآن أو الأدعية الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ للسلف في ذلك قولان , أرجحهما عندي المنع , كما بينته فيما علقته على الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية.
والتولة: بكسر التاء وفتح الواو , ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره , قال ابن الأثير: (جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى).
الملائكة فقط هم الذين خلقوا من نور
458 - (خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار السموم، وخلق آدم عليه السلام مما قد وصف لكم).
في الحديث إشارة إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) , ونحوه من الأحاديث التي تقول بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلق من نور , فإن هذا الحديث دليل واضح على أن الملائكة فقط هم الذين خلقوا من نور , دون آدم وبنيه , فتنبه ولا تكن من الغافلين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/353)
وأما ما رواه عبدالله بن أحمد في " السنة " " ص 151 " عن عكرمة قال: (خلقت الملائكة من نور العزة , وخلق إبليس من نار العزة) , وعن عبدالله بن عمرو قال: (خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر).
قلت: فهذا كله من الإسرائيليات التي لا يجوز الأخذ بها , لأنها لم ترد عن الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لا نبوة ولا وحي بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
473 - (كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة).
والحديث نص في أنه لا نبوة ولا وحي بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا المبشرات: الرؤيا الصالحة , وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
ولقد ضلت طائفة زعمت بقاء النبوة واستمرارها بعده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتأولوا – بل عطلوا – معنى هذا الحديث ونحوه مما في الباب , وكذلك حرفوا قول الله تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب40 , بمثل قولهم: أي زينة النبيين , وتارة يقولون: هو آخر الأنبياء المشرعين , ويقولون ببقاء النبوة غير التشريعية.
ومن المؤسف أن أحدهم كان استخرج كلمات الشيخ محيي الدين بن عربي (النكرة) الدالة على بقاء هذه النبوة المزعومة من كتابه " الفتوحات المكية " في كراس نشر على الناس , ثم لم يستطيع أحد من المشايخ أن يرد عليهم , وكانوا من قبل قد ألفوا بعض الرسائل في الرد عليهم , وإنما أمسكوا عن الرد على هذا الكراس , لأن من مكر جامعه أنه لم يضع فيه من عند نفسه شيئاً سوى أنه ذكر فيه كلمات الشيخ المؤيدة لضلالهم في زعمهم المذكور , فلو ردوا عليه , لكان الرد متوجهاً إلى الشيخ الأكبر وذلك مما لا يجرؤ أحد منهم عليه , هذا إن لم يروه زندقة , فكأنهم يعتقدون أن الباطل إنما هو باعتبار المحل , فإذا قام فيمن يعتقدونه كافراً , فهو باطل , وأما إذا قام فيمن يعتقدونه مسلماً – بل ولياً فهو حق , والله المستعان.
فيما جاء في النذر
478 - (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَا يُؤْتِينِي عَلَى الْبُخْلِ , وفي رواية: ما لم يكن آتاني من قبل).
أخرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
قلت وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين , وقد أخرجاه في " صحيحهما " , وأبو داود , وغيرهم من طرق أخرى عن أبي الزناد به , إلا أنهم لم يجعلوه حديثاً قدسياً , وقد ذكرت لفظه ومن خرجه وطرقه في "إرواء الغليل".
ورواه النسائي من طريق أخرى عن سفيان به مختصراً.
وتابعه همام بن منبه عن أبي هريرة به.
أخرجه ابن الجارود , وأحمد بإسناد صحيح على شرطيهما , ولم يخرجاه من هذا الطريق , ولا بلفظ الحديث القدسي.
وللحديث طريق ثالث بلفظ: (لَا تَنْذِرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنْ الْقَدَرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ) , أخرجه مسلم , وصححه الترمذي.
وقد دل هذا الحديث بمجموع ألفاظه أن النذر لا يشرع عقده , بل هو مكروه , وظاهر النهي في بعض طرقه أنه حرام , وقد قال به قوم , إلا أن قوله تعالى: (أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ): يشعر أن الكراهة أو الحرمة خاص بنذر المجازاة أو المعاوضة , دون نذر الابتداء والتبرر , فهو قربة محضة , لأن للناذر فيه غرضاً صحيحاً , وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب , وهو فوق ثواب التطوع , وهذا النذر هو المراد – والله أعلم – بقوله تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) الإنسان 7 , دون الأول.
قال الحافظ في الفتح: (وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى (يوفون بالنذر) قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ومما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا , وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/354)
وقال قبل ذلك: (وجزم القرطبي في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال: هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا , ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة , ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه , وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله " و إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه " وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض , أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر , وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا " فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح).
قال الحافظ: (قلت: بل تقرب من الكفر أيضا. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ. وهو تفصيل حسن , ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة).
قلت: يريد بالقصة ما أخرجه الحاكم من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث أنه سمع عبدالله بن عمر وسأله رجل من بني كعب يقال له مسعود بن عمرو , يا أبى عبد الرحمن إن ابني كان بأرض فارس فيمن كان عند عمر بن عبيد الله , وإنه وقع بالبصرة طاعون شديد , فلما بلغ ذلك , نذرت: إن الله جاء بابني أن أمشي إلى الكعبة , فجاء مريضاً فمات , فما ترى؟ فقال ابن عمر: أولم تنهوا عن النذر؟ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره , فإنما يستخرج به من البخيل) , أوف بنذرك.
وبلجملة ففي الحديث تحذير للمسلم أن يقدم على نذر المجازاة , فعلى الناس أن يعرفوا ذلك حتى لا يقعوا في النهي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
479 - (النذر نذران: فما كان لله , فكفارته الوفاء , وما كان للشيطان , فلا وفاء فيه , وعليه كفارة يمين).
وفي الحديث دليل على أمرين اثنين:
الأول: أن النذر إذا كان طاعة لله , وجب الوفاء به , وأن ذلك كفارته , وقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ) متفق عليه.
والآخر: أن من نذر نذراً فيه عصيان للرحمن , وإطاعة للشيطان , فلا يجوز الوفاء به , وعليه الكفارة كفارة اليمين , وإذا كان النذر مكروهاً أو مباحاً , فعليه الكفارة من باب أولى , ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (كفارة النذر كفارة اليمين) , وأخرجه مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه , وهو مخرج في " الإرواء ".
وما ذكرنا من الأمر الأول والثاني متفق عليه بين العلماء , إلا في وجوب الكفارة في المعصية ونحوها , فالقول به مذهب الإمام أحمد وإسحاق , كما قال الترمذي , وهو مذهب الحنفية أيضاً , وهو الصواب , لهذا الحديث وما في معناه مما أشرنا إليه.
مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ
492 - (مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ).
أخرجه الإمام أحمد , والحارث بن أبي أسامة في " مسنده " ومن طريقه أبو الحسن محمد بن محمد البزاز البغدادي عن عبدالعزيز بن منصور: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ دُخَيْنٍ الْحَجْرِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا قَالَ إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فَبَايَعَهُ وَقَالَ: (فذكره).
التميمة: خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم , يتقون بها العين في زعمهم , فأبطلها الإسلام , كما في " النهاية " لابن الأثير.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/355)
قلت: ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين , ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارة يعلقونها على المرآة , وبعضهم يعلق نعلاً عتيقه , في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها , وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار أو الدكان , كل ذلك لدفع العين زعموا , وغير ذلك مما عم وطم بسبب الجهل بالتوحيد , وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بعثت الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها , فإلى الله المشتكى من جهل المسلمين اليوم وبعدهم عن الدين.
ولم يقف الأمر ببعضهم عند مجرد المخالفة , بل تعداه إلى التقرب بها إلى الله تعالى فهذا الشيخ الجزولي صاحب " دلائل الخيرات " يقول في الحزب السابع في يوم الأحد: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد , ما سجعت الحمائم , وحمت الحوائم , وسرحت البهائم , ونفعت التمائم).
وتأويل الشارح لـ (الدلائل) بأن (التمائم جمع تميمة , وهي الورقة التي يكتب فيها شيء من الأسماء أو الآيات , وتعلق على الرأس مثلاً للتبرك) فمما لا يصح لأن التمائم عند الإطلاق إنما هي الخرزات , كما سبق عن ابن الأثير , على أنه لو سلم بهذا التأويل , فلا دليل في الشرع على أن التميمة بهذا المعنى تنفع , ولذلك جاء عن بعض السلف كراهة ذلك كما بينته في تعليقي على "الكلم الطيب".
يانعايا العرب
508 - (يا نعايا العرب , يا نعايا العرب [ثلاثاً] , إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء , والشهوة الخفية).
تنبيه: الرياء , بالراء. ووقع في " الترغيب " و " المجمع ": الزنا , بالزاي. وقال المنذري: (وقد قيده بعض الحفاظ " الرياء " بالراء والياء).
قلت: وكذلك هو في كل الكصادر المحفوظة وغيرها التي عزونا الحديث إليها , وكذلك أورده ابن الأثير في "النهاية" وقال: (وفي رواية:"يا نعيان العرب". يقال: نعى الميت ينعاه نعياً: إذا أذاع موته وأخبر به وإذا نربه , قال الزمخشري: في " نعايا " ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون جمع " نعي " وهو المصدر كصفي وصفايا.
والثاني: أن يكون اسم جمع كما جاء في أخيه أخايا.
والثالث: أن يكون جمع نعاء التي هي اسم الفعل.
والمعنى: يانعايا العرب , جئن فهذا وقتكن وزمانكن , يريد: أن العرب قد هلكت , والنعيان مصدر بمعنى النعي , وقيل: إنه جمع ناع , كراع ورعيان , والمشهور في العربية أن العرب كانوا إذا مات منهم شريف أو قتل , بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم , يقول: نعاء فلاناً أو يانعاء العرب , أي: هلك فلان , أو هلكت العرب بموت فلان , فنعاه من نعيت , مثل: نظار ودراك , فقوله: نعاء فلاناً معناه: انع فلاناً , كما تقول: دراك فلاناَ , أي: أدركه , فأما قوله: "يانعاء العرب" مع حرف النداء , فالمنادى محذوف تقديره: ياهذا نع العرب , أو ياهؤلاء انعوا العرب بموت فلان , كقوله تعالى (ألا يا اسجدوا) , أي: ياهؤلاء اسجدوا , فمن قرأ بتخفيف (ألا) ".
عقوبة من قتل مؤمناً متعمداً
511 - (كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا).
أخرجه أبوداود , وابن حبان , والحاكم , وكذا أبونعيم , وابن عساكر من طريق خَالِدِ بْنِ دِهْقَانَ قَالَ:
كُنَّا فِي غَزْوَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِذُلُقْيَةَ فَأَقْبَلَ رَجُلُ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَخِيَارِهِمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ لَهُ يُقَالُ لَهُ هَانِئُ بْنُ كُلْثُومِ بْنِ شَرِيكٍ الْكِنَانِيُّ فَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا وَكَانَ يَعْرِفُ لَهُ حَقَّهُ قَالَ لَنَا خَالِدٌ فَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/356)
والحديث في ظاهره مخالف لقوله تعالى (إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ) , لأن القتل دون الشرك قطعاً , فكيف لا يغفره الله؟ وقد وفق المناوي تبعاً لغيره بحمل الحديث على ما إذا استحل , وإلا فهو تهوبل وتغليظ , وخير منه قول السندي في حاشيته على النسائي: (وكأن المراد كل ذنب ترجى مغفرته ابتداء إلا قتل المؤمن فإنه لا يغفر بلا سبق عقوبة وإلا الكفر فإنه لا يغفر أصلا ولو حمل على القتل مستحلا لا يبقى المقابلة بينه وبين الكفر [يعني: لأن الاستحلال كفر , ولا فرق بين استحلال القتل أو غيره من الذنوب , إذ كل ذلك كفر]. ثم لابد من حمله على ما إذا لم يتب وإلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له كيف وقد يدخل القاتل والمقتول الجنة معا كما إذا قتله وهو كافر ثم آمن وقتل).
النهي عن سب الدهر
531 - (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْر [وفي رواية: يَسُبُّ الدَّهْرَ] فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا).
معني الحديث:
قال المنذري: (ومعنى الحديث: أن العرب كانت إذا نزلت بأحدهم نازلة وأصابته مصيبة أو مكروه , يسب الدهر اعتقاداً منهم أن الذي أصابه فعل الدهر , كما كانت العرب تيتمطر بالأنواء وتقول: مطرنا بنوء كذا , اعتقاداً أن ذلك فعل الأنواء , فكان هذا كاللاعن للفاعل , ولا فاعل لكل شيء إلا الله تعالى خالق كل شيء وفاعله , فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.
وكان [محمد] بن داود ينكر رواية أهل الحديث: " وأنا الدهر " بضم الراء ويقول: لو كان كذلك كان الدهر اسماً من أسماء الله عز وجل , وكان يرويه: " وأنا الدهر أقلب الليل والنهار " بفتح راء الدهر , على النظر في معناه: أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار , ورجح هذا بعضهم ورواية من قال: "فإن الله هو الدهر " يرد هذا , والجمهور على ضم الراء , والله أعلم".
وللحديث طريق أخرى بلفظ وهو:
532 - (لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنَا الدَّهْرُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ).
من لقي الله مدمن خمر مستحلاً لشربه، لقيه كعابد وثن
677 - (مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ).
أخرجه احمد (1/ 272):ثنا اسود بن عامر: ثنا الحسن –يعني: ابن صالح-عن محمد بن المنكدر قال: حدثت عن ابن عباس انه قال: قال رسول لله صلى عليه وسلم: فذكره.
ورواه عبد بن حميد في ((المنتخب)) (80/ 1) والخلعي في ((الفوائد)) (501/ 1) عن الحسن بن صالح به.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، غير شيخ ابن المنكدر فهو مجهول لم يسم، وقد جاء مسمى في بعض الطرق، فأخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (1379)، وعنه الضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (154/ 1)، وابن عدي في ((الكامل)) (220/ 1)) عن عبدالله بن خراش: حدثنا العوام بن حوشب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به نحوه. وقال ابن عدي:
((عبد الله بن خراش منكر الحديث)).
قلت: ولم يتفرد به، فقد رواه اسرئيل: نا حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير به.
أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 26)، والسلفي في ((الطيوريات)) (198/ 1)، وكذا ابونعيم في ((الحلية)) (9/ 253) من طرق عن اسرئيل به. قال ابن أبي حاتم:
((ورواه احمد بن يونس فقال: عن اسرئيل عن ثوير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم،قال أبي: حديث حكيم عندي اصح. قلت لأبي: فحكيم بن جبير أحب إليك اوثوير؟ فقال:ما فيهما إلا ضعيف غال في التشيع ز قلت: فأيهما أحب أليك؟ قال:هما متقاربان)).
وقد أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 161/2)،وابن بشران في ((الامالي)) (52/ 87/2) عن ثوير بن أبي فاختة به.
ثم روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة انه رجح أيضا حديث حكيم.
قلت: وهو ضعيف كما في ((التقريب))، وكذلك ثوير.
ثم قال ابن أبي حاتم (2/ 27).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/357)
((سالت أبي عن حديث رواه المؤمل بن إسماعيل عن سفيان عن محمد بن المكندر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فذكره. سمعت أبي يقول:هذا خطا،أنما هو كما رواه حسن بن صالح عن محمد بن المكندر قال: حدثت عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم)).
قلت: وقد أخرجه من حديث ابن عمرو أبو الحسن الحربي في ((الفوائد المنتقاة)) (3/ 155/2) من طريق المؤمل به.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً مختصراً بلفظ:
((مدمن الخمر كعابد وثن)).
أخرجه البخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 1/386)،وابن ماجه (3375)،وأبو بكر الملحمي في ((الوسيط)) (1/ 255)، والضياء المقدسي في ((المنتقى من الأحاديث الصحاح والحسان)) (278/ 2) من طرق عن محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وقال الآبنوسي:
((قال الدارقطني: تفرد به محمد بن سليمان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة)).
قلت: وفي رواية للبخاري عن سليمان عن سهيل بن أبي صالح عن محمد بن عبد الله عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:فذكره. وقال: ((لا يصح حديث أبي هريرة في هذا)).
قلت: وأكثر الرواة عن محمد بن سليمان وصلوه، وهو الأرجح عندي.
ومحمد بن سليمان قال الذهبي في ((الضعفاء)):
((صدوق، قال ابوحاتم: لا يحتج به)).
وقال الحافظ في ((التقريب)):
((صدوق يخطئ)).
قلت: فالحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح.والله اعلم.
(فائدة): ذكر الضياء عن ابن حبان –وهو في صحيحه- الإحسان)) (7/ 367) -أنه قال:
((يشبه أن يكون معنى الخبر: من لقى الله مدمن خمر مستحلاً لشربه، لقيه كعابد وثن، لا ستوائهما في حالة الكفر)).
الفرق بين التطير والتفاؤل
762 - (كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِه، ِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا، فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بها، وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ).
أخرجه أبودود (2/ 859)،وابن حبان (1430)،وتمام في ((الفوائد)) (109/ 2)،وأحمد (5/ 347 - 348)،وابن أبي خيثمة في ((التاريخ)) (1920)،وابن عساكر (2/ 136/1)،عن هشام عن قتادة عن عبدالله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً.
وليس عند ابن حبان قضية العامل، وهي عند تمام دون قضية القرية.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
أخرجه ابن عدي (28/ 2) من طريق أوس بن عبدالله بن بريدة عن حسين بن واقد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتطير، ولكن يتفائل. فذكر قصة إسلام بريدة. الحديث)).
و أوس هذا ضعيف جداً، ولكن تفاؤله صلى الله عليه وسلم ثابت عنه في غير ما حديث، وما قبله صحيح بمتابعة قتادة. والله أعلم.
والحديث عزاه في ((الجامع)) للحكيم والبغوي عن بريده. قال المناوي:
((ورواه عنه أيضاً قاسم بن أصبغ، وسكت عليه عبدا لحق مصححاً له.
قال ابن القطان: وما مثله يصح. فإن فيه أوس بن ... منكر الحديث وروى أبودود عنه قول ((كان لا يتطير)). قال: وإسناده صحيح)).
قلت: الصواب تصحيح عبدا لحق، وليس هو تصحيحاً لذته حتى يرد عليه ما تعقبه ابن قطان، وإنما هو التفصيل الذي ذكرته، فتنبه ولا تكن من الغافلين.
ثم وجدت للحديث شاهداً من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:
((كان يتفاءل ولا يتطير)).
ويأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى برقم (777).
(فائدة): في الحديث أوس بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: من أنت؟ قال: بريدة، فقال صلى الله عليه وسلم ((برد امرنا وصلح)) وعزاه ابن تيمية في آخر ((الكلم الطيب)) إلي (الصحاح) هو وهم تبعه عليه ابن القيم، وحاباهما الشيخ إسماعيل الأنصاري كما هي عادته، وقد رددت عليه في ((الضعيفة)) (4112).
معنى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ
862 - (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ).
أخرجه أحمد (2/ 244): ثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/358)
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ وإنما أخرج مسلم (8/ 31)، وكذا البخاري (5/ 182/2559)، وابن حبان (5575 - الإحسان) منه الشطر الأول بلفظ:
((إذا قاتل أحدكم أخاه .... )). وليس عند البخاري ((أخاه)).
وأخرجه بتمامه الآجري في ((الشريعة)) (ص314) والبيهقي في ((الأسماء)) (ص290) من طرق عن سفيان به.
ثم أخرجه من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة به.
و أخرجه البخاري في ((الأدب لمفرد)) (ص27) عن ابن عجلان قال: أخبرني أبي وسعيد عن أبي هريرة مرفوعاً دون السطر الثاني. وهو حسن أيضاً.
وكذلك أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (5/ 182) من وجه آخر ضعيف عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
ورواه أحمد عن ابن عجلان بلفظ:
((إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، ولا تقل قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك؛ فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)).
قال أحمد (2/ 25و434):ثنا يحيى عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا سند حسن.
وأخرجه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (ص26)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات** (ص291)،وقال البخاري في ((الأدب المفرد)): ثنا عبدالله بن محمد قال: ثنا ابن عينية عن ابن عجلان به؛ إلا أنه أوقفه على أبي هريرة به، وعلقه الآجري ورواه البخاري من طريق أخرى عن عينية به مرفوعاً مقتصراً على قوله: ((لا تقولوا قبح الله وجهه))، فالظاهر أن ابن عجلان كان تارة يرفعه وأخرى يوفقه، والحديث مرفوع بلا شك.
وأخرج الشطر الأول منه أبودود (2/ 243) من طريق عمر-يعني: ابن أبي سلمة- عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً.
وسنده حسن في المتابعات.
فائدة: يرجع الضمير في قوله (على صورته) إلي آدم عليه السلام؛ لأنه أقرب مذكور؛ ولأنه مصرح به في رواية آخر للبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ((خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً))، وقد مضى تخريجه برقم (449)،وأما حديث (( .... على صورة الرحمن)؛ فهو منكر، كما حققته في الكتاب (1176)، مع الرد على من صححه من المعاصرين كالشيخ التويجري رحمه الله وغيره
اثبات العلو للعلي القدير
925 - (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تبارك وتعالى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ((الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ)).
ورواه أبو داود (4941)، والترمذي (1/ 350)، وأحمد (2/ 160)، والحميدي (591)، وعنه البخاري في ((التاريخ / الكنى)) (64/ 574)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (8/ 526)، والحاكم (4/ 159) وصححه، ووافقه الذهبي، والخطيب في ((التاريخ)) (3/ 260)، والبيهقي في ((شعب الأيمان)) (7/ 476/11048)،وأبو الفتح الخرقي في ((الفوائد الملتقطة)) (222ـ223)، كلهم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو مرفوعاً. وقال الترمذي:
((هذا حديث حسن صحيح)).
وصححه الخرقي أيضا، وقواه الحافظ في ((الفتح)) (10/ 440) بسكوته عليه.
قلت: ورواه العراقي في ((العشاريات)) (59/ 1) من هذا الوجه مسلسلاً بقول الراوي وهو أول حديث سمعته منه))، ثم قال: ((هذا حديث صحيح)).
وصححه أيضاً ابن ناصر الدين الدمشقي في بعض مجالسه المحفوظة في ظاهرية دمشق؛ لكن أوراقها مشوشة الترتيب، وقال:
((ولأبي قابوس متابع رويناه في ((مسندي أحمد بن حنبل وعبد بن حميد)) من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الحمصي-أحد الثقات عن عبد الله بن عمرو بمعناه، وللحديث شاهد عن نيف وعشرين صحابياً؛ منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم)).
قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير أبي قابوس فقال الذهبي:
((لا يعرف)).
وقال الحافظ:
((مقبول)). يعني: عند المتابعة. وقد توبع كما تقدم عن ابن ناصر الدين؛ مع الشواهد التي أشار إليها؛ ومنها حديث إسحاق عن أبي ظبيان عن جرير مرفوعاً بلفظ:
(من لا يرحم من في الأرض؛ لا يرحمه من في السماء)).
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 528/5416) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (1/ 118/2).قال المنذري في ((الترغيب)) (3/ 155):
((وإسناده جيد قوي)) كذا قال، وأقره العلجوني، والصواب قول الذهبي في ((العلو)) (رقم5 - مختصر))،والحافظ في ((الفتح)) (رواته ثقات).
وذلك لأن أبا إسحاق-وهو السبيعي-كان اختلط، ثم وهو مدلس. والجملة الأولى منه عند الشيخين، وهو مخرج في ((مشكلة الفقر)) (108).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/359)
(تنبيه): المتابعة التي أشار إليها الحافظ ابن ناصر الدين هي بلفظ آخر، وقد مضى تخريجه برقم (482)، وهي متابعة قاصرة فتنبه.
(فائدة):قوله في هذا الحديث ((في)): هو بمعنى ((على))؛ كما في قوله تعالى ((قل سيروا في الأرض))، فالحديث من الأدلة الكثيرة على أن الله تعالى فوق المخلوقات كلها، وفي ذلك ألف الحافظ الذهبي كتابه ((العلو للعلي القدير))، وقد انتهيت من اختصاره قريباً، ووضعت له مقدمة ضافية، وخرجت أحاديثه وآثاره، ونزهته من الأخبار الواهية. وقد يسر الله طبعه، والحمد لله.
وقد أنكر الملقب بـ (السقاف) المعنى المذكور، ولذا ابطل الحديث، وانظر ((الاستدراك)) (11).
مذهب السلف إمرار احاديث الصفات على ظاهرها
756 - (إذا جمع الله الأولى والأخرى يوم القيامة، جاء الرب تبارك وتعالى إلى المؤمنين فوقف عليهم، والمؤمنون على كوم _ فقالوا لعقبة ما الكوم؟ قال: مكان مرتفع _ فيقول هل تعرفون ربكم؟ فيقولون إن عرفنا نفسه عرفناه. ثم يقول لهم الثانية فيضحك في وجوههم، فيخرون له سجدا).
أخرجه ابن خزيمة في ((التوحيد) (ص153) من طريق فرقد بن الحجاج قال: سمعت عقبة بن أبي الحسناء قال: سمعت أبا هريرة
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد، غير عقبة هذا فهو مجهول، وأما ابن حبان فذكره في ((الثقات)) لكن يشهد له حديث جابر المتقدم.
وأعلم أن هذا الحديث-كغيره من أحاديث الصفات-يجب أمراره على ظاهره دون تعطيل، أو تشبيه، كما هو مذهب السلف، وليس مذهبهم التفويض كما يزعم الكوثري وأمثاله من المعطلة، كما شرحه ابن تيمية في رسالته (التدمرية) وغيرها والتفويض بزعمهم إمرار النصوص بدون فهم مع الإيمان بألفاظها ولازم ذلك نسبة الجهل إلي السلف بأعز شئ لديهم وأقدسه عندهم وهو أسماء الله وصفاته.
ومن عرف هذا علم خطورة ما ينسبونه إليهم. والله المستعان ورجع ذلك مقدمتي لكتابي (مختصر العلو للذهبي)،يسر الله طبعه. ثم طبع والحمد لله.
يحرم شد الرحل لغير المساجد الثلاثة
997 - (إنما تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
أخرجه أبو يعلى في ((مسنده)) (ق306/ 1): ثنا محمد بن المنهال: ثنا يزيد بن زريع: ثنا روح عن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد المقبري:
((أن أبا بصرة جميل بن بصرة لقي أبا هريرة وهو مقبل من (الطور)، فقال: لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)) فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وهو على شرط الشيخين إن كان محمد بن المنهال هذا هو التميمي الحافظ، وفي طبقته محمد بن المنهال البصري الأنماطي أخو الحجاج، وهو ثقة اتفاقاً، وكلاهما يروي بن زريع، وعنهما أبو يعلى.
وقد أخرجه الطبراني (2/ 310/2159) من طريق أخرى صحيحة عن يزيد بن زريع به.
ثم أخرجه هو وأحمد (6/ 7و397) من طريق أخرى صحيحة عن أبي بصرة.
والحديث في ((الصحيحين)) وغيرهما من طرق عن أبي هريرة بلفظ ((لا تشد الرحال))، وقد خرجتها في ((أرواء الغليل)) (رقم951)، وإنما خرجته هنا لهذه الزيادة التي فيها إنكار أبي بصرة على أبي هريرة رضي الله عنهما سفره إلي الطور، ولها طرق أخرى أوردتها هناك، فلما وقفت على هذه الطريق أحببت أن أقيدها هنا، وقد فاتني ثم.
وفي هذه الزيادة فائدة هامة؛ وهي أن راوي الحديث-وهو الصحابي الجليل أبو بصرة رضي الله عنه-وقد فهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن النهي يشمل غير المساجد الثلاثة من المواطن الفاضلة كالطور؛ وهو جبل كلم الله عليه موسى تكليماً، ولذلك أنكر على أبي هريرة سفره إليه، وقال ((لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته))، وأقره على ذلك أبو هريرة ولم يقل كما يقول بعض المتأخرين:
((الاستثناء مفرغ، والمعنى: لا يسافر لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه الثلاثة))
بل المراد: لا يسافر إلي موضع من المواضع الفاضلة التي تقصد لذاتها ابتغاء بركتها وفضل العبادة إلا إلي ثلاثة مساجد.
وهذا هو الذي يدل عليه فهم الصحابيين المذكورين، وثبت مثله عن ابن عمر رضي الله عنه؛ كما بينته في كتابي ((أحكام الجنائز وبدعها)) (ص226)، وهو الذي أختاره جماعة من العلماء: كالقاضي عياض، والإمام الجويني، والقاضي حسين؛ فقالوا:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/360)
((يحرم شد الرحل لغير المساجد الثلاثة؛ كقبور الصالحين، والمواضع الفاضلة)). ذكره المناوي في ((الفيض)).
فليس هو رأي ابن تيمية وحده كما يظن بعض الجهلة، وإن كان له الفضل الدعوة إليه، والانتصار له بالسنة وأقوال السلف بما لا يعرف له مثيل، فجزاه الله عنا خير الجزاء.
فهل آن للغافلين أن يعودوا إلي رشدهم، ويتبعوا السلف في عبادتهم، وأن ينتهوا عن اتهام الأبرياء بما ليس فيهم؟
كتاب الطهارة
مسح الأذنين هل هو فرض أم سنة
36 - (الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ).
فهذا الحديث يدل على مسألتين من مسائل الفقه , اختلفت أنظار العلماء فيهما:
أما المسألة الأول , فهي أن مسح الأذنين هل هو فرض أم سنة؟
ذهب إلى الأول الحنابلة , وحجتهم هذا الحديث , فإنه صريح في إلحاقهما بالرأس , وما ذلك إلا لبيان أن حكمهما في المسح كحكم الرأس فيه.
وذهب الجمهور إلى أن مسحهما سنة فقط , كما في (الفقه على المذاهب الأربعة) (1/ 65) , ولم نجد لهم حجة يجوز التمسك بها في مخالفة هذا الحديث إلا قول النووي في (المجموع) (1/ 415): (إنه ضعيف من جميع طرقه).
وإذا علمت أن الأمر ليس كذلك , وأن بعض طرقه صحيح , لم يطلع عليه النووي , وبعضها الآخر صحيح لغيره , استطعت أن تعرف ضعف هذه الحجة , ووجوب التمسك بما دل عليه الحديث من وجوب مسح الأذنين , وأنهما في ذلك كالرأس , وحسبك قدوة في هذا المذهب إمام السنة أبو عبدالله أحمد بن حنبل , وسلفه في ذلك جماعة من الصحابة , وقد عزاه النووي (1/ 413) إلى الأكثرين من السلف.
وأما المسألة الأخرى , فهي: هل يكفي في مسح الأذنين ماء الرأس أم لا بد لذلك من جديد؟ ذهب إلى الأول الأئمة الثلاثة , كما نص في (فيض القدير) للمناوي , فقال في شرح الحديث:
(الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ: لا من الوجه , ولا مستقلتان , يعني فلا حاجة إلى أخذ ماء جديد منفرد لهما غير ماء الرأس في الوضوء , بل يجزئ مسحهما ببلل ماء الرأس , وإلا لكان بياناً للخلقة فقط , والمصطفى صلى الله عليه وسلم لم يبعث لذلك , وبه قال الأئمة الثلاثة).
وخالف في ذلك الشافعية , فذهبوا إلى أنه يسن تجديد الماء للإذنين ومسحهما على الانفراد , ولا يجب , واحتج النووي لهم بحديث عبدلله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه.
قال النووي في (المجموع) (1/ 412): (حديث حسن , رواه البيهقي , وقال: إسناده صحيح).
وقال في مكان آخر (1/ 414): (وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريباً , فهذا صريح في أنهما ليستا من الرأس , إذ لو كانتا منه , لما أخذ لهما ماء جديداً كسائر أجزاء الجسد , وهو صريح في أخذ ماء جديد).
قلت: ولا حجة فيه على ماقالوا , إذ غاية ما فيه مشروعية أخذ الماء لهما , وهذا لا ينافي جواز الاكتفاء بما الرأس , كما دل عليه هذا الحديث , فاتفقا ولم يتعارضا , ويؤيد ما ذكرت أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه مَسَحَ بِرَأْسِهِ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ فِي يَدِهِ) رواه ابوداود بسند حسن كما بينته في صحيح سننه , وهذا كله يقال على فرض التسليم بصحة حديث عبدالله بن زيد , ولكنه غير ثابت , بل هو شاذ كما ذكرت في (صحيح سنن أبي داود) (111) , وبينته في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (997).
وجملة القول: فإن أسعد الناس بهذا الحديث من بين الأئمة الأربعة أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين , فقد أخذ بما دل عليه الحديث في المسألتين , ولم يأخذ به في الواحدة دون الأخرى كما صنع غيره.
التنزه من البول
201 - (مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا).
أخرجه النسائي , والترمذي , وابن ماجه , والطيالسي , كلهم عن شَرِيكٌ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (فذكره).
أعلم أن قول عائشة - في هذا الحديث – إنما هو باعتبار علمها , وإلا فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم , فبال قائماً) , وهو مخرج في الإرواء , ولذلك فالصواب جواز البول قاعداً وقائماً , والمهم أمن الرشاش , فبأيهما حصل وجب.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/361)
وأما النهي عن البول قائماً , فلم يصح فيه حديث مثل حديث: (لا تبل قائماً) , وقد تكلمت عليه في الأحاديث الضعيفة.
هل يستحب إطالة الغرة والتحجيل؟
252 – (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ).
صحيح من حديث أبي هريرة مصرحاً بسماعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وله عنه طريقان:
الأولى: عن خَلَفٌ بْنَ خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِبْطَهُ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا هَذَا الْوُضُوءُ فَقَالَ يَا بَنِي فَرُّوخَ أَنْتُمْ هَاهُنَا لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَاهُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره).
والطريق الأخرى عن يحيى بن أيوب البجلي عن أبي زرعة قال (دخلت على أبي هريرة , فتوضأ إلى منكبيه , وإلى ركبتيه , فقلت له: ألا تكتفي بما فرض الله عليك من هذا؟ قال: بلي , ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: مبلغ الحلية مبلغ الوضوء , فأحببت أن يزيدني في حليتي).
هل هذا الحديث يدل على استحباب إطالة الغرة والتحجيل؟
الذي نراه – إذا لم نعتد برأي أبي هريرة رضي الله عنه – أنه لا يدل على ذلك , لأن قوله: (مبلغ الوضوء) , من الواضح أنه أراد الوضوء الشرعي , فإذا لم يثبت في الشرع الإطالة , لم يجز الزيادة عليه , كما لا يخفى.
على أنه إن دل الحديث على ذلك , فلن يدل على غسل العضد , لأنه ليس من الغرة ولا التحجيل , ولذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى في حادي الأرواح: (وقد احتج بهذا الحديث من يرى استحباب غسل العضد وإطالته , والصحيح أنه لا يستحب , وهو قول أهل المدينة , وعن أحمد روايتان , والحديث لا يدل على الإطالة , فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم , لا العضد والكتف).
واعلم أن هناك حديثاً آخر يستدل به من يذهب إلى استحباب إطالة الغرة والتحجيل , وهو بلفظ: (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) , وهو متفق عليه بين الشيخين , لكن قوله (فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) , مدرج من قول أبي هريرة , ليس من حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كما شهد بذلك جماعة من الحفاظ , كالمنذري , وابن تيمية , وابن القيم , والعسقلاني , وغيرهم , وقد بينت ذلك بياناً شافياً في الأحاديث الضعيفة , فأغنى عن الإعادة , ولو صحت هذه الجملة , لكانت نصاً على استحباب إطالة الغرة والتحجيل لا على إطالة العضد , والله ولي التوفيق.
الترتيب في الوضوء غير واجب
261 - (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي).
رواه ابن شاهين في الترغيب عن محمد بن مصفى: أنا ابن أبي فديك قال: حدثني طلحة بن يحيى عن أنس بن مالك قال: دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضوء , فغسل وجهه مرة , ويديه مرة , ورجليه مرة مرة , وقال: هذا وضوء لا يقبل الله عز وجل الصلاة إلا به , ثم دعا بوضوء فتوضأ مرتين مرتين , وقال: هذا وضوء من توضأ ضاعف الله له الأجر مرتين , ثم دعا بوضوء فتوضأ ثلاثاً , وقال: هكذا وضوء نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنبيين قبله , أو قال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي.
والحديث مع أنه لم يذكر فيه الترتيب صراحة , فلا يؤخذ ذلك من قوله فيه (فغسل وجهه مرة , ويديه مرة , ورجليه مرة مرة , وقال: هذا .. ) , لما اشتهر أن الواو لمطلق الجمع , فلا تفيد الترتيب , لا سيما والأحاديث الأخرى التي أشرنا إليها لم يذكر فيها أعضاء الوضوء , بل جاءت مختصرة بلفظ: (توضأ مرة مرة , ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به).
ومن الواضح أن الإشارة بـ (هذا) , هنا إنما هو إلى الوضوء مرة مرة , كما أن الإشارة بذلك في الفقرتين الأخريين إنما هو للوضوء مرتين مرتين و الوضوء ثلاثاً ثلاتاً فلا دلالة في الحديث على الموالاة , ولا على الترتيب , والله أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/362)
وليس هناك ما يدل على وجوب الترتيب , وقول ابن القيم في الزاد (وكان وضوؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتباً متوالياَ لم يخل به مرة واحدة البتة) , غير مسلم في الترتيب , لحديث الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ قَالَ (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) , رواه أحمد , وعنه أبوداود بإسناد صحيح , وقال الشوكاني: (إسناد صالح , وقد أخرجه الضياء في المختارة).
فهذا يدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلتزم الترتين في بعض المرات , فذلك دليل على أن الترتيب غير واجب , ومحافظته عليه في غالب أحواله دليل على سنيته , والله أعلم.
دم الحيض والدماء
298 – (يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ).
أخرجه أبوادود وأحمد قالا حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ َقَالَ إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ فَقَالَتْ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ الدَّمُ قَالَ يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ.
والحديث دليل على نجاسة دم الحيض لأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغسله , وظاهره أنه يكفي فيه الغسل , ولا يجب فيه استعمال شئ من الحواد والمواد القاطعة لأثر الدم.
ويؤيده الحديث الآتي:
299 - (إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ , فَلْتَقْرُصْهُ , ثُمَّ لِتَنْضِحْهُ بِالْمَاءِ [وفي رواية: ثم اقرصيه بماء , ثم انضحي في سائره] , ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ).
أخرجه مالك , وعنه البخاري , ومسلم , وأبوداود , والبيهقي , كلهم عَنْ مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا قَالَتْ سَأَلَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
وظاهر الحديث يدل كالحديث الذي قبله على أن الماء يكفي في غسل دم الحيض , وأنه لا يجب فيه استعمال شئ من الحواد , كالسدر والصابون ونحوه , لكن قد جاء ما يدل على وجوب ذلك وهو الحديث الآتي:
300 - (حُكِّيهِ بِضِلَعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ).
أخرجه أبوداود , والنسائي , والدارمي , وابن ماجه , وابن حبان , والبيهقي , وأحمد من طرق عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْحَدَّادُ حَدَّثَنِي ْ عَدِيِّ بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ تقول: سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَمِ الْحَيْضَ يكون في الثَّوْبَ قَالَ: (فذكره).
يستفاد من هذه الأحاديث أحكام كثيرة أذكر أهمها:
الأول: أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات , لأن الجميع النجاسات بمثابة دم الحيض , ولا فرق بينه وبينها اتفاقاً , وهو مذهب الجمهور , وذهب ابوحنيفة إلى أنه يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر قال الشوكاني: (والحق أن الماء أصل في التطهير لوصفه بذلك كتابًا وسنة وصفًا مطلقًا غير مقيد لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل وفرك المني وإماطته بأذخرة وأمثال ذلك كثير فالإنصاف أن يقال أنه يطهر كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النص لكنه إن كان ذلك الفرد المحال عليه هو الماء فلا يجوز العدول إلى غيره للمزية التي اختص بها وعدم مساواة غيره له فيها وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/363)
غير الماء لذلك وإن وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات بل مجرد الأمر بمطلق التطهير فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع وغيره مشكوك فيه وهذه طريقة متوسطة بين القولين لا محيص عن سلوكها).
قلت: وهذا هو التحقيق , فشد عليه بالنواجذ.
ومما يدل على أن غير الماء لا يجزئ في دم الحيض قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثاني: (يَكْفِيكِ الْمَاءُ) , فإن مفهومه أن غير الماء لا يكفي , فتأمل.
