وأما الأمانة: وهي الخلق الذي يرعى به الإنسان ما يؤتمن عليه من مال أو عمل _ فقد حَفَّتْها الشريعة بعناية بالغة، وحرمت على الإنسان أن يتصرف فيما يوضع تحت يده على وجه الوديعة أو العارية أو الإجارة إلا بالمقدار الذي يسمح به مالكه، كما أمرته بحفظ ما يناط بعهدته من عمل، ويدخل في هذا إتقان الصناعة، وحسن تدبير السياسة، والنصح في التعليم؛ فمن غش في صنع شيء لحريفه(1)، ومن لم يحسن تدبير السياسة فهو خائن لأمته، ومن لم يسر في التعليم على أقرب المناهج، وأغزرها فائدة فهو خائن لتلاميذه.
العزة والتواضع (2) للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
سَهْلٌ على الإنسان أن يدرك معنى الفضيلة في صورة مجملة, بل سهل عليه أن يتعرف ما هي الفضائل بتفصيل.
وإنما العُسْر في أخذ النفس بها, والسير في معاملة الناس على قانونها.
وعُسْرُ العمل على الفضيلة مع تصور مفهومها, والشعور بحسن أثرها يجيء من ناحية الشهوات التي قد تطغى؛ فتطمس على البصائر, وتكاد تُحوِّل معرفتها للخير إلى جهالة عمياء.
وقد يؤخذ الدارس للأخلاق من ناحية ضعفه في تطبيق الأعمال على ما تقتضيه أصول المكارم؛ ذلك لأن علم الأخلاق يشرح الفضيلة, ويبين ما بينها وبين الأخلاق الأخرى من صلة, وينبه على ما لها من آثار حميدة, ولا يتعرض لمظاهر الفضيلة مظهراً فمظهراً, ولا لمواضع الأخذ بها موضعاً فموضعاً, بل يكل ذلك إلى اجتهاد الشخص ونباهته.
وحدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة, وهذه الحدود في نفسها واضحة جلية, إلا أن تميز ما يدخل فيها مما هو خارج عنها, يحتاج إلى صفاء فطرة, أو تربية تساس بها النفوس شيئاً فشيئاً.
__________
(1) لعلها: لحليفه.
(2) رسائل الإصلاح 1 / 124 _ 130.(1/49)
وكثيراً ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمور, فلا يدري أهي داخلة في الفضيلة أم هي خارجة عن حدودها, وربما سبق ظنه إلى غير صواب, فيخال ما هو من قبيل الفضيلة مكروهاً فيدعه, أو يعيب غيره به, أو يخال ما هو من قبيل المكروه فضيلة فيرتكبه, أو يمدح غيره عليه.
وهذا الشأن يجري في خلقي العزة والتواضع.
فعزة النفس تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى؛ إذ العزة ارتفاع النفس عن مواضع المهانة, والكبرياء استنكاف النفس أن تأتي صالحاً؛ بِتَخَيُّلِ أن ذلك العمل لايليق بمنزلتها, أوتعظُّمها عن أن تجامل ذا نفس زكية؛ بزعم أَنه غيرُ كفءٍ لها.
ويقابل العزة الضعة, وهي إن انحدار النفس في هُوَّة المهانة, ويقابل الكبرياء التواضع, وهو إذعانها للحق ونظرها إلى ذى النفس الزاكية أو المستعدة لأن تكون زاكية نظر احترام أو عطف وإشفاق.
والفرق بين حقائق هذه الأخلاق سهل المأخذ, ولا يكاد يخفى أمره على عامة الناس فضلاً عن خواصهم, ولكن أحوالاً تعرض للرجل؛ فيخفي فيها الوجه الذي يدعو إلى مظهر الرفعة, فيُعد مستكبراً, أويخفي فيها الوجه الذي يدعو إلى التواضع, فيعد صاغراً.
وفى الناس من عد التواضع ذلة
... وعد اعتزاز النفس من جهله كبرا
وقال رجل للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً, فقال: ليس بتيه ولكنه عزة, وتلا قوله _ تعالى _: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ].
وقال عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس لابنه المنذر: =إن فيك لتهياً مفرطاً، وإن العيون تَمُجُّ التَيَّاه، والقلوب تنفر عنه، فقال المنذر: إن لهذا السلطان رونقاً يريقه التبذل, وعلواً يخفضه الانبساط, ولايصونه إلا التيه والانقباض+.
ثم ذكر أناساً يعدون تواضع الرجل صغراً, وتَخَفُّضَه خسةً, فقال له عبدالرحمن: ابق وما رأيت.(1/50)
فوزن المعاملات الخاصة وإلحاقها بإحدى خصلتي العزة أو التواضع، أو طرحها إلى الكبرياء أو المهانة _ يرجع إلى اجتهاد الشخص نفسه.
وهذا لايمنع غيره الذي عرف من سر المعاملة ما عرف من علانيتها أن ينقدهم, ويصف صاحبها بأنه عزيز النفس أو متواضع, أويحكم عليه بأنه متكبر أو متصاغر.
في عزة النفس فوائد تعود على الشخص نفسه, منها ارتياح ضميره, وسلامته من ألم الهوان الذي يلاقيه من لايحتفظ بكرامته, ثم مايلقيه هذا الخلق على صاحبه من مهابة ووقار, وإحرازِ مكانةِ احترامٍ في النفوس مما تنشرح له صدور العظماء.
وإنما عيب الرجل في أن يجعل هذه المكانة غايته المنشودة, أو يتخذها حِبَالَةً لاصطياد مآرب لايتعداه نفعها.
ولهذه الخصلة آثار صالحة في الاجتماع؛ فإن الأمة التي تشرب في نفوسها العزة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشئونها, غنية عن أمم من غيرها, وتبالغ في الحذر من أَنْ تقعَ في يَدِ مَنْ يطعن في نحر كرامتها, ولا يستحيي الإنسانيةَ أن تراه مهتضماً لحقوقها.
ومن عناية الإسلام بأدب العزة أنه بنى كثيراً من أحكامه العملية على رعايتها, كما منع القادر على الكسب من بسط كفه للاستجداء إذ كان في استجدائه إراقة لماء وجهه بين يدى من تكون يده هي العليا.
قال ": =لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه+.
وسن الهجرة من بلد لايرفع فيها الإسلام لواءه إلى بلد تخفق عليه رايته وتقام فيه أحكام شريعته, قال _تعالى _: [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً].
وشرع الذود عن الأوطان وحمايتها من أن يكون للخصوم عليها سيطرة؛ إذ لا نصيب لجماعة المسلمين من سيطرة غير المسلم إلا العسف والإرهاق.(1/51)
ومن الأحكام القائمة على رعاية العزة,أن التبرعات لاتتقرر إلا بقبول المتبرع له؛ فلو وهب شخص لآخر مالاً لم تنعقد الهبة إلا أن يقبلها الموهوب له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منّتها, والمنة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذوو المروآت إلا في حال الضرورة, ولاسيما مِنَّة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
والعلماء الذين كانوا لايقبلون عطايا ولاة الأمور يريدون الاحتفاظ بكامل عزتهم؛ حتى يكون موقفهم في وعظ أولئك الولاة إذا حادوا عن الرشد موقف الناصح الأمين.
ومن هذه الأحكام شرط الكفاءة في النكاح؛ ذلك لأن في تزوج الرفيعة بمن هو دونها امتهاناً لقدرها, وغضاً من كرامة أوليائها؛ فجعل للمرأة وأوليائها الحق في الممانعة من تزويجها بمن لايكافئها, وإنما اختلف الفقهاء في تحديد الكفاءة, كما هومقرر في كتب الأحكام.
وقد عَرَفَ الفقهاءُ أن الشريعة تراعي في أحكامها حق العزة فقالوا: إن المسافر يقبل هبة الماء للوضوء ولا يتيمم؛ إذ لايُمتن بمقدار ما يتوضأ به من الماء عادة, ولم يلزموه قبول هبة ثمن الماء, وأجازوا له التيمم؛ إذ كان في هبةالثمن منة, والمنة تورث شيئاً من الذلة.
وعلى هذا النحو جرى الإمام الغزالي؛ إذ جعل خشية الإهانة مسقطة لوجوب النهي عن المنكر, وموضع هذا أن يعرف العالم أن نهيه لا يجدي نفعاً, ويزيد على عدم جدواه بأن يسومه أولئك المبطلون أو الفاسقون خسفاً.
أما إذا كان يرجو مما يقوله أو يكتبه فائدة فاحتمال الأذى في سبيل العمل الصالح عزة لا تُطَاولها عزة.
ومدح الإنسان نفسه رعونة, فإذا مسه أحدٌ بازدراء فإن علم الأخلاق يسمح له بأن يذود عن عزته, ويقول كلمة ينبه بها على مكانته.
َوفَدَ أبو الفضل بن شرف إلى المعتصم أحد أمراء الأندلس في زي تظهر عليه البداوة, وأنشد قصيدته التي يقول في طالعها:
مطل الليل بوعد الفلق
... وتشكَّى النجم طول الأرق(1/52)
فاهتز المعتصم لسماعها طرباً, فحسد أبا الفضل من الحاضرين ابن أخت غانم, وقال له: من أي البوادي أنت؟ فقال أبو الفضل: أنا من الشرف في الدرجة العالية, وإن كانت البادية عليّ بادية, ولا أنكر خالي، ولا أُعَرِّف بحالي؛ فا نقبض ابن أخت غانم خجلاً.
وأما التواضع وهو بذل الاحترام, أو العطف والمجاملة لمن يستحقه _ فهو خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل من الناس ومودتهم, وهو الطريق الذي يدخل بالشخص في المجتمع, ويكون به عضواً ملتئماً مع سائر الأعضاء التي يتألف منها جسد نسميه الأمة؛ فالتواضع أنجح وسيلة إلى الائتلاف والاتحاد اللذين هما أساس التعاون على مرافق الحياة وجلائل الأعمال.
قال الله _تعالى _ يدعو رسوله الكريم إلى هذا الخلق العظيم: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ].
وقال _تعالى _:[وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا].
يستكبر الأغبياء؛ ظناً منهم أن في الاستكبار رفعة, والحقيقة أن ابتغاء الرفعة من طريق التواضع أنجح من التوصل إليها بطريق التجبر والغطرسة؛ فالتواضع الحكيم يورث المودة, ومن عمر فؤاده بمودتك امتلأت عينه بمهابتك.
وأحسن مقرونين في عين ناظر
... جلالة قدر في خمول تواضع
قد يراك الرجل وأنت تؤدي حق الاحترام إلى رجل عرفت من كماله ما لم يعرفه, فيعد عملك تصاغراً, ويرمي أمامك أو وراءك بسهم الإنكار.
ولو اطلع على ما بطن من هذه المعاملة كما اطلع على ما ظهر منها لأقام لك بدل الإنكار عذراً.
قَدَّم أبو الفضل بن العميد لأبي بكر بن الخياط نعلَه؛ فعده بعض الحاضرين إفراطاً في التنازل, فقال أبو الفضل: أؤلام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئاً من الطبائع للجاحظ إلا عرف ديوانه, وقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها حتى ينتهي إليه؟!(1/53)
وكان أبوالعباس المبرد عندما يرى أبا بكر الأبهري مقبلاً ينهض قائماً حفاوة وإجلالاً, فخطر على بال بعض أصحابه أنه تجاوز حد التواضع, وأن أبا بكر لايستحق هذا القدر من الإجلال, وشافَه المبرد بهذا الخاطر,فقال المبرد:
إذا ما رأيناه مقتبلا
... حللنا الحِبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرن قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما
يتواضع الرجل لأقرانه, فلا يصاعر لهم خداً وإن أبى الدهر إسعافهم, ولايخرج في معاملتهم عن حدود المساواة وإن رزق من المال أو الجاه ما لم يرزقوا, قال البحتري:
وإذا ما الشريف لم يتواضع ... للأخلاء فهو عين الوضيع
ويتواضع الرجل لمن هو دونه في ظاهر هذه الحياة,أو فيما يجري به عرف الناس, كالأستاذ يجامل طالب العلم, والرئيس يجامل المرءوس.
وفي سنة رسول الله " وأقوال الذين أوتوا الحكمة, وسيرة الذين استقاموا على الفضيلة, ما فيه عظة حسنة, وقدوة صالحة.
أما الأستاذ لا يتعاظم على طالب العلم فمن مظاهره الإصغاء إليه عند المناقشة, وإجابته عما سأل في رفق, وتلقي ما يبديه من الفهم بإنصاف, فإن أخطأ نبهه لوجه الخطأ, وإن قال صواباً تقبله منه بارتياح, وارتياح الأستاذ لآثار نجابة الطلاب مما يزيدهم جداً في الطلب, ويشعرهم باستعدادهم لأن يكونوا في النوابغ, وإنما ينبغ الناشيء في العلم متى سطع في نفسه مثل هذا الشعور.
قال عمر بن الخطاب ÷: =تعلموا العلم وعلموه الناس, وتعلموا له الوقار والسكينة, وتواضعوا لمن تعلمتم منه ولمن علمتموه+.
ومن حكم الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ: =وتواضعوا لمن تتعلمون منه, ولمن تعلمونه, ولا تكونوا جبابرة العلماء+.
وأما الرئيس لايتعظم على المرءوس فمن مظاهره لين القول في مخاطبته, والعناية بقضاء ما يستطيع من حاجته, والسعي في دفع الأذى عن جانبه.
والرئيس المتواضع يتحامى أن تشهد منه أثراً يدل على أن نفسه تحدثه بأنه أفضل منك إلا مظاهر يسيغها عرفٌ أصبح مألوفاً بين الناس.(1/54)
روى الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب ÷: =كان في فضله وقدمه ينفخ عام الرمادة(1) النار تحت القدور حتى يخرج الدخان من تحت لحيته+.
ذكر هذا مالك لهارون الرشيد, وقال له: إن الناس يرضون منكم بما دون هذا.
ونقرأ في سيرة المظفر الدين صاحب أربل, أنه بنى أربعة ملاجيء للَّزْمنى والعميان, وقرر لهم كل ما يحتاجون إليه في كل يوم, وكان يأتيهم بنفسه في عصر كل اثنين وخميس, ويدخل على كل واحد في منزله, ويسأله عن حاجته؛ فإحسان مظفر الدين إلى هؤلاء رحمة, ودخوله على كل واحد في نُزُله, وسؤاله عن حاله تواضع.
وصفوة المقال أن العزة ترجع إلى أن يقدرالإنسان قيمة نفسه؛ فلا يوردها إلا الموارد التي تليق بها, والكبر يرجع إلى أن يرى نفسه في منزلة فوق منزلتها؛ فيتراءى في مظاهر يعدها العارفون بكنة حاله اغتراراً وإسرافاً في التقدير.
والضعة ترجع إلى أن يغمط نفسه حقها, ويضعها في مواضع أدنى مما يستحق أن يضعها.
والمتواضع من يعرف قدره, ولايأبى أن يرسل نفسه في وجوه الخير وما يقتضيه من حسن المعاشرة.
وإذا كان من يحتفظ بالعزة, ولا يصرف وجهه عن التواضع, هوالرجل الذي يرجى لنفع الأمة, ويستطيع أن يخوض في كل مجتمع, ضافي الكرامة, أنيس الملتقى, شديد الثقة بنفسه _ كان حقاً على من يتولى تربية الناشئ أن يتفقده في كل طور, حتى إذا رأى فيه خمولاً وقلة احتراس من مواقع المهانة أيقظ فيه الشعور بالعزة, والطموح إلى المقامات العلا.
وإذا رأى فيه كبراً عاتياً، وتيهاً مسرفاً _ خفف من غلوائه, وساسه بالحكمة، حتى يتعلم أن المجد المؤثل لا يقوم إلا على دعائم العزة والتواضع.
الأمانة(2) للشيخ علي الطنطاوي(3)
__________
(1) الرمادة: الهلكة,سمى به عام جدب وقحط وقع في زمن عمر بن الخطاب لهلاك الناس فيه والأموال.
(2) نشرة عام 1946م انظر كتاب( في سبيل الإصلاح) ص83_87.
(3) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/55)
جعل النبي " للمنافق آية يعرف بها بين الناس، ومن آياته أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان .
وهذه الثلاث _ الصدق والوفاء والأمانة _ أركان الحياة الخلقية والاجتماعية، وقد تضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله, وبيان خطر الأمانة, وأنها عرضت على السماوات و الأرض والجبال, فأبين أن يحملنها وأشفقن منها (1), وهن كن أقوى عليها, وحملها على ضعفه الإنسان، وأن المسلم ربما ألم ببعض الذنوب ولكنه لا يكذب أبداً كما جاء في الحديث .
ثم إنك مع ذلك كله تجد المنتسبين إلى الإسلام اليوم، من أرباب الصناعات وأهل السوق أكذبَ لهجةً، وأخلفَ وعداً، وأضيع لأمانة من كثير ممن ليسوا مسلمين، حتى صار المثل يضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه, وصار من يريد أن يؤكد وعداً يصف بأنه (وعد أوربي )!
اللهم إن هذا لمن العجب العجاب !!
إن الله بين خطر الأمانة، وأنزلها هذه المنزلة, وخوَّف من حملها؛ لأنها جماع الأخلاق، وسلكة(2)عقد الفضائل, وعمادها؛ فما من شعبة من شعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلا إليها مردّها, وما خصلة من خصال الشر إلا والخيانة أساسها وحقيقتها .
وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة التي تؤديها إلى أصحابها (فقط)؛ فإن هذه صورة من صورها, وشكل من أشكالها, وإن السلطان في يد الموظف أمانة؛ فإن وضعه في غير موضعه, أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته.
والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان؛ فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقها, أو منع واحدة من يستحقها,أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضاً أو موجدة _ فقد خان أمانته.
__________
(1) تلك هي حرية الاختيار التي خص بها الإنس و الجن دون سائر المخلوقات, وتفصيل هذا الإجمال في كتاب (فتاوى علي الطنطاوي), نشرته (دار المنارة في جدة).
(2) السلكة: الخيط وجمعها سلك وأسلاك.(1/56)
والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي؛ فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان.
والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع؛ فإن قصر في تجويده أو أفسد فيه شيئاً ولو كان الفساد خفياً لايظهر _ فقد خان .
واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك؛ فإن اتخذت هذا الاعتقاد سبباً إلى جمع المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا, أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة, أو الزلفى إلى الحاكم_ فهي خيانة, إلى غير ذلك من الصور والأشكال .
بل إنك إذا دققت, وتلطفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك؛ فإذا نظرت بعينيك إلى حرام, أو حركت به لسانك، أو خطوت إليه برجلك, أو مددت إليه يدك _ فقد خنت أمانتك.
بل إن عمرك كله أمانة لديك؛ فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضي (صاحب الأمانة)!
فأين المسلمون اليوم من هذا ؟
لقد رأيت من قلة الأمانة, عند الصناع والتجار والعلماء و الجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت(1) مالا ينتهي حديثه ولا العجب منه, وما خوفني الناس من أعمالهم, حتى جعلني أحمل هماً كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لا بد فيها من معاملة الناس, ولا والله لا أتألم من اللص يتسور عليّ الجدار، ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن مني أكلني بغير ملح, وتعرَّق عظامي !
__________
(1) حكاية القطب والأوتاد لا أصل لها في نقل ولا عقل , ولم يرو في ذلك إلا حديث ضعيف في =الأبدال+ لايثبت بمثله حكم وهي من بقايا الوثنية الأولى .(1/57)
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته, وألفك واستمررت على معاملته عمرك, والخياط من شرور المدينة لا يستغنى اليوم عنه, وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله, وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء, ولم يبق لك منجى أن تؤم الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين, وتسأله أن يضرب موعداً لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر, ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر؛ فالعيد لا يُنسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل؛ فيعدك، ويؤكد الوعد, فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك, فإذا زجرته أو أنبهته أخذك باللين، وراغ منك، وحلف لك مائة يمين غموس أنه نسي, أو مرض, أو أنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان (سوء تفاهم), وأنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك معداً, وتعود، ويعود إلى كذبه, حتى يمضي العيد أو الزفاف ولا يبقى للثوب فائدة, وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو (معتلاً) أو (مضاعفاً) أو (مجوفاً)... أو على خلاف ما استصنعه عليه ولا حيلة لك فيه, ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد, فتلبسه مكرهاً، أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرضَة.
وهذه الحال من إخلاف المواعيد, واختلاق الأكاذيب عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينجُ منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك .
ولقد وقع لي أني كنت على جناح السفر إلى العراق, وقد أعددت له كل شيء, واتخذت له مكاناً في السيارة, ولم يبقَ إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكَوَّاء بحلتي الجديدة؛ لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة, وبيَّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي, ونهيته أشد النهي عن غسلها؛ لأنه يفسدها، ويؤخرني عن غايتي، فما كان منه إلا أن غسلها؛ طمعاً بفضل أجرة ينالها؛ فأفسدها وجعلني أسافر، وأدعها.(1/58)
وآخر من الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الوحشية؛ فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشمّ من مسافة فرسخ) وقلت: شمّها، أليس لك أنف؟ فشمها بمثل خرطوم فيل، وقال: مابها شيء! فكدت أنشق من غيظي، وقلت لجماعة عنده: شموا بالله عليكم؛ فمدو أنوفهم إليها وعيونهم إليه, وقالوا بلسان واحد مثل مقالته؛ فاضطررت إ لى أن أخرج, فأدفع الثوب إلى فقير، وإني لفقير إلى مثله!
واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد, أستقبل عليها ضيفي, وأكرم بها زواري, وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها؛ لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب, فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير, وفوقه لوحة كتب عليها اسمه, وصناعته, ووصف براعته وأمانته؛ فأنست به، وكان كهلاً مشقشق اللسان, وأخذته؛ فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها, ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً, وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به, وذهبت إلى عملي ولم أرجع إلا المساء, فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي، وأخرج أحشاءها وكسر عظامها وأرجلها, ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى؛ لأنه جاهل بالصناعة, فهرب، وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه, وأعدته إلى الدار, فاجتهد جهده, فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات للتعذيب, ومقاعد للأذى, ألم يشق ثوب القاعد عليها مسمار ظاهر منها, ثقبت ظهره خشبة بارزه, أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد, وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة.
ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة, ما هذا الذي ذكرت بأشد منها ولا أعجب؛ فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدَّعون أنهم من المسلمين !؟
وكيف أصنع إذا كان هؤلاء (المسلمون) لا يوثق بهم, ولا يطمئن إليهم أأعامل الفرنسي و الرومي و الصهيوني وأقاطع بني ديني ووطني؟(1/59)
أما إنه لخطب جسيم؛ فماذا تصنع المدارس ومعلموها والمساجد وواعظوها والصحف وكاتبوها, إذا لم يعلنوا على الخيانة حرباً لا هوادة فيها ولا مسالمة حتى يكون النصر عليها ؟
وكيف لعمر الحق يكمل لنا استقلال, أو تتم سيادة، أو نجاري شعوب المدينة ونسابقها، إذ لم تَسُدْ الأمانة فينا, وإذا كان الواحد منا لا يستطيع أن يطمئن إلى أخيه ولا يعتمد على أمانته؟
وإذا كنا نقلد الغربيين في الشرور فلماذا لا نقلدهم في الصدق في المعاملة والوفاء بالوعد و الاستقامة في العمل ؟
أما إن من أشكال الأمانة وصورها أن القلم المتين, واللسان البليغ أمانةٌ في يد الكاتب والخطيب؛ فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر, والأمر بالمعروف, والدعوة إلى الإصلاح كانا ممن خان أمانته, وأضاعها, وفرَّط فيها؛ فلينظر لنفسه كل كاتب و شاعر وصحفي وخطيب !
الأخلاق (1) للشيخ محمد الخضر حسين
متى انعطف الناقد البصير يبحث عن الوسائل التي تترقى بها الأمة إلى سنام السعادة القصوى لا تطمئن نظراته السامية إلا على أخلاقها؛ فبمقدار ما لها من المحافظة على محاسنها، يملأ منظرها أعين الملأ الذي لا يعبأ إلا بجلائل الأمور.
والدليل على ما نقوله أن الامتزاج بمكارم الأخلاق يَجْبِيْ إلى صاحبه عِرْفانَ ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات؛ فلا يخلُّ _ حينئذ _ بواجب، ولا يدعى إلا بحق، وذلك يدعو بالضرورة إلى شدة الارتباط، وكمال الالتئام الذي يجعل أفراد الأمة عضواً واحداً للتعاون على البر والتقوى، والتعاضد على الأعمال التي تنتج لهم التقلب في عيشة راضية، وتحفظ لأعقابهم مستقبلاً حسناً.
وذلك السبب الذي دفع بنا إلى جعلها _ أي الأخلاق _ شُعبة من شُعَبِ ما تصدُع به هاته الصحائف وهذا أوانها.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد3 _ غرة صفر 1322 المجلد الأول ص25_27، وهو مما كتبه في مقتبل عمره.(1/60)
الخلق: حال للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، وإن شئت فقل: هي حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.
وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون في أصل المزاج كالإنسان الذي يستفزه أدنى غضب يعرض له، أو يَفْرَقُ من أدنى صوت يَقْرَعُ سمعَه، أو يُفْرِط في الضحك على أقل شيء يعجبه، أو يَغْتَمُّ من أيسر شيء يُلِمُّ به.
ومنها ما يكون مستفاداً بالتربية والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يصير ملكةً وخلقاً.
وللأخلاق ثلاث قوى متباينة:
أحدها القوة الناطقة: وتسمى بالملكية، ثانيها القوة الشهوية: وتسمى بالبهيمية، ثالثها القوة الغضبية: وتسمى بالسبعية، فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة، وكان التفاتها دائماً إلى المعلومات الصحيحة _ نشأت عنها فضيلة العلم، وتتبعها الحكمة.
ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة بدخولها تحت سلطة القوة العاقلة، حدثت عنها فضيلة العفة، وتتبعها فضيلة السخاء.
ومتى كانت حركة النفس الغضبية معتدلةً منقادةً إلى النفس العاقلة بحيث لا تهيج في غير حينها، ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها _ حدثت منها فضيلة الحلم، وتتبعها الشجاعة.
ثم يحدث باجتماع هاتِه الفضائلِ الثلاثِ فضيلةٌ رابعةٌ هي كمالها وتمامها وهي العدالة، وهذه الأربع أصول، وما عداها متفرع عنها.
ثم إن تلك الفضائل لا يمدح عليها صاحبها، ويتسمى بها إلا إذا تعدت إلى غيره، وانتشرت آثارها عند بني جنسه، وأما إذا اقتصر بها على نفسه فإنه تُصْرَفُ عنه أسماؤها، ولا يذكر بمسمياتها.
فإذا لم يبسط الإنسان يده ببذل مال الله الذي آتاه في وجوه المصالح العامة، وخصص صرفه بمآربه الشخصية _ سمّي منافقاً(1)، وإذا اقتصر بشجاعته على الذَّب عن حوزته دون أن يحمي ذمار المستجيرين أو يناضل على حقوق المستضعفين _ سمِّي أَنِفاً، وإذا لم يتجاوز علمه إلى غيره سمِّي متبصراً.
__________
(1) هكذا في الأصل ولعلها: منفقاً (م).(1/61)
الانتحار (1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
قرأت في بعض الصحف أن رجلاً من تجار المسلمين انتحر لا لضيق يد، أو شدة مرض، أو بؤس حال، بل لأنه حزن على وفاة صديق له؛ فقتل نفسه.
إن الرجل المؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر؛ فكيف هان عليه، وهو في آخر يوم من أيام حياته أن يضمَّ إلى خسارة دنياه خسارة آخرته، وهي العزاء الباقي له عن كل ما لاقاه في حياته من شقاء، وعناء؟
إن الانتحار نزعة فاسدة، وعادة مستهجنة، رمتنا بها المدنية الغربية فيما رمتنا به من مفاسدها وآفاتها.
ولقد كنا نعجب قبل اليوم من تهالك الشرقيين على حب تقليد الغربيين حتى فيما يؤذيهم في شرفهم وكرامتهم، وكنا إذا أردنا المبالغة في تمثيل هذا التهالك قلنا: يوشك أن يقتل الشرقي نفسه بنفسه إذا علم أن تلك عادة من العادات الغربية، فقد صار قريباً ما كان بعيداً، وأصبح مألوفاً ما كنا نعده فرضاً من الفروض.
الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور، وما يصل إليه العقل من الاضطراب والخبل، وأحسب أن الإنسان لا يقدم على الانتحار، وفي رأسه ذرة من العقل والشعور.
حب النفس غريزة ركبها الله _ تعالى _ في نفس الإنسان؛ لتكون ينبوع حياته، وعماد وجوده، والمنتحر يبغض نفسه أشد مما يبغض العدو عدوه، فهو شاذ في طبيعته، غريب في خلقه، معاند لإرادة الله _تعالى_ في بقاء الكون وعمرانه، ومن كان هذا شأنه كان بلا قلب ولا عقل.
لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم، ونفسه بالأسى، ومهما ألمت به كوارث الدهر، وأزمت به أزمات العيش؛ فإن ما قَدِمَ عليه أشدُّ مما فرَّ منه، وما خَسِرَهُ أضعافُ ما كسبه.
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص404_407.(1/62)
ولو كان ذا عقل لعلم أن سكرات الموت تَجْمَعُ في لحظة جميع ما تفرق من آلام الحياة وشدائدها في الأعوام الطوال، وأن قضاء ساعة واحدة فيما أعد الله لقاتل نفسه من العذاب الأليم أشد من جميع ما يشكو منه، وما يكابده من مصائب حياته وأرزائها لو يعمر ألف سنة.
ما أكثر هموم الدنيا، وما أطول أحزانها، لا يفيق المرء فيها من همَّ إلا إلى همّ، ولا يرتاح من فاجعة إلا إلى فاجعة مثلها، ولا يزال بنوها يترجحون فيها ما بين صحة ومرض، وفقر وغنى، وعز وذل، وسعادة وشقاء؛ فإذا صح لكل مهموم أن يمقت حياته، ولكل محزون أن يقتل نفسه خلت الدنيا من أهلها، واستحال المقام فيها، بل استحال الوفود إليها، وتبدلت سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ما سمي القاتل مجرماً إلا لأنه قاسي القلب، متحجر الفؤاد وأقسى منه قاتل نفسه؛ لأنه ليس بينه وبينها من الضغينة والمُوْجِدَة ما بين القاتل والمقتول؛ فهو أكبر المجرمين، وأقسى القاتلين.
يخدع المنتحر نفسه أَنْ ظنَّ أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة، وأنه إنما يفعل فعلته عن روية وبصيرة؛ فإنه لا يكاد يضع قدمه في المأزق الأول من مآزق الموت حتى يثوب إلى رشده وهداه، ويحاول التخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيلاً.
إن ألقى نفسه في الماء تخبط، وبسط يده إلى من يرجو الخلاص على يده وودَّ لو يفتدي نفسه بكل ما تملك يمينه، وإن حبس نفسه في غرفته؛ ليموت مختنقاً بالغاز، ولو سقط عليه سقف الغرفة؛ ليستنشق نسمة من نسمات الهواء ولو عاش بعد ذلك كسير اليد والرجل، فاسد السمع والبصر.(1/63)
إن فكرة الانتحار نزغة من نزغات الشيطان، وخَطْوة من خطوات النفس الشريرة، فمن حدثته نفسه فليتريث ريثما يتبين كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت، وآلام النزع، وماذا يكون حديث الناس عنه بعد موته، وهل يمكن أن يوجد بينهم عاذر له، أو مشفق عليه، أو مقتصد في النيل منه، والسخرية به؟ وليعرض على مخيلته قبل ذلك أشكال العذاب، وأنواع العقاب التي أعدها الله في الدار الآخرة لأمثاله.
إني لا أظنه بعد ذلك فاعلاً إلا إذا كان وحشاً في ثوب إنسان، أو بطلاً من أبطال المارستان.
نداء مصدور (1) للأستاذ محمود محمود
يا قوم: إن الزمان يخاطب أهله بألسنة فصيحة فمن أحسن فهمه رشد ونجا، ومن عجز عن الفهم غوى وهلك وقد _ والذي نفوسنا بيده _ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فساءت الأحوال، وفسدت الأخلاق، وكأننا في زمن بصير الشعراء الذي يقول:
والأرض للطوفان مشتاقة ... لعلها مِنْ دَرَنٍ تُغْسَل
والذي يروعنا أننا نرى أمتنا المصرية متورطة في فساد وسوء أخلاق ليس وراءهما فساد وسوء، ولم يكن هذا في طبقة من الأمة دون أخرى بل جرف سيله كل الطبقات، ولم ينج منه إلا من رحم الله.
ولو قلنا أن الأمة لم تترك رذيلة من رذائل الأمم الماضية إلا اقترفتها، ولا سيئة من سيئاتها إلا اجترحتها وهي تعلم بما نزل بتلك الأمم من خراب وفناء وبما ضُرِبَ عليها من ذلة ومسكنة [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)]آل عمران، ما كنا غالين ولا مبالغين.
وإنه ليحزننا أن يكون كلٌّ منا شاعراً بنقصه وخطئه، عارفاً داءه ودواءه، ثم يقيم على ما هو عليه من الخطأ والباطل.
أبناء وطننا: متى نهجر ما يغضب الرحمن، وما يرضي الشيطان، وما يسيء سمعة أمتنا بين الأمم؟ متى نعاهد الله على ترك ما يخالف الحق والعدل ثم نوفي بالعهود؟
__________
(1) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الأول، ص14_ 16، رجب 1343هـ.(1/64)
إنه لا لوم على الجهلاء ما داموا يرون المتعلمين منا في لهو وباطل سرّاً وعلانية.
أما آن لنا أن نحرِّر أرواحنا ونخلصها من الشرِّ عسى أن نصل بذلك إلى تحرير أجسامنا وبلادنا فنحيا حياة طيبة؟
لقد حذَّركم شاعركم فقال:
وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
وبعد فإننا لا نرى شيئاً أشدَّ وقعاً على النفس من انصراف أمتنا إلى اللهو، وإنفاقها درهمها ودينارها فيما يذهب بالعقول، ويضني الأجسام، ويفسد الأنساب، ثم يشتدُّ الخَطْب عليها فيرثى لها ويشفق عليها من ليس من أهلها، فينصح لها، ويحذرها عاقبة التمادي في تناول مفسدات العقول.
أي حكومتنا: إننا نعتقد كل الاعتقاد أن إصلاح أخلاق هذه الأمة ليس بالأمر الذي يتعذَّر أو يتعسر تحقيقه فما ذلك بعزيز على رجالنا، وأولي الأمر فينا بمعونة الله.
الحسد (1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
لو عرف المحسود ما للحاسد عنده من يد، وما أسدى إليه من نعمة لأنزله من نفسه منزلة الأوفياء المخلصين، ولَوقفَ بين يديه تلك الوقفة التي يقفها الشاكرون بين أيدي المحسنين.
لا يزال صاحب النعمة ضالاً عن نعمته، لا يعرف لها شأناً، ولا يقيم لها وزناً، حتى يَدُلَّه الحاسد عليها بنكرانها، ويرشده إليها بتحقيرها، والغض منها، فهو الصديق في ثياب العدو، والمحسن في ثياب المسيء.
أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الحاسد، ينقم على محسوده نعم الله عليه، ويتمنى لو لم تبق له واحدة منها وهو لا يعلم أنه في هذه النقمة، وفي تلك الأمنية قد أضاف إلى محسوده نعمة هي أفضل من كل ما في يديه من النعم.
وجهُ الحاسدِ ميزان النعمة ومقياسها، فإن أردت أن تزن نعمة وافَتْكَ فَارْمِ بخيرها في فؤاد الحاسد، ثم خَالِسْهُ نظرةً خفيفة؛ فحيث ترى الكآبة والهم فهناك جمال النعمة وسناؤها.
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص361_363.(1/65)
ليس بين النعم التي ينعم بها الله على عباده نعمةٌ أصغر شأناً، وأهون خطراً من نعمة ليس لها حاسد، فإن كنت تريد أن تصفو لك النعم فَقِفْ بها في سبيل الحاسدين، وألقها في طريق الناقمين، فإن حاولوا تحقيرها وازدراءها فاعلم أنهم قد منحوك لقب =المُحَسَّد+؛ فليهنأ عيشك، ولِيَعْذَبْ موردُك.
إن أردت أن تعرف أي الرجلين أفضل فانظر إلى أكثرهما نقمة على صاحبه، وكلفاً بالغض منه، والنيل من كرامته، فاعلم أنه أصغرهما شأناً، وأقلهما فضلاً.
قد جعل الله لكل ذنب عقوبة مستقلة يتألم لها المذنب عند حلول أجلها؛ فالشارب يتألم عند حلول المرض، والمقامر يتألم يوم نزول الفقر، والسارق يتألم يوم دخول السجن.
أما الحاسد فعقوبته حاضرة دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة.
إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، والنعمة موجودة من الموجودات الثابتة التي لا يلم بها إلا التنقل من مظهر إلى مظهر، والتحول من موقف إلى موقف؛ فهيهات أن يفنى ألمه، أو ينقضي عذابه؛ حتى تقر عينه التي تبصر، ويسكن قلبه الذي ينبض.
الحسد مرض من الأمراض القلبية الفاتكة، ولكل داء دواء، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود؛ ليبلغ مبلغه من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق من وقته ومجهوده في هذه السبيل أكثر مما ينفق من ذلك الغض من شأن محسوده، والنيل منه؛ فإن كان يحسده على المال، فلينظر أي طريق سلك فليسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلم، أو الأدب فليتأدب، فإن بلغ من ذلك مأربه فذاك، وإلا فحسبه أنه ملأ فراغ حياته بشؤون لولاها لقضاها بين الغيظ الفاتك، والكمد القاتل.
جيل يؤمن بالأخلاق(1) للشيخ العلاَّمة محمد الخضر حسين
__________
(1) حديث صحفي نشرته مجلة الأزهر، الجزء السابع من المجلد الرابع والعشرين، غرة رجب 1372هـ، وانظر أحاديث في رحاب الأزهر ص68_71، والدعوة إلى الإصلاح ص130_133.(1/66)
إن الأمم الناهضة تحتاج نفوسها إلى الغذاء الجَيِّد من الأخلاق والسجايا؛ لتقوى به على مواصلة النهوض إلى المعالي, كما تحتاج أجسامها إلى الغذاء الجيد من الطعام؛ لتقوى به على مواصلة الكفاح في سبيل المعايش.
والشجاعةَ غذاءٌ من أغذية الأمة في طور التحرير لا يتهاون به إلاَّ صغار النفوس, والذين يستعذبون موارد العبودية, وإن لم تفرض عليهم.
وأصل الشجاعة أَنْ تعرف الحق: حق الله, وحق الأمة, وحقوق المواطنين, وحقك الشخصي؛ فتوطن نفسك على أن تكون صادق العزم في إعطاء كل ذي حق حقه بالعدل والإنصاف.
وقد أوصى المسلمين بأن يكونوا أهل الشجاعة في مواقف الدفاع عن الحق ماداموا يرجون لهذا الحق العزة والاستعلاء؛ فقال _ عز وجل _ في سورة النساء: [وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً]النساء: 104.
فأرشدهم الله إلى أنهم بما يرجون من إقامة الحق ومعونة الله عليه ينبغي لهم أن يكونوا أبعد من أعداء الحق عن الوهن والضعف؛ لأنَّ المؤمن الذي يرجو الحق، ويعيش له، ويَعُدّ نفسه لإعلانه ونصرته _ يجب أن يكون من أبعد الناس عن الوهن في سبيله.
ومن هُنَا يتبين لنا أن الشجاعة العسكرية وليدة الشجاعة الأدبية؛ لأنَّ كِلاَ نوعي الشجاعة منبعث عن الولاء للحق، وتوطين النفس على إقامته ونصرته.
وإنَّ الرجل الشهم الذي يُوَطِنُ نفسه على الدفاع عن الحق، ويؤدي الشهادة الصادقة على نحو ما علم دون أن يهاب ذا جاه أو سطوة _ لا يقل عن البطل الصنديد في موقفه بساحة الحرب أمام نيران العدو مدافعاً عن حق أمته وملته ووطنه.(1/67)
إن المسلم الذي يعلم أنه لم يكن مسلما إلاَّ بشهادة الحق =لا إله إلا الله+ يُوَطِّن نفسه على أَلاَّ يشهد إلاَّ بالحق ولو على نفسه وعلى والديه في كل المواقف, متمثلاً دائما في ذهنه أمر الله _ عز وجل _ للمسلمين [وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ]البقرة: 283.
ولما رَبَّى الإسلام أبناءه على إقامة الحق، ونصرته، ومحبته، والشهادة به، والإعانة عليه _ رَبَّى فيهم بهذه السجية خلقَ الشجاعة في النفوس؛ فأخرج منهم أمة لا تهاب الخطوب, وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحاً.
انظروا إلى قول الخليفة الأول أبي بكر الصديق في وصيته لقائده العظيم خالد ابن الوليد =احرص على الموت توهب لك الحياة+.
فباقتحام موارد الموت في سبيل إقامة الحق، تبرهن الأمة على أنها جديرة بالحق, وبهذا نكون من أهل الحياة, وأن الشهداء من رجالها أحياء عند ربهم, وأحياء في قلوب عباده, والذين لم ينالوا منهم نعمة الشهادة يتمتعون بالحق وبما يفيضه عليهم الحق من نعمة الحياة، وإلى هذا المعنى يشير الفارس الشاعر حصين ابن الحمام أحد بني سهم بن مرة:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
جلس القائد المجاهد الشهير مسلمة بن عبد الملك مع أخيه الخليفة الأموي هشام ذات ليلة, فقال له أخوه الخليفة:
=يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط لحرب أو عَدو؟ +فأجاب مسلمة =ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه إلى حيلة, ولم يَغْشَني فيها ذعرٌ سلبني رأيي+.
فقال له هشام: =هذه هي البسالة+.(1/68)
ولما كان الحكم والسلطان في أسبانيا للخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر رفع أحد التجار قضية على الخليفة إلى القاضي الأكبر في عاصمة الأندلس =قرطبة+وهو العالم الفقيه الورع ابن بشير, فحكم ابن بشير للتاجر على الخليفة, ولم يكتف بإصدار الحكم، بل كان حريصاً على سرعة تنفيذه, فذهب إلى الخليفة يخبره بنص الحكم الذي صدر عليه, وينذره بالاستقالة من القضاء إِنْ لم يبادر الخليفة بالتنفيذ.
وحتى في أحط أدوار الدولة العبيدية بمصر دخل الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي _ وكان الأفضل وزير مصر للمستنصر والمستعلي والآمر _ فتكلم الطرطوشي موجهاً الموعظة والنصيحة للملك الأفضل، ولاحظ في أثناء موعظته أنَّ إلى جانب الملك رجلاً لا يؤتمن على الدولة، ولا تهمه مصلحة الملة, فختم الطرطوشي موعظته بالحديث عن ذلك الرجل غير المؤتمن وأشار إليه بيده, فلم يكن من الملك الأفضل _ لما استشعره من صدق الإمام الطرطوشي وغيرته على الحق وشجاعته في إعلانه _ إلاَّ أن أمر ذلك الرجل الجالس إلى جانبه بأن يتنحى عن ذلك المقام.
إن الأمة الضعيفة المستكينة لا تستحق الحياة, وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلاَّ إذا شاع في أفرادها _ ولاسِيَّما شبابها, خصوصاً المثقفين منهم _ خلق الصدق, ومحبة الحق, وتوطين النفوس على نصرته, والصراحة فيه, والدفاع عنه.
ومن هذا الخلق يولد الجيش الباسل الذي لا يغلب, بل من ذلك الخلق يولد الجيل الفاضل الذي لا يطمع في حق غيره، ولا يطمع غيره في حقه.
والحق شطر الإسلام, بل هو عظامه التي تقوم بها بنيته, أَمَّا الشطر الآخر فهو الخير, وهو في مقام اللحم والشحم من بِنْيَة الإسلام.
ولم يرد في الإسلام أمر ولا نهي، إلا وهو يرجع إلى شعبة من شعب الحق، أو إلى شعبة من شعب الخير.(1/69)
والمسلمون لن يعودوا كإخوانهم الذين حملوا لواء الحق، ونشروا قانونه في الأرض إلاَّ إذا تضلعوا من معين الحق، وارتووا من موارد الخير, فأصبحوا يعرفون بين الأمم بأنهم أمة الحق والخير.
وحينئذ يكون منهم الجيش الغالب الظافر الذي يقتحم كل عقبة تحول بينه وبين الحق, ويجتاز كل مَخاضة تمنعه من الوصول إلى أهداف الخير.
وكما ينبغي أن يجهز الجيش بالدبابات والمدافع الضخمة والطائرات النفاثة والقنابل الذرية _ فإن كل هذه المعدات لا تنفعه إن لم يُسْتَمد جنوده وضباطه من أمة تربَّت على الصدق, وآمنت بالحق, ووطنت نفسها على محبة الخير.
بل إن تجهيز الأمة بسجية الصدق, وتربيتها على الإيمان بالحق، وعلى الإيمان بالخير _ هو الذي ييسر لها الأسلحة من كل نوع, والأنصار من كل أمة, وهو الذي يملأ بالهيبة والحرمة لها قلوب الأمم جميعاً.
وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم, وهي مفتاح الأماني المغلقة، وهي السبيل إلى استرداد الحقوق، وتيسير السبل إليها.
إن إعداد شباب الجيل بسجية الصدق, وتربيتهم على الإيمان بالحق، وعلى محبة الخير _ عنصر من عناصر الإسلام.
ولقد صرنا الآن إلى عهد قام بالأخلاق, وهو في حاجة إلى الاستعانة بجيل يؤمن بالأخلاق.
والمصانع المصرية لتربية الأخلاق، هي معاهد العلم الذي يتوقف عليها نجاح هذا المعهد, ويكون لأمتنا منها الجيش الظافر، الذي هي بحاجة إليه في مصيرها القريب، وكل يوم تضيعه معاهدنا العلمية, وتحجم فيه عن البدء في مناهجنا الصالحة يكون خسارة على الأمة, وعلى حقوقها.
إن الأمر جد, والوقت أثمن من أن يضيع بغير عمل.
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
17_ صدق العزيمة أو قوة الإرادة: للعلامة محمد الخضر حسين
18_ اعرف نفسك: للشيخ علي الطنطاوي
19_ الطموح: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
20_ تربية الإرادة: للأستاذ أحمد أمين
21_ اصنع حياتك: للأستاذ أحمد أمين
22_ موت الأمم وحياتها: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي(1/70)
صدق العزيمة، أو قوة الإرادة (1) للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
يخطر في النفس أمر فتثق بأنه حق أو نافع, فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرصِ النظرَ في وسيلة بلوغها إياه، وبدا لها أنه في حدود استطاعتها _ فسرعَان ما تقبل عليه, وتبذل سعيها للوصول إليه, وذلك ما نسميه بالعزم أو الإرا دة .
فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيته أو نفعه, وتود أن يكون حاصلا ً لديها ثم لا تسعى له سعيه, ولا تضع لبلوغه خُطَّةً _ فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع, والذي يخطر في نفوس القاعدين كما يخطر في نفوس المجاهدين, وما مثله إلا كمثل الشرر الذي يلمع حول النار ثم يتصاعد هباءا ً.
وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد, فإنما نعني الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير .
ومن أفضل ما يمدح به الرجل أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق, أو إقامة مصلحة .
تنشأ قوة الإرادة من التجارب, فمن تعلق همه بأمر كان قد عرف بطريق التجربة أنه ميسور وأن عاقبته سلامة ونجاح _ انقلب همه في الحال عزماً صادقاً.
أما من لم تسبق له تجربة فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة, فيقف في تردد وإحجام؛ فذو العمر الطويل من أولي الألباب قد يكون أسرع إلى بعض الأمور وأشد عزماً عليها من حديث السن لما تفيده التجارب من إمكانها ونجاح السعي لها .
__________
(1) رسائل الإصلاح 1/ 65 _70(1/71)
وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ؛ فالذي يخطر في باله أمر قرأ في سيرة شخص أنه كان قد هم بمثله وعمل لحصوله فنجح عمله وصلحت عاقبته _ شأنُه أن يعزم على ذلك الخاطر، ويجعله بعد العزم عملاً نافذاً؛ فمن يخطر في باله أن يدعو الحاكم الجائر بالموعظة الحسنة, وقد قرأ سير العلماء الذين كانوا يأمرون بعض الجبارين بالمعروف فيأتمرون, أو يكظمون في الأقل غيظهم ولا يبطشون, يكون أقوى عزماً على الدعوة ممن لم يقرأ في هذا الشأن خبراً؛ لما عرفه من أن للحق الذي يخرج في أسلوبه الحكيم سطوةً على النفوس وإن كانت طاغية؛ فيقدم على وعظه في رفق وحسن خطاب, فإن لم يهده سبيل الرشد قضى حق النصيحة له، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا البلاغ .
وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة تجعل الرجل على يقين من نجاح العمل وحسن العاقبة, واعْتَبَروا في هذا بتصميم أبي بكر الصديق ÷ على قتل أهل الردة ومانعي الزكاة؛ فإنه كان عالماً بأنه على حق من قتالهم, وكان على ثقة من أنه سينتصر بفئته القليلة على جموعهم الكثيرة.
ومما دله على أنه الظافر وأن المرتدين عن الدين لا يفلحون قوله _ تعالى _: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون].
ولو تقاعد أبو بكر عن جهاد تلك القبائل, وخلى الردة تتفشى في جزيرة العرب وباءً فاتكاً _ لانفصمت عرى الوحدة العربية الإسلامية, ولم يستقم أمر تلك الفتوح التي كانت عاقبتها ظهور دين الحق على سائر الأديان .
وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى وبلوغها غاية قصوى كسجية إباء الضيم تهز الضعيف, وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خلق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزماً وأسبق إلى الحروب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل .(1/72)
ومما يساعد الرجل على صدق العزيمة خلق التعفف وشرف الهمة؛ فلتجدن أنزه القوم نفساً, وأبعد هم عن الطمع وجهة أشد هم عزماً على أن يقول حقاً، أو يعمل صالحاً وإن لم يرض عن قوله الحق، أو عمله الصالح ذو مال أو سلطان.
تتفاوت الإرادة في القوة, وتفاوتها على قدر قوة شعور الرجل بما للشيء من حقيقة أو نفع, وعلى قدر ثقته من تَيَسُّره، وإمكان حصوله؛ فالذي أتقن علماً فأحاط بأصوله, وغاص على أسراره يكون عزمه في الدعاية إلى الأعمال المرتبطة به أقوى من عزم ذلك الذي وقف في دراسته عند حد لايجعله من أعلامه, والرئيس العادل يكون أقوى عزماً على حرب أعدائه من الرئيس الجائر؛ لأن العادل يثق من قومه بحسن الطاعة فقد ظفر بأكبر أسباب الفوز والانتصار .
نقرأ في التاريخ أن المنصور بن أبى عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام ابن الحكم في قرطبة قد غزا ستاً وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية, أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية .
ومن درس سيرته لم يعجب لهذا الانتصار المطرد؛ إذ يجد فيها عدلاً ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقى إليه بالمواد والامتثال.
ومن الأخبار الشاهدة بما وصفنا أن رجلاً من العامة وقف بمجلسه وقال له: إن لي مظلةً عند ذلك الوصيف على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة(1), وكان للفتى فضل محل عنده, فقال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية، ثم نظر إلى الفتى وقال له: ادفع الدرقة إلى فلان, وانزل صاغراً, وساوِ خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم، وقدِّمْه مع خصمه إلى صاحب المظالم؛ لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره, وبعد أن جازاه القضاء بما يستحق أبعده المنصور عن خدمته .
وصاحب مثل هذه السيرة حقيق بأن يكون له متى هم بالحرب عزمٌ لا يختلج بتردد.
__________
(1) الدرقة: الترس.(1/73)
فمن وضع أمامه غاية شريفة, ورام من قومه العمل لها بعزم لايخالطه فتور _ فما عليه إلا أن يريهم بالأسلوب السائغ, والدليل المقنع وجهَ شرفِ تلك الغايةِ, ثم يصف لهم طريقها الناجح؛ فلا يكون منهم إلا أن يتسابقوا إليها, ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها.
فإذا رأيت قوماً يذكرون في صبحهم ومسائهم شيئاً من معالي الأمور, ولم ترهم يسعون له سعيه، ولا يتقدمون إليه بخطوة _ فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه؛ فهم إما أن يكونوا عن حقيقته، وشرف غايته غائبين، وإما أنهم ضلوا طريقه وما كانوا مهتدين.
وإذا ذكرنا العزم النافذ في خصال الشرف فإنما نريد الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته ولو على وجه الظن الغالب, وذلك ما يعنيه عمر بن الخطاب ÷ في قوله: =ولكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث+.
والمكيث من لا يَخِفُّ إلى الهجوم إلا بعد روية وتدبر.
ولا يعد في قلة العزم أن يستبين الر جل الحق, أو المصلحة ويقف دون عزمه مانع؛ كأن يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله ويخشى الفتنة, فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولا سائغاً, قال عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز لأبيه عمر: ياأبت مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور, فقال له عمر: لا تعجل يابني إن الله _ تعالى _ ذم الخمر مرتين وحرمها في الثالثة, وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة؛ فيد فعوه وتكون فتنة.
ولا يعد في قلة العزم أن يرى الرجل رأياً، ويعقد النية على إنفاذه، ثم يبدو له على طريق الحجة أنه غير صالح، فينصرف عنه.
وقوي العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صواباً، ويدبر بها عما يراه فساداً.
وإذا قال الشاعر مادحاً:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا
فإنما يريد الهم الناشئ عن رجاحة رأي.(1/74)
وقوي العزم متى بَصَر بالأمور ووثق بأنه سداد قطع نظره عن العواقب ونهض له في قوة، أما ضعيف العزم فإنه يترك نفسه مجالاً للخواطر، وذكر العواقب، هذه تغريه على العمل, وهذه تصده عنه حتى تَفوتَ الفرصة، ويذهب وقت العمل ضائعاً.
ومن صرامة العزم أن تُفْرِغَ فؤادك من كل داعيةٍ شأنُها أن تلحق بعزمك وهناً, أو تصرف وجهك عنه صفحاً.
وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل _ صقر قريش(1) _ إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس, وأهديت له جاريةٌ بارعةُ الجمال, فنظر إليها وقال: =إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهم به ظلمتها, وإن أنا اشتغلت بها عما أهم به ظلمت همتي, فلا حاجة لي بها الآن+.
وردها على صاحبها.
وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف, كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف, ويقعده عنه حب الراحة, وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة, والذي يقول:
إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمةٍ ... فإن فساد الرأي أن تترددا
إنماينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف, فذلك هو التردد المفسد للرأي, والموقع في خسر.
لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم؛ فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون, ولكنه يجد من قوة الإرادة مالا يجدون؛ فيكون له شأن غير شأنهم, ويبلغ في المحامد شأواً أبعد من شأوهم.
__________
(1) قال أبو جعفر المنصور لأصحابه يوماً: أخبروني عن صقر قريش , فذكروا له طائفة من الخلفاء وهو يقول (لا) فقالوا: من أمير المؤمنين ؟ فقال: عبد الرحمن بن معاوية الذي عبر البحر وقطع القفر، ودخل بلداً أعجمياً مفرداً، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه؛ لحسن تدبيره، وشدة شكيمته .(1/75)
ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم, وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لِداتهم(1) لم تجد في أولئك الظاهرين مزيةً يرجح بها وزنهم غير أنهم يهمون بالأمر فيعملون .
وإذا جعلت تتقصَّى أثر دولةِ الموحدين التي وضعت قدمها في فاس, وبسطت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس _ وجدت أقصى هذه الدولة همةً طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبى حامد الغزالي وأبى بكر الطرطوشي, وغيرهما عائداً إلى بلدة المغرب الأقصى، وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوءاً سوى قوة الإرادة, وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلوٌّ في الانتقام, وسرفٌ في القتل.
ولكنَّ تنقيةَ مناصبِ الدولة منهم لم تكن إلا بِنْتُ اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره .
وإذا صح ما يصفهم به بعض أهل العلم(2) من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية, كان لهارون الرشيد موقفٌ خيرٌ من موقف المنتقم لملكه أوملك أسرته من بعده.
فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف وأجلها في الإصلاح أثراً فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيباً وافراً, وحقيق بالرجال القوامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم, ويقيموه شاهداً على كفايتهم؛ فإن ما بيننا وبين المدنية الفاضلة, والحياة الآمنة مسافةً طويلة المدى, صعبة المرتقى, إذا لم نقطعها بالعزم الصارم, والعمل المتواصل ظلمنا أنفسنا, ولم نقض حق الأجيال بعدنا؛ فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحاً من العز شامخة؛ فإن لم نستطع هيأنا لهم أسساً؛ ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة, فإذا هم أحرارا في أوطانهم حقاً, مكرمون لنزلائهم طوعاً.
__________
(1) لداتهم: أقرانهم.
(2) هذا ما قرره القاضي أبو بكر العربي في كتاب القواصم والعواصم.(1/76)
وما اقترن العزم الصحيح بأدب التوكل على من بيده ملكوت كل شىء إلا كانت عاقبته نجاحاً ورشداً [فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين].
اعرف نفسك(1) للشيخ علي الطنطاوي
إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجد والهزل، وفي الخير وفي الشر، أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخلق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية؛ ولكن حديثي الليلة أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمسُّ الموضوعات بكم، وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.
لا تضحكوا يا سادة، ولا تظنوا أني أهزل، ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإن كان مكتوباً على باب معبد أثينة كلمة سقراط: =أيها الإنسان اعرف نفسك+.
ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام، لم يوجد في الناس _ إلا الأقل منهم _ من عرف نفسه!.
ومتى تعرف نفسك يا أخي، وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟.
ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها، لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟.
ومتى وأنت أبداً تفكر في الناس كلهم إلا نفسك، وتحدثهم جميعاً إلاّها؟.
تقول: أنا فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل: من أنا؟ هل جسمي هو (أنا)؟ هل أنا هذه الجوارح والأعضاء؟.
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتبتر رجل، أو تقطع يد، ولكن لا يصيبني بذلك نقصان!.
فما أنا؟
ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شابَّاً، وكنت شابَّاً وصرت كهلاً؛ فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه، ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه يد الصغيرة. فأين ذهبت تلك اليد؟ ومن أين جاءت هذه؟
__________
(1) نشرت عام 1952م، انظر كتاب (صور وخواطر) ص47_50.(1/77)
وإذا كانا شخصين مختلفين فأيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبق فيَّ من جسده ولا فكره بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقي هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما أنا؟.
وتقول: حدَّثْتُ نفسي، ونفسي حدثتني؛ فهل فكرت مرة، ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما؟ وكيف تحدثك أو تحدثها؟.
وتسمع الصباح جرس الساعة يدعوك إلى القيام، فقد حان الموعد، فتحس من داخلك داعياً يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك منادٍ أن تَرَيَّثْ قليلاً، واستمتع بدفء الفراش، ولذة المنام.
ويتجاذبك الداعيان: داعي القيام وداعي المنام؛ فهل تساءلت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزين لك المعصية، ومن يصوِّر لك لذتها؟ ويجرُّك إليها؟ وما الذي ينفرك منها، ويبعدك عنها؟.
يقولون: إنها النفس وإنه العقل؛ فهل فكرت يوماً ما النفس الأمَّارة بالسوء؟ وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟.
وتثور بك الشهوة، حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب، والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أماني لو أعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني، ولا أسخف من ذلك الوصول!
ويعصف بنفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى، والمتعة في الانتقام، وتغدو كأن سَبُعاً حلَّ فيك، فصارت إنسانيتك وحشيَّة، ثم يسكت عنك الغضب، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه.
وتقرأ كتاباً في السيرة، أو تتلو قصة، أو تنشد قصيدة؛ فتحس كأن قد سكن قلبك ملَك، فطرت بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثارة من ذلك العالم.(1/78)
فهل تساءلت مرة ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذَّته كل محرَّم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان البطَّاش الذي يشرب دم أخيه الإنسان، ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم ملك؟.
أتحسب أنك واحد وأنك معروف، وأنت جماعة في واحد، وأنت عالم مجهول؟ كشفتَ مجاهل البلاد، وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مخفيَّاً لم يَظْهر على أسرارك أحدٌ؛ فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك، فتكشف مجاهلها؟.
نفسك عالم عجيب، يتبدل كل لحظة ويتغيَّر، ولا يستقرُّ على حال: تحب المرء فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً، وما ملكاً كان قط ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك.
وتكون في مسرَّة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصوراً لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر باكية قد غرقت في سواد الحداد.
وما ضحكت الدنيا قطُّ ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.
فما هذا التحوُّل فيك؟ وأيُّ أحكامك على الدنيا أصدق، وأي نظريك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع، ساءت عندك الحياة، وانمحى جمال الرياض، وطمس بهاءُ الشمس، واسودَّ بياضُ القمر، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً، فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع، ذهب التشاؤم في الفلسفة، والبؤس في الشعر؛ فما فلسفتك يا أيها الإنسان؟ وما شعرك إن كان مصدرهما فَقْدُ قدحٍ من زيت الخروع؟.
وتكون وانياً، واهي الجسم، لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك خطر، أو هبط عليك فرح وَثَبت كأن قد نشطت من عقال، وعدوت عَدْوَ الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل كيف استطعت أن تفعلها؟.(1/79)
إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها، وتدفع هي التي أمامها.
في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات، وأنت الذي ولد؛ فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واسْتَولِدْها دائماً مولوداً أصلح وأحسن، ولا تقل لشيء: لا أستطيعه؛ فإنك لا تزال كالغصن الطري؛ لأن النفس لا تيبس أبداً، ولا تجمد على حال ولو تباعدت النقلة، وتباينت الأحوال، إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام؛ فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده، فتعجب كيف كنت تستطيع السهر؟
وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها؛ فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها، وتعجب كيف كنت تشربها؟!
وتحب المرأة حتى ما ترى لك حياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها؟!
فلا تقل لحالة أنت فيها: لا أستطيع تركها؛ فإنك في سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.
فيا أخي! اعرف نفسك، واخلُ بها، وغُصْ على أسرارها، وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين المسير؟.
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة، وأن أكبر عقاب عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!
الطموح (1) للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
خلوت بنفسي ليلة، وحاولت الالتجاء إلى سكينة الماضي؛ لأستريح من ضوضاء الحاضر؛ فتَمَثَّلْتُ أجيال البشر الغابرة، وجماعات الأمم الخالية كأنها المواكب تجتاز الوهاد والآكام، أوالمراكب تمخر في بحار الأيام.
__________
(1) الحديقة 7/ 76 _ 81، عام 1349هـ(1/80)
وما من موكب سائر في قفر، أو مركب سائر في بحر إلا وله عند الأفق مَشْعَل تلوح أنواره من بعيد وهذا المشعل هو المطمح السياسي العام الذي تتخذه القوميات هدفاً لها في كل أعمالها، فتتجه نحوه الأنظار والألباب، وتتوحد به الجماعات والأحزاب.
إن الارتفاع والانحطاط من شأن هذه المواكب وهي في قفارها، ومن دأب هذه المراكب وهي في بحارها؛ ففي حالتي الاعتدال والارتفاع يكون المشعل بادياً لطالبيه، ومِنْ ثَمَّ يكون السير مستمرَّاً على هدى نحو الهدف المعين.
وأما إذا جاء دور الانحطاط فهنالك تغيب أشعة المشعل عن الناظرين إليها، فتختلف الأفكار في تعيين الغاية المنشودة، وبالتالي تتعدد المسالك، ويتشتت شمل سالكيها، ولذلك قال الدكتور غوستاف لوبون:
=ليس التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعياً وراء المطمح، ولولا هذا لظل الإنسان على بربريته، ولما كان له من المدنية نصيب.
وإن انحطاط الأمة يبتدئ يوم لا يكون للأمة مطمح تحترمه بجملتها، فيجاهد كل فرد منها بنفسه في سبيل حمايته والذود عنه+.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك كبير خوف على المطمح إذا كانت الأمة تعرفه وتتعلق به، وتلمح أشعته أثناء سيرها في موكب الأيام مع طبقات الأيام.
وإنما الخوف من انحطاط يخفى فيه على الأمة مطمحها؛ فتجهل غايتها العامة، ومقصدها الأسنى.
وحينئذ يظهر في الأمة أناس ممتازون من أهل الطموح فيفنون في أمتهم، ويتنازلون عن شخصياتهم، ويصرفون كل قوتهم في سبيل إنهاض موكبهم إن كانوا في بر، أو مركبهم إن كانوا في بحر، حتى يجعلوه في مستوى معتدل أو مرتفع، فيلوح للأمة حينئذ شُعَاعُ مشْعَلِها؛ فتهتدي إلى طريقها على نور المطمح السياسي العام.(1/81)
المطمح السياسي لهذه الأمة _ في كل أعصارها وأقطارها _ هو الحرية والاستقلال، وأهل الطموح هم الذين يأخذون بيد الأمة وهي سائرة في موكب الأيام، فيرتفعون بها من وَهْدَةٍ إلى أَكَمَةٍ، أو ينتشلون مركبها من هوة إلى رأس لجة، حتى تكون مُبْصرةً مِشْعَلَها المنيرَ في الأفق، فتسير نحوه بأقدام ثابتة كإقدام الأسود، وبخطوات واسعة كخطوات المرَدَةِ.
مثل ذوي الطموح في الأمم كمثل العزم النوراني الشفاف المنبث في مواكب الأيام يدفعها نحو مشاعلها المتألقة في الآفاق، أو كالقوة البخارية التي تحرك مراجلَ مراكبِ الأنام؛ لتبلغ بها غاياتها المنشودة.
وكما أن قيمة المواكب تقاس بمبلغ ما فيها من نور العزائم، وقيمة المراكب تقاس بقوة البخار المحرك لمراجلها _ فكذلك الأمم ما زالت، ولن تزال تقدر بأقدار أفرادها الممتازين، ورجالها البعيدة مرامي أنظارهم، الذين ندعوهم بذوي الطموح.
إن كلمة الشهيد محمد المحمصاني لأخيه محمود وهما صاعدان إلى المشنقة تُعدُّ من الكلمات المأثورة التي يحفظها كل مجاهد من شباب أمتهما.
ولا ريب أن مثل هذه الكلمة من الآيات الملهمة إلى قلوب ذوي الطموح؛ فلا يشعر بها في ذلك الموقف إلا الرجل الذي فَنِيَ في أمته؛ فصار لا يتألم إلا بآلامها، ولا يسر إلا بمسراتها، ولا تطلب نفسه إلا ما تحتاج إليه أمته في حياتها العامة، ولا يرى خطراً على نفسه غير الخطر الذي يداهم أمته في حريتها واستقلالها، وفي عزتها وهنائها.
شاب وصل عنقه إلى حبل المشنقة ثم لا يزال ناسياً نفسه، مستغرقاً في التفكير بقضية أمته، راضياً _ عن طيب خاطر _ أن تكتسب الأمة حياة من طريق موته، ووجوداً من طريق عدمه، واستقلالاً من طريق التحكم في أثمن شيء يملكه وهو نفسه.
هذا هو الطموح الذي جعلته موضوع مقالي وبه تَهُبُّ الأمة فترتفع من وهدتها حتى يشرف موكبها على منطقة الأفق، فيرى مشعَل المطمح العام، فيأنس به، ويُوَجِّهَ نحوه الأبصار والبصائر.(1/82)
إن حكمة الله في فوز أهل الطموح دائماً ظاهرة من هبوط آيات الطموح الملهمة على قلوب أصحاب الحق، والحق من أسماء الله _ تعالى _.
وإن من سنة الله في خلقه أن يقيض للحق أنصاراً من وراء سجف الغيب يؤيد بهم الثابتين على تأييد حقهم، المضحين بأرواحهم في سبيل الوصول إلى مطمح بني قومهم، الفانين في مصالح أوطانهم.
في استطاعة كل رجل من أفراد الأمة أن يكون من أهل الطموح إذا أذاب نفسه في الأمة والوطن، فصار يرى كل شيء فيه منهما ولهما، فإذا شعر بأن الأمة مهددة بخطر ينتاب مطمحها السياسي العام أدرك أنه لا قيمة بعد ذلك لماله وولده ونفسه فينسى كل هذه المقدسات الشخصية.
بمثل هؤلاء نهضت الأمم، وسلِمت الأوطان، وعلى قلوب هؤلاء هبطت ملهمات الفضائل، وعلى أيدي هؤلاء تتم جلائل الأعمال، وكل فرد يستطيع أن يكون منهم، وإن من عادة الأبطال من أهل الطموح أن يولدوا رجالاً كاملين عندما تتمخض بهم المصائب.
والليالي من الزمان حبالى ... مثقلات يَلِدْنَ كلَّ عجيبه
تربية الإرادة (1) للأستاذ أحمد أمين
ليس يمكن أي إصلاح خلقي إلا إذا ربينا الإرادة أولاً، فإذا طالبنا شاباً أو شابةً بضبط النفس عند الغضب، أو عدم الإسراف في الملذات، أو بالشجاعة عند الجبن، أو بالعدل عند الظلم _ فلا قيمة لكل هذه النصائح ما لم تسبقها عند الشاب أو الشابة إرادة قوية رباها صاحبها؛ لينفذ بها ما اعتقد أنه حسن، ويتجنب بها ما اعتقد أنه ضار؛ فانصح ما شئت، وكرر النصح ما أردت، فليس لهذا كله قيمة إذا لم يكن المنصوح قوي الإرادة يستطيع بها أن يسيطر على نفسه.
ولكن كيف نربي إرادتنا؟
__________
(1) فيض الخاطر، 9/ 280 _ 284.(1/83)
انظر إلى من يريد أن يتعلم ركوب الدراجة أو كما نسميها =البسكليت+ إن الشخص أول الأمر لا يستطيع ضبطها ولا يحسن السير عليها؛ فهو يتأرجح مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار، وكثيراً ما يبدأ ثم يقع، وأخيراً وبعد جهد جهيد تستقيم في يده البسكليت، ويسير بها سيراً حسناً ويعدو بها ويتجنب الأخطاء حتى ليأتي بالأعاجيب في السير بها، فماذا حدث؟ البسكليت هي البسكليت لم تتغير، وهي دائماً مطيعة خاضعة، ولكن الذي تغير هو راكبها؛ فقد كان لا يحسن حركاتها، ثم أحسنها، ولا يمكنه ضبط نفسه عليها ثم ضبطها؛ فالتغير إنما حدث في النفس لا في البسكليت، كذلك الشأن في كل أنواع الحياة، لابد من السيطرة أولاً على النفس ثم مواجهة الأحداث، لابد أولاً من تربية الإرادة، وبعد ذلك يمكن مواجهة المشاكل بالإرادة وحلها.
إن ضعيف الإرادة يتأرجح في أمره كما يتأرجح راكب الدراجة عند ركوبها لأول مرة، فإذا هو ربى إرادته سار سيراً متوازناً معتدلاً متجنباً الأخطاء، كما يفعل راكب الدراجة إذا اعتادها.
وكما يحتاج راكب الدراجة إلى جهد جهيد أول أمره حتى يستقيم له السير، وحتى يسير سيراً هيناً من غير بذل جهد كبير _ كذلك الشأن في تربية الإرادة يحتاج المرء أول أمره إلى كبير جهد، وقوة وتصميم، وصحة عزم، واحتمال الشدائد، ثم تسير الأمور بعد ذلك في يسر وسهولة من غير جهد ملحوظ، ولذلك جاء في الحديث: =إنما الصبر عند الصدمة الأولى+.
فمن صبر على الشدة الأولى في تربية إرادته كان ما بعدها أهون.
إن الذي يفسد الإرادة أن تعزم، وتَعْدِلُ، ثم تعزم، وتعدل، فيكون شأنك شأن بَكْرةِ الخيط يلقي صاحبها عليها الخيط ثم ينقض ما لف.(1/84)
وبعدما يصبر المرء على الشيء الذي يريده ويربي فيه إرادته، يصبح عادة يأتي به من غير عناء كبير؛ فالرجل الفاضل الذي اعتاد الإتيان بالأعمال الفاضلة كالرجل الشرير الذي اعتاد أن يأتي بالأعمال الشريرة، كلاهما تصدر عنه الأعمال في يسر وسهولة، وليس من فرق بينهما إلا أن الأولَ وجه إرادته وعوَّدها أعمالاً صالحة، والثاني وجه إرادته وعوَّدها أعمالاً سيئة.
وكثير من الشباب يقع في العادات السيئة من غير تفكير وعن غير قصد، إنما هم ينساقون مع التيار، يجدون بعض الشبان المستهترين يتجهون اتجاهاً سيئاً؛ فيسيرون في اتجاههم من غير وعي ولا تفكير ولا إعمال عقل في النتائج، وكان يجب أن يقدروا هذا الاتجاه ويزنوا نتائجه، ثم يسلطوا إرادتهم؛ لتجنيبهم هذا الاتجاه السيئ.
إن أكثر ما يفسد الشبان ويضعف إرادتهم هو الإغراء، يجلس الشاب مثلاً مع بعض أصحابه، فيجد اثنين منهم أو ثلاثة يدخنون، فيعزمون عليه بسيجارة، فيأبى فيلحون عليه، ويبررون تدخينهم بمبررات، مثل أنه يبهج النفس، أو يزيل الكرب، أو نحو ذلك من علل فاسدة؛ فيشرب أول سيجارة فلا يحس لها طعماً، وقد يشعر بشيء من الدوخان؛ فيكرهها، وينفر منها.
ولكن قد يوجد في مثل هذا الظرف؛ فيشربها ثانية، فلا يحس بالألم الأول، وإذا هو مدخن مثلهم.
ولو جرد إرادته للمرة الأولى، واعتزم ألا يدخن ما وقع في هذه العادة السيئة.
وقل مثل ذلك فيمن يشرب الخمر، أو يجري وراء الفتيات، أو نحو ذلك من عادات سيئة كلها إنما يقع الشاب بسبب ما يحيط به من إغراء، ومتى وجد الإغراء وجب على الشاب أن يتسلح بالإرادة القوية؛ ليتقيَ الوقوع في مثل هذه العادات.
كثيراً ما يحدث أن يسكر سائق قطار ويفرط في الشرب؛ فيخطئ في تسيير القطار، ويعرض أرواح الراكبين فيه إلى أشد الأخطار.(1/85)
وقد روي لنا كثيرٌ من هذه الأحداث؛ فلنتصورْ كيف يجني سائق هذا القطار على من يحمل مسؤوليتهم من الركاب، ولنتصورِ الفزع الذي يعرض للركاب لو علموا بحالة سائقهم.
والحقيقة أن كل إنسان هو سائق قطار؛ أعني أن نفسه تسوق قطاراً، وأن مثل هذه العادات السيئة مثل الخمر الذي يشربها السائق تقوده إلى أشد الأخطار، وليس هناك دواء لتجنب هذا الخطر إلا الإرادة القوية التي تحمي صاحبها من السكر عند سَوْق القطار.
ومع الأسف كثير من الشبان لا يفهمون هذا، ويسوقون قطار أنفسهم وهم سكارى، ولا يفيقون من سكرهم إلا بعد الاصطدام، وفوات الوقت، وخسارة النفس.
لابد أن يعوِّد الشاب نفسه إيقاظ العقل، وقوة الإرادة، والشعور بالواجب؛ ليقاوم هذا الإغراء، مثل ذلك مثل من استحلى النوم في السرير مع مجيء موعد عمله؛ فإنه إذا استسلم للنوم والخمول والكسل ضعفت إرادته.
ولكن إذا أشعر نفسه بواجبها، ونبَّه وعيَه؛ لوجوب الانتباه، والقيام من السرير؛ لمباشرة عمله _ استطاع بذلك أن يقاوم الإغراء، ويباشر العمل.
وهكذا الشأن في شؤون الحياة كلها، إذا استسلم للراحة، واستسلم للإغراء خمل عقلُه، ونامت إرادتُه، ولم ينتبه إلى ما يجب أن يعمل إلا بعد فوات الأوان.
وعظماء الناس إنما كان سر عظمتهم في قوة إرادتهم، وإطاعة عقلهم لا شهوتهم، وتمرين إرادتهم على العمل الجاد أمام الصعاب الحادة.
إن الرجل العظيم يتلذذ من مقاومة الإغراء ويتلذذ من السيطرة على نفسه، ويحس اغتباطاً من أنه غلب الإغراء ولم يغلبه، وصبر على الشدة ولم يخضع لها، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل؛ فقول رسول الله " =والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته+ معناه أن أي إغراء مما اعتاد الناس أن يخضعوا له ويتركوا مبادءهم من أجله لا يغريني، ولا يؤثر في مبادئي وتعاليمي.(1/86)
وموقفُ أبي بكر ÷ يوم ارتد كثير من العرب، وأبوا أن يدفعوا الزكاة، ونُصْحُ بعض الناس له بأن يلين معهم، ورَفْضُه ذلك، وتصميمُه على الحرب وألا يقبل من العرب إلا الإسلام كله كاملاً من غير أن ينقص منه شيء_ قوة في العزم، وقوة في الإرادة، ومقاومة للإغراء.
وموقف ابن تيمية وقد أراده السلطان على أن يعدل عن رأيه الذي وصل إليه اجتهاده وبحثه فأبى، ثم حبسه وعذَّبه فأبى، وكان وهو في السجن يكتب الكتب يشرح مبادئه وتعاليمه، ويستدل على صحتها، ثم لما منع عنه القلم والورق أخذ الفحم، وصار يكتب على حيطان السجن في شرح أدلته وبراهينه على تعاليمه_ مثلٌ صالحٌ كذلك على قوة الإرادة، وصحة العزم، وشدة التصميم، وعدم الاستماع إلى المغريات أو التخويف.
وكثير من المؤرخين كانوا يرون أن سر نجاح نابليون في حروبه كان في سرعة تصميمه، ومواجهة العدو بكل قوته.
وعلى كل حال فتربية الإرادة، وقوتها وتعويدها مقاومة الإغراء سر النجاح، وسر الاستقامة، وحصن حصين من الزلل.
ومن ربى إرادته أمكن إصلاحه، وأمكن حسن توجيهه.
ومن فقد إرادته فلا أمل مطلقاً في تقويمه إلا أن يبدأ من جديد؛ فيعالج نفسه كما يعالج المريض، ويصبر على العلاج المر؛ حتى يشفى من الداء.
اصنع حياتك(1) للأستاذ أحمد أمين
كل إنسان في هذه الحياة قادر _ إلى حد ما _ أن يصنع حياته فقيرة أو غنية، خصبة أو مجدبة، سعيدة أو شقية، باسمة أو عابسة.
نعم إن للوراثة والبيئة دخلاً في تحديد حياته، فهو _ إلى حد كبيرة _ ذكي أو غبي بالوراثة، قوي الأعصاب أو ضعيفها بالوراثة، وهو ناشئ في وسط فقير أو غني بالبيئة، معتادٌ عاداتٍ حسنةً أو سيئةً بالبيئة وهكذا...
ولكنَّ إرادةَ الإنسان، وعزمه، وهمته، وتربيته نفسه قادرةٌ قدرةً كبيرةً على التغلب على عقبات الوراثة، والبيئة.
__________
(1) فيض الخاطر 6/ 241_245.(1/87)
نعم إنَّك لا تقدر أن تكون في الذكاء قوةَ مائةٍ إذا خلقت وذكاؤك قوة عشرين، ولكنك قادر أن تستعمل ذكاءك المحدود خير استعمال حتى يفيد فائدة أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا أهمل؛ كمصباح الكهرباء إذا نُظِّف وكانت قوته عشرين شمعة كان خيراً من مصباح قوته خمسون إذا عَلَتْهُ الأتربة، وأهمل شأنه.
ونعم إنك لا تقدر أن تساير أبناء الأغنياء في ملبسهم، ومأكلهم، ومركبهم، ولكنك تستطيع أن تعيش عيشة نظيفة، وصِحِّية بدخلك القليل، حتى تفوق الغني في مظهره البراق إذا لم يسر على قوانين العقل، والصحة، وهكذا...
إذاً فالوراثة والبيئة لا تعوقان الإنسان عن إسعاد حياته إذا منح الهمة، وقوة الإرادة، والتفكير الصحيح، ومجال القول في ذلك فسيح، ولكني أقتصر هنا على بعض هذه المبادئ.
أول نصيحة لك ألاَّ تيأس، وأن تتوقع الخير في مستقبلك، ولا تقطب وجهك زاعماً أن الخير مُنِحَهُ غيرُك، وليس لك منه نصيب، وَوَسِّع أفقك، واعتقد أن العناية الإلهية لن تحرمك الخير في مستقبلك؛ فاعتقادك أن لا مستقبل لك، ولا أمل في حياتك، وأن لا خير ينتظرك سمٌّ قاتل يضني الإنسان حتى يميته.
وعلى العكس من ذلك توقعه الخير، وأمله في الحياة يوسع أفقه، ويحمله على أن يوسع معارفه في الحياة، وعلى الجد فيما اختاره لنفسه من صنوف العيش، وعلى استعمال المادة التي في يده خير استعمال.
لا تتعلل بأنك لست نابغة، ولا أن الظروف لا تواتيك ونحو ذلك؛ فالعالم لا يحتاج إلى النوابغ وحدهم، والنجاح ليس مقصوراً على النابغين وحدهم، وبذرة الجوافة ليس من حقها أن تطمح في أن تكون شجرة مانجو أو شجرة تفاح، ولكن ما ضرها أن تكون شجرة جوافة حلوة لذيذة، والحياة تتطلب الجوافة كما تتطلب المانجو والتفاح.(1/88)
إن كثيراً من الشُبَّان يعتقدون أن هناك مَنْ مُنِحُوا قدرة على التفوق من غير جهد، وعلى الإتيان بالعجائب من غير مشقة، وعلى قلب التراب ذهباً بعصا سحرية، ولكن كل هذه أفكار عائقة عن العمل، وعن النجاح.
