بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فهذه هي المجموعة الأولى من (مقالات لكبار كُتَّاب العربية في العصر الحديث).
وقبل الكلام على هذه المقالات يحسن الكلام على المقالة من حيث نشأتها، ومفهومها، وموضوعها، وأنواعها، إلى غير ذلك مما يدور في هذا الفلك.
فالمقالة _ أو المقال _ باب عظيم من أبواب العلم، وطريق واسع لنشر الفكر والتأثير في الناس.
ولقد عُرفت بعد ظهور المطابع، وانتشار الصحافة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وذلك حين أنشئت صحيفة الوقائع المصرية، ثم بلغت الصحافة أوجها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، حيث ازدهرت حركتها في البلاد العربية، وصارت عِمَادَ الكُتَّاب، والأدباءِ، والقالبَ الذي يصبُّون فيه أفكارهم، وينشرونها بين الناس.
وليست المقالة غريبة عن الأدب العربي القديم _ وإن تغيَّرت صيغها، وشروطها_.
فعبدالحميد الكاتب حين كان يتكلم عن الصيد، أو الكتابة كان يكتب شيئاً قريباً من المقالة، والفصول الأدبية التي أنشأها ابن المقفع في الأدب الصغير والأدب الكبير كانت أشبه بالمقالات المطوَّلة.
وكذلك صنيع الجاحظ في البخلاء، والبيان والتبيين، والمحاسن والأضداد؛ فهي مقالات مطوَّلة تنقصها بعض شروط المقالة الحديثة.
أما في العصر الحديث فقد أخذت المقالة لوناً آخر؛ فصار لها طابع مميَّز؛ فهي قطعة نثريَّة يعرض فيها الكاتب قضيةً أو فكرة بطريقة مُنَظَّمة مشوِّقة.
والمقالة محدودة الحجم، لا يتوسَّع فيها الكاتب كثيراً.
أما موضوعاتها فكثيرة متنوِّعة؛ فهناك المقالة الدينيَّة، التي يتناول كاتبها باباً من أبواب الدين سواء كان في الاعتقاد، أو الأحكام، أو السلوك، أو الأخلاق، أو السيرة، أو يكتب عن قضيَّة من قضايا الإسلام والمسلمين، أو نحو ذلك.(1/1)
وهناك المقالة الاجتماعية، وهي التي يعالج فيها كاتبها أدواء المجتمع، وأمراضه كالجهل، والفقر، والعادات السيئة، ونحو ذلك؛ فيشخِّص تلك الظاهرة، ثم يقوم بتحليلها، وعرضها بطريقة تجتذب القارئ، ثم يتوصَّل من خلال ذلك إلى العلاج.
وهناك المقالة السياسيَّة التي تتعرَّض لتحليل موقف، أو قضيَّة، أو ما شاكل ذلك.
وهناك المقالة النَّقديَّة، وهي التي يَعْمَدُ صاحبها إلى نَقْدِ عملٍ علميٍّ، أو أدبيٍّ نقداً يجلو محاسنه، ويكشف عن عيوبه بأسلوب مبنيٍّ على أساس من الإلمام بالضوابط والمعايير النَّقديَّة.
والمقالة النَّقديَّة إذا أحسن كاتبها، وَوُفِّقَ في طريقة نقده كانت مدرسة للتهذيب.
وهناك المقالة الوصفيَّة، وهي أرحب ميداناً؛ لأن كاتبها يستطيع أن يتناول أيَّ مجال من مجالات الحياة، فيصفه وصفاً يصوِّره لمن لم يره، وكأنَّه يراه رأيَ العين.
غير أنَّ هذا النوع يُحتاج فيه إلى دقَّة الملاحظة، وصدق التصوير، وشمول النظرة.
وبالجملة فموضوع المقال يتَّسع لكلِّ شيء في الوجود من تعبير عن عاطفة، أو رغبة، أو رهبة، أو فكرة.
وهناك تقسيم آخر للمقالة، حيث يقسمها بعض النُّقَّاد والأدباء إلى نوعين كبيرين: أحدهما: المقال الذاتي، أو المقالة الذَّاتيَّة، والآخر هو المقال الموضوعيُّ، أو المقالة الموضوعيَّة.
أمَّا المقال الذَّاتيُّ فهو الذي يرتبط بالكاتب، فَتَظْهَرُ من خلاله شخصيَّتُهُ قويَّةً آسرةً؛ حيث يعرض لبعض القضايا ممزوجة بمشاعره، ويستخدم فيه الأسلوب الأدبيَّ.
أمَّا المقال الموضوعيُّ فيُبْعِد فيه الكاتبُ عواطفَه، وقضاياه الشَّخصيَّة، فَتَنْصَبُّ عنايتُه على الموضوع، ويقدِّم الحقائق كما هي، ويستخدم الأسلوب العلميَّ، فيجمع مادَّته، ويرتِّبها، ويعرِضها بصورة منطقيَّة متسلسلة، وبعبارات واضحة.(1/2)
غير أنَّ الفصل بين هذين النوعين قد يكون صعباً؛ فالمقالة تنسب إلى أظهر الموضوعين، أو إلى السبب في إنشائها، وهذا قد يخفى إذا لم يدلَّ اللفظ عليه.
ثم إنَّ هناك بعضَ الاختلاف بين مقالة الصَّحيفة ومقالة المجلَّة؛ فبينما تتَّسم مقالة الصحيفة باليسر والسهولة في لفظها وأسلوبها فإنَّ العمق، والجزالة، من سمات مقالة المجلَّة.
والمقالة الصَّحفيَّة زادٌ يوميٌّ قد ينتهي بانتهاء يومه غالباً، بينما مقالة المجلَّة تحمل قابليَّة البقاء، بل هي أقرب إلى البحث، بل قد تكون بحثاً.
ومقالة الصحيفة طابِعُها القِصَر، ولا يُصَارُ فيها إلى الإطالة إلا نادراً، وعكسها مقالة المجلَّة.
وهكذا عُرِفَت المقالة، وصار لها منهجها المميَّز، وطريقتها التي سار عليها الكُتَّاب إلى يومنا الحاضر(1).
ولا ريب أنَّ الفترة الذَّهبيَّة للمقالة كانت _ كما مرَّ ذكره _ في النِّصف الأوَّل في القرن الرابع عشر إلى ما يقارب العقد السابع من ذلك القرن؛ حيث ازدهرت، وراج سوقها في كثير من البلاد العربيَّة خصوصاً في الشام ومصر، وظهر في ذلك الوقت كُتَّاب أفذاذ يضارعون الكُتَّاب الأوائل في أساليبهم الراقية، وتحريراتهم العالية.
وفي ذلك الوقت حرصت الصحفُ والمجلاَّت على استقطاب أكابر الكُتَّاب والعلماء؛ فصارت ميداناً فسيحاً لنشر الأدب، والعلم، والنَّقد، والرُّدود، وما جرى مجرى ذلك.
ولقد يسَّر الله لي فرصة الاطلاع على كثير من تلك المقالات، سواء عبر أعداد تلك الصحف والمجلات، أو عبر الكتب التي جمعت تلك المقالات.
ومهما يك من انتشار تلك المقالات، وشهرة أصحابها في ذلك الوقت _ فإنه يبقى محدوداً إذا ما قِيس بانتشارها وسهولة تداولها في عصرنا هذا.
__________
(1) انظر =في الأدب الحديث+ لعمر الدسوقي، 1/514_525، و=الأدب العربي وتاريخه _ العصر الحديث+، د.محمد بن سعد بن حسين، ص88_91، و=النقد الأدبي+ د.عبدالباسط بدر.(1/3)
ثمَّ إنَّ كثيراً مما نُشِر آنذاك قد انطوى، ودَرَس، ويُخشى أن تَطَالَهُ يدُ النِّسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع؛ فيُحرمَ هذا الجيلُ خيراً عظيماً من ذلك التُّراث، ومن تلك التَّجارب التي تسمو بهمَّة قارئها، وترتقي بأساليبه الكتابيَّة أو الخطابيَّة، وتكسبه خبرة ودراية، وتختصر عليه كثيراً من الوقت والجهد، وتوقفه على مدى ما وصلت إليه العقول في تلك الفترة، وتُقْصِره عن كثير من البحث في الأطروحات التي طرقت، وقتلت بحثاً، وأخذاً، ورداً.
كما أن بعض تلك المقالات قد خرجت في طباعة رديئة، ولم تراع فيها قواعد الترقيم؛ مما قد يغلق فهمها على كثير من القراء.
ومن هنا نشأت فكرة جمع شيء من تلك المقالات، وانتقائها، وإعدادها للنَّشر إعداداً ملائماً؛ لعلَّها تحقِّق الأغراض السابقة، وتمد قارئها بقسط وافر من العلم والفكر، وتفتح له آفاقاً من المعرفة والتَّجربة، وتوقفه على شيء من تلك الأساليب البيانيَّة الرَّاقية، وتُعرِّف القارئ بكُتَّاب في بلاد لم تأخذ حظَّها الكافي من الدِّراسة والبحث، فيظن بعض الناس أنَّها خِلْوٌ من الفكر والكتابة، مع أنَّها قد بلغت الذُّروة في العلم، والأساليب، كما هو الحال في بلاد تونس، والجزائر _كما سيتبيَّن من قراءة بعض ما خطَّتْهُ أنامل بعضِ العلماء والكُتَّاب هناك _.
ولقد احترت كثيراً في الطريقة الملائمة لنشر تلك المقالات: هل تنشر كلُّ كتابة في موضوعٍ ما على حِدَةٍ، وتخرج في أجزاء متعدِّدة كلُّ جزء يدور حول موضوع معيَّن؟
أو تجمع مقالات كلِّ كاتب، وتوضع في جزء وهكذا؟
أو يخرج ما تيسَّر منها، ثمَّ يخرج الباقي تباعاً ؟
وأخيراً استقرَّ الأمر _ بعد مشورة واستخارة _ على أن تخرج في مجموعات، وكلُّ مجموعة تحتوي على عدد من الموضوعات لعدد من الكُتَّاب؛ حتَّى يجد القارئ في كلِّ مجموعة ما يلائم ميوله أياً كان مع مراعاة قرب بعض تلك المقالات من بعض في الموضوع.(1/4)
وكل ذلك على سبيل التقريب، ومن باب تيسير القراءة، وطرد الملل.
وإلا فالمقال الواحد قد يكون داخلاً في أكثر من باب؛ لتداخل المقالات، وصلاحيَّة بعضها ليكون في أكثر من موضع.
وليس الغرض من نشر هذه المقالات تقييمَ هؤلاء الكُتَّاب، أو وزنهم، وبيان ما لهم وما عليهم.
وإنما الغرض الإفادة، والاطلاع على نتائج تلك القرائح، وما جرى مجرى ذلك ممَّا ذكر آنفاً.
ولعل ما نشر في هذه المجموعة خير ما تركوه من ثروة علمية.
ولعله _ أيضاً _ سبيل لنشر علمهم، وتعريف الناس بهم، وإيصال الأجر والثواب إليهم.
ثمَّ إنَّ ترجمة هؤلاء الكُتَّاب جميعاً لا تتسنَّى؛ لتعسُّر ذلك، ولكن سيكون ترجمة موجزة لأكابر أولئك، وذلك عند أوَّل مقال يُنْشَر لهم.
كما أن بعض الكتاب ليس مشهوراً، وإنما وجدت له مقالات طيبة في تلك الصحف، فكانت ضمن ما وقع عليه الاختيار.
وكم كانت الأمنية أن تتناول هذه المجموعة وما يليها أكبر قدر من الكُتَّاب في شتى البلاد، ولكن ذلك قد لا يتأتى.
وهذه المجموعة تشتمل على أبواب متفرقة، وموضوعات متنوعة؛ في العلم والدعوة، وفي الإصلاح، وبيان أصول السَّعادة، وفي الأخلاق والتَّربية، وفي السِّياسة والاجتماع، وفي قضايا الشَّباب والمرأة، وفي أبواب الشِّعر والأدب، وفي العربيَّة وطرق التَّرقِّي في الكتابة، كما أنها تشتمل على مقالات في السِّيرة النبويَّة، وبيان محاسن الإسلام، ودحض المطاعن التي تثار حوله.
وسيجد القارئ فيها جِدَّة الطَّرح، وعمقه، وقوَّته، وطرافةَ بعض الموضوعات، ونُدرةَ طرقها.
وسينتقل من خلالها من روضة أنيقة إلى روضة أخرى، وسيجد الأساليب الرَّاقية المتنوِّعة؛ إذ بعضها يميل إلى الجزالة والشَّماسة، وبعضها يجنح إلى السُّهولة والسَّلاسة، وهكذا.
وقد يخطر ببال القارئ أن بعض المقالات يكفي قراءة عنوانها؛ فيقصره ذلك عن قراءة بقية المقال.(1/5)
ولو قرأ المقال لربما رأى فيه ما لم يكن يدور في خلده من نفيس العلم، ودقيق الفهم، وجمال العرض.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ويكفي في ذلك مقال: (مجلس رسول الله") للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×.
ولا يغيب عن فطنة القارئ الكريم أنَّ تلك الكتابات قد أنشئت في زمن مظلم؛ فالاحتلال كان ضارباً بجرانه في كثير من بلاد المسلمين، والشيوعيَّة كانت في عزِّ أوجها وبريقها، والجهل والهزيمة النَّفسيَّة كانا شائعين في ذلك الوقت.
وهذا يدفع إلى تقدير ما قام به أولئك الكُتَّاب، وإلى التماس العذر لهم فيما فاتهم، أو قصَّروا به إن وُجِد شيء من ذلك.
وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوَّة إلى مراجعها، ومُشَارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.
كما أنَّ بعضها قصير، وبعضها متوسِّط، وبعضها مطوَّل أقرب ما يكون إلى البحث العلمي.
وقد أبقيت تلك المقالات كما هي، وربَّما حَذَفْت من بعضها _وهو قليل_ ما قد يُستغنى عنه، وما لا يخلُّ بأصل الموضوع، خصوصاً إذا كان يحتاج إلى مناقشة، أو كان فيه إلباس على بعض القراء، أو ما كان مشتملاً على تسويغ بعض البدع، وما إلى ذلك.
وما كان الغرض _ كما مرَّ _ هو محاكمة الكاتب، بل إنَّني أحاول جهدي ألا أتعرَّض لأيِّ مقال بانتقاد أو اعتراض إلا ما لا بدَّ منه من إيضاح معنى، أو إزالة إشكال، وهو قليل جدًّا؛ لأجل ألا أقطع على القارئ استرساله، ومتعته.
وأكثر الهوامش إنما هي من صنع الكتاب، وأما ما أعلق به فسيكون مختوماً بحرف (م) حتى يتميز عن الأصل.
وإليك مسرداً بعنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها هذه المجموعة:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين.
2_ السعادة: للشيخ علي الطنطاوي.
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتها: للعلامة أحمد تيمور باشا.(1/6)
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين.
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري.
8_ أخلاق الناس: د. زكي مبارك.
9_ الوفاء: للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي.
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين.
11_ مضار الإسراف: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب.
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين.
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر.
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
17_ الشباب المحمدي: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين.
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين.
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار.
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ.
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي.
25_ لبيك اللهم لبيك: للعلامة محب الدين الخطيب.
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين.
سابعاً: مقالات في السياسة والإجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين.
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
31_ المجاهدون الأولون: للعلامة محب الدين الخطيب.
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي.
34_ الأذان: للأديب عباس محمد العقاد.(1/7)
35_ العلماء والإصلاح: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان.
37_ تصحيح الكتب: للعلامة أحمد شاكر.
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور.
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر.
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا.
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
45_ مجلس رسول الله": للعلامة محمد الطاهر بن عاشور .
الثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين.
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
49_ موت أم: مصطفى صادق الرافعي.
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أسأل الله العليَّ القدير أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزيَ خير الجزاء من أعان على إخراجه مقابلةً، ومراجعةً، ومتابعةً.
كما آمل من القارئ الكريم أن يمدني بملحوظاته، واستدراكاته، وله جزيل الشكر، وخالص الدعاء.
والله المستعان وعليه التكلان.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد. ...
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور(1/8)
ابتسم للحياة (1) الأستاذ أحمد أمين(2)
لا شيء يضيع ملكات الشخص ومزاياه كتشاؤمه في الحياة، ولا شيء يبعث الأمل، ويقرب من النجاح ويُنَمِّي الملكات، ويبعث على العمل النافع لصاحبه وللناس، كالابتسام للحياة.
ليس المبتسمون للحياة أسعد حالاً لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسئولية، وأصلح لمواجهة الشدائد، ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس.
__________
(1) فيض الخاطر (وهو مجموع مقالات أدبية واجتماعية) 6/125_ 129.
(2) هو الأديب والكاتب المصري الشهير صاحب المؤلفات المشهورة كفجر الإسلام، وضحى الإسلام، وفيض الخاطر، وحياتي وغيرها، توفي× عام 1954م.
وإليك هذه الكلمة التي كتبها عنه الشيخ العلامة الجزائري محمد البشير الإبراهيمي بعد وفاته: =فمقدمة صفوف العلماء والأدباء الأستاذ أحمد أمين، وهو من أعيان علماء العصر، وألمع أدبائه.
ولقد تركت وفاته ثُلمة في صفوف العلماء والأدباء لا إخالها تسد في هذا الجيل.
ومن يخلف أحمد أمين في دقة البحث، والتعمق، والتوجيه، وأصالة الرأي، والنقد النزيه.
تمتاز آثاره العلمية بتلك المميزات، وبالنزعة الدينية من غير تعصب، أو تزمت، وهو رجل هادئ في بحوثه، صبور دؤوب يحترم نفسه، ويحترم قراءه، وأقسم يميناً برة أني ما قرأت له شيئاً إلا وخرجت بفكرة قويمة، وفائدة عظيمة.
عرفناه _ كما عرفه غيرنا من قراء العربية _ على صفحات مجلتي الرسالة، والثقافة، وكتاب فجر الإسلام، وما تسلسل بعد من الضحى، والظهر، وكتاب يوم الإسلام، وكتاب حياتي فكان إعجابي به يتعاظم+ انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 4/ 105.(1/9)
لو خُيَّرتُ بين مال كثير، أو منصب خطير، وبين نَفْسٍ راضية باسمة _ لاخترت الثانية؛ فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما كل ما في الحياة إذا كان صاحبه ضيقاً حرجاً كأنه عائد من جنازة حبيب؟ وما جمال الزوجة إذا عبست، وقلبت بيتها جحيماً؟ لَخَيْرٌ منها ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال، وجعلت بيتها جنة.
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثةً عن نفس باسمةٍ، وتفكير باسمٍ، وكل شيء في الطبيعة جميلٌ باسمٌ منسجمٌ، وإنما يأتي العبوس مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ، فالزهر باسم، والغابات باسمة، والبحار، والأنهار، والسماء، والنجوم، والطيور كلها باسمة، وكان الإنسان بطبعه باسماً لولا ما يعرض له من طمع، وشر، وأنانية تجعله عابساً؛ فكان بذلك نشازاً في الطبيعة المنسجمة.
ومن أجل هذا لا يرى الجمالَ مَنْ عَبَستْ نفسُه، ولا يرى الحقيقةَ مَنْ تدَنَّس قلبه؛ فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله، وفكره، وبواعثه؛ فإذا كان العمل طيباً، والفكر نظيفاً، والبواعث طاهرة _ كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقياً، فرأى الدنيا جميلة كما خلقت، وإلا تغبَّش منظاره، واسْوَدَّ زجاجُه، فرأى كل شيء أسودَ مغبَّشاً.
هناك نفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاءًا، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ، فاليوم أسود؛ لأنَّ طبقاً كُسِرْ ولأنّ نوعاً من الطعام زاد الطاهي في ملحه، أو أنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج، وتسب، ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار.
وهناك رجل ينغِّص على نفسه، وعلى مَنْ حوله مِنْ كلمة يسمعها، أو يؤولها تأويلاً سيئاً، أو من عمل تافهٍ حدث له، أو حدث منه، أو من ربح خسره، أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث، أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يُسَوِّدها على من حوله.(1/10)
هؤلاء عندهم قدرة المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة، ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كثيراً، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيماً.
الحياة فنٌّ، وفنٌّ يُتَعَلَّم، ولَخيرٌ للإنسان أن يَجِدَّ في وضع الأزهار، والرياحين، والحب في حياته من أن يَجِدَّ في تكديس المال في جيبه، أو في مصرفه.
ما الحياة إذا وجهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجه أي جهد لترقية جانب الجمال، والرحمة، والحب فيها؟
أكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمباهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء، والأزهار الجميلة، والماء المتدفق، والطيور المغردة؛ فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يأتي، ودينار يخرج.
قد كان الدينار وسيلة للعيشة السعيدة، فَقَلبوا الوضع، وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار، وقد رُكِّبت فينا العيون؛ لنظر الجمال، فعودناها ألا تنظر إلا إلى الدينار.
ليس يعبس النفس والوجه كاليأس؛ فإن أردت الابتسام فحارب اليأس.
إن الفرصة سانحة لك وللناس، والنجاحَ مفتوحٌ بابُه لك وللناس؛ فَعَوِّد عقلك تَفَتُّحَ الأمل، وتوقُّعَ الخير في المستقبل.
إذا اعتقدت أنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير، وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور شعرت بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة، والغرض الأسمى.
ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعر بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين؛ فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض، حدد غرضك، وليكن سامياً صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطواً جديداً.(1/11)
إنما يصد النفس، ويعبِّسُها، ويجعلها في سجن مظلم _ اليأسُ، وفقدان الأمل، والعيشة السيئة برؤية الشرور، والبحث عن معايب الناس، والتشدق بالحديث عن سيئات العالم لا غير.
وليس يُوفَّق الإنسان في كل شيء كما يوفق إلى مربٍّ ينمي ملكاتِه الطبيعيةَ، ويعادل بينها، ويوسع أفقه، ويعوِّدُه السماحة وسعة الصدر، ويعلمه أن خير غرض يسعى إليه أن يكون مَصْدَرَ خيرٍ للناس بقدر ما يستطيع، وأن تكون نفسه شمساً مشعةً للضوء، والحب، والخير، وأن يكون قلبه مملوءاً، عطفاً، وبراً، وإنسانية، وحباً لإيصال الخير لكل من اتصل به.
النفس الباسمة ترى الصعاب فيلذها التغلب عليها، تنظرها فتبسم، وتعالجها فتبسم، وتتغلب عليها فتبسم، والنفس العابسة لا ترى صعاباً فتخلقها، وإذا رأتها أكبرتها واستصغرت همتها بجانبها، فهربت منها، وقبعت في جحرها تسب الدهر والزمان والمكان، وَتَعلَّلَتْ بلو، وإذا، وإن.
وما الدهر الذي يلعنه إلا مزاجه وتربيته، إنه يود النجاح في الحياة ولا يريد أن يدفع ثمنه، إنه يرى في كل طريق أسداً رابضاً، إنه ينتظر حتى تمطر السماء ذهباً، أو تنشق الأرض عن كنز.
إن الصعاب في الحياة أمور نسبية؛ فكل شيء صعب جداً عند النفس الصغيرة جداً، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة، وبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقماً بالفرار منها، وإنما الصعاب كالكلب العقور إذا رآك خفت منه، وجريت نبحك وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به، ولا تُعِيرُه اهتماماً، وتبرق له عينك أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.
ثم لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها، وصغر شأنها، وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير.
هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه، والإيمان بقوتها؛ فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته، وفي إمكان نجاحه، وعالجه بفتور؛ ففشل فيه.(1/12)
الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرورَ اعتماد النفس على الخيالِ، وعلى الكبرِ الزائفِ، والثقةَ بالنفس اعتمادُها على مقدرتها على تحمل المسؤولية، وعلى تقوية ملكاتها، وتحسين استعدادها.
وبَعْدُ: فالشرق في حاجة كبرى إلى كميات كبيرة من الابتسامات الصادقة الدالة على النفوس الراضية الآملة الطامحة.
سِرْ أنى شئت في الشوارع، واغشَ المنتدياتِ والمجتمعات، وَتَفرّسْ في الوجوه، فقلما ترى إلا وجوهاً مُقَطِّبة الجبين، ورؤوساً أثقلها الهم، فخفضها، وعيوناً ساهمةً قد فقدت بريق السرور، ولمعان الحيوية.
استنن الضحكات العالية في مجالي اللهو، وأماكن التنادر، فهل ترى إلا العبوس وما يشبه العبوس، واستبعد البسمات المزيفة المتصنعة في المقابلات، والمجاملات، وانفذ منها إلى أعماق النفوس، فهل ترى إلا انقباضاً وانكماشاً؟
فما السر في هذا كله؟
سِرُّهُ في تعاقبِ الظُّلم على الشعوب من زمن قديم حتى سلبها حريَّتَها، وهل تَبَسَّمُ النفسُ إلا للحرية، وهل تَنقبضُ إلا من الاستبداد؟!
وسرُّه في الفقر الشامل لأكثر أفراد الشعب، فهم يحملون الهم المضني، كيف يأكلون ويعيشون، وكيف يسدون حاجات أسرتهم ومَنْ تعلَّق في رقبتهم، والمنافذ ضيقة في وجوههم، وأكثر الثروة قد ضاعت من أيديهم.
وسرُّه في ضعف التربية التي لا تفتح النفس للحياة، وتكتفي بالعلم الجاف.
وسره في أننا إلى الآن لم نتعلم فن الحياة، ولم نسمع به في برامج الدراسة، ولم نره لا في بيوتنا، ولا في مدارسنا، ولا عند خطبائنا وكتابنا.
وسره أننا لم نستشعر الثقة بالنفس؛ فلا الفرد يثق بنفسه، ولا المواطن يثق بمواطنه، ولا رجال الإدارة والأعمال يثقون بمواطنيهم، ولا الناس يثقون بأولي الأمر فيهم.
فلنتغلب على هذه الصعوبات جميعاً، ولنبسم للحياة ولو تَكَلُّفاً ينقلب التكلف بعد حين تَطَبُّعاً.(1/13)
ابسم للطفل في مهده، وللصانع في عمله، وابسم لأولادك وأنت تربيهم، وابسم للتاجر وأنت تعامله، وابسم للصعوبة تعترضك، وابسم إذا نجحت، وابسم إذا فشلت، وانثر البسمات يميناً وشمالاً على طول الطريق؛ فإنك لن تعود للسير فيه.
السعادة(1) للشيخ علي الطنطاوي(2)
كنتُ أَقْرَأُ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك، فأزعَجه عن عمله، و قطع عليه فكره.
فلما ضاق به بعث خادمه؛ ليشتريه، و يذبحه، و يطعمه من لحمه، و دعا إلى ذلك صديقاً له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدِّثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجده بعده من لذة وراحة، ففكَّر في أمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه.
__________
(1) نشرت في سنة 1948م، وهي في كتاب (صور وخواطر) للشيخ علي الطنطاوي×.
(2) هو الشيخ الأديب علي بن مصطفى الطنطاوي، ولد في مدينة دمشق 1327هـ، لأسرة ذات علم ودين.
أصله من مدينة طنطا في مصر حيث انتقل جده محمد بن مصطفى في أوائل القرن التاسع عشر إلى دمشق.
تلقى الشيخ علي الطنطاوي دراسته الابتدائية الأولى في العهد العثماني، فكان طالباً في المدرسة التجارية، ثم في المدرسة السلطانية الثانية وبعدها في المدرسة الجقمقية، ثم في مدرسة حكومية أخرى إلى سنة 1923 حيث دخل مكتب عنبر الذي كان الثانوية الوحيدة في دمشق، ومنه نال البكالوريا سنة 1928، ثم ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، ولكنه لم يتم السنة، وعاد إلى دمشق في السن التالية، فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس سنة 1933.
كان الشيخ علي الطنطاوي من الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ، والدراسة في المدارس النظامية، فقد تعلم في هذه المدارس إلى أن تخرج من الجامعة، وكان يقرأ معها على المشايخ علوم العربية والعلوم الدينية على الأسلوب القديم.
=(1/14)
ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح !(1)
__________
(1) = ابتدأ الطنطاوي التدريس في المدارس الأهلية في دمشق وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقد طبعت محاضراته التي ألقاها على طلبة الكلية الوطنية في دروس الأدب العربي عن (بشار بن برد) في كتاب عام 1930.
بعد ذلك عين معلماً ابتدائياً في مدارس الحكومة سنة 1931.
عام 1936 انتقل الطنطاوي للتدريس في العراق حتى عام 1939، لم ينقطع عنه غير سنة واحدة أمضاها في بيروت مدرساً في الكلية الشرعية فيها حتى عام 1937.
ثم رجع إلى دمشق فعين أستاذاً معاوناً في مكتب عنبر.
عام 1941 دخل الطنطاوي سلك القضاء، فعين قاضياً في النبك مدة أحد عشر شهراً ثم قاضياً في دوما (من قرى دمشق)، ثم قاضياً ممتازاً في دمشق مدة عشر سنوات، فمستشاراً لمحكمة النقض في الشام، ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر.
انتقل الطنطاوي عام 1963 بعد انقلاب الثامن من آذار، وإعلان حالة الطوارئ في سورية إلى المملكة العربية السعودية؛ ليعمل مدرساً في كلية الشريعة وكلية اللغة العربية في الرياض، ومنها انتقل إلى مكة، للتدريس فيها ليمضي فيها وفي جدة خمساً وثلاثين سنة.
وفي عام 1420هـ توفي علي الطنطاوي في جدة، ودفن في مكة في اليوم التالي بعدما صلي عليه في الحرم المكي الشريف.
كان الطنطاوي أديباً وداعية يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه به أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مما مكَّنه من طرح أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي.
ترك الطنطاوي عدة مؤلفات هي: هتاف المجد ـ مباحث إسلامية ـ فصول إسلامية ـ نفحات من الحرم ـ صور من الشرق ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق) ـ فكر ومباحث ـ بشار بن برد ـ مع الناس ـ رسائل = الإصلاح ـ مسرحية أبي جهل ـ ذكريات علي الطنطاوي. (ثمانية أجزاء) ـ أخبار عمر ـ بغداد ـ حكايات من التاريخ (من أدب الأطفال) ـ أعلام التاريخ (سلسلة للتعريف بأعلام الإسلام) ـ تعريف عام بدين الإسلام ـ صور وخواطر ـ من حديث النفس ـ الجامع الأموي ـ قصص من التاريخ ـ قصص من الحياة ـ أبو بكر الصديق ـ عمر بن الخطاب. (جزآن) ـ في إندونيسيا ـ في بلاد العرب ـ في سبيل الإصلاح ـ رسائل سيف الإسلام ـ رجال من التاريخ ـ الهيثميات ـ التحليل الأدبي ـ من التاريخ الإسلامي ـ دمشق ـ مقالات في كلمات.(1/15)
فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِيَ بهذا الديك؛ لأنه كان يصيح، وسَعِد به وهو لا يزال يصيح.
ما تبدَّل الواقع، ما تبدَّل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: مادامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنَّا؛ إذ نمشي إليها من غير طريقها، ونلجها من غير بابها؟
إننا نريد أن نذبح ( الديك ) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك؛ لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة، فلماذا لا نرفع الدِيَكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدَّ أفواهها عنَّا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وَفْقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تُسْمِعُ الموتى، وتوقظني همسة في جوِّ الدار ضعيفة، وخطوة على ثراها خفيفة، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي؛ فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟
ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب و ما تكره، وإن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأَخْفَت؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك، وأدخلته نفسك؛ فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأَغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك، فلم تَسْمَعه على شدته، وخفي عنك كما تختفى في الظلام عظائمُ الموجودات.(1/16)
فلماذا لا تَصْرِفُ حسَّك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك، ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقَبِلْتَه باختيارك، كما يُدْخِلُ الملكُ العدوَّ قلعته بثغرة يتركها في سورها، فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: =فلسفة و أوهام+ نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذياناً، وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام.
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني؛ فكأنه ما حمل شيئاً.
ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.
ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخّينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
وكان يوماً في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان، صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.(1/17)
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بِتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءاً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءاً، و يئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
ما شَفِي الشيخ لأنَّ ثعباناً كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ أَلَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً، خامل الجسد، وَاهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثباً، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيَّاً يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتاباً مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة و الشبع، وعدا عدواً إلى المحطة، أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيَّاً عذباً، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة !
يا أيها القراء: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهداً فيها، واحتقاراً لها.(1/18)
يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئاً، لماَّ نَظَر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره و يأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعاً وعطشاً، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمراً أو خبزاً يابساً، فلما رأى ما فيه، ارتد يأساً، وسقط إعياءاً. لقد رآه مملوءاً بالذهب !
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربه أن يحول كل ما مسته يده ذهباً، ومس الحجر فصار ذهباً؛ فكاد يجن من فرحته؛ لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمس الطعام، فصار ذهباً وبقي جائعاً، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهباً، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب !(1/19)
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها، فمات غريقاً في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهباً كثيراً؟ أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؛ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوماً، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهراً وتبراً، واستفدت من كل لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو أني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها _ لربحت شيئاً كثيراً.
ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب ( قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.
والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائماً، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئاً من العلم فأَلَّف (الحاشية).
والسرخسي أَمْلَى وهو محبوس في الجب، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.(1/20)
وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنه لو قرأ مثله _ لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة _ لكان عَلاَّمَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتاباً واحداً كنهاية الإرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطه، فضلاً عن تأليف مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
لا أذكر الفلاسفة و المخترعين، ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لماَّ كتب مجلس مالك بريقه على كفه وأعاده من حفظه، والمعري لما سَمِع أرمنيين يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علماً خالصاً، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.(1/21)
أعرف نادلاً كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شاياً، أو هاضوماً _ كازوزة _ أو ليموناً، والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويردد هذه الطلبات جهراً في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفاً !
فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.
وملاك الأمر كله ورأسه الإيمان، الإيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنساً، ومن خيبته نُجحاً.
وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتََّبك، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهماً وعلماً، وحسباً ونسباً.
وأنت أحسن عيشة من عبدالملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض.
فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها، ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب.
وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر و أنت ترحل في أيام أو ساعات.
فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك(1)، ولم تطلبوا المستحيل، فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.
سعداء إن كانت أفكاركم دائماً مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة، فكنتم رابحين في الحالين، ناجحين في الحياتين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) يشير إلى قصة ديك الفيلسوف (كانت) الماضية (م).(1/22)
اللذة مع الحكمة(1) الشيخ محمد الطاهر بن عاشور(2)
__________
(1) السعادة العظمى، العدد19و20، (16) شوال 1322هـ، المجلد الأول(304_309).
(2) هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وغيرها كثير.
وكان ذا عقل جبار وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع_ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع قلت ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب، لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وهذا المقال كتبه وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
توفي × يوم الأحد 13 رجب 1393هـ.
وإذا أردت التوسع في ترجمته فارجع إلى كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.(1/23)
سبرنا أغراض الإنسان، فوجدناه ظَمِئاً إلى مُلائِماتِ نفسه كيفما اتفق، ومتى اتفق، وأين اتفق، غير باحث عن ما يتبع ذلك من المضار، فأردنا أن نبين هنا حقيقة اللذة، ثم نبحثَ عن مواقعها، وننظر فيما إذا كانت لذةً دائمةً في هذا الكون الجثماني.
اضطربت آراء الناس _ حتى الفلاسفة _ في تشخيص معنى اللذة، وكلَّت أقلام الكتاب والشعراء دون ذلك، والذي نختار من بين كثرتها رأيان:
أولهما: يرى أن اللذة هي إدراك النفس ما يلائمها، وتراه حسناً.
وثانيهما: أنها التخلص من آلام طبيعية، أو عارضة.
ونحن إن نقدنا الأقوال، ولم نذهب مع تشعبها لا يعترضنا شك في الحق أن اللذةَ إدراكُ النفسِ ما يلائمها على ما رأى أهلُ الرأي الأول، وأَنَّ مَنْ حصر اللذة في التخلص من الألم لم يستقرئْ في حَدِّها استقراءاً تاماً كما يجب أن يكون التحديد للموجودات، إنما نظر إلى نحو النوم، والأكل، والشراب من كل لذة دعى إليها احتياجٌ فطري، وضيَّق في دائرتها حتى كاد أن يُخْرِج المعارفَ كلَّها عن اللذة.
نحن لا ننكر أن أكثر اللذات لا يفارقه الشعور بمبدأ ألم، ولو بالأقل ألم الشوق إلى نَيْل ما يلائم النفس، حتى ننكر على هذا القائل قوله كله.
ولكنَّا نعلم أن من اللذات ما ينساق إلى المرء بدون فكر سابق، وربما وقع منه موقعاً لا يقعه لو كان مترقباً من قبل؛ فماذا ترون في هذا الإحساس؟!
انقسمت اللذات بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية، وعقلية، ومركَّبَةٍ منهما.
والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعاً، فإن كان الداعي الحس _وهو الذي تَحْصُل به_ فهي الحسية، وإن كان العقل فهي العقلية، وإن كان الداعي العقل _ وتحصل بالحس _ فهي المركبة.
أما الحسية فأمرها خطير، ومطالبها محدودة يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان، ومتى قضى الحس منها شيئاً كان الزائد عليه عنده ألماً.(1/24)
وأما العقلية فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مَسَرَّةً لا يَعْدِلُها عنده شيءٌ، وهذه يجدها العقل طوع(1) متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.
أما إن أردتم التعب الشديد، والمشقة في السرور فاطلبوا قسمنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس، ويقتضيه البدن، تجدون خَرْطَ القتاد دونه سهلاً، وتفرضه في المحبة الحب العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدرات ما يُمَرِّر حلاوة منالها منه، وإذا كانت مطالب الروح غير واقفة عند مدى فإن سلطانَ وهمِ المحبة يتسلط عليها، فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي، وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامها، ولا يبرد أوامها، ولكنها تجد طريق الاقتضاء هذا البدن القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تَسِمُه المداومة، وتعوقه الموانع، فماذا عساه حقق من مطالب هاتِه الروح، وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه؟ لا شك أنها سيكون لهما مثلاً في هذه الحال قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً
... تعبت في مرادها الأجسام
فإذا نظرنا بعدَ هذا إلى المقدار الذي يمكن الإنسان تناوله من غير القسم الثاني نجد أن لا شيء من الملاذ الحسية بلذَّة حقيقية، وإن تموَّه على عقول جمهور الناس؛ فإن هاته الملاذَّ _ على ما فيها من توقف على تسويغات الدين، والصحة، والعادة، والاحتياج إلى مُكْنة الفرص _ هي واقفة عند غاية.
__________
(1) كأن فيه كلمة ساقطة، ولعلها: يديه.(م)(1/25)
ثم ماذا ترى عند البلوغ إلى غايتها؟ ترى الهَيْضَة إن أَكَلتْ، والامتلاء إن شَرِبتْ، والندامة إن داعبتْ، والعجز إن استزادتْ، غير أن الذي يريد أن يغض عن هذا كله، ولا يعتبر من حال اللذات إلا أوقات اقتضائها، ويقول ما الإنسان إلاَّ ابن ساعته، وما هو بمفكر في التي تليها _ نقول له: انظر إليك وأنت تزعم أنك في لذاتك الحالية، وجرد عقلك مما تسلط عليه من الوهم _ تجد نفسك في لذاتك كلها محتاجاً إلى معونة غيرك، وإن كنت عاجزاً عن تحضير أسباب لذاتك؛ فليتك تشعر أنك تفقد واحداً، أو ينقبض لك آخر، وفي الأقل تفكر في انتهاء اللذَّة ومفارقتها، وكيف تجدك في حالك هاته ألا تجدك كما قال الشاعر:
فأبكي إن نأَوا شوقاً إليهم ... وأبكي إن دنوا خوف الفراق(1)
حكي أن الناصر لدين الله ملك قرطبة كتب بخطه أنه لم يَصْفُ له من زمان حكمه على ذلك البلد الطيب في ذلك السلطان القاهر الذي دام خمسين سنة إلا ساعات تَلَفَّق من جميعها مقدارُ أربعة عشر يوماً؛ لذلك قال الأسطوانيون(2) من الفلاسفة: إن الدنيا دار شقاء، وبلاء.
دعْ عنك هذا، وولِّ وجهك شطر اللذات الروحية والكمالات العقلية تجد المرء متى التذَّ بشيء منها لا يقف عند منتهى؛ فهو كلَّ الزمان مبتهج بما يعلمه من العلوم، ويستفيده من الآداب.
__________
(1) هذه إشارة إلى أبيات للنصيب بن رباح يصور فيها حال العاشق ويقول:
وما في الأرض أشقى من محبٍّ
وإن وجد الهوى حلوا المذاق
تراه باكياً في كل حين
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
(م)
(2) هم أصحاب زينون الفيلسوف اليوناني الزاهد المولود سنة 490 قبل المسيح، وهو الذي لما مات بأثينا، صاغوا له تاجاً من الذهب، وضعوه على قبره تنويهاً بقدره، وقال بعض خطبائهم في ذلك: =ليعلم أن أهل أثينا يكرمون أهل الفضل أحياء وأمواتاً+.
أما كلمة أسطوانيين، فالتحقيق أنها مأخوذة من اليونانية.(1/26)
وهذا حال الحكيم؛ فهو دائماً ينظر نفسه؛ فيستفيد علوماً، ويلمح العالم؛ فيزداد تذكرة، وتُزْوى له الدنيا؛ فلا تهزه وهو مسرور بإقبالها، وتدبر عنه وهو مسرور بما يعلم من إخلافها، ربما نام ليلة وهو يرصد طلوع الصباح للرجوع إلى لذة التفكير التي قطعها عنه النوم، فإن حاول أمراً، أو أتم له فلا تسل عن لذته منه، وإن لم يتم فقد حَصَّل _ في الأقل _ معرفةَ طريقِ لا يُهدى إليه، ومتى أَلَمَّ به ضررٌ من مصاب استهون به في فائدة التجربة، كما يرى العالم النحرير؛ فيسره مرآه؛ لما ينال من علمه، كذلك يرى الأحمق الجاهل؛ فيعلمه وبالأقل يأخذ الحكمة من حاله بطريق الحضارة(1)؛ فرب خطأ جر إلى صواب.
إذن فالحكيم لا يتنكد أبداً، وهو مسرور في كل وقت، سبب ذلك علمه بحقيقة كل شيء؛ لأنَّ هاته الدنيا _وإن كانت خضرة حلوة_ فإنها تعقب تفاهةً، أو مرارة في فَم مجتنيها، ومن ثمَّ لا يوجد فيها سرورٌ متساوي الأطراف، وقد كادت مصالحها أن لا تسلم من ضرر تُخْلِفه.
وينبغي أن يكون هذا سبيل طائفة الابيكوريين(2) من الفلاسفة الذين يرون الدنيا كلها لذَّات؛ فإن رئيسهم لا يذهب عنه أن متاعبها كثيرة لغير الحكيم، ولكنه أراد اقتضاء لذاتها بقدر الاستطاعة.
__________
(1) أي بطريق استحضار قبح صنيع ذلك الأحمق، وتجنب فعله.(م)
(2) هم أصحاب أبيكور الفيلسوف اليوناني المولود سنة 341 قبل المسيح ومات سنة 270 وهو الذي كان مبدؤه أن الدنيا خلقت للسرور، وكان قد اتخذ لتلاميذه مدرسة في بستان كبير، وكان يسلك بهم مسلك الرياضة والنزهة والأكل الطيب البسيط الذي لا يخلف أكداراً، ويرى أن الرجل يجب عليه اغتنام اللذات بقدر استطاعته، ويجب أن يتكدر في الدنيا.
ولا شك أن هذا لا يتم بغير ما بيَّنا من التوطين النفسي؛ فإن كل غرض أبيكور تحصيل مع إهمال هذا، فهو يطلب ما لا يسمح به الزمان.(1/27)
جاءت شريعة الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية، فلذلك يكون حال المؤمن أشبه بحال الحكيم، ذلك أن الدين يأمره أن يأخذ من الدنيا ما يريد من الحلال، وأن لا يكون جازعاً عند فقدها.
وبهاته التربية التي أصلها التسليم للقدر فيما لا حيلة فيه فُقِدت المفاسد التي تنشأ عن الآلام في الأمم الأخرى من انتحار وجنون ونحوهما، قال _تعالى_ [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا] القصص: 77.
إذا كانت النفس ميَّالة إلى لذاتها في كل حال فالعاقل لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية، وربما وصل العقل إلى التفكر في حال اللذة ومآلها، فرأى أَنْ لابدَّ من انقطاعها، فقطعها قبل أن تقطعه، وهو مبدأ عظيم من الحكمة، قال فيه فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:
ضحكنا وكان الضحك منَّا سفاهة ... وحقّ لِسُكَّان البسيطة أن يبكوا
وكما ترى من نفسك استنكافاً عن بعض اللذات، وترى غيرك يرغب فيها، بل ترى من نفسك الفرق في لذاتك بين حالتي الصبا والفتوة مثلاً_ كذلك لا تشك أنَّ الحكمة إنْ أشرقت على قوم ربما نزعت كلَّ هَوَسٍ من قلوبهم، فرأوا الدنيا كلها سفاسف وغروراً، كما ترى أنت اليوم الرقصَ مع الصبيان وتَلَقُّفَ الكرة جنوناً بعد أنْ كانا شُغُلَك الوحيدَ.
أُولئك هم السعداء الذين استوى عندهم الكدر والطرب، فعاشوا وقلوبهم ممتعة بإدراك الحقائق الذي وراءه للعاقل مطلب، وهذا قسم شريف فات أبا الطيب إذ يقول:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسَه ... ويسومها طلب المحال فتطمع(1/28)
وذكَّرني تشكي الناس من سوء معاملة الزمان عادة من عوائده، وهي انزواؤه لمن لا يقدر قدره، أو من لا ينتفع به، وتزلُّفه لمن عَدِم العقل والفضيلة، وأنه لا وصل إلى مقاصده وأمانيه من الحكيم بما سهلت الدنيا بين يديه لولا أن يخونه الطريق، فيضله عن كنه مقاصده، وكما ترى الجمادات تنال بدون ارتقاب ما تشيب دون نيله رؤوس الشباب، وترى الزجاج ينال من الثغور ما تتلظى دونه أرباب الأساورة والقصور، فلا تتعجب ممن قرب إلى الجمادية أن تكون الدنيا أسوق إليه، وأنها لا تدين لمن يسخر منها، وإنما تُقَرِّب من تضحك عليه.
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري
8_ أخلاق الناس: د.زكي مبارك
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين
أخلاق العرب وعاداتهم(1) للعلامة المحقق أحمد تيمور باشا(2)
__________
(1) كتاب محمد رسول الله "للعلامة أحمد تيمور باشا ص24_25
(2) هو العلامة المحقق الأديب المشهور ذو الأخلاق العالية، والمكارم الفذة، والتواضع الجم، والأيادي البيضاء على التراث وتحقيقه وعلى العلم وطلابه: أحمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد ابن إسماعيل بن علي كرد، ينتمي إلى الأسرة التيمورية الكردية الأصل، والتي كان لها وجاهة، وفضل، ويسار.
ولد× قبل وفاة والده بمائة يوم وذلك عام 1288هـ، فنشأ يتيماً في كفالة أخته الأديبة عائشة التيمورية.
حرص على العلم، وعلى لقاء العلماء، والتلقي عنهم منذ صباه.
وكان مولعاً بالكتب والمخطوطات، وكان لفضل أسرته ويسارها أثرٌ في كونه يعيش في بحبوحة من العيش، فكان له من المال ما يعينه على تحصيل الكتب، والمخطوطات، وعلى بسط يده لإسعاد الفقراء، والجمعيات، وذوي الحاجات، مع حرصه التام على إخفاء ما يبذل.
وكان معتزاً بدينه، ولغته، وتراثه أيما اعتزاز، وكان يُجيد الفرنسية، والتركية.
وكان منزله دوحة عامرة بالزوار من الأعلام، وطلاب العلم، والوجهاء وغيرهم.
=(1/29)
من أخلاق العرب الحسنة و عاداتهم الطيبة: الشجاعة, والعفة, والشهامة, والنجدة, وعلو الهمة، والحمية, وحفظ العهود, والإيفاء بالوعود, والمحافظة على الأعراض أشد المحافظة، فقد كان الموت عندهم أسهل من العار حتى أدَّاهم ذلك إلى دفن بناتهم وهنَّ أحياء؛ خشية العار.
ومنها المدافعة عن الجار، وحفظ الْجِوار، والسخاء، والكرم، والضيافةُ للغريب والقريب.
ومنها الافتخار بشدة البأس، وعزَّة النفس، وإباء الضيم, و الولوع بالشعر؛ لأنه ديوان العرب, وبالحكم و الأمثال, والحِلْم, و الفصاحة, و الغلو في حفظ الشرف, ومكانة النفس.(1)
__________
(1) تزوج وهو في التاسعة عشرة من عمره، ورزق بثلاثة أولاد، ثم ماتت زوجته وهو في التاسعة والعشرين من عمره أي بعد زواجه منها بعشر سنين؛ فلم يتزوج بعدها؛ خوفاً من أن يقترن بمن تنغص على أولاده؛ فرضي أن يعيش بقية عمره الإحدى وثلاثين عاماً دون زواج.
وكان ذا عبادة، وعفاف، وكان القرآن يُتلى في منزله، وتُسمع فيه الأحاديث الشريفة، ولم يكن ميَّالاً إلى اللهو، والبطالة، والمساخر.
وبالجملة فقد كان أمَّةً في رجل، وكان محل إجماع بين أهل عصره علماً، وأدباً، ونبلاً، وكرماً لا تكاد تجد من يذكره بسوء.
أُصيب في آخر عمره بمرض القلب، وكانت نوباته تعاوده بين الفينة والأخرى إلى أن توفي في الساعة الرابعة من صبيحة يوم السبت 27 ذي القعدة عام 1348هـ.
وقد رثاه الشعراء، والأدباء، والعلماء، كالرافعي، والأمير شكيب أرسلان، والعلامة محمد الخضر حسين وغيرهم.
كما ترجم له عدد كبير من معاصريه وغيرهم كالعلامة محمد الخضر حسين، والعلامة محمد كرد علي، والعلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والعلامة خير الدين الزركلي وغيرهم.
وقد جمع بعض تلك التراجم الشيخ الفاضل محمد بن ناصر العجمي في رسالة لطيفة سماها: =العلامة أحمد تيمور باشا ذكريات شخصية للعلامة محمد كرد علي، ويليه مقالات بأقلام معاصريه+.(1/30)
وكانت لغتهم من أعز الأشياء لديهم, حتى إنهم كانوا يأنفون من مخالطة غير العرب ؛ حفظاً لها من العُجْمة.
ومن عاداتهم السيئة: دفنُ البنات وهن أحياء؛ خشية العار, وقَتلُ الأولاد؛ خشية الفقر, والغلو في أخذ الثأر, حتى إنهم يشنُّون الحرب التي تزهق فيها النفوس الكثيرة في سبيل أخذ ثأر رجل منهم.
ومنها: المنابزة بالألقاب .
ومنها التَبَنِّى, وهو أن يجعل الولد غير الحقيقي الذي يُتَّخَذُ كالابن _ بمنزلة الابن الحقيقي, يَرِثُ ويُورَث .
ومنها عبادة غير الله، وكانت عبادتهم على أنواع مختلفة, ولهم آلهة وأصنام كثيرة، كاّللات، والعُزَّى، وهُبَل، ونَسْر، وسُوَاع، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، وغير ذلك.
وكان منهم من يعبد النجوم :كالشمس, و القمر, وعطارد, والمشتري وغيرها.
ومن ذلك أسماؤهم: كعبد العُزّى, وعبد يَغُوث, وعبد شمس, ونحوها, وكان في بلادهم من بينهم بعضُ النصارى، و اليهود، والمجوس.
وكانوا قَبْلاً موحّدين يعبدون الله على ملّة إبراهيم الخليل وإسماعيل _عليهما السلام_ ثم اتخذوا الأصنام؛ لتكون واسطة بينهم وبين الله بزعمهم, إلى أن عبدوها، وقدموا لها القرابينَ, وذبحوا الذبائح على اسمها.
فلما وصلوا إلى هذه الدرجة من الجهل، و الكفر، وعبادة غير الله _ أرسل الله لهم رسوله المصطفى، ونبيه المرتَضَى ؛فأعادهم إلى الشريعة الحقّة, شرِيعةِ إبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء من قبلهم, فهداهم بعد الضلالة, وأرشدهم بعد الحيرة.
أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة (1) للأستاذ أحمد أمين
__________
(1) فيض الخاطر، 5/ 167 _ 172.(1/31)
لاحِظ الطفل، وأمعن النظر في تصرفاته، وراقب البواعث على حركاته وسكناته تَخْرُجْ بنتيجة حتمية، وهي أنه أناني مفرط الأنانية، يرى أنَّ أهمَّ ما في الوجود شخصه، وكل شيء حوله يجب أن يكون له، ما يصدر عنه من أعمال فإنما هي لجسمه، ولِلَذَّة يلتذها جسمه، ليس يهمه أي شيء يتصل بغير شخصه، لا يعنيه من أمِّه إلا أنَّ ثدييها وعاء للبنه، كل ما له من عمل، وكل ما له من شعور، وكل ما له من فكر، وكل ما له من رغبات فإنما هي موجهة نحو ذاته؛ فإذا أحسَّ فراغاً من الزمن ليس فيه شيء مما يشتهي ويلتذُّ بكى، لو كُلِّف أن يرسم خريطة العالم كما يرى، واستطاع ذلك لَرَسم شخصه فقط، وكان هو العالمَ وحده، وما عداه من شيءٍ فلخدمته.
لاحِظْ بعد ذلك وهو ينمو تجده يتحول من ( أنا ) قليلاً قليلاً إلى ( نحن ) شيئاً فشيئاً؛ فهو يبدأ يشعر بأسرته بجانب شخصه، ثم بتلاميذ مدرسته بجانب نفسه، ويتعلَّم دروس الأخذ والإعطاء بعد أن كان درسه الوحيد هو الأخذ، ويضم إلى العمل لشخصه العمل لغيره، ويعتاد ألا يعمل فقط ما يحب، بل يعمل _أيضاً_ ما يجب، ويعمل ما تقتضيه التقاليد، ويعمل خوف الاستهجان أو العقوبة أو نحو ذلك، يتعلَّم ذلك كله في أسرته، وفي مدرسته، وفي ألعابه وفي شارعه، ويتولَّد فيه شعور، وتفكير، ورغبات للعمل للغير، كما تولَّدَت فيه من قبل هذه الأمور للعمل لشخصه.(1/32)
ويَرْقَى فيه الشعور بـ (نحن) إذا اتَّسع أفُقه في الحياة العامة، وخرج من المدرسة وتولَّى عملاً، وعاملَ الناس، وتبادل معهم المنافع والمصالح؛ فيشعر بأن هناك أناساً غير أسرَته، وغير مدرسته وغير معارفه، وأنه مرتبط ببعضهم في التعامل، ويشعر بأن هناك مسؤوليةً مُلقاةً على عاتقه نحوَ مَنْ يعمل معهم، وأنه خاضعٌ لقوانين البلاد، وله روابط بقومه وأهل دينه ونحو ذلك، كما يشعر أنه يجب عليه العمل، لا كما يحب الطفل، ولا طاعةً للتقاليد أو خوفاً من العقوبة كالفتى، ولكن ليحصِّل رزقه يقوت به نفسه، أو أهله، أو منْ يحمل عبأهم.
وهكذا تراه يبعد بعض الشيء من (أنا) ويقرُب من (نحن)، ولكن في حدود ضيِّقة معيَّنة.
فإذا نحن سَمَوْنا لدراسة (الرجال) وعظماء الناس، رأينا استغراقاً وعمقاً في (نحن)، وضموراً في (أنا) رأينا الرجل العظيم الناضج يصل إلى منزلة يرى معها أن لا قيمة لحياته إلا إذا ارتبطت بحياة الناس، والعملِ لإسعادهم، لا يقتصر على علاقاته الطيبة بمن حوله في الأعمال العادية، ولكن يضع نصب عينه العمل؛ لترقية الناس روحيَّاً ونفسيَّاً وماديَّاً، لا يرى أن مسؤوليته هي نحو أسرته فقط، ولا أصدقائه فقط، ولا قريته أو مدينته فقط، ولكن لأمَّته خاصة، وللإنسانية عامة إن وسعه الجهد والكفاية، هو واسع النظر، عميق الفهم، رحب الصدر، متسامح أمام ما يشل العقل من العصبية الوطنية والدينية، والخلافات الحزبية، يختبر حاجات الناس، وأسباب شقائهم في الناحية التي هو مُعَدٌّ لها، ثم يوجه إرادته لرفع الشقاء عنهم، وجلب السعادة لهم ما أمكن، ويَحْمِل مسؤولية ذلك في لذة وسرور وتضحية، ولا بأس إن كان فقيراً، ولا بأس إن لم تُنبته أسرة أرستقراطية، ولا بأس إن لم يتسلَّح بقوَّة؛ فهو يشعر أن نُبل غرضه قوة فوق قوة المال، وفوق الأسرة النبيلة، وفوق أسلحة الناس.(1/33)
إذا كانت جماهير الناس يعملون للأجر، ويقوِّمون العمل بالمال؛ فإن أُعطوا كثيراً عملوا كثيراً، وإن أُعطوا قليلاً عملوا قليلاً، ويفاضلون بين عمل وعمل بقدر ما يدر من ربح _ فإن هؤلاء العظماء يعملون؛ لأنهم يلذُّهم العمل، ويقوِّمون العمل بمقدار ما يحقق من خير لأمتهم، وللإنسانية أجمع، يدأبون في العمل، ويعرِّضون حياتهم للخطر في سبيل مرض يكتشفونه وداء يعالجونه به، أو في سبيل تحرير العقول من أغلالها، أو تحرير العقيدة مما أفسدها، أو يحاربون الظلمة والطغاة؛ لتحقيق العدل في الأمة أو العالم، يحتملون في ذلك العذاب ألواناً؛ لأن عشقهم للحق غلب حبهم للذات، وهيامهم بـ (نحن) أضعف حبهم لـ (أنا).
فإذا قال الطفل (أنا)، وقال الإنسان العادي (أُسرتي) وقال الرجل (أُمَّتي)، أو (عالَمي)، وإن تلذذ الناس بالعمل يُرْبِح تلذذهم بالفكرة تنجح، وإن تساءلوا عند العمل: ماذا نجني من دَخْل؟ تساءل هو: ماذا يستلزم العمل من جهد؟.
قد منحهم الله قوَّةً من قوَّته، وقدرة من قدرته؛ فهم _ دائماً _ مصدرُ نفعٍ وجمال، حدَّدوا غرضهم في الحياة؛ فعلموا أنهم لا يصلون إليه إلا إذا فهموا حق الفهم دنياهم التي يعيشون فيها، وطبائع نفوس الناس في الاستجابة للإصلاح، والنفور منه.
يلتذُّونَ تحمُّلَ التبعات كما يلتذ الجبناء الهرب منها، يواجهون الصعوبات بابتسام، ويتقبلون الهزيمة ريثما يستعدُّون للوثوب، أقوياء في خصومتهم، صابرون في هزيمتهم، كرماء سمحاء في انتصارهم، آلوا على أنفسهم أن يكونوا قوة محاربة للشر المحيط بهم حتى ينهزم، وأن يكونوا ضوءاً يدافع الظلام حتى ينجاب، يكرهون من أعماق نفوسهم المرض، والجهل والفقر، والسخافة والتخريف، وكل عيوب البشرية، ومع هذا يمزجون كراهيتهم لهذه الأشياء بالعطف على المنكوبين بها حتى ينقذوهم منها.(1/34)
ثم الأمر في النفس ليس كالأمر في الجسم؛ فقد ينضج الجسم ويكتمل، والنفس لا تزال على حالها نفس طفل، فالشاعر كان محقاً حين قال:
. . . . . . . . . . . . . ... جسم البغال وأحلام العصافير
وفي الناس حولنا أشكال وألوان من هذا القبيل، رجولة جسم وطفولة نفس، ومقياس ذلك الذي لا يتخلف هو ضمير (أنا) و (نحن)، فإن رأيت لا شيء إلا (أنا) رأيت طفلاً مهما كان جسمه وسنُّه، وإن رأيت (نحن) كثيراً و (أنا) قليلاً رأيت رجلاً، والرجال قليل.
هناك من ليس أمامه في الدنيا إلا جسمه، يبحث حياته عن الأكل الطيِّب، والملبس الطيب، والنعيم الطيب، وذلك كل تفكيره، وكل سعيه، وكل غرضه، ركزوا في صحة جسمهم ونعيمه كل شعورهم، وكل عواطفهم، وكل ملذاتهم، فإن عملوا عملاً خارج هذه الدائرة فلهذه الغاية، تعرفه بالإفراط في العناية بنوع ما يأكل، ومقدار ما يأكل، وبهندامه وبمرآه في المرآة، وبالحذلقة في حركاته وسكناته، ونحو ذلك، ثم لا شيء، فهذا طفل كبير.
وإن شئتَ فعُدَّ من هذا القبيل ناسكاً راهباً لا يفكر في أحد من بني آدم حوله، ولا يهمه حال قومه سياسياً ولا اجتماعياً، ولا يعنيه شقوا أم سعدوا، ولا يحتمل تبعة شيء، ولا يُصدِّق أحداً، ولا همَّ له في الحياة إلا نفسه وعبادته، أليس هو الآخر طفلاً كبيراً شغلته ( أنا ) عن ( نحن )؟
وهناك من يَحُدُّ العالم بحدود نفسه، إذا فكَّر فكَّر فيها، وإذا عمل عمل لها، لا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه منه، خسر الناس أو كسبوا، لا يمنعه من الغش في عمله إلا خوف العقوبة، فإن أمِنَها عمل ما شاء؛ ليربح مالاً، أو يكسب شهرة، أو يحقق غرضاً من أغراضه لنفسه، تعلم درس الأخذ ولم يتعلم درس العطاء، وليست الدنيا كلها وما فيها إلا قنطرة يعبر عليها للوصول إلى غايته، فهذا كذلك طفل كبير.(1/35)
وهناك من يهرب _ كالطفل _ من كل تبعة، لا يقتحم الحياة، ولكن ينتظر القدر، ولا يزاحم، ولكن ينتظر الحظ، إن عرض له شيءٌ متعب تنحَّى عنه إلى شيءٍ مريح.
وهناك أسوأ من هذا، من رفع نفسه فوق الناس، فهم لم يُخلقوا إلا له، ولم تُخْلق عيونهم إلا لتقع على مطلبه، ولا آذانهم إلا لتصغي إلى كلمته، ولا أيديهم إلا للعمل في خدمته، يسير في الحياة على ما يهوى، ويحب أن يسير الناس فقط على ما يهوى، فهذا _ أيضاً _ طفل كبير، وكم في الناس من أطفال كبار، وهم في طفولتهم أشكال وألوان.
ارسم خطَّاً مستقيماً رأسياً، وضع في أسفله (أنا) وفي أعلاه (نحن) وامتحن نفسك: كيف أنت في عملك؟ هل لا تنظر إلا إلى شخصك، أو تراعي فيه مصلحة قومك؟ وكيف أنت في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك؟ وهل تؤدي زكاة مالك، وزكاة علمك، وزكاة فنِّك، وزكاة كفايتك؟ أو تشح بكل ذلك؛ فلا تنفقه إلا لمال أكثر تحصله، أو جاه تبتغيه؟ وكيف أنت في نيَّاتك ومقاصدك، هل يؤلمك بؤس الناس وشقاؤهم وفقرهم؛ فتتعاطف معهم، وتعمل جهدك لإسعادهم؟ أو أنت وبيتك، ثم على الدنيا العفاء؟
وحدد بذلك كله مركزك من الخط المستقيم، فإذا قربت جداً من (أنا) فهذا دليل الطفولة ولا محالة، وإن قربت جداً من (نحن) فأنت رجل.
هذا هو التقويم الصحيح للناس، وهو _ مع الأسف _ غير ما تواضعوا عليه؛ إنهم يقدرون الرجل بماله وبجاهه وبمنصبه، وبكل شيءٍ إلا قيمته الحقيقية.
ولو راعيت هذا المقياس الحق الذي ذكرنا لرفعت من شأن عامل بسيط على صاحب مصنع كبير، وموظفٍ في الدرجة الثامنة على موظف في الدرجة الأولى، ومعلمٍ أوَّليٍّ على سَرِيٍّ كبير، وكنَّاسٍ مخلصٍ على طبيب غير مخلص، وجنديٍّ مجهولٍ على قائد مشهور.
ولكن أنَّى لنا المدنية الحقَّة التي تهدم نظام القِيَم المتعفِّن لتضع مكانه نظاماً للقيم نظيفاً؟(1/36)
الإنصاف الأدبي(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(2)
__________
(1) رسائل الإصلاح 1/ 38 _ 46
(2) ولد × في بلدة ( نفطة ) بتونس عام 1293هـ _ 1873م من أسرة علم، وصلاح، وتقوى.
_ يتصل نسبه بالنبي " وجده للأب علي بن عمر، وجده لأمه مصطفى بن عزوز، وخاله العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز، وشقيقاه العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين، والعلامة زين العابدين بن الحسين.
_ لما بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل مع والده إلى العاصمة تونس، والتحق بطلاب العلم بجامعة الزيتونة أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، وحصل منها على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية.
_ أوتي بياناً ساحراً، وقلماً سيالاً قلما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل.
_ كان ذا همة عالية، ونفس كريمة، وغيرة إسلامية، وقوةٍ في الحق.
_ كان هادئ الطبع، حسن المعشر، لَيِّن العريكة، جم التواضع، ذا زهد وقناعة.
_ كان متفنناً في علوم الشريعة من أصول، وتفسير، وفقه، ونحو ذلك.
_ كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام كما قال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشور _ رحمهما الله _ .
_ كان مستقصياً في بحثه وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وكان معتدلاً في حكمه وفتاويه يتمثَّلُ في ذلك نزاهةَ قلمِ المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه _ كما يقول الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي رحمه الله _.
_ أصدر مجلة ( السعادة العظمى ) عام 1321 هـ، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب ثم أغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي.
=(1/37)
لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن الإنصاف الذي يُفَسَّر بالعدل, وُيوصَف به من ينتصب للحكم بين المتخاصمين(1)
__________
(1) تولى القضاء في مدينة بنزرت عام 1906م، ولم يرقْهُ ميدان القضاء؛ إذ حال بينه وبين الدعوة إلى الإصلاح والجهاد، فتركه إلى التدريس في جامع الزيتونة أستاذاً للعلوم الشرعية والعربية، كما تولى التدريس في مدرسة الصادقية بتونس.
_ حكم عليه بالإعدام _ إبان الاستعمار الفرنسي لتونس _ لاشتغاله بالسياسة ودعوته إلى التحرير، فهاجر إلى دمشق مع أسرته عام 1331هـ، وأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس وأعاض الله به أهل الشام بعد رحيل علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي × فكان الخضر من أسباب النهضة العلمية في بلاد الشام.
_ رحل رحلات عديدة، حيث رحل إلى الآستانة، وألمانيا، وقد أتقن اللغة الألمانية وكتب عن مشاهداته في برلين.
وبعد ذلك عاد إلى دمشق، فلحقته سلطات الاحتلال الفرنسي، فرحل إلى مصر لاجئاً سياسياً عام 1920م ، والتقى كبار علمائها ورجالها.
_ قام بتأسيس جمعية الهداية الإسلامية، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، واشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، واستلم رئاسة تحرير مجلة ( نور الإسلام ) التي يصدرها الأزهر، والمعروفة اليوم باسم مجلة (الأزهر ).
_ انضم إلى علماء الأزهر، وعين مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص.
_ عين عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة أول إنشائه، كما عين عضواً في المجمع العلمي بدمشق، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء بعد أن قدم رسالته العلمية ( القياس في اللغة العربية ).
_ استلم رئاسة تحرير مجلة ( لواء الإسلام ) كما ترأس جمعية ( جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية ).
_ اختير عام 1952م إماماً لمشيخة الأزهر، فقام بالأزهر خير قيام، وهو آخر عالم تولى الأزهر بترشيح العلماء، ثم أصبح بعد ذلك يعين من قبل الدولة.
_ توفي عام 1377هـ، 1958م، ودفن في المقبرة التيمورية إلى جانب صديقه العلامة أحمد تيمور باشا _ رحمهما الله _ بناءً على وصيته.
= قد خلف آثاراً علمية عديدةً منها الحرية في الإسلام، ورسائل الإصلاح، والسعادة العظمى، والهداية الإسلامية، ومحاضرات إسلامية، والدعوة إلى الإصلاح، ونقض كتاب الشعر الجاهلي، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، والرحلات، وتراجم الرجال، وأسرار التنزيل، والخيال في الشعر، ودراسات في الشريعة الإسلامية، وبلاغة القران، وله ديوان شعر جمعه بعض محبيه واسمه (خواطر الحياة ).
وقد اعتنى ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني بتلك الكتب، وبالترجمة للشيخ الخضر.
_ لقد كان لتلك الآثار أثرها البالغ في حياة الشيخ، وبعد وفاته، ولا زال الناس يفيدون منها، ويقبسون من نورها.
ولا زالت حياته، وآراؤه، ومؤلفاته، موضع الدراسة، والتحليل.
ولازال العلماء يتلقون كتبه بالعناية، والقبول، والثناء. انظر تمام ترجمته في كتاب =الصداقة بين العلماء+ للمؤلف.(1/38)
, فقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع في مقال =القضاء العادل في الإسلام+(1).
كما أني لا أريد البحث عن الإنصاف الذي هو خلقٌ يحملُ صاحبَه على أن يُعطي الحقوق المادية من نفسه, كأن يعرف الرجل أن هذا المال أو المتاع حق لفلان ؛ فَيَكُفَّ يده أو يرفعها عنه من تلقاء نفسه, لا يخشى سطوة حاكم، أو لومة لائم؛ فللحديث عن الإنصاف الذي هو تبرئة الذمة من الحقوق المادية مقام غير هذا المقام.
وإنما الغرض البحث عن ضرب خاص من ضروب الإنصاف وهو أن يقول الرجل صواباً؛ فتعترف بأنه محق، أو يحرز خصلة حمد؛ فتقر بها ولا تنازع من يصفه بها.
ولا أجد مانعاً من أن أسمي هذا النوع من الإنصاف =الإنصاف الأدبي+ ويقابله من الأخلاق المذمومة =العناد+ وهو جحود الحق, ورده مع العلم بأنه حق.
والإنصاف الأدبي من الخصال التي لا ترسخ إلا في نفس نبتت في بيئة صالحة, وارتضعت من ثدي التربية الصحيحة لبناً خالصاً.
والجماعة التي تفقد هذا الخلق تفقد جانباً عظيماً من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن, حتى تتفرق أيدي سبا(2) وعليك الإنصات، وعلينا البيان:
بين الأخلاق روابط, وكثيراً ما يكون بعضها وليد بعض، كالعدل قد يكون وليد القناعة, وكالشجاعة قد تكون وليدة عزة النفس, وكالجبن قد يكون وليد الطمع, وكذلك خلق العناد، وعدم الإذعان للحق قد يكون وليد الحسد، وقد ينشأ عن طبيعة الغلو في حب الذات.
وللغلو في حب الذات فرعان: حب الانفراد بالفخر, وإيثار النفس على كل شيء حتى الحق؛ فالحاسد أو الحريص على الانفراد بالفخر هو الذي يسمع الرجل يقول صواباً فيقول له: أخطأت, أو يسمع الثناء عليه ببعض ما أحرز من خصال فيقول للمُثني عليه:كذبت.
__________
(1) سيأتي هذا المقال ضمن هذا المجموع في المقالات التي تحت عنوان (مقالات في السياسة والاجتماع).
(2) هذا مثل يضرب للتفرق والشتات. (م)(1/39)
وإيثار النفس على الحق هو الذي يحمل الرجل على التعصب لرأيه, والدفاع عنه وهو يعلم أنه في خطأ مبين.
فمن أراد أن يَطْبَع ناشئاً على خلق الإنصاف نَقَّب على علتي الحسد والغلو في حب الذات, فإن وجد لهما في نفس الناشئ أثراً راوضه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حتى يتهيأ الناشئ لأن يكون على هذا الخلق العظيم, أعني خلق الإنصاف.
وإذا كان منشأُ الحسد قلةَ ملاحظةِ أنَّ النعمَة تصل إلى صاحبها مِنْ علام الغيوب, وهو لا يرسلها إلا لِحِكْمَة _ فإن من وسائل علاج هذا الداء تلقينَ الناشئ أن النعم ماديةً أو أدبيةً إنما ينالها الناس بمشيئة العليم الحكيم.
وإذا كان منشأُ الحرصِ على الانفرادِ بالفخرِ هو الغلوَّ في حب الذات _ كان على المربي تهذيبُ عاطفةِ حبِّ الذات في نفس الناشئ حتى تكون عاطفةً معتدلة: تجلب لها الخير, وتأبى له أن يَنال غيرَهُ بمكروه.
وإذا شُفي الناشئ من مرض الحسد, وخَلُصَ من لوثة الغلو في حب الذات _لم يبقَ بينه وبين فضيلة الإنصاف إلا أن تَعْرِضَ عليه شيئاً من آثارِها الطيبةِ, وتُذَكِّره بما يدرك المحرومين منها والمُسْتَخِفِّين بها من خسار وهوان.
وقلَّةُ الإنصاف تُبْعِد ما بين الأقارب أو الأصدقاء, وكم من تَجَافٍ نَشَأَ بين أخوين أو صديقين, وإنما نشأ من جحود أحدِهما بَعْضَ ما يتحلى به الآخر من فضل, أو من رَدِّه عليه رأياً أو روايةً وهو يعلم أنه مصيبٌ فيما رأى، أو صادقٌ فيما روى, قال الحكيم العربي:
ولم تزل قِلَّةُ الإنصافِ قاطعةً ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رَحِمِ
ومتى شَعُرَ الرجلُ من آخر بإنكار شيء من فضله, أو بتعسفه في معارضة رأيه_ رآه غير موضعٍ للصحبة والمعاشرة, وربما وقع في ظنه أن الراحة في عدم لقائه.(1/40)
قلةُ الإنصافِ تَجُرُّ إلى التقاطعِ, والإنصافُ يدعو إلى الألفة, ويؤكد صلةَ الصداقة؛ فإذا كنت في مجلس, فقرر الرجل رأياً واضح الحجة, فغلبك ما في نفسك, وحاولت أن تصوره للناس خطأً _ فقد ألقيت بينك وبينه عداوة؛ فإن خضعت لحجته, وأعربت له عن استحسان رأيه فقد مددت بينك وبينه سبباً من أسباب الألفة؛ إذ يشعر من إنصافك أنك لا تحمل له ضغناً، ولا تكره له أن ينال حمداً؛ فإن سبق هذا الإنصاف خصومةً شعر بأنك خصم شريف؛ فيسعى لأن تنقلب الخصومة سلماً, ويتبدل التقاطع ولاءاً.
وقلةُ الإنصاف تسقط احترامك من العيون؛ فإن من يراك تهاجم الآراءَ المُؤَيَّدةَ بالحجة قد يَحْمِلُ هذا الهجومَ على قصر نظرِك, وعجزِك عن تمييز الباطل من الحق, فإن حمله على أنك تهاجمها؛ كراهة أن تكسب صاحبها حمداً وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة, أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد, فإن ذهب في تأويل إِبايَتِكَ لقبول الحق إلى أنك تموه على الناس؛ حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق.
ولا احترام لمن لا يدرك الآراءَ المؤيدةَ بالحجة, أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة, أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد, أو من يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق.