الثاني: أنه يجب غسل دم الحيض , ولو قل , لعموم الأمر , وهل يجب استعمال شئ من المواد لقطع أثر النجاسة كالسدر والصابون ونحوهما؟ فذهب الحنفية وغيرهم إلى عدم الوجوب , مستدلين بعدم ورود الحاد في الحديثين الأولين , وذهب الشافعي والعترة – كما في نيل الأوطار – إلى الوجوب , واستدلوا بأمر بالسدر في الحديث الثالث وهو من الحواد , وجنح إلى هذا الصنعاني , وقال في سبل السلام رد على الشارح المغربي – وهو صاحب بدر التمام – أصل السبل – في قوله: (والقول الأول أظهر): (وقد يقال: قد ورد الأمر بالغسل لدم الحيض بماء والسدر , والسدر من الحواد , والحديث الوارد به في غاية الصحة كما عرفت , فيقيد به ما أطلق في غيره – كالحديثين السابقين – ويخص الحاد بدم الحيض , ولا يقاس عليه غيره من النجاسات , وذلك لعدم تحقق شروط القياس , ويحمل حديث (وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ) , وقول عائشة: (فلم يذهب) , أي: بعد الحاد).
قلت: وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الحديث , ومن الغريب أن ابن حزم لم يتعرض له في المحلى بذكر , فكأنه لم يبلغه.
الثالث: أن دم الحيض نجس للأمر بغسله , وعليه الإجماع كما ذكره الشوكاني عن النووي , وأما سائر الدماء , فلا أعلم نجاستها اللهم إلا ما ذكره القرطبي في تفسيره من (اتفق العلماء على نجاسة الدم) , هكذا قال (الدم) , فأطلقه , وفيه نظر من وجهين:
الوجه الأول: أن ابن رشد ذكر ذلك مقيداً , فقال في البداية: (اتفق العلماء على أن دم الحيوان البرئ نجس , واختلفوا في دم السمك .. ).
الوجه الثاني: أنه قد ثبت عن بعض السلف ما ينافي الإطلاق المذكور , بل إن بعض ذلك في حكم المرفوع إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
1 - قصة ذلك الصحابي الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم , وهو قائم يصلي , فستمر في صلاته والدماء تسيل منه , وذلك في غزوة ذات الرقاع كما اخرجه ابوداود وغيره من حديث جابر بسند حسن , كما بينته في صحيح ابي داود , ومن الظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم بها , لأنه يبعد أن لا يطلع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي مثل هذه الواقعة العظيمة , ولم ينقل أنه اخبره بأن صلاته بطلت كما قال الشوكاني.
2 - عن محمد ابن سيرين عن يحيى الجزار قال: صلي ابن مسعود وعلي بطنه فرث ودم من جزور ونحوها , ولم يتوضأ , واسناده صحيح.
3 - ذكر ابن رشد اختلاف العلماء في دم السمك وذكر: (أن السبب في اختلافهم هو اختلافهم في ميتته فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم , جعل دمه كذلك , ومن اخرج ميتته اخرج دمه قياساً علي الميتة).
فهذا يشعر بأمرين:
أحداهما: أن إطلاق الاتفاق علي نجاسة الدم ليس بصواب , لأن هناك بعض الدماء اختلف في نجاستها , كدم السمك مثلاً , فما دام أن الاتفاق علي إطلاقه لم يثبت , لم يصح الاستدلال به علي موارد النزاع , بل وجب الرجوع فيه إلى النص , والنص إنما دل علي نجاسة دم الحيض , وما سوى ذلك , فهو علي الأصل المتفق عليه بين المتنازعين , وهو الطهارة فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة.
الأمر الآخر: أن القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حجة , إلا أنه محرم بنص القرآن , فستلزموا من التحريم التنجيس كما فعلوا تماما في الخمر ولا يخفى أنه لا يلزم من التحريم التنجيس , بخلاف العكس , كما بينه الصنعاني في سبل السلام , ثم الشوكاني وغيرهما , ولذلك قال المحقق صديق حسن خان في الروضة الندية بعد أن ذكر حديث أسماء المتقدم وحديث أم قيس الثالث: (فالأمر بغسل دم الحيض , يفيد ثبوت نجاسته , وإن اختلف وجه تطهيره , فذلك لا يخرجه عن كونه نجسا , وأما سائر الدماء , فالأدلة مختلفة مضطربة , والبراءة الأصلية مستصحبة , حتي يأتي الدليل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/364)
الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية , ولو قام الدليل علي الرجوع الضمير في قوله تعالي: (فإنه رجس) إلي جميع ما تقدم في الآية الكريمة من: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير , لكان ذلك مفيداً لناجسة الدم المسفوح والميتة , ولكن لم يرد ما يفيد ذلك , بل النزاع كائن في رجوعه إلي الكل أو الأقرب , والظاهر الرجوع إلي الأقرب , وهو لحم الخنزير , لإفراد الضمير , ولهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون الدم الذي ليس بدم حيض , ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية , فليرجع إلي ما ذكره أهل الأصول في الكلام علي القيد الواقع بعد جملة مشتملة علي أمور متعددة).
ولهذا لم يذكر الشوكاني في النجاسات من الدرر البهية الدم علي عمومه , وإنما دم الحيض فقط , وتبعه علي ذلك صديق حسن خان كما رأيت فيما نقلته عنه آنفاً.
وأما تعقب العلامة أحمد شاكر في تعليقه علي الروضة الندية بقوله: (هذا خطأ من المؤلف والشارح , فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم حيض , بل لمطلق الدم , والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس , ولو لم يأت لفظ صريح بذلك , وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة).
قلت: فهذا تعقب لا طائل تحته , لأنه ليس فيه إلا مجرد الدعوى , وإلا، فأين الدليل علي أن نجاسة دم الحيض ليس لأنه دم حيض بل لمطلق الدم؟ ولو كان هناك دليل علي هذا , لذكره هو نفسه , ولما خفي إن شاء الله تعالي علي الشوكاني وصديق خان وغيرهما.
ومما يؤيد ما ذكرته أن ابن حزم – علي سعة اطلاعه – لم يجد دليلاً علي نجاسة الدم مطلقاً , إلا حديثاً واحداً , وهو إنما يدل على نجاسة دم الحيض فقط , كما سيأتي بيانه , فلو كان عنده غيره , لأورده، كما هي عادته في استقصاء الأدلة , لا سيما ما كان منها مؤيداً لمذهبه.
وأما قول الشيخ أحمد شاكر: (والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس) , فهو مجرد دعوى أيضاً , وشئ لم أشعر به البتة فيما وقفت عليه من الأحاديث , بل وجدت فيها ما يبطل هذه الدعوى , كما سبق في حديث الأنصاري وأثر ابن مسعود.
ومثل ذلك قوله: (وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة) , فما علمنا أن للفطرة مدخلاً في معرفة النجاسات في عرف الشارع , ألا تري أن الشارع حكم بطهارة المني ونجاسة المذي، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة، وكذلك ذهب الجمهور إلي نجاسة الخمر وأنها تطهر إذا تخللت فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة؟ اللهم لا , فلو أنه قال (ما هو قذر) ولم يزد , لكان مسلماً , والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.
301 - (إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ [ثم توضئي لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت] ثم صَلِّي).
أخرجه الشيخان وأبوعوانة وأصحاب السنن الأربعة ومالك , والدارقطني , والبيهقي , وأحمد من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ إن فَاطِمَةُ بِنْتُ حُبَيْشٍ جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إني امرأة أستحاض فلا أطهر , أفأدع الصلاة؟ قال: (فذكره).
والشاهد من الحديث قوله: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ) , فهو دليل آخر علي نجاسة دم الحيض.
ومن غرائب ابن حزم أنه ذهب إلي أن قوله فيه (الدم) علي العموم يشمل جميع الدماء من الإنسان والحيون فقال في المحلي: (وهذا عموم منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنوع الدم , ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائماً بنفسه غير مردود بضمير إلى السؤال).
وقد رد عليه بعض الفضلاء , فقال في هامش النسخة المخطوطة من المحلي – نقلاً عن حاشية المطبوعة – ما نصه: (بل الأظهر أنه يريد دم الحيض , واللام للعهد الذكري الدال عليه ذكر الحيضة والسياق فهو كعود الضمير سواء , فلا يتم قوله: وهذا عموم ... إلخ).
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: (وهذا استدراك واضح صحيح).
قلت: فهذا يدلك علي أن الذين ذهبوا إلى القول بنجاسة الدم إطلاقاً ليس عندهم بذلك نقل صحيح صريح , فهذا ابن حزم يستدل عليه بمثل هذا الحديث , وفيه ما رأيت , واقتصاره عليه وحده يشعر اللبيب بأن القوم ليس عندهم غيره وإلا لذكره ابن حزم , وكذا غيره , فتأمل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/365)
وجملة القول: أنه لم يرد دليل فيما نعلم علي نجاسة الدم علي أختلاف أنواعه , إلا دم الحيض , ودعوى الاتفاق علي نجاسته منقوضة بما سبق من القول , والأصل الطهارة , فلا يترك إلا بنص صحيح يجوز به ترك الأصل , وإذ لم يرد شئ من ذلك , فالبقاء علي الأصل هو الواجب , والله أعلم.
جواز تلاوة القرآن للجنب
406 - (كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِه).
أخرجه مسلم , وأبوداود , والترمذي , وابن ماجه , وأبوعوانة , والبيهقي , وأحمد من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن أبيه عن خالد بن سلمة عن عبدالله البهي عن عروة عن عائشة مرفوعاً.
في الحديث دلالة على جواز تلاوة القرآن للجنب , لأن القرآن ذكر , (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) النحل 44 , فيدخل في عموم قولها: (يذكر الله).
نعم , الأفضل أن يقرأ على طهارة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رد السلام عقب التيمم: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة) , وهو مخرج في "صحيح أبي داود".
هو الطهور ماؤه , الحل ميتته
480 - (هو الطهور ماؤه , الحل ميتته).
أخرجه مالك عن صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ هُوَ مِنْ آلِ بْنيِ الْأَزْرَقِ عن الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ به؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
وفي الحديث فائدة هامة , وهي حل ما مات في البحر مما كان يحيا فيه , ولو كان طافياً على الماء.
وما أحسن ما روى عن ابن عمر أنه سئل: آكل ما طفا على الماء؟ قال: إن طافيه ميتته , وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن ماءه طهور , وميته حل) , رواه الدارقطني.
وحديث النهي عن أكل ما طفا منه على الماء لا يصح , كما هو مبين في موضع آخر.
كراهية ذكر الله الا على طهارة
834 - (إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ).
أخرجه أبودود (1/ 4)، والنسائي (1/ 16)، والدارمي (2/ 287)، وابن ماجه (1/ 145)، وابن خزيمة في (صحيحه) (206)، وعنه ابن حبان (189)، والحاكم (1/ 167)، وعنه البيهقي (1/ 90)، وأحمد (5/ 80) عن قتادة عن الحسن عن حصين بن المنذر أبي ساسان عن المهاجر بن قنفذ:
((أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال?)) فذكره. وليس عند النسائي والدارمي المتن المذكور أعلاه. وقال الحاكم:
((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي.
كذا قال؛ مع أنه قال في ((الميزان)):
(كان الحسن البصري كثير التدليس؛ فإذا قال في حديث (عن فلان) ضعف احتجاجه؛ ولا سيما عمن قيل: إنه لم يسمع منهم كأبي هريرة ونحوه، فعدوا ما كان له عن أبي هريرة في جملة المنقطع)).
لكن الظاهر أن المراد من تدليسه إنما هو ما كان من روايته عن الصحابة دون غيرهم؛ لأن الحافظ في ((التهذيب)) أكثر من ذكر النقول عن العلماء في روايته عمن لم يلقهم، وكلهم من الصحابة، فلم يذكروا ولا رجلاً واحداً من التابعين روى عنه الحسن ولم يلقه، ويشهد لذلك إطباق العلماء جميعاً على الاحتجاج برواية الحسن وغيره من التابعين؛ بحيث إني لا أذكر أن أحداً أعل حديثاً ما من روايته عن التابعي لم يصرح بسماعه منه، ولعل هذا هو وجه من صحح الحديث ممن ذكرنا، وأقرهم الحافظ في ((الفتح)) (11/ 13)؛ ولا سيما ابن حبان منهم؛ فإنه صرح في ((الثقات)) (4/ 123) بأنه كان يدلس.
هذا ما ظهر لي في هذا المقام. والله سبحانه وتعالى أعلم.
على أن لحديث هذا شاهداً من حديث ابن عمر عند أبي داود (1/ 54 - 55)، والطيالسي (رقم1851) عن محمد بن ثابت العبدي عن نافع عن ابن عمر به نحوه.
وهذا إسناد حسن في الشواهد، إلا أن فيه جملة مستنكرة أنكرت عليه في مسح الذراعين في التيمم، ولذلك أوردته في كتابي ((ضعيف سنن أبي داود)) (رقم58).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/366)
(فائدة): لما كان ((السلام)) اسماً من أسماء الله تعالى- كما سيأتي في الحديث (1894) - كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكره إلا على طهارة، فدل ذلك على أن تلاوة القرآن بغير طهارة مكروه من باب أولى، فلا ينبغي إطلاق القول بجواز قراءته للمحدث؛ كما يفعل بعض إخواننا من أهل الحديث.
كتاب الصلاة
سنة متروكة يجب إحياؤها
استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإقامة الصفوف وتسويتها , بحيث يندر أن تخفى على أحد من طلاب العلم فضلاً عن الشيوخ , ولكن ربما يخفى على الكثيرين منهم أن إقامة الصف تسويته بالأقدام , وليس فقط بالمناكب , بل لقد سمعنا مراراً من بعض أئمة المساجد – حين يأمرون بالتسوية – التنبيه على أن السنة فيها إنما هي بالمناكب فقط دون الأقدام , ولما كان ذلك خلاف الثابت في السنة الصحيحة , رأيت أنه لا بد من ذكر ماورد من الحديث , تذكيراً لمن أراد أن يعمل بما صح من السنة , غير مغتر بالعادات والتقاليد الفاشية في الأمة.
فأقول: لقد صح في ذلك حديثان:
الأول: من حديث أنس.
والآخر: من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
أما حديث أنس فهو:
31 - (أَقِيمُوا صُفُوفَكُم ْ وتراصوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي).
رواه البخاري ,وأحمد من طرق عن حميد الطويل: ثنا أنس بن مالك قال: (أقيمت الصلاة , فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه , فقال: (فذكره).
زاد البخاري في رواية: (قبل أن يكبر) , وزاد أيضا في آخره: (وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه , وقدمه بقدمه).
وهي عند المخلص , وكذا ابن ابي شيبة بلفظ: (قال أنس: فلقد رأيت احدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه , فلو ذهبت تفعل هذا اليوم , لنفر أحدكم كأنه بغل شموس).
وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله (باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف).
وأما حديث النعمان فهو:
32 - (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ [ثَلَاثًا] وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).
وفي هذين الحديثين فوائد هامة:
الأولى: وجوب إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها , للأمر بذلك , والأصل فيه الوجوب , إلا لقرينة , كما هو مقرر في الأصول , والقرينة هنا تؤكد الوجوب , وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) , فإن مثل هذا التهديد لا يقال فيما ليس بواجب , كما لا يخفى.
الثانية: أن التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب , وحافة القدم بالقدم , لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمروا بإقامة الصفوف , والتراص فيها , ولهذا قال الحافظ في (الفتح) بعد أن ساق الزيادة التي أوردتها في الحديث الأول من قول أنس:
(وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته).
ومن المؤسف أن هذه السنة من التسوية قد تهاون بها المسلمون , بل أضاعوها , إلا القليل منهم , فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث , فإني رأيتهم في مكة سنة (1368هـ) حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام , بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة – لا أستثني منهم حتى الحنابلة – فقد صارت هذه السنة عندهم نسياً منسياً , بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها , ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين بقدر أربع أصابع , فإن زاد كره , كما جاء مفصلاً في (الفقه على المذاهب الأربعة) (1\ 207) , والتقدير المذكور لا أصل له في السنة , وإنما هو مجرد رأي , ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد حتى لا يعارض به هذه السنة الصحيحة , كما تقتضيه القواعد الأصولية.
وخلاصة القول: إنني أهيب بالمسلمين – وبخاصة أئمة المساجد – الحريصين على اتباعه صلى الله عليه وسلم , واكتساب فضلية إحياء سنته صلى الله عليه وسلم , أن يعملوا بهذه السنة , ويحرصوا عليها , ويدعوا الناس إليها , حتى يجتمعوا عليها جميعاً , وبذلك ينجون من تهديد: (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).
وأزيد في هذه الطبعة فأقول:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/367)
لقد بلغني عن أحد الدعاة أنه يهون من شأن هذه السنة العملية التي جرى عليها الصحابة , وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها , ويلمح إلى أنه لم يكن من تعليمه صلى الله عليه وسلم إياهم , ولم ينتبه – والله أعلم – إلى ذلك فهم منهم أولاً , وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقرهم عليه ثانياً , وذلك كاف عند أهل السنة في إثبات شرعية ذلك , لأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب , وهم القوم لا يشقى متبع سبيلهم.
الثالثة: في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم , وهي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه , ولكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة , إذ لم يرد في شئ من السنة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً , والله أعلم.
الرابعة: في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس , وأن كان صار معروفاً في علم النفس , وهو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن , والعكس بالعكس , وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة , لعلنا نتعرض لجمعها وتخريجها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
الخامسة: أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن: (قد قامت الصلاة) بدعة , لمخالفتها للسنة الصحيحة , كما يدل على ذلك هذان الحديثان , لا سيما الأول منهما , فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجباً ينبغي عليه القيام به , وهو أمر الناس بالتسوية , مذكراً لهم بها , فإنه مسؤول عنهم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ......... ).
من فضل الأذان
41 - (يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةِ بْجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ).
الشظية: قطعة من رأس الجبل مرتفعة.
وفي الحديث من الفقه استحباب الأذان لمن يصلي وحده , وبذلك ترجم له النسائي , وقد جاء الأمر به وبالإقامة في بعض طرق حديث المسئ صلاته , فلا ينبغي التساهل بهما.
42 - (مَنْ أَذَّنَ اثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً و بإِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً).
وفي هذا الحديث فضل ظاهر للمؤذن المثابر على أذانه هذه المدة المذكورة فيه , ولا يخف أن ذلك مشروط بمن أذن خالصاً لوجه الله تعالى , لا يبتغي من ورائه رزقاً ولا رياء ولا سمعة , للأدلة الكثيرة الثابتة في الكتاب والسنة , التي تفيد أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له.
راجع كتاب الرياء في أول (الترغيب والترهيب) للمنذري.
وقد ثبت أن رجلاً جاء إلى ابن عمر , فقال إني أحبك في الله ,قال فاشهد علي أني أبغضك في الله , قال: ولم؟ قال: لأنك تلحن في أذانك , وتأخذ عليه أجراً.أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) (12/ 264/ 13059) وغيره.
وإن مما يؤسف له حقاً أن هذه العبادة العظيمة , والشعيرة الإسلامية , قد انصرف أكثر علماء المسلمين عنها في بلادنا , فلا تكاد ترى أحداً منهم يؤذن في مسجد ما , إلا ما شاء الله , بل ربما خجلوا من القيام بها , بينما تراهم يتهافتون على الإمامة بل ويتخاصمون , فإلى الله المشتكى من غربة هذا الزمان.
لا تدرك صلاة الفجر والعصر إلا بإدراك السجدة الأولى
66 - (إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ [أَوَّلَ] سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ [أَوَّلَ] سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ).
وإنما آثرت الكلام على هذه الطريق , لورود الزيادتين المذكورتين فيها , فإنهما تحددان بدقة المعنى المراد من لفظة (الركعة) , الواردة في طرق الحديث , وهو إدراك الركوع و السجدة الأولى معاً , فمن لم يدرك السجدة , لم يدرك الركعة , ومن لم يدرك الركعة , لم يدرك الصلاة.
ومن ذلك يتبين أن الحديث يعطينا فوائد هامة:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/368)
الأولى: إبطال قول بعض المذاهب أن من طلعت عليه الشمس وهو في الركعة الثانية من صلاة الفجر , بطلت صلاته , وكذلك قالوا فيمن غربت عليه الشمس وهو في آخر ركعة من صلاة العصر , وهذا مذهب ظاهر البطلان , لمعارضته لنص الحديث , كما صرح بذلك الإمام النووي وغيره.
ولا يجوز معارضة الحديث بأحاديث النهى عن الصلاة في وقت الشروق والغروب , لأنها عامة , وهذا خاص والخاص يقضي على العام , كما هو مقرر في علم الأصول.
وإن من عجائب التعصب للمذهب ضد الحديث أن يستدل البعض به لمذهبه في مسألة , ويخالفه في هذه المسألة التي نتكلم فيها , وأن يستشكله آخر من أجلها , فإلى الله المشتكى مما جره التعصب على أهله من المخالفات للسنة الصحيحة.
قال الزيلعي في (نصب الراية) (1/ 229) بعد أن ساق حديث أبي هريرة هذا وغيره مما في معناه:
(وهذه الأحاديث أيضاً مشكلة عند مذهبنا في القول ببطلان صلاة الصبح إذا طلعت عليها الشمس , والمصنف استدل به على أن آخر وقت العصر ما لم تغرب الشمس).
فيا أيها المتعصبون , هل المشكلة مخالفة الحديث الصحيح لمذهبكم؟ أم العكس هو الصواب؟.
الفائدة الثانية: الرد على من يقول إن الإدراك يحصل بمجرد إدراك أي جزء من الصلاة , ولو بتكبيرة الإحرام , وهذا خلاف ظاهر الحديث , وقد حكاه في (منار السبيل) قولاً للشافعي , وإنما هو وجه في مذهبه , كما في (المجموع) للنووي (3/ 63) , وهو مذهب الحنابلة , مع أنهم نقلوا عن الأمام أحمد أنه قال: (لا تدرك الصلاة إلا بركعة) , فهو أسعد الناس بالحديث , والله أعلم.
قال عبدالله بن أحمد في (مسائله) (46): (سألت أبي عن رجل يصلي الغداة؟ فلما صلى ركعة قام في الثانية طلعت الشمس؟ قال: يتم صلاته وهي جائزة قلت لأبي فمن زعم أن ذلك لا يجزئه , فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من صلاة الغداة ركعة قبل أن تطلع الشمس , فقد أدرك).
ثم رأيت ابن نجيح البزار روى في (حديثه) (ق 111/ 1) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال: (إذا رفع رأسه من آخر سجدة , فقد تمت صلاته) , ولعله يعني آخر سجدة من الركعة الأولى , فيكون قولاً آخر في المسألة والله أعلم.
الفائدة الثالثة: واعلم أن الحديث إنما هو في المتعمد تأخير الصلاة إلى هذا الوقت الضيق , فهو على هذا آثم بالتأخير – وإن أدرك الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) , رواه مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله عنه , وهو مخرج في (صحيح أبي داود) (441).
وأما غير المتعمد – وليس هو إلا النائم والساهي – فله حكم آخر , وهو أنه يصليها متى تذكرها , ولو عند طلوع الشمس وغروبها لقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا , فليصلها إذا ذكرها , لا كفارة لها إلا ذلك , فإن الله تعالى يقول [أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]) أخرجه مسلم أيضاً عنه , وكذا البخاري , وهو مخرج في (الصحيح) أيضاً (469).
فإذن هنا أمران: الإدرك , والإثم , والأول هو الذي سيق الحديث لبيانه , فلا يتوهمن أحد من سكوته عن الأمر الأخر أنه لا أثم عليه بالتأخير , كلا بل هو آثم على كل حال , أدرك الصلاة أو لم يدرك , غاية ما فيه أنه اعتبره مدركاً للصلاة بإدراك الركعة , وغير مدرك لها إذا لم يدركها , ففي الصورة الأولى صلاته صحيحة مع الإثم , وفي الصورة الأخرى صلاته غير صحيحة مع الإثم أيضاً , بل هو به أولى وأحرى , كما لا يخفى على أولي النهى.
الفائدة الرابعة: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ) , أي: لأنه أدركها في وقتها وصلاها صحيحة , وبذلك برئت ذمته , وأنه إذا لم يدرك الركعة , فلا يتمها , لأنها ليست صحيحة بسبب خروج وقتها , فليست مبرئة للذمة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/369)
ولا يخفى أن مثله – وأولى منه – من لم يدرك من صلاته شيئاً قبل خروج الوقت , فإنه لا صلاة له , ولا هي مبرئة لذمته , أي: أنه إذا كان الذي لم يدرك الركعة لا يؤمر بإتمام الصلاة , فالذي لم يدركها إطلاقاً أولى أن لا يؤمر بها , وليس ذلك إلا من باب الزجر والردع له عن إضاعة الصلاة , فلم يجعل الشارع الحكيم لمثله كفارة كي لا يعود إلى إضاعتها مرة أخرى , متعللاً بأنه يمكنه أن يقضيها بعد وقتها , كلا فلا قضاء للمتعمد كما أفاد هذا الحديث الشريف وحديث أنس السابق (لا كفارة لها إلا ذلك).
ومن ذلك يتبين لكل من أوتي شيئاً من العلم والفقه في الدين , أن قول بعض المتأخرين: (وإذا كان النائم والناسي للصلاة – وهما معذوران – يقضيانها بعد خروج وقتها , كان المتعمد لتركها أولى): أنه قياس خاطئ , بل لعله من أفسد قياس على وجه الأرض , لأنه من باب قياس النقيض على نقيضه , وهو فاسد بداهة , إذ كيف يصح قياس غير المعذور على المعذور والمتعمد على الساهي؟ ومن لم يجعل الله له كفارة على من جعل الله له كفارة؟ وما سبب ذلك إلا من الغفلة عن المعنى المراد من هذا الحديث الشريف , وقد وفقنا الله تعالى لبيانه , والحمد لله تعالى على توفيقه.
وللعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى بحث هام مفصل في هذه المسألة , أظن أنه لم يسبق إلى مثله في الإفادة والتحقيق , وأرى من تمام هذا البحث أن أنقل منه فصلين: أحداهما في إبطال هذا القياس , والآخر في الرد على من استدل بهذا الحديث على نقيض ما بينا , قال رحمه الله بعد أن ذكر القول المتقدم: (فجوابه من وجوه:
أحدها: المعارضة بما هو أصح منه أو مثله , وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه صحته وقبوله من متعد لحدود الله?مضيع لأمره تارك لحقه عمدا وعدوانا فقياس هذا على هذا في صحة العبادة وقبولها منه وبراء الذمة بها من افسد القياس.
الوجه الثاني إن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر كما قال صلى الله عليه وسلم (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) رواه البيهقي , والدارقطني , فالوقت وقتان وقت اختيار ووقت عذر فوقت المعذور بنوم او سهو هو وقت ذكره واستيقاظه فهذا لم يصل الصلاة إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمدا وعدوانا.
الثالث إن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي ويبن المعذور وغيره وهذا مما لا خفاء به فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز.
الرابع إنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجة علينا بل ألزمانا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل له إلى استدراكها تغليظا عليه وجوزنا للمعذور غير المفرط.
فصل: وأما استدلالكم بقول صلى الله عليه وسلم (من ادرك ركعة من العصر قبل ان تغرب الشمس فقد ادرك) فما أصحه من حديث وما أراه على مقتضى قولكم فإنكم تقولون هو مدرك العصر ولو لم يدرك من وقتها شيئا البتة بمعنى إنه مدرك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه لم يتعلق أدراكها بركعة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من ادرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إثم بل هو آثم بتعمد ذلك اتفاقا فإنه أمر أن يوقع جميعها في وقتها فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم بل هو مدرك آثم فلو كانت تصح بعد الغروب لم يكن فرق بين ان يدرك ركعة من الوقت أولا يدرك منها شيئا.
فإن قلتم إذا أخرها إلى بعد الغروب كان أعظم اثما.
قيل لكم النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين إدراك الركعة وعدمها في كثرة الإثم وخفته وإنما فرق بينهما في الإدراك وعدمه ولا ريب أن المفوت لمجموعها في وقت أعظم من المفوت لأكثرها والمفوت لأكثرها فيه اعظم من المفوت لركعة منها.
فنحن نسألكم ونقول ما هذا الإدراك الحاصل بركعة؟ أهذا إدراك يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحد أو إدراك يقتضي الصحة؟ فلا فرق فيه بين ان يفوتها بالكلية أو يفوتها إلا ركعة منها).
حكم تارك الصلاة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/370)
87 - (يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا).
في الحديث فائدة فقهية هامة , وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة , ولو كان لا يقوم بشئ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى , كالصلاة وغيرها , ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة , خاصة مع إيمانه بمشروعيتها , فالجمهور على أنه لا يكفر بذلك , بل يفسق , وذهب أحمد – في رواية – إلى أنه يكفر , وأنه يقتل ردة لا حداً , وقد صح عن الصحابة أنهم كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة , رواه الترمذي والحاكم.
وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور , وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصاً على أنهم كانوا يريدون بالكفر هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار , ولا يحتمل أن يغفره الله له , كيف ذلك وهذا حذيفة بن اليمان – وهو من كبار أولئك الصحابة – يرد على صلة بن زفر – وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له – فيقول: (مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ ... ) فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه: (يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ثَلَاثًا).
فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن تارك الصلاة – ومثلها بقية الأركان – ليس بكافر , بل مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة , فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان.
وفي الحديث المرفوع ما يشهد له , ولعلنا نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثم وقفت على (الفتاوى الحديثية) (84/ 2) للحافظ السخاوي , فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة – وهي مشهورة معروفة -:
(ولكن , كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحداً لوجودها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين , لأنه يكون حينئذ كافر مرتداً بإجماع المسلمين. فإن رجع إلى الإسلام , قبل منه , وإلا قتل , وأما من تركها بلا عذر – بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها - , فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر , وأنه – على الصحيح أيضاً – بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري – كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس , أو المغرب حتى يطلع الفجر – يستتاب كما يستتاب المرتد , ثم يقتل إن لم يتب , ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين , مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه , ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه , وهو وجوب العمل , جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صح أيضاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ .... [فذكر الحديث , وفيه:] إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) , وقال أيضاً: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ). إلى غير ذلك , ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة ويورثونه , ولو كان كافراً , لم يغفر له , لم يرث ولم يورث).
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله في (حاشيته على المقنع) (1/ 95 - 96) , وختم البحث بقوله:
(ولأن ذلك إجماع المسلمين , فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه , ولا منع ميراث موروثه , مع كثرة تاركي الصلاة , ولو كفر , لثبتت هذه الأحكام , وأما الأحاديث المتقدمة , فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة , كقوله عليه الصلاة والسلام: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) وقوله: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْْ أَشْرَكَ) , وغير ذلك. قال الموافق: وهذا أصوب القولين).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/371)
أقول: نقلت هذا النص من (الحاشية) المذكورة , ليعلم بعض متعصبة الحنابلة أن الذي ذهبنا إليه ليس رأياً تفردنا به دون أهل العلم , بل هو مذهب جمهورهم , والمحقيقين من علماء الحنابلة أنفسهم , كالموافق هذا – وهو ابن قدامة المقدسي – وغيره , ففي ذلك حجة كافية على أولئك المتعصبة , تحملهم إن شاء الله تعالى على ترك غلوائهم , والاعتدال في حكمهم.
بيد أن هنا دقيقة قل من رأيته تنبه لها , أو نبه عليها , فوجب الكشف عنها وبيانها , فأقول:
إن التارك للصلاة كسلاً إنما يصح الحكم بإسلامه , ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه , أو يدل عليه , ومات على ذلك قبل أن يستتاب , كما هو الواقع في هذا الزمان , أما لو خير بين القتل والتوبة بالرجوع إلى المحافظة على الصلاة , فاختار القتل عليها , فقتل , فهو في هذه الحالة يموت كافراً , ولا يدفن في مقابر المسلمين , ولا تجري عليه أحكامهم , خلافاً لما سبق عن السخاوي , لأنه لا يعقل – لو كان غير جاحد لها في قلبه – أن يختار القتل عليها , هذا أمر مستحيل معروف بالضرورة من طبيعة الإنسان , لا يحتاج إثباته إلى برهان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مجموعة الفتاوى) (22/ 48): (ومتي امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة ..... فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد).
قلت: هذا منتهى التحقيق في هذه المسألة , والله ولي التوفيق.
تأكيد سنية صلاة الوتر
108 - (إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ).
يدل ظاهر الأمر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَصَلُّوهَا) على وجوب صلاة الوتر , وبذلك قال الحنفية , خلافاً للجماهير , ولولا أنه ثبت بالأدلة القاطعة – كقول الله تعالى في حديث المعراج: (هن خمس في العمل خمسون في الأجر , لا يبدل القول لدي) متفق عليه , وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين قال: لا أزيد عليهن ولا أنقص: (أفلح الرجل إن صدق) متفق عليه – حصر الصلوات المفروضات في كل يوم وليلة بخمس صلوات , لكان قول الحنفية أقرب إلى الصواب , ولذلك فلا بد من القول بأن الأمر هنا ليس للوجوب , بل لتأكيد الاستحباب , وكم من أوامر كريمة صرفت من الوجوب بأدني من تلك الأدلة القاطعة , وقد انفك الأحناف عنها بقولهم: إنهم لا يقولون بأن الوتر واجب كوجوب الصلوات الخمس , بل هو واسطة بينها وبين السنن , أضعف من هذه ثبوتاً , وأقوى من تلك تأكيداً.
فليعلم أن قول الحنفية هذا قائم على اصطلاح لهم خاص حادث ’ لا تعرفه الصحابة ولا السلف الصالح , وهو تفريقهم بين الفرض والواجب ثبوتاً وجزاء , كما هو مفصل في كتبهم.
وإن قولهم بهذا معناه التسليم بأن تارك الوتر معذب يوم القيامة عذاباً دون عذاب تارك الفرض , كما هو مذهبهم في اجتهادهم , وحينئذ يقال لهم: وكيف يصح ذلك مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن عزم على أن لا يصلي غير الصلوات الخمس: (أفلح الرجل)؟ وكيف يلتقي الفلاح مع العذاب؟ فلا شك أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وحده كاف لبيان أن صلاة الوتر ليست بواجبة , ولهذا اتفق جماهير العلماء على سنيته وعدم وجوبه , وهو الحق.
نقول هذا مع التذكير والنصح بالاهتمام بالوتر , وعدم التهاون عنه , لهذا الحديث وغيره , والله أعلم.
السفر الذي يجيز القصر
163 - (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ [شَكَّ شُعْبَةُ] , قصر الصلاة , [وفي رواية: صَلِّي رَكْعَتَيْنِ]).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/372)
الفرسخ: ثلاثة أميال , والميل من الأرض منتهى مد البصر , لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه , وبذلك جزم الجوهري , وقيل: حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مسطحة فلا يدري أهو رجل أو امرأة , وهو ذاهب أو آت , كما في الفتح , وهو في تقدير بعض علماء العصر الحاضر يساوي 1680م.
وهذا الحديث يدل على أن المسافر إذا سافر مسافة ثلاثة فراسخ (والفرسخ نحو ثمان كيلو مترات) , جاز له القصر , وقد قال الخطابي في معالم السنن: (إن ثبت الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حداً فيما يقصر إليه الصلاة , إلا أني لا أعرف أحداً من الفقهاء يقول به).
وفي هذا الكلام نظر من وجوه:
الأول: أن الحديث ثابت , وحسبك أن مسلماً أخرجه ولم يضعفه غيره.
الثاني: أنه لا يضر الحديث ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء , لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
الثالث: أنه قد قال به راويه أنس بن مالك رضي الله عنه وأفتى به يحيى بن يزيد الهنائي راويه عنه كما تقدم , بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه المسافة , فروى ابن أبي شيبة عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال) , وإسناده صحيح كما في إرواء الغليل.
ثم روى من طريق أخرى عنه أنه قال: (إني لأسافر الساعة من النهار وأقصر). وإسناده صحيح , وصححه الحافظ في الفتح.
ثم روى عنه: (أنه كان يقيم بمكة , فإذا خرج إلى منى قصر) , وإسناده صحيح أيضاً.
ويؤيده أن أهل مكة لما خرجوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منى في حجة الوداع , قصروا أيضاً , كما هو معروف مشهور في كتب الحديث والسيرة , وبين مكة ومنى فرسخ , كما في (معجم البلدان).
قال جبلة بن سحيم: سمعت ابن عمر يقول: (لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة) , ذكره الحافظ وصححه.
ولا ينافي هذا ما في الموطأ وغيره بأسانيد صحيحة عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسافة أكثر مما تقدم , لأن ذلك فعل منه , لاينفي القصر في أقل منها لو سافر إليها , فهذه النصوص التي ذكرناها صريحة في جواز القصر في أقل منها , فلا يجوز ردها , مع دلالة الحديث على الأقل منها.
وقد قال الحافظ في الفتح: (وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه , وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر , ولا يخفى بعد هذا الحمل , مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد قال " سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - أصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع , فقال أنس فذكر الحديث , فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه. ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها , ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به فأن كان المردود به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلملكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ , فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطا , وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن ابن حرملة قال " قلت لسعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم" والله أعلم).
قلت: وإسناد هذا الأثر عند ابن أبي شيبة صحيح.
وروى عن اللجلاج قال: (كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال , فنتجوز في الصلاة ونفطر) , وإسناده محتمل للتحسين , رجاله كلهم ثقات , غير أبي الورد بن ثمامة , روى عنه ثلاثة وقال ابن سعد: (كان معروفاً قليل الحديث).
وقد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث , وذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم , فإن السفر مطلق في كتاب الله والسنة , لم يقيد بمسافة محدودة , كقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) النساء 101 , وحينئذ , فلا تعارض بين الحديث وهذه الآثار , لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من المسافة المذكورة فيه , ولذلك قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: (ولم يحدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/373)
اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، واللّه أعلم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع , فالمرجع فيه إلى العرف , فما كان سفراً في عرف الناس , فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم).
وقد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة اختلافاً كثيراً جداً , على نحو عشرين قولاً , وما ذكرناه عن ابن تيمية وابن القيم أقربها إلى الصواب , وأليق بيسر الإسلام فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة أيام وغيرها من التحديدات , يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطرق التي قد يطرقونها , وهذ مما لا يستطيعه أكثر الناس , لا سيما إذا كانت مما لم تطرق من قبل.
وفي الحديث فائدة أخرى , وهي أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة , وهو مذهب الجمهور من العلماء كما في نيل الأوطار قال: (وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد?السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء. ورجح ابن?المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك?فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر) , قال: (ولا أعلم أن النبي?صلى اللَّه عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة). ?
قلت: والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , وقد خرجت طائفة منها في الإرواء من حديث أنس وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.
جمع التقديم
164 - (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَهَا إِلَى الْعَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ عَجَّلَ الْعَصْرَ إِلَى الظُّهْرِ وَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ).
فقه الحديث:
فيه مسائل:
1 - جواز الجمع بين الصلاتين في السفر , ولو في غير عرفة ومزدلفة , وهو مذهب جمهور العلماء , خلافاً للحنفية , وقد تأولوه بالجمع الصوري , أي: بتأخير الظهر إلى قرب وقت العصر , وكذا المغرب مع العشاء , وقد رد عليهم الجمهور من وجوه:
أولاً: أنه خلاف الظاهر من الجمع.
ثانياً: أن الغرض من مشروعيته التيسير ورفع الحرج كما صرحت بذلك رواية مسلم , ومراعاة الجمع الصوري فيه من الحرج ما لا يخفي.
ثالثاً: أن في بعض أحاديث الجمع ما يبطل دعواهم , كحديث أنس بن مالك بلفظ (أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا) رواه مسلم وغيره.
رابعاً: ويبطله أيضاً جمع التقديم الذي صرح به حديث معاذ هذا: (وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ عَجَّلَ الْعَصْرَ إِلَى الظُّهْرِ) , والأحاديث بهذا المعنى كثيرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
2 - وأن الجمع كما يجوز تأخيراً يجوز تقديماً , وبه قال الإمام الشافعي في الأم , وكذا أحمد وإسحاق , كما قال الترمذي.
3 - وأنه يجوز الجمع في حال نزوله كما يجوز إذا جد به السير , قال الإمام الشافعي في الأم بعد أن روى الحديث من طريق مالك: (وهذا وهو نازل غير سائر لأن قوله: [دخل .... ثم خرج] , لا يكون إلا وهو نازل , فللمسافر أن يجمع نازلاً وسائراً.
قلت: فلا يلتفت بعد هذا النص إلى قول ابن القيم رحمه الله في الزاد: (ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمع راكباً في سفره كما يفعله كثير من الناس , ولا الجمع حال نزوله أيضاً).