كل من ساروا في طريق العمل بدءوا حياتهم بنوع من الغموض، والشك، والظلام، ولكن من نجح منهم إنما نجح؛ لأنه بعد أن بدأ حياته أحسَّ أنَّ في يده مصباحاً من نفسه يضيء له الطريق، ويستحثه على السير، وكلما تقدم إلى الأمام خطوة استحثه عزمه على متابعة الخطى في غير خوف، ولا ملل، ومتى أراه مصباحه أنه سائر على هدى، وعلى صراط مستقيم لم يتشكك في سيره، ولم يتعجل النجاح، واستمر في طريقه حتى يبلغ الغاية.
وخير وسيلة للنجاح في الحياة أن يكون للشاب مثل أعلى عظيم يطمح إليه، وينشده، ويضعه دائماً نصب عينيه، ويسعى دائماً في الوصول إليه: أن يكون عالماً عظيماً، أو تاجراً عظيماً، أو صانعاً عظيماً، أو سياسياً عظيماً؛ فمن قنع بالدون لم يصل إلا إلى الدون.
ونحن نشاهد في حياتنا العادية أن من عزم أن يسير ميلاً واحداً أحسَّ التعب عند الفراغ منه، ولكن من عزم أن يسير خمسة أميال قطع ميلاً، أو ميلين وثلاثة من غير تعب؛ لأن غرضه أوسع، وهمته المدخرة أكبر.
إنا نشاهد أن كل من رسم لنفسه غرضاً يسعى إليه، وأخلص له، واستوحاه، واجتهد في الوصول إليه _ نجح في حياته، ولو لم يدرك الغايةَ كلَّها أدرك جانباً عظيماً منها.
أكبر أسباب فشلنا أننا نخلق لأنفسنا أعذاراً، وأوهاماً، وعوائقَ؛ حتى تُكَوِّن لنا سَدَّاً كبيراً كسدِّ الصين حجارتُه أحياناً سوءُ الظنِّ، وأحياناً تخذيلُ النفسِ، وأحياناً الشكُّ في النتيجة، وأحياناً الخوفُ من الفشل، وأحياناً الكسلُ، إلى غير ذلك من أسباب.
ولا تزال هذه الأحجار تتراكم حتى يحجب السور الشمس عن أعيننا، فلا نرى خيراً، ولا نرى غاية.(1/89)
ليس الإنسان إلا بذرة أو نبتة تسعى دائماً للخروج إلى الشمس، والهواء الطلق، وثمرتها إنما تثمر بحظها من هذين، وبذرة الإنسان يقضي عليها بهذه العوائق التي ذكرنا؛ فلا تثمر.
إن هذا المثل الأعلى الذي يجب أن ينشده الشباب يجب ألا يكون المال وحده ولو من طريق التحايل، والمكر، واستغلال الآخرين لمصلحته، وابتزاز الضعفاء لشخصه؛ فتلك وسيلة من الوسائل الحقيرة، والنجاحُ المؤسسُ على نجاحٍ حقيرٍ رخيصٌ.
إنما النجاح الحق أن يجمع _ إلى نجاحه في عمله _ نُبْلَه في خلقه، وصدقَه، وأمانته في نفسه، وعطفه، وتسامحه، وبره بالضعفاء وذوي الحاجة، فلم يخلق الناس حوله؛ ليكونوا مادة لاستغلاله، إنما خلقوا؛ ليتبادل معهم المنافع، والخير العام.
إن مما يؤسف له أن نرى الآن موجةً تطغى على الناس أن يقيسوا نجاح الشخص بما حصله من المال؛ فالموظفُ مقدارُ نجاحِه الدرجةُ التي نالها، والتاجرُ ما كسب في تجارته من غير سؤال دقيق عن الوسائل التي استخدمها في حصوله على هذه الدرجة، ووصوله إلى هذا المال، أبالملق، والخداع، والحيل، وقول الزور، والبهتان، وضياع المبادئ، أم بغير ذلك؟
أبالتلاعب في التجارة، واستغلال الضعفاء، وانتهاز الفرص، أم بغير ذلك ؟
إن كان الأول فليس في الحقيقة نجاحاً، إنما هو نجاح إذا سمينا السارق لا ينضبط بجريمته ناجحاً؛ فالحصول على المال، والدرجة وحده لا يكفي ما لم نقف طويلاً، ونتساءل عن الوسائل التي استخدمها في الحصول على غرضه، أو سائل شريفة فذلك النجاح، أو وضيعة فلا نجاح، بل إنَّ الشخص إذا رسم مثله الأعلى في النجاح مع الأخلاق، وسار عليها ثم لم يصل إلى غايته، ولم يُدْرِك بغيته _ خيرٌ ألفَ مرةٍ للمجتمع ممن جعل كل غرضه المال مهما تَخَطَّى في سبيل ذلك رقاب الناس.(1/90)
ليس الإنسان حيواناً آكلاً شارباً فحسب حتى يقدَّرَ نجاحه بمقدار ما يحصل من مال يأكل به أفخم الأكل، ويشرب به أعذب الشراب، إنما الإنسان فوق ذلك إنسان يستمتع بحب الخير، وإدراك جمال الدنيا، وجمال الأفعال، ويشعر بالسمو.
إن الغِنَى إذا طُلب يجب أن يطلب بجانبه غنى النفس، وتسليحُها بحب الخير، والعمل للخير وما قيمة أموال تُكَدَّس، وذهب، وأوراق مالية تجمع، إذا صحبها فقر النفس؟
إن غنى النفس في حب التسامي، وحب الخير الرحمة، وحب تقديم الخير، والأخذ بيد الضعيف وذوي الحاجة، هذا هو الغِنى الدائم، أما غنى المال فغنى بائد.
لست أريد أن أثبِّط الشباب عن الرغبة في النجاح المادي من رغبة في وظيفة راقية، أو تجارة ناجحة، أو عمل يُدِرُ الربح، فذلك مطلب مشروع، ويجب أن يكون، ويجب أن نحارب الزهادة في الحياة، والرضا بالدون من العيش، والميل إلى الكسل، والخمول، والارتكان على الحظ والقدر.
إنما الذي نريد أن نقوله: إن ذلك لا يكفي ما لم يُدْعَم بالخلق، ولا يصح مطلقاً أن تطغى الرغبة في الخلق، والسمو النفسي، ومحاسبة النفس على الوسائل التي نُحَصِّل بها المال.
ومن أهم الأمور في تكوين حياتك وصنعها ثقتك بنفسك، واعتقادك فيها أنها صالحة للحياة قابلة للنجاح، ولا أضر على الإنسان من احتقاره نَفْسَه، واعتقادِه عَجْزَه.
وبعضُ الناس مصابون بهذا المرض، يعتقدون في أنفسهم أنهم لا شيء، وأن لا قيمة لهم، وأن لا أمل في نجاحهم، إما لأنهم ولدوا فقراء، وإما لأنهم ليسوا من بيوت كبيرة.(1/91)
وهذا أكبر خطأ يرتكبونه نحو أنفسهم، ومن المسؤولين عن هذا خطباء المساجد، والوعاظ؛ فإنهم يجتهدون أن يحقر الإنسان من نفسه، ويعتقد أنه لا شيء، مع أنَّ الأمة لا تحيا، ولا تتقدم إلاَّ إذا وثق أفرادها بأنفسهم، والقرآن نفسه بث روح الثقة بالنفس، والاعتزاز بالأمة، فقال: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]آل عمران: 110.
وضَعْفُ الثقةِ بالنفس يقتل طموحها، ويقتل استقلالها، ويفقدها حياتها.
ومن طبيعة الناس أنهم يحتقرون من احتقر نفسه، ويدوسون بأقدامهم من استذل.
ومن عادتهم أن يحترموا من احترم نفسه، ويثقوا بمن وثق بها، ويعاملوا معاملة الإنسان من تَذَكَّر دائماً أنه إنسان؛ غاية الأمر أن الإنسان كثيراً ما يخلط بين الثقة بالنفس، واحترامها وبين الكبرِ والغرورِ؛ الثقةُ بالنفس: اعتقادُك بقدرتك على ما تتحمله من أعباء، وما تلتزمه من واجب ومعرفتك الصحيحة بنفسك، ونواحيها الجيدة.
والكبرُ، والغرور: تعظيمُ نفسك أكثر مما تستحق، والمطالبة بالجزاء من غير عمل، وخداع الناس بالمظاهر الكاذبة من غير أن تكون لك قيمة حقيقية.
ثقتك بنفسك، واحترامك لها من غير كبر وغرور أحسن تأمين على الحياة ضد الوقوف في المواقف الخسيسة، وضد أعمال النذالة.
بعد أن يكون لك مثل أعلى تنشئه، وتعمل للوصول إليه، وبعد الثقة بنفسك، واحترامها _ اجتهد أن تبتسم للحياة؛ فالابتسام للحياة خير دواء للعقل، وخير علاج لاحتمال المتاعب إن أعيته، والابتسام للحياة يضيئها؛ فإن رأيت عابساً فلا بدَّ أن يكون هناك من أخطأ في تربيته من آبائه، أو مدرسيه، وقد أرتنا التجربة أن الفرحين المستبشرين الباسمين للحياة خير الناس صحة، وأقدرهم على الجد في العمل، وأقربهم إلى النجاح، وأكثرهم استفادة وسعادة مما في يده ولو قليلاً.(1/92)
ومن أكبر النعم على الإنسان أن يعتاد النظر إلى الجانب المشرق في الحياة لا الجانب المظلم منها؛ إن العمل الشاق العسير يخف حمله بالطبع، والنفس الفرحة.
قيل لشيخ هرم: إنك في ظل السبعين من السنين، قال: لا، ولكني في الجانب المشمس من الحياة.
إن الباسم للحياة يرى الجانب المشمس منها، والمتشائم لا يرى إلا الجانب المظلم؛ فعود نفسك هذه العادة، وانثر الأزهار باسماً على كل من عاملته، ولا تنظر للحياة من خلال نَظَّارَةٍ معتمة.
توسيع أفقك، وتحديد مثلك عالياً، وطموحك أن تكون عظيماً، ثم ثقتك بنفسك، واحترامك لها في غير كبرياء وغرور، ثم تفاؤلك، وابتسامك، وسرورك _ هي الخيوط التي يجب أن تنسج منها حياتك، وما أحسنه من نسيج.
إنك إن فعلت كان ذلك خيراً لك ولأمتك، وكان ذلك نجاحاً عظيماً.
ولو تكسب مالاً كثيراً؛ فما قيمة المال إذا لم تكن سعادة؟ وما قيمة النجاح إذا لم يكن خلق؟ وما قيمة الدنيا إذا عبست في وجهها دائماً؟
موت الأمم وحياتها (1) للشيخ محمد البشير الإبراهيمي
إنَّ موت الأمم، وحياة الأمم لفظان مطروقان مستعملان في نصابهما من الوضع اللغوي، كموت الأرض بالقحط، وحياتها بالغيث، لا ينبو بهما ذوق ولا منطق ولا فهم، وإن معناهما لأوسع وأجل من معنى حياة الفرد، وموت الفرد، هذه حياة محدودة، وموت لا رجعة بعده إلاَّ في اليوم الآخر، وتلك حياة ممدودة الأسباب ينتابها الضعف فتعالج، ويُلِمّ بها المرض فتداوى، ويطرقها الوهن فتقوى، ويدركها الانحلال فتشد، ويعرض لها الانتقاض فترمم، وتظلم آفاقها بالجهل فتنار بالعلم.
__________
(1) نشرت في العدد 124 من جريدة =البصائر+، 19 جوان سنة 1950م، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/350_351).(1/93)
طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت، وطالما فرح الشامتون بموتها، وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منَّا، وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فَعَدَّوه تشييعاً لجنازة الإسلام الذي هو مَسّاك حياة هذه الأمة في هذا الوطن، فقالوا: ماتت لا رحمها الله، وصدقهم ضعفاء الإيمان منَّا فقالوا: ماتت رحمها الله، وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية، ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب، وأحسن استعمال الدواء؛ فحقق الله قولنا، وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم، فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه، وأذن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاضة تطايرت بها الأثقال، وانفصمت الأغلال، وكان من آثارها هذا اليوم الذي لا يصوره الخيال والوهم، وإنما يصوره العيان والواقع.
فإذا بقي في الدنيا ممسوس، يكابر في المحسوس، ولا يصدق بوجود هذه الأمة، ولا يؤمن بحياتها _ فقولوا له: تطلع من هذه الثنايا على قرية الحنايا، وقارن يومها بأمسها، يراجعك اليقين، ويعاودك الإيمان.
قلنا في هذه الأمة ومازلنا نقول: إن عوارض الموت وأسبابه كلها موجودة فيها من الجهل، والفقر، والتخاذل، وفساد الأخلاق، واختلاف الرأي، وفقد القيادة الرشيدة.
وقلنا _ مع ذلك _ ومازلنا نقول: إنها مرْجُوَّة الحياة ما دام مناط الرجاء فيها سالماً صحيحاً، ومناط الرجاء هو نقطة من الإيمان ما زالت لائطة بالقلوب وصِلَةٌ بالقرآن ما زالت مرعية في الألسنة، وإن هذا الرجاء معلق بخيط دقيق لا نقول إنه كخيط العنكبوت، ولكننا نقول: إنه أقوى من السلاسل الحديدية إذا أمده الاستعداد والتدبير الرشيد.
هذه النقطة هي مبعث القوة ولو بعد حين، وهي مكمن السيادة والعزة ولو في الأخير، والسبق يعرف آخر المضمار.(1/94)
من أطوار هذه الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالاً على الأمة، وتشتيتاً لشملها، وصدعاً لجدار وحدتها، وقطعاً لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فَرَّ العلماء من الميدان، وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله =نيرون+.
وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق، وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضوماً فلا ينطقون، والمنكر فاشياً فلا يغيِّرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين.
يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الإمامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة.
جَرَّبنا فصحَّت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامْتَحَنَّا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وإن تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير.
هذه الأمة كَبَا بِها الزمن، وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عوناً له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوهاً ممسوخاً، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال.
ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك، فيأتي بالعجائب.
هذا تَطَوُّر شهدناه في تاريخ الأمة الجزائرية الحديث، كما شاهدناه في تاريخ أسلافها وجيرانها، وما هذا المنظر المعجب المطرب بآخر منظر في رواية التاريخ.(1/95)
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
23_ المدنية الغربية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ المدنية تحطم الأعصاب: للأستاذ أحمد أمين
25_ المدينة الفاضلة: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
المدنيَّة الغربية(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
سأودّع في هذه النظرة الخيال والشعر وداعَ مَنْ يعلم أن الأمر أعظم شأناً، وأجل خطراً من أن يعبث فيه العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجد، والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في مواطن جده وعمله.
إن في أيدينا معشر الكُتَّاب من نفوس هذه الأمة وديعةً يجب علينا تعهدها، والاحتفاظ بها والحدب عليها حتى نؤديها إلى أخلافنا من بعدنا، كما أداها إلينا أسلافنا سالمة غير مأروضة(2) ولا متآكلة، فإن فعلنا فذاك، أولا فرحمة الله على الصدق والوفاء، وسلام على الكُتَّاب الأمناء.
الأمة المصرية أمة مسلمة شرقية، فيجب أن يبقى لها دينها وشرقيتها ما جرى نيلها في أرضها، وذهبت أهرامها في سمائها، حتى تُبَدَّل الأرض غير الأرض والسموات.
إن خطوة واحدة يخطوها المصري إلى الغرب تدني إليه أجله، وتدنيه من مهوى سحيق يقبر فيه قبراً لا حياة له من بعده إلى يوم يبعثون.
لا يستطيع المصري وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز، يمسك خشاره، ويفلت لبابه، أو الراووق(3) من الخمر، يحتفظ بعقاره، ويستهين برحيقه؛ فخير له أن يتجنبها جهده، وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب.
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص136_140.
(2) الخشب المأروض: الذي أكلته الأرضة.
(3) الراووق: المصفاة.(1/96)
يريد المصري أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته، فلا ينشط إلا في غدواته وروحاته، وقعدته وقومته، فإذا جد الجد، وأراد نفسه على أن يعمل عملاً من الأعمال المحتاجة إلى قليل من الصبر والجلد دَبَّ الملل إلى نفسه دبيب الصهباء في الأعضاء، والكرى بين الجفون.
يريد أن يقلده في رفاهيته، ونعمته فلا يفهم منهما إلا الأولى التأنث في الحركات، والثانية الاختلاف إلى مواطن الفسق ومخابئ الفجور.
يريد أن يقلده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها ونعيبها، وضجيجها وصفيرها، فإذا قيل له: هذه المقدمات، فأين النتائج؟أسلم رجليه إلى الرياح الأربع واستن في فراره استنان المهر الأرن(1) فإذا سمع صفير الصافر مات وجلاً، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلاً.
يريد أن يقلده في السياحة، فلا يزال يترقب فصل الصيف ترقب الأرض الميتة فصل الربيع, حتى إذا حان حينه طار إلى مدن أوروبا طيران حمام الزاجل لا يبصر شيئاً مما حوله, ولا يلوي على شيء مما وراءه , حتى يقع على مجامع اللهو، ومكان الفجور , وملاعب القمار، وهناك يبذل من عقله وماله ما يعود من بعده فقير الرأس والجيب, لا يملك من الأول ما يقوده على طريق السفينة التي تحمله في أوبته, ولا من الثاني أكثر من الجعالة التي يجتعلها منه صاحب الجريدة؛ ليكتب له بين حوادث صحيفته حادثة عودته بجمل الإجلال والاحترام مطرزة بوشائع الإكرام والإعظام.
يريد أن يقلده في العلم, فلا يعرف منه إلا كلمات يرددها بين شدقيه ترديداً لا يلجأ فيه إلى ركن من العلم وثيق، ولا يعتصم به من جهل شائن.
يريد أن يقلده في الإحسان والبر، فيترك جيرانه وجاراته يطوون حنايا الضلوع على أمعاء تلتهب فيها نار الجوع التهاباً؛ حتى إذا سمع دعوة إلى اكتتاب في فاجعة نزلت في القطب الشمالي، أو كارثة أَلَمَّت بسد يأجوج ومأجوج سَجَّل اسمه في فاتحة الاكتتاب، ورصد هبته في مستهل جريدة الحساب.
__________
(1) الأرن: النشيط.(1/97)
يريد أن يقلده في تعليم المرأة وتربيتها، فيقنعه من عملها مقالة تكتبها في جريدة، أو خطبة تخطبها في محفل ومن تربيتها التفنن في الأزياء، والمقدرة على استهواء النفوس، واستلاب الألباب.
هذا شأنه في الفضائل الغربية، يأخذها صورة مشوهة، وقضية معكوسة لا يعرف لها مغزى، ولا ينتحي بها مقصداً، ولا يذهب فيها إلى مذهب، فيكون مثله كمثل جهلة المتدينين الذين يقلدون السلف الصالح في تطهير الثياب، وقلوبهم ملآى بالأقذار والأكدار، ويجارونهم في أداء صور العبادات، وإن كانوا لا ينتهون عن فحشاء ولا عن منكر، أو كمثل الذين يتشبهون بِعُمَر في ترقيع الثياب، وإن كانوا أحرص على الدنيا من صيارفة اليهود.
أما شأنه في رذائلها فإنه أقدر الناس على أخذها كما هي، فينتحر كما ينتحر الغربي، ويلحد كما يلحد، ويستهتر الفسوق استهتاره، ويترسم في الفجور آثاره.
إن في المصريين عيوباً جمة في أخلاقهم وطباعهم، ومذاهبهم وعاداتهم، فإن كان لا بدَّ لنا من الدعوة إلى إصلاحها فلندع إلى ذلك باسم المدنية الشرقية لا باسم المدنية الغربية.
إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد، وقرطبة، وثيبة، وفينيقيا، لا بباريس ورومه، وسويسرا، ونيويورك.
وإن دعوناهم إلى مكرمة، فلنتل عليهم آيات الكتاب المنزلة، وأقوال أنبياء الشرق وحكمائه، لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر.
وإن دعوناهم إلى حرب، ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير، وصلاح الدين _ ما يغنينا عن تاريخ نابليون، وولنجتون، وواشنطون، ونلسن، وبلوخر، وفي وقائع القادسية، وعمورية، وإفريقية، والحروب الصليبية، ما يغنينا عن وقائع واترلو، وترافلغار، واستر ليتز، والسبعين.(1/98)
إن عاراً عن التاريخ المصري أن يعرف المسلم الشرقي في مصر من تاريخ بونابرت ما لا يعرف من تاريخ عمرو بن العاص, ويحفظ من تاريخ الجمهورية الفرنسية, ما لا يحفظ من تاريخ الرسالة المحمدية, ومن مبادئ ديكارت، وأبحاث دارون ما لا يحفظ من حكم الغزالي وأبحاث ابن رشد، ويروي من الشعر لشكسبير، وهوجو، ما لا يروي للمتنبي والمعري.
لا مانع من أن يُعَرِّب لنا المعرِّبون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، والجيد الممتع من أدب كُتَّابهم، وشعرائهم على أن ننظر فيه نظر الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم؛ فلا نأخذ كل قضية مسلمة، ولا نطرب لكل معنى أدبي طرباً متهوراً.
ولا مانع من أن ينقل إلينا الناقلون شيئاً من عادات الغربيين، ومصطلحاتهم في مدنيتهم على أن ننظر إليه نظر من يريد التبسط في العلم والتجربة والاختبار، لا على أن نقلدها، ونتقلدها، وننتحلها قاعدتنا في استحسان ما نستحسن من شؤوننا، واستهجان ما نستهجن من عاداتنا.
وبعد فليعلم كُتَّاب هذه الأمة وقادتها: أنه ليس من عادات الغربيين، وأخلاقهم الشخصية الخاصة بهم ما نحسدهم عليه كثيراً؛ فلا يخدعون أمتهم عن نفسها، ولا يفسدوا عليها دينها وشرقيتها، ولا يزينوا لها تلك المدنية تزييناً يرزؤها في استقلالها النفسي، وبعدما رزأتها السياسة في استقلالها الشخصي.
المدنية تحطيم الأعصاب(1) للأستاذ أحمد أمين
ما أصدق اللغة الحية في تسجيل الأفكار الجيدة؛ فكما أن اللغة تضع الاسم لما تخترع من الآلات والأدوات بمجرد اختراعه كذلك الشأن في المعاني المستحدثة.
__________
(1) فيض الخاطر 6/265_ 274.(1/99)
ونجد في لغتنا الحديثة كثرة استعمال تهدمت أعصابه، وتحطمت أعصابه، وتوترت أعصابه، ونحو ذلك ممالا نجد في كتبنا القديمة، كما أننا نجد اللغة العامية أكثرت من استعمال =النرفزة+أخذاً من الكلمة الإفرنجية Nervous بمعنى عصبي المزاج، ولم يكن آباؤنا يستعملون هذه الكلمات، ولا التعبيرات؛ لأنهم لم يشعروا بتهدم الأعصاب، وإنما تهدمت أعصابنا بتكاليف المدنية، وأعباء الحياة.
والسبب في هذا الشعور بتهدم الأعصاب كثرةُ تكاليف الحياة، وزيادة أعبائها، وتعدد مطالبها, وانتقال كثير من الكماليات إلى ضروريات مما لم يكن له نظير عند آبائنا وأجدادنا.
تعقدت المدنية، وتركبت، وكثرت فيها المطالب , وشعر الإنسان بأنه لا بد أن يوفي المطالب كلها , وطاقته محدودة وماليته محدودة؛ فينوء تحت هذه الأعباء، ويشعر بتهدم أعصابه.
كان أكثر آبائنا إذا عَلَّمُوا أبناءهم فك الخط فهذا يكفي للحياة، ولشغل الوظائف.
أما الآن فالأب يحمل أعباء تربية أبنائه، وبناته تعليماً، ابتدائياً، وثانوياً، وعالياً.
وماليته قد تكون محدودة؛ فيرهق نفسه، وفي كل دور من أدوار التعليم مشاكل لا حَدَّ لها؛ هذا رسب في الامتحان، وهذا له ملحق، وهذا شَبَّ؛ فلا يخضع لحكم آبائه، وهذا كان متأخراً في الترتيب؛ فلا تقبله المدارس العالية، أو الجامعة، والأسرة كلها في مشاكل من هذا القبيل لا تنتهي.
هذا باب واحد من أبواب الحياة.
وهذه ميزانية البيت معقدة مركبة، يحصل عليها النزاع في أول كل شهر وآخر كل شهر، الرزق محدود، والمطالب غير محدودة، أقساط المدارس، وغلاء المأكل، وحاجة السيدة والأولاد إلى الملابس، وحاجة الأب إلى مصاريف خاصة من أجرة انتقال، وشرب دخان، والماهية لا تكفي لكل ذلك، فينفق ما يستطيع من ماهيته، والباقي ينفقه من أعصابه.(1/100)
ويذهب الموظف إلى ديوانه، فلا يزال يسمع من أخبار الدرجات والعلاوات ما يثير نفسه، ويهيج مطامعه، والويل لأعصابه إذا لم تتحقق أمانيه، ونظام كل شيء في الحياة مركب معقد، الزواج سلسلة متاعب في الخطبة، والمهرِ، والجهازِ، والعقد، والحفلاتِ، والتعليمُ سلسلةُ مشاكل، وإدارةُ الأموال سلسلة مشاكل.
حتى الغني الذي عنده أكثر مما يكفيه متعب مهدم الأعصاب من إدارة أمواله، هذا سرقه، وهذا أكل ماله، والقضايا ترفع في المحاكم، والقضية الواحدة تطول، ويتفرع عن القضية عشر قضايا، والمطالب عليه تتكاثر، مشاكل إدارة الأطيان، والفلاحين، وناظر الزراعة والآلات، ثم مشاكل بيته من السيارات والخدم، وواجبات حياته الاجتماعية من استقبالات، وزيارات، وحفلات، ومصاريف، ومشات، ومرض، وعلاج، وما إلى ذلك مما لو رآه الفقير لحمد الله على الفقر.
كان أجدادنا أبسط عيشاً، وحياتهم أهدأ من آبائنا، وآباؤنا أبسط عيشاً وأهدأ بالاً مِنَّا، ونحن أحسن حالاً من أبنائنا، حياتنا كلها زائطة متعبة، في المنزل من هذه المشاكل، وفي الشارع من السيارات، والعربات، وسرعة الحركة، وكثرة الناس، في كل محل ضوضاء، فأين تهدأ الأعصاب؟
ولهذا كان تهدم الأعصاب في سكان المدن أكثر منه في سكان الريف، وبين من يحملون الأعباء الكثيرة، والمسؤوليات المتنوعة أكثر من ذوي المسؤوليات القليلة، وهكذا.
ما هي أعراض تهدم الأعصاب؟(1/101)
هي بيننا كثيرة وأشكالها متعددة: ضيق في الحياة، وانقباض صدر منها, وشعور بأن الدنيا كلها سوداء في عينيه ليس فيها ما يسر، والمبالغة في تقدير ما يحزن، والمبالغة في تقليلِ قِيمَةِ ما يَسُرُّ, فإذا أتاه في يوم واحد عشرة أخبار تسعة منها سارة وواحد منها محزن لم يلتفت إلى التسعة السارة، وعلق كلَّ أهمية على الخبر المحزن , وبالغ فيه, ثم ينتج عن ذلك غضب لأتفه الأشياء؛ فالكلمة التي كان يسمعها، فيبتسم منها أو لا يعيرها أي التفات تصبح كلمة لها أهميتها، يثور منها، ويقيم الدنيا ويقعدها؛ حتى ليكاد يغضب ممن قال له: السلام عليكم أو نهارك سعيد، ليس عنده شيء يتساهل به , يدقق في كل صغيرة ويخلق منها سببها للنزاع والخصام,الأشياء التي كان يراها كل يوم ويضحك منها أو يسكت عليها تنقلب فجأة أشياء خطيرة لا يصح السكوت عليها، ولا يصح أن تمر من غير نزاع وخصام, ثم الشك المؤلم في قيمة الحياة, فلا هو يؤمن بقيمة ماله إن كان غنياً، ولا بقيمة وظيفته إن كان في وظيفة كبيرة، ولا بقيمة أولاده مهما كانوا ناجحين في حياتهم، أو مدارسهم، بل ولا يؤمن بقيمة نفسه, ثم يلح به هذا الشك في الأشياء وقيمها إلى أن يصاب بتردد، فلا يَبُتُّ ولا يقرر؛ لأنه شاكٌّ في نتيجة هذا، ونتيجة ذاك غير مؤمن بالشيء ولا بضده، وهذا الشك وهذا التردد وهذه الحيرة تُضاعف من انقباض صدره، وحِدَّة غضبه، وتبرمه بالدنيا، ثم يحيط به الخوف من كل جانب؛ فهو خائف على ثروته أن تضيع، وعلى أولاده أن يصابوا بأذى، وعلى زوجته أن تخونه، أو على زوجها أن يخونها، وعلى سيارته أن تحدث لها حادثة، وعلى الترام يركبه أن يصطدم، وقد يبلغ به هذا الخوف إلى درجة من السخافة بمكان حتى قد يخلق من خياله أشخاصاً يتصور أنهم يدبرون له المكايد، ويحيكون له الدسائس؛ ففلان إنما يُسَارُّ فلاناً في أمره، وفلان قابل فلاناً لتدبير مؤامرة له , وهكذا من أنواع السخافات التي لا تنتهي, حتى ليبلغ به(1/102)
الأمر أن يفسر حركات الناس، وتصرفاتهم تفسيراً غريباً يتعلق بشخصه والحط منه والكيد له وغير ذلك من الأشكال والألوان,كحب العزلة، والابتعاد عن الناس والانفراد في حجرة حتى في بيته بين أسرته , وقلة الرغبة في الكلام ونحو ذلك, وكما أن الجنون فنون فكذالك أعراض تهدم الأعصاب فنون.
ومن مصائب هذا المرض أن صاحبه غالباً لا يؤمن بأنه مريض, عكس الأمراض الجسمية؛ فمن مرض بمعدته تألم منها، وإذا لم يهضم أدرك أن العيب في معدته لا في الأكل الذي أكله.
أما متهدم الأعصاب فيرى أن الدنيا سوداء كما يراها، ولا يؤمن بأنَّ العيب عيبه هو ,وإذا أجبر إلى الذهاب إليه اعتقد أن المريض هو الطبيب.
أكثر ما يحدث هذا التهدم العصبي عند فشل الإنسان في الحياة فشلاً فظيعاً لسبب من الأسباب, أو تحميل الإنسان نفسه فوق طاقتها من تكاليف وأعباء، وعدم إعطائها حظها من الراحة والهدوء.
ولو حللنا أكثر الأسباب التي تدعو إلى هذا التهدم، وجدناها ترجع إلى سببين أساسيين: الجهل والخوف.
أما الجهل وعلاقته بتهديم الأعصاب فيتجلى في عدم فهم الإنسان مقدرته، ومركزه، وكفايته أمام المطالب الاجتماعية , كأن يضع نفسه فوق ما يستحق, فهو يريد أن يُسَخِّر المجتمع لخدمته، يريد أن يتزوج خير زوجة، ويشغل أكبر وظيفة, وتريد هي أن تتزوج خير رجل، وتلعب بالمال لعباً, ويريد أن يظفر في المناصب أو في الغنى ظفراً، ويريد أن يكون له الجاه العريض، والنجاح السريع.
والدنيا لا تسير على هواه وحده , والمجتمع إنما يسير بقيود وشروط؛ فإذا هو لم يحقق مطامحه البعيدة عدَّ نفسه فاشلاً, فصدمه ذلك صدمة هدمت أعصابه.
وأسعدُ الناس، وأهدؤهم بالاً مَنْ وزنوا أنفسهم وزناً صحيحاً، وعرفوا الدنيا التي حولهم معرفة صحيحة, عرفوا أنفسهم بعيوبها ومزاياها , وعرفوا الدنيا بعيوبها ومزاياها، وطلبوا من الدنيا فقط ما يتفق وطبيعَةَ نفوسهم، وما يتفق وطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه.(1/103)
ومما لا شك فيه أن العيب ليس كله راجعاً إلى الشخص نفسه؛ فكثيراً ما تكون العيوب الكثيرة التي تهدم الأعصاب في المجتمع نفسه، كما إذا اختل فيه العدل الاجتماعي، واختل فيه تقدير الكفايات، وكانت الرذائل تنجح فيه حيث تفشل الفضيلة، كذلك إذا كان المجتمع يرهق أرباب الأسر، ولا يساعدهم في تخفيف الحياة عنهم في تسهيل وسائل التعليم، ووسائل العيش.
ولذلك كان المجتمع الفاسد التي تسود فيه الفوضى والاضطراب محتاجاً لكثير من المستشفيات لمتهدمي الأعصاب.
إن جهل الأفراد بوزن نفوسهم، وجهل أولي الأمر في تنظيم مجتمعهم هو أكبر سبب في تهديم أعصابهم؛ فتهدُّم الأعصاب ليس إلا نتيجةَ ارتباكٍ في الحياة الخاصة، والحياة العامةِ، وكثيرٌ من الناس يرون أنهم إما أن ينجحوا في الحياة مائة في المائة، أو الخيبة المطلقة على مبدأ الشاعر الذي يقول:
......................................... لنا الصدر دون العالمين أو القبر(1)
ولكن طبيعة الحياة تأبى هذا فليس في الدنيا ناجح مائة في المائة في كل شؤونها، فالمطالبة بهذا القدر، وتنغيص النفس إذا لم يحدث، والاتكاء على الأعصاب من أجل هذا المطلب المستحيل _ جهلٌ بقوانين الطبيعة، ويكفي الإنسان طمأنينةً وراحةَ بالٍ أن ينجح بعض النجاح.
أما السبب الخطير الثاني في تهدم الأعصاب فهو الخوف وهو أشكال وأنواع:
الخوف من الفشل، والخوف من الفقر، والخوف من الموت، والخوف من كلام الناس، الخ..
وليس أدل على تهديم الخوف للأعصاب مما يحصل للناس أثناء الحروب؛ فالخوف على أشكاله يهدم أعصاب الناس، وليس هناك أهدأ بالاً، وأصلح أعصاباً ممن استهان بالمخاوف، وتشجع لمواجهة الصعاب، ولتكن النتيجة ما تكون.
__________
(1) البيت لأبي فراس، وصدره:
ونحن أناسٌ لا توسط بيننا ................................. (م).(1/104)
ومن الحمق أن يجمع الإنسان على نفسه ألم الخوف من الشر قبل وقوعه، وألم الشر عند وقوعه؛ فإذا كان لا بد من ألم فليكف ألم الشر إذا وقع لا قبل أن يقع.
وإذا كان أهم سبب لتهدم الأعصاب الجهل، والخوف، فأهم علاج له العلم الشجاعة.
إن متاعب الحياة وتعقيد المدنية وإرهاق الناس بالمطالب سببت تحطيم أعصاب كثير من الناس، وربما كان ذلك في الشرق أكثر منه في الغرب، وذلك لأسباب عدة: منها فشو الفقر في الشرق، والمسافات البعيدة بين الطبقات، و فشو الأمية؛ فالجهل كثيراً ما يكون السبب في تهدم الأعصاب، ثم عدم تنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً مريحاً؛ فأكثر البيوت لا راحة فيها من كثرة النزاع على توافه الأشياء, وضياع كثير من الرجال في القهوات فراراً من البيت, وهي أمكنة مملوءة بالضوضاء فاسدة الهواء,فاسدة الناظر, لا تُسَرَِّي حُزْناً ولا تفرج كرباً,وليس هناك مجال للرجل المثقف، ولا المرأة المثقفة ينعم فيه بالسعادة الهنيئة البريئة.
فمحال اللهو لا تناسبهم, والاجتماعات العامة تضايقهم, ثم النظامات الاجتماعية لم تخفف عن الفقير فقره، ولا المريض مرضه، ولا رب الأسرة عبئه، ولا الفلاح والصانع والعامل متاعبه, إلى كثير من أمثال ذلك.
لهذا كانت ضحايا تحطيم الأعصاب كثيرة العدد, وهو يتخذ أشكالا عديدة: منها غلبة الحزن على الشخص أو السوداء، تختلف الأسماء والمسمى واحد.
ومصداق ذلك أن أكثر كلامنا في عيوبنا لا في مزايانا؛ لأن ذلك يتفق وآلامنا، وأكثر احتفالاتنا في مظاهر الحزن لا في مظاهر السرور.
فالمآتم، والقرافة، وذكرى الأربعين، وذكرى الوفاة للعالم الأول والثاني إلى غير ذلك _ كلها تناسب النفوس الحزينة الضعيفة الأعصاب التي إن لم تجد محزنة خلقت محزنةً، بل إن لم تجد سبباً للحزن حزنت؛ لتوقعها للحزن.(1/105)
ومن مظاهر تحطم الأعصاب _ أيضاً _ هذا الغضب السريع الجامح، والانفعال الشديد للشيء السخيف، وتحول الإنسان إلى شعلة نار من الغضب، ثم تحوله بعد ذلك سريعاً إلى لوح ثلج بارد.
وسرعةُ التنقل من بكاء إلى ضحك، ومن سب إلى استعطاف، ومن زمجرة إلى ندم، ومن أسد إلى قط، ومن ماء إلى حجر _ كل هذه أشكال من تحطم الأعصاب.
وقد يتخذ شكلاً آخر هو شكل الخوف، خوف مبني على غير أساس، يخاف الفقر وعنده ما يكفيه، ويخاف المرض وصحته جيدة، ويخاف فساد الأولاد، وهم صالحون، وسقوطهم في المدرسة، وهم ناجحون، ويخاف من رؤسائه وهم عنه راضون، أو من شياطين الإنس والجن، أو من الترام، أو من القطار، أو من خيالات لا وجود لها يخلقها هو ثم يخاف منها _ هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب.
وشكل آخر هو حالات عقلية غريبة، كضعف الثقة بنفسه؛ فيعتقد أنه لا يصلح لعمل، وأنه إذا عمل عملاً فهو لا يستحق شيئاً، أو يخشى الناس، ويخشى الاجتماع، أو يشك في الناس ويعتقد أنهم كلهم أنجاس لا يرجى منهم خير، أو هو لا يكترث بشأن من شؤون الحياة، ولو انطبقت السماء على الأرض، لا تهمه أسرة، ولا تهمه وظيفة، ولا تهمه أُمة، هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب.
وما أكثر الأشكال والألوان، وألوف وألوف من الناس فقدوا سعادتهم، وفي كثير من الأحيان سَلبوا سَعادةَ مَنْ يتصل بهم، لا لسبب إلا ضعف أعصابهم، وما نشأ عن ذلك من سوء تصرفاتهم.
وتحطم الأعصاب ليس ضرورة مقصوراً على المريض وأسرته، بل هو عظيم الضرر للأمة كلها؛ فكيف يؤدي الشخص عمله في وظيفته، أو متجره، أو مصنعه، إذا تحطمت نفسه من تحطم أعصابه؟ كيف يركز قوته في عمله؟ كيف يفكر تفكيراً صحيحاً سليماً؟ كيف يؤدي عمله إذا لم ينم النوم الكافي لضعف أعصابه؟ كم محطم الأعصاب كارثة على نفسه، وعلى أسرته وعلى أمته.(1/106)
قد تكون هذه الحالات العصبية وهماً من الأوهام يتخيله المريض، وليس به مرض، فهو يخلق المرض، ولا يزال يلح في اعتقاده أنه مريض حتى ينمو المرض في نفسه، ولهذا اعتدنا من قديم أن نعالج الوهم بوهم، كالزار، والبخور، ونحو ذلك، وقد تنجح هذه الأمور، ولكن سبب نجاحها أنها أوهام تعالج أوهاماً، كالذي قرأت مرة أن طبيباً عربياً لا أذكر اسمه الآن عرض عليه مريض يتوهم دائماً أنه يحمل على رأسه جرة، فإذا دخل بابا انحنى حتى لا يعوق الباب الجرة، وقد حار فيه الأطباء، فاتفق هذا الطبيب الماهر مع خادمه أن يحضر جرة؛ فإذا جاء هذا المريض غَافَلَه، ووقف وراءه بالجرة من غير أن يراه، ثم كسر الجرة، وأوهم المريض أنها هي الجرة التي على رأسه، ففعل ذلك، وشُفي المريض، وهكذا عالج الوهم بالوهم.
ولكن في بعض الأحيان يكون تحطم الأعصاب مرضاً حقيقياً سببه مرض في الجسم، أو مرض في النفس.
وكثير منا في حياتنا اليومية يرهق أصابه؛ فتكون النتيجة ما ذكرنا.
فمثلاً قسطٌ من الراحة لا بد منه للإنسان، وإن لبدنك عليك حقاً؛ فإذا أنت أنهكته بالسهر، أو بالعمل ولم تعطه حظه من الراحة كان نتيجة ذلك تحطم الأعصاب، وانشغال البال بمطالب الحياة المادية، والاجتماعية.
والإفراط في ذلك ضرر يصيب الجسم لا محالة تظهر آثاره على مدى الزمان؛ فتضعف الأعصاب.
وتحميل النفس أعباءاً كثيرةً، وهموماً ثقيلة، ومداومةُ التفكير فيها كثيراً ما ينتج هذه النتيجة، وهكذا.
مثل أعصابنا كمثل أسلاك الكهرباء في بيوتنا؛ فإذا انطفأ النور فابحث عن سببه ثم عالجه بما يصلحه.
فافحص حياتك هل تعتاد عادات سيئة في جسمك؛ فتسهر أكثر مما يلزم، أو تتعب في العمل أكثر مما يلزم؛ أو ترتاح أكثر مما يلزم، أو تتغذى أقل أو أكثر مما يلزم، أو نحو ذلك؟(1/107)
واسأل مثل هذه الأسئلة نحو نفسك، هل ترهقها بالفكر أو تَحَمُّل الهم؟ هل تحملها ما لا تطيق من اجتماعات وحفلات؟ هل تعرضها لكثير من الانفعالات؟ فإذا أنت وقفت إلى موضع الداء؛ فعالج سلوكك كما تعالج سلوك الكهرباء كل شيء بما يناسبه.
فأما الأعصاب المحطمة الناتجة من مرض جسمي؛ فاطلب علاجها من أطباء الأجسام، وأما الناتجة عن مرض النفس؛ فمع الأسف لم يلتفت الناس إليها كما التفتوا إلى مرض الجسم، ثم كانت النهضة الحديثة في أوربا؛ فتقدم علم النفس كثيراً، وكان له أطباء، وإن كانوا في أول مراحلهم.
غير أن هناك مفتاحاً أستطيع أن أدلك عليه كمفتاح البيت يفتح أبواب الحجر كلها، هو التنفيس عن نفسك بالتفكير في غيرك؛ إن الناس ينقسمون _ عادة _ إلى قسمين: قسم يكثر التفكير في نفسه، وقسم يكثر التفكير فيما حوله، وأكثر المصابين في أعصابهم، هم من الصنف الأول الذي يكثر التفكير في نفسه؛ فحوِّل البخار المضغوط في نفسك إلى عمل خارجي؛ ولذلك ترى أن الناس الذين يشغلون وقتهم بعمل للخدمات العامة، أو المصلحة العامة _ أقلَّ الناس تعرضاً لضعف الأعصاب، وأكثر النساء المصابات بهذا المرض نشأ مرضهن كذلك مِنْ قَصْر نظرهن على التفكر في أنفسهن، وأولادهن، وبيتهن.
وعلاج ذلك عندهن تأليف جمعيات لمساعدة المرضى، أو الفقراء، أو البؤساء، أو نحو ذلك مما يصرف ذهنهن عن إطالة التفكر في أنفسهن.(1/108)
والدليل على ذلك أن المريض بأعصابه يكره المجتمعات، ويكره الصداقة، ويكره إلا أن يفكر في نفسه؛ فالدواء لا بُدَّ أن يكون على عكس الداء، كما تعالج الحرارة بالبرودة، والبرودة بالحرارة؛ فوسِّع نفسك، وأشغلها بعمل يعود بالخير على الناس، واهتم بأصدقائك، وجيرانك، واهتم بشيء يناسبك يكون صلة بالعالم الخارجي؛ ومن أجل هذا نرى أن المتدينين من أقل الناس تعرضاً لهذه الأمراض العصبية؛ لأنهم يفكرون في ربهم؛ ولأنهم يطيعونه في أمره بأن نحب الناس كما نحب أنفسنا؛ ولأنهم يأتمرون بأمره في الإحسان إلى الجار، وإلى الفقير، والإيثار على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، كل هذا فيه خير العلاج من المرض العصبي؛ لأنه ينقذ الإنسان من الاستغراق في التفكير في نفسه.
ومن أجل هذا _ أيضاً _ كان من أشد الناس تعرضاً لهذه الأمراض من لا عمل لهم، لغناهم، أو اعتمادهم على ما يأتيهم من معاش، أو من ميراث؛ فيصبح الزمن عبئاً ثقيلاً على أنفسهم يحاولون أن يهربوا منه بلعب النرد، أو الشطرنج، أو نحو ذلك، وباقي الزمن لا يفكرون فيه إلا في أنفسهم؛ فيستولي عليهم الهم، ويعتريهم ضعف الأعصاب.
إن ضعف الأعصاب كثيراً ما يكون سببه نتيجة قوة مكبوتة كالبخار المضغوط؛ فَفَرِّج عن نفسك بفتح الصمام له، وتوجيهه إلى عمل نافع؛ فالعمل والاهتمام بشأن من شؤون الناس، وقلة تفكير الإنسان في نفسه خير دواء لمعالجة الأعصاب، والشفاء من أمراضها.
المدينة الفاضلة(1) للشيخ العلامة المحقق محمد الطاهر بن عاشور(2)
__________
(1) الهداية الإسلامية، الجزء العاشر/ المجلد التاسع/ ربيع الآخر 1356هـ _ يونيو 1937م، ص578_594، ولعلك _ أيها القارئ _ لا تكاد تظفر بمثل هذا المقال في بابه (م).
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/109)
لم تزل أمنية كل مصلح قيضه الله للبشر لأن يهدي الناس إلى تكوين ما يسمى في عُرْف الحكماء بالمدينة الفاضلة، وهم إن اختلفت عندهم الأسماء لاختلاف أساليب التعبير في اللغات لا نجد بينهم اختلافاً في أن مسمى الذي يدعون إليه هو مسمى ما عناه الحكماء المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل؛ ذلك أن الإنسان مدنيُّ بالطبع كما هو مشهور على الألسنة، وقد علل كثير من الحكماء كون الإنسان مدنياً بالطبع.
وأنا أختصره وأزيد بياناً: فمعنى كونه مدنيَّاً بالطبع أنه بطبع خلقته مجعول لأن يكون مدنياً، لأنه خلق بحيث لا يستقل وحده بأمر نفسه، بل هو محتاج إلى مشاركة غيره من بني جنسه؛ لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجبلي وتفكيره؛ فالضعف الجبلي جعله محتاجاً إلى مكملات يصير بها قويَّاً على مصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله متطلعاً إلى أن يعيش كما يحب لا كما يلقى، وذلك بالمُقام في حيث يريد دون انزواء أمام الحوادث المغتالة، وبتحصيل ما لا يستطيع نواله مع فرط رغبته؛ فزاد بالتفكير ضعفه جلاء لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، على حد قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
فاحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضاً؛ لتصل لهم من تفكيرهم وسعيهم قوةُ التعاضد والتوازر، فيبذل كلَّما يستطيع بذله من كده أو من كسبه، عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيل معظم أماني الجميع، وبذلك التفكير والتعاضد امتاز البشر عن أصناف الحيوان.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان(1/110)
وقد صار الإنسان بموجب هذا الاحتياج إلى التعاون والتكاتف مضطراً إلى اقتراب بعض أفراده من بعض، وإلى التكثر من هؤلاء المقتربين والمجتمعين، وإقامة بعضهم حيال بعض؛ ليجد كلٌّ عن احتياجه مَنْ يسارع إلى سد خلته؛ فاضطر إلى التجمع والإقامة، وهو المعبر عنه بالتمدن؛ المأخوذ من لفظ المدينة، الذي هو مشتق من فعلٍ مُماتٍ في اللغة العربية وهو فعل مدَن.
ثم إن هذا الخُلق الجِبِلِّي من شأنه أن يتدرج بهم في سلم الارتقاء، ولا يزال يغريهم نوال شيء بالتطلع إلى ما فوقه.
ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع، أو إلى اختلافهم في وسائل السعي إلى ما يدفع عنهم ضرراً، أو يجلب إليهم نفعاً، فكانوا في اجتماعهم ذلك مَظِنَّةَ حدوثِ الخلاف بينهم، وكان ذلك الخلاف من شأنه أن يهيِّج ما فيهم من قوة الغضب، ويحمل بعضهم على مقارعة بعض؛ فيصير بعضهم سبب إتلاف مصالح بعض، وإفساد ما أصلحوه في تجمعهم بعد أن كان تجمعهم سبب تحصيل تلك المصالح؛ فيؤول اجتماعهم في الإهلاك والضلال على أن يكون عائداً على مقصدهم الأول بالإبطال؛ فلذلك لم يزل الساعون إلى إصلاحهم من الأنبياء والحكماء يدعونهم إلى الاستقامة، وينبهونهم على أن مراد الله منهم أن يكون مجتمعهم كاملاً، ومدينتهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يلائم أحسن تقويم خلقوا عليه، الدال على أن الله _ تعالى _ حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم.
وإنما يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً، ولا يكمل مظهرهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كملت أفرادهم كمل المجتمع المتركب منهم؛ لأن المركب من الصالحِ صالحٌ.(1/111)
فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حال النوع انتظاماً ما _ أي في الجملة _ بمجرد صلاح قليل؛ فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشاً بسيطاً، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه.
أودع خالق النوع _ سبحانه _ في جِبِلَّة أفراده عقلاً يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لما علم أن ذلك غير كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أُعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها _ قيض الله دعاة يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقع الردى، وهم العارفون؛ فمنهم أنبياء تولى الحقُّ إرشادَهم إلى ما فيه صلاح قومهم، ومنهم حكماء خصهم الله بعقول تفوق عقول عامة أقوامهم، وخص الفريقين بجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر غير مشوب ولا مؤرب(1)؛ فتظافر الفريقان وعملا على الأخذ بيد البشر في مزالق الضلال، ومهاوي السقوط، وانتشاله من مخالب الهلاك، وجعل بمقدار تخلقهم بأخلاق الكمال وجريهم على طريق الهدى مقدار عروجهم في المعالي في عالم الخلود الذي لا فناء يعتريه، ولا حقائق تقلب فيه.
وجماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل، وقد جمع ذلك قوله " في حديث مسلم عن أبي عمرة الثقفي، قال: =قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال قل آمنت بالله ثم استقم+.
ابتدأ أول دعاة الصلاح، وهو أول رسول أُرسل إلى البشر، نوح _ عليه السلام _ دعوته بتطهير العقيدة، ووجوب التوبة من الشرك، ولم يزدهم على ذلك، فعلمنا أن الله ابتدأ البشر بالترقي به إلى أُولى درجات الصلاح.
وكذلك جاء إبراهيم قومه بالدعوة إلى التوحيد وإعلانه، وإلى مكارم الأخلاق، ورحل في بلاد الله يبث دعوته الصالحة بين البشر.
__________
(1) لعل مراده أنه خالص لا يداخله ريبة، أو شيء من المآرب الخاصة الدنيوية (م).(1/112)
ثم جاءت الرسل تترى، ما منهم إلا يأمر بالإصلاح العام، فقد قال هود لقومه [وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)] الشعراء.
وقال صالح لثمود [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ] هود: 88.
وقال شعيب لأهل مدين [وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا] الأعراف: 56.
وقرون بين ذلك كثير [مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ] غافر: 78.
وهؤلاء كلهم قد اقتصرت دعوتهم على تأسيس جماعة فاضلة، ثم اتسعت الدعوة في شريعة موسى اتساعاً يؤذن باقتراب استعداد البشر إلى تلقي التهذيب الكامل؛ فأخذ في تخطيط ما يصلح لأن يكون تأسيس مدينة فاضلة، ولكنه توفي ولم يقض إلا إصلاح الجماعة، إلا أنها كانت جماعة كبيرة، ثم كانت بعده أشكال كثيرة في سياسة بني إسرائيل؛ فكانت أمة فيها فضلاء كثيرون، وفيها دون ذلك.
وجاء دعاة كثيرون مختلطون: أنبياء وحكماء، مثل أنبياء بني إسرائيل حتى عيسى، ومثل لقمان، وذي القرنين وتبَّع، وهرمس الأكبر الحكيم المصري الذي قيل: إنه النبي إدريس، وبياس الحكيم اليوناني، وسولون المشرِّع اليوناني، ثم سقراط، وأفلاطون.
قال الحكيم الجليل يحيى السهروردي في حكمة الإشراق، وقطب الدين الشيرازي في شرحه(1) بعد أن ذكر أساتذة أرسطاليس: =ومن جملتهم جماعة من أهل السفارة _ أي أهل الكتب السماوية وإصلاح الناس _ مثل هرمس _ أي إدريس _ واسقليبوس _ خادم هرمس، وهو أبو الأطباء(2) وغيرهم _ وإنما سمي الثلاثة لأنهم من عظماء الأنبياء الجامعين بين الفضيلة النبوية، والحكمة الفلسفية+ اهـ.
__________
(1) ورقة 8 من شرح حكمة الإشراق لقطب الدين الشيرازي في شرح الديباجة (مخطوطة).
(2) هو واضع علم الطب عند اليونانيين، فتلقبه بأبي الأطباء إما لأن مؤسس الشيء يدعى أباً له، وإما لأن معظم الأطباء في العصور الأولى كان من ذريته، وكلا الوجهين أمر واقع.(1/113)
وهؤلاء الحكماء قد دعوا، وسعوا إلى إيجاد المدينة الفاضلة، وكان أكثرهم تنويهاً بها هو أفلاطون.
فقد رام سولون(1) الحكيم إيجاد المدينة الفاضلة بما شرع لأهل أثينا من قوانين العدل، ونظام الشورى؛ وقال بيتاقوس الحكيم: =إذا أراد الملك ضبط المملكة وجب أن يكون هو وخاصته وجنوده مطيعين للقانون مثل سائر الرعية+.
ورام أفلاطون إيجاد المدينة الفاضلة بضبط قواعد تكوينها.
وفيهم من كان انصرافه إلى إيجاد المدينة الفاضلة أكثر من انصرافه إلى إعداد أمة فاضلة لها، مثل سولون، ومن كان انصرافهم إلى إصلاح النفوس لإعداد أمة فاضلة للمدينة الفاضلة، مثل سقراط وأفلاطون.
كانت شكايات من الرسل والحكماء من سوء تلقي أقوامهم لنصيحتهم أوضح دليل على أن المدينة الفاضلة لم تلتئم، فما من الرسل السالفين إلا قائل [إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ] الشعراء: 117، أو قائل [لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] الأعراف: 79، أو قائل [فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] الشعراء: 118، أو قائل [فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] المائدة: 25.
__________
(1) سولون هو حكيم يوناني من أهل أثينا، ولد في حدود سنة 640 قبل المسيح؛ كان من أساطين الحكمة في السياسة والتشريع، وتوفي وعمره ثمانون سنة بجزيرة قبرص.(1/114)
وربما فارق كثير منهم أوطانهم، إذ أبوا أن يروا فيها الفساد، فقد قال إبراهيم [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] الصافات: 99، وقال لوط [إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] العنكبوت: 26، وخرج الحكيم سولون من أثينا بعد أن أقام لها الشرائع والعدل، والحكومة الشورية، فأفسد أهلها ذلك، وولوا عليهم الملك (بيزاستراتث) وأخذ (يوجينوس) الحكيم مصباحاً في يده في الصباح، وجعل يجول به في شوارع أثينا كأنه يفتش على شيء، فإذا سئل: على ماذا تفتش؟ قال: لعلي أظفر برجل.
بقيت المدينة الفاضلة مرتسمة في خيال الحكماء، فلم يزالوا يدعون، ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على طِلْبَتِهم المنشودة؛ ذلك أن المدينة الفاضلة يلزم أن يكون رئيسها حكيماً صالحاً عارفاً، وأن يكون أصحابه أهلُ الحل والعقد فيها حكماءَ مثلَ رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضلَ قابلين لسياسة الحكيم مطيعين له، غير مفسدين لما يصلحه.
وقد كادت مدينة أثينا في زمن سولون أن تكون المدينة الفاضلة، وقد كان سولون يقول: =المملكة البالغة غاية الكمال هي التي لا يقبل أهلها الذل والظلم، وينتصرون للمظلوم كما ينتصرون لأنفسهم+.
إلا أنها لم تحصل على عامة مطيعين لرؤسائهم إلا في فترات قليلة من الزمن؛ فإن سولون مؤسس شرائع أثينا، ومنظم حكومتها الجمهورية لم يلبث أن فارق أثينا، وسكن في بلاد مصر، وأبى الرجوع إلى بلده مع شدة رغبة الملك (بيزاستراتث) في رجوعه، والانتفاع بحكمته، ودارت بينهما في ذلك مراسلة لها شأنها في التاريخ.
وكذلك أوشكت أن تكون مقدونية مدينة فاضلة في زمن مُلْك اسكندر ابن فيليبوس، ووزارة أرسطاليس له، غير أن ذلك لم يخلص لهما، ولم يلبث أن غضب ارسطاليس على الاسكندر، وفارقه فراقاً لا لقاء بعده.
وقد اعترف أفلاطون بعده بقرون بأن ليس في نظام الجمهورية في أثينا في زمانه ما يجعلها ملائمة للحكمة والفضيلة التامة.(1/115)
واضطرب العالم عقب ذلك اضطراباتٍ عامةً في كل مكان؛ فلم يتأتَ إيجادُ المدينة الفاضلة.
كان الرسلُ _ كما قلنا _ أولَ المصلحين للبشر، وأعظمَ المصلحين، وكان الحكماء من أتباع الرسل ومن غيرهم يظهرون في فترات من التاريخ يكملون الإصلاح، ويبرهنون عليه، فرجعت محاولة إيجاد ما يسمى بالمدينة الفاضلة إلى دعوة الرسل؛ فلا جرم أن يكون أعظمُ الرسل الذي جاء بالدين الخالص القيم، والذي هو المقصدُ من الإصلاح الأخيرِ للبشر [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] آل عمران: 19، والذي كانت الأديانُ الماضيةُ معه بنسبة مقدمة الجيش للجيش، [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] الأنعام: 92، والذي كانت دعوتُه عامةً لسائر البشر، والذي كان الرسول الجائي به هو أفضل الرسل _ لا جرم أن يكون ذلك الرسولُ هو الذي ادُّخر له تأسيس المدينة الفاضلة في جملة ما ادُّخر له من الفضائل الجمة.
جاء محمد " يدعو إلى إصلاح البشر قاطبة، وشملت دعوتُه علاج إصلاح الأفراد وإصلاح المجموع؛ فكان مرماها إيجادَ المدينة الفاضلة، وإعدادَ أمةٍ فاضلة لها.
ولم تشتمل دعوة رسول ممن جاء قبله على ما اشتملت عليه دعوته من أصول نظام الاجتماع وتفاصيله؛ فبقي بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الدين، ويصلح نفوس الذين آمنوا به والتفوا حوله، فكانت في مكة جماعة فاضلة هي زَرْع المدينة الفاضلة.(1/116)
فلما تهيأت للدعوة ساعةُ الانتشار، وتردد صداها في معظم بلاد العرب، وأصغت لها آذان السامعين، وانفتحت أعين الناس إليها _ ألهم اللهُ الأوسَ والخزرج أهلَ مدينة يثرب إلى الدخول في الإسلام إلهاماً خارقاً للعادة؛ فأصبح سكان تلك المدينة كلهم مسلمين، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ووطنهم لنصر هذا الدين؛ فأذن الله لرسوله وللمسلمين معه في الهجرة إلى هذه المدينة؛ فانتقل إليها الرسول بمن معه من المسلمين بمكة، ودعا اسمها (طيبة) وخصها الله _ تعالى _ بشرف أن تكون محققةً أمنيةَ المدينةِ الفاضلة.
ومن العجب أن الله ألهم الناس إلى أن يدعوا هذه البلدة باسم (المدينة) وأنساهم اسم يثرب واسم طيبة أيضاً؛ ليكون ما جرى على الألسنة رمزاً إلهياً لطيفاً إلى أنها المدينة المقصودة، والضالة المنشودة.
دخل رسول الله " المدينة (يثرب) ودخلها خمسون رجلاً من أصحابه المهاجرين، وهم المسلمون الأولون، وكانت المدينة تحتوي على زهاء خمسة آلاف رجل من الأوس والخزرج وأحلافهم، كانوا مسلمين إلا قليلاً منهم لا يبلغون مائة رجل.
فتلك مدينة سكانها أفاضلُ أهلِ عصرهم، قد تطهرت نفوسهم بإقبالهم على الخير، والتزكية بمحض الاختيار.
إن قوام المدينة الفاضلة يتقوَّم من صلاح الأفراد في خاصتهم، وصلاح المجتمع المتقوِّم منهم في حال معاملتهم؛ ومن سهولة طباعهم مع المسالمين، ومن الشدة والذب عن حوزتهم أمام العدو، ومن سياسة تدبير جماعتهم؛ فإذا تقومت هاتِهِ الأصولُ في المدينة حصل فيها الأمن، وهو جالب جميع الخيرات لكل أهل المدينة، وجاعلها أفضل مدينة.(1/117)
لا جرم أن المدينة كالجسد؛ فكما يتركب الجسد من الأعضاء والجوارح فكذلك تتركب المدينةُ من آحاد الناس، وإن سلامة المدينة وفضلها كصحة المزاج؛ فكما لا يصح المزاج إلا بسلامة جميع أجزائه كذلك لا تصلح المدينة إلا بصلاح جميع أفرادها، وكما أن بعض أجزاء الجسم أجدر بكمال السلامة ودوامها من بعض الأجزاء التي قد تشتكي، فتزول شكواها سريعاً عند سلامة البقية، وذلك البعض هو الأعضاء الرئيسية كالقلب والدماغ والرئة _ كذلك المدينة تتطلب صلاح ولاة أمورها أكثر مما تطلب صلاح عامتها، وإن صلاح ولاة الأمور يعود بصلاح العامة إذا عرض لها فسادٌ ما بخلاف العكس، كما تعود صحة الأعضاء الرئيسية بسلامة الجوارح والأعضاء إذا اشتكت وجعاً بخلاف العكس؛ فكان صلاح المدينة يتطلب صلاح ولاة الأمور، وصلاح أعوانهم، وصلاح عامة الناس على تفاوت في المقدار المطلوب من ذلك الصلاح.
ولنلتفت لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها، ونقارن بين تلك الحالة وبين الصفة التي عينت للمدينة الفاضلة؛ حتى نرى تحقق معنى المدينة الفاضلة في مدينة الرسول _ عليه السلام _.
فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة، المسيَّر بالوحي والتوفيق الإلهيين، وهما ملاك الفضائل كلها، وحسبك برأس المدينة أن يكون بهذه المثابة؛ فإن الحكماء اشترطوا للمدينة الفاضلة أن يحكمها الحكماء المتصفون بصفات الكمال، وقد جمعها أفلاطون في عشر صفات، وهي: المعرفة، والإعراض عن التعلق بالدنيا، والصدق، ومحبة اللذات الروحية، والزهد، والعفة، والإقبال على الآخرة، والشجاعة، والإنصاف، وصحة العقل.
وقد كانت هذه الصفات كمالات رسول الله " وكانت العصمة فوقها كلها.(1/118)
وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة، أي أن يكونوا من العارفين، والعارف فسره الشيخ ابن سينا بأنه هو الذي يريد الحق الأول _سبحانه_ لذاته لا لشيء آخر، ولا يُؤْثِر شيئاً عليه، والعارف شجاع جواد، صفّاح عن الذنوب، نسّاء للأحقاد.
وإن أصحاب رسول الله وبطانته هم أولئك المهاجرون الذين نبذوا الشرك وآثاره كلَّها عن محض اختيار، ومحبة للخير، وتخلَّقوا من أجل ذلك بأخلاق الإسلام، وخاصة الأنصار وأعيانهم الذين رغبوا في الإسلام لما دعاهم إليه رسول الله يومي العقبتين؛ فلم يترددوا في قبوله، على ما هم عليه يومئذ من كثرة ومنعة؛ فكانوا لاحقين بالمهاجرين في إقبالهم على الحق ونبذ الضلال، وكان سادتهم وأهل الرأي منهم ملازمين لرسول الله؛ للاقتباس منه وتنفيذ أوامره.
ثم إن الرسول آخى بين المهاجرين وبين زهاء خمسين من الأنصار بقدر المهاجرين؛ ليحصل من تلك المؤاخاة تماثل في الأخلاق والفضائل، وقد حكى القرآن حالهم الجامعة للفضائل، ونبذ الرذائل بقوله [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] الفتح: 29.
وفي الصحيح أن رسول الله " قال: =خير القرون قرني+ وهم أصحابه الذين رأوه وآمنوا به، لأن شرف ذلك القرن إنما كان به وبهم؛ إذ كان آخرهم وفاة أنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي، توفيا في أوائل العشرة الأخيرة من القرن الأول من الهجرة.
وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين، كما وصفهم الله _ تعالى _ [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] التوبة: 100.(1/119)
وهم أصحاب رسول الله الذين سكن بين ظهرانيهم، وتملَّوا من طلعته المباركة كل يوم، وشهدوا هديه، وأشرقت عليهم أنواره، ففيهم أشرقت الشريعة؛ فصلح اعتقادهم، وصلح عملهم، وصلح خُلُقُهم، ولم يزل رسول الله يبين لهم المكارم، ويحذرهم المآثم، حتى أصبحوا خيرة أهل الأرض.
في الصحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: =بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم+.
فاستملوا صحة الإيمان، وفضل العمل، وحسن الخلق، ومحبة العدل.
يحق لأهل المدينة أن يكونوا أهل بأس شديد على أعدائهم، وأن يكونوا فضلاء؛ أما شدتهم على أعدائهم فلأنهم جند المدينة يدفعون عنها، وذلك وصفٌ تُحْفَظ به المدينة من تَطَرُّقِ أهل الفساد إليها، فإذا تطرقوها أفسدوا بهجتها، كما قال _ تعالى _ [قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها].
تريد ما هو معهود من ملوك الجور.
وهذه الشدة أساسها الشجاعة، وقد عرف أهل المدينة بالشجاعة والبأس، كما خلدت لهم حرب بعاث أجمل الذكر في الشجاعة.
ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة؛ لأنهم ما كانوا يغيرون على القبائل الآمنة، ولكنهم كانوا يذبون عن مدينتهم من كل طارق بسوء؛ فكانت مدينتهم من أحصن مدن العرب في الجاهلية، واشتهرت بسورها، وبحصونها المنيعة المسماة بالآطام؛ يتحصنون بها إذا دهمهم العدو، وكانت تحف بها بساتين النخيل التي تمونهم إذا حاصرهم العدو، على أن تلك الحوائط كانت فيها آطام(1) لهم للدفاع عن ثمارهم.
__________
(1) الآطام: بالمد جمع أطم بضم الهمزة وضم الطاء المهملة: الحصن بلسان أهل المدينة.(1/120)
فأما المهاجرون فمن أهل مكة، وأهل مكة وإن لم تكن لهم سابقة في الحرب؛ إذ كان العرب مسالمين لهم، إلا أن الفئة الذين آمنوا منهم قد أكسبهم الإيمان واليقين بالله؛ والغيرة على الحق، والحنق على المشركين _ إقداماً على الانتصار للدين، ظهرت بوادره في صبرهم واستخفافهم بعداوة أعدائهم.
وقد أيَّد الله المسلمين في مدينتهم بعصمة الهيئة من أن يتطرَّقها ما يفسد أهلها. ففي الحديث أن =على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال+ وفي الحديث =المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها+.
وأما كونهم فضلاء فلكي لا يختل فضل المجموع باختلال فضيلة أجزائه، وقد أشرنا على فضل المجموع الذي تتركب منه مدينة الرسول آنفاً.
ونريد أن ننبه هنا على أن أهل المدينة الفاضلة لا يكونون في الفضل سواسية، ولكن يشترط أن يكون الفضل متأصلاً في نفوسهم، وجماع ذلك هو الطاعة لولي أمرهم، وقد كان المسلمون في الطاعة للرسول أفضل مثل لأمة في طاعة قائدها؛ فكانوا إذا أمرهم رسول الله أمراً في الشؤون العامة؛ والقضايا الخاصة، امتثلوا، سواء وافق مرغوبهم أم لا.
قال الله _ تعالى _ [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] الأحزاب: 36.
وقال سهل بن حنيف: لقد رأيتُنا يوم أبي جندل _ يوم صلح القضية _ ولو نستطيع أن نرد على رسول الله أمره لفعلنا، والله ورسوله أعلم.
وقال _ تعالى _: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] النساء: 65.
أراد بالحرج المنفي حرجَ توهمِ أن يكون قضاءُ الرسول غيرَ عادل.(1/121)
لقد يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل؛ لأن المجتمع البشري لا يخلص جميعه من ذوي العاهات النفسية، إلا أن وجودهم لا يضر المجتمع؛ لأنهم مغمورون بالصالحين؛ ففسادهم يقتصر على أنفسهم، ثم يرجى لهم الصلاح بتأثير الوسط عليهم؛ فقد كان في المدينة المنافقون، وعن ابن عباس كانوا ثلاثمائة من الرجال، ومائة وسبعين من النساء؛ فانقرض معظمهم؛ إذ كانوا كلهم شيوخاً إلا قيس بن عمرو بن سهل المختلف في بقائه، ومنهم من تاب وحسن إسلامه مثل ثعلبة بن حاطب، ومتعب بن قشير، ومنهم من بقي على نفاقه وقد عد بعضهم من بقي على النفاق اثنين وأربعين.
وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث قليلة، منها ثلاثة حوادث في السرقة، وحادثان أو ثلاثة في الزنا، وحوادث قليلة في شرب الخمر، وثلاثة حوادث في القتل، على أن بعض هذه الحوادث منسوب إلى اليهود، ونوازل قليلة في الخديعة والغصب والجراح مما لا يخلو من مثله مجتمع بشري.
وكل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة، لأن الصلاح الغالب يغطي على تلك العوارض النادرة؛ فَوِزَانُ ذلك وِزَانُ ما يعرض للجسم السليم من صداع أو انحراف مزاج، ثم لا يلبث الجسم أن يدفع ذلك عنه، ويسرع العود إلى معتاده من السلامة.
ولا تخلو المدينة الفاضلة _ أيضاً _ من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة، مثل ما ينشأ بين بعض الأزواج من عدم الملاءمة في المعاشرة، وما يعرض بين الشركاء والجيران من النزاع، وما يعرض بين الناس من الحوادث كالجراح الخفيفة والدعاوي.
كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً، وكانت نفوس أهلها مطيعة لما تقضى به العدالة، وقد قال الله _ تعالى _: [مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ] التوبة: 120.(1/122)
تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها، حتى تعتضد عزتهم النفسانية بالعزة الجثمانية، وإن كانت العزة الجثمانية في الدرجة الثانية كما قال السموأل:
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
يريد ما ضرنا القلة إذا كنا أعزاء؛ لأن عزةَ الجار هنا كناية عن عزة من أجاره، ومن أجل هذا قصد الإسلام إزواء المؤمنين كلهم إلى المدينة، فكانت الهجرة إليها واجبة على المسلمين الذين يسلمون بمكة.
قال الله _ تعالى _: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] الأنفال: 72.
وقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)]النساء.
إلا من أذن له النبي"في الالتحاق بأفقه، مثل الأعرابي الذي قال له: ويلك إن الهجرة شأنها شديد، ثم قال له: اعمل من وراء البحار.
وقد كان الأعراب النازلون حول المدينة من مزينة وجهينة وأشجع وغفار معدودين كالنازلين بالمدينة، ولما فتحت مكة نسخ حكم الهجرة.
تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية؛ ليتم لهم التمتع بالصحة، فيكونوا أهل مقدرة على الأعمال العظيمة، ويطولَ الانتفاع بفضلهم.(1/123)
وقد متع الله المدينة بهذه النعمة بدعوة رسول الله "، فقد كانت المدينة مشهورة بالحمى المستوبئة قد اعتادها سكانها، ولا يطيقها من وفد عليها؛ فلما قدم المهاجرون أصابت الحمى كثيراً منهم، منهم أبو بكر الصديق وبلال وعائشة، فدعا النبي ربه أن تنقل حماها إلى الجحفة، واستجيب له، فما بقيت الحمى المستوبئة تصيب سكان المدينة وقد دعا لها رسول الله بأن لا يدخلها الطاعون؛ فلم يدخل المدينة قط، ولا تدخلها أبداً إن شاء الله.
وإن جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله؛ إذ هي قلبه، وبصلاح القلب صلاح الجسد كله؛ فتكون هي المرجعَ عند اضطراب الناس، وهي الآخذةُ على يد كل من يحاول فساداً في المجتمع.
ولقد يسر الله لمدينة الرسول هذه الخصلة الكاملة؛ فصارت قدوة الإسلام مدة قيام الخلافة فيها، ثم أخذ أمرها في اضطراب بعد الفتنة التي أثارها الثائرون على عثمان ÷ فكانت تلك الفتنة أول بوارق اضطراب الحكومة الإسلامية؛ فبئست فئة الفئة التي أثارت تلك المصيبة.
ومن أجل هذا قُصِدَتْ أن تبقى مدينة الرسول مدينة فاضلة، فَخُصَّت بمزايا أشرنا إلى بعضها آنفاً، ثم حيطت بأن جعلها رسول الله " حرماً، وبدعائه لها بقوله =من أحدث فيها أوآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً+.
ولذلك أمر رسول الله بتعمير المدينة، وكره أن تعرى المدينة، وقال لبني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا بالسكنى إلى قرب المسجد النبوي: =يا بني سَلِمة ألا تحتسبون خطاكم؟+.
وفي الموطأ عن سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول الله يقول: =تفتح اليمن فيأتي قوم يبِسّون(1)
__________
(1) يبسون بكسر الباء الموحدة وتشديد السين المهملة مضارع بسّ بمعنى سار.(1/124)
، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون+.
سادساً: مقالات في الصداقة والعواطف الإنسانية
26_ طبقات الأصدقاء: للشيخ علي الطنطاوي
27_ العاطفة والتسامح في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ التعب العصبي والخوف: للأستاذ أحمد أمين
29_ لماذا ولأن: للأستاذ أحمد أمين
30_ وحي القبور: للأديب مصطفى صادق الرافعي
طبقات الأصدقاء(1) للشيخ علي الطنطاوي
خذ قلماً وورقاً وحاول أن تكتب أسماء أصدقائك جميعاً، ثم صنفهم أصنافاً، تجد _ أوَّلاً _ أن منهم من ليس أصدقاء على التحقيق، ولكنهم أصحاب ورفقاء.
فمنهم رفيق، تلقاه كل يوم أمامك، في السيارة أو الترام، يحيِّيك فتحيِّيه، ويسألك فتجيبه، ويرجوك إغلاق النافذة، فإن فعلت شكر، أو يدوس على رجلك فإن أحسَّ اعتذر، والكلمة تجرُّ الابتسام، والابتسام يجرُّ الكلام، وتمرُّ الأيام فإذا أنتما تتبادلان تحية الصديقين، وتتحدثان حديث الصفيِّين، وأنت لا تعرف اسمه ولا تدري ما هو.
ومنهم رفيق العمل، تكون موظفاً، فترى مكتبه حيال مكتبك، ووجهه تلقاء وجهك، أو تكون عاملاً، فترى آلته إلى جانب آلتك، أو يكون زميلك في المتجر أو جارك في السوق، تكون معه أكثر مما تكون مع أهلك وولدك، وتلقاه أكثر مما تلقى أصدقاءك وأهل ودِّك، وقد تشاركه الجدَّ والهزل، والرضا والغضب، وما شكلك من شكله، ولا عقلك من عقله، ولا أنت من واديه.
__________
(1) نشرت عام 1958م، انظر كتاب (صور وخواطر) ص169_172.(1/125)
ورفيق السفر، ممن تجمع جسديكما عربة القطار، وروحيكما الرغبة في دفع الملل، فيكون منك سلام ومنه كلام، وملاحظة لما ترى، وجواب لما تسمع، وما هي إلا ساعات، حتى تتشاركا في الطعام، وتتجاورا في المنام، وتسَّاقط بينكما الأستار، فيرى منك، وترى منه، ما لا يراه المرء إلا من ساكن بيته، وذي قرابته، وما أنت منه ولا هو منك في ودٍّ ولا إخاء.
ورفيق القهوة، ورفيق السينما، ورفيق الملعب، وضروب من الرفقاء غير من ذكرت، ربما استمرت صلة المرء ببعضهم حتى سمَّاهم أصدقاءه، وما هم بالأصدقاء، ولا اختارهم بملكه، ولا صاحبهم باختياره، ولكن الحياة ألقتهم في طريقه، وحملتهم على عاتقه، وإذا هو لم يُحْصِهم ولم يَجْردهم مثل جرد التاجر بضاعتَه، ثم يصنِّفهم أصنافاً؛ فيبقي على الجيد، ويطرح الرديء، لم يدر إلى أي هاوية تسوقه هذه الصداقات؛ لأن الصاحب ساحب، وكل قرين بالمقارن يقتدي.(1/126)
ورب رجل سايرته في طريق، أو رافقته في سفر، أو عرفته في ديوان، فبذلت له من ظواهر الود، ما يبذله الرجل المهذب لمن يلقاه، وأنت لا تدري وجهته في الحياة، فنسب إليك، وعرف بك، واتصل بك شره، أو أصابك ضره، أو لحق بك عاره، وإذا هو قد ترك فيه أثراً منه من حيث لا تشعر، وكل كلمة تنصبُّ في أذنك إنما هي بذرة كالبذرة التي تلقى في الأرض المخصبة قد تكون بذرة خير فتنبت في نفسك خيراً، وقد تكون بذرة شر فتنبت في نفسك شرَّاً، ورب ناس كانوا صالحين فأفسدتهم صحبة شرير بدل حالهم، وأشقى حياتهم، وناس كانوا أشراراً فصلحوا بصحبة الصالحين، ومن كان مستريحاً من وخز الغريزة يشتغل عنها بعلم أو فنٍّ أو رياضة قلب أو جسد، فأوقد عليه نارها، وأذاقه أوارها، صاحب لا يدري من أين يسقط عليه، وآخر يمشي في طريق النار، فمشى به صديق في طريق الجنة، وليس الصديق الذي يذكِّرك الله كمن ينسِّيك ذكره، ولا الذي يسوقك إلى المسجد للعبادة كمن يقودك إلى الماخور للفجور، ولا من يحدثك عن كتاب طالعه؛ لتطالعه أنت، كمن يصف حسن راقصة رآها؛ لتسعى أنت لمرآها.
فإذا أردت الَخَّلة التي تجمع خلال الخير، والعمل الذي يصلح الأعمال كلها _ فاكتب أسماء أصدقائك وأصحابك، ومن تتصل به بروابط الود، وانظر إلى كل واحد منهم هل هو صالح في نفسه أم هو غير صالح، وهل هو مخلص لصديقه أم هو لا يبالي إلا نفع نفسه ولذتها، وهل هو مؤنس لجليسه أم هو فقط مزعج غليظ؟
فإذا فعلت رأيت الرفاق على أنواع، ووجدت فيهم من هو صائم مُصَلٍّ له سمت المتقين، وزيُّ الصالحين.
ولكنه يتخذ ذلك سُلَّماً للدنيا وشبكة للمال، ووجدت حقيقته تكذب ظواهر تقاه، فإن عاهدته خانك، وإن عاملته غشَّك.
ووجدت فيهم من هو صادق المعاملة أمين اليد، ولكنه لا يصوم ولا يصلي، وليس له من الدين إلا اسمه؛ فهو يفسد عليك دينك.(1/127)
ووجدت فيهم من هو صالح متعبد، أمين صادق المعاملة، ولكنه عارم الشهوة، جامح الغريزة، لا حديث له إلا عنها، ولا خوض إلا فيها، وقد كفَّ عن الحرام جوارحه، وأطلق فيه لسانه؛ فهو يؤذيك بإثارة الخامد من رغبتك، وإيقاظ الهاجع من غريزتك.
ومن هو صالح في نفسه، أمين في معاملته، عفَّ اللسان، طاهر الذيل، لكنه لا ينفع صديقاً، ولا يسعد صاحباً، ولو كان على الفرات وأنت تحترق من الظمأ ما ناولك كأس ماء.
ومن يخدم صديقه ويسره، ولكنه لا يبالي في خدمته ومسرته أن يعطيه من دينه؛ فيخون من أجله أمانته، ومن عرضه، فينيله من باب الحرام لذته، ومن شرفه، فيعينه على أكل حقوق الناس، وسرقة أموالهم، يرى كل ذلك في سبيل الصداقة جائزاً مباحاً؛ فيأخذ بيدك حتى يدخلك معه جهنم.
ومن هو ديِّن في نفسه، معين لصديقه، واقف عند حدود الله، لا يقارف إثماً، ولا يباشر محرماً، ولكنه يجهل طرائق المعاشرة، وآداب المؤاكلة، وكل ما تواضع عليه المهذَّبون من الناس، يأتي بما تغثى منه نفسك، وتهيج أعصابك.
ومن هو أحمق رقيع، أو فحاش طياش، ومن يصادقك لحسبك أو منصبك؛ فهو يتخذك زينة بيومه، وعُدَّة لغده؛ فأنت عنده حلية تجمِّل الجدار.
والخلاصة أن الأصحاب خمسة: فصاحب كالهواء لا يستغنى عنه، وصديق كالغذاء لا عيش إلا به، ولكن ربما ساء طعمه، أو صعب هضمه، وصاحب كالدواء مرٌّ كريه، ولكن لا بد منه أحياناً، وصاحب كالصهباء(1) تلذُّ شاربها، ولكنها تودي بصحته وشرفه، وصاحب كالبلاء.