قلةُ الإنصافِ تُسْقط احترامك من القلوبِ، والإنصافُ يزيد احترامك في القلوب مكانة؛ ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك، ونقائها من أن تكون قد حملت شيئاً من دنس الحسد, أو حام بها الغلوُّ في حب الذات.
نقرأ في كتب الأدب أن منذر بن سعيد البلوطي دخل مصر, وحضر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء, فأنشد أبو جعفر أبيات مجنون ليلى هكذا:
خليلي هل بالشام عينٌ حزينة ... تُبَكِّي على نجد لعلي أعينها
قد اسلمها الباكون إلا حمامةٌ ... مطوقةٌ باتت وبات قرينها
تجاوبها أخرى على خَيْزَرانةٍ
ٍ ... يكاد يُدَنِّيها من الأرض لينها(1/41)
فأراد منذر أن ينبه على أن قراءة =باتت وبات+ من عجز البيت الثاني بالتاء المثناة خطأ, فقال: يا أبا جعفر ماذا أعزك الله باتا يصنعان؟ فقال أبو جعفر: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ قال منذر : =بانت وبان قرينها+.
كيف يكون مقام أبي جعفر في نفسك لو قص عليك التاريخ أنه تلقى تصحيح منذر بن سعيد بالارتياح, وقال له : أنا أخطأت, وأنت أصبت؟ لا شك أنك تحمل له من الاحترام فوق ما كنت تحمل.
ولكن منذر بن سعيد يقول: إن ابن النحاس سكت وما زال يستثقلني, ثم عاد بعد حين إلى ما كنت أعرفه منه, يعني من الإقبال والحفاوة.
وقلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً؛ فمن لم تنصفه من أهل العلم وجد في نفسه مُثَبِّطاً عن أن يسرع إلى إفادتك, أو يفيض القول في مذاكرتك؛ فيفوتك حظٌّ من العلم لولا عدم إنصافك لازددت به قوةً في الفهم، وسعةً في العلم.
وقد يكون من أثر جحودك لفضل الرجل أن تقل رغبتك في ملاقاته, والتزود من آرائه أو رواياته, وكم وصل الرجل بإنصافه إلى علم وأدب جم.
قال أبو إسحاق الزجاج: لما قدم المبرد بغداد أتيته لأناظره؛ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب, وأميل إلى قول الكوفيين, فعزمت على إعنات المبرد, فلما فاتحني ألجمني بالحجة وطالبني بالعلة؛ وألزمني إلزامات لم أهتد إليها,فتبينت فضله, واسترجحت عقله وجددت في ملازمته.
فلو كان أبو إسحاق من أولئك الذين يجمع بهم التعصب للأشياع أو المذهب حتى ينبذوا الإنصاف ناحية _ لما اعترف بفضل المبرد وقد فاتحه بالمناظرة عازماً إعناته, ولَفَاتَه العلمُ الذي غَنِمَه بالجد في ملازمته.(1/42)
وقلة الإنصاف تحدث في العلم فساداً كبيراً؛ ذلك بأن من لم يقدر الإنصاف قدره, قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأنْ تكون قد صدرت منه, فيقابلها بالرد والإنكار؛ وقد تكون له براعة بيان؛ فيصرفها في تشويه وجه الحق وهو يعلم أنه حق, فيظهر الجهل على العلم ولو في فئة قليلة، أو دائرة صغيرة.
قلة الإنصاف تخذل العلم, وتطمس شيئاً من معالمه, والإنصاف يؤيد العلم، ويجعل موارده صافية سائغة.
ولو أخذ الإنصافُ حظَّه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق لقلَّت مسائلُ الخلاف في كل علم؛ فيكون حفظ العلوم أيسر, ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر.
نقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام أن ابن الصباغ اعترض عليه في أربعَ عشرةَ مسألة, فلم يدافع عن واحدة منها, بل أقر بالخطأ في جميعها.
ومن النواحي التي غفل فيها بعض الناس عن فضيلة الإنصاف؛ فكانت منبتَ فسادٍ غيرِ قليل _ ناحيةُ التعصب للمذهب تَعَصُّب َ من لا يسمع, ولا يرى.
ولصاحب المذهب أو المُقْتَدي به أن يبسط القول في تقرير أصوله, وإيراد حججه, وله أن يناقش أقوال مخالفيه وأدلتهم؛ فيردها, ويصفها بالخطأ إذا شاء.
ومن الإنصاف أن يناقشها استبانةً للحق, ولا يصفها بالخطأ إلا بعد أن تأذن له الحجة في وصفها.
والعالم الذي يطول نَظَرُه في أقوال الأئمة يشهدهم كيف يَرْمُون إلى غرض واحد هو الحكم المطابق للحق؛ فيمتلئ قلبه باحترامهم, ويقف في حدود الإنصاف عند دَرْسِه لمسألة من المسائل التي جرى فيها اختلافهم.
قال الإمام الشافعي: =الظُّرف في الوقوف عند الحق كما وقف+.
لا يصعب على النفوس التي فيها بقيةٌ مِنْ خير أن تنصفَ الرجل يَبْتَكِر رأياً, أو ينهض لعمل؛ فتعترف لرأيه بالإصابة, أو لعمله بالإجادة.(1/43)
والإنصاف الذي قد تجمع عنه نفسك كثيراً أو قليلا أن تقول قولاً تظنه صواباً, أو تعمل عملا تحسبه حسناً؛ فينقده آخر بميزان العلم الصحيح, ويريك أنك قد قلت خطأ, أو عملت سيئا؛ ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهةً للاعتراف بالخطأ في القول, أو الإساءة في العمل؛ فإن كنت على ذكْرٍ من فضيلة الإنصاف, وما تؤتيه من ثمارٍ طيبة لم تلبث أن تَكْظُم هذه الكراهةَ, ولا تجد في نفسك حرجاً من أن تقول للناس: إني قد أخطأت في قولي, أو أسأت في عملي.
وتاريخ علماء الإسلام مملوء بقصص الذين رجعوا عن آرائهم بعد محاورات أو مناظرات ظهر لهم منها أن الحق في جانب مَنْ دارت بينهم وبينه المحاورة أو المناظرة.
ومما يروى في هذا الصدد أن مناظرةً جرت بين الإمامين: مالك بن أنس, وأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة في مقدار الصاع الذي تؤدى به زكاةُ الفطر, فقال مالك: هو خمسة أرطال وثلث,وكان أبو يوسف يذهب إلى أنها ثمانية أرطال, فاحتج عليه مالك بالصيعان الموجودة لذلك العهد عند أبناء المهاجرين والأنصار بالمدينة؛ فرجع الإمام أبو يوسف إلى ما قاله الإمام مالك.
لا يصعب على الرجل أن ينصف قريباً أو صديقاً, بل لا يصعب عليه أن ينصف مَنْ لا تربطه به قرابةٌ أو صداقةٌ, ولا تبعده منه عداوةٌ.
والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مُراوضةِ النفس كثيراً أو قليلاً أن يبدي بعض أعدائه رأياً سديداً, أو يناقشه في رأي مناقشةً صائبة؛ فهذا موطن تذكير النفس بأدب الإنصاف, وإنذارها ما يترتب على العناد من إثم وفساد.
ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة أن يتحدث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه له من فضل.
أُنشِد في مجلس الإمام علي بن أبي طالب قول الشاعر:
فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا عُلِّقت بجبينه ... وفي خَدِّه الشِّعرى وفي الآخر البدر(1/44)
فلما سمعها علي بن أبي طالب ÷, قال: هذا طلحة بن عبيد الله, وكان السيف لَيَلْتَئِدُ مجرداً بينهما.
يسهل على الرجل أن ينصف مَنْ هو أكبر سناً منه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف قرينه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسدُ, وحسدُ الإنسانِ لأقرانه أكبر وأشدُّ من حسده للمتقدمين عليه في السن.
ويسهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدثُ سناً منه؛ إذ يسبق إلى ظنه أن ظهورَ مزيةٍ لمن هو أحدث عهداً منه قد تفضي إلى أن يكون ذِكْرُهُ أرفعَ.
وفضلُ القرين على بعض أقرانه شائعٌ أكثر من فضل المتأخر على المتقدم, وشيوع الشيء يجعله أهونَ على النفس مما هو أقل شيوعاً منه.
فينبغي للإنسان أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعيةُ العناد, ويعدَّ للوقوف عند حدود الإنصاف, ومقاومة تلك الداعية _ ما استطاع من قوة.
ويقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة, ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يَظْهَرَ عليه أحدُهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامةَ عبدَالله الشريفَ التلمسانيَّ كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه, ويبرزه في أحسن صوره.
ويروى أن أبا عبد الله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد بن الإمام الكلامَ في مسألة, وطال البحث اعتراضاً وجواباً حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد, فاعترف له الأستاذ بالإصابة, وأنشد مداعباً:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
ومن نظر بروية إلى أن فضل العلم من جهة أنه وسيلة إلى إصلاح العمل، وإسعاد البشر, وكان مع هذا النظر ناصحاً لأمته _ وقف عند حد الإنصاف، ولم ينحرف عنه إجابةً لداعي الحسد؛ أو انسياقاً مع حب العلو في الأرض ولو بغير حق.
أخذ رجال بأدب الإسلام؛ فرسخوا في فضيلة الإنصاف على قدر صفاء سرائرهم, واحترامهم لأصول الدين وأحكامه.(1/45)
وقد مثل الصحابة _ رضي الله عنهم _ الإنصاف في أكمل صورة, بدا لعمر ابن الخطاب مرة أن يضع للمهور حداً, فخطب قائلاً: =لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال+.
فقامت امرأة من صف النساء, فقالت: ما ذاك لك, قال: ولم؟ قالت لأن الله _ عز وجل _ يقول: [وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً]
فقال عمر: =امرأة أصابت، ورجل أخطأ+.
ولو كان عمر بن الخطاب ÷ من أولئك الذين يألمون من أن ينسب إليهم نقصٌ أكثرَ من ألمهم لتحريف آية عن موضعها, أو استبدال خاطر بشري بحكم إلهي _ لما عَدِم وجهاً من أمثال تلك الوجوه التي يصورها المخادعون, أو ضعفاء الإيمان؛ تعصباً لآرائهم المخالفة للقرآن.
اختلف ابن عباس وزيد بن حارثة _ رضي الله عنهما _ في مسألة من باب الحيض, فقرر ابن عباس حكماً؛ وخالفه زيد, فرأى فيها رأياً آخر, فقال له ابن عباس: سل نسيَّاتك: أم سليمان وصويحباتها, فذهب زيد فسألهن, ثم جاء وهو يضحك، فقال لابن عباس: القول ما قلت.
وموضع العبرة من هذه القصة أن زيداً تمسك برأيه في مخالفة ابن عباس حتى استبان له أن الحق مع ابن عباس, فلم يجد في نفسه حرجاً من أن يرجع إليه ضاحكاً، ويقول له: القول ما قلت.
ويروى أن الإمام علي بن أبي طالب ÷ تكلم في مسألة, فقال له أحد الحاضرين: ليس الأمر كذلك يا أمير المؤمنين, ولكنه كذا وكذا, فقال علي: أصبتَ وأخطأتُ, وفوق كل ذي علم عليم.
وعشاق الأخلاق الكريمة يجلون الإمامَ علياً لهذا الإنصاف إجلالهم له عندما يفتي، فيصيب الحق, أو يعظ، فينطق بالحكمة.
وقد اقتدى بالصحابة في هذا الخلق الكريم من جاء بعدهم من كبار العلماء, وهذا الإمام الشافعي ÷ يقول: =ما ناظرت أحداً على الغلبة, ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه+.(1/46)
والراسخون في فضيلة الإنصاف لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده, أو بمحضر جمع كبير لم يشعروا بالخلاف, ولا بخطأ المخطئ، أو إصابة المصيب.
وها هو ذا التاريخ يحدثنا عن رجال من علماء الإسلام بلغوا هذه الغاية من الإنصاف, قال عبد الرحمن بن مهدي: ذاكرت القاضي عبيد الله بن الحسين في حديث وهو يومئذ قاض, فخالفني فيه, فدخلت عليه بعد وعنده الناس سماطين(1), فقال لي: ذلك الحديث كما قلت أنت؛ وأرجع أنا صاغراً.
فعبيد الله بن الحسين قد أحسن إلى نفسه؛ إذ أخذها بفضيلة الإنصاف, وأحسن إلى الناس؛ إذ علمهم كيف يعترفون بالخطأ إذا أخطأوا، ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم, وعلت أقدارهم.
العناد قبيح, ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رَدَّه على صاحبه؛ فمتى كانت الحجةُ أظهرَ كان العنادُ أقبحَ، والإنصافُ جميلٌ ويكون جمالُه أوضحَ وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيءٌ من الخفاء, وحيث يُمْكِنُك أن تتحيز لرأيك، وتهيئ كثيراً من الأذهان لقبوله.
وقد ينقل التاريخُ شذراتٍ من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر, أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة؛ فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد, وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب, وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة.
وسببُ هذا الإكبارِ عظمةُ الإنصافِ, وعِزَّةُ مَنْ يأخذ نفسه بها في كل حال.
قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.
__________
(1) سماط القوم صفهم, يقال: قام القوم حوله سماطين أي صفين.(1/47)
وإذا لم ينصفك الرجل, فرد عليك الحق بالشمال واليمين, أو جحد جانباً من فضلك وهو يراه رأي العين _ فلا تكن قلةُ إنصافِه حاملةً لك على أن تقابله بالعناد, فترد عليه حقاً, أو تجحد له فضلاً, واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت, فَيَلِجَ في نفسك, وينشط له لسانك أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.
كلا, لا يحارب الرجل خصومه المبطلين بمثل الاعتصام بالفضيلة, ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف تدل على نفس مطمئنة, ونظر في العواقب بعيد.
ومن وجد في خصمه فضائل حصر محاربتَه في الأمر الذي هو منشأ الخصومة؛ وترك تلك الفضائل قارَّةً في مكانها, باديةً لمن أراد أن يقتدي بها.
وإذا كان الإنصافُ فضيلةً ترتفع بها أقدارُ الرجال, وتتسع بها دوائرُ العلوم, وتصفو بها مواردُ الآداب, ويشتد بها حبلُ الاتحاد, وينتظم بها شأنُ الاجتماع _ كان من واجب أولياء الأطفال, وأساتذة الأخلاق, ودعاة الإصلاح أن يجعلوا له من تربيتهم، وتعليمهم، ودعوتهم نصيباً يكفي لأن نرى أنديتنا ومؤلفاتنا وصحفنا نقيةً من إنكار الحق, بريئة من جحود الفضل.
علم الأخلاق(1) للشيخ علي فكري _ أمين دار الكتب المصرية
علم الأخلاق: هو العلم الذي يبحث عن حالة النفس، ونزوعها في أفعالها إلى الخير أو الشر، وعن الصفات الإنسانية عاليها وسافلها، وعن بقاء تلك الصفات في الإنسان وقبولها للتغيير.
وقد قال العلماء: إن الأخلاق هي صورة النفس المستترة التي تظهر في الإنسان عند القيام بأفعاله التي لا تكلف فيها.
ولا تكون الأفعال خلقاً للإنسان إلا إذا كانت صادرة لا عن تكلف، ولا عن إجهاد نفس، ولا عن تفكير.
فالأعمال التي يحتاج فاعلها إلى إكراه نفسه عليها لا تعد من خلقه؛ لأنها ليست سجية له، ولا طبعاً.
__________
(1) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، 1 / 7 _10 رجب 1343هـ.(1/48)
فمن يتكلف فعل المكرمات، وبذل المال؛ رياء لا يقال خلقه السخاء أو الكرم، ومن تصنَّع الحلم أو التواضع لا يسمى حليماً ولا متواضعاً.
وها هو ذا أبو الطيب المتنبي يقول:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
فرب شخص من خلقه السخاء لكنه لم يبذل لفقده المال، أو لمانع آخر، ورب بخيل تراه في طليعة الباذلين والمتبرعين؛ لحاجة في نفسه قضاها.
من أجل هذا عرَّف بعضهم الأخلاق فقال: هي ميول وجدانية تقوم بالنفس؛ فتوحي بها إلى الجوارح؛ فتحدث آثارها إن خيراً، وإن شرّاً وفاقاً لإرادة الشخص ونزوعه النفسي...
والأخلاق إما حسنة وإما سيئة، فالحسن: ما حسَّنه الشرع والعقل(1)، والسيئ: ما ذمه الشرع والعقل.
ومن شأن العاقل الكامل أن يختار الأفضل، والأحسن في العاقبة وإن كان في فعله مشقة على النفس، أو كان مكروهاً لها، ومبغضاً قال _ تعالى _: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]، وقال _ تعالى _: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]
وآفة عقل الإنسان هواه؛ ولذا قال بعض الحكماء: أرفض الهوى؛ فإنه إذا غلب العقل جعل محاسن المرء مساوئ، فيصير الحلم حقداً، والعبادة رياءاً، والجود تبذيراً، والاقتصاد بخلاً.
وقال آخر:
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عَقْلُه فقد نجا
وإذا قوي العقل، وغلب قاد صاحبه إلى محاسن الأخلاق، ومحامد الأمور، وحفظه من التردي من مهاوي الهلكة.
وإن ضعف العقل هلكت النفس، وظهر اعوجاجها.
__________
(1) المقصود بالعقل: العقل السليم، وهو السالم من الشهوات والشبهات؛ وإلا فقد تُحسِّن بعض العقول ما ليس بحسن، وقد تقبح ما ليس بقبيح؛ فالعبرة _إذاً_ بالشرع، وإن كان للعقل مدخل في التحسين والتقبيح، ولكنه لا يستقل بذلك. (م)(1/49)
وليس الإنسان شرِّيراً بفطرته، ولا خيراً بطبعه، ولكنه خلق أداة صالحة؛ لفعل ما يوجهها العقل إليه قال _ تعالى _: [أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(1)(10)] البلد: 8 _10، وقال: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(2) (10)] الشمس: 7 _10.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدل على أن العقل السليم يهدي صاحبه إلى الخير، فالأمة العربية في جاهليتها كانت غريقة في بحار الآثام من خمر، وميسر، وقتل نفس بغير حق، ووأد بنات، وهتك أعراض؛ فلما جاء الإسلام وغلب العقل الهوى انتقلت تلك الأمة من حمأة الفساد إلى روضة الصلاح والاستقامة، فأتت فعلاً حميداً، ونالت عزّاً مجيداً.
وحسبك أن تعلم أن الأمة العربية سادت بجميل الأخلاق، وحميد الخلال، فكان الصدق، والأمانة، والعفة، والوفاء، والمروءة، والإخلاص في العمل، والألفة، والاتحاد، وكلها مجتمعة في الرجل منها يُتَحلَّى بها عن رغبة لا عن رهبة، وبميل ووجدان شريف، ونزعة نفسية حرة.
أخلاق الناس(3) للدكتور. زكي مبارك(4)
__________
(1) الطريقين.
(2) دنَّسها.
(3) البدائع، د. زكي مبارك 1/18.
(4) هو الأديب الدكتور زكي بن عبدالسلام بن مبارك: أديب من كبار الكتَّاب المعاصرين، امتاز بأسلوب خاص في كثير مما كتب، وله شعر في بعضه جودة وتجديد، عاش في الفترة ما بين: 1308_1371هـ
ولد في قرية =سنتريس+ بمنوفية مصر، وتعلم في الأزهر، وأحرز لقب =دكتور+ في الآداب من الجامعة المصرية، واطلع على الأدب الفرنسي في فرنسة، واشتغل بالتدريس بمصر.
انتدب للعمل مدرساً في بغداد، وعاد إلى مصر، فعين مفتشاً بوزارة المعارف.
نشر مؤلفاته في فترات مختلفة، وكان في أعوامه الأخيره يوالي نشر فصول من مذكراته وذكرياته في فنون من الأدب والتاريخ الحديث تحت عنوان =الحديث ذو شجون+.
أصيب بصدمة من عربة خيل أدت إلى ارتجاج في مخه، فلم يعش غير ساعات؛ إذ توفي في القاهرة ، ودُفن في سنتريس.
له نحو ثلاثين كتاباً، منها =النثر الفني في القرن الرابع _ط+ جزءان، و=البدائع_ط+ مقالات في الأدب والإصلاح، و=حب ابن أبي ربيعة وشعره_ط+، و=التصوف الإسلامي_ط+، و=ألحان الخلود_ط+ ديوان شعره، و=ليلى المريضة في العراق_ط+ ثلاثة أجزاء، و=الأسمار والأحاديث_ط+، و=ذكريات باريس_ط+، و=الأخلاق عند الغزالي_ط+، و=وحي بغداد_ط+، و=ملامح المجتمع العراقي_ط+، و=الموازنة بين الشعراء_ط+، و=عبقرية الشريف الرضي_ط+ جزءان، وورد اسمه على بعض كتبه =محمد زكي مبارك+. انظر الأعلام للزركلي 3/81_82.(1/50)
قَلِّبْ ما شئت من مؤلفات القدماء فسترى أنَّ المؤلفين كانوا يهتمون في أكثر الأحيان بمحاربة الرذائل الاجتماعية، لاسيما الغيبة والنميمة؛ لأنهما من أخطر أسباب القطيعة بين الناس.
أما المؤلفون في العصر الحاضر فيرون الغيبة والنميمة من الموضوعات البالية التي لا تصلح لأقلام المُحْدَثين، وإني لأكتب هذه الفقرات في هيبة وحذر؛ خشيةَ أن يقول قائل: ما هذه الرجعة إلى أوهام الأولين!
ويسألني من أرى من الأصدقاء: أين تسهر؟ وأين نراك؟
والسهرات عند هؤلاء هي جلساتٌ سخيفة تؤكل فيها لحوم الناس، ويجري فيها من السفه والبذاءة ما يندى له الجبين! ويا ويل من تَكْرُمُ عليه نفسُه؛ فلا يشترك في لغو الحديث؛ فهو عندهم ثقيل الظل، بارد الأنفاس!
والتطرف في عصرنا هو مضغ أخبار الأدباء والشعراء والمؤلفين.
وفي شباب اليوم أفراد يعيشون من هذا الرزق الحرام؛ فهم زينة الأندية الرقيعة التي لا تجري فيها كلمةُ خير، ولا تَعْرِف زواياها غيرَ الإفك والبهتان من عبث القيل والقال.
وفي كهول اليوم طوائفُ تتلمس هذه الأنواع البشرية التي تحسن تلفيق الأراجيف والأكاذيب.
وإنك لتعجب كيف يتفق لمن يسمونهم أدباء الشباب وأدباء الكهول أن يجيدوا شيئاً، وهم يقضون ثلاثة أرباع الوقت في تلك الأحاديث الممجوجة التي تتنافر مع سماحة الطبع، وسلامة الذوق، ورجاحة العقل.
أين أسهر؟ أنا أسهر في بيتي حيث آنس بوحشة الليل؛ فقد ضجرت من إخوان الزمان، وعادت الوحدة أحبَّ إلى نفسي مِنْ صحبة مَنْ يلبسون ثوباً للمحضر، وثوباً للمغيب.
أين من يعرف أدب النفس في هذه الأيام؟ وأين الرجل الذي تثق بكرمه ومروؤته؟ وتطمئن إلى أن أذنه لا تفتح لأهل اللغو والفضول ممن يبعثرون النمائم ذات اليمين وذات الشمائل؟ وأين من يزن ما يقول، ويفكر في عواقب ما يقول؟ وأين من سَلِم أديمُه في هذا البلد، فلم تمزقه الأقاويل والأراجيف؟(1/51)
دلونا أيها الناس على رجل واحد سلم عرضُه وشرفُه، وحُفِظَ معروفُه وجميله، واستطاع الفضل أن يحميه من لغو المرجفين، وكيد المفسدين.
لقد صحبت طوائف من المصريين وطوائف من الأجانب وانتهيت إلى النتيجة الآتية: الغيبة والنميمة من الرذائل الإنسانية يقع فيها المصريون وغير المصريين.
ومع هذا لاحظت أن المثقفين من الأجانب قد يستبيحون الاغتياب، ولكنهم لا يستبيحون البهتان؛ فالرجل قد يغتابك، ولكنه يتحرَّج من أن يصفك بما ليس فيك، وقد ينم، ولكن نمائمه خالصة من المفتريات.
أما المثقفون منَّا _وا أسفاه!_ فيجمعون بين الرذيلتين: النميمة، والافتراء.
ومعنى هذا أنَّ من الأجانب من يعصمه الحياء من خَلْقِ الأكاذيب، وأنَّ فينا من تنقصه فضيلة الحياء.
إننا نتحدث كثيراً عن الوطنيةِ، والوطنيةُ لا تقوم إلا على فكرة الوطن، والوطن لا يُحَبُّ إلا حين يكون لنا فيه أصدقاء وأخلاء؛ فإنَّ الموداتِ والعلاقاتِ هي أساس التقديس(1) للأفكار والأشخاص.
أيها المغتابون والنمامون! أنتم أعداء الصدق والكرامة والوطنية، وأنتم أعداء أنفسكم لو تعلمون!
الوفاء (2) لمصطفى لطفي المنفلوطي(3)
__________
(1) لو قال: التقدير(م).
(2) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص364_367.
(3) هو مصطفى لطفي المنفلوطي، ولد بمنفلوط من أعمال محافظة أسيوط سنة 1293هـ، 1876م، ونشأ في بيت كريم جليل معروف بالعلم والقضاء، وقد نهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم بالأزهر، وكان ميالاً إلى علوم اللغة، وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل، وقد برز في الكتابة أكثر من بروزه في غيرها؛ فصار في مصاف أكابر الكتاب في عصره، وكان× أديباً موهوباً، ذا أسلوب ساحر، وبيان عذب.
وجملة القول _كما يقول الزيات_ أن المنفلوطي في النثر كالبارودي في الشعر كلاهما أحيا، وجدد.
أما مؤلفاته فله النظرات في ثلاثة أجزاء جمع فيها ما نشره في صحيفة المؤيد من الفصول في النقد، والاجتماع، والوصف، والقصص.
وله مختارات المنفلوطي من أشعار المتقدمين ومقالاتهم.
وقد ترجم له بعض أصدقائه من الفرنسية تحت طلال الزيزفون (مجدولين) لأفونس كار روبول سود فرجيني (الفضيلة) لبرناردي سان بيير، وسيرانود برجراك (الشاعر) لأدمون رستان، فصاغها بأسلوبه البليغ الرصين صياغة حرة لم يتقيد فيها بالأصل؛ فأضافت إلى ثراء الأدب العربي ثروة، وكانت للفن القصصي الحديث قوة.
وقد جمعت كتاباته في المجموعة الكاملة _الموضوعة والمقتبسة_.
أما أخلاقه فكان كريماً عف الضمير، رقيق القلب، سليم الصدر.
توفي× سنة 1924م عن 48سنة.
انظر تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ص537_540.(1/52)
يا صاحب النظرات(1):
تزوجت منذ سنة من زوج صالحة طيبة القلب والسريرة، فاغتبطت بعشرتها برهة من الزمان، وقد عرض لها في هذه الأيام رمد في عينيها؛ فذهب ببصرها فأصبحت عمياء، وأصبحت أعمى بجانبها، وقد بدا لي أن أطلقها وأتزوج من غيرها... فماذا ترى ؟
إنسان.
أيها الإنسان: لا تفعل، فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين، وجرم الغادرين، وكن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم؛ لتستطيع أن تدخر لنفسك عند الله من المثوبة والأجر ما يدخر أمثالك من الصابرين المحسنين.
لا تقل: إنها عمياء فلا خير فيها، ولا غبطة لي بها؛ فإنك ستجد بين جنبيك من لذة المروءة والإحسان والجود والإيثار ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان، في مقاصير الجنان.
اجلس إليها صباحك ومساءك، وحادثها محادثة الصديق صديقه، بل الزوج زوجه، وتلطف بها جهدك، وروِّح عن نفسها ما يساورها من الهموم والكروب وقل لها: لا تجزعي ولا تحزني؛ فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ونورك الذي به تهتدين.
أعيذك أيها الإنسان بالله ألا تجعل لهذا الخاطر السيء _ خاطر الطلاق والفراق _ سبيلاً إلى نفسك، فإنها لم تسىءْ إليك؛ فتسيءَ إليها، ولم تنقضْ عهدك؛ فتنقضَ عهدها، فإن كنت لا بدَّ ثائراً لنفسك فاثأر من القدر إن استطعت إليه سبيلاً!
إنَّ عجزاً من الرجل وضعفاً أن يغضب؛ فيمد يده بالعقوبة إلى غير من أذنب إليه، ويعتدي عليه.
إن لم يكن احتفاظك بزوجك، وإبقاؤك عليها عدلاً يسألك الله عنه فليكن إحساناً تحاسبك الإنسانية فيه.
إنك قد خسرت بصرها، ولكنك ستربح قلبها، وحسب الإنسان من لذة وهناءة في هذه الحياة قلب يخفق بحبه، ولسان يهتف بذكره.
إنها أسعدتك برهة من الزمان، فليخفق قلبك رحمة بها، بقدر ما خفق سروراً بعشرتها.
__________
(1) صاحب النظرات هو المنفلوطي× وصَدْرُ هذه المقالة سؤال وجه إليه، ورمز السائل لنفسه بـ: إنسان، وبعد ذلك أجابه.(1/53)
لا أحسب أنها كانت تاركتك، أو غادرة بك لو أن هذا السهم الذي أصابها قد أصابك من دونها؛ فاحرص الحرص كله على ألا تكون امرأة ضعيفة أسبق منك إلى فضيلة الصدق والوفاء.
إلى من تعهد بها بعد فراقك إياها؟ وأي موطن من المواطن هيأته لمقامها؟ وما أعددت لها من الوسائل التي تستعين بها على عيشها؟ وتأنس بها في وحشتها ووحدتها؟
كيف يهنأ لك عيش، أو يغمض لك جفن؟ إذا أظلك الليل فذكرتها، وذكرت أنها تقاسي في وحدتها من الوحشة ما لا قبل لها باحتماله، وأنها ربما طلبت جرعة ماء، فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز، فلا تجد من يدلها عليها، أو ربما قامت من مضجعها في سكون الليل وهدوئه تتلمس الطريق إلى حاجة من حاجاتها، فأخطأ تقديرُها، فصدمها الجدار في جبينها صدمة أسالت دمها حتى امتزج بدمعها؟
أيها الإنسان: إن لم تكن عادلاً ولا وفياً ولا محسناً فارحم نفسك من هذا الخيال الذي لابدَّ أن سيساورك، يفت في عضدك ويزعجك من مرقدك، فإن لم تكن هذا ولا ذاك، فغيرك أخاطب؛ لأني لا أحسن إلا مخاطبة الإنسان.
إني محدثك عن صديق لي من كرام الناس وأوفيائهم تزوج امرأة حسناء؛ فاغتبط بها برهة من الزمان، ثم أصابها الدهر بمثل ما أصاب به زوجك، ولم يترك لها من ذلك النور الذاهب إلا كما تترك الشمس من الشفق الأحمر في حاشية الأفق، فلم يقنعه من الوفاء لها أَنِ استبقاها واستمسك بها، بل كان يحرص جهده على ألا تعلم أنه ينكر من أمرها شيئاً، فكان يعتب عليها في بعض الأحايين في أشياء لا يؤاخذ بها عادة إلا الناظرون المبصرون؛ يريد أن يلقي في روعها أنه لا يزال يعدها ناظرةً مبصرة، وأنه لا يرى شيئاً جديداً عليها؛ رحمة بها، وإبقاءاً على ما كانت تحب أن تحاوله من الاعتداد بنفسها، والإدلال بمزاياها.(1/54)
ولقد قرأت جملة صالحة من نوادر العرب في آدابهم، ومكارم أخلاقهم، ورقة شعورهم، ولطف وجدانهم، فلم أر بينها نادرة أوقع في النفس، ولا أجمل أثراً في القلب من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية، وكان كفيف البصر: اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين عاماً فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام بل يقول: اخرج معه يا غلام.
فإن كنت تريد أن يسجل لك من الوفاء في صفحات القلوب، ما سجل لأحمد بن أبي دؤاد(1) في صفحات التاريخ فلا تُطَلِّق زوجك، ولا تنقم منها أمراً قد خرج حكمه من يدها، وإن أبيت إلا أن تأخذ لنفسك حظها من لذائذ العيش فاعلم أنه ما من لذة يتمتع بها الإنسان في حياته إلا ويشوبها الكدر، أو يعقبها الألم، إلا لذة البر والإحسان.
الشرف(2) للأستاذ أحمد أمين
في الحرب الروسية اليابانية الماضية أُخذ بعضُ الضباط أسرى ووضعوا في مكان وأخذ منهم كلمة ألا يهربوا، ولم يوضع عليهم حُرَّاس؛ اكتفاءاً بوعدهم وكلمتهم، فما الذي منعهم أن يفروا أو يهربوا ؟ كلمة الشرف...
__________
(1) ولكن التاريخ سجل عليه ما لا ينسى من قيامه بتبني امتحان الناس وخصوصاً الإمام أحمد× في مسألة خلق القرآن الكريم (م).
(2) فيض الخاطر 6/255_ 258.(1/55)
ومن حكايات العرب المشهورة أن حصن بن زرارة لما ضاقت المعيشة به وبقومه رحل إلى كسرى، فشكا إليه ما أصابهم من الجهد في أموالهم وفي نفوسهم، وطلب إليه أن يأذن له ولقومه أن ينزلوا في البلاد المتاخمة لفارس؛ لِخِصَبها، فقال كسرى: إن العرب فيهم غدر، فإذا أذنت لهم عاثوا في الأرض وأغاروا، فقال: أنا ضامن لهم، قال كسرى: فمن لي أن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي، فلما جاء بها ضحك مَنْ حول الملك؛ لتفاهة القوس وحقارتها، ولكن كسرى كان عارفاً بالرجل وبعادات العرب فقبل منه القوس رهناً، فما الذي حمله على قبول قوسه الحقير؟ لأنه انضم إلى رهن القوس ذمة الرجل ووعده وكلمته، وقد بَرَّ بوعده، وهذا هو الشرف؛ فالشرف في أبسط أشكاله أن يحافظ الطفل، والشاب، والرجل، والمرأة على الكلمة تصدر منهم كأنها =عِقْد+سواء في ذلك اللسان، أو التوقيع بالقلم، والفرق بينهما أن التوقيع على العقد يُلْزِمُ به القانون، والنطق بالكلمة يلزم به الشرف.
وهناك مظاهر للشرف في كل عمل يعمله الإنسان؛ فالأطفال في أعمالهم قد يَغُشُّون فلا يكون لهم شرف، وقد يكونون أمناء فلهم الشرف، والبائع قد يغش في الكيل والميزان فلا شرف له، وقد يكون أميناً؛ فهو شريف، ورئيس الوزارة قد يحترم كلمته، ويحافظ على بلاده ويحفظ سمعتها؛ فيكون شريفاً، وقد لا يقوم بذلك؛ فلا يكون شريفاً وهكذا.
وهناك نوع آخر من الشرف، وهو حماية الضعفاء؛ فالدنيا مملوءة بالضعفاء كالفلاَّح المسكين الذي لا يجد ما يأكل، والصانع الذي حدثت له إصابة منعته من العمل، والمريض لا يجد ما يتداوى به، والأسرة مات ربها ولا عائل لها، والتلميذ النابغة لا يجد وسيلة لتعليمه وهكذا، كل هؤلاء ضعفاء، وكل هؤلاء يحتاجون إلى المعونة لسد حاجتهم.(1/56)
فمساعدتهم، وسد عوزهم، والأخذ بيدهم ضربٌ من ضروب الشرف؛ فشريفٌ مَنْ ينزل عن بعض ماله لمساعدة هؤلاء المنكوبين، وشرفاءُ مَنْ يؤسسون جمعيات ينفقون عليها من مالهم، وعقولهم، ونشاطهم؛ لرفع البؤس عن البائسين.
وهناك أنواع أخرى صغيرة من أنواع الشرف، إذا كان أمامك خطاب لآخر تستطيع أن تقرأه ولكن رأيت من الواجب ألا تقرأه؛ لأنك لا تملكه؛ فهذا شرف، وإذا اؤتمنت على سرٍّ فلم تبح به؛ فهذا شرف، وإذا ضغطت عليك الحوادث؛ لتسير سيراً معوجاً لا يتناسب والخلقَ السامي فأبيت إلا أداء الواجب مهما ضحيت في سبيله فهذا شرف، وإذا كانت كلمة الحق تهددك في منصبك أو مالك فقلتها ولم تبال بالعواقب فهذا شرف.
إذاً فيجمع الشرَف كلمةٌ واحدة هي أن تحافظ على الكلمة تصدر منك، وعلى واجبك تؤديه على الرغم من كل شيء.
وللشريف مكافأتان يكافئه بها الناس ويكافئ بها نفسه، فمكافأة الناس كالأوسمة، والرتب، وبعض المناصب، والمكافآت المالية، والدرجات الجامعة، وإقامة الخطب، والهتافات إذا منحت كل هذه لرجل شريف لأداء عمل شريف.
وهناك مكافأة أهم من هذه وهي مكافأة الشريف نفسه برضا ضميره لأداء واجبه، هي راحة نفسه، وسرورها باحتمال المشقة؛ لعمل ما كان ينبغي أن يعمل، ولذة هذا الشعور تفوق كل لذة(1).
كان الجنرال (غوردون) قائد حملة في الصين فلما انتهت مهمته كتب يقول: =إني أعلم أني سوف أترك الصين فقيرة كما دخلتها، ولكنَّ ضميري مرتاح؛ لأني استطعت أن أُنْجِيَ نحو مائة ألف نفس من الموت، وهذا عزائي+.
ولما مُنِحَ لقب الشرف على عمله قال: إن هذه الألقاب والنعوت كلها لا تساوي عندي (بنسين) ولما منحه إمبراطور الصين ميدالية ذهبية صهرها، وباعها، وتصدق بثمنها على فقراء الصين.
الطفل الشريف يأبى أن يعمل عملاً يسيء سمعته، أو فصله، أو مدرسته.
__________
(1) وهناك أعظم من جميع هذه المكافآت، ألا وهي نيل رضا الله _عز وجل_ والفوز بالجنة (م).(1/57)
والرجل الشريف يأبى أن يعمل عملاً يضر بأسرته، أو أمته.
والمرأة الشريفة تأبى أن تأتي عملاً يضر بأسرتها أو أمتها، بل أكثر من ذلك أن الرجل الشريف أو المرأة الشريفة عنده شعور قوي يدفعه للإعجاب بمن يأتي بعمل يُشرِّف أسرته أو أمته.
ويتجلى هذا الشعور بالقول، وبالتبرع، وبالتكريم، كما أن هذا الشعور القوي يدفعه إلى السخط الشديد على من يرتكب عملاً نذلاً يَحُطُّ أسرته، أو أمته، ويترجم هذا الشعور بالقول والعمل.
وكما أن هناك جنيهاً صحيحاً، وجنيهاً مزيفاً، وعَقْدَ بيعٍ صحيحاً وعقداً مزيفاً _ كذلك هناك شريف صحيح، وشريف مزيَّف؛ فكل الأنواع التي ذكرتها من المحافظة على الكلمة، ومساعدة الضعفاء، وقول الحق في صراحة، وأداء الواجب في أمانة، ودفع السوء عن الأسرة، والوطن، وجلب الخير لهما _ كل هذه أنواع من الشرف الصحيح.
أما الشرف المُزَيَّف فأنواع كذلك، كالشرف بالغنى الذي لا ينفع الغنيُّ به أمتَه وقومه، فاحترام الناس للغني؛ لأنَّ عنده ألف فدان أو أقل أو أكثر احترامٌ خاطئ، وتعاظمُ الغنيِّ؛ لأن عنده هذه الأطيان شرف مزيف.
إنما يكون شريفاً صحيحاً يوم يفخر أنه استخدم غناه في مصلحة قومه، فساهم في أعمال الخير، وتبرع لرفع البؤس عَمَّنْ كانوا سبب غناه، وخَفَفَ بماله بؤس البائسين، وعوز المحتاجين.
كذلك من الشرف المزيف الفخر بالمنصب، كأن يكون وزيراً، أو مديراً، أو في الدرجة الأولى أو الثانية، فهذا الفخر إن لم يقترن بالعمل النافع شرفٌ مزيفٌ.
وواجبُ الأمةِ العاقلةِ أن تزن الأمور بميزان صحيح؛ فلا تَبْذِلَ من الاحترام، والتوقير، والإجلال لغني، أو وزير، أو مدير إلا بمقدار ما يسدي للأمة بماله ومنصبه من خير.
ولو عقل الناس لاحترموا كناساً في الشارع يؤدي واجبه أكثر مما يحترمون وزيراً لم يؤدِّ واجبه بل أضاع واجبه.(1/58)
كذلك من ضروب الشرف المزيف الفخر بالحسب والنسب، فهو من أسرة فلان، ومن بيت فلان، ونسيب فلان، وابن فلان، وحفيد فلان؛ فكل هذا لا قيمة له في الشرف ما لم يُدْعَمْ بالعمل النافع.
ورجل عصامي نشأ من بيت فقير، وكان أبوه نجاراً، أو حداداً ثم أتى بعمل جليل خيرٌ من الحسيب النسيب لا يأتي عملاً، أو يأتي ما يشين.
ومثل هذا من الشرفِ المزيَّفِ الأمةُ تفتخر بماضيها، ولا تعمل لحاضرها، ومستقبلها، والشاعر العربي يقول:
إذا أنت لم تحمِ القديم بحادث ... من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
فالذي يَشْرُف بماله، أو بمنصبه، أو نسبه، أو تأريخه شريف مزيف، ما لم يأت بأعمال شريفة من نفسه.
الشريف يحترم نفسه؛ فلا يعمل الدنيء من الأعمال، ولو أَمِنَ أن يطلع عليه أحد، ويخاف من ضميره أكثر مما يخاف من غيره، ويترفع عن الصغائر، ويَحْرِمُ نفسه من بعض المباح؛ لأنه يرى نفسه أرفع من أن تأتي بمواضع الشُبَه.
والشريف يسمو إلى الغرض النبيل، ولا يهدأ ضميره حتى يناله، أو يقرب منه.
لقد أخذت اللغة الإنجليزية من اللغة العربية كلمة (شريف)، واستعملتها في بعض المناصب الرفيعة، وسَمَّتْ بعض المحاكم (محكمة الشرفاء)؛ فهل يعتز العرب بهذه الكلمة، ويتخذونها أساساً لأفعالهم؛ كما تأصلت في لغتهم؟ أرجو ذلك.
مضار الإسراف (1) للشيخ محمد الخضر حسين
تعظم الأمة، وترقى في سماء العزة والمنعة، بخصال من أكبرها أثراً الاقتصاد في الإنفاق، والاقتصاد فضيلة بين رذيلتين: هما البخل، والإسراف.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء الأول والثاني، من المجلد الرابع عشر ، وانظر كتاب محاضرات إسلامية لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين جمعها وحققها علي الرضا التونسي ص140_147.(1/59)
وتقديره يختلف باختلاف أحوال الأشخاص من اليسار وقلة ما في اليد، وضابطه أن لا يتجاوز الإنسان في نحو مطعمه، وملبسه، ومسكنه، وأثاث منزله سيرةَ من يماثلونه في مقدار ما يملك، أو يكسب من المال، وهم يعيشون في مروءة، وسلامة من هموم الدين.
ولما كان الاقتصاد يقوم على عدم الإسراف في الترف اخترنا أن نجعل حديثنا في الإسراف وما يجرُّ إليه من عواقب وخيمة.
الإسراف يُفضي إلى الفاقة؛ ذلك أن المسرف يطلق يده في الإنفاق إرضاءً لشهواته؛ حتى يفقده ما عنده، وينزل إلى طبقة المقلِّين أو المعدمين، وكم من بيوت أسسها آباء مقتدرون، وعمَّروها بما يليق بها من المرافق والأمتعة، وأقاموا حولها وسائل للثروة، من نحو المزارع، أو المصانع، أو المتاجر، ثم صارت إلى أبنائهم من بعدهم وقد غلب عليهم حب الترف، فأطلقوا لشهواتهم العنان حتى أتلفوا وسائل الثروة، وتقوَّض بناء تلك البيوت، والتحق أولئك الخلف بطبقة البائسين الذين لا يجدون ما ينفقون.
وإذا وقع الرجل في الفقر بعد اليسار، تجرَّع مرارة الهوان المصحوب بحسرات.
وكذلك الأمة تملك عزتها بقدر عمارة بيت مالها، قال أبو جعفر المنصور في وصيته للمهدي: =فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً+.
ومن ثمَّ كان القاضي منذر بن سعيد البلوطي يواجه الخليفة عبدالرحمن الناصر بالنهي عن الإسراف في المباني وزخرفتها، ويلقي بحضرته الخطب الزاجرة، حتى خاطبه يوماً بقوله:
يا باني الزهراء مستغرقاً
... أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل
ثم قال: اللهم اشهد فقد بلَّغت.
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة، من نحو الجبن والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.(1/60)
أَمَّا أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ من العيش يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرص على تجنب مواقع الحروب وإن كانت مواقف شرف، وذود عن النفس والعرض والمال.
شأن المحفوف بالزينة، وملاذ العيش أن تشتد كراهيته للموت، ولا يسابق إلى خوض غمار الحروب؛ لهذا ترى الرجل الذي يريد أن يجعل لشجاعة ممدوحة مزية زائدة يحدثك أنه يندفع إلى الحروب غير مبال بما تركه وراءه من لذة وزينة، كما قال الحطيئة العبسي:
إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه
... كعاب عليها لؤلؤٌ وشنوفُ
حَصَانٌ لها في البيت زيٌ وبهجة ... ومشيٌ كما تمشي القطاة قَطوفُ(1)
وإذا كان شأن المترفين الفرار من الموت، فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور؛ فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يُبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب، إن كان ذا سلطان وقوة.
__________
(1) هذان البيتان ضمن قصيدة مدح بها الحطيئة سعيد بن العاص، ومعنى قوله (وشنوف): جمع شنف، وهو القرط الأعلى، و(الحَصان): العفيفة، وقوله (كما تمشي القطاة..) يعني أنها قليلة المشي، مقاربة الخطو، ليست كمن اعتاد السير.
والمعنى أن الممدوح إذا أراد الغزو، فنهته امرأته عن ذلك مضى إلى سبيله، ولم يلتفت إليها، مشيراً إلى الزينة والترف لا يذهب برجوليته، ولا يقعد به عن حماية الشرف، والكرامة. (م)(1/61)
دُعِيَ العلامة محمد بن بشير إلى ولاية القضاء بقرطبة، فاستشار بعض أصحابه في قبول الولاية، فسأله صاحبه عن أشياء؛ ليعلم مقدار قوته في العدل، ومما قاله له: كيف حبك للأكل الطيّب، واللباس اللين، والمركوب الفاره؟ قال: والله لا أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به بدني، وحملت به رحلي، قال: اقبل الولاية، فلا بأس عليك.
وأما أن الإسراف في الترف يذهب بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همّه الوصول إلى زينة، أو لذة مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي يؤتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أن الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه، كان أعظمُ قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يلذه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة من مجاملات الإخوان، ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى، هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة.
وللإسراف في الترف أثرٌ كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم يغلب عليه الحرص على هذا الحال، فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم، كسكوته عن كلمة حق بين يدي ذي جاه، أو سلطان يكره أن يسمع صوت الحق، ومن تَرك أن يواجه بكلمةِ حقٍّ ذا جاه، أو سلطان يخشى أن يحول بينه وبين رفاهيته _ سهل عليه أن يترك الدعوة إلى الحق جملة.
وللإسراف في الترف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون وما يشربون.(1/62)
وقد أورد ابن خلدون في مقدمته حديثاً عن الأمراض، ونبّه على أنها تكثر في أهل الحضر والأمصار؛ لِخِصَب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، ثم نبّه على أن تلك الأمراض تقل في أهل البادية؛ لقلة مأكولاتهم، وبساطة أغذيتهم.
وإذا كانت الصحة من متممات البطولة كان حقاً على الأفراد والجماعات أن يأخذوا في مآكلهم ومشاربهم بحكمة الاقتصاد؛ فلا فضل للأمة في أن تضع على موائدها ألواناً من الأطعمة مختلفة، وإنما الفضل في أن يكون لها رجالٌ سليمة أبدانُهم، قوية عزائمُهم، مضيئة بصائرهم.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب، يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية، ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذا شأن الإسراف في الترف، ولكن التاريخ قد حدثنا عن أفراد نشأوا في بيوت توفرت فيها وسائل الرفاهية، ولم يكونوا بحال المترفين المستضعفين، بل نشأوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يسمى لذاتٍ حسيّةً، وإن كانت طَوْعَ أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم، أو على ضرب آخر من ضروب السيادة، فأدركوا فيه غاية قصوى، مثل عمر ابن عبدالعزيز ÷ فقد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولَّى الخلافة استطاع بما وهبه الله من الحكمة والرويَّة أن لا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزناً، فعاش عيشة الكفاف، وخزائن الأرض طوع يمينه، وتوفي وقد أبقى سيرة غراء، وذكراً أطيب من ريح المسك.
ومثل أبي محمد بن حزم الذي نشأ في بيت وزارة بالأندلس، وتولَّى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع.(1/63)
ونحن إذا حذرنا من الإسراف في الترف لا نريد من الناس أن يكونوا على سنّة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذ، فقد قال _تعالى_: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق]الأعراف: 32.
وإنما نريد الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الحرص على الزينة واللذيذ من العيش، حتى لا تجعلها مظهر الفخار والمباهاة:
يفاخرنا بمأكول ولبس
... وذلك فخر ذي حظ هزيل
وقد سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم أعني طريق الاقتصاد، فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال _تعالى_: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً]الإسراء: 29.
وألحق المسرفين بقبيل الشياطين، فقال _تعالى_: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ]الإسراء: من27.
وعدّهم في زمرة من يستحقون بغضه، فقال _تعالى_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]الأعراف: 3.
ونفي محبة الله كناية عن بغضه إياهم.
وأثنى الله _ تعالى _ على المصطفين من عباده بفضيلة الاقتصاد، فقال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً]الفرقان: 67.
ونظر الشارع الحكيم إلى أن الإسراف يذهب بسعادة الفرد والأسرة، فشرع إقامة أولياء على أموال من لم يبلغوا سِن الرشد، أو من بلغوه وظهر عليهم السفه في تصرفاتهم، لينفق الأولياء عليهم باقتصاد، حتى يتبين رشدهم، قال _تعالى_: [فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ]النساء: 6.
وإذا كان المسرف في إنفاق ماله ملوماً أو مذموماً فإن الذي يقترض مال غيره لينفقه في الشهوات أحق بالملام أو المذمة، قال الشاعر الحكيم:(1/64)
إذا رمت أن تستقرض المال من أخ
... تعودت منه اليسر في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كيس صبرها
... عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغنيَّ وإن أبت
... فكلُّ منوعٍ بعدها واسع العذر
وقد نظر بعض الحكماء إلى ما يجره الدَّين من الذلة والهموم، فكرهه حتى لمن تحدثه نفسه أن يقترض مالاً؛ لينفقه في تثبيت سؤدده فقال:
أخذت الدَّين أدفع عن تلادي
... وأخذُ الدَّين أهلك للتلاد
ولا حرج في الدَّين متى دعت إليه حاجة ملحة، وكان المقترض واثقاً بسماحة نفس المقرض مع العزم على قضاء الدين عند حلول أجله.
يُعَيِّرني بالدين قومي وإنما
... تدينت في أشياء تُكْسِبُهُمْ حمدا
نحذر من عواقب الإسراف وندعو إلى الاقتصاد، ولا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبة عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة للفقراء والمساكين، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة، كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة، والدفاع عن حقوقها.
وليس غنى إلا غنى زين الفتى
... عشية يعرى أو غداة ينيل
ورُمي محمد بن عمران بالبخل، فقال: =والله إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل +.
ويقولون: =لا تصن كثيراً عن حق، ولا تنفق قليلاً في الباطل+.
وقيل لكريم بذل في وجوه البر مالاً كثيراً: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.(1/65)
لا يضر أولي اليسار أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم متى كانوا يبذلون أموالهم فيما تكمل به المروءة، وتدعو إليه حقوق المجتمع، بل يزيدهم ذلك الاقتصاد مكرمة على مكرمة، قال قتيبة بن مسلم: أرسلني أبي إلى ضرار ابن القعقاع، وقال لي: قل له: في قومك دماء وجراح، وقد أحبوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر؛ لتقوم بقسطك من الديات، قال: فأتيته وأبلغته، فقال: يا جارية هات الغداء، فجاءت بأرغفة خُشْن، ففتتهن في نقيع من التمر، ثم صبَّ عليهن زيتاً، فأكل، وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز، وتمر الفرات، وزيت الشام، ثم انطلق إلى المسجد، فصلى ركعتين، واجتمع من قومه الطالبون للدِّيات والمطلوبون، فأكثروا الكلام، فقال ضرار: إلامَ صار أمركم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من الإبل، فقال: هي عليَّ كلها: ثم قام وانصرف إلى منزله.
فلو كان ضرار بن القعقاع من المسرفين في الترف لما تبرع بجميع ما لزم القوم من الديات، ولم يزد على أن تحمل قسطاً ضئيلاً من نحو ما يتحمله المسرفون في الترف وهم كارهون.
نشكو إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، ومن أمثلة هذا الإسراف الممقوت مظاهر الأفراح والمآتم؛ فإنها تقام عندنا على غير حكمة وحسن تقدير، وتأكل من الأموال ما لا يجر إلى صاحبها حمداً، بل شأنه أن يسوق إليه ذماً أو إثماً.
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة، كان واجباً على أولياء الأمور، ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم، ويتحروا في جميع ذلك الطريقة المثلى.
قال ابن الخطيب في مقالته السياسية: =رَعِيَّتُك ودائع الله عندك+ ثم قال: =ورِضْهم على الإنفاق بقدر الحال+.
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين(1/66)
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر
قوة العرب المعطلة(1) للعلامة محب الدين الخطيب(2)
ما ذل الشرق وانقطعت صلته بينبوع قوته، ومادة حياته إلا يوم جهل الناطقون بالضاد قدر أنفسهم، ونسوا رسالتهم العُلويةَ التي كانوا بها ملح الأرض؛ فرفعوا يدهم عن دفة السفينة، وتعطلت ألبابهم عن هداية القافلة؛ وهنالك استعجم الإسلام.
ولا تعود إلى الشرق قوتُه وحياته إلا إذا عاد إلى اغتراف إيمانه المحمدي من ينبوعه الأول من بين الصخور التي انفجرت عن معينه، وصفَّق عليها برحيقه السَّلْسل.
ولا يكون ذلك إلا إذا اشتركت في حمل مشعله سواعدُ العرب، وسُمع في حُداء صوت أَبْيِنَاء العرب.
__________
(1) الحديقة 12/ 54 _ 60، عام 1353هـ.
(2) هو الأديب الكبير والكاتب الإسلامي الشهير الشيخ العلامة محب الدين الخطيب بن أبي الفتح محمد عبد القادر صالح الخطيب.
ولد بدمشق عام 1303هـ، وتعلم بالآستانة، وحضر إلى القاهرة، وعمل في جريدة المؤيد، ثم قصد العراق، فاعتقله الإنجليز سبعة أشهر، ثم ذهب إلى مكة المكرمة عند إعلان الثورة العربية 1916م، فحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً، ثم استقر في مصرسنة1920م، وعمل محرراً للأهرام، وأنشأ مجلتي الزهراء، والفتح، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها.
وقد عرف بغيرته الإسلامية، وكتاباته البارعة، ومعالجته لكثير من القضايا الأخلاقية، والعقدية، واللغوية وغيرها.
كان من أكابر الكتاب الإسلاميين في القرن الرابع عشر، حيث مارس الكتابة في سن مبكرة، وحرص على نشر الفضيلة، ومقاومة دعاة التغريب والرذيلة.
له مؤلفات عديدة، منها كتاب =الخطوط العريضة+، وكتاب =مع الرعيل الأول+.
ومن كتبه، ما نحن بصدده وهو كتاب الحديقة.
وكان×ذا علاقات كثيرة، وصداقات متينة مع أكثر علماء وأدباء عصره.
توفي×عام 1389هـ عن ست وثمانين سنة.(1/67)
بالإسلام يلم الشرق شعثه، ويستعيد قوته، وتنمو فيه أخلاق الرجولة، ويتأهل لمشاركة الأمم في حمل عبء الحضارة، واحتلال المحل الشريف من صف القيادة.
وإذا دبت في الإسلام روح الحياة، فعاد إلى ما كان عليه من صفاء وبهاء، وصراحة في عصر السعادة وفي أيام التابعين _ فستجد فيه الإنسانية دواءها من أوصابها، وسيتقي به البشر طغيان القوميات الذي يتمخض بمذبحة جهنمية تحترق بها الأرض.
وإذا بقيت منها بقية بعد الحرب المقبلة فستستعد لشر منها.
وإذا أبطأ على الناس شر القوميات وملاحمها فسيكتسحهم وباء الشيوعية الذي يتغلغل في أحشاء الأمم، وتقاومه الأمم بالعصبيات الحقودة الباغية.
وهكذا يستشفي الناس من داء بداء، ما لم يهتدوا إلى الإسلام، ويستشفوا به.
وكيف يهتدون إلى الإسلام والمسلمون واقفون في طريقه يصدون الأمم عنه بمخازيهم، وجرائمهم،وضعفهم، ونفاقهم، وشحهم، وحسدهم، وشحنائهم، وكذبهم على الإسلام بأنهم أهله ودعاته؟!
تجربة جربها آباؤنا مرة يوم باعوا نفوسهم للهداية المحمدية، ووقفوا عليها مداركهم، وأفئدتهم، وسواعدهم، ونقودهم، وأسلحتهم، وسروا على ضوئها إلى مقاصدهم، ورجعوا إلى ميزانها في تقدير الأمور، فنجحت تلك التجربة النجاح كله، وما لبثوا أن رأوا النفوس التي باعوها لله ـ وكانت نفوس رجال من عامة الناس ـ عادت إليهم وهي نفوس ملوك، ورأوا مداركهم التي وقفوها في سبيل الله صارت من أغزر ينابيع الحكمة، وأفئدتهم التي عمروها بالإيمان بالله أهَّلتهم لاقتحام العقبات، واختراق الآفاق، وسواعدهم التي حملوا بها ألوية الإسلام إلى أمم الأرض تقدمت أمم الأرض لمصافحتها ومسالمتها، ونقودهم التي بذلوها لإعلاء كلمة الحق عوضهم الله منها كنوز كسرى وقيصر، وأسلحتهم التي جردوها لنصرة اليقين غدت ملاذ العز، وعنوان الفوز، ونقمة الله على الظالمين.(1/68)
وبينما كان آباؤنا يجربون افتتاح كنوز السعادة بمفتاح الإيمان المحمدي كان الدهر يجرب مواهبهم، ويقيس طول باعهم، ويسبر غور أخلاقهم إذا انطوت أفئدتهم على ذلك الكنز؛ فوجدهم أمة ضربت الرقم القياسي في الحكمة والحكم، وفي الفراسة والفروسية، وفي الرفق وحسن الارتفاق.
وقف الحكيم الفرنسي غوستاف لوبون يراقب بعض ما استطاع أن يراقبه من تصرفاتهم في أدوار التاريخ، فهتف بملء فيه يقول: =ما عرفت الإنسانيةُ فاتحاً أحكم ولا أعدل من العرب+.
تركوا وراءهم في آفاق الأندلس من بدائع الفن، وآيات العمران، وآثار الحضارة ما يشهد لهم بأنهم أدق الأمم حسَّاً، وألطفهم ذوقاً، وأبعدهم نظراً، وأقلهم غطرسةً ودعوى.
تركوا وراءهم في مكتبة الإنسانية معارف في كل ضرب من ضروب الحكمة والتفكير والعلم عجزت جهالة أعدائهم من التتار والصليبيين والأسبانيين عن تبديدها في مياه دجلة، ونيران طرابلس، والقدس، ومحاكم التفتيش؛ فبقيت من بقاياها أثارة لا تزال مطابع المستشرقين في أوربا، وهمم الشرقيين في الهند وإيران وبلاد الغرب تجدُّ في نشر الألوف منها في أكثر من مائة عام، وكلُّ ما نشر منها لا يساوي قطرةً من بحر علم العرب الذي لا يزال مطوياً في مخطوطات دور الكتب الشرقية والغربية، مما عرفه الناس ومما لم يسمعوا به.
وتركوا وراءهم هداية لو تجرد الغرب من تعصبه الأعمى للكنيسة، وأخذ بهداية الإسلام لشفاه الله من كل أمراضه، ولتمتع بالسعادة التي يبحث عنها في الظلام ولا يجدها.
بل لو تجردنا نحن أحفاد العرب من جهالتنا الكسيحة، ووطَّنا النفوس على العمل بقواعدها، وعملنا على إحياء تكاليفها الاجتماعية التي لا تكون الأمة أمة إلا بها _ لظهرت حقيقة الإسلام في سيرتنا وسريرتنا، وتجلت محاسنه في أعمالنا ومعاملاتنا.
ويومئذ نكون حجة للإسلام لا عليه، ومبشرين به لا منفرين عنه، وقبل أن ينتفع الإسلام بنا ذيوعاً وانتشاراً ننتفع به نحن تقدماً واعتلاءاً.(1/69)
هنالك تعرف الأمم الإسلام بنا، وتعرفنا بالإسلام، وهنالك تقبل شعوب الأرض على الإيمان به أمة بعد أمة؛ كما يقبل الأفراد الآن على الدخول فيه واحداً بعد واحد.
في أعناقنا _ نحن العرب _ جريمةُ إعراضِ أممِ الأرض عن معرفة هداية الإسلام، وفي أعناقنا _ نحن العرب _ جريمة خذلاننا وضعفنا واستخذائنا لكثير من أمم الأرض، حتى اليهود.
وما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على حب الشهوات، والظنِّ بأن الإسلام دين لا فائدة له في سعادة الدنيا، ويجهل نفسه بأنه من سلالة أمة اختصها الله بالرسالة إلى الإنسانية لو أهلت نفسها لأدائها لتغيرت الأرض بذلك غير الأرض؛ ما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على ذلك_ فبطن الأرض أولى له من ظهرها.
نحن العرب نصلح لأن نكون خير الأمم أو شر الأمم، أما التوسط بين ذاك وهذا فلم يقع في دور من أدوار التاريخ.
نكون في سبات عميق، وفي غفلة تأخذ علينا السبل؛ فإذا استيقظنا قفزنا قفزتنا من سَمْت القدم إلى سمت الرأس، وأصبحنا ملح الأرض، وتاج الإنسانية، وقادة الدنيا، ولكن كيف نستيقظ، ومن الذي يوقظنا؟
كنت في يأس أغالط نفسي فيه لأسعد بالأمل، كنت أعلم أن اليقظة يجب أن تكون في مصر، وأن دعاتها لابد أن يكونوا من مصر، ولكن كلما قيلت كلمة (عرب) فهم القراء في مصر أن المَعْنِيَّ بهذه الكلمة غيرهم، وأن العربي لا يكون إلا أعرابيّاً حافي القدمين، فلما قرأت في أسبوع واحد كلمة الأديب الكبير الأستاذ الشيخ عبد الله عفيفي التي عنوانها (وطن وعشيرة) وقد اقتطفت باقة منها في هذا الجزء من الحديقة، وقرأت فقرات من محاضرة الأستاذ عبد الرحمن عزام عن (وحدة الثقافة الإسلامية)، ورأيت جريدة الاستعمار البريطاني (المورنن بوست) في جزع من أن تعرف مصر أنها عربية، فتهب لإيقاظ العرب_ تَحوَّل حينئذ يأسي الذي كنت أغالط نفسي فيه إلى أمل كنت أعلل نفسي به، ولكن الغطيط أعظم من أن يؤثر فيه قلم كاتب واحد، ونبرات صوت خطيب واحد.(1/70)
ولابد من إفراغ هذا الإيمان في قلوب رجال آخرين من أهل الاستعداد للخير، ممن لم تكن لهم سابقة في الإلحاد، والتفرنج، وحب الشهوات، فعن هؤلاء يجب أن نبحث، وفي قلوب هؤلاء يجب أن نبث هذا الإيمان، ثم يهتف المؤذنون بصوت واحد بحي على الفلاح حتى يستيقظ الناطقون بالضاد جميعاً ويعرفوا طريقهم، ويهبوا لأداء رسالتهم في العالمين.
معركة الحياة كيف نفوز فيها؟(1) لأحمد أمين
أهم نقطة يتركز عليها النجاح الإرادة القوية، التي يصحبها التنفيذ السريع، وانتهاز الفرص؛ أَلمْ يقولوا =إنَّ الحَرْبَ جِهَادٌ +وبعبارة أخرى =الحَيَاةُ حَرْبٌ +!؟
وخير محارب من هاجم ولم يقتصر على الدفاع، وعَمِل ولم يقتصر على الحذر، ومتى سنحت له فرصة أقدم فانتهزها، ولم يتوان لحظة حتى لا يُضَيِّعَها.
ثم هو يسدد الرمي، ويحكم إصابة المرمى، ولا بَأْسَ من الفشل؛ فإنما يفشل؛ لينجح.
إذا أنت أكثرت من التردد، وبالغت في الحذر، ولم تقدم على عمل حتى تثق من نجاحه مائة في المائة فقد تصلح أن تكون أديباً حالماً، أو فيلسوفاً في الخيال سابحاً، ولكن لا تصلح أن تكون رَبَّ عملٍ ناجحاً.
فليس يكسب المعركةَ القائدُ الجبانُ، ولا القائدُ الحذرُ، ولا القائدُ الذي لا يريد أن يضحي بشيء من جنوده.
وإنما يكسبها من يفكر حسب طاقته، ولا يطيل التفكير أكثر مما يلزم، ثم يضرب الضربة في حينها، وهو يغلب النجاح وإن كان لا يتأكده، فإن فشل بعد ذلك فقد أدى واجبه.
إن الأخلاق الحديثة تفضل =فعل الأمر+على =فعل النهي+=فاصدق+خير من =لا تكذب+و =اعدل+خير من =لا تظلم+.
والأمر بعمل الفضيلة خير من النهي عن الرذيلة؛ لأَنَّ في الأولى عملاً ووجوداً وحياة، وفي الثانية تركاً وعدماً وموتاً.
كل شيء في الحياة يجاهد، الجسم يجاهد المكروبات حوله وفيه، والصحة لا تعتمد على الوقاية وحدها، وإنما خير من الوقاية =الحيوية+ بالرياضة والعمل والحركة والنشاط وما إلى ذلك.
__________
(1) فيض الخاطر 10/225_ 228.(1/71)
وإنما يعتمد على الوقاية، والسكون، وقلة الحركة والسير الدقيق على طرق العلاج _ المرضى في أَسِرَّتِهم، والمرضى في المستشفيات، أَمَّا الأَصِحَاء فيعتمدون قليلاً على الوقاية، وكثيراً على الحيوية والعمل.
والعقل يجاهد الأفكار السقيمة، والخيالات السامة، وخير وسيلة للتغلب عليها حيويته، ونشاطه، وتفكيره المنتج، لا خنوعه واستسلامه.
وهكذا كل شيء في الحياة جهاد، والجهاد الصحيح يعتمد على الإرادة الصحيحة، والتجارب الدائمة، والعمل المستمر.
إن العالم مملوء بالحيوية، وهو في حركة دائمة، ونشاط مستمر، وقُوىً متفاعلة أبداً، من كهرباء وقوى ذرية، وحرارة وبرودة، ورياح وعواصف، ونحو ذلك.
فالذي ينجح في هذا العالمِ المتحركِ النشيطِ إنما هو مَن انسجم معه بالعمل والقوة والحيوية، ولذلك كان السكون التام موتاً.
وبجانب هذه القوى المادية في الحياة قُوى معنوية هي الأخرى في حركة مستمرة وجهاد دائم، كالنظام وعدمه، والجهل والعلم، والرأي العام وقوته وضعفه، والعدل والظلم، واختلاف رغبات الناس في التزاحم على كسب الخير لأنفسهم.
ولابُدَّ للنجاح في الحياة من تحديد موقف الإنسان أمام هذه القوى المادية والقوى المعنوية، فأَمام القوى المادية لابُدَّ أنْ يعرف كيف يستخدمها في مصلحته، ويسايرها ولا يعاكسها، فالكهرباء قد تصعقه إذا هو لم يعرف استخدامها، ولكنه يستطيع أنْ يَسْتَنِير بها ويَسْتَدْفِئ بها، ويُسيِّر القطارات بها إذا هو أحسن استخدامها، وكذلك كل قوة من القوى الطبيعية.
وفي القوى المعنوية يجب أن يحدد موقفه أمام التيارات المختلفة للنظم الاجتماعية، فينغمس فيها، ويكون هو نفسه قوة معها، يُصْلِحها ما استطاع، ويستخدمها في خيره وخير الناس ما استطاع.(1/72)
وكلما كان الإنسان أقوى جسماً وعقلاً وخُلُقَاً كان أقدر على الانتفاع بالقوى المادية والروحية؛ فالإنسان استطاع أن يلجم الفرس ويركبه ويوجهه في خدمته؛ لأنه أكبر منه نفساً وعقلاً؛ فكذلك هو يستطيع وسط الظروف الاجتماعية المتضاربة، أن يصرفها ويستغلها للخير الخاص والخير العام، فإذا خمل أو كسل أو أفلت زمام الأمور من يده لم يستطع نجاحاً، وساقته الظروف أكثر ما يسوقها هو.
فالإنسان إنما ينجح بتقوية ملكاته الداخلية، وعلمه بالقوى الطبيعية والاجتماعية التي حوله، ثم بانسجامه معها، ومعرفته كيف يستخدمها.
وإن شئت فاستعرض كل من نجح في الحياة نجاحاً حقيقياً تَجِدْ نجاحه بمقدار تطبيقه هذه القاعدة، ولو لم يحسن التعبير عنها.
ثم شأن الأمم والحكومات شأن الأفراد؛ فلكل أمة قواها الطبيعية التي حولها، وقواها المعنوية التي تحيط بها.
فالأمة الفاشلة هي التي تكون في أرضها معادن لا تعرف كيف تستغلها، وقوى مائية لا تعرف أن تنتفع بها، وأراض زراعية لا تعرف كيف تستخرج منها أغزر ما تنتج وهكذا، ثم حولها ظروف اجتماعية ترتبك في توجيهها، وتحار في التصرف فيها، ليس لها إرادة قوية في التنفيذ، ولا رغبة صادقة في الإصلاح، تسيرها القوى الطبيعية كالريشة في الهواء، وتسيرها القوى الاجتماعية حيثما اتفق، ليست هي إنساناً يمسك بزمام فرسه، ولكنها فرس ملجمة تقاد.
أَمَّا الأمة الناجحة فكالرجل الناجح يدرس قوى الطبيعة، ويعرف أنها لا تتغير ولا تتبدل، ولكنه كالمَلاَّح الماهر يعرف متى ينشر شراعه ومتى يطويه، وكيف يسير سفينته وإلى أي اتجاه، يعرف أنه لا قدرة له على تغيير الرياح، ولكن له قدرة على استخدامها في مصلحة سفينته.(1/73)
كذلك هذا شأن الأمة الناجحة مع القوى الاجتماعية؛ ترى الفوضى فتنظمها، وترى الرأي العام ضعيفاً فتقويه، وترى الأضرار من بطء الآلة الحكومية فتجددها، وترى ظلماً هنا وظلماً هناك فتمحوه بالعدل، ولا تكتفي بالوقاية وعلاج الأمراض، بل تبعث في الأمة الحيوية والنشاط، وهكذا قانون الفرد، وقانون الأمة في النجاح والفشل واحد.
فكِّر، واعمل، وابتكر، وجاهد، وغامر، وانتهز الفرصة تنجحْ، وإلا فالموت أو شبهه.
النبوغ (1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزناً، وأن ينظر إلى من فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعلياً خير ممن يخطئ في تقديرها متدلياً؛ فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه يأبى لها من أعماله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده؛ فتراه صغيراً في علمه، صغيراً في أدبه، صغيراً في مروءته وهمته، صغيراً في ميوله وأهوائه، صغيراً في جميع شؤونه وأعماله؛ فإن عظمت نفسه عظم بجانبها كل ما كان صغيراً في جانب النفس الصغيرة.
ولقد سأل أحدُ الأئمة العظماء ولدَه _ وكان نجيباً _: أيُّ غاية تطلب في حياتك يا بني؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون ؟
فأجابه: أحب أن أكون مثلك، فقال: ويحك يا بني لقد صغَّرت نفسك، وسقطت همتك؛ فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدّرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب؛ فما زلت أجدُّ، وأكدح حتى بلغتُ تلك المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم، من الشأو البعيد والمدى الشاسع؛ فهل يسرك، وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عليّ ؟
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة، ص238_243.(1/74)
كثيراً ما يخطئ الناس في التفريق بين التواضع وصغر النفس، وبين الكبر وعلو الهمة، فيحسبون المتذلل المتملق الدنيء متواضعاً، ويسمون الرجل إذا رفع بنفسه عن الدنايا، وعرف حقيقة منزلته من المجتمع الإنساني متكبراً.
وما التواضع إلا الأدب، ولا الكبر إلا سوء الأدب؛ فالرجل الذي يلقاك متبسماً متهللاً، ويقبل عليك بوجهه، ويصغي إليك إذا حدثته ويزورك مهنئاً ومعزياً_ ليس صغير النفس كما يظنون، بل هو عظيمها؛ لأنه وجد التواضع أليق بعظمة نفسه؛ فتواضع، والأدبَ أرفعَ لشأنه؛ فتأدب.
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكنَّ كبراً أن يقال به كبر
فإذا بلغ الذل بالرجل ذي الفضل أن ينكس رأسه للكبراء، ويتهافت على أيديهم وأقدامهم لثماً وتقبيلاً، و يتبذل بمخالطة السوقة والغوغاء بلا ضرورة ولا سبب، ويكثر من شتم نفسه، وتحقيرها، ورميها بالجهل والغباوة، ويبصبص برأسه، وهو سائر في طريقة بصبصة الكلب بذنبه، ويجلس في مدارج الطرق، وعلى أفواه الدروب جلسة البائس المسكين_ فاعلم أنه صغير النفس، ساقط الهمة، لا متواضع، ولا متأدب.
إن علو الهمة إذا لم يخالطه كبر يزري به، ويدعو صاحبه إلى التنطع وسوء العشرة _ كان أحسنَ ذريعة يتذرع بها الإنسان إلى النبوغ في هذه الحياة، وليس في الناس من هو أحوج إلى علو الهمة من طالب العلم؛ لأن حاجة الأمة إلى نبوغه أكثر من حاجتها إلى نبوغ سواه من الصانعين والمحترفين، وهل الصانعون والمحترفون إلا حسنة من حسناته، وأثر من آثاره؟
بل هو البحر الزاخر الذي تستقي منه الجداول والغدران.(1/75)
فيا طالب العلم كن عالي الهمة، ولا يكن نظرك في تاريخ عظماء الرجال نظراً يبعث في قلبك الرهبة والهيبة؛ فتتضاءل وتتصاغر كما يفعل الجبان المستطار حينما يسمع قصة من قصص الحروب، أو خرافة من خرافات الجان، وحذار أن يملك اليأس عليك قوتك وشجاعتك؛ فتستسلم استسلام العاجز الضعيف، وتقول: من لي بِسُلَّم أصعد فيها إلى السماء حتى أصل إلى قبة الفلك؛ فأجالس فيها عظماء الرجال؟
يا طالب العلم، أنت لا تحتاج في بلوغك الغاية التي بلغها النابغون من قبلك إلى خلق غير خلقك، وجو غير جوك، وسماء وأرض غير سمائك وأرضك، وعقل وأداة غير عقلك وأداتك.