وقد اغتر بكلامه هذا بعض إخواننا السلفيين في بعض الأقطار , فلذلك وجب التنبيه عليه.
ومن الغريب أن يخفى مثل هذا النص على ابن القيم رحمه الله مع وروده في الموطأ , وصحيح مسلم , وغيرهما من الأصول التي ذكرنا , ولكن لعل الغرابة تزول إذا تذكرنا أنه الف الكتاب الزاد في حال بعده عن الكتب وهو مسافر , وهذا هو السبب في وجود كثير من الأخطاء الأخرى فيه , وقد بينت ما ظهر لي منها في التعليقات الجياد على زاد المعاد).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/374)
ومما يحمل على الاستغراب أيضاً أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صرح في بعض كتبه بخلاف ما قال ابن القيم رحمه الله , فكيف خفي عليه ذلك وهو أعرف الناس به وبأقواله؟.
قال شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل بعد أن ساق الحديث: (الجمع على ثلاث درجات: أما إذا كان سائراً في وقت الأولى: فإنما ينزل في وقت الثانية. فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر، وهو نظير جمع مزدلفة. وأما إذا كان وقت الثانية سائراً أو راكباً، فجمع في وقت الأولى، فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روى ذلك في السنن [يعني حديث معاذ هذا] , وأما إذا كان نازلا في وقتهما جميعاً نزولا مستمرا، فهذا ما علمت روى ما يستدل به عليه إلا حديث معاذ هذا. فإن ظاهره أنه كان نازلاً في خيمة في السفر، وأنه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل إلى بيته، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل. وأما السائر فلا يقال: دخل وخرج، بل نزل وركب. وتبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع. وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك؛ بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، وهذا دليل على أنه كان يجمع أحياناً في السفر وأحياناً لا يجمع ـ وهو الأغلب على أسفاره ـ: أنه لم يكن يجمع بينهما.
وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر، كالقصر بل يفعل للحاجة، سواء كان في السفر أو الحضر، فإنه قد جمع ـ أيضاً ـ في الحضر لئلا يحرج أمته. فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجة أخري، مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر، ووقت العشاء، فينزل وقت الظهر وهو تعبان، سهران، جائع، محتاج إلى راحة وأكل ونوم، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع.
وأما النازل أياماً في قرية أو مصر ـ وهو في ذلك المصر ـ فهذا ـ وإن كان يقصر لأنه مسافر ـ فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم، ولا يأكل الميتة. فهذه الأمور أبيحت للحاجة، ولا حاجة به إلى ذلك، بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر.
مشروعية التكبير جهراً في الطريق إلى المصلى يوم العيد
171 - (كان صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة؛ قطع التكبير).
وفي هذا الحديث دليل على مشروعية ما جرى عليه عمل المسلمين من التكبير جهراً في الطريق إلى المصلى , وإن كان كثير منهم بدؤوا يتساهلون بهذه السنة , حتى كادت أن تصبح في خبر كان , وذلك لضعف الوازع الديني منهم , وخجلهم من الصدع بالسنة والجهر بها , ومن المؤسف أن فيهم من يتولى إرشاد الناس وتعليمهم , فكأن الإرشاد عندهم محصور بتعليم الناس ما يعلمون , وأما ما هم بأمس الحاجة إلى معرفته , فذلك مما لا يلتفتون إليه , بل يعتبرون البحث فيه والتذكر به قولاً وعملاً من الأمور التافهة التي لا يحسن العناية بها عملاً وتعليماً , فإن لله وإنا إليه راجعون.
ومما يحسن التذكير به بهذه المناسبة: أن الجهر بالتكبير هنا لا يشرع فيه الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض , وكذلك كل ذكر يشرع فيه رفع الصوت أو لا يشرع ’ فلا يشرع فيه الاجتماع المذكور , ومثله الأذان من الجماعة المعروف في دمشق (بأذان الجوق) , وكثيراً ما يكون هذا الاجتماع سبباً لقطع الكلمة أو الجملة في مكان لا يجوز الوقف عنده , مثل: (لا إله) في تهليل فرض الصبح والمغرب كما سمعنا ذلك مراراً.
فلنكن في حذر من ذلك , ولنذكر دائماً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وخير الهدي هدي محمد).
الصلاة قبل اصفرار الشمس
200 - (نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ).
رواه أبوداود , والنسائي , و أبويعلى , وابن حبان , وابن الجارود , والبيهقي , والطيالسي , وأحمد , والمحاملي , والضياء: عن هلال بن يساف عن وهب بن الأجدع عن علي رضي الله عنه مرفوعاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/375)
قال ابن حزم: (وهب بن الأجدع تابع ثقة مشهور , وسائر الرواة أشهر من أن يسأل عنهم , وهذه زيادة عدل لا يجوز تركها). وصرح ابن حزم في مكان آخر بصحة هذا عن علي رضي الله عنه ولا شك في ذلك , أما البيهقي فقد حاد عن الجادة حين قال: (ووهب أبن الأجدع ليس من شرطهما).
قلت: وهل من شرط صحة الحديث أن يكون علي شرط الشيخين؟ أو ليس قد صححا أحاديث كثيرة خارج كتابيهما وليست علي شرطهما؟ ثم قال: (وهذا حديث واحد وما مضى في النهي عنهما ممتد إلي غروب الشمس حديث عدد؟ فهو أولى أن يكون محفوظاً).
قلت: كلاهما محفوظ وإن كان ما رواه العدد أقوى , ولكن ليس من أصول أهل العلم رد الحديث القوي لمجرد مخالفته ظاهرة لما هو أقوى منه مع إمكان الجمع بينهما , وهو كذلك هنا فإن هذا الحديث مقيد للأحاديث التي أشار إليها البيهقي كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (و َلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) متفق عليه.
فهذا مطلق يقيده حديث علي رضي الله عنه وإلى هذا أشار ابن حزم بقوله المتقدم: (وهذه زيادة عدل لا يجوز تركها).
ثم قال البيهقي: (وقد روي عن على رضي الله عنه ما يخالف هذا , وروي ما يوافقه) , ثم ساق حديث سفيان قال أخبرني أبواسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ركعتين في دبر كل صلاة مكتوبة إلا الفجر والعصر).
قلت: وهذا لا يخالف الحديث الأول إطلاقاً , لأنه إنما ينفي أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلي ركعتين بعد صلاة العصر , والحديث الأول لا يثبت ذلك حتى يعارض بهذا , وغاية ما فيه أنه يدل على جواز الصلاة بعد العصر إلى ما قبل اصفرار الشمس , وليس يلزم أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما أثبت جوازه بالدليل الشرعي كما هو ظاهر.
نعم , قد ثبت عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر , وقالت عائشة: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داوم عليها بعد ذلك , فهذا يعارض حديث علي الثاني , والجمع بينهما سهل , فكل حدث بما علم , ومن علم حجة على من لم يعلم , ويظهر أن علياً رضي الله عنه علم فيما بعد من بعض الصحابة ما نفاه في هذا الحديث , فقد ثبت عنه صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العصر.
وذلك قول البيهقي: (وأما الذي يوافقه ففيما أخبرنا ... ).
ثم ساق من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال: (كنا مع علي رضي الله عنه في سفر , فصلي بنا العصر ركعتين , ثم دخل فسطاطه وأنا أنظر , فصلى ركعتين).
ففي هذا أن علياً رضي الله عنه عمل بما دل عليه حديثه الأول من الجواز.
وروى أبن حزم عن بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لم ينه عن الصلاة , إلا عند غروب الشمس).
قلت: وأسناده صحيح , وهو شاهد قوي لحديث علي رضي الله عنه.
وأما الركعتان بعد العصر , فقد روى ابن حزم القول بمشروعيتهما عن جماعة من الصحابة , فمن شاء فليرجع إليه.
وما دل عليه الحديث من جواز الصلاة ولو نفلاً بعد صلاة العصر وقبل اصفرار الشمس هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه المسألة التي كثرت الأقوال فيها , وهو الذي ذهب إليه ابن حزم تبعاً لابن عمر رضي الله عنه كما ذكره الحافظ العراقي وغيره , فلا تكن ممن تغره الكثرة , إذا كانت على خلاف السنة.
ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى عن علي رضي الله عنه بلفظ: (لا تصلوا بعد العصر , إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة) , أخرجه ألامام أحمد واسناده جيد.
جواز الركوع دون الصف ثم المشي إليه
229 - (إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع؛ فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف؛ فإن ذلك السنة).
ومما يشهد لصحته عمل الصحابة به من بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , منهم أبوبكر الصديق , وزيد بن ثابت , وعبدالله بن مسعود , وعبدالله بن الزبير.
1 - روى البيهقي عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: أن أبابكر الصديق وزيد بن ثابت دخلا المسجد والإمام راكع , فركعا , ثم دبا وهما راكعان حتى لحقا بالصف.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/376)
2 - عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع , فمشى حتى أمكنه أن يصل الصف وهو راكع , كبر فركع , ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف.
3 - عن زيد بن وهب قال: خرجت مع عبدالله – يعني ابن مسعود – من داره إلى المسجد , فلما توسطنا المسجد , ركع الإمام , فكبر عبدالله وركع وركعت معه , ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف حين رفع القوم رؤوسهم , فلما قضى الإمام الصلاة , قمت وأنا أرى أني لم أدرك , فأخذ عبدالله بيدي وأجلسني , ثم قال: أنك قد أدركت.
4 - عن عثمان بن الأسود قال: دخلت أنا وعبدالله بن تميم المسجد , فركع الإمام , فركعت أنا وهو ومشينا راكعين حتى دخلنا الصف , فلما قضينا الصلاة , قال لي عمرو: الذي صنعت آنفاَ ممن سمعته؟ قلت من مجاهد , قال: قد رأيت ابن الزبير فعله.
والآثار في ذلك كثيرة , فمن شاء الزيادة , فليراجع المصنفين.
وهذه الآثار تدل على شيء آخر غير ما دل الحديث عليه , وهو أن من أدرك الركوع من الإمام , فقد أدرك الركعة , وقد ثبت ذلك من قول ابن مسعود وابن عمر بإسنادين صحيحين عنهما , وقد خرجتهما في إرواء الغليل , وفيه حديث حسن مرفوع عن أبي هريرة خرجته أيضاً هناك , فلا تغتر بنشرة تخالفه.
وأما ما رواه البخاري في جزء القراءة عن معقل بن مالك قال: ثنا أبو عوانة عن محمد بن إسحاق عن عبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (إذا أدركت القوم ركوعاً , لم تعتد بتلك الركعة) , فإنه مع مخالفته لتلك الآثار ضعيف الإسناد , من أجل معقل هذا فأنه لم يوثقه غير أبن حبان.
نعم رواه البخاري من طريق أخرى عن ابن إسحاق قال: حدثني الأعرج به لكنه بلفظ: (لا يجزيك إلا أن تدرك الإمام قائماً) , وهذا إسناد حسن , وهذا لا يخالف الآثار المتقدمة , بل يوافقها في الظاهر , إلا أنه يشترط إدراك الإمام قائماً , وهذا من عند أبي هريرة , ولا نرى له وجهاً , والذين خالفوه أفقه منه وأكثر , ورضي الله عنهم جميعاً.
فإن قيل: هناك حديث آخر صحيح يخالف بظاهره هذا الحديث وهو:
230 - (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ).
رواه أبوداود , والطحاوي , وأحمد , والبيهقي , وابن حزم من حديث أَبَي بَكْرَةَ: أنه جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
والقصد من ذكره هنا أن ظاهره يدل على أنه لا يجوز الركوع دون الصف ثم المشي إليه , على خلاف ما دل عليه الحديث السابق , فكيف التوفيق بينهما؟
فأقول: إن هذا الحديث لا يدل على ما ذكر إلا بطريق الاستنباط لا النص , فإن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تعد) , يحتمل أنه نهاه عن كل ما ثبت أنه فعله في هذه الحادثة , وقد تبين لنا بعد التتبع أنها تتضمن ثلاثة أمور:
الأول: اعتداده بالركعة التي إنما أدرك منها ركوعها فقط.
الثاني: إسراعه في المشي , كما في رواية لآحمد من طريق أخرى عن أَبِي بَكْرَةَ أنه: جَاءَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعٌ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ نَعْلِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ يَحْضُرُ [أي يعدو] يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ الرَّكْعَةَ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ السَّاعِي قَالَ أَبُو بَكْرَةَ أَنَا قَالَ: (فذكره) , وأسناده حسن في المتابعات , وقد رواه أبن السكن في صحيحه نحوه , وفيه قوله: (ان انطلقت أسعى ... ) , وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من الساعي ... )، ويشهد لهذه الرواية رواية الطحاوي من الطريق الأول بلفظ (جئت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكع , وقد حفزني النفس , فركعت دون الصف ... ) الحديث وأسناده صحيح , فإن قوله: (حفزني النفس) , معناه: اشتد، من الحفز وهو الحث والإعجال , وذلك كناية عن العدو.
الثالث: ركوعه دون الصف , ثم مشيه إليه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/377)
وإذا تبين لنا ما سبق , فهل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تعد) نهي عن الأمور الثلاثة جميعها أم عن بعضها؟ ذلك ما أريد البحث فيه وتحقيق الكلام عليه فأقول:
أما الأمر الأول , فالظاهر أنه لا يدخل في النهي , لانه لو كان نهاه عنه , لأمره بإعادة الصلاة , لكونها خداجاً ناقصة الركعة , فإذا لم يأمره بذلك , دل على صحتها , وعلى عدم شمول النهي الاعتداد بالركعة بإدرك ركوعها.
وقول الصنعاني في سبل السلام: (لعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره لأنه كان جاهلاً للحكم والجهل عذر) فبعيد جداً إذ قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسيء صلاته بإعادتها ثلاث مرات , مع أنه كان جاهلاً أيضاً فكيف يأمره بالإعادة وهو لم يفوت ركعة من صلاته , وإنما الاطمئنان فيها , لا يأمر أبا بكرة بإعادة الصلاة , وقد فوت على نفسه ركعة , لو كانت لا تدرك بالركوع؟ ثم كيف يعقل أن يكون ذلك منهياً , وقد فعله كبار الصحابة , كما تقدم في الحديث الذي قبله؟ فلذلك , فإننا نقطع أن هذا الأمر الأول لا يدخل في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تعد).
وأما الأمر الثاني , فلا نشك في دخوله في النهي , لما سبق ذكره من الرويات , ولأنه لا معارض له , بل هناك ما يشهد له وهو حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ والوقار) , متفق عليه.
وأما الأمر الثالث , فهو موضع نظر وتأمل , وذلك لأن ظاهر رواية أبي داود هذه (أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ) , مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له (لا تعد) , يدل بإطلاقه على أنه قد يشمل هذا الأمر , وإن كان ليس نصاً في ذلك , لاحتمال أنه يعني شيئاً آخر غير هذا مما فعل , وليس يعني نهيه عن كل ما فعل , بدليل أنه لم يعن الأمر الأول كما سبق تقريره , فكذلك يحتمل أنه لم يعن هذا الأمر الثالث أيضاً.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر , فإن العلماء كثيراً ما يضطرون لترك ما دل عليه ظاهر النص لمخالفته لنص آخر هو في دلالته نص قاطع , مثل ترك مفهوم النص لمنطوق نص آخر , وترك العام للخاص , ونحو ذلك.
وأنا أرى أن ما نحن فيه الآن من هذا القبيل , فإن ظاهر هذا الحديث من حيث شموله للركوع دون الصف مخالف لخصوص ما دل عليه حديث عبدالله بن الزبير دلالة صريحة قاطعة , وإذا كان الأمر كذلك , فلا بد حينئذ من ترجيح أحد الدليلين على الآخر , ولا يشك عالم أن النص الصريح أرجح عند التعارض من دلالة ظاهر نص ما , لأن هذا دلالته على وجه الاحتمال , بخلاف الذي قبله , وقد ذكروا في وجوه الترجيح بين الأحاديث أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به , وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً , ومما لا شك فيه أيضاً أن دلالة هذا الحديث في هذه المسألة ليست قاطعة , بل محتملة , بخلاف دلالة حديث ابن الزبير المتقدم , فإن دلالته عليها قاطعة , فكان ذلك من أسباب ترجيحه على هذا الحديث.
وثمة أسباب أخرى تؤكد الترجيح المذكور:
أولاً: خطبة ابن الزبير بحديثه على المنبر في أكبر جمع يخطب عليهم في المسجد الحرام , وإعلانه عليه أن ذلك من السنة دون أن يعارضه أحد.
ثانياً: عمل كبار الصحابة به , كأبي بكر وابن مسعود وزيد بن ثابت – كما تقدم – وغيرهم , فذلك من المرجحات المعروفة في علم الأصول , بخلاف هذا الحديث , فإننا لا نعلم أن أحداً من الصحابة قال بما دل عليه ظاهره في هذه المسألة , فكان ذلك كله دليلاً قوياً على أن دلالته فيها مرجوحة , وأن حديث ابن الزبير هو الراجح في الدلالة عليها , والله أعلم.
وقد قال الصنعاني بعد قول ابن جريج في عقب هذا الحديث: (وقد رأيت عطاء يصنع ذلك).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/378)
قال الصنعاني: (قلت: وكأنه مبني على أن لفظ: [ولاتعد] بضم المثناة الفوقية من الإعادة , أي: زادك الله حرصاً على طلب الخير , ولا تعد صلاتك , فإنها صحيحة , وروي بسكون العين المهملة من العدو , وتؤيده رواية ابن السكن من حديث أبي بكرة [ثم ساقها , وقد سبق نحوها من رواية أحمد , مع الإشارة إلى رواية ابن السكن هذه , ثم قال] والأقرب أن رواية: [ولاتعد] , من العود , أي: لا تعد ساعياً إلى الدخول قبل وصولك الصف , فإنه ليس في الكلام ما يشير بفساد صلاته حتى يفتيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لا يعيدها , بل قوله: [زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا] , يشعر بإجزائها , أو: [لاتعد] , من [العدو]).
قلت: لو صح هذا اللفظ لكانت دلالة الحديث حينئذ خاصة في النهي عن الإسراع , ولما دخل فيه الركوع خارج الصف , ولم يوجد بالتالي أي تعارض بينه وبين حديث ابن الزبير , ولكن الظاهر أن هذا اللفظ لم يثبت فقد وقع في صحيح البخاري وغيره باللفظ المشهور: [لا تعد].
قال الحافظ في الفتح: (ضبطناه في جميع الرويات بفتح أوله وضم العين من العود).
ثم ذكر هذا اللفظ , ولكنه رجح ما في البخاري , فراجعه إن شئت.
ويتلخص مما تقدم أن هذا النهي لا يشمل الاعتداد بالركعة ولا الركوع دون الصف , وإنما هو خاص بالإسراع , لمنافاته للسكينة والوقار , كما تقدم التصريح بذلك من حديث أبي هريرة , وبهذا فسره الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (قوله: [لاتعد] يشبه قوله: [لا تأتوا الصلاة تسعون]).
فإن قيل قد ورد ما يؤيد شمول الحديث للأسراع , ويخالف حديث ابن الزبير صراحة وهو حديث أبي هريرة مرفوعا: (إذا أتى أحدكم الصلاة , فلا يركع دون الصف , حتى يأخذ مكانه من الصف).
قلنا لكنه حديث معلول بعلة خفية , وليس هذا مكان بيانها فراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 981.
ثم أن الحديث ترجم له أبن خزيمة بقوله: (باب الرخصة في ركوع المأموم قبل اتصاله بالصف ودبيبه راكعاً حتي يتصل بالصف في ركوعه).
ثم وجدت ما يؤيد هذه الترجمة من قول راوي الحديث نفسه , أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه , كما يؤكد أن النهي فيه: [لاتعد] , لا يعني الركوع دون الصف , والمشي إليه , ولا يشمل الاعتداد بالركعة , فقد روى علي بن حجر في حديثه , حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني: حدثنا حميد , عن القاسم بن ربيعة , عن أبي بكرة – رجل كانت له صحبة – أنه (كان يخرج من بيته فيجد الناس قد ركعوا , فيركع معهم , ثم يدرج راكعاً حتى يدخل في الصف و ثم يعتد بها) , قلت وهذا إسناد صحيح , وفيه حجة قوية أن المقصود بالنهي إنما هو الإسراع في المشي , لأن راوي الحديث أدرى بمرويه من غيره , ولا سيما إذا كان هو المخاطب بالنهي , فخذها , فإنها عزيزة قد لا تجدها في المطولات من كتب الحديث والتخريج وبالله التوفيق.
سنة الجمعة والمغرب القبليتان
232 - (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان).
أخرجه عباس الترقفي , وابن نصر , والروياني , وابن حبان , والطبراني , وابن عدي , والدارقطني , من طريقين عن ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن عبدالله بن الزبير مرفوعاً.
وقد استدل بالحديث بعض المتأخرين على مشروعية صلاة سنة الجمعة القبلية , وهو استدلال باطل , لأنه قد ثبت في البخاري وغيره أنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة سوى الأذان الأول والإقامة , وبينهما الخطبة , كما فصلته في رسالتي الأجوبة النافعة , ولذلك قال البوصيري في الزوائد وقد ذكر حديث عبدالله هذا , وأنه أحسن ما يستدل به لسنة الجمعة المزعومة قال: (وهذا متعذر في صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان بين الأذان والإقامة الخطبة , فلا صلاة حينئذ بينهما).
وكل ما ورد من الأحاديث في صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة الجمعة القبلية لا يصح منها شئ البتة , وبعضها أشد ضعفاً من بعض , كما بينه الزيلعي في نصب الراية , وابن حجر في الفتح , وغيرهما , وتكلمت على بعضها في الرسالة المشار إليها , وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/379)
والحق أن الحديث إنما يدل على مشروعية الصلاة بين يدي كل صلاة مكتوبة ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك أو أمر به أو أقره , كصلاة المغرب , فقد صح فيها الأمر والإقرار , وفي ثبوت فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر , كما يأتي.
أما الأمر , فهو في حديث صريح من رواية عبدالله المزني: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى قبل المغرب ركعتين , ثم قال:
233 - (صلوا قبل المغرب ركعتين. ثم قال في الثالثة: لمن شاء؛ خاف أن يحسبها الناس سنة).
أخرجه ابن نصر في قيام الليل: حدثني عبدالوارث بن عبدالصمد بن عبدالوارث بن سعيد: ثني أبي: ثنا حسين عن ابن بريدة أن عبدالله بن مغفل المزني رضي الله عنه حدثه به.
فهذا الحديث صحيح دون الفعل , فهو شاذ كما كنت حققته في الضعيفة , ثم في تمام المنة.
وفي هذا الحديث دليل على أن أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوجوب حتى يقوم دليل الإباحة , وكذلك نهيه على التحريم إلا ما يعرف إباحته , كذا في شرح السنة للبغوي.
ومعنى قوله: قبل المغرب , أي صلاة المغرب بعد غروب الشمس , فهو في ذلك كالحديث الذي قبله , وبهذا ترجم له ابن حبان , وبه عمل كبار الأصحاب الكرام , كما في الحديث التالي.
وأما تقريره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهاتين الركعتين , فهو في الحديث الآتي:
234 - (كان المؤذن يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، فيبتدر لباب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السواري؛ يصلون الركعتين قبل المغرب، حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون، [فيجيء الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها]، [وكان بين الأذان والإقامة يسيرا]).
وفي هذا الحديث نص صريح على مشروعية الركعتين قبل صلاة المغرب , لتسابق كبار الصحابة عليهما , وإقرار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم على ذلك , ويؤيده عموم الحديثين قبله , وإلى استحبابهما ذهب الإمام أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث , ومن خالفهم – كالحنفية وغيرهم – لا حجة لديهم تستحق النظر فيها , سوى ما روى شعبة عن أبي شعيب عن طاوس قال: (سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: ما رأيت أحداً على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليهما) , والقلب لا يطمئن لصحة هذا الأثر عن ابن عمر , وقد أشار الحافظ لتضعيفه , فإن صح فرواية أنس المثبتة مقدمة على نفيه كما قال البيهقي ثم الحافظ وغيرهما.
ويؤيده أن ابن النصر روى (أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة , قال: من الذين يحافظون على ركعتي الضحي؟ فقال: وأنتم تحافظون على الركعتين قبل المغرب؟ فقال ابن عمر: كنا نحدث أن أبواب السماء تفتح عند كل أذان).
قلت: فهذا نص من ابن عمر على مشروعية الركعتين , على خلاف ما أفاده ذلك الحديث الضعيف عنه , ولكن هذا النص قد حذف المقريزي إسناده كما هو الغالب عليه في كتاب قيام الليل , فلم يتسن لي الحكم عليه بشئ من الصحة أو الضعف.
ومن الطرايف أن يرد بعض المقلدين هذه الدلالات الصريحة على مشروعية الركعتين قبل المغرب , فلا يقول بذلك , ثم يذهب إلى سنية صلاة السنة القبلية يوم الجمعة , ويستدل عليه بحديث ابن الزبير وعبدالله بن مغفل , يستدل بعمومها , مع أن هذا الدليل نفسه يدل أيضاً على ما نفاه من مشروعية الركعتين , مع وجود الفارق الكبير بين المسألتين , فالأولى قد تأيدت بجريان العمل بها في عهده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإقراره , وبأمره الخاص بها , بخلاف الأخرى , فإنها لم تتأيد بشئ من ذلك , بل ثبت أنه لم يكن هناك مكان لها يومئذ , فهل من معتبر؟
جواز الصلاة بعد العصر إذا كانت الشمس مرتفعة
314 - (لا تصلوا عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها؛ فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وصلوا بين ذلك ما شئتم).
وللحديث شاهد من حديث علي مرفوعاً بلفظ: (لا تصلوا بعد العصر , إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة) , وإسناده صحيح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/380)
وفي هذين الحديثين دليل على أن ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقاً – ولو كانت الشمس مرتفعة نقية – مخالف لصريح هذين الحديثين , وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة في النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقاً , غير أن الحديثين المذكورين يقيدان تلك الأحاديث , فاعلمه.
الاقتصار على التسليمة الواحدة في الصلاة
316 – (كان يُسَلمُ تسلمية واحدة).
وهذا الحديث من أصح الأحاديث التي وردت في التسلمية الواحدة في الصلاة، وقد ساق البيهقي قسماً منها، ولا تخلو أسانيدها من ضعف، ولكنها في الجملة تشهد لهذا، وقال البيهقي عَقِبَها: (ورُوي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سلموا تسليمة واحدة، وهو من الاختلاف المباح، والاقتصار على الجائز).
وذكر نحوه الترمذي عن الصحابة، ثم قال: (قال الشافعي: إن شاء سلَّم تسليمة واحدة، وإن شاء سلَّم تسليمتين).
قلتُ: التسليمة الواحدة فَرْض لا بدَّ منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (. . . وتحليلها التسليم)، والتسليمتان سنة، ويجوز ترك الأخرى أحياناً لهذا الحديث.
ولقد كان هديه صلى الله عليه وسلم في الخروج من الصلاة على وجوه:
الأول: الاقتصار على التسليمة الواحدة؛ كما سبق.
الثاني: أن يقول عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله"، وعن يساره: "السلام عليكم".
الثالث: مثل الذي قبله إلا أنه يزيد في الثانية أيضاً: "ورحمة الله".
الرابع: مثل الذي قبله إلا أنه يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته".
وكل ذلك ثبت في الأحاديث، وقد ذكرتُ مُخرجيها في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"، فمن شاء راجعه.
لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ
318 – (لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ).
أخرجه أبو داود , والحاكم , كلاهما عن الإمام أحمد , والطحاوي من طريق عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به , زاد أبوداود: (قَالَ أَحْمَدُ يَعْنِي فِيمَا أَرَى أَنْ لَا تُسَلِّمَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْكَ وَيُغَرِّرُ الرَّجُلُ بِصَلَاتِهِ فَيَنْصَرِفُ وَهُوَ فِيهَا شَاكٌّ).
ثم روى أحمد عن سفيان قال: (سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِغْرَارَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ وَمَعْنَى غِرَارٍ يَقُولُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْكَمَالِ).
وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) , ووفقه الذهبي , وهو كما قالا.
قال ابن الأثير في النهاية: (الغرار: النقصان , وغرار النوم: قلته , ويريد بغرار الصلاة: نقصان هيآتها وأركانها , وغرار التسليم: أن يقول المجيب: وعليك , ولا يقول السلام , وقيل: أراد بالغرار النوم , أي ليس في الصلاة نوم.
والتسليم يروى بالنصب والجر , فمن جره , كان معطوفاً على الصلاة كما تقدم , ومن نصب , كان معطوفاً على الغرار , ويكون المعنى: لا نقص ولا تسليم في صلاة , لأن الكلام في الصلاة بغير كلامها لا يجوز).
قلت: ومن الوضح أن تفسير الإمام أحمد المتقدم , إنما هو على رواية النصب , فإذا صحت هذه الرواية , فلا ينبغي تفسير غرار التسليم بحيث يشمل تسليم غير المصلي على المصلي , كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد , وإنما يقتصر فيه على تسليم المصلي على من سلم عليه , فإنهم قد كانوا في أول الأمر يردون السلام في الصلاة , ثم نهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وعليه يكون هذا الحديث من الأدلة على ذلك.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/381)
وأما حمله على تسليم غير المصلي على المصلي , فليس بصواب , لثبوت تسليم الصحابة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غيرما حديث واحد , دون إنكار منه عليهم , بل أيدهم على ذلك بأن رد السلام عليه بالإشارة , من ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ قَالَ فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ فَقُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ يَقُولُ هَكَذَا وَبَسَطَ كَفَّهُ وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ) , أخرجه أبوداود وغيره وهو حديث صحيح.
وقد احتج به الإمام أحمد نفسه , وذهب إلى العمل به , فقال إسحاق بن منصور المروزي في المسائل: (قلت: تسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال نعم , فذكر قصة بلال حين سأله ابن عمر: كيف كان يرد؟ قال: كان يشير).
تارك الصلاة فاسق لا تقبل له شهادة ويخشى عليه سوء الخاتمة
333 - (إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق؛ منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئا، وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئا؛ فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن [كلهن]، فقد ولى الإسلام ظهره).
الصوى: جمع صوة , وهي أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة , يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها , أراد أن للإسلام طرائق وأعلاماً يهتدى بها.
كذا في لسان العرب , عن أبي عمرو بن العلاء.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر بعد الإيمان أسهما من الإسلام كالصلاة والزكاة: (فمن ترك من ذلك شيئا؛ فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولى الإسلام ظهره).
أقول: فهذا نص صريح في أن المسلم لا يخرج من الإسلام بترك شئ من أسهمه ومنها الصلاة , فحسب التارك أنه فاسق لا تقبل له شهادة , ويخشى عليه سوء الخاتمة , وقد تقدم في بحث مفصل في حكم تارك الصلاة , وهو من الأدلة القاطعة على ما ذكرنا , ولذلك حاول بعضهم أن يتنصل من دلالته بمحاولة تضعيفه , وهيهات فحديث صحيح بالحجة والبرهان.
النهي عن الصلاة بين السواري
335 – (كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا).
قلت: وهذا الحديث نص صريح في ترك الصف بين السواري، وأن الواجب أن يتقدم أو يتأخر، إلا عند الاضطرار؛ كما وقع لهم.
وقد روى ابن القاسم في " المدونة " (1/ 106)، والبيهقي (3/ 104) من
طريق أبي إسحاق عن معدي كرب عن ابن مسعود أنه قال: (لا تصفوا بين السواري).
وقال البيهقي: (وهذا ـ والله أعلم ـ لأن الاسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف).
وقال مالك: (لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد).
وفي " المغني " لابن قدامة (2/ 220): (لا يكره للإمام أن يقف بين السواري، ويكره للمأمومين؛ لأنها تقطع صفوفهم، وكرهه ابن مسعود والنخعي، وروي عن حذيفة وابن عباس، ورخص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر؛ لأنه لا دليل على المنع، ولنا ما روي عن معاوية ابن قرة. . . ولأنها تقطع الصف، فإن كان الصف صغيراً قدر ما بين الساريتين؛ لم يكره؛ لأنه لا ينقطع بها).
وفي "فتح الباري" (1/ 477): (قال المحب الطبري: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد في ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إما لانقطاع الصف، أو لأنه موضع النعال.انتهى. وقال القرطبي: روي في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/382)
قلت: وفي حكم السارية المنبر الطويل ذو الدرجات الكثيرة، فإنه يقطع الصف الأول، وتارة الثاني أيضاً؛ قال الغزالي في " الإحياء " (2/ 139): (إن المنبر يقطع بعض الصفوف، وإنما الصف الأول الواحد المتصل الذي في فناء المنبر، وما على طرفيه مقطوع، وكان الثوري يقول: الصف الأول، هو الخارج بين يدي المنبر، وهو متجه؛ لأنه متصل، ولأن الجالس فيه يقابل الخطيب ويسمع منه).
قلت: وإنما يقطع المنبر الصف إذا كان مخالفاً لمنبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له ثلاث درجات، فلا ينقطع الصف بمثله، لأن الإمام يقف بجانب الدرجة الدنيا منها، فكان من شؤم مخالفة السنة في المنبر الوقوع في النهي الذي في هذا الحديث.
ومثل ذلك في قطع الصف المدافىء التي توضع في بعض المساجد وضعاً يترتب منه قطع الصف؛ دون أن ينتبه لهذا المحذور إمام المسجد أو أحد من المصلين فيه؛ لِبُعْد الناس أولاً عن التفقه في الدين، وثانياً لعدم مبالاتهم بالابتعاد عما نهى عنه الشارع وكرهه.
وينبغي أن يُعلَم أن كل من سعى إلى وضع منبر طويل قاطع للصفوف، أو يضع المدفئة التي تقطع الصف؛ فإنه يخشى أن يلحقه نصيب وافر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (. . . ومن قطع صفاً قطعه الله)، أخرجه أبو داود بسند صحيح؛ كما بينته في صحيح أبي داود (رقم 672))
مشروعية الإقعاء
383 - (من السنة في الصلاة أن تضع أليتيك على عقبيك بين السجدتين).
أخرجه الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري: حدثنا عبدالرحمن بن عبيدالله الحلبي: نا سفيان بن عيينة عن عبدالكريم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (فذكره).
وأخرج الطبراني عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوساً يقول: (قلت لابن عباس في الإقعاء على القدمين؟ قال: هي السنة , فقلت إنا لنراه جفاء بالرجل , قال هي سنة نبيك) , وقد أخرجه مسلم وأبوعوانة , والبيهقي من طريق أخرى عن ابن جريج به.
وهذا سند صحيح.
وله طريق أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه يرويه ابن إسحاق قال: حدثني – عن انتصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عقبيه وصدر قدميه بين السجدتين إذا صلى – عبدالله بن أبي نجيح المكي عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: سمعت عبدالله بن عباس يذكره. قال: فقلت له: يا أباالعباس , والله إن كنا لنعد هذا جفاء ممن صنعه , قال: فقال " إنها سنة " أخرجه البيهقي.
قلت وإسناده حسن.
ثم روى بإسناد آخر صحيح عن أبي زهير معاوية بن حديج قال: (رأيت طاوساً يقعي , فقلت: رأيتك تقعي , قال: ما رأيتني أقعي , ولكنها الصلاة , رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبدالله بن العباس , وعبدالله بن عمر , وعبدالله بن الزبير , يفعلونه , قال أبو زهير: وقد رأيته يقعي).
قلت: ففي الحديث وهذه الآثار دليل على شرعية الإقعاء المذكور , وأنه سنة يتعبد بها , وليست للعذر كما زعم بعض المتعصبة , وكيف يكون كذلك وهؤلاء العبادلة اتفقوا على الإيتان به في صلاتهم , وتبعهم طاوس التابعي الفقه الجليل , وقال الإمام أحمد في "مسائل المروزي": وأهل مكة يفعلون ذلك.
فكفى بهم سلفاً لمن أراد أن يعمل بهذه السنة ويحييها.
ولا منافاة بينها وبين السنة الأخرى – وهي الافتراش – بل كل سنة , فيفعل تارة هذه , وتارة هذه , اقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وحتى لا يضيع عليه شئ من هديه عليه الصلاة والسلام.
النائم عن الصلاة أو الناسي لها لا تسقط عنه الصلاة
396 - (كان في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس، فقال: إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم، فمن نام عن صلاة؛ فليصلها إذا اسيقظ، ومن نسي صلاة؛ فليصل إذا ذكر).
وقد جاء معناه هذا الحديث في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أنس وغيره من الصحابة , وفي حديثه زيادة: (لا كفارة لها إلا ذلك).
في الحديث دلالة على أن النائم عن الصلاة أو الناسي لها لا تسقط عنه الصلاة , وأنه يجب عليه أن يبادر إلى أدائها فور الاستيقاظ أو التذكر لها.
ودلت زيادة أنس رضي الله على أن ذلك هو الكفارة , وأنه إن لم يفعل فلا يكفره شئ من الأعمال , اللهم إلا التوبة النصوح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/383)
وفي ذلك كله دليل على أن الصلاة التي تعمد صاحبها إخراجها عن وقتها , فلا يكفرها أن يصليها بعد وقتها , لأنه لا عذر له , والله عز وجل يقول (إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً) النساء103 , وليس هو كالذي نام أو نسيها , فهذا معذور بنص الحديث , ولذلك جعل له كفارة أن يصليها إذا تذكرها , ألست ترى أن هذا المعذور نفسه إذا لم يبادر إلى الصلاة حين التذكر , فلا كفارة له بعد ذلك , لأنه أضاع الوقت الذي شرع الله له أن يتدارك فيه الصلاة الفائتة؟
فإذا كان هذا هو شأن المعذور: أنه لا قضاء له بعد فوات الوقت المشروع له , فمن باب أولى أن يكون المتعمد الذي لم يصل الصلاة في وقتها وهو متذكر لها مكلف بها أن لا يكون له كفارة , وهذا فقه ظاهر لمن تأمله متجرداً عن التأثر بالتقليد ورأي الجمهور.
ومما سبق يتبين خطأ بعض المتأخرين الذين قاسوا المتعمد على الناسي فقالوا: "إذا وجب القضاء على النائم والناسي مع عدم تفريطهما , فوجوبه على العامد المفرط أولى".
مع أن هذا القياس ساقط الاعتبار من أصله , لأنه من باب قياس النقيض على نقيضه , فإن العامد المتذكر ضد الناسي والنائم.
على أن القول بوجوب القضاء على المتعمد ينافي حكمة التوقيت للصلاة الذي هو من شروط صحة الصلاة , فإذا أخل بالشرط , بطل المشروط بداهة.
وقول شيخ الشمال في نشرة له في هذه المسألة: (إن المصلي وجب عليه أمران: الصلاة , وإيقاعها في وقتها , فإن ترك أحد الأمرين , بقي الآخر) , فهذا مما يدل على جهل بالغ في الشرع , فإن الوقت للصلاة ليس فرضاً فحسب , بل وشرط أيضاً , ألا ترى أنه لو صلى قبل الوقت , لم تقبل صلاته باتفاق العلماء.
لكن كلام الشيخ المسكين يدل على أنه قد خرق اتفاقهم بقوله المتقدم , فإنه صريح أنه لو صلى قبل الوقت , فإنه أدى واجباً , وضيع آخر , وهكذا يصدق عليه المثل السائر: "من حفر بئراً لأخيه وقع فيه" فإنه يدندن دائماً حول اتهام أنصار السنة بخرقهم الإجماع أو اتفاق العلماء , فها هو قد خالفهم بقوله المذكور الهزيل , هدانا الله وإياه سواء السبيل.
وبعد فهذه كلمة وجيزة حول هذه المسألة المهمة بمناسبة هذا الحديث الشريف , ومن شاء تفصيل الكلام فيها , فليرجع إلى " كتاب الصلاة " لابن القيم رحمه الله تعالى , فإنه أشبع القول عليها مع التحقيق الدقيق بما لا تجده في كتاب.
واعلم أنه ليس معنى قول أهل العلم المحقيقين – ومنهم العز بن عبدالسلام الشافعي – أنه لا يشرع القضاء على التارك للصلاة عمداً: أنه من باب التهوين لشأن ترك الصلاة , حاشا لله , بل هو على النقيض من ذلك , فإنهم يقولون: إن من خطورة الصلاة وأدائها في وقتها أنه لا يمكن أن يتداركها بعد وقتها إلى الأبد , فلا يكفر ذنب إخراج الصلاة عن وقتها إلا ما يكفر أكبر الذنوب ألا وهو التوبة النصوح.