أما الذي هو كالهواء: فهو الذي يفيدك في دينك، وينفعك في دنياك، وتلذك عشرته، وتمتعك صحبته.
وأما الذي هو كالغذاء: فهو الذي يفيدك في الدنيا والدين، لكنه يزعجك أحياناً بغلظته، وثقل دمه، وجفاء طبعه.
وأما الذي هو كالدواء: فهو الذي تضطرك الحاجة إليه، وينالك النفع منه، ولا يرضيك دينه ولا تسلِّيك عشرته.
__________
(1) الصهباء: من أسماء الخمر (م).(1/128)
وأما الذي هو كالصهباء: فهو الذي يبلِّغك لذَّتك، وينيلك رغبتك، ولكن يفسد خلقك، ويهلك آخرتك.
وأما الذي هو كالبلاء، فهو الذي لا ينفعك في دنيا ولا دين، ولا يمتعك بعشرة ولا حديث، ولكن لا بد لك من صحبته.
وعليك أن تجعل الدين مقياساً، ورضا الله ميزاناً؛ فمن كان يفيدك في دينك فاستمسك به، إلا أن يكون ممن لا تقدر على عشرته.
ومن كان يضرك فاطَّرحه، واهجره، إلا أن تكون مضطرَّاً إلى صحبته؛ فتكون هذه الصحبة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، بشرط ألا تجاوز هذه الصحبة حدَّ الضرورة.
وأما الذي لا يضرُّك في دينك، ولا ينفعك في دنياك، ولكنه ظريف ممتع _ اقتصرت منه على الاستمتاع بظرفه، على ألا تمنعك هذه الصحبة من الواجب، ولا تمشي بك إلى عبث أو إثم.
وما كان وراء ذلك فهو الذي قيل في مثله:
إذا كنت لا علمٌ لديك تفيدنا ... ولا أنت ذو دين فنرجوك للدين
ولا أنت ممن يرتجى لملمّة ... عملنا مثالاً مثلَ شخصك من طين
العاطفة والتسامح في الإسلام(1) للشيخ محمد الخضر حسين
يظهر الناس في نسق الائتلاف، وينهض بعضهم لإسعاد بعض على حسب ما يكون بينهم من الاتحاد، والتماثل في مسالكهم الحيوية، وأحوالهم النفسية من آراء وآداب، بل تنعقد الألفة بين الرجلين؛ لتشابههما في بعض أحوال عارضة كغربة، وقد أشار إليها الشاعر العربي بقوله:
................................................. ... وكل غريب للغريب نسيب
وكون كل منهما مضطهداً لسلطة واحدة، أو غرضاً لمتحفز ينوي القبض على ناصيته.
تتقوى العاطفة بمقدار شدة التماثل وكثرة وجوهه، وتخف على قدر ضعفه وقلة مقوماته، فالألفة التي ينتظم بها أولوا العلم والأدب مثلاً أمتن من الألفة التي تدور بين طائفة لا جامع بينها سوى الاشتراك في نسب أو صناعة:
وقُرَابَةُ الأُدباء يَقْصُرُ دُونَها
__________
(1) مجلة البدر _ الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في منتصف شهر صفر سنة 1340هـ _ تونس.(1/129)
... عند الأَدِيْبِ قُرَابَة الأَرْحَامِ
وعلى هذا المبدأ تقوم الرابطة الدينية، أو القومية، أو الوطنية، فيعطف الإنسان على من يدينون بشريعته، أو ينتمون إلى قبيلته، أو يَشُبُّون في وطنه.
والمثير لهذه العاطفة شعوره بوفاقهم له في كثير من مبادئه وتقاليده، وطَرْز حياته.
وإذا كانت العاطفة الدينية تتولد من الاتحاد في كثير من الأحوال النفسية والتقاليد العملية _ دخلت في جملة العواطف الفطرية، أعني ما يقوم بالنفس من أسباب واقعية، دون أن يتوقف عن أمر الشارع، أو موعظة الخطيب.
وينبئك بكونها من الطبائع التي ترتسم في النفس لمجرد التوافق في العقيدة أو المسلك _ أنَّك لا ترى أمة تنتحل ديناً، أو مذهباً اعتقدت حكمته إلاَّ وقد اشتبكت بينها أوصال التراحم، ولو لم تتلقن من دينها أو مذهبها تعليم هذه العاطفة والحثَّ على تأكيدها؛ فمن تقلد ديناً، وادعى أنَّ عواطفه على شيعة هذا الدين وغيرهم في درجات متساوية _ فقد ادعى ما تأباه الفلسفة، ويرده الاختبار والتجربة.
فَلِسُلْطَان المغرب، الذي راسله صلاح الدين الأيوبي، طالباً منه المدد بالأساطيل لحماية ثغور الشام عاطفة دينية، ولكنها كانت من الضعف بحيث أخمدها وأَطْفَأَ بارقتها أنَّ ذلك المجاهد العظيم خاطبه بأمير المسلمين بدل أمير المؤمنين الذي هو لقب الخلفاء، فرد البعثة الصلاحية إلى مرسلها خائبة، ولم يبال بالسهام التي ترشقه بها أقلام المؤرخين، والحيرةُ في الجواب عندما تنصب لأمثاله الموازين.
حَذَّرَ الإسلام أنْ تتضاءل العاطفة الدينية، فيضيع كثير من حقائق الشريعة وعزة أهلها، فجاء بها يربيها، ويحييها في النفوس زاكية كقوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]الحجرات: 10، وقوله عليه الصلاة والسلام: =المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا+.(1/130)
ثم كرَّه أن تطغى كما طغت في نفوس أمم أخرى، فَتَحْمِلَها على التحيز إلى من يوافقها في الدين، فتؤثره بحقوق غيره، وتَشُد أزره وإن كان مبطلاً، فجاء بما يهذب حواشيها، ويسكبها في قالب عمراني يتمكن معه الشعب المسلم من معاشرة غير المسلمين، فيعيشون على صعيد واحد ولواء السلام والعدالة الصادقة يخفق على رؤوسهم كما قال الله _ تعالى _: [لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]الممتحنة: 8.
وكقوله _ تعالى _ في حق الوالدين: [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً]لقمان: 15، فقد أرشدت الآيتان وما يُشَاكلهما إلى صحة معاشرة غير المسلمين، وإقامة معاملتهم على قواعد البر والعدالة، ولكنها أذنت للمسلم إذا ابتغوا الخروج به عن سيرة الشرع المحكمة، وآدابه اللامعة، أَنْ يقبض يده عن وفاقهم، ويَلْوِي بعنقه عن طاعتهم، وإن كانوا بمنزلة والديه اللذين هما أَشَد الناس به صلة، وأحقهم بامتلاك زمامه.
فالعاطفة الإسلامية لا تصادم غيرها من سائر العواطف الصحيحة، فيستقيم للنفس الواحدة أنْ تحمل عاطفة تَحْنُو بها على من يسايرونها في طريق سعادتها الباقية، وأُخْرَى تشفق بها على من نشأوا معها في منبت، أَو قاسموها القيام بمرافق الحياة الدنيا.
التعب العصبي.. والخوف(1) للأستاذ أحمد أمين
من الكلمات التي دخلت اللغة العامية حديثاً =النرفزة+ و=تنرفز+ بمعنى هاجت أعصابه، وهي مأخوذة من الكلمة الأفرنجية =nerves+بمعنى أعصاب.
__________
(1) فيض الخاطر 10/220_224.(1/131)
وليس معنى هذا أن النرفزة لم تكن موجودة ثم وجدت، بل هي موجودة منذ وجد الإنسان، ولكن كنَّا نسميها سَورة الغضب، أو نحو ذلك من أسماء. وإنما الجديد هو التسمية فقط بالنرفزة، والجديد _ أيضاً _ أنَّ حياتنا المعقدة المركبة التي خلفتها المدنية الحديثة، وزادت من أعبائها ومسؤوليتها زادت _ أيضاً _ في هياج أعصابنا، بدليل أنَّ الفَلاَّحِين في القرى ومن عاشوا عيشة بسيطة أقل نرفزة من سكان المدن، وأنَّ الطبقة الفقيرة من سكان المدن أقل من الطبقة الوسطى والعليا؛ لقلة مسؤوليتها.
والنرفزة أو هياج الأعصاب تنشأ من المجموع العصبي عند الإنسان، والمجموع العصبي يتكون من المخ، ومن النخاع الشوكي وهو المادة الهُلاَمية الموجودة في سلسلة العمود الفقري ومن ملايين من الخيوط الدقيقة التي تتفرع من المخ ومن النخاع الشوكي، وتصل إلى كل خلية من خلايا الجسم، وهذه الأسلاك أو الخيوط من أهم وظائفها أنها ترسل الإشارات إلى المخ، وتتلقى منه الإشارات؛ فهي أكبر وأعقد من أي محطة للأسلاك التلغرافية؛ فمثلاً إذا لمس أصبعك شيئاً ساخناً جداً، فجذبت يدك فمعنى هذا أن خلاياك التي في الإصبع لمست هذا الشيء الساخن وأرسلت خيوط أعصابك إشارة إلى المخ بما وجدت وما أحست، وتلقت إشارة من المخ بالانسحاب فانسحبت.
وكل هذا يحدث في سرعة البرق، وهكذا إذا أردت المشي، أو تحريك يدك، أو الراحة، أو نحو ذلك.
والأعصاب من مخٍّ ونخاعٍ وأسلاكٍ شيءٌ ماديٌّ يُرَى بالعين، أو بالميكروسكوب، ولكنَّ التيار الذي يجري فيها كالتيار الكهربائي لا يُرَى ولكن يعرف بآثاره.(1/132)
وتختلف هذه المجموعة العصبية عند كل إنسان عن الآخر، فكما أنَّ كل فرد يختلف في ملامح وجهه وقوة حواسه وعضلاته وبناء جسمه عن الشخص الآخر قوة وضعفاً وجمالاً، بل ترى الشخص الواحد يكون في حالة من الحالات قوي الأعصاب، فيواجه الأحداث العظام في صبر وثبات، ثم تتعب أعصابه لسبب من الأسباب، فيواجهها في قلق وجزع واضطراب، بل خذ مثلاً الطفل إذا مشى مشياً طويلاً، وتعب من الحركات عاد إلى بيته هائجاً مضطرباً كثير الصراخ كثير البكاء، يتلمس أي سبب للغضب حتى إذا نام وهدأ قام كالمعتاد هادئاً مطمئناً.
وكذلك الرجل أو المرأة تتعب أعصابه، فيغضب مما لا يغضب منه، ويثور من أجل التافه من الأمور، يثور من أجل كسر الطبق، ومن أجل قرش ضاع في غير محله، ومن فَعْلَةٍ صغيرة فعلها الموظف الذي معه، ومن زوجته إذا كلمته كلمة في غير محلها، ومن ابنه إذا طلب منه مصاريف المدرسة مع أن هذه الأحداث نفسها وأكبر منها إذا حدثت وأعصابه غير متعبة قابلها مقابلة عادية، ولم يعبأ بها، ولم يَهِجْ منها.
ومن أعجب ما لاحظه الأطباء في الأعصاب أن هناك سدوداً للتيارات التي تمر في الأعصاب، وظيفتها أنها تقلل من قوة التيار حتى يصل إلى المخ هادئاً، فإذا ضعفت هذه السدود وصل الانتباه إلى المخ في قوة تسبب اضطراباً، ومثله في ذلك مثل الأسلاك من الرصاص التي تركب في =الكوبس+ينتقل فيها التيار من الخارج، وإذا زاد التيار احترق الرصاص؛ ليمنع احتراق المنزل بالتيار القوي.
وتضعف هذه الأعصاب بالتعب المضني، وبالكوارث المتتالية، وبالهزات العنيفة المتتابعة وهذا الضعف على درجات؛ فهو يبدأ بقلق وأرق، ويتدرج إلى عجز من تركيز الفكر وإظلام نفس، ويزيد إلى يأس شديد، وهيجان لأقل الأسباب، وعجز عن الراحة والهدوء، ونحو ذلك.
ومما يلاحظ _ أيضاً _ أن هذا التعب العصبي يتبعه دائماً الخوف، وهذا الخوف يتخذ أشكالاً مختلفة حسب ظروف كل شخص.(1/133)
فمن نما عنده الشعور الديني تمثل خوفه في الموت؛ فهو يخاف الموت، ويخاف العقاب بعد الموت، ويخاف الخطايا التي ارتكبها، والمعاصي التي وقع فيها في شبابه، وتتجسم هذه المعاني في نفسه، وتكبر حتى تقلق باله وتعكر صفو حياته.
ومن كان شديد الشعور بالمال خاف الفقر إن كان غنياً؛ فألجأه ذلك إلى شدة الحرص والهياج عند كل قرش يصرف، والغضب الشديد عند كل ما يعرض من مطالب مالية.
ومن كان رحيماً شديد العطف على أولاده ظهر خوفه من هذه الناحية؛ فهو يخاف على أولاده من الترام والسيارات، ويقلق أشد القلق إذا تغيبوا عن البيت ساعة وكلما قرأوا وسمعوا عن حُمَّى أصابت ولداً، أو شاباً أو شابة مات في ريعان شبابه زاد خوفهم واضطراب حالهم.
ومن بلغت سنَّ الزواج، ولم تتزوج خافت أنْ يمرَّ موسم زواجها، وإذا خُطِبَتْ خافت أن تفشلَ في زواجها، وهكذا وهكذا الخوف فنون.
وقد يزيد الخوف حتى يكون خوفاً من أوهام، فهو يتخيل دسائس تحاك حوله، وأن له أعداءاً يتربصون به، وأن بعض أقربائه يكيد له، وأن له في المصلحة من يفسد الأمر بينه وبين رؤسائه، وهكذا؛ فيخلق أوهاماً يخاف منها.
وفي الناس ألوانٌ شتى من هذه المخاوف، وعددهم ليس بالقليل، وكلما عظمت المدنية زادت ضحايا ضعف الأعصاب وخاصة أيام الحروب، فيقول طبيب أمريكي: إنه في أوائل الحرب العالمية الثانية كان عدد سكان أمريكا 130 مليوناً وكان عدد ضحايا الأمراض العصبية يقرب من 13 مليوناً بين مجنون ومضطرب، ومختل التوازن، وقد كان كثيراً جداً عدد الشبان الذين يتقدمون للجندية، فيُرَدُونَ عنها بعد الكشف الطبي عليهم؛ لاختلال توازنهم العصبي.
وبعد: فما علاج هذا؟ الواقع أنَّ علاجه في يد الإنسان أكثر من أن يكون في يد الطبيب، وأهم علاج له شيئان: يستنتجان مما وصفنا قبلا.(1/134)
أولهما: الراحة الجسمية؛ فقد رأينا أن الخوف يتبع التعب الذي ينال المجموع العصبي كما ينال الشخص عقب مجهود كبير بذله؛ أو تفكير طويل فكره، أو حادثة جليلة هزَّته.
فهذه الأشياء وأمثالها تضعف المجموع العصبي، وتضعف السدود التي تحجز بعض التيار عن المخ؛ فإذا استرد الإنسان راحته قويت هذه السدود كالشأن في الإنسان يتعب، ثم ينام نوماً عميقاً، فيسترد ما فقده من خلايا، ومن وسائل هذه الراحة تغيير البيئة والمكان والرياضة المعتدلة، والرحلات الخفيفة اللطيفة ونحو ذلك؛ فإنها تفعل في النفوس ما لا تفعله الأدوية.
ومن ذلك _ أيضاً _ عدم التعرض لما يهيج الأعصاب، فمن عرف أنَّ شيئاً معيناً يُهَيِّجُه فليبتعد عنه، وليبتعد عن الأوساط التي تخلقه، وليرأف به أهله، فلا يسببون له متاعب في النواحي التي يعرفون أنها تقلقه وتزيد اضطرابه, فإذا تمت راحته رأينا أنه قد زال خوفه, وتلك نتيجة طبيعية لما رأينا من أنَّ التعب يتبعه الخوف.
والأمر الثاني: الإيحاء الذاتي؛ فهو يعمل في النفوس فعل السِّحْر, فليُكَرِر المريض على نفسه الإيحاء، بأنَّ جسمه سليم، وأنه يستطيع التغلب على هذا الخوف, وأنَّ يومه خير من أمسه، وأنَّ غده سيكون خيراً من يومه، وأنَّ ما هو فيه أوهام تزول بقوة إرادته، وليعرف منتحى خوفه؛ فليعالجه من الناحية التي توائمه, فمن كان يخاف الموت، ويخاف ما ارتكب من المعاصي فليُكرر على نفسه أنَّ الله غفور رحيم، وأنَّه يغفر الذنوب جميعاً, وأنَّ ما ورد في القرآن من آيات الرحمة أكثر مما ورد من آيات العذاب، وأنَّ الله أحنى على العبد من الوالد على ولده, فإذا رَدَّدَ هذه المعاني كلها وكررها كل يوم انتعشت نفسه، وأَحَسَّ أنَّه يتقدم تقدماً عظيماً.
ومن كان يخاف الفقر فليكرر على نفسه فلسفة المال، وأنَّ المال عَرَضٌ من أعراض الحياة، وأنه ليس هو السعادة، وإنما هو وسيلة السعادة، وأنَّه لا يحق على نفسه الخوف من الفقر قبل حدوثه.(1/135)
وهكذا الشأن في الخوف على الأولاد وكل نوع من أنواع الخوف؛ فكل إنسان بقليل من التفكير يستطيع أنْ يكون له فلسفة تشجعه ضد خوفه، وتملؤه غبطة وطمأنينة.
هذان في نظري هما العلاجان الطبيعيان للأعصاب، وهما في يد كل إنسان إذا صحت عزيمته، وقويت إرادته.
لماذا ــ ولأن (1) للأستاذ أحمد أمين
لماذا ترى الرجل عاقلاً حكيماً، صادق الرأي في الحكم على الأشياء، صحيح التقويم لها، عادلاً في تقديرها، وذلك كله إذا كان الشيء الذي يحكم عليه أو يقدره غير متصل بذاته، ولا يمس مصلحة من مصالحه، ولا يناله منه خير أو شر.
فإذا اتصل هذا الشيء بنفسه، أو كان يتوقع منه ضراً أو نفعاً _ فَسَدَ حكمُه، وساء تقديره، وفقد حكمته، وأصبح مثله مثل السفيه في الرأي، الكاذب في النظر، السيئ التقدير؟
لأن الإنسان _ في الأعم الأغلب _ لا يستطيع أن يجرد الأشياء عند الحكم عليها من عواطفه، وقد لاحظ الفلاسفة هذا الخطأ في الأحكام، فحاولوا تجريد الأشياء المحكوم عليها مما يتصل بها من العواطف، وأدرك هذا علماء المنطق، فرأوا أن الألفاظ في القضية قد يتصل بها شيء من العواطف يفسد حكمهم، فحاولوا أن يعبِّروا عن هذه القضايا بـ: أ، ب، جـ، د؛ حتى يكون حكمهم مجرداً؛ فيكون أقرب إلى الصدق.
والدنيا مملوءة بالأحكام الفاسدة، والتقويم الفاسد، وكان سبب الفساد وسوء التقويم دخول المنفعة الشخصية في التقويم والحكم، حتى في القضية الواحدة، والمثل الواحد، ينظر إليه الإنسان في غيره؛ فيصدر حكمه صحيحاً، فإذا اتصل هذا الأمر بشخصه نفسه أصدر حكماً آخر، وتقويماً آخر.
وهذا ما حدا بطائفة من الفلاسفة أن يقولوا إن الإنسان لم يمنح العقل لمعرفة الحقائق، ولكن لخدمة المصالح.
__________
(1) فيض الخاطر، 8/138 _ 141.(1/136)
ومما يؤسف له أن مداخلَ العواطف في تقويم الأشياء والحكم عليها مداخلُ في منتهى الخفاء، وليس الكذب مقصوراً على الكذب على الآخرين، بل أشد منه خطراً كذب الإنسان على نفسه؛ فهو يخدعها، ويظن أنه ينصحها، ويجور في حكمه، ويظن أنه يعدل، ولم يستطع أن يتحرر من هذا إلا القليل النادر.
وما سبب النزاع في العالم إلا الوقوع في هذا الخطأ، وما ملأ المحاكم بالقضايا إلا هذا الخطأ؛ فليست المحاكم والمجالس القضائية وغير القضائية مقصورة على الشريرين والباغين الذين يدعون الحق، ويعلمون أنهم مبطلون.
ولكن أكثر من هؤلاء _ المتخاصمون الذين يختلفون على الأمر الواحد ويعتقد كلٌّ منهم أنه على حق؛ ذلك أن كلاً منهم ينظر إلى المسألة من زاويته هو، لا من زاويةِ خصمه، والزاوية التي ينظر منها كل متخاصم عَمِل في تكوينها عقلُه ومنطقُه، وبواعثُه، وعواطفه، والخير الذي يرتجيه، والشر الذي يهرب منه.
وهذه المصيبة الكبرى تطالعك كل يوم في الخلاف المالي بين الأشخاص، والخلاف بين أعضاء المجالس، حتى في الهيئات التي تتكون من أرقى الناس عقولاً، وأكثرهم ثقافة، وأوسعهم إدراكاً؛ فإنك إذا فتشت عن أكبر سبب للخلاف بينهم وجدته في لعب العواطف، والمصالح الشخصية الخفية في أعماق النفوس.
وهذا هو ما يطالعك كل يوم في الجرائد في أكثر ما تكتب يومياً؛ فالمسألة الواحدة تعرضها جريدة بشكل، وتحكم عليها بشكل، وتخالفها في كل ذلك الجريدة الأخرى.
وكلا الكاتبين عاقلٌ ممتاز، كان من الممكن أن يتفق مع صاحبه في نظره وحكمه، لو تجرد من عواطفه وهواه.
ولكن تدخلت في حكمه على الشيء مصلحتُه الشخصيةُ، أو مصلحتُه الحزبية، فَلَوَّنَتْ عَرْضَه للمسألة، وحكمَه عليها، حتى رآها أحدهما سوداء، والآخر بيضاء، وحتى عجب القارئ على الحياد من بعد ما بين الفريقين من الخلاف، وكيف لعبت المصالح بالعقول، حتى صارت موضع الهزء والسخرية.(1/137)
بل هذا ما يطالعك _ أيضاً _ في شؤون السياسة العامة، فخروج الروس من إيران صواب في نظر الإنجليز خطأ في نظر الروس، وخروج الإنجليز من مصر صواب في نظر الروس خطأ في نظر الإنجليز، والتعدي على أية أمة ولو صغيرة بتقسيمها خطأ في نظر جميع الأمم، ولكن تقسيم فلسطين صواب عند أغلب الأمم، ووجود منفذ على البحر الأبيض لروسيا خير لابد منه في نظر الروسيين، شر لابد من مقاومته في نظر الإنجليز والأمريكيين، وهكذا...
ذلك لأن العقل ليس هو الذي يحكم وحده، ولكن تدخلت العاطفة الوطنية، والمصالح القومية، فلوَّنت المسألة الواحدة عند كل فريق بلون يخالف تمام المخالفة اللون الذي صبغه الفريق الآخر.
وهذا هو سر الخلاف بين الشرق والغرب، بل سر الخلاف بين الدول كلها الآن، وانقسام العالم إلى معسكرين، كما كان من قبل، بل هو سر الخلاف بين الممثلين لهذه الأمم، مع أن المفروض فيهم أنهم من أرقى الناس عقلاً، وأصدقهم حكماً، وأعدلهم تقويماً للأشياء.
وإنما المسألة أن العقل وحده ليس الذي يحكم، وليس الذي يقدر، ولكن العامل الأكبر في الحكم والتقدير هو ما تراه كل أمة ومن يمثلها، مراعياً ما يعود من الرأي على أمته من مصالح أو مضار.
ولو أنك جمعت هؤلاء الممثلين، وجردتهم من عواطفهم لاتفقوا على رأي واحد في تقدير الأشياء وخيرها وشرها، وما يجب أن يعمل، وما يجب أن يترك في أقرب زمن.(1/138)
وإن شئت فقل: إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة، قدَّر كلُّ زعيمِ أمةٍ مصلحةَ أمته، وما ينالها في الحرب إن دخلت الحرب، أو السلم إن جنحت إلى السلم، ثم أصدر حكمه غير مصغٍ إلى عقله المجرد، وغير مُقَدِّرٍ للحقائق كما ينبغي أن تقدر، وقد يؤثِّر في رأيه هوىً شخصيٌّ، أو ناحيةٌ من نواحي ضعفه الخلقي، أو رغبتُه في المجد الوطني الكاذب، أو خضوعه تحت تأثير قوم من الرأسماليين الشريرين، أو نحو ذلك من شهوات أو مطامع أو مطامح، يتأثر بها عدد قليل من القادة؛ فيوقعون العالم الإنساني كله في كوارث لا تقدر خطورتها.
ولو أتيح للعالم يوماً من الأيام أن يكون قادته من المناطقة أو الفلاسفة الذين يستطيعون أن يتجردوا في حكمهم على الأشياء من هوى أو مطمع أو مطمح، وأن يقدروا المسائل حسب قيمتها الذاتية لا حسب ما يغلِّفها من أعراض وأغراض، فإن كان ولابد من اشتراك العواطف والمشاعر في الحكم فالعواطف للإنسانية لا للوطنية، والمشاعر للعالمية لا للقومية _ لعم العالمَ السلمُ، وعاش في رفاهية، وكان الناس بنعمة الله إخواناً.
ولكن أنَّى لنا ذلك والقول ما قال بديع الزمان: =والله ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس+.
وحي القبور(1) للأديب مصطفى صادق الرافعي(2)
ذهبتُ في صبُح يوم عيد الفطر أحملُ نفسي بنفسي إلى المقبَرَة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيِّتٌ واحد؛ فكنت أمشي وفيَّ جنازةٌ بمُشَيِّعيها؛ من فكر يَحملُ فكراً، وخاطر يتبع خاطراً، ومعنىً يَبكي، ومعنىً يُبكَي عليه.
وكذلك دأبي كلما انحدرتُ في هذه الطريق إلى غير ذلك المكان الذي تأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب بقاياها.
__________
(1) وحي القلم 2/141_145.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/139)
تلك المقابر التي لا يُنَادَى أهلها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزانَنَا !
ذهبتُ أزورُ أمواتي الأعزاء، وأتصل منهم بأطراف نفسي؛ لأحيا معهم في الموت ساعةً أعرض فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرَّف وأتوسَّم، ثم أستبطِنُ مما في بطن الأرض، وأستَظهِرُ مما على ظهرها.
وجلست هناك أُشْرِفُ من دهرٍ على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرةُ أفراحها القديمة؛ لتجعلَها مادةً جديدة لأحزانها، وانفتح لي الزمن الماضي، فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهراً كاملاً خلق بحوادثه وأيامه، ورفع لعينيَّ كما ترفع الصورة المعلقة في إطارها.
أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قطّ إلا أنهم غابوا، والحبيبُ الغائبُ لا يتغيَّرُ عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه مهما تَراخَتْ به الأيام؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يُمحَى؛ لأنها هي خالدة لا تُمحى.
ذهب الأموات ذهابهم ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مرُّوا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبِّر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها.
الحياة مدةُ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات، إن هي إلا مَصْنَعٌ
يُسَوَّغُ كل إنسان جانباً منه، ثم يقال له: هذه الأداة فاصنع ما شئت: فضيلتَك أو رذيلتك.
جلست في المقبرة، وأطرقت أُفكر في هذا الموت، يا عجباً للناس ! كيف لا يستشعرونه وهو يهدم من كل حي أجزاءاً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته، وما زال كل بنيان من الناس به كالحائط المُسَلَّطِ عليه خرابه، يتأكَّلُ من هنا، ويتناثر من هناك؟!(1/140)
يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي ! كيف يجعلون الحياة مدة نزاع وهي مدة عمل؟ وكيف لا تبرح تنزو النَّوازِي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع فضربوا خصماً بخصم، وردُّوا كيداً بكيد جاء حكم الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء: هذا لي؟
أما والله إنه ليس أعجب في السخرية بهذه الدنيا من أن يعطي الناس ما يملكون فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً؛ إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السِّكِّين القاطعة...
تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفرُّ فرارها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره، ولقد كان ينبغي أن تُصحَّح أعمال الحياة في الناس على هذه الأصل البين، لولا الطباع المدخولة، والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة، والشهوات العارمة؛ فإنه مادام العمر مقبلاً مدبراً في اعتبار واحد فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محبوساً له ومحبوساً عليه في وقت معاً، وتكونُ الحياة في حقيقتها ليست شيئاً إلاَّ أن يكونَ الضميرُ الإنسانيُّ هو الحيَّ في الحيِّ.
وما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند أكثر الناس مع الْمَوتى أبنية ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسَوا أنها موجودة، ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحي المتغلغل في الحياة إلى بعيد؛ فما القبر إلا بناء قائم لفكرة النهاية والانقطاع، وهي في الطَّرَف الآخر ردٌّ على البيت الذي هو بناء قائم لفكرة البدء والاستمرار، وبين الطَّرفين المعبد وهو بناءٌ لفكرة البدء والاستمرار، وبين الطرفين المعبد وهو بناء لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يَقضى.(1/141)
القبر كلمة الصدق مبنيةً متجسِّمةً، فكل ما حولها يَتَكَذَّب ويتأوَّل، وليس فيها هي إلا معناها لا يَدْخُلُه كذبٌ، ولا يعتريه تأويل، وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور، أو باطل، أو غفلة، أو أثرة، بقي القبر مذَكِّراً بالكلمة شارحاً لها بأظهر معانيها، وداعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبيِّناً بما ينوي عليه أن الأمر كله النهاية.
القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمرَ الماضيَ كأنه غير ماض، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه؛ فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوان ويقْتَاسُ به، فشريعته جَوْفُه وأعضاؤه، وترجع في ذلك حيوانيتُه مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سُئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري.....
القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته؛ فلينظرْ كيف ينتهي.
إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاء عليها فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها، طريقةِ إكراه الحيوان الإنسانيّ على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلِها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها؛ إذ كانت روحانيتُه في النهايات لا في بداياتها.
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالَها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يُخَلَّد هو فيها؛ فهو من الخير خالدٌ في الخير، ومن الشر هو خالدٌ في الشر؛ فكأن الموتَ إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتيةً وراجعة.(1/142)
وإذا كان الأمرُ للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهاياتٌ كثيرة؛ فلا يترك الشرُّ يمضي إلى نهايته بل يُحسَم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأنُ في كل ما لا يَحسنُ أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتدَّ: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب، وما شابك هذه أو شابَهَهَا؛ فإنها كلَّها انبعاثٌ من الوجود الحيواني، وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإدارة قبرٌ كَيْ تَسْلَم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية.
يا من لهم في القبور أموات !
إن رؤيةَ القبر زيادة ٌفي الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكونَ معنى القبر من معاني السلام العقليّ في هذه الدنيا.
القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا، فهي مدة لو صُرِفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضياع في الشر أو الإثم؟
لو ولد الإنسان، ومشى، وأيفع، وشب، واكتهل وهرم في يوم واحد فما عساه كان يُضِيع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطولَ الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصرَ من يوم.
ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها؛ فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقتُ وهرب.
هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبرُ أيضاً؛ فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حُكْمُ محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي، وكيف تكون؟
في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه، وأن يسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يميت في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر عقلها القويُّ الثابت، وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في هذا العقل، كما لا يجد الليل محلاً في ساعات الشمس.
ثلاثةُ أرواح لا تَصلُح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها:
روح الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.
سابعاً: مقالات في العادات والعبادات
31_ معنى الصوم: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي(1/143)
32_ صديقي رمضان: للشيخ علي الطنطاوي
33_ الإنسان في الشدة والرخاء: للشيخ علي محفوظ
34_ بساطة العيش: للأستاذ أحمد أمين
معنى الصوم (1) للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
للإسلام في كل عبادة من عباداته حِكَمٌ تستجليها العقول على قدر استعدادها, فمنها حكم ظاهرة يدركها العقل الواعي بسهولة,ومنها حِكَمٌ خفية يفتقر العقل في اجتلائها إلى فَضْلِ تأملٍ، وجَوَلانِ فكرٍ.
ولكلِّ عبادة في الإسلام تؤدَّى على وجهها المشروع, وبمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجُّه، واستجماع الخواطر, واستحضار العلاقة بالمعبود.
والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها هو تزكية النفس، وتصفيتُها من شوائب الحيوانية الملازمة لها من أصل الجِبِلَّة, وترقيتُها للمنازل الإنسانية الكاملة, وتغذيتها بالمعاني السماوية الطاهرة, وفتح الطريق أمامها للملأ الأعلى؛ لأن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائنٌ وسطٌ ذو قابلية للصفاء الملَكِي, والكَدَر الحيواني, وذو تركيب يجمع حمأَ الأرض وإشراق السماء, وقد أوتي العقل والإرادة والتميز؛ ليسعد في الحياتين: المنظورة والمذخورة, أو يشقى فيهما؛ امتحاناً للعقل من خالق العقل والمنعم به؛ ليظهر مزية العاقل على غير العاقل من المخلوقات.
والعبادات إذا لم تعطِ آثارَها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة, أو جسم بلا روح.
والصوم في الإسلام عبادة سلبية؛ بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيّن؛ فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلاً.
__________
(1) حديث في إذاعة بغداد, ماي 1954, وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 4/288_290.(1/144)
ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفِيْهِ من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان, وأنه تنمية للإرادة, وتدريب على التحكم في نوازع النفس, وهو في جملته امتحان سنوي يؤدّيه المسلم بين يدي ربّه, والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه الكامل المشروع, ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله؛ لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس, ومنها الإخلاص, ولذا ورد في النصوص الدينية: =الصوم لي وأنا أجزي به+.
والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية, وحكمته فيها واحدة, ولكن هيئاته وكيفياته تختلف.
واختلافُ المظاهر في العبادة الواحدة لا يقدح في اتحاد حقيقتها, ولا في اتحاد حكمها؛ لأن المظاهر قشور, والحقائق هي اللباب.
وهذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية تمسك المسلمون بالظواهر منها كالإمساك عن شهوة البطن, وغفلوا عن غيرها وهي سر الصوم وجوهره وغايته المقصودة في تزكية النفس, وأهمّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة, ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله, ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة, ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها, ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل؛ حتى يشترك الناس كلهم بالخير, فتتقارب قلوبهم, وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم, وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء, وتثبيت ملكات الخير فيهم.
ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم أنه تجويع إلزامي, يذوق فيه ألمَ الجوع مَنْ لم يذقْه طول عمره من المُنَعَّمِين الواجدين.(1/145)
وفي ذلك مِنْ سِرِّ التربية ما هو معروف في أخذ الطفل بالشدة في بعض الأوقات, ومن لوازم هذا التجويع ترقيقُ العواطف, وتهيئة صاحبها للإحسان إلى الفقراء المحرومين؛ فإن مَن لم يذق طعم الجوعِ لا يعرف حقيقة الجوع، ولا يحسّ آثاره، ولا يتصوّره تصوّراً حقيقيًا, ولا يهزّه إذا ذكّر به؛ فالغني الذي لم يذق آلام الجوع طوال عمره لا يتأثر إذا وقف أمامه سائل محروم يشكو الجوع, ويصف آلامه, ويطلب الإحسان بما يخفّف تلك الآلام؛ فيخاطبه وكأنما يخاطب صخرة صمّاء؛ لأنه يحدِّثه بلغة الجوعِ، ولغةُ الجوع لا يفهمها المترفون المنعّمون، وإنما يفهمها الجياع؛ فكيف نرجو من هذا الغني أن يتأثر, وأن يهتزّ للإحسان, وهو لم يَجُع مرة واحدة في عمره؟.
فهو لا يتصّور ألم الجوع, ومن لم يتصوّر لم يصدِّق, ومن لم يحس بالألم لم يحسن إلى المتألمين.
و لو أن المسلمين أقاموا سنة الإحسان التي أرشدهم إليها الصوم لم ينبت في أرضهم مبدأ من هذه المبادئ التي كفرت بالله، وكانت شرّاً على الإنسانية.
وأنا فقد عافاني الله من وجع الأضراس طول عمري؛ فانعدم إحساسي به؛ فكلما وصف لي الناس وجع الأضراس, وشكوا آلامه المبرحة سخرت منهم, وعددت الشكوى من ذلك نقيصة فيهم؛ هلعاً، أو خورًا، أو ما شئت.
وفي هذه الأيام غمزني ضرس من أضراسي غمزةً مؤلمة أطارت صوابي, وأصبحت أؤمن بأن وجع الأضراس حق, وأنه فوق ما سمعت عنه, وأن شاكيه معذور جدير بالرثاء والتخفيف بكلّ ما يستطاع.
هذه هي القاعدة العامة في طبائع الناس, فأما الذي يحسن؛ لأن الإحسان طبيعة قارَّةٌ فيه, أو يحسن لأن الإحسان فضيلة وكفى _ فهؤلاء شذوذ في القاعدة العامة.(1/146)
وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زمانيّ(1) تعالج فيه النفوس من النقائص التي تراكمت عليها في جميع الشهور من السنة, ومكَّن لها الاسترسال في الشهوات التي يغري بها الإمكان والوُجْد, فيداويها هذا الشهر بالفطام والحِمْية والحيلولة بين الصائم وبين المراتع البهيمية.
ولكنَّ هذه الأشفيةَ كلَّها لا تنفع إلا بالقصد والاعتدال.
لو اتّبع الناس أوامر ربّهم, ووقفوا عند حدوده لصلحت الأرض, وسَعُد مَنْ عليها, ولكنهم اتبعوا أهواءهم ففسدوا, وأفسدوا في الأرض وشقوا, وأشقوا الناس.
صديقي رمضان (2) للشيخ علي الطنطاوي
صديق عزيز، لقيته, وأنا طفل في دمشق, ثم افتقدته وأنا شاب أذرع الأرض وأضرب في بلاد الله, ففرحت بلقائه وأحببته, وألمت لفقده وازداد حنيني إليه, فأين أنت ياصديقي رمضان؟
كنت أرقب قدومه, وأحسب له الأيام والليالي على مقدار ما يحسن طفل من الحساب, فإذا جاء فرحت به, وضَحِكت له روحي؛ لأني كنت أرى الدنيا تضحك له, وتفرح بقدومه.
كنت أبصره في المدرسة؛ فالمدرسة في رمضان مسجد, ودرسها تلاوة وذكر, وأهلوها أحبه: ما فيهم مدرسٌ يقسو على طلابٍ, وطلابٌ يكرهون المدرس؛ لأن رمضان وصل النفوس بالله, فأشرق عليها من لدنه النور, فذاقت حلاوة الإيمان, ومن ذاق حلاوة الإيمان لم يعرف البغض, ولا الشر, ولا العدوان.
كنت أراه في الأسواق, فالأسواق تعرض بضاعة رمضان, وتفيض عليها روح رمضان, فتمحو الغش من نفوس أهلها محواً, ويملؤها خوف الله ورجاؤه, وتقف ألسنتهم عن الكذب؛ لأنها جرت بذكر الله واستغفاره, وهانت عليهم الدنيا حين أرادوا الله والدار الآخرة؛ فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر, أو يخدعهم في مال أو متاع.
__________
(1) زماني: جمع زَمِن، وهو المريض(م).
(2) نشرت عام 1939انظر كتاب في سبيل الإصلاح ص203_206.(1/147)
ويمضي النهار كله على ذلك, فإذا كان الأصيل، ودنا الغروب تجلى رمضان على الأسواق بوجهه فهشت له وجوه الناس, وهتفت باسمه ألسنة الباعة, فلا تسمع إلا أمثال قولهم: =الصايم في البيت بركة+ _ =الله وليك ياصايم+ _ =الله وليك ومحمد نبيك+, ثم لا ترى إلا مسرعاً إلى داره حاملاً طبق =الفول المدمس+ أو =المسبحة+ أو =سلال الفاكهة+ أو قطع =الجرادق+(1), ثم لا تبصر إلا مراقباً المنارة في دمشق ذات الثمانين منارة كبيرة, أو منتظراً المدفع, فإذا سمع صيحة المؤذن أو طلقة المدفع دخل داره, والأطفال يجتمعون في كل رحبة في دمشق ليسمعوها فيصيحوا: أذن ... أذن... أذن... ثم يطيروا إلى منازلهم كالظباء النافرة.
وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة, ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة =المسلم أخو المسلم+ فتبدو في أكمل صورها, فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير معرفة متقدمة, فيتساءلون, ويتحدثون, ثم يتبادلون التمر والزبيب, ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه, تمرات أو حبات من الزبيب, هينة في ذاتها, تافهة في ثمنها, ولكنها تنشئ صداقة, وتدل على عاطفة, وتشير إلى معنى كبير.
وكنت أنظر إلى رمضان وقد سكن الدنيا ساعة الإفطار، وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات, وضم الرجل إلى أهله, وجمع الأسرة على أحلى مائدة, وأجمل مجلس وأنفع مدرسة؛ فوا شوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب المنفرد(2) في مطعم أجنبي, لا أجد فيه صائماً, ولا أسمع فيه أذاناً, ولا أرى فيه ظلاً لرمضان.
__________
(1) أطباق جافة رقيقة وكبيرة تصنع من مواد خاصة يرش عليها الدبس, ولا تصنع إلا في رمضان. الواحدة جردقة, وهي كلمة فصيحة .
(2) كتبت هذه المقالة وأنا موظف في كركوك في شمالي العراق.(1/148)
فإذا انتهت ساعة الإفطار بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها, حاشا الحرمين وثالثهما, وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل؛ فأراه عامراً بالناس ممتلئاً بحلق العلم كما كان عامراً بهم ممتلئاً بها النهار بطوله, فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ, وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعته.
ومِن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقي ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في النفوس وفساد الزمان(1).
وإن أنسى لا أنسى تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدّ إليها الكهرباء, فكانت توقد مصابيحها _ وهي أكثر من ألف _ بالزيت واحداً بعد واحد يشعلها الحسكيون(2) وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب, فيكون لذلك المشهد أثر في النفس واضح, ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجلَّ منه ولا أعظم إلا الصلاة حول الكعبة في مسجد الله الحرام؛ فإن ذلك يفوق الوصف, ولا يعرف قدره إلا بالعيان.
وليس يقل من يصلي التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً, وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفاً(3), وهو عدد يكاد يشك فيه من لم يكن عارفاً بحقيقته, ولكنه الواقع, يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم.
__________
(1) على أن تكرار الجماعة في مثل الأموي يخالف السنّة .
(2) الحسكي خادم الأموي,كلمة شامية ولعل أصلها من الحسكة، ومعنا ها بلغة المغرب:
المشعدان , وزخرفة المساجد واتخاذ هذه الثريا من البدع .
(3) هذا ما كان عند نشر هذا الفصل سنة 1939, فيا أسفي كم تبدلت الحال الآن ! أما الذين يصلون في الحرم في مكة فقد زادوا هذه السنة (1407) على ثلاثمائة ألف , في الصحن وفي الطبقة الأولى وعلى السطح المضاد المفروش .(1/149)
وحدِّث عن الليالي الأواخر في دمشق ولا حرج, وبالغ ولا تخش كذباً؛ فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة, تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفاً حول السدّة بعد التراويح, ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردّد الناس كلهم: يا شهرنا ودعتنا عليك السلام ! ياشهرنا هذا عليك السلام, ويتزلزل المسجد من البكاء حزناً على رمضان(1).
وسَحَر رمضان ! إنه السِّحر الحلال,إنه جنة النفس ونعيمها في هذه الدنيا, وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سحر رمضان؛ فأين ذهب رمضان؟ وأنَّى لي بأن تعود أيامي التي وصفت لأعود إليه؟
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
إني لا أشتهي شيئاً إلا أن أعود طفلاً صغيراً؛ لأستمتع بجوِّ المسجد في رمضان, وأنشق هواءه, وأتذوق نعيمه, لم أعد أجد هذا النعيم, وما تغّيرت أنا أفتغيرت الدنيا؟
إني لأتلفت أفتش في غربتي عن رمضان, فلا ألقاه لا في المسجد, ولا في السوق ولا في المدرسة؛ فهل مات رمضان (2)؟
إذن فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمي, وأضعت راحة روحي يوم افتقدت رمضان؛ فعلى قلبي وأمي ورمضان وروحي رحمة الله وسلامه!
الإنسان في الشدة والرخاء(3) علي محفوظ
__________
(1) وذلك كله من البدع.
(2) لا ولا يموت , وأحمد الله على أن أحياني حتى عشت في مكة _ ورأيت في الحرم _ ما يعد معه رمضان الشام يوماً من عام.
(3) مجلة الهداية الإسلامية، 1349هـ(1/150)
من نظر إلى الإنسان، وفكَّر في أحواله وطبائعه وجده كثير العجز، قليل الصبر عند نزول الشدائد والبلاء، كثير الغرور قليل الشكر عند وجدان الرخاء والنعماء؛ فإذا أصابه نوع مكروه كمرض، وفقر، وعسر، وغيرها من بلايا الدنيا، وشدائدها_ استولى عليه اليأس، وملكه الجزع، ثم إذا ثاب إلى رشده أقبل على مولاه، وأكثر من التضرع والدعاء له _ تعالى _ في جميع أحواله نائماً، أو مضطجعاً، أو قاعداً، أو قائماً ساكناً، أو متحركاً مجتهداً في التذلل والدعاء طالباً، من الله _ تعالى _ إزالة تلك الشدة والمحنة وتبديلها بالنعمة والمنحة؛ فإذا استجيب له وكُشِفَ عنه ما نزل به مضى في سبيله، وعاد إلى سيرته الأولى، واستمر على طريقته التي كان ينتهجها قبل مساس الضر وإصابة المكروه، ونسي حال الجهد والبلاء، وأعرض عن شكر مولاه، ولم يعرف قدر إنعامه عليه، وصار بمنزلة من لم يشعر بمكروه، ولم يدع الله _ تعالى _ لكشف ضرٍّ نزل به.
وذلك بلا ريب يدل على ضعف طبيعة الإنسان، وقلة وفائه، وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه.
وفي ذلك يقول الله _ تعالى _: [وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ].
ويقول _ تعالى _: [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ].
فأفاد _ تعالى _ أنه إذا تفضل على عبده بنعمة كعافية، ورخاء، أعرض عن شكره وطاعته، واستطال بنعم الله على خلقه، وثنى عِطْفَه متبختراً كبرياءً وعظمة.(1/151)
وإذا عرض له نوع مكروه كمرض وعسر أكثر من التضرع والدعاء؛ لكشف ما عرض له؛ فهذا شأن الإنسان، وهذا حاله في الشدة والرخاء كما بينه الله _ تعالى _ في كتابه الحكيم؛ تنبيهاً على أن هذه طريقة ممقوتة وأخلاق مذمومة، وأن الواجب على الإنسان العاقل أن يكون شجاعاً في الشدائد، ثابتاً عند نزول البلايا، شاكراً عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الرفاهية والراحة حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة، ففي الحديث: =تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة+رواه عبد بن حميد والإمام أحمد.
وعنه _ صلوات الله وسلامه عليه _: =من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء+رواه غير واحد.
وجملة القول أن الإنسان جُبِلَ على الضعف، والعجز، وقلة الصبر كما جُبِلَ على الغرور، والبطر، والنسيان، والتمرد، والعتو؛ فإذا نزل به البلاء حمله ضعفُه على كثرة الدعاء والتضرع وإظهار الخضوع والانقياد، وإذا زال عنه البلاء، وحصل على الراحة استولى عليه النسيان، وغفل عن إحسان الله _تعالى_ إليه، ووقع في البغي والعدوان والجحود والنكران.
وهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ولكنه معذور ولا عذر له.(1/152)
ولقد أرشد العليم الحكيم عباده في كتابه الكريم إلى التغلب على هذه الطبائع، والسلامة من هذه الأدواء بقوله _ تعالى _: [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً] والهلع: سرعة الجزع عند إصابة المكروه، وسرعة المنع عند مساس الخير، وقد فسره أحسن تفسير قوله _ تعالى _: [إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا] فإنه كشف لنا عن خبيئة الإنسان، وبيَّن لنا ما فيه من علة ثم عقبه بقوله: [إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ].
فاستثنى المتصفين بهذه النعوت الجليلة من المطبوعين على تلك القبائح الذميمة؛ لأن نعوتهم الحميدة تُنْبِئُ عن استغراقهم في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق بمدِّ أيدي المساعدة نحو الضعفاء، والعطف على البائسين والمحرومين، وتنبئُ عن الإيمان بيوم الجزاء وما فيه من حساب وهول، والخوف من العقوبة وكسر الشهوة، والاقتصار على ما أحل لهم، وإيثار الآجل على العاجل بالصدق والوفاء على خلاف القبائح المذكورة الناشئة من الانهماك في حب العاجل والركون إليه، والاغترار به، وقصر النظر عليه؛ فبمثل هذه الأدوية النافعة ينجو الإنسان من الشر وتسلم القلوب من المخاطر عند عروض البلايا، وتفاقم الشدائد.(1/153)
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ونزلت به محنة وجبت عليه رعاية أمور منها:
1_ أن يكون راضياً بقضاء الله _ عز وجل _ غير معترض عليه بالقلب واللسان وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنه _ تعالى _ مالك على الإطلاق، ومَلِكٌ بالاستحقاق.
ومن كان كذلك فله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما شاء كما يشاء؛ لأنه حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل الباطل والعبث؛ فكل ما فعله صواب وحكمة.
وإذا كان كذلك فإنه حينئذ يعلم أنه _ تعالى _ إن أبقى عليه المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل وحينئذ يجب عليه الصبر، والسكون، والرضا، والتسليم، وترك القلق والاضطراب.
2_ أن يصلح حاله بالتوبة إلى الله _ تعالى _ والإنابة إليه مما فرط منه؛ فقد تكون البلية عقوبة معجلة لبعض ما اقترف من السيئات لعله يرجع عن غيِّه، ويثوب إلى رشده قال _ تعالى _: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ].
3_ أنه في ذلك الوقت لو اشتغل بذكر الله _ تعالى _ والثناء عليه بدلاً من الدعاء كان أحسن وأفضل، ففي الحديث القدسي عن رب العزة: =من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين+.
ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا ريب أن الأول أفضل.
4_ أن يبالغ في الشكر إذا أزال الله عنه تلك البلية، وأن لا ينقطع عن ذلك الشكر في السراء والضراء وأحوال الرخاء.
وكل هذا لا يمنع العبد الموفق من أن يستخدم مواهبه في تلمس الخلاص من بعض ما نزل به بالوسائل المشروعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فهذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم عند نزول الشدائد، وعروض البلايا، والله الموفق.
بساطة العيش(1) للأستاذ أحمد أمين
تعجبني الحياة البسيطة لا تعقيد فيها ولا تركيب، وأكره ما أكره التكلف، والتصنع، وتعقيد الحياة، وتركيبها.
__________
(1) فيض الخاطر 4/227_231.(1/154)
ويظهر أن المدينة والحضارة تميل دائماً إلى تعقيد الحياة وتركيبها، وكلما قرأت في الحضارات المختلفة _ رومانية، أو إسلامية، أو أوربية حديثة _ وجدتها جميعاً تتشابه في الميل إلى التعقيد والتركيب، والإسراف في البذخ، والترف، والرفاهية، ففي الحضارة الإسلامية _ مثلاً _ قرأت أن الوزير ابن الفرات تناهى في الترف حتى ما كان يأكل إلا بملاعق البلور، وما كان يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة، فكان يوضع على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة، وذكروا عن المأمون أن مائدته كانت تبلغ في بعض الأحيان ثلاثمائة لون، وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، ومن الشمع في كل شهر ألف مَنٍّ، وغضب المأمون على جارية له، فأرسلت إليه تفاحة من العنبر مكتوباً عليها بالذهب: =يا سيدي ثبت+.
وكانت أم الخليفة المقتدر تعمل نعالها من ثياب تسمى الثياب الديبقية، تقطع على قدر النعال، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب مسك وعنبر مُجَمَّدان، وكان لا يمكث النعل في رجلها إلا أياماً ثم ترميه للخدم.
وكان النساء المترفات يشترين جلود الثعالب تحضره التجار من سيبيريا، يبطن به ثيابهن في الشتاء.
وقد ذكر المسعودي أن إبراهيم بن المهدي استزار الرشيد يوماً، فقدم له على المائدة _ فيما قدمه له _ طبقاً فيه قطع من سمك، فقال له الرشيد: لم صَغَّر طباخك قطع السمك، قال له أمير المؤمنين هذه ألسنة سمك؛ فاستحلفه الرشيد أن يخبره عن ثمن هذه الألسنة، فقال له: أكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده، وأبى أن يأكل منها.
ويشبه هذا ما قرأته مرة أن أحد اللوردات من كبار الأغنياء عمل وليمة لبعض الكبراء، فقدم فيها طبقاً فيه ألسنة بعض الطيور النادرة.
وقرأت مرة أن أمريكا في سنة 1899م، كانت اعتزمت أن تقيم في معرض باريس عموداً من الذهب يساوي ما فيه مائتي ألف جنيه إشارة إلى أنها مملكة الذهب.(1/155)
ومثل ذلك ما جاء في تاريخ الوزراء للصابي أن المعتضد اجتمع في خزائنه تسعة ملايين من الدنانير، فأَمَّل أن يتمها عشرة، ويسبكها سبيكة واحدة، ويضعها في مكان بمرأى من الناس ليسير في الأفاق أن للمعتضد عشرة ملايين ديناراً ذهباً هو في غنى عنها، فاخترمته المنية قبل أن يحقق غرضه.
وأمثلة ذلك في الحضارات القديمة والحديثة، وهي في الحديثة آنق(1)، وأترف، وأعقد، وقد شمل التعقيد، والتصنع، والتكلف كل مناحي الحياة، وشمل كثيراً من الأوساط بعد أن كان في الحضارات القديمة مقصوراً على بعض الملوك والأمراء.
هذا حفل عرس يقام في بيت الأغنياء حتى والأوساط؛ فتقوم دنياهم وتقعد وترتبك حياتهم وترتبك، ويمر الشهر والشهران، والأسرة لا تعرف الراحة، من خطوبة وجهاز، وإعداد حفلة وتنظيمها، ونحو ذلك من مشاكل لا عداد لها، ولا ينتهي الزواج حتى تكون الأسرة كلها قد تهدمت أعصابها وماليتها من كثرة ما لاقت من العناء، وما تحملت من أعباء، وما سبب ذلك إلا ما اندفع فيه الناس من تعقيد، وتكلف، وتصنع.
وهذه مظاهر الحياة كلها معقدة؛ فالمرأة تقضي نصف عمرها أمام المرآة متصنعة متجملة، وهذه مائدة الأكل يقضي الوقت الطويل في إعدادها وتصفيفها، وهذا الأكل يقضي فيه كل مرة ساعة، أو أكثر في وضع صنف، ورفع صنف، وما إلى ذلك.
وهذه الملذات ووسائلها كلها تعقدت وتركبت؛ فالذهاب إلى التمثيل يكلف كثيراً من العناء في المظهر، والملبس، والمركب، ويحب كل من ذهب إليه أن يكون هو في نفسه رواية ينظر إليه الناظرون: في ملبسه، ومشيته، ونظراته وما إلى ذلك، وكل ملذة من ملذات الحياة _ مشروعة أو غير مشروعة _ لا تنال على بساطتها وسذاجتها، وإنما تنال على ضروب من التعقيد والتكلف لا نهاية لها.
ومن الغريب أن المتلذذ بهذه الضروب من التكلف لا يلبث أن يعتادها، ويألفها على بسيطة ساذجة؛ فيبحث عن وسائل أخرى لزيادة تعقيدها.
__________
(1) من الأناقة (م).(1/156)
ولو كان تعقيد الملذات يزيد السرور بها لهان الأمر، ولكن الواقع أن تعقيدها يضيع بهجتها، ويقلل الاستمتاع بها؛ فالعامل البسيط يتلذذ من منظر رواية بسيطة أكثر مما يتلذذ الغني المترف من رواية امرأة غنية بفستانها الأنيق الموشي.
هذا فضلاً عما يستوجبه هذا التكلف والتعقد من أسباب التعاسة؛ فكم بيت شقي بسبب امرأة في البيت تتكلف أكثر ما تحتمل ميزانيتها في الملابس وأدوات الزينة، وكم أسرة شقيت؛ لأن رجلاً يحتفل بسكره أو قماره أكثر مما يحتفل بضرورات بيته.
وكثير من البيوت بائسة؛ لأن حاجة المعيشة تعقدت وتركبت؛ فأصبحت ميزانياتها لا تكفي لضروراتها، وكثيراً ما تضطر تكاليف الحياة، وتعقدُها أن يسلك الناس سُبُلاً غير شريفة في الحصول على المال الذي تتطلبه تعقيدات الحياة.
ومن استطاع أن يحتفظ بشرفه عاش في قلق وهمٍّ من المطالب الكثيرة التي يحيط به، والتي يستطيع أن يحتملها في نفسه ولكنه لا يحتملها في أهله وولده.
وضروب المعاملة والسلوك يسودها التصنع، والتكلف، ومظاهر الرياء في الوظيفة، وفي المصالح الحكومية، وفي المحال التجارية، وفي الحفلات، والولائم، والأفراح، والمآتم لا شيء من البساطة، ولا شيء من الرجوع لفطرة.
وحتى الآداب والفنون دخلتها الحضارة فعقدتها، وملأتها زينة، وصناعة، ومحسنات لفظية، ومحسنات معنوية، واستعارة ومجازاً، وتكلفاً في التعبير لا يجري مع الطبيعة، والروائي لا يكون روائياً حقاً حتى يغرب، والممثل لا يكون ممثلاً حقاً؛ حتى يتصنع ويتكلف البكاء، والضحك، والصياح، وإلواء اللسان، والتشدق في الأداء.(1/157)
والناس في مخاطبتهم لا يسلون(1) أقرب طريق للفهم والأفهام، ولا أصدق عبارة وأبسطها للتعبير عما في النفس، حتى ليصعب علينا في كثير من الأحيان معرفة الحق في الموضوع؛ لما يمتزج به الحقيقة من شكوك، وغموض، وإيهام، وتَصَنُّع، وتزويق، مع أن البساطة في التعبير هي خير وسيلة للإقناع والإفهام، ورُبَّ كلمة صريحة صادقة بسيطة فعلت ما لا تفعل الخطب المروقة(2)، والأحاديث المنمقة، وخير الأدب ما قال(3) إلى البساطة.
من كل هذا نرى أن الحضارة صحبها في كل نواحيها تعقيد، وتكلف، ورياء، وتصنع، وبعد عن البساطة؛ وأن هذا التكلف، والتصنع قد جرَّ من الشرور على العالم ما لا يحصى، ولكن هل هذا عرض ملازم للحضارة لا يمكن أن تنفك عنه؟
أو هو _ كما يقول المناطقة _ عرض مفارق يمكن أن يكون، ويمكن ألا يكون؟.
إن الحضارة درجة في الرقي طبيعية فلا يمكن ولا من الخير أن يتبدئ الناس بعد أن تحضروا، ولكن ألا يمكن أن نتحضر وأن تتبسط معاً؟
لست أرى أن الحضارة من لوازمها التعقيد، بل إني أتصور حضارة سامية تعني ببساطة العيش مع انتفاعها بما وصل إليه العلم.
وقد قرأنا أخباراً عن قوم نبلاء عاشوا عيشة البساطة وسط الحضارة كما فعل (تولوستوي) في حياته الأخيرة، وقد قرأت قصة لطيفة في كتاب =أدب النديم+إذ حَكَى أن عبدالله بن طاهر دعاه غني إلى وليمة، ثم أَخَّر الأكل لإعداده إعداداً يتناسب ومقام ابن طاهر، فطال غيابه ثم أحضر من الألوان، والتصنع، والتكلف ما لا حدَّ له، فلما همَّ ابن طاهر بالانصراف سأله الداعي: أيأمر الأمير بشيء؟ قال: أن تذهب إلى فلان وتتعلم منه الفتوة؛ فذهب إليه وكان الوقت وقت غداء، فأمر الخادم أن يحضر ما عنده من غير أن يزيد شيئاً، فحضر طعام نظيف بسيط لساعته، ثمَّ قال له: هذه هي الفتوة التي أراد ابن طاهر أن أعلمكها.
__________
(1) لعلها: لا يسلكون (م).
(2) لعلها: المزوَّقة(م).
(3) لعلها: ما مال (م).(1/158)
على أنا نجد اليوم نزعة ظاهرة في المدنية الحديثة، وهي كراهية التكلف والسآمة من التعقيد في المعيشة، والإمعان في الملذات، والتصنع في الفن، والأدب، والتشدق في الكلام، وهي نزعة ظهرت في نواح كثيرة نرجو أن تعم وتتسع.
أريد من البساطة الصراحة في القول، والطهارة في التفكير، وعدم الإمعان في المظهر، والتصرف في بساطة ويسر، ونظافة الفكر من كراهية الناس، والتعالي عليهم، والسيرَ في الحياة كما هي من غير كلفة، ولا رياء، ولا تظاهر، ولا تعقيد؛ فقد تكون مائدة نظيفة بسيطة أشهى عند العاقل من مائدة معقدة مركبة، وقد يكون جمال الفتاة في بساطة حليها وبساطة ملبسها خيراً من حلىً مكدسة، وثياب مزركشة.
في بساطة العيش راحة النفس، وحفظ الصحة، وحسن التفاهم، والتخفف من الأعباء المالية، وشعور بأن الحياة المادية ليست كل شيء في الحياة؛ حتى يضيع كل الزمن في تعقيداتها وتركيباتها، فهناك حياة روحية سامية جميلة تستحق أن يوفر لها جزء من الزمان، ويخصص لها وقت من التفكير.
ثامناً: مقالات في الشباب
35_ كيف تكون رجلاً: للأستاذ عبدالوكيل جابر
36_ يا ابني: للشيخ علي الطنطاوي
37_ من هو الشاب المسلم: للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
38_ يا شباب العرب: للأديب مصطفى صادق الرافعي
كيف تكون رجلاً؟ (1) للأستاذ عبدالوكيل جابر
يقول الشاعر العربي:
ولا تحسبن المجد زِقَّاً(2) وقينةً ... فما المجد إلا السيف والفَتْكَةُ البِكرُ
وتضريب أعناق الرجال وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجرُ
وتركك في الدنيا دويَّاً كأنما ... تداول سمعَ المرء أنملُه العشرُ
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء التاسع، المجلد الأول ص419، صفر 1348هـ.
(2) الزِّق: إناء الخمر (م).(1/159)
وإذا كان هذا الشاعر يتمثل المجد في هذه الضروب من الأعمال التي تدور حول القتال، وقيادة الجيوش، والمخاطرة بالنفس _ فإنما يصدر في هذا عن النفسية الذائعة في عصره؛ إذ كان أمضى طريق إلى اكتساب الحمد، وذيوع الذكر في إثارة الحروب الموفقة، وقهر الأعداء من طريق النضال المادي.
وليس هذا شأن اكتساب المجد في هذا العصر إلا عند الفترات الشاذة التي يتمثل فيها الجشع الاستعماري، وتسود النزوات الإنسانية المرذولة.
أما سبيل المجد اليوم فهو العمل المجدي الذي يطغو على الأعمال الأخرى؛ فيبدو ممتازاً بفائدته للمجموع، وثمرته الشاملة للإنسانية.
ولا يكون هذا الآن كما لم يكن قديماً في احتساء الزقاق(1)، ومغازلة القينات؛ فإن هذا ونظائره دليل سقوط النفس، واستسلامها لدواعي الهوى.
ومثل هذه النفس أضأل شأناً، وأحقر تكويناً من أن يكون لها في الوجود ذِكْرٌ، أو يستقيم لها في العمل النافع رأي.
فكيف _ إذاً _ يتهيأ لامرئ أن ينال المجد، ويترك في الدنيا دويَّاً شديداً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر؟
لقد اقتضت طبيعة الاجتماع أن تكثر المشكلات العامة التي تضل فيها الأحلام، وتتعدد حاجات الأمم تعدداً أذاع التنافس بينها، وكان الظفر لأكثرها تفكيراً، وأقدرها على تحصيل ما يعوزها من رغبات؛ فليس ينقص طالبَ المجدِ شيءٌ إلا أن يظهر في ميادين العمل العام بما يُعْجِز سواه، أو على الأقل يأتي بعمل الممتازين الذين تعرف لهم الأمم شرف القيام بالأعمال الفذَّة التي لا يستطيع القيام بها السواد والدهماء.
وطريق العمل معبَّد أمام أبناء الإنسانية جميعاً؛ ففي مُكْنَةِ الرجل المغمور المقرف أن يصير ذات يوم علماً يسير اسمه مسير الشمس والقمر.
وكم أرانا التاريخ أمثلة هي في الواقع تَعِلَةً لمن لم يسعدهم الجد بِنِجَارٍ شامخ، أو عزٍّ قائم.
__________
(1) يعني شرب الخمر (م).(1/160)
وما عاب هؤلاء، ولا نقص من قيمة أعمالهم أنها صدرت عن غير معروف، بل العكس كان قيام النكرات بالأعمال الجليلة مثاراً لزيادة إجلالهم في عيون الجماهير.
ولعل منشأَ ذلك قوةُ نفوس هؤلاء، وتمكنهم من التغلب على الصعوبات التي تعترض العاملين وهي كثيرة، وبخاصة من لم يسعده جاهٌ بارعٌ، أو حسب مستطيل.
وفي اعتقادي أن من له مُسْكَةٌ من العقل يستطيع أن يقوم بعمل نافع إذا سلك السبيل القويم، وتوفر على العمل في الدائرة التي يشعر من نفسه بالميل إليها.
ولسنا نزعم أن كل إنسان يقدر على إذاعة اسمه إذاعة عطرية، ولكنا نريد أن نقول: إن كل عاقل يمكنه من عمل شريف يرفع له ذكراً ولو في دائرته المحدودة، وهذا على أي حال خير من الذكرى الذميمة، أو فقدان الأثر الطيب.
إن الإنسان خلق في هذه الحياة ليكون عاملاً، وقد أعده الله للعمل بما رُكِّب فيه من أدواته وبواعثه، وكلُّ عواطفِ الشهوةِ التي رُكِّبت فيه ليست إلا خادماً للغرض من الحياة؛ فإذا اشتط الإنسان في استخدام شهوته، وجعل إرضاءها هو كل الغرض من وجوده فقد ارتكب أشنع خُطةٍ تُلْحقه بعالم الحشرات المؤذية.
إن سبل الذِّكر الذائع أصبحت متعددة لاشتباك المصالح، وكثرةِ المطالب، كما أصبح العمل ميسراً؛ لانتشار العلم، وتَمكُّنِ المُجِدِّ من الابتداع، وابتكار الجديد.
وإذا حصرنا العمل في دائرة مطالبنا الإسلامية أو الشرقية تبيَّن جليَّاً فقرُنا إلى الجد، وتهيؤ الفرص لاكتساب المجد.
ومن دواعي الأسف أن يكون فينا عاملون، ولكن لا توجد روح التعاون العامة التي يستطاع بها إيجاد الثمرات التي تنتجها أعمالهم على أحسن وجه.(1/161)
وكلنا يعرف أن الحياة قصيرة الأجل؛ فليس من الحزم أن يضيعَ المرءُ فتراتِها القصيرةَ فيما لا يجدي، أو يعيش حياتَه الوشيكةَ الزوالِ مغموراً كسلاناً لا يشعر بوجوده أحد، كأنما هو بعض الأشباح التي يراها النائم، فإذا أفاق من غفوته تبددت من ذاكرته كما تتبدد الثلوج تشرق عليها الشمس.
وأرى مجد الحياة قريباً من النفوس القوية المليئة بالجد، البعيدة عن مهازل الدنيا وسفاسفها.
وعلى قدر تَشَبُّع النفس بهذا الخلق يكون مبلغها من الحصول على الشهرة، وبياض السمعة.
وإن الفؤاد ليعنو خشوعاً كلما ذكر واحداً من أولئك العاملين، فنظر في صفحة حياته مظاهر الحنين إلى المجد تلازمه منذ طفولته.
وأذكر أن عبدالله باشا فكري، كان وهو طالب الأزهر الصغير يكتب على سواري المسجد: (عبدالله باشا فكري) فيقرأ إخوانه ذلك هازئين ساخرين، ولكن عبدالله فكري الحديث يقابل سخريتهم هذه برزانة الواثق من نفسه، المتفائل بمستقبله؛ فكان من شأنه بعد ذلك ما يعرفه الناس.
سواء أصح هذا أم لم يصح فإن الشيء الذي لا شك فيه أن القيام بالعمل الجليل لا يكون إلا إذا خامرت النفس فكرة شريفة تلازمها في فجر الحياة.
ومن أجل ذلك جهد المربون في أن يفتحوا مغاليق الأذهان منذ الصغر؛ كي تشعر بمسئوليتها في الوجود، وواجبها الذي يطلب منها للمجموع.
ومن أساليبهم في الوصول إلى هذا الغرض دراسة تاريخ العظماء، وتحليل حياتهم تحليلاً تتجلى فيه الأسباب التي أوصلتهم إلى مركزهم الممتاز في هذه الدنيا.
ولعل ذلك من أجدى أنواع التعليم للنشء، وَأعْوَدِه عليهم بالخير، وعلى مقدار اتجاه الناشئ في هذا السبيل يكون مبلغه من النجاح.(1/162)
ويحضرني في هذا المقام قصة ذلك الأعرابي الذي سأل ابنه فقال: كمن تحب أن تكون؟ فأجاب الغلام بقوله: أحب أن أكون مثلك! فامتعض الأب وقال: يا بني إني لم أبلغ ما بلغت إلا بعد أن تمنيت أن أكون مثل علي بن أبي طالب، فإذا كان شأني ما ترى، فكيف يكون حالك إذا تمنيت أن تكون مثلي فحسب؟
يستخلص مما ذكرناه ومما قرره الواقعُ المُحَسُّ أن النجاح في الحياة، والظفر بالذكر المجيد، ونيل المنزلة السابقة بين الناس تتوقف على أمور أهمها:
أ_ أن يتناول المرء من المهن أحبها إلى قلبه، وآثرها عند ميوله، فإذا فرض أنه اشتغل بالعلم فليكن همه متجهاً إلى الفرع الذي يشعر من نفسه بقدرته على إتقانه، والنفاذ في نظرياته.
ب_ أن يؤثر الثبات في جميع أدوار حياته، وألا تؤثر في اعتقاده بالنجاح العقبات التي تعترضه؛ فما أتي امرؤ إلا من الجزع يناله عن سعيه إلى غاية.
ج_ أن يوفر همه على البحث، واستطلاع الآراء التي من شأنها أن تزيده علماً بمادته، وإلا يعوقه الكبر وغيره من رذائل الخصال عن استقاء المعلومات من مظانها الصالحة.
د _ ألا يكترث بالآراء الزارية(1) ما دام واثقاً من نفسه، معتقداً بوضوح السبيل الذي يلجه؛ فإن الجديد الصالح يجد أحياناً معارضين جاهلين أو حاقدين، ولا يثبطن من همته أنه لم يلق تشجيعاً أو تقديراً لأعماله؛ فإن لذلك يوماً لا بد أن يحين.
هـ _ أن يتمسك دائماً بالأخلاق الشخصية الفاضلة؛ فذلك أدعى إلى جمع القلوب حوله، وهذا يمهد الطريق لإذاعة آرائه، ويجعلها بمنجاة من المعارضة والنزاع.
وبعد فتلك آراء نذيعها لأبناء اليوم وهم رجال الغد، عسى أن يكون فيها قبس ضئيل إن لم يكن فيها مشكاة واضحة النور.
يا ابني(2) للشيخ علي الطنطاوي
(إلى السيد =م.أ+ من =الإسماعيلية+ بمصر الذي كتب إليَّ، واستحلفني أن أقرأ كتابه، وأن أرد عليه).
__________
(1) الزارية: التي تحتقره وتزدريه (م).
(2) نشرت عام 1955م، انظر كتاب (صور وخواطر) ص156_162.(1/163)
لماذا تكتب إليَّ على تردد واستحياء؟ أتحسب أنك أنت وحدك الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضَرَم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي اختُصَّ بها دون الناس أجمعين؟
لا، يا ابني، هوِّن عليك؛ فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه (داء الشباب)، وقد كتبت فيه قديماً وحديثاً، ولولا أني لا أحب الحديث المعاد، ولا أقتني _ مع الأسف _ إلا الأقل من مقالاتي القديمة لنقلتها إليك، أو لأحلتك عليها.
ولئن أرَّقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة فلطالما أرَّق كثيرين غيرك، صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن درسه التلميذَ، وعن عمله العامل، وعن تجارته التاجر.
وما الحب الذي افتنَّ في وصفه الشعراء، وفي تحليله الأدباء إلا ما تجده أنت سواء بسواء، ولكنك أخذته مجرداً مكشوفاً، فعرفه الناس، فلم يخدعوا عنه، وأخذوه فلفوه بمثل الورق (الشكلاطة)؛ ليخدعوا عن حقيقته الناس.
وشربت بفيك من الينبوع، وشربوا بالكأس المذهبة الحواشي.
والماء في كأس أبي نواس التي أقام في قرارتها كسرى كالماء في ساقية، والشهوة في رسالتك إليَّ كالشهوة في غزل الشعراء، وشعر الغزليين، ولوحات المصورين، وألحان المغنين، ولكن الضمير هاهنا بارز ظاهر، والضمير هنالك مستتر خفي، وشر الداء ما خفي واستتر!
إنه ما أشرف على مثل سنك أحد إلا توقّد في نفسه شيء كان خامداً، فأحس حرَّه في أعصابه، وتبدلت في عينه الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنساناً من لحم ودم، له ما للإنسان من المزايا، وفيه ما فيه من العيوب، ولكن أملاً فيه تجتمع الآمال كلها، وأمنيَّة فيها تلتقي الأماني، ويلبسها من خيال غريزته ثوباً يخفي عيوبها، ويستر نقائصها، ويبرزها تمثالاً للخير المحض، والجمال الكامل، ويعمل منها ما يعمل الوثني من الحجر: ينحته بيده صنماً، ثم يعبده بطوعه ربَّاً! إن الصنم للوثني رب من حجر، والمرأة للعاشق وثن من خيال!(1/164)
كل هذا طبيعي(1) معقول، ولكن الذي لا يكون أبداً طبيعيَّاً ولا معقولاً، أن يحس الفتى بهذا كله في سن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة، ثم يضطره أسلوب التعليم إلى البقاء في المدرسة إلى سن العشرين أو خمس وعشرين.
فماذا يصنع في هذه السنوات، وهي أشد سنين العمر اضطرام شهوة، واضطراب جسد، وهياجاً وغلياناً؟
ماذا يصنع؟
هذه هي المشكلة!
أما سنة الله، وطبيعة النفس فتقول له: تزوج.
وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له: اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج...
إما أن تنطوي على نفسك، على أوهام غريزتك، وأحلام شهوتك، تدأب على التفكير فيها، وتغذيها بالروايات الداعرة، والأفلام الفاجرة، والصور العاهرة، حتى تملأ وحدها نفسك، وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواتن، تراهن في كتاب الجغرافيا إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق، وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة، وفي رؤى المنام.
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكل سبيل
ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب.
وإما أن تعتمد إلى ما يسمونه اليوم (الاستمناء)، وقد كان يسمى قديماً غير هذا، وقد تكلم في حكمه الفقهاء، وقال فيه الشعراء، وكان له في كتب الآداب باب لا أحب أن أدل عليه أو أرشد إليه، وهو وإن كان أقل الثلاثة شرَّاً، وأخفها ضرَّاً(2)، ولكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم، والجسم بالسقم وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً، كئيباً، مستوحشاً، يفر من الناس، ويجبن عن لقائهم، ويخاف الحياة، ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة.
__________
(1) طبيعي هي الدائرة على أقلام البلغاء من القدم، وإن كان القياس طبعي.
(2) لست أدعو إليه ولكن أقرر حقيقة قررها كثير من الأطباء ووافقوا فيها رأي الفقهاء من الحنفية في الجملة.(1/165)
وإما أن تغرف من حمأة اللذة المحرمة، وتسلك سبل الضلال، وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك، وشبابك، ومستقبلك، ودينك في لذة عارضة، ومتعة عابرة، فإذا أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها، والوظيفة التي تحرص عليها، والعلم الذي أملت فيه، ولم يبق لك من قوَّتك وفتوتك ما تضرب به في لجِّ العمل الحرّ.
ولا تحسب بعد أنك تشبع، كلا، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً كشارب الماء الملح(1) لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، ولو أنك عرفت آلافاً منهن ثم رأيت أخرى متمنعة عليك، معرضة عنك، لرغبة فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط وهاك (فاروق) مثلاً!
وَهَبْكَ وجدت منهن كل ما طلبت، ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ ودون ذلك تنهار أقوى الأجساد.
وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة وكانوا أبطالاً في الرَّبع والصرع والرمي والسَّبق، ما هي إلا أن استجابوا إلى شهواتهم، وانقادوا إلى غرائزهم، حتى أمسوا حطاماً...
إن من عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابها؛ الصحة والنشاط، وجعل مع الرذيلة عقابها؛ الانحطاط والمرض.
ولرب رجل ما جاوز الثلاثين يبدو مما جار على نفسه كابن ستين، وابن ستين يبدوا من العفاف كشاب في الثلاثين، ومن أمثال الإفرنج التي سمعناها وهي حق وصدق: من حفظ شبابه حفظ له شيخوخته.
__________
(1) الماء الملح: أي المالح.(1/166)
ولو تُرك الرجل لغريزته، ولم تكن هذه المغريات من الصور والروايات والأفلام، وتكشّف النساء وشيوع الفاحشة _ لما هاجت به الغريزة إلا مرة أو مرتين في الشهر والشهرين؛ لأن من القواعد الثابتة في العلم أنه كلما ارتقى الحيوان _ والإنسان هنا حيوان _ في سلّم التطور، قلّ عنده السِّفاد، وطال الحمل، فالديك والدجاجة يتسافدان كل يوم؛ لأن مدة الحمل بالبيضة يوم واحد أما القط _ وهو من ذوات الأثداء _ فيسافد القطة مرة أو مرتين في السنة؛ لأن حملها مرة في السنة أو مرتين.
وأظن أن الإنسان أرقى من القط؛ فلماذا يكون للقط موسم واحد، وهو عندنا شباط _ فبراير _ وتكون شهور السنة كلها شباط عند بعض الناس؟ لهذه المغريات!
فالبلاء كله من المغريات، من دعاة الشر ورسل إبليس، اللذين يزينون للمرأة التكشف، والتبرج، والاختلاط باسم المدنية، والتقدمية، والنهضة النسائية.
وما يُعْنون بالمرأة إلا كعناية الجزاز بالنعجة: يطعمها، ويدفع عنها، ويحميها، ويسمنها، ولكن للذبح.
والذين دأبوا على نشر صور العاريات في مجلاتهم من الممثلات الأجنبيات أولاً، ثم من بنات المدارس بدعوى الرياضة، ونساء السواحل بحجّة الاصطياف، وعملوا على ذلك الدهر الطويل، على خطة مرسومة، وسبيل معينة، صابرين محتسبين لوجه إبليس، ولولاهم، ولولا مجلاتهم، ولولا تلك الروايات من قبل وهاتيك الأفلام من بعد، ولولا الذين تخرجوا بمدرسة الضلال، ثم وَلُوا _ مع الأسف _ أمر أبنائنا وبناتنا في مدارسنا _ ما رأينا، ولا توهمنا أننا سنرى يوماً، بنات المسلمين يكشفن عن سيقانهن وأفخاذهن؛ للعبة بكرة السلة، أو لعرض في حفلة الرياضة، أو لاصطياف على الساحل، ولو بعث قاسم أمين ومن شايعه على دعوته من رؤوس الفتنة، ورأوا إلامَ انتهت إليه المرأة بدعوتهم التي أرادوا بها غير هذا _ لأخذتهم الصعقة!(1/167)
وأؤكد لك أن ذلك الأمر في حقيقته أتفه وأهون مما تظن، وأن الحديث عنه أعظم منه، ووصفه أكبر أثراً في النفس من فعله.
ولولا هذا الفن: فن الشعر والقصة والتصوير والغناء، ولولا هذا الذي يجمّل المرأة، ويحسّن الحب _ لما رأيت لتلك الصلة الجسمية في نفسك ولا نفس غيرك من الشباب عشر معشار ما تحسّه اليوم.
إنها عملية كالعمليات الطبية كلها، ولكنها قذرة حقَّاً؛ لذلك وضع لها هذا (البنج) الذي يعمي ويصمّ، فلا يرى المرء القبح فيها، وهذا البنج هو الشهوة، ولو فكر المرء فيها هادئاً، لو فكر فيها بعقل رأسه لا بعقل أعصابه لما رآها إلا كما أقول.
وهذه المغريات كلها لا تعمل عملها، ولا تؤتي المرّ من ثمرها، ما لم يوجد رفيق السوء، الذي يدلك على طريق الفاحشة، ويوصلك إلى بابها، إنها كالسيارة الكاملة العدة، وهذا الرفيق كالزناد _ المارش _ وليس تمشي السيارة مهما كانت قوتها إلا بالزناد.
وكأني أسمعك تقول: هذا هو الداء، فما الدواء؟
الدواء أن نعود إلى سنة الله، وطبائع الأشياء التي طبعها عليها، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئاً مكانه، حرم المراباة وأحل التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج؛ فالدواء هو الزواج.