ولكنك في حاجة إلى نفس عالية كنفوسهم، وهمة عالية كهممهم، وأمل أوسع من رقعة الأرض، وأرحب من صدر الحليم، ولا يقعدن بك عن ذلك ما يهمس به حاسدوك في خلواتهم من وصفك بالوقاحة أو بالسماجة؛ فنعم الخلق هي إن كانت السبيل إلى بلوغ الغاية؛ فامض على وجهك، ودعهم في غيهم يعمهون.
جناحان عظيمان يطير بهما المتعلم إلى سماء المجد والشرف: علو الهمة والفهم في العلم، أما علو الهمة فقد عرفته، وأما الفهم في العلم، فإليك الكلمة الآتية:
العلم علمان: علم محفوظ وعلم مفهوم، أما العلم المحفوظ؛ فيستوي صاحبه فيه مع الكتاب المرقوم، ولا فرق بين أن تسمع من الحافظ كلمة، أو تقرأ في الكتاب صفحة؛ فإن أشكل عليك شيء مما تسمع، فانظر إن نطق الكتاب بشرح مشكلاته، نطق الحافظ بتفسير كلماته.(1/76)
الحافظ يحفظ ما يسمع؛ لأنه قوي الذاكرة، وقوة الذاكرة قدر مشترك بين الذكي والغبي والنابه والخامل؛ لأنَّ الحفظ ملكة مستقلة بنفسها عن بقية الملكات: وإنك لترى الشيخ الفاني الذي لا يميز بين الطفولة والهرم، والذي يبكي على الحلوى بكاء الطفل عليها، ويرتعد فرقاً حينما يسمع ابنته تخيف طفلها بأسماء الجن والشياطين، ويسرد ذلك من تواريخ شبيبته وكهولته ما لو دوَّنته لكان تاريخاً صحيحاً ضخماً مملوءاً بالغرائب والنوادر؛ وقيل لأحد العلماء: إن فلاناً حفظ متن البخاري، فقال: لقد زادت نسخة في البلد !(1)
ذلك هو السر العظيم في كثرة المتعلمين وقلة العاملين؛ لأن من فهم معلوماً من المعلومات حق الفهم أُشْرِبَتْه روحه، وخالط لحمه ودمه، ووصل من قلبه إلى سويدائه، وكان إحدى غرائزه، فلا يرى له بدَّاً من العمل به رضي أم أبى.
لولا أن العلم الديني قد أصبح اليوم علماً محفوظاً لما وجدت في العلماء من يجمع بين اعتقاد الوحدانية وبين التردد على أبواب الأحياء والأموات في مزاراتهم وفي مقابرهم يسألهم المعونة والمساعدة على قضاء الله وقدره، ولا وجدت بين الذين يحفظون قوله _تعالى_[قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ]الأعراف: 188.
مَنْ يُسْنِد النفع والضر إلى كل من سال لعابه، وتمزق إهابه، ولا وجدت في الناس كثيراً من ضعفاء العزيمة الذين يحفظون ما ورد على ألسنة الأنبياء والحكماء من مدح الفضائل وذم الرذائل، ثم لا تجد فرقاً بينهم وبين العامة في ارتكاب المنكرات والنفور من الصالحات.
__________
(1) ليس الكلام هنا على إطلاقه؛ فشأن الحفظ عظيم، ولكنه لا يكفي وحده ما لم يقرن بعلم، وفقه وعمل.(م)(1/77)
لو كان العلم المحفوظ علماً _ وهو على ما نشاهد ونعلم من سوء الأثر وقلة الجدوى _ ما مدح العلم في كتاب ولا سنة، ولا قدَّسه كاتب، أو ترنم بمدحه شاعر، فإذا سمعت ذكر العلم فاعلم أنه العلم المفهوم لا المحفوظ، وآية فهم المعلوم تأثر العالم به، وظهوره في حركاته وسكناته، وترقرقه في شمائله، ولا تثق بالحافظ فيما ينقل إليك، فربما مرَّ بالمعلوم مُحَرَّفاً فأخذه على علاته.
وأقبح ما عرفنا من أطواره أنه يجمع في حافظته بين النقيض ونقيضه، والغث والسمين، والجيِّد والزائف، فكأن ذاكرته حانوت عطَّار اختلطت فيها الأدوية الشافية، بالعقاقير السامة.
وجملة الأمر أن الحافظ البحت لا رأي له في مبحث فيسأل عن مذهب، ولا أثر لمعلوماته في نفسه فيقتدى به، ولا ذوق له في الفهم فيعتمد على شرحه وتأويله.
أما العلم المفهوم فهو الواسطة التي إذا جمع المتعلم بينها وبين علو الهمة طار إلى المجد بجناحين، وكان له سبيل مختصر إلى منزلة العظماء ودرجة النابغين.
والعلم سلسلة طويلة طرفاها في يدي آدم أبي البشر وإسرافيل صاحب الصور(1)، ومسائله حلقات يصنع كل نابغة من النوابغ في كل عصر من العصور واحدة منها، ولن يبلغ المتعلم درجة النبوغ إلا إذا وضع في العلم الذي مارسه مسألة، أو كشف حقيقة، أو أصلح هفوة، أو اخترع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان علمه مفهوماً لا محفوظاً، ولا يكون مفهوماً إلا إذا أخلص المتعلم إليه، ولم ينظر إليه نظر التاجر لسلعته، والمحترف لحرفته؛ فالتاجر يجمع من السلع ما يتفق سوقه، لا ما يغلو جوهره، والمحترف لا يهمه من حرفته إلا لقمة الخبز وجرعة الماء، أحسن أم أساء.
__________
(1) المراد أن العلوم لا يتم تدوينها ولا تنحصر مسائلها مادامت العقول تفكر، فالعلم دائب فيها من ابتداء الدنيا إلى انتهائها.(1/78)
لا يزور العلم قلباً مشغولاً بترقب المناصب، وحساب الرواتب، وسَوْقِ الآمال وراء الأموال، كما لا يزور قلباً مقسماً بين تصفيف الطُّرَّة، وصقل الغرَّة، وحسن القوام، وجمال الهندام، وطول الهيام بالكأسين: كأس المدام، وكأس الغرام.
يوم البعث(1) للأستاذ محمود بن محمد شاكر(2)
__________
(1) نشر هذا المقال في مجلة الرسالة العدد 368، عام 1940م ص 188_189، وهو في كتاب جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، جمعها وقرأها وقدم لها، د.عادل سليمان جمال.
(2) هو العلامة الشيخ الأديب محمود بن الشيخ محمد شاكر _رحمهم الله_ ولد في العاشر من المحرم سنة 1327هـ.
بدأ تعليمه في مدرسة والده عباس الابتدائية، وأفاد من والده، ومن شيخه الشيخ سيد بن علي المرصفي؛ حيث كان والده مورداً كثير الزحام لعلية القوم من الساسة والعلماء والأدباء، وكان شيخه المرصفي من أكابر أدباء عصره، وكان يختلف عليه، ويقرأ عليه في كتب الأدب كالكامل للمبرد، وحماسة أبي تمام، وأشعار الهذليين، وشيء من أمالي القالي.
حصل على البكالوريس سنة 1925م والتحق بكلية الآداب بقسم اللغة العربية دون زملائه في الدراسة الثانوية جميعاً، واستمر في ذلك حولين كاملين كان فيهما في صراع مع طه حسين في قضية الشعر الجاهلي غادر على إثرها الجامعة.
ثم هاجر إلى الحجاز، ورجع مرة أخرى إلى مصر، وعاد إلى الكتابة والأدب والعلم متابعاً ما كان منه قبل من التحرير في مجلتي الفتح والزهراء.
وقد كتب في مجلة المقتطف والرسالة، والثقافة، والهلال، والمجلة، والعرب، والكتاب، والكاتب، وفي صحف الأهرام، والبلاغ والدستور.
وكان ذا أسلوب مميز، وشاعرية فذة، وكان شديد الغيرة على العربية والإسلام.
وكان من أكابر المحققين للتراث.
وكان عضواً في المجمع في القاهرة، ونال جائزة الملك فيصل العالمية، وله كتب عديدة في الحديث، والتفسير واللغة والأدب.
توفي في 7/8/1997م.(1/79)
إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل، ولا تنثني، ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تُشْعِرُ العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه، ويتمنى أحدنا يومئذٍ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة.
وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟.
الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة _ فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان.
وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَك(1)، وأشواك، وحطب، وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس.
__________
(1) الحسك: عُشبة تضرب إلى الصفرة ولها شوك يسمى الحَسَك أيضاً، مدحرج، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا من في رجليه خُف أو نعل.(1/80)
وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم؛ فإن الفرد هو خلاصة الجماعة، وأصل الجماعة؛ فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه.
وعندئذٍ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة، والأماني الباطلة المكذوبة.
وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون؛ ليوقظوا الأحياء الذين ضُرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش.
أما اليوم الذي نحن فيه فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله؛ فهل يحق لنا أن نؤمل أنَّ هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يَلُمُّ ما تشعث من حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقباض على أوثان المظالم القديمة التي نُصبت، فَعَبَدها من عَبَدَ ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا _على أوهامهم _ إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟.
إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤلاً واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل.(1/81)
من أنا ؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه _ فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة.
شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق _ فإن السؤال سوف ينزع به وينبُثُ(1) عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمي جروحه، يتألم، ويتوجع، ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه.
فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها، ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشايخ؛ فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة.
والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يَكِلُ كلَّ أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية.
فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية، فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة، وجراثيم التفاني والانقراض.
ليس لشرقيٍّ ولا عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منَّا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يَتَدَارس في نفسه، وفي أهله، وفي عشيرته، وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد _ حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟
__________
(1) ينبُثُ شره: يستخرجه.(1/82)
والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟.
فالعالم، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والعامل، والصانع، وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم، ونوازعهم _ يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد.
أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح، وأساليب الإصلاح، وتحقيق ذلك بالطرق العلمية...إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئاً إلاَّ ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد، وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها.
إن الأمم لا يُصلحها مشروع، ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً _ بما فيه من الحركة النفسية _ على أن الحياة التي يعيشها هي إثبات لوجوده، ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلاَّ أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟
فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم، وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور، والجهل، والغباء، والبلادة، وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه، وأجوده، وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل من أنا؟
فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض.(1/83)
وأما إذا انطلقنا مع أحلام النوم، وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مسوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت..أي البلادة ! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه.
إنَّ من الهراء أن تأتي مجلس قوم من المهندسين قد اختلفوا في الأرض، كـ: هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحوَّلوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته... مما يصلح عليه البناء؛ فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة فاعلم أنه لا فلاح لهم.
وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر.
فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف، والمنابذة، وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل.
وعندئذٍ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه، ومن وراء التاريخ.
إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ _ وسنبدأ بإذن الله _ فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية، أو السياسية، أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها، وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟(1/84)
إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صُوْرٍ جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المستعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن.
يومئذٍ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا ؟ عملاً صامتاً لا يتكلم؛ لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة، والجهل، والخمول.
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين
التربية الدينية والشباب(1) للشيخ محمد الخضر حسين
سادتي: نقلب النظر في الأيام الخالية، فنقف على وقائع تحدث عنها التاريخ بإعجاب، ذلك أنها كانت مظهر قوة الفكر، ومتانة العزم.
ومن هذه الوقائع ما رفع أمة من خمول إلى نباهة، أو نقلها من استعباد إلى سيادة، فإذا تجاوزنا الوقائع إلى الأيدي التي هزتها وأطلقتها من عقالها وجدناها أيدي الشباب الذين يشعرون فيعزمون، ويبصرون الخطر فلا يحجمون.
فذلك أبو مسلم الخراساني نهض بالدعوة العباسية، وزلزل عرش الدولة الأموية، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وتولَّى محمد بن القاسم الثقفي قيادة جيش قاتل قبائل ثائرة، فأطفأ ثورتها وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء الحادي عشر من المجلد التاسع ص70_72.(1/85)
وقد نبَّه رسول الله " على أن الولايات منوطة بالكفاية، وأن الكفاية للعظائم قد تتحقق في الشباب، فولَّى أسامة بن زيد جيشاً تخفق رايته على أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ولم يتجاوز أسامة يومئذٍ الثامنة عشرة من عمره.
ففي الشباب نفوس قريبة من الخير، وهمم لا ترضى من المجد إلا باللباب؛ فإذا توجه الشباب إلى غايات خطيرة، وساروا في طرق قويمة فما للأمة إلاَّ أن ترفع رأسَها عِزّة، وما لخصومها إلاَّ أن يتقوا بأسها، ويجنحوا لسلمها.
ومن أين لنا أن يتوجه شبابنا إلى السيادة لا يبغي بها بدلاً ؟ وإذا توجهوا إليها فمن أين لنا أن يسيروا إليها في أقوم الطرق وآمنها؟
وذلك ما يجب علينا أن نفكر فيه بجد، ونبذل في سبيله كل جهد.
نعم؛ ذهبنا بالفكر في كل مذهب، ورجعنا إلى التاريخ والتجارب، فلم ندع بعيداً إلاَّ دَنَوْنَا منه، ولا شافياً إلاَّ كشفنا غطاءه، فلم نر لشبابنا سيرة تجعلهم خير شباب أُخْرِجَ للناس إلاَّ أن نراهم يستنيرون بهدى الله، ويتنافسون في التجمل بآداب شريعته الغراء:
أَدَبُ الفتى في أَنْ يُرى مُتمسكاً ... بِأوامرٍ مِنْ رَبِّه ونَوَاهي
إن الدين ليهدي للتي هي أقوم؛ يطبع النفوس على الأخلاق السمحة الكريمة، ويضع أمامها موازين تستبين به الرشد من الغي، ويريها كيف تحيا الحياة الزاهرة المطمئنة.
فإذا تلقن شبابنا حقائق الدين نَقِيَّةً من كل بدعة، وابتهجت نفوسهم بحكمته ابتهاج البلد الطيب بالغيث النافع _ فقد أعددنا للخوض في غمار الحياة رجالاً لا يكتفون بالخطب تلقى على المنابر، ولا بالمقالات تحرر على المكاتب، بل يعلمون فيقولون، ويقولون فيفعلون.
وأراكَ تفعلُ ما تَقولُ، وبعضهم ... مَذْقُ اللسان يَقولُ ما لا يفعل(1/86)
إِنَّ الإيمان ليملأ القلوب إجلالاً للواحد الخلاّق، ومَنْ أجلَّ مقام خالقه صغر في عينه كل جَبَّار مخلوق، ومن الأمراض التي تأكل من كرامة الأمم أكلاً ذريعاً، وترمي بالمهانة في أوطانها أنْ تُرْهِبَ سطوة المخلوق رهبة تمنعها من أن تقول في صدق، أو تعمل في حكمة.
فحقيق بشبابنا أنْ يكون الإيمان الصادق رائدهم؛ فإنَّا لا نرى من ضعيف الإيمان عملاً إلاَّ أنْ يكون مخلوطاً برياء؛ ولا نرى له من سيرة إلاَّ أنْ تنحرف إلى الشمال مرة، وتتأخر إلى الخلف مرة أخرى.
وإذا كان في الأنابيبِ حيفٌ ... وقعَ الطيشُ في صدورِ الصعادِ
وإذا قيل: إن الذمم تباع وتشترى فإن ذمم المؤمنين الصادقين لا يملك ثمنها إلا رب العالمين.
كنَّا رأينا من بعض شبابنا انحرافاً عن الرشد، فخشينا أنْ تسري عدوى هذا الانحراف إلى سائر الشباب، فتصبح مصر _ وهي زعيمة الأقطار الشرقية _ مبعث الجحود والإباحية، ولكنَّا لم نلبث أن رأينا شباباً في المدارس العالية يحرصون على تلقي دروس علوم الدين، ويتبينون أحكامه وآدابه، ويتصلون بالجمعيات الإسلامية، بل أقول إن للشباب الفضل في إنشاء هذه الجمعيات، أو المؤازرة على نهوضها.
والواقع أنَّ ما قام به بعض العاملين من دعوة الشباب إلى الدين قد أتى بثمر على قدر الجهاد الذي بذل في هذا السبيل.
فمتى اتسعت دائرة هذا الجهاد، وكثر العاملون في صفوفه من رجال العلم، ووجه أولو الشأن عنايتهم للتربية الدينية أكثر مما وجهوا، متى تحقق هذا الأمل _ولا أراه إلاَّ متحققا_ أدركنا كل ما نبتغي من شرف وقوة، وفزنا بحياة آمنة المسالك، محمودة العواقب، ذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.(1/87)
الشباب المحمدي(1) للشيخ محمد البشير الإبراهيمي(2)
__________
(1) نشرت في مجلة (المسلمون) السنة الثالثة عدد9 ذو القعدة 1373هـ وهي في آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وقد كتبها في مكّة المكرمة في 1 صفر الخير 1372هـ..
(2) هو الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي ولد عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306 هـ، وتوفي عام 1385هـ.
وهبه الله حافظة خارقة، وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف، وكانتا معينتين له في العلم في سن مبكرة.
تلقى التعليم في بيت أسرته، وقام على تربيته وتعليمه عمُّه الشيخ محمد المكي الإبراهيمي الذي كان علامة زمانه في العربية.
بدأ في حفظ القرآن والتعليم في الثالثة من عمره وأتقن القرآن حفظاً في السابعة من عمره، وحفظ كثيراً من المتون في مختلف الفنون، وحفظ العديد من الدواوين الشعرية، وكان يحفظ من سماع واحد.
كان من أبرز علماء الجزائر، ومن طليعة المجاهدين للاستعمار، والدجل، والبدع، والخرافات.
وكان من الشجعان المغاوير، وكان في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية في الجزائر.
ويرجع الفضل _ بعد الله _ إليه وإلى الشيخ عبد الحميد بن باديس في تكوين جمعية العلماء في الجزائر.
وكان شديد العناية بأمور المسلمين وقضاياهم، كان خطيباً مِصْقَعَاً، وشاعراً مُفْلِقَاً، وكاتباً بارعاً.
وقد خلف آثاراً جمعت تحت مسمى ( آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي)، ثم جمعها وأعاد صياغتها ابنه د. أحمد طالب الإبراهيمي في خمس مجلدات ، وسماها: =آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي+. _انظر ترجمته وافية في ثنايا المجلدات بأقلام متعددة، كما أنه ترجم لنفسه فيها.
وقد ترجمتُ له في كتابي =الصداقة بين العلماء+.(1/88)
الشباب في كل أمّة هم الدم الجديد الضامن لحياتها واستمرار وجودها، وهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لمآثرها، وهم المصحّحون لأغلاطها وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال.
كنا شباباً فلما شِبْنا تلفَّتنا إلى الماضي حنينًا إلى الشبيبة، فرأينا أن الشباب هو الحياة التي لا يُدْرِك قيمتها إلاَّ من فارقها، ورأينا أخطاء الشباب من حيث لا يمكن تداركها وسيصبح شباب اليوم شيوخ الغد، فيشعرون بما نشعر به نحن اليوم.
وليت شعري إذا كان شيوخ اليوم هم شباب الأمس، وشبابُ اليوم هم شيوخ الغد فعلام هذه الشكوى المترددة بين الفريقين؟ وهذا التلاوم المتبادل بين الحبيبين؟ يشكو الشيوخ نزق الشباب وعقوقهم ونزواتهم الكافرة، ويشكو الشباب بطء الشيوخ، وترددهم، وتراجعهم إلى الوراء، ونظرتهم إلى الحياة نظرةَ الارتياب.
مَهْلاً أيُّها المتقاربان المتباعدان، فليس التفاوت بينكما كسبيًا يعالج، وليس النزاع بينكما علميًا يحكم فيه الدليل، ولكنَّه سنّة وتطوّر.
كنَّا حيث أنتم، وستصبحون حيث نحن بلا لوم ولا عتاب؛ هما مرحلتان في الحياة، ثم لا ثالثة لهما طويناهما كرهاً، وستطوونهما كرهاً، والحياة قصيرة وهي أقصر من أن نُقَطِّعها في لوم، أو نقطعها بنوم.
ليحرص الشباب على أن يكونوا كمالاً في أمّتهم لا نقصًا، وأن يكونوا زيناً لها لا شينًا، وأن يضيفوا إلى تليد مكارمها طريفًا، وإلى قديم محاسنها جديداً، وأن يمحوا كل سيئة لسلفهم بحسنة.
والشباب المحمّدي أحقّ شباب الأمم بالسبق إلى الحياة، والأخذ بأسباب القوة؛ لأنَّ لهم من دينهم حافزاً إلى ذلك، ولهم في دينهم على كل مكرمة دليل، ولهم في تاريخهم على كل دعوى في الفخار شاهد.
أُعيذ الشباب المحمدي أَنْ يُشْغِل وقته في تعداد ما اقترفه آباؤه من سيئات، أو في الافتخار بما عملوه من حسنات، بل يبني فوق ما بنى المحسنون، وليتق عثرات المسيئين.(1/89)
وأُعيذه أن ينام في الزمان اليقظان، أو يهزل والدهر جادّ، أو يرضى بالدون من منازل الحياة.
يا شباب الإسلام، وصيتي إليكم أَنْ تتصلوا بالله تديُّناً، وبنبيّكم اتِّباعاً، وبالإسلام عملاً، وبتاريخ أجدادكم اطِّلاعاً، وبآداب دينكم تخلُّقاً، وبآداب لغتكم استعمالاً، وبإخوانكم في الإسلام وِلداتكم(1)في الشبيبة اعتناءاً، واهتمامًا، فإن فعلتم حزتم من الحياة الحظ الجليل، ومن ثواب الله الأجر الجزيل، وفاءت عليكم الدنيا بظلها الظليل.
حديث إلى الشباب(2) للأستاذ الأديب أحمد أمين
تفضلت (مجلة الهلال) فطلبت إليَّ أن أتحدث هذا الشهر إلى (الشباب) فرحبت بهذا الطلب، لأن الحديث مع الشباب وعن الشباب وإلى الشباب، حبيب إلى النفس قريب إلى القلب، وكيف لا يكون كذلك وهم _ كما قال أبوالعتاهية _ رائحة الجنة، وأيامهم خير أيام الحياة، وهي أكبر مظاهر القوة، وأكبر مظاهر الإنسانية، وهي في الأيام كالربيع في الزمان، تغنى بها الشعراء يوم كانوا ينعمون بها، وبكوا عليها يوم حرموا منها؛ فالشباب كان شغلَهم الشاغلَ إذا وجد وإذا فقد، وما أكثروا من القول في الحزن على الشيب إلا لأنهم أعظموا الشباب.
ثم أين حكمة الشيوخ من قوة الشباب؛ فلطالما كانت الحكمة معوقة عن العمل، بما ملئت من حذر، ومن دعوى بعد النظر، بل وما الحكمة التي زعموها إلا وليدة الشباب وبفضل الشباب، فلولا حركة الشباب الدائمة وإقدامهم في شجاعة على الخطأ والصواب ما كانت حكمة ولا تجارب، ولا مران، ولا شيء مما يدعي المحنكون.
والحق أن لا شيء في الشيوخ يعوض ما للشبان من لمعان في عيونهم، وقوة في عضلهم، ويقظة في عقلهم، ويقين في قلبهم، ليسوا بالأطفال يصعدون، ولا بالشيوخ ينحدرون، وإنما هم في الذروة التي ليس بعدها غاية، هم حَجَرُ الزاوية، وواسطة العقد في الأمة.
طريق المستقبل:
__________
(1) لداتكم: أقرانكم.
(2) فيض الخاطر، 10/ 280 _ 286.(1/90)
في سن الشباب =ينعقد+ الإنسان، ويتحدد قالبه، ويرسم خطة نجاحه وفشله، وليس له بعد الشباب إلا تنفيذ ما رسم، واستقبال ما قُضِي وقدر.
وعلى الجملة فحياته بعد شبابه هي حركة =القصور الذاتي+ واستمرار في دفعة الشباب.
وإذا كُتب لكل إنسان تاريخٌ فكتب الناس متشابهة في أن أهم فصولها فصول شبابه وليس بعد فصل =الشباب+ إلا فصل =النتيجة+ وهل بعد صب العجين في القالب إلا التصلب، أو هل بعد استكمال المقدمات إلا النتائج، أو بعد انتهاء الفصول إلا الخاتمة، أو بعد انتهاء المهندس من رسم البناء والموافقة عليه إلا التنفيذ.
ولكن _ وا أسفاه _ يخطئ كثير من الشباب فيصب نفسه في قالب غير القالب الذي يناسبه، أو يؤلف كتاب تاريخه على غير ما خلق له، أو يرسم هندسة بنائه ومساحة نفسه التي يقيم عليها البناء لا قوائم شكل البناء فيخرج معيباً مشوهاً؛ فكثير من رجال الأعمال أضاعوا شبابهم في دراسة نظرية بحتة، وكثير ممن حسن استعدادهم للفلسفة والنظريات البحتة أضاعوا شبابهم في عمل يدوي، ففقدت الأمة نبوغَ هؤلاء وهؤلاء جميعاً، وكنا كأننا في مصنع يكنس أرضه المهندس، ويهندس آلاته الكناس، ويقوم بكل عمل فيه مَنْ لا يحسنه.
وهذا أكبر سبب في ضياع الشبان، وفساد الأعمال.
فنقطة البدء في حياة الشباب يجب أن تكون هي دراسة نفسه، وتعرُّفُه موضع نبوغه، ومواضع ضعفه، واختيار العمل الذي يعمله، ونوع الدراسة التي تناسبه، وتحديد الغاية التي ينشدها.
وليس يستطيع أي عالم، أو مرشد، أو ولي أمر أن يستكشف موضع النبوغ في الشاب كما يستطيع الشاب نفسه؛ فنفسه بين جنبيه هو أقدر على أن يقيسها ويقيس اتجاهاتها، وهو لو دقق النظر، وأخلص النية في تَعرُّف جوانبها ولم تغره المطامع الخادعة، والمظاهر الكاذبة_ لعرف سرَّ نفسه، وموضع عظمته.
صعوبات الشباب:
وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة للشباب، فهناك صعوبات عدة تعرضهم وتحاربهم، وتدفعهم إلى الشر، وتصدهم عن الخير.(1/91)
من أهم هذه الصعوبات =الوراثة والبيئة+ فهناك كثير من الشباب ورثوا الميل إلى الإجرام، والميل إلى الخمر، والميل إلى النساء ونحو ذلك عن آبائهم، وظلت هذه الجذور الموروثة كامنةً فيهم مدةَ صباهم حتى إذا دخلوا في دور الشباب تحركت هذه الميول بقوة وشدة؛ فظهرت فيهم مرعبة مزعجة.
كما أن كثيراً من الظروف السيئة تحيط بالشاب الطيب، فتلتهم ميوله الطيبة، وتهدم آماله وطموحه، وتستأصل شعوره بالشرف والنبل، وتجعل على عقله غشاوة؛ فلا يستطيع التفكير، وتجعل كل طموحه، وكل أمله، وكل تفكيره في شهوات وضيعة، وكل يوم تقوم لنا البراهين العدة على هذا.
فمن هذه الظروف =الصداقة السيئة+ فقد يكون الشاب طاهراً نقياً، فما هو إلا أن يصاب بصديق يفتح له حديث الشر، ويحيي فيه كوامن شهواته، ويقص عليه مغامراته ومغامرات أمثاله في النساء وفي الشراب، ويستدرجه من سيجارة يدخنها، إلى كأس يشربها، إلى ما هو أسوأ من ذلك، فإذا رأسه مشتعل بالشر، وإذا هو يطلِّق كل ما اعتنقه من مبادئ الخير، وإذا هو لا يصلح لجدٍّ ولا لدراسة وإذ هو لا يصلح إلا لضروب الشر.
ومثل هذه الصداقة، صداقة الكتب والمجلات والجرائد التي من هذا النوع، فهناك أنواع من الأدب مضلةٌ مغويةٌ، وكم من الشباب اتخذوا مثلهم العليا من روايات السينما الداعرة الفاتكة بالعقول، الممثلة للجرائم واللصوصية، المحركة لأسفل أنواع الشهوة، وكذلك الكتب، والمجلات، والصحف، والصور التي من هذا القبيل.
ومما نأسف له أن هذا النظر، وهذا القول يعد عند بعض الشبان من أخلاقية القرون الوسطى لا يصح أن ينطبق على عصورهم وزمنهم.
والواقع أن التجارب التي أجريت والحريات التي مُنحت في هذا الباب دلت على صحة أخلاقية القرون الوسطى، وأصبح المعاصرون من كتاب أرقى الأمم الممدنة يخشون من تهور الشباب في هذا الباب، وأصبحوا في فزع مما يرونه من المآسي التي يرتكبها الشاب باسم الحرية.
كيف يبني الشاب نفسه؟:(1/92)
والآن نتساءل: ماذا يجب أن يكون الشاب وكيف الوصول إلى ما يجب؟
أول واجب على الشاب أن يبني نفسه؛ فينظر في ملكاته واستعداداته، ويكوِّن منها نفسه على أحسن وضع يمكن أن تكون عليه المواد الأولية.
والناس كلهم مختلفون في كمية الملكات والاستعدادات وكيفياتها، ولكن كل كمية وكيفية يمكن أن يصاغ منها إنسان جيد في ناحية من النواحي، له شخصية ممتازة نوع امتياز، وليس يفسد هذا العمل إلا عدم القدرة على البناء، أو عدم الاهتداء لخير الأشكال؛ يجب أن يبني نفسه جسمياً وعقلياً وخلقياً؛ فيرسم له مثلاً أعلى محدوداً في كل ناحية من هذه النواحي، ويرسم خطة السير للوصول إلى هذه الغاية، ولا يترك نفسه سهلاً كالسفينة بلا قائد تتقاذفها الأمواج، وتدفعها الرياح كما تهوى.
ولا يتسنى له ذلك إلا إذا امتلأ عقيدة بخير هذا المثل، ومناسبته له.
وقد دلت التجارب على أن القلب لا العقل هو الذي يبني الإنسان ويكتب تاريخه، ويحدد مقدار نجاحه، فلا خير في عقل كبير لا قلب معه، وتاريخ الإنسانية يشهد أن خدمة القلوب الكبيرة لها_ أقوى من خدمة العقول الكبيرة.
وأهم ما يدعو إليه القلب، ويتطلبه من الشاب أن يكون =رجلاً+ والرجولة وصف جامع لكثير من الصفات المحمودة: أهمها الجد في العمل، والشجاعة في مواجهة الصعاب، والحرص على المبادئ.
وهذه الصفة _ نحن الشرقيين _ أحوجُ ما نكون إليها الآن، وأحق صفة لكثرة الكلام فيها؛ لأني أرى في الشباب ميلاً إلى الانحدار، والتحلل من الواجبات، وعدم الاكتراث بالمبادئ، والميوعة في السلوك.
وهي كلها مظاهر لقلة =الرجولة+ أو عدمها، وهي أكبر سبب فيما نرى من عدم نجاح الشبان في الأعمال الحرة؛ فالعمل الحر يتطلب جدَّاً فائقاً ونشاطاً كبيراً، وعملاً شاقاً في زمن طويل، وإعمال العقل في الابتكار والتفكير في وسائل النجاح، فإذا لم يكن الشاب مسلحاً بكل هذه الخصال فشل فشلاً تاماً.
لماذا يفشل الشاب:(1/93)
ولعل من أكبر أسباب هذا الفشل وعدم هذا الخلق _ خلق الرجولة _ أن الآباء لم يتعودوا عندنا أن يزجوا بأبنائهم الشبان في معترك الحياة، ويحملوهم عبء أنفسهم، بل يفتحون لهم صدورهم، وبيوتهم، وجيوبهم حتى بعد أن يتخرجوا من المدارس العالية، ويتركونهم في البيت يأكلون، ويشربون، وينامون وينعمون، وكل عملهم السعي في دواوين الحكومة لعلهم يجدون لهم =وظيفة+.
ولم يعتد الآباء فينا هذه العادة الجيدة التي اعتادها الغربيون وهي أنهم منذ تعليمهم يطلبون منهم أن يصطدموا بالحياة، ويلجؤونهم أن يجدوا لهم عملاً وأن يبحثوا لهم عن قوت، وأنهم _ وقد أعانوهم على إتمام دروسهم _ قد أنهوا الواجب عليهم؛ فوجب على الشاب أن يحمل عبء نفسه، ويتعلم أن يعوم في الحياة كما يعوم في البحر، وأن يكافح الأمواج، ويحارب الصعاب، ويبذل جهده حتى يجد قُوتَه؛ فهذا هو ما يبني الشاب حقاً، ويستخرج منه الرجولة.
أما طريقتنا التي نسير عليها فلا نتيجة لها إلا ما نشاهد من ميوعة، وتسكع على أبواب المصالح الحكومية.
وللوصول إلى هذا يجب أن يكون الشاب _ دائماً _ باسماً للحياة متفائلاً لا متشائماً آملاً في النجاح؛ فاليأس يستلزم الفشل والخيبة، ويسمم الحياة كما يسمم =المكروب+ الماء.
وأخيراً على الشاب أن يمتلئ شعوراً بأنه مكلف أن يفعل ما يستطيع لتصحيح الخطأ الذي يقع فيه الناس من جرائم وشرور؛ فلا يكون في حياته أنانياً بحتاً لا ينظر إلا إلى نفسه، بل هو مطالب بعد أن يبني نفسه: أن يشترك في بناء أمته، وفي بناء الإنسانية عامة على قدر جهده وكفايته بخلقه وبعلمه وبماله وجاهه.
على الشباب أن يكونوا قوةً فاعلة دائمة في حياة أمتهم، ويجب أن يتحملوا في الحياة أكبر عبء؛ لأن حيويتهم في الأمة أقوى حيوية.(1/94)
وهم المقياس الصحيح لرقي الأمة أو انحطاطها؛ فإذا أردت أن تعرف هل ارتقت أمة أو انحطت وما مقدار هذا الرقي أو الانحطاط فاعرف الفرق بين شباب الأمة وشيوخها، فبمقدار تفوق الشبان على الشيوخ في العلم والخلق والصحة يكون الرقي، وبمقدار ضعفهم عن الشيوخ في ذلك يكون الانحطاط.
إن كل طبقة من طبقات الأمة لها رسالة يجب أن تؤديها وليس في كل هذا أجدى، وأنفع من أن يؤدي الشباب رسالتهم.
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار
تحرير المرأة (1) للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
حرر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكمهم، فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والإنسانية، بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكَّم فيها أهواء الرجال، وتتصرف فيها الاعتبارات العاديَّةُ المجرَّدة من العقل، فهي حيناً متاعٌ يُتخطَّف، وهي تارة كرة تُتلقَّف، تُعتبر أداة للنسل، أو مطيَّةً للشهوات.
وربَّما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملاً من عوامل ترقيق العواطف، وإرهاف النفس، ودواءاً لكثافة الطبع، وبلادة الحسّ، ويجدون فيها معانيَ جليلةً من السموِّ الإنساني، وأشعارهم _على كثرتها_ عامرةٌ بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم، وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها.
ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات؛ فإنه لم يكن عامَّاً فاشياً فيهم، وتعليله عند فَاعِلِيْهِ يُشعر أنه نتيجة حبٍّ طغى حتى انحرف، وأَثَرُ عقلٍ أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهيةٍ لنوع الأنثى.
__________
(1) من مقال للشيخ × عنوانه =الرق في الإسلام+، وهو موجود في كتاب: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 4/360_362، ولم يُعثر على تاريخها، ولا مكان إلقائها.(1/95)
وعلى كلِّ حال فالوَأْدُ خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارجٌ عن نطاق الإنسانية، وحسبه تسفيه قوله _تعالى_:[أَلا سَاْءَ مَاْ يَحْكُمُوْن].
وجاء الإسلام فنبَّه على منزلتها، وشرفها، وكرم جنسها، وأعطاها كلَّ ما يناسب قوَّتها العقلية، وتركيبها الجسمي، وسوَّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك استقلالاً؛ تشريفاً لها، وإبرازاً لشخصيتها، ولم يجعل للرجل عليها سبيلاً في كلِّ ما يرجعُ إلى دينها وفضائلها، وراعى ضعفَها البدني بالنسبة للرجل، فأراحها من التكاليف المادِّيَّة في مراحلِ حياتها الثلاث: من يوم تولد إلى يوم تموت: بنتاً وزوجاً وأماً، فأوجب على أبيها الإنفاق عليها وتأديبها ما دامت في حِجْره إلى أن تتزوَّج، وهذا حقٌ تنفرد به البنت على الابن الذي يسقط الإنفاق عليه ببلوغه قادراً على الكسب، فإذا تزوَّجت انتقل كلُّ ما لها من حقٍّ أدبي أو مادي من ذمة الأب إلى ذمة الزوج، فتأخذ منه الصداق فريضة لازمة، ونِحْلَةً مسوَّغة، وتستحق عليه نفقتها ونفقة أولادها منه بالمعروف، فإذا خلت من الزوج ولها أولاد مكتسبون وجبت الحقوق على أولادها، ولا تُنفق شيئاً من مالها إلا باختيارها.
ووصايا القرآن والسنَّة وأحكامها في برِّ الأمهات معروفة، وهي أظهر من الشمس؛ فالإسلام أعطى المرأة وأولادها من الإعزاز والتكريم ما لم يُعطها إياه دينٌ آخرٌ، ولا قانونٌ وضعيٌّ، وأعطاها حقَّ التصرفِ في أموالها، وحقَّ التملك من دون أن يجعل للزوج عليها من سبيل، وأحاطها بالقلوب الرحيمة المتنوِّعة النوازع، المتلوِّنة العواطف: قلب الأب وما يحمل من حنان، إلى قلب الزوج وما يحمل من حب، إلى قلب الولد وما يحمل من برٍّ ورحمة؛ فهي لا تزال تنتقل من حضن كرامة وبر إلى حضن كرامة وبر إلى أن تفارق الدنيا، وبين المهد واللحد تتبوَّأ المراتب الكاملة في الإنسانية.(1/96)
نرى من هذه المعاملة الصريحة للمرأة في الإسلام أنه سلَّحها بأحكام قطعية، وحماها بتشريع سماوي عادل، ولم يكلها إلى طبائع الآباء الذين يلينون ويقسون، ولا إلى أهواء الأزواج الذين يرضون ويغضبون، ولا إلى نزعات الأبناء الذين يَبرُّون ويعقُّون، وإنما هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ، لا تدور مع الأهواء والعواطف والنزعات وجوداً وعدماً.
ولا يَنْقُضُ علينا هذه الأصول شُذاذُ العصور المتجاوزون لحدود الله الخارجون عن الفطرة الصحيحة كمسلمي زماننا الذين منعوا المرأة المسلمة كلَّ أو جُلَّ حقوقها، وحسب هؤلاء أنهم ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا المرأة، وأنهم هدموها، فهدمتهم من غير قصد في أبنائهم، وأفسدوا كونها، فحُرموا عونها.
وفي موضوع =المرأة في الإسلام+ يتدخَّلُ علماءُ الغرب ملاحدةً ومُتألِّهين، ويتعاطون ما لا يُحسنون من القول في هذا الموضوع، ويجعلون منه ذريعةً للنيل من الإسلام.(1/97)
ولقد ناظرنا جماعةً منهم في الموضوع، فأفحمناهم، وألقمناهم حجراً، قلنا لهم: هاتوا مثالاً نتناقش فيه، فقالوا: الميراث، قلنا: من أي جهة؟ فإنَّ المرأة ترث بعدة أسباب، فنظر بعضُهم إلى بعض، هل يراكم من أحد، وكادوا يتسلَّلون، وكأنهم كانوا لا يعرفون إلا أنَّ المرأةَ مظلومة في القرآن الذي يقول:[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْن]، فقال لنا أحدهم: نعني ميراثَ البنت مع أخيها، فقلت: أنتم قوم تبنون الحياة كلَّها على الحساب، فهلمَّ =نتحاسب+، ولنفرض أنَّ مُورِّثاً مسلماً مات وترك ابناً، وبنتاً، وثلاثمائة نقداً، قال الإسلام: للابن مائتان، وللبنت مائة، فقلتم: هذا ظلم، هذا غبن، هذا إجحاف، ولم تفهموا أنَّ الإسلام نظر إلى المرأة ككل، ونظر إلى مراحل حياتها الثلاث كمنظومة متناسقة، فإذا نقص لها في جزئية جبر لها في جزئية أخرى، ولنجرِ معكم على مثالنا ولا نخرج عنه، ولنفرض أنَّ الأخوين الذكر والأنثى تزوَّجا في يومٍ واحد، وليس لهما من المال إلا ذلك الميراث، فالذكر يدفع لزوجته مائة صداقاً، فيُمسي بمائة واحدة، وأخته تأخذ من زوجها مائة صداقاً فتُصبحُ ذات مائتين، والذكر مطلوب بالإنفاق على نفسه وزوجته وأولاده إن ولد، وأخته لا تُنفق شيئاً على نفسها ولا على أولادها.
فهذا هو الميزان العادل في الإسلام يتجلَّى من هذا المثال، وتتجلَّى منه رحمةُ الله في هذا المخلوق الذي ركَّبه الله على ضعف، ورشَّحه لحمل أعظم أمانة، وهي تربية الناشئة وإعدادها للحياة.
مستودع الذخائر(1) للأستاذ أحمد أمين
أين_ تظن _ مستودع الذخائر للأمة؟
وقد تجيب على الفور: إنه المطارات، ومخازن الأسلحة، ومستودع القنابل، وما إلى ذلك من أماكن تكدس فيها آلات القتال، وأدوات الحرب.
إن أجبت بذلك فقد أجبت بالعرض دون الجوهر، وبالمجاز دون الحقيقة.
__________
(1) فيض الخاطر(2/89_93).(1/98)
وقد تتفلسف قليلاً، فتقول: إن ذخيرة الأمة هي جيشها المسلح بعَدده وعُدَدِه، ومرانه وتجهيزه، وفنونه وتشكيله.
إن قلت ذلك فقد قاربت الصواب ولم تقله، وحُمْتَ حوله، ولم تقع عليه.
فما قيمة الذخائر إن لم تجد رجالاً؟ وما ينفع السيف إذا لم تك قتَّالاً؟
إن السيف في يد الغِرِّ والحاذق كالقلم في يد الأميِّ والكاتب، بل ما ينفع الجندي المسلح إن لم يكن له بين جنبيه قلبٌ لا يهاب، ونفسٌ لا تفزع؟
الإجابة الحقة هي أن مستودع الذخائر للأمة قلب المرأة، قلب المرأة هو الجيش الأول الذي لا قيمة لقنابل، ولا طيَّارات، ولا غواصات، ولا دبابات، بدونه.
وإن شئت فقل هو الطابور الخامس الذي لا يوقع الرعب والفزع في قلوب الأعداء شيء مثله.
لقد خُلقت المرأة من ضِلَع من أضلاع الرجل، ولكن سرعان ما تغير الحال؛ فخلق قلب الرجل من قلب المرأة.
يخطئ من يظن أن لبن الأم ليس إلا نسبة معينة من الدسم، ونسبة معينة من الماء، وما إلى ذلك؛ فليس هذا كله إلا تحليلاً للمادة، وليست المادة كل شيء في اللبن.
وإنما قصر تحليل الكيمياويين، فقصرت نتائجهم.
إن في اللبن صفات خلقية، وصفات عقلية، وصفات روحية، وراء الصفات المادية، يرضعها الطفل كما يرضع مادة اللبن، فتتغذى بها روحه، وتتشكل منها نفسه؛ وليست هذه الصفات الروحية متطابقة دائماً مع الصفات المادية؛ فقد يحلل اللبن في معامل الكيمياء فيتبين من تحليله أنه المثل الأعلى للبن، وهو مع ذلك سمٌ خلقي ينفث الجبن، ويشيع الفساد، ويبعث الفزع والخور؛ على حين أن لبناً آخر ينقصه الدسم، ويعيبه التحليل الكيمياوي؛ وهو مملوء روحاً، ومملوء شجاعة ونشاطاً، ومملوء قوة، ومن أجل ذلك صدق الشاعر إذ يقول:
ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه ... وفي أثوابه أسدٌ مَزِيرُ
ويعجبك الطرِيرُ فتبتليه
... فيُخلفُ ظنَّكَ الرجل الطريرُ(1/99)
ثم إن اللبن الذي ترضعه الأم أولادها توعز إليهم الجبن أو الشجاعة بسلوكها؛ فإن هي ربتهم تربية الأرانب فأدفأتهم وأشبعتهم، وحاطتهم بكل ضروب العناية، ولم تسمح لهم أن يجربوا، وأن يخاطروا وأن يجازفوا، ثم حدثتهم من الأحاديث ما يخلع قلوبهم، ويحبب إليهم الحياة بأي ثمن، وعلمتهم أن لا قيمة للعقيدة بجانب حياتهم، ولا للوطن بجانب سلامتهم، وصاحت وولولت يوم يجندون، وفقدت رشدها يوم يسلحون، فهناك ترى صورة جند ولا جند، ويرى أشكال الرجال ولا رجال، وترى أجساماً ضخاماً وقلوباً هواءاً.
وإن هي ربتهم من صغرهم على المخاطرة والمجازفة، وحدثتهم أحاديث الأبطال وعظماء الرجال، وعودتهم مكافحة الحياة والتغلب على الصعاب، وعلمتهم أن المبادئ فوق الأشخاص، والوطن فوق حياة الأفراد، وعيرتهم يوم يفرون من واجب، وأنبتهم يوم يأتون بنقيصة، وفخرت بهم يوم يضحون لمبدأ، واعتزت بهم يوم يخاطرون لأمة _ فهناك الرجال، وهناك العزة، وهناك الشرف.
ألست ترى معي بعدُ أن قلب المرأة هو الذي يخلق قلب الرجل؟.
قَلِّبْ صفحات التاريخ إن شئت، فحيثما رأيت للأم قلباً رأيت للرجل قلباً، فإذا انخلع قلبها انخلع قلبه.
إن هنداً بنت عتبة التي تخاطب الجيش بقولها:
إن تُقبلوا نُعانِقِ ... أو تُدْبروا نُفارِقِ ... فراقَ غير وامِقِ
هي التي أنجبت معاوية.
وأسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها: يا بني لا ترضَ الدنية؛ فإن الموت لا بدَّ منه، فلما قال لها: إني أخاف أن يمثَّل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ_ هي التي أنجبت عبد الله بن الزبير.
والتاريخ مملوء بهذه الشواهد في كل أمة.
وظلت المرأة العربية على شهامتها ومعرفتها بأمور الدنيا حتى أصبحت المرأة ليست إلا رمزاً للمتعة، أو رمزاً للكيد؛ وتجادل الشعراء، فمنهم من يقول:
إن النساء رياحينٌ خُلِقنَ لنا ... وكلنا نشتهِي شَمَّ الرياحينِ
ومنهم من يقول:
إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شرِّ الشياطينِ(1/100)
وكلا النظرين سخيف قاصر؛ فليست المرأة ريحانة فحسب, ولا شيطانة فحسب؛ وإنما هي فوق ذلك مَرْبىً للرجال، ومحضنةٌ للقلوب، ومستودع للذخائر.
بمثل هذه النظرات البلهاء فقدنا المرأة ففقدنا الرجل؛ فإن أردنا تنظيم حياتنا على أسس جديدة وجب أن يكون أولها وأولاها خلق قلب المرأة.
ليس ما يمنع أن تحيا المرأة حياة الجمال, بل هو واجب أن يكون ولكن يجب أن يكون بجانب الجمال الحسي جمال معنوي؛ فيه جمال حديث المرأة , وجمال رقيها وخبرتها، وجمال شجاعتها، وجمال قلبها, فعند ذلك نجد المرأة فنجد الرجل.
انظر الآن دور المرأة الغربية في الحرب, ولا أقص عليك إلا مثلاً واضحاً تلمسه في كثير مما يدور من قصص، وما يتلى من أخبار وهو أن الشبان والرجال يتعيرون كل العار أن يُروا في بلادهم أيام الحرب وهم لا يحملون السلاح, ولا يشتركون في القتال أو وسائل القتال , ويحز في نفوسهم أن قد أصيبوا بعاهة أو منعهم مانع جسمي عن أن يؤدوا لوطنهم خدمة ولأمتهم عملاً.
ومن يقوم بهذا الدور الخطير من تأنيب وتعيير غير نساء الأمة؟ فتكفي نظرة من إحداهن ليفضل الرجل الموت على الحياة, وخطر الحرب على أمن السلم, وعيشة القتال على عيشة الدعة.
كل هذا يلخص لنا الأمر في جملة: شَجُعَتْ المرأة فشجع الرجل, وماعت المرأة فماع الرجل.
ليست تُعد الأمة راقية تستحق البقاء إلا إذا أرسلت الأمة أبناءها إلى ميادين القتال وهي تبتسم, وودعت الزوجة زوجها إلى الحرب وهي تملؤه أملاً بالعيشة السعيدة بعد النصر، وقالت الأمهات لأبنائهن ما قالت (أسماء): =إن ضربة بسيف في عز خيرٌ من لطمة في ذل+.
إن وراء كل جيش في الأمة جيشاً غير منظور من قلوب نسائه، ووراء كل جيش صاخب جيش المرأة الصامت، ووراء البنود والأعلام والجنود والذخائر ذخيرة أسمى وأرقى وأغلى، وهي (قلب المرأة).(1/101)
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام(1) للشيخ محمد الخضر حسين
ألقى أحد الأساتذة محاضرة تعرض فيها لاختلاط الفتيان والفتيات في الجامعة، وأبدى استحسانه لهذا الاختلاط، ووقف موقف الدفاع عنه.
وما كنا ننتظر من الأستاذ المحاضر وقد قضى سنين غير قليلة وشؤون المجتمع تمر عليه بمقدماتها، وبما ينتج عنها من خير وشرأن يقول ما قاله في تلك المحاضرة.
بل كنا ننتظر منه أن يملي على أبنائنا وبناتنا كلمات يتلقونها على أنها آراءٌ أحْكَمَتْها التجارب، فيستنيرون بها في حياتهم المحفوفة بالأخطار من كل جانب.
ولكن الأستاذ لم يشأ إلا أن يتناول في محاضرته مسألة اختلاط الفتيان والفتيات، ويرضى عن ذلك الاختلاط، صارفاً النظر عما يجر إليه من الانحلال في الأخلاق، وغمز في الأعراض.
وغَرضنا من هذه المحاضرة نقد كلمات وردت في محاضرة الأستاذ، وإنما ننقدها على طريقة آداب البحث، وما تقتضيه قوانين المنطق، ثم انظروا ماذا ترون.
وما كان لي ولا للأستاذ وقد أخذنا نبحث في شأن اجتماعي أن نهمل وجهة الدين الإسلامي في هذه المسألة الهامة، فإذا نحن حققنا النظر فيها من حيث اتجاه الدين الإسلامي، وأعقبناه بالنظر في حكمة هذا الاتجاه _ استطعنا أن نحكم على ما يقال في اختلاط الفتيان والفتيات بين جدران الجامعة، أو حول جدرانها، ونحن على بينة من أمر هذا الحكم.
قال الأستاذ في محاضرته: =ويتصل بخطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة+.
يعد الأستاذ فيما أخطأ الجمهور في فهمه من رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة، ويريد بخطأ الجمهور إنكارهم لما صنعته الجامعة من قبولهن، وخلطهن بالفتيان في حجرات التدريس.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية ج 6 من المجلد الثالث عشر، وانظر كتاب محاضرات إسلامية لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين جمعها وحققها علي الرضا التونسي ص190_200.(1/102)
والواقع أن الجمهور لم يخطئ، وأن الجامعة هي التي أخطأت في هذا الخلط؛ ذلك أن جمهور الأمة المصرية يستضيء في حياته بدين قامت لديه الأدلة القاطعة على أنه وحي سماوي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا عرضت له مسألة اجتماعية كالجمع بين الفتيان والفتيات على الوجه الذي يقع في الجامعة _ أقبل يستفتي دينه الحق، فإن وجده قد أذن في ذلك سكت عنه ورضي به، وإن وجده قد نهى عنه بادر إلى إنكاره.
وتحريم الدين لاختلاط الجنسين على النحو الذي يقع في الجامعة معروف لدى عامة المسلمين، كما عرفه الخاصة من علمائهم، وأدلة المنع واردة في الكتاب والسنّة وسيرة السلف الذين عرفوا لباب الدين، وكانوا على بصيرة من حكمته السامية.
يقول الله _ تعالى _: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] النور:30، ويقول: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ]النور: 31.
ومعنى غضّ البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة، والوقوع في فساد، ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر، ولا يتبعوا النظرة بأخواتها؟ وهل يستطيع أحدٌ صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غضّ أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضّوا من حولها؟ والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات، تنهى أولي الأمر عن تَصَرُّفٍ شَأْنُهُ أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة.(1/103)
ويقول الله _ تعالى _: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ]النور: 31.
والزينة ما يتزين به من نحو القُرط، والقِلادة، والخاتم، والوشاح والشعر، والأصباغ من نحو الكحل والخضاب، والملابس الأنيقة، وما ظهر من الزينة هو الثوب الذي يستر الجسد حتى لا يظهر ما تحته من حلي، وشعر، ونحوه.
ثم إن القرآن قد استثنى طائفة من الناس تكثر مداخلاتهم للمرأة؛ فيكون في التزامها التستر الذي تلزمه مع الأجنبي مشقةٌ عليها، فأذن لها في عدم زينتها منهم، ثم إنَّ تَوقُّعَ الفساد منهم شأنهُ أن يكون مفقوداً أو نادراً، إما لشدة القربة، كالأب والابن والأخ والخال والعم وابن الأخ وابن الأخت، وإما لأن شأنهم الغيرة على حفظ عرض المرأة كأبي الزوج وابنه، فإن أبَ الزوج أو ابنه تدعوه الغيرة على أن يحافظ على عرض المرأة؛ لأن في حفظ عرضها حفظاً لعرض ابنه إن كان أباً، أو لعرض أبيه إن كان ابناً.(1/104)
وهؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة، لا يتساوون فيما يصح أن يطلع عليه، فالزوج يحل له النظر إلى ما شاء، وأما الابن والأب والأخ والجد وكل ذي محرم، فلا يجب على المرأة أن تستر منهم الشعر والنحر والساقين والذراع، وأما غير أولي الإربة من الرجال، وهم الذين عرف منهم التعفف وكانوا على حالة من لا يقدر على مباشرة النساء، كالطاعنين في السن الذين عرفوا بالصلاح وعدم الحاجة إلى النساء، فإنما يحل للمرأة أن تظهر أمامهم في ثياب صفيقة وإن لم تكن عليها ملحفة.
وليس من شك في أن طالبات الجامعة لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وقد يأتين في أجمل ثيابهن، ويختلطن بفتيان ليس بينهم وبينهن صلة من الصلات المشار إليها في الآية الكريمة.
ويقول الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ]الأحزاب: 59.
الجلباب: الثوب الذي يستر المرأة من فوق إلى أسفل، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وإدناؤه عليهن إرخاؤه عليهن، قال ابن عباس وجماعة من السلف: أن تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف، فتستر الصدر ومعظم الوجه إلا عينيها.
ثم ذكر حكمة هذا الستر، وهي أن التستر يدل على العفاف والصيانة؛ إذ من كانت في هذا الحال من التستر لا يطمع الفسَّاق في أن ينالوا من عرضها؛ فلا تلقى من الفساق تعرضاً يؤذيها مثلما تلقى المتبرجات بزينتهن، وذلك معنى قوله _تعالى_: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ].(1/105)
والأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن اختلاط المرأة بغير محرم لها تدل بكثرتها على أن مقتَ الشريعة الغرَّاء لهذا الاختلاط شديد، وأن عنايتها بأمر صيانة المرأة بالغة، وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري: =قالت النساء للنبي " غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن+.
ولو كان اختلاط الطلاب بالطالبات مما يأذن به الدين لكان للنساء أن يجلسن مع الرجال في مجلس رسول الله " ولما قلن له: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، ولما وعدهن يوماً لقيهن فيه وحدهن.
وأذكر منها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =لقد كان رسول الله " يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد+.
ولو كان اختلاط الرجال بالنساء مأذوناً فيه لما احتاج المؤمنات إلى أن يتلفعن بمروطهن، ويرجعن إلى بيوتهن دون أن يعرفهن أحد.
وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: قال النبي ": =لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: اخرج معها+.
ولو كان اختلاط النساء والأجانب مأذوناً فيه، لما حرَّمت الشريعة على المرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا أن يكون معها محرم، ولما نهى النبي " عن أن يدخل رجل على امرأة إلا ومعها محرم.
وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أم سلمة _ رضي الله عنها _ قالت: = كان رسول الله "إذا سلَّم، قام النساء حينما يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قالت: نرى _ والله أعلم _ أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال+.(1/106)
فقيام النساء، وانصرافهن عقب تسليمه " لأنه مأذون لهن في الصلاة دون البقاء في المسجد لغير صلاة، وقد أشارت رواية الحديث إلى أن مكث النبي " في مقامه عقب الصلاة من أجل تمكين النساء من الانصراف؛ لأن الرجال لا يقومون من موضع الصلاة إلا إذا قام _ عليه الصلاة والسلام _.
وفي هذا شاهد على كراهة الشارع لاختلاط الرجال الأجانب بالنساء.
ثم إن سنة النساء في صلاة الجماعة أن يصلين خلف صفوف الرجال، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك ÷أنه قال: =صلى النبي " في بيت أم سليم، فقمت، ويتيم خلفه، وأم سليم خلفه +.
ويدلكم على أن النهي عن اختلاط الرجال بالنساء كان معروفاً بين الصحابة _ رضي الله عنهم _ حتى أصبحت قاعدة يذكرونها عندما يشتبه عليهم الأمر في بعض الآثار أو الأحاديث، ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن جريج قال: =أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي " مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطهن: كانت عائشة _ رضي الله عنها _ تطوف في حجرة من الرجال لا تخالطهم+.
والحجرة الناحية المنفردة، تقول رأيت رجلاً يسير من القوم حجرة أي ناحية منفردة.
فانظر كيف بدا لابن هشام أن يمنع النساء الطواف مع الرجال؛ أخذاً بالقاعدة المعروفة في الشريعة من منع اختلاط النساء بالرجال.
ولما أنكر عليه عطاء لم يقل له: إن اختلاط النساء بالرجال لا حرج فيه، ولكنه استدل بحديث أن نساء النبي " كن يطفن مع الرجال، ولما بدا لابن جريج أن طوافهن مع الرجال يقتضي الاختلاط بهم، والاختلاط محظور في الشريعة، قال متشكلاً الإذن لهن في الطواف مع الرجال: كيف يخالطهن الرجال؟ فلم يقل له ابن جريج: وأي مانع من هذا الاختلاط، بل بيّن له أنهن يطفن مع الرجال دون أن يخالطنهم.(1/107)
وليست نصوص الدين وحدها هي التي تسوق الجمهور إلى إنكار اختلاط الطلاب والطالبات، بل المشاهدات والتجارب قد دلتا على أن في هذا الاختلاط فساد لا يستهان به، ومن أنكر أن يكون لهذا الاختلاط آثار مقبوحة فإما أن يكون غائباً عن شؤون المجتمع، لا يرقبها من قريب ولا من بعيد، وإما أن يكون قد نظر إلى هذا الاختلاط وآثاره بعين لم تنبه إلى وجهة استقباحه، ووجوب العمل على قطع دابره.
ومن عمد إلى البلاد التي يباح فيها اختلاط الجنسين، ونظر إلى ما يقع فيها من فساد الأعراض، وقاسه بالفساد الذي يقع في البلاد التي يغلب على رجالها ونسائها أن لا يجتمعوا إلا على وجه مشروع_ وجد التفاوت بين الفسادين كبيراً.
بل لا نحتاج في معرفة هذا التفاوت إلى إحصاء مفاسد هذه وتلك؛ فإن المعروف بالبداهة أن الاختلاط يُحْدِث في القلوب فتنة، ولا تلبث الفتنة أن تجر إلى فساد، فعلى قدر كثرة الاختلاط يكثر ابتذال الأعراض.
قال الأستاذ: =وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام+.
يريد أن قبول الطالبات في الجامعة لم يَرْضَ عنه فيما مضى إلا قليل من الناس، والواقع أن الذين يرضون عن هذا الاختلاط لا يزال عددهم قليلاً إذا نظر إليهم إزاء مَنْ ينكرونه، ويَشْكُون من سوء مغبته، ولو استُفْتِيت الأمة استفتاءاً صحيحاً لظهر أن أنصاره لا يزالون في قلة، على أن المسائل الاجتماعية إنما يرجع الحكم فيها إلى الأدلة القائمة على رعاية ما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، أما كثرة الأنصار فلا تجدي أمام النصوص الشرعية، والأدلة المؤيدة بالتجارب ولو مثقال ذرة.
قال الأستاذ: =بعد عشر سنوات من قبول هؤلاء الطالبات، قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط فلم نأبه له؛ لأن التطور الاجتماعي معنا، والتطور لا غالب له+.(1/108)
ليس هناك تطور يعرض للاجتماع في نفسه، وإنما تطور الاجتماع أثر أفكار وأذواق وميول نفسية، ورقيُّ هذا التطور أو انحطاطه يرجع إلى حال تلك الأفكار والأذواق والميول؛ فإن غلب على الناس جودة الفكر، وسلامة الذوق، وطهارة ميولهم النفسية_ كان التطور الاجتماعي راقياً وهذا هو الذي لا تنبغي معارضته، ويصح أن يقال فيه: إنه تطور لا غالب له.
أما إذا غلب على الناس انحراف الأفكار في تصور الشؤون الاجتماعية، أو تغلبت أهواؤهم على عقولهم، كان التطور الاجتماعي في انحطاط، وهذا هو الذي تجب معارضته، وأقل دعوة تقوم لإصلاحه يمكنها أن تقوِّم عوجه، وترد جماحه.
وإذا كان اختلاط الجنسين من قبيل التطور الاجتماعي فهو من نوع ما ينشأ عن تغلب الأهواء، وتقليد الغربيين في غير مصلحة، فيتعين على دعاة الإصلاح أن يجهروا بإنكاره، ويعملوا على تنقية المجتمع من أقذائه، ومتى قويت عزائمهم، وجاهدوه من طرقه الحكيمة أماطوا أذاه، وغلبوه على أمره.
وما كانت حالة العرب في الجاهلية إلا تطوراً اجتماعياً، وقد قام النبي " يحارب هذا التطور، فقضى عليه في أعوام غير كثيرة.
ولو عرض حال فرنسا قبل الحرب، ونظرنا إلى ما كان فيها من تهتك، وحاول بعض عقلائهم التخفيف من شر ذلك الاستهتار _ لوجد من يقول له: هذا التهتك تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له.
فهل يرضى الأستاذ المحاضر أن يسكت دعاة الإصلاح عما يغلب في الناس من الفساد، وييئسوا من إصلاحه بدعوة أنه تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له؟
والذي نرى أن الإصلاح يسود بالدعاية الحكيمة، وقد يسود بقوة السلطان العادل متى كانت الأمة في عماية عن طريق الرشد، وصَمَمٍ من مواعظ الحكماء، أما الباطل فإنما يسود بوجاهة أشياعه، أو قوة سلطانهم، وإذا تغلب باطل بالدعاية الماكرة فلأن أنصار الحق كانوا غارقين في نوم ثقيل، ولا يرفع الباطل صوته إلا في بيئة غاب عنها الدعاة المصلحون.(1/109)
وقد حسبنا عندما سقطت فرنسا في هذه الحرب تلك السقطة المزرية أن يأخذ منها رجالنا عبرة بالغة، فيعود الذين كانوا يحبذون السفور، واختلاط الجنسين، دعاة إلى أدب الإسلام من تستر المرأة بثياب العزة، وصيانتها عن مواقف الابتذال، ومواطن الاختلاط.
ومن دواعي الأسف أن يتنبه رجال فرنسا قبل أن يتنبه كثير من رجالنا، ويأخذ من سقوط دولتهم عبرة، هي أن سبب ضعف فرنسا وانهيار بنائها هو انحلال أخلاق شبابها، وإغراقهم في الملاذ والشهوات.
ولا إغراق في الشهوات أكثر من تخلية السبيل للنساء يخالطن الرجال، ويبدين لهن ما بطن من زينتهن دون أن تلتهب في نفس أبيها أو أخيها أو زوجها غيرةٌ حامية.
وقال الأستاذ المحاضر: =ومعنا العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص+.
لا يتنازع أحد في العدل بين الأخ والأخت، ولا يمانع من التسوية بينهما في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، (1)لا يستدعي اختلاطها بالفتيان، بل يعد هذا الاختلاط عائقاً لها عن الوصول إلى كمالها الخاص، فإنه يذهب بجانب كبير من الحشمة، وهدوء النفس، ويهيؤها لأنْ تنحدر في حفرة من سوء السمعة، ولو كان ولي أمرها الناصح في تربيتها ينظر إلى هذه العاقبة بعين تدرك حقيقتها لحال بينها وبين هذا الاختلاط بكل ما يملك من قوة.
ونحن لا نعارض في تعليم المرأة، ولا في استمرارها على التعليم إلى أبعد مدىً، ولكنا نريد الاحتفاظ بأساس كمالها الخاص، وهو الصيانة ونقاء العرض.
ولا شك في أن اختلاطها بالفتيان وسيلة قريبة إلى هدم ذلك الأساس، فالذين ينكرون اختلاط الطلاب بالطالبات هم الذين يناصرهم العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل فيه سقطاً، ولو قيل: وأن ذلك لا يستدعي... لاستقام الكلام.(م)(1/110)
فللمرأة أن تطلب من العلوم ما وَسِعَها أن تطلبه، ولكن على أساس الصيانة، فإن كان طلبها لبعض العلوم يُعَرِّض هذا الأساس للانتقاص فلتكتف بما وصلت إليه يدها من علم، وفي الرجال كفاية للقضاء، والمحاماة، وعضوية مجلس النواب، إلى ما يشابه هذا من الأعمال التي لو تولتها المرأة لانجرَّت بطبيعة العمل إلى عاقبة سيئة هي الاختلاط بالرجال.
قال الأستاذ المحاضر: =ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي+.
إذا كنَّا لا نستسلم لتقليد أوربا في كل شأن من شؤون الاجتماع، وترفَّعنا عن أن نجعل حال الأوربيين المثال الكامل للارتقاء القومي _ قلنا: إن أساس ارتقائنا القومي هو الاحتفاظ بآداب ديننا، وأن يكون في فتياتنا علم واسع، وعزم صارم، وإرادة ماضية، وصبر على تحمل المشاق، وأن يكون في فتياتنا حشمة، وصيانة، وعلم يساعدهن على تأدية واجباتهن في الحياة من نحو تدبير المنزل، والقيام على تربية الولد، وقد دل النبي " على هاتين المهمتين بقوله: =خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده+.
وأشار " إلى مهمة تدبير المنزل بقوله: =والمرأة راعية على بيت زوجها+.
فمن أطماعنا أن تكون المرأة على خلق عظيم من الحشمة، بعيدة من مواطن الفتنة والريبة، فرغبتنا في تكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا تدعونا وتلح في دعوتنا إلى أن نجعل بين الفتيات والفتيان فارقاً يقطع مثار الفتنة، وتسلم به النفوس من خواطر السوء التي قد تنقلب إلى عزم ثم إلى مقدرة.(1/111)
وإذا كان النظر إلى زينة المرأة، والتأمل في محاسن وجهها وسيلةَ تعلقِ القلب بها، وتعلقُ القلب مدرجة الفتنة _ فالاختلاط الذي يستدعي تكرار النظر، ويجر إلى الأخذ بأطراف الحديث يكون بلا ريب أمرا منكراً؛ إذ هو الوسيلة المباشرة لزلزلة نفوس الفتيان والفتيات بعد سكونها زلزلة قد تذهب بأعراضٍ كانت مصونة، وإذا دخل ابتذال العرض في الأسرة، فمن أين لنا أن نكونها على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي ؟.
وليس في حماية الفتاة من الاختلاط بغير محارمها، تضييق لدائرة الحياة في وجهها، وإنما هو احتفاظ بكرامتها، وتوفير لهنائها؛ إذ بصيانتها عن الاختلاط تعيش بقلب طاهر، ونفس مطمئنة، وبهذه الصيانة تزيد الصلة بينها وبين زوجها، وأولي الفضل من أقاربها متانة وصفاءاً.
وأنا لا أستبعد صحة ما أسمعه كثيراً من أن النزاع بين الرجال وزوجاتهم أصبح أكثر مما كان، وأن منشأ هذا الخصام تهافت النساء على التبرج الممقوت، وتساهلهن في الاجتماع بغير محارمهن.
والواقع أن أنصار اختلاط الجنسين لا يؤيدهم تطور اجتماع صحيح، ولا يناصرهم العدل بين الأخ وأخته في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، ولا تقف بجانبهم مصلحة الأمة في حال، وليس معهم إلا أنهم فعلوا ذلك، ففتحوا أبواب الجامعة للطالبات، وكان منكرو هذا الاختلاط على كثرتهم في تفرق، فلم يصدعوا بإنكارهم، واقتصروا على أن يرددوا هذا الإنكار في مجالسهم، وربما كتب أحدهم مقالة في صحيفة، أو قال كلمة في محاضرة.
ولو عقد دعاة الإصلاح مؤتمراً أخلاقياً، ونظروا في شأن اختلاط الجنسين نظراً خالياً من كل هوى، وبسطوا القول في وجوه مفاسده _ لكان لقرارهم شأن، وكان لرجال السياسة الرشيدة في أمر الفتيات رأي يجمع بين إعطائهن حظهن من التعليم، وصيانتهن من مواضع الفتنة والابتذال.(1/112)
أمهات المؤمنين(1) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار(2)
النساء في عصر النبوة:
النساء في فجر الإسلام وعصر النبوَّة كُنَّ كالرجال، يتدارسن القرآن، ويروين الأحاديث، ويحافظن على العبادات، ويصلين صفوفاً وراء الرجال، ويستمعن المواعظ والخطب في المساجد، ويسافرن لأداء فريضة الحج والعمرة، بل كنَّ يشهدنَ الحروب، ويضمدن الجروح، ويُهيئن الطعام، ويسقين الماء، ويغسلن الثياب، ويشتركن في الجهاد أحياناً كما حصل في واقعة اليرموك.
وقد كان تعلم العلم الديني بعقائده وعباداته إلزامياً، فعمَّ الرجال والنساء، والبنين والبنات، وإنك لتجد أسماء النساء مدونة في كتب طبقات المحدِّثين وغيرهم(3)
__________
(1) مجلة =الهداية الإسلامية+ الجزء العاشر من المجلد التاسع الصادر في ربيع الآخر 1356هـ، وانظر كتاب: محمد بهجة البيطار، إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص28_36.
(2) هو الشيخ العلامة محمد بهجة بن بهاء الدين بن عبدالغني بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار.
ولد في الثاني من شهر رمضان المبارك سنة 1311هـ (1894) في مدينة دمشق من عائلة كريمة يرجع أصلها إلى الجزائر =مدينة بليدة+.
عرف والده بالعلم وقرض الشعر، ووالدته ابنة الشيخ عبدالرزاق البيطار صاحب كتاب =حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر+ وهي ابنة عم والده.
تلقى علومه في المرحلة العلمية الأولى على والده. وفي المدرستين الابتدائيتين =الريحانية+ و =الكاملية+ بدمشق.
تابع علومه على أفاضل العلماء، والده وجده لأمه الشيخ عبدالرزاق البيطار، وعلى كبار أعلام العصر كالإمام محمد الخضر حسين، والشيخ جمال الدين القاسمي، والمحدث الأكبر محمد بدر الدين الحسني.
=
(3) وحصل منهم على الإجازات العلمية التي تشهد بتفوقه ومثابرته على طلب العلم.
قام بالخطابة في الجمع والأعياد والإمامة والتدريس في جامع الشربجي بحي الميدان سنة 1328هـ 1910م خلفاً لوالده.
كما تولى الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق سنة 1335هـ _ 1917م وحتى وفاته ولم ينقطع عنهما إلا لداعي السفر أو المرض.
وكانت دروسه في جامع الشربجي بعد صلاة الصبح. وفي الدقاق ثلاثة أيام في الأسبوع بين المغرب والعشاء.
عمل في سلك التعليم، وتلَّد في عددٍ من المناصب في سوريا والسعودية.
توفي يوم السبت في الثلاثين من جمادى الأولى سنة 1396هـ الموافق للتاسع والعشرين من أيار سنة 1976م.
له عددٌ من المؤلفات منها: كتاب =نقد عين الميزان+ ألفه أيام الطلب والتحصيل انتصاراً لأستاذه الشيخ جمال الدين القاسمي وأئمة الرواية في الأخذ عن كل ثقة ثبت صدوق. طبع بدمشق سنة 1331هـ، ورسالة =نظرة في النفحة الزكية+: هي دعوة إلى مذهب السلف الصالح ونبذ المعتقدات الزائفة والآراء الفاسدة. طبع بدمشق سنة 1922م، رسالة =النفخة على النفحة والمنحة+ طبعت باسم مستعار مع الرسالة السابقة في الرد على رسالة =النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية+، كتاب =حياة شيخ الإسلام ابن تيمية+ طبع بدمشق سنة 1961م، رسالة =الكوثري وتعليقاته+ بيان افتراءات زاهد الكوثري في تعليقاته على عقيدة أهل السنة. طبع بمصر سنة 1938م.وغيرها من الكتب، انظر ترجمته في كتاب =محمد بهجة البيطار+ إعداد علي الرضا حسيني.(1/113)
، وقد استغرقت المحدِّثات المجلد السادس من مسند الإمام أحمد ابن حنبل إلا قليلاً، ومسند السيدة عائشة _ أي الأحاديث التي سمعتها وروتها _ قد بلغ وحده أكثر من مائتين وخمسين صفحة =ص29_282+.
وقد تسلسل العلم ببعض البيوتات في السيدات، حتى صارت الواحدة تروي أحاديث النبي" عن أمها وجدتها.
ومن شواهد ذلك ما رواه الإمام أبو داود في سننه: قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثني عبدالحميد بن عبدالواحد، حدثتني أمُّ جَنوب بنت نميلة عن أمها سُويدة بنت جابر عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مضرّس قالت: أتيت النبي" فقال: =من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له+ أي من الأرض _ الحديث.
إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين:
لنقايس الآن من الوجهة العلمية بين فتاة في صدر الإسلام، وفتاة في عصر العلم والحضارة، لنعلم كنه الحياة في العصرين:
عائشة _ رضي الله عنها _ عاشت في صدر الإسلام، ودخلت المدرسة النبوية في التاسعة من عمرها، ولبثت تسع سنوات في مدرستها، وتوفي عنها معلمها الأمين " وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فما العلوم التي درستها، وما نوع شهادتها يا ترى؟
كانت تلك النابغة فقيهة جداً حتى قيل: إن ربع الأحكام منقول عنها، عالمة بكل العلوم.
قال أبو موسى الأشعري ÷: =ما أشكل علينا أصحاب رسول الله " حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً+.
وقال عروة: =ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب _ من عائشة+.
وقال مسروق: =رأيت مشيخة أصحاب رسول الله " الأكابر يسألونها عن الفرائض+.
وكانت فصيحةً جداً، قال معاوية: =والله ما رأيت خطيباً قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة+.
وعند الطبراني برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: =ما رأيت أحداً كان أنفح من عائشة+.
من أخذ عنها من الصحابة:(1/114)
روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة كعمر وابنه عبدالله، وأبي هريرة، وأبي موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، وربيعة بن عمرو بن السائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبدالله بن عامر بن الحارث بن نوفل.
تلاميذها من كبار التابعين:
من أجلاّئهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق، وعبدالله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وأبو وائل.