ولذلك فهم ينصحون من ابتلي بترك الصلاة أن يتوب إلى الله فوراً , وأن يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها مع الجماعة , وأن يكثر من الصلاة النافلة , حتى يعوض بذلك بعض ما فاته من الثواب بتركه للصلاة في الوقت (إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ) هود 114 , وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة: (انظروا هل لعبدي من تطوع فتكملوا به فريضته؟) , وهو في "صحيح أبي داود.
مشروعية رفع الإمام صوته بالتأمين
464 - (كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن , رفع صوته وقال: آمين).
في الحديث مشروعية رفع الإمام صوته بالتأمين , وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم من الأئمة , خلافاً للإمام أبي حنيفة وأتباعه , ولا حجة عندهم سوى التمسك بالعمومات القاضية بأن الأصل في الذكر خفض الصوت فيه , وهذا مما لا يفيد في مقابله مثل هذا الحديث الخاص في بابه , كما لا يخفي على أهل العلم الذين أنقذهم الله تبارك وتعالى من الجمود العقلي والتعصب المذهبي.
وأما جهر المتقدين بالتأمين وراء الإمام , فلا نعلم فيه حديثاً مرفوعاً صحيحاً يجب المصير إليه ولذلك بقينا فيه على الأصل الذي سبقت الإشارة إليه , وهذا هو مذهب الإمام الشافعي في "الأم": أن الإمام يجهر بالتأمين دون المأمومين , وهو أوسط المذاهب في المسألة وأعدلها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/384)
وإني لألاحظ أن الصحابة رضي الله عنهم , لو كانوا يجهرون بالتأمين خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لنقله وائل بن حجر وغيره ممن نقل جهره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به , فدل ذلك على أن الإسرار به من المؤتمين هو السنة , فتأمل.
ثم وقفت على ما حملني على ترجيح جهر المؤتمين أيضاً في بحث أودعته في "الضعيفة" , وبه قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح في مسائله , وكفى به قدوة , وهو مذهب الشافعية كما في "مجموع النووي" والله ولي التوفيق.
جواز الإشارة بالإذن بلفظ التسبيح من الرجل وبالتصفيق من المرأة
497 - (إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي , فإذنه التسبيح , وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي , فإذنها التصفيق).
وفي الحديث إشارة إلى ضعف الحديث الذي يورده الحنفية بلفظ: (من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه , فليعد صلاته) , فإن هذا الحديث الصحيح صريح في جواز الإشارة بالإذن بلفظ التسبيح من الرجل , وبالتصفيق من المرأة , فكيف لا يجوز ذلك بالإشارة باليد أو الرأس؟ ولا سيما وقد جاءت أحاديث كثيرة بجواز ذلك , وقد خرجت بعضها في "صحيح أبي داود" وبينت علة الحديث المذكور في الإشارة المفهمة في الأحاديث الضعيفة , ثم في ضعيف أبي داود.
السنة التكبير ثم السجود
604 - (كان إذا أراد أن يسجد كبر ثم يسجد، وإذا قام من القعدة كبر ثم قام).
والحديث نص صريح في أن السنة التكبير ثم السجود , وأنه يكبر وهو قاعد ثم ينهض , ففيه إبطال لما يفعله بعض المقلدين من مد التكبير من القعود إلى القيام.
وفي معناه ما أخرجه البخاري , وأحمد , عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ" , وهو مخرج في "صحيح أبي داود".
قلت: فقوله (وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ) , أي: عند ابتداء القيام , وبه فسره الحافظ في الفتح , ويؤيد قوله: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه) , فإن هذا لا يمكن تفسيره إلا بذلك , لأنه ورد الاعتدال , وأما قول النووي في " شرح مسلم ": وقوله: " يكبر حين يهوي ساجداً , ثم يكبر " دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات وبسطه عليها , فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع وغيره حتى يصل حد الراكع ... ويشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول حين يشرع في الانتقال , ويمده حتى ينتصب قائماً ".
قال الحافظ عقبه: " ودلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكره غير ظاهرة ".
قلت: وأغرب من ذلك مد بعض الشافعية التكبير حين القيام من السجدة الثانية , وينتصب قائماً فيالركعة الثانية , ويجلس بين ذلك جلسة الاستراحة " وهي سنة " , فتراه يمد التكبير ويمد حتى يكاد ينقطع نفسه قبل الانتصاب , ولا يشك عالم بالسنة أن هذا من البدع.
سنية جهر المقتدين بآمين وراء الإمام
691 - (إن اليهود قوم حسد وإنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على السلام وعلى آمين)
أخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (1/ 73/2): ثنا ابوبشر الواسطي: نا خالد- يعني: ابن عبدالله –عن سهيل- وهو ابن أبي صالح- عن أبيه عن عائشة قالت:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/385)
((دخل يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:وعليك. فقالت عائشة:فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك،فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فهممت أن أتكلم،فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك،ثم دخل الثالث فقال.السام عليك.فلم أصبر حتى قلت: وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله بما لم يحيه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولاً فرددنا عليهم، أن اليهود ... )). ورواه ابونعيم أيضا مختصراً عن انس، وهو الآتي بعده.
قلت: وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم ثقات رجال ((الصحيح))،و ابوبشر الو اسطي اسمه إسحاق بن شاهين،وهو من شيوخ البخاري.
والحديث أخرجه ابن ماجه (1/ 281) من طريق حماد بن سلمة: ثنا سهيل بن أبي صالح به مقتصراً على الجملة المذكورة أعلاه بنحوه. وقال البوصيري في ((الزوائد)):
((هذا إسناد صحيح، احتج مسلم بجميع رواته)).
وللحديث طريق آخى يرويه حصين بن عبدالرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت:
((بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود ... )) الحديث بتمامه نحوه وأتم منه: إلا انه لم يذكر الحسد على السلام، ولفظه:
((لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله وضلوا عنها، وعلى القبلة لتي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين)).
أخرجه البخاري في ((التاريخ)) (1/ 1/22)، والبيهقي (2/ 56)،واحمد (6/ 134 - 135).
وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير محمد بن الأشعث، وقد وثقه ابن حبان، وروى عنه جماعة، وهو تابعي كبير.
وتابعه مجاهد عن محمد بن الأشعث به مختصراً نحو حديث الترجمة.
أخرجه البخاري والبيهقي.
وللترجمة شاهد من حديث أنس بلفظ:
692 - (إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين).
أخرجه أبو نعيم في ((أحاديث مشايخ أبي القاسم الأصم)) (35/ 1)، والخطيب في ((التاريخ)) (11/ 43)، والضياء المقدسي في ((المختارة)) (ق45/ 1) من طريق إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثنا أبو ظفر: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وقال المقدسي:
((أبو ظفر اسمه عبدا لسلام بن مطهر بن حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي البصري، روى عنه البخاري وأبو داود)).
قلت: وبقية رجال الإسناد ثقات، فهو صحيح.
فائدة: في هذا الحديث والذي قبله إشارة قوية إلي سنية جهر المقتدين بـ ((آمين)) وراء الإمام، لأن الجهر به هو الذي يثير حفيظة اليهود ويحملهم على الحسد، كالجهر بالسلام، كما هو ظاهر. فتأمل.
الفجر فجران
693 - (الفجر فجران فجر يحرم فيه الطعام وتحل فيه الصلاة وفجر تحرم فيه الصلاة ويحل فيه الطعام).
أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه)) (1/ 52/2)،وعنه الحاكم (1/ 425)، والبيهقي (1/ 377و457و4/ 216) من طريق أبي احمد الزبيري: ثنا سفيان عن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وقال بن خزيمة:
(("لم" يرفعه في الدنيا غير أبي احمد الزبيري)).
وقال الحاكم:
((صحيح الإسناد))،ووافقه الذهبي، وأعله البيهقي بأن غير أبي الزبير رواه عن سفيان الثوري موقوفا، وقال:
((والموقوف أصح)).
قلت: لأن أبا أحمد الزبيري-واسمه محمد بن عبدالله بن الزبير-مع كونه ثقة ثبتاً، فقد نسبوه إلي الخطأ في روايته عن الثوري، لكن للحديث شواهد كثيرة تدل على صحته، منها عن جابر عند الحاكم (1/ 191) والبيهقي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ومنها عن عبدالرحمن بن عائش وسيأتي برقم (2002).
من فقه الحديث: قال ابن خزيمة:
((في هذا الخبر دلالة على أن الصلاة الفرض لا يجوز أداؤها قبل دخول وقتها)).
قال:
(("فجر يحرم فيه الطعام":يريد على الصائم. (ويحل فيه الصلاة): يريد صلاة الصبح. (وفجر يحرم فيه الصلاة):يريد صلاة الصبح، إذا طلع الفجر الأول يكون بالليل، ولم يرد أنه لا يجوز أن يتطوع بالصلاة بعد الفجر الأول. وقوله: (ويحل فيه الطعام):يريد لمن يريد الصيام)).
قلت: ومن تراجم البيهقي لهذا الحديث قوله ((باب إعادة صلاة من افتتحها قبل طلوع الفجر الآخر)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/386)
وفيه تنبيه هام إلي وجوب أداء الصلاة بعد طلوع الفجر الصادق، وهذا ما اخل به المؤذنون في كثير من العواصم- منها عمان-فإن الأذان الموحد فيها يرفع قبل الفجر بنحو نصف ساعة بناء على التوقيت الفلكي، وهو ثابت بالمشاهدة وكذلك في كثير من البلاد الأخرى كدمشق والجزائر والمغرب والكويت والمدينة والطائف.والله المستعان.
مشروعية الدعاء في التشهد الأول
878 - (إِذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثم َلْيَتَخَيَّرْ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ).
أخرجه النسائي (1/ 174)، وأحمد (1/ 437)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (3/ 55/1) من طريق شعبة قال: أنبأنا ابوأسحاق: أنا أبو الأحوص عن عبدالله قال:
((كنا لا ندري ما نقول في الركعتين؛ غير أن نسبح، ونكبر، ونحمد ربنا، وإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم علم فواتح الخير وخواتمه، فقال?)) فذكره.
قلت وهذا إسناد صحيح متصل على شرط مسلم.
وتابعه إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق: حدثني أبي عن أبي إسحاق: أخبرني أبوالأحوص والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأصحاب عبدالله أنهم سمعوه يقول: فذكره.
أخرجه الطبراني: حدثنا عبدالله بن حنبل ومحمد بن عبد الله الحضرمي قالا: نا عبد الله بن محمد بن سالم القزاز: نا إبراهيم.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير القزاز هذا قال الحافظ:
((ثقة ربما خالف))
وفي الحديث فائدة هامة؛ وهي مشروعية الدعاء في التشهد الأول، ولم أر من قال به من الأئمة غير ابن حزم، والصواب معه، وإن كان هو استدل بمطلقات يمكن للمخالفين ردها بنصوص أخرى مقيدة، أما هذا الحديث فهو في نفسه نص واضح مفسر لا يقبل التقليد، فرحم الله امرأً أنصف واتبع السنة.
والحديث دليل من عشرات الأدلة على أن الكتب المذهبية قد فاتها غير قليل من هدى خير البرية صلى الله عليه وسلم؛ فهل ما يجمل المتعصبة على الاهتمام بدراسة السنة، والاستنارة بنورها؟ لعل وعسى.
(تنبيه):وأما حديث:
((كان لا يزيد في الركعتين على التشهد)).
فهو منكر كما حققته في ((الضعيفة)) (5816).
كتاب الزكاة
لا زكاة على غير المؤمن
142 – (على المؤمنين في صدقة الثمار _ أو مال العقار _ عشر ما سقت العين وما سقت السماء، وعلى ما يسقى بالغرب نصف العشر).
إنما أوردت هذه الرواية بصورة خاصة , لقوله في صدرها: (على المؤمنين) , ففيه فائدة هامة لا توجد في سائر الروايات , قال البيهقي: (وفيه كالدلالة على أنها لا تؤخذ من أهل الذمة).
قلت: وكيف تؤخذ منهم وهم على شركهم وضلالهم؟ فالزكاة لا تزكيهم وإنما تزكي المؤمن المزكى من دون الشرك كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) التوبة103 , فهذه الآية تدل دلالة ظاهرة على أن الزكاة إنما تؤخذ من المؤمنين , لكن الحديث أصرح منها دلالة على ذلك.
وإن من يدرس السيرة النبوية , وتاريخ الخلفاء الراشدين , وغيرهم من خلفاء المسلمين وملوكهم , يعلم يقيناً أنهم لم يكونوا يأخذون الزكاة من غير المسلمين المواطنين , وإنما كانوا يأخذون منهم الجزية كما ينص عليها الكتاب والسنة.
فمن المؤسف أن ينحرف بعض المتفقهة عن سبيل المؤمنين باسم الإصلاح تارة , والعدالة الاجتماعية تارة , فينكروا ما ثبت في الكتاب والسنة , وجرى عليه عمل المسلمين , بطرق من التأويل أشبه ما تكون بتأويلات الباطنيين من جهة , ومن جهة أخرى يثبتون ما لم يكونوا يعرفون , بل ما جاء النص بنفيه , والأمثلة على ذلك كثيرة وحسبنا الآن هذا المسألة التي دل عليها هذا الحديث وكذا الآية الكريمة.
فقد قرأنا وسمعنا أن بعض الشيوخ اليوم يقولون بجواز أن تأخذ الدولة الزكاة من أغنياء جميع المواطنين , على أختلاف أديانهم , مؤمنهم وكافرهم , ثم توزع على فقرائهم , دون أي تفريق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/387)
ولقد سمعت منذ أسابيع معنى هذا من أحد كبار مشايخ الأزهر في ندوة تلفزونية , كان يتكلم فيها عن الضمان الاجتماعي في الإسلام , ومما ذكره أن الاتحاد القومي في القاهرة سيقوم بجمع الزكاة من جميع أغنياء المواطنين , وتوزيعها على فقرائهم , فقام أحد الحاضرين أمامه في الندوة , وسأله عن المستند في جواز ذلك , فقال: لما عقدنا جلسات الحلقات الاجتماعية , اتخذنا في بعض جلساتها قراراً بجواز ذلك اعتماداً على مذهب من المذاهب الإسلاميه , وهو المذهب الشيعي , وأنا أظن أنه يعني المذهب الزيدي.
وهنا موضع العبرة , لقد أعرض هذا الشيخ ومن رافقه في تلك الجلسة عن دلالة الكتاب والسنة واتفاق السلف على أن الزكاة خاصة بالمؤمنين , واعتمدوا في خلافهم على المذهب الزيدي , وهل يدري القارئ الكريم ما هو السبب في ذلك؟ ليس هو إلا موافقة بعض الحكام على سياستهم الاجتماعية والاقتصادية , وليتها كانت على منهج إسلامي , إذن لهان الأمر بعض الشئ في هذا الخطأ الجزئئ , ولكنه منهج غير أسلامي , بل هو قائم على تقليد بعض الأوربيين الذين لا دين لهم , والإعراض عن الاستفادة من شريعة الله تعالى التي أنزلها على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتكون نوراً وهداية للناس في كل زمان ومكان.
فإلى الله المشتكى من علماء السوء والرسوم , الذين يؤيدون الحكام الجائرين بفتاويهم المنحرفة عن جادة الإسلام وسبيل المسلمين , والله عز وجل يقول: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء115.
هذا وفي الحديث قاعدة فقهية معروفة , وهي أن زكاة الزرع تختلف باختلاف المؤنة والكلفة عليه , فإن كان يسقى بماء السماء والعيون والأنهار , فزكاته العشر , وإن كان يسقى بالدلاء والنواضح الارتوازية ونحوها , فزكاته نصف العشر.
ولا تجب هذه الزكاة في كل ما تنتجه الأرض , ولو كان قليلاً , بل ذلك مقيد بنصاب معروف في السنة , وفي أحاديث معروفة.
كتاب الصيام
فضل المفطر على الصائم في السفر
85 - (ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ اعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ ادنوا فكلا).
رواه أبوبكر بن أبي شيبة في (المصنف) والفريابي في (الصيام) عنه وعن أخيه عثمان بن أبي شيبة , قالا ثنا عمر بن سعد أبو داود عن سفيان عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة , قال:
(أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وهو بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَدْنِوا فَكُلَا فَقَالَا إِنَّا صَائِمَانِ فَقَالَ ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ) , الحديث.
ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ أي: شدوا الرحل لهما على البعير.
مَرِّ الظَّهْرَانِ: بفتح الميم وتشديد الراء: موضع بقرب مكة , (النهاية).
وكذا أخرجه النسائي , وابن خزيمة , وابن حبان , وقال ابن خزيمة: (فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضي بعض النهار).
والغرض من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ .... ) , الإنكار , وبيان أن الأفضل أن يفطرا , ولا يحوجا الناس إلى خدمتهما.
ويبين ذلك ماروى الفريابي (67/ 1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا تصم في السفر , فإنهم إذا أكلوا طعاماً قالوا: ارفعوا للصائم , وإذا عملوا عملاً قالوا: اكفلوا للصائم , فيذهبوا بأجرك).
قلت: ففي الحديث توجيه كريم إلى خلق قويم , وهو الاعتماد على النفس , وترك التواكل على الغير أو حملهم على خدمته , ولو لسبب مشروع كالصيام.
أفليس في الحديث إذن رد واضح على أولئك الذين يستغلون علمهم , فيحملون الناس على التسارع في خدمتهم , حتى في حمل نعالهم؟.
ولئن قال بعضهم: لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخدمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن خدمة , حتى كان فيهم من يحمل نعليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو عبد الله بن مسعود.
فجوابنا: نعم , ولكن هل احتجاجهم بهذا لأنفسهم إلا تزكية منهم لها , واعتراف بأنهم ينضرون إليها على أنهم ورثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العلم حتى يصح لهم هذا القياس؟.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/388)
وآيم الله , لو كان لديهم نص على أنهم الورثة , لم يجز لهم هذا القياس , فهؤلاء أصحابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهود لهم بالخيرية – وخاصة منهم العشرة المبشرون بالجنة – فقد كانوا خدام أنفسهم , ولم يكن واحد منهم يخدم من غيره عشر معشار ما يخدم أولئك المعنيون من تلامذتهم ومريديهم , فكيف وهم لا نص عندهم بذلك , ولذلك فإني أقول: إن هذا القياس فاسد الاعتبار من أصله , هدانا الله تعالى جميعاً سبيل التواضع والرشاد.
جواز إفطار المسافر في رمضان
191 - (كَانَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَيُفْطِرُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يَدَعُهُمَا يَقُولُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا يَعْنِي الْفَرِيضَةَ).
أخرجه الطحاوي , وأحمد , والبزار , من طريق حامد عن إبراهيم عن علقمة عن أبن مسعود مرفوعا.
قلت وهذا سند جيد وهو علي شرط مسلم , والحديث صحيح قطعا بشقيه: أما قصر الصلاة , ففيه أحاديث كثيرة مشهورة عن جماعة من الصحابة فلا نصيل الكلام بذكرها، وأما الصوم في السفر , فقد بدرت من الصنعاني في سبل السلام كلمة نفى فيها أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم صام في السفر فرضاً فقال: (ثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه لم يتم رباعية في سفر , ولا صام فيه فرضا).
ولهذا توجهة الهمة إلى ذكر بعض الأحاديث التي تدل على خطأ النفي المذكور فأقول: ورد صومه صلي الله عليه وسلم في السفر عن جماعة من الصحابة، منهم عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وأنس بن مالك , وابوالدرداء.
1 - أما حديث ابن مسعود فهو هذا.
2 - وأما حديث ابن عباس فقال أبوداود الطيالسي حدثنا سليمان عن سماك عن عكرمة عن ابن مسعود مرفوعا بالشطر الأول منه وسنده حسن.
3 - وأما حديث أنس فرواه عنه زياد النميري: حدثني أنس بن مالك قال: (وافق رسول الله صلي الله عليه وسلم رمضان في سفره فصامه , ووفقه رمضان في سفر فأفطره، رواه البيهقي، وزياد هذا هو أبن عبدالله النميري البصري، ضعيف، يكتب حديثه للشواهد.
4 - وأما حديث أبي الدرداء فيرويه الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ)، أخرجه مسلم.
192 - (هِيَ رُخْصَةٌ [يعني: الفطر في السفر] مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ).
رواه مسلم , والنسائي , والبيهقي , من طريق أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
قال مجد الدين ابن تيمية في المنتقى: (وهو قوي الدلالة على فضلية الفطر).
قلت: ووجه الدلالة قوله في الصائم: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) , أي: لا إثم عليه فإنه يشعر بمرجوحية الصيام كما هو ظاهر , لا سيما مع مقابلته بقوله في الفطر (فحسن) , لكن هذا الظاهر غير مراد عندي , والله أعلم , وذلك لأن رفع الجناح في نص ما عن أمر ما لا يدل إلا على أنه يجوز فعله وأنه لا حرج على فاعله , وأما هل هذا الفعل مما يثاب فاعله أو لا , فشي آخر , لا يمكن أخذه من النص ذاته , بل من نصوص أخرى خارجة عنه , وهذا شئ معروف عند تتبع الأمور التي ورد رفع الجناح عن فاعلها , وهي علي قسمين:
أ- قسم منها يراد بها رفع الحرج فقط , مع استواء الفعل والترك , وهذا هو الغالب , ومن أمثلته قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
193 - (خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَة وَالْعَقْرَبُ ُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/389)
ومن الواضح أن المراد من رفع الجناح في هذا الحديث هو تجويز القتل , ولا يفهم منه أن القتل مستحب أو واجب أو تركه أولى.
ب- وقسم يراد به رفع الحرج عن الفعل , مع كونه في نفسه مشروعاً له فضلية , بل قد يكون واجباً , وإنما يأتي النص برفع الحرج في هذا القسم دفعاً لوهم أو زعم من قد يظن الحرج في فعله , ومن أمثلة هذا ما روى الزهري عن عروة قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا).
إذا تبين هذا , فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: (وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) , لا يدل إلا على رفع الإثم عن الصائم , وليس فيه ما يدل على ترجيح الإفطار على الصيام.
ولكن , إذا كان من المعلوم أن صوم رمضان في السفر عبادة , بدليل صيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه , فمن البدهي حينئذ أنه أمر مشروع حسن , وإذا كان كذلك , فإن وصف الإفطار في الحديث بأنه حسن لا يدل على أنه أحسن من الصيام , لأن الصيام أيضاً حسن كما عرفت , وحينئذ , فالحديث لا يدل على أفضلية الفطر المدعاة , بل على أنه والصيام متماثلان.
ويؤكد ذلك حديث حمزة بن عمرو من رواية عائشة رضي الله عنها: أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يارسول الله إني رجل أسرد الصوم , فأصوم في السفر؟ قال:
194 - (صم إن شئت، وأفطر إن شئت).
قلت: فخيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الأمرين , ولم يفضل له أحداهما على الآخر , والقصة واحدة , فدل على أن الحديث ليس فيه الأفضلية المذكورة.
ويقابل هذه الدعوى قول الشيخ علي القاري في المرقاة إن الحديث دليل على أفضلية الصوم , ثم تكلف في توجيه ذلك.
والحق أن الحديث يفيد التخيير لا التفضيل , على ما ذكرناه من التفصيل.
نعم , يمكن الاستدلال لتفضيل الإفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ [وفي رواية: كما يحب أن تؤتى عزائمه]).
وهذا لا مناص من القول به , لكن يمكن أن يقيد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء , وليس عليه حرج في الأداء , وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود , فتأمل.
وأما حديث: (من أفطر [يعني في السفر] فرخصة , ومن صام فالصوم أفضل) , فهو حديث شاذ لا يصح , والصواب أنه موقوف على أنس , كما بينته في الأحاديث الضعيفة , ولو صح , لكان نصاً في محل النزاع لا يقبل الخلاف , وهيهات , فلا بد حينئذ من الاجتهاد والاستنباط , وهو يقتضي خلاف ما أطلقه هذا الحديث الموقوف , وهو التفصيل الذي ذكرته , والله الموفق.
جواز تقبيل الصائم لزوجته في رمضان
219 - (كَانَ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ وَأَنَا صَائِمَةٌ: يعني عائشة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/390)
أخرجه أبو داود , وأحمد: من طريقين عن سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ الْقُرَشِيَّ - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مرفوعاً.
ثم أخرجه أحمد , والنسائي , والطيالسي , والشافعي , والطحاوي , و البيهقي , وأبو يعلى من طريق أخرى عن سعد بن إبراهيم به بلفظ: (أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَبِّلَنِي فَقُلْتُ إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ وَأَنَا صَائِمٌ ثُمَّ قَبَّلَنِي).
وفي هذا الحديث رد للحديث الذي رواه محمد بن الأشعث عن عائشة قالت: (كان لا يمس من وجهي شيئاً وأنا صائمة) , وإسناده ضعيف.
وحديث الباب يدل على جواز تقبيل الصائم لزوجته في رمضان , وقد اختلف العلماء في ذلك على أكثر من أربعة أقوال ’ أرجحها الجواز , على أن يراعى حال المقبل , بحيث إنه إذا كان شاباً يخشى على نفسه أن يقع في الجماع الذي يفسد عليه صومه , امتنع من ذلك , وإلى هذا أشارت السيدة عائشة رضي الله عنها في الرواية الآتية عنها ( .. وأيكم يملك إربه) , بل قد روي ذلك عنها صريحاً , فقد أخرج الطحاوي عنها قالت (ربما قبلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباشرني وهو صائم , أما أنتم , فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف) , ويؤيده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دع ما يريبك إلى مالا يريبك).
ولكن ينبغي أن يعلم أن ذكر الشيخ ليس على سبيل التحديد , بل المراد التمثيل بما هو الغالب على الشيوخ من ضعف الشهوة وإلا , فالضابط في ذلك قوة الشهوة وضعفها , أو ضعف الإرادة وقوتها.
وعلى هذا التفصيل تحمل الروايات المختلفة عن عائشة رضي الله عنها , فإن بعضها صريح عنها في الجواز مطلقاً , كحديثها هذا , لا سيما وقد خرج جواباً على سؤال عمرو بن ميمون لها في بعض الروايات , وقالت (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) , الأحزاب 21 , وبعضها يدل على الجواز حتى للشاب , لقولها: (وأنا صائمة) , فقد توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمرها 18 سنة.
ومثله ما حدثت به عائشة بنت طلحة أنها كانت عند عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق , وهو صائم , فقالت له عائشة: ما منعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها؟ فقال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم، أخرجه مالك وعنه الطحاوي , بسند صحيح.
قال ابن حزم: (عائشة بنت طلحة كانت أجمل نساء أهل زمانها , وكانت أيام عائشة هي وزوجها فتيين في عنفوان الحداثة).
وهذا ومثله محمول على أنها كانت تأمن عليهما , ولهذا قال الحافظ في الفتح بعد أن ذكر هذا الحديث من طريق النسائي: [فقال: وأنا صائم؟ فقبلني]: (وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتاثر بالمباشرة والتقبيل , لا للتفرقة بين الشاب والشيخ , لأن عائشة كانت شابة نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة , فرق من فرق.
220 - (كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكِانَّ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ).
ومرادها رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان غالباً لهواه , والإرب: هو بفتح الهمزة أو كسرها , قال ابن الأثير: (وله تأويلان: أحدهما: أنه الحاجة , والثاني: أنه أرد به العضو , وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة , وهو كناية عن المجامعة).
قال في المرقاة: (وأما ذكر الذكر , فغير ملائم للأنثى , لا سيما في حضور الرجال) , وراجع تمام البحث فيه.
وفي الحديث فائدة أخرى على الحديث الذي قبله , وهي جواز المباشرة من الصائم وهي شئ زائد على القبلة , وقد اختلفوا في المراد منها هنا فقال القاري: (قيل: هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج , وقيل: هي القبلة واللمس باليد).
قلت: ولا شك أن القبلة ليست مرادة بالمباشرة هنا , لأن الواو تفيد المغايرة , فلم يبق إلا أن يكون المراد بها إما القول الأول أو اللمس باليد , والأول هو الأرجح لأمرين:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/391)
الأول: حديث عائشة الآخر قالت: (كَانَتْ إحدانا إذا كانت حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟).رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فإن المباشرة هنا هي المباشرة في حديث الصيام , فإن اللفظ واحد , والدلالة واحدة , والرواية واحدة أيضاً.
بل إن هناك ما يؤيد المعنى المذكور , وهو الأمر الآخر , وهو أن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فسرت المباشرة بما يدل على هذا المعنى , وهو قولها في رواية عنها:
221 - (كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَوْبًا يَعْنِي الْفَرْجَ).
وفي هذا الحديث فائدة هامة , وهو تفسير المباشرة , بأنه مس المرأة فيما دون الفرج , فهو يؤيد التفسير الذي سبق نقله عن القاري , وإن كان حكاه بصيغة التمريض [قيل] , فهذا الحديث يدل على أنه قول معتمد , وليس في أدلة الشريعة ما ينافيه , بل قد وجدنا في أقوال السلف ما يزيده قوة , فمنهم راوية الحديث عائشة نفسها رضي الله عنها , فروى الطحاوي بسند عن حكيم بن عقال أنه قال: (سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم؟ قالت فرجها).
الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ
224 - (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ).
قال الترمذي عقب الحديث: (وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ)
وقال الصنعاني في سبل السلام: (فيه دليل على أن يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس , وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره , ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية).
وذكر معنى هذا ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن وقال: (وقيل: فيه الرد على من يقول: إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل , جاز له أن يصوم ويفطر , دون من لم يعلم , وقيل: إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال , ولم يحكم القاضي بشهادته: أنه لا يكون هذا له صوماً , كما لم يكن للناس).
وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على ابن ماجه بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي: (والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل وليس لهم التفرد فيها بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة وعلى هذا فإذا رأى أحد الهلال ورد الإمام شهادته ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك).
قلت: وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث , ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام يوم عرفة , خشية أن يكون يوم النحر , فبينت له أنه لا عبرة برأيه , وأن عليه اتباع الجماعة , فقالت: (النحر يوم ينحر الناس , والفطر يوم يفطر الناس).
قلت: وهذا هو اللأئق بالشريعة السمحة التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم , وإبعادهم عن كل ما يفرق جمعهم من الأراء الفردية , فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد – ولو كان صواباً من وجهة نظره – في عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة , ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم من يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء , ومنهم من لا يرى ذلك , ومنهم من يتم في السفر , ومنهم من يقصر , فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام الواحد , والاعتداد بها , وذلك لعلمهم بأن التفرق في الدين شر من الاختلاف في بعض الآراء , ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأى المخالف لرأي الإمام الأعظم في المجتمع الأكبر - كمنى – إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في ذلك المجتمع , فراراً مما قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه , فروى أبو داوود (أن عثمان رضي الله عنه صلى بمنى أربعاً فقال عبدالله بن مسعود منكراً عليه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين , ومع أبي بكر ركعتين , ومع عمر ركعتين , ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها , ثم تفرقت بكم الطرق , فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين , ثم إن ابن مسعود
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/392)
صلى أربعاً فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ قال الخلاف شر) وسنده صحيح.
وروى أحمد نحو هذا عن أبي ذر رضي الله عنهم أجمعين.
فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم , ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد , وخاصة في صلاة الوتر في رمضان بحجة كونهم على خلاف مذهبهم , وبعض أولئك الذين يدعون العلم بالفلك ممن يصوم وحده ويفطر وحده متقدماً أو متأخراً على جماعة المسلمين , معتداً برأيه وعلمه , غير مبال بالخروج عنهم.
فليتأمل هؤلاء جميعاً فيما ذكرناه من العلم , لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور , فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين , فإن يد الله على الجماعة.
النهي عن صوم السبت مطلقاً إلا في الفرض
225 - (صِيَامَ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكِ وَلَا عَلَيْكِ).
أخرجه أحمد: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ وَرْدَانَ عَنْ عُبَيْدٍ الْأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَغَدَّى وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ تَعَالَيْ فَكُلِي فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا صُمْتِ أَمْسِ فَقَالَتْ لَا قَالَ فَكُلِي فَإِنَّ صِيَامَ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكِ وَلَا عَلَيْكِ.
والحديث ظاهره النهي عن صوم السبت مطلقاً إلا في الفرض , وقد ذهب إليه قوم من أهل العلم كما حكاه الطحاوي , وهو صريح في النهي عن صومه مفرداً , ولا أرى فرقاً بين صومه – ولو صادف يوم عرفة أو غيره من الأيام المفضلة – وبين صوم يوم من أيام العيد إذا صادف يوم الاثنين أو الخميس , لعموم النهي , وهذا قول الجمهور فيما يتعلق بالعيد , كما في المحلى , وبسط القول في هذه المسألة لا مجال له الآن , فإلى مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ
328 – (مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)
رواه البخاري , ومسلم , وأحمد , من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: (فذكره).
قلت: والأمر الذي ترخص فيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التقبيل في الصيام , خلافاً لما قد يتبادر لبعض الأذهان , والدليل الحديث الآتي:
329 – (أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ).
رواه أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَ عَطَاءً أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ فَارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ فَقَالَ (فذكره).
قلت: وهذا سند صحيح متصل.
الصوم والصدقة عن الوالد المسلم
484 - (أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/393)
أخرجه الإمام أحمد حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَنْحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِي نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ بَدَنَةً وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (فذكره).
والحديث دليل واضح على أن الصدقة والصوم تلحق الوالد ومثله الوالدة بعد موتهما إذا كانا مسلمين , ويصل إليهما ثوابها بدون وصية منهما , ولما كان الولد من سعي الوالدين , فهو داخل في عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) النجم39 , فلا داعي إلى تخصيص هذا العموم بالحديث وما ورد في معناه في الباب , مما أورده المجد ابن تيمية في " المنتقى " كما فعل البعض.
واعلم أن الأحاديث التي ساقها في الباب هي خاصة بالأب أو الأم من الولد فالاستدلال بها على وصول ثواب القرب إلى جميع الموتى كما ترجم لها المجد ابن تيمية بقوله " باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى " غير صحيح لأن الدعوى أعم من الدليل , ولم يأت دليل يدل دلالة عامة على انتفاع عموم الموتى من عموم أعمال الخير التي تهدى إليهم من الأحياء , اللهم إلا في أمور خاصة ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار , ثم الكاتب في كتابه "أحكام الجنائز وبدعها" , وقد يسر الله – والحمد لله – طبعه , من ذلك الدعاء للموتى , فإنه ينفعهم إذا استجابه الله تبارك وتعالى , فاحفظ هذا تنج من الإفراط والتفريط في هذه المسألة.
وخلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق ويصوم ويحج ويعتمر ويقرأ القرآن عن والديه , لأنه من سعيهما , وليس له ذلك عن غيرهما , إلا ما خصه الدليل مما سبقت الإشارة إليه , والله أعلم.
كتاب الحج
توسيع الكعبة وفتح باب آخر لها
43 - (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك [وليس عندي من النفقة ما يقوي على بناءه] , [لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله و] لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض [ثم لبنيتها على أساس إبراهيم] وجعلت لها بابين [موضوعين في الأرض] بابا شرقيا [يدخل الناس منه] وبابا غربيا [يخرجون منه] وزدت فيها ستة أذرع من الحجر [وفي رواية: ولأدخلت فيها الحجر] فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة [فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع] وفي رواية عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر [أي: الحجر] أمن البيت هو؟ قال: نعم قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال [إن قومك قصرت بهم النفقة] قلت فما شأن بابه مرتفعا قال [فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا [وفي رواية: تعززا أن لا يدخلها إلامن أرادوا فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط] ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض] , [فلما ملك ابن الزبير هدمها وجعل لها بابين] [وفي رواية: فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه قال يزيد بن رومان: وقد شهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم عليه السلام حجارة متلاحمة كأسنمة الإبل متلاحكة).
يدل هذا الحديث على أمرين:
الأول: أن القيام بالإصلاح إذا ترتب عليه مفسدة أكبر منه , وجب تأجيله , ومنه أخذ الفقهاء قاعدتهم المشهورة (دفع المفسدة قبل جلب المصلحة).
الثاني: أن الكعبة المشرفة بحاجة الآن إلى الإصلاحات التي تضمنها الحديث , لزوال السبب الذي من أجله ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك , وهو أن تنفر قلوب من كان حديث عهد بشرك في عهده صلى الله عليه وسلم , وقد نقل ابن بطال عن بعض العلماء (أن النفرة التي خشيها صلى الله عليه وسلم: أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم).
ويمكن حصر تلك الإصلاحات فيما يلي:
1 - توسيع الكعبة وبناؤها على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام , وذلك بضم نحو ستة أذرع من الحجر.
2 - تسوية أرضها بأرض الحرم.
3 - فتح باب آخر لها من الجهة الغربية.
4 - جعل البابين منخفضين مع الإرض لتنضيم وتيسير الدخول إليها والخروج منها لكل من شاء.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/394)
ولقد كان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما قد قام بتحقيق هذا الإصلاح بكامله إبان حكمه في مكة , ولكن السياسة الجائرة أعادت الكعبة بعده إلى وضعها السابق.
وهاك تفصيل ذلك كما رواه مسلم وأبونعيم بسندهما الصحيح عن عطاء قال:
(لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ , فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَان , َ تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ، يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ أَوْ " يُحَرِّبَهُمْ "عَلَى أَهْلِ الشَّامِ , فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَةِ، أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي فَلَمَّا مَضَى الثَّلَاثُ , أَجْمَعَ رَأْيَهُ , عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ، فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً فَسَتَّرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فذكر الحديث بالزيادة الأولى ثم قال): فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ، فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ، حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ، اسْتَقْصَرَهُ , فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ , وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ).
ذلك ما فعله الحجاج الظالم بأمر عبد الملك الخاطئ , وما أظن أنه يسوغ له خطأه ندمه فيما بعد , فقد روى مسلم وأبونعيم أيضاً عن عبدالله بن عبيد قال:
(وَفَدَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ بَلَى، أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا قَالَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قالت: فذكر الحديث). قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلْحَارِثِ أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ ثُمَّ قَالَ وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ وَمَا تَحَمَّلَ).
وفي رواية لهما عَنْ أَبِي قَزَعَةَ:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/395)
(أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ سَمِعْتُهَا تَقُولُ (فذكر الحديث) فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا قَالَ لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ).
أقول: كان عليه أن يتثبت قبل الهدم , فيسأل عن ذلك أهل العلم , إن كان يجوز له الطعن في عبد الله بن الزبير واتهامه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد تبين لعبد الملك صدقه رضي الله عنه بمتابعة الحارث إياه , كما تابعه جماعة كثيرة عن عائشة رضي الله عنها , وقد جمعت رواياتهم بعضها إلى بعض في هذا الحديث , فالحديث مستفيض عن عائشة , ولذلك فإني أخشى أن يكون عبد الملك على علم سابق بالحديث قبل أن يهدم البيت , ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع به إلا من طريق ابن الزبير , فلما جابهه الحارث بن عبدالله بأنه سمعه من عائشة أيضاً , أظهر الندم على ما فعل , ولات حين مندم.
هذا , وقد بلغنا أن هناك فكرة أو مشروعاً لتوسيع المطاف حول الكعبة , ونقل مقام إبراهيم عليه السلام إلى مكان آخر , فأقترح بهذه المناسبة على المسؤولين أن يبادروا إلى توسيع الكعبة قبل كل شئ , وإعادة بنائها على أساس إبراهيم عليه السلام , تحقيقاً للرغبة النبوية الكريمة المتجلية في هذا الحديث , وإنقاذاً للناس من مشاكل الزحام على باب الكعبة الذي يشاهد في كل عام , ومن سيطرة الحارس على الباب , الذي يمنع من الدخول من شاء ويسمح لمن شاء , من أجل دريهمات معدودات.
قلت: ثم بلغنا أنه تحقق المشروع المذكور , فنقل المقام إلى مكان بعيد عن الكعبة , ولم يبن عليه , وإنما وضع فوقه صندوق بلوري , بحيث يرى المقام من تحته , فلعلهم يحققون أيضاً اقتراحنا هذا , والله الموفق.
من مناسك الحج
239 - (إذا رميتم الجمرة , فقد حل لكم كل شئ إلا النساء).
وفي الحديث دلالة ظاهرة على أن الحاج يحلُّ له بالرمي لجمرة العقبة كل محظور من محظورات الإحرام إلا الوطء للنساء؛ فإنه لا يحل له بالإجماع.