الزواج وحده طريق الإصلاح، وأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية، والنوادي الإصلاحية أن تؤسس قسماً جديداً يرغّب الشبان في الزواج، ويدعوهم إليه، ويسهله عليهم، ويدل الخاطب على الفتاة التي تصلح له ويصلح لها، ويقرضه المال إن كان معسراً، ولهذا الاقتراح تفصيلات وذيول من استجاب له وأراد العمل به شرحت له تفصيلاته.(1/168)
فإذا لم يتيسر لك الزواج، ولم ترد الفاحشة، فليس إلا التسامي، وأنا لا أريد أن أعقّد هذا الفصل الذي أكتبه؛ ليكون مفهوماً واضحاً، بمصطلحات علم النفس؛ لذلك أعمد إلى مثال لك: أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار إنك إن سددته فأحكمت سدَّه، وأوقدت عليه فجَّره البخار المحبوس، وإن خرقته سال ماؤه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاَ كبيراً كذراع القاطرة، أدار لك المصنع وسيّر القطار، وعمل الأعاجيب؛ فالأولى حالة من يحبس نفسه عن شهوته، يفكر فيها، ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبل الضلال، ويؤم مواطن اللَّذة المحرَّمة، والثالثة حالة المتسامي.
فالتسامي هو أن تنفّس عن نفسك بجهد روحي، أو عقلي، أو قلبي، أو جسدي يستنفد هذه القدرة المدخرة، ويخرج هذه الطاقة المحبوسة بالالتجاء إلى الله، والاستغراق في العبادة، أو بالانقطاع إلى العمل والانغماس في البحث، أو بالجهد الجسدي والإقبال على الرياضة، والعناية بالتربية البدنية أو بالبطولة الرياضية.
والإنسان يا ابني محب لنفسه لا يقدم أحداً عليها، فإذا وقف أمام المرآة، ورأى استدارة كتفيه، ومتانة صدره، وقوة يديه كان هذا الجسم الرياضي المتناسق القوي أحب إليه من كل جسد أنثى، ولم يرض أن يضحي به، ويذهب قوته ويعصر عضلاته، ويعود به جلداً على عظم من أجل سواد عيني فتاة، ولا من أجل زرقتهما...
هذا هو الدواء: الزواج، وهو العلاج الكامل؛ فإن لم يمكن فالتسامي، وهو مسكّن مؤقت، ولكنه مسكن قوي، ينفع ولا يؤذي.
أما ما يقوله المغفلون، أو المفسدون، من أن دواء هذا الفساد الاجتماعي هو تعويد الجنسين على الاختلاط؛ حتى تنكسر بالاعتياد حدة الشهوة، وفتح المحلات العمومية؛ حتى يُقضى بها على البغاء السري _ فكلام فارغ، وقد جرَّبَت الاختلاطَ أممُ الكفر؛ فما زادها إلا شهوة وفساداً.(1/169)
أما المحلات العمومية فإننا إذا أقررناها وجب أن نوسعها حتى تكفي الشبان جميعاً، وإذن فينبغي أن يكون في القاهرة أكثر من عشرة آلاف بغيّ؛ لأن في القاهرة (من أصل المليونين ونصف المليون من سكانها) مائتي ألف شاب على الأقل... وإذا نحن جوَّزنا للشباب ارتيادها، فاستغنوا بذلك عن الزواج، فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن محلات عمومية فيها (بغايا) من الذكور؟!
كلام فارغ يا ابني والله، وما تقوله عقولهم، ولكن غرائزهم، وما يريدون إصلاح الأخلاق ولا تقدم المرأة، ولا نشر المدنية، ولا الروح الرياضية، ولا الحياة الجامعية.
إنما هي ألفاظ يتلمظون بها، ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهولون به على الناس، ويروّجون به لدعوتهم، وما يريدون إلا أن تخرج لهم بناتنا وأخواتنا؛ ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن، ويصاحبوهن منفردات في الأسفار، ويراقصوهن متجملات في الحفلات، وينخدع مع ذلك بعض الآباء، فيضحون بأعراض بناتهن؛ ليقال: أنهم من المتمدنين...
وبعد يا ابني فلا تتردد في الكتابة إليَّ إن لم يرضك هذا الجواب، ولا تستح مما تجد من حرّ هذه الشهوة التي ركبها الله في النفس، إنها علامة القوة والأيد والشباب، وعليك بالزواج، ولو أنك طالب لا تزال؛ فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله، والانغماس في العبادة والدرس، وعليك بالرياضة؛ فإنها نعم العلاج.
والحديث طويل، وهذا ما اتسع له مجال المقال، ومن استزادني زدته رسالة إن شاء، أو مقالة إن شاء الناشرون.
من هو الشاب المسلم؟ (1) للعلاَّمة الشيخ محمد الخضر حسين
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزءان السادس والسابع من المجلد الثامن عشر، وانظر الدعوة إلى الإصلاح (ص96_100).(1/170)
في شبابنا من يكتفي في إسلامه أَنْ ينشأ في بيت إسلامي, ويُسَمَّى محمداً، أو مصطفى, ويُعَدُّ عند إحصاء طوائف البلاد في قبيل المسلمين, ولا تَجِدُ بعد هذا فارقاً بينه وبين شاب لا تمت روحه إلى الإسلام بصلة.
وهذا ما بعثني على أن اخترت للمحاضرة موضوع =من هو الشاب المسلم+.
ذلك أَنَّ أنظار حكماء الأمة متجهة إلى بناء مَدَنِيَّةٍ روحُها الإيمان, وجسمها نظم الإسلام, وحليتها آدابه السامية التي ما زالت ولن تزال في صفاء وضياء, فوجب أَنْ تعلم من هو الشاب الذي يصلح لأن يَمُدَّ يده لبناء هذه المدينة، الشامخة الذرى, فنقول:
الشاب المسلم هو الذي يَسْمُو بنفسه إلى أن يكون مسلماً حقاً, فيقرأ القرآن المجيد بِرَوِيَّة, ويجيل فكره في آياته الزاهرة, حتى يتملأ حكمه البالغة, ومواعظه الرائعة, قال _ تعالى _: [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] العنكبوت: 51 .
والشاب المسلم هو الذي يؤمن بالله من الشرك، أو ما يشابه الشرك, فيعتقد من صميم قلبه أَنَّ الله وحده هو المتصرف في الكون, فلا مانع ولا ضار إلا هو, وبهذه العقيدة السليمة يحمي نفسه من أَنْ تلابسها مزاعم مزرية, ويصغر في عينه كل جَبَّار, ويهون عليه احتمال المصاعب, واقتحام الأخطار في سبيل الجهاد في الإصلاح، والدعوة إلى الحق.
والشاب المسلم هو الذي يدرس سيرة رسول " دراسة يرى بها رأى العين أن تلك المكانة البالغة المنتهى من الحكمة وقوة البصيرة, والنهوض بجلائل الأعمال المختلفة الغايات _ مكانةٌ لا يدركها بشر ليس برسول، وإن بلغ في العبقرية الذروة القصوى, وأنفق في السعي إليها مئات من الأعوام أو الأحقاب.
والشاب المسلم يستجيب لله فيما شرعه من عبادات تقربه إليه زلفى, كالصلوات الخمس بقلب حاضر, ويؤديها ولو بمحضر طائفة لم تذق حلاوة الإيمان, فتنظر إلى المستقيمين بتهكم وسخرية.(1/171)
وضعفاء الإيمان من شبابنا لا يقومون إلى الصلاة في مجالس الملاحدة، وأشباه الملاحدة من المترفين؛ يخافون أن يسخروا منهم، أو تزدريهم أعينهم(1).
والشاب المسلم يعتز بدين الله, فيدافع عنه بالطرق المنطقية, ويرمي بشواهد حكمته في وجه المهاجم له, أو مُلْقِي الشبه حوله, وإن كان ذا سلطان واسع وكلمة نافذة.
وضعفاء الإيمان من شبابنا تتضاءل نفوسهم أمام أولئك الطغاة, ويقابلون تهجمهم على الدين بالصمت, وربما بلغ بهم ضعف العقيدة أن يجاروهم فيما يقولون, وسيعلم الذين يشترون رضا المخلوق بغضب الخالق أي منقلب ينقلبون.
والشاب المسلم يذكر في كل حين أن أمد عمره غير معروف, ويتوقع انقطاعه في كل يوم, فتجده حريصاً على أن لا تمر ساعة من ساعات حياته دون أن يكسب فيها علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً.
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يداً ... ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري
والشاب المسلم إذا وكل إليه عمل أقبل عليه بنصح, وتولاه بأمانة, ذلك بأنه يشعر بأن الرجال إنما يتفاضلون على قدر إتقانهم للأعمال, ويشعر بأنه مسؤول عما ائتمن عليه بين يدي من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والشاب المسلم ينظر بنور الله, فلا يسارع إلى تقليد المخالفين, ومحاكاتهم في عاداتهم، وأساليب مدنيتهم وإن لم تقم على رعاية مصلحة.
وضعفاء الإيمان يحرصون على أن يقلدوهم في كل شيء، ولو خالف آداب الشريعة, كمن يمسك السكين باليمين عند الأكل والشوكة بالشمال, ويتناول بها الطعام مخالفاً لآداب الشريعة الغَرَّاء.
__________
(1) يقول هذا الكلام × في وقت ضعفٍ وهزيمة به حيث كان الواحد يستحيي أن يصلي بحضرة أناسٍ ممن ذكروا، أما الآن _ بحمد الله _ فالمساجد في كثير من بلاد المسلمين ملأى، والذي لا يصلي هو المنبوذ الجدير بالاستحياء والاستخفاء(م).(1/172)
والشاب المسلم يؤمن بأَنَّ النظم الإسلامية الاقتصادية أرقى نظم يسعد بها البشر, ويدركون بها حياة مطمئنة آمنة؛ فمن يعتقد أَنَّ الربا _ مثلاً _ من الوسائل التي تتسع بها الثروة، وينتقل بها الناس من فقر إلى غنى _ فقد وقف بهذا الرأي محارباً لله ورسوله, ولا يزيده ما يرتكبه في تحريف نصوص الشريعة عن مواضعها إلاَّ ضلالاً.
والشاب المسلم لا يجعل أحكام الشريعة تابعة لهواه وشهواته, فيأخذ في تأويل نصوص الشريعة والتلاعب بقواعدها، حتى يزعم أنها موافقة لهواه, كمن يحاول أن يكون لسفور النساء وتبرجهن، واختلاطهن بالرجال غير محظور شرعاً، يزعم هذا لينظر إلى بنات المسلمين وأزواجهن بملء عينيه، أو يتصل بهم دون أن يسمع كلمة إنكار.
والشاب المسلم لا يسعى لمجالسة الجاحدين إلاَّ أن تدعوه إلى ذلك ضرورة؛ فإن علامة حياة القلب بالإيمان تألُّمُه من سماع كلمة تهكم أو طعن في الدين.
وقد دَلَّ التاريخ والمشاهدة أن الزنادقة إن لم يطعنوا في الدين أو يتهكموا بالمؤمنين صراحة لم يلبثوا أن يطعنوا فيه أو يتهكموا به رمزاً وكناية.
ثم إنَّ الملحد أيها الشاب المسلم لا تجد في خلقه وفاءاً, ولا في مودته صفاءاً, إلاَّ أن تسير سيرته, وتحمل بين جنبيك سريرته.
والشاب المسلم يمثل سماحة الإسلام, وفضله في تهذيب النفوس, وأخذها بأرقى الآداب؛ فإذا جمع بينه وبين المخالفين المسالمين عمل لمصلحة وطنية عاشرهم برفق وإنصاف, وإذا دارت بينه وبينهم محاورة في علم أو دين اكتفى بتقرير الحقائق, وإقامة الحجة, وطَهَّرَ لسانه أو قلمه من الكلمات الجافية, وأخفى ما قد يقع في نفسه من غيظ.
والتجملُ بالأناة، وحسن السمت, ولين القول قد يجاذب النفوس الجامحة عن الحق, ويخطو بها الخطوة الأولى إلى التدبر في الحجة.(1/173)
والشاب المسلم يعمل ليرضي ربه, ولا يحفل بأن تكون له وجاهة عند رجال الدولة؛ فإذا وجد أمامه أمرين أحدهما يرضي الخالق, وثانيهما يُقِرِّبه من ذوي السلطان درجة اختار أولهما؛ فإن آثر رضا السلطان على رضا الله فليتفقد مقر إيمانه, فعساه أن يهتدي إلى المرض الذي طرأ على قلبه, فليلتمس له دواء ناجعاً, وإنما دواؤه الناجع أن يعلم أن الله يمنعه من ذوي السلطان, وأن ذوي السلطان لا يمنعونه من الله.
والشاب المسلم قد تقتضي عليه ظروف خاصة بأن يسكت عن بعض ما هو حق, ولكنه إذا تكلم لا يقول إلاَّ الحق.
والشاب المسلم لا يزن الناس في مقام التفاضل بما يزنهم به العامة، من نحو المال أو المنصب, وإنما يزنهم بما يزنهم به القرآن المجيد، والعقل السليم من ورائه, أعني العلم النافع والسيرة النقية الطاهرة, كما قال _ تعالى _: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ]الحجرات: 13.
والشاب المسلم يكسب المال، ليسد حاجات الحياة, ويحيط نفسه بسياج من العفاف والكرامة, ويَأَبى أَشَدَّ الإباء أن يسعى له من طريق الملق، وإراقة ماء الوجه.
والذي يبذل ماء مُحَيَّاه ولا يبالي أن يقف موقف الهوان هو الشخص الذي فَقَدَ أَدَب التوكل على الخالق جُلَّ شأنه, وزَهَدَ في ثوب العزة الذي ألبسه إياه بقوله: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]المنافقين: 8.
والشاب المسلم لا يرفع رأسه كبراً وتعاظماً على الطيبين من الناس, وإن كان أغزر منهم علماً, وأعلى منصباً، وأكثر مالاً, وأوسع جاهاً.
وإنما الكبر والتعاظم مظهر قذارة في النفس توحي إلى أَنَّ من ورائها نقائصَ أراد صاحبها أن يوريها عن أعين الناس بهذه الكبرياء.
والشاب المسلم يرفع رأسه عزة على من يَعُدُّون تواضعه خِسَة في النفس أو بلاهة في العقل, حتى يريهم أَنَّ الإيمان الصادق لا يلتقي بالذلة في نفس واحدة.(1/174)
والشاب المسلم إذا رأى منكراً يفعل نهى عنه, وإذا رأى معروفاً يترك أمر به, ولا يقول كما يقول فاقدوا الغَيْرَة على الإصلاح: ذلك شأن رجال الدِّين يعنون أرباب العمائم الخاصة.
والدين لم يَقْصُرْ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طائفة تسمى رجال الدين، بل أوجب الأمر بالمعروف على كل من عرف أنه معروف، وأوجب النهي عن المنكر على كل من عرف أنه منكر، لا فرق بين الشاب والشيخ، والمتعمم وحاسر الرأس.
سادتي: هذه كلمة سقنا فيها مُثُلاً من السيرة التي تجب أن يكون عليها شباب الإسلام, وإذا هم نحروها رشداً وثقنا بأن لنا أمة تستطيع أن تقف أمام كل قوة، وهي على ثقة بأن تجد من الله ولياً نصيراً.
يا شباب العرب !(1) للأديب مصطفى صادق الرافعي
يقولون: إن شباب العرب شيخوخة الهمم والعزائم، فالشبان يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون.
وإن اللهو قد خفَّ بهم حتى ثقلت عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات.
وإن الهزل قد هوَّن عليهم كل صعبةٍ فاختصروها؛ فإذا هزؤوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة....
وإن الشابَّ منهم يكون رجلاً تاماً، ورجولةُ جسمه تحتجُّ على طفولة أعماله.
ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبداً تبعة أمر عظيم.
ويزعمون أن هذا الشباب قد تمَّت الألفةُ بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه.
وأنه أبرع للغرب في الرذائل خاصة؛ وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصوراً في طعامه وشرابه ولذته.
ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جنديٍّ أجنبي فاتح...
ويتواصَوْن بأن أولَ السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة...
ويقولون: إنه لا بدَّ في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوربا، ورذائل أوربا.
يا شباب العرب ! مَنْ غَيْرُكم يُكذِّب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين؟
__________
(1) من كتاب وحي القلم 2/230_233.(1/175)
مَنْ غيرُ الشباب يضع القوة بإزاء هذا الضعف الذي وصفوه؛ لتكون جواباً عليه؟
مَنْ غيركم يجعل النفوس قوانينَ صارمة، تكون المادة الأولى فيها: قَدَرْنا لأننا أردنا؟
ألا إن المعركةَ بيننا وبين الاستعمار معركةٌ نفسية، إن لم يقتل فيها الهَزْلُ قتل فيها الواجب !
والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق.
الشباب هو القوة؛ فالشمس لا تملأُ النهار في آخره كما تملؤه في أوله.
وفي الشباب نوع من الحياة تظهر كلمة الموت عنده كأنها أختُ كلمة النوم.
وللشباب طبيعة أول إدراكها الثقة بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم.
وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها، وبعد ذلك لا تصنع الأشجار كلها إلا خشباً...
يا شباب العرب ! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا .
أنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدنية الأوربية، تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك.
إن هذا الشرق حين يدعو إليه الغرب، [يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ] الحج: 13.
لَبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولَبئس العشير إذا جاء برذائله وأطماعه.
أيها الشرقي ! إنَّ الدينار الأجنبيّ فيه رصاصةٌ مخبوءة، وحقوقنا مقتولةٌ بهذه الدنانير.
أيها الشرقي ! لا يقول لك الأجنبي إلاَّ ما قال الشيطان: [وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي]إبراهيم: 22.
يا شباب العرب ! لم يكن العسيرُ يَعسُر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها.
أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملاً من أعمال الخالق.
غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي.
وعلَّمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عَظَمَتَه وكبرياءه.(1/176)
واخترعهم الإيمان اختراعاً نفسياً، علامته المسجلةُ على كل منهم هذه الكلمة: لا يَذِل.
حين يكون الفقر قلة المال يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب.
ولكن حين يكون فقر العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يعتني، وتنبعثُ القوةُ، وتعملُ كل موهبة.
وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها تفسِّر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف .
ولكن حين يكون من نقص الحياة الآخرة وعذابها تصبح الكلمة قانون الفضائل أجمع.
هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه.
يا شباب العرب ! كانت حكمةُ العرب التي يعملون عليها: اطلُب الموتَ تُوهَب لك الحياة.
والنفس إذا لم تخشَ الموتَ كانت غريزة الكفاحِ أولَ غرائزها تَعْمل.
وللكفاح غريزةٌ تجعلُ الحياةَ كلَّها نصراً؛ إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرةً مقاتلة.
غريزة الكفاح يا شباب، هي التي جعلت الأسد لا يُسمَّنُ كما تسمن الشاة للذبح.
وإذا انكسرتْ يوماً فالحجر الصَّلْد إذا تَرَضْرَضَتْ منه قطعة كانت دليلاً يكشف للعين أن جميعه حجرٌ صلد.
يا شباب العرب ! إن كلمة(حقيّ) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها.
فالقوة القوة يا شباب ! القوة التي تقتُل أولَ ما تقتل فكرةَ الترَفِ والتخنُّث.
القوة الفاضلةُ المتساميةُ التي تضع للأنصار في كلمة (نعم) معنى نعم.
القوة الصارمة النفَّاذة التي للأعداء في كلمة (لا) معنى لا.
يا شباب العرب اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا.
تاسعاً: مقالان في المرأة
39_ دفاع عن الفضيلة: للشيخ علي الطنطاوي
40_ بين الزوجين: للشيخ علي الطنطاوي
دفاع عن الفضيلة(1) للشيخ علي الطنطاوي
__________
(1) نشرت عام 1946م، انظر كتاب (في سبيل الإصلاح) ص88_94.(1/177)
هال بعض المصلحين منذ سنتين ما رأوا من فشوِّ التبرج والاختلاط في دمشق البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويردُّن الرذيلة الغالبة، وانقاد إليهم الناس؛ لأن الكثرة الكاثرة من أهل دمشق لا تزال متمسكة بدينها، ولا تزال نساؤها في الحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحرقون لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية، والسلائق العربية بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما، وإخراجهنَّ منها وترويعهنَّ، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرجة ووعظها وزجرها...
وقد أنكر العلماء وعقلاء البلد ذلك عليهم، فكفوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط؛ فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره، وكبَّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا، ويبرقون البرقيات ويُرعدون بالخطب، وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب، باسم (الحرية الشخصية) التي تمتع عيونهم بما وراء الحجاب من جمال، وتُنيلهم ما بعد حدود الفضيلة من لذائذ!
أيخرجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور!
أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كل امرئ حرَّاً ولو نقب مكانه في السفينة(1)؛ فأدخل إليها الماء؛ فأغرقها وأهلها؟!
__________
(1) إشارة إلى الحديث المشهور.(1/178)
كذلك فَهَم الحرية هؤلاء الجاهلون، أو كذلك أراد لهم هواهم، وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن الحرية، وهاجوا(1) بعض النواب، فجرب كل واحد منهم أن يتعلم الخطابة في تقديسها، ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة؛ فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين، وأدخلوهم السجون، وجرعوهم كؤوس المهانة، حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى، وصار النساء إذا رأين شيخاً في الطريق شتَمْنَه، وسخرن منه، وتوارى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء، وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم، وحسب أولئك أن الظفر قد تمَّ لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر؛ فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون، وكانت النتيجة أن انحطم السدّ، فطغى سيل الرذيلة وعمّ، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما امتد أيام حكم الفرنسيين الذين هم أفسق الناس.
وهذه حقيقة نثبتها بأسف وخجل، وكانت النتيجة أن ازدادت جرائم التعدي على العفاف، واستفحلت حتى رأيت في المحاكم من يتعدى على عفاف بنته وأخته، ومن يفجر بطفل رضيع، وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت (الحرية الشخصية) غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟
وكانت النتيجة أن دمشق التي تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت في يوم عيد من أعياد الوطن، بنات في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، ترتج نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة.
وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل، وألبست لباس عروس، وركبت السيارة وسط الشباب _ قالوا: إنها رمز الوحدة العربية _.
ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها.
__________
(1) أي هيَّجوا.(1/179)
ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحي ولا يخجل، وأخرى قالوا: إنها رمز سورية الأسيرة قد فكت قيودها، وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلا استغلال العيد الوطني في هدم أركان الفضيلة، وتمزيق حجابها.
وأُخِذَت صور هذا كله؛ فنشرت في الجرائد، وعرضت في السينمات، ثم ازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق حتى رأينا صور رجال منا مع نسائهم على (بلاج) الإسكندرية منشورة في مجلة من المجلات التي لا تدع فرصة فيها تشهير بنا، وفضح لنقائصنا إلا استغلتها، ثم ازدادت الجرأة حتى صارت مجلات دمشق تنشر صور العرايا، فيشتريها الشباب لهذه الصور؛ لأنه ليس فيها ما تشترى له.
ثم... ثم ماذا؟ الله وحده الذي يعلم ماذا يكون _ أيضاً _ وإلى أين يبلغ بنا المسير؟.
وقد نزلت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة لا تصحو من واحدة حتى تحس بالأخرى، وهم يريدون منا مع ذلك أن نسكت وألا نقول شيئاً؛ لئلا نشوِّه (زعموا) جمال العهد الوطني.
كلا، إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة، ويسود الحق، ويحفظ العفاف، كلا، ولا كرامة، إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرْض!.
إنها حياة هذه الأمة: لا تحيا أمة بلا أخلاق، أفئن قامت فئة من العامة بما لا نرضى عنه، وانتهكت حرمة هذا الحرم الأقدس: السينما، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات _ النساء المتبرجات _ نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟!.
إن من الأمور ما يتفق عليه أبناء الملل كلها، وما يلتقي فيه أتباع الأديان جميعاً كما يلتقي سالكو شوارع مختلفة في ساحة من الساحات، ومن ذلك الدعوة إلى العفاف؛ إنها دعوة لا بد منها، فإذا لم يريدوها عن طريق الجمعية الغراء والمشايخ، فلتكن عن طريق غيرهم، المهم أن يجهر بها جاهر ونحن معه مؤيدون له، ومحاربون لمن يحاربه، ونحن نريد الجوهر لا المظهر.(1/180)
ثم ما هذه الحرية التي طبَّلتم لها وزوَّرْتم، وهوَّلْتم وعظَّمْتم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة والديمقراطيَّة، أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة في أن يحوّل مدرسته إلى مرقص؟ أهي حرية الفسوق والعصيان؟.
أهذه هي الحرية المقدسة؟.
إنكم _ أيها السادة _ بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسادكم؟ وإلا فخبّروني أي أمة في الدنيا تصنع هذا الصنيع:
العرب؟ إن العرب أغْيَر الناس على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في ألسنة الأمم تترجم بها!.
المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر، وستر العورة، ولعن الناظر إليها والمنظور!
الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب فعلام تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء، وفيه الرجال والنساء وهو كالموسكي في مصر، والشورجة في بغداد، ما كان قط ملعباً ولا ميدان كرة.
وإن الفرنسيين ينشؤون بيوتاً للهو واللذة، وبيوتاً للعلم، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو، وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما استلمتم أنتم أمرهم كشفتم عن أفخاذهم(1).
الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.
العفاريت؟ الجن؟ فمن إذن؟ أنكون نحن بدعاً في الأمم نأخذ من كل واحدة شرَّ ما عندها، ونريد أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليط من الشرور مركباً تركيباً مزجيَّاً، كحضرموت، إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة!.
__________
(1) وما أستحسن عمل الفرنسيين، ولكن أقيم الحجة على المخالفين.(1/181)
لا، لم أرد أن أنحو في هذا الحديث نحو الخطابيات، ولم أنشئه لأخاطب به العواطف وحدها، ولكن نحوت فيه نحو التدليل والتعليل، وقررت حقائق بأدلتها، وأنا أدعو إلى مناظرتي فيه كل مخالف في رأسه عقل، وفي يده قلم، وفي فمه لسان.
ولم أوجه للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لا أخص مسلماً ولا مسيحيَّاً؛ لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأعراض، ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيرة، ولم يغضب لحرمة فهو كذاب دعي ليس بعربي.
وسيقول ناس من القراء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له؛ إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم.
وهذا كلام لا يناقش ولا يرد عليه، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة، إنما يدفع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل؟.
إنهم حفظوا كلمات فهم يرددونها لا يحاولون فهم معناها، يقولون: رجعيَّة، وما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعاداته؛ فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مصلحاً أو مفسداً؟.
هذه هي الرجعية!.
هي رجوع إلى الدين، أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي، فلا ينكر عليها أحد، ولا يتهمها بالتأخر، ولا يصمها بالجمود، ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحق، فيقول السفهاء: إنا متأخرون جامدون؟.
لا، هذا كثير! هذا كفر بالمنطق، وتعطيل للفكر، وإلحاد في المدينة، هذا شيء نستحي من الأمم أن يكون فينا من يقوله!.(1/182)
ونحن إذ ننتقد شيئاً نبيِّن أضراره، فبينوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به، ولو حملنا معه شيئاً من الضرر، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض، وإن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حُرِّما.
فتعالوا نتناظر!.
إنه لا بد في كل مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان؛ ليعودا إليها، ويرتكزا عليها، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول، فإذا كان المتناظران مختلفين في كل شيء، يرى هذا أن العفاف نافع، فيقول الآخر بل هو ضار، ويدعي هذا أن اتباع الدين واجب فينكر الآخر هذه الدعوى، ويرى هذا العمل على منع الفجور، ويرى ذاك العمل على نشره فلا يمكن أن يكون بينهما كلام؟.
فلنتفق أولاً على الأصول:
هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم شر؟.
هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم شر؟.
هل مراقبة الله، وخوفه وتمسك كل امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟.
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها.
وإنه ليكون غروراً مني وازدراءاً للخصوم والقراء إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شرَّاً، وحاولت إقامة البراهين على أنها خير، وأتعبت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً، وإني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه، وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.
فتفضلوا قولوا، هل هذا الذي نحن فيه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيّعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يقوّضها على رؤوسنا؟ هل يرضي ربنا أم يسخطه علينا؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا؟.(1/183)
وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركةَ الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن يُنتخَب لها الجميلات منهن لا النابغات ولا المجدات ولو كن قبيحات، وإذا لبسن الجوارب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء العيد وتذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء؟.
وإذا حسُن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات، فهل يشترط في هذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟.
لا والله، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي، إنكم لا تريدون الصحة، ولا الرياضة، ولا المشاركة بالعيد، إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة؛ إنكم لصوص أعراض، ولكن ليس الحق عليكم، الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب؛ فنحن عُميان لا نبصر، خُرسان لا ننطق، حمير لا نغار، وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم.
اللهم لقد بلغت، اللهم لقد أنكرت المنكر.
اللهم لا تنزل علينا لعنتك، ولا تحلل بنا غضبك.
بين الزوجين(1) للشيخ علي الطنطاوي
__________
(1) نشرت عام 1948م، انظر كتاب =في سبيل الإصلاح+ ص197_202.(1/184)
يا سادتي ويا سيداتي: قعدت لأكتب هذا الحديث، فما بدأت به حتى هبََّت العاصفة في بيت الجيران، وعلت الأصوات، وزمجر الرجل، وصخب، وولولت المرأة وعيَّطت(1)، وقام الشيطان يهيج للشر ويضحك، ثم هدأت العاصفة فجأة كما هبَّت فجأة، وأعقبها سكون ثقيل، سمعت له دويَّاً في أذنيَّ شغلني عن الكتابة؛ فقمت أنظر من شباكي الذي يكشف مكانهم ويبدي كل ما فيه(2)، أَنْظُرُ ماذا جرى، فإذا الزوج قاعد في ركن المنزل ينظر في جريدته عابساً، ولا أظنه يفقه منها حرفاً، والمرأة في الركن الآخر تطرِّز ولا أحسبها تلقي لتطريزها بالاً، وهو يندب حظه يحسب أنه وحده الخائب في زواجه، وهي تبكي جدّها تحسب أنها وحدها التي فقدت سعادتها، ورأيت الولد قد ملّ هذا السكون، فمشى إلى أبيه خائفاً يترقب، فقال له: بابا. أعطني شُكلاطة.
فصرخ به زاجراً: قل لأمك: أتريد أن أخدمكم في السوق، وفي البيت، وأن أعمل عمل الرجل والمرأة؟!
فابتعد عنه الولد، ونظر إلى أمه، فصاحت به من غير أن ترفع رأسها عن شغلها: ابتعد عني وإلا كسرت رأسك، أنت أصل السبب، يا ضيعة تعبي، أشقى من الصباح إلى المساء فلا أجد من يقول لي: الله يعطيك العافية!
فهمَّ الرجل بالانفجار، ثم تماسك وتجلَّد، وسكت على غيظ ومضض، ومشى الولد إلى الأريكة فتكوَّم عليها، ودسَّ وجهه في وسادتها، وراح يبكي بكاءً خافتاً متصلاً موجعاً!
__________
(1) =عيط+في الشام: صاح، وفي العربية كذلك =تقريباً+، وفي مصر: بكى.
(2) وهذه بليَّة من بلايا هذه المساكن الجديدة...(1/185)
وعاد البيت ساكناً كما كان، ومرَّت دقائق، لمحت فيها على وجه المرأة ظلال نزاع عنيف في نفسها، بين شفقتها على ولدها، وغيظها من زوجها، ثم رأيتها تثب فُجاءة فتمضي إلى غرفتها وتنشج، ويرفع الرجل رأسه، متعجباً منها، ويضيق صبره على هذه المسرحيَّات تُمَثَّل في بيته وهو يريده بيتاً فيه الهدوء والمحبة، ولا يفهم سرَّ بكائها وهي _ عنده _ الظالمة، فيمضي إليها بعد تردد، حتى يقوم أمام السرير منتصباً مربدَّ الوجه، كأنه القائد العسكري في جنده، أو النائب العام في مقعده، ويقول لها بصوت بارد كالثلج متماسك كالجلمد: وما آخر هذه المساخر؟
وكانت تظنه قد جاء يواسيها في كربتها، ويعطف عليها، ويحاول أن يفهم ألمها، ويزيح همها، فلما سمعت ذلك منه، فقدت عقلها، فصاحت:
مساخر؟ أنتم الرجال ليس عندكم وفاء، ليس لكم قلوب، إنكم...
فنسي أنه أمام امرأة، وأنه أمام زوجة، وحسب أن الذي يقول له الكلام قرن له أو خصم، فأجابها جواب الأقران، وكلمها كلام الخصوم، ولم يبق بينها وبين الطلاق إلا شعرة واحدة.
فذهبت إليهما فصحت بهما: بسّ، انتظروا، قولوا ما هي الحكاية؟
فنظرا إليَّ، وحسباني _ وأنا قريبهما _ عفريتاً قد نبع من الأرض، ففزعا منه، ثم اطمأنَّا إليَّ وعرفاني، وانطلقا يتكلمان بصوت واحد كلاماً متواصلاً متداخلاً، تتلاحق كلماته، كأنه السيل انهدم سدّه فاندفع، أو لسان النار غفلت عنه فاندلع، وما فهمت الحكاية حتى كادت نفسي تزهق...(1/186)
و(الحكاية) التي سببت هذه النكبة، وكادت تهدُّ بيت الزوجية، وتطلق الزوجة، وتشرد الولد، أنه جاء من عمله، فوجد الصبي على الباب، والباب مفتوحاً، وليس عنده أحد يمنعه أن يمشي، فيضل في الحارة، أو تدعسه(1) سيارة أو تلفحه الشمس، أو يصيبه المرض، وتخيل ألف مصيبة قد حاقت بالصبي ونزلت به، فاستحال حبه له حنقاً على أمه التي أهملته، وتركته على شفا الهلاك، ودخل مغضباً محنقاً، وبدأها باللوم قبل السلام، وكانت قد نظفت الدار وأعدت الطعام، ولبست؛ تنتظر وصوله؛ لتسعد بقربه، وتجد مكافأتها في شكره إياها ومسرته منها، فلما رأته مخاصماً تبدد أملها، وخاب ظنها، وسيطر عليها الغضب، حتى أعماها عن حادثة (الباب المفتوح) والخطر المرتقب، فلم تر فيها إلا حادثة تافهة، لم ينشأ عنها شيء، ولم يأت منها ضرر.
وبدأ من هنا الخلاف، وتطاير الشرر.
يا سادتي ويا سيداتي: هذه صورة ترون كل يوم أمثالها، فاسمحوا لي أن أجعل حديثي هذه العشيَّة تعليقاً عليها، وبياناً لها، وليست صورة غريبة عنكم ولا نادرة، بل الغريب النادر أن تخلو دار منها؛ وأنا قاضٍ شرعيٌّ عملي أن أرى دائماً دخائل البيوت، وأن أطلع على أسرار الأسر، فصدقوني إذا قلت لكم: إني لا أعرف زوجين لا يختلفان، ولكن خلاف الأزواج كحريق في كومة من القش ملقاة في رحب الدار، إذا أطفأته أو تركته ينطفئ همد بعد لحظة، وحمل الريح رماده، فلم يرزأك رزءاً، ولم يعقبك أذىً، وإن هجته أو أدنيت منه ثوبك، أو قربته من بيتك أحرق الثوب، وخرَّ البيت.
ولقد كان بيني وبين زوجي خلاف كهذا، فقلت لها: تعاليْ أعينيني على كتابة مقالة.
وكانت هذه المقالات ضرَّتها، فحسبتني أسخر منها، واندفعت تريد أن (تقول)... فما زلت أكلمها بجد، حتى بدا عليها الاهتمام وقالت: وكيف أعينك؟
قلت: تقولين لي كيف يختلف الأزواج؟
__________
(1) دعسته السيارة: وطئته، أما قولهم دهسته، فهو من الغلط.(1/187)
ومضينا نستعرض حوادث الاختلاف بيننا، ونحلِّل أسبابها، فانتهينا إلى الضحك منها.
يا سادة ويا سيدات: إنه قد يكون بين الزوجين اختلاف مفهوم على مال أو عقار، ولكنه نادر، وأكثر الخلاف تافهٌ مضحك، ليس له إلا عندهما قيمة أو خطر، وأنا أفهم أن تهتم المرأة بهذا، وما دامت تريد أن تشغل عقلها كما تشغل يدها، وما دامت لا تجد مشكلة علمية أو أدبية تبحث فيها وليس لها إلا مشاكل البيت، ولكن ما بال الرجل يهتم بها ويبالغ في تقديرها؟
تقولون: كيف نصنع؛ ليسود البيت السلام، ويشمله الهدوء؟
أنا أقول لكم؛ مقالة مجرِّب حكيم، فاستفيدوا إن شئتم من حكمتي وتجربتي.
هذه (أقراص) سهلة البلع، عظيمة النفع، فيها شفاؤكم من هذا الداء:
أولها: أن الزواج يبدأ بالحب والعاطفة، والحب أوله حلاوة وآخره مرارة، فهو يعمي البصر، ويصمُّ الأذن، ويغطي العيوب، فإذا زال الغطاء، ولا بد يوماً أن يزول الغطاء، وبدا المحجوب من العيوب، وظهر المستور من الأمور، وافتقد الزوجان لذة الحب، فلم يجداها _ انتهى شهر العسل، وبدأت سنوات العلقم، فتجرعا العمر كله مرّها، وقاسيا ضرّها.
والدواء ألا يرقب الزوجان المحبة والعشق؛ فالحب عمره كعمر الورد، لا يعيش إلا أمداً قصيراً، ومن طلبه بعد عشر سنين من الزواج كان كمن يطلب من وسط القبر من العظام والرمم _ الغادةَ الحسناءَ، والفاتنةَ الهيفاءَ.
لا، ولكن مودة وإخلاص، وحب كحب الأصدقاء والإخوان(1).
__________
(1) ليس هذا الكلام على إطلاقه (م).(1/188)
وثانيها: أن الرجل يغتفر لصديقه ما لا يغتفر لزوجته، ويحمل منه ما لا يحمل منها، ويتسامح معه فيما لا يتسامح فيه معها، وما ذلك إلا لأنه يصدق هذه الخرافة التي تقول: إن الرجل والمرأة كليهما مخلوق واحد؛ فهو يريد منها أن تفكر برأسه، وهي تريد منه أن يحس بقلبها، مع أن الناس كخطوط مستطيلة وفيها اعوجاج يسير، فإذا كانت متباعدة بدت للعين متوازية متوافقة تضيع من البعد هذه الفوارق الصغيرة بينها، فإذا تدانت وتقاربت بانت الفجوات؛ فأنت تصحب الصديق عشرين سنة فلا ترى بينك وبينه اختلافاً، ثم ترافقه أسبوعاً في سفر تنام معه، وتأكل، وتشرب، فترى في هذا الأسبوع ما لم تره في السنين العشرين؛ فتشنؤه، وتبغضه، وقد كنت تحبه وتؤثره.
والله لم يخلق اثنين بطباع واحدة، لا الصديقين ولا الزوجين؛ فليكن الزوجان متباعدين قليلاً، حتى لا يظهر الاختلاف بينهما، وليكن بينهما شيء من الكلفة والرسميات، كما يكون في عهد الخطبة وأوائل الزواج، ولتكتم عنه بعض ما في نفسها؛ فإنه ما تكاشف اثنان إلا اختلفا.
وما زالت الكلفة إلا زالت معها الألفة؛ لأن المرء يتظرف؛ ليظرف، ويتلطف؛ لِيُلْطَف، ويساير الناس؛ ليحبه الناس؛ فإن لم يفعل ثقل عليهم.
وأنا أعرف رجالاً من أهل النكتة والظرف يحرص الناس عليهم في مجالسهم لخفة أرواحهم، وحلاوة أحاديثهم إذا دخلوا بيوتهم كانوا أجهم الناس وجهاً، وأيبسهم لساناً، وأثقلهم نفساً، وما ذاك إلا لإسقاط الكلفة، وإذهاب المجاملة.
وثالثها: أن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساء في أحسن حالاتهن قد طلين وجوههن، وجمَّلن ثيابهن، ثم يدخل داره، فيرى زوجه على شرِّ هيئة، وأقبح صورة: مصفرة الوجه، قذرة الثوب، منغمسة في أوضار المطبخ أو غارقة في غبار الكنس؛ فيظن أن نساء الطريق من طينة غير طينتها، وأن عندهن ما ليس عندها، فيميل إليهن وينصرف عنها.(1/189)
والدواء أن تكون المرأة عاقلة، فلا تجعله يراها إلا في الهيئة التي تخرج فيها من بيتها، وتستقبل عليها ضيفها، ولا تدعه يبصرها نائمة(1) ولا يراها بغير زينة، ولا يطلع عليها في مباذلها وأعمالها.
ورابعها: أنه لا بد من كل شركة أو جماعة من رئيس، فإن كان في المركب رئيسان غرق المركب، ولو كان في السماء والأرض إلهان فسدت السماء والأرض؛ فلا بد من ترئيس أحد الزوجين والرجوع عند الاختلاف إلى رأيه، واعتراف الثاني برياسته، وعلى الرئيس بعد أن يكون حاكماً بعدل ورفق، وعلى المرؤوس أن يكون طيِّعاً بفهم واحترام.
وخامسها: أنه لا بد لدوام المودة من اغتنام الفرصة؛ لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه: هدية ولو صغرت، وطرفة ولو قلَّت، واهتمام منها بصحته وراحة نفسه، ومطعمه، وملبسه، وكتبه، وأن يصبر كل منهما على غضب الآخر وتعتبه.
يا سادة: إن مشكلات البيت هيِّنة سخيفة، ولكنها إن استفحلت نغَّصت العيش، وسوَّدت وجه الدنيا، ولم ينفع معها ملك ولا مال؛ فلقد كان الامبراطور نابليون الثالث يجد من مكارهها ما لم ينجه منه ملكه، وكان الرئيس لنكولن يلقى من متاعبها ما لم يخلصه منه سلطانه، وإني لأستأذن السيدات المستمعات بأن أختم هذا الحديث بكلمة لامرأة مثلهن هي (آن شرر). قالت:
=إن بين كل عشر نساء تسعاً يحرصن على مضايقة الرجل، وتنكيد عيشه ولهن إلى ذلك وسائل لا تحصى، وهن يعتقدن أنه لا عمل للرجل إلا الثناء على جمالهن يومه كله، وامتثال أوامرهن، وإجابة رغباتهن، وإذا رأينه مقبلاً على قراءة أو كتابة أو عمل له اقتحمن عليه مكتبه، ونفضن في وجهه من المنغَِّصات ما يحيل عزلته سجناً، وحياته جحيماً+.
فيا سيداتي المستمعات: أرجو أن لا تكون فيكنَّ واحدة من هؤلاء!
__________
(1) وجدت هنا لما جئت المملكة ودرست في جامعاتها وجدته في بعض كتب الفقه الحنبلي ولعله كتاب (الإنصاف) فعجبت من بعد نظر مؤلفه، ومعرفة بأسرار النفوس.(1/190)
عاشراً: مقالات في السياسة والاجتماع
41_ الصراع بين الإسلام وأعدائه: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
42_ ذوق صحفي بارد: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
43_ العرب المسلمون في كراسي الحكم: للعلامة محب الدين الخطيب
44_ أيها المسلمون: للأديب مصطفى صادق الرافعي
45_ الحرية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ العلماء وأولو الأمر: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
47_ الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً: للأستاذ عبدالباقي
نعيم سرور
الصراع بين الإسلام وأعدائه (1) للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
الصراع بين الحق والباطل قديم, كان منذ خلق الله البشر، وجعل للأهواء حظاً من السلطان على نفوسهم.
ومن فروع هذا الصراع الصراع بين الإسلام والكفر؛ فقد صرع الإسلام في عُنْفُوان قوّته السماوية الأولى كل ما كان قائمًا من الأديان والنحل الباطلة، ومزّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطّية على العقول، حتى استقرّ في قرارة من النفوس والأقطار, وضرب بجرّانه في القطعة العامرة من أرض الله.
وأصبح برهانه لائحاً, وبيّناته واضحة, وقوّته غالبة، فإما مسلم وإما مُلْقٍ بالسلم.
و من كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمةً باقية في أهله تتوجّه إلى الضال، ليهتدي وإلى المهتدي؛ كي لا يضلّ.
__________
(1) مجلة =الإخوة الإسلامية+, العدد العاشر, السنة الثانية, بغداد, 1شوال 1373هـ الموافق 2جوان 1954م, وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي جمع وتقديم نجله: د. أحمد طالب الإبراهيمي 4/284_287.(1/191)
فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال، وما خالط عزائمهم من وهن, ثم تلاشت بتفرّقهم فيه، واشتغالهم بالجدل الداخلي، وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم, وبعدهم عن منبع هدايته الأولى _ هاجت عليهم دعاياتُ الأديان الأخرى، وما تفرّع عنها من مذاهب مادية تُغْري بالمادة وتؤلّهها، ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمُرُوْقِ من الدين، وَخِلْع رِبْقَته, ثم تشعّبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين: واحدة تسعى سعيها, وتبذل وسائلها؛ لفتنة المسلم عن دينه وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث.
والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها.
وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين؛ لما يصحب الشباب من قوّة الإحساس, وسرعة التأثّر, وتأجّج العاطفة, والميل إلى الانطلاق.
والشعبتان معاً تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين _وهم قوة في العدد_ عن دينهم وهو مناط قوّتهم الروحية؛ ليتم للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين, واستغلال خيرات أوطانهم.
ومَنْ ظنّ مِنْ عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليستْ مدبرة, وليست منظمة, وليست متعاونة متساندة, وليست مُرْصَدةً لوقتها، وراميةً إلى هذا الهدف, من ظنّ هذا فأقل درجته أنه مغفل جاهل مغرور.(1/192)
ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم, وكانت لهم دعاية منظمة يمدّها الأغنياء بالمال, والعقلاء بالرأي, والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية, وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي إسعاد الانسانية وتحقيق السلام بين البشر, والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم, وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم, لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن لكانوا اليوم فيصلاً بين الكتلتين المتطاحنتين, وحاجزاً حصيناً بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة التي لا تبقي على بر ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر.
بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لو كان للإسلام دعاةٌ فاهمون لحقيقة الإسلام, محسنون للإبانة عنها ولعرضها على العقول _ لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر, الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه؛ لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية, ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية ولم تقم الموازين القسط بين طبقاتهم, ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم, ولم تغرس المحبة بينهم؛ فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه الأحوال.
وفي الإسلام مايقوم بذلك كله, ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره حَكَماً تُرضى حكومتُه لو وجد من يدعو إليه على بصيرة، ويبيّن حقائقه, ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم, وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم.
والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة, وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم.
فمن سننه أن مَنْ لم يُدافِع دُوفع, وأن مَنْ لم يُهاجِم هُوجم, وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل.(1/193)
ولم يَمْضِ عليهم زمن تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن؛ فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية, والبوذية, والوثنية, بجميع ألوانها, والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت أَلْباً على المسلمين والإسلام, متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق، صادرة في ذلك عن عهد وميثاق، يسند بعضُها بعضاً، ويُقْرِض بعضُها بعضاً العون والتأييد, وإن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي الساسة الطامعين, والقساوسة المتعصّبين, والملاحدة المستهترين حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره, وهو أنهم قوةٌ متحدةٌ لحرب الإسلام يشارك فيها ذو الدين بدينه, وذو المال بماله، وذو العقل بعقله، ويشارك فيها الساكت بسكوته.
لانلوم هؤلاء الأقوام على مايُسِرون من عداوة الإسلام وما يعلنون, ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون؛ فما اللوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن ابتلوا سرائرنا وامتحنوا ضمائرنا؛ فوجدوها عوراتٍ ومنافذَ خاليةً من الحراسة التي يعرفونها عنا, ومن المناعة التي يتوقّعونها منَّا؛ فسدّدوا الغارة على ديارنا, فاكتسحوها, وشدّدوا الحملة على خيرات أوطاننا, فاستباحوها, ثم شنّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا؛ ليمسخوها؛ إذ بذلك وحده يضمنون التمتّع بخيراتنا, والتلذذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك؛ فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار تاريخه, فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوّتاً للعز والسلطان, ومقيدًا للشهوات في اتّباع الشيطان, أو مانعاً من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان.
وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلط والشهوة, ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى.(1/194)
وهم بعد ذلك عَمُون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع, ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عِزٍّ بالله وعدل في أحكامه بين عباده؛ رحمة بهم وإحساناً, وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا, ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة, وعلى إهمال الدعوة لدينهم, والعَرْض لجماله ومحاسنه, وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتَأَلِّبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم, حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عوناً لها على هدم ديننا, ومَحْوِ فضائلنا, والقضاء على مقوّماتنا؛ فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم, وكأن الأمر لا يعنيهم وكأن الدين ليس دينهم, وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمرّ لا يبقي لهم عِرْضًا، ولا مالاً، ولا متاعاً.
وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يُعِينَ الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله, وكأنه يقلّد عدوّه سلاحا قتالاً يقتل به دينه وقومه, ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوّه: اقتلني به.
إننا لا نكون مسلمين حقًا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوشَ المُغِيرةَ علينا وعلى ديننا تارة باسم العلم, وتارة باسم الخير والإحسان, وأخرى باسم الرحمة بالإنسان _ إلا إذا علمنا ما يراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات, وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية, وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية.(1/195)
ولا يتم لهذا الشأن تمامٌ إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله, وإلى دينه الإسلام على أساس قوي من أحجار العالم الربّاني, والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه, والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله, والغني المستهين بماله في سبيل دينه, ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب, إلى المسلم الضالّ قبل الأجنبي, فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين, وأرجعتهم إلى ربّهم, فاتصلوا به, فتمسكوا بكتابه وهدي نبيّه, وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه _ كنا قلّدناهم سلاحاً لا يُفَلّ, وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة, وحصانة أخرى مادية ملازمة لها لا تهزمها الجموع المجمَّعة ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم, وتصلح فاسدهم, تبتدئ من البيت، وتجاوزه إلى الجار والقرية, حتى تنتظم المجتمع كله.
فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتِها الصحيحة، وجاء نصر الله والفتح؛ ربطاً للوعد بالإنجاز, ووصولاً إلى الحقيقة على المجاز.
و يومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها؛ فلا مذهب إلا مذهب الحق, ولا طريق إلا طريق القرآن، ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو، و لا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير, ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب.(1/196)
لا يأس من روح الله؛ فهذه مخايل نصر, وهذه مبشرات القطر, وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية, وهؤلاء عُصُبٌ من علماء الإسلام قائمون بإحياء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية، ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام تفتّحت بصائرهم على نوره يحملون ألسنة قوّالة للحق, وعقولاً جوّالة في ميدان الحق، وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد, وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد؛ فما على القاعدين إلا أن ينضمُّوا, وما على الغافين إلا أن يهتموا, ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيّدوا, وما على الغافلين عن ذاك الشر المستطير إلا إن ينتبهوا إلى هذا الخير؛ فيعملوا على نمائه وبقائه.
وإن أثمن هدية يقدّمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق، والاقتداء بأهل الحق.
ذوق صحفي بارد(1) للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
تعاني فلسطين =المجاهدة+ محنة لا تُحلُّ إلا بعزائم وعقائد وإيمان تظاهرها أموال ورجال، على كثرة مصائبها وتفاوت تلك المصائب في الشدة والنكاية والإيلام، فإنَّ أشدَّ تلك المصائب، وأوجعها إيلاماً، تَحَذْلُق بعض الأقلام في تسميتها بـ=الشهيدة+كأنما تنعاها قبل الموت، ونَعِيق بعض الغربان البشرية بأخبار الهزائم وتسويد بعض الصحف لأطرافها حداداً عليها.
ما هذه التفاهة في الذوق أيها الصحفيون! أماتت فلسطين حتى تصفوها بـ=الشهيدة+وتجلّلوا صحفكم بالسواد حداداً عليها؟.
إن لم يكن فعال فليكن حسن فأل.
إن فلسطين حية، ولكنها تجاهد، ومأزومة، ولكنها تكابد، ولفألكم الخيبة.
أتدرون أن ذوقكم هذا لا يحلو إلاَّ لخصوم فلسطين؟
العرب المسلمون في كراسي الحكم(2)
للعلامة محب الدين الخطيب
__________
(1) البصائر العدد 35السنة الأولى من السلسلة 1948، وانظر الآثار 2/199.
(2) مع الرعيل الأول ص214 _ 216.(1/197)
لقد شوَّهت الحزبيات السياسية القديمة، والعصبيات المذهبية الآثمة جمالَ تاريخنا _ من بدء تدوينه إلى الآن _ بما عبثت به من حقائق، وما دفنته من مزايا وسجايا وفضائل، وما ابتكرته من أكاذيب، وما صرفته عن وجهه من المعاذير، حتى صار الذين لا يساوون عند الله جناح بعوضة يتطاولون بالنقد، والتنقيص، والثلب، وقلة الأدب على مقامات عظماء من الصحابة الذين قام الإسلام على عواتقهم، وسقيت تربة بلاده بدمائهم، وكان دخول أوطاننا في كيان العروبة والإسلام بعض حسناتهم كما يتطاولون على مقامات عظماء من علماء التابعين وسادتهم وقادتهم وولاتهم ممن نتمنى الآن _ عند دراستنا تراجم حياتهم _ لو أن الإنسانية كلها ترزق مثلهم أو أقل منهم في هذا العصر الذي نتبجَّح، فنتشدَّق بتقدمه الصناعي، بينما حكماؤه وعظماؤه يُنْحُون بالمذمة على انحلال المبادئ في أهله، وغلبة الشرور في أفراده وجماعته.
إن المموّهين والمشوّهين من مدوني الأخبار المتقرّبين إلى حكام كل عصر بذمّ خصومهم والسابقين لهم _ قد حقنوا قلوب الناس جميعاً بالكراهية والبغضاء لمثل مروان بن الحكم، بل لمن هم أعظم منه مقاماً وفضلاً ونبلاً كالخليفة الراشد صهر رسول الله عثمان بن عفان؛ فكان ذلك سبباً في صدّ الأطفال والتلاميذ _تبعاً لآبائهم وأساتذتهم _ عن معرفة ما كان عليه سلفنا من فضائل؛ لأن ما دسه الإخباريون في سيرتهم من أكاذيب قد ابتعدت بسيرتهم عما كانت عليه في الوقائع، فعرضت على أنظار الناس كما أراد شانؤوهم أن يصوّروهم للناس...
ولأجل أن تعرف مروان بن الحكم _ مثلاً _ كما كان في الواقع، ننقل هذه الحادثة من تاريخ حياته، ونشير على القارئ أن يبحث في ذاكرته عن أحب الشخصيات إليه ممن تبوَّأوا مقاعد الحكم في أيّ عصر، ولينظر هل بلغ من أحدهم أن يصدر عنه مثل العدل الباهر الذي صدر عن مروان بن الحكم فيما سنقصه من خبره؟(1/198)
قال أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني (13: 76 بولاق) أخبرني محمد ابن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيد أن عبدالرحمن بن الحكم _وهو أخو مروان لأبيه وأمه_ لطم مولى لأهل المدينة حنَّاطاً، وكان مروان يومئذ والياً على المدينة وله فيها الأمر والحكم، فشكا الحنَّاط عبدَالرحمن بن الحكم إلى أخيه مروان، فما كان من الأمير إلا أن أجلس أخاه _وهو النبيل الشاعر الوجيه_ بين يديه إلى جانب العبد الحنَّاط وقال للحنَّاط: الطمه كما لطمك!
قال الحنَّاط: والله ما أردت هذا، وإنما أردت أن أعلمه أن فوقه سلطاناً ينصرني عليه. وقد وهبتها لك.
قال مروان: لست أقبلها منك؛ فخذ حقك!
قال الحناط: والله لا ألطمه، ولكني أهبها لك.
قال مروان: إن كنت ترى أن ذلك يسخطني عليك فوالله لا أسخط فخذ حقك!
فعاد الحناط إلى قوله: قد وهبتها لك، ولست والله لألطمه.
فقال الأمير: لست والله قابلها، فإن وهبتها فهبها لمن لطمك، أو لله _عز وجل_.
فقال: قد وهبتها لله _ عز وجل _.
وبذلك انتهت جلسة القضاء والحكم.
ونحب أن يعلم القارئ أن عبدالرحمن بن الحكم من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، وقد علمت أن أخاه أمير المدينة، وأزيدك أن ابن عمه الخليفة بدمشق، وأنه هو نفسه من كبار شعراء قريش.
فإذا كان العدل القائم سلطانه في تلك الدولة قد أوقفه هذا الموقف من حنَّاط معدود في موالي أهل المدينة _ أي عبيدهم _ فإن مكانة عبدالرحمن بن الحكم في ذاته أباحت له أن يقول لأخيه الأمير في مثل ما يكون بين الأخ وأخيه:
وكلُّ ابنِ أمٍّ زائدٌ غيُر ناقصٍ ... وأنت ابنُ أمٍّ ناقصٌ غيرُ زائدِ
وهبت نصيبي منك يا مروَ كلَّه ... لعمروٍ وعثمانَ الطويلِ وخالدِ(1/199)
ولكن الأخ الذي كانت له هذه الدالة وهذه الجرأة على أخيه في البيت، كانت له _ في نظام الحكم الذي كان للعرب في صدر الإسلام _ تلك الطاعة التي رأيناها منه يوم أوقفه أخوه في موقف العدل وهو ينتظر أن تقع اللطمة على وجهه من كفّ العبد الحنَّاط الذي يمثّل أحطَّ طبقات الناس في المجتمع.
أيها المسلمون !(1) للأديب مصطفى صادق الرافعي
نهضت فلسطين تَحِلُّ العقدة التي عُقِدَت لها بين السيف، والمكر، والذهب.
عقدةٌ سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحرِّ قتلٌ وتخريبٌ، وفقر.
عقدة الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعد الكذب، والفناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة.
أيها المسلمون! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام، يريدون ألاَّ يثبت شخصيته العزيزة الحرة.
كل قرش يُدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك؛ ليجاهد هو أيضاً.
أولئك إخواننا المجاهدون، ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد.
أولئك إخواننا المنكوبون، ومعنى ذلك أنهم في نكبتهم امتحانٌ لضمائرنا نحن المسلمين جميعاً.
أولئك إخواننا المضطَهَدون، ومعنى ذلك أن السياسةَ التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرار للذل؟
ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسماً آخر لمروءة سائر إخوته أو مذلتهم؟
أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك؛ ليفرض على السياسة احترام الشعور الإسلامي.
ابْتَلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين: من ذل الماضي، وتشريد الحاضر.
ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم، والأخرى من رذائلهم.
ويخبؤون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقليَّة، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود.
في أنفسهم الحقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيماً؛ لأنه في أيديهم.
أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك؛ ليتكلم كلمة تردُّ إلى هؤلاء العقل.
__________
(1) وحي القلم 2/240_243(1/200)
ابتلوهم باليهود يمرُّون مرور الدنانير بالربا الفاحش في أيدي الفقراء.
كل مائة يهودي على مذهب القوم يجب أن يكون في سنة واحدة مائة وسبعين...
حسابٌ خبيث يبدأ بشيء من العقل، لا ينتهي أبداً وفيه شيء من العقل.
والسياسة وراء اليهود، واليهود وراء خيالهم الديني، وخيالهم الديني هو طردُ الحقيقة المسلمة.
أيها المسلمون ! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك؛ ليثبِّت الحقيقة التي يريدون طردها.
يقول اليهود: إنهم شعبٌ مضطهد في جميع بلاد العالم.
ويزعمون: أن من حقهم أن يعيشوا أحراراً في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم...
وقد صنعوا للإنجليز أسطولاً عظيماً لا يسبح في البحار، ولكن في الخزائن...
وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا.
ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمكنسةٍ أيها اليهود؟
أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.
قوةٌ تخرج سلاحها بنفسها؛ لأن مخلوقها عزيز لم يوجد، ليؤكل، ولم يُخلق؛ ليَذلّ.
قوةٌ وراء قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم، ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر.
لو سُئلتُ ما الإسلامُ في معناه الاجتماعي؟ لسَألتُ: كم عدد المسلمين؟ فإن قيل: ثلثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلثمائة مليون قوة.
أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون؟ إن هذا الشِّبعَ ذنبٌ يعاقب الله عليه.
والغني اليوم في الأغنياء الممسكين عن إخوانهم هو وصف الأغنياء باللؤم لا بالغنى.
كل ما يبذله المسلمون لفلسطين يدل دلالاتٍ كثيرة، أقلها سياسة المقاومة.
كان أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك، فافتحوا أنتم أيديكم.
كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غيرَ مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير والدراهم.(1/201)
لماذا كانت القِبلة في الإسلام إلا لتعتاد الوجوه كلها تتحول إلى الجهة الواحدة؟.
لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت في الحق؟
أيها المسلمون ! كونوا هناك، كونوا هناك مع إخوانكم بمعنىً من المعاني.
أيها المسلمون ! هذا موطنٌ يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئاً سماويَّاً.
كل قرش يبذله المسلم لفلسطين يتكلم يوم الحساب يقول: يا ربِّ، أنا إيمانُ فلان !
الحرية(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرَّة تموء(2) بجانب فراشي وتتمسح بي، وتلح في ذلك إلحاحاً غريباً، فرابني أمرها، وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة، فنهضت، وأحضرت لها طعاماً فعافته، وانصرفت عنه، فقلت: لعلها ظمآنة، فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به، وأنشأت تنظر إليَّ نظرات تنطق بما تشتمل عليها نفسي من الآلام والأحزان؛ فأثَّر في نفسي منظرها تأثيراً شديداً، حتى تمنيت أن لو كنتُ سليمانَ أفهم لغة الحيوان، لأعرف حاجتها، وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مُرْتَجاً(3)، فرأيت أنها تطيل النظر إليه، وتلتصق بي كلما رأتني أتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهم إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي وأسلمت رأسي إلى يدي، وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية؛ فهي تحزن لفقدانها، وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرُّعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعياً وراء بلوغها.
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات المنفلوطي ص127.
(2) المواء: صوت الهرة.
(3) أي مقفلاً (م).(1/202)
وهنا ذكرت أن كثيراً من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصوص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من يفكر في وجهه الخلاص، أو يتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن، ويأنس به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه.
من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته كما كان سعيداً بها قبل أن يصبح ناطقاً مدركاً؟
يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.
صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً؛ ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام.
صنع له هذه الآلة المخيفة، وتركه قلقاً حذراً، مروع القلب، مرتعد الفرائص يقيم من نفسه على نفسه حراساً تراقب حركات يديه، وخطوات رجليه، وحركات لسانه، وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد، ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله! وويح له ما أشد حمقه! وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟
ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها.
لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من القيود _ لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيراً له من حياة لا يرى فيها شعاعاً من أشعة الحرية، ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها.(1/203)
كان في مبدأ خلقه يمشي عرياناً، أو يلبس لباساً واسعاً يشبه أن يكون ظلة تَقِيْهِ لفحة الرمضاء، أو هبة النكباء، فوضعوه في القماط كما يضعون الطفل، وكفنوه كما يكفنون الموتى، وقالوا له: هكذا نظام الأزياء.
كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات.
لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرّاً مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس.
الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر.
الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.
ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثاً جديداً، أو طارئاً غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها مذ كان وحشاً يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار.
إن الإنسان الذي يمدّ يديه لطلب الحرية ليس بمتسوِّل ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقاً من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.
العلماء وأولو الأمر(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
يقصد الإسلام لأن يخرج للناس أمة تجلها القلوب، وتهابها العيون، وإنما تجلها القلوب وتهابها العيون على قدر اعتصامها بهدي الله، وعلى قدر ما تأخذ به من مظاهر القوة والمنعة.
__________
(1) رسائل الإصلاح _ 1/223.(1/204)
ولا تعتصم الأمة بهدي الله، ولا تظهر في قوة ومنعة إلا أن يقيض الله لها علماء، يملأ الخوف من الله قلوبهم، حتى لا يدع فيها للخوف من مخلوق مثقال ذرة، وتظفر مع هذا بولاة يحرصون على أن يقيموا العدل، ويستقيموا على طريق الرشد أكثر من حرصهم على ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم من متاع هذه الحياة.
لهذا عُني الإسلام بأن يكون في الأمة علماء لا يكتمون عن أحد نصائحهم، وأمراء يحبون أن يسمعوا كلمة الحق تتردد في مجالسهم.
والتاريخ الصادق يحدثنا أن بلاد الإسلام قد حظيت بعلماء يزهدون في زهرة الحياة الدنيا، ويبيعونها بكلمة حقٍّ يقولونها؛ ابتغاء أن يكون لها في إصلاح حال السلطان أثر كبير أو صغير.
وحظيت برؤساء يرتاحون لوعظ العالم الأمين، ويسيغونه إساغة الظمآن للماء القراح.
وبمثل هؤلاء العلماء والأمراء تسعد الأمة، ويعظم شأن الدولة.
والتاريخ الصادق قد حدثنا _ أيضاً _ أن في أهل العلم من فَتَنَتْهُ الدنيا بزخرفها، فانطلق يجري وراءها، لا يرعى للحق عهداً، ولا لجانب الله حرمة. وحدثنا أن في الرؤساء من يكون نصيب اللهو والانهماك في الشهوات منه أكثر من نصيب الجد والرُّشْد.
وإذا حدثنا التاريخ عن أمة ذلت بعد عزة، أو دولة سقطت بعد قوة فَتَبِعَةُ الذل والسقوط ملقاة على رقاب أولئك العلماء الذين لا ينصحون، أو الرؤساء الذين لا يحبون الناصحين.
نلقي نظرة على تراجم العلماء، فنجد حالهم مع الأمراء يجعلهم على ثلاثة أصناف:
أولهم: عالم يضع نصب عينه رضا الله، ويهمه أن يسير أولو الأمر في الناس على استقامة، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بمرأى ومسمع منهم غير مبال بأن يقع أمره أو نهيه لديهم موقع الرضا والقبول، أو موقع الكراهة، والإعراض عنه.
قيل لمالك: إنك تدخل على السلطان وهو يظلم ويجور؟ فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام في الحق؟!.(1/205)
والعلماء الذين يقومون بواجب النصيحة للأمراء يختلفون في أساليب وعظهم؛ فمنهم من يسلك طريق الصراحة، ويشافِهُ الأمير بإنكار ما يريد إنكاره على وجه التعيين؛ حيث يرى أن طريق التصريح والتعيين أبلغ وأقرب إلى نجاح الدعوة.
كان السلطان سليم أمر بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن؛ فبلغ ذلك الشيخ علاء الدين الجمالي فدخل على السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً؛ فعليك بالعفو عنهم، فغضب السلطان سليم، وقال للشيخ: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك.
فقال: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي؛ فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم؛ فانكسرت سورة الغضب في نفس السلطان، وعفا عن أولئك الرجال الذين كان قد أمر بقتلهم.
ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح؛ إذ يراه كافياً في إبلاغ النصيحة.
قدم الشيخ أبو بكر بن سيد الناس حاضرة تونس في عهد المنتصر بالله، ولما دخل على الأمير أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] فاستحسن المنتصر قراءته، وقصدَه، وكان ذلك سبب حظوته، ورفع منزلته عنده.
ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة، ويوطِّن نفسه على احتمال كل ما يمكن أن يلاقيه من أذى.
وقد صبر رجال من كبار أهل العلم أيام فتنة القول بخلق القرآن، على ما أصابهم في الدين من أذى، واحتملوا أشد العذاب، مثل نعيم بن حميد الذي توفي في سجن الواثق، وأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتل في عهد الواثق، وأحمد بن حنبل الذي سجن وضرب في عهد المعتصم، ومثل أبي يعقوب البويطي الذي حمل مقيداً من مصر إلى العراق حتى مات في أقياده.(1/206)
ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت، وعدم التعرض للسلطان بأمر أو نهي، ويصح أن يقال: إن هؤلاء قد أخذوا بالرخصة، وليس لهم من قوة الصبر على الأذى ما يحملهم على أن يأخذوا بالعزيمة، ويجاهروا بالدعوة إلى حق أو إصلاح.
وإذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي؛ اتقاء لأذى لا طاقة له به فليس له أن يكتم الحق لمجرد الخوف من أن يجفوه السلطان، أو يبعده من مجلسه، أو يحرمه من ولاية منصب.
ثانيهم: عالم يذهب مذهب العزلة والبعد من ساحات الأمراء؛ حتى لا يقف بين يدي ذي نخوة وتعاظم، ومن هؤلاء من يقول:
إن صحبنا الملوك تاهوا علينا ... واستخفوا كبراً بحق الجليس
فلزمنا البيوت نستخرج العلم ... ونَمْلا به بطون الطُّروس
وملاقاة النخوة والتعاظم ليست عذراً يبيح للعالم القعود عن إسماع الأمراء النصيحة، فقد دخل موسى _ عليه السلام _ على فرعون؛ ليدعوه إلى الحق وكان فرعون متكبِّراً جبَّاراً.
وقد يبتعد العالم عن الأمراء الذين لا يعنون بتنقية ساحتهم من أقذاء النكرات؛ كراهة أن يشاهد منكراً.
وقد يكون هذا الابتعاد حكمة متى عرف العالم أنه لا يستطيع النصح بإزالة ذلك المنكر، وأنه لا يجتني من رؤيته إلا حسرة وأسفاً.
وقد يكون الاقتراب خيراً من الابتعاد متى قصد بالاقتراب إيصالَ النصيحة إليهم، عسى أن تجد أذناً واعية أو نفساً زاكية، وكان أبو الحسن الأشعري يقصد إلى مجالس المعتزلة؛ ليناظرهم، ويقول: هم أولو رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليَّ، فإذا لم أسر إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً بالحجة؟
ثالثهم: عالم يتردد على ساحة الأمراء، ويميل مع أهوائهم، وربما بلغ به الإغراق في ابتغاء مرضاتهم أن يحرِّف أحكام الله عن مواضعها.
ومثل هذا الصنف من العلماء لا يرجى منهم أن يبسطوا ألسنتهم إلى السلطان بنصيحة.(1/207)
ولهذا الصنف جنايات على الدين، وعلى الأمة، وعلى الأمراء أنفسهم؛ أما جنايتهم على الدين فلأنهم يختلقون أحكاماً يلصقونها بالدين وليست من الدين.
وأما جنايتهم على الأمة فلأنهم يسهلون على الولاة السير بالسياسة في طريقة عمياء.
وأما جنايتهم على الأمراء أنفسهم فلأن الأمة إنما تَفْتَحُ صدورها لمحبة أمرائها، وتبذل لهم حسن الطاعة من جميع أفئدتها متى ساروا في رَشَد، وساسوا الناس بقوانين العدل.
ونحن نعلم أن العصور تتغيَّر، وأن مقتضياتها تختلف، ولكن الحق هو الحق، والكرامة هي الكرامة؛ فلا يأتي عصر يفقد فيه الحق جلالَه، ولا يأتي عصر يبيح للعالم أن يداهن السلطان، ولا أن يغمض عن شيء من كرامته.
وإنما هي التربية الدينية الصحيحة تُرِي العالمَ وجهَ الحق مشرقاً؛ فلا يرضى إلا أن يحميه بيده أو لسانه، وتريه منزلتَهُ شامخةَ الذُّرى؛ فيأبى أن ينزل عنها، ولو وضعت الشمس في يمينه، والقمر في يساره.
يحدثنا التاريخ القديم أن بعض المنتمين إلى العلم كانوا يتملقون أولي الأمر من المسلمين، وقد يفتونهم بغير ما أنزل الله، ويحدثنا التاريخ غير القديم أن من المنتمين إلى العلم من يتملق بعض المخالفين الغاصبين، ويرضى أن يكون جسراً يعبرون به إلى قضاء مآربهم التي يكيدون بها الإسلام، والمسلمين.
وقد يسمي هذا العالمُ تَمَلُّقه للمخالفين الغاصبين مُداراة؛ ليقضيَ بعض حاجات شخصية، وربما زعم أنه يقضي بهذا التملُّق مصالح وطنية.
والواقع أن اتصال العالم بالمخالفين الظالمين، وهو يستطيع أن لا يتصل بهم وصمة في عرضه لا يغسلها ماء، وجناية على الدين خاصة، والأمة عامة.
أما أنه وصمة في عرض ذلك العالم فلِمَا عُرِف من أن المخالف الغاصب لا يقبل بوجهه، ولا يضع يدَ الصداقة إلا في يد مَنِ اختبر سرائرهم، ووثق من إخلاصهم له.
وأما أنه جناية على الدين فلأن ذلك الاتصالَ الآخذَ اسمَ الصداقة خروجٌ عن الدين الذي ينهى عن مودة أعدائه.(1/208)
وأما أنه جناية على الأمة عامة فلأن هذا العالم لا يتحامى أن يرضى أولئك المتغلبين المخالفين بالمساعدة على أعمال يفسدون بها على الأمة أمر دينهم أو دنياهم.
ونلقي بعد هذا نظرة في حال الأمراء مع العلماء الذين يجاهرونهم بالنصيحة، أو يؤثرون الحق على أهواء الأمراء، فنجدهم ثلاثة أصناف:
أولهم: أمير تلقى إليه النصيحة فيأخذه التعاظم بالإثم، ويقابل الناصحين بوعيد أو بعقوبة المجرمين.
وقد يدعو بعض الأمراء بعض العلماء إلى حرام، فلا يجيبه إلى ذلك، فيناله بالعقوبة، ويتلقاها العالم بصبر جميل: دعا أحمد بن طولون القاضي بكار ابن قتيبة لخلع الموفق من ولاية العهد للخلافة، فامتنع، فحبسه، وما زال يكرر عليه القول وهو لا يجيبه إلى ذلك، حتى مرض ابن طولون وأمر بنقل بكار من السجن إلى دار اكتُريت له.
ثانيهم: أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظةَ تأتي على غير ما يهوى، ولكنه يهاب مكان العالم؛ فلا يقابله بأذى: استدعى أبو جعفر المنصور عبدالله بن طاوس بن كيسان ومالك بن أنس، فلما دخلا عليه أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاوس، وقال له حدثني عن أبيك، فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله _ تعالى _ في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك أبو جعفر ساعة، قال مالك: فضممت ثيابي؛ خوفاً أن يصيبني دمه، ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة، قال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له لم لا تناولني؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية؛ فأكون قد شاركتك فيها!
فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال: ذلك ما كنا نبغي!
قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم.(1/209)
ثالثهم: تأخذه اليقظة وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق وشكر الدعاة إليه: دخل عز الدين بن عبدالسلام إلى السلطان أيوب نجم الدين وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: لم أبق لك ملك مصر ثم تبيح الخمور! فقال: هل جرى هذا؟ قال: نعم، الحانةُ الفلانية تباح فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
ودخل ابن شهاب على الوليد بن عبدالملك، فسأله الوليد عن حديث: =إن الله إذا استرعى عبداً لخلافة كتب له من الحسنات ولم يكتب له من السيئات+ فقال له: هذا كذب، ثم تلا [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] الآية.
فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
ولما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب طاوس بن كيسان إليه: =إن أردت أن يكون عملك خيراً فاستعمل أهل الخير+.
فقال عمر: =كفى بها موعظة+.
ومن الأمراء الذين كانوا يوسعون صدورهم لنصح العلماء عبدالرحمن الناصر؛ فقد كان القاضي منذر بن سعيد يواجهه بإنكار ما يراه من أعماله منكراً، كخطبته التي ألقاها على مسمع منه في إنكاره عليه الإسراف في الإنفاق على بناء القصور وزخارفها.
ومن مواقف منذر بن سعيد في هذا السبيل دخولُه على الناصر، ومخاطبتُه بالبيتين:
يا بانيَ الزهراء مستغرقاً ... أوقاتَه فيها أَمَا تمهل
لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل
ولم يزد الناصر على أن قال: =إذا سقيت بماء الخشوع، وهب عليها نسيم التذكار، لا تذبل إن شاء الله+.(1/210)
ولقبول الأمراء لنصح العلماء فضل لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الأمراء، فإن النفوس ولاسيما الشاعرة بما لديها من قوة ومقدرة على البطش شأنها النُّفورُ مِنْ أن تُؤْمَرَ بمعروف أو تُنْهَى عن منكر؛ تتخيل أن ذلك الأمر أو النهي يتضمن نسبتها إلى الجهل، أو القصد إلى ارتكاب أمر قبيح؛ فإن تَلَقَّى الأميرُ نصيحةَ العالمِ الأمين، وأساغها على ما فيها من مرارة _ دلَّ ذلك على أنه يُجل الحقَّ، ويبتغي الخير، ويريد أن يفتح لحرية القول باباً طالما أغلقه المستبدون الظالمون.
ولا تبلغ الأمم مراقيَ المنعة والسيادة إلا أن يكون باب الحرية مفتوحاً في وجوه الدعاة المصلحين.
يُقْدِمُ العالمُ الأمينُ على نصح ذي السلطان؛ غيرة على الحق، وحرصاً على أن يكون ذو السلطان كاملَ السيرة طيب السمعة.
وكثير من الأمراء مَنْ يفهم وعظ العلماء على هذا القصد، ويكون في نفسه نزعة إلى الاستقامة؛ فيتلقى الإرشاد بارتياح وشكر.
الأمراء المستقيمون يرتاحون لوعظ أهل العلم، ومنهم من يطلب من أتقياء العلماء أن يزودوه بالوعظ، كما كان عمر بن عبدالعزيز وأمثاله يفعلون ذلك.
يعظ العلماء المستقيمون الأمراء؛ فيساعدونهم على أن يكونوا أمراء راشدين، ويستطيع الأمراء أن يلاقوا العلماء بما يساعدهم على أن يكونوا علماء مصلحين، وسبيل هذه المساعدة أن يُجِلُّوا العلماء، ويُفْهِموهم أنهم يُجِلُّونهم لعلمهم واستقامتهم، ثم إذا استفتوهم في واقعة طلبوا منهم أن يبينوا لهم حكم الله الذي تدل عليه نصوص الشريعة أو أصولها دلالةً تطمئن إليها النفوس.
وإذا استبانوا أنَّ عالماً فقد الخشية من الله، وأخذ يبتغي مرضاتهم بتحريف النصوص أو تلقط الأقوال الساقطة _ عدوه في جماعة المنافقين، وأشعروه بأن مثل هذا النفاق لا يزيدهم عندهم إلا حقارة، ثم كانوا منه على حذر.(1/211)
وبمثل هذه السيرة يصل الأمير العادل إلى أن يرى المعاهد العلمية، والمحاكم الشرعية طافحة بعلماء تزدهر به مملكتُهُ ازدهارَ السماء بالكواكب النَّيِّرة.
الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً (1)
للأستاذ عبدالباقي نعيم سرور
كان النظام الإسلامي ـ يوم كان قائماً ومعمولاً به ـ يحمي بعضه بعضاً؛ فالتكاليف الخاصة بإقامة حكومة عادلة، وبالأخوة الإسلامية، وبالتواصي بالحق والصبر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحماية الدعوة الإسلامية، وصيانة الشريعة من العبث بها، وردِّ عاديةِ المعتدين عليها كان من شأنها أن تحمي التكاليف الفردية، وهي العقائد والعبادات؛ فكل اعتداء يقع على العقائد، أو يصيب العبادات كان يدفع عنهما بما سنه الإسلام من أنظمة؛ حماية الشريعة، وصيانة الملة.
في الإسلام تكاليف موجهة إلى الأفراد، وتكاليف موجهة إلى الأمة، ومجموع التكاليف هو النظام الإسلامي، فالعقائد، والصلاة، والصيام، تكاليف موجهة إلى الأفرادِ، وحمايةُ الشريعةِ وصيانتُها تكاليف موجهة إلى الأمة.
كانت الأمة الإسلامية عزيزة الجانب يوم كانت قائمة بالتكاليف التي وجهت إليها من إعداد العدة، وأخذ الحذر واليقظة، ومن فهم سياسة العدو، ومن إقامة الجهاد، ومن نشر الدعوة الإسلامية، ومن جعل أمرهم بينهم شورى، ومن إقامة حكومة عادلة تسوس أمرهم وتحمي شريعتهم، ومن جعل العلائق بين المؤمنين قائمة على الولاء والمودة، ومبنية على المناصرة والمؤازرة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، وتقرير المساواة.
__________
(1) الحديقة 5/ 182 _ 187، عام 1349هـ(1/212)
كانت هذه التكاليف مطلوبة من الأمة؛ لتكون أمة قوية عزيزة ذات حكومة شورية عادلة، وكان مما طولبت به الحكومة ـ التي هي نائبة عن الأمة في القيام به ـ حماية الشريعة، وصيانة الملة من هجوم الهاجمين، واعتداء المعتدين، وكانت التكاليف الفردية ـ أي العقائد والعبادات ـ في حرز منيع؛ لأن الأمة ساهرة، والحكومة حامية، فالنظام الإسلامي يؤيد بعضه بعضاً، ويدفع بعضه عن بعض.
مر على المسلمين زمن أهملوا فيه العناية بالتكاليف الموجهة إلى الأمة؛ فضعف هذا الجانب، وأخذت الأمة تنحدر كلما أهملت فرضاً من فروض الكفاية الموجهة للمجموع، ووصل الانحدار غايته حينما قام بفكر المسلمين أن المسلم متى قام بالتكاليف الفردية؛ فآمن بالعقائد، وأدى العبادات ـ فقد فرغ من التكاليف، وأصبح من عباد الله الصالحين، وإن كان قد أغفل جميع التكاليف التي خوطب المجموع بها.
ساد هذا الاعتقاد في القرون الأخيرة؛ فضعف أمر الجهاد أو زال، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعفت العناية بالشورى، وضعفت حماية الشريعة، وذهبت العناية بصيانة الملة، وفُقِدَ الاهتمام بفروض الكفاية؛ فضعف شأن المسلمين، وذهب من بينهم الولاء والتناصر، وذهبت بذهاب هذا كله وحدتهم، فلم يعودوا أمة كما كانوا في الصدر الأول، بل صاروا أفراداً متخاذلين وشيعاً متفرقين؛ فجاءهم العدو، فوجد قوة فانية، وضعفاً قاتلاً، وأفراداً لا تعرف معنى التناصر؛ فاحتل ديارهم، واستعمر بلادهم، وشرعت أنظمته تحتل الأنظمة الإسلامية.