من روى عنها من آل بيتها:
أختها أم كلثوم، وعائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاع عوف ابن الحارث، وابنا أخيها محمد: القاسم وعبدالله، وبنتا أخيها الآخر عبدالرحمن: حفصة وأسماء، وابنا أختها أسماء: عبدالله وعروة، وحفيد عبدالله: عباد ابن حمزة، وآخرون كثيرون.
فهذه شذرة من شهادة كبار الصحب لعائشة بكونها صارت مرجعاً في كل علم، حلاّلة لكل مشكل.
إن عائشة _ رضي الله عنها _ كانت على حداثة سنها تجيب كبار الرجال عما يُشكل عليهم من أمر دينهم، ولكن فتياتنا في سنها لا يُجبن عن مشكلات الدين أحداً، بل هنَّ يسألن ويستشكلن مسائل كان يُرجى منهن أنفسهن الجواب عليها، مثل كون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، ومثل تعدد الزوجات =أو عدم المساواة كما يُقال+، وعن الحكمة في كون أزواج النبي أكثر من أربع، وأمثال هذه المسائل.
حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة:
لو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي " أمهات المؤمنين، لعلمنا أنَّ التعددَ، أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته " إلى المدينة في السنوات العشر الأخيرة من عمره ".(1/115)
أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً، لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده _عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية_ قد تزوج بها(1) وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه 25 عاماً، ثم توفيت وهي عجوز في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب، وسنَّ الحاجة إلى النساء مع خديجة، المرأة الثيب التي تزيد عنه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها، ولا أحب بعدها أحداً أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: =هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها _تعني نفسها_+ وكانت تُدِلّ بحداثة سنها وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول، وصديقه الأكبر أبي بكر ÷ _ قالت: فغضب، وقال: =والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء+.
من هذا الشاهد تعلم أن عفَّتَه " لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، أو لو شاء لتزوج على خديجة كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حدٌ معين، ولكنه عف ضميره، ولم يمد عينه إلى زهرة الحياة، وزينتها.
أما باقي أزواجه " فخمس من قريش، وهنَّ عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وليس فيهن كلِّهن بِكْرٌ إلا عائشة.
__________
(1) الضمير يعود إلى أم المؤمنين خديجة _رضي الله عنها_ (م)(1/116)
والحكمة في تزوجه " بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم والحكمة، والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم، وإليك البيان:
1_ جعل الله _ تعالى _ من بيوت نساء النبي " مدارس داخلية يتعلمن فيها الدين، عقائده وعباداته، ومعاملاته وأخلاقه، لاسيما ما يختص منه بالنساء، قال _ تعالى _:[وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية] (الأحزاب: 33).
فالقرار في البيوت من أجل أن يتعلمن ما يحتجن إليه، وما يعظن به النساء والرجال، ولهذا قال _تعالى_: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...الآية](الأحزاب:34).
وآيات الله: براهينه وكتابه، والحكمة: سنة نبيه " المبينة ما نزل إليه من ربه.
وإنما نهى عن التبرج الجاهلي؛ لأن المتبرجات المتهتكات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يأتي منهن معلمات ولا مربيات.
ونساء النبي " إنما وجدن عند النبي لتعليم الأمة وتربيتها، وإرشادها وإسعادها.
2_ لما طلبن منه التوسع في الطيبات، وملابس الزينة، والترف في المعيشة نزلت في حقهن آيتا التخيير، وهما قوله _تعالى_:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً](الأحزاب: 28_29).(1/117)
لما نزلت هاتان الآيتان بدأ " بعائشة _ وكانت أحبهن إليه، كما كان أبوها أعز الرجال عليه _ فقال: =يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك+ قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيرهن كلهن فاخترن ما هو خير لهن، اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
3_ أراد نساء النبي " أن يقمن حيث أقامهن الله ورسوله صالحات مربيات ومعلمات، مرشدات ومفتيات، فاخترن الدار الآخرة ونعيمها الدائم، ورضوان الله الأكبر، على حظوظهن من هذه الحياة الدنيا وزينتها، ومُتعها ومفاتنها، فأثابهن الله كرامة لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين بأن قصر نبيه " عليهن، دون أن يتزوج أو يطلق، أو يستبدل بهن غيرهن، فقال _ عز شأنه _:[ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ](الأحزاب:52).
والحكمة في تحريم تطليقهن هي استدامة سماعهن ما يُتلى في بيوت النبي " من آيات الله والحكمة، وذِكر ذلك، ونشره بين الناس، لاسيما نساء الصحابة _رضي الله عنهم_.
وأيّة فائدة تُرجى لهن أو لغيرهن من طلاقهن وهن أمهات المؤمنين؟ أي تحريماً وتعظيماً على الرجال كالأمهات.
فأنت ترى أنَّ النبي " قد قُصِر على أزواجه الطاهرات، وحُرِّم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل، بخلاف رجال أمته الذين أبيح لهم التعدد بشروطه، وكذا التطليق، وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذاً فقد قصر النبي " على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمة في دائرة أوسع منها.
أهذا الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟(1/118)
نساء كلهن ثيبات _ عدا السيدة عائشة _ ومنهن من لها أولاد،تزوجهنَّ _صلوات الله عليه_ في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان تزوجه بآخرهن ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن؛ لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين، فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أوليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلماتٍ، ومعلماتٍ، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى.
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
25_ لبيك اللهم لبيك: للشيخ محب الدين الخطيب
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين
الناس والعادات(1) للشيخ علي محفوظ
من العادات الممقوتة: تساهل المسلمين في دخول بعضهم على بعض، واختلاط الرجال بالنساء مع عدم الحجاب.
وهي بدع محرمة بالكتاب والسنة، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)]النور.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثاني، المجلد الثاني، ص76 _ 81، 1348هـ.(1/119)
فرعايةً لحرمة النساء، وصوناً للأعراض، ومحافظةً على حقِّ المسلم في التمتع بما أباح الله له من الحرية في بيته حرم الله _ عز وجل _ على كل مؤمن أن يدخل بيتاً غير بيته قبل أن يستأذن أهله ويسلم عليهم، فإن أذنوا في الدخول دخل وإلا رجع.
وذلك أن كل إنسان في مسكنه له حالات خاصة قد لا يحب أن يطلع عليها أحد من الناس، ولو كان ألصق الناس به وأقربهم إليه.
فلو أبيح للطارق أن يقتحم البيت على أهله من غير استئذان لفاجأهم بما يكرهون، ودهمهم بما يؤلمهم.
وقد يطلع على ربة البيت وهي مكشوفة الرأس عارية بعض البدن، وفي ذلك _ زيادة على الفتنة له والإيذاء لصاحبه _ ما لا يخفى من العواقب السيئة والنتائج المحزنة، ولهذه الحكمة الجليلة بعينها حرمت الشريعة الغرَّاء على الإنسان أن ينظر في بيت غيره قبل الاستئذان، حتى قال الإمام الشافعي ×: لو فقئت عينه في هذه الحالة فهي هدر؛ تمسكاً بحديث سهل بن سعد ÷قال: اطلع رجل من جحر _ ثقب مستدير _ في حجرة النبي "ومع النبي "مِدْرًى يحك بها رأسه _ بكسر الميم وسكون الدال وتنوين الراء حديدة يسرح بها الشعر، وقال الجوهري: شيء كالمسلة يكون مع الماشطة تصلح بها قرون النساء _ قال ": =لو أعلم أنك تنظر لطعنت به _ أي المدرى وهو يذكر ويؤنث _ في عينيك إنما جعل الاستئذان _ أي شُرِع _ من أجل البصر _ لئلا يقع على أهل البيت ويطلع على أحوالهم _+ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
فتحصَّل من هذا أن السِّرَّ في إيجاب الاستئذان هو صيانة الأعراض، والمحافظة على القلوب وقد وردت السنة بلزوم تكراره ثلاث مرات؛ حتى يتمكن أهل البيت من إصلاح شؤونهم، وستر أمورهم.
ففي الحديث الشريف عن النبي ": =الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون+.
وقال ": =إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع+.(1/120)
ولا تظن أن الاستئذان خاص بالأجانب دون الأقارب؛ فإن الخطاب في الآية عام لجميع المؤمنين فيستوي فيه القريب والأجنبي ويلزم به الأب، والابن، والعم، والخال، جاء رجل إلى النبي "فقال: =أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال الرجل: إنها لا تجد من يخدمها غيري أفأستأذن عليها؟ فقال ": أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن+ وفي ذلك غاية الأدب والكمال.
وكذلك ألزم الله المملوك أن يستأذن على سيِّده، والصبي الحر على مخدومه في أوقات ثلاث هي مظنة لكشف العورات قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ]النور: 58.
وأباح الدخول بدونه فيما عداها للخادم مملوكاً أو صبيّاً، فإذا جاوز الطفل حدَّ الطفولة، وبلغ مبلغ الرجال لزمه الاستئذان على مخدومه في عموم الأوقات كسائر الأجانب قال _ تعالى _: [وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] النور: 59.
بهذه الآداب العالية أدَّب الله المؤمنين؛ لتظلَّ قلوبهم نقيَّة من دنس الشهوات، سليمة من الضغائن والأحقاد.
وهذا هو السر في أن الشارع الحكيم أمر الرجال والنساء جميعاً بغض البصر، والبعد عن مواطن الشكوك والريب؛ حيث كان النظر بريد الزنا، ورائد الفتنة، ورسول الفساد والفجور.(1/121)
وحرم على النساء المسلمات أن يظهرن زينتهن، أو يطلعن الرجال الأجانب على شيء من عوراتهن ومحاسنهن؛ لما في ذلك من الفتنة، وانتشار الفاحشة بين المسلمين، ووقوعهم في مقت الله وغضبه قال _ تعالى _: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] النور: 30_ 31.
فأنت ترى في هذه الآية الحكيمة أن الله _ تعالى _ قد حرَّم على الرجال النظر إلى النساء الأجنبيات، وحرَّم على النساء كشف العورات وإظهار الزينات؛ درءاً للمفاسد والفتن، وقطعاً لأطماع النفس الأمارة بالسوء، وحرصاً على سلامة القلوب من الأذى؛ ليدوم الوفاق ويبقى التضامن.
وبهذا يظهر لك السر في أن الدين الإسلامي قد حرَّم على الرجل مسَّ الأجنبية كما حرَّم عليه مخالطتها والخلوة بها؛ لأن الفتنة في هذا أشد، والمفسدة به أعظم، والشر فيه أقرب، روى الطبراني بسند صحيح أن رسول الله _ صلوات الله وسلامه عليه _ قال: =لأنْ يُطْعَن في رأس أحدكم بمخيط خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحل له+.
وروى _ أيضاً _ أن رسول الله _ صلوات الله وسلامه عليه _ قال: =إياكم والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما، ولأنْ يزحم رجلاً خنزير متلطخ بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكب امرأة لا تحلُّ له+.
وهو صريح في منع الاحتكاك بالمرأة الأجنبية.(1/122)
فتبين لك من مجموع هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الدين القويم قد جعل بين المسلم وبين الفسوق سدّاً منيعاً من الآداب، وحصناً حصيناً من الأوامر والنواهي؛ فهل تأدب المسلمون في هذا العصر المفتون بما أدبهم الله به؟ وهل ابتعدوا عما نهاهم الله عنه؟ وهل تحرزوا مما حذرهم رسول الله "منه؟ وهل عنوا بتعليم نسائهم وبناتهم ما يخصهم من آداب الشرع وأحكام الدين؟ وهل باعدوا بينهم وبين الفجَّار والمفسدين؟.
كل ذلك لم يكن؛ ولذا ترى الشر ينمو والفساد ينتشر، والاختلاط بين الرجال والنساء يزداد يوماً عن يوم، والجهل بدين الله يضرب أطنابه في الأسر الإسلامية حتى أصبحنا ونحن في تدهور أخلاقي، وانحلال اجتماعي ينذرنا بأسوأ العواقب، وأفدح الخطوب.
انظر إلى بيوت الأغنياء تجدها قد زالت من أكثرها الصبغة الإسلامية، وحلَّت محلَّها العادات الفرنجية التي لا تتفق مع أحكام الدين ومحاسن آدابه في شيء، ولا تلتئم مع العفاف والصيانة بحال من الأحوال.
ترى ربة القصر هناك تخالط خدمَها وحشَمَها وتظهر أمامهم بما أمرها الدين بستره عن الرجال من حليها وزينتها، والسيد الكريم يرى ذلك ولا ينكره ولا يغار له؛ كأن الخادم في نظره جماد لا يهز قلبه سحر الجمال، أو معصوم عن الخنا لا يفتنه النظر إلى ربات الحجال.
ترى سائقي العربات والسيارات وهم يذهبون بالعقائل والمخدرات للرياضة في مختلف الأماكن البعيدة وليس هذا إلا خلوة بالأجنبيات، يعدها الشرع الشريف من كبائر المنكرات.
ثم انظر إلى بيوت المتوسطين والفقراء تجد المرأة تخالط أقارب زوجها، وأولاد أعمامها، وأخوالها، وأولاد جيرانها، وقد تظهر أمامهم في ثيابها الرقيقة أو القصيرة حاسرة عن رأسها كاشفة عن ذراعيها وصدرها كأنها ليست من جماعة المسلمين.
وربما ظهرت بهذا المنظر الفاضح للسَّقَّاء، واللَّبَّان، والطَّحَّان، والفرَّان، ولباعة الفواكه والخضروات المتجوِّلين في الأزقة والحارات.(1/123)
وكان حقًّا عليها _ لو أنها حافظت على آداب دينها _ أن تحتجب عن هؤلاء وأمثالهم؛ اتقاءً للفتنة، وتباعداً عن الفساد والشر؛ فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، وقبيح أن تكون نساء المسلمين على هذا الحال بعد أن أوجب الله عليهن في كتابه الكريم أن يسترن زينتهن عن أنظار الرجال جميعاً ما عدا أزواجهن، والمحارم من أقاربهن، ومن يأمَنَّ فِتْنَتَه من أتباعهن ومماليكهن، قال _تعالى_: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ] (النور: 31)
وأقبح من ذلك أن يجترئ الرجال على انتهاك حرمات الله _ تعالى _ بالدخول على النساء بعد أن ألزمهم الله _ عز وجل _ برعاية الحجاب الذي هو الضمان الوحيد للعفاف والطهارة خصوصاً في هذا الزمان الذي كثر فيه الفسوق والعصيان.
قال _ تعالى _: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ].
وقال _ صلوات الله وسلامه عليه _: =إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ فقال ": الحمو الموت+ متفق عليه.(1/124)
استفهم الأنصاري عن الحمو _ وهو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن عمه_ أيمنع من الدخول على النساء كما يمنع غيره من الأجانب والغرباء؟ فأجابه النبي _ عليه الصلاة والسلام _ بأن دخول الحمو على الزوجة أشد بلاءاً وأعظم فتنة من دخول غيره؛ لأنه قد يستخدم صلته بالزوج في تنفيذ مقاصده السيئة، ومآربه الخبيثة، وإن مثله في فك روابط الزوجية وإفساد نظام الحياة المنزلية كمثل الموت في إبطال حركة الأجسام، وتفريق أجزاء الأبدان.
ولقد صدق رسول الله "فكم شاهدنا من بيوت قد خربت بعد عمرانها، وأُسَرٍ قد اختلت بعد تماسك وَحْدَتِها وحسن نظامها، وكم رأينا من محبة وصفاء قد تحولا إلى عداوة وجفاء، ولم يكن لذلك من سبب إلا اختلاط الأجانب وأقارب الأزواج بالزوجات؛ فهل آن للمسلمين أن يستبدلوا الشك باليقين، ويتبصروا في عاقبة التساهل، ويأخذوا بآداب الدين ويتخلقوا بأخلاقه؟
هل آن لهم أن يفيقوا من سكرتهم، ويتنبهوا من غفلتهم؛ فيعلموا أن فلاحهم موقوف على الرجوع إلى أحكام دينهم، وعلى العمل بسنة نبيهم؟ هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل.
فلسفة الصيام(1) لمصطفى صادق الرافعي(2)
__________
(1) وحي القلم 2/66_72.
(2) هو الأديب الكبير مصطفى صادق بن عبد الرزاق الرافعي ولد سنة 1298هـ ببلدة بهتيم بمحافظة القليوبية بمصر، وقضى شطراً من صباه فيها والتحق بمدرستها الابتدائية .
ثم انتقل أبوه إلى المنصورية فانتقل معه والتحق بالابتدائية هناك، وتخرج فيها سنة 1315هـ، ثم أصيب بالمرض الذي أضعف صوته، وأفضى بسمعه إلى الصم؛ فانقطع عن الدراسة، وأقبل على مكتبة أبيه الزاخرة بصنوف الكتب ،وكان أبوه من علماء الأزهر لذا كان مجلسه عامراً بالعلماء والأدباء، ومكتبته زاخرة بنفائس الكتب .
ومن هذه المصادر الثلاثة _ والده ,مكتبة والده ,مرتادو مجلس والده _ استقى الرافعي علمه وتحصيله، ثم نقل والده الشيخ عبد الرزاق إلى طنطا قاضياً بمحكمتها, فانتقل معه ابنه مصطفى , وعُيِّن كاتباً في المحكمة، وكان مثال النشاط والإخلاص في عمله الذي لم يصرفه عن الإقبال على القراءة والكتابة .
انتخب الرافعي للمجمع العلمي بدمشق، وكان منزله ومكتبه ومقهى لمنوس أماكن يرتادها تلامذة الرافعي ومحبوه، يتلقى أسئلتهم، ويجيب عليها بصدر رحب .
ويعد الرافعي في زمانه حامل أدب الأصالة، ورافع راية البلاغة؛ فهو الرجل الذي وقف قلمه وبيانه في سبيل الدفاع عن القرآن ولغة القرآن .
وقد بدأ حياته شاعراً, إلا أنه أقبل على الكتابة في أواخر عمره، وكانت صلته بالصحف مبكرة؛ حيث أقبل عليها يودعها مقالاته وبحوثه التي كان يطرق بها كل ميدان؛ فكان يعالج قضايا المجتمع كالفقر, والجهل, و السفور, والرد على مطاعن أعداء الإسلام.
له مؤلفات عديدة، ومنها: تاريخ آداب العرب، وحديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وتحت راية القرآن.
وخير كتبه كتاب وحي القلم، ويقع في ثلاث مجلدات، وكان حصيلة ما كتب في مجلة الرسالة، وله مؤلفات عديدة غيرها، وقد ضاع كثير مما كتب بسبب رداءة خطه، توفي× عام 1356هـ.(1/125)
لم أقرأ لأحدٍ قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره _ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبَّةً تؤخذ في كل سنة مرةً؛ لتقوية المعدة، وتصفية الدم، وحياطة أنسجة الجسم.
ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملةً على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلها، ولكيلا تجهل الدنيا معانيَ الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليِّها لوقتها حين يضجُّ الزمانُ العلميُّ في متاهته وحيرته، فيشغَب على التاريخ وأهله مُسْتَخِفَّاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة؛ ليستخلصَ من بين كفرٍ وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أوَّل ما يتناول، فيضبِطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية؛ ليحقِّق في إنسانيته العالَم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهب الاجتماعية، ولم يهتد إليها مذهبٌ منها ولا قاربها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين يدي علمائها: لم يحققوها، ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها: تبدأ من حيث تبدأ، ثم تنتهي لا تنتهي إلاَّ إلى حيث تبدأ....(1/126)
يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجزَ مَنْ يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهبَ كتب ورسائل، ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً علمياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقرٌ إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً؛ ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً، كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي تفرضه على من استطاع.
فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورةٍ مدَّ البطن مدَّه من قوي الهضم فلم يُبْقِ، ولم يَذَرْ.
ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد، وحسٌّ واحد، وطبيعة واحدة، ويُحْكِمُ الأمر؛ فيحول بين البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصيبة في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة.(1/127)
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته.
ومن هذين: الاطمئنانِ والمساواةِ يكون هدوءُ الحياة بهذه النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني.
وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقيَ هذا المذهب كلُه عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم؛ إذ يبالغ أشدَّ المبالغة، ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء، وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحَكَمَ الوازع النفسي على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: =أعطني+، ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفرَّ من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى مَنْ كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية؛ التي تقضي أن يُحذَف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة؛ ليحلَّ في محله تاريخ النفس؟(1/128)
وأنا مستيقنٌ أن هناك نسبةً رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس، كأنه الشهر الصحيُّ الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم.
ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني، وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق، إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر، كأنها (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجَزْرُ) في النصف الثاني؛ حتى كأن للدم إضاءةً وظلاماً.
وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدِّ الدم وجزره(1) فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو _ مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها _ إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة، والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة، وتقويتها بهذا الأسلوب العلمي، الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذةِ حيوانيته، مُصِرّاً على الامتناع، متهيئاً له بعزيمة، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحوَّل، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
__________
(1) قال الجاحظ في الحيوان: =ولزيادة القمر حتى يصير بدراً، أثر بين زيادة الدماء والأدمغة وجميع الرطوبات+.(1/129)
وإدراك هذه القوة من الإرادة العلمية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارَّةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض؛ لتستقر، وتتحقق؛ فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرضت فرضاً لتربية إرادة الشعب، ومزاولته فكرة نفسيةً واحدةً بخصائصها وملابساتها حتى تستقر، وترسخ، وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمرُّ برأسه مراً.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العلمية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذْعنةً لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرَّفَةً بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟
أما والله لو عمَّ هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآلَ معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة؛ لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية؛ ليتدارسها أهل الأرض دراسة علميةً مدةَ هذا الشهر بطوله؛ فيهبط كل رجل، وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها؛ ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه _ لا في الكتب _ معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء، والحرية، والمساواة.
شهرٌ هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أَنفسكم لا منْ أيامي، ومنْ طبيعتكم لا منْ طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغةِ السمو، يَتَعهَّد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما أُلزمت معاني التقوى كما ألزمها هو.(1/130)
وما أجمل وأبدع أن تظهرَ الحياة في العالم كله _ ولو يوماً واحداً _ حاملة في يدها السُّبحة! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي، ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها _ إلى قانون من باطنها نفسه يُطهِّر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصْرِفُها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافيةً مشرقةً بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفِكَرِ الأخرى.
والنفس في هذا الشهر مُحْتََسَبَة في فكرة الخير وحدها؛ فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها، ولهو _ والله _ أَشْبَه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائلَ لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أنْ يُكْسِبَهَا الصلابة والانكماش والخفَّة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدَّخر فيه الجسم من قواه المعنوية؛ فيودعها مصرف روحانيته؛ ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة.
عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8,5 في المائة، فكأنه يسجل في أعصاب حساب قوته وربحه، فله في كل سنة زيادة 8,5 من قوته المعنوية الروحانية.(1/131)
وسِحْرُ العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوة، وتوفِّرها؛ لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سرُّ أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد، والأسلحة، والذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]البقرة: 183.
وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى)، أما أنا فأوَّلتُها من (الاتِّقاء)؛ فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألاَّ يُعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسانٍ كحمارٍ مع إنسان: يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه؛ فإنَّ ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي(1).
__________
(1) يفسر القرآن بعضه بعضاً، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه، أنه يؤيده بالآية الكريمة في سورة (يس): [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] يّس: 45، ويشير إلى هذا التأويل قول النبي ": =إنما الصوم جُنَة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم+.
الجنة الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام؛ ليتقي شرَّ حيوانيته وحواسه، فقوله: =إني صائم، إني صائم+، أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر، إني في نفسي، ولست في حيوانيتي.(1/132)
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر؛ لجلب منفعة، واتقاء رذيلة؛ لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهةً فلسفيةً عاليةً، لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجزَ ولا أكملَ من لفظها، ويتوجَّه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه =قانون البطن+...
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان ! لو عرفك العالم حق معرفتك لسَمَّاكَ: =مدرسة الثلاثين يوماً+.
لبيك اللهم، لبيك!(1) للعلامة محب الدين الخطيب
صوت القدس يصدر اليوم من أفئدة مائة وخمسين ألف مؤمن جمعتهم ساحة عرفات، فدوَّت به أرجاؤها، ورددت صداه جبالها، وحملته الآفاق إلى ثلاثمائة مليون مسلم انتشروا في أنحاء العالم الإسلامي؛ فاشتركوا مع إخوانهم في إرسال هذا الصوت من الأرض إلى السماء؛ إشعاراً بالعروة الوثقى التي عقدها بينهم دين التوحيد، وشكراً لله على ما أنعم به عليهم من نعمة الهدى والرشاد.
إن قلوب المسلمين تتجه اليوم بما فيها من نور وإيمان إلى موقف تجرد الناس فيه لربهم، وتساووا فيه جميعاً، فلا يتميزون بثيابهم، ولا تفرق بينهم مظاهر الدنيا.
وإذا علا بعضهم على بعض بشيء فبمبلغ الإخلاص الذي تصدر به كلمة =لبيك اللهم لبيك+ من صميم الفؤاد.
لقد دعانا الله لأن نكون أمة صدق، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أكثرَنا إخلاصاً حين يجيب نداء ربه قائلاً: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نكون أمة سعي، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أقوانا عزيمة حين يجيب نداء ربه قائلاً: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نكون أمة عزيزة بين الأمم، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أكثرنا عملاً لإعزاز هذه الأمة حين يجيب نداء ربه قائلاً:=لبيك اللهم لبيك+.
__________
(1) الحديقة 7/ 106_ 110، عام 1349هـ(1/133)
ولقد دعانا الله لأن نكون من أهل الفلاح، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من يذكر أن من واجبه العملَ لفلاح أمته كلما سمع المؤذن يقول: =حي على الفلاح+ وكلما تصور هذه المعاني فقال: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نعد ما استطعنا من قوة، وإن أصدقنا إسلاماً من يحاسب نفسه على ما عمل من هذه الناحية، فيذكر ذلك مغتبطاً إذا أجاب نداء ربه فقال: =لبيك اللهم لبيك+.
أيها المسلمون، إن الأمر قد حزبكم في أضيق وقت، وإن الأخطار قد حفت بكم من كل جانب، وإن دينكم بريء من كل ما حاق بكم من ذل، وبكل ما نزل بكم من خطب، وبكل ما ابتليتم به من فقر وفاقة وعجز؛ لأن الله قد أرشدكم بهذا الدين إلى أن تكونوا أعز الأمم، وهداكم به إلى ابتغاء الجلادة(1) والسعادة من أقرب الطرق وأشرفها.
فإن كنتم قد فاتكم قبل اليوم أن تعملوا بهدايته، فأدبكم بالمصائب فقولوا مع شاعركم:
جزى الله المصائب كل خير ... . . . . . . . . . . . . .
وارجعوا إلى ربكم رب الهدى والرشاد، ارجعوا إلى دينكم دين العز والقوة والسداد، انسوا السفاسف التي ألفتموها، وترفعوا عن المنافع الخسيسة التي صرتم لا تقيسون الأمور إلا بمقياسها، وذوبوا في الحق، واكتبوا سجلَّ اليوم الوقفية التي تجعلون بها أشخاصكم وقفاً على عز الإسلام ونهوضاً بالمسلمين؛ فإنكم إن تفعلوا يكتب الله لكم ذلك عنده وعند خلقه في الدرجات العلى، وتكونوا عنده وعندهم أسمى وأكبر مما لو عملتم للمنافع الخسيسة والسفاسف الصغيرة.
وإذن فلن يحول الحول، فيأتي مثل هذا اليوم المبارك من العام القادم حتى تكونوا سائرين في طريق السعادة والسيادة، وتكونوا من أهل الصدق والإخلاص تنادون ربكم: =لبيك اللهم لبيك!+.
هيا تعالوا نتعاهد على هذا، ونجعل الله عليه خير الشاهدين.
روح المجالس (2) للأستاذ أحمد أمين
__________
(1) لعلها: المجادة. (م)
(2) فيض الخاطر، 8/ 189 _ 192.(1/134)
لعل للمجالس روحاً كالتي للأفراد، فقد تكون روح المجلس مرحة فكهة، وقد تكون مُتَزَمِّتَةً جامدة، ثم قد تكون أحياناً خفيفة رقيقة، وأحياناً ثقيلةً غليظة، ثم قد تكون أحياناً ضاحكة مستبشرة، وأحياناً عابسة مكتئبة.
وروح المجالس كروح الأفراد، صعبة التعريف، غامضة التعليل، فمن أين تتكون؟ هل تتكون من روح الأفراد الذين يضمهم المجلس؛ فتكون روح المجلس حصيلة روح الأفراد؟
الظاهر أن ليس الأمر كذلك؛ لأنا نرى أن روح المجلس تتأثر أكثر ما تكون بفرد أو فردين؛ لامتيازهما بشخصية قوية أكثر مما تتأثر ببقية الحاضرين؛ فإنا نرى المجلس يحضره نابغة في الفكاهة؛ فتكون روح المجلس فكهة ضاحكة، حتى ليضحك الحاضرون من أتفه شيء وأخف نكتة، ويضفي هذا النابغة على المجلس من روحه حتى تتلاشى كل روح ما عداه.
وقد يكون في المجلس نابغة في العقل أو في التفكير؛ فيصطبغ المجلس كله بروح العقل والتفكير مهما كان فيه من أشخاص قليلي العقل قليلي التفكير.
فليست روح المجلس حصيلة روح الحاضرين إلا إذا قلنا إنها تتكون من الحاضرين، ولكن لا بمقدار واحد، بل بمقدار ما لهم من شخصية قوية أو ضعيفة.
وتختلف روح المجلس كذلك باختلاف طبائع الحاضرين؛ فالمجلس إذا تكون من نساء فقط كان له روح خاصة غير روح المجلس إذا تكون من رجال فقط، وهما غير روح المجلس يتكون من رجال ونساء، وروح مجلس الصبيان غير روح مجلس الشبان غير مجلس الشيوخ، فكل مجلس يستمد روحه من طبيعة نوع أفراده.
وشيء آخر: وهو أن روح المجلس ليست تعتمد على روح أعضائه فقط، بل على مزاجهم _أيضاً_ لذلك نرى أن المجلس قد يضم أفراداً معينين فيكون فكهاً مرحاً مرة، وعابساً مكتئباً مرة أخرى، والحاضرون هم هم، لم يزد عليهم، ولم ينقص منهم، ولكن اختلف مزاجهم، فكان مرَّة مزاجاً فكهاً، ومرَّة مزاجاً عابساً، فاختلفت روح المجلس باختلاف أمزجتهم.(1/135)
ومن العوامل _أيضاً_ في تكوين روح المجلس موضوع الحديث، فقد يثقل الحديث وقد يَخِفّ؛ فتكون روح المجلس ثقيلةً أو خفيفة.
وقد يكون موضوع الحديث خفيفاً لطيفاً؛ فتخف روح المجلس وتلطف.
وأكبر دليل على ذلك أن المجلس قد يتغير حاله، وتختلف روحه مع بقاء الجالسين كما هم لم يزيدوا ولم ينقصوا؛ لتنقلهم في موضوعات مختلفة؛ فقد يثيرون موضوعاً فكهاً يستخرج الضحك من أعماق صدورهم؛ فتستولي على المجلس روحٌ فَكِهَةٌ ضاحكة، ثم ينتقلون إلى حديث ديني وقور فيتوقر المجلس، ويتوقر الروح، وقد ينتقلون بعد ذلك إلى حديث آسف حزين؛ فتحزن نفوسهم، وتتغير روح المجلس إلى روح حزينة، وهكذا...
بل إن مكان المجلس، وزمانه عاملان كبيران في روحه، فإذا كان المجلس في بستان على نهر، والشمس ساطعة، والجو جميل، والمناظر فاتنة _ اكتست روح المجلس من هذا المنظر واصطبغت بصبغته.
وعلى العكس من ذلك إذا كان المجلس في حجرةٍ ثقيلةٍ في أثاثها، وَخِمَةٍ في هوائها فإن هذا المكان يشع ثقلاً على الروح، وانقباضاً في الصدر، وكذلك شأن الزمان؛ فالسمر لا يحسن إلا ليلاً، فإن أنت عقدت مجلس سمر قبيل الظهر أو بعد الغداء كان المجلس أثقل ما يكون.
كذلك يتحكم في روح المجلس عدد الحاضرين، فالمجلس من اثنين له روح غير روح المجلس من ثلاثة، وللأربعة روح غير روح الخمسة، فإذا زاد العدد زيادة مفرطة ضاعت الروح ولم يعد مجلساً، بل كان جماعة.
بل إن المناظر الطبيعية الجميلة تختلف روح مجالسها، فجلسة القمر تحتاج إلى هدوء وتفكير في الفلسفة، ومنظر البحر الهائج يعدي النفوس؛ فتحتاج إلى مجلس هائج ونفوس متحركة، وكذلك قل في منظر الزرع والشجر، أو قمم الجبال، أو طلوع الشمس، أو غروبها في البحر؛ فكلّ من هذا لا يناسبه إلا منادمة خاصة، وحديث خاص، وإلا فسد الطعم وساء الذوق.(1/136)
وكما تموت روح الفرد قد تموت روح المجلس، فقد ترى جماعة اتخذوا شكل مجلس، ولكنه مجلس بلا روح، كمجلس لا تعارف بين أصحابه، أو هم متعارفون ولكنهم متناكرون، أو هم متعارفون متحابون ولكن انقبضت صدورهم لسبب ما؛ فنفروا من الحديث ولجأوا إلى الصمت، فإن شئتَ فقل في هذا المجلس إنه مجلس بارد، وإن شئتَ فقل إنه مجلس ميت.
كل هذا أدركه من قبلنا، ولكن لم يعبروا عنه تعبيراً، فقد أدركوا المعنى الجزئي ولم يدركوا ما نسميه اليوم روح المجلس، والأدب العربي مملوء بهذه النظرات.
ومع ذلك كله فلا تزال روح المجالس يكتنفها الغموض، شأنها شأن روح الأفراد، فقد تتفتح روح الفرد، وتنتعش، وتغمر بالسرور من غير سبب واضح، وقد تنكمش، وتنقبض، ويعلوها الحزن والضيق من غير سبب واضح _ أيضاً _.
كذلك الشأن في روح المجلس، قد يجتمع إخوان على أصفى ما يكونون روحاً وتجانساً وألفة، وتتهيأ جميع ظروف الزمان والمكان ويتنبؤون جميعاً بمجلس سار ممتع، وإذا روح المجلس تنقلب ثقيلة بغيضة كريهة كأسوأ ما يكون.
وقد يخلو المجلس من شروط صفائه ومجلبة سروره، ثم يكون مجلساً ساراً ممتعاً، كل ذلك لأسباب قد تعرف وكثيراً ما تجهل.
سابعاً: مقالات في السياسة والاجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب
الدهاء في السياسة(1) للعلاَّمة محمد الخضر حسين
__________
(1) محاضرة في نادي الجمعية الإسلامية، ونشرت في مجلة الهداية الإسلامية الجزء السادس من المجلد الخامس، ص94_100 وهي _كذلك_ في كتاب محاضرات إسلامية للشيخ محمد الخضر×ص94.(1/137)
بدا لي أن تُلْقَى في هذا الاحتفال كلمة ولو على وجه الذكرى، وكان على المكتب أمامي أوراق مبعثرة، فمددت إليها يدي لعلي أجد ما لا يكون في إلقائه على مسامعكم الزكية من بأس، فوقعت يدي على كلمة كنت جمعتها في حال اقتضى جمعها، ورأيتها الآن غير نابية عن هذا المقام، فتفضلوا بسماعها:
الدهاء: جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظاماً، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف، فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء؛ فتكون الحرب بينهما سجالاً، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزبية(1) العميقة، ومن لم يكن داهية لا يمشي إلى الغرض إلاَّ على خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود وقف في حيرة أو رجع على عَقِبه يائساً، والداهية يسير في خطٍّ منحنٍ أو منكسرٍ ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة.
يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية.
والإفراط فيه الذي يعد عيباً في صاحب السياسة إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها أو يستوفي النظر إلى آثارها.
فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثيرٌ من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل ونكد الحياة.
وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان _ مع سلامة ضميره وصفاء سريرته _ نافذَ البصيرة في السياسة، بعيدَ النظر في عواقبها.
قال المغيرة بن شعبة: كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأَعْقَلَ من أن يُخدَع.
__________
(1) الزبية: نوع من الحِبالة التي تنصب لصيد الحيوانات.(1/138)
السياسة فنون شتى، والبراعة في كل فن تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدَّرَبَةِ في مسالكه، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرتُه في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلابُدَّ للدهاء في فن سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوَّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد ويطيرَ في خيشومه
... رهجُ الخميس فلن يقود خميسا
أو بتلقيها على طريق النقل، كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة.
ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتمُ تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودَّة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنَّ أحكم بيت قالته العرب:
ولَرُبَّما ابتَسَم الكريمُ من الأذى
... وفُؤَادُه مِنْ حَرِّه يَتَأَوَّهُ
فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تُسقى منه الأمةُ حريةَ الفكر، والسلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة.
تسمح الحكومات الحرة للكتاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم ويجهروا بآرائهم، وتسيرُ معهم على مبدأ أنَّ الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم.
فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلاَّ إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.(1/139)
تعد الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاثمائة سنة؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: =والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي+.
يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيباً كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبةً تجرهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: =أيما رجل عتب علينا في خلق فليؤذِنِّي+أي فليعلمني.
وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جارَوه في كلام: =هلاَّ سألتموني لماذا ؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة+.
يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنتها؛ لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكاراً مستقلة وعقولاً راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائباً.
يدور على الألسنة قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: =إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلْك+.
يلهج بهذه المقالة بعض الأعجمين رامزين إلى أن العرب لا يليق بهم أن يعيشوا كما يعيش الرجل الرشيد يتصرف في بيته، ويدير مصلحته بنفسه، وتبسط طائفة أخرى النكير على هذا الفيلسوف قائلة: كيف يصف الأمة التي شادت تلك الدولة الكبرى بالبعد عن مذاهب السياسة؟.
والذي ينظر في الفصل المعقود لهذه المقالة من (المقدمة) يجد ابن خلدون يتكلم على الأمة العربية الطبيعية، حيث ذكر أن العلة في بعدهم عن إجادة السياسة اعتيادهم على البداوة، ونفورهم من سلطة القوانين، واحتياج رئيسهم إلى الإحسان إليهم وعدم مراغمتهم، والسياسة تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر.(1/140)
ثم صرح ابن خلدون في هذا الفصل نفسه، بأن هذه الأمة بعد ما طلع عليها الإسلام، وفتح أبصارها في مناهج السياسة العادلة سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها.
ويوافق ما قاله ابن خلدون من أنَّ العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفراً منهم المغيرة بن زرارة إلى =يزدجرد+ فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصفت به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام.
وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: =ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم+.
ركبتُ مرة القطار من بَرْلِين إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئاً، ثم أقبل عليَّ أحدهم وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون أن العرب لا يعرفون السياسة ؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه.
ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعاً على خصلتين يُطوِّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية:
إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هَضَمَ له حقاً، أو مسَّ جانبه بأذى.
وحُسْنُ السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات.
ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغضُّ الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه.
والسياسة تنافي الإفراطَ في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم مع الانتصار وهم مبطلون.(1/141)
وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حق جهادها، حتى أعدت لسياسة العالم أساتذة مثل عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحق وكبح الباطل أشد الناس به صلة وأمسَّهم به رحماً.
ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيُسرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين.
ومن دهاء عمر بن عبد العزيز أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حَذَرَ أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة.
قال ابنه عبد الملك: =مالك لا تُنَفِّذ الأمور؟+، فقال: =لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة؛ فيدفعوه، وتكونَ فتنة+.
فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجاً يتعذر عليه تقويمه بالقوة؛ فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته ولو بعد أمد طويل.
وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمر إلى الحق ولو على جسر من الباطل، كما قال زياد في بعض خطبه: قد علمنا أنا لا نصل إلى الحق إلا أن نخوض في الباطل خوضاً.
ويقول ابن خلدون: =إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها+.
وذكر في توجيه هذه المقالة، أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار.(1/142)
وتحقيق هذا أنَّ العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تَقْعُدَ بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع؛ فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها.
فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولاسِيَّمَا بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا.
وأما الذين يُقَدِّرون وظيفتهم حق قدرها، ويقومون بما قلدهم الله من مراقبة سير الأمة وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة _ فإنهم يسبقون _ بلا ريب _ إلى الغاية السامية في السياسة القيِّمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البله والجهل بتدبير شؤون الاجتماع، كما يدعي الذين يسمعون أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية.
وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.
القضاء العادل في الإسلام(1) للشيخ العلامة: محمد الخضر حسين
أحاط الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً , فدل على كل ضرب منها دلالة تقوم بها الحجة , وتَقْطَع عن الناس عُذْرَ الجهلِ به.
__________
(1) رسائل الإصلاح 1/28_37.(1/143)
وله في هدايته درجات, فقد يرشد إلى الشيء دون أن يلهج به, أو يُلْحِفَ في الترغيب فيه, حيث يكون سهل المأخذ على النفس, أو يكون في طبيعة البشر ما يسوق إليه, كإحسان الوالد لولده, والسعي في الأرض؛ لابتغاء الرزق.
وقد يكون في الأمر ثقل على النفس، وصرف لها عن بعض شهواتها, فلا تكاد تقبل عليه إلا بعزم صميم, ونظر في العواقب بعيد, كإقامة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد.
وهذا ما يأمر به المرة بعد الأخرى, ويسلك في الدعوة إليه أساليب شتى؛ حتى يأخذ إليه النفوسَ على تفاوت هممها، واختلاف رغائبها, وكذلك ترى مسلكه في الدعوة إلى العدل في القضاء.
يتقدم الخصمان إلى القاضي وكثير ما يجد في نفسه ميلاً _ شديداً أو ضعيفاً _ إلى أحدهما, يميل إليه؛ لنحو قرابة, أو صداقة, أو وجاهة, أو غنى, أو يميل إليه؛ لأنه فقير, أو ضعيف, أو خصم لمن يناوئه .
وقلما استطاع القاضي في هذه الأحوال أن يضع الخصمين من نفسه في درجة واحدة إلى أن يفصل في القضية بما أراه الله من الحق.
تلك العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية هي في حكم المعفو عنه إلا أن يكون لها في رجحان أحد الخصمين على الآخر أثرٌ غيرُ ما تقتضيه البينةُ, وأصولُ الحُكْمِ .
شأنُ تلك العواطفِ أن تجاذبَ القاضيَ, وتناجيَه أن يَنْحُوَ بالحكم نحوَ منفعةِ المعطوف عليه, وعلى قدر العطف تكون هذه المجاذبة والمناجاة, ومتى قَوِيتا في نفس لا تخاف مقاَم ربِّها, ولم تكن على بصيرة مما في لباس العدل من زينة وفخار_ نبذت الحق وراء ظهرها, وانحدرت مع عاطفتها إلى هاوية الظلم, وما هاوية الظلم إلا حفرة من النار.
هذه العواطف التي تجاذب القاضي, وتناجيه أن يُرْضِيَ خصماً بعينه تجعل العدل في القضاء من قبيل ما يثقل على النفس, ويجمح عنه الطبع؛ فكان من حكمة الدعوة الإسلامية أن تُعْنى به عنايةً صافية, وتَدْخُلَ إلى الترغيب فيه من أبواب متعددة.(1/144)
عُنيت الشريعةُ بالعدل في القضاء عنايتَها بكل ما هو دَعامةٌ لسعادة الحياة؛ فأتت فيه بالعظات البالغات : تُبَشِّرُ مَنْ أَقامَه بعلو المنزلة, وحسن العاقبة,وتُنْذِرُ مَنِ انحرف عنه بسوء المنقلب, وعذاب الهون.
فمن الآيات المنبهة لما في العدل من فضل قوله _ تعالى _: [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ].
فقد أمر بالعدل, ونبه على أن خيراً عظيماً ينال الحاكم بالقسط هو محبة الله له, وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا والعيشة الراضية في الأخرى.
ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله _ تعالى _ قوله ":=إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن _ عز وجل _ وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا+(1).
وفي ذكر =الرحمن+ تربية للرجاء والثقة بأنَّ الحاكم العادل يجد من النعيم ما تشتهيه نفسه، وتلذه عينه، شأن مَنْ يكون قريبَ المنزلة من ذي رحمةٍ وسعت كلَّ شيء.
وإن شئتَ مثلاً من آيات الوعيد فانظر قوله _تعالى_: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ].
تجد الآية تنادي بأن الفَصْلَ في القضايا جرياً مع الأهواء ضلالٌ عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله مُلْقٍ في شديد العذاب.
ومن ذا الذي يستخف بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع من هذه الحياة؟ إلا من سفه نفسه، ولم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلبه.
__________
(1) صحيح الإمام مسلم.(1/145)
فلهذه الآية أثر بليغ في النفوس المطمئنة بالإيمان، كان أحمد بن سهل جاراً لقاضي مصر بكار بن قتيبة، فحدث أنه مرَّ على بيت بكار في أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: ثم قمت في السحر فسمعته يقرؤها ويرددها؛ فلا عجب أن يكون بَكَّارٌ هذا من أعدل القضاة حكماً، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفاً.
ومن الأحاديث الواردة في الوعيد على الجور في القضاء قوله ":=من ولي من القضاء فقد ذبح بغير سكين+(1)
ففي هذا الحديث تمثيل القاضي إذ يلاقي جزاءه في الآخرة بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين.
وهذا حالُ مَنْ يكون حظُّه من علم القضاء بخساً، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهياً.
ويصح حمل الحديث على معنى الإشارة إلى صعوبة القضاء، حتى كأن القاضي مِنْ أجلِ ما يلاقيه مِنْ تَعَرُّفِ الحق وتنفيذه مِنْ مكاره ومجاهدةٍ للأهواء _ مذبوحٌ بغير سكين.
وهو بعد هذا مُشْعِرٌ بسمو منزلة القضاء؛ إذ كان القاضي العادل يضاهي القتيل في سبيل الله بما انقطع عنه من شهوات، وقاساه من آلام؛ يبتغي أجر الله، والله عنده أجر عظيم.
ومما جمع بين الوعد والوعيد قوله ":=القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار+(2)
وَصَفَ هذا الحديثُ عاقبةَ مَنْ يقضي بالحق على بينة منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة مَنْ يقضي على جهل أو جور، وهي المصير إلى النار.
ولا يتناول هذا الوعيدُ العالمَ بأصول الشريعة يجتهد رَأْيَهُ فلا يُصيب الحق، ويقضي بما رأى.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم.(1/146)
قرأ الحسن البصري قوله _تعالى_:[ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً... الآية](الأنبياء:78_79).
وقال: لولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أنَّ القضاة هلكوا؛ فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.
وصف الإسلام ما في العدل من فوز، وأعلن بما في الحيف من شقاء، وكان قضاؤه " المثل الأعلى لصيانة الحقوق، والتسوية بين الخصوم، ويكفي شاهداً على هذا أنَّه " أراد إقامة الحد على امرأة مخزومية سرقت، فخاطبتْ قريشٌ أسامةَ؛ ليكلم رسول الله " في إسقاط الحد عنها فقال _ صلوات الله وسلامه عليه _:=أتشفع في حد من حدود الله+! ثم قام؛ فخطب قال:=يا أيها الناس إنما ضلَّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها+.
رسم _ عليه الصلاة والسلام _ طريقَ العدلِ في القضاء قَيِّمَةً غيرَ ذات عوج، وزادها بسيرته العملية وضوحاً واستنارة؛ فاستبانت لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديها الحكيم، وأروا الناس القضاء الذي يزن بالقسطاس المستقيم؛ انظر إلى قول عمر بن الخطاب ÷ في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: =آس(1) بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك+.
كان للإسلام وسيرةِ الذين أوتوا العلم من رجاله أثرٌ في إصلاح القضاء كبيرٌ، ولا تُشْرِقُ المحاكم بنور العدل إلا أن يمسك زمامها رشيدُ العقل، راسخ الإيمان بيوم الفصل.
فتقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة؛ حتى يتعرف الحق، ولا يأخذ بأول ما يلوح له من الفهم، وإن تيقنَ أن قضاءَه نافذ، وما له في الرؤساء من مُعَقِّب.
__________
(1) آس: أي سوِّ بينهم، واجعل كل واحد أُسْوَةَ خصمه.(1/147)
ومن أمراء الأندلس من كان يعزل القاضي متى رأى منه السرعة في فصل القضايا التي تستدعي بطبيعتها شيئاً من التروي؛ إذ يفهم من هذه السرعة عدمَ تحَرُّجِه من إثم الخطأ في الحكم.
وتقوى الله هي التي تقف القاضي في حدود العدل: لا يخرج عنها قيد أنملة في حال.
قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: ألا تؤلف كتاباً في أدب القضاء؟ فقال: =اعدل، ومد رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام؟+.
وفي سيرة أبي عبدالله محمد بن عيسى أحد قضاة قرطبة أنه =التزم الصرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيان في السر، والصدع بالحق في الجهر، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهنَ ذا مرتبة، ولا أغضى لأحدٍ من أرباب السلطان وأهله، حتى تحاموا حِدَّةَ جانبه، فلم يجسر أحدٌ منهم عليه+.
ونقرأ في وصف إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي أحد قضاة مصر أنه =كان لا يَقْبَلُ رسالة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً+.
وامتُحِنَ عبدُالله بن طالب _ أحد قضاة القيروان _ فكان يقول في سجوده وهو في السجن =اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، ولا خفت فيك لومة لائم+.
ووصف المؤرخون محمد بن عبدالله بن يحيى _ أحد قضاة قرطبة _ بأنه =لم يداهن ذا قدرة، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان، ولم يطمع شريف في حيفه، ولم ييأس وضيع من عدله، ولم يكن الضعفاء قطُّ أقوى قلوباً ولا ألسنة منهم في أيامه+.
ومن القضاة العادلين مَنْ تُطْرح بين يديه قضية يدلي فيها أحد الخصمين بشهادة الخليفة نفسه، فيرد الشهادة في غير مبالاة، شهد السلطان با يزيد عند شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي الأستانة في خصومة رُفعت إليه، فرد القاضي الشهادة، ولما سأله السلطان عن وجه ردها قال له: إنك تارك للجماعة، فبنى السلطان عند قصره جامعاً، وعين لنفسه فيه موضعاً، ولم يترك الجماعة بعد ذلك.(1/148)
ورفعت قضية إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة أحد الخصمين فيها سعيد الخير عم الخليفة عبدالرحمن الناصر، وأقام سعيد بيِّنةً أحدُ شهودِها الخليفةُ نفسه، ولما قدم كتاب شهادة الخليفة إلى القاضي نظر فيه ثم قال لوكيل سعيد: =هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل+.
فمضى سعيد إلى الخليفة، وجعل يغريه على عزل القاضي، فقال الخليفة: =القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، ولست _ والله _ أعارضه فيما احتاط به لنفسه ولا أخون المسلمين في قبض مثله+.
ولما سُئل ابنُ بشير عن رد شهادة الخليفة قال:=إنه لا بد من الأعذار في الشهادة، ومن الذي يجترئ على القدح في شهادة الأمير إذا قبلت! ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه+.
فالإسلام يلقن القاضي أنه مستقل ليس لأحد عليه من سبيل، وقد قص علينا التاريخ أنَّ كثيراً من القضاة العادلين كانوا لا يتباطؤون أن يحكموا على الرئيس الذي أجلسهم على منصة القضاء حكمهم على أقصر الناس يداً، وأدناهم منزلة.
قال ابن عبدالسلام يصف القضاة العادلين: =وربما كان بعضهم يحكم على من ولاه، ولا يقبله إن شهد عنده+.
وقال المقري يصف القضاء في الأندلس: =أما خطة القضاء في الأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة؛ لتعلقها بأمور الدين وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي+.
وحكم ابن بشير قاضي قرطبة على الخليفة عبدالرحمن الناصر في قضية رفعها عليه أحد المستضعفين من الرعية، وأبلغ الخليفة الحكم مقروناً بالتهديد بالاستقالة من القضاء إذا لم يُسلِّم الحكم، ويبادر إلى تنفيذه.
ومن القضاة العادلين مَنْ يرمي بالمنصب في وجه الدولة إذا أخذ بعض رجالها يتدخل فيما يرفع من خصومات، فعل هذا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر حين تخاصم إليه رجلان، وأمر بكتابة الحكم على أحدهما، فتشَفَّع المحكوم عليه إلى الأمير، فأرسل إليه الأمير يسأله الرجوع، فقال: لا أعود إلى ذلك أبداً، ليس في الحكم شفاعة.(1/149)
وفعل هذا برهان الدين بن الخطيب بن جماعة أحد قضاة مصر، عارضه محب الدين ناظر الجيش في قضية، فقال: لا أرضى أن أكون تحت الحجر، وصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه، وأغلق بابه، فبلغ أمره الملك الأشرف، فانزعج وما زال يسترضيه حتى قبل، واشترط أشياء تلقاها منه بالإجابة.
والرئيس الناصح يكبر القاضيَ الذي يأنس منه استقامة، ويعمل لإرضائه؛ حتى يصرفه عن الاستقالة.
أرسل أبو عبيد قاضي مصر أبا بكر بن الحداد إلى بغداد؛ ليستعفي له عن القضاء، فأبى الوزير علي بن عيسى بن الجراح أن يعفيه وقال: =ما أظنه إلا أنه كره مراقبة هلال بن بدر؛ لأنه شابٌ غِرٌّ لا يعرف قدره؛ فأنا أصرف هلالاً، وأولي فلاناً وهو شيخ عاقل يعرف قدر القاضي+.
والرئيس العادل يعجب بالعالم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم، وتجرده من كل داعية غير داعية ظهور الحق، ويدعوه هذا الإعجاب إلى إقامته قاضياً بين الناس؛ أخذ عمر بن الخطاب ÷ فرساً من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح القاضي، فقال شريح: أخذته صحيحاً سليماً، فأنت ضامن له حتى ترده صحيحاً سليماً، قال الشعبي _وهو راوي القصة_ فكأنه أعجبه؛ فبعثه قاضياً.
ولصعوبة القضاء من ناحية التثبت من الحق أَوَّلاً، والقدرة على تنفيذه ثانياً _ أبى كثير من العلماء الأتقياء أن يقبلوا ولايته، ورفضوها بتصميم يخشون أن يعترضهم في التنفيذ ما لا طاقة لهم بدفعه، أو يخشون الزلل عند النظر في بعض النوازل، وتَعَرُّف أحكامها؛ فإن إدراج الوقائع الجزئية تحت الأصول الكلية عسير المدخل؛ لكثرة ما يحوم حوله من الاشتباه؛ فكثير من الجزئيات تحتوي أوصافاً مختلفةً، وكلُّ وصفٍ ينزع إلى أصل، وقد يكون في الأصل الذي هو أَمَسُّ بالواقعة خفاءٌ لا ينكشف إلا أن يرددَ القاضيْ الألمعيُّ نظره، ويجهد في استكشافه رَوِيَّتَه.(1/150)
عرض هارون الرشيد على المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث قضاءَ المدينة بجائزة قدرها أربعة آلاف دينار، فأبى، وقال: لأن يخنقني السلطان أحب إلي من القضاء.
ومن العلماء من يأبى قبولها، ويكون الأمير ممن يقدر قدره، ويراه أقدر أهل العلم على القيام بها؛ فيهدده بالعقاب، أو يسومه العذاب؛ ليكرهه على قبولها، ومنهم من يقبلها بعد التهديد البالغ، مثل عيسى بن مسكين أحد الفقهاء بالقيروان؛ عرف الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب من زهده في المناصب أنه يأبى ولاية القضاء، فأحضره وقال له: ما تقول في رجل جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء، وألم به شعث هذه الأمة فامتنع؟
قال له عيسى بن مسكين: يلزمه أن يلي، قال: تَمَنَّع، قال تجبره على ذلك بجلد، قال: قم فأنت هو، قال: ما أنا بالذي وصفت، وَتَمَنَّع حتى أخذوا بمجامع ثيابه، وقربوا السيف من نحره، فتقدم لها بعد أمر خطير.
ولارتباط سعادة الأمة باستقامة القضاء جاز للرئيس الأعلى متى رأى في أهل العلم من هو أدرى بمسالكه، وأقدر على القيام بأعبائه _ أن يكرهه على ولايته بالوسائل الكافية، قيل للإمام مالك: هل يُجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: لا، إلا أن لا يُوجد منه عوض فيُجبر عليه، قيل له: أيُجبر بالضرب والسجن؟ قال: نعم.
وطلب ابن الأغلب أمير القيروان الإمام سحنون لولاية القضاء فامتنع، وبقي نحو سنة يطلبه لها وهو يمتنع، حتى قال له حالفاً: لئن لم تتقدم لها لأقدمن على الناس رجلاً من غير أهل السنة؛ فاضطره هذا الحلف إلى قبولها.(1/151)
ومن العلماء من يُطلب للقضاء فلا يُجيب إلا على شرط يصعب على رجال الدولة قبوله، ولا يسعهم إلا أن يتركوه، طلبوا أبا محمد بن أبي زيد لقضاء القيروان، وقطعوا دون قبوله كل عذر؛ فشرط عليهم أن يجعلوا لمن بين يديه من الأعوان ما يقوم بكفايتهم من بيت المال بحجة أن من واجب السلطان أن يوصل لكل ذي حقٍّ حقه، وليس على صاحب الحق أن يُعطي من حقِّه شيئاً(1)، فاستكثروا ما يُنفق في هذا السبيل، وتركوه.
وإن شئت مثلاً يريك الاعتزازَ بالعلم والزهد في المناصب إلا أن يتيقن السير بها في استقامة _ فإليك قصةَ زيادِ بن عبدالرحمن: دعاه هشام عندما تولى الخلافة بالأندلس إلى القضاء، فأبى، وبعث إليه الوزراء، فلم يتخلص منهم حتى قال لهم: عليَّ المشيُ إلى مكة إن وليتموني القضاء، وجاء أحد يشتكي بكم _ لآخذن ما بأيديكم، وأدفعه إليه، وأكلفكم البينة؛ لما أعرفه من ظلمكم؛ فعرفوا أنه سيفعل ما يقول؛ فتركوه.
وعناية الإسلام بالقضاء رَفَعَتْهُ إلى درجة أفضل الطاعات؛ فمن سار فيه على بينة وهدى كانت الأوقات التي يشغلها بالنظر في النوازل، وإعداد الوسائل لساعة الفصل أوقاتاً معمورة بالعمل الصالح، كافلة لصاحبها الكرامة في الدنيا، والفوز في الأخرى.
ولهذا ترى بعض العلماء يتقلدون القضاء، ويأبون أن يأخذوا عليه رزقاً.
ومن هؤلاء العلماء الزاهدين أبو القاسم حماس بن مروان ولاه زيادة الله ابن الأغلب قضاء إفريقية فتولاه وأبى أن يأخذ عليه أجراً =وكانت أيامه أيام حقٍّ ظاهر، وسنة فاشية، وعدل قائم+.
وكان سحنون قاضي إفريقية =لا يأخذ لنفسه رزقاً ولا صلة من السلطان، وإنما يأخذ لأعوانه وكتابه من جزية أهل الكتاب+.
__________
(1) نص على هذا ابن رشد في كتاب البيان، وعمل القضاة جار على غير هذا وهو أنَّ أجرة العون على طالب الحق.(1/152)
ومن أبى أخذ الأجر على القضاء فليدخر ثوابه كاملاً عند الله، أو لأنه كان في غنى، وليس في أهل العلم من يكفي كفايته، فتكون ولايته من قبيل القيام بفرض عين، ومن تعين عليه القضاء وهو في بسطة من المال فهو الذي لا يُجيز له الفقهاء أن يأخذ على ولايته عوضاً.
حقيقةً إن الإسلام بنى القضاء على أسس محكمة، ونظم صالحة، وأخرج للناس قضاة سلكوا إلى العدل في الحكم، والحزم في التنفيذ مسلكاً هو أقصى ما يستطيعه البشر، وأرقى ما يجده الباحث في القديم والجديد؛ فإذا وفقت الدول الإسلامية لأن تربي رجالاً مثل من وصفنا علماً وجلالة _ أمكنها أن تحتفظ بروح العدل الذي لا يجري إلا على يَدِ مَنْ تفقه في كتاب الله وسنة رسوله، واهتدى بحكمتهما إلى أنَّ الدنيا متاعٌ، وأن الآخرة هي دار القرار.
الإسلام والمسلمون (1) للأستاذ أحمد أمين
من البديهي أنه يجب التفريق بين الإسلام في مبادئه وتعاليمه، كما يدل عليه القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وبين أعمال المسلمين من وقت أن اعتنقوا الإسلام إلى اليوم؛ فمن أراد الحكم على الإسلام فليرجع إلى أصوله الأولى، وينظر إلى جوهر تعاليمه ويزنها بميزان الحق والعدل.
ومن الخطأ الفاحش أن يحكم على الإسلام بالمسلمين، فقد يكون الدين صحيحاً، ومعتنقوه خارجين عليه، منحرفين عنه؛ فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطأه هو، بل أحياناً يكون الدين فاسداً في جوهره وتعاليمه، ويرتقي معتنقوه، فتصدر عنهم أعمال فاضلة، لا تمت إلى دينهم الأصيل بسبب، وإنما هم الذين حوَّروا دينهم، وصاغوه صياغة خيراً مما كانت عليه.
__________
(1) فيض الخاطر، 9/1 _ 5.(1/153)
والحق أن الفرق كبير بين الإسلام نفسه، وعمل المسلمين في مختلف العصور، وأكاد أجزم بأن الإسلام لم يحيَ حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا عصراً قصيراً جداً، وهو عصر الرسالة وما بعدها بقليل، وأما ما عدا هذه الفترة، فقد عاش المسلمون عيشة منحرفة عن الدين، وإن اختلف هذا الانحراف قلةً وكثرةً، أو شدةً وضعفاً.
لننظر قليلاً في أهم عنصر من عناصر الإسلام، وهو التوحيد الذي تبلور في قولنا: =لا إله إلا الله+ فهل سار المسلمون عملياً واقتصادياً على هذا المبدأ، وإلى أي حد؟.
إنَّ هذا المبدأ يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، وعبادة غير الله.
وأما من عداه من الناس فسواسية لا إله ولا مألوه، قد يختلفون في النسب، وقد يختلفون في الثروة، وقد يختلفون في غير ذلك، ولكنهم كلهم عبيدٌ لله وحده.
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبيقها في الحياة العملية، إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم؛ فلا يركعوا للأقوياء، وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم؛ فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء، وهذا مطلب ليس باليسير، وإن كان هو جوهرَ الإسلام.
ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء، لا من أصحاب السيطرة، كبلالٍ وأمثاله؛ لأنهم وجدوا في الإسلام تحرراً من عبوديتهم لغير الله.
وكان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة والتأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا أخيراً، وبعد عناد طويل، كأبي سفيان بن حرب في مكة، أو إسلاماً ظاهراً بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبدالله بن أُبَي في المدينة، وأكبر سبب في تأخرهم، أنهم رأوا الإسلام يُفقدهم تألههم، وعظمتهم، وربوبيتهم.
ولما فتح المسلمون فارس والروم كان أغرب ما استرعى أنظارهم عبادة الرعية لسادتهم؛ لِما وقر في نفوسهم _بسبب الإسلام_ من أنه لا معبود إلا الله.(1/154)
والقرآن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أرباباً، أو خلعوا القدسية والربوبية على رؤسائهم الدينيين، وكانت دعوة الإسلام دائماً دعوة إلى عبادة الله وحده، وعدم الاعتراف بربوبية أحد غيره: [يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ]آل عمران: 64.
ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتزاز بالجاه، والاعتزاز بالمال؛ لأن كلَّ ذلك من ضروب التأله، والإسلام عدو كلِّ تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع.
وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله، كما كان في العصر العباسي وبعده، وبلغ ذلك التأله أوجَه في مثل جنكيز خان، وتيمور لنك، وأشباههما.
إن نظرة الإسلام إلى الألوهية، والدعوة إلى إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعاً _ تقضي على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله وخلقه.
ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلى سيرتهم الجاهلية الأولى؛ فاتخذوا أصنافاً من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله، ويتقربون بهم إلى الله، متأثرين بالديانات القديمة.
أما الإسلام نفسه فيدعو إلى أنه لا حجاب بين أي عبد مهما ضعف وبين الله، وقد عاب على النصارى واليهود اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
ولعل السبب في ذلك أن هذه العقيدة الصحيحة _ عقيدة الإيمان بالله وحده _ والخضوع له وحده، وعبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة في تصفية النفس من الشوائب، والنفوس القوية عادة تعشق التأله والاستعلاء، والنفوس الضعيفة سرعان ما تستسلم، وهذا مشاهد في كل أمة، وفي كل جماعة، وفي كل عصر من عهد أن قال فرعون: =أنا ربكم الأعلى+ ومن قبله ومن بعده.(1/155)
وهؤلاء الأقوياء يتخذون لتألههم أشكالاً وألواناً من المظاهر، فمنهم من يتأله بجنوده وبنوده، وكثرة ماله ونحو ذلك، ومنهم كبار المستبدين في أممهم مثل نابليون، ومثل هتلر وستالين، ومنهم كبار أصحاب رؤوس الأموال في كل أمة، ونحو ذلك، كلهم يتألهون، وكل الناس حولهم تؤلههم، وإن لم يسمِّ الأولون أنفسهم آلهة، وإن لم يسمِّ الآخرون أعمالهم عبادة، ولكن العبرة بالحقيقة لا بالأسماء.
والإسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله وألوانه، والمسلمون _ مع الأسف _ في كل عصورهم ما عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة، وعبادة وخضوع من جانب الضعف.
هذه ناحية من نواحي التأله والعبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، وهناك ناحية أخرى من التأله والعبودية، يصح أن نسميها مُحَجَّبة؛ ذلك أن هناك قوماً لم يكن لهم من قوة السلطان، وكثرة المال والجنود والعصبية ما يمكنهم من الاستعلاء في الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء من طريق خفي، ولهؤلاء أمثلة كثيرة كالسحرة، والمشعوذين، والدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب، والاستمداد من السماء، وأن بينهم وبين الله نسباً، أو بينهم وبين الجن صلة، وأنهم يستطيعون بذلك أن يقربوا إلى الله من يشاؤون، ويحرموا من الجنة من يشاؤون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطروا على قوانين الطبيعة في هذا الكون بسحرهم، وتعاويذهم، وتعازيمهم، وما إلى ذلك، كل هؤلاء وأمثالهم لما فقدوا السلطة الظاهرة، والقوة الدنيوية لجؤوا بمكرهم وحيلهم إلى ادعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذَّج والبُلْه.(1/156)
وكان من سوء الحظ، وضعف العقل أن قُبِلَتْ دعوتهم، وتألهوا هم الآخرون، وعبدهم أتباعهم؛ فكان في الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية، ومملكة السلطنة الغيبية، والناس موزعون في العبادة بين هؤلاء وهؤلاء، وكل هذا حرب على الإسلام في جوهر تعاليمه، وهو الذي ينادي دائماً، ويجعل شعاره دائماً، أن لا إله إلا الله، وأن كلَّ تأله باطل، وأن كل عبادة لغير الله باطلة.
ولكن كم من المسلمين في العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شيء من عبادة وتأله.
ومن الأسف أنه في كثير من عصور تاريخ المسلمين تعاونت القوتان، الظاهرة والباطنة، والمادية والغيبية، على إفساد حال المسلمين؛ فتحالف الملوك الظلمة والسلاطين الغاشمة مع الدجالين من رجال الدين، والدجالين من المتصوفين، وأعملوا قوتهم في إفساد عقيدة الوحدانية، وفي تعديد الآلهة وعبادتها، واتخذوا لذلك وسائل لا تحصى، فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت والطغيان، والخطباء والوعاظ يصرفون الناس عن المطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله، والغنى من الله، وليس للجد ولا للعمل أي دخل في الغنى والفقر، وأنَّ ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرة المسلمين، ونحو ذلك من تعاليم تفسد الروح، وتذل النفس، وتمكن المتألهين من التأله، وتوجه الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الإسلام في قليل، ولا كثير.
ولو نحن نظرنا نظرة شاملة لرأينا أن أكثر شرور العالم في الشرق والغرب، وفساد حال الأمم يرجع إلى هذا التأله من جانب، والعبادة والضعف من جانب آخر، فالعلاقاتُ بين الأمم، والحروبُ المتتابعةُ إنما يبعثها في الغالب حبُّ الاستعلاء، أو بعبارة أخرى التألُه، ومحاولةُ الدولة القوية أن تسيطر على العالم؛ لتكون إلهه، وليكون غيرها عباداً أذلة، وكان كل هذا يزول لو اعتنق الجميع أن لا إله إلا الله.(1/157)
وبعد فهذا أصل من أصول الإسلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، وانحط شأنهم، ولعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول الإسلامية الأخرى، ونبين كيف عطلت وأهملت، والله الموفق.
شرعة الحرب في الإسلام للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي(1)
من لوازم الحرب سفك الدماء, والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلاّ بحقها, وليست عصمة الدماء خاصةً بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مِثْلُهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته, والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل, والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل؛ فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين, ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلاّ بحقه.
وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه, أو الذمي ومَنْ معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله, فإذا سفك دمَ غيره عَدْوًا بغير حق استبيح دمه, ورفعت العصمة عنه بما كسبت يداه, وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أخذ من ماله بقدره من غير زيادة، ولا إجحاف، ولا ظلم.
فالحرب في الإسلام لا تكون إلاّ لمن آذنه بالحرب, أو وقف في وجه دعوته يصدّ عنه المُستَعِدِّين لتلقيها, والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا تُرْتَكَبُ إلاّ لدفع مفسدة أعظم منها, وأول مفسدة شرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية, ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوة.
ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية, وتركوها تجري إلى غايتها بالإقناع لما قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم بدأوها بالعدوان، والتقبيح, والحيلولة بينها وبين بقية العرب, والقعود بكل صراط لصد الناس عنها.
__________
(1) كلمة ألقاها الشيخ من إذاعة صوت العرب بالقاهرة, 5 جوان 1955, وهي منشورة في كتاب: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 5 _ 92 _ 94(1/158)
ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع, أو وجب, أو غيرهما من صيغ الأحكام, وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري, ولكنه ليس خيرًا محضاً ولا صلاحًا سرمدًا, وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًا آخر.
ومما وقر في نفوس البشر أ ن بعض الشرور لا تدفع بالخير, ولا تنقصم إلاّ بشر آخر.
وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها فإن الشر الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيراً كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن, وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين كما يؤثر عن الإمام مالك, قال _ تعالى _ [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ].
ففي قوله _ تعالى _: =يُقَاتَلُونَ+ وفي قوله:=بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا+ وفي قوله:[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] بيان للشروط المسوِّغةِ للحرب في الإسلام تحمل عليها نظائرها في كل زمان.
شرعت الحرب في الإسلام أي أذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها, وتحدد أولها وآخرها, وتخفف من شرورها, وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال، وتعدي الحدود.
وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحاً عاماً لأوضاع البشر فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب.
إن أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصور الحرب عذابًا تحفّه الرحمة من جميع جهاته, ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه.(1/159)
ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا, وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس.
ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلاّ قوانينه الحربية لكان فيها مَقْنَع للمنصفين باعتناقه؛ ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالحِ الماديةِ,والعداوةُ مِنْ عمل الشيطان يوريها بين أبناء آدم؛ ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها, ولا رحمة فيها, ولا عدل معها؛ فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذِّبة للفطرة، المُشَذِّبة للحيوانية, فحددت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا, وحرمت البغي والعدوان, وقَيَّدتها بقوانين هي خلاصة العدل، ولبابه حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق؛ لتترك الراحة والاطمئنان العمرَ كلَّه.
حرم الإسلام التعذيب والتشويه والمُثْلَةَ في الحرب, أوصى بالأسرى خيراً حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله, أمر بألا يُقْتَل إلاّ المقاتل, أو المُحَرِّض على القتال, أوالمظاهر على المسلمين, نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهَرْمَى والقَعَدَة والرهبان المنقطعين في الصوامع, نهى عن عقر الحيوان المُنْتَفَع به, نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها.
وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة, لا تشريع عام للتشفي والانتقام.
ووصية أبي بكر÷ للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب, وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة.
وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرناً إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يَدْعُونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية _ إلاّ كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل.(1/160)
أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء, وبَقْرِ بطونهن على الأجنة, ومن قتل الصبيان والعجزة, وهدم البيوت بالقنابل الجوية, والمدافع الأرضية على من فيها, ومن هدم المعابد, ومن تسميم المياه والأجواء, وإحراق الناس أحياءً، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم؟
أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام؟ والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة, والحرب شذوذ في القاعدة؛ لأن الإسلام دين عدل، ورحمة، وعمران، وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين, والعقل,والعرض, والمال, والنسب .
والدين هو ملاك التهذيب النفسي, والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة, والعِرْض هو مقياس الشرف الإنساني, والمال هو قوام الحياة, والنسب هو مناط الفخر, وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود, فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية, وتردت إلى الحيوانية؛ فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة.
ولحرص الإسلام على السلم جاءت آية الأنفال آمرةً بالجنوح له كلما جنح له العدو؛ حتى لا يُسَْبَقَ المسلمون إلى فضيلة.
والإسلام يأمر بالوفاء لذاته, ويجعله من آيات الإيمان, وينهى عن الغدر, ويجعله شعبة من النفاق, يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق, والتساهل في الفضائل, يقول _تعالى_:[وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ].
ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: [إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ], ويقول: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ].
هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله.
المجاهدون الأولون(1) للعلامة محب الدين الخطيب
__________
(1) مع الرعيل الأول ص200 _ 209.(1/161)
في كتاب الإصابة للحافظ ابن حجر (1: 576 _ 577) عن خالد بن سعيد ابن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه قال:
لما بويع مروان بن الحكم _ وكان ذلك سنة 64هـ أي قبل ثلاثة عشر قرناً _ مرَّ على ماء في البادية لبني جَزْءِ بن عمرو بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، وعلى الماء شيخ منهم كبير، فقال له مروان:
كيف أنتم آل جزء؟
فقال الشيخ: بخير؛ أنبتنا الله فأحسن نباتنا، ثم حصدنا فأحسن حصادنا.
قال الحافظ ابن حجر: وكانوا هلكوا في بلاد الروم، في الجهاد.
أما كيف هلكوا قبل ذلك في الجهاد، فقد ذكر مؤرخو الإسلام لمعاً من أخباره. وأنت إذا وقفت على القليل مما ذكروا تجلت لك صورة من صور الكمال الذي كان للمجاهدين الأولين؛ فجمعوا فيه بين الإخلاص لدين الله، وتصريف الشجاعة والفروسية والأموال بل والأهواء باستعمال ذلك كله في سبيل الله.