وما دل عليه الحديث عزاه الشوكاني (5/ 60) للحنفية والشافعية والعترة، والمعروف عن الحنفية أن ذلك لا يحلُّ إلا بعد الرمي والحلق، واحتج لهم الطحاوي بحديث عمرة عن عائشة المتقدم وهو مثل حديث ابن عباس هذا، لكن بزيادة (وذبحتم وحلقتم)، وهو ضعيف؛ لا حجة فيه، لا سيما مع مخالفته لحديثها الصحيح (حلّ كل شيء إلا النساء)، الذي احتجت به على قول عمر (إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات، وذبحتم وحلقتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء والطيب)، الموافق لمذهبهم.
نعم؛ ذكر ابن عابدين في "حاشيته" على "البحر الرائق" (2/ 373) عن أبي يوسف ما يوافق ما حكاه الشوكاني عن الحنفية؛ فالظاهر أن في مذهبهم خلافاً، وقول أبي يوسف هو الصواب؛ لموافقته للحديث.
ومن الغرائب قول الصنعاني في شرح حديث عائشة الضعيف: (والظاهر أنه مُجْمَعٌ على حلّ الطيب وغيره ـ إلا الوطء ـ بعد الرمي، وإن لم يحلق). فإن هذا وإن كان هو الصواب؛ فقد خالف فيه عمر وغيره من السلف، وحكى الخلاف فيه غير واحد من أهل العلم؛ منهم ابن رشد في "البداية" (1/ 295)، فأين الإجماع؟!
لكن الصحيح ما أفاده الحديث، وهو مذهب ابن حزم في "المحلى" (7/ 139)، وقال: (وهو قول عائشة وابن الزبير وطاوس وعلقمة وخارجة بن زيد بن ثاب).
كتاب المرأة والنكاح وما يتعلق به و تربية الأولاد
من تربية الأطفال
40 – (إِذَا جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَت سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ).
جنح الليل أي إذا أقبل ظلامه , قال الطيبي (جنح الليل: طائفة منه , وأراد به هنا الطائفة الأولى منه , عند امتداد فحمة العشاء)
استحباب النظر إلى المرأة قبل خطبتها
95 - (انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا , يعني: الصغر).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/396)
أخرجه مسلم , وسعيد بن منصور , والنسائي , والطحاوي , وابن حبان , والدارقطني , والبيهقي , عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً من نساء الأنصار فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا) , والسياق للطحاوي , ولفظ مسلم والبيهقي: (كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا قَالَ لَا قَالَ فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا)
وقد جاء تعليل هذا الأمر في حديث صحيح , وهو:
96 - (انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا).
أخرجه سعيد بن منصور , والنسائي , والترمذي , والدارمي , وابن ماجه , والطحاوي , وابن الجارود , والدارقطني , والبيهقي , وأحمد , وابن عساكر , عن بكر بن عبدالله المزني عن المغيرة بن شعبة: (أنه خطب امرأة , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره) , وزاد أحمد والبيهقي: (فأتيتها وعندها أبواها وهي في خدرها , قال: فقلت: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أنظر إليها , قال: فسكتا , قال فرفعت الجارية جانب الخدر , فقالت:أخرج عليك إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرك أن تنظر , لما نظرت , وإن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمرك أن تنظر , فلا تنظر , قال فنظرت إليها , ثم تزوجتها , فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها , ولقد تزوجت سبعين أو بضعاً وسبعين امرأة).
ومعنى: يُؤْدَمَ , أي تدوم المودة.
قلت: ويجوز النظر إليها , ولو لم تعلم أو تشعر به لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
97 - (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ).
وقد عمل بهذا الحديث بعض الصحابة , وهو محمد بن مسلمة الأنصاري , فقال سهل بن أبي حثمة: (رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك – فوق إجار لها – ببصره طرداً شديداً , فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
98 - (إِذَا أَلْقَي فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا).
وما ترجمنا به للحديث قال به أكثر العلماء , ففي فتح الباري: (وقال الجمهور:يجوز أن ينظر اليها إذا أراد ذلك بغير إذنها , وعن مالك رواية: يشترط إذنها , ونقل الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال , لأنها حينئذ أجنبية , ورد عليهم بالأحاديث المذكورة.
روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن طاوس قال: أردت أن أتزوج امرأة، فقال لي أبي اذهب فانظر إليها فذهبت فغسلت رأسي وترجلت ولبست من صالح ثيابي , فلما رآني في تلك الهيئة , قال لا تذهب.
قلت: ويجوز له أن ينظر منها إلى أكثر من الوجه والكفين , لإطلاق الأحاديث المتقدمة ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
99 - (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ).
والحديث ظاهر الدلالة لما ترجمنا له , وأيده عمل راويه به , وهو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنه , وقد صنع مثله محمد بن مسلمة , كما ذكرناه في الحديث الذي قبله , وكفى بهما حجة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/397)
ولا يضرنا بعد ذلك مذهب من قيد الحديث بالنظر إلى الوجه والكفين فقط , لأنه تقييد للحديث بدون نص مقيد , وتعطيل لفهم الصحابة بدون حجة , لا سيما وقد تأيد بفعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقال الحافظ في التلخيص: (فائدة روى عبد الرزاق (10352) , وسعيد بن منصور في سننه (520 - 521) وابن ابي عمر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن الحنفية: أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم , فذكر له صغرها , [فقيل له: إن ردك فعاوده] , فقال [له علي]: أبعث بها إليك , فإن رضيت فهي امرأتك , فأرسل بها إليه , فكشف عن ساقيها , فقالت لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينك , وهذا يشكل على من قال: إنه لا ينظر غير الوجه والكفين).
قلت: ثم وقفت على إسناده عند عبدالرزاق فتبين أن في القصة انقطاعاً , وأن محمد بن على ليس هو ابن الحنفية , وإنما هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب , أبوجعفر , في بحث أودعته في الضعيفة فراجعه فإنه مهم.
وهذا القول الذي أشار الحافظ إلى استشكاله هو مذهب الحنفية والشافعية , قال ابن القيم في تهذيب السنن: (وقال داود: ينظر إلى سائر جسدها , وعن أحمد ثلاث روايات:
إحداهن: ينظر إلى وجهها ويديها.
والثانية: ينظر ما يظهر غالباً كالرقبة والساقين ونحوهما.
والثالثة: ينظر إليها كلها عورة وغيرها , فإنه نص على أنه يجوز أن ينظر إليها متجردة).
قلت: والرواية الثانية هي الأقرب إلى ظاهر الحديث , وتطبيق الصحابة له , والله أعلم.
وقال ابن قدامة في (المغني): (ووجه جواز النظر [إلى] ما يظهر غالباً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أذن في النظر إليها من غير علمها , علم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادة , إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور , ولأنه يظهر غالباً , فأبيح النظر إليه كالوجه , ولأنها امرأة أبيح له النظر إليها بأمر الشارع , فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم)
ثم وقفت على كتاب (ردود على أباطيل) لفضيلة الشيخ محمد الحامد , فإذا به يقول (ص 43): (فالقول بجواز النظر إلى غير الوجه والكفين من المخطوبة باطل لا يقبل).
وهذه جرأة بالغة من مثله ما كنت أترقب صدورها منه , إذ إن المسألة خلافية كما سبق بيانه , ولا يجوز الجزم ببطلان القول المخالف لمذهبه إلا بالإجابة عن حجته ودليله كهذه الأحاديث , وهو لم يصنع شيئاً من ذلك , بل إنه لم يشر إلى الأحاديث أدنى إشارة , فأوهم القراء أن لا دليل لهذا القول أصلاً , والواقع خلافه كما ترى , فإن هذه الأحاديث بإطلاقها تدل على خلاف ما قال فضيلته , كيف لا وهو مخالف لخصوص قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث – 99 - : (مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا)؟ فإن كل ذي فقه يعلم أنه ليس المراد منه الوجه والكفان فقط , ومثله في الدلالة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث – 97 - : (وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ) وتأيد ذلك بعمل الصحابة رضي الله عنهم , وهم أعلم بسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهم محمد بن مسلمة وجابر بن عبدالله , فإن كلاً منهما تخبأ لخطيبته ليرى منها ما يدعوه إلى نكاحها , أفيظن بهما عاقل أنهما تخبأ للنظر إلى الوجه والكفين فقط؟ ومثل عمر بن الخطاب الذي كشف عن ساقي أم كلثوم بنت علي – إن صح عنه – فهؤلاء ثلاثة من كبار الصحابة – أحدهم الخليفة الراشد – أجازوا النظر إلى أكثر من الوجه والكفين , ولا مخالف لهم من الصحابة فيما أعلم , فلا أدري كيف استجاز مخالفتهم مع هذه الأحاديث الصحيحة؟ وعهدي بأمثال الشيخ أن يقيموا القيامة على من خالف أحداً من الصحابة اتباعاً للسنة الصحيحة , ولو كانت الرواية عنه لا تثبت , كما فعلوا في عدد ركعات التراويح , ومن عجيب أمر الشيخ – عفا الله عنا وعنه – أنه قال في آخر البحث: قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء 59 , فندعو أنفسنا وإياه إلى تحقيق هذه الآية , ورد المسألة إلى السنة بعدما تبينت , والله المستعان , ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/398)
هذا ومع صحة الأحاديث في هذه المسألة , وقول جماهير العلماء بها – على الخلاف السابق - , فقد أعرض كثير من المسلمين في العصور المتأخرة عن العمل بها , فإنهم لا يسمحون للخاطب بالنظر إلى فتاتهم – ولو في حدود القول الضيق – تورعاً منهم – زعموا – ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لا بنته بالخروج إلى الشارع سافرة بغير حجاب شرعي , ثم يأبى أن يراها الخاطب في دارها وبين أهلها بثياب الشارع.
وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لا يغارون على بناتهم – تقليداً منهم لأسيادهم الأوربيين – فيسمحون للمصور أن يصورهن وهن سافرات سفوراً غير مشروع , والمصور رجل أجنبي عنهم , وقد يكون كافراً , ثم يقدمن صورهن إلى بعض الشبان بزعم أنهم يريدون خطبتهن , ثم ينتهي الأمر على غير خطبة , وتظل صور بناتهم معهم ليتغزلوا بها , وليطفئوا حرارة الشباب بالنظر إليها , ألا فتعساً للآباء الذين لا يغارون , وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الزوجة المؤذية ودعاء الحور العين
173 - (لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكَ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا).
دَخِيلٌ , أي: ضيف ونزيل , يعني: هو كالضيف عليك , وأنت لست بأهل له حقيقة , وإنما نحن أهله , فيفارقك قريباً , ويلحق بنا.
يُوشِكُ , أي: يقرب , ويسرع , ويكاد.
في الحديث – كما ترى – إنذار للزوجات المؤذيات.
تعليم المرأة الكتابة
178 - (ارقيه، وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب، وفي رواية الكتابة).
أخرجه الحاكم من طريق: إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان ثنا إسماعيل بن محمد بن سعد أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة القرشي حدثه أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة فدل على أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة فجاءها فسألها أن ترقيه فقالت والله ما رقيت منذ أسلمت فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء فقال اعرضي علي فأعرضتها عليه فقال: (فذكر الحديث).
غريب الحديث:
نملة: هي هنا قروح تخرج في الجنب.
رقية النملة: , قال الشوكاني في تفسيرها (هي كلام كانت نساء العرب تستعمله يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع. ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء يفتعل غير أن لا تعصي الرجل).
كذا قال , ولا أدري ما مستنده في ذلك , ولا سيما وقد بنى قوله الآتي تعليقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: [ألا تعلمين هذه]: (فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا لأنه ألقى إليها سرا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى [وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا] التحريم 3 , وليت شعري , ما علاقة الحديث بالتأنيب لإفشاء السر , وهو يقول: (كما علمتيها الكتاب) فهل يصح تشبيه تعليم رقية لا فائدة منها بتعليم الكتابة؟.
وأيضاً فالحديث صريح في أمره صلى الله عليه وسلم للشفاء بترقية الرجل الأنصاري من النملة , وأمره إياها بأن تعلمها لحفصة , فهل فهل يعقل بأن يأمر صلى الله عليه وسلم بهذا الترقية لو كانت باللفظ الذي ذكره الشوكاني بدون أي سند , وهو بلا شك كما قال: كلام لا يضر ولا ينفع , فالنبي صلى الله عليه وسلم أسمى من أن يأمر بمثل هذه الترقية , ولئن كان لفظ رواية أبي دأود يحتمل تأويل الحديث على التأنيب المزعوم , فإن لفظ الحاكم هذا الذي صدرنا به هذا البحث لا يحتمله إطلاقاً , بل هو دليل صريح على بطلان ذلك التأويل بطلاناً بيناً كما هو ظاهر لا يخفى , وكأنه لذلك صدر ابن الأثير في (النهاية) تفسير الشوكاني المذكور لرقية النملة , وعنه نقله الشوكاني , صدره بقوله (قيل) , مشيراً بذلك إلى ضعف ذلك التفسير , وما بناه عليه من تأويل قوله: (ألا تعلمين).
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة أهمها اثنتان:
الأولى: مشروعية ترقية المرء لغيره بما لا شرك فيه من الرقى , بخلاف طلب الرقية من غيره , فهو مكروه لحديث: (سبقك بها عكاشة) , وهو معروف مشهور.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/399)
والأخرى: مشروعية تعليم المرأة الكتابة , ومن أبواب البخاري في الأداب المفرد: باب الكتابة إلى النساء وجوابهن , ثم روى بسنده الصحيح عن موسى بن عبدالله قال: (حدثتنا عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة – وأنا في حجرها , وكان الناس يأتونها من كل مصر , فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها , وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي , ويكتبون إلي من الأمصار , فأقول لعائشة – ياخالة هذا كتاب فلان وهديته , فتقول لي عائشة: أي بنية , فأجيبيه وأثيبيه , فإن لم يكن عندك ثواب , أعطيتك , فقالت: فتعطيني).
وقال المجد ابن تيمية في منتقى الأخبار عقب الحديث: (وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة).
وتبعه على ذلك الشيخ عبدالرحمن بن محمود البعلبكي الحنبلي في المطلع , ثم الشوكاني في شرحه وقال: (وأما حديث: [لا تعلموهن الكتابة , ولا تسكنوهن الغرف , وعلموهن سورة النور) , فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد).
قلت: وهذا الكلام مردود من وجهين:
الأول: أن الجمع الذي ذكره يشعر أن حديث النهي صحيح , و إلا لما تكلف التوفيق بينه وبين هذا الحديث الصحيح ,وليس كذلك , فإن حديث النهي موضوع كما قال الذهبي , وطرقه كلها واهية جداً , وبيان ذلك في سلسلة الأحاديث الضعيفة , فإذا كان كذلك , فلا حاجة للجمع المذكور , ونحو صنيع الشوكاني هذا قول السخاوي في هذا الحديث الصحيح: (إنه أصح من حديث النهي) , فإنه يوهم أن حديث النهي صحيح أيضاً , أو على الأقل: هو قريب من الصحة.
والآخر: لو كان المراد من حديث النهي من يخشى عليها الفساد من التعليم , لم يكن هنالك فائدة من تخصيص النساء بالنهي , لأن الخشية لا تختص بهن , فكم من رجل كانت الكتابة عليه ضرراً في دينه وخلقه , أفينهى أيضاً الرجال أن يتعلموا الكتابة؟ بل وعن تعلم القراءة أيضاً , لأنها مثل الكتابة من حيث الخشية.
والحق أن الكتابة والقراءة نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على البشر , كما يشير إلى ذلك قوله عز وجل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) العلق1 - 4 , وهي كسائر النعم التي امتن الله بها عليهم , وأراد منهم استعمالها في طاعته , فإذا وجد فيهم من يستعملها في غير مرضاته , فليس ذلك بالذي يخرجها عن كونها نعمة من نعمه , كنعمة البصر والسمع والكلام وغيرها , فكذلك الكتابة والقراءة , فلا ينبغي للآباء أن يحرموا بناتهم من تعلمها , شريطة العناية بتربيتهن على الأخلاق الإسلامية , كما هو الواجب عليهم بالنسبة لأولادهم الذكور أيضاً , فلا فرق في هذا بين الذكور والإناث.
والأصل في ذلك أن كل ما يجب للذكور وجب للإناث , وما يجوز لهم جاز لهن , ولا فرق , كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال) , وهو مخرج في صحيح أبي داود , فلا يجوز التفريق إلا بنص يدل عليه , وهو مفقود فيما نحن فيه , بل النص على خلافه , وعلى وفق الأصل , وهو هذا الحديث الصحيح , فتشبث به , ولا ترض به بديلاً , وتصغ إلى من قال:
ما للنساء وللكتابة والعمالة والخطابة
هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة
فإن فيه هضماً لحق النساء وتحقيراً لهن , وهن كما عرفت شقائق الرجال , نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف والاعتدال في الأمور كلها.
وجه المرأة ليس بعورة والأفضل والأورع ستره
332 – (لقد رأيتنا نصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر في مروطنا , وننصرف وما يعرف بعضنا وجوه بعض).
أخرجه أبو يعلي عن عمرة بنت عبدالرحمن أن عائشة قالت: (فذكره).
والحديث في الصحيحين دون ذكر الوجه , ولذلك أوردته , وهي زيادة مفسرة , لا تعارض رواية الصحيحين , فهي مقبولة.
وهو دليل ظاهر على أن وجه المرأة ليس بعورة , والأدلة على ذلك متكاثرة.
ومعنى كونه ليس بعورة: أنه يجوز كشفه , وإلا , فالأفضل والأورع ستره , لا سيما إذا كان جميلاَ , وأما إذا كان مزيناً , فيجب ستره قولاً واحداً , ومن شاء تفصيل هذا الإجمال , فعليه بكتابنا حجاب المرأة المسلمة , فإنه جمع فأوعى , وقد نشر والحمد لله باسم جلباب المرأة المسلمة , مع مقدمة مفيدة وتحقيقات جديدة.
المرأة أحق بولدها ما لم تزوج
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/400)
368 - (المرأة أحق بولدها ما لم تزوج).
أخرجه الدارقطني من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أمراة خاصمت زوجها في ولدها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذكره).
قال ابن القيم: (ودلّ الحديث على أنه إذا افترق الأبوانِ، وبينهما ولد، فالأمّ أحقُّ به من الأب ما لم يقم بالأمِّ ما يمنعُ تقديمَها، أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفةُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب .... ).
وقد أشار بقوله: " ما يمنع تقديمها ": إلى أنه يشترط في الحاضنة أن تكون مسلمة دينه لأن الحاضن عادة حريص على تربية الطفل على دينه , وأن يربى عليه , فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه , وقد تغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده , فلا يراجعها أبداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة , فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) , فلا يؤمن تهويد الحاضن وتنصيره للطفل المسلم.
وأشار بقوله: (أو بالولد وصف يقتضي تخييره) , إلى أن الصبي إذا كان مميزاً , فيخير , ولا يشمله هذا الحديث , لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه) , وهو حديث صحيح كما بينته في الإرواء.
ومن شاء الاطلاع على الأحكام المستنبطة من هذا الحديث مع البسط والتحقيق , فليرجع إلى كتاب العلامة ابن القيم "زاد المعاد".
من الأدلة على أن وجه المرأة ليس بعورة
441 - (مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ , يعني النساء).
أخرجه أحمد , وأبو نعيم من طريق الطبراني في "الكبير" عَنْ مُعَاوِيَةَ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَرَازِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيَّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَيْءٌ قَالَ أَجَلْ مَرَّتْ بِي فُلَانَةُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي شَهْوَةُ النِّسَاءِ فَأَتَيْتُ بَعْضَ أَزْوَاجِي فَأَصَبْتُهَا فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا فَإِنَّهُ مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ , يعني النساء.
والظاهر من القصة وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أجل ... ): أن المرأة كانت مكشوفة الوجه , فهو من الأدلة الكثيرة على أنه ليس بعورة , وهذا ما كنت حققته في كتابي " حجاب المرأة المسلمة " وقد طبع مرات , ثم زدته تحقيقاً إعداداً له لطبعة جديدة منقحة مزيدة , ثم طبع والحمد لله بعنوان " جلباب المرأة المسلمة " , والله ولي التوفيق.
قدمي المرأة عورة
460 - (جريه شبرا. فقالت [أم سلمة]: إذا تنكشف القدمان! قال: فجريه ذراعا).
أخرجه أبو يعلى في " مسنده ": ثنا إبراهيم بن الحجاج: ثنا حماد عن أيوب عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال في جر الذيل ما قال , قالت: يارسول الله فكيف بنا؟ فقال: (فذكره).
في الحديث دليل على أن قدمي المرأة عورة , وأن ذلك كان أمراً معروفاً عند النساء في عهد النبوة , فإنه لما قال: (جريه شبراً) , قالت أم سلمة: (إذن تنكشف القدمان) , مما يشعر بأنها كانت تعلم أن القدمين عورة , لا يجوز كشفهما , وأقرها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك , ولذلك أمرها أن تجره دراعاً.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذه الحقيقة , وذلك في قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) النور31.
وراجع لهذا كتابنا "جلباب المرأة المسلمة" , بعنوانه الجديد.
لا يجوز للمرأة أن تتصرف بمالها الخاص بها إلا بإذن زوجها
775 - (ليس للمرأة أن تنتهك شيئا من مالها إلا بإذن زوجها).
أخرجه تمام في (الفوائد) (10/ 182/2)، والطبراني (22/ 83/201و85/ 206)، وابن عساكر (4/ 24) من طرق صحيحة عن عنبسة عن حماد مولى بني أمية عن جناح مولى الوليد عن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/401)
قلت: وهذا إسناد ضعيف، حماد مولى بني أمية كأنه مجهول، لم يذكروا فيه شيئاً سوى أن الأزدي تركه، وقد ذكر تمام أن اسم أبيه صالح، وهذه فائدة لم يذكروها في ترجمته، وكذلك لم يذكروا اسم والد شيخه جناح، وقد سماه تمام عباداً، وترجمته ابن أبي حاتم (1/ 1/537) برواية جماعة من الثقات عنه، وأورده ابن حبان في (الثقات) (4/ 118).
وعنبسة بن سعيد، الظاهر أنه أبان ابن سعيد بن العاص أبو خالد الأموي، وثقه الدار قطني.
والحديث عزاه السيوطي للطبراني في ((الكبير)).وقال المناوي:
(قال الهيثمي: وفيه جماعة لم أعرفهم)).
قلت: ما فيهم مجهول سوى حماد، فتنبه.
لكن للحديث شواهد تدل على أنه ثابت، وبعضها حسن لذاته، وهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الحاكم والذهبي.
وروي من حديث عبدا لله بن يحيى الأنصاري عن أبيه عن جده مرفوعاً.
رواه الطحاوي (2/ 403). ومن حديث عبادة بن الصامت.
أخرجه أحمد (5/ 327).
وسيأتي تخريج حديث الأنصاري برقم (820).
ثم وقفت له على شاهد مرسل قوي، ورواه عبد الرزاق (9/ 125/16607) بسند صحيح عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره بنحوه، وسيأتي لفظه (ص473).
ثم روى نحوه عن عكرمة مرسلا بلفظ? (( ... وصية في مالها ... )).
وفيه رجل لم يسم.
قلت: وهذا الحديث-وما أشرنا إليه مما في معناه-يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إلا بإذن زوجها، وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها، ولكن لا ينبغي للزوج-إذا كان مسلماً صادقاً- أن يستغل هذا الحكم-فيتجبر على زوجته ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه، وما أشبه هذا الحق بحق ولي البنت التي لا يجوز لها أن تزوج نفسها بدون إذن وليها، فإذا أعضلها رفعت الأمر إلي القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إذا جار عليها زوجها فمنعها من التصرف المشروع في مالها، فالقاضي ينصفها أيضاً. فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإشكال في سوء التصرف به. فتأمل.
كتاب المرض والطب والعيادة و الجنائز والقبور
ماذا يقول إذا مر بقبر كافر
18 - (حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كافر فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ).
رواه الطبراني عن عامر بن سعد عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن أبي كان يصل الرحم , وكان , وكان , فأين هو؟ قال: في النار. فكأن الأعرابي وجد من ذلك , فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ قال: (فذكره). قال: فأسلم الأعرابي بعد , فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً: ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
وفي هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها عامة كتب الفقه , ألا وهي مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مر بقبره , ولا يخفى ما في هذا التشريع من إيقاظ المؤمن , وتذكيره بخطورة جرم هذا الكافر , حيث ارتكب ذنباً عظيماً تهون ذنوب الدنيا كلها تجاهه ولو اجتمعت , وهو الكفر بالله عز وجل والإشراك به , الذي أبان الله تعالى عن شدة مقته إياه حين استثناه من المغفرة فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء48 , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وقد خلقك) متفق عليه.
وإن الجهل بهذه الفائدة مما أدي ببعض المسلمين إلى الوقوع في خلاف ما أراد الشارع الحكيم منها , فإننا نعلم أن كثيراً من المسلمين يأتون بلاد الكفر لقضاء بعض المصالح الخاصة أو العامة , فلا يكتفون بذلك , حتى يقصدون زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار ويضعون على قبورهم الأزهار والأكاليل , ويقفون أمامها خاشعين محزونين , مما يشعر برضاهم عنهم , وعدم مقتهم إياهم , مع أن الأسوة الحسنة بالأنبياء عليهم السلام تقضي خلاف ذلك , كما في هذا الحديث الصحيح , واسمع قول الله عز وجل: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا) الممتحنة4.
هذا موقفهم منهم وهم أحياء , فكيف وهم أموات؟
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/402)
روى البخاري ومسلم والنسائي وابن حبان و الحميدي وعبدالرزاق عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم لما مر بالحجر:
19 - (لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ , إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ , [و تقنع بردائه وهو على الرحل]).
وقد ترجم لهذا الحديث صديق خان في (نزل الأبرار) (ص 293) (باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم , وإظهار الافتقار إلى الله تعالى , والتحذير من الغفلة عن ذلك).
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا , وأن يلهمنا العمل به , إنه سميع مجيب.
ما لم يعرفه الطب الحديث
37 – (غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ).
أوكوا: أي شدوا رؤوسها بالوكاء , وهو الخيط الذي تشد به القربة ونحوها.
وفي رواية لمسلم وغيره: (غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ وَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً وَلَا يَفْتَحُ بَابًا وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ [يعني الفأر] تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ).
38 - (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ [كله] ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وفي َالْأُخْرَى شِفَاءً).
ورد من حديث أبي هريرة، وابي سعيد الخدري , وأنس بن مالك.
1 - أما حديث ابي هريرة , فله عنه طرق:
الأول: عن عبيد بن حنين قال: سمعت أباهريرة يقول: (فذكره) , أخرجه البخاري , والدارمي , وابن ماجه , وأحمد , وما بين المعكوفتين زيادة له , وهي للبخاري في رواية له.
الثاني: عن سعيد بن أبي سعيد عنه. رواه ابوداود من طريق أحمد وهذا في المسند، والحسن بن عرفة في جزئه , وابن حبان , من طريق محمد بن عجلان عنه به , وزاد: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء , فليغمسه كله).
قلت: واسناده حسن.
الثالث: عن حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبدالله بن أنس عنه به.
أخرجه الدارمي، وأحمد , وسنده صحيح على شرط مسلم , لولا أنه منقطع بين ثمامة وأبي هريرة فإنه لم يدركه، وقال الدارمي عقبه: (قال غير حماد: ثمامة عن أنس , مكان أبي هريرة).
قلت: وهو أصح.
الرابع: عن محمد بن سيرين عنه به , رواه أحمد وسنده صحيح أيضا.
الخامس: عن أبي صالح عنه،رواه أحمد , والفاكهي , بسند حسن.
2 - وأما حديث أبي سعيد الخدري , فلفظه:
39 - (إِنَّ أَحَدَ جَنَاحَيْ الذُّبَابِ سُمٌّ وَالْآخَرَ شِفَاءٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ).
رواه أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ ثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَأَتَانَا بِزُبْدٍ وَكُتْلَةٍ فَأُسْقِطَ ذُبَابٌ فِي الطَّعَامِ فَجَعَلَ أَبُو سَلَمَةَ يَمْقُلُهُ بِأُصْبُعِهِ فِيهِ فَقُلْتُ يَا خَالُ مَا تَصْنَعُ فَقَالَ إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
ورواه ابن ماجه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ به مرفوعا دون القصة.
ورواه الطيالسي , وعنه رواه النسائي وابويعلى وابن حبان.
قلت: وهذا سند صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير سعيد بن خالد – وهو القارظي – وهو صدوق كما قال الذهبي والعسقلاني.
3 - وأما حديث أنس , فرواه البزار من طريق أبي عتاب سهل بن حماد عن عبدلله بن المثنى عن ثمامة عنه.
قلت: وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/403)
وبعد أن ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة عن هؤلاء الصحابة الثلاثة: أبي هريرة , وأبي سعيد الخدري , وأنس , ثبوتاً لا مجال لرده ولا للتشكيك فيه , كما ثبت صدق أبي هريرة رضي الله عنه في روايته إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لبعض غلاة الشيعة من المعاصرين , ومن تبعهم من الزائغين , حيث طعنوا فيه رضي الله عنه لروايته إياه , واتهموه بأنه يكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وحاشاه من ذلك , فهذا هو التحقيق العلمي يثبت أنه برئ من كل ذلك , وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه , لأنهم رموا صحابياً بالبهت , وردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة , وقد رواه عنه جماعة من الصحابة كما علمت.
وليت شعري هل علم هؤلاء بعدم تفرد أبي هريرة بالحديث – وهو حجة ولو تفرد – أم جهلوا ذلك؟
فإن كان الأول , فلماذا يتعللون برواية أبي هريرة إياه , ويوهمون الناس أنه لم يتابعه أحداً من الأصحاب الكرام؟
وإن كان الآخر , فهلا سألوا أهل الاختصاص والعلم بالحديث الشريف؟
وما أحسن ما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة .......... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثم إن كثيراً من الناس يتوهمون أن هذا الحديث يخالف ما يقرره الأطباء , وهو أن الذباب يحمل بأطرافه الجراثيم , فإذا وقع في الطعام أو في الشراب , علقت به تلك الجراثيم.
والحقيقة أن الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك , بل هو يؤيدهم , إذ يخبر أن في أحد جناحيه داء , ولكنه يزيد عليهم فيقول (و فِي الْأُخْرَى شِفَاءً) , فهذا مما لم يحيطوا بعلمه , فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين , وإلا , فالتوقف إذا كان من غيرهم إن كانوا عقلاء علماء، ذلك لأن العلم الصحيح يشهد أن عدم العلم بالشئ لا يستلزم العلم بعدمه.
نقول ذلك على افتراض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة , وقد اختلفت آراء الأطباء حوله , وقرأت مقالات كثيرة في مجلات مختلفة , كل يؤيد ما ذهب إليه تأييداً أو رداً.
ونحن , بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث , وأن النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم 3 , لا يهمنا كثيراً ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب , لأن الحديث برهان قائم في نفسه , لا يحتاج إلى دعم خارجي.
ومع ذلك , فإن النفس تزداد إيماناً حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلم الصحيح , ولذلك فلا يخلو من فائدة أن أنقل إلى القراء خلاصة محاضرة ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية الإسلامية في مصر حول هذا الحديث , قال:
(يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة , فينقل بعضها بأطرافه , ويأكل بعضاً , فيتكون في جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب (مبعد البكتيريا) , وهي تقتل كثيراً من جراثيم الأمراض , ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية , أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود (مبعد البكتيريا) , وإن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب , هي أنه يحول البكتيريا إلى ناحيته , وعلى هذا , فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام , وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب , فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم , وأول واقٍ منها هو (مبعد البكتيريا) الذي يحمله الذباب في جوفه قريباً من أحد جناحيه , فإذا كان هناك داء , فدواؤه قريب منه , وغمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة , وكاف في إبطال عملها).
وقد قرأت قديماً في هذه المجلة بحثاً ضافياً في هذا المعنى للطبيب الأستاذ سعيد السيوطي (مجلد العام الأول) , وقرأت في مجلد العام الفائت (503) كلمة للطبيبن محمود كمال ومحمد عبدالمنعم حسين , نقلاً عن (مجلة الأزهر).
ثم وقفت على العدد (82) من (مجلة العربي) الكويتية (144) تحت عنوان: (أنت تسأل ونحن نجيب) بقلم المدعو عبدالوارث الكبير , جواباً على سؤال عما لهذا الحديث من الصحة والضعف؟ فقال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/404)
(أما حديث الذباب , وما في جناحيه من داء وشفاء , فحديث ضعيف , بل هو عقلاً حديث مفترى , فمن المسلم به أن الذباب يحمل الجراثيم والأقذار .......... ولم يقل أحد قط: إن في جناحي الذبابة داء وفي الآخر شفاء , إلا من وضع هذا الحديث أو افتراه , ولو صح ذلك , لكشف عنه العلم الحديث الذي يقطع بمضار الذباب ويحض على مكافحته).
وفي الكلام – على اختصاره – من الدس والجهل ما لا بد من الكشف عنه , دفاعاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وصيانة له من أن يكفر به من قد يغتر بزخرف القول , فأقول:
أولاً: لقد زعم أن الحديث ضعيف , يعني: من الناحية العلمية الحديثية , بدليل قوله: (بل هو عقلاً حديث مفترى) , وهذا الزعم واضح البطلان , تعرف ذلك مما سبق تخريج الحديث من طرق ثلاث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم , وكلها صحيحة , وحسبك دليلاً على ذلك أن أحداً من أهل العلم لم يقل بضعف الحديث , كما فعل هذا الكاتب الجرئ.
ثانياً: لقد زعم أنه حديث مفترى عقلاً , وهذا الزعم ليس وضوح بطلانه بأقل من سابقه , لأنه مجرد دعوى , لم يسق دليلاً يؤيده به سوى الجهل بالعلم الذي لا يمكن الإحاطة به , أليست تراه يقول (ولم يقل أحد ....... ولو صح , لكشف عنه العلم الحديث .. )؟ , فهل العلم الحديث – أيها المسكين – قد أحاط بكل شئ علما ً , أم أن أهله الذين لم يصابوا بالغرور – كما أصيب من يقلدهم منا – يقولون: إننا كلما ازددنا علماً بما في الكون وأسراره , أزددنا معرفة بجهلنا , وأن الأمر بحق كما قال الله تبارك وتعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
وأما قوله: (إن العلم يقطع بمضار الذباب ويحض على مكافحته) , فمغالطة مكشوفة , لأننا نقول: إن الحديث لم يقل نقيض هذا , وإنما تحدث عن قضية أخرى لم يكن العلم يعرف معالجتها , فإذا قال الحديث: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ .... ) , فلا أحد يفهم – لا من العرب ولا من العجم , اللهم إلا العجم في عقولهم وأفهامهم – أن الشرع يبارك في الذباب ولا يكافحه.
ثالثاً: قد نقلنا لك فيما سبق ما أثبته الطب اليوم , من أن الذباب يحمل في جوفه ما سموه (مبعد البكتيريا) القاتل للجراثيم , وهذا وإن لم يكن موافقاً لما في الحديث على وجه التفصيل , فهو في الجملة موافق لما استنكره الكاتب المشار إليه وأمثاله من اجتماع الداء والدواء في الذباب , ولا يبعد أن يأتى يوم تنجلي فيه معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبوت التفاصيل المشار إليها علمياً (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ص 88.
وإن من عجيب أمر هذا الكاتب وتناقضه , أنه في الوقت الذي ذهب فيه إلى تضعيف هذا الحديث ذهب إلى تصحيح الحديث (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) , فقال: (حديث صحيح متفق عليه).
فإنه إذا كانت صحته جاءت من اتفاق العلماء أو الشيخين على صحته , فالحديث الأول صحيح عند العلماء بدون خلاف بينهم , فكيف جاز له تضعيف هذا وتصحيح ذاك؟
ثم تأوله تأويلاً باطلاً يؤدي إلى أن الحديث غير صحيح عنده في معناه , لأنه ذكر أن المقصود من العدد مجرد الكثرة , وأن المقصود من التراب هو استعمال مادة مع الماء من شأنها إزالة ذلك الأثر , وهذا تأويل باطل بين البطلان , وإن كان عزه للشيخ محمود شلتوت عفا الله عنه.
فلا أدري أي خطأيه أعظم؟ أهو تضعيفه للحديث الأول وهو صحيح؟ أم تأويله للحديث الآخر وهو تأويل باطل؟.
وبهذه المناسبة فإني أنصح القراء الكرام بأن لا يثقوا بكل ما يكتب اليوم في بعض المجلات السائرة , أو الكتب الذائعة , من البحوث الإسلامية – وخصوصاً ما كان منها في علم الحديث – إلا إذا كانت بقلم من يوثق بدينه أولاً , ثم بعلمه واختصاصه فيه ثانياً , فقد غلب الغرور على كثير من كتاب العصر الحاضر وخصوصاً من يحمل منهم لقب (الدكتور) فإنهم يكتبون فيما ليس من اختصاصهم , وما لا علم لهم به , وإني لأعرف واحداً من هؤلاء أخرج حديثاً إلى الناس كتاباً جله في الحديث والسيرة , وزعم فيه أنه أعتمد فيه على ماصح من الأحاديث والأخبار في كتب السنة والسيرة , ثم هو أورد فيه من الرويات والأحاديث ما تفرد به الضعفاء والمتروكون والمتهمون بالكذب من الرواة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/405)
, كالواقدي وغيره , بل أورد فيه حديث (نحن نحكم بالظاهر , والله يتولى السرائر) , وجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم , مع أنه مما لا أصل له عنه بهذا اللفظ , كما نبه عليه حفاظ الحديث , كالسخاوي وغيره.
فاحذروا أيها القراء , أمثال هؤلاء , والله المستعان.
من الطب النبوي
56 - (كَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ).
57 - (كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، [فَيَقُولُ نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا]).
قال ابن القيم في (زاد المعاد) (3/ 175) بعد أن ذكره بالزيادة:
(وفى البِطِّيخ عدةُ أحاديث لا يَصِحُّ منها شىء غيرُ هذا الحديث الواحد، والمرادُ به الأخضر، وهو باردٌ رطب، وفيه جِلاءٌ، وهو أسرعُ انحداراً عن المَعِدَة من القِثَّاء والخيار، وهو سريعُ الاستحالة إلى أى خلط كان صادفه فى المَعِدَة، وإذا كان آكَلُهُ مَحْرُوراً انتفع به جداً، وإن كان مَبْروداً دفع ضررُه بيسير من الزَّنْجَبيل ونحوه، وينبغى أكلُه قبل الطعام، ويُتْبَعُ به، وإلاّ غَثَّى وقيَّأَ. وقال بعض الأطباء: إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلاً، ويُذهب بالداء أصلاً).
وهذا الذي عزاه لبعض الأطباء قد روي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكنه لا يصح , وقد سبق الكلام عليه في (الأحاديث الضعيفة) (رقم 144) , فليراجعه من شاء.
وقوله: (المراد به الأخضر): هو الظاهر من الحديث , ولكن الحافظ رده في (الفتح) وذكر أن المراد به الأصفر , واحتج بالحديث الآتي , ويأتي الجواب عنه فيه وهو:
58 - (كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبِ مع الْخِرْبِزِ , يعني: الْبِطِّيخَ).
قال النسائي:
(و الْخِرْبِزِ: وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي: نوع من البطيخ الأصفر , وقد تكبر القثاء فتصفر من شدة الحر فتصير كالخربز , كما شاهدته كذلك بالحجاز.
وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر , واعتل بأن الأصفر حرارة كما في الرطب , وقد ورد التعليل بأن أحداهما يطفئ حرارة الآخر.
والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة , وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة , والله أعلم).
أقول: وفي هذا التعقيب نظر عندي , ذلك لأن الحديثين مختلفا المخرج , فالأول من حديث عائشة , وهذا من حديث أنس , فلا يلزم تفسير أحداهما بالآخر , لاحتمال التعدد والمغايرة , ولا سيما أن في الأول تلك الزيادة (نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا) , ولا يظهر هذا المعنى تمام الظهور بالنسبة إلى الخربز , ما دام أنه يشابه الرطب في الحرارة , والله أعلم.
ومن فوائد الحديث:
قال الخطيب في (الفقيه والمتفقه) (79/ 1 - 2) بعد أن ساق إسناده إلى عبدالله بن جعفر:
(في هذا الحديث من الفوائد: أن قوماً ممن سلك طريق الصلاح والتزهد قالوا: لا يحل الأكل تلذذاً , ولا على سبيل التشهي والإعجاب , ولا يأكل إلا ما لا بد منه لإقامة الرمق , فلما جاء هذا الحديث , سقط قول هذه الطائفة , وصلح أن يأكل الأكل تشهياً وتفكهاً وتلذذاً.