فحينما ظهر الملحدون ونعق ناعقوهم وشرعوا يهاجمون التكاليف الفردية، وتناولوا العقائد بالجرح، والتشهير، واستهزؤوا بالعبادات _ أخذ المسلمون يتلفتون وراءهم كيما يجدوا نظاماً يحمي عقائدهم وعباداتهم، فلم يجدوا شيئاً...(1/213)
لم يجدوا النظام الذي يقرر حماية الملة، وصيانة الشريعة؛ لأن النظام الأوروبي احتل مكانه، وهو لا يريد حماية العقيدة الإسلامية، وليس موضوعاً لذلك، وليس في طبيعته ما يدعوه إلى حماية نظام إسلامي، وليس بينه وبين العقائد الإسلامية رحم وقربى.
فرَّط المسلمون يوم أهملوا العناية بالتكاليف الموجهة إلى الأمة، ويوم سمحوا بضياع التكاليف التي تجعل منهم أمة عزيزة غيورة على دينها وملتها.
لم تكتف الأنظمةُ الغربية باحتلال الأمكنة التي كانت تشغلها الأنظمة الإسلامية، بل فكرت، وسعت في مطاردة التعليم الديني من المدارس المدنية، وعلَّمت على أن يخرج التلميذ المسلم من المدرسة وهو يجهل العقائد والعبادات الإسلامية، وبذلك تكون قد حاربت التكاليف الفردية _ أيضاً _ كما حاربت التكاليف الاجتماعية والسياسية والتشريعية، فيتم الغزو الأوروبي للإسلام في جميع مظاهره.
فإذا لم يتنبه المسلمون، ويجتمع المفكرون منهم للنظر في تلك الحالة ووضع علاج لها، وإذا لم يعملوا على إحياء التكاليف الاجتماعية من النظام الإسلامي في الوطن الإسلامي الذي لا يزال محتفظاً باستقلاله _ فإنه يخشى على البقية الباقية أن تزول.
إن الخطر شديد، وإن العدو قد طرق جميع الأبواب، إنه يعمل بيقظة وانتباه، والمسلمون نائمون متفرقون، وأخشى أن يصدق عليهم قول الله _ عزَّ وجلَّ _: [ذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ].
نسأل الله أن يوفق رجالات العالم الإسلامي لإنقاذه من هذا الخطر؛ إنه على ما يشاء قدير(1).
حادي عشر: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
48_ ادع إلى سبيل ربك: للشيخ محمد النخلي
49_ الانتقاد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
50_ مقاصد الإسلام في إصلاح العالم: للعلامة محمد الخضر حسين
51_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (1): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
__________
(1) لو قال: على كل شيء قدير (م).(1/214)
52_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (2): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
53_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
54_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
ادع إلى سبيل ربك(1) للعلامة الشيخ النخلي(2)
[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
أقيم الإصلاح على قاعدة الدعوة إلى السبيل التي جرت سنَّة الله في خلقه بأن تكون مدرسة يدرس بها النوع الإنساني العقائد الحقة، والملكات الفاضلة، والأعمال الصحيحة، التي تثمر العمران في العاجل، والفوز بالوعد والأمن من الوعيد في الأجل؛ حتى يرتقي الإنسان رقيَّيْهِ: الجسمانيَّ والروحانيَّ.
وهنالك تتم حكمة الله البالغة في خلقه في أحسن تقويم، واستخلافه في الأرض.
__________
(1) مجلة السعادة العظمى،عدد 5، المجلد الأول ص57، غرة ربيع 1322هـ.
(2) أحد أعيان المدرسين في جامعة الزيتونة.(1/215)
ولما كان الإنسان محكوماً بطبعه، لما غُرز فيه من الفواعل الثلاثة: فاعلِ عقله، وفَاعلِ شهوته، وفاعل غضبه، يتصور فيشتهي، فيستعمل كل وسيلة لتناول مشتهاه، فيدفعه بنو أبيه(1)، فيغضب، فيجادل، ويصاخب، وينازع، ويقاتل حتى ينقلب الهدوء اضطراباً، والصفاء كدراً، والسلم حرباً، وحتى تختضب الأرض بدمه، وتجره شهوته إلى عدمه _ صار محتاجاً إلى من يعدِّل أفكاره، إلى من يعدِّل شهواته، إلى من يعدِّل غضبه، إلى من يلائم بين صفاته المعنوية وشِياته الحسية؛ حتى يصير إنساناً حقيقيَّاً [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)]البقرة.
__________
(1) يعني بهم بني آدم(م).(1/216)
الداعي إلى سبيل ربك إنسانٌ طبعت في مرآة عقله حقائقُ الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، وأطلَّ على معقبات الأمور ونتائج الحوادث من مَرْقَبٍ عالٍ، وتسلطت نفسُه الناطقة على قواه الحيوانية؛ فهو مَلَك في صورة رجل، ووافد الآخرة في لباس أهل الدنيا، لم تنزع به شهوته إلى الاستئثار بالحطام، بل ربما حرم نفسه منها، وقد أمكنه نيلُ الملك والجاه، ولم يدفعه قاسرُ الغضب إلى الانتقام إلا بقدر ما يحفظ هيكل حقٍّ، أو يعفيَ رسمَ باطلٍ، حقق في بني جلدته كُنْهَ الداءِ، وجهز له بحكمته الموهوبة ناجع الدواء.
وعلى الجملة مواهبُه كلُّها ربانية، وتصرفاتُه بأسرها شرعية، بهذه الصفات العلى كان أهلاً لخطاب الربِّ الأعلى: [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ].
الإحاطة بالمصالح الدنيوية والاطلاع على أمور الآخرة فوق متناول العقول، وخارج عن دائرة الفكر الإنساني الذي ألف المحسوس، وشهوات النفوس؛ فبعث الله الأنبياء مبشرين ومنذرين؛ ريثما تأخذ الدعوة إلى سبيل ربك مستقرها من العقول، وتُهِبُّ الناس من نومة الغفلة، وتنشط من مرقد الخمول، وتتجه إلى الوجهة التي أرادها اللطيف الخبير، ثم يلتحق ذلك النبي بربه، تاركاً لقومه تراث دينه باقياً فيهم تستقيم شؤونهم ما أقاموا عليه، ويلتئم شعثهم ما تظافروا على العمل به: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ].
من ضرورة بقاء الدين قيام العلماء الحكماء، حافظين لجوهره النفيس، عارفين بقيمة ما استحفظوا عليه.
العلماء ورثة الأنبياء، بحيث إن المعالي التي نسختها أمة الدين في عهد النبوة، والمفاخر الجمَّة التي أحرزتها بسرِّ الوحي _ يرتبطان ارتباطاً محكماً ببقاء هذا الصنف من العلماء.(1/217)
ولا أسوق لك من التاريخ إلا عدلاً مبرزاً وهو عصر الخلافة الزاهر، فإذا رأيت زلزلة أركان، وتداعي بنيان، وتقلُّص ظلال، وحيرة من أودية ضلال _ فاعلم بأن هاته الطائفة قد سكنت القبور، واستقبلت يوم النشور، وأن أهواء تغلبت على سلطنة العقول، وبدعاً انصبغت بصبغة أحكام الدين، وأحدقت بالأمة ذات الشمال وذات اليمين.
الإصلاح بالدين يقدر عليه من عرف طبيعة الدين، وخبر سنة سيد المرسلين، وسبَر سيرة الصحابة والتابعين؛ لا من كان دأْبه الجمود على الموجود، والتمسك بالمألوف؛ لأنه هو المعروف، فإذا حذَّرتْه الحوادثُ مكامن الردى، وأخذ بيده التاريخ إلى معالي الهدى، ووعظه خطيبُ الوجود أن يعيد النظر في سيرة رجال دينه، وأن يترك مكابرة يقينه _ أخذته العزة بالإثم، وكانت حجته القاطعة =فسد الزمان+، وَمسْلاتُه الوحيدةُ تأففاً وتأسُّفاً، فإذا قلت له: الليل ليل والنهار نهار، والكتاب والسنة محفوظان، وأقوال الأئمة مدونة، ووسائل الفهم حاضرة؛ فهلم إلى العمل _ أجابك جواب العاجز الكسلان: لا أقدر على ذلك.
العالم المرشد محتاج إلى كبر الهمة، ومضاء العزيمة، وثقافة الفكر، وانطلاق اللسان في فنون البيان، لا يهنُ لملم أن يصيبه من النكبات، ولا يقف لما يعترض سعيه من العقبات؛ فإن التأثير على الأفكار، واندفاع العزائم إلى الوجهة التي يدعو إليها متوقفان على مجموع ذلك؛ ولهذا قلما وعظ واعظ فأنعش أرواحاً، وأذهب أتراحاً، وجلب أفراحاً؛ فالنتيجة أنه لا إصلاح يلائم بين الضرتين الدنيا والآخرة إلا بدين، ولا دين إلا بالعلم، ولا علم إلا بالعقل وكبر همة؛ لهذا قال الله _ تعالى _: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] الآية.(1/218)
الحكمة: هو الكلام الصواب الواقع من النفوس أجمل موقع، يبعث النفوس من أجداث الجهالة والخمول، يُنبت في قلوبها حدائق ذات بهجة، ينجيها من سِباع شهواتها المغتالة، يفكها من أغلال معتاداتها القتالة، يدفعها إلى عظائم الأمور، بهمة لا يتخللها فتور.
وهذا النوع من الدعوة لصنف مخصوص من الناس، أهل هذا النوع أصحاب النفوسِ المشرقةِ القويةِ الاستعداد لإدراك المطالب العالية السريعة الانجذاب لعرفان اليقين على تفاوت مراتبهم _ أيضاً _.
الموعظة الحسنة: هي الخطابات المقنعة، والعبر النافعة تسيم العامة مراتب العمل الصالح، وتردُ بهم مناهل السعي النافع، وتعدل بهم عن المرتع الوخيم والمورد الذميم، وتؤكد لُحمة الإخاء بين الطوائف، وتحكم حلقات الارتباط بين الأباعد، وتسوق الجماعة إلى الجهة التي يقصدها العليم الخبير.
وهذا النوع من الدعوة لصنف مخصوص _ أيضاً _ وهم العامة أصحاب النفوس الكدرة الضعيفة الاستعداد، المحبوسة في قفص المحسوسات، المقيدة بقيود الرسوم والعادات، لم يتميزوا على من سواهم ممن شاركهم في أخص أوصافهم إلا بسلامة عقولهم من مرض العناد.
الجدال بالتي هي أحسن: هو المناظرة بالرفق واللين، واختيار الوجه الأيسر، واستعمال المقدمات المشهورة، يُلجم أفواه المبطلين، يُغل يدَي من يروم أن يبذر بذور الشبه بين المحقين، يسكن سَكَنَ المشاغبِ، يطفئ بها المعاني.
وبالجملة فهو سجن المعاندين بجريمة العناد التي ارتكبوها، وعقابها الأليم على الشاغبة التي بَرْقَشوها.
وهذا النوع _ أيضاً _ لصنف مخصوص، وهم الذين يجادلون بالباطل؛ ليدحضوا به الحق؛ لما غلب عليهم من تقليد الأسلاف، ورسخ في أذهانهم من العقائد الباطلة؛ فصار بحيث لا تنفعهم المواعظ والعبر، بل لابد من إلقامهم الحجر بأحسن طرق الجدال؛ لتلين عريكتهم، وتزول شكيمتهم.(1/219)
وللطيفة جليلة قال القرآن: [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] لأن الجدال ليس من الدعوة في شيء، وإنما هو سلاح يقاوم به أهل الباطل كما علمت.
على هذه القاعدة القرآنية قامت هياكل الإصلاح الديني في النوع الإنساني، وبِعَمَلتِهِ الحكماء تمَّ المشروع العمراني، وقد دلت الآية دلالة ساطعة على وجوب مراعاة مراتب المخاطبين، ودرجة استعدادهم لقبول المطالب الدينية إلا ما تساوت الأذهان في إدراكه.
وإياك أن تفهم اختلاف المكلفين في المكلَّف به بل هو واحد، والمكلفون متساوو الأقدام فيه، وإنما الكلام على المسالك التي تسلك للوصول إليه؛ فهي التي تختلف باختلاف درجات الأذهان كما صرح بذلك الغزالي.
وبهذا يظهر جليَّاً أنه لا تشنيع على السعد في جعله قوله _تعالى_: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] دليلاً إقناعيَّاً على الوحدانية، وإن كان أحسن منه أن يكون برهاناً يقينيَّاً.
وفي هذه الآية تعميم للمعلمين، وعظة للواعظين أن يأتسوا بالقرآن؛ فيجب على المعلم أن يعتبر درجات الأذهان، وطبقات التلامذة، وأن يسلك الطرق السهلة للتحصيل؛ إذ المقصود من التعليم هو انطباع صورة المعلوم في ذهن المتعلم، فعلى المعلم أن يحتال على طريقة سهلة تفضي إلى انتقاش المسألة في ذهن تلميذه على الوجه الأكمل، وذلك مضبوط في ثلاثة أمور: اجتناب اللفظ الغريب والتركيب المعقد، رعاية استعداد المتعلم، اعتبار مرتبته في ذلك العلم.(1/220)
بهذا الأسلوب الحكيم المستنبط من القرآن يثمر التعليم ثمرته المقصودة منه، ويمكن للتلميذ أن يملأ وِطابَه(1) من دروس أستاذه، ويذوق حلاوة العلم، فينهض من الابتداء إلى التوسط إلى الانتهاء، والموضوع طويل نرجئه لفرصة أخرى، وإنما نقول اليوم: إن التعليم الفاسد كما أنه مخالف لسنة الفطرة، حيث لا يأتي بالنتيجة المطلوبة _ ليس على طريقة القرآن ينبوع الهدى والبيان.
وأما الموعظة الحسنة التي هي وظيفة الخطيب اليوم، فينبغي أن تكون مناصحة محضة بعبارة تجمع بين التأثير والإفصاح، مؤسسة على أساس الكتاب والسنة الصحيحة، مُتَفَتِّقة كمائمها عن حقائق المصلحتين الأخروية والدنيوية كالزراعة والتجارة والصناعة، بصفة أن الشارع يُرغِّب فيها، ويَعِدُ بالثواب عليها.
وفي الموضوع بحث جليل نؤخره لعدد آخر.
وهذه الطرق الثلاث التي أُمر النبي أن يدعو بها إلى سبيل ربه في الصناعات الثلاث المنطقية: البرهان، والخطابة، والجدل.
أما الصناعتان الأخريان وهما المغالطة والشعر فقد نزَّه عنهما القرآن كما نزه عنهما من نزل عليه القرآن؛ ذلك لأن المغالطة جهل، أو تجهيل، وضلال، أو تضليل، وهو لا يتفق مع الإرشاد والمناصحة، والشعر تخييلي وإغراق وتهويل، وهو إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق، بل مداره على الكذب حتى قيل: أعذبُ الشعر أكذبُه [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] فنزاهة الرسول عن الشعر من حيث إنه يستدعي إيراد القضايا التخيلية، ومجافاة الحقائق الثابتة.
__________
(1) الوِطاب: في الأصل سقاء اللبن، ويريد بذلك ملء وعاء عقله من العلم (م).(1/221)
ولما كان الشعر بلباسه العربي يعتمد وزناً وقافية نزه عنه الرسول مطلقاً؛ سدَّاً لباب الظّنة والزيادة تحقيقاً لمعجزة الإرسال؛ لذلك ينبغي لمن تَصَدَّرَ للتعليم والإرشاد أن يجتنب المغالطة والتخييل؛ لأنه في مقام بيان حقائق العلوم، وأن يقرع باب التعليم بما قرع به النبي " باب الدعوة إلى سبيل ربه كما أمر به ربه؛ فكم رأينا من مقالة شعرية يعزوها صاحبها إلى هداية علمية وما هي منها في قبيل ولا دبير.
أما ما ورد من الآي الكريمة مما جاء على الأوزان الشعرية، فقد قام بتحرير جوابها صاحب هاته المجلة الغراء مستوفي البيان، ولكن الجواب بالقصد الأول لا محيص عنه في بعض الآيات كقوله _ تعالى _: [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ]آل عمران: 92، فإنه موزون ولو بزيادة النون إذ هو من مجزوء الرمل المسبغ الضرب وبيته يا (خليلي اربعاً واستخبرا ربعاً بعسفان).
وهذا الموضوع الذي وفقنا الله لخوض عبابه يتشعب إلى أغراض كثيرة لا نضيع البحث عنها كلما سنحت فرصة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الانتقاد(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
سألني بعض الأصدقاء عن رأيي في الانتقاد، وشروطه، وحدوده، وآدابه وواجباته، ورأيي فيه ألا شروط له ولا حدود، ولا آداب ولا واجبات، وأن لكل كاتب أو قائلٍ الحقَّ في انتقاد ما يشاء من الكلام، مصيباً كان أم مخطئاً محقاً أم مبطلاً، صادقاً أم كاذباً، مخلصاً أم غير مخلص؛ لأن الانتقاد نوع من أنواع الاستحسان والاستهجان، وهما حالتان طبيعيتان للإنسان لا تفارقانه من صرخة الوضع، إلى أَنَّة النزع(2).
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص556 _ 559.
(2) يعني من أول ولادته إلى حين مماته (م).(1/222)
وكل ما هو طبيعي فهو حق لا ريبة فيه، ولا مراء فإن أصاب الناقد في نقده فقد أحسن إلى نفسه وإلى الناس، وإن أخطأ فسيجد من الناس من يدله على موضع الخطأ فيه ويرشده إلى مكان الصواب منه، فلا يزال يتعثر بين الصواب والخطأ، حتى يستقيم له الصواب كله.
فإن أبينا عليه أن ينتقد إلا إذا كان كفؤاً في عمله، ومخلصاً في عمله كما يشترط عليه ذلك أكثر الناس _ فقد أبينا عليه أن يخط سطراً واحداً في الانتقاد، وقضينا على ذهنه بالجمود والموت؛ لأننا لا نعرف لهاتين الصفتين حدوداً معينة واضحة، فكل منتقد يزعمها لنفسه، وكل منتقد عليه يجرد منتقده منهما، ومتى سمح الدهر لعامل من العاملين بالإخلاص الكامل في عمله، فيسمح به لجماعة المنتقدين؟!.
على أن المنتقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيباً في بعض ما يقول؛ لأنه لم يأخذ على نفسه عهداً أن يختلق جميع المآخذ التي يأخذها، وألا يكتب إلا الباطل والمحال، وإنما هو رجل عياب بالحق وبالباطل؛ فهو يفتش عن السيئات الموجودة حتى يفرغ منها؛ فيلجأ إلى السيئات المختلقة.
ولقد كُتِب أول انتقاد في التاريخ بمداد الضغينة والحقد؛ فقد كانت توجد في عصور اليونان القديمة طائفة من الشعراء يجوبون البلاد، ويتغنون بالقصائد الحماسية، والأناشيد الوطنية في الأسواق والمجتمعات، وبين أيدي الأمراء والعظماء؛ فيكرمهم الناس ويجلونهم إجلالاً عظيماً، ويجزلون لهم العطايا والهبات؛ فَنَفَسَ عليهم مكانَتَهم هذه جماعةٌ من معاصريهم من الذين لا يطوفون طوافهم، ولا يَحْظَون عند الملوك العظماء حَظْوتَهم، فأخذوا يعيبونهم، ويكتبون الكتب في انتقاد حركاتهم وأصواتهم، ومعاني أشعارهم، وأساليبهم، وكان هذا أول عهد العالم بالانتقاد، والفضل في ذلك للضغينة والحقد؛ فلرذيلة الحقد الفضل الأول في وجود الانتقاد، وبزوغ شمسه المنيرة.(1/223)
كذلك لا يمنع الجاهل جهله من أن يكون رأيه في استحسان الكلام واستهجانه رأياً صائباً، لا بل ربما كان شعوره بحسن الكلام وقبحه _ متى رزق حظاً من سلامة الذوق، واستقامة الفهم _ أصح من رأي الأديب المتكلف الذي يتعمل الانتقاد تعملاً، ويتعمق تعمقاً كثيراً في التفتيش عن حسنات الكلام وسيئاته حتى يضل عنهما، ورب ابتسامة أو تقطيبة يمران بوجه السامع العامي عفواً أنفع للأديب حين يراهما، وأعون له على معرفة مكان الحسنة والسيئة من كلامه من مجلد ضخم يكتبه عالم متضلع بالأدب، واللغة في نقد شعره أو نثره.
وإذا كان من الواجب على كل شاعر أو كاتب أن ينظم أو يكتب للأمة جميعها، أو خاصتها أو عامتها _ فلم لا يكون من حق كل فرد من أفرادها متعلماً كان أو جاهلاً، أن يدلي برأيه في استحسان ما يستحسن من كلامه، واستهجان من يستهجن منه.
وهل رفع العظماء من رجال الأدب إلى مواقف عظمتهم وسجل لهم أسماءهم في صحائف المجد، إلا منزلتهم التي نزلوها من نفوس السواد الأعظم من الأمة، والمكانة التي نالوها بين عامتها ودهمائها؟
وبعد، فلا يتبرم بالانتقاد ولا يضيق به ذرعاً إلا الغبي الأبله، الذي لا يبالي أن يقف الناس على سيئاته فيما بينهم وبين أنفسهم، ويزعجه كل الانزعاج أن يتحدثوا بها في مجامعهم، ولا فرق بين وقوفهم عليها وحديثهم عنها، أو الجبان المستطار الذي يخاف من الوهم، ويفرق من رؤية الأشباح، ولو رجع إلى أَنَاته ورويَّته لعلم أن النقد إن كان صواباً فقد دله على عيوب نفسه فاتقاها، أو خطأ فلا خوف على سمعته ومكانته منه؛ لأن الناس ليسوا عبيد الناقدين ولا أسراهم، يأمرونهم بالباطل فيذعنون، ويدعونهم إلى المحال فيتبعون.(1/224)
ولئن استطاع أحد أن يخدع أحداً في كل شأن من الشؤون فإنه لا يستطيع أن يخدعه في شعور نفسه بجمال الكلام أو قبحه، ولو أن الأصمعي، وأبا عبيدة، وأبا زيد، والمبرد، والجاحظ، والقالي، وقدامة، وابن قتيبة، والآمدي، وأبا هلال، والجرجاني(1) بُعِثوا في هذا العصر من مراقدهم وتكلفوا أن يذموا قصيدة يحبها الناس من شعر شوقي مثلاً لما كرهوها، أو يمدحوا مقالة يستثقلها الناس من نثر =فلان+لما أحبوها، فالحقيقة موجودة ثابتة لا سبيل للباطل إليها، فهي تختفي حيناً، أو تتراءى في ثوبٍ غير ثوبها، ولكنها لا تنمحي ولا تزول.
فلتنطق ألسنة الناقدين بما شاءت، ولتتسع لها صدور المنتقدين ما استطاعت؛ فلقد حرمنا الحرية في كل شأن من شؤون حياتنا، فلا أقل من أن نتمتع بحرية النظر والتفكير.
مقاصد الإسلام في إصلاح العَالم(2)
للعَلاَّمة الشيخ محمد الخضر حسين
يدخل الفساد في العقائد والآراء والأخلاق، وفيما يُقْصَد به التقرب إلى الخالق _ جَلَّ شأنه _ فيما يتناوله الإنسان من نحو المطعوم والملبوس، وفي المعاملات الجارية بين الأفراد والجماعات من الناس، بل يدخل الفساد في معاملة الإنسان للحيوان.
وقد دَلَّنا التاريخ أن كثيراً من عقائد الأمم كانت زائغة، وكثيراً من آرائهم كانت مزاعم ينبذها العقل، وأنَّ الأخلاق كانت منحطة.
والتقرب إلى مُبْدِع الخليقة لا يقع على وجهه الصحيح، والتمتع بالمطعومات والملبوسات وما يُتَّخذ من المراكب لا يقف عند الطيبات والزينة وما يوافق الحكمة، ومعاملات الأفراد والجماعات من الناس والحيوان _ لم تكن جارية على نظام الرحمة والعدل.
__________
(1) هؤلاء من كبار الأدباء والنقاد في الأدب العربي.
(2) مجلة الهداية الإسلامية الأجزاء الخامس، والثامن، والتاسع من المجلد التاسع، وانظر الدعوة إلى الإصلاح 104_106.(1/225)
فكان من مقاصد الإسلام تقويم العقائد، وتطهير العقول من المزاعم السخيفة وإصلاح الأخلاق، وشرع العبادات الصحيحة، وبيان الطيبات من الرزق، وما لا يخرج عن حدود الحكمة من نحو الملابس والمراكب، وتنظيم المعاملات على وجه العدل والرفق.
أمَّا العقائد فقد أنكر الإسلام على أصحاب الملل الباطلة، وأقام الحجج على بطلان تلك الملل، وقرر العقائد السليمة، وثبتها بالبراهين القاطعة.
حارب عقيدة الشرك بالله، ونهى عما يفضي إليها، كالمبالغة في تعظيم بعض المخلوقات، وصرَّح ببطلان كل عبادة يُتَوجَّه بها إلى مخلوق من نحو صنم، أو كوكب، أو نار، أو حيوان، أو إنسان، ونظر في الأديان السماوية السابقة كاليهودية، والنصرانية، فَدَلَّ على ما طَرَأَ عليها من تغيير، وما دخلها من مبتدعات حتى بعدت عن هداية الله، وأصبحت تلك الأديان في واد، والسعادة في واد.
وأمَّا الآراء فقد قصد الإسلام لتقويمها بطريقة عامة هي نهيه عن التقليد، وحثه على الرجوع إلى العقل، وإقامة العلم على قاعدة الاستدلال، ثم أتى إلى مزاعم كانت ذائعة بين الناس، فنبه على بطلانها، كزعم الشؤم في بعض الأشياء، وكزعم أن خسوف الشمس أو القمر يقع لموت رجل عظيم.
وأمَّا الأخلاق فقد وجَّه إليها الإسلام جانباً كبيراً من عنايته؛ فأنكر الجبن والبخل، والكذب، والخيانة، والرياء، والحسد، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة، وحثَّ على الشجاعة، والكرم، والصدق، والأمانة، والحلم، والإخلاص، إلى نحو هذا من الأخلاق الحميدة.
وأما العبادات التي هي صلة بين الخالق والمخلوق فقد قرر أوضاعها، ورسم حدودها، ونبه على شروط صحتها، مثل الصلوات، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، ونبه على فساد أعمال قد يحسبها الناس عبادات تقربهم إلى الله، نبه على ذلك بوجه عام كما قال ": =من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد+.(1/226)
وقصد لكثير من الأعمال الخاصة، فدل على أنها ليست من العبادات في شيء، كشدِّ الرحال للصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، وكوصل الليل بالنهار في الصيام.
وأمَّا المطعومات، فقد ذكر الطيبات، وأذن في التمتع بها، وذكر الخبائث ونهى عن تناولها.
وأمَّا الملبوسات فقد حرم بعضها، كما حَرَّم على الرجال لبس الحرير، والذهب، والفضة؛ لما في استعمالها من السرف والرفاهية؛ والرجالُ في حاجة إلى الكمال النفسي، وليسوا في حاجة إلى زخرف المظهر.
وإذا كان الحرير والذهب والفضة تزيد في ظاهر المرأة حسناً _ فإن الرجل لا يباهي إلاَّ بسمو خلقه، واستنارة فكره، واستقامة سيرته، وصلاح أعماله.
وتطوّحُه في النعيم إلى حد بعيد يعود على الرجولة الكاملة بشيء من النقص كثير أو قليل.
وأما المراكب فقد أذن في ركوب بعض الحيوان، كالخيل، والبغال، والحمير، والإبل، ونهى عن ركوب البقر، ويلحق بالبقر كل حيوان يحصل له ما يحصل للبقر من ضرر الركوب عليه.
وأما المعاملات بين الناس، فقد أخذت من شريعة الإسلام أوسع مكان، ونريد من المعاملات ما يجري بين شخصين، أو أشخاص، من نحو عقود البيع والإجارة، والقرض، والهبة، ويدخل في هذا القبيل مراعاة حقوق الزوجين والأقارب، والأرقاء، والأطفال، فَيُعدُّ في قبيل المعاملات أحكام النكاح، والطلاق، والعتق، والحضانة، والنفقات، والإيصاء.
وأما معاملة الحيوان فقد أخذت جانباً من عناية الإسلام؛ إذ نهى عن تعذيب الحيوان، وحث على الرفق به.(1/227)
ثم إنَّ الإسلام أرشد إلى أشياء قَصَدَ لها قَصْدَ الوسائل التي لا تتحقق المقاصد الأصلية إلاَّ بها، كالجهاد، وعقوبات الجناة المشروعة للزجر عن الاعتداء على الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل، وكالشورى؛ فإنها طريق الوصول إلى الحكم العادل، وطريق تدبير الأمور على نهج السداد، وكإطلاق العقل من أسر التقليد؛ لأنه طريق الإيمان الصادق، واستنباط الأحكام الصحيحة، وتوسيع دائرة العلوم على اختلاف موضوعاتها.
فالإسلام لم يقتصر على إصلاح العقائد، وتنظيم الصلة بين العبد وربه، كما يقول بعض من يُظْهِر الإسلام ويُخْفِي الإنكار، بل الإسلام دين سماوي نظر إلى كل ناحية من نواحي الحياة الفردية، والاجتماعية، وقرر لها نظماً مفصلة، أو وضع لها أصولاً عامة، وعدَّ الخروج على هذه النظم وهذه الأصول فسقاً وظلماً، بل سماه في بعض الآيات كفراً كما قال _ تعالى _: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]المائدة: 44.
وليس من شكٍّ في أنَّ من خرج على نظم الإسلام وأصوله معتقداً أنَّ ما خرج إليه أقرب إلى الحكمة، وأحفظ للمصلحة _ فقد خلع طوق الدين الحنيف من عنقه.
من يجدِّد لهذه الأمة أمر دينها
للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
(1)(1/228)
أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك ديناً عامَّاً سائرَ البشرِ، وباقياً على امتداد الدهر إرادةً دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواترُ أفعالِ الرسول " مما لا يترك مجالاً للشك في نفس المتأمل؛ فلا جرم قدَّر الله للإسلام التأييد والتجديد اللَّذَينِ لا يكون الدوام في الموجودات إلا بهما؛ فكما جُعِل في كل حيٍّ وسائل الدفاع عن كيانه، وهو ضرب من التأييد، وجعل له وسائل لإخلاف ما يضمحل من قوته بالتغذية ونحوها، وهو التجديد_ كذلك جعل للإسلام حين أراد حياته؛ فالتأييد بعلمائه يذودون عنه ما يطرقه من التعاليم الغريبة عن مقاصده؛ حتى تبقى مقاصده سالمة واضحة، ومحجته بيضاء للسالكين لائحة، والتجديد بما نفحه من قائمين بدعوته، ناهضين بحجته، صياقل يجلون صفائحه البواتر، وزعماء بِسُرَى الأساحر، وتأويب البواكر.
إن هذه الشريعة إرشادٌ صِرْفٌ، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلقاً بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفاً وانحرافاً إذا امتد الميدان.
من أجل ذلك ضمن الله لهذا الدين حفظه فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] وإن لحفظه ثلاثة مقامات:
أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال: وهو مقام العمل بآية [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً].
وثانيها: مقام تجديد ما رثَّ من أصول الدعوة: وهو مقام العمل بآية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ].
وثالثها: مقام الذب عنه وحمايته: وهو مقام [إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ].(1/229)
وكلا المقامين الأولين لا يقفه(1) إلا الفقيه في الدين، وهو المجتهد العارف بالطرق الموصلة إلى الغايات المقصودة من التشريع الإسلامي، بحيث تصير معرفة الشريعة _ وسائلها ومقاصدها _ ملكة له أي علماً راسخاً في نفسه، لا تشذ عنه مراعاته، والإصابة فيه عند جولان فكره في أمور التشريع.
وبمقدار ما يكون عدد هؤلاء الفقهاء مبثوثاً بين المسلمين تكون حالتهم قريبة من الاستقامة، كما يكون أمرهم صائراً إلى التضاؤل بمقدار قلة وجود هذا الفريق بين أظهرهم؛ ففي الحديث الصحيح: =لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله+.
قال البخاري: وهم أهل العلم.
وفي الحديث =العلماء ورثة الأنبياء+ وهو حديث حسن.
وفي الحديث =علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل+ وهو حديث ضعيف السند، لكنه صحيح المعنى.
فوجود هؤلاء العلماء في عصور عدم الاضطرار إليهم، منة من الله _تعالى_ على الأمة لتحسين حالها، ووجودهم في حالة اضطرار الأمة عصمة من الله _تعالى_ للأمة، ولطف بها؛ لإنقاذها من التهلكة.
وقد يحتاج الدين وأهله إلى الاجتنان بِجُنِّة القوة لحماية الحق، وإقامة الشريعة كما أشار إليه قوله _تعالى_: [وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ].
فذلك هو موقع المقام الثالث؛ لذلك منح الله الأمة مجدِّداً على رأس كل مائة سنة.
روى أبو داود في سننه في أول كتاب الملاحم: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم، عن رسول الله قال: =إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها+.
__________
(1) لعلها: لا يفقههما، أو لا يفقهه (م).(1/230)
قال أبو داود عبدالرحمن بن شريح الأسكندراني: لم يجز(1) به شراحيل. اهـ يعني أن عبدالرحمن بن شريح وقف عند شراحيل ولم يعرفه، فهو في رواية ابن شريح مقطوع، وليس مرفوعاً إلا في رواية ابن وهب.
قال ابن عدي في الكامل: لا أعلم يرويه غير عبدالله _ يعني ابن وهب _ عن سعيد بن أبي أيوب.
ورواه عنه _ أي عن ابن وهب _ عمرو بن سوَّاد، وحرملة بن يحيى، وأحمد بن عبدالرحمن بن وهب ابن أخيه _ أي ابن أخي أبي وهب _ ولم يروه عنه غير هؤلاء الثلاثة ا. هـ.
فابن عدي لم يطلع على رواية سليمان بن داود عن ابن وهب التي ثبتت عند أبي داود، وبهذا السند رواه البيهقي في سننه، والحاكم في المستدرك.
وذكر ابن السبكي أن أحمد بن حنبل رواه بزيادة =رجلاً من أهل بيتي يجدد لهم أمر دينهم+.
وظاهر أن زيادة كونه من أهل البيت، من موضوعات الشيعة على العادة؛ لتنحرف بالحديث إلى مهيع الأحاديث المصنوعة في المهدي المنتظر(2).
ومعنى =يبعث الله من يجدد+ أنه يقيمه، وييسره لهذا المهم؛ لأن حقيقة البعث الإرسال، قال الله _تعالى_: [فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ].
وقال طريف العنبري:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم
ثم تطلق مجازاً على الإقامة والتنصيب، قال الله _ تعالى _: [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً].
ومنه قولهم: بعث فلان بعيره، إذا أقامه في مبركه.
وهو المراد هنا؛ لأن الله لا يبعث المجدد بأن يرسله، ولكنه يوفقه، ويرشده، ويهيئ له.
=ومَنْ يجدِّد+ اسم موصول، وهو صادق على من اتصف بِعِلَّتِه، وهو التجديد للدين سواء كان المجدد واحداً أو متعدداً.
__________
(1) لعلها: لم يجزم (م).
(2) إن كان × يقصد أن هناك أحاديثَ مصنوعةً وردت في المهدي فلا بأس، وإن كان يقصد أن الأحاديث الواردة في شأن المهدي مصنوعة فغلط؛ لأن خروج المهدي ثابت بالأحاديث الصحيحة (م).(1/231)
ومعنى التجديد إرجاع الشيء جديداً، أي إزالة رثاثته وتَخَلُّقِه، وهو هنا مجاز في إيضاح حقيقة الدين، وتجريده عما يلصق به من اعتقاد، أو عمل، أو سيرة، ليس شيء من ذلك في شيء من الدين، في حال أن الناس يتوهمون شيئاً من ذلك ديناً.
=وأمر الدين+: شأنه، وماهيته.
ودين هذه الأمة الإسلام لا محالة، وهو اعتقاد، وقول، وعمل، وشريعة، وجامعة؛ فتجديده إرجاع هذه الأمور أو بعضها إلى شبابه، وقوته وجدّته.
دعائم الإسلام:
يقوم الإسلام على ثلاثة دعائم لا ينتظم أمره بدونها:
الدعامة الأولى: العقيدة؛ لأن العقيدة الحقة هي أصل الإسلام، وهو المقصد الأعظم المسمى بالإيمان، والذي هو المدخل إلى التدين بدين الإسلام.
ومبنى هذه الدعامة على صحة التلقي لما يجب اعتقاده في الإسلام عن الرسول، ومن البراهين القاطعة التي يهتدي إليها العقل.
الدعامة الثانية: شرائع الإسلام التي لا يستقيم أمر الأمة الداخلة في الإسلام إلا بمتابعتها؛ إذ فيها صلاح أمرهم في الدنيا بانتظام جماعتهم، وسيادتهم، وبها صلاح أمرهم في الآخرة بسلامتهم من العذاب، ومن قول باللسان، وعمل بالجوارح، ويدخل فيها ضمائرُ قلبيةٌ كمحبة المؤمنين، وسلامة الطوية إلا أنها لما كانت آثارها أعمالاً ألحقت بقسم عمل الجوارح.
ومبنى هذه الدعامة على تلقي الشريعة من لفظ القرآن، ومن سنة الرسول وأعماله، وأفهام أئمة الدين الذين تلقوه صافياً من شوائب الضلالات؛ حيث يكون هذا التلقي سالماً من اختلال نقل الرواة، ومن سوء فهم المنتمين لحمل الشريعة، ومن دخائل الملاحدة، ورقائق الديانة.
الدعامة الثالثة: جامعة الإسلام المسماة بالبيضة: وهي سلطان المسلمين، وقوتهم، وانتظام أمرهم انتظاماً يقيم فيهم الشريعة، ويدفع عنهم العوادي العادية عليه من المجاهرين بعداوته، والمسيئين معاملته من أتباعه الذين يحق عليهم المثل: =عدوك العاقل خير من حبيبك الأحمق+.(1/232)
ومبنى هذه الدعامة على إقامة الحكومة الإسلامية في عظمة، وقوة، ومنعة، ونشر الإسلام بالفتوح الصالحة.
وقد رأى الصحابة القتال لإقامة جامعة الشريعة، وذود أهل العقائد الضالة، المريدين حمل الناس على عقائدهم، كالقتال للدفاع عن بثّ الإسلام في أول أمره؛ فلذلك امتشقوا السيوف في الثأر لعثمان، وفي الانتصار لعلي على من خرج عنه، وقد قال عبدالله بن رواحة:
اليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله
معنى التجديد
تجديد الشيء هو إرجاعه إلى حالة الجدة أي الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره؛ وذلك أن الشيء يوصف بالجديد إذا كان متماسكةً أجزاؤه، واضحاً رواؤه، مترقرقاً ماؤه.
ويقابل الجديدَ: الرثيثُ، والرثاثةُ انحلالُ أجزاء الشيء، وإشرافُه على الاضمحلال.
ولقد أفصح عن معنى الجدة والرثاثة قول الشاعر:
قد كان رثّ هوايَ فابـ ... ـتسمت فَردَّتْهُ جديدا
فهذا الدين قد أظهره الله _تعالى_ ونصره؛ فتكامل أمره حين قال _ تعالى _: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي].
فكان في زمن رسول الله "ديناً واضحاً بيِّناً قويَّاً، لا يتطرقه تضليل، ولا يحول دون نفوذه قويٌّ ولا ضئيل، وذلك الكمال في أمور:
أولها: العمل به، وتحقيق مقاصده.
الثاني: نصره وإقامته.
الثالث: انتشاره، وزيادته، وتسهيل بثِّه.
الرابع: حراسته، وحفظه من تدخل الضلالات.
الخامس: دفع نائبة حلت بالإسلام إذا استمرت أفضت إلى طمس معالم الدين، أو إفساد الإيمان، أو ذهاب سلطانه.
وقد تمتد إليه يدُ الرثاثة من إحدى نواحي جِدَّتِه؛ فهو لا يرثُّ من جميع نواحيه؛ لأن الله قد ضمن حفظه، ولكنه قد تتسرب إليه أسباب الرثاثة من إحدى النواحي؛ فَيُشاهد الضعف فيها، فيبعث الله له من يجدده بأن يزيل عنه أسباب الرثاثة، ويرده جديداً ناصعاً.(1/233)
فالتجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح للناس في الدنيا: إما من جهة التفكير الديني الراجع إلى إدراك حقائق الدين كما هي، وإما من جهة العمل الديني الراجع إلى إصلاح الأعمال، وإما من جهة تأييد سلطانه.
مُضِيُّ مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد:
ليست حكمةُ الله بالمُضَاعة، ولا فعلُه بالعبث؛ فقد أنبأنا رسول الله أن الله يبعث للأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها؛ فعلمنا أن لهذا الأمر أثراً في تطرق الرثاثة إلى بعض الأمور؛ ذلك أن مدة مائة تنطوي فيها ثلاثة أجيال، ويكثر أن يتسلسل فيها البشر آباءاً وأبناءاً وحفدة؛ فإذا فرضنا كمال أمر الدين كان في عصر الآباء عن مشاهدتهم أمره كما نفرضه في عصر النبوة حين شاهد الصحابة الدين في منعة شبابه _ جاء الأبناء، فتلقوا عن الآباء صور الأمور الدينية عن سماع وعلم دون مشاهدة، فكان علمهم به أضعف.
ومن شأن الجيل إحداث أمور لم تكن في الجيل السابق، لكنهم يغلب عليهم ما كان في الجيل السابق؛ فإذا جاء جيل الحفدة تُنُوْسِيَتْ الأصولُ، وكثر الدخيلُ في أمور الدين؛ فأشرف الدين على التغيير؛ فبعث الله مجدد أمور الدين؛ تحقيقاً لما وعد الله به في حفظ الدين.
وهذا التيسير الإلهي بقيام المجدد على رأس كل مائة سنة تجديد مضمون منضبط، وهو لا يمنع من ظهور مجددين في خلال القرن ظهوراً غير منضبط، فقد ظهر في خلال القرن الأول علي بن أبي طالب وعبدالملك بن مروان وعمر ابن عبدالعزيز، وظهر في خلال القرن الثاني محمد بن إدريس الشافعي وظهر في خلال القرن الرابع أبو حامد الغزالي.
كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة؟:
جاء في لفظ الحديث أن ظهور المجدد يكون على رأس كل مائة سنة، والرأس في كلام العرب يطلق على أول الشيء، يقال فلان على رأس أمره، أي أن أمره أُنُفٌ كأنه لم يكن له قبل أمر.(1/234)
في الحديث أن رسول الله بعثه الله على رأس على أربعين سنة من عمره؛ فيظهر أن المراد في رأس مائة سنة مبدأ مائة سنة؛ فمقتضاه أن يكون العدُّ مِنْ يوم قال الرسول ذلك، إلا أن قرينة قوله: =مَنْ يجددُ لهذه الأمة أمر دينها+ دلت على أن ذلك لا يكون ما دام رسول الله بين أظهر المسلمين؛ لأن وجود رسول الله وقاية للدين من الرثاثة، وسلامة له من التخلق؛ فلا يحتاج إلى التجديد؛ فيتعين أن يكون ابتداء العدِّ عَقِبَ وفاةِ الرسول؛ ليحمل لفظ الرأس على ما يناسبه من الأولية بحسب المقام؛ فإن أول كل شيء بحسبه.
ويحتمل أن يراد من رأس مائة مبدأ مائة بعد مائة سنة تمضي بعد اليوم الذي صدر فيه هذا القول من الرسول على حدِّ قول الرسول "في الحديث الصحيح المروي في صحيح البخاري وسنن الترمذي من حديث الزهري عن سالم ابن عبدالله وأبي بكر بن خيثمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: =أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد+.
إذ يتعين أن يكون قوله فيه: =فإن رأس مائة سنة+ أي مبدأ مائة سنة من تلك الليلة بقرينة السياق.
ولذلك قدَّر شراح الحديث قوله: =فإن رأس مائة سنة+ أي من تلك الليلة، أي بعد مضيها.
وقد قيل بمثل هذا في إطلاق رأس مائة سنة في قولهم في الحديث بعثه الله على رأس أربعين سنة أي عند تمام الأربعين من عمره الشريف، فيكون ابتداء العدِّ _أيضاً_ من يوم قال رسول الله ذلك، ومثال الاحتمالين واحد إلا في عدِّ المرة الأولى من التجديد، وعدِّ أول المجددين.(1/235)
وأيَّاً ما كان فالظاهر أن رسول الله قال ذلك في آخر حياته؛ إذ قد دلت أدلة من السنة على أن رسول الله قد أكثر في آخر حياته من أقوال تؤذن بقرب انتقاله؛ تأنِّياً للمسلمين بتلقي مصيبة وفاته بصبر، وتنبيهاً لهم؛ ليتهيؤوا إلى سدِّ ما تعقبه وفاته من ثلمة في أمور المسلمين، وبشارة لهم بما يعرفون به تولي الله _تعالى_ حفظَ هذا الدينِ كما جمعه قوله ": =حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم+.
وفي ذلك الغرض جاء قوله _ تعالى _: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]، وقوله _ تعالى _: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ] إلى آخر السورة.
وقد صرح عبدالله بن عمر في حديثه الذي ذكرته آنفاً بأن رسول الله قال: =أرأيتكم ليلتكم هذه...الخ+ في آخر حياته، وهو نظير هذا الحديث.
فالظاهر أن رسول الله قال هذا الكلام في شأن المجدد في سنة عشر، أو في سنة إحدى عشرة من هجرته.
فإن كان المراد من رأس مائة سنة تأتي كما هو الظاهر _ فالمجدد الأول هو أبو بكر الصديق ÷ وإن كان المراد رأس مائة سنة تمضي فالمجدد الأول هو من ظهر لتجديد الدين في حدود سنة عشر ومائة من الهجرة.
وكل ذلك يوقنك بأن ما سلكه تاج الدين السبكي في تعيين المجددين للدين، وضبطه ذلك بموافقة وفاة من نَحَلَهُمْ صفةَ المجدد مبادئ مرور المئين من السنين ابتداء من يوم الهجرة _ قد أخطأ فيه من وجهين عظيمين وإن كانا خفيين:
أحدهما: إناطة ذلك بوقت ظهوره، أو انتشار أمره، وقوة عمله في تجديد الدين كما يُفْصِحُ عنه لفظ: (يبعث) الواقع في الحديث الذي هو بمعنى يقيم، ولفظ: (يجدد) المقتضي أن يكون معظمُ حياةِ المجدد في رأس القرن؛ إذ العمل من أثر الحياة لا أثر الموت.(1/236)
الوجه الثاني: أنه جعل ابتداء عد رأس القرن من يوم الهجرة، وشأن العدِّ أن يكون من يوم الوعد بذلك؛ فإن اعتبارَ سنة الهجرة مبدأً للقرون الإسلامية أمرٌ اصطلح عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله في خلافة عمر؛ فكيف يفسر به كلام واقع قبل ذلك بسنين؟
رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:
قال تاج الدين عبدالوهاب ابن السبكي في كتاب طبقات الشافعية في مقدمته المسهبة وذكر حديث أبي هريرة في المجدد والحديث الذي فيه زيادة (من أهل بيتي) وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: نظرت في سنة مائة فإذا هو رجل من آل الرسول عمر بن عبدالعزيز، ونظرت في رأس المائة الثانية فإذا هو رجل من آل الرسول محمد بن إدريس الشافعي، ثم قال ابن السبكي: =ولأجل ما في هذه الرواية الثانية من الزيادة _ أي زيادة من أهل بيتي _ لا أستطيع أتكلم في المئين بعد الثانية؛ فإنه لم يُذْكَر فيها أحد من آل النبي " ولكن هنا دقيقة وهي أنا لم نجد بعد المائة الثانية من هو بهذه المثابة، ووجدنا جميع من قيل: إنه المبعوث في رأس كل مائة سنة ممن تمذهب بمذهب الشافعي؛ فعلمنا أنه ابن الشافعي الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله، وبعث بعده في رأس كل سنة من يقرر مذهبه، ولهذا تعين عندي تقديم ابن سريح في الثالثة على الأشعري؛ فإن الأشعري _وإن كان_ أيضاً شافعي المذهب _ إلا أن قيامه كان للذب عن أصول العقائد دون فروعها، فكان ابن سريح أولى بهذه المرتبة لاسيما ووفاة الأشعري تأخرت عن رأس القرن إلى بعد العشرين.
وعندي لا يبعد أن يكون كل منهما مبعوثاً، هذا في فروع الدين، وهذا في أصوله وكلاهما شافعي.(1/237)
وأما المائة الرابعة فقد قيل: إن الشيخ أبا حامد الاسفرائيني هو المبعوث فيها، وقيل: بل الأستاذ سهل الصعلوكي وكلاهما من أئمة الشافعيين. قلت: والخامس الغزالي، والسادس فخر الدين الرازي، ويحتمل أن يكون الرافعي؛ لأن وفاته تأخرت إلى بعد العشرين وستمائة، والسابع الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد+.
هذا حاصل كلام ابن السبكي بعد تجريده من التطويل، وقد قَفى جلال الدين السيوطي على أثر تاج الدين ابن السبكي، ورجا لنفسه أن يكون هو مجدد المائة التاسعة.
وكلاهما حجَّر واسعاً من نعمة الله؛ فاحتكراها لعلماء الشافعية، ولا أعجب من إسرار السبكي في مطاوي ذلك أن يومئ إلى أن الدين عنده هو مذهب الشافعي إذ يقول: =ووجدنا جميع من قيل: إنه المبعوث في رأس كل مائة ممن تمذهب بمذهب الشافعي؛ فعلمنا أنه _ أي الشافعي _ الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله، وبعث بعده في رأس كل مائة سنة من يقرِّر مذهبه+.
من يجدد لهذه الأمة أمر دينها(1)
للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
(2)
وإذ يقول في منظومة له نظم فيها المجددين على حسب اختياره:
هذا على أن المصيب إمامنا ... أجلى دليلٍ واضح للمهتدي
فابن السبكي ظهر بمظهر التعصب المذهبي، وأتى بدليل مصنوع بيده، فكان هو واضعَ الدعوى وواضعَ الدليل، وقد غفل عن أن هذا يعطل عليه وجود مجدد في المائة الأولى.
ثم إنا نرى معظم مَنْ عَدَّهم السبكي مجددين لا يزيد معظمهم على أن كانوا مدونين مذهبَ الشافعي، وليس ذلك كافياً في وصف المجدد، وأين معنى التجديد من معنى التدوين؟
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثامن، المجلد العاشر، صفر 1357هـ، إبريل 1938م، ص463_474.(1/238)
ولم أَرَ من عني بتحقيق هذا الأمر، ولا عرضه على شواهد التاريخ وأحوال الدهر، وها أنا ذا أبدي ما وقر في روعي من الاختبار في صفة هذا المجدد على العموم، ثم أتبعه بأفراد هذه الأمة الذين انبروا للتجديد في وقت الحاجة، وليس ببدع أن يكون ما أراه في هذا الشأن راجحاً في كفة البيان، فليس الحق بمحتكر، ولا شرب الصواب بمحتضر، والحكم في الترجيح لمحك النظر.
التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:
لقد صرح الكلام النبوي أن هذا المجدد يبعثه الله ويلهمه لتجديد أمر الدين للأمة؛ فوجب أن يكون هذا المجدد قائماً بعمل مثمر تجديداً في هذا الدين، وقد أَبَنْتُ فيما مضى معنى التجديد؛ فيتعين أن تكون لهذا المجدد الصفات التي تؤهله لرتق ما فُتِقَ من أمر الدين في زمنه، فإذا كان الفتق قد طرأ على ناحية من نواحي علم الدين تعين أن يكون المجدد في تلك الناحية عالماً يؤهله علمه لإدراك الدين الحق في الغرض المقصود، وإن كان الفتق قد طرأ على الدين من ناحية وهن نفوذه ووقوف انتشاره تعيَّن أن يكون المجدد في ذلك قادراً على حماية البيضة، ونصر الشريعة، أي نصر الحق من الدين؛ لئلا يدخل في المجددين من قام ينصر نحلة اعتقادية يعتقد أنها الدين وهو فيها زائغ، مثل أبي زيد راكب الحمار، ومثل أبي عبدالله الشيعي داعية المهدي العبيدي، أو لإعلان فتنة وانقلاب دولة تحت اسم الدين مثل مهدي الصومال، والتعايشي.
ويجب أن يكون المجدد في هذا المقام عالماً بالشريعة، وأن يكون مسترشداً بالعلماء؛ ليصادف الحق الذي يتطلبه الشرع.
وإذا كان الفتق الذي اعترى الدين من ناحيتين فصاعداً تعين أن يكون المجدد كفئاً للنهوض بما يتطلبه التجديد في ذلك، مثل أبي بكر الصديق ÷ في موقف ارتداد العرب.(1/239)
ثم إن الأظهر أن يكون هذا المجدد واحداً؛ لأن اضطلاعه بالتجديد وهو واحد يكون أوقع؛ إذ يكون عمله متحداً، ويكون أنفذ؛ إذ يسلم من تطرق الاختلاف باختلاف الاجتهاد في وسائل المقصد، وربما اقتضى حال الزمان أن يكون المجدد متعدداً في الأقطار بأن يقوم في أقطار الإسلام مجددون دعوتهم واحدة، أو يكون رجلان فأكثر متظاهرين على عمل التجديد في موضع واحد.
ولقد جوز ابن السبكي أن يكون ابن سريح وأبو الحسن الأشعري مجددين في نهاية المائة الثالثة: أولهما في الفروع، وثانيهما في الأصول، ولا مانع من قيام رجلين بمهم واحد، فقد أظهر ذلك في أعظم مهم وهو الرسالة، إذ أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى بني إسرائيل وفرعون وملئه، وأرسل رسولين لأهل القرية ثم عززهما بثالث كما جاء في سورة يس.
ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع، أو تأليف مثبوت بين الأمة، أو حمل الناس على سيرة، بحيث يكون سعيه قد أفاد المسلمين يقظة في أمر دينهم، فسار سعيه بين المسلمين، وتلقوه وانتفعوا به من حين ظهوره إلى وقت إثماره، سواء كان حصول ذلك دفعة واحدة أم تدريجيَّاً.
ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين، وتكون سمعتها بموضع القدوة للمسلمين، مثل أن يكون من أهل الحرمين، أو من مقر الخلافة، أو من البلاد التي تعنوا إليها وجوه المسلمين، مثل مصر في بعض عصور التاريخ، ولذلك نجزم بأن مظهر المجددين الذين ظهروا في عصور الإسلام كان هو الشرق؛ إذ يلزم أن يكون عمله نافعاً لجميع الأمة لا لصقع خاص.(1/240)
وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجاله بالغاً حدَّاً قاصياً في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى، ولا بالغاً الغاية في الفقه، ولا كائناً من أهل القضاء بالعدل؛ لأن تلك صفات قاصرة عليه؛ لذلك نرى عدَّ عمر بن عبدا لعزيز مجدد القرن الثاني غير متجه؛ إذ هو وإن كان بحق خليفة عدل إلا أن الإسلام قبل زمانه لم ترهقه رثاثة، وليت الذين عدوا عمر بن عبدا لعزيز في المجددين عللوا ذلك بأنه الذي أمر بتدوين السنة، وفيه نظر.
التوسم في تعيين المجددين، بحسب أدلة الحق المبين:
لقد قضيت حق البيان في توقيت الزمن الذي نطق فيه رسول الله "بقوله: =إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها+.
وأوضحت أنه مما قاله رسول الله في آخر سني حياته المباركة، فقضى ذلك أن يكون ابتداء الحاجة إلى التجديد من وقت وفاة رسول الله " لأن مدة حياة رسول الله هي مدة أكمل أحوال نماء الدين [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ].
إن وفاة رسول الله أكبر نائبة أصابت المسلمين، فإن رسول الله هو مظهر الإسلام، وكان جميع أحواله نفعاً للإسلام، ولعل في قوله _ تعالى _: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] إيماء إلى هذا المعنى، إذ قَصَرَهُ على صفة الرسالة؛ فكأنه لا صفة له إلا الرسالة، فوفاته بمنزلة رفع الإسلام من جذوره، وكأن الله أراد أن يظهر بركة رسوله لمحة، فيرى الناس كيف اضطرب أمرهم بموته، حتى لا يكون انتقاله هيناً عليهم؛ لأن عواقب المصيبة تزيدها قوة، فكأن الإسلام قد ذهب مشيعاً روح الرسول، ثم عاد بعد التشييع.(1/241)
فما شاع نبأ وفاته " حتى ارتجت المدينة واضطرب أمر الأمة، وهجست خواطر الشيطان في نفوس الأعراب وحديثي الإسلام، وكاد الخلاف أن يدب بين المسلمين في أمر الخلافة، وأخطر ما فيه توقع دبيب الخلاف بين فريقين لم يختلفا البتة، وهما المهاجرون والأنصار، فكان موقف أبي بكر أول يوم عقب وفاة رسول الله موقف من رتق الفتق، ورأب الثأي، وبه استقر أمر الجماعة في وطن الإسلام، ومدينة أهل الحل والعقد من قادة الأمة، فبايعوا أبا بكر خليفة لرسول الله في تدبير شؤون المسلمين، فكان ذلك مبدأ تجديد أمر الدين بعد انفتاق نسيجه، ومبدأ إشادة صرحه بعد أن أشرف على الانهيار.
وما استقر الأمر بضعة أيام حتى ارتدت العرب، وتسرب الانحلال إلى الجامعة الإسلامية، وبقيت سلطة الخليفة قاصرة على المدينة وقليل من القبائل؛ فوجم أبوبكر، وحار المسلمون، فاستشارهم أبو بكر في ذلك، فما أقدموا ارتياء مقاتلة معظم العرب؛ ولكن أبا بكر قد سدد الله رأيه وثبَّت فؤاده فقال: =والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، كيف لا أقاتل من فرَّق بين الصلاة والزكاة؟ فإن الزكاة حق المال+.
فشرح الله صدر الصحابة إلى تأييد أبي بكر والمقاتلة معه، وامتشق الحسام لنصر الإسلام، فلم يلبث إلا قليلاً حتى هَزَمت جيوشُه جميعَ قبائل الردة، وردَّ للإسلام قوته؛ فكان ذلك أول تجديد للإسلام، وكانت القبائل التي قاتلت معه هم الذين خاطبهم على لسان رسوله بقوله: [قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ].
وثاب العرب إلى الرشد، وعاد لهم إسلامهم، وطاعة إمامهم، وكان ذلك دخولاً جديداً في الإسلام لمعظم قبائل العرب دخولاً لم يخرجوا بعده.(1/242)
ثم رجع السيف إلى قرابه، واستقر أمر الإسلام في نصابه، وصلح حال المسلمين، وعلم الجميع معنى الإسلام ودوامه، فكان أبو بكر مجدد معنى الرسالة ومبيناً له، ولم يزل الإسلام يعلو، وينتصر، ويفيض على الأقطار كالسيل المنهمر، ففتحت الأمصار، ودُرِّست العلوم، وعَلِم الناسُ أمرَ دينهم، وأمن المسلمون كيد أعدائهم، وانتصبوا لنظام أمرهم، وتأييد أمور دينهم، وتلقي علوم الكتاب والسنة، وتدوين الآثار المروية عن الرسول ".
وانقضى عصر الصحابة، وحمل العلم من كل قطر عدولُه وأفاضلُه، وصار الناس متعطشين إلى ما يؤثر عن رسول الله وخلفائه، ومصيخين لكل من يقول: قال رسول الله، فتهمم بالرواية أقوام كثيرون، وصار التصدي والتلقي غاية أهل الألباب، ولكن تفاوت الأفهام وتباينها في الضبط والتقوى قد حدا بقوم إلى الاستكثار من الرواية عن رسول الله، والاستهتار بحب الإغراب في ذلك، وبالإصغاء لكل من يتظاهر بأن له علماً بسنة، أو تفسيراً لآية؛ فكثر الدخيل، وعظم القال والقيل، وتفطن علماء الأمة لهذا الخطب الجليل، وبدأت الشكاية من تساهل الضعفاء وغلاة الرواة تئن بها صدور أهل العلم والضبط، ففي صحيح مسلم أن عبدالله بن عباس قال: =إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف+.(1/243)
لقد تصدى للرواية عن رسول الله، ولتفسير القرآن أصنافٌ من الناس في العلم؛ فمنهم أهل الضبط والتحري من أهل الفقه والإفتاء والرواة، ومنهم أصحاب التساهل من أصحاب السِّيَر المتبعين لكل ما جاء فيه من أثر، ومنهم الوعاظ الذين تعلقوا ما يناسب دعوتهم من الآثار، وأبهجهم ما أعانهم من أثر يروى يعضد مقصدهم، ومنهم القصَّاص في المساجد والنوادي، والمتجولون في الحواضر والبوادي، يُلْقون إلى اللفيف ما تقبله عقولهم، وتبلغ إليه أفهامهم، فيتوخون أن يلتقطوا من المرويات كل ما يسهل على العامة قبوله، ويطابق ما في مخيلاتهم وإن كان ضعيف المعنى واللفظ، ومنهم أهل الأهواء والنحل الذين تعمدوا الكذب على رسول الله، أو تساهلوا بحسب جرأتهم على التدليس والترويج؛ فقد وضع الكَرّامية(1) عشرة آلاف حديث.
فكانت أهل هذه الأصناف الأخيرة غير مكترثين بالبحث عن صحة نسبة الآثار المروية إلى رسول الله " كاكتراثهم بمناسبة الآثار لأغراضهم، وحب الشيء يعمي ويصم، وهنالك اختلط الحابل بالنابل والخاثر بالزباد، ولم يزل تفاقمه في ازدياد، حتى بلغ السيل الزبى، وكادت أن تذهب السُّنَّةُ أيادي سبا.
ولم تزل طائفة من الأمة ظاهرين على الحق، باحثين عن مراتب الخلق، متهممين بانتقاد ما صح عن رسول الله من الآثار، لم يخل عن طائفة منهم قطر من الأقطار، إلا أن جمهرة هؤلاء كانت من علماء المدينة، يتلقى الخلف عن السلف رواية الصحيح؛ إذ كانوا عاكفين على معاهد الرسول وآثاره، سالمين مما تطرق من الابتداع في بعض أقطاره، والإيمان يأرِز إليهم، وسنة الرسول شائعة بين ظهرانيهم، وانحصر ذلك في فقهاء المدينة ورواتها، وهم عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسعيد ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، ولحق بهم محمد بن شهاب الزهري؛ فكانوا قدوة الرواة.
__________
(1) هم أتباع محمد بن كرام (م).(1/244)
ثم انحصر علمهم في مالك بن أنس عالم المدينة، فأزبد عنده ذلك المخض، وأفصح عن الخالص المحض، فانفرد في زمنه بحمل السنة الصحيحة، وعرض المرويات على محك النقد، وكان اعتماده في النقد من ثلاث معايير: عمل أهل المدينة، وقواعد الشريعة، وصفات الرواة، ولم تجتمع هذه المعايير لغير مالك.
وكان ظهور مالك في أوائل القرن الثاني في حدود سنة 112 لأن مالكاً قد نبغ وهو شاب، وكانت ولادته سنة 93 وقيل 96 فيكون في حدود سنة 110 قد بلغ الحلم أو تجاوزه.
قال شعبة: دخلت المدينة بعد موت نافع فإذا لمالك حلقة، وموت نافع سنة 117.
وقد اتفق العلماء من أهل عصره على تأويل ما روي عن رسول الله بروايات متقاربة في سنن الترمذي، وكتاب النسائي، ومسند أحمد بن حنبل ومستدرك الحاكم ومسند الشافعي من قوله ": =يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة+ أنه إشارة إلى مالك بن أنس، قال بذلك سفيان بن عيينة، وابن مهدي، ويحيى بن معين، وابن المديني، وجمع كثير.
ثم إن ما بلغه مالك من توقير خلفاء الدولة العباسية، وبرّهم إياه، ووقوفهم عند نصائحه، مع ما كان له من شدة على المتساهلين في الحديث وتلقي السنة _ قد أعان على نفاذ أصوله في تحمل الحديث، ومكَّنه من التقريع والتأديب لكل من يبلغه من المتساهلين والمبتدعين وأهل الأهواء.
وحسبك أن المنصور أبا جعفر قد همَّ همَّاً قويَّاً على أن يأمر الناس في أقطار الإسلام باتباع ما في الموطأ دون غيره؛ فانثال الناس على الأخذ عن مالك.
وقد اختص بأشياء لم تأت لغيره، وهي التعمير، وكثرة الآخذين عنه، وتفرقهم في سائر الأمصار، وإعلانه بطريقته، وتزييف الطرائق المخالفة لها، واجتماع إمامة الفقه والحديث فيه؛ وهذه صفات لم يشاركه فيها غيره ممن كان يدانيه في صحة الرواية مثل يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبدالرحمن بن مهدي، مع شدته في متابعة أصوله، لا ينحرف عنها قيد أنملة.(1/245)
ولأجل تخليد عمله، وتخطيط طريقه ألف كتاب الموطأ، وهو أول كتاب ألف في الإسلام، فذلك كله عيَّن عندي أن يكون مالكٌ مجددَ أولِ القرن الثاني.
وأرى أنه لم يشاركه أحد في تجديد أمر الدين من ناحية لحقت الدين منها رثاثة، فطريقة مالك × هي التي كانت الطريقة المثلى للتمييز بين الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذهب بها جُفاء ما طرأ على الرواية من الخلل، وقد أصبحت تلك الطريقة مسلوكة إلى يومنا هذا؛ فهو مجدد طريقة، وأصل عام في التحمل.
وما فرغ المسلمون من علم قواعد التحمل، ومعرفة المقبولين والضعفاء والمدلسين حتى طفحت الروايات عليهم من كل مكان، فمن صحيح وعليل، وأصيل ودخيل، فأصبح الناس في حيرة في مقام التمييز، لاحتياجه إلى علاج بوسائل القواعد، وذلك على الناس عزيز، فكانوا بحاجة إلى تدوين كتاب يجمع صحاح الآثار في كل نوع من أنواع التشريع، ويدحض ما عداها، فكان محمد ابن إسماعيل البخاري للأمة شمس هداها؛ إذ ألف الجامع الصحيح فاطمأنت نفوس المؤمنين، وألغوا كل معروف بالوضع وكل ظنين.
كان ابتداء ظهور عمل محمد بن إسماعيل البخاري في مبتدأ القرن الثالث من يوم قال رسول الله " مقالته تلك، أعني في حدود سنة 211 وقد كان هذا التجديد لناحية من الرثاثة في الدين، وهي رثاثة التساهل في الحديث من حيث جزئيات الأحاديث لا من حيث الأصل الكلي؛ فذلك وجه غير الذي لمالك، وإن جرى على أصل مالك؛ لأن البخاري جدد طريقة تمييز أعيان الأحاديث، ومالكاً جدد طريقة تأصيل قواعد الأخذ للسنة، وتخريج الأحاديث التي هي أصول للتفقه في الدين من صحيح الآثار.(1/246)
هكذا مضى المسلمون آمنين في طريق نقل الآثار الشرعية، ومسالك التفقه في الدين والتفريع فيه؛ فظهر الحق من الباطل، واستبانت السنن من الابتداع، فكان أهل السنة وأهل الحق غالبين من يغالبهم من أهل الأهواء والبدع الذميمة، وكان العلم الغالب في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه، ولا في علم التوحيد.
وفيما هم على تلك الحال من الهدى إذ نبعت فيهم فئات يخوضون في أصول الدين خوضاً يشوب الأدلة الشرعية بالأصول الفلسفية، ويعلنون أن الحق هو الذي يجب أن يكون رائد المسلم في أصول الاعتقاد، ويردُّون الأدلة السمعية التي تخالف الأصول التي أصلوها ردَّاً بالتأويل أو الإبطال، وكانوا قد درسوا ما ترجم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثة بينهم وبين أتباعهم، وصاروا يتبجحون على مخالفيهم بأنهم لا ثقة بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية، فدخلت بذلك على الأمة فتنٌ في عقائدها كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن، وتبعتها فتنة الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال، وغيرها.
فوجم أهل السنة وجمة عضوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ؛ فرثَّ الإسلام من ناحية العقيدة استدعت رحمة الله بأهله، وضمانه لحفظه، لأن يقيض من يذبُّ عن السنة، ويزيف مذاهب أهل الأهواء بنصب أدلة من نوع مما موَّهوا به على الناس وذلك هو إمام المسلمين الشيخ أبو الحسن الأشعري(1).
__________
(1) ليس أبو الحسن الأشعري × وحده في هذا بل سبقه بقليل وعاصره أئمة نفوا كثيراً مما ألصق بالدين من بدع، ومن أعظم أولئك إمام أهل السنة أبو عبدالله أحمد بن حنبل × الذي وقف سداً منيعاً أمام كثير من البدع، وعلى رأسها فتنة القول بخلق القرآن، بل إن الأشعري × لما رجع إلى السنة بعد الأربعين من عمره أعلن أنه على مذهب أحمد بن حنبل (م).(1/247)
كان الشيخ من أتباع مذهب الاعتزال، فأنهضه الله للذب عن السنة، وبين له سقم كثير من أصول المعتزلة، فانبرى لتأييد العقيدة الإسلامية السنية، وكان انتقاله إلى أتباع السنة منذ سنة 300 وأخذ يدلل العقائد بالأدلة الفلسفية، ويعضد بها الأدلة السمعية فتم عمله في حدود سنة 310 وتوفي سنة نيف وثلاثمائة وثلاثين، وقيل سنة 330 ببغداد، فهو مجدد رأس المائة الرابعة ولا أجدر منه بهذه المزية من علماء ذلك القرن.
من يجدد لهذه الأمة أمر دينها(1)
للشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور
(3)
لا بأس على المسلمين بعد ذلك في أمور شرعهم واعتقادهم وسلطانهم، ولكن ما طلع القرن الرابع، ولاح ظله حتى حدثت في الإسلام دول كثيرة، وادعى كل زعيم في صقعه السلطان لنفسه، وضعف أمر الخلافة العباسية لظهور الدولة السمانية فيما وراء النهر، والدولة البويهية في العراق، ودولة بني طولون بمصر، والدولة الصغارية بسجستان وخراسان، ودولة بني حمدان بالموصل والجزيرة والشام.
وفي أول هذا القرن ابتلى المسلمون بولاية الحاكم الفاطمي ملك مصر، وتفاقم حزب غلاة الشيعة بسائر أقطار الإسلام إدلالاً بملوكهم في مصر، وأنصارهم في الأقطار بالعراق والشام، وجباله وبإفريقية، وآلت الحال بالحاكم إلى أن ادعى الإلهية، واستوزر حمزة زعيم الإسماعيلية من الفاطمية، فأصبح المشرق والمغرب في مرج وفتنة من جراء تعدد الدول، وظهور ضلال النحل، وأصبحت قوة دول الإسلام مسلطة على أنفسهم بالحروب الطاحنة التي أزهقت النفوس، وكانت قصاراها أخذاً وردَّاً في أصقاع الإسلام، فضعفت السلطنة الإسلامية وجاء أعداء الإسلام، وانقطعت الفتوحُ وبَثُّ الدعوةِ الإسلامية الذي كان أمر الدين منذ ظهر الدين.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية/ الجزء التاسع/ المجلد التاسع/ ربيع الأول 1356هـ _ مايو 1937م، ص563_565.(1/248)
فظهر السلطان محمود بن سُبُكْتُكِين الغزنوي يمين الدولة؛ صار إليه الملك بغزنة سنة 388هـ وكان من أشد الثوار المتغلبين على الدولة العباسية ومسّ بحروبه سائر الممالك التي استبدت على الدولة العباسية.
كان محمود بن سبكتكين بَدَا له في سنة 392هـ أن يأتي عملاً يكون كفارة عما فرط منه في ابتداء تأسيس سلطانه من قتال المسلمين؛ فصمم العزم على أن يفتح للإسلام بلاد الهند، فأخذ يستعد لغزو الهند، وهجم على تخومها، وكان يفتح البلاد، ويحمل أهلها على الإسلام.
وكانت الحرب سجالاً، والهدنة تعقب قتالاً، وكان ملوك الهند كلما أحسوا بانصراف يمين الدولة عنهم نقضوا طاعته وكفروا إلى سنة 406هـ غزا الهند غزوته الفاصلة، فجهز جيشاً عظيماً، فابتدأ بغزو بلاد الأفغان، ثم اخترق بلاد الهند وعبر نهر الكنك وأوقع ببلاد الهند وقائع عظيمة، فلما رأى ملوك الهند أن لا قِبل لهم بمقاومته اجتمعوا على أن يراسلوه في الصلح، وبذلوا الطاعة له، فتم له استصفاء بلاد الهند في سنتي409 و 410هـ وصارت بلاد إسلام.
واعلم أن يمين الدولة محموداً لم يكن في أعماله خِلْواً عن إرشاد علماء الشريعة؛ فقد كان من أكبر مرشديه الإمام الجليل الأستاذ أبو حامد الإسفرائيني أحمد بن ابي طاهر الفقيه الشافعي المتوفى سنة 406هـ وهو الذي توسط لولدي الخليفة القادر بالله في ولايته كورة(1) خراسان، وما إليها وتلقيبه يمين الدولة.
وقد جاء في التقليد الذي صدر له من دار الخلافة هذه الفقرة: =وليناك كورة خراسان، ولقبناك يمين الدولة بشفاعة أبي حامد الإسفرائيني+.
__________
(1) كَورَة: هي ما يُسمى في زماننا بالمحافظة. (م)(1/249)
وكان من جملة العلماء الذين اتصلوا بيمين الدولة أبو القاسم عبدالله القَفَّال(1) المروزي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 415هـ وهو الذي صلى بحضرته صلاة لا تصح إلا على مذهب الشافعي _ والشافعي موافق فيها للجمهور _ وصلاة تصح على مذهب أبي حنيفة، فرأى السلطان ذلك كافياً في ترجيح مذهب الشافعي في نظر السلطان ترجيحاً خطابياً يناسب أفكار العامة؛ فكانت سبباً في تقلد السلطان مذهب الشافعي.
فالتجديد في صدر هذا القرن تجديد سياسي، وليس تجديداً علمياً إلا من فتنة الحاكم بمصر، وتفشي أنصاره في الشام وجبالها وبعض بلاد العراق والموصل، وتطاوله على أهل السنة أفضى ذلك خلال السنين إلى حدوث المَقَاتِل بين أهل السنة والشيعة فكانت في سنة 407هـ فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة في واسط، وفي القيروان بإفريقية، وكان مثار هذه الضلالات والفتن والمقاتلات الحاكم وأتباعه؛ فيمكن أن نعد في المجددين الرجلين المجهولين اللذين قتلا الحاكم سنة 411هـ بسعي القائد ابن دوّاس، أحد قواد الحاكم بمصر وبإغراء ست الملك أخت الحاكم(2).
الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام(3)
للأديب مصطفى صادق الرافعي
كما تطلع الشمسُ بأنواعها فتُفَجِّرُ ينبوعَ الضوء المسمَّى النهار، يولَد النبيُّ فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمَّى بالدين، وليس النهار إلا يقظةَ الحياة تحقَّقُ أعمالَها، وليس الدينُ إلا يقظة النفس تحقق فضائلَها.
وَرَعَشَاتُ الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
والعامل الإلهيُّ العظيم يعملُ في نظام النفس والأرضِ بأداتين متشابهتين:
__________
(1) ليست واضحة في الأصل، ولعل الصواب ما أُثبت (م).
(2) واضح أن تلك المقالات في التجديد لم تنتهِ بَعْدُ، ولكن هذا ما يسر الله الاطلاع عليه (م).
(3) وحي القلم 2/5.(1/250)
أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرُّسُلِ والأنبياء.
فليس النبي إنساناً من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشريةِ العامة؛ ولكنه إنسانٌ نجميٌ يقرأ بمثل =التلسكوب+ في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان؛ ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياةُ تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء _ صلوات الله عليهم _ تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة؛ فإنما النبي إشراقٌ إلهيٌ على الإنسانية، يُقَوِّمُها في فلكها الأخلاقي، ويجذبُها إلى الكمال في نظامٍ هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجيء الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثراً، وأيسر فهماً، وأبدع تمثيلاً، وليس عليها خلاف ٌ من الحس.
وهذا هو الأسلوب الذي يجعلُ إنساناً واحداً فَنَّ الناسِ جميعاً، كما تكونُ البلاغةُ فنَّ لغة بأكملها؛ هو الشخص المفسر إذا تعسف الناسُ الحياةَ لا يدرون أين يؤمنون منها، ولا كيف يتَهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يخلق رجل واحد؛ ليكون هو التفسيرَ لما مضى وما يأتي، فتظهرَ به حقائقُ الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية.
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفسُ النبي أبلغَ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفسانيُّ الدقيق الذي يُنْصَبُ لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء، وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قَابِلوا على هذا الأصل، وصحِّحوا ما اعترى أنفسكم من غلَط الحياة وتحريفِ الإنسانية.(1/251)
ومن ثمَّ فنبي البشرية كلِّها من بُعثَ بالدين أعمالاً مفصَّلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يُعطي الحياة في كل عصر عقلها العمليَّ الثابتَ المستقرَّ تنظِّم به أحوال النفس على مَيْزة وبصيرة، ويَدَع للحياة عقلَها العلمي المتجددَ المتغير تنظِّم به أحوالَ الطبيعة على قصْد وهدى.
وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يُغني عنه في ذلك دينٌ آخر، ولا يؤدِّي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبعٌ في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد " فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة، لا يمكن أن تعرف الأرض أكملَ منها، ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألِّهين وجُعلت في نِصاب واحد _ ما بلغتْ أن يجيء منها مثل نفسه " وكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدُرَّة في مَحَّارتها، أو تركيب كتركيب الماس في مَنْجمه، أو صفة كصفة الذهب في عِرْقه، وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تَدَبَّرْتَها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضْحَى.
وتلك هي الشهادة له " بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير، فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها: صلابتُه بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبَبٍ جبَلاً صَلْداً يَشْمَخ، وعند سببٍ آخر ماءاً عذب يجري.
وهو دين يعلو بقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكمَ العالم، ويستفرغ همَّه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى.
وفَرْقُ ما بين شريعته وشرائع القوة أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكُّمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلُّبها، وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواةِ، وسيادةُ الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملُها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.(1/252)
ومن هنا كان طبيعياً في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورةَ الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلةَ إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وَقُودُها الناس والحجارة؛ فلا تنظرُ العينُ المسلمة إلى أسباب الحياة نظرةَ الفكر المنازع: يحرص على ما يكون له، ويَشْرَهُ إلى ما ليس له، ويمكُرُ الحيلةَ، ويبدعُ وسائلَ الخداع، ويزيدُ بكل ذلك في تعقيد الدنيا.
بل نظرة القلب المسالم: يخْلع الدنيا ويسخو بكل مضنون فيها؛ فيعفُّ عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا؛ فيعفو عن كثير، ويُدرك أن الحلال _ وإنْ حلَّ _ فوراءه حسابه، وأن الحرامَ _ وإن غرَّ _ ليس إلا تعلُّلُ ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبرُ أغراض الإسلام هو أن يجعلَ من خشية الله _تعالى_ قانونَ وجود الإنسان على الأرض؛ فمن أي عِطْفَيْهِ التفتَ هذا الإنسان وجد على يمنته ويَسرته مَلَكين من ملائكة الله يكتبان أعمالَه بخيرها وشرها.
وإذا قامت هذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس، قام منها على النفس شرعٌ نافذٌ هو قانون الإرادة المميِّزة، تُريد الحسنات وتعملُ لها، وتخشَى السيئات وتنفرُ منها، فإذا معاني الجسد يحكم بعضها بعضاً، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة، وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضتْ إلى جانبها نواميسُ الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادةُ تُهْمَةٍ عند قاضيها في محكمتها، وإذا كلُّ ما في الإنسان وما حولَ الإنسان لا يُراد منه إلا سلامُ النفس في عاقبتها، وإذا معنى السلام هو المعنى الغالبُ المتصرِّفُ بالإنسانية في دنياها.(1/253)
وكلُّ أعمال الإسلام وأخلاقِه وآدابه فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها، لا يقررها للإنسانية حَسْبُ، بل يغرسها في الوراثة غرساً بالاعتياد والمران الدائم؛ لتكون علماً وعملاً، فتمكِّنَ لسلام النفس بين الأسلحة المسدَّدة إليها من ضرورات الحياة، في أيدي الأعادي المتألِّبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعمُّ السلام إلا إذا عمَّ هذا الدين بأخلاقه فشمَلَ الأرض أو أكثَرَها؛ فإن قانون العالم حينئذ يصبح منتزَعاً من طبيعة التراحم، فإمَّا انتسخَ به قانونُ التنازع الطبيعي، وإما كسَرَ من شرَّته، ويُولد المولود يومئذ، وتولدُ معه الأخلاق الإنسانية.
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضةٍ عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً _ هذا هو أساس العقيدة الإسلامية، ولا صلاحَ للإنسانية بغيره يردها إلى سبيل قصدها؛ فإن من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلِبُ على المجتمع، وتُجانس بين أفراده، فتوجِّه الإنسانيةَ كلَّها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، فيصبح المرء _ وهذا دينُه _ كلما تقدم به العمر كَمُلَ فيه اثنان: الإنسان والشريعة، ولا يعودُ طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله؛ ليُمْسِكه، فلا يدرك في الآخر شيئاً غيرَ معرفته أنه كان في عمل باطل، وسعي ضائع.(1/254)
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلَغَه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق، ولكن بالعمل، ثم في النفس وعواطفِها، لا في العقل وآرائه، ثم على وجه التعميم، دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سرُّ مشقَّته على النفس بما يفرضه عليها؛ فإن فلسفته أن هذا النفسَ هي أساسُ العالم، وأن النظامَ الخلُقيَّ هو أساسُ النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشقُّ بعضَ المشقة ولا يبلغ العُسر والحرج كما تكون فيما يَسْهُلُ بعضَ السهولة ولا يبلغ الكَسَل والإهمال.