وكان لهم _ مع ذلك الكمال _ نضوج العقل، وجمال المنطق، وهما من ميراث القومية العريق في القدم الذي ازدان به سلفنا من العرب، وبه امتاز الإنسان على سائر خلق الله من ذوي الحياة.(1/162)
وحكاية جهاد آل جزء _ الذي كان به حصادهم كما قال ذلك الشيخ من شيوخهم لمروان بن الحكم سنة 64هـ _ هي أن زرارة بن جزء الكلابي، انتهى إليه وهو في نجوعه بالبادية سنة 49هـ، أن أمير المؤمنين معاوية يعقد رايات الجهاد لأبطال العرب ومجاهديهم تحت قيادة ابنه يزيد، وأن القبائل تقرع طبولها في كل أفق متجهة إلى دمشق؛ لتأخذ مكانها في فيالق الحملة الكبرى التي ينظم كتائبها في البر وأساطيلها في البحر سفيان بن عوف الأزدي، وأن طائفة من أعلام الصحابة وعلمائهم التحقوا بهذه الحملة جنوداً في سبيل الله، وفي مقدمتهم عبدالله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعبدالله بن العباس بن عبدالمطلب _ ابن عم النبي" _ وعبدالله بن الزبير بن العوام _ حفيد عمة رسول الله، وسبط أبي بكر الخليفة الأول _ وأبو أيوب الأنصاري الذي نزل النبي "ضيفاً عليه في بيته عند هجرته الشريفة من مكة إلى المدينة.
واتفق في ذلك الحين مرور أمير من أمراء البيت المالك بديار آل جزء، وهو الأمير عنبسة بن أبي سفيان أخو الخليفة، فاحتفل آل جزء بمقدمه، وأنزلوه في المقام اللائق به.
ومما أكرم به آل جزء ضيفهم الأمير أن الشاب النبيل عبدالعزيز بن زرارة ابن جزء استعرض أمامه خيلَه بفرسانِها، وإبلَه بركبانِها، ومواشيَه وأموالَه التي جَرَتْ عادة العرب أن يرفقوها بفرسانهم وركبانهم إذا نفروا للقتال؛ فرأى الأمير الأموي من ذلك ما أعجبه، فلما لمح ذلك عبدالعزيز في وجه أخي الخليفة _وكان قد وقف على خبر الحملة التي تجهز في الشام لغزو القسطنطينية_ نادى قائلاً _والأمير عنبسة يسمع_: =اللهم إني أشهدك أني حبست نفسي، وأهلي ومالي، في سبيلك...+.(1/163)
فكانت هذه التضحية في مقام بدلية التجنيد التي كان يبذلها أبناء الوجهاء إلى عهد قريب، ولكن أبناء وجهاء العرب الأولين لم يكونوا يبذلونها؛ ليقعدوا بها عن الجهاد، وليهربوا من كتائبه، ويتخلوا عن حمل أعبائه، واحتمال متاعبه، وتحمل عواقبه في أنفسهم وذويهم، بل لتكون هذه التضحية نوراً يمشي بين يدي دمائهم التي عاهدوا الله على بذلها في سبيله؛ إعلاء لكلمة الحق في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
وما كاد ضيفهم الأمير يرحل عن نجعهم متوجهاً إلى دمشق، حتى تجهز شيخ العشيرة زرارة بن جزء أبو عبدالعزيز وركب من باديته قاصداً عاصمة الإسلام الرابضة بين جبل قاسيون وضفاف برَدَى، حتى إذا صار بباب معاوية، رأى ازدحام زعماء القبائل عليه، وصعوبة الوصول إليه، فقال لمن كان هناك: =من يستأذن لي اليوم على أمير المؤمنين أستأذن له غداً +!.
أي أنه يستقرض الاستئذان حقاً بحق، ولا يستجديه عفواً بلا مقابل.
وكان زرارة يثق فيما له من مواهب أنها ستنيله الحظوة عند معاوية، وتحله منه في المكان الأقرب، كما كان يثق بأن معاوية يعرف أقدار الرجال، وينزلهم من نفسه ومجلسه ودولته على قدر رجولتهم، وعلى قدر ثقتهم بفضائل أنفسهم، وجودهم للملة بما تحت أيديهم.
فلما أذن له معاوية ودخل عليه، قال: =يا أمير المؤمنين، إني رحلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت أقواماً أدناهم منك الحظ، وآخرين باعدهم منك الحرمان، وليس للمقرب أن يأمن، ولا للمباعد أن ييأس+.
ونسب الجاحظ في البيان والتبيين (3: 37) إلى ابنه عبدالعزيز الفقرة التالية خطاباً لمعاوية، وما علمنا أن عبدالعزيز خطب بين يدي معاوية، وهي بكلام أبيه أشبه، ومعانيها تدل على أنها من تمام الخطبة التي أوردنا منها الفقرة السالفة.(1/164)
قال: =يا أمير المؤمنين، لم أزل أستدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك، فإذا ألوى بي الليل، فقبض البصر، وعفى الأثر أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوم، والاجتهاد يعذر، وإذ بلغتك فقطني...+.
فأعجب معاوية كلامه، كما أعجبت أخاه عنبسةَ خيلُ ابنهِ عبدالعزيز وإبلُه.
وزرارة بن جزء _ أبو هذا الشبل الشهيد الفارس الكريم _ معدود من الصحابة.
ونقل أبو عثمان الجاحظ أبياتاً من بليغ شعره قالها حين أتى عمر بن الخطاب في خلافته، وهي:
أتيت أبا حفص ولا يستطيعه ... من الناس إلا كالسنان طرير
فوفَّقني الرحمن لما لقيته ... وللباب من دون الخصوم صرير
قُرومٌ غَيارى عند باب ممنع ... تُنازِعُ مَلْكاً يهتدي وتجور
فقلت له قولاً أصاب فؤاده ... وبعض كلام الناطقين غرور
أما الابن المجاهد الشهيد فقد ظلت سيرته على ألسنة الفتيان في البادية يتحدثون بها جيلاً بعد جيل؛ ليقوموا بمثل فضائلها وروائعها بأنفسهم كلما سنحت لهم الفرص.
وقد زار أرضهم بعد ذلك بأمد طويل هارون بن بكار _ حفيد عبدالله بن الزبير ابن العوام الذي كان زميل عبدالعزيز بن زرارة في حصار القسطنطينية الأول _ فذكروا له في جملة ما ذكروه من أخلاق عبدالعزيز بن زرارة، وإعلانه التبرعَ بنفسه، وبأهله، وبأمواله بين يدي الأمير عنبسة بن أبي سفيان، ثم وفاءه بهذا العهد أكمل وفاء عرف عن فارس شاعر نبيل.(1/165)
هذه صورة صادقة لبادية العرب في صدر الإسلام إلى نهاية دولة بني أمية، وهو زمن التابعين والتابعين لهم بإحسان، وهو زمن الخير الذي عمَّت فيه الفتوح، وحدث فيه أعظمُ انقلابٍ في تاريخ الإنسانية؛ لأن دخول الممالك في الإمبراطورية الإسلامية لم يكن معناه الظفرَ والفتحَ كما تفهمه الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام، بل كان معناه تحولَ الأمم عن أنانيتها، وعن باطلها، وعن ضعفها الخلقي وسخافاتها الدينية والعقلية؛ بل عن ألسنتها وقومياتها إلى لسان القرآن وقومية رسوله، والتحاقها بتلاميذ محمد " وأتباعهم التحاقَ تخلقٍ واندماج، وهو انقلاب لم يسبق له نظير، ولا استطاع أن يأتي بمثله الفاتحون فيما بعد، لا من المسلمين المتأخرين، ولا من الغربيين.
والمجاهدون الذين تم على أيديهم هذا الانقلاب هم أمثال عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وأبي أيوب الأنصاري، الذين تقدموا بأنفسهم للجهاد في سبيل الله تحت راية معقودة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكان الأميرَ القائدَ الذي يصلي بالناس، وهو الذي يرجعون إليه في جميع حركاتهم وسكناتهم.
وإذا تجاوزنا هذه الطبقة من علماء الصحابة وأعلامهم نلقى بعدها الطبقة التي منها أمثال عبدالعزيز بن زرارة بن جزء الكلابي.
وإن الكثيرين من مثقفي المسلمين يعلمون أن من أحداث الدعوة المحمدية الأولى تبرعَ عثمانَ بنِ عفانَ بنفقات جيش العسرة، وتبرعَ إخوانه من كبار الصحابة بكرائم أموالهم، ولكن قلَّ من يعلم منهم أن من أحداث الجهاد الإسلامي الأعظم في زمن التابعين تَبَرُّعَ أمثالِ هذا البدوِي النبيلِ القابع في نجعه، المنزوي بين الحمات في الصحراء بكل ما يملك من خيلٍ وإبلٍ ومواشيَ وأموال، بل تبرعه بدمه وبأهله في سبيل الله.(1/166)
وهذا البدوي المجاهد، وكل عربي تقدم للجهاد معه أو قبله أو بعده، كانوا يعرفون فرق ما بين شمس باديتهم الساطعة الضاحية، وبين جو القسطنطينية التي كان يتجمد ماءُ خليجها في بعض السنين من شدة البرد؛ فتسير الخيول، والعربات، والناس على مائه المتجمد.
ومع ذلك فإن هذه الطبيعة بقسوتها وشدتها لم تستطع أن تصد أبناء البادية، ولا أهل الرفاهة من وجوه أبناء العواصم وفي مقدمتها دمشق عن أن يقدموا أنفسهم ودماءهم في سبيل إعلاء كلمة الحق والخير، تحت كل سماء، وفي دائرة كل أفق؛ لأنهم يرون أن الله الذي أنبتهم فأحسن نباتهم، إنما أكرمهم بالجهاد؛ ليحصدهم في سبيله فيحسن حصادهم.
هذه الأخلاق التي كان عليها المجاهدون الأولون هي التي تمكنوا بها من إسعاد البشر بالإسلام فيما بين نهر الغانج، وجبال الأطلس وتخوم البيرنيه في عشرات قليلة من السنين.
وبتلك الدماء الطاهرة سقى العرب تربة الدنيا، فأينعت بها ثمرات الإسلام.
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
33_ الله أكبر: مصطفى صادق الرافعي
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد
35_ العلماء والإصلاح: للشيخ محمد الخضر حسين
دمعة على الإسلام (1) لمصطفى لطفي المنفلوطي
كتب إليَّ أحدُ علماءِ الهند كتاباً يقول فيه: إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة (التاميل)، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس... موضوعه: (تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكر مناقبه وكراماته).
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الموضوعة الكاملة ص311_316.(1/167)
فرأى فيه من الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبدالقادر، ولقبه بها صفاتٍ وألقاباً هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة؛ فضلاً عن مقام الولاية كقوله: =سيد السموات والأرض+ و =النفاع الضرار+ و =المتصرف في الأكوان+ و =المطلع على أسرار الخليقة+ و =محيي الموتى+ و =ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه+ و =أمره من أمر الله+ و =ماحي الذنوب+ و =دافع البلاء+ و=الرافع الواضع+ و =صاحب الشريعة+ و =صاحب الوجود التام+ إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب !
ويقول الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: =أول ما يجب على الزائر: يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة.. وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول:
= يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي، أغثني يا محي الدين عبدالقادر، أغثني يا ولي عبدالقادر، أغثني يا سلطان عبدالقادر، أغثني يا بادشاه عبدالقادر، أغثني يا خوجة عبدالقادر+.
=يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبدالقادر الجيلاني، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة+.
ويقول الكاتب _ أيضاً _: إن في بلدة (ناقور) في الهند قبراً يسمى =شاه الحميد+، وهو أحد أولاد السيد عبدالقادر _ كما يزعمون _ وإن الهنود يسجدون بين ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزار السيد عبدالقادر.. فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد والملجأ الذي يلجؤون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون على خدمته وسدنته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعاً لصاروا أغنياء.(1/168)
هذا ما كتبه إليَّ ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصر مما حولي شيئاً؛ حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعد ما عرفوه، ووضعوه بعد ما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها.
أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع، فلا تريقها أمام هذا المنظر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركَّع سجَّد على أعتاب قبر ربما كان بينهم مَنْ هو خير مِنْ ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته؟!
أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعاً حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله؛ وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات ؟!
لِمَ يَنْقِمُ المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك المُوجِدَةَ وذلك الضغن؟ وعلام يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم، وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟!
يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل، فيتأولون فيه ويقولون: إن الثلاثة في حكم الواحد، أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث لا يشعرون !.(1/169)
كثيراً ما يضمر الإنسان في نفسه أمراً وهو لا يشعر به، وكثيراً ما تشتمل نفسه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها، ولا أرى مثلاً أقرب من المسلمين الذين يلتجؤون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور، ويتضرعون إليهم تضرعهم للإله المعبود؛ فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم، وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وإن أكبر مظهر لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد: ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفُهم قويَّهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل، وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده غيرها سلطانه(1): قف مكانك، ولا تَغْلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا إله إلا الله.
هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى فقد ذلت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حَمِيَّتُهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم؛ فأصبحوا من الخاسرين.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إذا جاوز حد غير سلطانه...(م).(1/170)
والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: =أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات+.
إن الله أغير على نفسه من أن يسعد أقواماً يزدرونه، ويحقرونه، ويتخذونه وراءهم ظهرياً، فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.
بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة الفادحة ؟ أأدعو علماء مصر وهم الذين يتهافتون على =يوم الكنيسة(1)+ تهافت الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام؛ ليحيوا أبا الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية! أم علماء العجم وهم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام، أم علماء الهند وبينهم أمثال مؤلف هذا الكتاب؟
يا قادة الأمة ورؤساءها، عَذَرْنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إن العامي أقصر نظراً، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرؤون صفاتِه ونعوتَه، وتفهمون معنى قوله _تعالى_: [قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ](النمل: 65)، وقوله مخاطباً نبيه: [قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً](الأعراف: 188)، وقوله [ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى](الأنفال: 17).
إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم:
__________
(1) يومٌ يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي؛ للتبرك بكنس ترابه.(1/171)
وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً، أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر النبي " أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هَم؟ وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله، وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟
وهل تعلمون أن النبي " حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثاً ولعباً؟ أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟
وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور، ما دام كل منها يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟
والله ما جهلتم من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة؛ فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.
الله أكبر(1) لمصطفى صادق الرافعي
جلستُ وقد مضى هزيعٌ من الليل، أهَيِّئ في نفسي بِناء قصة أُديرُها على فتىً كما أحَبَّ.. خبيث داعر، وفتاة كما أحبَّتْ.. عذراءَ مُتَمَاجِنة، كلاهما قد درس وتخرَّج في ثلاثة معاهد: المدرسة، والروايات الغرامية، والسِّيما، وهو مصري مسلم، وهي مصرية مسيحية، وللفتى هِنَاتٌ وسيئاتٌ لا يتنزَّه ولا يتورَّع، وهو من شبابه كالماء يغلي، ومن أناقته بحيث لم يبْقَ إلا أن تَلْحَقَه تاءُ التأنيث، وقد تشعَّبتْ به فنون هذه المدنية، فرفع الله يده عن قلبه لا يُبالي في أيّ أوْديتها هلَكَ، وهو طِلْبُ نساء، دأبُه التَّجوالُ في طُرقهنّ، يتْبَعُهنَّ ويتعرض لهنّ، وقد ألِفَتْه الطرق حتى لو تكلَّمتْ لقالت: هذا ضرْبٌ عجيبٌ من عربات الكنس...!
__________
(1) وحي القلم 1/314 كتبها في الأسبوع الأخير من رمضان.(1/172)
وللفتاة تبرُّجٌ وتهتك، يعبثُ بها العبثُ نفسه، وقد أخرجتْها فنونُ هذا التأنث الأوربي القائم على فلسفة الغريزة، وما يسمّونه (الأدب المكشوف) كما يصوِّره أولئك الكتَّابُ الذين نقلوا إلى الإنسانية فلسفة الشهوات الحرَّة عن البهائم الحرَّة، فهي تبْرُزُ حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال، وتظهرُ حين تظهر، مصوَّرة لا بتلوين نفسها مما يجوز وما لا يجوز، ولكن بتلوين مرآتها مما يُعْجِبُ وما لا يُعجب.
وكِلا اثنيهما لا يُقيم وزناً للدين، والمسلم والمسيحيُّ منهما هو الاسمُ وحده؛ إذ كان مِن وَضْع الوالدين.
والدِّين حرِّية القيد لا حرية الحرية، فأنت بعد أن تُقيِّدَ رذائلك وضراوتِك وشرَّك وحيوانيتك _ أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتْكَ الأرضُ والسماء والفكرُ؛ لأنك من بعد هذا مكمِّلٌ للإنسانيَّة، مستقيمٌ على طريقتها.
ولكن هبْ حماراً تفلْسَفَ وأراد أن يكون حرّاً بعقله الحماري، أي تقرير المذهب الفلسفي الحماريّ في الأدب؛ فهذا إنما يبتغي إطلاقَ حريته، أي تسليطَ حِماريَّتِه الكاملة على كل ما يتصل به من الوجود.
وتمضي قصَّتي في أساليبَ مختلفة تمْتَحِنُ بها فنونُ هذه الفتاة شهوات هذا الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولا تزال تمنعه من حيث لا تردُّه، وما ذلك من فضيلة ولا امتناع، ولكنها غريزة الأنوثة في الاستمتاع بسُلطانها، وإثباتها للرجل أن المرأة هي قوة الانتظار، وقوَّة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعةَ أشهرٍ في جوفها، تمسكُ رغبتَها في نفسها مدَّةَ حملٍ فكريٍّ إذا هي أرادت الحياة لرغبتها؛ ليكون لوقوعها وتحقُّقها مثل الميلاد المُفرح.(1/173)
ولكنَّ الميلادَ في قصتي لا يكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها؛ فإن المرأة في رأيي ولو كانت حياتُها محدودةً من جهاتها الأربع بكبائر الإثم والفاحشة _ لا يزال فيها من وراء هذه الحدود كلِّها قلبٌ طبيعتُه الأمومةُ، أي الاتصال بمصدر الخلق، أي كلُّ فضائل العقيدة والدين، وما هو إلا أن يتنبه هذا القلبُ بحادث يتَّصل به فيبلغُ منه، حتَّى تتحوَّلَ المرأةُ تحوُّلَ الأرض من فصلها المقشعرِّ المجدب، إلى فصلها النَّضِر الأخضر.
ففي قصتي تُذْعِنُ الفتاة لصاحبها في يوم قد اعترتْها فيه مخافةٌ، ونزلَ بها همٌّ، وكادتْها الحياةُ من كيدها، فكانت ضعيفةَ النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة، وتخلو بالفتى وفكرُها منصرفٌ إلى مصدرِ الغيبِ، مؤمِّلٌ في رحمةِ الله، ويَخْلِبُها الشابُّ خلابةَ رُعُونته وحبِّه ولسانه، فيعطيها الألفاظَ كلَّها فارغةً من المعاني، ويقرُّ بالزواج وهو منطوٍ على الطَّلاق بعد ساعة، فإذا أوشكت الفتاة أن تُصْرعَ تلك الصرعة دوَّى في الجوّ صوتُ المؤذن: =الله أكبر+.
وتُلسعُ الفتاةُ في قلبها، وتتصلُ بهذا القلب رُوحانيةُ الكلمة، فتقعُ الحياةُ السماويةُ في الحياة الأرضية، وتنتبه العذراء إلى أن الله يشْهَدُ عارَها، ويَفْجؤها أنها مُقْدمةٌ على أن تُفْسِدَ من نفسها ما لا يُصلحه المستحيلُ فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتاة الطاهرة من نفسها إلى جسمِ بغيٍّ ليستْ هي تلك التي هي، وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسق ليس هو ذاك الذي هو، ويَحْكي لها المكانُ في قلبها المفطور على الأمومة _ حكايةً تَثُور منها وتشمئزّ، ويصرُخُ الطفلُ المسكينُ صرختَه في أذنها قبل أن يُولد ويُلقى في الشارع...!
الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها، ولا من صوته ولا من خسَّتِه، كأنما تُفرغُ السماءُ فيه مِلءَ سحابةٍ على رجسِ قلبها؛ فتُنْقيه حتى ليس به ذرَّةٌ من دَنَسِه الذي ركِبَه الساعة.(1/174)
كان لصاحبها في حسِّ أعصابها ذلك الصوتُ الأسود، المنطفئ، المبهَم، المتَلَجلجُ مما فيه من قوَّةِ شهواته، للمؤذِّنِ صوتٌ آخر في روحها، صوتٌ أحمر، مشتعلٌ كمعمعةِ الحريق، مُجلْجِلٌ كالرعد، واضح كالحقيقة فيه قوَّةُ الله.
سمعتْ صوتَ السلسلة وقعْقَعتَها تُلوى وتُشدُّ عليها، ثم سمعتْ صوتَ السلسلة بعينها يُكسرُ حديدُها ويتحطَّم.
كانت طهارتُها تختنقُ فنفذتْ إليها النَّسمات، وطارتْ الحمامة حين دعاها صوتُ الجو بعد أن كانت أسفَّتْ حين دعاها صوتُ الأرض، طارت الحمامة؛ لأنَّ الطبيعةَ التفتتْ فيها لفتةً أخرى.
ويُكرِّرُ المؤذِّنُ في ختامِ أذانه: =الله أكبرُ الله أكبر!+ فإذا...
وتبلَّدَ خاطري، فوقفتُ في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدرِ كيف يكون جوابُ =إذا...+ فتركتُ فكري يعمل عملَه كما تُلْهمه الواعيةُ الباطنة، ونِمْتُ...
ورأيتُ في نومي أنِّي أدخل المسجدَ لصلاة العيد وهو يعُجُّ بتكبير المصلين: =الله أكبر الله أكبر!+ ولهم هديرٌ كهدير البحر في تلاطُمِه، وأرى المسجدَ قد غصَّ بالناس فاتَّصلوا وتلاحموا، تجدُ الصفَّ منهم على استوائه كما تجد السطرَ في الكتاب: ممدوداً محتبكاً ينتظمه وضعٌ واحد، وأراهم تتابعوا صفّاً وراء صف، ونَسَقاً على نَسَق، فالمسجد بهم كالسُنْبُلة مُلئتْ حباً ما بين أولها وآخرها، كلُّ حبَّةٍ هي في لِفٍّ من أهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حبَّةٌ واحدةٌ تُميِّزُها السنبلة فضلَ تمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل.(1/175)
وأقف متحيِّراً مُتلدِّداً ألتفت ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلُصُ إلى موضعٍ أجلس فيه، ثم أمضي أتخطَّى الرِّقابَ أطمعُ في فُرجة أقتحمها وما تنفرج حتى أنتهي إلى الصف الأول، وأنظرُ إلى جانب المحراب شيخاً بادِناً يملأ موضعَ رَجلين، وقد نفحَ منه ريح المسك، وهو في ثيابٍ من سندسٍ خُضر، فلما حاذيته جمعَ نفسَه وانكمش، فكأنما هو يُطوى طيّاً، ورأيتُ مكاناً وسِعني، فحططتُ فيه إلى جانبه، وأنا أعجبُ للرجل ضاقَ ولم أضيِّق عليه، وأين ذهبَ نصفُه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زِيَماً على زِيَم(1)، وامتلاءً على امتلاء.
وجعلتُ أحدسُ عليه ظني، فوقع في نفسي أنه ملَكٌ من ملائكة الله قد تمثَّل في الصورة الآدمية؛ فاكتتم فيها لأمر من الأمر.
وضجَّ الناس: =الله أكبرُ الله أكبر!+ في صوتٍ تقشعرُّ منه جلود الذين يخشونَ ربهم، غيرَ أنَّ الناسَ مما ألِفوا الكلمةَ ومما جهلوا من معناها _ لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام.
أما الذي إلى جانبي فكان ينتفضُ لها انتفاضةً رجَّتْنِي معه رجّاً، إذ كنت ملتصقاً به مُناكِباً له، وكأن المسجد في نفْضِه إيَّانا كان قطاراً يجري بنا في سرعة السحاب، فكلُّ ما فيه يرتجُّ ويهتزّ، ورأيتُ صاحبي يذهل عن نفسه، ويتلألأُ على وجهِه نورٌ لكل تكبيرةٍ، كأنَّ هناك مصباحاً لا يزال ينطفئ ويشتعل، فقطعتُ الرأيَ أنه من الملائكة.
ثم أقيمتْ الصلاةُ وكبَّر أهل المسجد، وكنت قرأتُ أنَّ بعضهم صلى خلفَ رجلٍ من عظماءِ النفوس الذين يعرفون الله حقَّ معرفته، قال: فلما كبَّرَ قال: =اللهُ...+ ثم بُهِتَ وبقيَ كأنه جسدٌ ليس به روح من إجلاله الله _تعالى_، ثم قال: =أكبر+ يَعْزِمُ بها عزماً، فظننتُ أنَّ قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره.
قلتُ أنا: أما الذي إلى جانبي، فلما كبَّر مدَّ صوته مدّاً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نوراً لملأ ما بين الفجر والضحى.
__________
(1) أي كتل على كتل، والزيم المتفرق من اللحم.(1/176)
وعرفتُ _ والله _ من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأنِّي لم أدخله من قبل، فكان هذا الجالسُ إلى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحيّ عن معانٍ أدخلتني من الدنيا في دنيا على حِدَة، فما المسجد بناءاً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب، فإنَّ في الحياة أسبابَ الزَّيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلُّها يمحوها المسجد إذ يجمعُ الناسَ مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانيَّة النفس، ولا تدخله إنسانيَّة الإنسان إلا طاهرةً منزَّهة مُسْبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الطُّهْرِ الذي يُسمَّى الوضوء، كأنما يغسلُ الإنسانُ آثارَ الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميع في هذا المسجد استواءاً واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسيَّةٍ واحدة، وليس هذا وحدَه، بل يَخِرُّون إلى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأسٍ ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز، ومن ثَمَّ فليس لِذَاتٍ على ذاتٍ سلطان.
وهل تُحقِّقُ الإنسانيةُ وَحْدَتَها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجدُ العالمُ صوابَه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرةِ الواحدةِ الطاهرةِ المصحِّحةِ لكلِّ ما يزيغُ به الاجتماع، هو فكرٌ واحدٌ لكلِّ الرؤوس، ومن ثَمَّ فهو حلٌّ واحدٌ لكل المشاكل، وكما يُشقُّ النهرُ فتقف الأرضُ عند شاطئه لا تتقدم يُقامُ المسجدُ، فتقف الأرضُ بمعانيها التُّرابيَّةِ خلفَ جدرانه لا تَدْخله.(1/177)
وما حركةٌ في الصلاة إلا أوَّلُها =الله أكبر+ وآخرها =الله أكبر+، ففي ركعتين من كلِّ صلاة إحدى عشرةَ تكبيرةً يجهرُ المصلُّون بها بلسان واحد، وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأي زمام سياسي للجماهير وروحانيَّتها أشدُّ وأوثقُ من زمام هذه الكلمة التي هي أكبرُ ما في الكلام الإنسانيّ؟
ولما قُضيتْ الصلاةُ سلَّمتُ على الملَك وسلَّم علي، ورأيتُه مقبلاً محتفياً، ورأيتُني أتيراً(1) في نفسه، وجالت في رأسي الخواطرُ فتذكرتُ القصةَ التي أريد أن أكتبها، وأن المؤذنَ يكرر في خاتمةِ أذانه: =الله أكبرُ الله أكبر+ فإذا...
وقلت: لأسألنَّه، وما أعظمَ أن يكونَ في مقالتي أسطرٌ يلْهِمها مَلَكٌ من الملائكة! ولم أكدْ أرفعُ وجهي إليه حتى قال:
=... فإذا لطْمَتانِ على وجه الشيطان، فولَّى مدبراً ولم يُعقِّبْ، ووضعتِ الكلمةُ الإلهيَّةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، فلأياً بِلأي ما نَجَت.
إنَّ الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولكنه هو الفولاذ السميكُ الصلبُ الذي تُصفَّحُ به أخلاقُها المدافعة.
الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟ إنها تُنشدُ هذا النشيد:
بينَ الوقتِ والوقتِ من اليوم تدقُّ ساعةُ الإسلام بهذا الرنين: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدقُّ الساعةُ في موضع ليتكلمَ الوقتُ برنينها.
الله أكبرُ! بين ساعات وساعاتٍ من اليوم تُرسلُ الحياةُ في هذه الكلمة نداءها تهتفُ: أيُّها المؤمن! إن كنتَ أصبتَ في الساعات التي مضتْ، فاجتهد للساعات التي تتلو، وإن كنت أخطأتَ، فكفِّرْ وامحُ ساعةً بساعة، الزمن يمحو الزمن، والعملُ يُغيِّرُ العمل، ودقيقةٌ باقيةٌ في العمر هي أملٌ كبير في رحمة الله.
بين ساعات وساعات يتناول المؤمنُ ميزانَ نفسه حين يسمع: الله أكبر، ليعرفَ الصِّحةَ والمرضَ من نيَّتِه، كما يضعُ الطبيبُ لمريضه بين ساعات وساعات ميزانَ الحرارة.
__________
(1) لعلها: أثيراً (م)(1/178)
اليومُ الواحد في طبيعة هذه الأرض عُمْرٌ طويلٌ للشر، تكاد كلُّ دقيقة بِشرِّها تكون يوماً مختوماً بليل أسود، فيجب أن تَقسِمَ الإنسانيةُ يومها بعدد قارَّات الدنيا الخمس؛ لأن يوم الأرض صورةٌ من الأرض، وعند كل قسم: من الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء _ تصحيحُ الإنسانيةُ المؤمنة مُنبِّهةً نفسَها: الله أكبر، الله أكبر!.
بين ساعات وساعات من اليوم يعرِضُ كلُّ مؤمنٍ حسابَه، فيقومُ بين يدي الله ويرفعه إليه، وكيف يكون من لا يزال ينتظر طولَ عمره فيما بين ساعاتٍ وساعاتٍ _ الله أكبر...؟
بين الوقتِ والوقت من النهار والليل تُدوِّي كلمةُ الروح: الله أكبر، ويجيبها الناسُ: الله أكبر؛ ليعتادَ الجماهير كيف يُقادونَ إلى الخير بسهولة، وكيف يحقِّقونَ في الإنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد، فتكون الاستجابة إلى كل نداء اجتماعي مغروسةً في طبيعتهم بغير استكْراه.
النفسُ أسمى من المادة الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرّب، ولا دِيْنَ لمن لا تشمَئِزُّ نفسُه من الدناءة بأَنَفَةٍ طبيعية، وتحمل همومَ الحياة بقوة ثابتة.
لا تضطربوا، هذا هو النظام، لا تنحرفوا، هذا هو النَّهج، لا تتراجعوا، هذا هو النداء، لن يكبرَ عليكم شيء ما دامت كلمتُكم: الله أكبر...!
الأذان(1) للأديب عباس محمود العقاد(2)
__________
(1) داعي السماء بلال مؤذن الرسول للعقاد، ص141.
(2) هو الأديب الكبير عباس بن محمود بن إبراهيم مصطفى العقاد، ولد في اليوم الأول من شهر يوليه سنة 1889م كما تقول شهادة الميلاد التي استخرجها من دار المحفوظات، ولكن والدته تقول إنه ولد في 28 من شهر يونيه، وتقول: إنها سجلت مولده يوم التبليغ عنه لا يوم ميلاده.
نشأ بين والدين كريمين مشهورين بالتقى والصلاح.
وتحمل أسرته اسم العقاد اشتقاقاً من صناعة نَسْجِ الحرير وعَقْدِه _كما يقول هو_.
تلقى العلم في الابتدائية، وعلى أيدي عدد من أساتذة عصره، اشتغل بوظائف الحكومة وبالتدريس بالمدارس الأهلية، ثم استقال من وظائف الحكومة.
اشتهر بالشعر، والكتابة إلا أن شهرته بالكتابة كانت أكثر، له مؤلفات تزيد على الثمانين، وله مقالات كثيرة جداً في العلم، والأدب والسياسة، وكان ذا صبر وجلد، وقوة بأس خصوصاً في الردود، بل كان يشعر بقوة ونشاط في الأيام التي يكتب فيها مقالات، أو ردود تثير ضجة.
يقول صاحبه الأديب طاهر الجبلاوي:=كان يكتب مقالاته وهو مستلقٍ على ظهره بحجرة نومه، وقلت له ذات يوم: إن مقالاتك أحدثت ضجة في الدوائر الوزارية، فالتفت إليَّ باسماً، وقال: ألا يعلمون أني أكتبها وأنا نائم؟+.
ويقول الجبلاوي عنه:=وكان العقاد يتحاشى المسكنات طوال حياته حتى الإسبرين، وأعرف أنه لم يتناول حتى المسكن الخفيف، وقد أجرى عملية جراحية في عينه بغير مخدر+.
وكانت له معارك أدبية، وصولات وجولات مع طه حسين والرافعي وغيرهما، توفي في 12 مارس سنة 1964م، وقد كُتبت عنه كتابات ودراسات عديدة، ومن أظرفها، وأطرفها ما كتبه صديقه طاهر الجبلاوي في كتاب عنوانه =ذكرياتي مع العقاد+.(1/179)
أشبهُ الأشياءِ بالدعوة إلى الصلاة دعوةٌ تكون من معدن الصلاة، وتَنِمُّ على صوت من أصوات الغيب المحجَّب بالأسرار: دعوةٌ حيَّة كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعةِ مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليه.
دعوةٌ تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعد الصلاة، كأنها نبأ جديد.
الله أكبر. الله أكبر.
تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحيَّة التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب؛ لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا، وعوارض الفناء.
المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات.
وتنفرج عنها هدأةُ الليل، فكأنها ظاهرةٌ من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويَخِفُّ لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها إن =الصلاة خير من النوم+.
فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفيَّة بيد محرك الأشياء، وإن الصلاة خير من النوم.
وإذا ودع بها الهاتفُ ضياءَ النهار، واستقبل بها خفايا الليل فهو وَدَاعٌ متجاوبُ الأصداء، كأنه ترجمان تهتف به الأحياء، أو تهمس به في جنح المساء، وكأنه ينشر على الآفاق عظمةَ الله، فتستكين إلى سلام الليل، وظلال الأسر والأحلام.(1/180)
وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار، تُسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل، وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبهُ صياحٍ بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.
حي على الصلاة!
حي على الفلاح!
نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.
وما يُعْرَفُ وقعُ الأذان من شيء كما يُعْرَف مِنْ وقْعِه بمعزل عن العقيدة، ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يُعرف مِنْ وَقْعه في بدائه الأطفال، وبدائه الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام.
ففي الطفولة نسمع الأذان، ولا نفهمه, ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب، وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله، ونصعد إليه، ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا =بأمر الله+ فنكاد نفهم كلمة الأمر، ونكاد نفهم كلمة الله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل.
ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سُمِّيت الحيرة بأسماء بعد أسماء، وأطلق عليها عنوان بعد عنوان.
وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظةً من اللحظات، فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة؛ ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.
إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة، ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.
أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم من شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.(1/181)
يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب =أحوال المُحْدَثين وعاداتهم+: =إن أصوات الأذان أخَّاذة جدَّاً ولاسيما في هدأة الليل+.
يقول جيرار دي نرفال في كتابه سياحة بالمشرق: =إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف، وسألت الترجمان: ماذا يقول هذا الهاتف؟ فقال: إنه ينادي أن لا إله إلا الله، قلت: فماذا يقول بعد هذا؟ فقال: إنه يدعو النيام قائلاً: يا من ينام توكل على الحي الذي لا ينام...+
وأنشأ الكاتب المتصوِّف =لافكاديو هيرن+ Lafcadio Hearn رسالة وجيزة عن المؤذن الأول _ أي بلال بن رباح _ فقال: =إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من إحدى المنائر قلما تفوته خشعةُ الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وهو لا شك يستوعب في قلبه _ إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة _ كلَّ كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة، حيثما أرسل الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية، وفاض بها على النجوم، وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويسمعه قبيل مغيب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنّضَار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزُّمُرُّد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومِضُ مِنْ فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول.
ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنَّعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيراردي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام.(1/182)
عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ].
فإن كان الترجمان ممن يعون طرفاً من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول _ أول من رتل الدعاء إلى الصلاة _ كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم+.
وقد لمسنا نحن آثار الأذان البالغ في رُوْع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه.
فإنهم كانوا يَصِلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والاسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار _ ولاسيما في أيام الجمعة.
وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفاً من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائراً من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان ولكن كما يأتي كل شيء غريب.
وكان من عادات المؤذنين التي لبثوا يعيدونها في شهر رمضان إلى عهد قريب أن يدقوا طبول السحور على المنائر العالية في الهزيع الأخير من الليل؛ فشكا بعض النازلين بالفنادق القريبة من المنارة، وترددوا في تبليغ شكواهم إلى رجال الحكومة؛ لأنهم حسبوا هذه الطبول شعيرة من شعائر الإسلام.(1/183)
فلما سأل عنها بعضُ مثقفيهم وقيل لهم: إنها عادة من عادات البلد، وليست شعيرة من شعائر الدين تقدموا برجائهم وقالوا: إننا لا نشكوا من الأذان؛ لأنه لا يقلقنا، ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم الجميل، ولكننا نقلق من هذه الطبول التي تدق فوق رؤوسنا، وكنا نحتملها لو علمنا أنها شعيرة لا تبديل لها، ولكنا علمنا أنها تبدل في كل بلد إسلامي على حسب عاداته، وأن المدن الكبرى تستبدل بها طبولاً صغيرة تدق على الأبواب: فاسمحوا لنا أن نهدي إلى البلد بعض هذه الطبول.
وكانت هذه الطبول مما يباع في كل موسم للسائحين على أحجام مختلفة؛ لأنها كانت تستخدم في عهد الدراويش بالسودان، إما لجمع الجند أو لتنبيه الغافلين، أو للتوقيع والتنغيم، وكانت ملابس الدراويش وأسلحتهم وأدوات معيشتهم مما يبحث عنه السائحون في أسواق البلدة، فتبرعوا بالطبول الصغيرة فرحين؛ لأنها تنقذهم من قرع الطبول حين يختلط بأصوات المؤذنين، فيقلقهم ويشوِّه عندهم جمال الأذان الخفيف على أسماع النيام.
وقد كانت هذه الطبولُ وشيكةً في بداية الأمر أن تقوم مقام الأذان في دعوة المسلمين إلى الصلاة؛ إذ لم يكن الأذان كما نسمعه اليوم معروفاً قبل انتشار الإسلام في مكة والمدينة، وإنما كان المسلمون طائفة قليلة يدعون إلى الصلاة الجامعة بالنداء الذي يُسمع من قريب، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة فكر المسلمون في دعاء إلى الصلاة يسمعه المنتشرون بالمدينة من بعيد.(1/184)
ومن جملة الروايات التي جاءت في طبقات ابن سعد وغيرها يُفهم أنهم كانوا قبل أن يؤثر بالأذان ينادي منادي النبي _ عليه السلام _ : الصلاة جامعة! فيجتمع الناس، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة تذاكر المسلمون الأمر فذكر بعضهم البوق، وذكر بعضهم الناقوس، وذكر بعضهم ناراً توقد كنار القِرى، ثم تفرقوا على غير رأي ومنهم عبدالله بن زيد الخزرجي، فلما دخل على أهله فقالوا: ألا نعشيك؟ قال: لا أذوق طعاماً؛ فإني قد رأيت رسول الله قد أهمه أمر الصلاة، ونام فرأى أن رجلاً مرَّ وعليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس، فسأله: أتبيع الناقوس؟ فقال: ماذا تريد به؟ قال: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، فأجابه الرجل: بل أحدثك بخير لكم من ذلك، تقول: الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. ونادى الرجل بذلك النداء وهو قائم على سقف المسجد ثم قعد قعدة، ثم نهض، فأقام الصلاة.
فلما استيقظ عبدالله بن زيد من منامه ذهب إلى النبي _ عليه السلام _ فقص عليه ما رأى فقال له: قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك.
وجاء الفاروق بعد ذلك فقصَّ على النبي مناماً يشبه ذلك المنام.
وجرى الأمر في الدعوة إلى الصلاة منذ ذلك اليوم على الأذان كما نسمعه الآن، وزاد بلال في أذان الصبح =الصلاة خير من النوم+ فأقرها النبي _ عليه السلام _ وبقي النداء في الناس بالصلاة الجامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به مثل فتح يقرأ، أو دعوة يُدعون إليها، وإن كان في غير وقت الصلاة.
وقد ندب بلال بن رباح للأذان من لحظته الأولى فلم يُسمع لأحد أذان قبله ولم يسبقه إلى ذلك سابق في تاريخ الإسلام، وهو شرف عظيم؛ لأن محمد ابن عبدالله كان إمام المسجد الذي كان مؤذنه بلال بن رباح.(1/185)
ومن المتفق عليه في أقوال الصحابة أن بلالاً كان محبب الصوت إلى أسماع المسلمين، وأنهم كانوا يقرنون دعوته بصلاة النبي فيزيدهم هذا خشوعاً لسماع صوته فوق خشوع.
على أننا نقرأ في أنباء فتح مكة أن رهطاً من المشركين كانوا ينكرون نداءه ويتساءلون: أما وجد محمد غير هذا العبد ينهق على ظهر الكعبة؟ وكانوا يستكبرون من رجل كائناً من كان أن يعلو ظهر البيت الذي لم يصعد إليه أحد في الجاهلية، فهالهم أن يروا =عبداً+ يصعد إليه ويجهر بذلك النداء.
قال بعضهم للحارث بن هشام: ألا ترى هذا العبد أين يصعد؟ فلجأ الرجل إلى حكمة المضطر وقال: دعه: فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
وكان الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أَسيد جلوساً بفناء الكعبة يوم أمر النبي بلالاً أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيقيم الأذان، فقال عتّاب: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه.
وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، وأنكر أبو سفيان ما سمع، أو قيل في بعض الروايات أنه جمجم قائلاً: لا أقول شيئاً، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.
وقبل أن نحيل هذا الإنكار إلى شيء يؤخذ مأخذ النقد ينبغي أن نذكر أن ذلك الوصف من المشركين كانوا خلقاء أن ينكروا أول أذان يرتفع في سماء مكة ولو ترنمت به الملائكة، وتجاوبت به سواجع الأطيار، وأنهم سمعوه زعيقاً و =نهيقاً+ _ كما قالوا _ لأنهم سمعوا شيئاً لا يطيقونه ولا يستريحون إليه، وكانت بهم عُنْجُهِيَّة السادة في النظر إلى العبيد، وكان لبلال عندهم وَتْرٌ معروف بمن قتل من سادات مكة في غزواته مع النبي _ عليه السلام _.
العلماء والإصلاح(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
نودُّ من صميم قلوبنا أن تكون نهضتُنا المدنيةُ راسخةَ البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة.
__________
(1) رسائل الإصلاح 1/48.(1/186)
ولا يرسخ بناؤها، ويَرُوع طلاؤها، وتُحْمَدُ عاقبتها إلا أن تكون موصولةً بنظم الدين، مصبوغةً بآدابه.
والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدةً في وجهتها، بالغةً غايتَها أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية؛ فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.
ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم، ليميزوا البدعة من السنة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحاً.
ومَنِ الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغراء، وهي بَعْدَ هذا ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفيَ النار لخبث الحديد، يفعلون هذا؛ ليكون الناشئ المسلم نقيَّ الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا عقائدَ خالصةً، وحقائقَ ناصعةً.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً.
وما شاعت المعاملات التي نهى عنها الدين في غير هوادة كالربا والميسر إلا حيث قل من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السراء والضراء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً.
يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم وقال أحد علمائهم:
وأَتْعَبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً ... وغيري إن لم يَتْعَبِ الناس يتعبِ
ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده.(1/187)
ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطُّع أوصاله _ مذاهبُ يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون؛ أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟.
وقد أحس بعضُ أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر بعض النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم.
نحن نعلم أن في كل أمة فئةً يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم.
ولكن نهوضَ العلماء بعزم وحكمة إن لم يسحق آراء زعماء هذه الفئة سحقاً فإنه يكشف عما فيها من سوء؛ فلا يسكن إليها إلا مَنْ هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان.
يَرْقُبُ أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة.
ولا تُعَدُّ هذه المراقبة، وهذا النقد خارجين عن خطة العالِم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه كواجب التعليم والإفتاء.
وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث من المسائل العلمية البحتة _ فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً.
كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبوبكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحيةً من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مالٌ موفَّرٌ يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبدالله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.(1/188)
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودَّاً واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً.
أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يَعْرِفون في طائفة من العلماء رجاحةَ الرأي، وصرامةَ العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء.
وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبدالرحمن بن القاسم في القاهرة.
ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاءاً مبرماً، ويملكه خاطر اليأس حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها.
ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع ويكون قد قرأ التاريخ؛ ليعتبر يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بَلْه اليأس من نجاحها.
وأذكر بهذا أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: =وحدة العالم+ يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدينة(1) واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثوا الناس على المسارعة إلى قبولها.
والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع.
واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة وعقولاً سليمة فتقبلها؛ فحقيق على العلماء أن يبتسموا لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: مدنية. (م)(1/189)
والعالم بحق من يتدرع بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً.
لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات؛ فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقَّاً مهملاً لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته.
أمر السلطان سليم بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن؛ فبلغ هذا النبأ الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متولياً أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرباب التقوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً؛ فعليك بالعفو عنهم، فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي؛ فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم؛ فانكسرت سَوْرَةُ غضبِ السلطان، وعفا عن الجميع.
ومتى كان في الولاة شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص _ نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها.
يكون العالم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده.
أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة _ أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً.
أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخٌ فانٍ، والملتقى قريب، والقاضي الله _ عز وجل _ .
فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله _ عز وجل _ وأمر بنقله من السجن إلى دارٍ اكْتُريت له.(1/190)
وإنما يقوم العالم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه _ متى قَدِرَ مقامَه العلميَّ قَدْرَه، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن.
وهذا الشعور هو الذي يهيئه بعد داعية الغيرة لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يواجهه من أذى.
ومن أدب العلماء أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه.
وكم من عالم قام في وجه الباطل فأوذي، فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله ": =اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون+.
وممن جرى على هذا الخلق المتين أبوبكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب القواصم والعواصم: حكمتُ بين الناس، فألزمتُهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا عليَّ، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي حتى أمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار لكنت قتيل الدار _ يعني بقتيل الدار عثمان ÷.
ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ ولا يصرف عنه وجهه؛ فمن أدب العلماء أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين، فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم، وقبولهم نصائحَهم.
وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه _ فَلأَنَّ سلطانَ الإسلام يومئذ وصوتَ غالبِ الجهلِ عليه خافتٌ.(1/191)
أما اليوم فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تَضُمَّ المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى.
وستنبت المعاهد الإسلامية _ إن شاء الله _ كثيراً من العلماء القوامين على نحو ما وصفناه، ولاسيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية كجامع الزيتونة في تونس وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل في أن تؤتيَ هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة متى نظر إليها أولوا الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تبثه في الأمة من رشد وإصلاح.
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان
37_ تصحيح الكتب: للعلامة أحمد شاكر
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم (1)
لأمير البيان شكيب أرسلان(2)
__________
(1) كتبها الأمير شكيب في روما في 8مارس سنة 1926م، وهي في كتاب: تحت راية القرآن _ المعركة بين القديم والجديد للرافعي، ضبطها وصححها محمد سعيد العريان ص87_96.
(2) هو شكيب بن حمود بن حسن بن يونس أرسلان.
ومعنى شكيب بالفارسية: الصابر، ومعنى أرسلان بالفارسية والتركية: الأسد.
ولد عام 1286هـ، 1869م، وتوفي 1366هـ، 1946م.
وهو من سلالة التنوخيين ملوك الحيرة، وهو من طائفة الدروز اللبنانية، ولكنه _كما يقول د. أحمد الشرباصي_: كان سنياً وإن انتسب سياسياً أو إدارياً إلى الدروز، وكان يتعبد على طريقة أهل السنة، فهو يصوم، ويصلي، ويحج كما يفعل جمهور المسلمين.
ويقول الشرباصي: وقد أكدت لي زوجته هذه الحقيقة، وقالت: =إن الدروز يُحَرِّمون الزواج من سنية، ولكنه تزوجني، وأنا سنية مسلمة؛ فسبب هذا الوضع متاعب لشكيب+.
وكان× ذا غيرة على الإسلام، وذا قلم سيَّال، وكان عالماً بالأدب، والسياسة والتاريخ، ويُنعت بأمير البيان، وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي، ولد في الشويفات بلبنان، وتعلم في مدرسة دار الحكمة ببيروت، وعُيِّن مديراً للشويفات سنتين، فقائم مقام في الشوف ثلاث سنوات، وأقام بمصر مدة، وسكن دمشق، ثم برلين، وانتقل إلى جنيف بسويسرا، فأقام بها نحو 25عاماً، وعاد إلى بيروت، فتوفي فيها، ودُفن بالشويفات.
عالج السياسة الإسلامية من قَبْل انهيار الدولة العثمانية، وكان من أشد المتحمسين من أنصارها، واضطلع بعد ذلك بالقضايا العربية، وقام بسياحات كثيرة في أوربا وبلاد العرب، وزار أمريكا سنة 1928م، وبلاد الأندلس 1930م، وهو في حلِّه وترحاله لا يدع فرصة إلا كتب فيها مقالاً أو بحثاً.
=(1/192)
لا أريد أن أناقش أحداً ولا أن أسمي أشخاصاً ولا أن أحمل على باحث أديب بتجهيل، وإنما أُلمح من خلال الكتابات التي يجود بها بعضُ أدباء الوقت منزعاً، إن كان في حد ذاته محموداً فقد ينقلب في إساءة استعماله مذموماً، ويصير ضلالاً.
ولع بعض الأدباء(1) باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا وسلوكِ طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون؛ ارتياداً لوجوه جديدة، وأسبابٍ للحوادث لم تكن معروفة، بحيث يُقال: إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم، أو عرفوا أسراراً أعماها التاريخ الديني أو عَمّتْها السياسةُ وأهواؤها على الجمهور، ويسمون ذلك تحقيقاً وتمحيصاً، ويظنون أن التمحيصَ والتحقيقَ هما بمجرد المخالفة، والخروج عمَّا عليه الرأيُ العام.
والحقيقة أنه إن كان مقصدُهم مجردَ المخالفة، وتغيير الأسلوب؛ لعدم الصبر على طعام واحد _ فقد أصابوا الغرض.
__________
(1) جاء في رسالة بعث فيها إلى صديقه السيد هاشم الأتاسي عام 1935م أنه أحصى ما كتبه في ذلك العام فكان 1781رسالة خاصة و176مقالة في الجرائد، و1100صفحة كتبت وطبعت، ثم قال: =وهذا محصول قلمي كلَّ سنة+.
وكان ذا علاقات واسعة مع كثير من المصلحين، والعلماء، والقادة، وكان له تصانيف، منها =الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية طبعت ثلاثة مجلدات منه، وهو في عشرة+، و=غزوات العرب في فرنسا وشمالي إيطالية وفي نويره_ط+، و=لماذا تأخر المسلمون_ط+، و=الارتسامات اللطاف_ط+ وهذا الكتاب يدور حول وصف رحلته إلى الحجاز وأدائه فريضة الحج سنة 1354هـ، و=شوقي وصداقة أربعين سنة+، و=السيد رشيد رضا وأخبار أربعين سنة+، وله نظم جيد نُشر منه الباكورة _ط، مما نظمه في صباه، وديوان الأمير شكيب مما نظمه بعد الأول.
وكان يُجيد الفرنسية، والتركية، وله إلمام بالإنجليزية والألمانية.
انظر الأعلام للزركلي 3/251_252، وشكيب أرسلان للشيخ د. أحمد الشرباصي ص51_52.
( ) يشير الأمير إلى طه حسين.(1/193)
ولكن إن كانوا يزعمون أن هذه التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيَهم من التصديق؛ لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية، وملاحظة ما سبق وما لحق، واستنباطِ النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصاتٍ وافتراضاتٍ وأبنيةً على غير أساس.
فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق؛ لأجل الإتيان بالبدع، ويجلُّ علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص، ولكن نبَّه المدققون منهم على أنهم خلطوا.
فعندما يقوم واحد، فيذهب إلى أن تاريخَ حربِ اليمامة محاطٌ بالغموض، وأن مُقاتلة أبي بكر لأهل الردة لم تكن من أجل إقامة الدين، بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل _ نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين، فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحاً؛ فلم يُصِبِ المرمى.
وعندما يقومُ آخر فيدَّعي أنَّ السلفَ في صدرِ الإسلام وضعوا =سانسورا+(1) على الشعر الجاهلي المُشْرَبِ مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية _ نعلم أنَّ هذه الدعوى مبنية على الافتراض والتخيُّل، وأنها لا تستند على دليلٍ، بل الواقع يُناقضها من كلِّ الجهات.
أعجبتني جداً عبارة الذي ردَّ على هذه الفئة(2) فقال لهم =مَنْ مِنْ ملوك المسلمين وحكامهم أمر بوأد الوثني واليهودي والنصراني ومحوه؟ ومَنْ مِن أعوان هؤلاء الحكام تولَّى ذلك؟ وكيف كانت طريقةُ المحو؟ وهل كُتب لها النجاح في كلِّ بلادِ الإسلام؟ ...إلخ+.
__________
(1) كأنها كلمة فرنسية، ولعل معناها: الغطاء، أو الساتر أو الرقابة، كما يفهم من سياق الكلام.(م)
(2) يشير إلى مقالة الأستاذ عباس فضلي.(1/194)
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلةَ لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئاً من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر، ومِن كون بابها بقي مفتوحاً على مصراعيه، ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف =السانسور+ ولا مراقبة الرواية، ولا كمَّ الأفواه، ولا شيئاً من أوضاع =ديوان التفتيش+.
وإذا تأملتَ في كلامِ هذه الفرقةِ رأيتهم يشيرون من طرف خفي إلى نزول درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها لا تمس الحياة إلا قليلاً، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إنْ هي إلا من أوضاع الهيئات الاجتماعية المتمدينة التي استبحر فيها العمران وتأثَّلَ الملك، وأن =السانسور+ لا يأتي مع بداوة المجتمع، ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها النبي " والصحابة _ رضوان الله عليهم _.
فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوكٍ فاتحين كلويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم نابليون الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم.
فأما القولُ بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحضُ تحكمٍ ومكابرة.
نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد" ولكن حماستهم هذه لم تَقْلَعْ ما في قلوبهم من حبِّ الحرية التي نشأوا عليها في الجاهلية، والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمةٌ بلغت شَأْوَ العرب فيها.(1/195)
ومن قال: =إن العرب أعرق الأمم في الحرية+ فغير مبالغ؛ لهذا تجدهم رووا بألسنتهم، وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي " وصحْبِه، ولم يُخْفوا منها قليلاً ولا كثيراً، ونقلوا الشُبَهَ والاعتراضات التي كانت تقع على الرسول ورهطه، وذكروا كثيراً مما كان يردُّ به بعض العرب على رسول الله " وكيف أنَّ اثنين تخاصما إليه، فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه:=هذا حكم لم يُرد به وجه الله+، فقال _ عليه الصلاة والسلام _:=أوذيَ موسى من قبلي بأكثر من هذا+.
وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون، وحرره الكتبة المسلمون، وأقرأه العلماء المسلمون.
ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت؛ لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنةً بالإيمان، وكانت سيرة النبي " معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى =السانسور+ دَرْءاً للشبهات عنها، وخوفاً من أن يُفضي تداول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ جاء بها صاحبها " إلى اليوم على شفا جرف هار.
إن الإسلامَ مولودٌ رُزِقَ الصحةَ، ووثاقةَ التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون(1) أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار و=لبني النجار+ وفي تلك الأيام كان يُعاتَبُ الرسولُ ويُقال له:
ما كان ضَرَّكَ لو عَفَوتَ فربما
?
?
منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَقُ
في أيام السلف كان يُنادي الأخطل:
ولستُ بصائمٍ رمضانَ عُمري
?
?
ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي
??
?ولستُ بقائلٍ ما عشتُ يوماً
?
?
قُبيلَ الصبحِ: =حيَّ على الفلاحِ+
كان يقولُ هذا ويدخلُ على الخلفاء، ويُجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم، ويُعلنونه في أشعارهم التي كانَ يرويها المسلمون، ويُقيِّدونها في دفاترهم.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: يرددون. (م)(1/196)
ولمَّا جاءَ الملكَ النعمانَ بن المنذر رجلٌ نصراني في اليوم الذي كان عنده يومَ بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصرانيُّ مُهلةً أن يذهبَ ويودِّعَ أهله، فأذن له، على أن يقدِّم كفيلاً يحل محله في القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: ما حملك على هذا الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية، وتنصَّرَ النعمان بعد ذلك.
فكانت هذه الرواية مما حرَّره المسلمون ولم يغمطوا النصرانية حقَّها، ولا غمطوا اليهودية _ أيضاً _ حقَّها.
وأجمع العرب المسلمون على نقل مآثر السموأل، وكان السموأل يهودياً، ومازال السموأل مَضْرِباً للأمثال في علوِّ النفسِ وكرمِ السجية إلى يومنا هذا، حتَّى قال شوقي _شاعر العصر_ منذ أيام قلائل(1):
كأنَّ من السموأل فيه شيئاً
?
?
فكلُّ جهاته كرمٌ وخُلْقُ
فكيفَ يكون المسلمون الأوائل حاولوا خنقَ كلِّ صوتٍ غيرِ صوتهم، ومحوا آثارَ النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟
ثم إنَّ شعرَ شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين، وما منهم إلا من حرص علماء الإسلام على التنبيه أنَّه كان نصرانياً، وقد نقلوا خطب قس ابن ساعدة الذي كان مُطراناً، ونقلوا ثناء النبي" عليه.
وأما كون ديوان شعراء النصرانية المطبوع في بيروت موضوعاً، وأنَّ الشعراءَ المرويةَ أشعارُهم فيه لم يكونوا نصارى، بل جعلهم صاحب الديوان نصارى وهم جاهليون لا غير _ فمن يقول هذا؟ ومن يصل به المراء إلى إنكار أن أكثر أولئك الشعراء كانوا نصارى؟ غاية ما يُقال: إنَّ بعض أولئك الشعراء لم تثبت نصرانيتهم، وهذا لا ينفي أنَّ شعراء كثيرين مثل العبادي، والأخطل، والقطامي كانوا نصارى مجمعاً على نصرانيتهم، وأنَّ المسلمين نقلوا أشعارهم كما هي ولم يحذفوا منها شيئاً، وكان شعراء المسلمين يناقشونهم ويداعبونهم، وكان جرير يقول:
__________
(1) كتبها الأمير في سنة 1926، وقد توفي شوقي× سنة 1932.(1/197)
قال الأُخيطلُ أن رأى راياتهم
?
?
يا مارِسرجس لا نريد قتالا
فالقول بأن النبي" وأصحابه لم يبقوا على أي نزعة تخالف دين الإسلام، وأنهم طووا شعر النصارى واليهود والمشركين _ محضُ تحكمٍ لم يقم عليه أدنى دليل، بل قام الدليل على حرية الإسلام.
ونقل رواة المسلمين ليس شعر النصارى واليهود والمشركين فقط، بل أهاجيَ كثيرةً قالها هؤلاء في النبي وأصحابه وأنصاره.
وأما عدم حرمة النبي" والصحابة للشعر وقولهم إن روايته ضلال فهذا زعم باطل مخالف للإجماع، فقد روى النبي" الشعر(1) واستحسنه وقال: =إنَّ من الشعر لحكمة+ ورواه عمر وعلي وسائر الصحابة، وتناشدوه، وطربوا له وكان فكاهة مجالسهم، وقصة كعب بن زهير مع رسول الله " وإنشاده إياه =بانت سعاد+ واهتزاز النبي لهذه القصيدة وإنعامه على كعب ببُردته الشريفة _ كلُّ ذلك لا يحتاج إلى بيان.
ولكنَّ الشعر كسائر الأشياء إذا أسيء استعماله انقلب إلى الضرر، وإذا كان وقعَ من عمر ÷ _ وهو من أبصر الناس بنقد الشعر وأشدهم اهتزازاً لجيده _ تضييقٌ على الشعراء، فيكون في المواطن التي أسيء فيها استعمال الشعر، وصار باباً للمشاحنات والفتن.
وكما أنَّ للخليفة طبيعةً ينفش بها إلى الأدب، ويعجب بسحر البيان فإنَّ عليه واجباً هو حماية الأعراض، وحفظ السلام.
وأما إزراء الشعراء بالعلماء، وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه، والتعوذ منه فهو من باب التورُّع من بعض الفقهاء، وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة، وغلواً، وعبثاً، فأشفقوا من أن يؤثِّرَ الاعتمادُ عليه في أخلاقِ النشء، ويصرفهم عن العبادة.
__________
(1) كان ينشد الشعر فلا يقيم وزنه؛ وقد بينا حكمة ذلك في كتابنا =إعجاز القرآن والبلاغة النبوية+ ولكنه يستنشد الشعر كثيراً (الرافعي).(1/198)
ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم، ولا حَمَلَ الخلفاء والسلاطين على منع قرضِ الشعرِ وروايته والتأدبِ به، وذلك كما أنَّ نصرانية الأخطل والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم، وحفظها والتأدب بها، وأن وثنيةَ أكثرِ شعراء الجاهلية لم تَحُلْ دونَ انطباع طلاب الفصاحة من المسلمين بأساليبهم، ونسْجهم على منوالهم.
ومَنْ مِنْ العلماء والمؤرخين المحققين يقدر أن يقول إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية، وأهملوا روايته؛ من أجل أن قائليه كانوا مشركين؟ أو أن المسلمين طووا كلام قس بن ساعدة، لأنه كان نصرانياً؟ أو لم يعجبوا بقصيدة =إذا المرء لم يَدنس من اللؤم عرضه+ لأن صاحبها كان يهودياً؟ من يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟
وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد بسذاجة الدَّور الأول، وميلِ هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخافَ الخلفاء ووزراءَهم على العقيدة الدينية، وحَفَزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوربة في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة.
وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين، ومَنْ في عصرهم من ملوكِ الإسلام _ فقد كان الناس يروون أهاجيهم، ومثالبهم، ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم.
وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيكَ الأيام برغم الضبط والمراقبة، ودُوِّنتْ أقوال الملحدين والدهريين.
ورُويتْ أشعارُ المعرِّي ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل قوله:
وقوم أتوا من أقاصي البلاد
?
?
لرمي الجمارِ ولثمِ الحجر(1/199)
وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلتْ إلينا، ولولا أنها تُدوِّلت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلتْ إلينا، ولو كان هناك =سانسور+ ما أبقى على رسالة الغفران.
وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من العقيدة الإسلامية، وبلغَ المأمون ذلك فقال ما معناه، ما كان أغنى ابن عمِّنا عن تعريض دينه للطعن!
ولا أنفي _ مع ذلك _ أنَّ الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر _أحياناً_ على الفلسفة التي يُراد منها التعطيلُ أو الإلحاد، ويُسمونها الزندقة.
فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين، ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة، ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
فيا إخواننا إنَّ التاريخ لا يكون بالظن، وإنَّ الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، وهذا نتفٌ من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدينا الآن كتب لأحلناكم على شواهد لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تُصرُّون على المخالفة؛ لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما يُنقصها، وبدلاً من أن يضعَ العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت.
تصحيح الكتب(1) للعلامة الشيخ أحمد محمد شاكر(2)
__________
(1) مجلة الهدي النبوي، العدد17، ص 21_ 26، شعبان 1357هـ.
(2) هو الشيخ العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر ولد سنة 1307هـ وتوفي سنة 1377هـ.
كان أبوه الشيخ محمد شاكر× أميناً للفتوى في مصر، ثم صدر الأمر بإسناده منصب قاضي قضاة السودان في 10/11/1317هـ، فذهب إلى هناك، وألحق ولده أحمد بكلية غودون، فبقي تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية عام 1904م فألحق ولده بمعهد الإسكندرية الذي يتولى.
كان الشيخ أحمد منذ أن عقل محباً للأدب والشعر، ثم انصرف بعد ذلك إلى دراسة علم الحديث، منذ عام 1909م، ولكنه لم ينقطع عن قراءة الآداب حديثها وقديمها.
وكان لوالده أعظم الأثر في دراسة علم الحديث، ولما انتقل والده إلى القاهرة وكيلاً لمشيخة الأزهر _ التحق أحمد بالأزهر؛ فكانت إقامته بالقاهرة بداية عهد جديد في حياته، حيث اتصل بكثير من العلماء والرجال، وعرف الطريق إلى دور الكتب في المساجد وغيرها.
وكانت القاهرة يومئذٍ مستزاداً لعلماء البلاد الإسلامية؛ فكان ذلك سبباً للقائه بكثير من العلماء والأخذ عنهم.
ومن هؤلاء السيد عبدالله بن إدريس السنوسي عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة، ومنهم محمد بن الأمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة.
ولقي غير هؤلاء أحمد بن الشمس الشنقيطي عالم القبائل الملثمة، ولقي الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ محمد رشيد رضا، ولقي كثيراً غير هؤلاء من علماء السنة.
=(1/200)
تصحيح الكتب، وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرها تبعة، ولقد صوَّر أبوعمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير، في كتاب (الحيوان) فقال (ج1، ص79 من طبعة أولاد السيد مصطفى الحلبي بمصر): =ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حرِّ اللفظ، وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص؛ حتى يرده إلى موضعه من أمثلة الكلام؛ فكيف يطيق ذلك المعارض المستأجر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب؟ وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسد، وزاد الصالح صلاحاً، ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر، فيسير فيه الورَّاق الثاني سيرة الورَّاق الأول. (1)
__________
(1) وهذا اللقاء المتتابع للعلماء هو الذي مهد لهذا العالم أن يستقل بمذهب في علم الحديث حتى استطاع أن يقف في منتصف القرن الرابع عشر علماً مشهوراً لا ينازعه في إمامة التحديث إلا قليل.
ولما حاز الشهادة العالمية من الأزهر سنة 1917م عين مدرساً بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق فيها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفاً قضائياً، ثم قاضياً، وظل في القضاء مدة ثلاثين سنة حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951م عضواً بالمحكمة العليا.
ولكنه لم ينقطع خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي في الحديث والفقه والأدب.
وكان× ينشر مقالات نفيسة في مجلة (الهدي النبوي) بدءاً من المجلد الخامس عشر حينما كان رئيساً لتحريرها، وذلك تحت عنوان (كلمة الحق).
كما كان ينشر مقالات أخرى في الإرشاد، والنقد، والإصلاح، والأخلاق.
خلف × آثاراً عظيمة في الحديث والفقه والأدب ولعل أبرزها تحقيقه للمسند، وإخراج كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة، ولباب الآداب لأسامة بن منقذ وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره.
انظر مقدمة الأستاذ عبدالسلام هارون، وترجمة الأستاذ محمود شاكر لأخيه أحمد _ رحمهم الله _ وذلك في مقدمة كتاب (كلمة الحق).(1/201)
ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غلطاً صرفاً وكذباً مصمتاً؛ فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتاب متقادم الميلاد، دهريُّ الصنعة+.
وقال الأخفش: =لو نُسخ الكتاب، ولم يعارض، ثم نُسخ ولم يعارض خرج أعجميّا!+.
وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديماً في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور؛ لقلة تداول الأيدي إياها، مهما كثرت وذاعت؛ فماذا كانا قائلَينِ لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتباً!!
ألوف من النسخ من كل كتاب، تنشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلا قليلاً؛ يقرؤها العالم المتمكن، والمتعلم المستفيد، والعامي الجاهل وفيها أغلاط واضحة، وأغلاط مشكلة، ونقص وتحريف؛ فيضطرب العالم المتثبِّت إذا هو وقع في خطأ في موضع نظر وتأمل ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب؛ فإذا به أضاع وقتاً نفيساً وبذل جهداً هو إليه أحوج؛ ضحيَّة لعب من مصحح في مطبعة، أو عمد من ناشر أمِّيٍّ، يأبى إلا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبى إلا أن يركب رأسه؛ فلا يكون مع رأيه رأي.
ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ، في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب بين يديه، فيحفظ بالخطأ، ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيراً، وتصوَّر أنت حال العامي بعد ذلك!!.
وأيُّ كتب تبتلى هذا البلاء؟ كتب هي ثروة ضخمة من مجد الإسلام، ومفخرة للمسلمين، كتب الدين والعلم: التفسير والحديث، والأدب والتاريخ، وما إلى ذلك من علوم أُخر.
وفي غمرة هذا العبث تضيء قلةٌ من الكتب طبعت في مطبعة بولاق قديماً عندما كان فيها أساطين المصححين، أمثال الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني، وفي بعض المطابع الأهلية كمطبعة الحلبي والخانجي.(1/202)
وشيء نادر عنى به بعض المستشرقين في أوروبة وغيرها من أقطار الأرض يمتاز عن كل ما طبع في مصر بالمحافظة الدقيقة _ غالباً _ على ما في الأصول المخطوطة التي يطبع عنها مهما اختلفت، ويذكرون ما فيها من خطأ وصواب، يضعونه تحت أنظار القارئين، فَرُبَّ خطأ في نظر مصحح الكتاب هو الصواب الموافق لما قال المؤلف، وقد يَتَبَيَّنُهُ شخص آخر عن فهم ثاقب، أو دليل ثابت.
وتمتاز طباعتهم _ أيضاً _ بوصف الأصول التي يطبعون عنها وصفاً جيداً، يظهر القارئ على مبلغ الثقة بها، أو الشك في صحتها؛ ليكون على صحة من أمره.
وهذه ميزة لن تجدها في شيء مما طبع في مصر قديماً بلغ ما بلغ من الصحة والإتقان؛ فها هي الطبعات الصحيحة المتقنة من نفائس الكتب المطبوعة في بولاق، أمثال: الكشاف، والفخر، والطبري، وأبي السعود، وحاشية زاده على البيضاوي، وغيرها من كتب التفسير، وأمثال البخاري، ومسلم، والترمذي، والقسطلاني، والنووي على مسلم، والأم للإمام الشافعي، وغير ذلك من كتب الحديث والفقه؛ وأمثال لسان العرب، والقاموس، والصحاح، وسيبويه، والأغاني، والمزهر، والخزانة الكبرى، والعقد الفريد، وغيرها من كتب اللغة والأدب؛ وأمثال تاريخ ابن الأثير، وخطط المقريزي، ونفح الطيب، وابن خلكان، وذيله، والجبرتي، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم، إلى غير ذلك مما طبع من الدواوين الكبار ومصادر العلوم والفنون.
أتجد في شيء من هذا دليلاً أو إشارة إلى الأصل الذي أخذ؟!
وأقرب مثل لذلك كتاب سيبوبه طبع في باريس سنة 1881م (توافق سنتي 1298، 1299هـ) ثم طبع في بولاق في سني 1316_ 1318هـ وتجد في الأولى اختلاف النسخ تفصيلاً بالحاشية، ومقدمة باللغة الفرنساوية فيها بيان الأصول التي طبع عنها، ونصَّ ما كتب عليها من تواريخ وسماعات واصطلاحات وغير ذلك حرفيَّاً باللغة العربية؛ ثم لا تجد في طبعة بولاق حرفاً واحداً من ذلك كله، ولا إشارة إلى أنها أخذت من طبعة باريس.(1/203)
فكان عمل هؤلاء المستشرقين مرشداً للباحثين من المُحْدَثين.
وفي مقدمة من قلَّدهم وسار على نهجهم العلامةُ الحاج أحمد زكي باشا× ثم من سار سيره، واحتذى حذوه.
ومن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائس تقتنى، وأعلاقاً تُدَّخَر، وتغالى الناس، وتغالينا في اقتنائها على علو ثمنها، وتعسر كثير منها على راغبيه.
ثم غلا قومنا غلوَّاً غير مستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي خطأ أو صواب يتقلدونه، ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق كل قول، وكلمتهم عالية على كل كلمة؛ إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعة تصحيح الكتب؛ فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه؛ حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه.
وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشرين، وأن جلَّ أبحاثهم في الإسلام وما إليه إنما تصدر عن هوى، وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ].
وإنما يفْضُلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط.
نعم إن منهم رجالاً أحرار الفكر لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نُشِّئوا عليه، واعتقدوا يَغْلِبُهم، ثم ينحرف بهم عن الجادة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر غير ما يؤدي إليه حريةُ الفكر والنظر السليم.
ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء.(1/204)
ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أُقِرَّ الحقَّ في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصاحبه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به حده، ولا أعلو به عن مستواه.
ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشد العصبية، وأعرف معنى العصبية وحدَّها، وأنْ ليس معناه العدوان، وأنْ ليس في الخروج عنها إلا الذل والاستسلام.
وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحوطُها والذود عنها؛ وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه =ما غُزِيَ قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا+.
وقد _ والله _ غُزِينا في عقر دارنا، وفي كل ما يقدسه الإسلام، ويفاخر به المسلمون.
وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مُغْرَىً أبداً بتقليد القويِّ وتمجيده؛ فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم؛ فقلدوهم في كل شيء، وعظموهم في كل شيء، وكادت أن تعصف بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته.
غرَّ الناسَ ما رأوا من إتقان مطبوعات المستشرقين؛ فظنوا أن هذه خطة اخترعوها، وصناعة ابتكروها، لا على مثال سابق، ليس لهم فيها من سلف، ووقع في وهمهم أن ليس أحد من المسلمين بمستطيع أن يأتي بمثل ما أتوا، بَلْهَ أن يَبُزَّهم إلا أن يكون تقليداً واتباعاً، وراحوا يثقون بالأجنبي، ويزدرون ابن قومهم ودينهم؛ فلا يعهدون له بجلائل الأعمال وعظيمها، بل دائماً: المستشرقون! المستشرقون!! ويلقى الأجنبي منهم كل عون وتأييد إلى ما له في قومه وبلاده من عون وتأييد.
وقد يلقون للمسلم والمصري فضلات من الثقة؛ على أن يكون ممن يعلنون اتِّبَاع المستشرقين، والاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم، وعلى أن يكون ممن درسوا وتعلموا باللغات الأجنبية، حتى فيما كان من العلوم إسلاميَّاً وعربيَّاً خالصاً، وعلى أنه إذا عهد لأجنبي ومصري بعمل واحد كان الاسم كله للأول، والثاني تابع؛ ولعله أن يكون الثاني أرسخ قدماً فيما عهد إليهما، على قاعدة (علمه وأطع أمره)!!(1/205)
وما كان هذا الذي نصف خاصَّاً بالعمل في الكتب وحدها، وإنما هي ذلة ضربت على المسلمين في شأنهم كله، عن خطط تبشيرية ثم استعمارية، رسمت ونفِّذت، في كل بلد من بلدان الإسلام، وليس المقام مقام تفصيل ذلك، ولكنا نعود إلى ما نحن بسببه من تصحيح الكتب.
لم يكن هؤلاء الأجانب مبتكري قواعد التصحيح، وإنما سبقهم إليها علماء الإسلام المتقدمون، وكتبوا فيها فصولاً نفيسة، نذكر بعضها هنا، على أن يذكر القارئ أنهم ابتكروا هذه القواعد؛ لتصحيح الكتب المحفوظة، إذ لم تكن المطابع وُجدت، ولو كانت لديهم لأتوا من ذلك بالعجب العجاب، ونحن وارثو مجدهم وعزِّهم، وإلينا انتهت علومهم؛ فلعلنا نحفز هممنا لإتمام ما بدؤوا به.
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
احترام الأفكار(1) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور
يقول المبتدؤون والمتوسطون من الكتَّاب =بنات الأفكار+إذا أرادوا أن يملِّحوا العبارة، ويدلوا على منزلهم في علم الاستعارة، وهم لا يشعرون _ عند لفظ هاته الكلمة من أفواههم إلا بتلك الاستعارة المطروقة المبذولة _ حدوث ذلك الشيء الذي ذكروه عن ازدواج المقدمات وتمخض الفكر.