وقالت طائفة من هؤلاء: إنه ليس لأحد أن يجمع بين شيئين من الطعام , ولا بين أدمين على خوان , فهذا الحديث أيضاً يرد على صاحب هذا القول , ويبيح أن يجمع الإنسان بين لونين وبين أدمين فأكثر).
قلت: ولا يعدم هؤلاء بعض أحاديث يستدلون بها لقولهم , ولكنها أحاديث واهية , وقد ذكرت طائفة منها في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 241و257).
59 - (يَا عَلِيُّ أَصِبْ مِنْ هَذَا فَهُوَ أَنْفَعُ لَكَ).
رواه أبو داود , والترمذي , وابن ماجه , وأحمد , وابن أبي شيبة , والطبراني , والخطيب , من طريق فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَامَ عَلِيٌّ لِيَأْكُلَ فَطَفِقَ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/406)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ مَهْ إِنَّكَ نَاقِهٌ حَتَّى كَفَّ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَتْ وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
قال ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) (3/ 97) بعد أن ساق الحديث:
(واعلم أنَّ فى منع النبىِّ صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ من الأكل من الدَّوالى، وهو ناقِهٌ أحسنَ التدبير، فإنَّ الدَّوالىَ أَقْنَاءٌ من الرُّطَبُ تعُلَّقُ فى البيت للأكل بمنزلة عناقيدِ العِنَب، والفاكهةُ تضرُّ بالناقِه من المرض لسُرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن قُوَّتها، وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلَّة، وإزالتها مِن البدن.
وفى الرُّطَبِ خاصةً نوع ثقلٍ على المَعِدَة، فتشتغل بمعالجتِه وإصلاحه عما هى بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك البقية، وإما أن تتزايدَ، فلمَّا وُضع بين يديه السِّلْقُ والشعيرُ، أمره أن يُصيب منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقِه، ولا سِيَّما إذا طُبِخَ بأُصول السَّلق، فهذا مِن أوفق الغذاء لمن فى مَعِدَتِهِ ضعفٌ، ولا يتولَّد عنه من الأخلاط ما يُخاف منه).
من أشد الناس بلاءً؟
143 - (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ [وفي رواية: قدر] دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
رواه الترمذي , وابن ماجه، والدارمي , والطحاوي , وابن حبان , والحاكم , وأحمد , والضياء من طريق عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ (فذكره).
وله شاهد بلفظ:
144 - (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ التي يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ).
أخرجه ابن ماجه , وابن سعد , والحاكم من طريق هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ ... ) الحديث.
وله شاهد آخر مختصر وهو:
145 - (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).
رواه أحمد والمحاملي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/407)
وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيماناً , ازداد ابتلاءً وامتحاناً , والعكس بالعكس , ففيها رد على ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء , كالحبس أو الطرد أو الإقالة من الوظيفة ونحوها , أن ذلك دليل على أن المومن غير مرضي عند الله تعالى , وهو ظن باطل , فهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفضل البشر , كان أشد الناس – حتى الأنبياء – بلاء , فالبلاء غالباً دليل خير وليس نذير شر كما يدل على ذلك أيضاً الحديث الآتي:
146 - (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).
وهذا الحديث يدل على أمر زائد على ما سبق , وهو أن البلاء إنما يكون خيراً , وأن صاحبه يكون محبوباً عند الله تعالى إذا صبر على بلاء الله تعالى , ورضي بقضاء الله عز وجل.
ويشهد لذلك الحديث الآتي:
147 - (عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ إِلَّا الْمُؤْمِنُ).
أخرجه الدارمي , وأحمد عن حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ فَقَالَ أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِمَّ تَضْحَكُ قَالَ (فذكره).
وله شاهد آخر مختصر بلفظ:
148 - (عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ).
للمسلم أن يتولى دفن قريبه المشرك
161 - (اذهب فوار أباك [يعني: عليا رضي الله عنه] قال: [لا أواريه]؛ [إنه مات مشركا] [فقال: اذهب فواره] ثم لا تحدثن [حدثا] حتى تأتيني. فذهبت فواريته، وجئته [وعلي أثر التراب والغبار]، فأمرني فاغتسلت، ودعا لي [بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء]).
أخرجه أبو داود , والنسائي , و وابن سعد , وابن أبي شيبة , وابن الجارود , والطيالسي , والبيهقي , وأحمد , وأبومحمد الخلدي من طرق عن أَبُي إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قد مَاتَ, [فَمَنْ يُوَارِيهِ؟] قَالَ: (فذكره).
من فوائد الحديث:
1 - أنه يشرع للمسلم أن يتولى دفن قريبه المشرك , وأن ذلك لا ينافي بغضه إياه لشركه , ألا ترى أن علياً رضي الله عنه امتنع أول الأمر من مواراة أبيه , معللاً ذلك بقوله (إنه مات مشركا) , ظناً منه أن دفنه مع هذه الحالة قد يدخله في التولي الممنوع في مثل قوله تعالى: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) الممتحنة 13، فلما أعاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه الأمر بمواراته , بادرا لأمتثاله , وترك ما بدا له أول الأمر , , وكذلك تكون الطاعة: أن يترك المرء رأيه لأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويبدو لي أن دفن الولد لأبيه المشرك أو أمه هو آخر ما يملكه الولد من حسن صحبة الوالد المشرك في الدنيا , وأما بعد الدفن , فليس له أن يدعو له أو يستغفر له , لصريح قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) التوبة 113 , وإذا كان الأمر كذلك , فما هو حال من يدعو بالرحمة والمغفرة على صفحات الجرائد والمجلات لبعض الكفار في إعلانات الوفيات من أجل دريهمات معدودات فليتق الله من كان يهمه أمر آخرته.
2 - أنه لا يشرع له غسل الكافر ولا تكفينه ولا الصلاة عليه ولو كان قريبه , لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لم يأمر بذلك علياً , ولو كان جائزاً لبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , وهذا مذهب الحنابلة وغيرهم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/408)
3 - أنه لا يشرع لأقارب المشرك أن يتبعوا جنازته , لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك مع عمه , وقد كان أبر الناس به وأشفقهم عليه , حتى أنه دعا الله له حتى جعل عذابه أخف عذاب في النار كما في الحديث – 53 - , وفي ذلك كله عبرة لمن يغترون بأنسابهم , ولا يعملون لآخرتهم عند ربهم , وصدق الله العضيم إذ يقول: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). المؤمنون 101.
من فوائد العسل
243 - (صدق الله وكذب بطن أخيك).
أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال: أن أخي استطلق بطنه , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسقه عسلاً , فسقاه , ثم جاء فقال: إني سقيته عسلاً , فلم يزده إلا استطلاقاً , فقال له ثلاث مرات , ثم جاءه الرابعة فقال اسقه عسلاً , فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره) , فسقاه , فبرأ.
قال ابن القيم بعد أن ذكر كثيراً من فوائد العسل: (فهذا الذى وصف له النبىُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل، كان استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة في نواحى المَعِدَةَ والأمعاء، فإن العسلَ فيه جِلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها، فإن المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة، أفسدتها وأفسدت الغِذاء، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط، والعسلُ مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار. وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع، وهو أن الدواءَ يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يُزله بالكلية، وإن جاوزه، أوهن القُوى، فأحدث ضرراً آخر، فلما أمره أن يسقيَه العسل، سقاه مقداراً لا يفى بمقاومة الداءِ، ولا يبلُغ الغرضَ، فلما أخبره، علم أنَّ الذى سقاه لا يبلُغ مقدار الحاجة، فلما تكرر تردادُه إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء، بَرَأ، بإذن الله، واعتبار مقاديرِ الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب. قوله صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ)، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء في نفسه، ولكنْ لكَذِب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طِبُّه صلى الله عليه وسلم كطِبِّ الأطباء، فإن طبَّ النبي صلى الله عليه وسلم متيقَّنٌ قطعي إلهي، صادرٌ عن الوحي، ومِشْكاةِ النبوة، وكمالِ العقل. وطبُّ غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون، وتجارِب، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبِّ النبوة، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآنُ الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يُتلقَّ هذا التلقي لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها، بل لا يزيدُ المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه، فطِب النبوةِ لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخُبثِ الطبيعة، وفساد المحل، وعدمِ قبوله .. والله الموفق).
فضل الزيت
379 - (كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة).
يكفي في فضل الزيت قول الله تعالى (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) النور35.
وللزيت فوائد هامة , ذكر بعضها العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " , فمن شاء رجع إليه.
مشروعية تلقين المحتضر شهادة التوحيد
467 - (أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها , ولقنوها موتاكم).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/409)
في الحديث مشروعية تلقين المحتضر شهادة التوحيد , رجاء أن يقولها فيفلح , والمراد بـ (موتاكم): من حضره الموت , لأنه لا يزال في دار التكليف , ومن الممكن أن يستفيد من تلقينه , فيتذكر الشهادة ويقولها , فيكون من أهل الجنة , وأما تلقينه بعد الموت , فمع أنه بدعة لم ترد في السنة , فلا فائدة منه , لأنه خرج من دار التكليف إلى دار الجزاء , ولأنه غير قابل للتذكر , (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) يس 70.
وصورة التلقين أن يؤمر بالشهادة , وما يذكر في بعض الكتب أنها تذكر عنده ولا يؤمر بها خلاف سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كما حققته في "كتاب الجنائز" فراجعه.
حقيقة حياة الأنبياء في قبورهم
621 - (الأنبياء – صلوات الله عليهم – أحياء في قبورهم يصلون).
اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية , ليست من حياة الدنيا في شيء , ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها , ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا.
هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء , كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره حقيقية , قال: يأكل ويشرب ويجامع نساءه , وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى.
فر من المجذوم فرارك من الأسد
971 - (لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ).
أخرجه البخاري (10/ 198و200)، ومسلم (7/ 32)، وأبو داود (2/ 158)، والطحاوي (2/ 275)، وفي ((المشكل)) (2/ 262)، وأحمد (2/ 406) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً به.
وقد تابعه محمد بن عمرو: ثني ابوسلمة به.
أخرجه ابن ماجه (2/ 363)، وأحمد (2/ 434).
وفي معناه قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم:
((إنا قد بايعناك فارجع))، وسيأتي برقم (1968).
(الممرض): هو الذي له أبل مرضى.
و (المصح): من له أبل صحاح.
واعلم أنه لا تعارض بين هذين الحديثين وبين أحاديث ((لا عدوى ... )) المتقدمة برقم (781 - 789)؛لأن المقصود بهما إثبات العدوى، وأنها تنتقل بإذن الله تعالى من المريض إلى السليم، والمراد بتلك الأحاديث نفي العدوى التي كان أهل الجاهلية يعتقدونها، وهي انتقالها بنفسها دون النظر إلي المشيئة الله في ذلك؛ كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ((فمن أعدى الأول؟)). فقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر الأعرابي بهذا القول الكريم إلي المسبب الأول؛ ألا وهو الله عز وجل، ولم ينكر عليه قوله: ((ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء؛ فيخالطها الأجرب فيخربها))؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم أقره على هذا الذي كان يشاهده، وإنما أنكر عليه عند هذا الظاهر فقط بقوله له? (فمن أعدى الأول؟)).
وجملة القول: إن الحديثين يثبتان العدوى، وهي ثابتة تجربة ومشاهدة. والأحاديث الأخرى لا تنفيها؛ وإنما تنفي عدوى مقرونة بالغفلة عن الله تعالى الخالق لها. وما أشبه اليوم بالبارحة فإن الأطباء الأوروبيين في أشد الغفلة عنه تعالى؛ لشركهم وضلالهم، وإيمانهم بالعدوى على الطريقة الجاهلية فلهؤلاء يقال: ((فمن أعدى الأول)) فأما المؤمن الغافل عن الأخذ بالأسباب؛ فهو يذكر بها، ويقال له كما في حديث الترجمة: ((لا يورد الممرض على المصح)) أخذاً بالأسباب التي خلقها الله تعالى، وكما في بعض الأحاديث المتقدمة: ((وفر من المجذوم فرارك من الأسد)).
هذا هو الذي يظهر لي من الجمع هذه الأخبار، وقد قيل غير ذلك مما هو مذكور في ((الفتح)) وغيره. والله أعلم
كتاب التاريخ والسيرة وفضائل الصحابة
معاوية كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
82 - (لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ يعني: مُعَاوِيَةَ).
رواه أبوداود الطيالسي في (مسنده) حدثنا هشام وأبوعوانة عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس: (أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى معاوية ليكتب له , فقال: إنه يأكل , ثم بعث إليه , فقال: إنه يأكل , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/410)
وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث , ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه , وليس فيه ما يساعدهم على ذلك , كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولذلك قال الحافظ ابن عساكر: (إنه أصح ما ورد في فضل معاوية).
فالظاهر أن هذا الدعاء منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مقصود , بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية , كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض نسائه: (عقرى حلقى) , و (تربت يمينك) , وقوله في حديث أنس الآتي (لا كبر سنك).
ويمكن أن يكون ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متوترة , منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ قَالَ وَمَا ذَاكِ قَالَتْ قُلْتُ لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا قَالَ:
83 - (أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا)
رواه مسلم مع الحديث الذي قبله في باب واحد , وهو (باب من لعنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك , كان له زكاة وأجراً ورحمة) , ثم ساق فيه من حديث أنس بن مالك قال: (كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ فَقَالَ آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ لَا كَبِرَ سِنُّكِ فَرَجَعَتْ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ قَالَتْ الْجَارِيَةُ دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي أبداً أَوْ قَالَتْ قَرْنِي فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:
84 - (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟).
ثم أتبع الإمام مسلم هذا الحديث بحديث معاوية , وبه ختم الباب , إشارة منه رحمه الله إلى أنها من باب واحد , وفي معنى واحد , فكما لا يضر اليتيمة دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها – بل هو لها زكاة وقربة – فكذلك دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاوية.
وقد قال الإمام النووي في (شرحه على مسلم): (وأما دعاؤه على معاوية , ففيه جوابان:
أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد.
والثاني: أنه عقوبة له لتأخره , وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه , فلهذا أدخله في هذا الباب , وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له).
وقد أشار الذهبي إلى هذا المعنى الثاني , فقال في (سير أعلام النبلاء): (قلت: لعل أن يقال هذه منقبة لمعاوية , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم من لعنته أو سببته , فأجعل ذلك له زكاة ورحمة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/411)
واعلم أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحاديث: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ .... ) , إنما هو تفصيل لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ .... ) الآية 110 الكهف.
وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء إلى إنكار مثل هذا الحديث , بزعم تعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتنزيهه عن النطق به , ولا مجال إلى مثل هذا الإنكار , فإن الحديث صحيح , بل هو عندنا متواتر , فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرنا , ومن حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما , وورد من حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي الطفيل وأبي سعيد وغيرهم , انظر (كنز العمال 2/ 124).
وتعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيماً مشروعاً , إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحاً ثابتاً , وبذلك يجتمع الإيمان به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً ورسولاً , دون إفراط ولا تفريط , فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بشهادة الكتاب والسنة , ولكنه سيد البشر وأفضلهم إطلاقاً بنص الأحاديث الصحيحة , وكما يدل عليه تاريخ حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته , وما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة التي لم تكتمل في بشر اكتمالها فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وصدق الله العظيم إذ خاطبه بقوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم 4.
ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة
92 - (ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس).
رواه أبو جعفر البختري , وابن عساكر من طريق أبي يعلى وغيره كلاهما عن يونس بن بكير: نا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة: حدثني عقيل بن أبي طالب قال: (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا , فانهه عن أذانا , فقال: ياعقيل أئتني بمحمد , فذهبت فأتيته به , فقال: يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم , فانته عن ذلك , قال: فلحظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره [وفي رواية: فحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره] إلى السماء , فقال: ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس قال: فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي , فارجعوا) , إسناده حسن.
وأما حديث (يا عم , والله لو وضعوا الشمس في يميني , والقمر في يساري , على أن أترك هذا الأمر , حتى يظهره الله أو أهلك دونه , ما تركته) , فليس له إسناد ثابت ولذلك أوردته في الأحاديث الضعيفة.
من فضائل طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه
125 - (من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة).
أخرجه أبن سعد في الطبقات , أخبرنا سعيد بن مسعود قال: نا صالح بن موسي عن معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: إني لفي بيتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالفناء , وبيني وبينهم الستر , أقبل طلحة بن عبيد الله , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
126 - (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ).
وفي الحديث إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23 , وفيه منقبة عظيمة لطلحة بن عبيدالله رضي الله عنه , حيث أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ممن قضى نحبه , مع أنه لا يزال حياً ينتظر الوفاء بما عاهد الله عليه.
قال ابن الأثير في النهاية: (النحب: النذر , كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب , فوفى به , وقيل: النحب الموت , كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت).
وقد قتل رضي الله عنه يوم الجمل , فويل لمن قتله.
وصية نوح عليه السلام
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/412)
134 - (إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً إلا قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ قَالَ قُلْتُ أَوْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الشِّرْكُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْكِبْرُ قَالَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ قَالَ لَا قَالَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ قَالَ لَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ قَالَ سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ).
رواه البخاري في الأداب المفرد , وأحمد , والبيهقي , من طريق الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ حَمَّادٌ أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ سِيجَانٍ مَزْرُورَةٌ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَ أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ قَالَ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ وَيَرْفَعَ كُلَّ رَاعٍ ابْنِ رَاعٍ قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ وَقَالَ أَلَا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ قَالَ: (فذكره).
غريب الحديث:
مُبْهَمَةً , أي محرمة مغلقة كما يدل عليه السياق , ولم يورد هذه اللفظة من الحديث ابن الأثير في النهاية , ولا الشيخ محمد طاهر الهندي في مجمع بحار الأنوار) وهي من شرطهما.
قَصَمَتْهُنَّ. وفي رواية: فصمتهن , بالفاء , قال ابن الأثير: القصم: كسر الشئ وإبانته , وبالفاء: كسره من غير إبانة.
قلت: فهو بالفاء أليق بالمعنى , والله أعلم.
سَفَهُ الْحَقِّ , أي: جهله , وإلاستخفاف به , وأن لا يراه على ما هو عليه من الرجحان والرزانة , وفي حديث لمسلم: (بطر الحق) , والمعنى واحد.
غَمْصُ النَّاسِ , أي احتقارهم , والطعن فيهم , والاستخفاف بهم , وفي الحديث الآخر (غمط الناس) , والمعنى واحد أيضاً.
فوائد الحديث:
وفيه فوائد كثيرة , أكتفي بالإشارة إلى بعضها:
1 - مشروعية الوصية عند الوفاة.
2 - فضيلة التهليل والتسبيح , وأنها سبب رزق الخلق.
3 - وأن الميزان يوم القيامة حق ثابت وله كفتان , وهو من عقائد أهل السنة , خلافاً للمعتزلة وأتباعهم في العصر الحاضر ممن لا يعتقد ما ثبت من العقائد في الأحاديث الصحيحة , بزعم أنها أخبار آحاد لا تفيد اليقين , وقد بينت بطلان هذا الزعم في كتابي (مع الأستاذ الطنطاوي) يسر الله إتمامه.
4 - وأن الأرضين سبع كالسماوات وفيه أحاديث كثيرة في (الصحيحين) وغيرهما , ولعلنا نتفرغ لتتبعها وتخريجها , ويشهد لها قول الله تبارك وتعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الطلاق 12 , أي في الخلق والعدد , فلا تلتفت إلى من يفسرها بما يؤول إلى نفي المثلية في العدد أيضاً , اغتراراً بما وصل إليه علم الأوروبيين من الرقي , وأنهم لا يعلمون سبع أرضين , مع أنهم لا يعلمون سبع سماوات أيضاً , أفننكر كلام الله وكلام رسوله بجهل الأوروبيين وغيرهم , مع اعترافهم أنهم كلما ازدادوا علماً بالكون , أزدادوا علماً بجهلهم به , وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء 85.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/413)
5 - أن التجمل باللباس الحسن ليس من الكبر في شيء , بل هو أمر مشروع , لأن الله جميل يحب الجمال , كما قال عليه السلام بمثل هذه المناسبة على ما رواه مسلم في صحيحه.
6 - أن الكبر الذي قرن مع الشرك , والذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه , إنما هو الكبر على الحق , ورفضه بعد تبينه , والطعن في الناس الأبرياء بغير حق.
فليحذر المسلم أن يتصف بشئ من مثل هذا الكبر , كما يحذر أن يتصف بشئ من الشرك الذي يخلد صاحبه في النار.
دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس
140 - (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا رزقته).
أخرجه الطاليسي في مسنده: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قال: سمعت أَنَساً يقول قَالَتْ أُمِّ سليم: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَهُ – تعني: أنساً – فقال (فذكره).
وللحديث طريق أخر: قال أحمد حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى أُمَّ حَرَامٍ فَأَتَيْنَاهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ فَقَالَ:
141 - (رُدُّوا هَذَا فِي وِعَائِهِ وَهَذَا فِي سِقَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ).
قَالَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَأَقَامَ أُمَّ حَرَامٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فِيمَا يَحْسَبُ ثَابِتٌ قَالَ فَصَلَّى بِنَا تَطَوُّعًا عَلَى بِسَاطٍ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ فَمَا تَرَكَ يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ إِلَّا دَعَا لِي بِهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ قَالَ أَنَسٌ فَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَنِّي قَدْ رزقت مِنْ صُلْبِي بِضْعًا وَتِسْعِينَ وَمَا أَصْبَحَ فِي الْأَنْصَارِ رَجُلٌ أَكْثَرَ مِنِّي مَالًا ثُمَّ قَالَ أَنَسٌ يَا ثَابِتُ مَا أَمْلِكُ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا خَاتَمِي.
من فوائد الحديث وفقهه:
في هذا الحديث فوائد جمة , أذكر بعضها باختصار , إلا ما لا بد فيه من الإطالة للبيان:
1 - أن الدعاء بكثرة المال والولد مشروع , وقد ترجم البخاري للحديث: (باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة).
2 - وأن المال والولد نعمة وخير إذا أطيع الله تبارك وتعالى فيهما , فما أضل من يسعى لتقليل ولده بشتى السبل , كتحديد النسل أو تنظيمه , فضلاً عن إجهاض الجنين وإسقاطه لأتفه الأسباب , واستصدار الفتاوى لتجويزه.
3 - تحقق استجابة الله لدعاء نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنس , حتى صار أكثر الأنصار مالاً وولداً.
4 - أن للصائم المتطوع إذا زار قوماً وقدموا له طعاماً أن لا يفطر , ولكن يدعو لهم بخير , ومن أبواب البخاري في الحديث (باب من زار قوماً ولم يفطر عندهم).
5 - أن الرجل إذا ائتم بالرجل , وقف عن يمين الإمام , والظاهر أنه يقف محاذياً له , لا يتقدم عليه ولا يتأخر , لأنه لو كان وقع شئ من ذلك لنقله الراوي , لا سيما وأن الاقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفراد الصحابة قد تكرر , فإن في الباب عن ابن عباس في الصحيحين , وعن جابر في مسلم , وقد خرجت حديثهما في إرواء الغليل , وقد ترجم البخاري لحديث ابن عباس رصي الله عنه بقوله: (بَاب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ).
قال الحافظ في الفتح: قوله: (سواء) أي لا يتقدم ولا يتأخر .... وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه .. عن ابن عباس بلفظ " فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذى به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال " دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح , فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه ").
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/414)
قلت: وهذا الأثر في الموطأ بإسناد صحيح عن عمررضي الله عنه , فهو مع الأحاديث المذكورة حجة قوية على المساواة المذكورة.
فالقول باستحباب أن يقف المأموم دون الإمام قليلاً , كما جاء في بعض المذاهب , على تفصيل في ذلك لبعضها , مع أنه مما لا دليل عليه في السنة , فهو مخالف لظواهر هذه الأحاديث , وأثر عمر هذا , وقول عطاء المذكور , وهو الإمام التابعي الجليل ابن أبي رباح , وما كان من الأقوال كذلك , فالأحرى بالمؤمن أن يدعها لأصحابها , معتقد أنهم مأجورون عليها , لأنهم اجتهدوا قاصدين إلى الحق , وعليه هو أن يتبع ما ثبت في السنة , فإن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عمرو بن العاص مؤمن
155 - (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي).
وفي الحديث منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه , إذ شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه مؤمن , فإن هذا يستلزم الشهادة له بالجنة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المشهور (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ) , متفق عليه , وقال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) التوبة 72.
وعلى هذا , فلا يجوز الطعن في عمرو رضي الله عنه – كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين وغيرهم من المخالفين – بسبب ما وقع له من الخلاف – بل القتال – مع علي رضي الله عنه , لأن ذلك لا ينافي الإيمان , فإنه لا يستلزم العصمة كما لا يخفى , لا سيما إن قيل: إن ذلك وقع منه بنوع الاجتهاد , وليس اتباعاً للهوى.
وفي الحديث أيضا إشارة إلى أن مسمى الإسلام غير الإيمان , وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً , والحق ما ذهب إليه جمهور السلف من التفريق بينهما , لدلالة الكتاب والسنة على ذلك فقال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الحجرات 14, وحديث جبريل في التفريق بين الإسلام والإيمان معروف مشهور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان (ص 305 - طبع المكتب الإسلامي): (والرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام والإيمان يوجب أن كلاً من الاسمين , وإن كان مسماه واجباً , ولا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمناً مسلماً , فالحق في ذلك ما بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل , فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات: أولها الإسلام , وأوسطها الإيمان , وأعلاها الإحسان , ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها , فالمحسن مؤمن , والمؤمن مسلم , وأما المسلم , فلا يجب أن يكون مؤمناً).
ومن شاء بسط الكلام على هذه المسألة مع التحقيق الدقيق , فليرجع إلى الكتاب المذكور , فإنه خير ما ألف في هذا الموضوع.
ويشهد للحديث ما يأتي:
156 - (ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ هِشَامٌ وَعَمْرٌو).
تسمية أبي بكر بالصديق
306 - (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا نعم. قال: لئن كان قال ذلك؛ لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة؛ فلذلك سمي أبو بكر: الصديق).
قد جزم الإمام أبو جعفر الطحاوي بأن سبب تسمية أبي بكر رضي الله عنه بالصديق , إنما هو سبقه الناس إلى تصديقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إتيانه بيت المقدس من مكة , ورجوعه منه إلى منزله بمكة في تلك الليلة , وإن كان المؤمنون يشهدون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل ذلك إذا وقفوا عليه.
أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/415)
313 - (أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ [فقال أصحابه: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟] قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر؛ ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: [نحن نحدثك:] إن يوسف لما حضره الموت؛ أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمن يعلم موضع قبره؟ [قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا] عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فقال: دلوني على قبر يوسف. قالت: [لا والله؛ لا افعل] حتى تعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة؛ موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا. قالت: احفروا واستخرجوا عظام يوسف. فلما أقلوها إلى الأرض؛ إذا الطريق مثل ضوء النهار).
أخرجه أبو يعلى , والحاكم من ثلاث طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعربياً فأكرمه , فقال له: ائتنا. فأتاه , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وفي رواية: نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعربي فأكرمه , فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعهدنا ائتنا. فأتاه الأعرابي , فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] سل حاجتك. فقال: ناقة برحلها وأعنزاً يحلبها أهلي , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
فائدة: كنت استشكلت قديماً قوله في هذا الحديث: (عظام يوسف) , لأنه يتعارض بظاهره مع الحديث الصحيح: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) , حتى وقفت على حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َلما بدن , قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى , فأتخذ له منبراً مرقاتين).
فعلمت منه أنهم كانوا يطلقون العظام ويريدون البدن كله , من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل , كقوله تعالى (وقرآن الفجر) الإسراء 78 , أي: صلاة الفجر , فزال الإشكال والحمد لله فكتبت هذا لبيانه.
كثرة الأتباع وقلتهم ليست معياراً لمعرفة الحق
397 - (ما صدق نبي [من الأنبياء] ما صدقت؛ إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد).
ويشهد للحديث ما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (عرضت علي الأمم , فرأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الرهيط , والنبي ومعه الرجل والرجلان , والنبي ليس معه أحد .. الحديث) , أخرجه الشيخان وغيرهما.
وفي الحديث دليل واضح على أن كثرة الأتباع وقلتهم ليست معيارً لمعرفة كون الداعية على حق أو باطل , فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , مع كون دعوتهم واحدة , ودينهم واحداً , فقد اختلفوا من حيث عدد أتباعهم قلة وكثرة , حتى كان فيهم من لم يصدقه إلا رجل واحد , بل ومن ليس معه أحد.
ففي ذلك عبرة بالغة للداعية والمدعوين في هذا العصر , فالداعية عليه أن يتذكر هذه الحقيقة , ويمضي قدماً في سبيل الدعوة إلى الله تعالى , ولا يبالي بقلة المستجيبين له , لأنه ليس عليه إلا البلاغ المبين , وله أسوة حسنة بالأنبياء السابقين الذين لم يكن مع أحدهم إلا الرجل والرجلان.
والمدعوا عليه أن لا يستوحش من قلة المستجيبين للداعية , ويتخذ ذلك سبباً للشك في الدعوة الحق وترك الإيمان بها , فضلاً عن أن يتخذ ذلك دليلاً على بطلان دعوته بحجة أنه لم يتبعه أحد , أو إنما اتبعه الأقلون , ولو كانت دعوته صادقة , لاتبعه جماهير الناس , والله عز وجل يقول: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يوسف 103.
من قصص بني إسرائيل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/416)
486 - (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ فَصَنَعَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَكَانَتْ تَسِيرُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ قَصِيرَتَيْنِ وَاتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أَطْيَبَ الطِّيبِ الْمِسْكَ فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَخَ رِيحَهُ وفي رواية وجعلت له غلقاً , فإذا مرت بالملإ او بالمجلس , قالت به , ففتحته , ففاح ريحه).
أخرجه أحمد في " مسنده " " 3/ 40 " حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فذكره).
ثم قال " 3/ 46 " حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ به وزاد في أوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدُّنْيَا فَقَالَ إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَاتَّقُوهَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ثُمَّ ذَكَرَ نِسْوَةً ثَلَاثًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ تُعْرَفَانِ وَامْرَأَةً قَصِيرَةً لَا تُعْرَفُ فَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ وَصَاغَتْ .... ) الحديث نحوه , وفيه الرواية الأخرى.
في الحديث تنبيه ظاهر إلى أن عادة النساء الفاسقات لبس ما يلفت الأنظار إليهن , ومن ذلك ما شاع بينهن من انتعال النعال العالية الكعاب , وبخاصة منها التي تنعل من أسفلها بالحديد , ليشتد ظهور صوته عند المشي , ولعل أصل ذلك من اختراع اليهود , كما يشير هذا الحديث , فعلى المسلمات أن يتقن ذلك , والله المستعان.
كتاب المستقبل و أشراط الساعة
المستقبل للإسلام
قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة 33.
تبشرنا هذه الآية الكريمة بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها , وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشيدين والملوك الصالحين , وليس كذلك , فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
1 - (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى فَقالْتُ عائشة يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا قَالَ إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ).
وقد وردت أحاديث أخرى توضح مبلغ ظهور الإسلام ومدى انتشاره , بحيث لا تدع مجالاً للشك في أن المستقبل للإسلام بإذن الله وتوفيقه.
وها أنا أسوق ما تيسر من هذه الأحاديث , عسى أن تكون سبباً لحشذ همم العاملين للإسلام , وحجة على اليائسين المتواكلين:
2 - (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا).
زوى , أي جمع وضم.
وأوضح منه وأعم الحديث التالي:
3 - (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
ومما لا شك فيه: أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم , حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان , وهذا ما يبشرنا به الحديث:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/417)
4 - (عن أبي قَبِيلٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ).
ورومية: هي روما , كما في (معجم البلدان) وهي عاصمة إيطاليا اليوم.
وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني , كما هو معروف , وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبى صلى الله عليه وسلم بالفتح , وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد , ولتعلمن نبأه بعد حين.
ولا شك أيضاً أن تحقيق الفتح الثاني يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمة المسلمة , وهذا مما يبشرنا به صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث:
5 - (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا الله إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَن ْتكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ).
رواه أحمد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ - وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حَدِيثَهُ - فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ فَقَالَ يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَرَاءِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: (فذكره مرفوعا).
قَالَ حَبِيب ٌ:
فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُمَرَ بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ.
ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبدالعزيز , لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة , ولم يكن بعد ملكان: ملك عاض وملك جبرية , والله أعلم.
أما الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن معاذ بن جبل مرفوعاً: (ثلاثون نبوة وملك , وثلاثون ملك وجبروت , وما وراء ذلك لا خير فيه) , فإسناده ضعيف , كما هو مبين في الضعيفة 1399.
هذا , وإن من المبشرات بعودة القوة إلى المسلمين , واستثمارهم الأرض استثماراً يساعدهم على تحقيق الغرض , وتنبئ عن أن لهم مستقبلاً باهراً , حتى من الناحية الاقتصادية والزراعية قوله صلى الله عليه وسلم:
6 - (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا).
وقد بدأت تباشير هذا الحديث تتحقق في بعض الجهات من جزيرة العرب , بما أفاض الله عليها من خيرات وبراكات والآت ناضحات تستنبط الماء الغزير من بطن أرض الصحراء , وهناك فكرة بجر نهر الفرات إلى الجزيرة كنا قرأناها في بعض الجرائد المحلية , فلعلها تخرج إلى حيز الوجود , وإن غداً لناظره قريب.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/418)
هذا , ومما يجب أن يعلم بهذه المناسبة أن قوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ) رواه البخاري في (الفتن) من حديث أنس مرفوعاً.
فهذا الحديث ينبغي أن يفهم على ضوء الأحاديث المتقدمة وغيرها , مثل أحاديث المهدي , ونزول عيسى عليه السلام , فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه , بل هو من العام المخصوص , فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه , فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف 87 , أسأل الله أن يجعلنا مؤمنين به حقاً.
يُسَمُّونَ الْخَمْرِ بِغَيْرِ اسْمِهَا
89 - (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ - يَعْنِي الْإِسْلَامَ - كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ - يَعْنِي الْخَمْرِ - فَقِيلَ فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا).
وقد وجدت للحديث طريقاً آخر أخرجه أبويعلى , ولفظه: (أول ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء في شراب يقال له الطلاء) , إسناده صحيح.
والطلاء: قال في النهاية: (بالكسر والمد: الشراب المطبوخ من عصير العنب , وهو الرب) , ثم ذكر الحديث , ثم قال: هذا نحو الحديث الآخر: سيشرب ناس من أمتي الخمر , يسمونها بغير اسمها. يريد أنهم يشربون النبيذ المسكر المطبوخ , ويسمونه طلاء , تحرجاً من أن يسموه خمراً)
وللحديث شاهد صحيح بلفظ:
90 - (لَيَسْتَحِلَّنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ , وفي رواية: يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا).
91 - (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
رواه البخاري في صحيحه تعليقاً , فقال: (بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (فذكره).
وقد وصله أبن حبان , والطبراني , والبيهقي , وابن عساكر , وغيرهم من طرق عن هشام بن عمارة به.
وله طريق آخرى عن عبدالرحمن بن يزيد , فقال ابوداود: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة: ثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به.
ورواه ابن عساكر من طريق آخرى عن بشر به.
قلت: وهذا إسناد صحيح , ومتابعته قوية لهشام بن عمارة وصدقة بن خالد , ولم يقف على ذلك ابن حزم في المحلى , ولا في رسالته في إباحة الملاهي , فأعل إسناد البخاري بالانقطاع بينه وبين هشام وبغير ذلك من العلل الواهية التي بينه العلماء من بعده , وردوا علي تضعيفه للحديث من أجلها , مثل المحقق ابن القيم في تهذيب السنن , والحافظ ابن حجر في الفتح , وغيرهما , وقد فصلت القول في ذلك في جزء عندي في الرد علي رسالة ابن حزم المشار إليها , يسر الله تبييضه ونشره.
وابن حزم رحمه الله , مع علمه وفضله وعقله , فهو ليس طويل الباع في الاطلاع على الأحاديث وطرقها ورواتها , ومن الأدلة علي ذلك تضعيفه لهذا الحديث , وقوله في الإمام الترمذي صاحب السنن (مجهول) – قالها في كتاب الفرائض كما في تهذيب التهذيب – وذلك مما حمل العلامة محمد بن عبدالهادي – تلميذ ابن تيمية – علي ان يقول في ترجمته في (مختصر طبقات علماء الحديث): (وهو كثير الوهم في الكلام في تصحيح الحديث وتضعيفه , وعلى أحوال الرواة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/419)
قلت: فينبغي أن لا يأخذ كلامه علي الأحاديث الا بعد التثبت من صحته وعدم شذوذه , شأنه في ذلك شأنه في الفقه الذي يتفرد به , وعلم الكلام الذي يخالف السلف فيه , فقد قال ابن عبد الهادي بعد ان وصفه بقوة الذكاء وكثرة الاطلاع: (ولكن تبين لي منه إنه جهمي جلد , لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل , كالخالق والحق , وسائر الاسماء عنده لا يدل علي معنى أصلاً , كرحيم والعليم والقدير ونحوها , بل العلم عنده هو القدرة، والقدرة هي العلم , وهما عين الذات , ولا يدل العلم على شئ زائد على الذات المجردة أصلاً , وهذا عين السفسطة والمكابرة , وقد كان ابن حزم قد اشتغل في المنطق و الفلسفة , وأمعن في ذلك , فتقرر في ذهنه لهذا السبب معاني باطلة).
غريب الحديث:
الحر: الفرج , والمراد: الزنا.
المعازف: جمع معزفة، وهي آلات الملاهي، كما في (الفتح).
علم: هو الجبل العالي.
يروح عليهم: بحذف الفاعل , وهو الراعي، بقرينة المقام , إذ السارحة لا بد لها من حافظ.
بسارحة: هي الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها.
يروح: أي: ترجع بالعشي إلى مألفها.
يأتيهم لحاجة: بيانه في رواية الإسماعيلي في (مستخرجه على الصحيح): (يأتيهم طالب حاجة).
فيبيتهم الله: أي يهلكهم ليلاً.
ويضع العلم: أي: يوقعه عليهم.
يستفاد من الأحاديث المتقدمة فوائد هامة نذكر بعضها:
أولاً: تحريم الخمر , وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين والحمد لله , غير أن طائفة منهم – وفيهم بعض المتبوعين – خصوا التحريم بما كان من عصير العنب خاصة , وأما ما سوى ذلك من المشروبات المسكرة , مثل (السكر: وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ , و (الجعة): وهو نبيذ الشعير و (السكركة): وهو خمر الحبشة من الذرة , فذلك كله حلال عندهم إلا المقدار الذي يسكر منه , أما القليل منه فحلال , بخلاف خمر العنب , فقليله ككثيره في التحريم.
وهذا التفريق مع مصادمته للنصوص القاطعة في تحريم كل مسكر , كقول عمر رضي الله عنه: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ). وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خمر حَرَامٌ). وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).
أقول: هذا التفريق مع مصادمته لهذه النصوص وغيرها , فهو مخالف للقياس الصحيح والنظر الرجيح , إذ أي فرق بين تحريم القليل الذي لا يسكر من خمر العنب المسكر كثيره , وبين تحليل القليل الذي لا يسكر من خمر الذرة المسكر؟ وهل حرم القليل إلا لأنه ذريعة إلى الكثير المسكر؟ فكيف يحلل هذا ويحرم ذاك والعلة واحدة؟
تالله إن هذا من الغرائب التي لا تكاد تصدق نسبتها إلى أحد من أهل العلم لولا صحة ذلك عنهم , وأعجب منه أن الذي تبنى القول به هو من المشهورين بأنه من أهل القياس والرأي.