وللنفس وجهان: ما تُعلن، وما تسرّ، ولا صدقَ لإعلانها حتى يصدقَ ضميرها، ولا صلاحَ لجهرها حتى يصلُحَ السرُّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بمشهده حتى يكون كذلك بغيْبِه.
وللعالم كذلك وجهان: حاضرُه الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له، ولا يُفلح حاضرٌ منقطعٌ لا يورِّثُ ما بعده كما وَرث ما قبله، وما حاضرُ الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقيةً نامية.
وللنظام أيضاً وجهان: نظامُ الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنَّفْرة منها، ولا يستقيم شأنٌ ليس أساسُه الطاعةَ في النفس، ولا يستمر نظامٌ عليه خلافٌ من فكر العامل به.
وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما(1) طريقة الجاد يعمل للعاقبة يسْتِيقِنُها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذةَ المغالبة للنصر: كلُّ مرارة من قِبَله هي حلاوة فيه من بَعد، ولا يعرف للمحنة يُبتلى بها إلا معناها الحقيقيَّ وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن تحبه، صبرٌ فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيالَ الاستمتاع، ويُذيق النفسَ في العجز عن بعض أغراضها لذةً كلذة إدراكه.
__________
(1) ذكر واحدة ولم يذكر الأخرى.(1/255)
تلك هي فلسفة الإسلام، لا قِوامَ للأمر فيها، ولا مِساك له إلا بتقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابَع الجنة على أعمال الجنة، وطابَع النار على أعمال النار، وحياطة كل فرد من الناس حياطةً رياضية عمليةً بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلَّف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيَّته، وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية؛ فلا يحاول كلُّ إنسان أن يجعل بطنَه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية بما ينتقض من حقوق غيره، بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية.
وبهذا لا بغيره تتعين مقاييس الأخلاق في الأرض، بالمصلحة لا باللذة، فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحلُّ المشكلة الاجتماعية ما دامت الحياة لا تجد من أهلها كلَّ ساعة عُقَداً فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحدَه الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نَسَقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقةُ لتطهير التاريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية، التي جعلته كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس، وتركت الناس يهدم بعضهم بعضاً، كما يهدم الجار حائط جاره؛ ليوسِّع بيته.
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكونُ الفقير مُعْدِماً ويتعفَّفْ، ويكون الغنيُّ موسراً ويتصدَّق، ويكون الشَّرِهُ طامعاً ويمسك، ويكون القوي قادراً ويُحجم، وكما قال العرب في تحقيق ناموس الأَنفة والحميَّة وغلبته على الناموس الاقتصادي: =تجوع الحرَّة ولا تأكل بثدييها+.
تريد الإنسانية امتداداً غيرَ امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانَها غير الحيوان الذي فيه، وإذا قاد الغراب قوماً فإنما هو _ كما قال شاعرنا _ يمرُّ بهم على جِيَفِ الكلاب.(1/256)
والإنسانية اليوم في مثل ليل حَوْشِيٍّ مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراقَ الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رفع المصباح لم تجد الظلامَ إلا وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته.
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظُم وتسمو وتتخيلُ وتفرحُ فرحها الصادقَ وتحزنُ حزناها السامي _ إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالَم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيِّها الطبيعي، نبيِّ أخلاقها الصحيحة وآدابِها العالية ونظامها الدقيق، وأين تجد هذا المحبوبَ الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟
وعجيب أن يجهلَ المسلمون حكمةَ ذكر النبي العظيم خمسَ مرات في الأذان كل يوم، يُنادَى باسمه الشريف ملءَ الجو، ثم حكمةَ ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة، يُهْمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرضُ عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوماً واحداً من التاريخ، ولا جزءاً واحداً من اليوم؛ فيمتدُّ الزمن مهما امتدَّ والإسلام كأنه على أوَّله، وكأنه في يومه لا في دهرٍ بعيد، والمسلم كأنه مع نبيِّه بين يديه تبعثه روحُ الرسالة، ويسطع في نفسه إشراقُ النبوَّة، فيكون دائماً في أمره كالمسلم الأول الذي غيَّر وجه الأرض، ويظهر هذا المسلم الأولُ بأخلاقه وفضائله وحَمِيميَّته في كل بقعة من الدنيا مكانَ إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فإنَّ كلَّ أرضٍ إسلامية يكادُ لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخيُّ بجهله وخرافاته وما وَرثَ من القِدَم، فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطِّل... وما يريدُ الإسلام إلا نفسَ المسلم الإنساني(1).
أيها المسلم!
__________
(1) يقصد المسلم الفطري الذي لم تتدنس فطرته (م).(1/257)
لا تنقطعْ من نبيك العظيم، وعشْ فيه أبداً، واجعله مثلك الأعلى، وحين تذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه، كن دائماً كالمسلم الأول، كن دائماً ابنَ المعجزة.
ثاني عشر: مقالات في العلم والتحقيق
55_ الإسلام والعلم: للعلامة محمد الخضر حسين
56_ العلم بالتأليف: للشيخ عبدالعزيز المسعودي
57_ العلم عند الله: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
الإسلام والعلم(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
طَلَعَ الإسلام، فوجد طرقاً من الباطل مسلوكة، ومظاهر من الفساد مألوفة، فجاهد تلك الأباطيل حتى زهقت، وكشف عن قبح تلك المفاسد حتى هجرت، قوم النفوس حتى استقامت على توحيد الله _ تعالى _ والعبادات التي يتقبلها، ويجزل المثوبة عليها، وعلَّمها بعد هذا كيف تعيش في هذه الدنيا عالية الهمم، نبيلة الأعمال، عزيزة الجانب، محفوظة الكرامة مأمونة العواقب، سديدة الأنظار، رشيدة الآراء، متواصلة القلوب.
وتفاضل الشعوب على قدر أنصبائها في هذه الخصال والمزايا التي لا تتحقق المدَنِيََّةُ الفاضلة إلاَّ بها.
دعا الإسلام إلى تلك المقاصد السامية، وأخذ في دعوته بإقامة الحجة، وإلقاء الحكمة، وضرب الأمثال، وإيراد القصص العامرة بما فيه عبرة.
نَشَأَ هذا الدين الحق بين خصوم يناصبونه العداء، ويأتمرون به؛ ليطفؤوا نوره ويقطعوا السبيل دونه، وما كان إلاَّ أن خاب سعيهم، فسطعت حُجَّته، وعَلَتْ كلمته، ومع سطوع حجته وعلو كلمته يَلْقى في كل عصر طوائفَ يأكل الزيغُ قلوبَهم، فيطعنون فيه علناً، أو يذهبون في الكيد له مذهب التأويل الفاسد وهم يعلمون.
ولم يفقد بتوفيق الله _ تعالى _ في كل عصر طائفة من ذوي العقول الراجحة لا يخشون في الذود عن موارده لومة لائم، فيزيحون من طريق هدايته ما يلقيه أولئك الجاحدون أو المُرَاؤون.
ومن هذه الطوائف الخاطئة من يزعم أنَّ الإسلام لم يبعث الدواعي إلى طلب العلم.
__________
(1) مجلة نور الإسلام الجزء السادس، المجلد الرابع ص67_69.(1/258)
والواقع أنَّ الإسلام قد رفع قدر العلم، ونوَّه بشأن العقل، وسلك بطلاب العلم مسالك النظر والاجتهاد، وعودهم على نقد الآراء، و تمييز زائف الأخبار من صحيحها، فلما نُقلت العلوم النظرية إلى اللغة العربية وجدت منهم نفوساً تَلَذُّ العلم، وعقولاً تنشط للمناظرة، وألسنةً تعرف كيف تقرر الحجة؛ ففتحوا لها صدورهم، ووضعوها تحت سلطان أنظارهم، ولم يمنعهم إعجابهم بها، وتنافسهم على التَضَلُّعِ من مواردها أن يطلقوا الأَعِنََّةَ في مناقشتها، وتقويم المُعْوَجِّ من مذهبها، فَسَدُّوا ثغوراً يأتي من قِبَلها الباطل، وذَلَّلوا لطلاب العلم الطريق الذي تَفَيَأوا فيه ظلال الرشد، وتُدْني فيه الفلسفةُ المعقولةُ قطوفها؛ فقامت للعلوم على اختلاف موضوعاتها سوقٌ نافقة، وأصبحتَ ترى علوم الشريعة وعلوم الفلسفة المعقولة يلتقيان في النفوس المطمئنة بالإيمان، وتَسَنَّى للتاريخ أن يحدثك عن كثير من علماء الإسلام، ويصفهم بأنهم جمعوا بين العلوم الشرعية، والعلوم الفلسفية، كالغزالي، وابن رشد، وأبي عبيدة مسلم ابن أحمد الأندلسي، وهو أول من اشتهر في الأندلس بعلم الفلسفة، وكان مع هذا صاحب فقهٍ وحديث.
ومن الظن الخاطئ ما تَخُطُّه بعض الأقلام من أنَّ هذه العلوم المادية قد تشد أزر الإلحاد، و تجعله يظهر على دين كدين الإسلام؛ فإنَّ النظر الصحيح في هذه العلوم لم يأت بما يؤازر الإلحاد، وليس في نصوص الدين الإسلامي وأصوله ما يتعارض مع العلم الصحيح حتى يستطيع الإلحاد أن يتخذ منه قوة.
وإنما الآراء التي تدفعها الحجة قد تقع في يد من لا يحسن نقدها، ولا يميز رأسها من عقبها، فيعارض بها آية من كتاب الله، أو حديثاً صح عن رسول الله" ويذهب في الحيرة أو الضلالة إلى مكان بعيد.
وقد تكون آفة الرجل من عدم تفقهه في الدين، وتخيله أن معنى الآية أو الحديث يخالف ما أثبته العلم الصحيح.(1/259)
فبلاء أبناء المسلمين الآن من أحد رجلين: رجلٍ يتعلق بآراء المنتمين إلى الفلسفة، لا يُفَرِق بين جَيِّدِها وزائفها، حتى إذا لَقِيَ في الدين ما لا يوافق تلك الآراء الزائفة خالطه الريب أو الجحود، ورجلٍ يدرس الفلسفة ولكنه لم يدرس الدين في طمأنينة، ولم يبحث في حقائقه بنظر فاصل؛ فيتوهم أن بعض نصوص الدين أو أصوله لا يطابق المعقول.
ماذا يكون مَبْلَغُنَا من الحكمة إذا لم نَزِنْ آراء علماء الغرب بالقسطاس المستقيم، ولم نُفَرِّق بين ما ينبني على علم أصيل، وما يقولونه على وجه الفرض، أو يتعلقون فيه بشبه واهية، وعمدنا إلى كل نص يظهر لنا أنه مخالف لرأي من آراء أولئك العلماء؛ فنذهب في تأويله إلى معنى يطابق ذلك الرأي، حتى إذا انكشف الحق وظهر للملأ أنَّ ذلك الرأي خيال في خيال، عُدْنَا إلى ذلك التأويل فمحوناه بأيدينا، وكذلك يفعل من يستهويه كل ناعق، ويفتنه كل جديد؟!.
لم يخلص الدين من مبتدعة أو زنادقة افتروا عليه مزاعم باطلة، وذهبوا في تأويله مذاهب فاسدة.
وقد قام علماء الشريعة الذين يردون منابعها العالية؛ فبينوا بطلان تلك المزاعم وفساد تلك المذاهب، فما كان لأحد أن يأتي إلى أمثال هذه الأقذاء التي نفاها أهل العلم من قبل، ويتخذ منها شبهة على أن في الدين ما لا يقبله العقل أو لا يرضى عنه العلم.
فإنْ بدا لك أنَّ في قسم العبادات ما لم يصل العقل إلى حكمته الخاصة وهو ما يقول فيه بعض العلماء: هذا الأمر تعبدي، قلنا: معنى هذا أن في الشريعة أحكاماً قد تخفى على العقل حكمتها المعينة، كما أنه لا يستطيع إنكارها إنكاراً يستند إلى وجه معقول.
وهذا النوع _ على قلته في شريعة الإسلام _ ليس بموضع خلاف بين الدين والعلم أو العقل، وإنما يرينا أن من أحكام الدين ما لا يدخل العقل في تفصيل حكمته، ولا في نفي حكمته.(1/260)
ولكن الآيات القائمات على أن الدين حق هي الآيات البَيِّنَات على أن هذه الأحكام مطوية على حكمة بالغة، وإن لم ندركها بوجه خاص؛ فإن الدين الحق لا يدعو إلاَّ لما فيه خير [وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] الأحزاب: 4.
العلم بالتأليف (1) للشيخ عبد العزيز المسعودي
علم الذين أوتوا العلم من المصريين ماهو التأليف والتدوين,فنبهوا الناس من سبات عميق,وأروهم كيف يكون التقدم بالمعارف؛ فكتب الكاتب,وتلاه المحرر,ثم المؤلف, وقام الخطيب يشكر صنيعهم علماً منه أن الشكر داعية المزيد, فثارت النفوس, وتسابقت الهمم,وكثرت التآليف التي هي حياة العلم,ولسانه الذي يناجي النفوس.
فما راعنا وقد كنا نرى المصري يؤلف في كتب هي سواد على بياض إلا وقد ألف في الفلسفة, والكيمياء, والبلاغة, والتفسير, وجاء بما يقرب من حد الإعجاز في الكتابة والإنشاء.
أما نحن رجال هذا القطر(2), فإنا نعرف مزية التأليف ونتيجة التحرير, ولكن لانكتب, ونتعلل بتعاليل لاتحط عنا واجباً.
وحيث كان من طرق الترغيب, والحث على العمل بيان الحقيقة والنتيجة, رأينا أن نكتب كلمة في تاريخ التأليف بما يكون باعثاً على إيجاده من الذين توفرت فيهم شروطه, حتى يفيدوا الأمة, وتنبعث فيها روح حياة لا موت بعدها, وبذلك يرجع عن فكره من كان يعتقد أن صناعة التأليف دفعت مع المتقدمين, ويعترف بكبر خطئه، وبُعْد خُطَاه.
فأقول: إن التآليف العربية كانت مجهولة عند المتقدمين, وما كان لهم إلا الشعر,وهومجمع أخبارهم, وفيه ذُكرت مفاخرهم بالضيف, والفصاحة, والسيف, وبه بلغت لغيرهم أخبارهم.
ولولا خِلالٌ سنَّها الشعرُ ما درى ... بُناةُ المعالي كيف تُبنى المكارمُ
ومن ذلك مُدح الشعر عندهم, وكانوا يفخرون به من هاته الفائدة, حتى قال شاعرهم:
أرى الشعر يحيي الجودَ والبأس بالذي
__________
(1) مجلة السعادة العظمى عدد 16, 16,شعبان 1322 هـ ص241_244.
(2) يعني: (تونس).(1/261)
بالذي ... تبقِّيه أرواحٌ له عَطرِاتُ
وما المجدُ لولا الشعرَ إلا معاهِدٌ ... وما الناسُ إلا أعظمٌ نخِرات
وكان العلم إذ ذاك كنزاً يبالغ في كتمانه من اهتدى إليه؛ ليمتاز به على غيره, إلى أن جاء الدين الحيف وسط بساطة البداوة, وحرية الفطرة داعياً الناس إلى المساواة في الحقوق البشرية, آمراً بالتعليم والتعلم, وناهياً عن كتمان العلم, متوعداً بأشد العقاب من عرف علماً وأخفاه.
وقد كانوا غير منشغلين بالتصيف, جارين على طريق العرب الأول للاستغناء بالحفظ؛ فأخذوا يتوجهون وجهة العلوم, وتولد فيهم حب استطلاعها, وقد انتشر الإسلام, واتسعت مملكته, وحدثت الفتن, فأول شيء عملوه في ذلك هو تدوين الحديث الشريف, وقوانين الشريعة السمحاء, ثم اشتغلوا بالنظر والاستدلال والاستنباط, وتمهيد القواعد والأصول, وترتيب الفوائد والفصول, وكان ذلك مصلحة عظيمة, ثم اشتغلوا بعد تدوين ذلك بتدوين فنون أخرى عند مسيس الحاجة إليها, حتى ضُبطت جلُّ العلوم ودُوِّنت.
وبقوا ينقبون عن آثارها, ويتتبعون مظانها, ويستوضحون طرقها, حتى أزاحوا عن كتب العلم الأرصاد, وعمدوا إلى تلك الكتب اليونانية والرومانية =التي قامت دهوراً في محابسها لاينتفع منها أهلها+ فترجموها إلى العربية, وقالوا في سبيل منفعة الكتابة أن عقل الإنسان لايقدر على استنباط العلوم الكثيرة, فصار الإنسان إذا استنبط مقداراً من العلم أثبته بالكتابة, فإذا جاء إنسان آخر, ووقف عليه, قدر على استنباط شيء أخر زائد على ذلك الأول.
كما قالوا: لا كلمة أضر بالعلم من قول القائل: =ما ترك الأول للآخر شيئاً+؛ لأن هذه الكلمة تقطع الآمال عن زيادة العلم على علم المتقدمين, ويقتصر الآخر على ما قدمة الأول, وهو خطر عظيم وقول سقيم.
قل لمنْ لايرى المعاصر شيئاً ... ويرى للأوائل التقديما
ا
إن ذاك القديم كان حديثاً ... وسيبقى هذا الحديث قديما(1/262)
وفي سنة 697: يقول الشيخ عبد العزيز الديريني في خاتمة كتابه ـ الروضة الأنيقة في بيان الشريعة والحقيقة ـ: =إذا حُقق أصل العلم، وعُرفت مواده، وجرت فروعه ، ولاحت أصوله _ كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله, فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر, وإن كان له فضيلة السبق؛ فالعلم حاكم، ونظر المتأخر أتم؛ لأنه زائد على المتقدم, والفتح من الله مأمول لكل أحد+.
وعسى أن يكون لهاته الكلمة أثر ٌفي بعض النفوس الحية, فتنتبه إلى فائدتي التآليف العامة والخاصة؛ فإن فائدة التآليف على المجتمع العمومي أشهر من أن تذكر, ويكفي أن يقال: إن بها بقاءَ العلوم ونموَّها وانتشارها الذي به تقدم الأمة, وصلاحها الذي يرغب فيه؛ كما أن المؤلف يبقى ذكره حياً على ممر الزمان,حتى كان جسده كذلك لايفوت إلا شبَحه إذا لم يكن له مثال, أو صوته إذا لم يتكلم أمام حفظ الصوت.
العلم عند الله(1)
تحصيله ــ المقدَّم منه والمتعين ــ خطته ــ نعيمه ــ الغاية القصوى
للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور
[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] التوبة: 122.
عَذَر الله _ تعالى _ المؤمنين في قعود فريق منهم عن طلب العلم، ولقاء رسول الله " لما علم ما سنّه ناموس الكون أنه لا يستقم نظامه إذا اتحدت غاية أهله في أعمالهم كيفما بلغت من الشرف.
وحسبك من شرف العلم اتفاق العقلاء وغيرهم أنَّه أعلى صفة يتحلى بها البشر، وأسمى غاية يقصدها الناس، وصل ذلك إلى حد أن عَرَفَتْه العامة في أسواقها، وتهافتت على الاتسام بميسمه والتعوذ من ضده.
__________
(1) السعادة العظمى، العدد(4)، (16) صفر 1322هـ، المجلد الأول ص34 _ 39.(1/263)
ولكن مع ذلك لو اقتصروا عليه لفسد نظام الكون كما لو اقتصروا على غيره؛ فأمرهم أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة؛ لتحصيل العلم والتفقه بالدين؛ لأنَّ العلم لا يستقيم بدونه، ولأن وجود العلماء من بين الفرق تنبيه لها، ونبراس ينوس بين يدي صنعها في ظلمات الشك.
هب أنها وصلت من السقوط إلى حد أن كانت في صمم عن تلقي نصائحهم؛ فإنها لا تعدم في ضمن ذلك شعورها بحقائق الأشياء، وصد الباطل منها عن الحق سواء رضيها أم أسخطها .
ولا مرية أن إتيان الشيء بعد العلم بحالة ادعى للدوام عليه إن كان خيراً، وأقرب إلى الانكفاف والتقهقر عنه في حكم سخافته وكراهته التي تنطبع في النفس مع العلم بحاله مهما غولطت تلك النفس في انطباعه، أو عرضت سحب وهمها لستر شعاعه .
الغاية الذي حض الله _ تعالى _ عليها الناس بلولا المتلوة بالفعل هي الفقه في الدين، والفقه إدراك الأشياء الخفية، وهو بهذا المعنى باب الحكمة، أو هو الحكمة نفسها؛ ولذا نرى الله _ تعالى _ ينفي عن أقوام الفقه في مواضع الخفاء نحو ما قال[وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ]الإسراء: 44.
فهو تمهيد للعذر في الجملة، وينفي عن آخرين العلم في مواضع الظهور نحو لا يعلمون، وفرق مابين العلم والفقه .
كان الله _ تعالى _ ولا يزال حريصاً على المؤمنين أن يتلقوا الدين بفهم لخفاياه وأسراره؛ فأوصاهم في غير موضع بالفهم والاستنباط والعلم، مرة بالتصريح، وأخرى بالإشارة حتى بترك البيان في مواضع، وذلك أرشدنا إلى أن الغاية المطلوبة من العلم كيفما كان هي الوصول إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه بحيث لا يحتمل نقيضاً .
ولا يؤثر فيه تشككيك المشككين , ولا اعتراض أو سخط الواهمين .
سنَّ الله _ تعالى _ النفر في طلب العلم ,والعلم وإن كان ربما وجد في فسطاطك، بل في بيتك؛ فقد كان النفر والرحلة من أكبر ما يفيد قوته وكماله.(1/264)
وبمقدار الرحلة إليه تحصل غايات شريفة من معانيه؛ لأن التعلم باعتبار المغبَّة يؤول إلى توسيع الرأي وقوته؛ ليكون رائد نفسه بنفسه, والعمل الذي هو موجب رسوخ الملكات في أصحابها ونموِّها في جانب العلم والرأي _ هو ملاقاة الآراء وتقادحها, حتى قيل: ما بين الرأيين رأي .
انظر إلى رجل يقرأ في بيته ما يقرأ الناس,كيف لا تجده على كمال نحو ما تجد المتعلم بالدروس العامة؛ لما يلقاه من مقادحة الأفكار ومبادلة الآراء.
وفي ذلك دَرَبَةٌ عقلية طبيعة تحصل بتدرج وخفاء حتى تنمو الملكة العقلية وتعتاد بالعمل التيقظ؛ إذ التشاور الفكري والتبادل النظري يجعل جليسك منبِّهاً لغفلتك عند حصولها , كما يجعلك له منبهاً حتى يصير التنبُّه إلى الحقائق سجيَّة لك متى كنت مجبولاً على التهيؤ لذلك، والرحلة بعد ذلك تفيد أكبر.
ولو ذهبت تعد الأفراد الذين سموا برسوخ القدم إلى مرتقى راق في قوة الرأي _ لرأيت فيهم من الراحلين أكثر مما ترى غيرهم؛ وما وصلت إلى قرطبة بعلمائها إلى تلك الغاية إلا بالرحلة , ولعلك تذكر الباجي، والأصيلي، وأبا بكر بن العربي، وبقيَّ بن مخلد، ومنذر بن سعيد البلوطي، وعبدالملك بن حبيب و.....
خص الله _ تعالى _ الفقه في الدين من بين العلوم كلها؛ لأنه يومئذ واليوم أكبر شيء تحتاج له الأمة؛ إذ لا يكون لها أن تعرف كنه شرعها الذي هو مستودع آدابها، وتعليماتها القانونية، والأخلاقية وملاك تقدمها إلا به.
وذلك ينبغي أن يكون الفرض الأول من تعليم المسلمين في أي زمان وأي مدرسة, وبدونه لا يستقيم لهم أمر كما لم يستقم.(1/265)
ثم لما آل أمر العلم إلى قضاء الحاجة منه,وكان تعليم الأمة في كل زمان على مقدار حاجتها, وربما تزيد على علم الدين, فمن المتعين عليها أو على من يدبر أمر تعليمها من سادتها وكبرائها الحكماء أن تضم إليه ما تحتاجه, سواء في ذلك مبادئ الدين و هي علوم العربية: اللغة والنحو والبيان التي لا يمكن لغير العربي بالسجية أن يصل إلى معنى الفقه في الدين بدونها، أم غيرها من العلوم التي يتوقف عليها كمالها؛ فالحاجة هي مقدر العلوم وهي شيء واحد ينطبق على كل زمان؛ عنيت بالحاجة أن يتوقف تقدم الأمة، ويتقلص ظلها، ولا يمكنها مزاحمة غيرها من الأمم في خوض لجة الحياة بدون ما احتاجت إليه؛ فذلك العلم الذي يطلب منها في مرتبة فرض الكفاية, وهذا في كل زمان يتحول مع المحافظة على الأصل الذي نص الله عليه, وهو الذي لا يحتوي إلا متى تحولت الأمة كلها, والحكيم قدير على أن يشرح هذا في دروس أو مقالات فائضة يتبع بعضها بعضاً.
نبَّه الله _ تعالى _ على أن فائدة المتعلم من علمه أمران مهمان:
أحدهما: تفقهه في نفسه الذي يرفع عنه رجس الجهالة، ويذيقه حلاوة الإدراك، ويخفف همه، ويعمر وقته، ويجيد عمله.
وثانيها: وهي الغاية العامة والمصلحة الشاملة إنذار قومه وأمته الداخل تحت عموم قوله _ تعالى _: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ]العصر: 3.
وقول رسوله: =الدين النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم+.
إنذار القوم هو أن يبلغ لهم أمانة الله _ تعالى _ مما علمه على ما هو معتقد غير مداهن في ذلك؛ لاستجلاب بشاشة الكبراء، أو قضاء مألوف العامة.
بل الذي أوجبه الله _ تعالى _ أن ينذرهم بما علمه على ما اعتقده سواء أرضى الأمة أم أسخطها، متذكراً في ذلك قول رسوله الأمين " في خطبة حجة الوداع =ألا هل بلغت اللهم فاشهد+ يكررها المرات .(1/266)
أما التصميم في الرأي فهو الذي يُفْشل المكابرين، ويركد ريح الحاسدين، والعاقبة بعدُ للمتقين قال الله _ تعالى _ [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] آل عمران: 146.
لسنا نطالبه أن يعض بالنواجذ على رأيه وإن كان خطأ؛ لأن هذه صفة المكابرة التي نتبرأ منها، والمجاحدة التي جاء الدين لإزالتها من نفوس الناس.
ولكنا نرغب أن لا يرجع إلاَّ إلى العلماء الحقيقيين متى أرجعوه بالدليل، ولا عليه أن لا تتقبل الأمة نصحه وعلمه؛ فييأس من غاية سعيه، ويستأيس إن قد خاب أمله، ويرى أن لم تبقَ فائدةٌ في تذكير قوم كالأنعام أو هم أضل سبيلاً؛ فموافقتهم أولى من مخالفتهم، يتأول أن الله ما أمر بالمجاهرة بالحق إلا لتحصل الغاية منها، فإذ قد انعدمت الغاية كان الواجب أن نسعى في مرضاة قومنا، فنحصل _ في الأقل _ على لذة المصافاة، هذا هو سوء التأويل.
إنَّ الإنذار بالحق يقذف في قلوب المنذرين علماً إن خالفوه أصيب هواهم بالمرار من النكد، أو شكاً يكشفه لهم ريب الزمان.
وتكرر الإنذار إن لم ينفث في قلوب المنذرين ما أُمَّل منهم لا يعدم أن يصدر عن أزدواجه نشأٌ ربما يطبق تكاثفه المُتَرَقَّبُ جو العقول، ويمطر من مزنه على أرض قلوبهم الميتة، وليذكر ما أوصى الله به رسوله [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ] الشورى: 48، وقوله [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ] البقرة: 272، وقوله [وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين]، [ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)]، [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)] الحجر.
نظراً لهذا المعنى حين علم الله _ تعالى _ عسر تحول الناس عن الفهم، وانقلابهم عن جهلهم وشدة استمساكهم بضلالهم ما حقق لنا سبحانه لحصول الغاية _ وهو أعلم بالحال _ ولكنه جعلها في موضع الرجاء لا في موضع اليقين فقال: [لعلهم يحذرون].(1/267)
فإن قال قائل من الذين يستمعون إلينا: إذا كان العلم كمالاً، واشتاقت النفوس إليه وأراد كل أحد أن يضرب بسهمه فيه، حين يعلم بما وصفت حاله قبل من الرجس وسوء القصد _ فبأي وسيلة يمكن أن نكشف عنها هذا الرجس مع قضاء حق الكون من اختلاف الآيات والأعمال؟ وكيف نستطيع أن نجعل العلماء صانعين سواء كنَّا مدبري أمر الأمة أم بالأقل أمر أنفسنا وأبنائنا ومن يهمنا الأمر بحالهم من أصفيائنا ؟.
فجوابنا أن طريقة ذلك أن يسعى معلموهم في ثلاثة أمور إن تمت لهم.
الأمر الأول: أن يقذفوا في قلوب الأمة جمعاء الإقناع بمبدأ واحد، وهو الشعور بأن تقدم أي صناعة يتوقف على إتقان علم تلك الصناعة، وتنوُّر عقل صاحبها؛ فإتقان علمها شيء ثانٍ وهو أن يمارس قواعدها سواءٌ كانت ممارسة مدرسية كلية، أم تجريبية جزئية تفيد الاطلاع على غوامض تلك المهنة وتوسيع عقل الصانع، وتنوره هو المرتبة الأولى، وذلك إعداد من الله غير أن الناس قادرون أن يسعوا فيه بوجه الجملة من حيث أن الله أعد كل إنسان بما هو إنسان لتلقي الكمال والنقصان بحسب همته، وذلك بالأمرين التاليين، وعن ازدواج هذين تتولد ملكة الاختراع في سائر الأشياء.
الأمر الثاني: تعميم التعليم بين سائر أفراد الأمة، وجبر الناس عليه لا بإخراج التلميذ من بيته إلى المدرسة كرهاً, ولكن باتفاق الأمة مع كبرائها على أن لا يعتمد بأي رجل لم يكن مستكملاً للتعليم الابتدائي الذي يجب أن يشترك فيه سائر الأمة, فيلزّ الأب أو الابن في قرن هذا التكليف متى علم توقف مستقبله على التعليم.
أما تنشيط الكبراء وتعضيدهم للنابغين من أهل النشأة العلمية فهو الباعث الأكبر على المسابقة في حلبة النظر, ولكنه _ ويا للأسف_ شيء لا ينشأ إلاَّ عن معرفة مقدار كدِّ الأفكار، وكفى بلذة العلم منشطاً لأصحابه وشاغلاً للقلب عن اطراحه دون عناية أمته واغترابه.(1/268)
الأمر الثالث: أن يصلوا بتعميم التعليم إلى مبادئ العلوم المحتاج إليها، والتعود على النقد والمَيْزِ بقدر حاجة العامة مع إبقاء مسلك تناجي منه الخطابةُ نفوسَهم؛ كي لا تنقطع منهم حاجة الإقناع في الأمور العامة، وأن ينهجوا أسهل طريق لإيصالهم إلى غاية ذوق حلاوة العلم في الجملة.
وينجم عن ذلك مصلحتان:
إحداهما: تَمَتُّع الجميع بالعلم، وتيقظ البصائر من سنة الوهم والجهل؛ فيكونوا أهلاً لإدارة أمورهم، وإدراك مصلحة جمهورهم.
وثانيها: أن يقدروا العلماء حق قدرهم، ويشعروا بحاجتهم إلى تسليم أمر تربيتهم، وإصلاح آدابهم، وعلومهم، وكتبهم إليهم مع الانقياد إلى أوامرهم وجعلهم ولاة أمرهم ومشورتهم، حتى تكون الأمة بوجود العالم الحكيم فيها حكماء، ويكون ما تراه من مصالحهم وفوائدهم سريع الانطباع في نفوسهم؛ فيسهل عليهم مطالبة الحكام منهم بتقويم أمورهم، وبذلك يرقب الحاكم الأمة، ويخشاها، وتأمن من اللهو عن مصالحها باتباع هواها، ويكشف عن العلماء عذاب محاولة إصلاحها، واصطياد هداها.
ثالث عشر: مقالات في اللغة والأدب
58_ الاستشهاد بالحديث في اللغة: للشيخ محمد الخضر حسين
59_ الأدب وأثره في الحياة: للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم
60_ الجملة القرآنية: للأديب مصطفى صادق الرافعي
61_ عمر بن عبدالعزيز والشعراء: للأستاذ محمود محمود
62_ فن الكلام: للشيخ علي الطنطاوي
63_ وقاحة الأدب =أدباء الطابور الخامس+: للأستاذ محمود شاكر
الاستشهاد بالحديث في اللغة(1) للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
يستند علماء العربية في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأصول النحوية إلى القرآن المجيد، وكلام العرب الخُلَّص.
__________
(1) بحث قدمه المؤلف إلى مجمع اللغة العربية، ونشر في الجزء الثالث من مجلة المجمع، وانظر رسائل الإصلاح 2/53_66، وهذا البحث من أحسن وأبدع ما كتب في هذا الموضوع في القديم وفي الحديث(م).(1/269)
وجرى بينهم الخلاف في الاحتجاج بما يروى من الأحاديث النبوية، وحقيق بمجمع اللغة العربية أن ينظر في هذه المسألة، ويقطع فيها رأياً، فإن الكتب المؤلفة في الحديث وغريبه كثيرة، ومنها ما يبلغ مجلدات ضخمة.
ومتى رأينا أن الحق في جانب من يراها حجة كافية في اللغة كان مجال البحث في علوم اللغة أوسع، ووجدنا من المساعدة على إعلاء شأن اللغة ما لا نجده عندما نقصر الحجة في القرآن الكريم، وما يبلغنا من كلام عربي فصيح.
وهذا ما دعاني إلى أن بحثت هذه المسألة، وبذلت جهداً في استقصاء ما كتبه فيها أهل العلم، ثم استخلصت من بين اختلافهم رأياً.
وهأنذا أعرض البحث كما اتفق لي أنْ سِرْتُ فيه، وأَصِلُهُ بإبداء ما رأيت؛ لينظر مجمعنا اللغوي ماذا يرى.
ما المراد بالحديث؟:
تشتمل كتب الحديث على أقوال النبي " وعلى أقوال الصحابة: تحكي فعلاً من أفعاله _ عليه السلام _ أو حالاً من أحواله، أو تحكي ما سوى ذلك من شؤون عامة أو خاصة تتصل بالدين.
بل يوجد في كثير من كتب الحديث أقوالٌ صادرة عن بعض التابعين.
وكذلك نرى المؤلفين في غريب الحديث يوردون ألفاظاً من أقوال رسول الله" أو أقوال الصحابة، أو أقوال بعض التابعين كعمر بن عبدالعزيز ÷.
وهذه الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين، ومتى جاءت من طريق المحدثين تأخذ حكم الأقوال المرفوعة إلى رسول الله "من جهة الاحتجاج بها في إثبات لفظ لغوي، أو قاعدة نحوية.
هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب؟
يرد في الحديث ألفاظ لا يعرف لها علماء اللغة شاهداً في كلام العرب، وتَرِدُ بعض الألفاظ على وجه من الاستعمال لا يعرف إلا من الحديث.
وكثيراً ما يقول شراح غريب الحديث _ وهم جهابذة علماء اللغة _: هذا اللفظ لم يجئ إلا في الحديث، ولم نسمعه إلا فيه.(1/270)
وقال أبو بكر محمد بن قاسم الأنباري أحد المؤلفين في غريب الحديث: =وكذلك أشياء كثيرة لم تسمع إلا في الحديث+(1).
وتكلم أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني في كتاب الغريب عن الألفاظ التي لم ترد إلا في بعض روايات الحديث فقال: =وإنما أورد نحو هذه الألفاظ؛ لأن الإنسان إذا طلبه لم يجده في شيء من الكتب، فيتحير، فإذا نظر في كتابنا عرف أصله ومعناه+.
ومن أمثلة هذا النوع كلمة =إستارة+ وردت في حديث =أيما رجل أغلق بابه على امرأته وأرخى دونها إستارة فقد تم صداقها+.
لقد قال شراح الغريب: لم تستعمل إستارة إلا في هذا الحديث(2).
ومن أمثلته كلمة =أفلج+ من الفلج أي تباعد ما بين الثنايا؛ فقد وردت في وصف ابن أبي هالة للنبي " غير مضافة إلى الأسنان، وابن دريد وصاحب القاموس يقولان: =لا يقال رجل أفلج إلا إذا ذكر معه الأسنان+.
الخلاف في الاحتجاج بالحديث:
ذهب جماعة من النحاة إلى أن الحديث لا يستشهد به في اللغة، أي لا يستند إليه في إثبات ألفاظ اللغة ولا في وضع قواعدها، ومن هذه الجماعة أبو الحسن علي بن محمد الأشبيلي المعروف بابن الضائع، وأثير الدين محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان، وزعم أبو حيان أنه مذهب المتقدمين والمتأخرين من علماء العربية، فقال في شرح كتاب التسهيل: =إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه، من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن مبارك الأحمر، وهشام الضرير، من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك _ أي لم يحتجوا بالحديث _ وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس+.
وأجاز قوم الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعدوه في الأصول التي يرجع إليها في تحقيق الألفاظ، وتقرير القواعد.
__________
(1) النهاية لابن الأثير في مادة =هرو+.
(2) النهاية لابن الأثير في مادة =ستر+.(1/271)
وممن عرف بهذا المذهب محمد بن عبدالله المعروف بابن مالك، وعبدالله بن يوسف المعروف بابن هشام.
وممن انتصر لهذا المذهب البدر الدماميني في شرحه للتسهيل، والعلامة ابن الطيب في شرحه لكتاب الاقتراح، وفي شرحه لكفاية المحتفظ المسمى بتحرير الرواية.
وعُدَّ من أصحاب هذه المذاهب الجوهري، وابن سيدة، وابن فارس، وابن خروف، وابن جني، وابن بري، والسهيلي، حتى قال: لا نعلم أحداً من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل، وأبو الحسن الضائع في شرح الجمل، وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي.
وجهة نظر المانعين:
قالوا: لا يستشهد بالحديث؛ لعدم الوثوق بأن ذلك لفظ رسول الله " وانتفت الثقة من أنه لفظ الرسول لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى؛ فتجد القصة الواحدة قد جرت في زمانه "فتنقل بألفاظ مختلفة، كحديث: =زوجتكها بما معك من القرآن+ وفي رواية أخرى: =ملكتكها بما معك من القرآن+ وفي ثالثة: =خذها بما معك من القرآن+ وفي رابعة: = أمكناكها بما معك من القرآن+.
نعلم يقيناً أنه "لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً آخر مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتى الرواة بالمراد منه، ولم يأتوا بلفظه؛ إذ المطلوب إنما هو نقل المعنى.
وأضافوا إلى هذا أن الرواة لم يكونوا يضبطون الحديث بالكتابة؛ اتكالاً على الحفظ، وأن الضابط منهم من يحتفظ بالمعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جدَّاً ولا سيما ألفاظ الأحاديث الطويلة.
ثانيهما: أنه وقع اللحن في كثير مما روي من الأحاديث؛ لأن كثيراً من الرواة لم ينشأوا في بيئة عربية خالصة حتى يكونوا عرباً بالفطرة، بل كانوا قد تعلموا العربية الفصحى من طريق صناعة النحو.
وجهة نظر المجوزين:(1/272)
يستند هؤلاء إلى الإجماع على أنه "أفصح العرب لهجة كما قال ابن حزم في كتاب الفصل منكراً على من لم يجعلوا الحديث حجة في اللغة: =لقد كان محمد ابن عبدالله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة أعلم بلغة قومه وأفصح؛ فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه+.
وقالوا: إن الأحاديث أصح سنداً مما ينقل من أشعار العرب كما قال صاحب المصباح بعد أن استشهد بحديث: =من أثنيتم عليه بشر وجبت+على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر: =قد نقل هذا العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب؛ فكان أوثق من نقل أهل اللغة؛ فإنهم قد يكتفون بالنقل عن واحد ولا يعرف حاله+.
وقد عرفت أن المانعين من الاحتجاج بالحديث معترفون بأن الرسول " أفصح العرب لساناً، وأبرعهم بياناً، ولا ينازعون في أن أسانيد الأحاديث أقوى من أسانيد الأشعار، وإنما استندوا في المنع إلى أن الأحاديث قد تروى بالمعنى، بخلاف شعر العرب أو منثورهم فإن رواته اعتنوا بألفاظه؛ لأن الغرض من روايته تقرير أحكام الألفاظ.
قال ابن الضائع في شرح الجمل: =لولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان أولى وأثبت في إثبات فصيح اللغة كلام رسول الله "+.
وأظهر وجه يورده المجيزون أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع، وأن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه والتحري في نقله ولهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه.
وهذا الظن كافٍ في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأحكام النحوية.
مناقشتهم لأدلة المانعين
يقول المانعون: إن الرواة كانوا ينقلون الأحاديث بالمعنى؛ فلا ثقة لنا من أن اللفظ الذي روي به الحديث هو لفظ رسول الله ".(1/273)
وأجاب المجيزون على هذا بأن كثيراً من المحدثين والفقهاء والأصوليين قد ذهبوا إلى منع رواية الحديث بالمعنى، ومن أجازوا الرواية بالمعنى شرطوا لذلك أن يكون الراوي على علم بما يغير المعنى أو ينقصه، وأن يكون محيطاً بمواقع الألفاظ، بل قال بعضهم: شرطه أن يحيط بدقائق علم اللغة، وأن تكون المحسنات الفائقة على ذكر منه؛ فيراعيَها في نظم كلامه على أن المجيزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، وإذا كانت الرواية بالمعنى ليست في رأيهم سوى رخصة فإنهم لا يحتجون لها إلا في حال ضرورة، وأضافوا إلى هذا أن النقل بالمعنى إنما أجازه من أجازه في غير ما لم يدون في الكتب، أما ما دون في الكتب فلا يجوز التصرف فيه بوجه، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل أن تفسد اللغة، وإذا كان قد وقع في الأحاديث المدونة نقل بالمعنى فإنما هو تصرف ممن يصح الاحتجاج بأقوالهم.
وإليك ما قاله البدر الدماميني وما حكاه عن شيخه ابن خلدون في الرد على من يمنعون الاستشهاد بالحديث، قال في حواشيه على المغني:
=أسقط أبو حيان الاستدلال على الأحكام النحوية بالأحاديث النبوية باحتمال رواية من لا يوثق بعربيته إياها بالمعنى، وكثيراً ما يعترض على ابن مالك في استدلاله بها، ورده شيخنا ابن خلدون بأنها على تسليم أنها لا تفيد القطع بالأحكام النحوية تفيد غلبة الظن بها؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في ضبط ألفاظها، والتحري في نقلها بأعيانها مما شاع بين الرواة.
والقائلون منهم بجواز الرواية بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى، وغلبة الظن كافية في مثل تلك الأحكام بل في الأحكام الشرعية؛ فلا يؤثر فيها الاحتمال المخالف للظاهر، وبأن الخلاف في جواز النقل بالمعنى في غير ما لم يُدَوَّنْ في كتب.(1/274)
أما ما دُوِّنَ فلا يجوز تبديل ألفاظه بلا خلاف كما قاله ابن الصلاح(1) وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولئك _ على تقدير تبديلهم _ يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ يحتج به بآخر كذلك، ثم دُوِّن ذلك البدل، ومُنِع مِنْ تغييره ونقله بالمعنى، فبقي حجة في بابه صحيحة، ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق في استدلالهم بالمتأخر+.
وقد ناقش بعض شارحي(2) كتاب الاقتراح ابن خلدون، فقال: =إن تدوين الأحاديث وقع بعد فساد اللغة+.
وقال: =لم يحصل التدوين إلا في عصر التابعين، ووقع يومئذ الاختلاط في اللغة، والرواية بالمعنى لم تقف عند حد من يتكلم بالعربية سليقة+.
ولا يسعنا أمام دعوى ابن خلدون ومناقشة هذا الشارح له، إلا أن نقول كلمة في تاريخ تدوين الحديث، ونتحدث عن العهد الذي وقع فيه فساد اللغة؛ لعلنا نهتدي إلى ما يفيدنا في أصل البحث =بحث الاستشهاد بالحديث في اللغة+.
الواقع أن أصل كتابة الحديث وقع في عهد النبي ".
وممن كان يكتب الحديث عبدالله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان أكثر جمعاً للحديث من أبي هريرة.
أما تدوينه في كتب فقد وقع بأمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز المتوفى سنة 101هـ، ومن المروي في الصحيح أنه كتب إلى أهل الآفاق أن انظروا ما كان من حديث رسول "أو سنته فاجمعوه أو فاكتبوه.
وأول من دَوَّن الحديث محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124هـ والمعروف أنه كان يروي عن الصحابة مثل عبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وسهل ابن سعد الساعدي.
وقيل إن أول من دَوَّن الحديث الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160هـ، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156هـ.
__________
(1) قال أهل العلم بالحديث: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا بقولك: حدثنا، ونحوه.
(2) هو ابن علان، وتوجد نسخة من شرحه بالمكتبة التيمورية.(1/275)
ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري كمالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة.
وكان كثير من رواة الحديث في هذا العهد يكتبون الأحاديث عند تلقيها، ولا يكتفون بحفظها عن ظهر القلب؛ فإنا نجد في تاريخ طائفة منهم أن لهم كتباً كانوا يرجعون إليها عند الرواية.
ونجد في تاريخ من يروون عن أمثال الزهري إن في مخلفاتهم أجزاءاً كثيرة تحتوي أحاديث أخذوها عن أولئك الأئمة.
وكتابة الحديث تساعد على روايته بلفظِه، وحِفْظُه عن ظهر القلب يبعده من أن يدخله غلط أو تصحيف.
ويصل بنا البحث إلى مصنفات الطبقة التي جاءت بعد طبقة مالك وابن جريج قد بلغت الغاية في جمع الأحاديث، وفي ذلك العهد صنفت مسندات كثيرة كمسند أسد بن موسى الأموي المتوفى سنة 212هـ، ومسند عبيدالله بن موسى العيسى المتوفى سنة 213هـ، ومسند نعيم بن حماد الخزاعي المتوفى سنة 228هـ، ومسند أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ.
وجاء بعد هؤلاء أصحاب الكتب الستة، وأولهم البخاري المولود سنة 194هـ وآخرهم النسائي المولود سنة 215هـ.
وما في الكتب الستة أو معظمه كان مدوناً في الكتب المصنفة من قبل.
ذكر الحافظ ابن حجر مصنفات أئمة الحديث في الصدر الأول وقال: فلما رأى البخاري هذه المصنفات، ورواها وجدها بحسب الوضع جامعة، فألف كتابه مقتصراً على الصحيح.
وإذا رأينا أن البخاري يقول في كتابه: حدثنا فلان، فهذا لا يمنع من أن يكون الحديث مدوناً في كتاب؛ فإنهم كانوا _ كما عرفت _ آنفاً لا يستغنون بالكتابة عن الحفظ، وربما قال الراوي: أملى علينا فلان كذا وكذا حديثاً من حفظه، ثم قرأها علينا من كتابه.
وهذه النظرة التاريخية تدلنا على أن ابتداء تدوين الحديث كان في أوائل القرن الثاني، وأنه لم يمض القرن الثاني حتى قيد معظم الأحاديث بالكتابة والتدوين.(1/276)
ولننظر بعد هذا إلى حال اللغة من جهة ما دخلها من الفساد، وننظر ما يكون لهذا الفساد من أثر في رواية الحديث.
أخذ الفساد يدخل اللغة منذ وصلت الفتوح الإسلامية العرب بالعجم، وأسرع إلى ألسنة طائفتين من أبناء العرب أو الناشئين في بيئتهم: طائفةٍ كانت أمهاتهم من الأعاجم، وطائفةِ العامة الذين يسكنون الأمصار، وتكثر مخالطتهم للأعاجم.
وظهر اللحن بجلاء في أواخر عهد الدولة الأموية، وكان انقراضها سنة 132هـ.
وبقي بجانب هاتين الطائفتين فريقان: سكان الجزيرة البعيدون عن مخالطة الأعاجم مخالطة تمس فصاحتهم بسوء، وأبناء الخاصة من سكان الأمصار الذين لم تكن أمهاتهم من الأعاجم.
أما سكان الجزيرة فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن الرابع، وأما الخاصة من سكان المدن فبقوا على فصاحة اللهجة مدةً في أوائل عهد الدولة العباسية.
وذكر الباحثون في طبقات الشعراء أن إبراهيم بن هرمة آخر من يحتج بشعرهم، وقد توفي في خلافة الرشيد بعد الخمسين والمائة بقليل.
والذين نشأوا في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة انتشاراً يرفع الثقة بفصاحة لهجتها يوثق بأقوالهم ولو تأخروا عن منتصف القرن الثاني، كالإمام الشافعي؛ فإنه ولد سنة 150هـ ولكنه نشأ في بيئة عربية وهي مكة، فيصح الاستشهاد بما يستعمله من الألفاظ، قال الإمام أحمد: =كلام الشافعي حجة في اللغة+.
وقال الأزهري في إيضاح ما استشكل من مختصر المزني: =ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة، ومن عجمة المولدين مصونة+.
وإذا عدنا إلى قول ابن خلدون: =وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولائك _ على تقدير تبديلهم _ يسوغ الاحتجاج به+وعرضناه على التاريخ _ وجدنا التدوين وقع بعد أن دخل الفساد في اللغة، ولكن من المدونين من يحتج بأقواله؛ لأنه نشأ في بيئة عربية كالزهري ومالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج.(1/277)
ومنهم من نشأوا في بيئة غير عربية، أو عربية انتشر فيها الفساد، وصارت العربية الفصحى فيها إنما تدرك من طريق التعلم.
فدعوى أن الأحاديث دونت قبل فساد اللغة، وأن كلام المدونين لها يسوغ الاحتجاج به في اللغة _ غير مطابقة للتاريخ من كل وجه، ولو تمت على نحو ما قرره ابن خلدون لقامت بها الحجة الفاصلة على الاستشهاد بالحديث في اللغة من غير حاجة إلى شيء آخر يعضدها.
والذي نستفيده من حقائق التاريخ أن قسماً كبيراً من الأحاديث دوَّنه رجال يحتج بأقوالهم في العربية، وأن كثيراً من الرواة كانوا يكتبون الأحاديث عند سماعها، وذلك مما يساعد على روايتها بألفاظها؛ فيضاف هذا وذاك إلى ما وقع من التشديد في رواية الحديث بالمعنى، وما عرف من احتياط أئمة الحديث وتحريهم في الرواية؛ فيحصل الظن الكافي لرجحان أن تكون الأحاديث المدونة في الصدر الأول مروية بألفاظها ممن يحتج بكلامه.
وأما قول المانعين: إنه وقع اللحن في كثير من الأحاديث فيجاب عنه بأن كثيراً مما يُرى أنه لحن قد ظهر له وجه من الصحة، وقد ألف في هذا الباب ابن مالك كتابه =التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح+ وذكر للأحاديث التي يشكل إعرابها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح، وكثيراً ما نرى ألفاظاً من الحديث ينكرها بعض اللغويين، فيأتي لغوي آخر فيذكر لها وجهاً مقبولاً، أو يسوق عليها شاهداً صحيحاً.
ثم إن وجود ألفاظ غير موافقة للقواعد المتفق عليها لا يقتضي ترك الاحتجاج بالحديث جملة، وإنما يحمل أمرها على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة.
وإذا وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف فإن الأشعار يقع فيها الغلط والتصحيف، وهي حجة من غير خلاف.
قال محمد بن سلام: وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله.
وأبو أحمد العسكري الذي ألف كتاباً في تصحيف رواة الحديث قد ألف كتاباً فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف.(1/278)
أما قول أبي حيان: =إن المتقدمين من علماء العربية لا يحتجون بالحديث+ فأجاب عنه المجيزون بأن علماء العربية في العهد الأول لم يتعاطوا رواية الحديث، فعلماء الحديث غير علماء العربية(1)، ثم إن دواوين الحديث لم تكن مشتهرة في ذلك العهد، ولم يتناولها علماء العربية كما يتناولون القرآن الكريم، وإنما اشتهرت دواوينه ووصلت إلى أيدي جمهور أهل العلم من بعد؛ فإن سلمنا عدم احتجاجهم بالحديث فلعدم انتشاره بينهم لا لأنهم يمنعون الاحتجاج به، على أن كُتُبَ الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو من الاستدلال على إثبات الكلمات بألفاظ الحديث، واللغة أخت النحو كما صرحوا به.
وكذلك نرى الإمام اللغوي أبا منصور الأزهري المولود سنة 282هـ يعتمد في كتابه (التهذيب) على الأحاديث، ويكثر من الاستشهاد بها.
وأما ما ادعاه أبو حيان من أن المتأخرين من نحاة الأقاليم تابعوا المتقدمين في عدم الاحتجاج بالحديث _ فمردود بأن كتب النحاة من أندلسيين وغيرهم مملوءة بالاستشهاد بالحديث.
وقد استدل بالحديث الشريف: الصِّقلي، والشريف الغرناطي في شرحيهما لكتاب سيبويه، وابن الحاج في شرح المقرب، وابن الخباز في شرح ألفية ابن معطي، وأبو علي الشلوبين في كثير من مسائله.
وكذلك استشهد بالحديث السيرافي، والصفار في شرحيهما لكتاب سيبويه، وقال ابن الطيب: =بل رأيت الاستدلال بالحديث في كلام أبي حيان نفسه+.
وقد عرفت أن مذهب البدر الدماميني صحة الاستشهاد بالحديث، وقد جرى على مذهبه في شرحه للمغني والتسهيل والبخاري.
تفصيل وترجيح:
من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج به في اللغة، وهو ستة أنواع:
__________
(1) من علماء العربية من كانوا يعدون في رواة الحديث، مثل أبي عمرو بن العلاء، وعيسى ابن عمر الثقفي، والنضر بن شميل المازني، والخليل بن أحمد، والقاسم بن سلام، وعبدالملك بن قريب الأصمعي، والرياشي.(1/279)
أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته _ عليه الصلاة والسلام _: كقوله: =حمي الوطيس+ وقوله: =مات حتف أنفه+وقوله: =الظلم ظلمات يوم القيامة+ إلى نحو هذا من الأحاديث القصار المشتملة على شيء من محاسن البيان كقوله: =مأزورات غير مأجورات+ وقوله: =إن الله لا يمل حتى تملوا+.
ثانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها، أو أمر بالتعبد بها؛ كألفاظ القنوت والتحيات، وكثير من الأذكار، والأدعية التي كان يدعو بها في أوقات خاصة.
ثالثها: ما يروى شاهداً على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم: ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة لرواية الحديث بلفظه.
رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها؛ فإن اتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها.
والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي "أو إلى الصحابة أو التابعين الذين ينطقون الكلام العربي فصيحاً.
خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة؛ كمالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج، والإمام الشافعي.
سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى: مثل ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وعلي بن المديني.
ومن الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في عدم الاحتجاج به، وهي الأحاديث التي لم تدون في الصدر الأول، وإنما تروى في بعض كتب المتأخرين.
ولا يحتج بهذا النوع من الأحاديث سواء أكان سندها مقطوعاً أم متصلاً، أما مقطوعة السند فوجه عدم الاحتجاج بها واضح، وأما متصلة السند فلبعد مدونها عن الطبقة التي يحتج بأقوالها.
وإذا أضيفت كثرة المولدين في رجال سند الحديث إلى احتمال أن يكون بعضهم قد رواه بالمعنى أصبح احتمال أن تكون ألفاظه ألفاظ النبي _ عليه الصلاة والسلام _ أو ألفاظ راويه الذي يحتج بكلامه قاصراً عن درجة الظن الكافي لإثبات الألفاظ اللغوية أو وجوه استعمالها.(1/280)
والحديث الذي يصح أن تختلف الأنظار في الاستشهاد بألفاظه هو الحديث الذي دون في الصدر الأول، ولم يكن من الأنواع الستة المنبه عليها آنفاً، وهو على نوعين:
(حديث) يرد لفظه على وجه واحد، (وحديث) اختلفت الرواية في بعض ألفاظه.
أما الحديث الوارد على وجه واحد، فالظاهر صحة الاحتجاج به، نظراً إلى أن الأصل الرواية باللفظ، وإلى تشديدهم في الرواية بالمعنى، ويضاف إلى هذا قلة عدد من يوجد في السند من الرواة الذين لا يحتج بأقوالهم؛ فقد يكون بين البخاري ومن يحتج بأقواله من الرواة واحد أو اثنان وأقصاهم ثلاثة.
ومثال هذا النوع أن الحريري أنكر على الناس قولهم قبل الزوال: سهرنا البارحة، قال: وإنما يقال: سهرنا الليلة، ويقال بعد الزوال: سهرنا البارحة.
والشاهد على صحة ما يقوله الناس حديث أن النبي "كان إذا أصبح قال: =هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟+ وحديث: =وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول عملت البارحة كذا+.
ففي قوله: =إذا أصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة+ وقوله: =ثم يصبح فيقول: عملت البارحة+ _ شاهد على صحة أن يقول الرجل متحدثاً عن الليلة الماضية وهو في الصباح: سهرنا البارحة، أو وقع البارحة كذا.
وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية فإنا نرى من يستشهدون بالأحاديث من اللغويين والنحاة لا يفرقون بين ما روي على وجه واحد، وما روي على وجهين أو وجوه.
ويمكننا أن نفصل القول في هذا النوع؛ فنجيز الاستشهاد بما جاء في رواية مشهورة لم يغمزها بعض المحدثين بأنها وهم من الراوي مثل كلمة =ممثل+ وردت في أشهر رواية الحديث =قام النبي " ممثلاً+ أي منتصباً، والمعروف في كلام العرب إنما هو ماثل من مثل كنصر وكرم.(1/281)
وأما ما يجيء في رواية شاذة أو في رواية يقول فيها بعض المحدثين إنها غلط من الراوي _ فنقف دون الاستشهاد بها، ومثال هذا كلمة =ناعوس+ وردت في إحدى روايات حديث =إن كلماته بلغت ناعوس البحر+ ووردت في بقية الروايات =قاموس البحر+ أو وسطه ولجته.
وكلمة ناعوس غير معروفة في كلام العرب.
قال أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني أحد المؤلفين في غريب الحديث: =فلعل الراوي لم يجود كتب كلمة قاموس+.
وأضعف من هذا أن تجيء الكلمة غير المعروفة في اللغة في صورة الشك من الراوي ككلمة خطيط وردت في حديث: =ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه+ قال ابن بطال: لم أجد كلمة =خطيط+ بالخاء عند أهل اللغة.
وخلاصة البحث: أنا نرى الاستشهاد بألفاظ ما يروى في كتب الحديث المدونة في الصدر الأول وإن اختلفت فيها الرواية، ولا نستثني إلا الألفاظ التي تجيء في رواية شاذة أو يغمزها بعض المحدثين بالغلط أو التصحيف غمزاً لا مرد له، ويشد أزرنا في ترجيح هذا الرأي أن جمهور اللغويين وطائفة عظيمة من النحويين يستشهدون بالألفاظ الواردة في الحديث ولو على بعض رواياته.
الأدب وأثره في الحياة(1) للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم
للأدب في هذا العصر رسالة قوية لا تقل في أهميتها وخطورة أثرها عن أيِّ فن آخر من نتاج العقل الإنساني.
هذه الرسالة هي مزيج الإحساس الحي، والإلهام الصادق، والنبوغ المشتعل الرامي بأشعته على آفاق الكون، والمتغلغل في البيئات الإنسانية، ونواحي النفس البشرية؛ ليستشف حقيقتها، ويلبسها ثوباً جميلاً يلفت الأنظار إلى ما فيها من دقائق الأسرار.
يتناول أدق الأمور، وأعصاها، فيجليها، ويبرزها في أحسن معرض وآنق ثوب.
يستثير العواطف الدفينة؛ فتصبح حية يقظة تبعث الخير والرحمة.
يعمد إلى أدق النظريات وأخفاها فإذا بها سهلة سائغة.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثاني، المجلد الثاني ص96، رجب 1348هـ.(1/282)
والأدب في أوربا الآن لا يتمثل في شيء مثل تمثله في القصص؛ فبواسطته تمكن العلماء من التحدث عن علومهم إلى أكبر عدد من القراء، ولو أنهم جمدوا عند حدود التآليف الجافة لأصبح العلم في دائرته الضيقة لا يتجاوز الأخصائيين والمحترفين.
والقصة الأدبية لا يقف أثرها عند عرض الأفكار والمبادئ، ولكنها؛ لطلاوتها وقربها من عقلية الجمهور يستطيع الأديب من خلالها أن يدني الفضيلة من النفوس، وأن يبغضها الشر في جميع مظاهره، يستطيع ذلك بقوة الإيماء والخيال الأخَّاذ، وبحكايته لما يشابه أدوار الحياة العملية تمام المشابهة في أشخاص قصته.
والأدب في التحرير ليس نثراً يرصف، أو شعراً ينظم فحسب، بل هو قبل كل شيء روح وأسلوب، ودراية عملية لأسرار النفس .
أيُّ قيمة لذلك النثر، أو هذا النظم ما دام خالياً من تلك الروح؟ إنه يكون أشبه شيء بتلك الدُّمى التي يبذل صائغُها جهده في نحتها، وتزويقها، ولكن تعوزها روح الحياة تدب فيها.
يتناول العلماء بحثاً من البحوث، وتتكافأ قواهم في فهم أسراره ومدلولاته، ومع ذلك فطريقة عرضهم تختلف اختلافاً كبيراً، فبينا تجد جفافاً وخشونة إذ تجد طلاوة، وحسناً، ومائية تتقبلها النفوس بقبول حسن.
وليس ذلك الاختلاف إلا نتيجة الروح الأدبية التي تعين صاحبها على بسط معلوماته، وإدخالها في الطور العملي المنتج.
من ذلك نستطيع أن نحكم بأن أيَّ فنان أو عالم يهمل الجانب الأدبي في هذا العصر، ولا يدخله في علمه أو فنه _ فلا يستطيع بأيِّ حال أن يضمن له الذيوع والانتشار، ثم الثبات والاستقرار.
والشواهد على ذلك يعرفها من وقف على شخصيات العلماء ثم ميَّز بين أساليبها وروحها التأليفية.
الجملة القرآنية(1) للأديب مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) نشرت في مجلة الزهراء، وهي في كتاب تحت راية القرآن _ المعركة بين القديم والجديد _ للرافعي ص24_30.(1/283)
نبَّهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على =رسائل الأحزان+(1) بقول جاء في بعض معانيه أني لو تركت =الجملة القرآنية+والحديث الشريف ونزعت إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأت الدهر ثم لحطَمتُ في أهل المذهب الجديد حَطْمَةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي(2)!
ولقد وقفت طويلاً عند قولها: =الجملة القرآنية+فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها =المكرسكوب+ وما يجهر به من بعض الجراثيم مما يكون خفيَّاً فيَسْتَعْلِن ودقيقاً فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تعرف العلل الكبرى إلا به.
وإذا أنا تركت الجملةَ القرآنيةَ وعربيتَها وفصاحتَها وسموَّها، وقيامها في تربية الملكة وإرهاف المنطق وصقل الذوق مقامَ نشأة خالصة في أفصح قبائل العرب، وردَّها تاريخنا القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصِلتنا به حتى كأنه فينا، وحِفْظِها لنا منطق رسول الله " ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكأن ألسنتهم عند التلاوة هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها _ إذا أنا فعلت ذلك ورضيته، أفتراني اتَّبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجليزية...
وأسِفُّ إلى هذه الرطانة الأعجمية المعربة، وأرتصخ تلك اللُّكنة المعوَجَّة، وأعين بنفسي على لغتي وقوميَّتي، وأكتب كتابة تُمِيت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة، فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟.
__________
(1) كتاب وضعناه في فلسفة الجمال والحب ثم وضعنا له =السحاب الأحمر+تكملة؛ فهما كالكتاب الواحد.
(2) الذي قال هذا هو الكاتب المهجري جبران خليل جبران (م).(1/284)
كنت أعرف أن صاحبنا الكاتب البليغ المدقق الشيخ إبراهيم اليازجي لما أرادوه على تصحيح ترجمة الأناجيل رغب إليهم أن يصرِّف قلمه في الترجمة فينزلها منزلتها من اللسان، ويتخيَّر ألفاظها، ويزيل عجمتها، ويخلصها من فساد التركيب وسوء التأليف، ويفرغ عليها جزالة، ويجعل لها حلاوة؛ فأبوا عليه كل ذلك ومنعوه منه، وأقاموا فيها بمنزلة من يعرب آخر الكلمة فعليه أن يترك الكلمة إلا آخرها...
كنت أعرف ذلك وما فطنت يوماً إلى سببه حتى كانت قولة =الجملة القرآنية+ كالمنبهة عليه، فرأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المرّ، وخلف من بعدهم خَلْف أضاعوا العربية بعربيتهم، وأفسدوا اللغة بلغتهم، ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية لا يعرفون غيره، ولا يطيقون سواه، وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض، وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن..!
وليتهم اقتصروا على هذا في أنفسهم، وأنصفوا منها، بل هم يدْعون إلى مذهبهم ذلك، ويعتدُّونه المذهب لا معْدل عنه، ويسمُّونه الجديد لا رغبة من دونه، ويعتبرونه الصحيح لا يصح إلا هو، وكلهم يعلم أنه ليس بصاحب لغة ولا هو مَعْنِيٌّ بها ولا كان ممن يتسمون بعلومها، ثم ينقلهم هذا العبث إلى آراء كآراء الصغار في الأمور الكبيرة فيحاولون أن يختلقوا في اللغة فطرة جديدة غير تلك الأولى التي وضعت عليها جِبَلَّتها، واستقام بها أمرها، وتحقق إعجاز الفصاحة العربية بخصائصها.
ومرجع هذا البلاء كله أن عربية الجملة الإنجليزية تغزو عربية الجملة القرآنية من حيث يدري أولئك أو لا يدرون؛ فما أشبه هذه الأساليب الركيكة في مَقرها من الآداب العربية بالمرض الموروث الكامن في الجسم الصحيح يتربص غفلة أو علة أو تهاوناً فيظهر فإذا هو مَشغلة للصحة، ثم يستشري فإذا هو مَفسدة لها، ثم يضرب فيتمكن فإذا هو مزاج جديد، ثم إذا هو الموت بعدُ!(1/285)
على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحداً من ثلاثة، مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها؛ لتتحول عن أساس تاريخها الذي هو أمة به ولن تكون أمة إلا به.
وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعويج اللسان بها.
وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف؛ فإنه ليس كل كاتب يبلغ، ولا كل من ارتَهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نسب إليها، وإن عدَّ في طبقة من أهلها، والكتابة صناعة لها أدواتها، وفي النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك.
أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوِّماتنا، أو نتخذ في اللغة أدياناً شتَّى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه؟ وإلا فماذا بقي بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إن نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة؟
أحسب إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئاً من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثالُ السيد جمال الدين ومحمد عبده وعلي يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم، وردّوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم، حتى أمنوا عليه أن يُنتقص، أو يمحق، أو يزول.
ألا فليقرؤوا هذه البلاغة الجديدة... التي أنقلها بحروفها عن صحيفة عربية إسلامية تصدر في طنجة، وليتأملوا أكان فيهم من يكتب اليوم أبلغ منها بعد أربعين سنة ونيِّفاً من الاحتلال الإنجليزي، والاحتلال الآخر الأوربي في زيغ الطباع وفسادها، لولا تلك النفوس الشرقية العربية الكبيرة التي كانت في هذا السبيل كنفوس الأنبياء قائمة على أنها حمى للحق، وشعار فيه ودعوة إليه، وجهاد من دونه؟(1/286)
قالت الصحيفة وهي تبحث في تاريخ الحج وتكتب كلاماً لم يبق منه معنى، ولا لفظ، ولا صيغة إلا وردت في الكتب المختلفة بأفصح عبارة وأبلغ أسلوب، بل هو من بعض دين ذلك الكاتب، واقرأ ماذا قالت:
=زيارة الكعبة المعظمة فريضة على كل مسلم ومسلمة، لو عندهم استطاعة صحية ومالية؛ ومن مناسك الحج، سبع مرات طواف حول الكعبة كل عام في المحل المقدس المذكور يجتمع 200000 من المؤمنين والمؤمنات هم الحجاج الكرام، لابسين كلهم كسوة بيضاء، وسامعين الخطبة لمفتي الأنام في جبل عرفات، لبيك اللهم لبيك. الكعبة مبنية من طرف إبراهيم خليل الله، ولكن بمرور الدهر والأزمان وبتأثير سيلان وأمطار قد خربت مراراً، ولكن تصلحت من موادّها القديمة وأحجارها الابتدائية، وحجر الأسود موضوعة بمحلها بيد المبارك المحمدية ".
نظراً للتواريخ القديمة إن ماء زمزم خرجت من ضربة قدم سيدنا إسماعيل ومن المعاني والمعالي... زيارة بيت الله المقدس أهمُّ المادة وهي اجتماع مسلمين العالم في كل سنة في الأراضي المقدّسة الحجازية بتأبيد الولا والمخالصة بين عالم الإسلامي+. انتهى. وأشهد ألا إله إلا الله.
وأما بعد: فهذه الألفاظ التي نقلناها إنما تنزل من أصولها الجزلة الفصيحة منزلة أولئك الكتاب المفتونين من أصولهم في البلاغة والرأي والتدقيق، فلو خُلق اللفظ من هذه الجملة إنساناً لكان واحداً منهم، ولو مُسخ الواحد منهم لفظاً لكان كلمة منها، أفيقبل منا بعد ذلك أن نغفل عنهم، أو نتسامح في أمرهم، أو نترخص معهم في أسلوب أو قاعدة أو كلمة؟.(1/287)
ألا إن الأوزان إنما هي بمقاديرها في الميزان وفاءاً ونقصاً، لا بمقاديرها في أنفسها زعْماً ودعوى، فلا تزعمنّ لي أنك أنت من أنت وأنّ لغتك هي ما هي وأن الرأي ما ترى والكتابة ما تكتب، بل هلمّ إلى ميزانك من علماء الكلام وإلى ميزان لغتك من اللغة وإلى رأيك من الحقيقة وإلى كتابتك من الكتابة، وأنت بعدُ وقبلُ _ أيضاً _ لا تستطيع أن تهجم على علم من العلوم، فتقول فيه قولاً إلا على قياس من العلم نفسه ترد إليه قولك، وتقيم به حجتك، ثم لا يقبل قولك مع هذا ولا يُعد قولاً حتى تكون من أهل هذا العلم وممن لابسوه وقتلوا مسائله درساً وبحثاً.
وأنت كذلك إذا عرضت لك مسألة في فنٍّ من الفنون رجعت إلى كتبها وإلى أهلها، ففتَّشت أقوالهم قبل أن تقول شيئاً، وعرفت حكمهم قبل أن تحكم بشيء، واتقيت الخطأ بصوابهم، وتحاميت التقصير باجتهادهم، ثم ما هو إلا أن تنزل على رأيهم في العلم والفن لا تحاول مكراً، ولا تَتَّكل على خداع من الرأي ولا تتعلل بعذر من العذر؛ فليت شعري لِمَ يكون ذلك منك في كل علم وفي كل فن ولا يكون كذلك في اللغة وأصولها والكتابة وأساليبها والبلاغة ومذاهبها؟.(1/288)
ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قطُّ شعباً من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات، وتملك فيها مَلك من المعجمات الضخمة؟ أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن؟ فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم تحسن القيام عليها وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة، ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها، وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى... وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز، ونحتج بالضعف، ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياساً يحد به علم اللغة في أصله وفرعه _ فماذا عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ؟ وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيم تكون المجاذبة والمدافعة؟ وبمَ يقوم المِراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟
إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت؛ لأنها أعدت من الأزل فلَكاً دائراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين: كتاب الله وسنة رسول الله " ومن ثمَّ كانت فيها قوَّة عجيبة من الاستهواء كأنها أُخْذَة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.
وأنا أتحدى كل أصحابنا الذين أشرت إليهم أن يأتوني بكاتب واحد تنقّل في منازل البلاغة وأطلق أساليب الكتابة العالية، ثم نزل عنها إلى الركاكة أو المذهب الجديد أو ما شئت من الأسماء، ولزِمها مذهباً وجعلها طريقاً، وهذا التاريخ بين أيديهم، وبعضهم بين أيدي بعض، فليأتوني بمثل واحد أسلِّمْ لهم كل ما في يدي من الأدلة على سخفهم، وأجعل واحدهم هذا بألف من عندي!(1/289)
فأما أن لا تقدر يا أبا خالد وتزعم العفة، وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي، وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة _ فهذه أساليب ابتدعها من قبلك من أذكياء الثعالب... وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض(1) وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق... فلو هو كان من ثعالبنا... لزعم أنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه!
وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يُثنى عليه، وهو لو أثنى عليه لطولب به، ولو طولب به لبان عجزه وقصوره، ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدّوه في شيء، ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟
لقد سألت بعضهم: ما هو هذا الجديد الذي تحامون عنه؟ قال: هو ما يكتب به الصحف. قلت: فإن فيما يكتب الضعيفَ والساقط والمرذول، ثم ما هو إلى الجزالة والفصاحة، ثم ما يلتحق بجيد الكلام؛ فأي هذه تريد؟ وأيها ليس قياساً من أصله العربي المعروف؟ أفتجعلون النقص مذهباً من كماله، ثم لا تكتفون بخطأ واحد وتدعون أن الكمال في نفسه يجب أن يعد مذهباً من النقص؟ أم الجديد هو ما يكتب به في الصحف تعني لأنك أنت تكتب في الصحف...؟
أما إننا لا ندفع أسلوبهم، فهو على كل حال خير من العامية، ولسنا نقول إن كل الناس يجب أن يخاطبوا في كل أمور دنياهم ودينهم من فوق المآذن؛ ولكن الخلاف بيننا وبين هؤلاء جميعاً ينحصر في أمر واحد هو تفسير لكل فروعه، وذلك أن هؤلاء الكتاب لا يريدون أبداً أن تسمى الغلطة باسمها... فإذا أخطؤوا فلا تقولن أخطؤوا، ولكن قل: إنه صواب جديد... ...
__________
(1) هذا مثل مشهور، زعموا أن ثعلباً وقف على دالية من العنب، فأبصر عنقوداً يتميَّز ماءاً وحلاوة، فواثبه مراراً، فلم يصل إليه؛ إذ كان عالياً، فلما أعجزه قال: هذا عنقود حامض لا يؤكل! وانصرف وهو يرى أن العنقود لم يعجزه، ولكنه هو تركه؛ لعلة الحموضة!.(1/290)
عمر بن عبدالعزيز والشعراء(1) للكاتب محمود محمود
روي أنه لما استخلف عمر بن عبدالعزيز بعد سليمان بن عبدالملك سنة تسع وتسعين وفد عليه كثير من شعراء الحجاز والعراق، فكان فيمن حضر نصيب، وجرير، والفرزدق، والأخطل، ثم ترددوا على بابه أيَّاماً، فلم يأذن لأحد منهم في الدخول عليه وإنما كان يأذن للقراء والفقهاء وأهل الورع والوعَّاظ ويبعث في طلبهم فلما استيأسوا أزمعوا على الرحيل، فمرَّ بهم رجاء بن حيوة وكان من خطباء أهل الشام، وله على عمر دالة(2) فقال له جرير:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل رجاء، ولم يذكر شيئاً من أمرهم لعمر، ثم مرَّ بهم عديُّ بن أرطاة فقال له جرير:
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أنِّي لدى الباب كالمصفود في قَرَن(3)
لا تنس حاجتنا لُقِّيت مغفرةً ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فلما دخل عديٌّ قال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك، وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة، فقال عمر: ويحك يا عديُّ، مالي وللشعراء؟ قال: أعز الله أمير المؤمنين إن رسول الله "قد امتُدِح فأعطى، ولك في رسول الله "أسوة.
قال عمر من بالباب منهم قال: عمر بن أبي ربيعة؛ فقال عمر: أليس هو الذي قد قال:
ثم نبهتها فهبت كعاباً(4) ... طَلْقَةً(5) ما تُبِيْنَ رَجْعَ الكلام
ساعة ثم أنها بعدُ قالت ... ويلنا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسعى
... تتخطى إلى رؤوس الأنام
قال: نعم. فقال عمر: لو كان عدوَّ الله إذ فَجَرَ كَتَمَ نفسه، والله لا يدخل عليَّ أبداً.
ثم قال: ومن بالباب غيره؟ قال: الفرزدق.
قال: أليس هو الذي قد قال:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض بازٌ أقتمُ(6) الريش كاسره
__________
(1) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الثالث، ص 1_ 4، رمضان 1343هـ.
(2) دالة: يعني له أمر عليه، وله حظوة عنده. (م)
(3) حبل.
(4) الجارية ذات الثدي الناهد.
(5) ضاحكة.
(6) أسود.(1/291)
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحيٌّ يرجى أم قتيل نحاذره
قال: نعم، قال: والله لا يطأ بساطي، فمن سواه بالباب؟ قال: الأخطل. قال: أليس هو الذي قد قال:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزائر بيتاً بعيداً
... بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعبد أدعو ... قبيل الصبح حيَّ على الفلاح
قال: نعم، قال: والله لا يدخل عليَّ وهو كافر، فهل سواه بالباب؟ قال: جرير بن عطيَّة. قال: أليس هو الذي قد قال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
وقبل أن يتم قوله قال عدي: يا أمير المؤمنين أحرز لي عرضي منه؛ فأذن له عمر فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة للإمام العادل
ومع الخلافة عدلُه ووقارُه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل
فقال له عمر: يا جرير اتق الله، ولا تقل إلا حقَّاً، فأنشأ يقول:
أأذكر الجهدَ والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بُلِّغْتَ من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفى فقد والده ... كالفرخ في العشِّ لم ينهض ولم يطر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
الخير ما دمت حيَّاً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
زِنْتَ الخلافة إذ جاءت على قدر
... كما أتى ربه موسى على قدر(1/292)
فلما فرغ من شعره ترقرقت عينا عمر، وقال: إنك لتصف مشقَّتك، قال جرير: ما غاب عنِّي وعنك أشد؛ فجهَّز عمرُ إلى الحجاز عيراً تحمل الطعام والثياب، ثم قال عمر لجرير: أأنت من المقاتلين في سبيل الله؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك في الفيء الذي عندنا حقَّاً، فقال جرير: بلى يا أمير المؤمنين قد فرض الله لي فيه حقَّاً، قال عمر: وكيف ذاك؟ قال: إني ابن سبيل منقطع، فأمر له بعشرين ديناراً من ماله، ثم قال له: خذ هذا الذي بقي لي وإن شئت فاحمد، وإن شئت فذم.
قال جرير: بل أحمد يا أمير المؤمنين، فلما خرج تلقَّاه الشعراء، وقالوا: ما وراءك؟ قال: ليلحق كل منكم بمطيته فإنه رجل يعطي الفقراء، ولا يعطي الشعراء.
فن الكلام(1) للشيخ علي الطنطاوي
زارني الليلة البارحة صديق لي فاستقبلته واعتذرت إليه بأني مشغول، عندي مقالة، قال: كل يوم مقالة، أو حديث؟ متى تنتهي هذه المقالات وهذه الأحاديث؟
قلت: حتى أنتهي أنا.
قال: إنك تنشر باستمرار من أربعين سنة فمن أين تجيء بهذه الموضوعات كلها؟
قلت: أسمع كلمة من تكلم، أو أبصر مشهداً في طريق، فأدير ذلك في ذهني، ولا أزال أولِّد من الكلمة كلمة، ومن المشهد مشهداً حتى يجيء من ذلك حديث أو مقالة.
قال: أرني كيف تصنع حتى أتعلم!
فضحكت وقلت: إنها عملية تتم في ذهني لا في يدي؛ فكيف أُرِيك مالا يُرَى؟.
وكنَّا قد شربنا القهوة ولكني، لم أكتف بها ووجدت أنَّها لا تزال بي رغبة إلى الشاي، وأنا كالإنكليز _ في هذه فقط _ أشرب الشاي في الصباح، وفي الأصيل، وفي الليل لا أنتهي منه حتى أعود إليه.
فقلت للبنت: قولي لأمك إن بابا يسألك: هل من آداب الضيافة أن نقدم الشاي بعد القهوة؟
فذهبت فقالت لها: بابا عاوز شاي.
قلت له: أسمعت؟ هذا موضوع حديث.
__________
(1) من كتاب صور وخواطر ص(280_286)، وقد نشرت في حدود عام 1387هـ.(1/293)
قال متعجباً: هذا؟ قلت: نعم، لقد بعثتها لتنقل إليها عبارة معناها إني أريد شاياً، ولكني جعلتها نكتة لطيفة، ليس فيها أمر وليس فيها جفاء؛ فأضاعت البنت هذه المزايا كلها حين بلغتها المعنى المجرد جافاً قاسياً كأنه أمر عسكري.
أفلا يوحي إليك هذا بشيء؟
فنظر، وقال: لا!
قلت: أما أنا فقد ذكرني بقصة الأمير الذي رأى رؤيا مزعجة، فدعا بمن يَعْبُرها له، فقال له: تفسيرها أنها ستموت أسرتك كلها، فغضب الملك، وأمر به، فجلد عشر جلدات وطُرِد.
ودعا بآخر، فقال له... أيها الأمير إن تعبير رؤياك واضح أنك أطول عمراً من أسرتك كلها؛ فسر الأمير وأمر أن يعطى عشرة دنانير.