وربما كان البعض ذاهلاً أو عاجزاً عن هذا المقدار؛ فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها: وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني؛ قصداً للمبالغة في الحرمة والغيرة.
__________
(1) مجلة السعادة العظمى عدد18 ص273_281، في 16 رمضان 1322، وسيلاحظ القارئ الكريم أن هذه المقالة متينة قوية، ولكنها صعبة متعاصية؛ لأنها من بواكير كتابات الشيخ ابن عاشور× حيث كتبها وهو في السادسة والعشرين من عمره، وسترى مقالة =مجلس رسول الله "+ وهي أي أيسر وأسلس من هذه المقالة بكثير.(1/206)
احترام النسب يقع على وجهين: احترامه قبل قوامه، أي أن يُتوخى كل ما يدفع اختلاطاً أو فساداً في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساس قانون الشرع التفصيلي، واحترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يسبَّ أو ينبذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنساباً أدبية فبغير شك يكون الاجتراء عليها بواحد من هذين الجرمين _اللذين احترما بالاحترامين_ جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهله حدوداً يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون.
وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، وإن تقصى عن كلفة التصنع لا يفارق مفسدة الاجتراء على بعثرة نواميس الكون والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعاً.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريم الكذب، وتكرير لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها، أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة في علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها.
وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد من لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصاً لحالها.
وأما صاحبك فرجل ألقي إلى الأمة بذلك الوصف العظيم، فكيف تراه والمشاكل تتقاطر عليه، وعيون الحيرة تعشو إلى ضوء اهتدائه، وتنظر إليه، ثم لا يبوء لهم أمرهم إلا بضلال مبين، أو سكوت إن كان المسؤول من خُلَّص الجاهلين.
وأما نفسك فأنت _ إذن _ بها أعرف.(1/207)
قضت سنة الله في الناس أن تخضع نفوسهم إلى الحق والواقع والثابت، ترى الرجل تُسند إليه الهِنةُ وهو بريء منها، فتصعد إلى دماغه دماء الغضب، ويدافع عن نفسه دفاع البريء المخلص، بلسان فصيح، وقلب صحيح، ثم تراه تسند إليه تلك السيئة إن كان قد اقترفها، فيطأطىء لها رأساً، ولا يجد منها مناصاً، مهما سترها بأطمار الجمود(1) والمكابرة، حتى تفتضح حاله عند الفراسة الصادقة، أو يزلق لسانه عند البحث الشديد، أليس ذلك آية على أن النفس تخضع إلى الحق وإن لم يكن مشتهاها؟ وتبرأ من الباطل وإن كان هواها؟
كذلك الرجل يبلوه الله _ تعالى _ بنبات ذرية سوء، فيستسلم إلى ما قدر عليه، فلو كان ذلك الولد دَعِيَّه لقرع السن من ندم، ورضي أن لو باء من سعيه بالعدم.
هكذا حال الأفكار ومنشئاتها متى أسندت إلى غير أصلها قارنتها ندامة واغتباط، وفضيحة تلوح على أخواتها مِنْ تخالفِ شكل، وانحلال، ورباط.
لعل في هذا المقدار مَقْنَعاً من إيصال هذا الإحساس الحكمي إلى نفوسكم أيها النقاد، وتعريفاً بوجوب دعائنا الأفكار إلى آبائها؛ لنقوم بالقسط، فلن نكون كذي ذهن عاقر يُشَوِّه فضيلته بانتحال أفكار ما كان لينال أمثالها.
قد تغتفر الأمور الضرورية والإحساسات الفطرية العامة التي تشترك فيها أفراد الأمة متى تقاربت في الشعور، فلا يجب إسنادها، وربما استحال في البعض ذلك، إن الذي قالها بالأمس لم يصدر كلامه حتى قال مثلها، أو قاربها اليوم آخر.
__________
(1) لعلها: الجحود. (م)(1/208)
أما احترام الفكر بالمعنى الثاني فحق على كل صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السخرية والهزو؛ فإن الاسترسال على ذلك يُجْبِنُ الذين تخلقت فيهم مبادئ العقل النظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار، ولو كانت قد وصلت إلى التمكن والرسوخ لأَمَّنا عليها حتى إن تتستر كشمس تحت السحاب، أو كإدبار المحترف للقتال، أترون ذلك يرزونا المنفعة المقصودة؟ ولكننا لا نخشى عليها إلا أن تموت تحت أقفال الأسر في صباها، وما بلغت أَشُدَّاً تستطيع به مقاومةَ الزمان، ولَيَّ أيدي المضطهدين.
نحن نوقن أن أفكاراً ساقطة تنشأ في الأمة قد يجب الضغط أن لا تشيع؛ فتستهوي أقواماً غافلين بسطاء، فتصبح وباءاً في الأفكار المهزولة.
ولكنَّا لما وازنَّا بين هاته المصلحة النادرة، وبين المفسدة الكبرى التي كانت ولا زالت تتضاءل من اضطهاد الأفكار السامية، باسم التحقيق آونة وباسم.... أخرى؛ لأنها لا توافق الرغبات، ولا تجاري الشهوات _ حكمنا للأفكار باحترامها، وجعلنا البحث والنقد معياراً يُمَيِّز به خبيثها من طيبها، ولا يلبث الحق أن يهزم الباطل.
لو كنا نضطهد الأفكار لاشتبه الباطل منها بالحق، فيصرخ يستنصر لاهتضامه كما يستصرخ الحق شيعته، وربما وجد من السامعين قلوباً ترق للمضعوف وإن جار، فيصبح فتنة أشد مِنْ أَنْ لو ترك يتمارض بالنقد الصحيح والحجة الدامغة، حتى يموت حتف أنفه، ثم لا يثأر له أحد.
ليس يحول هذا دون الواجب من تقويم المخطئ، إنا نعني باحترام الفكر أن لا يُتَعرَّض لصاحبه الشخصي بالطعن والاستخفاف.
ولكن التقويم يكون بصفة كلية، وتعريض بسيط بين سقوط الرأي بوجه برهاني أو خطابي ينفر الغافلين.
وليس احترام الأفكار يأبى مناقشتها والحكم بضعفها، لكن تجب الأناة في الحكم على الفكر أن لا يتعرض له بالنقد، مادام فيه احتمال الصواب.(1/209)
أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون، أو بشهوات نفس تخب خَبَبَ البازل الأمون ما نقتصد به زمان المراجعة إلى استئناف شيء جديد ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفي، والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟.
ما كان التقرير على الخطأ إلا خطأً وتضليلاً، ولكن نظيره في التضليل وأعظم منه فساداً التسارعُ إلى تغليط الصائبين لاسيما إن قارنه ما يقارن سفاهة الرأي، وضيق الصدر، وبالثاني غليل الجهل من تفويق سهامِ نقدٍ تخطىء الرمية، والأخذ بسلاح العاجزين من الغيبة والشتيمة التي تسترحم عن قصد صاحبها من غير غرض ترشقه، اللهم إلا رأي رجل اعتدت منه المكابرة والمسارعة إلى الزج بنفسه فيما لا يدبر منه مخرجاً ولا يجد لمثله فيه مولجاً، ثم قومته المرة والمرتين، فما زاده تقويمك إلا عناداً، ولا أكسبه اقتصادك إلاَّ سرافاً وازدياداً؛ فإنك إن رأيت منه ما يقتضي أن تسلك معه مسلك الخطابة من تقبيح انتحاله، وتشخيص مشوه حاله_ فلا ملام عليك إن كنت قد صادفت البلاغة في فعلك أو قاربت.
قد ترى قوماً أغرقوا في احترام أفكار الناس =وما كل الناس+إلى غور عميق، فغشيهم ظلام طمس على أعينهم حتى تلقوا كل قول بالتأييد، وحكموا في كلا المتناقضين بأنه سديد، واتسموا _أكرمك الله_ بِسمَةِ البليد، ثم ترى رجلاً يخترق قلوبهم بنصائح تفتح لهم أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً وهم في صمم عن تلقيها؛ أفتعذره إن رأيته يسلك معهم ذلك المسلك؟أم تعذره إن خالف ما تأصل من احترام الأفكار؟
لعلك تشعر ساعتئذٍ بأن أصول التهذيب دواليب تدور، وأنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور؟.(1/210)
سيظن البسطاء من الناس أن احترام الأفكار، وحريتها يخولها حق الاجتراء بنحو الشتيمة، ولكنه ظن سريع التقشع متى وجدوا لساناً حكيماً يبين لهم أن الحرية والاحترام شيء، وأن الاجتراء شيء آخر؛ لأن الحرية إنما ينالها المرء بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعباد الذي نفر منه، فإن طلبت أنفسهم زيادة البيان فإنا نحيلهم على كلام طويل في معنى الحرية، لو بسطناه لفصم عنا سلك الكلام في مرادنا من هذا المقال.
فإذا كانت الأفكار محترمة كما قلنا فالاجتراء عليها بما ذكرنا يتساهل عقوبة على خرق سياج هذا الاحترام حقاً؛ لأن ذلك يثير العصبيات ويجفي عن الحقيقة التي ما احترمت الأفكار إلا لأجل الوصول إليها.
من أكبر الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لرتبة التنوير وأهليتها للاختراع في معلوماتها _ أن تشب على احترام الآراء على الوجه الذي وصفنا من قبل، وعسى أن نصف من بعد.(1/211)
وقد كان للمسلمين من ذلك الحظ الذي لم يكن لغيرهم يومئذٍ من التسامح مع الأفكار، شهد بذلك التاريخ وأهله إلا المتعصبين منهم مع ما كان بين أصناف أهل الآراء من التناظر والجدل، ولكنك لا تجد ذلك محفوظاً بتعصب ولا اضطهاد، كنت ترى الأشعري بين يدي المعتزلي لا يستنكف عن تلقي فوائده، والاعتراف له بحق التعليم، وترى السني يتعلم عن القدري وعن الفيلسوف الشاك ِّ، قد كان عمرو بن عبيد الزاهد الشهير من خاصة تلاميذ الحسن البصري _ رحمهما الله _ وهو الذي كان مكلفاً بكتابة ما يمليه الحسن من التفسير الذي يرد به على القدرية والمعتزلة، وما كان يمنعه ذلك من المجاهرة باتباعه مذهب المعتزلة، ومن التحاقه بدروس واصل بن عطاء الغزال الذي قال له الحسن لما كثرت مناقشته اعتزل مجلسنا، فكان عمرو بن عبيد يختلف إلى الدرسين جميعاً، وما كان ذلك يمنع الحسن من تكليفه بإملاء تفسيره، حتى استخدم اختلاف الآراء آلة للتشيع السياسي حين أذنت الدولة العربية والجامعة الإسلامية بالانحلال والافتراق اللذين تركا من الآثار ما نحن نتخبط في مصائبه ولأوائه حتى اليوم.
وكذلك الحَجْر على الرأي يكون منذراً بسوء مصير الأمة، ودليلاً على أنها قد أوجبت نفسها خفية من خلاف المخالفين، وجدل المجادلين، وذلك يكون قرين أحد أمرين، إما ضعف في الأفكار، وقصور عن إقامة الحق، وإما قيد الاستعباد الذي إذا خالط نفوس أمة كان سقوطها أسرع من هويّ الحجر الصلد.
حكى الجاحظ: أنَّ النظَّام دخل على شيخه أبي هذيل العلاَّف، فقال: يا أبا الهذيل! لم قررتم أن يكون الله _ تعالى _ جوهراً خشية أن يكون جسماً؟ فهلاَّ قررتم أن لا يكون جوهراً مخافة أن يكون عرضاً، والجوهر أضعف من العرض، فبصق أبو هذيل في وجهه فقال النظَّام: قبحك الله من شيخ ! فما أضعف حجتك!.
وكان الخليفة المأمون يقول لأهل ناديه إذا جاروه على كلام: هلاَّ سألتموني لماذا؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة.(1/212)
دامت على ذلك الأمة الإسلامية متمتعة باحترام الأفكار، جرى كل واحد على أن يبوح برأيه، وجرى كل مستمع على تقويمه بالحق، وإن وقع في خلال ذلك حادثة صغيرة وقعت بالقدس بين الباطنية وأهل السنة؛ إلا أنهما لأسباب عالية، وغلط فاحش لا يسع ذكره اليوم.
لما استخدمت الآراء للسياسة، وشاعت المداهنة بين الناس، وضعفت الكبراء عن الحجة، يومئذٍ ساد اضطهاد الأفكار والضغط عليها؛ كي لا تسود على مخالفتها القاصرين الظاهرين في مظاهر العلماء المحققين.
نعني بالسياسة ما يقرن سياسة الدول في تصرفاتها وأغراضها بسياسة الأشخاص المسيطرين في هواهم، وربما كان القسم الثاني أشد على الأفكار لكثرة دواعيه، ووفرة منتحليه، وأنواع وجهتهم في هذا الغرض: منهم من يفعل ذلك إبقاءاً على منصبه، واستحفاظاً على وجاهته؛ لأنه يخال أن كل مخالفة له في الرأي تنذر بثَلِّ عرشه، وزلزال أركانِه، والمريضُ كثير الأوهام.
ومنهم الذي يسخط من مخالفة المعتاد، ويرى العادة ديناً أو شبه دين، يجب أن لا يتلاعب به الشخص، ومنهم الذي يتوهم أن الدين يخالف احترام الآراء، وهذا إن شئت أن تجعله فرعاً من سابقه وجدته لك أطوع من نعلك.
ومنهم الحاسد العاجز الذي يحب أن يظهر في مظاهر الكمال بكلمات يلفقها، ويحس في ذكر ذلك لذة ما دام منفرداً بها، فإن شاع ذلك بين الناس تميز من الغيظ.
كنت أعرف رجلاً ينادي بين الناس باسم النقد للحالة والطعن في الأوضاع المعتادة، وربما ترقى إلى بعض الشتيمة زمانَ كان يقول ذلك وحده يحب الشهرة وما يلقاها، ويترصد طريقها وما يقع بمرآها، كان يومئذٍ مستأثراً بورقات ينقل منها ما يغلط به، فلما امتدت الأيدي، وانبرت العيون إليها، واستوى مع غيره في معرفتها _ انصاع يُقبِّح ذلك الحال، ويرى خلفه ودعاءهم في ضلال.(1/213)
مما يخص بالوصاية والاحترام أفكار المتقدمين الذين وصلوا بنا إلى حيث ابتدأنا من العلم والمدنية، عوضاً أن نكون في متحركهم الأول نبتدئ سيراً بطيئاً، كما قالوا: إن الإنسان ابن يومه لا ابن أمسه، فهو _أيضاً_ ليس بابنٍ لغده؛ فمقدار فضيلة الرجل ومكان شهرته لا ينظر فيه إلى غير يومه الذي كان فيه، فلا يغلط لنا كثير من الناس ينتقصون الأقدمين بمستدركات المتأخرين، فإنما تعرف مقادير الرجال بما أوجدوه، لا بما تركوه؛ ولكن طرق الشهرة لا تختلف، وهي قوة الفكر، ومرتبة العلم والعمل على تنوير آراء المتعلمين والقارئين في عقل صحيح، ونية قويمة، ونصح جهير.
قد استهوى هذا الغلط الشيخ أبا علي ابن سينا حين بالغ في ثنائه على أرسطو حتى قال: أما أفلاطون الإلهي فإن كانت غايته من الحكمة ما وصلنا من علومه فإن بضاعته إذن لمزجاة.
وكأنه نسي أنه لولا أفلاطون بكلماته القليلة خوّل لأرسطو أن يبني عليها كثيراً _ لكان أرسطو هو أفلاطون وبضاعته الوافرة كانت مزجاة.
هذا أيها الناشؤون على النقد، الباحثون عن الحكمة نبراس مبين، أقمناه بين أيديكم؛ ليضيء لكم مستقبلاً نيّراً وعسى إن اهتديتم بضيائه، واحتفظتم عليه من عواطف الأهواء والشبهات _ أن تحمدوا غبَّه، وتسلكوا به طريق العقلاء، فتصبحوا سمراءَهم، والله يضيء آراءَكم بالحكمة.
الطب في نظر الإسلام(1) للشيخ العلامة محمد الخضر الحسين
__________
(1) مجلة (الهداية الإسلامية) الجزءان الأول والثاني من المجلد التاسع عشر الصادران في رجب وشعبان 1365، وانظر روائع مجلة الهداية الإسلامية _ الإسلام والطب _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص9_20.(1/214)
عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق _ جلَّ شأنه _ ويوجِّه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال، وهو _ إن عُدَّ التوكلُ والتفويضُ إلى الله في جملة آدابه _ لم يهمل النظر في الأسباب وارتباطها بمسبباتها؛ فأَذِنَ بل أمر بتعاطي ما دلَّتْ العقول والتجارب على أنه مجلبة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه مجلبة شر.
والتوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ما شدَّ أحدهما بعضد الآخر؛ التوكل أدب نفسيٌّ يُبْتَغى به رضا الخالق ومعونَتُه، والأخذُ بالأسباب عملٌ يجري على سنن الله في الخليقة؛ فمن وكَّل أمرَه إلى الله، ثم تعاطى أسبابه وصل إليه من أرشد الطرق، وعاد منه بأحسن العواقب.
والطبُّ إنما هو من قِبَل(1) الأسباب التي أذن الإسلام في تعاطيها، وهو من أشرف الصناعات.
وشرفُ الصناعة على قدر ما يترتب عليها من نفع الأمة، وتقويم أود حياتها.
ونَفْعُ الطبِّ في حماية الناس أو إنقاذهم من كثير من المهالك أمرٌ جليٌّ لا يحتاج إلى بسط واستدلال.
ولا جرم أن يتجه الإسلام بشيء من العناية إلى الطب؛ ذلك أنه يريد من الأمة أن تكون عزيزة الجانب مهيبة السلطان حتى تستطيع أن تنفذ ما أمر الله به من إصلاح، وتتحامى ما نهى عنه من فساد.
وإنما يعزُّ جانبها، ويهاب سلطانها متى كانت كثيرة العدد، قوية الأيدي، والطبُّ من أهم الوسائل إلى كثرة النسل وقوة الأجسام.
ومن المعروف أنَّ في سلامة الأجسام معونةً على انتظام الأفكار، وسداد الآراء، وسماحة الأخلاق، وإنما تتفاضل الأمم برجاحة عقولها، واستقامة أخلاقها.
وإذا تحدثنا عن الطب في هذه المحاضرة، فإنما نقصد إلى معالجة الأمراض الحاصلة في الحال، ووقاية الأبدان من أن تُصاب بها في المستقبل، وذلك ما يُدعى بحفظ الصحة، وكذلك قال جالينوس: الطب حفظ الصحة، وإزالة العلة.
__________
(1) لعلها: قبيل. (م)(1/215)
لما دخل عضدُ الدولة بغداد دخل عليه من الأطباء أبو الحسنِ الحرَّانيُّ وسنانُ ابن ثابت، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأطباء، قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم، فقال له سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حِفْظُ الصحة لا مداواة المرضى، والملك أحوج الناس إلى حفظ الصحة، فقال عضد الدولة: صدقت، وقرر لهما الجاري السنوي، وقرَّبهما إلى مجلسه في طائفة من الأطباء.
رفع الإسلام من شأن الطب: مداواة العلل، وحفظ الصحة، وعرف هذا من القرآن الكريم، وأقوال النبي" وسيرته.
أما القرآن الكريم فقد أذن في ترك بعض الفرائض متى كان القيام بها يؤثر في الصحة بإحداث مرض، أو زيادته، أو تأخر برئه، وشرعَ في أحد هذه الأحوال التيمم بدل الوضوء أو الغسل، كما أذن للمريض والمسافر أن يترك كلٌّ منهما الصيامَ الواجبَ، ويقضيَ المريضُ الأيامَ التي أفطر فيها عندما تعود إليه صحته، كما يقضي المسافر أيام إفطاره عندما ينقطع سفره، قال _ تعالى _: [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](البقرة:184).
والإذن في الفطر للمسافر من قبيل حفظ الصحة؛ فإن السفر مَظِنةُ التعب، والتعب من مغيِّرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب، فيزداد تغير الصحة.
وحرَّم الإسلام الدمَ ولحمَ الخنزير والميتة وما ألحق بها من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع.
وسرُّ هذا التحريم أنها مؤثرة في الصحة، كما بيَّن هذا الأطباء في القديم والحديث، وقد تحدَّث الأطباء في هذا العصر عن مضارها من جهة الصحة بأوسع بيان.
وحرَّم القرآن مباشرة الحائض، وقد بسط الأطباء _ أيضاً _ في مضار هذه المباشرة بها من جهة الصحة مما يدل على أنه تحريم شارع حكيم.
وحرَّم القرآن الخمر والزنا، ولهذه المحرمات مضار صحية علاوة على المضار الاجتماعية، وكذلك فعل الأطباء اليوم.(1/216)
فكشفوا القناع عن هذه المضار الصحية، فنترك الكلام عن هذه المضار لحضرات الأطباء المحققين.
في الكشاف: يُحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطبَّ في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]الأعراف:31.
أما أقواله _ عليه الصلاة والسلام _ فمنها ما رواه مالك في موطَّئه عن زيد ابن أسلم أن رجلاً في زمن النبي" جرح، فاحتقن الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فقال لهما رسول الله": =أيكما أطب+ فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: =أنزل الدواء الذي أنزل الداء+.
وعن هلال بن يسار أن رسول الله" دخل على مريض يعوده، فقال: =أرسلوا إلى طبيب+ فقال قائل: وأنت تقول يا رسول الله؟ قال: =نعم إن الله _عز وجل_ لم يُنزل داءاً إلا أنزل له دواءاً+.
ونهى عن التنفس والنفخ في إناء الشراب أو الطعام؛ حتى لا يتناول الإنسان الطعام أو الشراب وقد مازجه ما لا خير في امتزاجه به.
وأما سيرته _ عليه الصلاة والسلام _ فإنه كان يتعاطى بعض الأدوية، كما تداوى للجرح الذي أصابه في غزوة أحد، وأذن في الاحتجام عند تَبَوُّغ(1) الدم، واحتجم في الأخدُعينِ والكاهل، وثبت في الصحيح أنه بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً، وكواه عليه، وجاء في الحمية أنه _ عليه الصلاة والسلام _ رأى علي بن أبي طالب يأكل عنباً فقال له: =مه مه يا علي؛ فإنك ناقِهٌ+.
ومما جاء في الوقاية نهيه _ عليه الصلاة والسلام _ عن الإقدام على أرض فشا فيها الوباء فقال: =إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها+، وفي رواية:=فلا تقدموا عليها+.
__________
(1) تبوغ الدم: توقُّده، وهيجانه، ويشير هنا إلى حديث: =إذا تبوَّغ بأحدكم الدم فليحتجم+. انظر لسان العرب 8/422 (م)(1/217)
ومما جاء من هذا القبيل تحذيره _ عليه الصلاة والسلام _ من مخالطة بعض ذوي الأمراض السارية كالجرب والجذام، وقال: =فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد+.
قال ابن خلدون: =وللبادية من أهل العمران طبٌّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارث عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج.
وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث ابن كلدة وغيره، والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي " من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلَّة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه" إنما بُعث ليعلمَنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: =أنتم أعلم بأمور دنياكم+.
فلا ينبغي أن يحمل شيء في الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع+.
وذهب ابن القيم في =زاد المعاد+ غير هذا المذهب فقال: =وليس طبُّه " كطبِّ الأطباء؛ فإنَّ طبَّ النبي " متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطبُّ غيرِه أكثره حدسٌ وظنون وتجارب.
ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة؛ فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان؛ فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق بهذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور+.
ثم قال: =فطبُّ النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أنَّ شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، والقلوب الحية+.(1/218)
ونحن نرى أنَّ الطبَّ النبوي لا يلزم أن يكون وحياً، ولكن ما يقوله النبي " في هذا الشأن لابد أن يكون صحيحاً كبقية المسائل الطبية المشهود بصحتها في علم الطب، وننبه هنا على بعض أحاديث طبية تنسب إلى النبي " ونسبتها غير ثابتة، منها حديث: =المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء+ يورده بعضهم مرفوعاً إلى النبي " ولم يثبت هذا عند المحدِّثين، بل قالوا: هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو كلام غيره.
ومنها حديثه: =البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوِّدوا كلَّ بدن ما اعتاد+ أورده الغزالي في الإحياء، وقال المحدِّثون: ليس له أصل.
ومنها حديث: =المعدة حوض البدن، والعروق إليه واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم+.
ولا يعرف هذا من كلام النبي "، وإنما هو من كلام عبدالملك بن سعيد ابن الحارث.
وأدرك الفقهاء رعاية الدين لحفظ الصحة والطب، فبنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايتها؛ فتراهم يفتون بمداواة الأجنبي للمرأة عند الضرورة، وإن اقتضى العلاج أن يطلع على ما لا يباح الاطلاع عليه.
وأفتوا بقبول قول الطبيب في كثير من الوقائع، والاعتماد عليه في القضايا نحو الجنائيات، ومن هنا نشأ ما يُسمَّى في هذا العصر بالطب الشرعي، ويسميه بعض علماء الهند بالطب الحكمي، وقالوا في تعريفه: هو المعارف الطبية والطبيعية المستعملتان في الأحكام الواقعة بين الناس.
وفي أمثال هؤلاء يقول بعضهم:
أعمى وأفنى ذا الطبيبُ بكحله
?
?
ودوائه الأحياءَ والبصراءَ
??
?فإذا رأيت رأيت من عميانه
?
?
أمماً على أمواته قرّاء(1/219)
وأجمع الفقهاء على أنَّ الطبيبَ الماهرَ إذا عالج مريضاً فأخطأ في اجتهاده، وتولد من معالجته تلف عضو أو نفس أو ذهاب صفة _ فلا ضمان عليه، بخلاف المتطبب الذي لم يتقدم له معرفة بالطب يقدم على معالجة عليل، فيترتب على علاجه تلف عضو أو نفس، فإنه يضمن(1).
ويعللون بعض الأحكام الشرعية بوجوه ترجع إلى حفظ الصحة.
أمر النبي " بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب، فذكر الفقيه ابن رشد في تعليل هذا الحكم فقال: =ليس من سبب النجاسة، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كَلِباً، فيخاف من ذلك السم+.
قال الحفيد: =وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إنَّ الكَلْبَ الكَلِبَ لا يقرب الماء حين كلبه+ قال: =وهذا الذي قالوه عند استحكام هذه العلة بالكلاب لا في مبادئها، وفي أول حدوثها؛ فلا معنى لاعتراضهم+.
وقال طائفة من محققيهم: إن المجذومين إذا كثروا يمنعون من المساجد والمجامع، ويتخذ لهم مكان ينفردون به عن الأصحاء، ويجري هذا الحكم في الجرب، وبعض أنواع الحمى التي يقرر الأطباء أنها أمراض سارية.
وعرف علماء الشريعة فضل صناعة الطب، وأنها من الأعمال التي تُكْسب حمداً؛ فأنفقوا فيها جانباً من أنظارهم وأوقاتهم، وأضافوها إلى علومهم الشرعية.
__________
(1) وأصل هذا ما رواه أبو داود والنسائي: أنه _عليه الصلاة والسلام_ قال: =من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن+.(1/220)
ومن هؤلاء العلماء رجال بلغوا في علوم الشريعة الذروة، منهم الإمام أبوالحسن علي سيف الدين الآمدي، وأبو عبدالله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، والإمام أبو عبدالله المعروف بالمازري؛ فقد كان هذا العالم كما قال في ترجمته: يُفْزَعُ إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى في الفقه، والفيلسوف محمد ابن أحمد بن رشد، وهو مؤلف =بداية المجتهد+ في الفقه، وكتاب =الكليات+ في الطب، والعلامة موفق الدين عبدالمطلب البغدادي، فقد كان يجمع بين الفقه والطب.
وظهرت عناية العلماء بهذه الصناعة في الإقبال على تدريسها والتأليف فيها.
وعني أمراء الإسلام بالطب، ولهذه العناية أربعة مظاهر:
أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم، وإسعادهم بالأرزاق الواسعة، والمناصب العالية، فقد نال عبدالملك بن أبحر الكناني لدى عمر بن عبدالعزيز حظوة، وكان عمر يستطبه، ويعتمد عليه في صناعة الطب، ونال ابن أثال حظوة عند معاوية بن أبي سفيان، فكان معاوية يستطبه، ويحسن إليه، ويكثر من محادثته.
ومن عناية سيف الدولة بالأطباء أنه كان يَحْضُر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، وقد يبلغ الطبيب أن يكون رفيع الشأن في دولة، فإذا تغيرت وقامت دولة أخرى مكانها استمرت منزلته في رفعة واحترام، كأبي بكر بن زهير؛ كان ذا حظوة في دولة المرابطين بالمغرب، ولما خلفتها دولة الموحدين لقي من هذه الدولة _ أيضاً _ الإقبال والإكرام.
أما إحرازهم المناصب العالية، فقد تولى الطبيب رفيع الدين الحلبي منصب قاضي القضاة بدمشق، وتولى ابن المرخم يحيى بن سعد منصب قاضي القضاة في أيام المقتفي بدمشق، وكان طبيباً في المارستان المحمول، وفصَّاداً فيه.
وتولى الوزارة في عهد يعقوب المنصور سلطان المغرب أبو بكر بن نصر، وهو _ كما قالوا _ بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين.(1/221)
كما تولى الطبيب يحيى بن إسحاق الوزارة لعبدالرحمن الناصر، وحظي عنده بمنزلة رفيعة، ويدلكم على أن لصناعة الطب شرفاً يناسب الوزارة أن هذا الطبيب الوزير قد يلجأ إليه المبتلون بأمراض عسرة، وهو وزير، فيتولى علاجها بنفسه.
ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية: وجرى هذا في عهود طائفة من الخلفاء والأمراء مثل خالد بن يزيد بن معاوية، والمأمون، ومحمد بن عبدالملك الزيات، ومحمد بن موسى بن عبدالملك.
ودخل معظم كتب جالينوس الطبية في العربية بنقل حنين بن إسحاق، أو تصحيحه لها بعد نقلها، وظهر بعد نقل هذه الكتب إلى العربية مؤلفات عربية اللهجة ككتاب =القانون+ لابن سينا وغيره من المؤلفات الوارد معظمها في كتاب =كشف الظنون+ والكتب التي تصدت لتراجم الأطباء ككتاب =عيون الأنباء في تراجم الأطباء+.
ثالثها: صيانة الطب عن أن يتعاطاه غير أهله: اتصل بالمقتدر أن غلطاً جرى من بعض المتطببين على رجل من العامة، فصدر أمر بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت، فامتحنهم سنان، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه.
وفوَّض الخليفة المستضيء بأمر الله رياسة الطب ببغداد لأمين الدولة ابن التلميذ، فاجتمع إليه سائر الأطباء؛ ليرى ما عندهم، وشرع في امتحانهم واحداً بعد آخر.
رابعها: بناء المستشفيات: بنى الخلفاء والأمراء وغيرهم من المطبوعين على فعل الخيرات مستشفياتٍ كثيرةً كانت بالغةَ الغاية في استيفاء وسائل العلاج، وتوفير راحة المرضى حسبما يقتضيه رقيُّ العلم في عصورهم.
وقد تكفل كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام للدكتور أحمد عيسى بوصف واسع تناولها من كل ناحية، مثل: البيمارستان العتيق الذي أنشأه أحمد ابن طولون بالقاهرة، والبيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة ابن بويه في بغداد، وبيمارستان مراكش الذي أنشأه يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن في مدينة مراكش.(1/222)
واتخذ أمراء الإسلام المستشفيات المتنقلة، قال ابن خلكان: إنَّ أبا الحكم المقري عبدالله بن المظفر نزيل دمشق، كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون رجلاً، والمستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيَّم.
وأول مستشفى أحدثه الوليد بن عبدالملك بن مروان بدمشق للمجذومين سنة ثمانٍ وثمانين وأجرى لهم فيها أرزاقهم.
شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم:
كان الأمراء يبنون المستشفيات، ويعيِّنون لها أطباء، ويُعِدّون فيها من الأدوية ما يُحتاج إليه.
كتب الوزير علي بن عيسى بن الجرَّاح في أيام خلافة المقتدر إلى سنان ابن ثابت، وكان سنان هو القائم على أمر البيمارستانات: =فكرت في أمر الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم، وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كلَّ يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزوَّرات(1)، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفون لهم إن شاء الله _ تعالى _+.
وكتب إليه كتاباً آخر يقول فيه: =فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم؛ لخلو السواد من الأطباء؛ فتقدم بإيفاد متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون بالسواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره+.
__________
(1) خضر بدون لحم ولا دسم.(1/223)
وقد يتجاوز بعضهم في العناية بأحوال المرضى إلى حد الرفاهيةِ، وأوضحُ مثال لهذا معاملة المرضى بالمستشفى الذي أنشأه أبو يوسف المنصور يعقوب ابن يوسف بن عبدالمؤمن بن علي في مدينة مراكش، قال عبدالواحد المراكشي: =ذلك أنه بعد أن بنى المستشفى في ساحة فسيحة، وظهر في نقوشه البديعة وزخارفه المحكمة، وحفَّه بالأشجار ذات الثمار والأزهار، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، وأمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره مما يزيد عن الوصف+.
ثم قال: =وأعد فيها للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل+.
وقال:= وكان في كلِّ جمعة بعد صلاته يركب، ويدخل يعود المرضى، ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، ويقول: كيف حالكم، وكيف القومةُ عليكم+.
عني رجال الإسلام بالطب حتى أصبح من العلوم التي تدرس في المعاهد أو المساجد على طريقة البحث وتحقيق النظر، يحدثنا التاريخ أن الملك الأشرف جعل لمهذب الدين عبدالرحيم بن علي مجلساً لتدريس صناعة الطب، ووقف مهذب الدين هذا داره بدمشق، وجعلها مدرسة يُدَرّس فيها صناعة الطب من بعده، وكان لموفق الدين عبدالعزيز بن عبدالجبار مجلس عام للمشتغلين عليه بعلم الطب.
وأقرأ علمَ الطبِّ رضيُّ الدين يوسف بن حيدرة الرحي، وكان لا يُقْرِئ هذا العلم إلا لمن يجده أهلاً له، قالوا: وكان يعطي صناعة الطب حقها من الرياسة والتعظيم.
وكان شمس الدين محمد بن عبدالله مدرساً للأطباء بجامع طولون.
وكان موفق الدين البغدادي يدرس الطب فيما يدرسه من العلوم بالأزهر الشريف.(1/224)
وكان من إقبال أمراء الإسلام وعلمائه على علم الطب أن كثر أساتذته في العهود التي ازدهرت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها، وأسوق شاهداً على هذا أن سنان بن ثابت لما كلفه المقتدر بامتحان الأطباء بلغ عدد الذين أجرى عليهم الامتحان في جانبي بغداد ثمانمائة شخص ونيف وستين سوى من استغنى عن امتحانه بشهرته بالتقدم في هذه الصناعة.
والذي نرمي إليه في هذا الحديث أن دينَ الإسلام، ونبيَّ الإسلام رفعا علم الطب وصناعته مكانة عالية؛ إذ كان الطب مظهراً من مظاهر الرأفة بالإنسانية، ووسيلة من أهم وسائل راحة النفوس، وتخليصها من آلام تُكَدِّر عليها صفو حياتها، ومعونةً لذوي الهمم الكبيرة على أن يتمتعوا بعافية تسعدهم في القيام بأعمال جليلة؛ فالأخذ بما ينصح به الأطباء الأمناء من إتيان أشياء، أو اجتنابها إنما هو عمل على حفظ الصحة التي تظهر بها الأفراد والأمم في قوة وعزم يسهل عندهما كل صعب، ويتضاءل أمامهما كلُّ خطب، وإنما خلق الإنسان؛ ليسير في طريق الفلاح، ويذلل ما يلاقيه من العقبات بإيمان صادق، وعزيمة ماضية.
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
لغة الضاد(1) لمحمد صادق عنبر
أغنى اللغات السامية مادة، وأعذبها سحر بيان، وأرقها حاشية تبيان.
نزلت على ألسنة العرب، فجرت على ألسنتها سحراً كلُّ سحر غيره باطل، ولا بدع فكل بلد هي حلٌّ به بابل.
أجل، لقد انقطعت ألسنة من منابتها، واجتثت لغات من أصولها، فلم يبق منها إلا آثار تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وتلك اللغة تدور مع الفلك: لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم.
__________
(1) الحديقة 7/ 150_ 154، عام 1349هـ(1/225)
وآية لها أنك ترى كيف عجز السيف على سعة الزمن أن يحول أمة عن لغتها، وقد استطاعت _ ولم تجرد سيفاً _ أن تشق لها طريقاً إلى ألسنة أعيا على غيرها علاجُها، وتقتحم العقبات إلى قلوب كان محكماً عليها رِتَاجُها(1)؛ فكأنها كانت ديناً لفطرة الألسنة لتكون بعد ذلك لساناً لدين الفطرة، ولا عجب إذا قَدِرتْ أن تصبغ كل بلد حَلّتْ به صِبْغَةً عربيةً إذ قالت لكل شيء: كن منذ الآن، فكان عربياً.
دخلت لغة القرآن الكريم كثيراً من بقاع الأرض، فما هي إلا فترة يبلغ الصبي في دونها الحلم حتى استتب لها الأمر فيها، وكانت كأنها محورٌ دارَ عليه التاريخ دورة أخرى ترى أين كانت العربية، ثم أين بلغت؟
لقد كانت بدأةً تطوف بأركان تلك الجزيرة الجرداء على صفة ما كانت تأخذه أعين الناطقين بها من الفَدْفَد الوعر، والمَهْمَهِ القفر، ومن الفحل إذا هدر، والليث إذا زأر، والحمامة إذا سجعت، والناقة إذا ضبغت، والريح إذا لفحت، والسماء إذا ضنَّت، والأرض إذا حرَّت، والمكارم إذا هزَّت، والخيل إذا استنت، والأسنة إذا اشتجرت، ونحو هذا مما هو بتلك البادية أشبه وأمثل.
نعم، كان هنالك مطاف اللغة في بادئ أمرها، ولكنها من سماء تلك البادية الناطقة الخرساء قد استمدت ذلك الخيال الذي يريك من الورد الذابل خدَّاً نديَّاً، ومن الغصن المائل قدَّاً عادلاً سمهريَّاً.
ثم سما ذلك الخيال الذي كان كأنه يواثب النجوم فلم يدع تشبيهاً بليغاً إلا وقع من ورائه، ولا فنَّاً من فنون القول إلا بلغ الغاية من الافتنان فيه، ولم يذر معنىً دقيقاً إلا أحكم تصويره، حتى بذَّت العربية اللغات على بكرة أبيها.
__________
(1) الرتاج: القُفل.(م)(1/226)
لقد وسعت اللغة العربية ما تضيق ببيانه هذه الأوراق فكانت وما فتئت تساير كل آخذ بِحُجْزَتِها إلى كل غرض يمشي إليه، فلم تضق ذرعاً باصطلاح، ولا برمت بالكشف عن معنى، ولا نشزت على قلم غَذَتْهُ بِلَبانها، ولا وقع بها العِيُّ دون حاجة، فلم تنهض ببيانها.
أما أين بلغت، فكل مبلغ؛ فقد تسربت بين العصا ولحائها، وتغلغلت بين الذَّرة وأجزائها، ومادَّت العلمَ حَبْلَها وقد ظلَّ ما بينه وبينها مبلولاً؛ فلم ييبس إلا حقباً معدودات؛ فقد وسعت معارف الدهر كلها، ولا تزال آثار العرب حجة لهم، ولعربيتهم ناهضة لم تقعد بها الأيام.
ألا إن العربية التي نبتت في تلك البيداء قد مدَّت ظلها على العلم كله، وذلك العربي الذي حيَّ حياته الأولى في منقطع من الأرض إذا سافرت فيه عيناه ففي صميم القفر، وإذا وقفنا به فعلى أديم الصخر، قد مشى بلغته مدىً بعيداً في أمد قريب.
فسلام على ذلك العهد النضير، وسلام على تلك البادية التي نبتت فيها أمة المجد والبيان، وسلام على هذه اللغة الخالدة على فناء الزمان.
البيان(1) لمصطفى لطفي المنفلوطي
قال لي أحد الوزراء ذات يوم: =إني لتأتيني رقاع الشكوى فأكاد أهملها لما تشتمل عليه من الأسباب المنفرة، والكلمات الجارحة، لولا أن الله _ تعالى _ يلهمني نيات كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنت من الظالمين+.
ذلك ما يراه القارئ في كثير من المخطوطات التي يخطها اليوم كاتبوها في الصحف، ورقاع الشكوى، والكتب الخاصة، والمؤلفات العامة.
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة251/257.(1/227)
هزلٌ في موضع الجد، وجدٌ في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب، وجهل لا يفرق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصور عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إن الكاتب ليقيم في الشوكة يشاكها مناحة لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها، ويكتب في الحوادث الصغار ما يعجز عن كتابة مثله في الحوادث الكبار، ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيره بما يناجي به أميره.
ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متشعبة، واختلفوا في شأنه اختلافاً كثيراً، ولا أدري علام يختلفون وأين يذهبون؟ وهذا لفظه دال على معناه دلالة واضحة لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعب مسالكها؟
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس، وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويراً صحيحاً لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة تَيْنِكِ الآفتين فهي العي والحصر.
جَهِل البيانَ قومٌ فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة، ونادر الأساليب، فأغَصُّوا بها صدور كتابتهم، وحشوها في حلوقها حشواً يقبض أوداجها، ويحبس أنفاسها، فإذا قدّر لك أن تقرأها، وكنت ممن وهبهم الله صدراً رحباً، وفؤاداً جلداً، وجناناً يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر وأرزائه _ قرأت متناً مشوشاً من متون اللغة، أو كتاباً مضطرباً من كتب المترادفات.
وجَهِلَه آخرون فظنوا أنه الهذر في القول، والتبسط في الحديث واقعاً ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يَجْتَرون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها تمطق الشفاه بريقها، حتى تَسِفَّ وتُبتذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تَطْرُفُ عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(1/228)
يخيل إلي أن الكُتَّاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس، وأن كتابتهم أشبه شيء بالأحاديث النفسية التي تتلجلج في صدر الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنس بوحدته؛ فإني لا أكاد أرى بينهم من يحكم وضع فمه على أذن السامع، وينفث في روعه ما يريد أن ينفث من خواطر قلبه، وخوالج نفسه.
الكلام صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من العلو والإسفاف، فإن أردت أن تكون كاتباً فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك، واحرص الحرص كله على ألا يخدعك منها خادع؛ فتسقط مع الساقطين.
ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلاَّ من ناحية الجهل بأساليب اللغة، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً عربياً قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم، ونعوتهم، وتصوراتهم، وخيالاتهم، ومحاوراتهم، ومساجلاتهم، وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاقبون، ويؤنبون، ويعظون، وينصحون، ويَتغزَّلون، وينسبون، ويستعطفون، ويسترحمون، وبأية لغة يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمد تلك الروح العربية استمداداً يملأ ما بين جانحتيه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعته على صفحات قرطاسه.
إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ، وابن المقفع، والصاحب، والصابئ، والهمذاني، والخوارزمي، وأمثالهم من كتاب العربية الأولى، ثم أقرأ ما خطه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار، فأشعر بما يشعر به المتنقل دفعة واحدة من غرفة محكمة النوافذ، مسبلة الستور إلى جو يسيل قراً وضراً، ويترقرق ثلجاً وبرداً؛ ذلك لأني أقرأ لغة لا هيَ بالعربية؛ فاغتبط بها، وهي(1) بالعامية؛ فألهو بأحماضها ومجونها.
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: ولا هي. (م)(1/229)
رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجلين: رجل يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة، فإذا علقت بنفسه تلك الملكة الصحفية ألقى بها في رُوْع قارئ كتابته أَدْوَنَ مما أخذها، فيدلي آخذها كذلك إلى غيره أسمج صورة، وأكثر تشويهاً، وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كرِّ الغداة ومر العشيّ، وطالب قصارى ما يأخذه من أستاذه: نحو اللغة وصرفها، وبديعها وبيانها، ورسمها وإملاؤها، ومترادفها ومتواردها، وغير ذلك من آلاتها وأدواتها.
أما روحها وجوهرها فأكثر أساتذة البيان عنده علماء غير أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يفيض عليه روح اللغة، ويوحي إليه بسرِّها، ويفضي له بلبها وجوهرها أكثر من حاجته إلى أستاذ يعلمه وسائلها وآلاتها.
وعندي أن لا فرق بين أستاذ الأخلاق وأستاذ البيان؛ فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيدها إلا من أستاذ كملت أخلاقه، وسمت آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذ مبين.
ولا يقذفن في روع القارئ أني أحاول استلاب فضل الفاضلين، أو أني أريد أن أنكر على شعراء الأمة وكتابها ما وهبهم الله من نعمة البيان؛ فما هذا أردت ولا إليه ذهبت، وإنما أقول إن عشرة من الكتاب المجيدين، وخمسة من الشعراء البارعين، قليل في بلد يقولون: إنه مهد اللغة العربية اليوم، ومرعاها الخصيب.
وبعد: فإني لا أدري لك يا طالب البيان العربي سبيلاً إليه إلا مزاولة المنشآت العربية منثورها، ومنظومها، والوقوف بها وقوف المتثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج؛ فإن رأيت أنك قد شغفت بها، وكلفت بمعاودتها، والاختلاف إليها فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب؛ فامض لشأنك، ولا تلوِ على شيء مما وراءك تبلغْ من طلبتك ما تريد.(1/230)
ولا تحدثك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشآت العربية لأسلوب تستَرِقه، أو تركيب تختلسه، فإني لا أحب أن تكون سارقاً، أو مختلساً، فإن فعلت لم يكن دركك دركاً، ولا بيانك بياناً، وكان كل ما أفدته(1) أن تخرج للناس من البيان صورة مشوهة لا تَنَاسُبَ بين أجزائها، وبردة مرقعة لا تلاؤم بين آثارها عفواً بلا تكلف ولا تَعَمُّل، وإلا كان شأنك شأن أولئك القوم الذين علقت ذاكرتهم بطائفة من منثور العرب ومنظومها، فقنعوا بها، وظنوا أنهم قد وصلوا من البيان إلى صميمه.
فإذا جدَّ الجد وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء مما تختلج به نفوسهم، رجعوا إلى تلك المحفوظات، ونبشوا دفائنها، فإن وجدوا بينها قالباً لذلك المعنى الذي يريدونه، انتزعوه من مكانه انتزاعاً، وحشروه في كتابتهم حشراً، وإلا تبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو هجروا تلك المعاني إلى معان أخرى غيرها، لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها، فلا بدَّ لهم من إحدى السوأتين: إما فساد المعاني واضطرابها، أو هجنة التراكيب، وبشاعتها.
فاحذر أن تكون واحداً منهم، أو تصدق ما يقولونه في تلمُّس العذر لأنفسهم من أن اللغة العربية أضيق من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة، وأنهم ما لجؤوا إلى التبذل في التراكيب إلا لاستحالة الترفع فيها؛ فاللغة العربية أرحب صدراً من أن تضيق بهذه المعاني العامة المطروقة بعدما احتملت من دقائق العلوم والمعارف ما لا قبل لغيرها باحتماله، وقدرت من هواجس الصدور، وخوالج النفوس على ما عيَّت به اللغات القادرات.
وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها، وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في أعماقها، واقتناعهم من بحرها بهذه البَلَّةِ التي لا تثلج صدراً، ولا تشفي أواماً.
__________
(1) بمعنى: أفاد واستفاد.(1/231)
وكل ما يُعَدُّ عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على أعلام لبعض هذه الهِنات المستحدثة، وهو في مذهبي أهون الذنوب وأضعفها شأناً، ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه، أو التعريب إن عجزنا عن الاشتقاق، فالأمر أهون من أن نحار فيه، وأحقر من أن نقضي أعمارنا في العراك ببابه، والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه، وأجداها عليه.
واعلم أنه لا بدَّ من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشآت العربية، فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفاً بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب؛ لأن حسن الاختيار طِلْبةٌ تتعثر بين يديها الآمال، وتتقطع دونها أعناق الرجال؛ فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس منهم ذوقاً سليماً، وقريحة صافية، وملكة في الأدب كمصفاة الذهب، فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاء وفطنة وقريحة خصبة لينة صالحة لنماء ما يلقى إليها من البذور الطيبة _ عُدْتَ وبين جنبيك ملكة في البيان زاهرة، يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثُرَ الوردِ والأنوار من حديقة الأزهار.
الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _
الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه(1)
للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
حقيقة الشعر:
الكلام إما نثر، وهو ما يُلقى من غير قصد إلى تقييده بوزن، ولا يلزم بناؤه على حرف معين تنتهي به جمله.
وإما منظوم، وهو الكلام الذي يُصاغ في أوزانٍ خاصة، وتبنى قِطَعُه على حرف خاص يختاره الناظم ويلتزمه في آخر كل قطعة منه، وهذا هو فن الشعر.
__________
(1) مجلة نور الإسلام عدد 9، مجلد 3، الصادر في رمضان 1351هـ، وانظر إلى كتاب هدى ونور للشيخ الخضر عناية الأستاذ علي الرضا الحسيني ص121 _ 132.(1/232)
ورأي بعض الأدباء أن من المنظوم ما لا يختلف عن الكلام العادي إلا بهيئة الوزن والتزام القافية، فلا يحسن أن تجعل ميزة الشعر شيئاً يعود إلى مقدار الحروف، وأشكالها، والتزام حرف منها في آخر كل قطعة منه دون أن تكون له خاصة تميزه عن غيره من جهة المعنى؛ فزادوا في بيانه قولهم: من شأنه أن يُحَبِّبَ إلى النفوس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرِّه إليها ما قصد تكريهه إليها، وتحبيبُه الأشياء أو تكريهُها بوسيلة ما يشتمل عليه من حسن التخييل.
فالكلام الموزون المقفى الذي يحبب إلى النفوس شيئاً، أويكرِّهه إليها بوسيلة الحجة التي يصوغها العقل، وتجري عليها قوانين المنطق _ لا يسمى شعراً على وجه الحقيقة، لأنه خالٍ من روح الشعر الذي هو حسن التخييل.
والحق أن الشعر ما يقصد به حمل النفوس على فعل الشيء أو اعتقاده، أو صرفها عن فعله أو عن اعتقاده، من جهة ما يشتمل عليه من حسن التخييل أو براعة البيان، ومن هنا دخل في الفنون الجميلة، ولا جمال في المنظوم إلا أن يكون في معناه غرابة، أو في تركيب ألفاظه براعة.
فالكلام الموزون المقفى إنما يكون حفياً باسم الشعر متى بدى فيه وجهٌ من حسن الصَّنعة، بحيث يكون هذا الحسن زائداً على أصل المعنى الذي يقصد بالإفادة أولاً، ولا فرق بين أن يكون أثر البراعة في التخييل، أو أثر البراعة في ترتيب المعاني وإيرادها في ألفاظ مؤتلفة سنيَّة.
ولا ننسى أن للنفس عند سماع الكلام الموزون حالاً من الارتياح غير حالها عند سماعه منثوراً، يدل لهذا الجُمَلُ البليغة المرسلة إذا تُصُرِّفَ فيها بنحو التقديم والتأخير حتى وافقت وزناً من الأوزان المألوفة؛ فإن ارتياح النفس لها بعد هذا التصرف يكون أوفر.
ومن أمثلة ما جرى فيه التخييل البارع قول أبي زيد عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي من قصيدة ألقاها بين يدي إدريس بن يحيى، أحد أمراء الأندلس:
ومصابيح الدجى قد طفئت
... في بقايا من سواد الليل جونْ
وكأن الظل مِسكٌ في الثرى(1/233)
... وكأن الطل درٌّ في الغصونْ
والندى يقطر من نرجسه
... كدموع أسكبتهنَّ الجفونْ
والثريا قد هوت من أفقها
... كقضيب زاهر من ياسمينْ
وانبرى جنح الدجى عن صبحه
... كغراب طار عن بيضٍ كنينْ
فلو تحدث الشاعر عن انجلاء الليل، وطلوع الصبح، وانبساط الظل، ونزول الطل وتساقط الندى، وهويِّ الثريا من أفقها بالعبارات المجردة عن مثل هذا التخييل لما اهتزت النفوس لها هذا الاهتزاز البالغ.
ومن أمثلة الشعر الذي جاءه الجمال من حسن ترتيب معانيه وبراعة نسجه، قول أبي العلاء المعري:
كم بودرت غادةٌ كعاب
... وعمرت أمها العجوزُ
أحرزها الوالدان خوفاً
... والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا
... والخلد في الدهر لا يجوز
فمعاني هذه الأبيات يستوي في معرفتها القرويّ والبدوي، كما قال الجاحظ في البيان والتبيين، ومن الذي لا يدري أن داعي الموت كثيراً ما يبادر الفتاة، ويدع أمها وهي عجوز، وأن المنايا قد تبطئ عن بعض الأشخاص فتطول أعمارهم، وأن الخلود في الدنيا غير مطموع فيه ؟
ولكن الشاعر صاغ هذه المعاني في سلك التناسب، وأبرزها في ثوب قشيب من الألفاظ العذبة، والنسج الحكيم؛ فكان لها _ وهي في ائتلافها، وزخرف أثوابها _ وقْعُ ما تبتهج له النفوس ابتهاجها لمعان جديدة لم تخطر لها من قبل على بال.
ومن الشعر ما هو باطل، وهو الذي وصف الله _ تعالى _ أصحابه بقوله: [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ]... الآية الشعراء.
ومنه ما هو حق، وهو المشار إليه بقوله ": =إن من الشعر حكمة+.
وسائل البراعة فيه:(1/234)
لا يَطُوع الشعر البارع إلا لمن يردد نظره على كثير من الأشعار البليغة، ويملأ منها حافظته، ثم يأخذ قريحته بالتمرين على النظمِ الفينةَ بعد الفينةِ؛ فهذان ركنان لتربية ملكة الشعر، وترقيتها.
فإذا أتيح للشاعر مع هذا جودةُ هواءِ المنازل التي يتقلب فيها، وحسنُ مناظرها، ووثق بأن في قومه من يقبل على الشعر، ويقدر مراتب الشعراء _ لم يلبث أن يأتي بما يسترقُّ الأسماع، ويسحر الألباب.
وشأنُ مَنْ يزاول العلوم ذات المباحث العميقة، والقوانين الكثيرة أن لا يبلغ الذروة في صناعة القريض؛ ذلك أن الناشئ الذي يقبل على طلب العلوم إقبالَ مَنْ يرومُ الرسوخ في فهمها، والغوص على أسرارها _ لا يجد من الوقت ما يصرفه في حفظ المقدار الكافي من أشعار البلغاء، وفي تمرين قريحته على النظم تمريناً يصعد بها إلى الذروة.
وإذا صرف من وقته في الحفظ والتمرين ما فيه الكفاية وجد من قريحته المعنية بالبحث عن الحقائق العلمية ما يبطئ به عن اختراع معان خيالية بديعة.
ونظر ابن خلدون في وجه قصور العلماء عن التناهي في صناعة الشعر، وأبدى أن السبب ما يسبق إليهم من حفظ المتون العلمية؛ فإن عبارات هذه المتون _ وإن كانت على وقف العربية _ لا يراعى فيها قانون البلاغة.
وامتلاءُ الذهن من الكلام النازل عن البلاغة، لا يخلو من أن يكون له أثر في النظم؛ فيقصر به عن المرتبة العالية من الفصاحة، فلو انبعثت قريحته في فضاء واسع من الخيال، واستطاعت اختراع صور غريبة لخدشت تلك المحفوظاتُ ملكةَ فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه أو في نسج جُمَلِه ما يتجافى عنه الذوق، فلا تُتَلَقَّى تلك الصور بالارتياح وإن كانت في نفسها غريبة.
فالتوغل في العلوم يضايق ملكة الشعر، وأشد ما يضايقها العلوم النظرية، كالمنطق، والكلام والفلسفة، والفقه، ولا سيما ما يُعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية.(1/235)
وعلوم النحو والصرف والبيان معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى دُرِسَتْ على طريقة التوسع في مسائل الخلاف، ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات _ أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية.
وقد يكون في الرجل قوةُ الشاعرية فيهجُرُها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها.
قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعر؛ فإن خاطري لا يوافقني على قوله على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلت قط شيئاً منه ؟ قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً
... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضِب مخافة هجر خلٍّ
... ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن المشيب بدا ذميماً
... فصيرت الخضاب له عقابا
فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأَ نظم الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئٌ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.
الارتياح للشعر:
ترتاح النفس لصور من المعاني يصنعها الخيال، أو تخرج في ثوب قشيب من حسن البيان، ذلك الارتياح لذة الشعر الذي هو صنع الألمعية المتلألئة، والتخيل الواسع، والذوق الصحيح.
ولا أظن أن في الناس من لا يلذ الشعر البديع متى أحسّ معانيه، ووقعت في ذهنه بادية الوجوه كما كانت في ذهن مصوّرها.
وإنما المشاهد أن الناس يتفاوتون في الارتياح للشعر على قدر تفاوتهم في صفاء الذوق، وتقدير ما في معانيه من غرابة وحسن التئام، أو تقدير ما في ألفاظه من حسن السبك وجودة التركيب.
فإذا رأيت الرجل يسمع الشعر البارع، ولا تلوح عليه أمارة الارتياح لسماعه، فلأنه لم يحس ما فيه من إبداع وجودة صنعة.
وكثيراً ما يعيب الناقد صورة معنى خيالي حيث لا يحس الناحية التي فعل فيها الخيال البارع فعلته.
أورد بعض الكاتبين في الأدب قول الشاعر:
كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحاً(1/236)
... وليس يدخله إلا إذا انطبقا
وعابه بقوله: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس.
ولو اعتاد هذا الكاتب النظر إلى الصور الخيالية من مسالكها اللطيفة، لما أتعب فكره في البحث عن الباب الذي يدخل من الطيف المتخيل للنفس في صورة المرئي رأي العين.
يصفو الذوق؛ فيحس براعة الشعر ولطف مسلكه؛ فتأخذ النفس من شدة الإعجاب به حالة ربما عبروا عنها بالإغماء.
أنشد عمرو بن سالم المالقي، في مجلس أبي محمد عبد الوهاب، أبياتاً لبعض الأندلسيين، منها:
ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم
... فتقلدوا شهب النجوم عقودا
فأخذ أبا محمد حال من الإعجاب بهذه الأبيات حتى تصبب عرقاً، وقال: إني مما يقهرني ولا أملك نفسي عنده الشعر المطبوع.
وروى حماد بن إسحاق، أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف، إذا سمع شيئاً استحسنه أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك، فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
إلخ الأبيات، ثم ترنّح ساعة وقال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا البيت! فقلت: لا، ارفق بنفسك.
وكان سعيد بن المسيب ماراً ببعض أزقة البصرة فسمع منشداً ينشد قصيدة لمحمد بن عبد الله النميري يقول فيها:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشت
... به زينب في نسوة خَفِرات
يخبئن أطراف البنان من التقى
... ويخرجن جنح الليل معتجرات
فضرب سعيد برجله الأرض، وقال: هذا _ والله _ يلذ سماعه.
وصام أبو السائب المخزومي يوماً، فلما صلى المغرب وقدمت له المائدة خطر بقلبه بيتا جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
... وشلاً بعينك لا يزال مَعيناً
غَيَّضْنَ من عبراتهن وقلن لي
... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فاشتد ارتياحه لهما، حتى حلف أن لا يفطر في تلك الليلة إلا على هذين البيتين.(1/237)
وكثيراً ما يكون ارتياح الأمير لبيت واحد سبباً في إغناء الشاعر ودفع مظلمته، نقرأ في أخبار ابن شرف أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له، فورد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر
... إلا الذي في عيون الغيد من حور
قال المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً، فقال له: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقّع له بها، وعزل عنها كل والٍ.
وكيف ترى ابتهاج أبي عمرو بن العلاء، حين سمع قول بشار:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
... ونفى عني الكرى طيف ألم
روِّحي عني قليلاً واعلمي
... أنني يا عبدُ من لحم ودم
إن في برديّ جسماً ناحلاً
... لو توكأت عليه لانهدم
لا شك أن ابتهاجه لسماعه كان بالغاً ما يمكن أن يبلغ، ينبئك بهذا أنه سُئل عن أبرع الناس بيتاً، فقال: الذي يقول: لم يطل ليلي، وأنشد الأبيات الثلاثة.
العلماء والشعر:
في العلماء من يلذ استطلاع الحقائق إلى حد أن يستغرق أوقاته في البحث العلمي، ويرغب عن أن يصرف في صناعة الشعر، أو تذوّق بلاغته ولو ساعة من شهر، حكى المقري أنه أنشد بحضرة العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي قول ابن الرومي:
أفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه
... وبكُحْله الأحياءَ والبصراءَ
فإذا مررت رأيت من عميانه
... جمعاً على أمواته قرّاءَ
قال: فاستعادني الأبيات، حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، ثم قال: أظننت أنني استحسنت الشعر؟ إنما تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرأون على المقابر، فإني كنت أرى ذلك حديث العهد؛ فاستفدت التاريخ.
وفي العلماء من يأخذ الشعر البارع بمجامع قلبه، ويجد في نفسه قوةً على نظمه، فيضرب مع الشعراء بسهم، ليزين عمله بهذا الفن الجميل.(1/238)
وسبْقُ الشعراء المتجردين للشعر وحده في هذه الحلبة لا يثني العلماء عن تعاطيه؛ نظراً إلى أنه فن من فنون الأدب الجميلة، وقد يتخذ وسيلة إلى جلب خير أو دفع أذى.
والتاريخ يحدثنا أن في أعلام العربية من كانوا يجيدون صناعة القريض، كابن دريد، الذي كانوا يصفونه بأنه أعلم الشعراء وأشعر العلماء، ومن مختارات شعره الأبيات العينية التي يقول فيها:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه
... فليس له من شيب فوديه وازع
ومثل الإمام النحوي أبي الحسين علي بن أحمد بن حمدون، ومن جيد شعره:
تناءت ديار قد ألفتُ وجيرةٌ
... فهل لي إلى عهد الوصال إيابُ
وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى
... ودون مرادي أبحر وهضاب
مضى زمني والشيب حل بمفرقي
... وأبعد شيء أن يُردَّ شباب
ويحدثنا أن في رجال الفقه من يجيد التخيل، ويحسن صياغة الكلام المنظوم، كالقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي الذي قال فيه أبو العلاء المعري:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً
... وينشر الملك الضليل إن شعرا
ومن نظم هذا القاضي:
متى تصل العطاش إلى ارتواء
... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يَثْنِ الأصاغر عن مراد
... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنَّ ترفّعَ الوضعاءِ يوماً
... على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأصاغر والأعالي
... فقد طابت منادمة المنايا
ويحدثنا بأن في علماء الحديث من يجيد صنع الشعر، مثل الحافظ سليمان ابن موسى الكلاعي؛ فإن له من الشعر ما يشبه أن يكون عربياً مطبوعاً، ومما قال:
أحن إلى نجد ومن حل في نجد
... وماذا الذي يغني حنينيَ أو يجدي
وقد أوطنوها وادعين وخلفوا
... مُحِبَّهُمُ رهن الصبابة والوجد
وضاقت عليّ الأرض حتى كأنها
... وشاحٌ بِخَصرٍ أو سوارٌ على زند
ونجد للقاضي عياض _وهو من علماء الحديث والفقه_ شعراً ذاهباً في التخييل إلى حد بعيد ومما قال:
انظر إلى الزرعِ وخاماتُه
... تحكي وقد ماست أمام الرياح(1/239)
كتيبة خضراء مهزومة
... شقائق النعمان فيها جراح
ويحدثنا أن في علماء المنطق والرياضيات من يصنع صوراً خيالية، ويبرزها في ألفاظ عذبة رقيقة، مثل أبي بكر بن الصائغ الأندلسي، ومن نظمه البديع قوله:
ضربوا الخيام على أقاحي روضة
... خطر النسيم بها ففاح عبيرا
وتركت قلبي سار بين حمولهم
... دامي الكلوم يسوق تلك العيرا
لا والذي جعل الغصون معاطفاً
... لهمُ وصاغ من الأقاح ثغورا
ما مر بي ريح الصبا من بعدهم
... إلا شهقت له فعاد سعيرا
يبرع بعض العلماء في الشعر، ولكن فحول الشعراء من غير العلماء يكون جيد أشعارهم أكثر، ونَفَسهم في الشعر أطول، وقرائحهم إلى المعاني الغربية أسرع.
التجديد في الشعر:
يجري على ألسنة المحاضرين، وأقلام الكتب حديث التجديد في الشعر، ولسنا ممن يتجافى عن رأي التجديد؛ إذ التجديد سنة من سنن الشعراء النابغين، ولا سيما شعراء ينشؤون أو ينزلون في بلاد عامرة بمظاهر المدينة، وإنما نريد بحث ما يعنى بكلمة التجديد، حتى نصل إلى مافيه إصلاح الشعر، ونتحامى هدم ناحية من نواحي اللغة الفصحى.
للشعر مقاييسُ، وقوافٍ، ومعانٍ، وألفاظٌ، وأساليبُ، وفنونٌ.
أما المقاييس فقد نظم العرب في ستة عشر مقياساً، وهي المدونة في كتب العروض وما زال الشعراء يصوغون أشعارهم على هذه المقاييس إلى عهد الدولة العباسية، وفي ذلك العهد حدثت موازين خارجة عن الموازين السالفة، ووجدت كما تجد الأزجال في هذا العهد من يعجب بها، ويلذ سماعها.
ومن الموشحات الأندلسية ما يختلف في أشطار القصيدة بالطول والقصر اختلافاً بيّناً، كقول أبي الحسن بن سهل:
كحل الدجى يجري
... من مقلة الفجر
... على الصباح
ومعصم النهر
... في حلل خضر
... من البطاح
ومن هذا القبيل موشحة ابن الوكيل، التي دخل بها على أعجاز قصيدة ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ومما يقول في الموشحة:
يا جيرة بانت
... عن مغرم صب
لعهده خانت(1/240)
... من غير ما ذنب
ما هكذا كانت
... عوائد العرب
لا تحسبوا البُعدا
... يغير العهدا
... إذ طالما غيّر النأي المحبينا
وإذا كان الأدباء في العصور الماضية لم يَقْصُروا شعرهم على المقاييس المعروفة فأحدثوا مقاييس جديدة _ فلا نكره لأديب أن يصوغ الشعر في مقياسٍ محدث متى وثق من موافقته لأذواق الناس، وارتياحهم لحركاته وسكناته.
وأما القافية فقد ألزمها العرب على النحو المعروف في أشعارهم، حتى اخترع الأدباء الموشحات، فأخذت القافية هيئة غير هيئتها الأولى، كما رأيتها في المثُل التي أوردناها آنفاً.
وفي التزام القافية على الوجه الذي اختاره العرب سابقاً، وعلى نحو ما أحدثه الأدباء من بعد _ دلالةٌ على البراعة، ومحافظةٌ على وجه من الوجوه التي يمتاز بها المنظوم على المنثور.
وأما المعاني فللشاعر أن يذهب فيها كل مذهب، وله أن يأخذ في التشبيه والاستعارات كل مأخذ، فيرسل خياله فيما احتوته الحافظة من المعاني القديمة والحديثة، والطبيعية والصناعية، ويؤلف منها ما شاء من الصور الخيالية، مراعياً أذواق الطوائف التي يريد إثارة عواطفها نحو الشيء أو صرفها عنه.
وما زال فحول الشعراء في كل عصر يبتكرون المعاني، وينتزعون من مظاهر المدينة المتجددة صوراً يبرعون في صنعها، فلشعراء العصر العباسي بالشرق، أو شعراء الأندلس بالغرب معانٍ وتخيلاتٌ لم يطرقها الشعراء في الجاهلية، أو في صدر الإسلام، أو عهد الدولة الأموية.
وقع هذا التجديد من فحول شعرائنا، وكانوا على شعور من الحاجة إليه، ونبه أدباؤنا على هذا الشعور فيما كتبوا قديماً.
قال ابن سعيد، يفاخر أهل القيروان بشعراء الأندلس: = وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خَلَقُهُ في الأسماع جديداً، وكَلِيلُه في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب؟+(1/241)
وإذا لم تُجِدْ قرائح شعراء عصر أو بلد بمعان جديدة، ورأيناهم لا يزيدون عن أن يرددوا معاني أسلافهم_ فلضعف ملكاتهم الشعرية، وقصورها عن أن تخرج للناس ثمراً جديداً.
وأما الألفاظ، فحقها أن يراعى فيها ما ثبت عن العرب، وما تقتضيه قوانين الصرف، وما تضعه المجامع العلمية على حسب ما تدعو إليه حاجة التعبير عن المعاني المحدثة.
والألفاظ الجديرة بأن يصاغ منها الشعر هي الألفاظ التي لا يخفى المراد منها على أكثر من يقصد استمالة عواطفهم إلى الشيء أو صرفها عنه.
ولا يكفي لجواز استعماله اللفظ في القصيدة خلوُّه من تنافر الحروف، وموافقته للوضع العربي، ووجوده في كتب اللغة القريبة التناول؛ إذ ليس كل لفظ يتحقق فيه شرط الفصاحة يصلح للشعر، بل وراء الفصاحة شيء آخر هو مراعاة حال قراء الشعر؛ فيصاغ لهم في ألفاظ تطرق أسماعهم، فتحضر معانيها في أذهانهم؛ فلو هُجِرَتْ ألفاظ في عصر من العصور، أو قل استعمالها بحيث لا يصل إلى معانيها إلا بعد الرجوع إلى كتاب من كتب اللغة، وشاعت ألفاظ ترادفها بحيث تكون أسرع بالمعنى إلى ذهن المخاطب _ كان من حق الشاعر اختيارُ الألفاظ التي يكون بها المعنى أقرب إلى الذهن، ولا سيما ألفاظ تساوي الألفاظ المهجورة أو النادرة الاستعمال في خفة النطق، وحسن تأليف حروفها.
فطبيعة الشعر تستدعي التجديد في الألفاظ على النحو الذي وصفنا، فالشاعر المجيد لا يجمد على الألفاظ التي استعملها الشعراء في عصور ماضية، ثم قل دورانها في كلام البلغاء من بعد.
وإذا لم يكتف الشاعر في خدمة اللغة بحفظ مذاهب بلاغتها، وفنون بيانها، وأراد أن يكون له نصيب في إحياء ما هجرته الألسنة من كلماتها العذبة السائغة _ ففي استطاعته أن يأتي إلى الكلمة التي تختفي معانيها على أكثر القراء، ويوردها حيث لا يفوتهم فهم المراد من البيت، والارتياح لما فيه من حسن التخييل.(1/242)
فلو أصبحت كلمةُ =امتشق+ مثلاً غيرَ جاريةٍ في استعمال الشعراء في عصر _ لما كان على شاعر أراد إحياءها من حرج في استعمالها حيث ينبه مساق الكلام على المراد منها، كما استعملها العزازي في قوله:
والبدر نحو الغروب أسرع
... كهارب ناله فرَقُ
والبرق بين السحاب يلمع
... كصارم حين يُمْتَشَقُ
ومن ذا يسمع هذا البيت ولا يفهم أن القصد تشبيه حال البرق عند لمعانه بحال السيف عند تجريده من قرابه؟
وأما الأساليب فيراعى فيها قوانين النحو والبيان المسلَّمة، فلا نقبل من الشاعر أن يقدم خبر =إن+ مثلاً عليها، فيقول =كاتب إنَّ زيداً+ بدعوى التجديد في الأسلوب، ولا يحسن منع أن يتكئ على علة التجديد، ويسقط حرف العطف في نحو =لا ورحمك الله+ أو يدع الكلمات والجمل التي توضع في أثناء الكلام، فتكسو البيت لطفاً، وتدفع عنه أوهاماً يَفْقِدُ بها المعنى قوته، أو ينقلب بها إلى غير مراد، إلى ما يشاكل هذه التصرفات التي تخرج بالشعر العربي عن حدود البلاغة وحسن البيان.
وللشاعر أن يتخذ من الأساليب بعد رعاية قوانين النحو والبيان ما يشاء.
وقد اختلفت أساليب الشعراء في دائرة قانون اللغة الصحيح اختلافاً واضحاً، حتى إن الألمعي الدارس لأشعار الفحول من الشعراء في عصور متعددة _ يكاد يعرف من أسلوب القصيدة الشاعرَ الذي قالها، أو العصرَ الذي قيلت فيه.
وأما فنون الشعر _ أعني الأغراض العامة التي توجه إليها الشاعر بالنظم، نحو تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، والحماسة والفخر، والمديح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والاستعطاف، والاعتذار _ فقد نظم فيها العرب كثيراً، وسلكوا فيها طرقاً بديعة.
ومن الشعراء من يبرع في فن أو فنون، كما يبرع عمر بن أبي ربيعة في فن الغزل، والمتنبي في إرسال الحكمة.(1/243)
ومن العصور ما يشيع فيه بعض فنون الشعر أكثر مما سواه، كالعصر الذي يحمي فيه وطيس الحروب؛ فإنه يغلب فيه الحماسة والفخر، والعصر الذي يشيع فيه الفسوق يغلب فيه النسيب ووصف الخمور.
وإذا غلب فن من الفنون وجد رواجاً حتى عند من لا ناقة له في ذلك الفن ولا جمل، فتسمع الحماسة مثلاً في شعر الجبان الذي =إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً+(1) وتسمع الغزل ممن لم يحمل قلبه صبابة، ووصف الخمر ممن لا يعرف للخمر رائحة.
أما عصرنا هذا، ففيه إباحية وإلحاد، فلا عجب أن نرى من الشعر الرفيع ما تنبذه مجالس أهل الفضل، ولا عجب أن نرى من الشعر المارق من الدين ما يلقي بالمستضعفين في تهلكة، وإننا اليوم في حركة علمية اجتماعية، تنادي كل طائفة منا لأن تسعفها بما لديها من قوة.
ولكثير من شعرائنا في تقوية هذه الحركة مواقف محمودة، وأملنا أن يكون الفن الذي يُعرف به الشعر في هذا العصر فنَّ استنهاضِ الهمم، والصعود به إلى ذروة العز والمجد، فنَّ تقويمِ الأخلاق، وإصلاح الحياتين: العلمية والمدنية.
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
45_ مجلس رسول الله ": للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي(2)
__________
(1) هذا تضمين لقول الشاعر:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا (م)
(2) الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا ص129_133.(1/244)
للشيخ العلامة محمد رشيد رضا(1)
__________
(1) هو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا ولد يوم 27 من جمادى الأولى عام 1282هـ في بلدة (القلمون) بالقرب من طرابلس الشام، ونشأ في رعاية والديه في بيت علم وفضيلة، لقن فيه الأخلاق الحميدة منذ نعومة أظفاره، وشاهد مجالس العلم تعقد في ساحته، حفظ القرآن الكريم، وبعض مبادئ العلوم الدينية، وقواعد الحساب، والخط، وغير ذلك من العلوم الأساسية لمبتدئي التعليم، وذلك في مدرسة بقريته (القلمون)، ثم التحق بالمدرسة الرشدية الابتدائية بطرابلس، ومكث بها سنة، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية التي أسسها الشيخ حسين الجسر الأزهري.
كان سريع الفهم حتى أنه كان يضجر من مجرد تكرار الأساتذة لما يشرحونه من مواضيع، إلا أنه لم يكن سريع الحفظ فنادراً ما كان يحفظ أكثر من بيت واحد من الشعر عند سماع أبيات شعر لأول مرة، لكنه بصفة عامة كان مكباً على طلب العلم، وتفوق على أقرانه حتى أن أستاذه الشيخ الجسر قال عنه في ملأ من الناس: =إن محمد رشيد رضا ساوى في سنة واحدة من سبق لهم الاشتغال عليَّ سبع سنين من أذكياء الطلاب+.