قال ابن القيم في (تهذيب السنن) (5/ 263) بعد أن ساق بعض النصوص المذكورة: (فهذه النصوص الصحيحة الصريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن وخوطب بها الصحابة مغنية عن التكلف في إثبات تسميتها خمراً بالقياس مع كثرة النزاع فيه , فإذ قد ثبت تسميتها خمراً نصاً , فتناول لفظ النصوص لها كتناوله لشراب العنب سواء تناولاً واحداً , فهذه طريقة منصوصة سهلة تريح من كلمة القياس في الاسم والقياس في الحكم , ثم إن محض القياس الجلي يقتضي التسوية بينها , لأن تحريم قليل شراب العنب مجمع عليه وإن لم يسكر , وهذا لأن النفوس لا تقتصر على الحد الذي لا يسكر منه , وقليله يدعو إلى كثيره , وهذا المعنى بعينه في سائر الأشربة المسكرة , فالتفريق بينها في ذلك تفريق بين المتماثلات , وهو باطل , فلو لم يكن في المسألة إلا القياس , لكان كافياً في التحريم , فكيف وفيها ما ذكرناه من النصوص التي لا مطعن في سندها , ولا اشتباه في معناها؟ بل هي صحيحة , وبالله التوفيق).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/420)
وأيضاً , فإن إباحة القليل الذي لا يسكر من الكثير الذي يسكر غير عملي , لأنه لا يمكن معرفته , إذ أن ذلك يختلف باختلاف نسبة كمية المادة المسكرة [الكحول] في الشراب , فرب شراب قليل كمية الكحول فيه كثيرة وهو يسكر , ورب شراب أكثر منه كمية الكحول فيه أقل لا يسكر , كما أن ذلك يختلف باختلاف بنية الشاربين وصحتهم , كما هو ظاهر بين , وحكمة الشريعة تنافي القول بإباحة مثل هذا الشراب , وهي التي تقول: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) , و (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)
واعلم أن ورود مثل هذه الأقوال المخالفة للسنة والقياس الصحيح معاً في بعض المذاهب , مما يوجب على المسلم البصير في دينه الرحيم بنفسه أن لا يسلم قيادة عقله وتفكيره وعقيدته لغير معصوم , مهما كان شأنه في العلم والتقوى والصلاح , بل عليه أن يأخذ من حيث أخذوا من الكتاب والسنة إن كان أهلاً لذلك , وإلا سأل المتأهلين لذلك , والله تعالى يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل 43.
وبالإضافة إلى ذلك , فإنا نعتقد أن من قال بهذا القول من العلماء المشار إليهم , فهو مأجور على خطئه , للحديث المعروف , لأنهم قصدوا الحق فأخطؤوه , وأما من وقف من أتباعهم على هذه الأحاديث المذكورة , فهو – ولا شك - على ضلال مبين , وهو داخل في وعيد هذه الأحاديث التي خرجناها , ولا يفيده شيئاً تسميته لما يشرب بغير اسمه , مثل: الطلاء , أوالنبيذ , أو الوسكي , أو الكونياك .... وغير ذلك من الأسماء التي أشار إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحاديث الكريمة.
وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) النجم 23.
ثانياً: تحريم آلات العزف والطرب , ودلالة الحديث على ذلك من وجوه:
أ- قوله (يَسْتَحِلُّونَ) , فإنه صريح بأن المذكورات – ومنها المعازف – هي في الشرع محرمة , فيستحلها أولئك القوم.
ب- قرن المعازف مع المقطوع حرمته: الزنا والخمر , ولو لم تكن محرمة , ما قرنها معها إن شاء الله تعالى.
وقد جاءت أحاديث كثيرة , بعضها صحيح في تحريم أنواع من آلات العزف التي كانت معروفة يومئذ , كالطبل والقنين – وهو العود – وغيرها , ولم يأت ما يخالف ذلك أو يخصه , اللهم إلا الدف في النكاح والعيد , فإنه مباح على تفصيل مذكور في الفقه , وقد ذكرته في ردي على ابن حزم.
ولذلك اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها , واستثنى بعضهم – بالإضافة إلى ما ذكرنا – الطبل في الحرب , وألحق به بعض المعاصرين الموسيقى العسكرية , ولا وجه لذلك البتة لأمور:
الأول: أنه تخصيص لأحاديث التحريم بدون مخصص سوى مجرد الرأي والاستحسان , وهو باطل.
الثاني: أن المفروض في المسلمين في حالة الحرب أن يقبلوا بقلوبهم على ربهم , وأن يطلبوا منه نصرهم على عدوهم , فذلك أدعى لطمانينة نفوسهم , وأربط لقلوبهم , فاستعمال الموسيقى مما يفسد ذلك عليهم , ويصرفهم عن ذكر ربهم قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال 45.
الثالث: أن استعمالها من عادة الكفار (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) التوبة 29 , فلا يجوز لنا أن نتشبه بهم , لا سيما فيما حرمه الله تبارك وتعالى علينا تحريماً عاماً , كالموسيقى.
ولا تغتر أيها القارئ الكريم بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم من المتفقهة من القول بإباحة ألات الطرب والموسيقى , فإنهم – والله – عن تقليد يفتون , ولهوى الناس اليوم ينصرون , ومن يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي أخطأ فأباح آلات الطرب والملاهي , لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده , وقد عرفت أنه صحيح قطعاً , وأن ابن حزم أتي من قصر باعه في علم الحديث كما سبق بيانه , وليت شعري , ما الذي حملهم على تقليده هنا دون الأئمة الأربعة مع أنهم أفقه منه وأعلم وأكثر عدداً وأقوى حجة؟ لو كان الحامل لهم على ذلك إنما هو التحقيق العلمي ,
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/421)
فليس لأحد عليهم من سبيل , ومعنى التحقيق العلمي – كما لا يخفى – أن يتتبعوا الأحاديث كلها الواردة في الباب , ويدرسوا طرقها ورجالها , ثم يحكموا عليها بما تستحق من صحة أو ضعف , ثم إذا صح عندهم شئ منها , درسوها من ناحية دلالتها وفقهها وعامها وخاصها , وذلك كله حسبما تقتضيه قواعد علم أصول الحديث وأصول الفقه , لو فعلوا ذلك , لم يستطع أحد انتقادهم , ولكانوا مأجورين , ولكنهم – والله – لا يصنعون شيئاً من ذلك , ولكنهم إذا عرضت لهم مسألة , نضروا في أقوال العلماء فيها , ثم أخذوا ما هو الأيسر أو إلى تحقيق المصلحة – زعموا- دون أن ينظروا موافقة ذلك للدليل من الكتاب و السنة , وبعضهم يقول: لا يوجد دليل قطعي على التحريم , فكم شرعوا للناس – بهذه الطريقة – أموراً باسم الشريعة , يبرأ الإسلام منها , فإلى الله المشتكى.
فاحرص أيها المسلم على أن تعرف إسلامك من كتاب ربك وسنة نبيك ولا تقل: قال فلان , فإن الحق لا يعرف بالرجال , بل اعرف الحق تعرف الرجال ورحمة الله على من قال:
العلم قال الله قال رسوله ........... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ........... بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها ........... حذراً من التمثيل والتشبيه
ثالثاً: أن الله عز وجل قد يعاقب بعض الفساق عقوبة دنيوية مادية , فيمسخهم فيقلب صورهم – وبالتالي عقولهم – إلى بهيمة.
قال الحافظ في الفتح في صدد كلامه على المسخ المذكور في الحديث: (قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة , ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: والأول أليق بالسياق).
أقول: ولا مانع من الجمع بين القولين – كما ذكرنا – بل هو المتبادر من الحديثين , والله أعلم.
وقد ذهب بعض المفسرين في العصر الحديث إلى أن مسخ بعض اليهود قردة وخنازير لم يكن مسخاً حقيقياً بدنياً , وإنما كان مسخاً خلقياً وهذا خلاف ظاهر الآيات والأحاديث الواردة فيهم , , فلا تلتفت إلى قولهم , فإنهم لا حجة لهم فيه , إلا الاستبعاد العقلي المشعر بضعف الإيمان بالغيب , نسأل الله السلامة.
رابعاً: ثم قال الحافظ: (وفي هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه , وأن الحكم يدور مع العلة. والعلة في تحريم الخمر الإسكار , فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها , ردا على من حمله على اللفظ).
من عجائب أشراط الساعة
122 - (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ).
رواه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ قَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ بالصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) الحديث.
الرد على من يقول أن النبي هو من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/422)
241 – (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ).
أخرجه مسلم , والسياق له والنسائي , وابن ماجه , وأحمد , من طرق عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (فذكره) , وزاد في آخره: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ وَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي فَقُلْتُ لَهُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا قَالَ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
وليس عند غير مسلم قوله: (فقلت له: هذا ابن عمك .... ) إلخ.
غريب الحديث:
فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا: أي: يجعل بعضها بعضا رقيقا , أي: خفيفاً , لعظم ما بعده , فالثاني يجعل الأول رقيقا.
صَفْقَةَ يَدِهِ: أي: معاهدته له والتزام طاعته , وهي المرة من التصفيق باليدين , وذلك عند البيعة بالخلافة.
ثَمَرَةَ قَلْبِهِ: أي: خالص عهده أو محبته بقلبه.
فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ: قال النووي: (معناه: ادفعوا الثاني , فإنه خارج على الإمام , فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال , فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلي قتله , جاز قتله , ولا ضمان فيه , لأنه ظالم متعدٍ في قتاله).
وفي الحديث فوائد كثيرة , من أهمها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َيجب عليه أن يدعو أمته إلى الخير ويدلهم عليه , وينذرهم شر ما يعلمه لهم , ففيه رد صريح على ما ذكر في بعض كتب الكلام أن النبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ.
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا
274 - (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ).
أخرجه البخاري , ومسلم , ومالك , والطحاوي , وأحمد , والخطيب، وأبويعلى عن ابي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (فذكره).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/423)
وفي رواية من طريق أخرى عنه مرفوعاً بلفظ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَلف اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)، أخرجه مسلم , وابن حبان.
الغريب:
1 - (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) , قال الخطيب: (المعنى: أمرت بالهجرة إلى قرية , تَأْكُلُ الْقُرَى , أي يأكل أهلها القرى كما قال الله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) , النحل 112 , يعني: قرية كان أهلها مطمئنين , وكان ذكر القرية عن هذا كناية عن أهلها , وأهلها المرادون بها لا هي , والدليل على ذلك قوله تعالى (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) , النحل 112 , والقرية لا صنع لها , وقوله: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) , النحل 112 , والقرية لا كفر لها.
2 - (تَأْكُلُ الْقُرَى) , بمعنى تقدر عليها , كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) النساء 10 , ليس يعني بذلك أكلتها دون محتجبيها عن اليتامى لا بأكل لها , وكقوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) النساء 6 , يعني: تغلبوا عليها إسرافاً على أنفسكم , وبداراً أن يكبروا , فيقيموا الحجة عليكم بها , فينتزعوها منكم لأنفسهم , فكان الأكل فيما ذكرنا يراد به الغلبة على الشئ , فكذلك في الحديث.
من أعلام نبوته
279 - (لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتا يوشونها وشي المراحل).
المراحل: فسرها إبراهيم شيخ البخاري بأنها الثياب المخططة , وفي النهاية: المرحل: الذي قد نقش فيه تصاوير الرحال , ومنه الحديث: (كان يصلي وعليه من هذه المرحلات) , يعني: المروط المرحلة , وتجمع على المراحل , ومنه هذا الحديث .. يوشونها وشي المراحل , ويقال لذلك العمل الترحيل.
393 - (كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها؛ يبارك لكم فيها. ثم قال: خذوا فكلوا؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ ليفتحن عليكم أرض فارس والروم، حتى يكثر الطعام، فلا يذكر اسم الله عليه).
رواه أبوبكر الشافعي , وعنه ابن عساكر , والبيهقي , والضياء عن عمرو بن عثمان: ثنا أبي: ثنا محمد بن عبدالرحمن بن عرق: ثنا عبدالله بن بسر قال: " أهديت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة , والطعام يومئذ قليل , فقال لأهله: اطبخوا هذه الشاة , وانظروا إلى هذا الدقيق فاخبزوه , اطبخوا وأثردوا عليه , قال: وكان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصعة يقال لها: الغراء , يحملها أربهة رجال , فلما أصبح وسبحوا الضحى , أتى بتلك القصعة , والتقوا عليها , فإذا كثر الناس , جثا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله جعلني عبداً كريماً , ولم يجعلني جباراً عنيداً , ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
والحديث علم من أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقد فتح سلفنا أرض فارس والروم , وورثنا ذلك منهم , وطغى الكثيرون منا , فأعرضوا عن الشريعة وآدبها , التي منها ابتداء الطعام بـ (بسم الله) , فنسوا هذا حتى لا تكاد فيهم ذاكراً.
جواز تمني الموت تديناً
578 - (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولَ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ مَا بِهِ حُبُّ لِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/424)
ومعنى الحديث أنه لا يتمنى الموت تديناً وتقرناً إلى الله وحباً في لقائه , وإنما لما نزل به من البلاء والمحن في أمور دنياه , ففيه إشارة إلى جواز تمني الموت تديناً , ولا ينافيه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به .. ) , لأنه خاص بما إذا كان التمني لأمر دنيوي كما هو ظاهر.
قال الحافظ: (ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف , قال النووي: لا كراهة في ذلك , بل فعله خلائق من السلف , منهم عمر بن الخطاب و ..... ).
من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر
695 - (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر).
أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (61)، وعنه أبو عمرو الداني في ((الفتن)) (62/ 2) و اللا لكائي في ((شرح أصول السنة)) (230/ 1 - كواكب576)، وكذا الطبراني في ((الكبير))،وعنه الحافظ عبد الغني المقدسي في ((العلم)) (ق16/ 2)،وابن منده في ((المعرفة)) (2/ 220/1)، وابن عبدالبر في (جامع العلم) (1/ 157 - 158)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 79) عن ابن المبارك عن لهيعة عن بكر بن سوداة عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وزاد الأول:
((قال ابن المبارك: الأصاغر:أهل البدع)).
قلت: وهذا إسناد جيد، لأن حديث ابن لهيعة صحيح إذا كان من رواية أحد العبادلة عنه، وابن المبارك منهم. فما نقله المناوي عن الهيثمي أنه أعله بقوله (فيه ابن لهيعة ضعيف) ليس بجيد.
ولذلك قال الحافظ المقدسي عقبه:
((وإسناده حسن)).
ورواه الهروي في ((ذم الكلام)) (ق137/ 2) من هذا الوجه مرفوعاً، وعن ابن مسعود موقوفاً عليه.
وكذا رواه اللالكائي عنه وابن عبد البر والخطيب، وهو شاهد قوي لأنه لا يقال بالرأي، ولفظه:
((لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم،فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا)).وإسناده صحيح.
(تنبيه): يبدو لي أن المراد بـ (الأصاغر) هنا الجهلة الذين يتكلمون بغير فقه في الكتاب والسنة، فيضلون ويضلون كما جاء في حديث (انتزاع العلم)،ومن الأمثلة ذاك المصري الذي كتب رسالة أسماها ((اللباب في فريضة النقاب)) فعارضه آخر فيما سماه ((تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)) والحق بينهما وهو الاستحباب.
فضل أهل الشام
965 - (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).
رواه مسلم (6/ 54)، وابويعلى في ((مسنده)) (2/ 118/783)، وأبو عمرو الداني في ((الفتن)) (ق44/ 2)، وابن الأعرابي في ((المعجم)) (31/ 1/112/ 1)، والجرجاني (424)، والدورقي في ((مسند سعد)) (3/ 136/2)، وابونعيم في ((الحلية)) (3/ 95 - 96)، وابن منده في ((المعرفة)) (2/ 179/1) من حديث أبي عثمان سعد بن أبي وقاص مرفوعاً. وقال أبو نعيم:
((حديث ثابت مشهور)).
واعلم أن المراد بأهل الغرب في هذا الحديث أهل الشام؛ لأنهم يقعون في الجهة الغربية الشمالية بالنسبة للمدينة المنورة التي فيها نطق عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث الشريف، وبهذا فسر الحديث الإمام أحمد رحمه الله. وأيده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من ((الفتاوى)) (7/ 446و27/ 41و507و28/ 531و552)، وقد أبعد النجعة من فسره من المعاصرين ببلاد (المغرب) المعروفة اليوم في شمال إفريقيا؛ لأنه مما لا سلف له؛ مع مخالفته لإمام السنة وشيخ الإسلام.
وإذا عرفت هذا ففي الحديث بشارة عظيمة لمن كان في الشام من أنصار السنة المتمسكين بها، والذابين عنها، والصابرين في سبيل الدعوة إليها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم.
الخلافة والملك
976 - (تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ بعد خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا. قُلْتُ: ((وفي رواية: قال عمر يانبي الله) مِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟ قَالَ مِمَّا مَضَى).
هذا حديث صحيح من معالم نبوته صلى الله عليه وسلم، يرويه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وله عنه طرق:
الأولى: عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عنه به.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/425)
أخرجه أبودود (4254)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (1/ 235و236)، والحاكم (4/ 521)، وأحمد (1/ 393)، وأبو يعلى في ((المسند)) أيضاً (ق255/ 1)، وابن الأعرابي في ((معجمه)) (ق141/ 2)، وابن عدي في ((الكامل)) (ق91/ 1)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ق63/ 2)، والخطابي في ((غريب الحديث)) (ق116/ 2 - 117/ 1) من طرق عن منصور به. وقال الحاكم:
((صحيح الإسناد) 9، ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير البراء بن ناجية وهو ثقة.
الثانية: عن قاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه مرفوعاً به دون قوله: ((قلت ... )).
أخرجه أحمد (1/ 390و451)، وأبو يعلى (8/ 425/5009و9/ 201/5298 - ط) والطحاوي وابن الأعرابي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1865 - موارد)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 211/10356)، والخطابي من طرق عنه.
قلت: وهذا سند صحيح أبضاً على شرط الشيخين؛ على ما في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه من الاختلاف، والراجح عندي أنه سمع منه؛ كما هو مبين في غير هذا الموضع.
الثالثة: عن شريك عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عنه.
أخرجه الطحاوي، والطبراني (10/ 195/10311).
(فائدة):قال الخطيب رحمه الله تعالى:
((قوله: ((تدور رحى الإسلام)) مثل؛ يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم، يخاف لذلك على أهله الهلاك، يقال للأمر إذا تغير واستحال: قد دارت رحاه، وهذا _ والله أعلم _ إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة.
وقوله: ((يقم لهم دينهم))، أي: ملكهم وسلطانهم، والدين: الملك والسلطان، ومنه قوله تعالى ((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك))،وكان بين مبايعة الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان _ إلى انقضاء ملك بني أمية من المشرق _ نحواً من سبعين سنة)).
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى:
((وقوله: ((بعد خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين ... )) ليس ذلك على الشك، ولكن يكون ذلك فيما يشاء الله عز وجل من تلك السنين، فشاء عز وجل أن كان ذلك في سنة خمس وثلاثين، فتهيأ فيها على المسلمين حصر إمامهم، وقبض يده عما يتولاه عليهم؛ مع جلالة مقداره؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المهديين، وحتى كان ذلك سبباً لسفك دمه رضوان الله عليه، وحتى كان ذلك سبباً لوقوع اختلاف الآراء، فكان ذلك مما لو هلكوا عليه لكان سبيل من هلك لعظمه، ولما حل بالإسلام منه، ولكن الله ستر وتلافى، وخلف في أمته من يحفظ دينهم عليهم، ويبقي ذلك لهم)).
كتاب المعاملات والآداب والحقوق العامة
حض الإسلام على استثمار الأرض وزرعها
7 - (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ).
8 - (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتْ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ [إلى يوم القيامة]).
يَرْزَؤُهُ: أي ينقصه ويأخذ منه.
9 - (عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ و في َيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيغرسها).
رواه أحمد، والطيالسي، والبخاري (في الأدب المفرد)، وابن الأعرابي عن هشام بن زيد عنه.
الفسيلة: هي النخلة الصغيرة , وهي الودية.
ولا أدل على الحض على الاستثمار في هذه الأحاديث الكريمة , لا سيما الحديث الأخير منها , فإن فيه ترغيباً عظيماً على اغتنام آخر فرصة من الحياة في سبيل زرع ما ينتفع به الناس بعد موته , فيجرى له أجره , وتكتب له صدقته إلى يوم القيامة.
وقد ترجم الإمام البخاري في المصدر السابق لهذا الحديث بقوله: (باب اصطناع المال).
ثم روى عن الحارث بن لقيط قال: (كان الرجل منا تنتج فرسه , فينحرها , فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذه؟ فجاءنا كتاب عمر أن أصلحوا ما رزقكم الله , فإن في الأمر تنفساً) , وسنده صحيح.
وروي أيضا بسند صحيح عن داود قال: قال لي عبد الله بن سلم: (إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت علي ودية تغرسها , فلا تجعل أن تصلحه , فإن للناس بعد ذلك عيشاً).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/426)
وروى أبن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أني شيخ كبير أموت غداً فقال له عمر: أعزم عليك , لا تغرسنها، فلقد رأيت عمر بن خطاب يغرسها بيده مع أبي).
ولذلك عد بعض الصحابة الرجل يعمل في إصلاح أرضه عاملا من عمال الله عز وجل.
فروى البخاري في (الأدب المفرد) عن نافع بن عاصم إنه سمع عبدالله بن عمر قال لابن أخ له خرج من الوهط: أيعمل عمالك؟.قال لا أدري. قال: أم لو كنت ثقفياً , لعلمت ما يعمل عمالك. ثم ألتفت إلينا فقال: إن الرجل أذا عمل مع عماله في داره [وقال الراوي مرة في ماله] , كان عاملا من عمال الله عز وجل) , وسنده حسن أن شاء الله تعالى.
والوهط في اللغة: هو البستان , وهي أرض عظيمة كانت لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من وج , يبدو أنه خلفها لأولاده.
هذا بعض ما أثمرته تلك الأحاديث في جملتها من السلف الصالح رضي الله عنهم.
وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديثين الأولين بقوله: (باب فضل الزرع إذا أكل منه).
قال ابن المنذر: (أشار البخاري إلى إباحة الزرع وأن من نهى عنه – كما ورد عن عمر – فمحله ما إلى شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة وعلى ذلك يحمل حديث أبى أمامة المذكور في الباب الذي بعده).
قلت: سيأتي الكلام على الحديث المشار إليه قريبا ان شاء الله تعالى.
التكالب على الدنيا يورث الذل
ذكرت آنفاً بعض الأحاديث الواردة في الحض على استثمار الأرض , مما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام شرع ذلك للمسلمين , ورغبهم فيه أيما ترغيب.
والآن نورد بعض الأحاديث التي قد يتبادر لبعض الأذهان الضعيفة أو القلوب المريضة أنها معارضة للأحاديث المتقدمة , وهي في الحقيقة غير منافية لها , إذا ما أحسن فهمها , وخلت النفس من اتباع هواها.
10 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ).
وقد وفق العلماء بين هذا الحديث والأحاديث المتقدمة آنفاً بوجهين اثنين:
الأول: أن المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر , فمن أدخل نفسه في ذلك , فقد عرضها للذل.
قال المناوي في (الفيض):
(ليس هذا ذماً للزراعة , فإنها محمودة مثاب عليها , لكثرة أكل العوافي منها , إذ لا تلازم بين ذل الدنيا وحرمان ثواب البعض)
ولهذا قال ابن التين:
(هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات , لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث).
الثاني: أنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات , كالحرب ونحوه , وإلى هذا ذهب البخاري , حيث ترجم للحديث بقوله: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع , أو مجاوزة الحد الذي أمر به).
فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب , ويحمله على التكالب على الدنيا , والإخلاد إلى الأرض , والإعراض عن الجهاد , كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء.
ويؤيد هذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم:
11 - (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
فتأمل كيف بين هذا الحديث ما أجمل في حديث أبي أمامة المتقدم قبله؟ فذكر أن تسليط الذل ليس لمجرد الزرع والحرث , بل لما اقترن به من الإخلاد إليه , والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله , فهذا هو المراد بالحديث , وأما الزرع الذي لم يقترن به شئ من ذلك , فهو المراد بالأحاديث المرغبة في الحرث , فلا تعارض بينها ولا إشكال.
تنبيه:
من البواعث على كتابة هذا المقال: أن مستشرقاً ألمانياً زعم لأحد الطلاب المسلمين السوريين هناك أن الإسلام يحذر أهله من تعاطي أسباب استثمار الأرض , واحتج بهذا الحديث , وقال: إنه في البخاري , متعامياً عن المعنى الذي ذكره البخاري نفسه في ترجمته للحديث كما سبق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/427)
12 - (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا).
واعلم أن هذا التكثر المفضي إلى الانصراف عن القيام بالواجبات – التي منها الجهاد في سبيل الله – هو المراد بالتهلكة المذكورة في قوله تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة 195 , وفي ذلك نزلت الآية , خلافاً لما يظن كثير من الناس , فقد قال أسلم أبو عمران:
13 - (غَزَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ [وعلى أهل مصر عقبة بن عامر] , وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ فَحَمَلَ رَجُلٌ [منا] عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ مَهْ مَهْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ [الأنصاري: إنما تأولون هذه الآية هكذا , أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة ,أو يبلي من نفسه] إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ قُلْنَا [بيننا خفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم]: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ).
من أدبه صلى الله عليه وسلم عند التوديع
14 – (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ).
15 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ قَالَ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ).
16 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا وَدَّعَ أَحَدًا قَالَ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)
يستفاد من هذا الحديث الصحيح جملة فوائد:
الأولى: مشروعية التوديع بالقول الوارد فيه: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)، ويجيبه المسافر فيقول: (أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه) , أنظر " الكلم الطيب "
الثانية: الأخذ باليد الواحدة في المصافحة , وقد جاء ذكرها في أحاديث كثيرة , وعلى ما دل عليه هذا الحديث يدل اشتقاق هذه اللفظة في اللغة , ففي (لسان العرب):
(والمصافحة: الأخذ باليد , والتصافح مثله , والرجل يصافح الرجل: إذا وضع صفح كفه في صفح كفه , وصفحا كفيهما: وجهاهما , ومنه حديث المصافحة عند اللقاء , وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف , وإقبال الوجه على الوجه).
قلت: وفي بعض الأحاديث المشار إليها ما يفيد هذا المعنى أيضاً , كحديث حذيفة مرفوعاً (إن المؤمن إذا لقي المؤمن , فسلم عليه , وأخذ بيده فصافحه , تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر).
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن السنة في المصافحة الأخذ باليد الواحدة , فما يفعله بعض المشايخ من التصافح باليدين كلتيهما خلاف السنة , فليعلم هذا.
الفائدة الثالثة: أن المصافحة تشرع عند المفارقة أيضاً , ويؤيده عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من تمام التحية المصافحة).
وهو حديث جيد باعتبار طرقه , ولعلنا نفرد له فصلاً خاصاً إن شاء الله تعالى , ثم تتبعت طرقه , فتبين لي أنها شديدة الضعف , لا تصلح للاعتبار وتقوية الحديث بها , ولذلك أوردته في (السلسلة الأخرى) (1288).
ووجه الاستدلال – بل الاستشهاد – به إنما يظهر باستحضار مشروعية السلام عند المفارقة أيضاً , لقوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا دخل أَحَدُكُمْ الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ وَإِذَا خرجَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَى) رواه ابوداود والترمذي وغيرهما بسند حسن.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/428)
فقول بعضهم , إن المصافحة عند المفارقة بدعة , مما لا وجه له.
نعم , إن الواقف على الأحاديث الواردة في المصافحة عند الملاقاة يجدها أكثر وأقوى من الأحاديث الواردة في المصافحة عند المفارقة , ومن كان فقيه النفس , يستنتج من ذلك أن المصافحة الثانية ليست مشروعيتها كالأولى في الرتبة , فالأولى سنة , والأخرى مستحبة , وأما أنها بدعة , فلا , للدليل الذي ذكرنا.
وأما المصافحة عقب الصلوات فبدعة لا شك فيها , إلا أن تكون بين اثنين لم يكونا قد تلاقيا قبل ذلك , فهي سنة كما علمت.
من الرفق بالحيوان
20 - (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ).
روه أبوداود، والحاكم، وأحمد، وابويعلى، والبيهقي، وابن عساكر، والضياء من طريق محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ النَخْلٍ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ (فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ سراته إلى سنامه و ذِفْرَاهُ فسكن) فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: (فذكر الحديث)، قال الحاكم (صحيح الإسناد) ووفقه الذهبي، وهو كما قالا.
والزيادة التي بين القوسين لابن عساكر والضياء.
تدئبه: تكده وتتعبه، كما في النهاية.
21 - (ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً وَايْتَدِعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ).
أخرجه ابن حبان , والحاكم , والبيهقي , وأحمد , وابن قانع , وابن عبدالحكم , وابن عساكر , عن الليث بن سعد عن يزيد بن حبيب عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه – وكانت له صحبة – مرفوعاً.
قال الحاكم: صحيح الإسناد , ووافقه الذهبي , وهو كما قالا.
وقد أخرجه أحمد من طريق ابن لهيعة: ثنا الزبان عن سهل به , وزاد: (فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ) , وهذه الزيادة ضعيفة , لما عرفت من حال راويه زبان عن سهل , ولا سيما أن فيه ابن لهيعة , وهو ضعيف أيضاً.
وقوله: وايتدعوه، أي: أتركوها ورفهوا عنها إذا لم تحتاجوا إلى ركوبها، وهو افتعال من ودع – بالضم – وداعة ودعة أي: سكن وترفه , وايتدع , فهو متدع , أي: صاحب دعة , أو من ودع إذا ترك , يقال اتدع وايتدع علي القلب والإدغام والإظهار , كذا في النهاية ولسان العرب، ومنه يتضح ان قوله وايتدعوها صواب خلافاً لظن أحد المصحيحين الفضلاء فقتضى التنبيه والله الموفق.
تنبيه: وقع خطاء مطبعي فاحش في تفسير ابن كثير (3/ 42) , فإنه ساق فيه رواية أحمد من طريق ابن لهيعة عن زبان المتقدمة من روايته عن سهل بن معاذ ابن أنس , فتحرف على الطابع (بن أنس) إلى (عن أنس) فصار الحديث من مسند أنس ولم يتنبه لهذا الخطأ الشيخ الصابوني لجهله الشديد بهذا العلم الشريف , فجعل الحديث في (مختصره) (2/ 379) من رواية أحمد عن أنس وهذا مما لا أصل له في كتب السنة إطلاقاً.
ومع هذا الخطأ الفاحش منه , فإن إراده لهذا الحديث الضعيف مما يؤكد جهله المذكور , ويدل على كذبه فيما ادعاه في مقدمة (مختصره) أنه لم يورد فيه إلا الأحاديث الصحيحة , وقد نبهت على كثير من أحاديثه الواهية في مناسبات كثيرة من هذه السلسلة وغيرها , فانظر مثلاً مقدمة المجلد الرابع من الضعيفة , ومقدمة الصحيحة المجلد الرابع , الأمر الذي يجعل الباحث يقطع بأنه دعي يتشبع بما لم يعط , والله المستعان.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/429)
22 - (إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ).
23 - (اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً).
رواه ابوداود من طريق مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَال: (فذكره).
وقد تابعه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ به أتم منه , ولفظه: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَمَرَّ بِبَعِيرٍ مُنَاخٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَقَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَابْتُغِيَ فَلَمْ يُوجَدْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ ثُمَّ ارْكَبُوهَا صِحَاحًا وَارْكَبُوهَا سِمَانًا كَالْمُتَسَخِّطِ آنِفًا.
رواه ابن حبان , وأحمد , والطبراني , وسنده صحيح على شرط البخاري.
تنبيه: قوله: َكُلُوهَا: قيدوها بضم الكاف , من الأكل , وعليه جرى المناوي في شرح هذه الكلمة , فإذا صحة الرواية بذلك , فلا كلام , وإلا فالأقرب عندي أنها: كلوها بكسر الكاف , من وكل يكل كل , أي: اتركوها , هذا هو المتبادر من سياق الحديث ويؤيده الحديث المتقدم بلفظ: (ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً وَايْتَدِعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ) , أي: اتركوها سالمة والله أعلم.
الْمُعْجَمَةِ: أي: التي لا تقدر على النطق , فتشكوا ما أصابها من جوع أو عطش , وأصل الأعجم: الذي لا يفصح بالعربية ولا يجيد التكلام بها , عجمياً كان أو عربياً , سمي به لعجمة لسانه , والتباس كلامه.
24 – (أفلا قبل هذا؟ أو تريد أن تميتها موتتين؟).
رواه الطبراني في الكبير والأوسط , والبيهقي عن يوسف بن عدي: ثنا عبدالرحيم بن سليمان الرازي عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يُحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها , فقال: (فذكره).
25 – (مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا).
رواه البخاري في (الأدب المفرد) , وابوداود , والحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (فذكره).
والسياق لأبي داود , وزاد: (وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) , وسنده صحيح.
الْحُمَرَةُ: بضم الحاء وفتح الميم المشددة: طائر صغير كالعصفور , أحمر اللون.
تَفْرِشُ: بحذف إحدى التاءين , كـ (تذكر) , أي: ترفرف بجناحيها , وتقترب من الأرض.
26 - (وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ).
رواه البخاري في (الأدب المفرد) , والطبراني , وكذا أحمد , والحاكم , وابن عدي , وأبونعيم , وابن عساكر من طرق عن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُل: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فأَرْحَمُهَا. قال: (فذكره) , وزاد البخاري: (مرتين) وسنده صحيح.
27 - (من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/430)
28 – (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْض).
خَشَاشِ الْأَرْض: هي الحشرات والهوام.
29 - (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ إِذْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ وَخَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا فَقَالَ فِي كُلِّ ذِات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).
30 - (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ).
الركية: بئر لم تطو أو طويت.
ومن الآثار في الرفق بالحيوان:
أ – عن المسيب بن دار قال: (رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالاً , وقال: لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟).
ب- عن عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: (أن رجلاً حد شفرة , وأخذ شاة ليذبحها , فضربه عمر بالدرة , وقال: أتعذب الروح؟ ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟).
ج – عن محمد بن سيرين: (أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يجر شاة ليذبحها , فضربه بالدرة وقال: سقها – لا أم لك – إلى الموت سوقاً جميلاً).
د- عن وهب بن كيسان: (أن ابن عمر رأى راعي غنم في مكان قبيح , وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه , فقال ابن عمر: ويحك ياراعي حولها , فإني سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [كل راع مسؤول عن رعيته]).
هـ - عن معاوية بن قرة قال: (كان لأبي الدرداء جمل يقال له: [دمون] , فكان إذا استعاروه منه , قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا , فإنه لا يطيق أكثر من ذلك , فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون لا تخاصمني غداً عند ربي , فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق).
و – وعن أبي عثمان الثقفي قال: (كان لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له , يأتيه بدرهم كل يوم , فجاء يوماً بدرهم ونصف , فقال أما بدا لك؟ قال: نفقت السوق , قال: لا , ولكنك أتعبت البغل أجمه ثلاثة أيام).
تلك هي بعض الآثار التي وقفت عليها حتى الآن، وهي تدل على مبلغ تأثر المسلمين الأولين بتوجهات النبى صلى الله عليه وسلم في الرفق بالحيوان , وهي في الحقيقة قل من جل ونقطة من بحر , وفي ذلك بيان واضح أن الإسلام هو الذي وضع للناس مبدأ الرفق بالحيوان , خلافاً لما يظنه بعض الجهال بالإسلام أنه من وضع الكفار الأوربيين , بل ذلك من الآداب التي تلقوها عن المسلمين الأولين , ثم توسعوا فيها , ونظموها تنظيماً دقيقاً , وتبنتها دولهم , حتى صار الرفق بالحيوان من مزاياهم اليوم , حتى توهم الجهال أنه من خصوصياتهم وغرهم في ذلك أنه لا يكاد يرى هذا النظام مطبقاً في دولة من دول الإسلام , وكانوا هم أحق بها وأهلها.
وقد بلغ الرفق بالحيوان في بعض البلاد الأوربية درجة لا تخلو من المغالاة , ومن الأمثلة على ذلك ما قرأته في (مجلة الهلال) (مجلد 27ج9ص126) تحت عنوان (الحيوان والإنسان):
(إن محطة السكك الحديدية في (كوبنهاجن) كان يتعشعش فيها الخفاش زهاء نصف قرن , فلما تقرر هدمها وإعادة بنائها , أنشأت البلدية برجاٍ كلفته عشرات الألوف من الجنيهات , منعاً من تشرد الخفاش).
وحدث منذ ثلاث سنوات أن سقط كلب صغير في شق صغير بين صخرتين في إحدى قرى (إنكلترا) فجند له أولو الأمر مائة من رجال المطافئ لقطع الصخور وإنقاذ الكلب.
وثار الرأي العام في بعض البلاد أخيراً عندما اتخذ الحيوان وسيلة لدراسة الظواهر الطبيعية , حين أرسلت روسيا كلباً في صاروخها , وأرسلت أمريكا قرداً.
فضل إطعام الطعام
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/431)
44 - (قال عمر لصهيب: أي رجل أنت , لولا خصال ثلاث فيك , قال: وما هن , قال: اكتنيت وليس لك ولد , وانتميت إلى العرب وأنت من الروم , وفيك سرف في الطعام. قال: أما قولك: اكتنيت ولم يولد لك , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى. وأما قولك: انتميت إلى العرب ولست منهم , وأنت رجل من الروم , فإني رجل من النمر بن قاسط , فسبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا غلام عرفت نسبي. وأما قولك: فيك سرف في الطعام , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ).
وفي هذا الحديث فوائد:
الأولى: مشروعية الاكتناء لمن لم يكن له ولد , بل قد صح في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى طفلة صغيرة حينما كساها ثوباً جميلاً , فقال لها (هذا سنا ياأم خالد , هذا سنا يا ام خالد).
وقد هجر المسلمون – لا سيما الأعاجم منهم – هذه السنة العربية الإسلامية , فقلما تجد من يكتني منهم , ولو كان له طائفة من الأولاد , فكيف من لا يولد له؟.
وأقاموا مقام هذه السنة ألقاباً مبتدعة , مثل الأفندي , والبيك , و الباشا , ثم السيد , أو الأستاذ , ونحو ذلك مما يدخل بعضه أو كله في باب التزكية المنهي عنها في أحاديث كثيرة , فلينتبه لهذا.
الثانية: فضل إطعام الطعام , وهو من العادات الجميلة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم , ثم جاء الإسلام واكد أيما توكيد , كما في الحديث الشريف , بينما لا تعرف ذلك أوربا , و تستذوقه اللهم إلا من دان بالإسلام منها , كالألبان ونحوهم.
وإن مما يؤسف له أن قومنا بدؤوا يتاثرون بأوربا في طريقة حياتها – ما وافق الإسلام منها وما خالف – فأخذوا لا يهتمون بالضيافة , ولا يلقون لها بالاً , اللهم إلا ما كان منها في المناسبات الرسمية , ولسنا نريد هذا , بل إذا جاءنا أي صديق مسلم , وجب علينا أن نفتح له دورنا , وأن نعرض عليه ضيافتنا , فذلك حق له علينا ثلاثة أيام كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
وإن من العجائب التى يسمعها المسلم في هذا العصر الاعتزاز بالعربية ممن لا يقدرها قدرها الصحيح , إذ لا نجد في كثير من دعاتها اللفظيين من تتمثل فيه الأخلاق العربية , كالكرم , والغيرة , والعزة , وغيرها من الأخلاق الكريمة التي هي من مقومات الأمم , ورحم الله من قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت .............. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأحسن منه قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
45 - (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم – وفي رواية صَالِحَ – الْأَخْلَاقِ).
من أدب النوم والسفر
60 - (نَهَى عَنْ الْوَحْدَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ).
61 - (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ فِي الْوَحْدَةِ ما أعلم مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ [أَبَدًا]).
62 - (الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ).
رواه مالك , وعنه ابوداود، وكذا الترمذي , والحاكم , والبيهقي , وأحمد، والخطيب من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً.
وسببه كما في " المستدرك " والبيهقي: أم رجلاً قدما من سفره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صحبت؟ فقال: ما صحبت أحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكره
في هذه الأحاديث تحريم سفر المسلم وحده , وكذا لو كان معه آخر , لظاهر النهي في الحديث الذي قبل هذا ولقوله فيه شيطان , أي عاص , كقوله تعالى (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) , فإن معناه: عصاتهم , كما قال المنذري.
وقال الطبري:
(هذا زجر أدب وإرشاد , لما يخاف على الواحد من الوحشة , وليس بحرام فالسائر وحده بفلاة , والبائت في بيت وحده , لا يأمن من الاستيحاش , سيما إن كان ذا فكرة رديئة , أو قلب ضعيف , والحق أن الناس يتفاوتون في ذلك , فوقع الزجر لحسم المادة , فيكره الانفراد سداً للباب , والكراهة في الاثنين أخف منها في الواحد) , ذكره المناوي في الفيض.