والمعنى واحد ولكن هذا قذف به في وجه الأمير عارياً صلداً كأنه يقذفه بحجر فخرج مضروبًا.
وذلك لفه بثوب جميل من حسن التعبير، وقدَّمه إليه بيمينه برفق وتعظيم؛ فخرج بالجائزة.
إن هذا هو الموضوع؟
قال: إني لم أفهم شيئاً إلى الآن؟ فما هو الموضوع؟
قلت: فن الكلام.
إن الإنسان كما يقولون حيوان ناطق، وليس النطق أن يخرج الحروف، ويصفَّ الكلام، بل أن يعرف كيف يتكلم، ورُبَّ كلمةٍ تدخل الجنة، وكلمةٍ تدخل النار، وكلمةٍ أنجت من القتل، وكلمة دفعت صاحبها إلى القتل، وربَّ صاحبِ حاجةٍ عند وزير أو كبير عرف كيف يطلبها؛ فقضيت له، وآخرَ طلبها فلم يصل إليها .
وكثيراً ما كان يقصدني أرباب الحاجات يسألونني أن أكلم لهم من أعرف من الوزراء والكبراء وأنا أكره أن أسأل في حاجة لي أو لغيري؛ فكنت أعتذر إليهم، ولكني أفيدهم فائدة أكبر من وساطتي، هي أن ألقنهم الكلام الذي يقولونه للوزير أو للكبير، ولولا أن الوقت يضيق عن التمثيل لضربت لذلك أمثالا ً.
وفي كتب الأدب العجائب في هذا الباب ولعلي أعود إلى الكلام فيها يوماً.
وهذا فن لا يُتَعَلَّم تعلماً، ولكن يوصل إليه بالقلب الذكي، وبأن تعرف خُلقَ مَنْ تكلمه والطريق إلى نفسه.(1/294)
وكل نفس لها باب، وإليها طريق، لم يخلق الله نفساً مغلقة لا باب لها، فهذا يدخل إليه من باب التعظيم، وهذا من باب العاطفة، وهذا من باب المنطق، وهذا من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يؤثر الشرح والبيان، ولا بدَّ لك من قبل أن تكلم أحداً أن تعرف من أي باب من هذه الأبواب تدخل عليه.
ولا أذهب بك بعيداً معك في الدار، أليس لك أولاد؟
قال: بلى.
قلت: قد يجيئك ولدك وهو عابس مبرطم _ الكلمة عربية _ فيقول لك بلا سلام ولا كلام: أبغي نصف ريال.
فتقول له: أما أخذت البارحة نصف ريال؟ أكل يوم نصف ريال؟ وتطرده.
ويجيء الولد الآخر فيقبل يدك، ويُسَلِّم عليك، ويقول لك: بابا أنا أشكرك؛ لأنك أعطيتني أمس نصف ريال، ولكني أنفقته وأنا أريد غيرها، ولكني مستحي منك، وسأقتصد، ولن أنفقها كلها مثل المرة الماضية.
فتقول له: لماذا تستحي مني؟ هل يستحي أحد من أبيه؟ خذ هذا ريال.
إنك لا تفضل ولداً على ولد، ولا تبخل بنصف الريال، ولكن الأول أساء الأدب؛ فعاقبته بالحرمان، والثاني أحسن الأدب؛ فأجبت له الطلب.
والمرأة الحكيمة التي تعرف خلق زوجها، وتعرف كيف تكلمه _ تصل إلى كل ما تريده منه، والمرأة الحمقاء تحرم نفسها من كل شيء.
الأولى تعرف الوقت المناسب لعرض طلبها، فلا تجيء زوجها وهو غضبان أو متضايق، بل تنظر ساعة رضائه، وانطلاق نفسه، فتطلب منه، ولا يكفي الرضا منه، بل يجب أن يكون مع رضا النفس امتلاء اليد؛ فإذا كانت تعلم أن الزوج ليس لديه من المال ما يلبي به الطلب لم يفدها حسن العرض، ولا جمال القول.
وليست العبرة بألفاظ الكلام فقط، بل باللهجة التي يلقى بها هذا الكلام والتحية إن ألقيت بلهجة جافة كانت شتيمة، والشتيمة إن ألقيت بلهجة حب كانت تحية، والولد الصغير يعرف هذا بالفطرة، إن قلت وأنت ضاحك =أخ يا خبيث+سُرَّ وابتسم، وإن قلت وأنت عابس مهدد: تعال يا آدمي يا _ منظوم _ خاف وهرب.(1/295)
وإن قلت لصديقك في الدار: تفضل اقعد كانت مكرمة، وإن قالها رئيس المحكمة للمحامي في وسط دفاعه كانت إهانة.
مع أن الكلمة واحدة وإن كتبت لم يكن بين حاليها اختلاف، وما نقلها من حال إلى حال إلاَّ اللهجة.
وخذ _ مثلاً _ أقرب كلمة صباح الخير.
إنَّ صباح الخير قد يكون معناها إني لا أبالي بك، ولا أحس غيابك، ولا حضورك؛ وذلك إن قلتها ووجهك خالٍ من كل تعبير، وصوتك خالٍ من الحرارة، كأنك تردد جملة محفوظة.
وقد يكون معناها إني أعطف عليك ولكني أراك دوني، وأحس أني أرفع منك _ إن قلتها وأنت باسم بسمة دبلوماسية، وقد أحنيت رأسك ربع سانتي انحناءة مُصْطَنَعَة.
وقد يكون معناها إني صديقك المخلص لك _ إن قلتها بابتسامة صادقة وبلهجة طبيعية.
وإن برقت عيناك وأنت تقولها، وارتجف صوتك حتى كأنه صوت =أحمد علام+في رواية مجنون ليلى كان معناها: إني أعشقك، وأموت حباً فيك.
وقد يكون معناها، إني أحتقرك وأزدريك إن قلتها وأنت مُصَعِّر خَدَّك زاوٍ نظَرك، شامخٌ بأنفك.
وقد يكون معنى صباح الخير: سبَّ الأب؛ فإذا عوتب القائل قال: =وهل شتمته، هل قلت له شيئاً؟ إنما قلت له صباح الخير+.
وقد يكون للكلمة أحياناً عكس معناها، الذي يدل عليه لفظها، يفهمُ ذلك من قرائن القول، وظروف الكلام؛ فإذا خرجت من الوزارة أنت وزميلك، فاصطحبتما في الطريق، حتى بلغت دارك، تقول له: تفضل معنا.
فيقول لك: في أمان الله؛ لأنَّ =تفضل معنا+هنا، معناها: فارقنا واذهب عنَّا؛ بدليل أنه لو أخذها على حقيقتها وتفضل معك لضقت به؛ واستقبلته(1)وعجبت منه.
وقد يطيل الزائر السهرة، ثم يتهيأ للقيام فتقول له: بدري =كمان شوي+ ومعنى ذلك: لقد أطلت فاذهب .
وإذا مللت من حديث محدثك، تقول: =لا يمل+وهو في الحقيقة قد مَلّ.
وتقول: =غير مقطوع حديثك+وقد قطعته وفصلت رأسه عن جسده، أو بترت ذنبه عن جسمه.
وقد يفقد الكلام كل معنى، ويصير جُمَلاً فارغة، كقولك لمن تلقاه.
__________
(1) لعلها: واستثقلته (م).(1/296)
كيف حالك؟
ولا يهمك حقيقة أن تعرف حاله ولا ماله.
ويقول لك: مشتاقون، وما هو بالمشتاق إليك، ولا المفكر فيك.
ويقول: طمني عن الصحة؟.
كأن صحته تشغل فكرك، وتطرد النوم عن عينيك ولا تطمئن حتى تثق بكمالها وتمامها.
كنت مرة خارجاً من المستشفى، بعد عملية جراحية، لا أزال أقاسي آلامها، فلقيني صديق لي فقال: كيف الصحة؟
فظننته يسأل عنها حقيقة ورحت أشرح له ما بي، و أصور ما أجد وتكلمت خمس دقائق بمقدار حديثي في الإذاعة _ على مائدة الإفطار _ في رمضان فلما انتهيت سكتُّ، ونظرت إليه أسمع منه، فقال: كيف الصحة إن شاء الله بخير.
وإذا به لم يسمع من شرحي وبياني شيئاً.
ودليل آخر، هو أسلوب التحية هنا وفي مصر وفي الشام يقول لك، من تلقاه. كيف أصبحت؟ كيف الأولاد، فتجيبه بما تيسر، فيعود فيقول: وكيف أصبحت؟ وكيف الأولاد؟
يعيدها _ كما تعاد =ازيك+في مصر، و=ايش لونك+في الشام والعراق، سبع عشرة مرة على الأقل؛ فلا تدري بماذا تجيب.
ومن الكلام الذي لا يدري المراد منه سؤال إخواننا الصحفيين كل من يلقونه، في كل مناسبة، وفي غير مناسبة، =عن شعوره+عند رؤيته هذا المشهد، و=انطباعه+ _ وما أدري ما معنى =انطباعه+_ لذلك الحادث.
ولو حققت عن مراد السائل من سؤاله، وجدت السائل لا يعرف حقيقة ما يريده، فضلاً عن أن يعرفه المسؤول.
ولهجة الكلام وملامح الوجه، تقلب المعنى قلباً؛ تصوروا رجلاً يدخل المأتم الحزين، وهو باسم الثغر، منطلق الوجه، ويقول بلهجة مرحه: =عَظَّم الله أجركم، والله تألمنا لمصابكم +، أو يدخل الفرح وهو دامع العين، ويقول بلهجة باكية: =لكم تهانينا، إننا فرحون لفرحكم+.
إن من يسمعه، يقول إنه أحمق، أو كاذب، ومثله مثل هؤلاء المغنين الذين يسمون أنفسهم قراء وما هم بالقراء، يتلون آية العذاب من كتاب الله التي تقشعر لها الجلود بصوت مرح ونغمة مرقصة، ويتلون آية البشرى والنعيم بنغمة حزينة وصوت باك.(1/297)
وإن من إمارات الحكم على شخصية إنسان لهجة كرمه، فمن كان يتكلم بصوت هادئ ولهجة متزنة، وحروف واضحة، كانت له شخصية المهذب النبيه، ومن كان مرتفع الصوت، حاد اللهجة يتشدق في كلامه، أو يمط الحروف لم تكن له هذه الشخصية، وقد ترى امرأة جميلة الوجه وأخرى دونها جمالاً، ثم تسمع كلامهما، فتجد الأولى خشناً ولهجتها قاسية، وهي مسترجلة في نطقها، وتجد للثانية صوتاً رقيقاً ولهجة ناعمة ونغمة حبيبة، فيزيد في عينيك جمالها حتى لتجدها أجمل من صاحبتها بل ربما شوه كلام الأولى صورتها في بصرك حتى رأيت جمالها قبحاً.
قال صاحبي: لقد اكتملت المقالة.
قلت: نعم، وكان موضوعها جديداً، هو =فن الكلام+.
وقاحة الأدب(1) أدباء الطابور الخامس
للعلامة محمود محمد شاكر
نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية، فالحقيقة الأولى هي مطالب الفرد لنفسه، ورغباتُه، وأمانيه، وأحلامُه، والحقيقة الأخرى هي: مطالب الجماعة المكونة من الأفراد على اختلاف نزعاتهم في أنفسهم وخاصتهم.
وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة، وتوجيهه في الحياة الاجتماعية عامة إلى جهة بعينها، وخاصة إذا كان مرد أعمال الأفراد إلى قاعدة عامة تطلق لهم من الحرية ما يجعل أعمال الفرد استقلالاً على طريقة المصلحة الفردية التي لا تحترم قيود الجماعة.
وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة التي لا ترقى بها هذه الجماعة المختلفة قوة وضعفاً، ولؤماً وكرماً، وعقلاً وسفاهة، وحكمة وضلالاً.
وأخطر الأشياء في حياة الجماعات والشعوب هي القواعد العامة التي يأتي من تفسيرها وتوجيهها سيلٌ طامٌّ متدفق من تيارات الأفكار المتنازعة التي تتنابذ ولا تتعاون.
__________
(1) الدستور _ السنة الثالثة _ العدد 813، السبت 28 جمادى الثانية سنة 1359هـ _ 3 أغسطس سنة 1940م، ص1، وانظر جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، جمعها وقرأها وقدم لها د. عادل سليمان جمال، 2/861.(1/298)
فلذلك نحن نعد المبادئ العامة التي تسيِّرها أعمال الأفراد مستقلة عن الفكرة الاجتماعية الرحيمة التي تخاف سوء المغبة في جسم الجماعة _ هي الأصل الذي يجب أن يُمَحَّصَ ويُحَقَّقَ ويُضْبَطَ؛ حتى لا تتنازع عليه الأهواء أو الشهوات ودناءات الأخلاق الفردية المستأثرة، والتي تعيش بلذاتها قبل حقائق لذاتها؛ فإن طغيان الوحشيَّة الفرديّة يفضي بالعالم إلى فوضى في الجماعة لا تقاومها حسناتُ المجتمع، أو مصالحُه، أو حقيقةُ حياته.
فأنت ترى من ذلك أن أهم ما يجب علينا أن نتوجَّه إليه، هو ضبط النسبة بين حاجة الفرد المستقل باعتباره فرداً من جماعة مستقلة _ أيضاً _.
تريد هذه الجماعة أن تجتنب أكبر قسط، بل أعظم كارثة من بلاء التشقق الاجتماعي الذي يأتي من وراء القانون الذي يضبط دولة الجماعة ويقوم على حياطتها؛ طلباً لإسعادها والترفيه عنها، ووقايتها من التدهور الأدبي والعقلي والسياسي والاجتماعي.
وقد كان من بلاء المدنية الأوربية الفاجرة أن انفجرت في الأخلاق الفردية انفجاراً بعد انفجار حتى صارت مِزَقُ الأخلاق نثراً متطايراً لا يجمعه جامع يكون للجماعة _ من صعلوكها إلى مليكها _ جِماعاً ومِلاكاً واستحصاداً، يمسح عن آلام البشرية تلك الدموع الغزيرة التي تجري تحت ظلام تلك الأثرة، والبغي، والاستبداد، والشهوات المظلمة في نفوس مظلمة مثلها.
وأنشأت هذه الطريقة الدنيا من الشهوات المستحكمة الغالبة مبادئ يتخذها الأفراد شعاراً، ثم جعلت تتخذها بعض الجماعات رمزاً لحياتها، ولكنها مع ذلك لا تعدها نظاماً لجماعة، بل تبديداً لنظام الجماعة، أو لما ينبغي أن يكون عليه نظام الجماعة.(1/299)
فمن هذا البلاء ما يقوم في عقول بعض المتأدبين من حرية الإنتاج الأدبي على أيِّ صورة من الصور، أي أن يدور الأديب بإنتاجه حول شهواته الخاصة التي يبثها أدباً في أمته، ويدعي مع ذلك أن هذه الحرية الشخصية في نظرته إلى الحياة وأعماله في الحياة، وتصوير هذه النظرات والأعمال _ عمل أدبيٌّ حرٌّ يكفل له الناس الانتشار والذيوع، وأن يدخل على الأحرار في بيوتهم، وعلى العقائل في خدورهن الطاهرة وعفافهن النبيل، وأنه ينزل على الأمهات والزوجات والعذارى وحياً جديداً من الفن الذي تضمن له فَنِّيَّتُهُ حرية التغلغل في حصون الأمة المقاتلة عن الذراري والأبناء، وكيان الشعب المولود للمستقبل.
ولا يبالي هؤلاء أن يكون في داخل هذه الحصون الشعبيَّة الهائلة معنىً جديدٌ يخذل القوى العاملة على إنشاء الحياة الاجتماعية إنشاءاً يضمن لها البقاء، والاستمرار، والتفوق، والسمو بالشعب إلى القوة الحاكمة التي تدفع عن أرض الوطن بلاء الاستعباد؛ فإن الرجل إذا استعبدته الشهوة فهو يدور أبداً في تصريفها مستعبداً ذليلاً لا يدفع عن نفسه إذا ما أوتي من هذه الحاسة المتلينة الخاضعة بطبيعتها إلى سلطان اللذة غير متورعة عن التدلي إلى الحضيض، وغير حافلة إلا بالساعة الحاضرة العمياء المظلمة ظاهراً أو باطناً.
وإذا فسد الأدب أول ما يفسد هذه الحصون فقد أمدَّ الشعب بهلاكه، وأدخل عليه هذه النوازع المحطِّمة، وبثَّ فيه سراياه وأعوانه من (الطابور الخامس) الذي يعمل على إيجاد حركة ارتداد تشقُّقٍ وحَيْرَةٍ ووَجَلٍ.
فإذا تمَّ لهذا الطابور الخامس تمامه استولى على الأمة فمحقها بالفزع والتسليم والرضا بالخضوع والذُّل، قبل أن يمحقها العدو بالآلة والسلاح والجيش الغازي.(1/300)
وفي هذه الأمم التي لا تملك من سلطان القوة ما تسوغ به السيطرة على ميادينها في صراع الأمم إذا تصارعت، أي في هذه الأمم الشرقيَّة، وأخص الأمة العربية _ يعيش هذا الطابور الخامس من الأدباء، ويرى أنه قد أجاد المذهب والمسلك، واتخذ لأمته أهدى السبيلين وخير المنزلتين.
وعقيدة هذا الطابور الخامس أن حرية الفن يجب أن لا تتقيَّد بمصلحة الجماعة، أي أن يكون إنتاج هذا الطابور على ما يثور في أنفس أفراده من النزعات المستكلبة(1)، والنزغات المنفجرة في أعصابه بروح الشهوات.
فالأدباء والشعراء خاصة يرون أن أدبهم وشعرهم لابد أن ينطوي على تلك المعاني النفسيَّة النازلة التي تستولغ في دماء الناس وأعراضهم المذبوحة بالآلات الحديدة الماضية التي لا تقاوم بالشهوات الغريزيَّة المجنونة التي تضيء لأعينهم سراج اللذة المحرمة تحت جناح الليل بين الأخلاق المتهالكة في حانات الفجور، تستنقع بأحلامها وهذيانها في كأس تفوح نشوة، وتسيل عربدة، ثم ماذا؟
ثم يأتي هؤلاء فيدفعون إلى المجتمع نتاجاً مركباً من جميع هذه الرذائل المنهوكة المخمورة، ثم تتغلغل هذه المساخط كلها في بيوت الشعب في أوهام الزوجات البريئات، في عيون الفتيات الجاهلات، في أحلام العذارى المتأملات في هدأة الحياة ينتظرن من وراء النفس والعقل تحقيق أحلام الفطرة الغالبة على كل حيٍّ في هذه الأرض.
ثم يكون ماذا؟ ثم يكون هذا التفكُّك والتَّخاذل بين الأوصال الشعبيَّة التي يجب أن تتماسك، وأن تجعل من تماسكها وارتباطها قوّة، وأن تنفث فيها روح الجماعة روحاً سامية طامحة راغبة جادَّة تريد أن ترتفع بالجميع فوق شهوات الجميع؛ لتحقق للكيان الاجتماعي كله سيادة تامَّة على الأسباب التي يصير بها الشعب قوة عاملة على إيجاد السعادة للشعب وسلالة الشعب في مستقبل أيامه وأعوامه.
__________
(1) المستكلبة: التي أصابها داءُ الكَلَب، وهو السعار (م).(1/301)
فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين، وهم البلاء الماحق، وهم الذلُّ الحاضر، والقيد الربوض، وهم سفالة الإنسانية؛ إذ كانت الإنسانية لا تستطيع إلا أن تنزل بهم إلى الحضيض الأوهد من الخضوع لسلطان الشهوة، وهم الهلاك المحقَّق؛ لأنهم سبب التفرقة؛ إذ كان بناء أدبهم على الاستقلال الفردي المحض الذي لا يُقَدِّرُ للجماعة معنى الجماعة، بل يأتيها بكل أسباب التمزيق والتعاند والخلاف بين القوى إذا تحررت فانطلقت فاتخذت كل قوة سبيلاً مناقضاً لاتجاه صاحبتها، فتصبح قوى الشعب كلها في نزاع دائم لا خير فيه، بل فيه كل الشر، وكل البلاء، وكل المحق.
إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يفرغ دمه من معاني الشيطان _ لا يستطيع أن ينقي أعصابه من وراثة الغرائز الإنسانية القديمة الآتية مع الإنسان من الخطيئة الأولى لآدم _ صلوات الله عليه _.
وإن أحداً لا يعطى التحكم في تصريف القدر على الوهم والأحلام، ولكن الإنسان أعطي العقل، وأعطي مع العقل الإرادة، وأعطي مع الإرادة طبيعة التعاون، وأعطي مع هذه الطبيعة نظام الجماعة، فأعطي مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين:
فالحقيقة الأولى: هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية، وبذلك يستطيع أن يضع تحت أعين الجماعة قدوة حسنة، ومثلاً أعلى، ينبل، ويسمو، ويترفع، ويضيء في الأجواء البعيدة بروح الجمال والحق.
والحقيقة الأخرى: هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية، والتقليد من ناحية أخرى، وبجميع ذلك تستطيع الجماعة أن تجعل نظامها سامياً أبداً عظيماً دائماً، متماسكاً على مرِّ الزمن.(1/302)
فأدباء الطابور الخامس _ هم كسائر الناس _ يستطيعون أن يستخدموا العقل والإرادة وطبيعة التعاون ونظام الجماعة؛ لإيجاد المثل الأعلى للشعب، باذلين من أنفسهم تضحية واحدة، هي أن يستحوا قليلاً من الناس ومن أنفسهم، وأن يجعلوا مصلحة هذا الشعب المسكين نصب أعينهم، وعلى مدِّ أفكارهم، وأن يكونوا عاملين على إيجاد القوة في بناء الأمة وإصلاح أفرادها، لا أن يكونوا خبلاً خابلاً وفساداً، ونزولاً بالإنسانية السامية إلى الحضيض المظلم الذي تعيش فيه أرواح الشرِّ المهلكة، تلك الأرواح التي لا تريد من معنى الحرية إلا استعباد الآخرين للشهوات.
أما نحن فعلينا أن نحارب هذا الطابور الخامس قبل أن نحارب أعداءنا من غيرنا؛ لأن هذا هو العدو الحقيقي الذي يخذل قوانا، ويفسد استحكامنا، ويحطِّم قواعدنا الحربية التي بنتها الأجيال من قديمنا الأول.
هذا الطابور الخامس هو من رسل المدنية الخَرِبة التي تهدمت، ولا تزال تتهدم، وستتهدم في ميادين القتال إلى هذا اليوم؛ فلنعمل جميعاً على أن نكون من الفرق الواقية من دسائس الطابور الخامس.
رابع عشر: مقالان في السيرة النبوية
64_ مولد الإنسانية: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
65_ محمد ": للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار
مولد الإنسانية(1) للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
قال الحكيم الفرنسي الشهير غوستاف لوبون: =ما عرف التاريخ حاكماً أعدل ولا أرحم من العرب+.
وهذا الامتياز الذي تفرَّد به العرب في التاريخ _ كما لاحظه الحكيم الفرنسي وأعلنه للناس _ إنما كانت نفحة من رسالة الله التي اختار لها صفوة عباده، وأكمل مخلوقاته، محمد بن عبدالله _ صلوات الله وسلامه عليه _ فكان يوم مولده يوم مولد العدل الذي كانت الإنسانية في انتظاره، وبشيراً برحمة الله التي تعامل الناس بها للمرة الأولى بمقياس واسع في ظلّ الرسالة المحمدية.
__________
(1) مع الرعيل الأول ص7 _ 17.(1/303)
فالمولد المحمدي لم يكن مولد إنسان، وإنما كان مولد إنسانية، وكانت الإنسانية قبل ذلك أمنية الخواص، وكان التعامل بها محصوراً بين أفراد ممتازين، فلما آذن الله بمولد صاحب هذه الذكرى الخالدة على الدهر رفع بمولده مقام الإنسانية، ونهض بمستواها إلى المرتبة التي كان يحلم بها الحكماء، ويرونها من أماني الخيال؛ فصارت الإنسانية عقيدة وديناً، بعد أن كانت أمنية ووهماً، وقامت لها في الأرض دولة تعد الصدق من دعائم دينها، والحياء من شعب إيمانها، والرحمة من أسلحة نضالها، وإقامة الحق من شعائر مجتمعها، وإماطة الأذى عن كل طريق خلقاً إسلاميَّاً يتخلَّق به كلُّ من سار وراء هذا المتبوع الأعظم.
يقول أديب العصر مصطفى صادق الرافعي ×: =ليس المصلح من استطاع أن يفسد عمل التاريخ؛ فهذا سهل ميسور حتى للحمقى، ولكن المصلح من لم يستطع التاريخ أن يفسد عمله من بعده+.
وإن سيد المصلحين، وأفضل رسل الله أجمعين هو صاحب الرسالة الوحيدة التي تولى الله حفظها، وتكفل بالخلود لكتابها، وحاط مبادءها وسننها وأحكامها وأهدافها بحياطته الصمدانية، وأقامها بين أيدي البشر غضة سليمة كأن نبرات صوته الشريف تنطق بنصوصها وحروفها في كل حين، فتبهر الناس بكمالها الذي لا يدركه كمال.
قالت الليدي إيفلين كوبولد في كتابها (الحج إلى مكة):
=لقد تساءل غوتيه: إذا كان هذا هو الإسلام، ألسنا كلنا مسلمين؟
فأجاب كارليل: أجل، إن من يحيا بالروح إنما يحيا على الإسلام+.
ويقول مستر ولز أكبر مؤرخي هذا العصر: =كل دين لا يسير مع المدنية في كل طور من أطوارها فاضرب به عرض الحائط، ولا تبال به؛ لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنباً إلى جنب لهو شرٌّ مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك.(1/304)
وإن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئاً من هذا فليقرأ القرآن؛ إن كثيراً من أنظمته تستعمل في وقتنا هذا، وستبقى مستعملة إلى قيام الساعة.
وإذا طلب مني القارئ أن أحدد له (الإسلام) فإني أحدده بالعبارة التالية: (الإسلام هو المدنية)+.
وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كان فيه الدين الإسلامي مغايراً للمدنية والتقدم؟
إن محمداً هو الذي استطاع في مدة وجيزة لا تقِلُّ عن ربع قرن أن يكتسح دولتين من أعظم دول العالم، وأن يقلب التاريخ رأساً على عقب، وأن يكبح جماح أمة اتخذت الصحراء المحرقة سكناً لها، واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر واتباع آثار آبائها، ولم تستطع الدولة الرومانية أن تغلب الأمة العربية على أمرها؛ فمن الذي يشك أن القوة الخارقة للعادة التي استطاع محمد أن يقهر بها خصومه هي من عند الله؟
وهذه الحضارة الإنسانية، بل الإنسانية الممتازة، التي ولدت بمولد الهادي الأعظم، وانطوت عليها رسالته السامية، وحققها بالتعامل بها من اتبعه من الصحابة والتابعين _ هي التي وقف في طريقها شارل مارتل، وكان الذين يجهلون الإسلام من الغربيين يمجِّدون شارل مارتل ويقدسونه لذلك، فلما ظهر فيهم من أدرك أهداف هذه الرسالة، وعرف كريم معدنها، وثمين جوهرها، تغير حكمهم على تلك الحادثة التاريخية الأليمة، فقال مسيو هنري دي شامبون مدير مجلة (ريفو بارلمنتير الفرنسية): =لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على تقدم العرب في فرنسا لما وقعت فرنسا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني والمذهبي.(1/305)
ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت أسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولولا ذلك لما تأخر سير المدنية ثمانية قرون. نحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا: في العلم، والفن، والصناعة، مع أننا نزعم السيطرة على تلك الشعوب العريقة في الفضائل، وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري مدة ثمانية قرون، بينما كنا يومئذ مثال الهمجية.
وإنه لكذب وافتراء ما ندَّعيه من أن الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى+.
ويقول مسيو كلود فارير في المقدمة التي كتبها للترجمة الفرنسية من رواية العباسة أخت الرشيد تأليف جورجي زيدان: =أصيبت الإنسانية والعالم الغربي عام 732م بكارثة عظمى لم تصب بمثلها في القرون الوسطى، وبقي أثرها ظاهراً في العالم مدة سبعة قرون أو ثمانية، إن لم يكن مثل ذلك؛ لأن روح التجدد كانت يومئذ قد بدت للعيان، حتى وقعت تلك الكارثة فكان من نتائجها تأخر سير الحضارة ورجوع العالم إلى الوراء، هذه الكارثة هي الانتصار المؤلم الذي أحرزه وحوش الهاركا من جيوش الإفرنج التي كان يقودها شارل مارتل سليل الكارلنجيين محارباً بها كتائب العرب والبربر التي لم يحسن عبدالرحمن جمعها وحشدها بالمقدار الكافي؛ فكان ذلك سبب خذلانها وتقهقرها .
في ذلك اليوم المظلم تقهقرت الحضارة إلى الوراء ثمانية قرون.
وحسب الذين يبتغون أن يشهدوا مثالاً من مدنية العرب يومئذ أن يتنقلوا بين حدائق الأندلس الغناء، ثم أن يأتوا الآن فيترددوا بين خرائب ذلك العصر الماثلة للأنظار في إشبيلية وقرطبة وطليطلة وغرناطة+.(1/306)
وبينما كان المنصفون من كبار أدباء الغرب وعلمائه يعترفون بهذه الحقائق عن الإنسانية الكاملة التي بعث الله بها أكمل رسله إلى صفوة أممه _ كان شيخ ملاحدة الشرق العالم الشهير الدكتور شبلي شميل يقول بلا محاباة: =إن القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة، وجاء لتقوية الروح والجسد بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب، فقصر وظيفة البشرية على الزهد والتخلي عن هذا العالم الفاني+.
ونتخطى العلماء والحكماء والأدباء إلى سادة العروش وقادة الجيوش، وساسة الأمم، فننقل عن مسيو موريس باليولوغ _ عضو الأكاديمية الفرنسية، وأحد سفراء فرنسا السابقين في روسيا _ من كتابه (غليوم الثاني ونقولا الثاني) فقرة من النص الدقيق لرسالة بعث بها الإمبراطور غليوم إلى قريبه قيصر روسيا يوم 9 نوفمبر 1897 يصف له فيها شعوره عند زيارته بيت المقدس في ذلك الشهر من تلك السنة، وختمها بقوله: =ولما غادرت الأماكن المقدسة كنت أشعر بخجل عظيم من المسلمين، وكنت أقول لنفسي في قرارة نفسي: لو لم يكن لي دين عند وصولي إلى القدس لكنت قد اعتنقت حتماً الدين الإسلامي+.
وهذا الدين الإسلامي هو دين الأخلاق، وشُعَبُ إيمانه _ التي بلغت بضعاً وسبعين شعبة _ يدور أكثرها حول الأخلاق، فالأخلاق من أركان الإيمان في الإسلام، وقد تغنى (شوقي) بذلك يوم قال في الرسول":
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا ... منها، وما يتعشق الكبراء
لو لم تُقِمْ ديناً لقامت وحدها ... ديناً تضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائل ... يُغرى بهن ويُولع الكرماء
فإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ ... هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبتَ فإنما هي غضبة ... في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا قضيتَ فلا ارتيابَ كأنما ... جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته ... فجميع عهدك ذمةٌ ووفاء(1/307)
أيها المسلمون، إن الإسلام الذي بعث الله به محمداً " هو ما يسميه الإفرنج (السبرمان) أي الإنسانية في أسمى ذروتها، وإنكم _ يوم تنشدون لمجتمعكم النظام الصالح _ لا مناص لكم من أن ترجعوا إلى هذا النظام فتأخذوه من ينابيعه الأولى، وتفهموا كل فقرة من نصوصه بجوّها الذي كان لها يوم نطق بها هذا الهادي الأعظم، وتأخذوها على أنها أمر لكم من نبيكم لتعملوا بها، لا على أنها حكمة تحفظون ألفاظها؛ لتتحدثوا بها إلى من تجالسونه، ثم تنتهي مهمتها هناك.
إن الله بعث صاحب هذه الرسالة الكريمة "؛ لتكون لنا به أسوة حسنة، أي لنحاول السير معه من ورائه؛ فنضع قدمنا على آثار قدمه الشريفة، لا نخرج عن طريقه إلى أي طريق آخر، وإن طريقه _ كما اعترف هؤلاء الإفرنج الذين نقلنا نصوص أقوالهم _ لا تحوجنا إلى التماس طريق آخر، لا طريق موسكو، ولا طريق لندن، ولا طريق واشنطون، ولا طريق باريس، وكل ما عرف الناس وسيعرفون من حق أو خير فإن النظام المحمدي يدل عليه، ويوصل إليه من أيسر الطرق، وأجملها.
نعم إن عصور التأخر التي كان المسلمون محكومين فيها بنظام الاستبداد، ثم بنظام الاستعمار، قد أحالت قوة الإسلام ضعفاً، وجعلته دين مسبحة ومسكنة بعد أن كان دين حق، ونظام مكافحة لإقامة الحق.
ولكن نصوص الإسلام التي تكفل الله بحفظها كفيلة بأن تجعلنا من أصحاب رسول الله _ صلوات الله عليه _ إذا حرصنا على فهمها فهماً سليماً كما لو كنا معاصرين له، وملازمين لمجالسه، وسائرين في ركابه.
وبعد أن استحال دين القوة إلى ما نرى فقد أهله ثقتهم بأنفسهم، وتراخت صلتهم بماضيهم، ووقفوا من رسالتهم وقفة المتفرج، فكان ذلك موضع العجب من عقلاء الأمم الذين عرفوا قوة هذه الرسالة، وشاهدوا ضعف أهلها.(1/308)
كنت عقب تأسيس جمعية الشبان المسلمين في القاهرة قبل نحو ربع قرن أحد المستمعين إلى حديث عظيم تحدث به العالم المحقق الجليل مستر مارماديوك بكثول في دار الشبان المسلمين، عن الإسلام وقوته وضعف أهله، فكان مما قاله:
=في رأيي أن الزمن الذي نحن فيه أنسب الأزمان وأصلحها لنشر الدعوة الإسلامية في الأرض.
وما يظنه الظانون مثبطاً من نقص القوة هو _ بالعكس _ أدعى لنشر الإسلام وأكثر ملاءمة للنجاح فيه.
إن لنا في (هدنة الحديبية) لعبرة نقضي لها العجب كلما فكرنا فيها؛ فالصحابة _ رضوان الله عليهم _ وقعت منهم شروط تلك الهدنة موقع الأسى، وكانت لهم منها صدمة عنيفة لم يسلم من تأثيرها بعد صاحب الهداية العظمى"غير عدد قليل منهم، في مقدمتهم الصِّدِّيق _ رضوان الله عليه _.
ولكن هذه الهدنة كانت الفتح الأكبر للإسلام حتى أن عدد الذين دخلوا في الإسلام في سنة واحدة بعد صلح الحديبية كان أكثر من عدد الذين دخلوا في مدة تسع عشرة سنة قبل ذلك.
والسبب في هذا الإقبال على الإسلام أن قريشاً وسائر العرب لما ظنوا الفوز في جانبهم بما حصلوا عليه من قيود وعهود تساهلوا في أمر الاتصال بالمسلمين، وزال سبب كبير من أسباب صدودهم عن الإصغاء إلى الهداية الإسلامية؛ فكانوا يرون بأعينهم من سيرة أهل هذه الهداية ما يبهر النظر نوراً، وكانوا يسمعون بآذانهم ما يملأ القلب حقَّاً وإيماناً؛ لذلك صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، وكان للإسلام بذلك القوة العظمى التي مهدت لفتح مكة، وإعلاء كلمة الله، فلا يعلو عليها شيء؛ فتبين للذين تلقوا صدمة تلك الشروط القاسية في الحديبية أن هذه المواقف وأمثالها ليس من شأنها أن تدعو إلى اليأس، وليس من شأنها أن تحول بين الحق وبين ما يستحقه من فوز+.
ثم قال أخونا في الإسلام مستر محمد مارماديوك بكثول ×:(1/309)
=إن صوتاً عُلْويَّاً نسمعه الآن من الحديبية ينادينا بأن في الإمكان _ بالرغم مما صرنا إليه من التجرد عن القوة _ أن نلم شعثنا، ونعود لنشر هداية ديننا، وأن نبلغ هذه الهداية إلى البشر أجمع؛ فالشعوب اليوم أشد إصغاءاً إلينا منها في العصور السالفة؛ لأن المشادَّة بين القوة والقوة قد تكون سبباً من أسباب الصدود عن الإصغاء إلى الحق، فلم يبق على المسلمين إلا أن يعملوا، والعمل اليوم ممكن جدَّاً، ولكنَّ له شرطاً واحداً _ ولا مناص من تحقيق هذا الشرط _ وهو أن نكون الآن متحلين بالصفات التي كان متحلين بالصفات التي كان متحلياً بها مسلمو الحديبية؛ فالمسلم المعاصر إذا تحلى بالأخلاق الإسلامية الأولى _ من صدق واستقامة وحزم، وعزة نفس، وسعي للخير جهد الطاقة _ كان من وراء هذه الأخلاق قوةٌ تستمد الدعوة منها، فينتشر الإسلام حتى يعم الأرض.
والشعوب إنما تنظر إلى أهل الدين، قبل أن تنظر إلى الدين نفسه.
وأضرب لكم المثل بالإسلام في الهند؛ فإن إلى جانب مسلمي الهند ملايين كثيرة من مواطنيهم الوثنيين، وإن منهم من إذا أصغى إلى مبادئ الإسلام وتأمل فيها بهرته وقال: إن هذا هو الحق، وإن هذا هو الذي يجب أن يدين به كل إنسان، لكنه لا يملك نفسه بعد ذلك أن يسأل:
ولماذا المسلمون أنفسهم لا يعملون بهذه المبادئ؟ ولماذا لا يهتدون بهذه الهداية؟
هذه هي العقبة الحقيقية الواقفة في سبيل انتشار الإسلام، فلا بد من تذليلها، وليس بعد ذلك ما يحول بين الإسلام وبين أن يكون دين الإنسانية+.
هذا الكلام الموجه إلى المسلمين من أخ لهم في الإسلام دخل في دينهم عن بينة وإيمان، كلام (من طبَّ لمن حب)، ولو أن الله مدَّ في حياته حتى يشهد تطور الدنيا بعد الحرب العالمية الأخيرة لأدرك معنا أننا في فترة من التاريخ يوشك أن تنهار فيها جميع الدعائم التي كان يقوم عليها بنيان النظم الغربية بعد إفلاسها، وثبوت عجزها عن توفير السعادة التي تنشدها الأمم.(1/310)
ولو أن الله _ سبحانه _ لم يبعث رسوله بالإسلام قبل بضعة عشر قرناً لكانت حكمته العظمى ورحمته بالبشر جديرةً بأن تحسن إليهم الآن برسالة الإسلام نفسها دون غيرها؛ لما انطوت عليه من اعتدال ورفق ومعالجة عملية لجميع مشاكل المجتمع، وإقرار للأوضاع المألوفة لبني الإنسانية، مع تهذيبها بإبقاء ما فيها من حق وخير، وتجريدها من كل ما يتصل بأسباب الجور والحيف والضرر؛ فالزمن الذي نحن فيه أنسب الأزمان بقبول الإنسانية مبادئ الإسلام وأحكامه مطبقة على كل مشاكل العصر، ومنظمة تنظيماً يسهل على رجال التشريع وزعماء الشعوب وقادة الفكر الاستفادة منها في معالجة مشاكلهم، والتفهم لما انطوت عليه من حكمة، ومصلحة، وخير.
فهذا التنظيم العصري لمبادئ الإسلام وأحكامه يجب أن يكون من أهم ما تتوجه إليه همم الجامعيين والمثقفين _ فضلاً عن أفاضل علماء الأزهر ونجباء طلابه _.
ولا يكون ذلك إلا بالوفاء لهذا التراث، والإخلاص له، والصبر عليه، وأخذه من ينابيعه، وفهمه فهماً سليماً كما كان يفهمه الصحابة والتابعون، وهو من العموم والشمول بحيث يصلح لكل زمان ومكان.
وإذا كان عقل عالم بريطاني كبير كالمستر مارماديوك بكثول اقتنع بأن زمن إلقائه تلك المحاضرة كان أنسب الأزمان وأصلحها لتعميم النظام الإسلامي في الأرض فإن ما بعد الحرب العالمية الأخيرة أكثر ملاءمة لذلك.
وبعد فإن المسلمين ما برحوا _ من مئات السنين _ حريصين على إحياء ذكرى مولد الهادي الأعظم، ولكن بما نعرفه من أقوال وأشكال ومظاهر.(1/311)
وأكبر ظني أن الأمة بلغت الآن من الوعي الرشيد ما يجعلها تحيي هذه الذكرى بإحياء رسالة صاحبها _ عليه من الله أكرم السلام والتحية _ فالإسلام يحتاج من أبنائه إلى طبقة من الشباب والشيوخ يجعلون شعارهم التأسي برسول الله في أخلاقه الشريفة السامية، وفي مبادئ رسالته العظمى، وتحقيق أهدافها العقلية والاجتماعية والإنسانية، واعتبارها رسالة موجهة إلى عصرنا بالذات؛ لتعالج مشاكله، وتقيم معالمه، وتسن أنظمته، فنتعامل بها في بيوتنا، وأسواقنا، ومحاكمنا، ودواوين حكمنا، وقصور عظمائنا؛ فالإسلام إسلام بالتعامل به، لا بادعائه في شهادة الميلاد، وأرقام التعداد، وتحقيق ذلك يكون بالشروع به من الواحد إلى الاثنين إلى الجماعة الصغيرة، فالبيئة الواسعة، فالوطن الأعظم.
ونحن الآن في عصر الديموقراطية الذي تنزل فيه الدولة على حكم الأمة، ومن هي الأمة؟
أنا كاتب هذه السطور، وأنت القارئ لها، والآخر السامع لك وأنت تقرأ، وغيركما ممن ستجتمعان بهم، وتتحدثان إليهم، وتنقلان من إيمان قلوبكما إلى إيمان قلوبهم.
فإذا كثر المقتنعون بذلك، والداعون إليه، والعاملون به، حتى تكون هذه العقيدة عقيدة الرأي العام كان لا مناص لمجالسنا النيابية أن ينزل أعضاؤها على إرادة ناخبيهم، وبذلك تكون دولنا دولاً إسلامية حقَّاً.
محمد "(1) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار
من تصفح كتب السيرة النبوية الشريفة التي صاغها الحكماء قديماً وحديثاً، أو استجلى سيرة النبي الأعظم " من صفحات الوجود، كان جِدَّ عليمٍ بأنه أعظم مصلح ظهر في هذا الكون، ورأى أن تعاقب الأجيال لم يزد هذه الحقيقة إلا جلاءً وصقالاً؛ فهو " إن ذكر العظماء كان أعظمهم، وإذا ذكر الرسل والأنبياء كان مقدمهم وخاتمهم.
__________
(1) مجلة =الهداية الإسلامية+ الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354هـ، وانظر كتاب: محمد بهجة البيطار _ بهجة الإسلام _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص24_27.(1/312)
نشأ يتيماً فاقد الأبوين، فلم نر من ذوي الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات من تربى تلك التربية الطاهرة، واشتغل _ على حداثة سنِّه _ بما يعود على كافليه بالخير والبركة والمعاونة.
سافر بتجارة لخديجة بنت خويلد، فكان المثل الكامل في كل عصر بقوة نشاطه، وعظيم أمانته، وأرباحه في تجارته.
تزوج بخديجة، فلم يكن بزواجه أنانيَّاً ولا شهوانيَّاً، بل كان " وهو ابن خمسة وعشرين عاماً مضرب المثل في العفة والاستقامة، والاكتفاء بامرأة مسنَّة أيِّم، كانت قبله ذات زوج وولد، وهي أولى أزواجه، وأم أولاده، وقد عاش معها ربع قرن كامل، ولم يتزوج عليها أحداً، وإنما تزوج بعدها سودة بنت زمعة، وعاش بمكة حتى بلغ من العمر 53 عاماً لم يجمع فيها بين اثنتين أصلاً.
أما تزوجه في المدينة _ في بضع سنين _ بتلك النسوة الثاكلات الأيامى، وذوات الأولاد اليتامى _ فلمصالح زوجية واجتماعية، وأسباب خاصة وعامة، مبسوطة في كتب السيرة الشريفة القديمة منها والحديثة، اللهم إلا عائشة التي بنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت كخديجة آية على وجه الدهر في حبها وإخلاصها لزوجها وووفائها له، ثم كانت إحدى معجزاته " الخالدة في مشكلات التفسير والحديث والفتاوى والأحكام، ومسندها في مسند أحمد ابن حنبل يقع في 253 صفحة، وعلى رواياتها المعوّل في معرفة ما كان رسول"يفعل في بيته.
كان أمر المرأة في التاريخ القديم والحديث عجباً، فمنهم من وَأَدَها، ومنهم من عبدها!.(1/313)
لكن الإسلام هو الذي أنزلها المنزلة اللائقة بها، فهو قد منحها حقوقها، وعرفها واجباتها وآية: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] لا يوجد في الدنيا قانون أعدل ولا أجمع منها، إذ قد ساوت بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وخصت الرجل بدرجة الرئاسة الشورية على الأهل والأولاد؛ فالإسلام لم يستعبد المرأة كما فعلت الأمم السابقة، ولم يقلب نظام الطبيعة؛ ليجعل منها رجلاً ثانياً كما فعلت الأمم الحديثة المتمدنة؛ فقد تخلى عنها عندهم الأب والأخ والابن، ودفعوها جميعاً في تيار العمل خارج المنزل، فشقيت، وشقي الرجل بها ومعها.
زعموا أن الإسلام قد هضمها حقها في الميراث، أوَلا يذكر هؤلاء أن ميراثها ومهرها لها، وأنها تتصرف في أموالها كيف شاءت؟
وهل تملك المرأة الحديثة من مال زوجها أو من مالها عنده من التصرف المطلق ما تملكه المرأة المسلمة؟ كلا إنها لا تملك حق التصرف في مالها بغير إذن زوجها.
زعموا أن الإسلام قد جعلها بنصف عقل الرجل في كل شيء! أولا يعلمون أن أصل هذه المسألة هي آية المداينة في آخر سورة البقرة، ومنها قوله _ تعالى _: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] وعلل ذلك بقوله: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] أي إذا نسيت إحداهما أذكرتها الثانية، فإذا كان الرجل في مقام امرأتين فيما ليس من خصائصها، ولا هو من وظائفها، وهو يُنسى عادة من مثلها أفلا تعد المرأة بمنزلة رجلين في شؤونها المنزلية، وأمورها الداخلية، وهل ينقص هذا من قدره شيئاً يا ترى؟
ألم يفرق الرسول " بين عقبة بن الحارث وزوجه أم يحيى بنت أبي إهاب مذ شهدت أمة سوداء بأنها أرضعتهما؟ والحديث في الصحيح.(1/314)
وهل جعلها الرسول " ناقصة العقل، ضعيفة الذاكرة، فيما هو من خصائصها، أم قَبِل خبرها وحدها بعد نحو عشرين عاماً تقريباً؟
وأما كونها بنصفِ دين فالدين كالإيمان يطلق على الصلاة، وللمرأة عادتها الطبيعية في الحيض وفي النفاس، والشارع قد أسقط عنها الصلاة في تلك المدة طالت أو قصرت [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ].
بخلاف سائر أركان الإسلام كالزكاة والحج والصيام فإنها مطالبة بأدائها كاملة كالرجل.
وجملة القول أنه " أكبر المصلحين، وأكمل الأنبياء، وأشرف الخلق، وأجدر الناس بالمحبة والطاعة والاتباع.
المقدمة ... 3
-مسرد بعنوانات الموضوعات والمقالات في هذه المجموعة ... 6
أولاً: مقالات في السعادة ... 13
1_ أسس الحياة الطيبة: للأستاذ أحمد أمين ... 14
_ كل الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة ... 14
_ أكثر الناس يخطئ؛ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة ... 14
_ وسائل الحياة الطيبة: ... 15
_ أولها: العمل ... 15
_ ثانيها: الطبع الراضي ... 17
_ ثالثها: أن يكون للإنسان غرض نبيل في حياته الاجتماعية ... 17
_ رابعها: أن يكون لك غرض في الحياة محدود ... 18
2_ الحياة السعيدة: للأستاذ أحمد أمين ... 20
_ في الإنسان عنصر من عناصر النبات ... 22
_ في الإنسان عنصر حيواني ... 22
_ في الإنسان عنصران امتاز بهما عن النبات والحيوان: ... 22
_ أحدهما عنصر العقل ... 22
_ والآخر هو عنصر الروح ... 22
_ السعادة _ في نظر الإسلام _ ... 23
_ الناس إزاء هذه العناصر مختلفون اختلافاً كبيراً ... 23
_ الدين الصحيح يُغَذِّي الشعور بالتسامي ... 24
_ الدين الصحيح ينقل النفس مما يعتريها من الحزن ... 24
_ الدين الصحيح يُشْعِر الإنسان بالاتصال بعالم روحي واسع ... 24
3_ البرنامج اليومي للسعادة: للأستاذ أحمد أمين ... 26
_ الإرادة هي التي تستطيع أن تقف الغضب ... 26(1/315)
_ روحُك القوية التي تغذيها دائماً بالسوائل الروحية هي التي تمنعك من غش الناس وخداعهم ... 27
_ الغذاء الروحي يخفف من مطامعك ... 27
_ يخطئ من ظن أن المال وحده يسبب السعادة ... 27
_ لا شيء يغذي الروح أحسن من الحب بمعناه الواسع ... 28
_ الحياة الروحية تجعل لكل شيء طعماً جديداً غير طعمه المادي ... 29
_ العالَم لا يَصِحّ إلا إذا تعادلت فيه يدُه وقلبُه وعقلُه ... 29
4_ المثقفون والسعادة: للأستاذ أحمد أمين ... 30
_ هل العلم سبب للشقاء؟ ... 31
_ وجه البطلان من نواحٍ عدة: ... 31
_ أولها: سوء تصور الناس للسعادة ... 31
_ السعادة إنما هي في السعي للغرض أكثر منها في الغرض ... 32
_ ثانيها: وهو مقياس الأشياء بمقياس الفردية ... 33
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم ... 37
5_ العلم بين الأساتذة والطلاب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 38
6_ إلى أبنائنا المعلمين الأحرار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 43
7_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 50
8_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(2): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 55
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
9_ السمو الخلقي في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 62
_ الحلم ... 63
_ السخاء ... 64
_ الشجاعة نوعان: ... 65
_ شجاعة حربية ... 65
_ شجاعة أدبية ... 65
_ الحياء ... 66
_ الحياء حلية يزداد بها الشيخ وقاراً، والشاب كياسة ... 66
_ صدق اللهجة ... 67
_ الصبر ... 67
_ العزة ... 68
_ التواضع ... 68
_ كبر الهمة ... 69
_ الوفاء بالعهد ... 69
_ دخول الوفاء بالعهد في الوفاء بالوعد ... 70
_ ويتصل بالوفاء بالعهد أدب آخر يسمى حسن العهد ... 70
_ الزهد ... 70
_ العدل ... 71
_ الأمانة ... 71
10_ العزة والتواضع: للعلامة محمد الخضر حسين ... 72
_ حدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة ... 72(1/316)
_ كثيراً ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمور ... 72
_ عزة النفس تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى ... 73
_ يقابل العزةَ الضعةُ ... 73
_ في عزة النفس فوائد تعود على الشخص نفسه منها.... ... 74
_ لهذه الخصلة آثار صالحة في الاجتماع ... 74
_ من عناية الإسلام بأدب العزة.... ... 75
_ من الأحكام القائمة على رعاية العزة.... ... 75
_ من هذه الأحكام شرط الكفاءة في النكاح ... 76
_ مدح الإنسان نفسه رعونة.... ... 76
_ وأما التواضع وهو بذل الاحترام, أو العطف والمجاملة لمن يستحقه.... ... 77
_ يتواضع الرجل لأقرانه.... ... 78
_ ويتواضع الرجل لمن هو دونه ... 78
11_ الأمانة: للشيخ علي الطنطاوي ... 81
_ ليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة التي تؤديها إلى أصحابها (فقط) ... 82
_ الدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان ... 82
_ القدرة على الحكم أمانة في يد القاضي ... 82
_ العمل أمانة في يد الأجير المستصنع ... 82
_ اعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك ... 82
_ عمرك كله أمانة لديك ... 83
12_ الأخلاق: للعلامة محمد الخضر حسين ... 87
_ الخلق: حال للنفس.... ... 87
_ وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: ... 87
_ منها ما يكون في أصل المزاج ... 87
_ ومنها ما يكون مستفاداً بالتربية والتدرب ... 88
_ وللأخلاق ثلاث قوى متباينة: ... 88
_ أحدها: القوة الناطقة ... 88
_ ثانيها: القوة الشهوية ... 88
_ ثالثها: القوة الغضبية ... 88
13_ الانتحار: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 90
_ إن الرجل المؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر ... 90
_ الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور ... 90
_ حب النفس غريزة ركبها الله _ تعالى _ في نفس الإنسان ... 90
_ لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم ... 91
_ ما سمي القاتل مجرماً إلا لأنه قاسي القلب ... 91(1/317)
_ يخدع المنتحر نفسه أَنْ ظنَّ أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة ... 92
_ فكرة الانتحار نزغة من نزغات الشيطان ... 92
14_ نداء مصدور: للأستاذ محمود محمود ... 93
15_ الحسد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 95
16_ جيل يؤمن بالأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 97
_ أصل الشجاعة أَنْ تعرف الحق.... ... 97
_ إن الأمة الضعيفة المستكينة لا تستحق الحياة, وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلاَّ إذا شاع في أفرادها.... ... 100
_ وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم ... 101
رابعاً: مقالات في العمل والهمة ... 103
17_ صدق العزيمة أو قوة الإرادة: للعلامة محمد الخضر حسين ... 104
_ تنشأ قوة الإرادة من التجارب ... 104
_ وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ ... 105
_ وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة ... 105
_ وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا ... 106
_ مما يساعد الرجل على صدق العزيمة خلق التعفف وشرف الهمة ... 106
_ تتفاوت الإرادة في القوة ... 106
_ لا يعد في قلة العزم أن يستبين الر جل الحق.... ... 108
_ ولا يعد في قلة العزم أن يرى الرجل رأياً..... ... 108
_ قويُّ العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله ... 108
_ وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف ... 109
_ لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم ... 110
18_ اعرف نفسك: للشيخ علي الطنطاوي ... 112
19_ الطموح: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب ... 117
20_ تربية الإرادة: للأستاذ أحمد أمين ... 121
_ ليس يمكن أي إصلاح خلقي إلا إذا ربينا الإرادة أولاً ... 121
_ ولكن كيف نربي إرادتنا؟ ... 121
_ إن ضعيف الإرادة يتأرجح في أمره ... 122
_ إن الذي يفسد الإرادة أن تعزم، وتَعْدِلُ ... 122
_ وبعدما يصبر المرء على الشيء الذي يريده ويربي فيه إرادته، يصبح عادة يأتي به من غير عناء كبير ... 122(1/318)
_ إن أكثر ما يفسد الشبان ويضعف إرادتهم هو الإغراء ... 123
_ لابد أن يعوِّد الشاب نفسه إيقاظ العقل، وقوة الإرادة، والشعور بالواجب ... 124
_ إن الرجل العظيم يتلذذ من مقاومة الإغراء ويتلذذ من السيطرة على نفسه ... 125
_ مواقف مقاومة الإغراء ... 125
_ تربيةُ الإرادة، وقوتها وتعويدُها مقاومةَ الإغراءِ سر النجاح ... 125
21_ اصنع حياتك: للأستاذ أحمد أمين ... 127
_ إذاً فالوراثة والبيئة لا تعوقان الإنسان عن إسعاد حياته إذا منح الهمة ... 127
_ أول نصيحة لك ألاَّ تيأس ... 128
_ لا تتعلل بأنك لست نابغة ... 128
_ خير وسيلة للنجاح في الحياة أن يكون للشاب مثل أعلى عظيم يطمح إليه ... 129
_ أكبر أسباب فشلنا أننا نخلق لأنفسنا أعذاراً، وأوهاما، وعوائق ... 129
_ ليس الإنسان حيواناً آكلاً شارباً فحسب ... 131
_ غنى النفس في حب التسامي.... ... 131
_ ضَعْفُ الثقةِ بالنفس يقتل طموحها، ويقتل استقلالها، ويفقدها حياتها ... 132
_ الثقةُ بالنفس اعتقادُك بقدرتك على ما تتحمله من أعباء.... ... 133
_ الكبرُ، والغرور تعظيم نفسك أكثر مما تستحق ... 133
_ بعد أن يكون لك مثل أعلى تنشئه، وتعمل للوصول إليه، وبعد الثقة بنفسك، واحترامها _ اجتهد أن تبتسم للحياة ... 133
_ ومن أكبر النعم على الإنسان أن يعتاد النظر إلى الجانب المشرق في الحياة لا الجانب المظلم منها ... 133
22_ موت الأمم وحياتها: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 135
خامساً: مقالات في المدنية والعمران ... 139
23_ المدنية الغربية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 140
24_ المدنية تحطم الأعصاب: للأستاذ أحمد أمين ... 145
_ السبب في هذا الشعور بتهدم الأعصاب كثرةُ تكاليف الحياة ... 145
_ كان أجدادنا أبسط عيشاً... ... 145
_ ما هي أعراض تهدم الأعصاب؟ ... 147
_ ضيق في الحياة، وانقباض صدر منها ... 147
_ الغضب لأتفه الأشياء ... 147(1/319)
_ الشك المؤلم في قيمة الحياة ... 148
_ إحاطة الخوف به من كل جانب ... 148
_ تفسير حركات الناس ... 148
_ حب العزلة، والابتعاد عن الناس ... 148
_ ومن مصائب هذا المرض أن صاحبه غالباً لا يؤمن بأنه مريض ... 149
_ متهدم الأعصاب يرى أن الدنيا سوداء كما يراها ... 149
_ أكثر الأسباب التي تدعو إلى التهدم: ... 149
_ الجهل ... 149
_ الخوف ... 150
_ الغضب السريع الجامح ... 152
_ ضعف الثقة بنفسه ... 153
_ الناس ينقسمون _ عادة _ إلى قسمين: قسم يكثر التفكير في نفسه، وقسم يكثر التفكير فيما حوله ... 155
25_ المدينة الفاضلة: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ... 158
_ المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل ... 158
_ ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع ... 159
_ يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً ... 160
_ فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع ... 160
_ جماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل ... 161
_ قصة تهيؤ المدينة الفاضلة ... 166
_ لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها ... 168
_ فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة ... 168
_ وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة ... 168
_ وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين ... 169
_ وهذه الشدة أساسها الشجاعة ... 170
_ ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة ... 170
_ لقد يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل ... 172
_ وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث قليلة ... 172
_ وكل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة ... 172(1/320)
_ لا تخلو المدينة الفاضلة _ أيضاً _ من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة ... 172
_ كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً ... 173
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها ... 173
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية ... 174
_ جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله ... 174
سادساً: مقالات في الصداقة والعواطف الإنسانية ... 177
26_ طبقات الأصدقاء: للشيخ علي الطنطاوي ... 178
_ فمنهم رفيق، تلقاه كل يوم أمامك ... 178
_ ومنهم رفيق العمل ... 178
_ ورفيق السفر ... 178
_ ورفيق القهوة، ورفيق السينما، ورفيق الملعب ... 179
_ والخلاصة أن الأصحاب خمسة: ... 181
_ أما الذي هو كالهواء.... ... 181
_ وأما الذي هو كالغذاء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالدواء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالصهباء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالبلاء.... ... 182
_ وعليك أن تجعل الدين مقياساً ... 182
27_ العاطفة والتسامح في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 183
28_ التعب العصبي والخوف: للأستاذ أحمد أمين ... 186
_ والنرفزة أو هياج الأعصاب تنشأ من المجموع العصبي عند الإنسان ... 186
_ وتختلف هذه المجموعة العصبية عند كل إنسان عن الآخر ... 187
_ وتضعف هذه الأعصاب بالتعب المضني، وبالكوارث المتتالية ... 188
_ التعب العصبي يتبعه دائماً الخوف ... 188
_ فمن نما عنده الشعور الديني تمثل خوفه في الموت ... 188
_ ومن كان شديد الشعور بالمال خاف الفقر إن كان غنياً ... 188
_ ومن كان رحيماً شديد العطف على أولاده ظهر خوفه من هذه الناحية ... 188
_ ومن بلغت سنَّ الزواج، ولم تتزوج خافت أنْ يمرَّ موسم زواجها ... 189
_ وقد يزيد الخوف حتى يكون خوفاً من أوهام ... 189
_ وفي الناس ألوانٌ شتى من هذه المخاوف ... 189(1/321)
_ فما علاج هذا؟ ... 189
_ أولهما: الراحة الجسمية ... 189
_ والأمر الثاني: الإيحاء الذاتي ... 190
29_ لماذا ولأن: للأستاذ أحمد أمين ... 192
_ الدنيا مملوءة بالأحكام الفاسدة، والتقويم الفاسد ... 192
_ وإن شئت فقل: إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة ... 195
30_ وحي القبور: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 197
سابعاً: مقالات في العادات والعبادات ... 203
31_ معنى الصوم: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 204
_ للإسلام في كل عبادة من عباداته حِكَمٌ ... 204
_ ولكلِّ عبادة في الإسلام تؤدَّى على وجهها المشروع, وبمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس.... ... 204
_ والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها هو تزكية النفس ... 204
_ والعبادات إذا لم تعطِ آثارَها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة ... 204
_ آثار الصوم في النفوس جليلة ... 205
_ والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية ... 205
_ ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم.... ... 206
_ وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زمانيّ ... 207
32_ صديقي رمضان: للشيخ علي الطنطاوي ... 208
33_ الإنسان في الشدة والرخاء: للشيخ علي محفوظ ... 213
_ اعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ونزلت به محنة وجبت عليه رعاية أمور منها: ... 216
_ أن يكون راضياً بقضاء الله _ عز وجل _ ... 216
_ أن يصلح حاله بالتوبة إلى الله _ تعالى _ ... 216
_ أنه في ذلك الوقت لو اشتغل بذكر الله _ تعالى _ والثناء عليه بدلاً من الدعاء كان أحسن وأفضل ... 216
_ أن يبالغ في الشكر إذا أزال الله عنه تلك البلية ... 217
34_ بساطة العيش: للأستاذ أحمد أمين ... 218
ثامناً: مقالات في الشباب ... 225
35_ كيف تكون رجلاً: للأستاذ عبدالوكيل جابر ... 226
_ لقد اقتضت طبيعة الاجتماع أن تكثر المشكلات العامة التي تضل فيها الأحلام ... 227(1/322)
_ وطريق العمل معبَّد أمام أبناء الإنسانية جميعاً ... 227
_ ولعل منشأَ ذلك قوةُ نفوس هؤلاء ... 227
_ إن سبل الذِّكر الذائع أصبحت متعددة لاشتباك المصالح ... 228
_ النجاح في الحياة، والظفر بالذكر المجيد، ونيل المنزلة السابقة بين الناس تتوقف على أمور أهمها:
_ أن يتناول المرء من المهن أحبها إلى قلبه ... 230
_ أن يؤثر الثبات في جميع أدوار حياته ... 230
_ أن يوفر همه على البحث ... 230
_ ألا يكترث بالآراء الزارية ما دام واثقاً من نفسه ... 230
_ أن يتمسك دائماً بالأخلاق الشخصية الفاضلة ... 231
36_ يا ابني: للشيخ علي الطنطاوي ... 232
37_ من هو الشاب المسلم: للشيخ العلامة محمد الخضر حسين ... 241
_ الشاب المسلم هو الذي يَسْمُو بنفسه إلى أن يكون مسلماً حقاً ... 241
_ والشاب المسلم هو الذي يؤمن بالله من الشرك ... 241
_ والشاب المسلم هو الذي يدرس سيرة رسول " ... 242
_ والشاب المسلم يستجيب لله فيما شرعه من عبادات تقربه إليه زلفى ... 242
_ والشاب المسلم يعتز بدين الله ... 242
_ والشاب المسلم يذكر في كل حين أن أمد عمره غير معروف ... 243
_ والشاب المسلم إذا وكل إليه عمل أقبل عليه بنصح ... 243
_ والشاب المسلم ينظر بنور الله ... 243
_ والشاب المسلم يؤمن بأَنَّ النظم الإسلامية الاقتصادية أرقى نظم يسعد بها البشر ... 243
_ والشاب المسلم لا يجعل أحكام الشريعة تابعة لهواه وشهواته ... 244
_ والشاب المسلم لا يسعى لمجالسة الجاحدين إلاَّ أن تدعوه إلى ذلك ضرورة ... 244
_ والشاب المسلم يمثل سماحة الإسلام ... 244
_ والشاب المسلم يعمل ليرضي ربه ... 244
_ والشاب المسلم قد تقتضي عليه ظروف خاصة بأن يسكت عن بعض ما هو حق..... ... 245
_ والشاب المسلم لا يزن الناس في مقام التفاضل بما يزنهم به العامة ... 245
_ والشاب المسلم يكسب المال، ليسد حاجات الحياة ... 245(1/323)
_ والشاب المسلم لا يرفع رأسه كبراً وتعاظماً على الطيبين من الناس..... ... 245
_ والشاب المسلم يرفع رأسه عزة على من يَعُدُّون تواضعه خِسَة في النفس ... 246
_ والشاب المسلم إذا رأى منكراً يفعل نهى عنه, وإذا رأى معروفاً يترك أمر به ... 246
38_ يا شباب العرب: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 247
تاسعاً: مقالان في المرأة ... 253
39_ دفاع عن الفضيلة: للشيخ علي الطنطاوي ... 254
40_ بين الزوجين: للشيخ علي الطنطاوي ... 263
_ كيف نصنع؛ ليسود البيت السلام، ويشمله الهدوء؟ ... 266
_ أولها: أن الزواج يبدأ بالحب والعاطفة ... 267
_ وثانيها: أن الرجل يغتفر لصديقه ما لا يغتفر لزوجته ... 267
_ وثالثها: أن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساء في أحسن حالاتهن قد طَلَيْنَ وجوهَهُنَّ ... 268
_ ورابعها: أنه لا بد من كل شركة أو جماعة من رئيس ... 269
_ وخامسها: أنه لا بد لدوام المودة من اغتنام الفرصة؛ لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه ... 269
عاشراً: مقالات في السياسة والإجتماع ... 271
41_ الصراع بين الإسلام وأعدائه: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 272
42_ ذوق صحفي بارد: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 279
43_ العرب المسلمون في كراسي الحكم: لمحب الدين الخطيب ... 280
44_ أيها المسلمون: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 283
45_ الحرية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 287
46_ العلماء وأولو الأمر: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 291
_ يقصد الإسلام لأن يخرج للناس أمة تجلها القلوب، وتهابها العيون ... 291
_ ولا تعتصم الأمة بهدي الله، ولا تظهر في قوة ومنعة إلا أن يقيض الله لها علماء، يملأ الخوف من الله قلوبهم ... 291
_ نلقي نظرة على تراجم العلماء، فنجد حالهم مع الأمراء يجعلهم على ثلاثة أصناف: ... 292
_ أولهم: عالم يضع نصب عينه رضا الله: ... 292(1/324)
_ والعلماء الذين يقومون بواجب النصيحة للأمراء يختلفون في أساليب وعظهم ... 292
_ فمنهم من يسلك طريق الصراحة ... 292
_ ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح ... 293
_ ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة ... 293
_ ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت ... 294
_ وإذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي ... 294
_ ثانيهم: عالم يذهب مذهب العزلة والبعد من ساحات الأمراء ... 294
_ وقد يبتعد العالم عن الأمراء الذين لا يعنون بتنقية ساحتهم من أقذاء المنكرات؛ كراهة أن يشاهد منكراً ... 294
_ ثالثهم: عالم يتردد على ساحة الأمراء، ويميل مع أهوائهم ... 295
_ ونلقي بعد هذا نظرة في حال الأمراء مع العلماء الذين يجاهرونهم بالنصيحة، أو يؤثرون الحق على أهواء الأمراء، فنجدهم ثلاثة أصناف: ... 297
_ أولهم: أمير تلقى إليه النصيحة فيأخذه التعاظم بالإثم، ويقابل الناصحين بوعيد، أو بعقوبة المجرمين ... 297
_ ثانيهم: أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظةَ تأتي على غير ما يهوى ... 297
_ ثالثهم: تأخذه اليقظة وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق وشكر الدعاة إليه ... 298
_ ولقبول الأمراء لنصح العلماء فضل لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الأمراء ... 299
_ الأمراء المستقيمون يرتاحون لوعظ أهل العلم ... 300
47_ الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً: للأستاذ عبدالباقي نعيم سرور ... 301
حادي عشر: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله ... 305
48_ ادع إلى سبيل ربك: للشيخ محمد النخلي ... 306
_ على ماذا أقيم الإصلاح؟ ... 306
_ ولما كان الإنسان محكوماً بطبعه..... ... 306
_ الداعي إلى سبيل ربك إنسانٌ طبعت في مرآة عقله حقائقُ الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر ... 307
_ الإحاطة بالمصالح الدنيوية والاطلاع على أمور الآخرة فوق متناول العقول ... 307(1/325)
_ من ضرورة بقاء الدين قيام العلماء الحكماء، حافظين لجوهره النفيس ... 308
_ الإصلاح بالدين يقدر عليه من عرف طبيعة الدين ... 308
_ العالم المرشد محتاج إلى كبر الهمة ... 309
_ الحكمة ... 309
_ الموعظة الحسنة ... 309
_ الجدال بالتي هي أحسن ... 310
49_ الانتقاد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 314
_ الانتقاد نوع من أنواع الاستحسان والاستهجان ... 314
_ المنتقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيباً في بعض ما يقول ... 315
_ لا يمنع الجاهل جهله من أن يكون رأيه في استحسان الكلام واستهجانه رأياً صائباً ... 315
_ لا يتبرم بالانتقاد ولا يضيق به ذرعاً إلا الغبي الأبله ... 316
50_ مقاصد الإسلام في إصلاح العالم: للعلامة محمد الخضر حسين ... 318
_ فمن مقاصد الإسلام تقويم العقائد ... 318
_ حارب الإسلام عقيدة الشرك بالله ... 319
_ وأمَّا الآراء فقد قصد الإسلام لتقويمها بطريقة عامة هي نهيه عن التقليد..... ... 319
_ وأمَّا الأخلاق فقد وجَّه إليها الإسلام جانباً كبيراً من عنايته ... 319
_ وأما العبادات التي هي صلة بين الخالق والمخلوق فقد قرر أوضاعها...... ... 319
_ وأمَّا المطعومات، فقد ذكر الطيبات...... ... 320
_ وأمَّا الملبوسات فقد حرم بعضها...... ... 320
_ وأما المراكب...... ... 320
_ وأما المعاملات بين الناس...... ... 320
_ وأما معاملة الحيوان...... ... 321
_ الإسلام أرشد إلى أشياء قَصَدَ لها قَصْدَ الوسائل التي لا تتحقق المقاصد الأصلية إلاَّ بها ... 321
51_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (1): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 322
_ حفظ الدين في ثلاثة مقامات: ... 322
_ أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال ... 322
_ وثانيها: مقام تجديد ما رثَّ من أصول الدعوة ... 323
_ وثالثها: مقام الذب عنه وحمايته ... 323(1/326)
_ وبمقدار ما يكون عدد هؤلاء الفقهاء مبثوثاً بين المسلمين تكون حالتهم قريبة من الاستقامة ... 323
_ ومعنى التجديد إرجاع الشيء جديداً ... 326
_ ودين هذه الأمة الإسلام لا محالة، وهو اعتقاد، وقول، وعمل، وشريعة، وجامعة؛ فتجديده إرجاع هذه الأمور أو بعضها إلى شبابه، وقوته وجدّته ... 326
_ دعائم الإسلام: ... 326
_ الدعامة الأولى: العقيدة ... 326
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 326
_ الدعامة الثانية: شرائع الإسلام ... 326
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 327
_ الدعامة الثالثة: جامعة الإسلام المسماة بالبيضة ... 327
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 327
_ معنى التجديد: ... 327
_ فالتجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح للناس في الدنيا ... 329
_ مُضِيُّ مائة سنة مظنة لِتَطَرُّق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد ... 329
_ ومن شأن الجيل إحداث أمور لم تكن في الجيل السابق ... 329
_ كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة؟ ... 330
_ أخطأ السبكي في تعيين المجددين من وجهين عظيمين وإن كانا خفيين: ... 332
_ أحدهما: إناطة ذلك بوقت ظهوره، أو انتشار أمره ... 332
_ الوجه الثاني: أنه جعل ابتداء عد رأس القرن من يوم الهجرة ... 332
_ رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه ... 332
52_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (2): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 335
_ التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده ... 335
_ فوجب أن يكون هذا المجدد قائماً بعمل مثمر تجديداً في هذا الدين ... 336
_ ويجب أن يكون المجدد في هذا المقام عالماً بالشريعة ... 336
_ ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع..... ... 337
_ ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين ... 337
_ وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجاله بالغاً حدَّاً قاصياً في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى ... 337
_ التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين ... 338(1/327)
_ فكان ذلك مبدأ تجديد أمر الدين ... 339
53_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 347
54_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 350
_ وكل ذلك تراه في نفس محمد " فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة ... 352
_ تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر ... 354
_ وللعالَم كذلك وجهان: حاضرُه الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له ... 355
_ وللنظام أيضاً وجهان: نظامُ الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنَّفْرة منها ... 355
_ وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يسْتِيقِنُها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذةَ المغالبة للنصر ... 355
_ وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة..... ... 356
ثاني عشر: مقالات في العلم والتحقيق ... 359
55_ الإسلام والعلم: للعلامة محمد الخضر حسين ... 360
56_ العلم بالتأليف: للشيخ عبدالعزيز المسعودي ... 364
57_ العلم عند الله: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ... 368
_ فائدة المتعلم من علمه أمران مهمان: ... 370
_ أحدهما: تفقهه في نفسه الذي يرفع عنه رجس الجهالة ... 370
_ وثانيها: وهي الغاية العامة والمصلحة الشاملة إنذار قومه وأمته ... 370
_ كشف الرجس عن الأمة بثلاثة أمور: ... 373
_ الأمر الأول: أن يقذفوا في قلوب الأمة جمعاء الإقناع بمبدأ واحد ... 373
_ الأمر الثاني: تعميم التعليم بين سائر أفراد الأمة ... 374
_ الأمر الثالث: أن يصلوا بتعميم التعليم إلى مبادئ العلوم المحتاج إليها ... 374
ثالث عشر: مقالات في اللغة والأدب ... 377
58_ الاستشهاد بالحديث في اللغة: للشيخ محمد الخضر حسين ... 378
_ يستند علماء العربية في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأصول النحوية إلى القرآن المجيد، وكلام العرب الخُلَّص ... 378
_ ما المراد بالحديث؟ ... 378(1/328)
_ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب؟ ... 379
_ الخلاف في الاحتجاج بالحديث ... 380
_ وجهة نظر المانعين ... 381
_ وانتفت الثقة من أنه لفظ الرسول لأمرين: ... 381
_ أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى ... 381
_ ثانيهما: أنه وقع اللحن في كثير مما روي من الأحاديث ... 382
_ وجهة نظر المجوزين ... 382
_ مناقشتهم لأدلة المانعين ... 383
_ أنواع الأحاديث التي لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج بها في اللغة: ... 391
_ أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته _ عليه الصلاة والسلام _ ... 391
_ ثانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها، أو أمر بالتعبد بها ... 392
_ ثالثها: ما يروى شاهداً على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم ... 392
_ رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها ... 392
_ خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة ... 392
_ سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى ... 392
_ أنواع الأحاديث التي يصح الاختلاف في الاستشهاد بألفاظها والتي دونت في الصدر الأول: ... 393
_ أما الحديث الوارد على وجه واحد..... ... 393
_ وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية..... ... 394
_ خلاصة البحث ... 395
59_ الأدب وأثره في الحياة: للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم ... 396
60_ الجملة القرآنية: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 398
61_ عمر بن عبدالعزيز والشعراء: للأستاذ محمود محمود ... 407
62_ فن الكلام: للشيخ علي الطنطاوي ... 411
63_ وقاحة الأدب =أدباء الطابور الخامس+: للأستاذ محمود شاكر ... 419
_ نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية ... 419
_ وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة ... 419
_ وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة ... 419(1/329)
_ وعقيدة هذا الطابور الخامس أن حرية الفن يجب أن لا تتقيَّد بمصلحة الجماعة ... 422
_ فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين ... 423
_ أعطي الإنسان مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين: ... 424
_ فالحقيقة الأولى: هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية ... 224
_ والحقيقة الأخرى: هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية، والتقليد من ناحية أخرى ... 224
رابع عشر: مقالان في السيرة النبوية ... 427
64_ مولد الإنسانية: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب ... 428
65_ محمد ": للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار ... 439
خامس عشر: مقالات في الطب ... 443
66_ كلمة في المسكرات: للشيخ محمد الخضر حسين ... 444
_ يفضل الإنسان على سائر الحيوان بمزية العقل ... 444
_ فالنوم يعطل هذه القوة، ويلحق الإنسان بالخشب المسندة ... 444
_ للفساد الذي ينشأ من تناول المسكرات ضروب متفرقة ... 444
_ تَذْهَبُ المسكرات بعقل من يتناولها ... 445
_ ومن مفسدات المسكرات أنها تندفع بالشهوات إلى الفسوق ... 446
_ وكم من مشاجرات تعالت فيها أصوات، وأصيبت فيها جسوم، وما هي إلا أثر من آثار تعاطي المسكرات ... 446
_ وفي المسكرات فوق هذه المفاسد إنفاق المال في غير فائدة ... 447
_ وفيها صرف القلوب عن القيام بكثير من حقوق الخالق ... 447
67_ الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار: للشيخ محمد الخضر حسين ... 448
_ كيف نقلت الأدوية المفردة إلى اللغة العربية؟ ... 449
68_ طرق وضع المصطلحات الطبية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 456
المحتويات ... 471
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الأولى:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي(1/330)
3_ اللذة مع الحكمة للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتهم للعلامة أحمد تيمور باشا
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري
8_ أخلاق الناس د. زكي مبارك
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة محمد الخضر حسين
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحري المرأة للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين
22_ أمهات المؤمنين للشيخ محمد بهجة البيطار
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
25_ لبيك اللهم لبيك: لمحب الدين الخطيب
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين
سابعاً: مقالات في السياسة والإجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ القضاء العادل في الإسلام للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي(1/331)
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد
35_ العلماء والإصلاح: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكيم: لأمير البيان شكيب أرسلان
37_ تصحيح الكتب: للعلامة الشيخ أحمد شاكر
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للشيخ محمد الخضر حسين
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد" للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
45_ مجلس رسول الله": للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
ثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
49_ موت أم: مصطفى صادق الرافعي
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الثانية:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ فن السرور: للأستاذ أحمد أمين
2_ الابتهاج بالحياة: للأستاذ أحمد أمين
3_ الإيمان ينبوع السعادة: للأستاذ أحمد أمين
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
4_ التربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
5_ التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم: للشيخ علي فكري
6_ صحة التفكير: للعلامة محب الدين الخطيب
7_ أول درس ألقيته: للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات
8_ حقوق المعلمين الأحرار على الأمة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي(1/332)
9_ حقوق الجيل الناشئ علينا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
10_ ثبات الأخلاق: للأديب مصطفى صادق الرافعي
11_ سجايا العرب في التراث الإسلامي: للعلامة محب الدين الخطيب
12_ الوفاء في العربي: للأستاذ محمد الطيب النجار
13_ التضحية: للأستاذ أحمد أمين
14_ الحياء: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
15_ صدق اللهجة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
16_ من أخلاقنا: للشيخ علي الطنطاوي
17_ إشاعة السوء وموقف الإسلام منها: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
18_ البخيل: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
19_ الآداب العامة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
20_ النجاح في الحياة: للأستاذ أحمد أمين
21_ العمل والبطالة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
22_ الواجب: للأستاذ عبدالسلام الشربيني
23_ الغني والفقير: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ متاعب الحياة: للأستاذ أحمد أمين
25_ كبر الهمة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
26_ مدنية الإسلام والعلوم العصرية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
27_ مدنية الإسلام والخطابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
28_ تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات: للعلامة محمود شاكر
سادساً: مقالات في الشباب
29_ نهوض الشباب بعظائم الأمور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
30_ إلى شباب محمد: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
31_ كيف يتقي الشباب أخطار الشباب: للأستاذ علي سيد أحمد منصور
32_ إلى الشباب: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
سابعاً: مقالات في العبادات والعادات
33_ يوم عاشوراء وعادات الناس: للشيخ علي محفوظ
34_ الصيام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
35_ الحج المبرور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
36_ عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد: للعلامة محب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في السياسة والاجتماع(1/333)
37_ الشورى في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
38_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته:
للعلامة محب الدين الخطيب
39_ معدن سليم كريم: للعلامة محب الدين الخطيب
40_ حقيقة المسلم: للأديب مصطفى صادق الرافعي
41_ حركة الإسلام في أوربا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
42_ داء المسلمين ودواؤهم: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
43_ حالة المسلمين: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
44_ الشعور السياسي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
45_ الدعوة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ الدعوة إلى الخير: للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
47_ عذاب المصلحين: للأستاذ أحمد أمين
48_ الدعوة الشاملة الخالدة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
49_ قرآن الفجر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
50_ كلمة الحق: للشيخ العلامة أحمد محمد شاكر
51_ أدب المناظرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
عاشراً: مقالات في العلم والتحقيق
52_ العلم والعقل: للشيخ عبدالقادر المغربي
53_ الإنسان على الأرض: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
54_ عمر الإنسان: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
55_ الفلسفة والعلم والدين: للشيخ عبدالباقي سرور
حادي عشر: مقالات في اللغة والأدب
56_ طرق الترقي في الكتابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
57_ اللغة والأمة: للأستاذ محمد صادق عنبر
58_ البيان: للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
59_ قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
ثاني عشر: مقالات في السيرة النبوية
60_ قدوتنا الأعظم: للعلامة محب الدين الخطيب
61_ من إلهامات الهجرة: للعلامة محب الدين الخطيب
62_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
ثالث عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية(1/334)
63_ تعاون العقل والعاطفة على الخير: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
64_ الخوف: للأستاذ أحمد أمين
65_ التعصب: للأستاذ أحمد أمين
66_ روح السماحة: للأستاذ أحمد أمين
67_ من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار: للعلامة الشيخ محمد
البشير الإبراهيمي
68_ عبرة الموت: للأستاذ أحمد أمين
1_ جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز ×.