وقد قرأ على الشيخ الجسر وعلى غيره من أفاضل علماء طرابلس، ولشغفه بالقراءة فقد قرأ أثناء طلبه للعلم مصنفات عديدة في التفسير، والحديث، والأدب، والتاريخ، وغير ذلك من علوم.
انتقل إلى مصر عام 1315هـ واتصل بالشيخ محمد عبده، وبعد وصوله مصر بثلاثة أشهر أصدر العدد الأول من مجلة (المنار).
تعددت جهوده وأنشطته في خدمة الإسلام في أكثر من مجال، فقد عمل على إنشاء مدارس، وجمعيات إسلامية في كثير من الأقطار تؤدي خدمات خيرية وتعليمية.
توفي × فجأة في القاهرة يوم الأربعاء 23 من شهر جمادى الأولى عام 1354هـ ودفن بها. انظر المختار من المنار إعداد وتعليق الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 1/9_18.(1/245)
التحقيق في صفة حال محمد " من أول نشأته، وإعداد الله _ تعالى _ إياه لنبوته ورسالته: هو أنه خلقه كامل الفطرة؛ ليبعثه بدين الفطرة، وأنَّه خَلَقَهُ كامل العقل الاستقلالي الهيولاني(1)؛ ليبعثه متمماً لمكارم الأخلاق، وأنه بُغِّض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنسَ نفسه بشيء مما يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية، أو منكرات القوة الوحشية، كسفك الدماء، والبغي على الناس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل؛ ليبعثه مصلحاً لما فسد من أَنْفُسِ الناس، ومزكِّياً لهم بالتأسِّي به، وجعله المثلَ البشريَّ الأعلى؛ لتنفيذ ما يوجه إليه من الشرع الأعلى.
فكان من عفَّته أنْ سَلَخَ مِنْ سني شبابه وفراغه خمساً وعشرين سنة مع زوجته خديجة كانت في عشر منها كهلةً نَصَفاً أمَّ أولاد، وفي خمسة عشر منها عجوزاً يائسة من النسل، فتوفيت في الخامسة والستين وهي أحب الناس إليه، وظل يذكرها، ويفضِّلها على جميع من تزوج بهن من بعدها، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها، وحداثتها، وذكائها، وكمال استعدادها للتبليغ عنه، ومكانة والدها العليا في أصحابه.
وظل طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحق، فكان على شجاعته الكاملة يقود أصحابه؛ لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم؛ لأجل صدهم عن دينه، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلاً واحداً منهم هو أبي بن خلف كان موطِّناً نفسه على قتله" فهجم عليه وهو مُدَجَّجٌ بالحديد من مِغْفَر ودرع، فلم يجد" بداً من قتله، فطعنه في ترقوته من خلل الدرع والمغفر فقتله.
وظل طول عمره ثابتاً على أخلاقه، من الزهد والجود والإيثار، فكان بعدما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر التقشف، وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيبات، ونهيه عن تركها؛ تديناً.
__________
(1) الهَيُولَى: كلمة يونانية ومعناها: أصل الشيء ومادته، ومعنى الهيولاني: الأصلي. (م)(1/246)
وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة، وأمره بها عند كل مسجد، وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار.
أكمل الله استعداده الفطري الوهبي، لا الكسبي؛ للبعثة بإكمال دين النبيين والمرسلين، والتشريع الكافي الكافل؛ لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين، وجعله حجة على جميع العالمين بأن أنشأه كأكثر قومه أُمِّياً، وصرفه في أُمِّيته عن اكتساب أي شيء من علوم البشر من قومه العرب الأميين ومن أهل الكتاب، حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان من شعر، وخطابة، ومفاخرة، ومنافرة(1)؛ إذ كانوا يؤمُّون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ من جميع النواحي؛ لإظهار بلاغتهم وبراعتهم، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم، واتساع معارفهم، وكثرة الحكمة في شعرهم، فكان من الغريب أن يزهد محمد " في مشاركتهم فيه بنفسه، وفي روايته لما عساه يسمعه منه.
وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية بن الصلت فقال: =إن كاد ليسلم+، وقال:=آمن شعره وكفر قلبه+، وقال: =إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر حكماً+ رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس.
وأما قوله: =إن من البيان لسحراً+ فقد رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عمر.
قلنا: إن الله _ تعالى _ جعل استعداد محمد " للنبوة والرسالة فطرياً وإلهامياً لم يكن فيه شيءٌ من كسبه بعلم، ولا عمل لساني، ولا نفسي، وإنه لم يُرْوَ عنه أنه كان يرجوها، كما رُوي عن أمية بن أبي الصلت، بل أخبر الله عنه أنه لم يكن يرجوها، ولكن رُوي عن خديجة _رضي الله عنها _ أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته، وفضائله، وكراماته، وما قاله بحيرى الراهب فيه _ تعلَّق أملُها بأن يكون هو النبي الذي يتحدثون عنه، ولكن هذه الروايات لا يصل شيء منها إلى درجة المسند الصحيح، كحديث بدء الوحي.
__________
(1) المنافرة: المحاكمة والمفاخرة في الأحساب والأنساب .(1/247)
فإن قيل: إنه يقوِّيها حَلِفُها بالله أن الله _تعالى_ لا يُخزيه أبداً، قلنا: إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله، ورأت أنها في حاجة إلى استفتاء ابن عمها ورقة في شأنه.
وأما اختلاؤه " وتعبده في الغار عام الوحي فلا شك في أنه كان عملاً كسبياً مقوياً لذلك الاستعداد الوَهْبي، ولذلك الاستعداد السلبي، من العزلة، وعدم مشاركة المشركين في شيء من عباداتهم، ولا عاداتهم.
ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوة؛ لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى الملك، أو عَقِبَ رؤيته حصولَ مأموله، وتحقق رجائه، ولم يَخَفْ منه على نفسه.
وإنما كان الباعثُ لهذا الاختلاء والتحنث اشتدادَ الوحشة من سوء حال الناس، والهرب منها إلى الأنس بالله _ تعالى _ والرجاء في هدايته إلى المخرج منها، كما بسطه شيخُنا الأستاذ الإمام(1) في تفسير قوله _تعالى_:[وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى](الضحى:7) وما يفسره من قوله _عز وجل_: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ](الشورى:52_53) وألم به في رسالة التوحيد إلماماً مختصراً مفيداً، فقال:
__________
(1) يعني: الشيخ محمد عبده.(1/248)
=من السنن المعروفة أن يتيماً فقيراً أمياً مِثْلَه تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لاسيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده؛ فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده(1).
ولكنَّ الأمر لم يَجْرِ على سنته، بل بُغِّضتْ إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعالجته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة.
وما جاء في الكتاب من قوله: [وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى] لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم قبل الخلق العظيم، حاش لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تُلِم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيَّه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته+ أ. هـ.
أقول: وجملة القول أن استعداد محمد" للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله _تعالى_ روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كلِّ ما في العالم من التقاليد الدينية، والأعمال الوراثية والعادات المنكرة، إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه؛ لتجديد دين الله المطلق الذي كان يُرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة، بما يناسب حالهم واستعدادهم، وأراد إكمال الدين به، فجعله خاتم النبيين، وجعل رسالته عامة دائمة، لا يحتاجون بعدها إلى وحي آخر.
عبرة الهجرة (2) لمصطفى لطفي المنفلوطي
__________
(1) كأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل.
(2) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص131_133.(1/249)
إن في أخلاق النبي " وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء.
إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه، وحلمه، وصبره، واحتماله، وتواضعه، وإيثاره، وصدقه، وإخلاصه _ أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشي الشجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى، من الشبه بينها، وبين عرافة العرافين، وكهانة الكهنة، وسحر السحرة، فلولا صفاته النفسية، وغرائزه، وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر الذي تركته؛ ذلك هو معنى قوله _تعالى_: [وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]آل عمران: 159.
كان " شجاع القلب، فلم يهب أن يدعو إلى التوحيد قوماً مشركين يعلم أنهم غلاظ جفاة، شرسون، متنمرون، يغضبون لدينهم غضبهم لأعراضهم، ويحبون آلهتهم حبهم لأبنائهم.
كان على ثقة من نجاح دعوته، فكان يقول لقريش _ أشد ما كانوا هزءاً به وسخرية_: =يا معشر قريش والله لا يأتي عليكم غير قليل؛ حتى تعرفوا ما تنكرون، وتحبوا ما أنتم له كارهون+.
كان حليماً سمح الأخلاق؛ فلم يزعجه أن كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، ويشعثون(1) منه، ويضعون التراب على رأسه، ويلقون على ظهره أمعاء الشاة، وسلى(2) الجزور، وهو في صلاته، بل كان يقول: =اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون+.
كان واسع الأمل، كبير الهمة، صلب النفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلا الرجل بعد الرجل، فلم يبلغ الملل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، فكان يقول: =والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته+.
__________
(1) يقال شعث فلان من فلان: تنقصه.
(2) السلى للدواب بمنزلة المشيمة للإنسان.(1/250)
وما زال هذا شأنه حتى علم أن مكة لن تكون مبعث الدعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقة، فهاجر إلى المدينة؛ فانتقل الإسلام بانتقاله من السكون إلى الحركة، ومن طور الخفاء إلى طور الظهور، لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنها أكبر مظهر من مظاهره.
لقد لقي " في هجرته عناءً كثيراً ومشقةً عظمى؛ فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضناً به، بل مخافة أن يجد في دار هجرته من الأعوان والأنصار ما لم يجد بينهم، كأنما يشعرون بأنه طالب حق، وأن طالب الحق لابد أن يجد بين المحقين أعواناً وأنصاراً، فوضعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخرج من بينهم ليلة الهجرة متنكراً بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب ÷ عبثاً بهم، وتضليلاً لهم عن اللحاق به.
ومشى هو وصاحبه أبو بكر ÷ يتسلقان الصخور، ويتسربان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهضاب، حتى انقطع عنهما، وتم لهما ما أرادا بفضل الصبر والثبات على الحق.
إن حياة النبي " أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرفِ الأخلاق، والتحلي بأكرمِ الخصال، وأحسنُ مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والثبات على الرأي _ وسيلةً إلى النجاح، وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سبباً في علوه على الباطل.
لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الإفرنج؛ فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل، والبر والثبات، والحب والرحمة، والحكمة والسياسة، والشرف الحقيقي، والإنسانية الكاملة، وهي حياة نبينا " وحسبنا بها وكفى.
مجلس رسول الله "(1)لفضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر، المجلد العاشر ص578_597، ربيع الثاني 1357هـ _1938م.(1/251)
احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
ولَكَثْرُ ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: =مكره أخوك لا بطل+ فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال:
ولما أن رأيت بني جُوَيْن ... جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي قد جئت أبغي ... إليهم إنني رجل يؤوس(1/252)
وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل، ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان _عليه السلام_ مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسة أفلاطون الحكيم محفوفة بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء(1)؛ لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
__________
(1) أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير. (م)(1/253)
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: [ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لم ير نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ].
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة _ هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ] وهي شعار الملوك في عرفهم.
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ شاهد عمر حين مقدمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك فقال له: =أَكُسْرَوَيَّةٌ(1) يا معاوية؟!+.
فقال معاوية: =إننا بجوار عدو فإذا لم يروا منا مثل هذا هان أمرنا عليهم+.
فقال عمر حينئذ: =خدعة أريب، أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك+.
__________
(1) كسروية: منسوبة إلى كسرى، والمعنى: أهيئة كسروية، أو أإمارة كسروية؟(1/254)
الآن تهيأ لنا أن نفيض القول في صفة مجلس رسول الله " ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به.
ومن العجب أن ذكر هذا المجلس الشريف ورد في القرآن، قال الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا].
قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: =قال إسحاق بن إبراهيم(1) الفقيه: لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه+ ا _هـ.
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً(2) يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً.
* صفة مجلس الرسول _عليه السلام _:
__________
(1) هو إسحاق بن راهويه.
(2) أُنُفاً: أي جديداً(م).(1/255)
إن رسول الله هو أكمل البشر، وإن أصحابه هم أفضل أصحاب الرسل، وأفضل قوم تقوَّمت بهم جامعةٌ بشريةٌ حسبما بينته في مقال المدينة الفاضلة(1) المنشور في الجزء العاشر من المجلد التاسع من مجلة الهداية الإسلامية، فأراد الله _تعالى_ أن يكون أعظم المصلحين وأفضل المرسلين مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرد عن وسائل الخِلابة والاسترهاب؛ فتكون دعوتُه أكملَ الدعوات، وعِظَتُه أبلغَ العظات كما كان هو أكمل الدعاة والواعظين، وفي ذلك حكم جمة يحضرني الآن منها خمس:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يلوح إليه قوله _تعالى_: [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ].
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: [ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ].
__________
(1) سترى المقال _إن شاء الله_ في مجموعة أخرى من هذه المقالات (م).(1/256)
وهذا معنى قول رسول الله ": =خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً +.
الحكمة الثالثة: أن يحصل له _ مع ذلك _ أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله _ تعالى _ وتأييده.
روى الترمذي أن قيلة بنت خرمة جاءت رسول الله وهو في المسجد قاعداً القرفصاءَ قالت: =فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق+.
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
ثم يقول في صفة الرسول:
لَذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ
الحكمة الرابعة: أن رسول الله بعث بين قوم اعتادوا من سادتهم وكبرائهم أن يكونوا محفوفين بمظاهر الأبهة والفخامة، والرسول سيد الأمة، وقد جاء بإبطال قوانين سادتهم وكبرائهم؛ فناسب أن يشفع ذلك بتجرده عن عوايد سادتهم؛ ليريهم أن الكمال والبر ليس في المظاهر المحسوسة، ولكنه في الكمالات النفسية، وأن الكمال _ كما يحصل بالتخلق والتحلي _ يحصل بالتجرد والتخلي، ولذلك قال رسول الله: =أما أنا فآكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد+.(1/257)
الحكمة الخامسة: أن مجلس رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرة؛ فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرة؛ ليحصل التماثل بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوال الرسول مظاهرَ كمالٍ ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواق؛ ليكون التاريخ شاهداً على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مدارك الخلق؛ فإن الفخامة _ وإن كانت تبهر الدهماء_ فالبساطة تُبهج نفوس الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
* مكان مجلس الرسول:
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجرى فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين _ إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله _تعالى_ استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مقدمه المدينة، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: =توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج+ إلخ.
فقوله فجئت المسجد، فسألت عنه ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.(1/258)
والذي يظهر لي أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _ رضي الله عنها _، وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك أربعة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: =ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة+.
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة _رضي الله عنها_ تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: قوله": =خذوا شطر دينكم عن عائشة+.
وهو كلام جار مجرى البلاغة في غزارة علمها بالدين، ومن جملة أسباب ذلك اطلاعها على ما يجري في مجلس رسول الله، وبذلك امتازت على بقية الأزواج.
الدليل الرابع: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: =لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع+.(1/259)
مع ما رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: =يقول الناس أكثر أبو هريرة، وإن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله على شبع بطني؛ فأسمع ما لا يسمعون، وأشهد ما لا يشهدون+.
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله ".
هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: =لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه+ إلخ... قال: =ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا _ هـ.+ ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به.
* كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة قال: =خرج علينا رسول الله فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً+ فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.(1/260)
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله _ أي من كلامه _ قال: =ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه+.
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً فقاموا مواجهين له ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] الآية.
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه.
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله. وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: =من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا+، قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً.
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله " أصحابَه من الرجال.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه قال: =قال النساء للنبي غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن+...إلخ.(1/261)
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.
* هيئة المجلس الرسولي:
تدل الآثار على أن مجلس رسول الله " كان على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة كما ورد في حديث أبي واقد الليثي في صحيح البخاري؛ إذ قال فيه: =فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم+.
وقد تقدم آنفاً، بل صرح بعض الرواة بأن أصحاب رسول الله "كانوا يجلسون حوله حِلَقاً.
أما رسول الله "فكان مجلسه في وسطهم؛ ففي الصحيح عن أنس ابن مالك÷أن ضماماً بن ثعلبة السعدي ÷لما دخل المسجد قال: أيكم محمد؟ قال أنس والنبي متكئ بين ظهرانيهم، وسيأتي الحديث، ومعنى بين ظهرانيهم أنه في وسطهم.
ومن الغريب ما ذكره القرطبي في كتاب المفهم على صحيح مسلم عن مسند البزار عن عمر بن الخطاب ÷ قال: =كان النبي " يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل، فطلبنا لرسول الله "أن نجعل له مجلساً كي يعرفه الغريب، فبنينا دكاناً من طين يجلس عليه+ ا_هـ.
وهذا غريب، إذ لم يذكر هذا الدكان فيما ذكروه من تفصيل صفة المسجد النبوي في الكتب المؤلفة في ذلك.
وكانت هيئة جلوس رسول الله "في مجلسه غالباً الاحتباء، فقد ذكر الترمذي في كتاب الشمائل عن أبي سعيد الخدري ÷=كان رسول الله "إذا جلس في المجلس احتبى بيديه+ ا_هـ.
وقول الراوي: كان يفعل، يدل على أنه السُّنةُ المتكررة.
والاحتباء هو الجلوس وإيقاف الساقين، فتجعل الفخذان تجاه البطن بإلصاق، ويلف الثوب على الساقين والظهر، فإذا أراد المحتبي أن يقوم أزال الثوب.
وأما الاحتباء باليدين هو أن يجعل المحتبي يديه يشد بهما رجليه عوضاً عن الثوب، فإذا قام قالوا حلَّ حُِبوته (بكسر الحاء وضمها).(1/262)
وكان الاحتباء أكثر جلوس العرب، وربما جلس رسول الله "القُرْفُصَاء _بضم القاف وسكون الراء بالمد والقصر_ وهي الاحتباء باليدين، وربما جعلت اليدان تحت الإبطين وهي جلسة الأعراب والمتواضعين.
وقد وُصِف جلوس رسول الله " القرفصاء في حديث قيلة بنت مخرمة _رضي الله عنها_ وقد تقدم آنفاً، وربما اتكأ رسول الله " في مجلسه في المسجد.
وفي الصحيح عن أبي بكرة ÷ أن رسول الله " قال: =ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور...الخ.
وفي حديث جابر بن سمرة ÷ رأيت رسول الله " متكئاً على يساره وربما اتكأ على يمينه، وفي حديث جابر بن سمرة ÷ أن رسول الله " جلس متربعاً.
ويؤخذ ذلك من حديث جبريل في الإيمان والإسلام من صحيح مسلم.
وقد تجعل له وسادة، روى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷أنه رأى رسول الله " متكئاً على وسادة سوداء.
وعددُ جُلساء رسول الله " لا ينضبط، بل كان يختلف باختلاف الأيام وأوقات النهار، فربما اشتمل المجلس على أربعين رجلاً كما ورد في الصحيح من حديث أنس بن مالك ÷ قال: =أرسلني أبو طلحة الأنصاري ÷أدعو له رسول الله " خامس خمسة لطعام صنعه لرسول الله " فوجدت النبي " في المسجد معه ناس فقمت، فقال: أأرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: لطعام؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا وكانوا نحو الأربعين+.
وربما كان مجلسه يشتمل على عشرة، ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله " إذ أتى بجمار نخلة فقال النبي " : =إن من الشجرة لما بركته كبركة المسلم+، فأردت أن أقول هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكتُّ+... إلخ.
* ما كان يجري في مجلس رسول ":(1/263)
نبعت ينابيع الهدى والحكمة والتشريع من مجلس رسول الله " ومن منبره، ولقد كان أكثر ما رواه أصحابه عنه مما سمعوه منه في مجلسه؛ لذلك يكثر أن تجد في الأحاديث المروية عن الصحابة أن يقول الصحابي: =بينما نحن جلوس عند رسول الله "+.
وكان يقع التحاكم عند رسول الله " في مجلسه، وقد حكم فيه بين المسلمين كثيراً، وبين اليهود في قصة الرجم؛ إذ جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فأمر بهما، فرجما في موضع الجنائز من المسجد.
وكانت تفد عليه الوفود وهو في مجلسه، ويأتيه سفراء المشركين من أهل مكة، ويَعْتَوِرُه العُفاة، وأصحاب الحاجات.
في الشفاء أن أعرابيَّاً جاء يطلب من النبي " شيئاً فأعطاه ثم قال له: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم رسول الله " أَنْ كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، فقال له: أأحسنت إليك؟ قال: نعم.
ثم هو _ أيضاً _ مجلس أدب ينشد فيه الشعر وتضرب فيه الأمثال.
ولقد أنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة فلما بلغ إلى وصف راحلته فقال:
قنواء في حرتيها للبصير بها ... عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل
فقال رسول الله " لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله ": هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر رسول الله "إلى من حوله من قريش نظر من يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷ قال: جالست رسول الله "أكثر من مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم.
وقد ورد في الأثر أن أصحاب رسول الله " إذا دخلوا عليه كانوا لا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة.(1/264)
للعلماء اختلاف في تأويله، فحمله بعضهم على ظاهره، أي لا يفترقون إلا بعد أن يطعموا طعاماً قليلاً؛ ولذلك عبر عنه بذَواق، وهو بفتح الذال الشيء المَذُوق من تمر أو نحوه أو ماء.
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله "إذ أتى بِجُمَّار نخلة...إلخ. أي أتى به ليؤكل في مجلسه، ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث: باب أكل الجمار، وفي حديث الموطأ عن أبي هريرة ÷: جاء رجل إلى رسول الله "يذكر أنه وقع على أهله في نهار رمضان إلى أن قال: فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي "بعرق فيه تمر... إلخ.
والعَرَِق بفتح العين وفتح الراء ويجوز كسرها هو المكتل أي الزنبيل.
وتأوله الأنباري، وابن الأثير، وغير واحد أنه أراد أنهم لا يتفرقون إلا عن علم تعلموه يَقُوْم لأنفسهم مقامَ الطعامِ والشراب للأجسام في الانتعاش والالتذاذ؛ فجرى الكلام على طريقة الاستعارة.
* وقت المجلس الرسولي:
أحسب أن معظم جلوس رسول الله " للناس كان في أوقات تفرغ معظم الصحابة من العمل، فكان يجلس لهم بعد صلاة الصبح كما يشهد لذلك حديث كعب بن مالك ÷ وتوبته، قال كعب: =وأتى رسول الله " وهو في مجلسه بعد الصلاة ثم قال: فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر، وانطلقت إلى رسول الله " حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله " جالس حوله الناس... إلخ+.
وكذلك حديث أبي موسى الأشعري ÷ المتقدم إذ يقول: توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله " يومي هذا وأكون معه فجئت المسجد... إذ لا شك أن ذلك وقت صلاة الصبح، وما كان رسول الله" يستغرق الصباح كله في المجلس فإن أصحابه كانوا يذهبون إلى أعمالهم وحاجاتهم، ولأن رسول الله " كان يدخل بيوت أزواجه، فقد قالت عائشة _رضي الله عنها_ كان يكون في بيته في مَهَنَةِ أهله.(1/265)
وفي حديث علي ÷ من رواية الترمذي ورواية عياض: كان دخوله لنفسه فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
أي كان له في بيته وقت يجلس إليه فيه خاصة أصحابه ومن له حاجة خاصة.
ومعنى يرد ذلك على العامة أنه تحصل منه منفعة للعامة بما يرويه الخاصة من علمه للناس، وفي هذا دليل على أن معظم ما عدا وقت دخوله إلى منزله كان وقت مجلسه إلا إذا عرضت حاجة يذهب إليها.
* آداب مجلس رسول الله:
كيف لا يكون مجلس يحتله رسول الله " ميدان تسابق الآداب إلى غاياتها، وجوَّاً ترفرف فيه الكمالات راقبةً إلى سماواتها.
فإن صاحبه هو الذي أدبه ربه بأحسن تأديب، وجلساءه هم أولئك الغُرُّ المناجيب، وناهيك بأن ورد بعض آدابه في الكتاب المجيد، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ].
قال الواحدي، وابن عطية عن مقاتل وقتادة وزيد بن أسلم: كان النبي " يجلس في المسجد فجلس يوماً وكان في المجلس ضيق؛ إذ كان الناس يتنافسون في القرب من رسول الله "، وفي سماع كلامه، والنظر إليه، وكان رسول الله " يكرم أهل بدر، فجاء أناس من أهل بدر فلم يجدوا مكاناً في المجلس فقاموا وِجَاهَ النبي"على أرجلهم يرجون أن يوسع الناس لهم، فلم يوسع لهم أحد، فأقام رسول الله " أناساً بقدر من جاء من النفر البدريين، فعرف رسول الله " الكراهية في وجوه الذين أقامهم فنزلت الآية.(1/266)
فقوله: [إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] فيما إذا كان في المجلس ضيق، فيتفسح الناس بدون أن يقوم أحد، وقوله: [وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا] أي إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا عن المجلس فافعلوا، أي إذا أمركم الرسول " في مجلسه بالقيام فلا تتحرجوا، وهو ضرب من التفسح.
وقيل التفسح يكون بالتوسعة من قعود أو من قيام، فهما داخلان في قوله: تفسحوا، والنشوز هو أن يؤمروا بالانفضاض عن المجلس، فإذا أمروا بذلك فلا يتحرجوا؛ لأن رسول الله " يحب أحياناً الانفراد بأمور المسلمين؛ فربما جلس إليه القوم فأطالوا؛ لأن كل أحد يحب أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي "، وكل ذلك من فرط محبتهم إياه، وحرصهم على تلقي هداه.
ومن آدابه المذكورة في الكتاب المجيد ما في قوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ]، وقوله: [ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً].
قال علماء التفسير: نزلت هاتان الآيتان بسبب محاورة جرت بين أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ بين يدي رسول الله " في مجلسه، وذلك حين قدم وفد بني تميم أشار أبو بكر ÷ على النبي "أن يؤمَّ على بني تميم القعقاع بن معبد، فقال عمر ÷ بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماديا، وارتفعت أصواتهما، فنزل القرآن بهذه الآية، قالوا: فكان أبو بكر بعد ذلك لا يكلم رسول الله "إلا كأخي السرار _ أي كصاحب السر والمسارة _ وكان عمر ÷ بعد ذلك إذا كلم رسول الله " لا يكاد يسمعه حتى إن رسول الله " لَيَسْتَفْهِمه.(1/267)
ومن آداب مجلسه أن أصحابه يكونون فيه على غاية التؤدة والسكينة؛ فقد روى أصحاب السنن عن أسامة بن شريك ÷أن رسول الله "إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، ومثله في حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله ".
ومعنى كأنما على رؤوسهم الطير: أي في حالة السكون؛ لأن الطائر ينفر من أدنى تحرك.
وفي حديث هند بن أبي هالة _ رضي الله عنها _: كان رسول الله "يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه.
وفيه أن مجلسه مجلس وقار، وحلم، وحياء، وخير، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته.
ومعنى لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر فيه حرمات الناس بسوء، يقال أبَنه إذا ذكره بسوء، والمراد بالحرم هنا أعراض الناس وما يحرِّمون تناوله منهم، ومعنى لا تثنى فلتاته: لا تعاد، مأخوذٌ من التثنية وهي الإعادة، والفلتات جمع فلتة وهي الزلة من القول والفعل إذا جرت على غير قصد بغتة؛ يعني أن أهل ذلك المجلس أهل حفظ للسر، وإعراض عن اللغو، فلو صدرت من أحد فلتة لم يتناقلها جلساؤه بالتسميع والتشنيع، وهذا أدب عربي رفيع، وفي هذا المعنى قال وداك بن ثميل من شعراء الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوّارَ غربُ لسان
مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
49_ موت أم: للأديب مصطفى صادق الرافعي
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
-الأستاذ أحمد أمين ... 16
-الشيخ علي الطنطاوي ... 23
-العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 34
-العلامة أحمد تيمور باشا ... 42
-العلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 51
-د. زكي مبارك ... 69
-الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 72
-العلامة محب الدين الخطيب ... 92
-العلامة محمود شاكر ... 108(1/268)
-العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 121
-الأديب مصطفى صادق الرافعي ... 171
-العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ... 154
-الأديب عباس محمود العقاد ... 245
-أمير البيان شكيب أرسلان ... 264
-العلامة الشيخ أحمد شاكر ... 275
-العلامة الشيخ محمد رشيد رضا ... 336
المقدمة ... 3
-نبذة عن تاريخ المقالة ... 3
-المقالة في العصر الحديث ... 4
-موضوعات المقالة: ... 4
1_ المقالة الدينية ... 4
2_ المقالة الاجتماعية ... 4
3_ المقالة السياسية ... 4
4_ المقالة النقدية ... 4
5_ المقالة الوصفية ... 5
-تقسيم آخر للمقالة: ... 5
1_ المقالة الذاتية ... 5
2_ المقالة الموضوعية ... 5
-الفروق بين مقالة الصحيفة ومقالة المجلة ... 6
-الفترة الذهبية للمقالة ... 6
-سبب إخراج هذه المجموعة ... 7
-فكرة عامة عن هذه المجموعة ... 7
-مجمل ما اشتملت عليه هذه المجموعة ... 9
-مسرد بعنوانات الموضوعات والمقالات في هذه المجموعة ... 10
أولاً: مقالات في السعادة ... 15
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين ... 16
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي ... 23
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 34
-رأيان في اللذة ... 35
-انقسام اللذة بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية وعقلية ومركبة منهما ... ... 35
-الملك الناصر وحاله مع السعادة ... 37
-حال الحكيم مع السعادة ... 38
-جاءت شريعة الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية ... 39
-العاقل لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية ... 39
-أولئك هم السعداء ... 40
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك ... 41
4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا ... 42
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين ... 45
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 51
-الغرض من البحث ... 53
-منبت الإنصاف الأدبي ... 54
-للغلو في حب الذات فرعان ... 54(1/269)
-منشأ الحسد والحرص ... 55
-قلة الإنصاف تبعد ما بين الأقارب والأصدقاء ... 55
-قلةُ الإنصافِ تَجُرُّ إلى التقاطعِ ... 56
-قلةُ الإنصاف تسقط احترامك من العيون ... 56
-قلةُ الإنصافِ تُسْقط احترامك من القلوبِ ... 57
-قصة للمنذر بن سعيد مع أبي جعفر النحاس ... 57
-قلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً ... 57
-قصة للزجاج مع المبرد ... 58
-قلة الإنصاف تحدث في العلم فساداً كبيراً ... 58
- قلة الإنصاف تخذل العلم ... 58
-شذرة في تاريخ العلامة محمد بن عبدالسلام ... 59
-التعصب للمذهب ... 59
-مناظرة بين الإمام مالك وأبي يوسف ... 60
-إنصاف الرجل لأعدائه وخصومه ... 60
-نموذجٌ من إنصاف علي بن أبي طالب ... 60
-إنصاف الرجل من هو أكبر منه سناً ... 61
-إنصاف الرجل لأقرانه، ومن هم أحدث منه سناً ... 61
-نموذجٌ عالٍ من إنصاف الأساتذة، وحسن تعاملهم مع طلابهم ... 61
-نماذج رائعة من إنصاف الصحابة، وحسن تعاملهم مع الخلاف ... 62
-نماذج من اختلاف السلف ... 63
-العناد قبيح ... 64
-شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بخصلة حمد ... 64
-إذا لم ينصفك الرجل ... ... 65
-لا يحارب الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة ... 65
-واجب التربية على الإنصاف ... 65
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري ... 66
-مفهوم علم الأخلاق ... 66
-متى تكون الأفعال خلقاً للإنسان؟ ... 66
-الأخلاق إما حسنة أو سيئة ... 67
-شأن العاقل الكامل أن يختار الأفضل ... 67
-آفة عقل الإنسان ... 67
-إلى ماذا تقود قوَّةُ العقلِ وضعفُه؟ ... 67
-أمور أكسبت الأمة العربية السيادة ... 68
8_ أخلاق الناس: د.زكي مبارك ... 69
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 72
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين ... 77
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين ... 82
- تقدير الإسراف ... 82
-ضابط الإسراف ... 82(1/270)
- الإسراف يُفضي إلى الفاقة ... 82
- الإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة ... 83
- الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن ... 83
- الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور ... 84
- الإسراف في الترف يذهب بالأمانة ... 84
- الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير ... 85
- الإسراف في الترف له أثرٌ كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق ... 85
- الإسراف في الترف له أثر في الصحة ... 85
- الإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم ... 86
-التحذير من الإسراف في الترف لا يعني أن يكون الناس على سنة واحدة ... 87
-هداية القرآن الكريم في الاقتصاد ... 87
-الدَّين وأثره ... 88
-متى تكون فضيلة الاقتصاد ... 88
-الشكوى من إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى ... 90
-التربية على ترك الإسراف في الترف ... 90
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ ... 91
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب ... 92
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين ... 98
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 102
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر ... 108
رابعاً: مقالات في الشباب ... 117
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 118
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 121
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين ... 124
- طريق المستقبل ... 125
- صعوبات الشباب ... 126
- كيف يبني الشاب نفسه؟ ... 127
- لماذا يفشل الشاب ... 129
خامساً: مقالات في المرأة ... 131
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 132
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين ... 136
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين ... 141
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار ... 154
- النساء في عصر النبوة ... 154(1/271)
- إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين ... 156
- من أخذ عنها من الصحابة ... 157
- تلاميذها من كبار التابعين ... 157
- من روى عنها من آل بيتها ... 157
- حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة ... 158
- الحكمة في تزوجه " بعد الهجرة ببضع نسوة في بضع سنين ... 159
سادساً: مقالات في العادات والعبادات ... 163
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ ... 164
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 171
25_ لبيك اللهم لبيك: للشيخ محب الدين الخطيب ... 181
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين ... 184
سابعاً: مقالات في السياسة والاجتماع ... 189
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين ... 190
-مفهوم الدهاء ... 190
-يقوم الدهاء على فطرة الذكاء ... 190
-السياسة فنون شتى ... 191
-من يملك ميزة الدهاء؟ ... 192
-أناة الرئيس ورصانته ... ... 192
-مناقشة مقولة ابن خلدون =إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلْك+ ... 193
-السياسة تنافي الإفراط في معاضدة الأشياع والأحلاف ... 195
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 198
-مقدمة في إحاطة الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً ... 198
-الخصمان بين يدي القاضي ... 198
-العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية ... 199
-عناية الشريعة بالعدل في القضاء ... 199
-وصف الإسلام ما في العدل من فوز ... 202
- تقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة ... 203
-نماذج في سير عدل بعض القضاة ... 203
-الإسلام يلقن القاضي أنه مستقل ليس لأحد عليه من سبيل، مع نماذج لأحوال القضاة في ذلك ... 205
-الرئيس الناصح يكبر القاضيَ الذي يأنس منه استقامة ... 206
-الرئيس العادل يعجب بالعالم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم ... 206
-صعوبة القضاء، وتأبي أكثر العلماء أن يقبلوا ولايته ... 207(1/272)
-للرئيس أن يُجْبِر على ولاية القضاء من كان أهلاً لذلك ... 208
-قصة في الاعتزاز بالعلم والزهد في المناصب ... 209
- عناية الإسلام بالقضاء رَفَعَتْهُ إلى درجة أفضل الطاعات ... 209
- إعداد القضاة الأكفياء ... 210
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين ... 211
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 217
- من لوازم الحرب سفك الدماء ... 217
- الدماء المحترمة ... 217
- أول حق يكتسبه المسلم بإسلامه, أو الذمي ... 217
- القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع ... 218
-من أحكام الحرب في الإسلام ... 219
-تحريم الإسلام التعذيب، والتشويه، والمُثلة ... 219
-الوصاية بالأسير ... 219
-وصية أبي بكر ÷ للجيش هي الكلمة الجامعة... ... 220
-السلم في الإسلام ... 220
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب ... 222
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله ... 229
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 230
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 236
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد ... 245
35_ العلماء والإصلاح: للشيخ محمد الخضر حسين ... 255
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب ... 263
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان ... 264
37_ تصحيح الكتب: للعلامة الشيخ أحمد شاكر ... 275
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ... 283
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين ... 293
- التوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ... 293
-عناية الإسلام بالطب ... 294
-هل يُحمل ما وقع في الأحاديث الصحيحة في شأن الطب على أنه مشروع ... 297
-مظاهر عناية أمراء الإسلام بالطب ... 301
أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم ... 301
ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية ... 302
ثالثها: صيانة الطب عن أن يتعاطاه غير أهله ... 302(1/273)
رابعها: بناء المستشفيات ... 303
شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم ... 303
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب ... 307
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر ... 308
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 311
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 317
-حقيقة الشعر ... 317
- وسائل البراعة فيه ... 320
- الارتياح للشعر ... 322
- العلماء والشعر ... 325
- التجديد في الشعر ... 328
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية ... 335
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا ... 336
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 342
45_ مجلس رسول الله": للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 345
-مظاهر العظمة ونواحيها في أعين الناظرين والتُّبَّاع ... 345
-المجادلة التاريخية العظيمة بين عُمَرَ ومعاوية _ رضي الله عنهما _ ... 347
- صفة مجلس الرسول _عليه السلام _ ... 349
-الحِكَمُ من كون الرسول " مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان ... 349
-الحكمة الأولى ... 349
-الحكمة الثانية ... 350
-الحكمة الثالثة ... 350
-الحكمة الرابعة ... 351
-الحكمة الخامسة ... 351
- مكان مجلس الرسول ... 352
-الأدلة على كون مجلس رسول الله " ما بين المنبر وحجرة عائشة ... 353
-الدليل الأول ... 353
-الدليل الثاني ... 353
-الدليل الثالث ... 353
-الدليل الرابع ... 354
-كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه ... 354
- هيئة المجلس الرسولي ... 356
- ما كان يجري في مجلس رسول الله " ... 359
- وقت المجلس الرسولي ... 361
- آداب مجلس رسول الله ... 362
ثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية ... 367
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين ... 368
-اختلاف الأمم في ضبط العواطف ... 368(1/274)
-من مظاهر العواطف الخوفُ من الأمور الصغيرة ... 368
-أثر حدَّةِ العواطف وشدة الانفعال على الأمة ... 368
-المثقفون _ في جملتهم _ أضبط لعواطفهم من غيرهم في جملتهم ... 370
-أكثر الناس يسيرون وراء عواطفهم ... 371
-يتطلب ضبطُ العواطف كظمَ الغيظِ عند دواعي الغضب... ... 371
-ضبطُ العواطف في الفرد يُكتسب بالمران والتَّعوُّدِ ... 372
-تربية هذا الخلق في الأمةِ _ أولاً _ في يد الرأي العام ... 372
-وهو _ ثانياً _ في يد القادة ... ... 372
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 373
- ما هي الصداقة؟ ... 373
- صداقة المنفعة ... 373
- صداقة اللذة ... 373
- صداقة الفضيلة ... 374
- الصداقة فضيلة ... 374
- الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء ... 375
- الاستكثار من الأصدقاء ... 375
- علامة الصداقة الفاضلة ... 376
- الصداقة تقوم على التشابه ... 379
- البعد من صداقة غير الفضلاء ... 379
- الاحتراس من الصديق ... 380
- والقول الفصل في الاحتراس من الصديق ... 380
- هل الصداقة اختيارية؟ ... 380
- دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة ... 381
- الصديق المخلص عزيز ... 382
- الإغماض عن عثرات الأصدقاء ... 383
- معاملة الأصدقاء بالمثل ... 384
- عتاب الأصدقاء ... 385
- كتم السر عن الأصدقاء ... 386
- أثر البعد في الصداقة ... 388
- الصداقة صلة بين الشعوب ... 388
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 390
49_ موت أم: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 396
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 402
فهرس الأعلام المترجم لهم ... 413
المحتويات ... 415(1/275)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن المقالة _ أو المقال _ باب عظيم من أبواب العلم، وطريق واسع لنشر الفكر والتأثير في الناس.
ولا ريب أنَّ الفترة الذَّهبيَّة للمقالة كانت في النِّصف الأوَّل في القرن الرابع عشر إلى ما يقارب العقد السابع من ذلك القرن؛ حيث ازدهرت، وراج سوقها في كثير من البلاد العربيَّة خصوصاً في الشام ومصر، وظهر في ذلك الوقت كُتَّاب أفذاذ يضارعون الكُتَّاب الأوائل في أساليبهم الراقية، وتحريراتهم العالية.
وفي ذلك الوقت حرصت الصحفُ والمجلاَّت على استقطاب أكابر الكُتَّاب والعلماء؛ فصارت ميداناً فسيحاً لنشر الأدب، والعلم، والنَّقد، والرُّدود، وما جرى مجرى ذلك.
ولقد يسَّر الله لي فرصة الاطلاع على كثير من تلك المقالات، سواء عبر أعداد تلك الصحف والمجلات، أو عبر الكتب التي جمعت تلك المقالات.
ومهما يك من انتشار تلك المقالات، وشهرة أصحابها في ذلك الوقت _ فإنه يبقى محدوداً إذا ما قِيس بانتشارها وسهولة تداولها في عصرنا هذا.
ثمَّ إنَّ كثيراً مما نُشِر آنذاك قد انطوى، ودَرَس، ويُخشى أن تَطَالَهُ يدُ النِّسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع؛ فيُحرمَ هذا الجيلُ خيراً عظيماً من ذلك التُّراث، ومن تلك التَّجارب التي تسمو بهمَّة قارئها، وترتقي بأساليبه الكتابيَّة أو الخطابيَّة، وتكسبه خبرة ودراية، وتختصر عليه كثيراً من الوقت والجهد، وتوقفه على مدى ما وصلت إليه العقول في تلك الفترة، وتُقْصِره عن كثير من البحث في الأطروحات التي طرقت، وقتلت بحثاً، وأخذاً، ورداً.
كما أن بعض تلك المقالات قد خرجت في طباعة رديئة، ولم تراع فيها قواعد الترقيم؛ مما قد يغلق فهمها على كثير من القراء.(1/1)
ومن هنا نشأت فكرة جمع شيء من تلك المقالات، وانتقائها، وإعدادها للنَّشر إعداداً ملائماً؛ لعلَّها تحقِّق الأغراض السابقة، وتمد قارئها بقسط وافر من العلم والفكر، وتفتح له آفاقاً من المعرفة والتَّجربة، وتوقفه على شيء من تلك الأساليب البيانيَّة الرَّاقية، وتُعرِّف القارئ بكُتَّاب في بلاد لم تأخذ حظَّها الكافي من الدِّراسة والبحث، فيظن بعض الناس أنَّها خِلْوٌ من الفكر والكتابة، مع أنَّها قد بلغت الذُّروة في العلم، والأساليب، كما هو الحال في بلاد تونس، والجزائر _كما سيتبيَّن من قراءة بعض ما خطَّتْهُ أنامل بعضِ العلماء والكُتَّاب هناك _.
ولقد يسر الله إخراج المجموعة الأولى من هذه المقالات، وهذه هي المجموعة الثانية من (مقالات لكبار كُتَّاب العربية في العصر الحديث).(1)
وهي تشتمل على أبواب متفرقة، وموضوعات متنوعة؛ في العلم والدعوة، وفي الإصلاح، وبيان أصول السَّعادة، وفي الأخلاق والتَّربية، وفي السِّياسة والاجتماع، وفي قضايا الشَّباب، وفي أبواب الشِّعر والأدب، وفي العربيَّة وطرق التَّرقِّي في الكتابة، كما أنها تشتمل على مقالات في السِّيرة النبويَّة، وبيان محاسن الإسلام، ودحض المطاعن التي تثار حوله.
وسيجد القارئ فيها جِدَّة الطَّرح، وعمقه، وقوَّته، وطرافةَ بعض الموضوعات، ونُدرةَ طرقها.
وسينتقل من خلالها من روضة أنيقة إلى روضة أخرى، وسيجد الأساليب الرَّاقية المتنوِّعة؛ إذ بعضها يميل إلى الجزالة والشَّماسة، وبعضها يجنح إلى السُّهولة والسَّلاسة، وهكذا.
وقد يخطر ببال القارئ أن بعض المقالات يكفي قراءة عنوانها؛ فيقصره ذلك عن قراءة بقية المقال.
__________
(1) سبق في مقدمة المجموعة الأولى حديث عن المقالة من حيث مفهومها، ونشأتها، وتاريخها، وأنواعها، كما تضمنت المقدمة حديثاً عن الأسباب الداعية لنشر هذه المقالات، والأهداف المرجوة من ذلك، والطريقة التي ستسير عليها هذه المجموعات.(1/2)
ولو قرأ المقال لربما رأى فيه ما لم يكن يدور في خلده من نفيس العلم، ودقيق الفهم، وجمال العرض.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في المقالات التي سترد في هذا المجموع.
ولا يغيب عن فطنة القارئ الكريم أنَّ تلك الكتابات قد أنشئت في زمن مظلم؛ فالاحتلال كان ضارباً بجرانه في كثير من بلاد المسلمين، والشيوعيَّة كانت في عزِّ أوجها وبريقها، والجهل والهزيمة النَّفسيَّة كانا شائعين في ذلك الوقت.
وهذا يدفع إلى تقدير ما قام به أولئك الكُتَّاب، وإلى التماس العذر لهم فيما فاتهم، أو قصَّروا به إن وُجِد شيء من ذلك.
وقد ترجمت لأكثر أولئك الكتاب في المجموعة الأولى.
وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوَّة إلى مراجعها، ومُشَارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.
كما أنَّ بعضها قصير، وبعضها متوسِّط، وبعضها مطوَّل أقرب ما يكون إلى البحث العلمي.
وقد أبقيت تلك المقالات كما هي، وربَّما حَذَفْت من بعضها _وهو قليل_ ما قد يُستغنى عنه، وما لا يخلُّ بأصل الموضوع، خصوصاً إذا كان يحتاج إلى مناقشة، أو كان فيه إلباس على بعض القراء، أو ما كان مشتملاً على تسويغ بعض البدع، وما إلى ذلك.
وما كان الغرض هو محاكمة الكاتب، بل إنَّني أحاول جهدي ألا أتعرَّض لأيِّ مقال بانتقاد أو اعتراض إلا ما لا بدَّ منه من إيضاح معنى، أو إزالة إشكال، وهو قليل جدَّاً؛ لأجل ألا أقطع على القارئ استرساله، ومتعته.
وأكثر الهوامش إنما هي من صنع الكُتَّاب، وأما ما أعلق به فسيكون مختوماً بحرف (م) حتى يتميز عن الأصل.
وإليك مسرداً بعنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها هذه المجموعة:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ فن السرور: للأستاذ أحمد أمين
2_ الابتهاج بالحياة: للأستاذ أحمد أمين
3_ الإيمان ينبوع السعادة: للأستاذ أحمد أمين
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
4_ التربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/3)
5_ التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم: للشيخ علي فكري
6_ صحة التفكير: للعلامة محب الدين الخطيب
7_ أول درس ألقيته: للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات
8_ حقوق المعلمين الأحرار على الأمة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
9_ حقوق الجيل الناشئ علينا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
10_ ثبات الأخلاق: للأديب مصطفى صادق الرافعي
11_ سجايا العرب في التراث الإسلامي: للعلامة محب الدين الخطيب
12_ الوفاء في العربي: للأستاذ محمد الطيب النجار
13_ التضحية: للأستاذ أحمد أمين
14_ الحياء: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
15_ صدق اللهجة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
16_ من أخلاقنا: للشيخ علي الطنطاوي
17_ إشاعة السوء وموقف الإسلام منها: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
18_ البخيل: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
19_ الآداب العامة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
20_ النجاح في الحياة: للأستاذ أحمد أمين
21_ العمل والبطالة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
22_ الواجب: للأستاذ عبدالسلام الشربيني
23_ الغني والفقير: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ متاعب الحياة: للأستاذ أحمد أمين
25_ كبر الهمة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
26_ مدنية الإسلام والعلوم العصرية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
27_ مدنية الإسلام والخطابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
28_ تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات: للعلامة محمود شاكر
سادساً: مقالات في الشباب
29_ نهوض الشباب بعظائم الأمور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
30_ إلى شباب محمد: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
31_ كيف يتقي الشاب أخطار الشباب: للأستاذ علي سيد أحمد منصور
32_ إلى الشباب: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
سابعاً: مقالات في العبادات والعادات(1/4)
33_ يوم عاشوراء وعادات الناس: للشيخ علي محفوظ
34_ الصيام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
35_ الحج المبرور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
36_ عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد: للعلامة محب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في السياسة والاجتماع
37_ الشورى في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
38_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته: للعلامة محب الدين الخطيب
39_ معدن سليم كريم: للعلامة محب الدين الخطيب
40_ حقيقة المسلم: للأديب مصطفى صادق الرافعي
41_ حركة الإسلام في أوربا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
42_ داء المسلمين ودواؤهم: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
43_ حالة المسلمين: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
44_ الشعور السياسي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
45_ الدعوة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ الدعوة إلى الخير: للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
47_ عذاب المصلحين: للأستاذ أحمد أمين
48_ الدعوة الشاملة الخالدة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
49_ قرآن الفجر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
50_ كلمة الحق: للشيخ العلامة أحمد محمد شاكر
51_ أدب المناظرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
عاشراً: مقالات في العلم والتحقيق
52_ العلم والعقل: للشيخ عبدالقادر المغربي
53_ الإنسان على الأرض: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
54_ عمر الإنسان: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
55_ الفلسفة والعلم والدين: للشيخ عبدالباقي سرور
حادي عشر: مقالات في اللغة والأدب
56_ طرق الترقي في الكتابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
57_ اللغة والأمة: للأستاذ محمد صادق عنبر
58_ البيان: للأديب مصطفى صادق الرافعي
59_ قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/5)
ثاني عشر: مقالات في السيرة النبوية
60_ قدوتنا الأعظم: للعلامة محب الدين الخطيب
61_ من إلهامات الهجرة: للعلامة محب الدين الخطيب
62_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور
ثالث عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
63_ تعاون العقل والعاطفة على الخير: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
64_ الخوف: للأستاذ أحمد أمين
65_ التعصب: للأستاذ أحمد أمين
66_ روح السماحة: للأستاذ أحمد أمين
67_ من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
68_ عبرة الموت: للأستاذ أحمد أمين
وأخيراً لا يسعني إلا أن أسأل الله العليَّ القدير أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزيَ خير الجزاء من أعان على إخراجه كتابةً، ومراجعة، ومتابعة.
كما آمل من القارئ الكريم أن يمدني بملحوظاته، واستدراكاته، وله جزيل الشكر، وخالص الدعاء.
والله المستعان وعليه التكلان.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد. ...
محمَّد بن إبراهيم الحمد
5/ 1 / 1426هـ
الزلفي ص. ب 460
الرمز البريدي 11932
www.toislam.net
Alhamad@toislam.net
أولاً: مقالات في السعادة
1_ فن السرور: للأستاذ أحمد أمين
2_ الابتهاج بالحياة: للأستاذ أحمد أمين
3_ الإيمان ينبوع السعادة: للأستاذ أحمد أمين
فن السرور(1)للأستاذ أحمد أمين(2)
نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كانت أسبابه، ويخلقها إن لم تكن.
يعجبني القمر في تقلده هالةً تشع فنَّاً وسروراً، وبهاءاً ونوراً، ويعجبني الرجل أو المرأة يَخلُقُ حوله جوَّاً مشبعاً بالغبطة والسرور، ثم يَتَشَرَّبُه فيشرق في محياه، ويلمع في عينيه، ويتألق في جبينه، ويتدفق من وجهه.
__________
(1) فيض الخاطر 2/197_200.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/6)
يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط لِيُسَرَّ مالاً وبنين وصحة؛ فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء؛ وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضَحَكةً عميقةً بكل ماله وهو كثير، وفيهم من يستطيع أن يشتري ضحكات عالية عميقة واسعة بأتفه الأثمان، وبلا ثمن.
مع الأسف أُلاحظ أن كمية السرور في مصر والشرق قليلة، كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة.
وليست تنقصنا الوسائل، فجوُّنا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصائب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فَنٌّ، والسرور كسائر شئون الحياة فن؛ فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظِي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
أول درس يجب أن يتعلم في فن السرور =قوة الاحتمال+ فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما أن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حَرِجَ الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، وتقض مضجعه، وتؤرق جفنه.
وهي وأكثر منها إذا حدثت لمن هو أقوى احتمالاً، لم يلق لها بالاً، ولم تُحَرِك منه نَفسَاً، ونام ملء جفونه رضِيَّ البال فارغ الصدر.(1/7)
ومن أهم الأسباب في أنَّ أمم الغرب أقدر على السرور من أمم الشرق أنَّ تاريخ الغرب الحربي متسلسل متتابع، ومن مزايا الحروب أنها تصهر الأمم، وترخص الحياة، وتهوِّن الموت، وإذا رخصت الحياة وهان الموت رأيت المرء لا يعبأ بالكوارث إلا بقدر محدود؛ وإذا كان لا يهاب الموت فأولى ألا يهاب ما عداه؛ لأن كل شيء غير الموت أهون من الموت؛ فكل أسرة أوربية لها رجال فقدوا في الحرب؛ أو أصيبوا في الحرب أو ابتلوا بنوع من كوارث الحرب؛ فعلمتهم أن يتقبلوا هذه الرزايا بقوة احتمال، ونشأ عن هذا أنهم لا ينغصون حياتهم بذكرى الرزايا؛ فالأولى ألاَّ ينغصوها بتوافه الأمور.
أما أمم الشرق فقد مرَّ عليهم دهرٌ طويل لم يكونوا فيه أمماً حربية؛ بل كانوا مستسلمين وادعين، يتولى غيرهم الدفاع عنهم، وإن حاربوا فحرب الضرورة، وحرب الأفراد لا حرب الشعوب، فاستفظعوا الموت، وغَلوا في الحرص على الحياة، ولم يصابوا بكوارث شعبية يستعذبون معها الموت والتضحية، وتبع ذلك رخاوة العيش، وعدم القدرة على الاحتمال، وتهويل الصغائر، والجزع من توافه الأمور، ولا دواء لهذا إلا التربية القوية، وبث الأخلاق الحربية.
وسبب آخر لقلة السرور في الشرق، وهو سوء النظم الاجتماعية؛ ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية، وفي كل مصلحة أهلية أو حكومية مأساة من سوء العلاقات المصلحية، وأحاديث الدرجات والعلاوات، وعدم التعاون في حمل الأعباء، وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات .
ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية؛ فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ضيقة نادرة، وفي كثير من الأحيان تنتهي بمنغصات والملاهي العامة إما داعرة لا ترضي الذوق السليم، ولا ترمي إلى غرض شريف، وإما تافهة لا يرقيها ذوق؛ ومن أجل ذلك كان أشد الناس بؤساً في الأمم الشرقية الطبقة المثقفة المهذبة التي رقى ذوقُها؛ فهي لا تكاد تجد لها ما يتفق وذوقها .(1/8)
ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلب على كل هذه المصاعب، ويخلق السرور حوله، وجزء كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه، بدليل أنا نرى في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع أن يخلق من كل شيء سروراً، وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شيء حزناً؛ فالعامل الشخصي _ لاشك _ له دخل كبير في خلق نوع من الجو الذي يتنفس منه؛ ففي الدنيا عاملان اثنان: عامل خارجي وهو كل العالم، وعامل داخلي وهو نفسك؛ فنفسك نصف العوامل؛ فاجتهد أن تكسب النصف على الأقل؛ و إذاً فرجحان كفتها قريب الاحتمال، بل إن النصف الآخر_وهو العالم _ لا قيمة له بالنسبة إليك إلا بمروره بمشاعرك؛ فهي التي تلونه، و تجمِّله أو تقبحه؛ فإذا جلوت عينيك, وأرهفت سمعك، وأعددت مشاعرك للسرور _ فالعالم الخارجي ينفعل مع نفسك فيكون سروراً.
إنا لنرى الناس يختلفون في القدرة على خلق السرور اختلاف مصابيح الكهرباء في القدرة على الضياء؛ فمنهم المظلم كالمصباح المحترق، ومنهم المضيء بقدر كمصباح النوم، ومنهم ذو القدرة الهائلة كمصباح الحفلات؛ فغيِّرْ مصباحك إن ضعف، واستعض عنه بمصباح قوي ينير لنفسك وللناس.
ولكن ما الوسيلة إلى ذلك؟
مما لا شَكَّ فيه أن غلبة الحزن مرض قد ينشأ من عوامل كثيرة مختلفة؛ فمن الخطأ رجوعها كلها إلى علة واحدة؛ وإذاً فمن الخطأ وضع علاج واحد للعلل كلها، ولكن فَحْصُ كل نفس وأسباب حزنها، ووضع العلاج الخاص بها لا يستطيعه إلا طبيب نفسي ماهر، أما الكاتب فلا يستطيع إلا قولاً عاماً، ووصفاً مشتركاً، وتعرضاً للمسائل العامة.(1/9)
ولعل من أهم أسباب الحزن ضيقَ الأفق، وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتى كأنها مركز العالم، وكأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والأمة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء كلها خلقت لشخصه؛ فهو يقيس كل المسائل بمقياس نفسه، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها، و هذا _ من غير ريب _ يوجد البؤس والحزن؛ فمحال أن يجري العالم وفق نفسه؛ لأن نفسه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإن هو وسَّع أفقه، ونظر إلى العالم الفسيح، ونسي نفسه أحياناً، ونسي نفسه كثيراً _ شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه، والقيود الثقيلة التي تثقل بها نفسه قد خفت شيئاً فشيئاً، وتحللت شيئاً فشيئاً.
وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغاً أشدهم ضيقاً بنفسه، لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة أن يجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عمله، وفكر في أمته وفكَّر في عالمه، كان له من ذلك لذة مزدوجة: ذة الفكر والعمل، ولذة نسيان النفس.
ولعل من أول دروس فن السرور أن يقبض على زمام تفكيره؛ فيصرِّفه كما يشاء؛ فإن هو تعرض لموضوع مُقْبِضٍ _ كأن يناقش أسرته في أمر من الأمور المحزنة، أو يجادل شريكه، أو صديقه فيما يؤدي إلى الغضب _ حوَّل ناحية تفكيره، وأثار مسألة أخرى سارَّةً ينسى بها مسألته الأولى المحزنة؛ فإن تضايقْت من حديث ميزانية البيت فتكلم في السياسة، وإن آلمك حديث =الكادر+فتكلم في الجو، وانقل تفكيرك كما تنقل بيادق الشطرنج.
ثاني الدروس أو ثالثه _ لا أدري _ ألاَّ تقدر الحياة فوق قيمتها؛ فالحياة هينة، وكل ما فيها زائل؛ فاعمل الخير ما استطعت، وافرح ما استطعت ولا تجمع على نفسك الألم بتوقع الشر ثم الألم بوقوعه؛ فيكفي في هذه الحياة ألم واحد للشر الواحد.(1/10)
وأخيراً، افعل ما يفعله الفنانون، فالرجل لا يزال يتشاعر حتى يكون شاعراً، ويتخاطب حتى يصير خطيباً، ويتكاتب حتى يصير كاتباً؛ فتصنَّع الفرح والسرور والابتسام للحياة؛ حتى يكون التطبع طبعاً.
الابتهاج بالحياة (1) للأستاذ أحمد أمين
لقد أكثرت في أحاديثي الماضية عن متاعب الحياة فلأحدثكم اليوم عن الابتهاج بالحياة.
والحق أنَّا لو قارنا بين الغربيين والشرقيين لوجدنا أن الشرقيين تغلب عليهم طبيعة الحزن والاكتئاب.
وهذا ما يلاحظه الغربيون على الطلبة الشرقيين الذين يتعلمون عندهم، وهذا _أيضاً_ ما نلاحظه نحن على أنفسنا، فنحن إذا حدث ما يستوجب الحزن أفرطنا فيه كما يحدث في الوفيات؛ نبالغ في البكاء على الميت، وننغص حياتنا لفقده مدة طويلة، ونقيم التقاليد الكثيرة من مآتم وأخمسة وأربعين، وحفلات تأبين ونحو ذلك.
وكذلك نبالغ في الحزن في النكبات كالحزن عند الأمراض، والحزن عند خسارة مالية، ونحو ذلك.
وكثير منا إذا لم يجد سبباً من أسباب الحزن أوجده؛ فهو وأهله في صحة، وعندهم من المال ما يكفيهم، ودنياهم سائرة على ما يرام، ولكنهم مع ذلك يخلقون أسباب الحزن خَلْقاً؛ فيحملون همَّ المستقبل، وماذا سيكون فيه؟ أو يتنازعون على شيء تافه؛ فيحزنون من أجله.
وعلى كل حال فطبيعتنا يغلب عليها الحزن، ومن فرح بالحياة وابتهج بها فابتهاج قليل يعقبه حزن طويل، أو إفراط في مباهج الحياة يسبب تنغيصاً، وحزناً، وألماً يعقبه أضعاف ما ناله من فرح وابتهاج.
ولعل السبب في انتشار طابع الحزن علينا يرجع إلى أمور كثيرة، أهمها ما مضى على الشرق من عصور كان فيها ظلم الحكام شديداً قاسياً أمات روح الناس، وقلل من ابتهاجهم.
وتلا هذا الاستعمار وما فيه من ظلم، واستغلال، وضغط على الحرية جعل الناس يألمون ويكتمون ألمهم، والألم المكتوم أفعل في النفس من الألم الظاهر.
__________
(1) فيض الخاطر، 10/ 202 _ 210.(1/11)
وهناك سبب آخر وهو أن الحياة في الشرق تسودها الفوضى، وعدم النظام، والفوضى في الحياة تسبب المتاعب والألم؛ فإذا كان البيت فوضى تعب أفراد الأسرة، وإذا كانت الوظائف فوضى تعب الموظفون، وإذا كان الترام والسيارات فوضى تعب الراكبون، وإذا كان الطباخون وقائدوا السيارات والخدم لا يسيرون في حياتهم على نمط معقول تعب من يعاملهم، وهكذا...
فالإنسان في استمرار يعامل طائفة كبيرة من أفراد المجتمع، فإذا لم تنتظم الحياة معهم سببت الألم والمتاعب، وهيجت الأعصاب، وأورثت الحزن، وهكذا...
والحياة فن من الفنون فإذا ضاع فن الحياة ضاع السرور بها، بل إن السرور بالحياة نفسه فن من الفنون، ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط لأجل أن يكون مسروراً مالاً وبنين وصحة ونحو ذلك.
فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم ومنهم من ينعم في الشقاء، ومن الناس من لا يستطيع أن يشتري ساعة سعيدة ضاحكة مستبشرة بأغلى الأثمان، ومنهم من يستطيع أن يشتريها بأتفه الأثمان، وذلك لاختلافهم في الطبع والمزاج.
إننا نحتاج للابتهاج بالحياة إلى شيئين هامين: أولهما تنظيم الحياة في أنفسنا وفي مَنْ حولنا؛ فالبيت إذا نُظِّم _ أعني نُظِّمت ميزانيتُه، ونظمت حياةُ صغاره وكباره، ونظمت العلاقة بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد_ كان أهله أقربَ إلى الابتهاج بالحياة.
والموظف إذا نظمت مصلحته، أعني حسنت علاقته بينه وبين رؤسائه ومرؤوسيه كان أهدأَ بالاً، وأسعدَ حالاً.
وكذلك كل ما يتعلق بالإنسان من شؤون إذا نظمت كانت مبعث سعادة وابتهاج.
والأمر الثاني الشجاعة؛ فكثيراً ما يكون سبب الحزن فقدان الشجاعة، يخاف الإنسان من الموت، ويخاف من الفقر، ويخاف أن تنزل به كارثة، ويخاف من المستقبل، ويخاف أن يفشل في عمله؛ فهذا الخوف كله ينغص عليه حياته، ويجعله منقبضاً غير مبتهج.(1/12)
وسبب آخر وهو عدم تنظيم أسباب السرور، وهذا أمر يحتاج إلى مهارة، فالزوج أو الزوجة في البيت إذا مَهَرا في خلق أسباب السرور جعلا البيت جنة، ونحن تنقصنا هذه المهارة في خلق السرور مع مهارتنا الكبرى في خلق المنغصات؛ فاجتماعات المنزل كثيراً ما تنتهي بنزاع، حتى الملاهي العامة كثيراً منها لا يرضي الذوق السليم ولا الفن الرفيع، وكثيراً ما تكون تافهة لا يجملها فن، ولا يرقيها ذوق، ومن أجل هذا كان أشد الناس بؤساً في الحياة هنا من رقي ذوقه، ونبلت نفسه.
إن الناس يختلفون في قدرتهم على الابتهاج بالحياة اختلاف المصابيح الكهربائية، فمنها مصباح محترق لا ضوء فيه، ومنها مصباح يضيء بقوة عشر شمعات، أو خمس عشرة، أو عشرين أو مائة أو مائتين، وهكذا الناس طبيعة منيرة مضيئة مشرقة، وطبيعية حزينة أسيفة مكتئبة مظلمة.
وجزء من هذا الاختلاف طبيعي في خِلْقَةِ بعض الأفراد، ولكن الجزء الكبير يرجع إلى العادة؛ فمن السهل تعويد النفس النظر إلى الحياة نظراً بهيجاً مفرحاً.
ومن الملاحظ أن الذين يغلب عليهم الحزن هم الذين يكثرون التفكير في أنفسهم، والتفكير في مستقبلهم؛ فإذا اعتدل الإنسان في التفكير في نفسه، ووسع أفقه، وفكَّر في غيره، وفكَّر في العالم كان أقل حزناً، وأكثر ابتهاجاً.
وهذا الفن _ فن الابتهاج بالحياة _ يتطلب أن يقبض الإنسان على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء، فإن رأى نفسه قد تعرض لموضوع مُقْبض كميزانية بيته، أو سوء مصلحته، أو متاعبه في وظيفته_ فليحول تفكيره إلى مسألة أخرى، ويثير مسألة من المسائل التي تجلب السرور عليه.
ومن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت _ لا قدر الله _ فليقابلها بشجاعة واعتدال.(1/13)
إن الرجل المبتهج بالحياة يزيده الابتهاج بالحياة قوة؛ فيكون أقدر على الجد، وحسن الإنتاج، ومقابلة الصعاب من الرجل المنقبض الصدر الممتلئ بالهم والغم.
وكما أن كل عادة تكتسب بالتمرين، فالصانع يكتسب صناعته من التمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين، والنظافة والقذارة حسب الاعتياد، والأخلاق الفاضلة أو الرذيلة حسب الاستعداد _ فكذلك الشأن في مقابلة الحياة بالحزن والألم، أو بالابتهاج والسرور.
وما الحياة؟ مرحلة عابرة لا تستحق أن ينغص الإنسان نفسه فيها بكثرة الألم، وكل ما يطلب من الإنسان فيها أن يقضيها على أحسن وجه مبتهجاً مسروراً فعالاً للخير، يشعر بالفرح لفرح الناس، وبالخير يَصِلون إليه، ويبتهج بجمال الطبيعة وجمال ما فيها، فإن صادفه ما يؤلم نَحّاه جانباً إن أمكنه، ورضي مطمئناً بما لم يمكن تغييره، وبهذا يعيش عيشة راضيةً، عيشة سعيدة موفقه.
إن أردت أن تعرف شيئاً صحيح هو أو فاسد؟ سواء كان هذا الشيء عادة من العادات، أو خلقاً من الأخلاق _ فانظر هل هو مما يزيد الحياة، قوة ويكسب الحياة صحة فاحكم عليه _ إذن _ بأنه عمل نافع .
وإن كان يضعف الحياة ويجعلها مريضة فاحكم عليه _ إذن _ بأنه عمل ضار .
ولا شك أن الهم والاستسلام للحزن، والخوف من توقع المكروه، والإفراط في تقدير الآلام _ مما يضعف الحياة، ويضعف الإنتاج، ويزيد الآلام والبؤس والشقاء؛ فحارب الكآبة في نفسك وابتسم للحياة، وابتهج بها في غير إسراف تزد حياتك، قوة وتشعر بالسعادة، وتُشعر بها من حولك.
إن الابتهاج بالحياة فن من الفنون جهلناه، فأصبحت حياتنا كالماكينة التي وضع جزء منها في غير موضعه، فسبب ذلك خراب الماكينةَ كلَّها، وضوضاءها في سيرها، وعدم انتظامها، والذَّنْبُ ذنبُنا لا ذنب أي شيء آخر.(1/14)
خذ مثلاً الأسرة؛ فكل أسرة غالباً لها أوقات فراغ تقضيه في البيت مجتمعة، وهذا الوقت عند الأمم الراقية من أسعد الأوقات يقضونه إما في حديث ممتع، أو في لعب فنية، أو نوادر طريفة، أو (فوازير) جميلة، فتنتعش بذلك النفس، وتبتهج الحياة، وينسى كل فرد ما لقيه من متاعب عمله خارج البيت؛ فماذا نصنع نحن في مثل هذا الوقت؟ لَمْ نتقِنْ فن اللعب الظريف، ولا النوادر اللطيفة، وإنما أتقنا فن المشادة والغضب لأتفه الأسباب، وتنغمس الحياة بما لا يُحصى ولا يعد من أسباب.
إن أهم ما في الحياة معرفة طرق المعيشة، وكان من الطبيعي _ وقد كانت حياتنا أعز شيء علينا _ أن نبذل جهداً كبيراً في البحث عن أسباب سعادتها، والابتهاج بها.
فإذا خرجنا عن الأسرة إلى الحياة خارج البيت وجدنا الرجل يضيع أكثر أوقاته في الجلوس على مقهى ولعب شطرنج أو نرد أو نحو ذلك، أو جلس مع أصدقاء يتحدثون حديثاً سخيفاً في العلاوات والدرجات، وتركوا أسرتهم تضيع الوقت _أيضاً_ في توافه الأمور؛ فلا الرجل يفكر كيف يسعد أهله، ولا المرأة تفكر في كيف تسعد أسرتها، وقل من استفاد من الحياة كما ينبغي، فلا المناظر الطبيعية الجميلة تجذب انتباههم، ولا القراءة اللذيذة الممتعة تسترعي انتباههم، ولا تخصيص وقت للخدمة الاجتماعية العامة تنال حظاً من أوقاتهم؛ فمن أين يفرحون؟ وبأي شيء يبتهجون؟
فالحق أن الحياة رواية في استطاعة الإنسان أن يجعلها رواية ضاحكة مبتهجة، وأن يجعلها مأساة حزينة مكتئبة.
إن أهم سبب في الابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم مهذب يعرف كيف يستمتع بالحياة، وكيف يحترم شعور الناس ولا ينغص عليهم، بل ويدخل السرور على أنفسهم؛ فالذوق السليم قادر على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفس صاحبه ونفس من حوله، وكما قال القائل: =ما تريد نيله بالتخويف والإرهاب يمكنك أن تناله بالابتسام+.(1/15)
تصور أسرة ساد فيها الذوق السليم نرى كل فرد فيها يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ أو أي عمل يأباه الذوق، بل إن ذوقه يرفعه إلى حد أنه يتخير الكلمة اللطيفة والعمل الظريف الذي يدخل السرور على أفراد أسرته.
إن الذوق السليم في البيت يأبى النزاع، ويأبى حدة الغضب، ويتطلب النظام، وحسن الترتيب، والاستمتاع بجمال الزهور، وجمال النظافة، وجمال كل شيء في البيت، فلسنا مبالغين إذا قلنا: إن رقي الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛ إن الذوق إذا رقي أنف من الأعمال الخسيسة، ومن الأقوال النابية ومن الأفعال السخيفة.
ولو استطعت لجعلت جزءاً كبيراً من مناهج التعليم في المدارس لتربية الذوق بجانب المناهج المكتظة بتربية العقل.
كل إنسان في الدنيا يضع على عينيه منظاراً حقيقياً أو مجازياً، وأكثرنا مع الأسف يلبس منظاراً أسود يريه كلَّ شيء أسود؛ فإذا نظروا إلى الأشياء نظروا إلى معايبها، ولم ينظروا إلى محاسنها، ولم يعجبهم حاضرهم، ورأوا السعادة في غير ما هم فيه ولذلك يكثرون من إذا... ولو... ولعل... وعسى...
ولو حصل كل ما يتمنون ما زادوا شيئاً وما تغيرت حالتهم ما دامت على أعينهم هذه النظارات، ولم يغيروها بنظارات بيضاء ترى الحياة على حقيقتها، وترى الدنيا مملوءةً بالمسرات مع قليل من الأحزان، وكثيراً من النعم مشوبة بقليل من النقم.
وهذه الأحزان، وهذه النقم قليلة القيمة إذا تسلح الإنسان بالشجاعة في مقاومتها، وفي استطاعة الإنسان أن ينصب في نفسه سرادقاً كبيراً، إما لمأتم كبير، أو لفرح كبير.
ويخطئ كثير من الناس فيظن أن الابتهاج بالحياة معناه اللذة الحادة الجامحة، ويظنون السعادة في الإفراط في الملاهي على اختلاف ألوانها، إما في سكر مفرط، أو غشيان دار من دور اللهو الخليعة أو نحو ذلك.(1/16)
وليس هذا ابتهاجاً بالحياة وإنما هو إبادة للحياة، وهذه اللذات الحادة كنار القش تلتهب سريعاً، وتخمد سريعاً، وقد يكون من أضرار التهابها وآلامها ما يساوي أضعاف لحظات لذتها.
إنما نعني بالابتهاج بالحياة موقف النفس إزاء الحياة، والاستمتاع بها استمتاعاً معتدلاً لاإفراط فيه ولا تفريط، نريد بها حالة من أحوال النفس، تهيئ ذوقاً للاستمتاع بمحيطنا استمتاعاً أطول ما يمكن، وأقوى ما يمكن، استمتاعاً يقوِّينا على الجد في الحياة، ويجعلنا أقدر على إسعاد أنفسنا وإسعاد من حولنا.
أما اللذات الحادة الوقتية فلذاتٌ وهميةٌ يتبعها من الألم أكثر مما تستوجب من اللذة.
إن راحة الضمير، ولذة العقل، ولذة الروح، ولذة النفس واللذة التي يشعر لها المرء إنه مصدر للخير يشعه على الناس كما تشع الشمس ضوءها.
كل ذلك ابتهاج بالحياة لا يعادله التمرغ في اللذات الدنيئة الوقتية التي تسبب لذة عارضة تعقبها حسرات دائمة.
الإيمان ينبوع السعادة (1) للأستاذ أحمد أمين
يروى عن عمر بن الخطاب ÷أنه دعا الله أن يرزقه إيماناً كإيمان العجائز، ولم يقل كإيمان العلماء، لأن إيمان العجائز إيمان عميق، هادئ مطمئن، لا يرقى إليه الظن، ولا يحوم حوله الشك، دينهم شعور عميق بإله بلغ النهاية في الكمال، وعن هذا تصدر أعمالهم، وبلقائه تتعلق آمالهم.
أما العلماء فقد اعتادوا الشك، واعتمدوا على الحجج العقلية، فكان إيماناً مقلقلاً، يحول بينهم وبين تمام اعتقادهم صعوبة إدراكهم لحقيقته بعقولهم(2).
ثم إن خير الدين ما أتى عن طريق القلب، والعجائز إيمانهم عن طريق قلوبهم، والعلماء إيمانهم عن طريق عقولهم، والعقل عادة مصدر للشك والتردد، والقلق والحيرة، والقلب لا يعرف شكاً ولا تردداً.
__________
(1) فيض الخاطر، 9/ 45 _ 48.