قلت: ولعل الحديث أراد السفر في الصحارى والفلوات التي قلما يرى المسافر فيها أحداً من الناس , فلا يدخل فيها السفر اليوم في الطرق المعبدة الكثيرة المواصلات. والله أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/432)
ثم إن فيه رداً صريحاً على خروج بعض الصوفية إلى الفلاة وحده للسياحة وتهذيب النفس – زعموا – وكثيراً ما تعرضوا في أثناء ذلك للموت عطشاً وجوعاً , أو لتكفف أيدي الناس , كما ذكروا ذلك في الحكايات عنهم , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
حكم القيام للداخل
67 - (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزَلُوهُ فَقَالَ عُمَرُ سَيِّدُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنْزِلُوهُ فَأَنْزَلُوهُ).
أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) , والإمام أحمد والسياق له , وابن سعد , وابن حبان عن مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ قَالَتْ:
(خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ قَالَتْ فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي يَعْنِي حِسَّ الْأَرْضِ قَالَتْ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ قَالَتْ فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ قَالَتْ فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ لَبث قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ قَالَتْ فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ سَبْغَةٌ لَهُ يَعْنِي مِغْفَرًا فَقَالَ عُمَرُ مَا جَاءَ بِكِ لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ وَمَا يُؤْمِنُكِ أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوُّزٌ قَالَتْ فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي سَاعَتَئِذٍ فَدَخَلْتُ فِيهَا قَالَتْ فَرَفَعَ الرَّجُلُ السَّبْغَةَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ يَا عُمَرُ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمَ وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ أَوْ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ لَهُ فَقَالَ لَهُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرَقَةِ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَطَعَهُ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَعْدٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ قَالَتْ وَكَانُوا حُلَفَاء وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَتْ فَرَقَى كَلْمُهُ – أي: جرحه - وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوِيًّا عَزِيزًا فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَضَعَ السِّلَاحَ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ فَقَالَ أوَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ قَالَتْ فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْمٍ وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ فَقَالَ مَنْ مَرَّ بِكُمْ فَقَالُوا مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَتْ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ قِيلَ لَهُمْ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/433)
انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ قَالُوا نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَنَزَلُوا وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ وَحَفَّ بِهِ قَوْمُهُ فَقَالُوا يَا أَبَا عَمْرٍو حُلَفَاؤُكَ وَمَوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ وَمَنْ قَدْ عَلِمْتَ فلم يرجع إليهم شيئاً , وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمْ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَدْ آنَ لِي أَنْ لَا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزَلُوهُ فَقَالَ عُمَرُ سَيِّدُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنْزِلُوهُ فَأَنْزَلُوهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْكُمْ فِيهِمْ قَالَ سَعْدٌ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُكْمِ رَسُولِهِ قَالَتْ ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ قَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَالَتْ فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ وَكَانَ قَدْ بَرِئَ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا مِثْلُ الْخُرْصِ وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَ عَلْقَمَةُ قُلْتُ أَيْ أُمَّهْ فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ قَالَتْ كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجِدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ).
فيه فائدتان:
الأولي: اشتهر رواية الحديث بلفظ (لسيدكم) , والرواية في الحديثين كما رأيت: (إلى سيدكم) , ولا أعلم للفظ الأول أصلاً , وقد نتج منه خطأ فقهي , وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره.
قال الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل في (التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها وتصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد الهروي) (ق 17/ 2):
(ومن ذلك ما ذكره في هذا الباب من ذكر السيد , وقال كقوله لسعد حين قال: قوموا لسيدكم , أراد أفضلكم رجلاً , قلت: والمعروف أنه قال: قوموا إلى سيدكم , قاله صلى الله عليه وسلم لجماعة من الأنصار لما جاء سعد بن معاذ محمولاً على حمار وهو جريح ..... أي: أنزلوه واحملوه , لا قوموا له من القيام له , فإنه أراد بالسيد: الرئيس المتقدم عليهم , وإن كان غيره افضل منه).
الثانية: اشتهر الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية القيام للداخل , وأنت إذا تأملت في سياق القصة , يتبين لك أنه استدلال ساقط من وجوه كثيرة: أقواها قوله صلى الله عليه وسلم: (فأنزلوه) , فهو نص قاطع على أن الأمر بالقيام إلى سعد إنما كان لإنزاله من أجل كونه مريضاً , ولذلك قال الحافظ: (وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه , وقد احتج به النووي في كتاب القيام).
و جوب التفكر في خلق السماوات والأرض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/434)
68 - (لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: [إن في خلق السماوات والأرض] الآية).
رواه أبو الشيخ ابن حبان في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حبان في " صحيحه " عن يحيى بن زكريا بن إبراهيم بن سعد بن سويد النخعي: نا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: (دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها , فقال بن عمير: حدثينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي. قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك , وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي , فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتي بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورأً؟ لقد نزلت ... ) الحديث
فيه فضل النبي صلى الله عليه وسلم , وكثرة خشيته وخوفه من ربه , وإكثاره من عبادته , مع أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , فهو المنتهى في الكمال البشري , ولا جرم في ذلك , فهو سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
لكن , ليس فيه ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل كله , لأنه لم يقع فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم , ابتدأ القيام من بعد العشاء أو قريباً من ذلك , بل إن قوله (قام ليلة من الليالي , فقال ... ) الظاهر أن معناه: (قام من نومه .. ) , أي نام أوله ثم قام , فهو على هذا بمعنى حديثها الآخر: (كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِ آخِرَهُ .. ) , أخرجه مسلم.
وإذا تبين هذا , فلا يصح حينئذ الاستدلال بالحديث على مشروعية إحياء الليل كله , كما فعل الشيخ عبد الحي اللكنوي في (إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس بدعة) , قال (ص 13):
(فدل ذلك على أن نفي عائشة قيام الليل كله محمول على غالب أوقاته صلى الله عليه وسلم).
قلت: يشير بـ (نفي عائشة) إلى حديثها الآخر: (َلَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً يُتِمُّهَا حتى الصَّبَاحِ وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ قَطُّ) , أخرجه مسلم , وأبوداود , واللفظ له.
قلت: فهذا نص في النفي المذكور لا يقبل التأويل , وحمله على غالب الأوقات إنما يستقيم لو كان حديث الباب صريح الدلالة على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام تلك الليلة بتمامها , أما وهو ليس كذلك كما بينا , فالحمل المذكور مردود , ويبقى النفي المذكور سالماً من التقييد , وبالتالي تبقى دلالته على عدم مشروعية قيام الليل كله قائمة , خلافاً لما ذهب إليه الشيخ عبد الحي في كتابه المذكور , وفيه كثير من المؤخذات التي لا مجال لذكرها الآن , وإنما أقول: إن طابعه التساهل في سرد الروايات المؤيدة لوجهة نظره , من أحاديث مرفوعة , وأثار موقوفة , وحسبك مثالاً على هذا أنه ذهب إلى تحسين حديث (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) , تقليداً منه لبعض المتأخرين , دون أن ينظر في دعواهم: هل هي تطابق الحقيقة وتوافق القواعد العلمية؟ مع ما في التحسين المذكور من المخالفة لنصوص الأئمة المتقدمين , كما بينته في (الأحاديث الضعيفة 52) , فراجعه لتزداد بصيرة بما ذكرنا.
من أدب الطعام
71 - (كَانَ إِذَا قُرِّبَ إليهُ طَعَامٌ يقَولَ بِسْمِ اللَّهِ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَأَسْقَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وأحييتَ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ).
أقنيت , أي: ملكت المال وغيره.
وفي هذا الحديث الشريف أن التسمية في أول الطعام بلفظ (بِسْمِ اللَّهِ) , لا زيادة فيها , وكل الأحاديث التي وردت في الباب – كهذا الحديث – ليس فيها الزيادة , ولا أعلمها وردت في حديث , فهي بدعة عند الفقهاء بمعنى البدعة , وأما المقلدون , فجوابهم معروف: (شو فيها؟).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/435)
فنقول: فيها كل شئ , وهو الاستدراك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ما ترك شيئاً يقربنا إلى الله إلا أمرنا به وشرعه لنا , فلو كان ذلك مشروعاً ليس فيه شئ , لفعله ولو مرة واحدة , وهل هذه الزيادة إلا كزيادة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العاطس بعد الحمد؟ وقد أنكرها عبد الله بن عمر رضي الله عنه , كما في (مستدرك الحاكم) , وجزم السيوطي في (الحاوي للفتاوي) بأنها بدعة مذمومة , وقال ابن عابدين في (الحاشية) , بكراهيتها , فهل يستطيع المقلدون الإجابة عن السبب الذي حمل السيوطي على الجزم بذلك؟ قد يبادر بعض المغفلين منهم فيتهمه – كما هي عادتهم – بأنه وهابي , مع أن وفاته كانت قبل وفاة محمد بن عبدالوهاب بنحو ثلاث مئة سنة.
ويذكرني هذا بقصة طريفة في بعض المدارس في دمشق , فقد كان أحد الأساتذة المشهورين من النصارى يتكلم عن حركة محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية , ومحاربتها للشرك والبدع والخرافات , ويظهر أنه أطرى في ذلك , فقال بعض تلامذته: يظهر أن الأستاذ وهابي.
وقد يسارع آخرون إلى تخطئة السيوطي , ولكن , أين الدليل؟ والدليل معه , وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) , متفق عليه , وهو مخرج في (غاية المرام) , وفي الباب غيره مما سنجمعه في كتابنا الخاص بالمحدثات , والمسمى بـ (قاموس البدع) نسأل الله تعالى أن ييسر لنا إتمامه بمنه وفضله.
من مكارم الأخلاق
72 - (أحب للناس ما تحب لنفسك).
73 - (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ [مِنْ الْخَيْرِ]).
وأعلم أن هذه الزيادة [مِنْ الْخَيْرِ] زيادة هامة تحدد المعنى المراد من الحديث بدقة , إذ إن كلمة [الْخَيْرِ] كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات , لأن اسم الخير لا يتناولها كما هو واضح , فمن كمال خلق المسلم أن يحب لأخيه المسلم من الخير مثلما يحب لنفسه , وكذلك أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر , وهذا وإن لم يذكر في الحديث , فهو من مضمونه , لأن حب الشئ مستلزم لبغض نقيضه , فترك التنصيص عليه اكتفاء , كما قال الكرماني , ونقله الحافظ في (فتح الباري) وأقره.
وقد عزا هذه الزيادة بعض المخرجين للشيخين , وذلك من جهلهم بهذا العلم.
من آداب الرؤيا
119 - (لَا تَقُصُّوا الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ).
أخرجه الترمذي والدارمي عن يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (فذكره).
وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه زيادة توضح سبب هذا النهي وهو:
120 - (إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا راى أحدكم رؤيا، فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما).
والحديث صريح بأن الرؤيا تقع على مثل ما تعبر , ولذلك أرشدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن لا نقصها إلا على ناصح أو عالم , لأن المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها , فيقع على وفق ذلك , لكن مما لا ريب فيه أن ذلك مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا , ولو على وجه , وليس خطأ محضاً , وإلا , فلا تأثير له حينئذ , والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري في كتاب التعبير من صحيحه بقوله (بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ) , ثم ساق حديث الرجل الذي رأى في المنام ظلة , وعبرها أبوبكر الصديق , ثم قال: فأخبرني يارسول الله بأبي أنت , أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
121 - (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا).
وهو من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ولفظه:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/436)
(أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ بالسَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَه رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَهِ رَجُلٌ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له اعْبُرْهَا قَالَ أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بهُ رَجُلٌ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا قَالَ فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ قَالَ لَا تُقْسِمْ).
غريب الحديث:
ظلة , أي: سحابة لها ظل , وكل ما أظل من سقيفة ونحوها يسمى ظلة.
تنطف , أي: تقطر , والنطف: القطر.
يتكففون , أي: يأخذون بأكفهم.
سبب , أي: حبل.
فضل الكفاف والقناعة به
129 - (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).
وفي هذا الحديث فضل الكفاف والقناعة به , ومثله الحديث الآتي:
130 - (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا).
في هذا الحديث والذي قبله دليل على فضل الكفاف , وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك , رغبة في توفر نعيم الآخرة , وإيثاراً لما يبقى على ما يفنى , فينبغي للأمة أن تقتدي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك , وقال القرطبي: (معنى الحديث أنه طلب الكفاف , فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة , وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً , كذا في فتح الباري).
قلت: ومما لا ريب فيه أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص , والأزمان والأحوال , فينبغي للعاقل أن يحرص على تحقيق الوضع الوسط المناسب له , بحيث لا ترهقه الفاقة , ولا يسعي وراء الفضول الذي يوصله إلى التبسط والترفه , فإنه في هذه الحال قلما يسلم من عواقب جمع المال , لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه مفاتنه , وتيسرت على الأغنياء سبله , أعاذنا الله تعالى من ذلك , ورزقنا الكفاف من العيش.
التكني ممن ليس له ولد
132 - (اكْتَنِي [بابنك عبدالله – يعني: ابن الزبير] أَنْتِ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ).
أخرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ نِسَائِكَ لَهَا كُنْيَةٌ غَيْرِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فذكره بدون الزيادة) قال: فَكَانَ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى مَاتَتْ وَلَمْ تَلِدْ قَطُّ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/437)
وفي الحديث مشروعية التكني ولو لم يكن له ولد , وهذا أدب إسلامي ليس له نظير عند الأمم الأخرى فيما أعلم , فعلى المسلمين أن يتمسكوا به رجالاً ونساء , ويدعوا ما تسرب إليهم من عادات الأعاجم مثل كـ (البيك) و (الأفندي) و (الباشا) , ونحو ذلك كـ (المسيو) , أو (السيد) , و (السيدة) , و (الآنسة) , إذ كل ذلك دخيل في الإسلام , وقد نص فقهاء الحنفية على كراهية (الأفندي) , لما فيه من التزكية , كما في (حاشية ابن عابدين) , والسيد إنما يطلق على من كان له نوع ولاية ورياسة , وفي ذلك جاء حديث (قوموا إلى سيدكم) , وقد تقدم برقم – 66 - ولا يطلق على كل أحد لأنه من باب التزكية أيضاً.
فائدة: وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها , أنها أسقطت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطاً فسماه عبدالله , وكناها به , فهو باطل سنداً ومتناً , وبيانه في المجلد التاسع من الضعيفة.
من حقوق الجار
149 - (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه).
وفي الحديث دليل واضح على أنه يحرم على الجار الغني أن يدع جيرانه جائعين , فيجب عليه أن يقدم إليهم ما يدفعون به الجوع , وكذلك ما يكتسون به إن كانوا عراة , ونحو ذلك من الضروريات.
ففي الحديث إشارة إلى أن في المال حقاً سوى الزكاة , فلا يظنن الأغنياء أنهم قد برئت ذمتهم بإخراجهم زكاة أموالهم سنوياً , بل عليهم حقوق أخرى لظروف وحالات طارئة , من الواجب عليهم القيام بها , وإلا دخلوا في وعيد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة 34 - 35.
النهي عن التقبيل عند اللقاء
160 - (لا و لكن تصافحوا يعني: لا ينحني لصديقه. . . ولا يقبله حين يلقاه).
رواه الترمذي , وابن ماجه , والبيهقي , وأحمد من طريق حَنْظَلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يَلْقَى صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا قَالَ فَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ إِنْ شَاءَ).
إذا عرفت ذلك , ففيه رد على بعض المعاصرين من المشتغلين بالحديث من ذوي الأهواء والطرق , وهو الشيخ عبدالله بن محمد الصديق الغماري , فقد ألف جزءاً صغيراً أسماه (إعلام النبيل بجواز التقبيل) , حشد فيه كل ما وقف عليه من أحاديث التقبيل – ما صح منها وما لم يصح - , ثم أورد هذا الحديث وضعفه بحنظلة , ولعله لم يقف على هذه المتابعات التي تشهد له , ثم تأويله بحمله على ما إذا كان الباعث على التقبيل مصلحة دنيوية , كغنى أو جاه أو رياسة مثلاً , وهذا تأويل باطل , لأن الصحابة الذين سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التقبيل , لا يعنون به قطعاً التقبيل المزعوم , بل تقبيل تحية , كما سألوه عن الانحناء والمصافحة , فكل ذلك إنما عنوا به التحية , فلم يسمح لهم من ذلك بشئ إلا المصافحة , فهل هي المصافحة لمصلحة , دنيوية؟ اللهم لا.
فالحق أن الحديث نص صريح على عدم مشروعية التقبيل عند اللقاء, ولا يدخل في ذلك تقبيل الأولاد والزوجات , كما هو ظاهر , وأما الأحاديث التي فيها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعض الصحابة في وقائع مختلفة , مثل تقبيله واعتناقه لزيد بن حارثة عند قدومه المدينة , واعتناقه لأبي الهيثم بن التيهان , وغيرهما , فالجواب عنها من وجوه:
الأول: أنها أحاديث معلولة لا تقوم بها حجة , ولعلنا نتفرغ للكلام عليها وبيان عللها إن شاء الله تعالى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/438)
الثاني: أنه لو صح شئ منها , لم يجز أن يعارض بها هذا الحديث الصحيح , لأنها فعل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل الخصوصية أو غيرها من الاحتمالات التي توهن الاحتجاج بها , على خلاف هذا الحديث , لأنه حديث قولي وخطاب عام موجه إلى الأمة , فهو حجة عليها , لما تقرر في علم الأصول أن القول مقدم على الفعل عند التعارض , والحاظر مقدم على المبيح , وهذا الحديث قول وحاظر , فهو المقدم على الأحاديث المذكورة لو صحت.
وأما الالتزام والمعانقة , فما دام أنه لم يثبت النهي عنه في الحديث كما تقدم , فالواجب حينئذ البقاء على الأصل وهو الإباحة , وبخاصة أنه قد تأيد ببعض الأحاديث والآثار فقال أنس: (كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تلاقوا , تصافحوا , وإذا قدموا من سفر , تعانقوا).
وروى البخاري في الأدب المفرد , وأحمد , عن جابر بن عبدالله قال: (بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ نَعَمْ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ) الحديث , وإسناده حسن.
وصح التزام ابن التيهان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حديقته , كما في مختصر الشمائل.
وأما تقبيل اليد ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة , يدل مجموعها على ثبوت ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف , فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط الآتية:
1 - أن لا يتخذ عادة بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته , ويتطبع هؤلاء على التبرك بذلك , فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قبلت يده , فإنما كان ذلك على الندرة , وما كان كذلك , فلا يجوز أن يجعل سنة مستمرة , كما هو معلوم من القواعد الفقهية.
2 - أن لا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره ورؤيته لنفسه ,كما هو الواقع مع بعض المشائخ اليوم.
3 - أن لا يؤدي ذلك إلى تعطيل سنة معلومة , كسنة المصافحة , فإنها مشروعة بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله , وهي سبب شرعي لتساقط ذنوب المتصافحين ,كما روي في غيرما حديث واحد , فلا يجوز إلغاؤها من أجل أمر أحسن أحواله أنه جائز.
توحيد الموازين
165 - (الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (تأملنا هذا الحديث , فوجدنا مكة لم يكن بها ثمرة ولا زرع حينئذ , وكذلك كانت قبل ذلك الزمان ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) إبراهيم 37 , وإنما كانت بلد متجر , يوافي الحاج إليها بتجارات فيبيعونها هناك , وكانت المدينة بخلاف ذلك , لأنها دار النخل , ومن ثمارها حياتهم , وكانت الصدقات تدخلها , فيكون الواجب فيها من صدقة تؤخذ كيلاً , فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمصار كلها لهذين المصرين أتباعاً , وكان الناس يحتاجون إلى الوزن في أثمان ما يبتاعون , وفيما سواها مما يتصرفون فيه من العروض ومن أداء الزكوات وما سوى ذلك مما يستعملونه , فيما يسلمونه فيه من غيره من الأشياء التي يكيلونها , وكانت السنة قد منعت من إسلام موزون في موزون , ومن إسلام مكيل في مكيل , وأجازت إسلام المكيل في موزون , والموزون في مكيل , ومنعت من بيع الموزون بلموزون , إلا مثلاً بمثل , ومن بيع المكيل بالمكيل , إلا مثلاً بمثل , وكان الوزن في ذلك أصله مكان عليه كان بمكة , والمكيال مكيال أهل المدينة , لا يتغير عن ذلك , وإن غيره الناس عما كان عليه إلى ما سواه من ضده , فيرحبون بذلك إلى معرفة الأشياء المكيلات التي لها حكم المكيال إلى ماكان عليه أهل المكاييل فيها يومئذ , وفي الأشياء الموزونات إلى ماكان عليه أهل الميزان يومئذ , وأن أحكامها لا تتغير عن ذلك ولا تنقلب عنها إلى أضدادها).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/439)
قلت: ومن ذلك يتبين لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أول من وضع أصل توحيد الموازين والمكاييل , ووجه المسلمين إلى الرجوع في ذلك إلى أهل هذين البلدين المفضلين: مكة المكرمة والمدينة المنورة.
فليتأمل العاقل هذا , ولينظر حال المسلمين اليوم واختلافهم في مكاييلهم وموازينهم , على أنواع شتى , بسبب هجرهم لهذا التوجيه النبوي الكريم , ولما شعر بعض المسؤولين في بعض الدول العربية المسلمة بسوء هذا الاختلاف , اقترح البعض عليهم توحيد ذلك وغيره كالمقاييس بالرجوع إلى عرف الكفار فيها , فوا أسفاه , لقد كنا سادة وقادة لغيرنا بعلمنا وتمسكنا بشريعتنا , وإذا بنا اليوم أتباع ومقلدون , ولمن؟ لمن كانوا في الأمس القريب يقلدوننا , ويأخذون العلوم عنا , ولكن لا بد لهذا الليل من أن ينجلي , ولا بد للشمس أن تشرق مرة أخرى , وها قد لا حت تباشير الصبح , وأخذت بعض الدول الإسلامية تعتمد على نفسها في كل شؤون حياتها , بعد أن كانت فيها عالة على غيرها , ولعلها تسير في ذلك على هدي كتاب ربها وسنة نبيها , ولله في خلقه شؤون.
التحذير من ترك كلمة الحق
168 - (لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ [أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ]).
وفي هذا الحديث: النهي المؤكد عن كتمان الحق خوفاً من الناس , أو طمعاً في المعاش , فكل من كتمه مخافة إيذائهم إياه بنوع من أنواع الإيذاء , كالضرب والشتم وقطع الرزق , أو مخافة عدم احترامهم إياه , ونحو ذلك , فهو داخل في النهي ومخالف للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا كان هذا حال من يكتم الحق وهو يعلمه , فكيف يكون حال من لا يكتفي بذلك , بل يشهد بالباطل على المسلمين الأبرياء , ويتهمهم في دينهم وعقيدتهم , مسايرة منه للرعاع , أو مخافة أن يتهموه هو أيضاً بالباطل إذا لم يسايرهم على ضلالهم واتهامهم؟ فاللهم ثبتنا على الحق , وإذا أردت بعبادك فتنة , فاقبضنا إليك غير مفتونين.
من أدب المجالسة والمباحثة
170 - (إِذَا قُلْتَ لِلنَّاسِ أَنْصِتُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فَقَدْ أَلْغَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ [يعني: يوم الجمعة]).
رواه الإمام أحمد , ثنا عبد الرزاق بن همام , ثنا معمر بن همام عن بي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
قلت: فذكر أحاديث كثيرة هذا أحداها. وهذا سند صحيح علي شرط الشيخين وقد أخرجاه في الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب , فقد لغوت).
أَلْغَيْتَ ,أي: قلت اللغو وما لا يحسن من الكلام , قال الراغب الأصبهاني في المفردات: (اللغو من الكلام ما لا يعتد به , وهو الذي يورد لا عن روية فكر , فيجري مجرى اللغا , وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور , قال أبو عبيدة: لغو ولغا , نحو عيب وعاب , وأنشدهم: عن اللغا ورفث التكلم , يقال: لغيت تلغى , نحو , لقيت تلقى , وقد يسمى كل كلام قبيح لغواً).
قلت: وفي الحديث التحذير من الإخلال بأدب رفيع من آداب الحديث والمجالسة , وهو أن لا يقطع على الناس كلامهم , بل ينصت هو حتى ينتهي كلامهم , وإن كان كبير القوم , ثم يتكلم هو بدوره إن شاء ,فذلك أدعى إلى حصول الفائدة من الكلام المتبادل بين الطرفين , لا سيما إذا كان في بحث علمي شرعي , وقد أخل – مع الأسف – بهذا الأدب أكثر المتباحثين , فإليه نلفت أنظارهم , أدبنا الله تعالى جميعاً بأدب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم وقفت على الحديث في صحيفة همام بن منبه التي يرويها الحافظ الثقة أحمد بن يوسف السلمي (رقم 120) حدثنا عبدالرازاق به , وزاد ما استدركته في هذه الطبعة وجعلته بين المعكوفتين في متن الحديث , وكذلك هي في مصنف عبدالرزاق (3/ 223/5418) من كتاب الجمعة , وهي من رواية الدبري عنه وفيها كلام , فالعمدة على رواية السلمي عنه.
وحينئذ , فالحديث لا علاقة له بما كنا عنوناً عنه , بل هو كحديث سعيد بن المسيب وغيره عن أبي هريرة , فاقتضى التنبيه , والله أعلم.
الصحة خير من الغنى
174 - (لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/440)
أخرجه ابن ماجه , والحاكم , وأحمد من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بن أبي سلمة أنه سمع مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍفقال له بعضنا نَرَاكَ اليوم طَيِّبَ النَّفْسِ فقَالَ أَجَلْ الحمد لله ثُمَّ أفاض الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ).
الشراب قائماً
175 - (لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا).
وقد ورد الحديث بلفظ آخر , وهو:
176 - (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لَاسْتَقَاءَهُ).
وفي الحديث تلميح لطيف إلى النهي عن الشرب قائماً , وقد جاء التصريح بذلك من حديث أنس رضي الله عنه , وهو:
177 - (نَهَى [وفي لفظ زَجَرَ] عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا).
وظاهر النهي في هذه الأحاديث يفيد تحريم الشراب قائماً بلا عذر , وقد جاءت أحاديث كثيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب قائماً , فاختلف العلماء في التوفيق بينهما , والجمهور على أن النهي للتنزيه , والأمر بالاستقاء للاستحباب , وخالفهم ابن حزم , فذهب إلى التحريم , ولعل هذا هو الأقرب للصواب , فإن القول بالتنزيه لا يساعد عليه لفظ (زجر) , ولا الأمر بالاستقاء , لأنه – أعني: الاستقاء – فيه مشقة شديدة على الإنسان , وما أعلم أن في الشريعة مثل هذا التكليف كجزاء لمن تساهل بأمر مستحب , وكذلك قوله (قد شرب معك الشيطان) فيه تنفير شديد عن الشرب قائماً , وما إخال ذلك يقال في ترك مستحب.
وأحاديث الشرب قائماً يمكن أن تحمل على العذر , كضيق المكان , أو كون القربة معلقة , وفي بعض الأحاديث الإشارة إلى ذلك , والله أعلم.
ثم رأيت كلاماً جيداً لابن تيمية يشبه هذا , فراجعه في المجموع.
من آداب زيارة الإخوان
182 - (إذا زار أحدكم أخاه، فجلس عنده؛ فلا يقومن حتى يستأذنه).
وفي الحديث تنبيه على أدب رفيع , وهو أن الزائر لا ينبغي أن يقوم إلا بعد أن يستأذن المزور , وقد أخل بهذا التوجيه النبوي الكريم كثير من الناس في بعض البلاد العربية فتجدهم يخرجون من المجلس دون استئذان , وليس هذا فقط , بل وبدون سلام أيضاً , وهذه مخالفة أخرى لأدب إسلامي آخر , أفاده الحديث الآتي:
183 - (إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ).
والسلام عند القيام من المجلس أدب متروك في بعض البلاد , وأحق من يقوم بإحيائه هم أهل العلم وطلابه , فينبغي لهم إذا دخلوا على الطلاب في غرفة الدرس مثلاً أن يسلموا , وكذلك إذا خرجوا , فليست الأول بأحق من الأخرى , وذلك من إفشاء السلام المأمور به في الحديث الآتي:
184 - (إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم).
والأحاديث في الأمر بإفشاء السلام كثيرة صحيحة , وبعضها في الصحيح , وقد اخترت منها هذا الحديث للكلام عليه , لأنه ليس في الصحيح , مع أن إسناده صحيح , وله تلك الشواهد , فأحببت أن أبين ذلك.
إذا عرفت هذا فينبغي أن تعلم أن إفشاء السلام المأمور به دائرته واسعة جداً ضيقها بعض الناس جهلاً بالسنة , أو تهاملاً في العمل بها.
فمن ذلك السلام على المصلي فأن كثيراً من الناس يظنون أنه غير مشروع , بل صرح النووي في " الأذكار " بكرهته , مع أنه صرح في " شرح مسلم ": (أنه يستحب رد السلام بالإشارة)، وهو سنة , فقد جاءت أحاديث كثيرة في سلام الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأقرهم على ذلك، ورد عليهم السلام، فأنا أذكر هنا حديثاً واحداً منها، وهو حديث ابن عمر قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/441)
185 - (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ فَقُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ يَقُولُ هَكَذَا وَبَسَطَ كَفَّهُ وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ).
وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه , فقال المروزي في المسائل: (قلت: - يعني لأحمد -: يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم , فذكر قصة بلال حين سأله ابن عمر: كيف كان يرد؟ قال: كان يشير , قال إسحاق: كما قال).
واختار هذا بعض محققي المالكية , فقال القاضي أبوبكر بن العربي في العارضة: (قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة , وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي , فإن كانت لرد السلام , ففيها الآثار الصحيحة , كفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قباء وغيره , وقد كنت في مجلس الطرطوشي , وتذاكرنا المسألة , وقلنا الحديث , واحتججنا به , وعامي في آخر الحلقة , فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهياً لئلا يشغلوه , فعجبنا من فقهه , ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب , على حسب ما بيناه في أصول الفقه).
ومن العجب أن النووي بعد أن صرح في الأذكار بكراهة السلام على المصلي قال ما نصه: (والمستحب أن يرد عليه في الصلاة بالإشارة , ولا يتلفظ بشئ).
أقول: ووجه التعجب أن استحباب الرد منه , يستلزم استحباب السلام عليه , والعكس بالعكس , لأن دليل الأمرين واحد , وهو هذا الحديث وما في معناه , فإذا كان يدل على استحباب الرد , فهو في الوقت نفسه يدل على استحباب الإلقاء , فلو كان هذا مكروهاً , لبينه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ولو بعدم الإشارة بالرد , لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , وهذا بين ظاهر , والحمد لله.
ومن ذلك أيضاً السلام على المؤذن وقارئ القرآن , فإنه مشروع , والحجة ما تقدم , فإنه إذا ثبت استحباب السلام على المصلي , فالسلام على المؤذن والقائ أولى وأحرى , وأذكر أنني كنت قرأت في المسند حديثاً فيه سلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جماعة يتلون القرآن وكنت أود أن أذكره بهذه المناسبة وأتكلم على إسناده , ولكنه لم يتيسر لي الآن.
وهل يردان السلام باللفظ أم بالإشارة؟ الظاهر الأول , قال النووي: (وأما المؤذن , فلا يكره له رد الجواب بلفظ المعتاد , لأن ذلك يسير , لا يبطل الأذان ولا يخل به).
ومن ذلك تكرار السلام بعد حصول المفارقة , ولو بعد مدة يسيرة , لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
186 - (إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا).
وقد ثبت أن الصحابة كانوا يفعلون بمقتضى هذا الحديث الصحيح , فروى البخاري في "الأدب"عن أنس بن مالك: (أن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يكونون , فتستقبلهم الشجرة , فتنطلق طائفة منهم عن يمينها وطائفة عن شمالها , فإذا التقوا , سلم بعضهم على بعض).
ويشهد له حديث المسئ صلاته المشهور عن أبي هريرة: (إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد فدخل رجل فصلى , ثم جاء فسلم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام , قال: ارجع فصل فإنك لم تصل , فرجع الرجل فصلى كما كان صلى , ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه [فعل ذلك ثلاث مرات]) , أخرجه الشيخان وغيرهما , وبه استدل صديق حسن خان في نزل الأبرار على أنه: (إذا سلم عليه إنسان , ثم لقيه على قرب , يسن له أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/442)
وفيه دليل أيضاً على مشروعية السلام على من في المسجد , وقد دل على ذلك حديث سلام الأنصار على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد قباء كما تقدم.
ومع هذا كله نجد بعض المتعصبين لا يعبؤون بهذه السنة , فيدخل أحدهم المسجد ولا يسلم على من فيه , زاعمين أنه مكروه , فلعل فيما كتبناه ذكرى لهم ولغيرهم , والذكرى تنفع المؤمنين.
تعلم لغة الأجانب وكتابتهم
187 - (تعلم كتاب اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابنا).
رواه أبوداود , والترمذي , والحاكم , وأحمد , والفاكهي , واللفظ له , كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة , أتي بي إليه , فقرأت عليه , فقال لي: (فذكره) , قال: فما مر بي خمس عشرة , حتى تعلمته , فكنت أكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأقرأ كتبهم إليه.
قلت: وهذا الحديث في معنى الحديث المتداول على الألسنة: (من تعلم لسان قوم , أمن من مكرهم) , ولكن لا أعلم له أصلاً بهذا اللفظ , ولا ذكره أحد ممن ألف في الأحاديث المشتهرة على الألسنة , فكأنه إنما اشتهر في الأزمنة المتأخرة.
تغييره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأسماء القبيحة
207 _ (كان يغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن).
208 - (كان إذا سمع اسما قبيحا؛ غيره، فمر على قرية يقال لها: عفرة فسماها خضرة).
209 - (كان إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه؛ حوله).
هذه بعض الأسماء التي غيرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في الأحاديث الصحيحة: برة , عاصية , حزن , شهاب , جثامة.
وإليك بعض الأحاديث في ذلك:
210 - (لا تزكوا أنفسكم؛ فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سميها زينب).
211 - (كان اسم زينب برة [فقيل: تزكي نفسها]، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب).
212 - (كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة).
213 - (أنت جميلة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية، وقال: أنت جميلة).
214 - (أنت سهل).
215 - (بل أنت هشام).
216 - (بل أنت حسانة المزنية).
قال الطبري: (لا ينبغي التسمية باسم قبيح المعنى , ولا باسم يقتضي التزكية له , ولا باسم معناه السب , ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص , لا يقصد بها حقيقة الصفة , لكن وجه الكراهة أن يسمع بالاسم , فيظن أنه صفة للمسمى , فلذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحول الاسم إلى ما إذا دعي به صاحبه , كان صدقاً).
قال: (وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسماء) ذكره في الفتح.
قلت: وعلى ذلك , فلا يجوز التسمية بـ[عز الدين] و [محيي الدين] و [ناصر الدين] .... ونحو ذلك , ومن أقبح الأسماء التي راجت في العصر , ويجب المبادرة إلى تغييرها لقبح معانيها , هذه الأسماء التي أخذ الآباء يطلقونها على بناتهم , مثل [وصال] و [سهام] و [نهاد: وهي المرأة إذا كعب ثديها و وارتفع عن الصدر , صارله حجم] و [غادة: وهي المرأة الناعمة اللينة البينة الغيد] و [فتنة] .. ونحو ذلك , والله المستعان.
تحريم البصق إلى القبلة
222 - (مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وتَفْلتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ).
وللحديث شاهد بلفظ:
223 - (يجيء صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه).
وفي الحديث دلالة على تحريم البصاق إلى القبلة مطلقاً , سواء ذلك في المسجد أو غيره , وعلى المصلي وغيره , كما قال الصنعاني في سبل السلام قال: (وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها , وفي المسجد أو غيره).
قلت: وهو الصواب.
والأحاديث الواردة في النهي عن البصق في الصلاة تجاه القبلة كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما , وإنما آثرت هذا دون غيره , لعزته , وقلة من أحاط علمه به , ولأن فيه أداباً رفيعاً مع الكعبة المشرفة , طالما غفل عنه كثير من الخاصة فضلاً عن العامة , فكم رأيت في أئمة المساجد من يبصق إلى القبلة من نافذة المسجد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/443)
وفي الحديث أيضاً فائدة هامة , وهي الإشارة إلى إن النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط إنما هو مطلق , يشمل الصحراء والبنيان , لأنه إذا أفاد الحديث أن البصق تجاه القبلة لا يجوز مطلقاً فالبول والغائط مستقبلاً لها لا يجوز بالأولى , فمن العجائب إطلاق النووي النهي في البصق , وتخصيصه في البول والغائط (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق 37
تحريم مصافحة النساء
226 - (لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له , ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء , لأن ذلك مما يشمله المس دون شك , وقد بلي بها كثير من المسلمين في هذا العصر , وفيهم بعض أهل العلم , ولو أنهم استنكروا ذلك بقلوبهم , لهان الخطب بعض الشيء , ولكنهم يستحلون ذلك بشتى الطرق و التأويلات , وقد بلغنا أن شخصية كبيرة جداً في الأزهر قد رآه بعضهم يصافح النساء , فإلى الله المشتكى من غربة الإسلام.
بل إن بعض الأحزاب الإسلامية قد ذهبت إلى القول بجواز المصافحة المذكورة , وفرضت على كل حزبي تبنيه , واحتجت لذلك بما لا يصلح , معرضة عن الاعتبار بهذا الحديث والأحاديث الأخرى الصريحة في عدم مشروعية المصافحة.
ليس من الآداب الإسلامية أن يقوم الرجل عن مجلسه ليجلس فيه غيره
228 - (لَا يَقُومُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَكِنْ أَفْسِحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ).
وللحديث شاهدان ذكرهما الحافظ في الفتح , وفاته هذا الحديث المشهود له , فقال تعليقاً على قول البخاري: (وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه) , قال: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه , لم يجلس فيه) وكذا أخرجه مسلم.وعن ابن عمر قال: (لايقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يقعد فيه).
والحديث ظاهر الدلالة على أنه ليس من الآداب الإسلامية أن يقوم الرجل عن مجلسه ليجلس فيه غيره , يفعل ذلك احتراماًَ له , بل عليه أن يفسح له في المجلس وأن يتزحزح له إذا كان الجلوس على الأرض , بخلاف ما إذا كان على الكرسي , فذلك غير ممكن , فالقيام والحالة هذه مخالف لهذا التوجيه النبوي الكريم , ولذلك كان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه , ثم يجلس هو فيه كما تقدم عن البخاري , والكراهة هو أقل ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقُومُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ... ) , فإنه نفي بمعني النهي , والأصل فيه التحريم لا الكراهة , والله اعلم.
ثم إنه لا منافاة بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر المتقدم- (لايقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يقعد فيه) - في الصحيح , لأن فيه زيادة حكم عليه , والأصل أنه يؤخذ بالزائدة فالزائدة من الأحكام , وحديث ابن عمر إنما فيه النهي عن الإقامة , وليس فيه نهي الرجل عن القيام , بخلاف هذا الحديث , ففيه هذا النهي , وليس فيه النهي الأول إلا ضمناً , فإنه إذا كان قد نهي عن القيام , فلأن ينهى عن الإقامة من باب أولى , وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى , وعليه يدل حديث ابن عمر , فإنه مع إنه روى النهي عن الإقامة , كان يكره الجلوس في مجلس من قام عنه له , وإن كان هو لم يقمه , ولعل ذلك سداً للذريعة وخشية أن يوحى إلى الجالس بالقيام , ولو لم يقمه مباشرة , والله أعلم.
من أدب المجلس
330 - (كُنَّا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي).
وفي الحديث تنبيه على آداب المجالس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالما أهمله الناس اليوم حتى أهل العلم , وهو أن الرجل إذا دخل المجلس , يجلس فيه حيث ينتهي به المجلس , ولو عند عتبة الباب , فإذا وجد مثله , فعليه أن يجلس فيه ولا يترقب أن يقوم له بعض أهل المجلس من مجلسه , كما يفعل بعض المتكبرين من الرؤساء , والمتعجرفين من المتمشيخين , فإن هذا منهي عنه صراحة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا) , أخرجه مسلم , وزاد في رواية: (وكان ابن عمر إذا قام له رجل من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(68/444)