2_ التوبة وظيفة العمر.
3_ رسائل في العقيدة.
4_ رسائل في التربية والأخلاق والسلوك.
5_ رسائل في الزواج والحياة الزوجية.
6_ أخطاء في مفهوم الزواج.
7_ من أخطاء الأزواج.
8_ من أخطاء الزوجات.
9_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 1.
10_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 2.
11_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 3.
12_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 4.
13_ سوء الخلق .. مظاهره .. أسبابه .. العلاج، قرأه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
14_ الفاحشة (عمل قوم لوط) الأسباب _ العلاج.
15_ عقيدة أهل السنة والجماعة، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
16_ الإيمان بالقضاء والقدر، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز ×.
17_ الهمة العالية، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
18_ مع المعلمين.
19_ شرح وتحقيق الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
20_ شرح وتحقيق القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية.
21_ الصداقة بين العلماء (نماذج تطبيقية معاصرة).
22_ رمضان دروس وعبر تربية وأسرار.
23_ أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة.
24_ من أقوال الرافعي في المرأة.
25_ من أحوال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في الحج.
26_ الحج آداب وأسرار.
27_ الدعاء مفهومه _أحكامه_ أخطاء تقع فيه، قرأه وعلق عليه: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
28_ الإيمان باليوم الآخر.
29_ الشيوعية.
30_ توبة الأمة.
31_ البابية.
32_ البهائية.
33_ القاديانية.
34_ الوجودية.
35_ الجوال آداب وتنبيهات.(1/335)
36_ الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول.
37_ المنتقى من بطون الكتب (المجموعة الأولى).
38_ المنتقى من بطون الكتب (المجموعة الثانية).
39_ المنتقى من بطون الكتب (المجموعة الثالثة).
40_ مختصر الإيمان بالقضاء والقدر.
41_ لطائف في تفاضل الأعمال الصالحة.
42_ عقوق الوالدين .. أسبابه .. مظاهره .. سبل العلاج.
43_ قطيعة الرحم .. المظاهر .. الأسباب .. سبل العلاج.
44_ التقصير في تربية الأولاد .. المظاهر .. سبل الوقاية والعلاج.
45_ التقصير في حقوق الجار.
46_ الكذب .. مظاهره .. علاجه.
47_ لماذا تدخن؟.
48_ إلى بائع الدخان.
49_ الجريمة الخلقية.
50_ العشق .. حقيقته .. خطره .. أسبابه .. علاجه.
51_ الطريق إلى التوبة.
52_ رسالة إلى طالب نجيب، ترجم إلى الأردية.
53_ الهجرة دروس وفوائد.
54_ الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة.
55_ مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة؛ المفهوم والخصائص.
56_ الإيمان بالله، ترجم إلى الإنجليزية.
57_ لا إله إلا الله: معناها _أركانها _ فضائلها _ شروطها.
58_ توحيد الربوبية.
59_ توحيد الألوهية.
60_ توحيد الأسماء والصفات.
61_ الإيمان بالكتب.
62_ الطريق إلى الإسلام، ترجم إلى عدة لغات.
63_ كلمات في المحبة والخوف والرجاء، ترجم إلى الإنجليزية.
64_ الطيرة.
65_ نبذة مختصرة عن الشفاعة، والشرك، والرقية، والتمائم، والتبرك.
66_ من صور تكريم الإسلام للمرأة.
67_ معالم في التعامل مع الفتن.
68_ فقه اللغة مفهومه _ مناهجه _ موضوعاته.
69_ مقالات لكبار كتاب العربية في العصر الحديث (المجموعة الأولى).
1-
2-رسائل في الفرق والمذاهب والأديان.
خامس عشر: مقالات في الطب
66_ كلمة في المسكرات: للشيخ محمد الخضر حسين
67_ الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
68_ طرق وضع المصطلحات الطبية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/336)
كلمة في المسكرات(1) للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
يفضل الإنسان على سائر الحيوان بمزية العقل، وتفاضل الناس في مراقي الكمال على قدر تفاوتهم في هذه المزية، وكل شيء يُضْعِفُ القوة العاقلة أو يعوقها عما خلقت له من تدبر الآيات واستكشاف الحقائق، فهو عدو للإنسانية، تجب مدافعته بقدر المستطاع، وتجنبه الليل والنهار.
فالنوم يعطل هذه القوة، ويلحق الإنسان بالخشب المسندة، وهو أمر غالب ما له من مرد، ولكن أولي الحكمة لا يخضعون لسلطانه إلا حيث يغلب على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقل ما تفرضه عليهم البشرية، يبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً:
إذا ما مضى يومٌ ولم أصطنع يداً ... ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري
وإذا كان من حزم الرجل وحكمته أن يغالب النوم، ولا يأخذ منه إلا بمقدار الحاجة؛ حرصاً على وقته، وتوفيراً لثمرات فكره _ فإن الخمر يأتي إلى تلك القوة التي هي أكبر مزية للإنسان، فيعبث بها عبث الريح العاصفة بالغصون الناعمة، ولا تسأل عما ينشأ عن هذا العبث من فساد.
للفساد الذي ينشأ من تناول المسكرات ضروب متفرقة، وألوان مختلفة، لا يسع المقام تفصيلها؛ فأكتفي بوصف جانب منها، وفيه كفاية لمن يبغي حياة طيبة في الدنيا، وسعادة وحياة خالصة في الأخرى.
تَذْهَبُ المسكرات بعقل من يتناولها، ولو أنه يبقى كالجماد لا ينطق، ولا يتحرك لكان البلاء مقصوراً عليه، ولكن السفاهة تخلف التعقل، والحماقة تظهر في مكان الكياسة؛ فلا تسمع إلا أقوال لاغية أو منكرة، ولا ترى إلا حركاتٍ مزريةً به، أو مسيئةً إلى من يقرب منه.
قيل لعدي بن حاتم: ما لك لا تشرب الخمر؟ قال: معاذ الله أن أصبح حليم قومي، وأمسي سفيههم!
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، 7/5، 1353هـ، وانظر روائع مجلة الهداية الإسلامية ص49 _ 52.(1/337)
تجيء السفاهة في القول من جهة أن الخمر تعطل القوة العاقلة، وتترك الخيال يلقي على الألسنة ما شاء، وشأن الخيال الذي لا يعمل تحت سلطان العقل أن يصور المعاني في غير انتظام، ويمليها على اللسان كما صورها، فإذا هي أقوال تلبس صاحبها ثوب المهانة، أو تضعه موضع من يُسخر به، أو يثير عليه غضباً.
دعا بعض الأمراء نُصَيب بن رباح إلى تناول الخمر، فقال نصيب: =أصلح الله الأمير! الشعر مُفلفل، واللون موقد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني؛ فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل+.
ويكفي متعاطي الخمور حقارة أن يضرب به المثل عندما يتكلم أحد بما يشبه الهذيان.
وتجيء السفاهة في الحركات من جهة أن الخمر تعزل العقل إلى جانب، وتبقي النفوس تحت تصرف الخيال؛ فتنبعث إرادتها عن غير تعقل، وتصدر أفعالها في غير حكمة.
ومن المعروف في المسكر أنه يحسن القبيح، ويقبح الحسن، قال أحد الشعراء المبتلين به:
اسقني حتى تراني ... حسناً عندي القبيح
فقولوا لمتعاطي المسكرات إذا طمع من الناس أن يلاقوه باحترام: إن من يعلم أن تلك حالات تخرج بها عن الإنسانية إلى حيوانية تصير بها هُزأةً، أو حيوانية تنفث سمها في غير عدو، لا تراك عينه إلا ازدرتك، ولا خطرت على قلبه إلا احتقرك.
ومن مفسدات المسكرات أنها تندفع بالشهوات إلى الفسوق، وهل في إمكانك أن تجد مولعاً بالخمور يحفظ فرجه عن موبقة الزنا، أو ما يشبه الزنا؟
سقى قوم أعرابية شراباً مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: فما يدري أحدكم من أبوه !
وقد عرفت أن السكران يقول ما يثير غضب نديمه، أو من يلقاه في طريقه، وأنت تعلم ما وراء ثورة الغضب من سوء، وعرفت أن السكران قد ينقلب إلى حيوانية متحفزة للشر، فلا يبالي أن يبسط يده للاعتداء على الأنفس، فيصيب ضعيفاً، أو يصيبَه قويٌّ.(1/338)
وكم من مشاجرات تعالت فيها أصوات، وأصيبت فيها جسوم، وما هي إلا أثر من آثار تعاطي المسكرات.
ولا تزال المسكرات تنقص من عقل المولع بها شيئاً فشيئاً، حتى يقع في خيال، أو ما يقرب من الخيال(1)، ودلت التجارب على أن متعاطي المسكرات يكون ضعيف الفكر، خفيف العقل، ولا يصل ولو بعد صحوة إلى ما يصل إليه أقرانه الأذكياء: من آراء سامية، ونتائج صادقة.
قيل لعثمان بن عفان ÷: =ما منعك أن تشرب الخمر في الجاهلية ولا حرج عليك؟+.
قال: =رأيتها تذهب بالعقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ويعود جملة+.
ولا يليق بك أن تتخذ ممن يتعاطون المسكرات أصحاباً أو أعواناً تفضي إليهم بشيء من أسرار عملك؛ فإن الأسرار المودعة في النفوس إنما تحرسها العقول، وعقول المولعين بالمسكرات تفارقهم في كثير من الأحيان، فلا تلبث تلك الأسرار أن تخرج من أفواههم وهم لا يشعرون.
وفي المسكرات فوق هذه المفاسد إنفاق المال في غير فائدة، بل إنفاقه فيما يعود بخسران، وفيها صرف القلوب عن القيام بكثير من حقوق الخالق _ جل شأنه _ ولا يجتمع الولوع باحتساء أم الخبائث، وتعظيم أمر الله في نفس واحدة.
الأدوية المفردة بين دسقوريدس ــ وابن البيطار(2)
للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
بحث تاريخي يرى فيه القارئ كيف انتقل فنُّ الأدوية المفردة من اليونانية إلى العربية، وكيف نماه العرب بتجاربهم ومؤلفاتهم.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: في خبال، أو ما يقرب من الخبال(م).
(2) مجلة (الهداية الإسلامية) _ الجزءان الخامس والسادس من المجلد الخامس عشر الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1361هـ، وانظر روائع مجلة الهداية الإسلامية _ الإسلام والطب _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص53_58.(1/339)
اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل إلى الدواء، ومتى أمكن التداوي بالمفرد لا يعدل عنه إلى المركب، ويذكر الكاتبون في سيرة الطبيب أبي المطرف عبدالرحمن بن محمد بن وافد الأندلسي: =أنه كان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية أو ما كان قريباً منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية فلا يرى التداوي بمركبها ما وصل إلى التداوي بمفردها، فإن اضطر إلى المركب منها لم يكثر التركيب، بل اقتصر على أقل ما يمكنه منه+.
فشأن الطبيب أن يبحث عن حال الأغذية والأدوية المفردة والأدوية المركبة، ولهذا نرى في مؤلفات الأطباء ما يبحث فيه عن الأغذية، وما يبحث فيه عن الأدوية المفردة، وما يبحث فيه عن الأدوية المركبة.
ولما ندبني مجمع فؤاد الأول لتمثيله في المؤتمر الطبي الذي سينعقد في مدينة الإسكندرية في أيام عيد الأضحى سنة 1361هـ رأيت أن أقدم لهذا المؤتمر كلمة في تاريخ التأليف في الأدوية المفردة والتنبيه لطريق نقلها من اليونانية إلى اللغة العربية، والتذكير بشيء من معاناة العرب للتأليف فيها.
من بين الأطباء الذين ظهروا بعد أبقراط وقبل جالينوس نشأ الطبيب دسقوريدس المنسوب إلى عين زربى أو زرية وقد عني هذا الطبيب بالأدوية المفردة بحثاً وتأليفاً وتصويراً، وكان يجول في البلاد لهذا الغرض النبيل، وقد قال في وصفه يحيى النحوي الإسكندراني: =النافع للناس منفعة جليلة، السائح في البلاد المفتش لعلوم الأدوية المفردة في البراري والجزائر والبحار، المصور لها، والمحدد لمنافعها+.
ويقول الأطباء في القديم: إن دسقوريدس رأس كل دواء مفرد، وعنه أخذ جميع من جاء بعده.(1/340)
وجاء على أثر دسقوريدس أطباء من اليونان، ألَّفوا في الأدوية المفردة كتباً حتى جاء جالينوس فألف فيها، وفضَّل على تلك الكتب كتاب دسقوريدس فقال: =إني تصفحت أربعة عشر كتاباً في الأدوية المفردة لأقوام شتَّى، فما رأيت فيها أتم من كتاب دسقوريدس الذي هو من أهل عين زربى+.
وممن ألف في الأدوية المفردة بعد جالينوس عيسى بن قسطنطين، فله كتاب الأدوية المفردة، وهو فيما يقال أول من نقل كتب اليونان إلى اللغة السريانية.
كيف نقلت الأدوية المفردة إلى اللغة العربية؟
أول من نقل كتاب الأدوية المفردة لدسقوريدس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي اصطفن بن بسيل، وطريقته في الترجمة أنه إن علم للمعنى الطبي اسماً في اللسان العربي ذكره باسمه العربي، وإن لم يعلم له اسماً عربيَّاً أبقاه على اسمه اليوناني؛ رجاء أن يأتي بعده من يعرف لذلك المعنى اسماً عربيَّاً يناسبه، وبعد أن أتم ترجمته عرضه على حنين بن إسحاق، فصحح الترجمة وأجازها، ووصل هذا الكتاب إلى الأندلس فكان الناس ينتفعون بما عرف اسمه في العربية إلى أيام الخليفة عبدالرحمن الناصر.
وفي سنة 377هـ بعث أرمنيوس ملك قسطنطينة بهدايا إلى الخليفة عبدالرحمن الناصر ومن جملة هذه الهدايا كتاب دسقوريدس باللسان الإغريقي اليوناني القديم، وكانت النسخة مصورة الحشائش بالتصوير الرومي، وقال أرمنيوس في كتابه للناصر: إنَّ كتاب دسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب.
واتفق أن لم يكن بقرطبة يومئذ من يقرأ اللسان الإغريقي، فبقي كتاب دسقوريدس في خزانة الناصر دون أن يترجم إلى العربية.(1/341)
ثم إن عبدالرحمن الناصر بعث إلى أرمنيوس أن يبعث إليه برجل يحسن التكلم الإغريقي؛ ليعلِّم من يصلحون لأن يكونوا مترجمين، فبعث أرمنيوس براهب كان يسمى =نقولا+(1) فوصل إلى قرطبة سنة 340هـ وكان الناس وقتئذ في حرص على معرفة ما جهلوه من أسماء عقاقير ذلك الكتاب.
ومن الأطباء الباحثين عن تفسير تلك الأسماء، وتعيين أشخاصها محمد المعروف بالشجار، وطبيب يعرف بالبسباسي وأبو عثمان الحزَّاز، ومحمد ابن سعيد، وعبدالرحمن بن إسحاق بن هيثم، وأبو عبدالله الصقلي.
وكان الراهب يتكلم باليونانية، ويعرف أشخاص الأدوية فتلقى عنه أولئك الأطباء تصحيح أسماء العقاقير، ووقفوا على أشخاصها بمدينة قرطبة.
قال ابن جلجل في أنباء أطباء الأندلس =وقد أدركت هؤلاء الأطباء وصحبتهم+.
أما كتاب جالينوس في الأدوية المفردة فمن المعروف أن كتب جالينوس في الطب قد نقلت إلى اللغة العربية، وكان معظمها بنقل حنين بن إسحاق أو تصحيحه لها بعد نقلها.
ومن مؤلفات حنين بن إسحاق اختصاره لكتاب جالينوس في الأدوية المفردة وألفه بالسريانية وهو إحدى عشرة مقالة، ثم نقل منه إلى العربية خمس مقالات وهي الجزء الأول منه.
ولكن ابن البيطار يقول في مقدمة كتابه الجامع: إنه استقصى فيه ما أورده جالينوس في الست المقالات من مفرداته بنصه، وذكروا في مؤلفات الفيلسوف ابن رشد تلخيصه لأول كتاب الأدوية المفردة لجالينوس.
__________
(1) قال ابن جلجل: أدركته وصحبته في أيام الحكم بن عبدالرحمن في صدر دولته.(1/342)
وتناول العرب كتاب دسقوريدس، وكتاب جالينوس، واستمدوا منهما، وأخذ هذا الفن ينمو ويزداد تحقيقاً، كما صنع أبو المطرف عبدالرحمن بن وافد، فقد ألَّف كتاباً جمع فيه ما تضمنه كتاب دسقوريدس وكتاب جالينوس المؤلفان في الأدوية المفردة، ورتبه أحسن ترتيب، وقال صاعد: وأخبرني أنه عانى جمعه، وحاول ترتيبه، وتصحيح ما تضمنه من أسماء الأدوية وصفاتها، وأودعه إياها من تفصيل قواها، وتحديد درجاتها نحواً من عشرين سنة.
وكما صنع أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي؛ إذ ألف كتاباً في الأدوية المفردة واستقصى فيه ما ذكره دسقوريدس وجالينوس، وأضاف إلى ذلك ما تجدد للمتأخرين من الكلام في الأدوية المفردة.
وكما صنع أبو داود سليمان المعروف بابن جلجل، فقد فسر أسماء الأدوية المفردة من كتاب دسقوريدس، وكشف مغلقها ورفع إبهامها، وله مقالة في الأدوية التي لم يذكرها دسقوريدس في كتابه(1).
وكما صنع أبو العباس أحمد بن مفرج المعروف بابن الرومية ويعرف بالنباتي، فقد فسَّر أسماء الأدوية المفردة من كتاب دسقوريدس، قال ابن أصيبعة في ابن العباس هذا: أتقن علم النبات ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها ومنافعها واختلاف أوصافها وتباين مواطنها، وجال سنة 613هـ في الشام والعراق ومصر، وعاين نباتاً كثيراً في هذه البلاد مما لم ينبت بالمغرب، وشاهد أشخاصها في منابتها ونظرها في مواضعها، وعاد إلى المغرب وأقام بإشبيلية.
__________
(1) ألف ابن جلجل كتابه هذا في سنة 372هـ بقرطبة أيام هشام بن الحكم.(1/343)
وألف في الأدوية المفردة من غير هؤلاء جمع كبير من الأطباء مثل حنين ابن إسحاق، وإسحاق بن حنين، وإسحاق بن عمران، وإسحاق بن سليمان المعروف بالإسرائيلي، وأحمد بن أبي خالد المعروف بابن الجزار، وخص الرئيس ابن سينا الكتاب الثاني من كتاب القانون بالأدوية المفردة، وجاء بعد هؤلاء أبو محمد بن عبدالله بن أحمد المعروف بابن البيطار، وعني بالأدوية المفردة، وسافر إلى بلاد اليونان، وأقصى بلاد الروم، ولقي أناساً كثيرين من المولعين بهذا الفن، ورأى منابت الحشائش المذكورة في كتب الأدوية المفردة بعينه، وعاد بعد هذه الرحلة إلى الشام وخدم بصناعة الطب الكامل العادل في دمشق، ثم خدم بها ولده الصالح بمصر وتوفي في دمشق سنة 646هـ.
ولابن البيطار شرح على أسماء أدوية كتاب دسقوريدس، قال ابن أبي أصيبعة: قرأت عليه تفسيره لأسماء أدوية كتاب دسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه، ودرايته، وفهمه شيئاً كثيراً، وكان يذكر أولاً ما قاله دسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم جمل ما قاله دسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله.
وأعجب من ذلك أنه كان لا يذكر دواءاً إلا ويعين في أي مقالة هو من كتاب دسقوريدس، وفي أيِّ عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة.(1/344)
ولابن البيطار كتابه المشهور المسمى بالجامع، وسماه الجامع لأنه جمع فيه بين الأغذية والأدوية المفردة، قال ابن سعيد في كتاب المغرب بعد أن ذكر الأدوية المفردة: =وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بالقاهرة بمصر كتاباً حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغامقي وكتاب الزهراوي(1) وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها، وضبطه على حروف المعجم وهو النهاية في المقصد+.
وذكر ابن البيطار في كتابه =الجامع+ أنه استوعب فيه مقالات دسقوريدس الخمس بنصها، وما أورده جالينوس في المقالات الست من مفرداته بنصها كذلك، وألحق بهما من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكراه.
ولم يأخذ ابن البيطار فيما ينقله عن هؤلاء طريقة المتابعة المحضة، بل كان يتحرى طريقة النقد فقال: =وما كان مخالفاً في القوى، والكيفية، والمشاهدة الحسية في المنفعة، والماهية للصواب والتحقيق أو أن ناقله أو قائله عدل فيه عن سواء الطريق _ نبذته ظِهْرِيَّاً وهجرته مَليَّاً، وقلت لناقله أو قائله: لقد جئت شيئاً فريَّاً، ولم أحاب في ذلك قديماً لسبقه، ولا محدثاً اعتمد غيري على صدقه+.
ونبه في صدر الكتاب على أغراضه، وجعل من هذه الأغراض التنبيه على كل دواء وقع فيه وهم أو غلط لمتقدم أو متأخر لاعتماد أكثرهم على الصحف والنقل واعتمادي على التجربة والمشاهدة.
وقد دل ابن البيطار في هذه الجمل على مبدأ لا يرتقي علم الطب إلا به، وهو نقد الأقوال وعدم تلقيها بالتسليم إلا أن تكون مصحوبة بدليل من نحو التجربة والمشاهدة.
__________
(1) هو أبو القاسم خلف بن عياش الزهراوي الأندلسي، له كتاب في الطب يسمى =التصريف+، وهو الذي فاخر به ابن حزم، وقال: =لو قلنا أنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطباع لنصدقن+.(1/345)
وقدَّر الغربيون هذا الكتاب قدره، وأذكر أن الدكتور لوكير نقله من العربية إلى اللسان الفرنسي وطبعت الترجمة بباريس.
طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية(1)
للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
شرف الأمة في رقي لغتها، ورقي لغتها في مسايرتها للعلوم والفنون، واتساعها لأن تخوض في بحث كل علم أو فن، وتشرح مسائله وإن بلغت في كثرتها وغموضها أقصى غاية.
كانت العلوم والفنون على اختلاف موضوعاتها، قد وجدت من بيان اللغة العربية معيناً لا ينضب، فلم تلبث أن لبست من ألفاظ هذه اللغة وأساليبها حللاً ضافية.
ومن بين العلوم التي وجدت في اللغة العربية بغيتها في(2) علم الطب، فتقبلته وتقبلت كل ما يدخل فيه أو يتصل به من فنون.
وجد هذا العلم في اللغة أيام انتقاله إلى العرب مادة غزيرة، واستطاع أن يأخذ منها كل ما يسد حاجته، ويجعل العرب والمستعربين يتدارسونه بلسان عربي مبين.
__________
(1) مجلة (الهداية الإسلامية) _ الجزء السابع من المجلد الحادي عشر الصادر في المحرم 1358هـ.
وهذا المقال بحث قدمه الشيخ محمد الخضر حسين إلى المؤتمر الطبي العربي المنعقد بالقاهرة سنة 1939م بصفته مندوب مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ونشر في مجلة المجتمع الجزء الثامن سنة 1955م، وانظر روائع مجلة الهداية الإسلامية _ الإسلام والطب _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص21_32
(2) هكذا في الأصل، ولعل (في) زائدة (م).(1/346)
انتقل هذا العلم إلى العرب وهم يعتزون بلغتهم، ويحرصون على أن تكون لغة العلم، كما كانت لغة السياسة والأدب والاجتماع، فالتفت علماء الطب إلى الألفاظ العربية التي وضعت لمعان تدخل في علمهم أو تتصل به من نحو أسماء العلل (1) وأسبابها، وأعراضها وأطوارها وآثارها (2). وأسماء الأعضاء والأجزاء منها ظاهرة كانت أو باطنة، وأسماء ما يركب منه الأدوية من نحو النبات والمعادن والأحجار، وأسماء الأدوات التي يستعان بها على المداواة(3).
التفتوا إلى هذه الكلمات واستعملوا كثيراً منها في معانيها المعروفة في اللغة. ولعلي لا أكون مخطئاً إذا قلت: إن علم الطب قد وَجَدَ في اللغة العربية مدداً أكثر مما وجده غيره من العلوم المنقولة إليها، ووجد علماء الطب بعد ذلك المدد أصولاً في اللغة تسمح لهم بوضع مصطلحات لِمَعَانٍ طبية لم يتقدم للعرب أن وضعوا لها أسماء، مثل أصول الاشتقاق والمجاز والنقل؛ فصاروا يضعون مصطلحات زائدة على ما تكلمت به العرب في هذا العلم، وصارت كتب الطب تصدر في عبارات عربية فصحى.
فإذا ألقينا نظرة على كتب الطب المؤلفة فيما سلف بأقلام عربية فصيحة، وجدناها قائمة على كلمات مستعملة فيما وضعها له العرب من المعاني الطبية، وكلمات اشتقها أولئك الأطباء لمعان يتحقق فيها معنى الفعل الذي اشتقت منه، كما سموا العرض دليلاً؛ نظراً إلى مطالعة الطبيب إياه، ومعرفته ماهية المرض منه.
__________
(1) معظم أسماء العلل جاء على وزن فعال. نحو =صداع+ أو وزن فعل نحو =بهق+.
(2) نريد من آثارها ما يعقبها من نحو =الندبة+ لأثر الجرح بعد برئه ونحو =المهج+ لحسن الوجه بعد علة.
(3) نحو =المتجر+ لما يصب به الدواء في الفم، و =المسعط+ لما يصب به الدواء في الأنف، و=الدسلم+ لما يسد به الجرح من نحو الفتيلة.(1/347)
وكلمات نقلوها من معانيها المعروفة عند العرب إلى معان تربطها بتلك المعاني مناسبة، كما استعملوا الرسوب في كل جوهر أغلظ قواماً من المائية وإن لم يرسب.
قال ابن سينا في كتاب القانون: إن اصطلاح الأطباء في استعمال لفظة الرسوب والثقل قد زال عن المجرى المتعارف؛ لأنهم يقولون: رسوب وثقل، لا لما يرسب فقط بل لكل جوهر أغلظ قواماً من المائية متميزاً عنها وإن طفا.
وكلمات صاغوها على مثال الإضافة كما قالوا: حمى الدق، وهي الحمى المعروفة =أنطيقوس+.
أو على مثال تركيب الصفة والموصوف كما قالوا: الشريان الصاعد، والشريان النازل، أو على مثال النسب الذي يقصد به التشبيه، كما سموا أحد أنواع النبض الموجي؛ لأنه يشبه الأمواج، إذ يتلو بعضها بعضاً على الاستقامة مع اختلاف بينها في السرعة والبطء.
وقد نبه أبو علي ابن سينا في كتاب =القانون+ على وجه تسمية الأمراض فقال: قد تلحقها التسمية من وجوه:(1/348)
إما من الأعضاء الحاملة(1) لها، كذات الجنب، وذات الرئة، وإما من أعراضها، كالصرع، وإما من أسبابها، كقولهم: داء الأسد(2)، وداء الفيل(3)، وإما منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له كقولهم: قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له طيلانس، وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثه فيها كقولهم: القروح البلخية، وإما منسوباً إلى من كان مشهوراً بالإنجاح في معالجتها كالقرحة السيروتية، وإما من جواهرها وذواتها كالحمى والورم.
وتجدد لذلك العهد أسماء عربية لأدوات طبية، كأسماء آلات الكي والجراحة التي ذكرها أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي(4) في كتابه المسمى: التصريف(5)؛ فإنه رسم في هذا الكتاب صور الآلات، وذكر لكثير منا أسماء مناسبة نحو: المكواة، والزيتونة، والمنشارية، والهلالية، والمسارية.
ودخل في مصطلحاتهم كلمات مولدة ككلمة =بحران+ للتغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحادة، وكلمة =تفسرة+ لماء المريض المستدل به على علته، يقال: أرسل فلان تفسرته إلى الطبيب، ونظر الطبيب في تفسرة المريض.
__________
(1) اشتق العرب من بعض الأعضاء أسماء العلل التي تصيبها وهي: القلاب لداء يصيب القلب، والكباد لداء يصيب الكبد، والنكاف لداء يصيب النكفتين وهما غدتان تكتنفان الحلقوم من أصل اللحى، والقوام لداء يصيب الشاة في قوائمها.
(2) الجذام؛ لأن وجه المبتلى به ليشبه وجه الأسد في كراهة منظره.
(3) زيادة في القدم والساق وسمي داء الفيل؛ لأن رجل المريض به تشبه رجل الفيل، ومن هذا القبيل اسم السرطان؛ فإنه في الأصل اسم لدابة نهرية وسمي به الداء المعروف؛ لأنه إذا كبر ظهر عليه عروق حمر وخضر تشبه أرجل الدابة التي تسمى السرطان.
(4) ذكره ابن حزم في رسالة أودعها مؤلفات الأندلسيين وقال: قد أدركته، وابن حزم توفي سنة 399هـ.
(5) طبع بالعربية واللاتينية في أكسفورد، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية.(1/349)
ومن أسباب أخذ علم الطب فيما سلف مكانة في اللغة الفصحى أن كثيراً من رجال هذا العلم كانوا قد درسوا اللغة العربية إلى أن صاروا من أئمتها، أو صاروا من كبار أدبائها، تجدون الحديث عن هؤلاء الرجال والتنبيه على رسوخهم في علم الطب واللغة، في كتب طبقات الأطباء، وطبقات اللغويين والأدباء، مثل الرئيس أبي علي الحسين بن سينا، برع في الطب، وأتقن الأدب، وبلغ في اللغة مرتبة عليا، وله في الطب مؤلفات كثيرة، منها كتاب =القانون+ وله مؤلف في اللغة يسمى =لسان العرب+.
ومثل أبي بكر محمد بن أبي مروان بن زهر، فقد كان _ كما قالوا _ بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب(1).
ومثل محمد بن أحمد بن رشد؛ فقد جمع إلى الطب والفلسفة التضلع في علوم العربية، وله في الطب مؤلفات منها كتاب الكليات، وله في العربية الكتاب المسمى =الضروري+.
ونرى طائفة ممن بلغوا في علوم الشريعة مرتبة الاستنباط، ولا يبلغ مرتبة الاستنباط في الشريعة إلا من كان له في علوم اللغة قدم راسخة _ قد برعوا في علم الطب، ومن هؤلاء الإمام أبو عبدالله محمد بن عمر المازري، كان يعد في طبقة المجتهدين، ودرس علم الطب وألف فيه، وقالوا في ترجمته: =كان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى(2)+.
ولا عجب أن يقبل الفقهاء على علم الطب؛ فإنهم يرونه من العلوم التي رفع الشرع الإسلامي منزلتها، حتى أنهم بنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايته، واستعانوا في بيان الأوامر والنواهي بشيء من مسائله، ومثال هذا أن النبي _ صلوات الله عليه _ قال: =إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بتراب+.
__________
(1) نفح الطيب للمقري.
(2) كتاب الديباج لابن فرحون.(1/350)
والعلامة محمد بن رشد جد الفيلسوف ابن رشد أول من نبه، فيما بلغنا، على أن هذا الأمر مراعى فيه وجهة طبية، هي ما يخالط لعاب الكلب من مادة ضارة تعرض له عندما يصاب بداء الكلب، وإصابته بهذا الداء قد تكون خفية، فلا تظهر لكل ناظر(1).
فلولا أن علم الطب قد وقع فيما مضى بأيدي علماء اللغة ما ظفر هذا العلم بتلك المصطلحات التي ترتبط باللغة ارتباطاً محكماً.
ويدلكم على أن أولئك الأطباء اللغويين كانوا يجتهدون في أن يخرج علم الطب في لسان عربي فصيح تحريهم العربية الفصحى في ألفاظ مؤلفاتهم، نجد في ترجمة الطبيب اللغوي مهذب الدين عبدالرحيم بن علي أنه كان إذا تفرغ من افتقاد المرضى من أعيان الدولة وغيرهم يأتي إلى داره، ويأتيه طلاب علم الطب قوماً بعد قوم، وكان إلى جانبه مع ما يحتاج إليه من الكتب الطبية كتب اللغة: الصحاح للجوهري، والمجمل لابن فارس، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، فكان إذا جاءت في الدرس لغوية محتاج إلى كشفها وتحقيقها نَظَرها من تلك الكتب.
ومن يطالع شيئاً من مؤلفات أولئك الأطباء، ويمعن النظر فيما يستعملون من أسماء الأمراض وغيرها من المعاني المتصلة بعلم الطب، يعرف أن أولئك المؤلفين كانوا على اطلاع واسع في اللغة، وبذلك أمكنهم أن يجعلوا اللغة تسير مع علم الطب جنباً لجنب.
ينبئنا بهذا أننا نجد جانباً عظيماً من الألفاظ العربية غير الكثيرة الاستعمال مبثوثة في هذا العلم، ومنظومة في سلك مصطلحاته، ككلمة =الحصف+ للجرب اليابس، وكلمة =الشري+ لبثور صغار حكاكة، وكلمة =الحرصان+ للحمة دقيقة لاصقة بحجاب البطن، وكلمة =الصاخة+ لورم يكون في العظم من صدمة أو كدمة(2) و =القطرب+ لنوع من الماليخوليا(3).
__________
(1) بداية المجتهد للحفيد الفيلسوف ابن رشد.
(2) التأثير فيه بنحو حديدة.
(3) الماليخوليا: المزاج السوداوي.(1/351)
وقف علم الطب بعد هذا في الشرق عند حد، وتناوله الغربيون من مؤلفات علمائنا، وأوسعوه بحثاً، وقطعوا فيه أشواطاً بعيدة المدى، وصارت المصطلحات العربية التي وضعت له من قبل لا تفي بما تجدد فيه من آراء ومستكشفات.
ظل هذا العلم يتقدم بخطوات سريعة، وبقيت لغتنا واقفة دونه بمراحل.
ولما أقبل أبناء العربية على دراسته، اضطروا إلى أن يدرسوه بلغات أجنبية، وأصبح علم الطب وهو في ديارنا يدرس بلسان غير عربي.
وإذا وجد فيما سلف لغويون أطباء استطاعوا أن يسيروا بعلم الطب تحت ظلال اللغة ومقاييسها _ فإن علم الطب الحديث واسع المباحث، كثير الفنون، فلا يتيسر لعلماء اللغة اليوم أن يبرعوا فيه كما برع فيه كثير من اللغويين من قبل إلا بمجهود كبير، وعناية متناهية.
ومن هنا شعر الناس في هذا العصر بالحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي عربي يقوم بوضع مصطلحات العلوم، كي تسير اللغة الفصحى مع العلوم كتفاً لكتف.
وأخذ مجمع اللغة العربية يعمل لهذه الغاية المنشودة، ووجد في ميسوره أن ينقل العلوم _ وبينها علم الطب على اختلاف فنونه وكثرة مصطلحاته _ إلى العربية الفصحى.
تجد في المعاجم ألفاظاً كثيرة تتصل بهذا العلم، وهذه الألفاظ إما أن تكون نصَّاً في المعنى الطبي نحو =مثير+ بمعنى الموضع الذي تلد فيه المرأة، فلو أطلقناه على الحجرة أو الغرفة المُعَدَّة في المستشفى للولادة كان استعمالاً للفظ في معناه العربي من غير تصرف فيه.
وأذكر بهذه المناسبة أني رأيت الطبيب أبا المؤيد محمد بن الصائغ الجزري ينهى في وصية له طبية عن أن يلتزم الإنسان في غذائه طعاماً خاصَّاً، فيقول:
إياك تلزم كل شيء واحد ... فتقود طبعك للأذى بزمام
ووجدت لهذا المعنى بعد ذلك كلمة عربية هي المرازمة، فقد شرحتها المعاجم بأن لا يدوم الإنسان في عيشه على طعام خاص.(1/352)
ويلحق بمثل هذه الألفاظ المطابقة لمعناها، أن تذكر المعاجم في بيان مفهوم اسم المرض مثلاً، سبب المرض، كما قالت: =السواد+ داء يأخذ الإنسان من أكل التمر يجد منه وجعاً في كبده، فنرى أن ذكر السبب لا يجعل الاسم خاصَّاً بما ينشأ عن هذا السبب، فإذا ظهر من طريق علم الطب أن هذا الداء بنفسه وأعراضه قد يحصل في الكبد من سبب آخر غير أكل التمر، صح أن نطلق عليه لفظ =السواد+ وإن لم يحدث عن أكل التمر, ولا نعد هذا الإطلاق من نوع التصرف بإخراجها عن موضوعاتها اللغوية.
وأنبه هنا على أن المعاجم قد تذكر للكلمة الواحدة معاني طبية متعددة كما قالوا: =الذرب+ فساد الجرح، وفساد المعدة، والمرض الذي لا يبرأ.
والمجمع يتجنب في وضع مصطلحات العلوم أن يكون بينها لفظ مشترك، ويحافظ على أن يكون للاسم الواحد في العلم الواحد معنى واحد.
وقد تذكر المعاجم للمعنى الطبي الواحد، مثلاً، أسماء متعددة توردها على أنها مترادفة، كما قالوا لما يقاس به غور الجرح: سبار، ومسبار، ومحراف، وقالوا لذلك المرض: السل والسحاف.
ولواضعي المصطلحات وجه من الحق في تخصيص كل اسم بنوع من أنواع ذلك المعنى متى تعددت أنواعه، وقد سلك المجمع هذا المسلك في طائفة من مصطلحات العلوم.
وقد تشير المعاجم إلى اختلاف اللغويين في معنى الاسم، كما قال صاحب القاموس: اللسعة: خراج في العنق، أو غدة في العنق، أو زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت.
وقد جرى المجمع على أن يأخذ في مثل هذا بالقول الذي يسد حاجة العلم.
ووجد المجمع في مؤلفات الأطباء فيما سلف مصطلحات محكمة الوضع، وخطته أن يحافظ على المصطلحات القديمة ما وجد لها وجهاً تدخل به في حدود العربية.(1/353)
ووجد في علم العربية مقاييس تساعده على أن يصوغ للمعاني التي حدثت أو تحدث أسماء عربية، فلو اتخذ في المستوصف مثلاً محلٌّ خاص ينزع فيه المريض ثوبه ووجد العرب قالوا: ثرب فلان المريض يثربه: نزع ثوبه، صح أن يسمى ذلك المحل =مثرباً+.
ولم يقتصر المجمع على الأصول المعروفة بأنها مقيسة نحو الاشتقاق من المصادر أو الأفعال، ونحو المجاز والنقل، بل نظر في طريق آخر سلكه العرب في وضع كثير من المفردات، وهو الاشتقاق من أسماء الأعيان كما قال العرب: جَلَده، ورَأَسه، وبَطَنه، وصَمَخَه، أي أصاب جلده، ورأسه، وبطنه، وصماخه، وقالوا: رَمَحه، وسَهَمه، وسافَه، أي أصابه بالرمح، والسهم، والسيف.
ومنه أبرته العقرب أي أصابته بإبرتها، وقالوا: لبّنه، وعسّله، ولحّمه، وشحّمه، أي أطعمه: اللبن والعسل واللحم والشحم(1) وقالوا: جدر، وبأر، أي صنع الجدار والبئر.
وقد قرر المجمع صحة الاشتقاق من أسماء الأعيان في مصطلحات العلوم عند الحاجة، وجرى على هذا في وضع طائفة من مصطلحات العلوم.
ومن الطرق التي تتسع بها اللغة، وأخذ بها المجمع في وضع المصطلحات العملية، طريقة المصدر الصناعي، وهو المصدر الحاصل من إلحاق ياء النسب لأسماء الفاعلين والمفعولين، وغيرهما، نحو العالمية والمعلومية، والجاذبية والمجذوبية، وقد استعمله علماؤنا من مناطقة وفلاسفة وغيرهم في مؤلفاتهم كثيراً.
ويمتاز هذا المصدر الصناعي بأنه يدل على معنى الوصف من حيث صدوره عن الفاعل، أو وقوعه على المفعول، بخلاف المصدر الصريح؛ فإنه لا يدل على هذه الناحية الخاصة بنفسه.
__________
(1) نص ابن مالك في كتاب التسهيل على أن هذه الأنواع الثلاثة مطردة فيصح القياس عليها.(1/354)
ويمتاز هذا المصدر الصناعي عن المصدر الصريح من وجه آخر: هو أنه يدل على المبالغة متى كان المنسوب إليه من صيغ المبالغة؛ فالعلامية أبلغ من العلم، وقد رأينا الأطباء السابقين يقولون: المصحاحية والممراضية، وهاتان الصيغتان من قبيل المصدر الصناعي؛ فالمصحاحية تدل على الصحة التامة؛ لأنها نسبة إلى مصحاح وهو كثير الصحة، والممراضية تدل على المرض الشديد أو الكثير؛ لأنه نسبة إلى ممراض وهو شديد المرض، أو كثيره.
وفي المصدر الصناعي سعة من جهة أخرى هي أنا نتوصل به إلى وضع أسماء لمعان يشير إليها اسم العين، فإذا أردنا أن نتحدث عن كون الشيء إنساناً، أو حيواناً، أو نباتاً، أو حجراً، مثلاً _ قلنا: الإنسانية والحيوانية والنباتية والحجرية.
ووجد المجمع أن المعجمات قد تقتصر في بعض المواد على ذكر المصدر أو الفعل أو الوصف، فوضع المجمع قواعد لتكميل المادة الناقصة مستمدَّاً هذه القواعد من أقوال علماء العربية، فإذا وجدنا المعجمات تقول مثلاً: المؤتنب: من لا يشتهي الطعام، صح لنا أن نسمي علة انقطاع شهوة الطعام =ائتناباً+، وإذا وجدنا المعجمات تقول: سنِّي هذا الشيء، أي شهي إلى الطعام، صح لنا أن نزيد فيها فعيلاً، ونسمي الدواء الذي يقوي شاهية الطعام =سنيناً+ وإذا وجدنا المعجمات تقول: القامح الكاره للماء لأي علة، صح لنا أن نسمي علة انصراف النفس عن شرب الماء: =قماحاً+.
ومن المعروف في وضع المصطلحات تفضيل اللفظ المفرد على المركَّب والمجمع يحافظ على هذا القصد، فيؤثر المفرد على المركب إلا أن يكون في المركب مزية تدعو إلى اختياره، فلو أراد المجمع أن يضع لفظاً للموضع الذي يتداوى فيه بحرارة الشمس، لا أحسبه يعدل عن كلمة =المشرقة+ إلى لفظ آخر مركب، فإن المشرقة موضع القعود في الشمس للتمتع بدفئها، وهذا المعنى متحقق فيما يقال له الحمام الشمسي، ورأيت ابن سينا في =القانون+ يعبر بالتضحي إلى الشمس عن التعرض للشمس بقصد التداوي.(1/355)
والألفاظ العربية تختلف من حيث أنس السمع بها، وإساغة الذوق لها، والمجمع يلاحظ هذا فيما يضعه من المصطلحات، فإذا وجد في المعجمات _ مثلاً _ توحش فلان أي أخلى معدته من الطعم لشرب الدواء، آثر عليها كلمة تحامى للدواء؛ لأن الذوق يسيغها أكثر من كلمة توحش.
ومع ما أحرزته اللغة من الثروة الواسعة، والمقاييس التي يمكننا أن نتصيد بها من الأسماء ما نشاء لم يقف المجمع وقفة الرافض لكل مصطلح علمي أجنبي، بل أبقى التعريب أمامه مفتوحاً، حتى إذا دعته ضرورة إلى قبول اسم غير عربي، وإلحاقه بالمصطلحات العربية الصميمة أجاب داعي الضرورة، وله بالعرب في القديم أسوة، إذ قالوا: الترياق(1)، والقولنج(2)، والنقرس(3)، والكيموس(4)، والكلمات الأربع يونانية، وقالوا: البرسام لذلك المرض الصدري، والكلمة فارسية.
ومن ينظر في كتب الطب أيام رُقِيِّه في البلاد العربية يرى المؤلفين فيه قد يختلفون في بعض المصطلحات؛ فابن سينا _ مثلاً _ يستعمل البرسام والشوصة، وذات الجنب على أنها أسماء مترادفة، وغيره يجعل كل واحد من هذه الأسماء، اسماً لمرض مختص به(5).
وإنما جرى مثل هذا الاختلاف بينهم؛ لأن المصطلحات في ذلك العهد لا تصدر عن مجمع أو مؤتمر ينعقد لها.
والقصد من إنشاء المجمع اللغوي توحيد المصطلحات العلمية، ودليل هذا أن المجمع لم يؤلف من أعضاء مصريين فقط، بل ألف من أعضاء يمثلون البلاد العربية من نحو المغرب والشام والعراق.
__________
(1) دواء مركب من أجزاء كثيرة ويطلق على ما له نفع عظيم سريع.
(2) مرض معوي.
(3) مرض في مفاصل الكعبين أو أصابع الرجلين.
(4) الغذاء بعد أن تهضمه العصارة المعدية.
(5) يخص =البرسام+ بالمرض العارض للحجاب الذي بين الكبد والمعدة، و =الشوصة+ بالورم العارض في أضلاع الخلف، و =ذات الجنب+ بالورم العارض للغشاء المستبطن للأضلاع والحجاب، انظر كشاف مصطلحات العلوم.(1/356)
وصفوة ما كنت أقول: إن الطموح إلى عزة ليس بعدها عزة يقضي علينا بأن نعيد علم الطب وسائر العلوم والفنون إلى لغتنا العربية، وإن هذه اللغة تسع بما أتاها الله من غزارة العلم، وحكمة المقاييس كل ما تدركه الأبصار والعقول.
ولم يبق علينا إلا أن نرجع إلى معجمات ومصطلحات علمائنا، ومقاييس لغتنا، ونتعاون على أن تكون مصطلحاتنا العلمية واحدة.
المقدمة ... 3
-مسرد بعنوانات الموضوعات والمقالات في هذه المجموعة ... 6
أولاً: مقالات في السعادة ... 13
1_ أسس الحياة الطيبة: للأستاذ أحمد أمين ... 14
_ كل الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة ... 14
_ أكثر الناس يخطئ؛ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة ... 14
_ وسائل الحياة الطيبة: ... 15
_ أولها: العمل ... 15
_ ثانيها: الطبع الراضي ... 17
_ ثالثها: أن يكون للإنسان غرض نبيل في حياته الاجتماعية ... 17
_ رابعها: أن يكون لك غرض في الحياة محدود ... 18
2_ الحياة السعيدة: للأستاذ أحمد أمين ... 20
_ في الإنسان عنصر من عناصر النبات ... 22
_ في الإنسان عنصر حيواني ... 22
_ في الإنسان عنصران امتاز بهما عن النبات والحيوان: ... 22
_ أحدهما عنصر العقل ... 22
_ والآخر هو عنصر الروح ... 22
_ السعادة _ في نظر الإسلام _ ... 23
_ الناس إزاء هذه العناصر مختلفون اختلافاً كبيراً ... 23
_ الدين الصحيح يُغَذِّي الشعور بالتسامي ... 24
_ الدين الصحيح ينقل النفس مما يعتريها من الحزن ... 24
_ الدين الصحيح يُشْعِر الإنسان بالاتصال بعالم روحي واسع ... 24
3_ البرنامج اليومي للسعادة: للأستاذ أحمد أمين ... 26
_ الإرادة هي التي تستطيع أن تقف الغضب ... 26
_ روحُك القوية التي تغذيها دائماً بالسوائل الروحية هي التي تمنعك من غش الناس وخداعهم ... 27
_ الغذاء الروحي يخفف من مطامعك ... 27
_ يخطئ من ظن أن المال وحده يسبب السعادة ... 27
_ لا شيء يغذي الروح أحسن من الحب بمعناه الواسع ... 28(1/357)
_ الحياة الروحية تجعل لكل شيء طعماً جديداً غير طعمه المادي ... 29
_ العالَم لا يَصِحّ إلا إذا تعادلت فيه يدُه وقلبُه وعقلُه ... 29
4_ المثقفون والسعادة: للأستاذ أحمد أمين ... 30
_ هل العلم سبب للشقاء؟ ... 31
_ وجه البطلان من نواحٍ عدة: ... 31
_ أولها: سوء تصور الناس للسعادة ... 31
_ السعادة إنما هي في السعي للغرض أكثر منها في الغرض ... 32
_ ثانيها: وهو مقياس الأشياء بمقياس الفردية ... 33
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم ... 37
5_ العلم بين الأساتذة والطلاب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 38
6_ إلى أبنائنا المعلمين الأحرار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 43
7_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 50
8_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(2): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 55
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
9_ السمو الخلقي في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 62
_ الحلم ... 63
_ السخاء ... 64
_ الشجاعة نوعان: ... 65
_ شجاعة حربية ... 65
_ شجاعة أدبية ... 65
_ الحياء ... 66
_ الحياء حلية يزداد بها الشيخ وقاراً، والشاب كياسة ... 66
_ صدق اللهجة ... 67
_ الصبر ... 67
_ العزة ... 68
_ التواضع ... 68
_ كبر الهمة ... 69
_ الوفاء بالعهد ... 69
_ دخول الوفاء بالعهد في الوفاء بالوعد ... 70
_ ويتصل بالوفاء بالعهد أدب آخر يسمى حسن العهد ... 70
_ الزهد ... 70
_ العدل ... 71
_ الأمانة ... 71
10_ العزة والتواضع: للعلامة محمد الخضر حسين ... 72
_ حدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة ... 72
_ كثيراً ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمور ... 72
_ عزة النفس تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى ... 73
_ يقابل العزةَ الضعةُ ... 73
_ في عزة النفس فوائد تعود على الشخص نفسه منها.... ... 74(1/358)
_ لهذه الخصلة آثار صالحة في الاجتماع ... 74
_ من عناية الإسلام بأدب العزة.... ... 75
_ من الأحكام القائمة على رعاية العزة.... ... 75
_ من هذه الأحكام شرط الكفاءة في النكاح ... 76
_ مدح الإنسان نفسه رعونة.... ... 76
_ وأما التواضع وهو بذل الاحترام, أو العطف والمجاملة لمن يستحقه.... ... 77
_ يتواضع الرجل لأقرانه.... ... 78
_ ويتواضع الرجل لمن هو دونه ... 78
11_ الأمانة: للشيخ علي الطنطاوي ... 81
_ ليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة التي تؤديها إلى أصحابها (فقط) ... 82
_ الدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان ... 82
_ القدرة على الحكم أمانة في يد القاضي ... 82
_ العمل أمانة في يد الأجير المستصنع ... 82
_ اعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك ... 82
_ عمرك كله أمانة لديك ... 83
12_ الأخلاق: للعلامة محمد الخضر حسين ... 87
_ الخلق: حال للنفس.... ... 87
_ وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: ... 87
_ منها ما يكون في أصل المزاج ... 87
_ ومنها ما يكون مستفاداً بالتربية والتدرب ... 88
_ وللأخلاق ثلاث قوى متباينة: ... 88
_ أحدها: القوة الناطقة ... 88
_ ثانيها: القوة الشهوية ... 88
_ ثالثها: القوة الغضبية ... 88
13_ الانتحار: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 90
_ إن الرجل المؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر ... 90
_ الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور ... 90
_ حب النفس غريزة ركبها الله _ تعالى _ في نفس الإنسان ... 90
_ لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم ... 91
_ ما سمي القاتل مجرماً إلا لأنه قاسي القلب ... 91
_ يخدع المنتحر نفسه أَنْ ظنَّ أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة ... 92
_ فكرة الانتحار نزغة من نزغات الشيطان ... 92
14_ نداء مصدور: للأستاذ محمود محمود ... 93
15_ الحسد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 95(1/359)
16_ جيل يؤمن بالأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 97
_ أصل الشجاعة أَنْ تعرف الحق.... ... 97
_ إن الأمة الضعيفة المستكينة لا تستحق الحياة, وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلاَّ إذا شاع في أفرادها.... ... 100
_ وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم ... 101
رابعاً: مقالات في العمل والهمة ... 103
17_ صدق العزيمة أو قوة الإرادة: للعلامة محمد الخضر حسين ... 104
_ تنشأ قوة الإرادة من التجارب ... 104
_ وتنشأ قوة الإرادة من درس التاريخ ... 105
_ وتنشأ قوة الإرادة من أدلة خاصة ... 105
_ وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا ... 106
_ مما يساعد الرجل على صدق العزيمة خلق التعفف وشرف الهمة ... 106
_ تتفاوت الإرادة في القوة ... 106
_ لا يعد في قلة العزم أن يستبين الر جل الحق.... ... 108
_ ولا يعد في قلة العزم أن يرى الرجل رأياً..... ... 108
_ قويُّ العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله ... 108
_ وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف ... 109
_ لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم ... 110
18_ اعرف نفسك: للشيخ علي الطنطاوي ... 112
19_ الطموح: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب ... 117
20_ تربية الإرادة: للأستاذ أحمد أمين ... 121
_ ليس يمكن أي إصلاح خلقي إلا إذا ربينا الإرادة أولاً ... 121
_ ولكن كيف نربي إرادتنا؟ ... 121
_ إن ضعيف الإرادة يتأرجح في أمره ... 122
_ إن الذي يفسد الإرادة أن تعزم، وتَعْدِلُ ... 122
_ وبعدما يصبر المرء على الشيء الذي يريده ويربي فيه إرادته، يصبح عادة يأتي به من غير عناء كبير ... 122
_ إن أكثر ما يفسد الشبان ويضعف إرادتهم هو الإغراء ... 123
_ لابد أن يعوِّد الشاب نفسه إيقاظ العقل، وقوة الإرادة، والشعور بالواجب ... 124
_ إن الرجل العظيم يتلذذ من مقاومة الإغراء ويتلذذ من السيطرة على نفسه ... 125
_ مواقف مقاومة الإغراء ... 125(1/360)
_ تربيةُ الإرادة، وقوتها وتعويدُها مقاومةَ الإغراءِ سر النجاح ... 125
21_ اصنع حياتك: للأستاذ أحمد أمين ... 127
_ إذاً فالوراثة والبيئة لا تعوقان الإنسان عن إسعاد حياته إذا منح الهمة ... 127
_ أول نصيحة لك ألاَّ تيأس ... 128
_ لا تتعلل بأنك لست نابغة ... 128
_ خير وسيلة للنجاح في الحياة أن يكون للشاب مثل أعلى عظيم يطمح إليه ... 129
_ أكبر أسباب فشلنا أننا نخلق لأنفسنا أعذاراً، وأوهاما، وعوائق ... 129
_ ليس الإنسان حيواناً آكلاً شارباً فحسب ... 131
_ غنى النفس في حب التسامي.... ... 131
_ ضَعْفُ الثقةِ بالنفس يقتل طموحها، ويقتل استقلالها، ويفقدها حياتها ... 132
_ الثقةُ بالنفس اعتقادُك بقدرتك على ما تتحمله من أعباء.... ... 133
_ الكبرُ، والغرور تعظيم نفسك أكثر مما تستحق ... 133
_ بعد أن يكون لك مثل أعلى تنشئه، وتعمل للوصول إليه، وبعد الثقة بنفسك، واحترامها _ اجتهد أن تبتسم للحياة ... 133
_ ومن أكبر النعم على الإنسان أن يعتاد النظر إلى الجانب المشرق في الحياة لا الجانب المظلم منها ... 133
22_ موت الأمم وحياتها: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 135
خامساً: مقالات في المدنية والعمران ... 139
23_ المدنية الغربية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 140
24_ المدنية تحطم الأعصاب: للأستاذ أحمد أمين ... 145
_ السبب في هذا الشعور بتهدم الأعصاب كثرةُ تكاليف الحياة ... 145
_ كان أجدادنا أبسط عيشاً... ... 145
_ ما هي أعراض تهدم الأعصاب؟ ... 147
_ ضيق في الحياة، وانقباض صدر منها ... 147
_ الغضب لأتفه الأشياء ... 147
_ الشك المؤلم في قيمة الحياة ... 148
_ إحاطة الخوف به من كل جانب ... 148
_ تفسير حركات الناس ... 148
_ حب العزلة، والابتعاد عن الناس ... 148
_ ومن مصائب هذا المرض أن صاحبه غالباً لا يؤمن بأنه مريض ... 149
_ متهدم الأعصاب يرى أن الدنيا سوداء كما يراها ... 149(1/361)
_ أكثر الأسباب التي تدعو إلى التهدم: ... 149
_ الجهل ... 149
_ الخوف ... 150
_ الغضب السريع الجامح ... 152
_ ضعف الثقة بنفسه ... 153
_ الناس ينقسمون _ عادة _ إلى قسمين: قسم يكثر التفكير في نفسه، وقسم يكثر التفكير فيما حوله ... 155
25_ المدينة الفاضلة: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ... 158
_ المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل ... 158
_ ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع ... 159
_ يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً ... 160
_ فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع ... 160
_ جماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل ... 161
_ قصة تهيؤ المدينة الفاضلة ... 166
_ لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها ... 168
_ فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة ... 168
_ وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة ... 168
_ وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين ... 169
_ وهذه الشدة أساسها الشجاعة ... 170
_ ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة ... 170
_ لقد يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل ... 172
_ وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث قليلة ... 172
_ وكل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة ... 172
_ لا تخلو المدينة الفاضلة _ أيضاً _ من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة ... 172
_ كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً ... 173
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها ... 173
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية ... 174(1/362)
_ جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله ... 174
سادساً: مقالات في الصداقة والعواطف الإنسانية ... 177
26_ طبقات الأصدقاء: للشيخ علي الطنطاوي ... 178
_ فمنهم رفيق، تلقاه كل يوم أمامك ... 178
_ ومنهم رفيق العمل ... 178
_ ورفيق السفر ... 178
_ ورفيق القهوة، ورفيق السينما، ورفيق الملعب ... 179
_ والخلاصة أن الأصحاب خمسة: ... 181
_ أما الذي هو كالهواء.... ... 181
_ وأما الذي هو كالغذاء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالدواء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالصهباء.... ... 182
_ وأما الذي هو كالبلاء.... ... 182
_ وعليك أن تجعل الدين مقياساً ... 182
27_ العاطفة والتسامح في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 183
28_ التعب العصبي والخوف: للأستاذ أحمد أمين ... 186
_ والنرفزة أو هياج الأعصاب تنشأ من المجموع العصبي عند الإنسان ... 186
_ وتختلف هذه المجموعة العصبية عند كل إنسان عن الآخر ... 187
_ وتضعف هذه الأعصاب بالتعب المضني، وبالكوارث المتتالية ... 188
_ التعب العصبي يتبعه دائماً الخوف ... 188
_ فمن نما عنده الشعور الديني تمثل خوفه في الموت ... 188
_ ومن كان شديد الشعور بالمال خاف الفقر إن كان غنياً ... 188
_ ومن كان رحيماً شديد العطف على أولاده ظهر خوفه من هذه الناحية ... 188
_ ومن بلغت سنَّ الزواج، ولم تتزوج خافت أنْ يمرَّ موسم زواجها ... 189
_ وقد يزيد الخوف حتى يكون خوفاً من أوهام ... 189
_ وفي الناس ألوانٌ شتى من هذه المخاوف ... 189
_ فما علاج هذا؟ ... 189
_ أولهما: الراحة الجسمية ... 189
_ والأمر الثاني: الإيحاء الذاتي ... 190
29_ لماذا ولأن: للأستاذ أحمد أمين ... 192
_ الدنيا مملوءة بالأحكام الفاسدة، والتقويم الفاسد ... 192(1/363)
_ وإن شئت فقل: إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة ... 195
30_ وحي القبور: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 197
سابعاً: مقالات في العادات والعبادات ... 203
31_ معنى الصوم: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 204
_ للإسلام في كل عبادة من عباداته حِكَمٌ ... 204
_ ولكلِّ عبادة في الإسلام تؤدَّى على وجهها المشروع, وبمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس.... ... 204
_ والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها هو تزكية النفس ... 204
_ والعبادات إذا لم تعطِ آثارَها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة ... 204
_ آثار الصوم في النفوس جليلة ... 205
_ والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية ... 205
_ ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم.... ... 206
_ وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زمانيّ ... 207
32_ صديقي رمضان: للشيخ علي الطنطاوي ... 208
33_ الإنسان في الشدة والرخاء: للشيخ علي محفوظ ... 213
_ اعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ونزلت به محنة وجبت عليه رعاية أمور منها: ... 216
_ أن يكون راضياً بقضاء الله _ عز وجل _ ... 216
_ أن يصلح حاله بالتوبة إلى الله _ تعالى _ ... 216
_ أنه في ذلك الوقت لو اشتغل بذكر الله _ تعالى _ والثناء عليه بدلاً من الدعاء كان أحسن وأفضل ... 216
_ أن يبالغ في الشكر إذا أزال الله عنه تلك البلية ... 217
34_ بساطة العيش: للأستاذ أحمد أمين ... 218
ثامناً: مقالات في الشباب ... 225
35_ كيف تكون رجلاً: للأستاذ عبدالوكيل جابر ... 226
_ لقد اقتضت طبيعة الاجتماع أن تكثر المشكلات العامة التي تضل فيها الأحلام ... 227
_ وطريق العمل معبَّد أمام أبناء الإنسانية جميعاً ... 227
_ ولعل منشأَ ذلك قوةُ نفوس هؤلاء ... 227
_ إن سبل الذِّكر الذائع أصبحت متعددة لاشتباك المصالح ... 228(1/364)
_ النجاح في الحياة، والظفر بالذكر المجيد، ونيل المنزلة السابقة بين الناس تتوقف على أمور أهمها:
_ أن يتناول المرء من المهن أحبها إلى قلبه ... 230
_ أن يؤثر الثبات في جميع أدوار حياته ... 230
_ أن يوفر همه على البحث ... 230
_ ألا يكترث بالآراء الزارية ما دام واثقاً من نفسه ... 230
_ أن يتمسك دائماً بالأخلاق الشخصية الفاضلة ... 231
36_ يا ابني: للشيخ علي الطنطاوي ... 232
37_ من هو الشاب المسلم: للشيخ العلامة محمد الخضر حسين ... 241
_ الشاب المسلم هو الذي يَسْمُو بنفسه إلى أن يكون مسلماً حقاً ... 241
_ والشاب المسلم هو الذي يؤمن بالله من الشرك ... 241
_ والشاب المسلم هو الذي يدرس سيرة رسول " ... 242
_ والشاب المسلم يستجيب لله فيما شرعه من عبادات تقربه إليه زلفى ... 242
_ والشاب المسلم يعتز بدين الله ... 242
_ والشاب المسلم يذكر في كل حين أن أمد عمره غير معروف ... 243
_ والشاب المسلم إذا وكل إليه عمل أقبل عليه بنصح ... 243
_ والشاب المسلم ينظر بنور الله ... 243
_ والشاب المسلم يؤمن بأَنَّ النظم الإسلامية الاقتصادية أرقى نظم يسعد بها البشر ... 243
_ والشاب المسلم لا يجعل أحكام الشريعة تابعة لهواه وشهواته ... 244
_ والشاب المسلم لا يسعى لمجالسة الجاحدين إلاَّ أن تدعوه إلى ذلك ضرورة ... 244
_ والشاب المسلم يمثل سماحة الإسلام ... 244
_ والشاب المسلم يعمل ليرضي ربه ... 244
_ والشاب المسلم قد تقتضي عليه ظروف خاصة بأن يسكت عن بعض ما هو حق..... ... 245
_ والشاب المسلم لا يزن الناس في مقام التفاضل بما يزنهم به العامة ... 245
_ والشاب المسلم يكسب المال، ليسد حاجات الحياة ... 245
_ والشاب المسلم لا يرفع رأسه كبراً وتعاظماً على الطيبين من الناس..... ... 245
_ والشاب المسلم يرفع رأسه عزة على من يَعُدُّون تواضعه خِسَة في النفس ... 246(1/365)
_ والشاب المسلم إذا رأى منكراً يفعل نهى عنه, وإذا رأى معروفاً يترك أمر به ... 246
38_ يا شباب العرب: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 247
تاسعاً: مقالان في المرأة ... 253
39_ دفاع عن الفضيلة: للشيخ علي الطنطاوي ... 254
40_ بين الزوجين: للشيخ علي الطنطاوي ... 263
_ كيف نصنع؛ ليسود البيت السلام، ويشمله الهدوء؟ ... 266
_ أولها: أن الزواج يبدأ بالحب والعاطفة ... 267
_ وثانيها: أن الرجل يغتفر لصديقه ما لا يغتفر لزوجته ... 267
_ وثالثها: أن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساء في أحسن حالاتهن قد طَلَيْنَ وجوهَهُنَّ ... 268
_ ورابعها: أنه لا بد من كل شركة أو جماعة من رئيس ... 269
_ وخامسها: أنه لا بد لدوام المودة من اغتنام الفرصة؛ لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه ... 269
عاشراً: مقالات في السياسة والإجتماع ... 271
41_ الصراع بين الإسلام وأعدائه: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 272
42_ ذوق صحفي بارد: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 279
43_ العرب المسلمون في كراسي الحكم: لمحب الدين الخطيب ... 280
44_ أيها المسلمون: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 283
45_ الحرية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 287
46_ العلماء وأولو الأمر: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 291
_ يقصد الإسلام لأن يخرج للناس أمة تجلها القلوب، وتهابها العيون ... 291
_ ولا تعتصم الأمة بهدي الله، ولا تظهر في قوة ومنعة إلا أن يقيض الله لها علماء، يملأ الخوف من الله قلوبهم ... 291
_ نلقي نظرة على تراجم العلماء، فنجد حالهم مع الأمراء يجعلهم على ثلاثة أصناف: ... 292
_ أولهم: عالم يضع نصب عينه رضا الله: ... 292
_ والعلماء الذين يقومون بواجب النصيحة للأمراء يختلفون في أساليب وعظهم ... 292
_ فمنهم من يسلك طريق الصراحة ... 292
_ ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح ... 293(1/366)
_ ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة ... 293
_ ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت ... 294
_ وإذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي ... 294
_ ثانيهم: عالم يذهب مذهب العزلة والبعد من ساحات الأمراء ... 294
_ وقد يبتعد العالم عن الأمراء الذين لا يعنون بتنقية ساحتهم من أقذاء المنكرات؛ كراهة أن يشاهد منكراً ... 294
_ ثالثهم: عالم يتردد على ساحة الأمراء، ويميل مع أهوائهم ... 295
_ ونلقي بعد هذا نظرة في حال الأمراء مع العلماء الذين يجاهرونهم بالنصيحة، أو يؤثرون الحق على أهواء الأمراء، فنجدهم ثلاثة أصناف: ... 297
_ أولهم: أمير تلقى إليه النصيحة فيأخذه التعاظم بالإثم، ويقابل الناصحين بوعيد، أو بعقوبة المجرمين ... 297
_ ثانيهم: أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظةَ تأتي على غير ما يهوى ... 297
_ ثالثهم: تأخذه اليقظة وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق وشكر الدعاة إليه ... 298
_ ولقبول الأمراء لنصح العلماء فضل لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الأمراء ... 299
_ الأمراء المستقيمون يرتاحون لوعظ أهل العلم ... 300
47_ الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً: للأستاذ عبدالباقي نعيم سرور ... 301
حادي عشر: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله ... 305
48_ ادع إلى سبيل ربك: للشيخ محمد النخلي ... 306
_ على ماذا أقيم الإصلاح؟ ... 306
_ ولما كان الإنسان محكوماً بطبعه..... ... 306
_ الداعي إلى سبيل ربك إنسانٌ طبعت في مرآة عقله حقائقُ الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر ... 307
_ الإحاطة بالمصالح الدنيوية والاطلاع على أمور الآخرة فوق متناول العقول ... 307
_ من ضرورة بقاء الدين قيام العلماء الحكماء، حافظين لجوهره النفيس ... 308
_ الإصلاح بالدين يقدر عليه من عرف طبيعة الدين ... 308
_ العالم المرشد محتاج إلى كبر الهمة ... 309
_ الحكمة ... 309
_ الموعظة الحسنة ... 309(1/367)
_ الجدال بالتي هي أحسن ... 310
49_ الانتقاد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 314
_ الانتقاد نوع من أنواع الاستحسان والاستهجان ... 314
_ المنتقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيباً في بعض ما يقول ... 315
_ لا يمنع الجاهل جهله من أن يكون رأيه في استحسان الكلام واستهجانه رأياً صائباً ... 315
_ لا يتبرم بالانتقاد ولا يضيق به ذرعاً إلا الغبي الأبله ... 316
50_ مقاصد الإسلام في إصلاح العالم: للعلامة محمد الخضر حسين ... 318
_ فمن مقاصد الإسلام تقويم العقائد ... 318
_ حارب الإسلام عقيدة الشرك بالله ... 319
_ وأمَّا الآراء فقد قصد الإسلام لتقويمها بطريقة عامة هي نهيه عن التقليد..... ... 319
_ وأمَّا الأخلاق فقد وجَّه إليها الإسلام جانباً كبيراً من عنايته ... 319
_ وأما العبادات التي هي صلة بين الخالق والمخلوق فقد قرر أوضاعها...... ... 319
_ وأمَّا المطعومات، فقد ذكر الطيبات...... ... 320
_ وأمَّا الملبوسات فقد حرم بعضها...... ... 320
_ وأما المراكب...... ... 320
_ وأما المعاملات بين الناس...... ... 320
_ وأما معاملة الحيوان...... ... 321
_ الإسلام أرشد إلى أشياء قَصَدَ لها قَصْدَ الوسائل التي لا تتحقق المقاصد الأصلية إلاَّ بها ... 321
51_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (1): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 322
_ حفظ الدين في ثلاثة مقامات: ... 322
_ أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال ... 322
_ وثانيها: مقام تجديد ما رثَّ من أصول الدعوة ... 323
_ وثالثها: مقام الذب عنه وحمايته ... 323
_ وبمقدار ما يكون عدد هؤلاء الفقهاء مبثوثاً بين المسلمين تكون حالتهم قريبة من الاستقامة ... 323
_ ومعنى التجديد إرجاع الشيء جديداً ... 326
_ ودين هذه الأمة الإسلام لا محالة، وهو اعتقاد، وقول، وعمل، وشريعة، وجامعة؛ فتجديده إرجاع هذه الأمور أو بعضها إلى شبابه، وقوته وجدّته ... 326(1/368)
_ دعائم الإسلام: ... 326
_ الدعامة الأولى: العقيدة ... 326
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 326
_ الدعامة الثانية: شرائع الإسلام ... 326
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 327
_ الدعامة الثالثة: جامعة الإسلام المسماة بالبيضة ... 327
_ ومبنى هذه الدعامة...... ... 327
_ معنى التجديد: ... 327
_ فالتجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح للناس في الدنيا ... 329
_ مُضِيُّ مائة سنة مظنة لِتَطَرُّق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد ... 329
_ ومن شأن الجيل إحداث أمور لم تكن في الجيل السابق ... 329
_ كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة؟ ... 330
_ أخطأ السبكي في تعيين المجددين من وجهين عظيمين وإن كانا خفيين: ... 332
_ أحدهما: إناطة ذلك بوقت ظهوره، أو انتشار أمره ... 332
_ الوجه الثاني: أنه جعل ابتداء عد رأس القرن من يوم الهجرة ... 332
_ رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه ... 332
52_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (2): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 335
_ التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده ... 335
_ فوجب أن يكون هذا المجدد قائماً بعمل مثمر تجديداً في هذا الدين ... 336
_ ويجب أن يكون المجدد في هذا المقام عالماً بالشريعة ... 336
_ ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع..... ... 337
_ ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين ... 337
_ وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجاله بالغاً حدَّاً قاصياً في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى ... 337
_ التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين ... 338
_ فكان ذلك مبدأ تجديد أمر الدين ... 339
53_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3): للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور ... 347
54_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 350
_ وكل ذلك تراه في نفس محمد " فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة ... 352(1/369)
_ تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر ... 354
_ وللعالَم كذلك وجهان: حاضرُه الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له ... 355
_ وللنظام أيضاً وجهان: نظامُ الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنَّفْرة منها ... 355
_ وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يسْتِيقِنُها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذةَ المغالبة للنصر ... 355
_ وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة..... ... 356
ثاني عشر: مقالات في العلم والتحقيق ... 359
55_ الإسلام والعلم: للعلامة محمد الخضر حسين ... 360
56_ العلم بالتأليف: للشيخ عبدالعزيز المسعودي ... 364
57_ العلم عند الله: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ... 368
_ فائدة المتعلم من علمه أمران مهمان: ... 370
_ أحدهما: تفقهه في نفسه الذي يرفع عنه رجس الجهالة ... 370
_ وثانيها: وهي الغاية العامة والمصلحة الشاملة إنذار قومه وأمته ... 370
_ كشف الرجس عن الأمة بثلاثة أمور: ... 373
_ الأمر الأول: أن يقذفوا في قلوب الأمة جمعاء الإقناع بمبدأ واحد ... 373
_ الأمر الثاني: تعميم التعليم بين سائر أفراد الأمة ... 374
_ الأمر الثالث: أن يصلوا بتعميم التعليم إلى مبادئ العلوم المحتاج إليها ... 374
ثالث عشر: مقالات في اللغة والأدب ... 377
58_ الاستشهاد بالحديث في اللغة: للشيخ محمد الخضر حسين ... 378
_ يستند علماء العربية في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأصول النحوية إلى القرآن المجيد، وكلام العرب الخُلَّص ... 378
_ ما المراد بالحديث؟ ... 378
_ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب؟ ... 379
_ الخلاف في الاحتجاج بالحديث ... 380
_ وجهة نظر المانعين ... 381
_ وانتفت الثقة من أنه لفظ الرسول لأمرين: ... 381
_ أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى ... 381
_ ثانيهما: أنه وقع اللحن في كثير مما روي من الأحاديث ... 382(1/370)
_ وجهة نظر المجوزين ... 382
_ مناقشتهم لأدلة المانعين ... 383
_ أنواع الأحاديث التي لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج بها في اللغة: ... 391
_ أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته _ عليه الصلاة والسلام _ ... 391
_ ثانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها، أو أمر بالتعبد بها ... 392
_ ثالثها: ما يروى شاهداً على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم ... 392
_ رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها ... 392
_ خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة ... 392
_ سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى ... 392
_ أنواع الأحاديث التي يصح الاختلاف في الاستشهاد بألفاظها والتي دونت في الصدر الأول: ... 393
_ أما الحديث الوارد على وجه واحد..... ... 393
_ وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية..... ... 394
_ خلاصة البحث ... 395
59_ الأدب وأثره في الحياة: للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم ... 396
60_ الجملة القرآنية: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 398
61_ عمر بن عبدالعزيز والشعراء: للأستاذ محمود محمود ... 407
62_ فن الكلام: للشيخ علي الطنطاوي ... 411
63_ وقاحة الأدب =أدباء الطابور الخامس+: للأستاذ محمود شاكر ... 419
_ نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية ... 419
_ وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة ... 419
_ وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة ... 419
_ وعقيدة هذا الطابور الخامس أن حرية الفن يجب أن لا تتقيَّد بمصلحة الجماعة ... 422
_ فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين ... 423
_ أعطي الإنسان مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين: ... 424(1/371)
_ فالحقيقة الأولى: هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية ... 224
_ والحقيقة الأخرى: هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية، والتقليد من ناحية أخرى ... 224
رابع عشر: مقالان في السيرة النبوية ... 427
64_ مولد الإنسانية: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب ... 428
65_ محمد ": للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار ... 439
خامس عشر: مقالات في الطب ... 443
66_ كلمة في المسكرات: للشيخ محمد الخضر حسين ... 444
_ يفضل الإنسان على سائر الحيوان بمزية العقل ... 444
_ فالنوم يعطل هذه القوة، ويلحق الإنسان بالخشب المسندة ... 444
_ للفساد الذي ينشأ من تناول المسكرات ضروب متفرقة ... 444
_ تَذْهَبُ المسكرات بعقل من يتناولها ... 445
_ ومن مفسدات المسكرات أنها تندفع بالشهوات إلى الفسوق ... 446
_ وكم من مشاجرات تعالت فيها أصوات، وأصيبت فيها جسوم، وما هي إلا أثر من آثار تعاطي المسكرات ... 446
_ وفي المسكرات فوق هذه المفاسد إنفاق المال في غير فائدة ... 447
_ وفيها صرف القلوب عن القيام بكثير من حقوق الخالق ... 447
67_ الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار: للشيخ محمد الخضر حسين ... 448
_ كيف نقلت الأدوية المفردة إلى اللغة العربية؟ ... 449
68_ طرق وضع المصطلحات الطبية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 456
المحتويات ... 471
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الأولى
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري
8_ أخلاق الناس: د. زكي مبارك(1/372)
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة محمد الخضر حسين
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
25_ لبيك اللهم لبيك: لمحب الدين الخطيب
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين
سابعاً: مقالات في السياسة والإجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد
35_ العلماء والإصلاح: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكيم: لأمير البيان شكيب أرسلان
37_ تصحيح الكتب: للعلامة الشيخ أحمد شاكر(1/373)
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للشيخ محمد الخضر حسين
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
45_ مجلس رسول الله ": للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
ثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
49_ موت أم: مصطفى صادق الرافعي
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الثانية
أولاً: مقالات في السعادة
1_ فن السرور: للأستاذ أحمد أمين
2_ الابتهاج بالحياة: للأستاذ أحمد أمين
3_ الإيمان ينبوع السعادة: للأستاذ أحمد أمين
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
4_ التربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
5_ التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم: للشيخ علي فكري
6_ صحة التفكير: للعلامة محب الدين الخطيب
7_ أول درس ألقيته: للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات
8_ حقوق المعلمين الأحرار على الأمة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
9_ حقوق الجيل الناشئ علينا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
10_ ثبات الأخلاق: للأديب مصطفى صادق الرافعي
11_ سجايا العرب في التراث الإسلامي: للعلامة محب الدين الخطيب
12_ الوفاء في العربي: للأستاذ محمد الطيب النجار
13_ التضحية: للأستاذ أحمد أمين(1/374)
14_ الحياء: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
15_ صدق اللهجة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
16_ من أخلاقنا: للشيخ علي الطنطاوي
17_ إشاعة السوء وموقف الإسلام منها: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
18_ البخيل: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
19_ الآداب العامة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
20_ النجاح في الحياة: للأستاذ أحمد أمين
21_ العمل والبطالة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
22_ الواجب: للأستاذ عبدالسلام الشربيني
23_ الغني والفقير: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ متاعب الحياة: للأستاذ أحمد أمين
25_ كبر الهمة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
26_ مدنية الإسلام والعلوم العصرية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
27_ مدنية الإسلام والخطابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
28_ تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات: للعلامة محمود شاكر
سادساً: مقالات في الشباب
29_ نهوض الشباب بعظائم الأمور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
30_ إلى شباب محمد: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
31_ كيف يتقي الشباب أخطار الشباب: للأستاذ علي سيد أحمد منصور
32_ إلى الشباب: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
سابعاً: مقالات في العبادات والعادات
33_ يوم عاشوراء وعادات الناس: للشيخ علي محفوظ
34_ الصيام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
35_ الحج المبرور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
36_ عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد: للعلامة محب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في السياسة والاجتماع
37_ الشورى في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
38_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته: للعلامة محب الدين الخطيب
39_ معدن سليم كريم: للعلامة محب الدين الخطيب
40_ حقيقة المسلم: للأديب مصطفى صادق الرافعي(1/375)
41_ حركة الإسلام في أوربا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
42_ داء المسلمين ودواؤهم: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
43_ حالة المسلمين: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
44_ الشعور السياسي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
45_ الدعوة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ الدعوة إلى الخير: للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
47_ عذاب المصلحين: للأستاذ أحمد أمين
48_ الدعوة الشاملة الخالدة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
49_ قرآن الفجر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
50_ كلمة الحق: للشيخ العلامة أحمد محمد شاكر
51_ أدب المناظرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
عاشراً: مقالات في العلم والتحقيق
52_ العلم والعقل: للشيخ عبدالقادر المغربي
53_ الإنسان على الأرض: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
54_ عمر الإنسان: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
55_ الفلسفة والعلم والدين: للشيخ عبدالباقي سرور
حادي عشر: مقالات في اللغة والأدب
56_ طرق الترقي في الكتابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
57_ اللغة والأمة: للأستاذ محمد صادق عنبر
58_ البيان: للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
59_ قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
ثاني عشر: مقالات في السيرة النبوية
60_ قدوتنا الأعظم: للعلامة محب الدين الخطيب
61_ من إلهامات الهجرة: للعلامة محب الدين الخطيب
62_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور
ثالث عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
63_ تعاون العقل والعاطفة على الخير: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
64_ الخوف: للأستاذ أحمد أمين
65_ التعصب: للأستاذ أحمد أمين
66_ روح السماحة: للأستاذ أحمد أمين(1/376)
67_ من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
68_ عبرة الموت: للأستاذ أحمد أمين(1/377)