(2) لعله يقصد علماء الكلام والفلاسفة ونحوهم، أما العلماء بالله وأمره فهم أكثر الناس يقيناً، وأبعدهم عن الشك والحيرة(م).(1/17)
وإيمان العجائز إيمان بسيط سهل، فهم يدركون أن الإيمان بالله معناه أن الله خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، يعطف على من يحبه بالخير، وينتقم ممن لا يؤمن به، إن عاجلاً وإن آجلاً، وهذه العقيدة على بساطتها كافية في سير الشخص سيراً حسناً حميداً، يفعل الخير، ويجتنب الشر.
إن الإيمان بالدين مبني على أساسين: رغبة ورهبة، فالإنسان يعمل الخير رغبة في ثوابه، وأملاً في جنته، وهو يخاف عقوبته، ويخاف ناره، وبين الرغبة والرهبة تصلح الأعمال وتتم السعادة.
ما الحياة بلا إيمان بالله؟ إن الإنسان خلق في هذه الحياة وسط تيار جارف، وجو عاصف، تنتابه الأحداث العظام، وتحل به الكوارث؛ فما لم يعتقد في إله يتخذه ملجأً له، وركناً يعتمد عليه، ومعزياً له في المصائب، ومساعداً له في المتاعب، ومأمناً له ضد الأخطار، ومواسياً له عند الحزن_ كان كبناءٍ لا يستند إلى أساس، وبيت ليس له دعامة؛ ومن أجل ذلك نرى أشقى الناس في الحياة أكثرهم إلحاداً؛ إنهم قد يملكون المال الكثير، ويحصلون على الرزق الوفير، ولكن لا يلبثون إذا حلَّت بهم مصيبة أن يأخذهم الجزع؛ لأن من طبيعة النفس الخوفَ من العدم، أما المؤمن فيحمد الله في السراء والضراء، ومهما فعل، ومهما حلَّ به؛ فهو يعتمد على ركن ركين، وملجأ حصين، إن فاته الخير في الدنيا أمَّل في الآخرة، وإن لم تسعفه ظروف اليوم أمل في الله غداً.
وتجاربنا في الحياة تدلنا على أن الإيمان بالله موردٌ من أعذب موارد السعادة ومناهلها(1).
فالدين يكسب النفس قوةً، وسلوى، وعزاءً.
وكان القرآن حكيماً في مخاطبته للشعور في مثل قوله:[أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ]. الغاشية:17_20
__________
(1) بل هو أعذبها على الإطلاق (م).(1/18)
ودعوته إلى النظر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، أكثر من اعتماده على مقدمات منطقية، وأقيسة جدلية؛ لأن آيات القرآن هذه تخاطب الشعور والقلب، والأقيسة المنطقية تخاطب العقل، وكل إنسان صالح لأن يوجه الحديث إلى قلبه، وليس كل إنسان صالحاً لأن يوجه الحديث إلى عقله.
نعم، إن العلم يخدم الدين، ولكن لا يبعثه؛ فَتَقَدُّمُ الناس في العلم اليوم خفف آلام البشرية من اعتقاد في السحر، ووجود أرواح شريرة تتسلط على البشر وتعذبهم حسبما تشاء، فكل هذه اعتقادات أزالها أو مزقها نور العلم، فخدم الدين بذلك خدمة جليلة، فإذا اجتمع في الناس قلب ينبض بحب الله، وعقل يزيل الخرافات والأوهام عنه، كان ذلك منتهى السعادة، ومنتهى الرقي.
لولا الدين ما كانت السعادة، ولا كانت للحياة قيمة، بل نحن نرى أن آباءنا كانوا أسعد منَّا بإيمانهم، وشبابنا أشقى منهم بشكهم، أو على الأقل بعدم اكتراثهم.
وإن شئت فقارن بين أسرتين: أسرة أسست حياتها على الدين والتزَمَتْ به، وأسرة أضاعت الدين ولم تلتفت إليه، وأَجِبْني: أي الأسرتين أسعد؟
إني أعتقد أن أكبر سبب لشقاء الأسر وجود أبناء وبنات فيها لا يرعون الله في تصرفهم، وإنما يرعون هواهم وملذاتهم؛ فهم يركبون رؤوسهم، ويروُّون رغباتهم، من غير وازع ديني يزعهم، أو نظرة في العواقب تردعهم، فإذا فشا الدين في أسرة فشت فيها السعادة، وخاصة إذا كان ديناً راقياً تجرد عن الخرافات والأوهام، وتدعَّم بالعلم، وحكم أفرادها دينهم في سلوكهم.
إن أهمَّ ركنٍ في السعادة راحةُ البال، والدين أكبر دعامة لراحة البال؛ إذ يظهر أنه من طبيعة النفس الإنسانية أن تشعر بوجود إله تعتمد عليه، فإذا لم يكن ذلك قلقت واضطربت؛ لأنها خالفت طبيعتها.(1/19)
ولذلك نجد أكثر الملحدين يعيشون عيشة مضطربة، وإذا جد الجد وحضرهم الموت كانوا كفرعون، لما أدركه الغرق، قال:[آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ] يونس:90
وهذه هي السعادة في الحقيقة، فليست السعادة في كثرة المال، ولا في عظم الجاه، إنما هي في أنفسنا، وفي داخل قلوبنا.
وشيء آخر، وهو أنَّ من مزية الدين الإيمانَ باليوم الآخر؛ فهو بذلك يضم حياة أبدية إلى حياته القصيرة الدنيوية، وذلك _ من غير شك _ يدعوه إلى أن يفكر فيما يعمل؛ لاعتقاده في الجزاء العادل، إن لم ينله في الدنيا ناله في الآخرة، ويكفه عن عمل الشر لأن وراءه إلهاً يجازيه على عمله مهما أَسَرَّ.
ومن طبيعة الإنسان حب الحياة؛ ولذلك يرتعد فرقاً إذا قيل له: إن حياته في الدنيا هي الحياة؛ لأن معنى ذلك أنها حياة قصيرة تنتهي بعدمٍ مُفْزِعٍ، وسعادته الحقة في أن يعتقد أن وراء هذه الحياة حياةً أبديةً، يتسلط(1) عليها إله عادل، من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
هذه هي الطبيعة الإنسانية التي خلقنا عليها، وأي تنحٍّ عنها يفسدها، وقد علمتنا الحياة أن الخروج على الطبيعة الإنسانية ولو قيد شعرة مدعاة للحيرة والاضطراب.
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
4_ التربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
5_ التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم: للشيخ علي فكري
6_ صحة التفكير: للعلامة محب الدين الخطيب
7_ أول درس ألقيته: للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات
8_ حقوق المعلمين الأحرار على الأمة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
9_ حقوق الجيل الناشئ علينا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
__________
(1) لو قال: يملكها إله...، أو يحكم فيها ...(م).(1/20)
التربية (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(2)
ألم يأن للذين آمنوا أن تكون لهم آذان صاغيةٌ، وقلوب واعيةٌ؛ فيستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم؟ يحييهم كتاب الله إذا تشبعت عقولهم بأنوار مواعظه الحسنة، وإرشاداته الصحيحة، وارتبطوا بالعمل به ارتباطاً يَهَنُ كيد المردة عن نقض عراه، حتى إذا رسخ في أذواقهم طَعْمُ شجرتِه المباركة استقدروا ما ترميه أفوا هُ الذين اتبعوا أهل المدنية الحديثة المصفَّدين بأغلال التقليد لهم في كل مثال جديد.
ذلك التقليد الأعمى، عِلَّتُه سوءُ التربيةِ الأولى، وعدمُ ارتواء النفس من أول النشأة بمحاسن الشريعة الغراء، ومن ثَمَّ كان الغالب على من شبوا في كفالة من قدروها حق قدرها علماً وعملاً شرَفَ الوجدانِ وسلامةَ القصد، والاستماتةَ في مدافعة الشبه التي تحركها استحسانات النفوس الكَدِرَة.
ولعلك تتلو قوله _ تعالى _: [يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً]مريم:27 _ فتجد المنكرين عليها فيما اتهموها به، أرادوا بنفي البغي والسوء عن أبويها المبالغةَ في توبيخها عما يراها الله منه؛ تنبيهاً على أن من كان أبواه صالحين ليس من شأنه التجردُ عن طورِهما، والتردي بغير ردائهما.
وما كان ينبغي له إلا أن يسلك سنن أعمالهما الصالحة شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
كما أنك تجد أكثر الناشئين في حُجور السفلة، أو من أطلقت حُبالهم على غواربهم زمَن الحداثة في أفظع حال من فساد الأذواق، وعدم الخضوع لسلطة الأحكام الدينية، والانخداع بالظواهر المزخرفة عن الغوص على الحقائق التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الحكمة.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد7 _ غرة ربيع الثاني 1322 المجلد الأول، ص97_99.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/21)
تَعْجَبُ العامةُ لرجل يبرع في فنون كثيرة، ويبدع في التصرف في مباحثها المشكلة، فَيُفْرِغُها في قالب التحقيق، حتى إذا فاوضته في أي علم منها خُيِّل لك أنه الواضع لأصوله، ولا تلبث زمناً يسيراً تَجُسُّ نبضَ أخلاقه إلا وجدت فيها عِوجاً وأمتاً.
أما الفيلسوف النَّقَّاد فلا يرى ذلك شيئاً عجباً؛ للنكتة التي لَوَّحْنَا إليها، وهي سوء التربية الأولى.
والدليل على ما نقوله أن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط، فإذا قوبلت نفسه السَّاذَجَةِ بخلق من الأخلاق انتقشت صورته في لَوْحِها، ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئاً فشيئاً إلى أن تأخذ بجميع أطراف النفس، وتصير كيفيّةً راسخةً فيها حائلة لها عن الانفعال بضدها.
يؤيد هذا أنا إذا رأينا من الغرباء من هو لطيفُ الخطاب، جميل اللقاء، مهذب الألمعية لا نرتاب في دعوى أنه ممن أنبته الله في البيوت الفاضلة نباتاً حسناً.
ومن الناس من يدرك أن التقام الأطفال لثدي التربية، مما يؤثر في نفوسهم إصلاحاً عظيماً، ولكن فَرْط الرأفة الذي ينشأ من التغالي في حبهم يكسر من صلابة الآباء شيئاً كثيراً، فيدفعهم عن مكافحة طباع أبنائهم الرديئة، ومقاومتها بالتأديب، وينفض بهم ذلك الإهمال إلى التنقل في مراتع الشهوات الزائغة.
كل، هذه رأفة غير ممزوجة بحكمة؛ التنقل في مراتع الشهوات تتولد عنه نتائجُ وخيمةٌ، تثير بين الآباء والأبناء من النفرة والتباعد بمقدار ما كان بينهما من الحنان والمقاربة، وتصير بهم إلى أن تُضَرِّسهم أنياب الاضطهاد، وتدوسهم أقدام الامتهان.(1/22)
لا نريد بكراهة هذه الرأفة المفرطة أن يَفْتَكَّ من الصبي سائرَ إرادته، ويسلب منه جميع عزائمه، كما يفعله الجاهلون بأساليب الإصلاح والتهذيب؛ إن ذلك مما يحول بينه وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة الجأش، وأصالة الرأي، والإقدام على إرسال كلمة الحق عندما يقتضيها المقام؛ فيكون ألعوبة بيد معاشريه كالكرة المطروحة يتلقفونه رجلاً رجلاً، أو آلة يستعملونها فيما يشتهون؛ التربية النافعة ما كانت أثراً لمحبةٍ يطفئ البأسُ شيئاً من حرارتها، وصرامةٍ تلطف الشفقة نبذة من شدتها، وهي التي يستوجب بها الولدان دعاء الولد بقوله: [رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً]الإسراء:24.
ولما كان الابن مثالاً لمن جعل الله عليه كفيلاً، ومظهراً لآثار تعود على وليه بِكِفْل من أجزائها _ فما بالنا لا نرسم في طباع أبنائنا أشكالاً محمودة، تمثل لمن بعدنا هيئةَ ما كان عليه سلفهم الصالح عِوَضَ أن ننقشها لهم في عَمَدٍ ممددة، أو خشب مسندة.
وخاتمة المقال، أن تعميم التربية بين طبقات الأمة، شيء واجب، لا ينتظم لها العيش الناعم بدونه، ولا تشرق صحائفُ تاريخِها بسواه.
التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم(1)
للكاتب علي فكري ــ أمين دار الكتب المصرية
التربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتُ الشعوب، ونهضات الأمم.
بل هي الأساس المتين الذي تبنى عليه عظمة الأمم وارتقاؤها؛ فما ارتقت أمة في العالم القديم أو الحديث إلا وكان سببُ ذلك سموَّ أخلاقِ أفرادها، وقناعتَهم، واقتصادَهم، وحبَّهم الناسَ محبتَهم أنفسَهم، وإخلاصَهم في العمل لوطنهم، وانتشار روح النشاط والإقدام بينهم، وبعدهم من الفخر والرياء، والدسائس والفتن، ونفورهم من الانقسام والمخاصمة.
__________
(1) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الأول ص10_ 14، رجب 1343هـ.(1/23)
قال لوثر: ليست سعادة الدول بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بكثرة المهذبين من أبنائها، وعلى مقدار الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها.
وما انحطت أمة، ولا أفل نجم مجدها، ولا زال سلطانها إلا بزوال تلك الأخلاق الفاضلة من نفوس أبنائها، وانغماسهم في الشر والفساد.
والأدلة على ذلك كثيرة؛ انظر إلى الدولة الرومانية القديمة التي أخضعت العالم القديم، وامتدت شوكتها إلى غالب ممالكه _ ترَ أن الأخلاق الكريمة كانت سبب رفعتها، وأن الترف والفساد كانا سبب انحطاطها.
وألقِ معي نظرة أخرى إلى الدولة العربية بعد ظهور الإسلام دين العلم والأخلاق الحسنة ببلاد المشرق وبلاد الأندلس _ ترَ أنها قد بلغت بين الأمم أسمى ما تصبو إليه نفوس الشعوب الناهضة حتى كانت جنةَ هذا العالم وزينةَ الحياة الدنيا، وأضحت واسطةَ عقدِ حضارة العالم، والغرةَ المشرقةَ في جبين الأيام، وكعبةَ طلاب العلوم والآداب؛ فامتد سلطانها، وعلا كعبها، وزها نجمها، وكمل بدرها يوم كانت تنشر ألوية الحضارة على جميع العالم، وتتلو عليه آيات بينات من الهدى والفرقان.
لم تزل الأمة العربية كذلك حتى دبَّ دبيب الفساد الأخلاقي في نفوس أهلها، وتدلَّى إلى الحضيض مترفوها؛ فحقَّت عليهم كلمة ربك [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)] الإسراء.
حقًّا إن أمراض النفوس لأشدُّ فتكاً بالشعوب، وأسرع إبادة للأمم من أمراض الأجسام، ومن نظر في تاريخ الأمة المصرية قديماً رأى أن الفضل في تقدمها وعظمتها راجع إلى الأخلاق الكريمة التي كان عليها سلفها.
كتب مسيو بورجيه الذي كان يرافق العالم الأثري شمبليون في سنة 1822 بمصر فيما كتب هذه الكلمة:(1/24)
=المصريون كلهم علماء، وهم على ما هم عليه من النقص الخلقي ما وصلت الأمة إلى المجد الحقيقي الذي يرفعها ويعلي شأنها، ولا تصل إلى الاستقلال الحقيقي الذي يرجوه لها كلُّ محب مخلص لبلاده؛ فنحن وإن كنا في حاجة إلى العلم عشرين مرة فحاجتنا إلى الأخلاق عشرين ألف مرة+.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ÷: =تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم+.
وقال العالم الأخلاقي صمويل سميلز: =إن العلم يجب اقترانه بالخير فربَّ عالم أقل من جاهل أمانة، وفضيلة، وأخلاقاً، وعملاً بالواجب+.
وقال جورج هربرت الشاعر الإنجليزي: =الحياة الصالحة خير من كثير من العلم والمعرفة+.
ألا ترى بعد هذا أن العلم لا يغني عن الأخلاق.
ومن تأمل بعين الحق المجردة عن الهوى في مواضع الضعف في الأمة المصرية وجدها كلها أخلاقية، ورأى في أخلاقنا الفردية والاجتماعية دلائل النقص الخلقي تكاد تكون ملموسة باليد .
لو أردنا أن نشرح النقائص الأخلاقية المنتشرة في الأمة لضاق بنا المقام على أن في سردها إثارةً للنفوس، وتهيُّجاً للخواطر؛ فأمسكنا عن ذكرها؛ إشفاقاً على القارئ، ومحافظة على مكارم الأخلاق.
فإذا أردتم صلاحاً وفلاحاً لأمتنا المصرية العزيزة فاجتهدوا في تربية أخلاق أبنائها، وتخليصها من براثن الفساد؛ وذلك بنشر الدين بجانب معاهد التعليم، فالدين هو روح الآداب، ومنبع الأخلاق الصحيحة المنزهة عن الهوى والمطامع الشخصية، الدين هو الأساس المتين للتربية الأخلاقية في الشرق قاطبة؛ فالشرقيون يخالفون الغربيين في تغلب عواطفهم على عقولهم، والدين موطنه العواطف، ومركزه الفؤاد؛ فلذلك كان الشرق من قديم الزمان مهبط الأديان، وموطن الأنبياء والمرسلين.(1/25)
ولئن جاز لبعض الأمم الغربية تجريد التربية الخلقية من روح الدين فلا يجوز لأمة شرقية كالأمة المصرية أن تسير على هذا المنهج؛ لأن الوازع الديني، والرجوع إلى خالق قادر خالق الكائنات واقف على السرائر المدفونة في أعماق القلوب أقوى عامل في إصلاح الأخلاق، بل هو الأساس الوحيد لنجاح الأفراد، وعظمة الأمة.
لهذا الغرض قامت جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، فهدرت شقشقتها حيناً ثم قرت، والآن قد عادت لشنشنتها.
نسأل الله أن يأخذ بيدها، وأن يوفقها إلى إصلاح المعوج من أخلاق الشبيبة المصرية، وأن يهديها إلى طريق الخير والفلاح آمين.
صحة التفكير(1) للعلامة الشيخ محب الدين الخطيب
لو كانت شكوى المصلحين مقصورة على قلة ما لدينا من وسائط التعليم والتهذيب، ووسائل تنوير القلوب والعقول بهما_ لهان الأمر كثيراً؛ لأن ما نراه من قلة هذه الوسائل والوسائط سيتبدل يوماً بعد يوم بحال أرقى من التي نحن فيها، إلا أن هنالك مصيبة أدعى إلى الشكوى، وأجدر بالعناية والاهتمام، وهي تباين أثر هذه الوسائط في العقول؛ فإذا ألقى بعض الأفاضل محاضرة أخلاقية في بعض الأندية، أو إذا كتب أديب مقالة إصلاحية في إحدى الصحف_ تجد سامعي المحاضرة وقارئي المقالة متفاوتين في الانتباه إلى مراميها، وفهم المعاني الواردة فيهما، وربما تلقاها بعضهم بوجه، وتلقاها آخرون بضده.
وليس هذا المرض منحصراً في الأمور العلمية، كالمحاضرات والمقالات، بل إن الرجل يسمع بأذنه الخبر البسيط، أو يرى بعينه الحادث التافه، ثم يذهب في تأويلهما وروايتهما مذاهب بعيدة عن الحقيقة؛ حتى أصبح هذا الأمر من مشوهات الرأي العام الذي بدأ يتكون عندنا بشكل صريح.
__________
(1) الحديقة 6/ 208 _ 214، عام 1349هـ(1/26)
قد يظن بعض القراء أن صحة التفكير والحكم، وجودة التصور والتصديق، منوطان بموهبة الذكاء. وليس الأمر كذلك، بل هما منوطان بتربية النفس من الصغر على حب الخير والحق، والتجرد عن الشرور والأهواء، والاهتمام بإدراك الأمور من كل وجوهها، وافتداء الصلاح بكل منفعة ذاتية، وربح غير مشروع.
ليس خطأ الناس في التصور والتصديق ناشئاً في كل الأحوال عن أسباب طبيعية كالنقص في المدارك، بل إنهم إذا صوبوا أنظارهم إلى حادثة من الحوادث يحاذرون تمثيلها في أذهانهم بشكلها الحقيقي، ويريدون أن يروها بالصورة التي توافق هوىً في نفوسهم دعت إلى وجوده المنافع الزائلة، أو العقائد الباطلة، أو اللوامع الآفلة.
يا لهذه التربية ما أشد تأثيرها على كل شيء فينا: بها نكون رجالاً صالحين في المجتمع، أو لصوصاً وقَتَََلة ومتشردين، وبها نكون كرام النفوس محبين للإحسان، أو لئاماً وبخلاء ومفسدين.
وبها نكون صحيحي الأجسام نشيطين مرنين،أو ضعافاً وكسولين ومتقاعسين.
حتى أفكارنا وأحكامنا _أيضاً_ قد رفعا للتربية راية الخضوع والتسليم، فإذا تربى الفكر من الصغر على صحة التفكير نشأ صاحبه جيد التصور، سديد الحكم، محبَّاً للحق سواء كان له أوعليه، وإذا كانت الثانية بات الرجل وليس فيه من الرجولية غير اسمها.
ولا غَرْوَ؛ فإن التصور والتصديق شطرا المنطق، ولا يزال الإنسان حيواناً حتى يتمكن من إزالة سلطان الهوى عن نفسه الناطقة الممتازة بحسن التصور، وصحة التصديق.(1/27)
إن أقدس عمل يصنعه الإنسان في حياته الدنيا هو أن يدرك الحق إدراكاً صحيحاً، وأن يصرح به بلا مواربة ولا خوف، وإن الرجل الذي يستطيع أن يتغلب على كل ما يعترض صحة التفكير من أهواء وخرافات ومنافع ومؤثرات، وأن يكون بعد ذلك مدركاً للحق لا تأخذه في التصريح به لومة لائم ولا مقاومة مقاوم، ثم يضيف إلى هذه المنزلة العالية منزلة تربية هذا الخلق نفوس الناشئة_ فلا شك أن مثل هذا الرجل الشجاع مكتوب في عداد أولياء الحق الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قلت: إن الهوى الناشئ عن المنافع الزائلة والعقائد الباطلة يمنع صحة التفكير، ومن مصائبنا أن بعض الذين سمعوا بأن التعصب لبعض العقائد ينافي الحرية الفكرية تحولوا من التعصب لها إلى التعصب عليها، فبرهنوا على عجز الذين ربوهم عن أن يجعلوهم صحيحي التفكير أولاً وآخراً.
وكان يجب أن يعتادوا من الصغر على دقة النظر، وأن يمارسوا محاكمة الأمور بالموازنة بين براهينها، والتنقيب عن دواعيها وأسبابها، متجردين عن التعصب لها أوعليها؛ وبذلك تنمو فيهم قوة الاجتهاد والاكتشاف، وترسخ في عقولهم ملكة العدل والإنصاف.
من لي بمن يذكر أساتذة المدارس بما أخذوا على أنفسهم من الواجبات العظمى.
إننا لا نطلب منهم أن يعلموا أولادنا أشياء كثيرة : يكفي أولادنا من مسائل العلم ما يحتاجون إليه في هذه الحياة، أما نحن فقد كان أساتذتنا يعلموننا أشياء لم تلزم لنا حتى الآن، وفاتهم أن يعلمونا أموراً تلزم لكل إنسان.
صحة التفكير لازمة للموظف، والطبيب، والصانع، والسياسي، والتاجر، وحارث الأرض، وإن طريقة تفكير الإنسان دليل على أخلاق الإنسان، وأخلاق الإنسان هي الإنسان نفسه؛ فهل لأساتذة مدارسنا أن يسهروا لياليهم في التنقيب عن الوسائل التي تزيد رجال مستقبلنا تقدماً في مواطن الرجولية، وارتفاعاً في مراقي الإنسانية؟.(1/28)
أول درس ألقيته(1) للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات
أبداً لا أنسى تلك الساعة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيه أول درس في أول فصل، كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً، والسن حديثَة، والنفس غريرة، والنظر قصير، وكانت المدرسةُ ثانويةً أجنبيةً، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من الأخلاق والتربية، وكنت قد أدركت قسطاً من العلم النظري على الطريقة الأزهرية، وشدوت طرَفاً من التعليم الفني على الطريقة اللاتينية،إلا أن ما حصَّلت منهما كان لا يزال طافياً في ذهني، متحيراً في فكري، لا يطمئن إلى ثقة، ولا يستقر على تجربة، أضف ذلك إلى طبع حيي، ولسان من الخجل عيي، ووجهٍ للقاء الناس هيوب.
قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس، أراجع مادته، وأرسم خطته، وأسدد خطاه، ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ قبل التمهيد للدرس؛ وغدوت إلى المدرسة أقرَعُ باب الأمل المرجو، وأستطلع ضمير الغيب المحجَّب.
دق الجرس؛ فجاوبه قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه، وتشق لفائفه، وقمت أجر رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يُقَدِّمني إلى الطلبة.
دخلنا الفصل؛ فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش، فأطال القول، وأجزل الثناء، ثم خَرَج وبقيتُ!!
أقسم لك أني أقول الحق،وإن كنت أجد بشاعة طعمه، ومرارة مذاقه على لساني؛ لقد نظرت إلى التلاميذ نظرةً حائرةً، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المُهَيأ المحفوظ، فكأن ذاكرتي صحيفة بيضاء، وكأن لساني مُضْغَةٌ جامدة لا تحس.
__________
(1) نشرت في عدد يناير من السنة الأولى من مجلة التربية الحديثة 1928م، وانظر كتاب: في أصول الأدب، لأحمد حسن الزيات ص121_125.(1/29)
السكون شاملٌ رهيبٌ، والأبصار شاخصة ما تكاد تَطْرُف، ووجوهُ الشباب ترتسم عليها ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس، ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعالج في نفسي الخَوَرَ والحَصَر، وأجهد في لم ما تَشَعَّثَ من ذهني، وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمةٍ ولا تمهيدٍ ولا عَرْض!!
أتريد أن تُعْفيَني يا صديقي من وصف هذا الدرس؛ إبقاءً عليَّ وصوناً لسر المهنة؟
ولكن لماذا نتدافن الأسرار، ونتكاتم العيوب، ما دامت هذه المجلة خاصةً بنا، مكتوبةً منّا ولنا؟
إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك البادئ، وتبصرة للناشئ الغَرِير.
بدأت الدرس بصوت خافض، وطرف خاشع، ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف لا أدنو من السبورة؛ مخافة أن أحرك سكون الفصل، ولا ألمس الطباشير، خَشَاةَ أن أسيء الكتابة!!
كان من المعقول أن يعاودني الهدوء، ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول ورَبْكة البَدْء، لو كنت واثقاً من نفسي، متمكناً من درسي.
ولكنَّ نظامَ الموضوع كان قد انقطع؛ فتبعثرت حَبَّاته، وتعثَّرت خطواتُه، ورُحْتُ أسرُد ما تذكرته منه، وأنا أشعر بكلماتي تُحْتَضَرُ على شفتي، وبِرِيقي يجمد في فمي، وبِعَرَقي يتصبَّب على جبيني، حتى فَرَغْتُ، ثم جلست أبلع ما بقي من ريقي، ونظرت فإذا الساعة لم يَمْضِ نصفُها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون وعلى كل شفة بسمة خبيثة لولا تَعَوُّدُ النظامِ، وقوةُ التهذيب لعادت قهقةً صاخبة!!
ماذا أقول بعد أن نفد القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف أؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟
أسئلة كانت تضطرب في خاطري القَلِقِ؛ فلا أجد لها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء؛ لإنقاذ الموقف فقال:
=إحك لنا حكاية يا أفندي بأى(1) ! +.
__________
(1) بأى: هي بلهجة إخواننا المصريين العامية بمعنى: إذن، أو نحوها (م).(1/30)
ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني آخر: =لأَّ يا أفندي، اتكلم لنا شَوَيَّة إنشا شفهي+.
وآخر: = حضرتك حتدِّينا على طول؟+.
وآخر : =اسم حضرتك إيه يا أفندي، والله إنت راجل طيب !!+.
وآخر : = فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويَّة+.
فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة الحيية المتواضعة: على كل حال كاد الوقت ينتهي؛ فلا يتسع لشيء من هذا.
ولكن صوتاً انبعث من أقصى الحجرة يقول: =أوه ! دا لسه ساعة وربع! حصة العربي ساعتين كل يوم !!+
ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحال الأليمة كما شاء نظام (الفرير) أو كما قضى الجدُّ العاثر، وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة.
كأنك تريدني على أن أسوق إليك بقيةَ القصة!!
حنانيك، ولا تكلفني هذه الخُطة، واعتمد على نفسك وحَدْسِك في التخبر والاستنتاج!
لقد انحل النظام؛ فتشعَّث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني حاولت الكلام مراراً، فلم أسمع صوتي من اللغط؛ فجعلت قيادي في يد أولادي، ثم سَكَتُّ حتى نطق الجرس.
خرجت من الفصل أَمِيدُ من الهمِّ، وأجرُّ ذيلَ الفشلِ السابغ الضافي، وفي نفسي أن أتركَ التعليمَ وهو حديثُ صباي، ومنتجع هواي إلى عمل آخر يصلح لي وأصلح له.. !
ولكني عُدْتُ إلى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت بعد شهرين اثنين مدرسَ الفصلِ الأخير ,وأستاذ الكلية الأول!!
فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن الضعف قوة؟
اسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً فيما كان عليَّ.
لقد التمست الوِصْلَةَ إلى النجاح في أسباب خمسةٍ كلها معلوم بالضرورة مؤيدٌ بالطبع، ولكن العلمَ غيرُ العمل، والرأي خلاف العزيمة، والتجربةَ وجودُ الفكرة وواقعُ الحقيقة:(1/31)
1_ مواصلة الدرس وإدمان النظر: فلم أترك كتاباً في المواد التي أدرِّسها حتى تقصَّيْتُه، أو أَلْمَمْتُ به، واستفدت منه، وكان جدوى ذلك عليَّ وثوقَ الطلبة بما أقول، وظهورَ التجديد فيما أعمل، وتصريفَ الدرس وتنويعه على ما أحب.
ولن تجد أشفعَ للمدرس من سعة اطلاعه، وغزارة مادته.
2_ إعداد الدرس وأداؤه: وكان يعنيني _ على الأخص _ ربطُه بالدروس السابقة، والسيرُ فيه مع الطلاب خطوةً خطوةً على الطريقة الاستنتاجية (inductive) ثم تلخيصه بطريق الأسئلة؛ فكان من حسن إعداده أن مَلأْتُ الوقت كله به، فلم يعد فيه فراغ لِعَبَثِ عابثٍ، ولا تَجَنِّي سفيهٍ، وجَرَرْتُ إليه أذهانَ الطلاب بالتشويق، والتطبيق، والسؤال؛ فلم يصبهم سأمٌ ولا ضِيْقٌ، وشغلتهم به عن أنفسهم وعني؛ فلم يفرغوا لاصطياد نكتةٍ؛ ولا لالتماس غَمِيزَة.
وليس أعون على حفظ نظام الفصل مِنْ مَلءِ الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمنُ لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من فهم الموضوع.
3_ مسايرة الترقي: فلم أتشَبَّث بالقديم، ولم أتعصَّب للكتاب، ولم أُعْنَ إلا بما له قيمةٌ عملية؛ فالموضوعات منتزعة من حياة التلميذ وحال المجتمع، والأمثلةُ مستنبطة من أساليب العصر ومواضعات أهله، والبحث حُرٌّ في حدود المنطق، يقوم على أساس التحليل والنقد والموازنة، وفي تشابه الفكرةِ والنزعةِ، والغايةُ توثيقُ الصلةِ بين المعلم والمتعلم.
4_ حسن الخلق: ولعمري ما يؤتى المُعَلِّم إلا من إغفاله هذه الجهة؛ فالادعاءُ، والتظاهرُ، والكبرياءُ، والتفاخرُ، والبذاءُ، والتنادرُ، والكذبُ، والتحيزُ، والكسلُ، والتدليسُ _ آفاتُ العلم، وبلايا المُعَلّم.
وما أسر النفسَ الشابةَ الحرةَ كالخلق الكريم، ولا يَسَّر تعليمَها وتقويمَها كالقدوة الحسنة.
ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأُحْدُوثة، واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قَدْر المعلم واعتباره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره.(1/32)
5_ قوة الحزم: فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في غير عَسْف، وأسير بالطالبِ إلى الواجب عن طريق ضميره وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه، وأجعل رضاي عنه غايةَ ثوابِه، وسخطي عليه غايةَ عقابِه، وأَعِدُه الوَعْدَ فلا أَذْهَل عن تنجيزه، وأحكم عليه الحكم فلا أَنْكُل عن تنفيذه، وأستعين على فهم عقليته ودرس نفسيته بإنشائه، فأعامله بما يوائمه، وأعالجه بالدواء الذي يلائمه.
كل ذلك يسعده طبع غالب، ورغبة حافزة، ومِرَانَةٌ طويلة، وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل وبين الطلاب أكثر مما أجدها في البيت وبين الأصحاب.
ولكن المعلمين _ وا أسفاه _ كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري هل يكون الدرس الأخير في مبدإ مماتي، كما كان الدرس الأول في مبدإ حياتي؟
حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة(1)
للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي(2)
ونعني بالمعلّمين هذه الطائفة المجاهدة في سبيل تعليم أبناء الأمة لغتهم، وتربيتهم على عقائد وقواعد دينهم، وطَبْعِهم على قالب من آدابه وأخلاقه.
نعني هذه الطائفة الصابرة على مكاره الحياة كلها، المحرومة من الراحة والاطمئنان في جميع أوقاتها، فهي في الشتاء تشقى وتتعب، وفي الصيف تضْحَى وتَنْصَب، وفيما بين ذلك تكابد وتعاني، على ضيق من العيش، وفقدان للحافز من الرغبة والتنشيط؛ فلا مسكن مريح، ولا شمل مجموع، ولا مرتّبٌ كافٍ يسدّ الضرورة، ويقوّي الضعيف، ويخفّف الهم، ويصونُ الهمة عن التبذل.
__________
(1) نشرت في العدد 149 من جريدة =البصائر+، 2 أفريل سنة 1951، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/277_280، وقد كتبها لمعلمي جمعية العلماء.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/33)
هذه الطائفة هي عماد جمعية العلماء في أجلِّ وظائفها، وهي التربية والتعليم، وهي العَصَب المدبر لحياة هذه الحركة المباركة؛ فعليها _ بحكم الأمانة والدين _ واجبات تشرعها الجمعية بالنظام والقانون، وتؤكّدها بالدعوة والإرشاد، وتستعين على تحقيقها بالمراقبة والتفتيش، ولها حقوق تتقاسمها الجمعية والأمة أمراً وتنفيذاً؛ فهل قامت الجمعية والأمة متعاونتين بهذه الحقوق على أكمل وجه؟
أما جمعية العلماء فإن واسطتها إلى الأمة هي هذه الجمعيات المحلية المشرفةُ على المدارس، القائمة مباشرةً بتصريف شؤونها المالية؛ وهذه الجمعيات هي المرجع الوحيد في ماديات المدارس، وهي الحاملة للحمل الثقيل فيها.
ولما كانت جمعية العلماء تبني كل أمورها على الواقع المشهود، وتُراعي الظروفَ وشدّتها ورخاءَها؛ لتضمن لهذه المدارس الدوامَ والبقاء كانت تتقدم إلى الجمعيات المحلية في باب المادّيات بما يحتمل الطاعة، وتتحمّله الطاقة؛ لأن من الحكمة اجتذابَ الجماهير بالترغيب والمسايرة، لا بالإثارة والسَّوْق العنيف؛ فهما من دواعي الانتكاس، والانتكاس أخطرُ ما يعرض للحركات في مراحلها الأولى؛ لذلك كانت تعتبر في مرتبات المعلّمين الحد الأدنى مما يقوم بالضروريات، وهي تعلم ما يقاسيه المعلم من آلام حياته، وتُشفق عليه، وترثي له.
ولكنها تعلم مع ذلك حالة الموارد المالية للمدارس، وأهمّها ما يؤخذ من آباء التلامذة مشاهرة، وأغلب الآباء فقراء.(1/34)
ولو كان لمدارسنا مدد ثابتٌ من الأغنياء وحقّ الله في أموالهم لجعلناه بعض ما نبني عليه في التوسيع على المعلمين، وإزاحة بعض عللهم، ولكننا هزَزْنا هؤلاء الأغنياء بما يهتزّ له الكرام فلم تسقط منهم ثمرة، ورقينا لعاهة الشحّ فيهم باسم الله وباسم الدين والوطن، وناشدناهم الله في هذا الجيل المقبل أن يحلّ به ما حلّ بهم من جهل، يصحبه هوان، يصحبه شر مستطير _ فلم ينزل عفريتُ بخلهم لِرُقْيَةٍ؛ وبقيت مواردُ المدارس _ لغيبة الأغنياء عن ميدان البذل _ محدودةً مقترة، تتراجع ناضبة، حتى أصبحت لا تبلّ من جفاف، ولا تقوم بكفاف؛ وإذا لم يكن الغيثُ هامياً فلا ترجُ أن يكونَ النبت نامياً.
نوجّه بعضَ العتب إلى رجال جمعياتنا المحلية، ولا نبرئهم من تبعة التقصير، ونعيب فيهم خلةً كادت تكون غالبة عليهم، وهي أنهم يؤثرون المصالح الخاصة على المصلحة العامة عند التعارض.
ولو أنهم _ سامحهم الله _ وجّهوا بعضَ اهتمامهم إلى حالة المدارس المادية، وبعضَ تفكيرهم إلى ابتكار مواردَ أخرى للمال _ لكان لعملهم أثرٌ يذكر في حلّ هذه الأزمة التي شغلنا التفكير فيها عن التفكير في توسيع دائرة الحركة وتكميل نقائصها؛ ولو أنهم كانوا أكثرَ جرأة مما هم عليه لما توقفوا عند كل فترة يأنسونها من الجمهور؛ فليعلموا _ علمهم الله _ أن كل تقصير يقع منهم في هذا الواجب فمصيبته تقع على المعلمين البائسين، وأننا لا نسمح بأن يكون تفريطهم على حساب هذه الطائفة المجاهدة، ولا نرضى أن تكون خاتمة أعمالهم فشلاً وخيبة، ولا أن يكونوا هم السبب أو بعضَ السبب فيما يصيب هذه النهضة العلمية من خمود أو تراجع.(1/35)
إن الموانع لكثيرة، وإن العوائق عن الخير لوفيرة؛ وشرّها ما عاق عن العلم والدين، ووقف عثرةً في طريقهما، ولكنها عند الرجال مصاعب سهلة التذليل؛ لأنهم يعتبرونها عوارض تزول، وأحوالاً تتحول؛ فيكون فهمهم لها وتصورهم إياها على حقيقتها أكبر أعوانهم عليها؛ فيلقونها بالهمم النافذة، والتصميم الخارق، والصبر الثابت، حتى تنقشع غماؤها، وتسلم المقاصد الذاتية.
وإذا هاج البحر، وعصفَتْ عواصفه فالغرق عارض، والسلامة هي الأصل، وما على الربّان الحاذق المتأثّر بهذه الحقيقة إلا أن يعالجَ الشدّة بدوائها، فيعالج الفزع بالصبر، والعواصف بحسن التصريف لها، وإلحاح الأمواج بإلحاح العزيمة، فإذا هو ناجٍ سالمٌ محرزٌ لمهجته وسفينته.
ولكن هذا كله كلام لا يجلب المنام، ولا يغني عن الطعام، ولا يكسو العظام، ولا ينعل الأقدام.
والحقيقة التي تجب مواجهتها كفاحاً، هي أن الأزمة خانقة، وأسعار الضروريات والحاجيات كسعود الأقوياء كل يوم في ارتفاع، ووجه المستقبل يطلّ من خلل الأيام كالحاً باسراً ينذر بالسوأى وزيادة، وأصوات العمّال الكادحين، وأُجَراءُ المشاهرة والمياومة تصمّ الآذان بطلب الزيادة في الأجور؛ لأن الزيت _وهو الإدام_ أصبح بقيمته شجًى في الحلوق، ولأن الثياب الساترة أصبحت بسبب الغلاء فاضحة، ولأن ورقة (الألف) بورك فيها فأصبحت (كالشين) في حساب الجُمَّل(1)في (الجزم الصغير) عند (اليقَّاشين)(2)...
__________
(1) الشين في ذلك الحساب يحسب بألف في اصطلاح المغاربة، ولكن ألفه كألف الفرق بعد واو الجماعة لا يساوي شيئاً.
(2) اليقّاشين: الذين يكتبون التمائِم. واليَقْشَة: حِرْفَتُهم.(1/36)
وهذه الطائفة المجاهدة الصابرة عندنا تتوقّع الموت، ولا ترفع الصوت، ولا مرجع لها _ بعد الله _ إلا جمعية العلماء التي حبّبت إليها التعليم، وزيّنته في قلوبها، ثم ساقتها إلى ميادينه، وجنَّدتها في كتائبه؛ فإذا لم تبذلْ كل مجهود في تخفيف البلاء وتهوين الغلاء عليهم بالزيادة في المرتبات _ فإن العاقبة تكون وخيمة.
وإذا كنا لا نخشى أن يفرّوا من الزحفْ؛ ثقةً بهم، واعتماداً على متانة دينهم، وصدق وطنيّتهم، وركوناً إلى شهامتهم واعتزازاً بمهنتهم _ فإننا نخشى ما هو أسوأ عاقبةً من ذلك؛ نخشى أن يعلموا أبناءنا بلا قلوب ولا عقول في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صلة القلوب بالقلوب، وتأثر العقول بالعقول، واستقاء الأرواح من الأرواح؛ فإذا حصل ذلك جاء التعليم وفيه أثرُ الجوع والهزال، وعليه سيما الفقر والخصاصة، ويأتي هذا الجيل وعلى عقله من هذه الآثار ما على أجسام مواليد الحرب التي نشأتْ في فقر من المواد المغذية.
وإذا كنتم تسمعون عن الأمم الحية أنها توفّر أرزاقَ القضاة حتى لا تلجئهم مطالبُ الحياة إلى الرشوة فكذلك يجب توفير أرزاق المعلّمين حتى لا تطمحَ نفوسهم إلى هجر التعليم.
أما والله لو استطعتُ لأعطيتُ المعلّم جمّاً، ثم لأوسعت العطاء ذمَّاً، حتى تقوى فيه نزعة الكرامة وشرف العلم، والشعور بأن العلم كالعبادة، وكفاؤه الأجرُ من الله لا الأجرةُ من المخلوق، ولكن التمنّي تعلّق بالخيال...
هذا نذير من النذر الأولى لرجالنا القائمين على المدارس، والحاملين معنا للعبء المادي؛ فعليهم أن يقدُروا قدرَه، ويفكّروا في مغزاه، ويتعاونوا على إيجاد موارد جديدة؛ ليتوفّر لنا مالٌ نرفع به مرتبات المعلّمين، ونرفع به أقدار العلم والتعليم.
وإن هذه الأزمة إلى انفراج؛ فليثبتوا لها، وليكسروا حدّتها بالتدبير الذي يفل الحدّة، ويخفّف الشدة.(1/37)
وإننا قد قرّرنا الزيادة في المرتبات، ولكننا تربّصنا حتى لم يبقَ مصطبر، وانتظرنا حتى يبلغهم هذا الخطاب السافر؛ فإذا تماروا بالنذير، فسنقنعهم بسوء الحال، ووخامة العقبى، وإن ظننا فيهم _ على ذلك _ لجميل...
حقوق الجيل الناشئ علينا (1) للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
للجيل الآتي علينا حقوق أوّليه مؤكّدة, لا تبرأ ذممنا منها عند الله ولا تسقط شهادة التاريخ علينا بها, إلا إذا أدّيناها لهم كاملةً غير مبخوسة وملاك هذا الحقوق أن نعدّهم للحياة على غير الطريقة التي أعدّنا بها آباؤنا للحياة.
الأخلاق والآداب, والأفكار والإحساسات, والاتجاهات العامة, والمشخّصات هي الأمتعة التي يرثها جيل عن جيل, ومنها يتكوّن مزاجه صحة واعتلالاً؛ فماذا وَرِثْنا عن آبائنا؟ وماذا نورث أبناءنا منها؟
ليس من العقوق أن نقول: إن آباءنا لم يورثونا شيئاً نافعاًَ من هذه الأمتعة, وليس من العقوق أن تقول: إن أباك خلفك فقيراً إذا كان عاش فقيراً ومات فقيراً.
بل من الإنصاف لهم أن نقولَ: إنهم ورثونا هذه الصفقة الخاسرة التي هي رأس مالنا اليوم من أخلاق لاتزنُ جناحَ بعوضة, وآداب لا تستقيم عليها حياة, وأفكار بدائية لا تجول في المدار الواسع من الحياة, وعقول تقدّر فتخطئ, وتدبِّر فتبطئ, وإحساسات مذبذبة, واتجاهات خاطئة مدبّرة؛ وغير ذلك مما تركنا غرباءَ عن عصرنا وأهل عصرنا,وصيّر الحياةَ منا في غير دار إقامة؛ فهل يحسن بنا أن نورث بنينا هذا السقط من الأمتعة بعد شعورنا ويقيننا بعدم كفايتها للحياة؟
يعذر هذا الجيل الذي نحن منه بأنه استلم التركة العامة أدوات معطلةً, وأسلحةً مفلولة, وأجهزة باليه من جيل انتهى به زمنه إلى درجة من الإفلاس المادّي والأدبي, صيّرته في غير زمنه.
__________
(1) نشرت في العدد 145 من جريدة (البصائر) 5 مارس1951,انظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/273_276(1/38)
ولكنه لا يعذر إذا سلّمها _ كما هي _ إلى الجيل الآتي, ويقترف جريمة غش لا تغفر إذا حمل أوزاره وأوزار أجيال قبله على الجيل الآتي, بعد أن كشف عررها, وتبين ضررها.
فتح جيلنا هذا عينه في ظلمات مضطرّبة, بعضها فوق بعض تتخللها بروق معشية, ورعود صاخَّة, ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف, وصوالجة تتلقّف، وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة, فإذا سبلها وعرة, والصراط إليها أرقّ(1) من الشعرة وما زال هذا الجيل يتعثر في أذيال الماضي, ويتخبط في ظلمائه, ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلما رام النهوض وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار, اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته, ولجاجُ الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته.
حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا, وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه, وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرُّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدُلي، والتنكر للقريب، والخضوع للغريب.
حرام علينا أن نقلدهم هذه الأسلحة المسمومة؛ فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعاً، ويسعد بشقائهم الغير.
حرام علينا أن نسلم إليهم شيئاً من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه، ويأمن الأحياء شرها، إذ لم ينالوا خيرها.
__________
(1) هكذا في الأصل ولعلها: أدق (م).(1/39)
السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عُرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد عزيمته في طلبها _ هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان، وتسيطر عليها، وتوجيهُ الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق والروحانية؛ فعلى هذه المدرسة يتوقَّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا من حقوق أبنائنا، وأن نكفر عن سيئات اجترحها أجيالنا الماضية.
لا نغالط أنفسنا، فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم كافيةٌ في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير، أو نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد، أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى هذه النتيجة المرغوبة.
فاليقظة موجودة، ولكنها لم تصل _ بعدُ _ إلى الصحو الصاحي، وما زالت تغالبها بقايا من النوم الثقيل الطويل؛ والتعليم الأجنبي _ على تفاهته في الكيف وقلته في الكم، وعلى اضطرارنا إليه وإقبالنا عليه _ يسبقه جهل، وتقترن به آفات، وتعقبه مفاسد، وهو _ على ذلك كله _ يفتح عيناً؛ ليعمي عيناً، ومن بلغ إلى غايته منَّا أصبح بالطبيعة متنكراً لماضيه ودمه وقومه؛ لأن ذلك التعليم وجده فارغاً؛ فملأه بما يشاء هو، لا بما نشاء نحن.
وأما حالة المدرسة العربية الحاضرة فهي محل الشاهد.
ما هي الغاية من المدرسة العربية الحديثة؟
ما دُمنا من بناة هذه المدرسة، ومن أول الداعين إليها، والقائدين لحركتها، والواضعين لبرامجها، والمشرفين على كل دقيقة وجليلة فيها، والمعرّضين للبلاء في سبيلها _ ففينا من الجرأة ما يدفعنا إلى الجواب عن هذا السؤال.(1/40)
الغاية من هذه المدرسة هي تربية هذا الجيل وتعليمه.
وغاية الغايات من التربية هي توحيدُ النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبطُ نوازعه المضطربه، وتصحيح نظراته إلى الحياة، ونقله من ذلك المُضْطَرَب الفكري الضيق الذي وضعه فيه مجتمعه، إلى مضطرَب أوسع منه دائرة، وأرحب أفقاً، وأصح أساساً؛ فإذا تمَّ ذلك، وانتهى إلى مداه طمعنا أن تخرِّج لنا المدرسة جيلاً متلائمَ الأذواق، متَّحدَ المشارب، مضبوط النزعات، ينظر إلى الحياة _ كما هي _ نظرةً واحدة، ويسعى في طلبها بإرادة متحدة، يعمل لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاه واحد.
غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه بمعرفة تاريخه.
تلك الأصول التي جهلها آباؤه فَشَقُوا بجهلها، وأصبحوا غرباء في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم؛ فلم يعرفهم أحد.
فهذه هي الغاية السامية التي في تحقيقها نجهد ونكدح، وللوصول إليها نعمل، وفي العمل لها نلقى الأذى، وفي الأذى فيها نلقى راحة الضمير واطمئنان النفس، وببلوغها _ إن شاء الله _ نكون قد أدَّينا الأمانة، وقضينا المناسك، وكفَّرنا عن جريمة التقصير، وفزنا بالعاقبة؛ فحمدنا السرى.
وبماذا يتم تمامُ هذه الغاية؟
لا يتم هذا على وجهه المثمر إلا بتوحيد منهاج التربية، وبرنامج التعليم، ولا يتم توحيد المنهاج والبرنامج إلا بتوحيد الإدارة، ولا يتم توحيد الإدارة إلا بتوحيد الإشراف العام، درجات متلازمة سبقتنا بها الأمم التي بنتْ حياتها على تجربة النافع والأخذ بالأنفع، فقطعت الأشواط البعيدة في الزمن القريب.
وهذه هي المعاني التي دعتنا إلى جمع المدارس العربية تحت إدارة واحدة، وإشراف واحد، وإلى حشر المعلمين تحت لواء واحد؛ لِعِلمنا أن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل.(1/41)
يسوؤنا _ والله _ ويسوء الحق، أن تكون الحقيقة في هذه القضية أوضحَ من الشمس، وأن يكون رأينا فيها بعيداً من اللبس، ثم يتمارى بعض الناس فيها فيشاقُّوننا في الرأي والعمل، وتأبى بعض الهيئات إلا أن تنفرد بمدرسة أو بضع مدارس، ويأبى بعض أبنائنا الطلبة أن يكونوا إلا ملوكَ طوائف: إمارة بلا عمارة، وزعامة بلا دعامة، كل ذلك لدواعٍ من الجبن، أو بواعثَ من الحسد أو دوافعَ من الغرور والأنانية، أو كل ذلك مضروباً بعضُه في بعضه، ومن ادَّعى منهم خلافَ هذا فلا يصدقه الناس؛ لأن قاعدة السبر الأصولي لا تقتضي إلا هذا.
لو رزق الله إخواننا هؤلاء عقولاً تزن الأمور بعواقبها، وإخلاصاً يُذيب الحسد، ويذهب بالأنانية _ لعلموا أن الخير كل الخير في الاجتماع، وأن القوة كل القوة في الاتحاد، وأن الخروج على الجماعة أهلكَ من قبلنا، وهم في نهاية القوة؛ فكيف لا يهلكنا ونحن في نهاية الضعف؟ وأن الثمرات التي نرجوها من المدرسة للجيل الجديد لا تأتي مع هذا التفرُّق والتشتيت، وأن من يريد الإصلاح فليدخل فيما دخل فيه الناس، وليعالج _ مخلصاً _ من الداخل، أما محاولته للإصلاح وهو خارج فليست إلا هدماً وتخريباً؛ وأن الجيل الذي تخرجه هذه المدارس المتغايرة المتنافرة لا يأتي إلا متغايراً متنافراً، لا يزيد شيئاً عن خرِّيجي الزوايا في العهد القديم، لا يجمعهم من الخلال إلا أبلغها في تفريقهم وهو تعصُّب كل تلميذ لزاويته، والحلفُ برأس شيخها؛ وبئس الجيل جيل يكون هذا مبلغه من التربية والعلم، وبئس المربون نحن إن رضينا لهم هذه المنزلة.
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
10_ ثبات الأخلاق: للأديب مصطفى صادق الرافعي
11_ سجايا العرب في التراث الإسلامي: للعلامة محب الدين الخطيب
12_ الوفاء في العربي: للأستاذ محمد الطيب النجار
13_ التضحية: للأستاذ أحمد أمين
14_ الحياء: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/42)
15_ صدق اللهجة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
16_ من أخلاقنا: للشيخ علي الطنطاوي
17_ إشاعة السوء وموقف الإسلام منها: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
18_ البخيل: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
19_ الآداب العامة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
ثبات الأخلاق(1)للأديب مصطفى صادق الرافعي(2)
لو أنني سُئلتُ أن أُجمل فلسفةَ الدينِ الإسلامي كلَّها في لفظين، لقلُت: إنها ثباتُ الأخلاق، ولو سُئلَ أكبرُ فلاسفةِ الدنيا أن يُوجزَ علاجَ الإنسانية كلَّه في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كلُّ علماء أوربا ليدرسوا المدنية الأوربية ويحصُرُوا ما يُعْوِزُها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاق.
فليس ينتظر العالمُ أنبياءَ ولا فلاسفةَ ولا مصلحين ولا علماء يُبدعون له بِدْعاً جديداً، وإنما هو يترقَّب من يستطيع أن يفسِّر له الإسلام هذا التفسير، ويُثبتُ للدنيا أنَّ كلَّ العبادات الإسلامية هي وسائلُ عمليَّةٌ تمنع الأخلاقَ الإنسانية أن تتبدَّلَ في الحيّ، فيخلعَ، منها ويلبس، إذا تبدَّلتْ أحوالُ الحياة فصعِدتْ بإنسانها أو نزلت، وأن الإسلام يأبى على كلِّ مسلم أن يكون إنسانَ حالتِه التي هو فيها من الثروة أو العلوم، ومن الارتفاع أو الضَّعة، ومن خمولِ المنزلة أو نباهتِها، ويوجبُ على كلِّ مسلم أن يكون إنسانَ الدرجة التي انتهى إليها الكون في سموِّه وكماله، وفي تقلُّبه على منازله بعد أن صُفِّيَ في شريعةٍ بعد شريعة، وتجربة بعد تجربة، وعلم بعد علم.
انتهت المدنيَّةُ إلى تبدُّل الأخلاق بتبدُّلِ أحوال الحياة، فمن كان تقيّاً على الفقر والإملاق وحَرَمه الإعسارُ فنونَ اللذة، ثم أيسرَ من بعدُ _ جَاْزَ لَهُ أن يكونَ فاجراً على الغِنى وأن يتسمَّحَ لفجوره على مدِّ ما يتطوَّحُ به المال، وإن أصبح في كلِّ دينار من ماله شقاءُ نفسٍ، إنسانيةٍ، أو فسادُها.
__________
(1) وحي القلم 2/73.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/43)
ومن وُلدَ في بطن كوخ، أو على ظهر الطريق وجبَ أن يبقى أرضاً إنسانية، كأن الله _سبحانه_ لم يَبْنِ من عظامه ولحمِه وأعصابه إلا خَرِبةً آدميةً من غير هندسةٍ ولا نظام ولا فن، ثم يقابله مَن وُلِدَ في القصر أو شِبهِ القصر فله حكم آخر، كأن الله _ سبحانه _ قد ركَّبَ من عظمه ودمه وتكوينه آيةً هندسيةً، وأعجوبةَ فنٍّ، وطُرْفةَ تدبير، وشيئاً مع شيء، وطبقةً على طبقة.
ولكن الإسلامَ يقرر ثباتَ الخلُق، ويُوجبه، ويُنشئ النفسَ عليه، ويجعله في حِياطة المجتمع وحراسته؛ لأنَّ هنالك حدوداً في الإنسانية تتميز بحدود في الحياة، ولابد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكونَ وضْعٌ إلا وراءَه تقدير، ولا تقديرٌ إلا معه حكمة، ولا حكمةٌ إلا فيها مصلحة، وحتى لا تعلوَ الحياةُ ولا تنزلَ إلا بمثل ما ترى من كفَّتيْ ميزان شدَّتا في عَلاَقَة تجمعهما وتحرِّكهما معاً؛ فهي بذاتها هي التي تنزلُ بالمنازل(1) لتدلَّ عليه، وتَشِيْلُ بالعالي لتبين عنه؛ فالإسلامُ من المدنية هو مدنية هذه المدنية.
إنها لن تتغيَّر مادةُ العظمِ واللحمِ والدمِ في الإنسان، فهي ثابتةٌ مقدَّرةٌ عليه، ولن تتبدَّلَ السُّننُ الإلهيةُ التي تُوجدها وتُفنيها؛ فهي مُصرِّفة لها قاضيةٌ عليها، وبين عمل هذه المادة وعملِ قانونِها فيها تكونُ أسرارُ التكوين، وفي هذه الأسرارِ تجد تاريخَ الإنسانية كلَّه سابحاً في الدم.
هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملَها الإلهي، وهي محدَّدةٌ محكمة على ما يكونُ من تعاديها واختلافِ بينها، وكأنها خُلقتْ بمجموعها لمجموعها، ومن ثَمَّ يكون الخُلق الصحيح في معناه قانوناً إلهيّاً على قوَّةٍ كقوَّةِ الكونِ وضبطٍ كضبطه.
__________
(1) لعلها: بالنازل (م).(1/44)
وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلُق أن يحوِّلَ المادة التي تعارضه إذا هو اشتدَّ وصلُب، ولكنَّه يتحوَّلُ معها إذا هو لانَ أو ضعُفَ، فهو قدَرٌ إلا أنه في طاعتك؛ إذ هو قوَّةُ الفَصْل بين إنسانيَّتِك وحيوانيتك، كما أنَّه قوَّةُ المزج بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سُوِّغَ القُدرةَ على هذه الأحوالِ جميعاً، ولولا أنَّه بهذه المثابة لعاشَ الإنسانُ طولَ التاريخ قبل التاريخ؛ إذ لن يكونَ له حينئذ كونٌ تؤرَّخُ فضائلُه، أو رذائلُه بمدح أو ذم.
فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد؛ إذ الفردُ مقيَّدٌ في ذاتِ نفسه بمجموع هو للمجموع وليس له وحده؛ فإنَّك ترى الغرائزَ دائبةً في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسُنَنٍ من أعمالها، ودائبةً كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسننٍ أخرى، فليس قانونُ الفرد إلا أمراً عارضاً كما ترى، وبهذا يمكن أن يتحولَ الفردُ على أسباب مختلفة، ثم تبقى الأخلاقُ التي بينه وبين المجموع ثابتةً على صورتها.
فالأخلاق على أنها في الأفراد هي في حقيقتها حكمُ المجتمع على أفراده، فقِوامها بالاعتبار الاجتماعي لا غير.
وحينَ يقعُ الفسادُ في المُجْمَعِ عليه من آداب الناس، ويلْتوي ما كان مستقيماً، وتشْتَبِهُ العاليةُ والسافلةُ، وتُطَّرحُ المبالاةُ بالضمير الاجتماعي، ويقومُ وزنُ الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبْرة فيما يعتبرونه، بالرذائل والمحرمات، ولا يُعجبُ الناسَ إلا ما يُفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون، ويَحِلُّ في محل العادة _ فهناك لا مِساكَ للخُلُق السليم على الفرد، ولابد من تحوُّلِ الفرد في حقيقته؛ إذ كان لا يجيء أبداً إلا مُتصدِّعاً في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسوراً أو مثلوماً، وكأنه منتقلٌ من عالم إلى عالم ثانٍ بغير نواميس الأول.(1/45)
وما شذَّ من هذه القاعدة إلا الأنبياءُ، وأفرادٌ من الحكماء، فأما أولئك فهم قوةُ التحويل في تاريخ الإنسانية، لا يُبعثُ أحدهم إلا ليهيجَ به الهيْجُ في التاريخ، ويتطرَّقُ به الناس إلى سُبُل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصفُ والزلازلُ والبراكينُ، لا شريعتُه ومبادئُه وآدابُه.
وأما الحكماء الناضجون فهم دائماً في هذه الإنسانية أمكنةٌ بشريةٌ مُحصَّنة لحفظ كنوزها، وإحرازها في أنفسهم، فلهم في ذاتِ أنفسهم عصمةٌ ومَنَعَة كالجبال في ذات الأرض.
الأخلاقُ في رأيي هي الطريقةُ لتنظيم الشخصية الفردةِ على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكونُ من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه، وعندي أن للشعبِ ظاهراً وباطناً، فباطنُه هو الدينُ الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكمُ الجميع، ولن يصلُحَ للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكمُ الدينيُّ المتصلُ بالغيب مثلَه.
ومن هنا تتبيَّن مواضعُ الاحتلال(1) في المدنية الأوربية الجديدة، فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسدٌ بها في ذاتِ نفسه إذا هو تحلَّل من الدين، ولكنَّه مع ذلك يبدو صالحاً منتظماً في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرحُ هازئاً من الأخلاق ساخراً بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقاً يعتدُّ بها إلا إذا درَّتْ بها منافعه، وإلا فهي ضارَّة إذا كانت منها مضرَّة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات، ولا ينفكُّ هذا الفرد يتحول؛ لأنه مطلقٌ في باطنه غيرُ مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغايةُ المتاعُ واللذةُ والنجاحُ، وليكن السبب ما هو كائن.
__________
(1) لعلها: الاختلال (م).(1/46)
وبهذا فلن تقومَ القوانين في أوربا إذا فَنِيَ المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليومَ يُبصرون بأعينهم ما فعلت عقليةُ الحرب العظمى في طوائفَ منهم قد خَرِبتْ أنفسهم من إيمانهم؛ فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محارِبةً مقاتِلة ترمي في كل شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتَّعفن والبِلى، وانتهت الحربُ بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.
وقديماً حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوَّخوا الأمم، فأثبتوا في كل أرضٍ هديَ دينهم، وقوةَ أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو من ورائها في السلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفُّه الحياةُ بِنَزَقِها، ولا تتسَفَّهه المدنيَّات؛ فتحمله على الطيش.
ولو كانوا هم أهلَ هذه الحرب الأخيرة بكل ما قذفت به الدنيا، لبقيتْ لهم العقلية المؤمنة القوية؛ لأن كل مسلم فإنما هو وعقليته في سلطان باطنه الثابت القارِّ على حدودٍ بيِّنةٍ محصَّلةٍ مقسومةٍ، تحوطها وتُمسكها أعمال الإيمان التي أحكمها الإسلامُ أشدَّ إحكام بفرضها على النفوس منوَّعةً مكرَّرة: كالصلاة والصوم والزكاة؛ ليمنعَ بها تغيراً ويُحدِثَ بها تغيراً آخر، ويجعلَها كالحارسة للإرادة ما تزال تمر بها، وتتعهدها بين الساعة والساعة(1).
إنما الظاهر والباطنُ كالموج والساحل، فإذا جُنَّ الموج فلن يضِيْرُه ما بقي الساحلُ ركيناً هادئاً مشدوداً بأعضاده في طبقات الأرض، أما إذا ماجَ الساحل فذلك أسلوب آخرُ غير أسلوب البحار والأعاصير، ولا جرمَ ألا يكونَ إلا خسْفاً بالأرض والماء وما يتصل بهما.
__________
(1) فصلنا هذا المعنى في كثير من مقالاتنا: كمقالة (حقيقة المسلم)، و(فلسفة الصوم) وغيرها.(1/47)
في الكون أصل لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الحكمة، ويقابله في الإنسان قانونٌ مثلُه لابد منه لضبط معاني الإنسان، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الكمال، وكل فروض الدين الإسلاميّ وواجباته وآدابه، إنْ هي إلا حركة هذا القانون في عمله، فما تلك إلا طرقٌ ثابتةٌ لخلْقِ الحسِّ الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموسٍ طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوةً في باطنها، فتسمَّى الواجباتُ والآدابُ فروضاً دينية، وما هي في الواقع إلا عناصرُ تكوين النفس العالية، وتكون أوامرَ وهي حقائق(1).
ومن ذلك أرانا _ نحن الشرقيين _ نمتاز على الأوربيين بأننا أقربُ منهم إلى قوانين الكون، ففي أنفسنا ضوابط قويةٌ متينة إذا نحن أقررنا مدنيَّتهم فيها _ وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسن هذه المدنية _ سبقناهم وتركنا غبارَ أقدامنا في وجوههم، وكنَّا الطبقةَ المصفَّاة التي ينشُدُونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم نُنشئ هذه المدنية، ولم تنشئنا، فليس حقاً علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرَها في حقيقتها، وأن نُسيغَ منها الحلوةَ والمرَّة، والناضجةَ والفجَّة، وإنما نحن نحصلها، ونقتبسها، ونرتجعُ منها الرَّجعة الحسنة؛ فلا نأخذ إلا الشيء الصالحَ مكان الشيء قد كان دونه عندنا، وندعُ ما سوى ذلك، ثم لا نأخذ ولا ندَعُ إلا على الأصول الضابطةِ المحكمة في أدياننا وآدابنا، ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم.
__________
(1) هذا هو الذي ضل عنه مصطفى كمال ومن شايعوه، ومن قلدوه، ومن انخدعوا فيه، ولو فهمه حق الفهم لجدد تركيا وجدد العالم الإسلامي كله، ولكن الرجل غريب عن هذه المعاني قصير النظر، فما زاد على أن جدد ثوباً وقبعة...!(1/48)
بيدَ أن العجبَ الذي ما يفرغُ عجبي منه أن الموسومين منَّا بالتجديد لا يحاولون أولَ وهلةٍ وآخرها إلا هدمَ تلك الضوابط التي هي كلُّ ما نمتاز به، والتي هي كذلك كلُّ ما تحتاج إليه أوربا؛ لضبط مدنيتها، ويسمون ذلك تجديداً، ولَهُوَ بأن يسمى حماقةً وجهلاً أولى وأحق.
أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقلَ من لغاتِ أوربا، ولا عقلَ إلا عقلُ ما ينقلونه، فصَنَعتْهم الترجمةُ من حيثُ يدرون أو لايدرون صنعةَ تقليدٍ محْضٍ ومُتابعةٍ مُستعبَدة، وأصبح عقلهم _ بحكم العادة والطبيعة _ إذا فكَّر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه ولا يتحول عنه، وإذا صحَّ أنَّ أعمالَنا هي التي تعملُنا _ كما يقول بعض الحكماء _ فهم بذلك خطرٌ أيُّ خطر على الشعب وقوميَّته وذاتيته وخصائصه، ويُوشكُ إذا هو أطاعهم إلى كل ما يدعون إليه أن... أن يترجموه إلى شعبٍ آخر...
إن أوربا ومدنيتها لا تساوي عندنا شيئاً إلا بمقدار ما تُحقق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها؛ فإنما الذاتيةُ وحدَها هي أساسُ قوتنا في النزاع العالمي بكل مظاهره أيَّما كان، ولها وحدَها، وباعتبارٍ منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أوربا، ونُهمل ما نُهمل، ولا يجوز أن نتركَ التثبتَ في هذا، ولا أن نتسامحَ في دقةِ المحاسبةِ عليه.
فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخالُ الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته، ثم تنسيق مظهر الأمة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العمل على اتحاد المشاعر، وتمازُجها؛ لتقويم هذا المظهر الشعبيّ في جملته بتقويم أجزائه _ هذه هي الأركان الأربعةُ التي لا يقوم على غيرها بناءُ الشرق.(1/49)
والإلحادُ، والنزعاتُ السافلة، وتخانيثُ المدنية الأوربية التي لا عملَ لها إلا أن تُظهِرَ الخطرَ في أجمل أشكاله، ثم الجهل بعلوم القوة الحديثة، وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى هذا المجرى، ثم التدليسُ على الأمة بآراء المقلِّدين والزائفين والمستعمرين لمحْقِ الأخلاق الشعبية القوية وما اتصل بذلك، ثم التخاذلُ والشقاقُ وتدابُرُ الطوائف وما كان بسبيلها _ تلك هي المعاولُ الأربعةُ التي لا يهدمُ غيرُها بناءَ الشرق.
فليكن دائماً شعارُنا نحن الشرقيين هذه الكلمة: أخلاقُنا قبل مدنيَّتِهم.
سجايا العرب في التراث الإسلامي(1) للعلامة محب الدين الخطيب
إنما كانت الفضائل فضائل بالعمل بها لا بالعلم بها، وماذا يفيد العلم بأن الصدق خير إذا لم يعمل به؟ وماذا يفيد التحدث عن فضيلة الإيثارِ وامتداحُها والحضُّ عليها من أعلى المنابر وأفخمها إذا لم تكن هذه الفضيلة مما يتبارى فيه مادحُها والممدوحةُ له؟.
وأقدرُ أمم الأرض على العمل بالفضائل الأمة التي تعمل بها عن سجية متوارثة، لا عن تكلف وتظاهر وتقليد، وقديماً كانت العرب تقول:
ومن يبتدعْ خُلْقاً سوى خُلْق نفسه ... يَدَعْهُ وترجعْه إليه الرواجع
وإنما استطاع الإسلام أن يثب وثبته الأولى التي لا يزال المؤرخون حائرين في تعليلها، ويعدونها من معجزات التاريخ؛ إذ لم ير التاريخ نظيراً لها فيما تقدمها ولا فيما جاء بعدها _ لأن الله _عز وجل_ اختار لحمل رسالة الإسلام أمة يُعدُّ الكثيرُ من فضائل الإسلام في جملة سجاياها المتوارثة، وأخلاقها التي طبعت عليها.
وقد جاء الإسلام لينظم هذه الفضائل، وليركز توجيهها إلى الخير، فيبعث فيها نوراً خالداً، وخيراً باقياً إلى أن تشيع معانيها في الأمم الأخرى؛ فتدخل الإنسانية في طور السعادة التي تنشدها ولا تجدها.
وإنما كانت لا تجدها؛ لأنها لا تريد أن تسلك إليها طريقها الذي لا طريق إلى السعادة سواه.
__________
(1) مع الرعيل الأول ص262 _ 268.(1/50)
من هذه الفضائل فضيلة الإيثار، وهي فضيلة تتحدث عنها الأمم جميعاً في كتب الأخلاق والفضائل، وتعدها من صفات الإنسانية الممتازة.
ولكنها قَلَّما تستطيع أن تضرب الأمثال العملية والتاريخية على الاتصاف بها إلا في توافه الأمور.
أما في المواقف الجُلَّى، وعندما يتناول الإيثار أفضل ما في الحياة _ولو كان الحياة نفسها_ فقلما نجد التاريخ يتحدث عن ذلك إلا بلغة العرب، في تاريخ العرب، عن رجال العرب الذين اختارهم الله لحمل أمانة الإسلام، والتبشير برسالته.
كان فتيان من فتيان بني إياد قد خرجوا من منازلهم في شواطئ نهر سنداد بعد لصاف، وشرْج، وناظرة وراء نجران الكوفة، وعلى رأسهم الفتى كعب ابن سيدهم وأميرهم مامة بن عمرو بن ثعلبة بن سلولة بن شبابة الإيادي.
والظاهر أنهم أوغلوا في البادية؛ فضلوا الطريق، ولم يكن معهم إلا بعض الماء، فلما أشرفوا على الهلاك، نزلوا، فجمعوا ما في أسقيتهم من الماء.
واقتسموه على السوية؛ لئلا يكون مع أحدٍ منهم أقلُّ من الذي مع غيره.
وفيما هم سائرون يلتمسون الطريق شَرِبَ الفتيانُ نصيبهم من الماء، واستبقى رئيسهم كعب بن مامة نصيبه لساعة الشدة.
ولما حانت تلك الساعة العصيبة لقيهم أعرابي من بني النمر بن قاسط، فصحبهم، وكان النمريُّ قد اشتد به الظمأ يومه ذاك؛ فجعل ينظر إلى سقاء الأمير الشاب وفيه تلك البقية من الماء التي تتوقف عليها حياة مَنْ يَتَبَلَّغ بها، فلحظه كعب، وأدرك أن موقفه من هذا النمري هو الموقف الذي اعتاد العربي أن يشتري فيه فضيلةَ الإيثار ولو بالحياة كلها، حتى لو كانت حياةَ أمير نبيل، وصاحب شرف أثيل؛ لأنه الموقف الذي يبرهن فيه العربي على كريم معدنه وأصالة شرفه؛ فآثر كعب بن مامة ضيفه النمري ببقية الماء التي لم يبق غيرها مع القوم جميعاً في تلك المفازة، ورضيَ لنفسه أن يواجه الموت ظمأً.
ومثل هذه الحادثة الخلقية يرى فيها العربي معنيين من معاني حياته الاجتماعية:(1/51)
أحدهما: معنى الإيثار الذي ندير الكلام حوله، وهو يكون بين العربي وصاحبه كائناً من كان.
والمعنى الآخر: معنى الضيافة للنازل الطارئ _ كهذا الرجل النمري الذي لقي الشبان الإياديين في الطريق ولم يكن معهم من قبل _.
وإمدادُ الضيف بما يحتاج إليه _ ولا سيما الغذاءَ والماءَ _ يعد في دستور العرب حقَّاً لا كرماً.
ولما طال الأمر على الإياديين وهم يسيرون في طلب الماء اشتد الظمأ على كعب، وَشعُر بأنه لم تبق معه قوةٌ على السير معهم؛ فجعل أصحابه يعللونه بالأمل، ويقولون له: يا كعب،هذا الماء قريب منا، وسَنَرِدُ عليه عن قليل.
لكنه قد بلغ من الإعياء كل مبلغ؛ فمات عطشاً، فلما وصلوا إلى قصر أبيه على شاطئ سنداد أخبروه بما كان منه، وبإيثاره النمريَّ على نفسه بما بقي معه من الماء، فقال أبوه يرثيه:
أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له: ... رِدْ كَعْب، إنك ورَّادٌ، فما وردا
ما كان أسقى لنا جود على ظمأ
... خمراً بماء إذا ناجودها بردا
من ابن مامة كعبٍ ثم عيَّ به ... زوُّ المنية إلا حرة وقدا
وبعد عشرات من السنين كثيرة مرَّ خليفة الإسلام الأعظم عمر بن عبدالعزيز بن مروان على هذه البقاع التي تداول الحكم والسيادة فيها قبل الإسلام أمراءُ إيادٍ وملوكُ غسان من آل جفنة، والمناذرة من بني لخم بن عدي، فأنشده مولاه مزاحم قول الأسود بن يعفر النهشلي يصفها:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
... ضُربت عليَّ الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لمدفع تلعة
... بين العراق وبين أرض مراد
ماذا أؤمل بعد آل محرق
... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق
... والقصر ذي الشرفات من سنداد
حلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيَّرها لطيب مقيلها ... كعبُ بن مامةَ وابنُ أمِّ دؤاد
جرت الرياح على عراص ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
ولقد غَنَوْا فيها بأفضل عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد(1/52)
فأرى النعيم وكلَّ ما يَلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفادِ
وعلى ذكر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نقول: إن العارفين بمعنى الزهد على حقيقته كانوا إذا وصفوا أهله قالوا: ليس الزهد أن يكون المرء فقيراً محروماً فيزعم أنه زاهد، ولكن الزهد أن يملك الرجل أقطار الأرض المعمورة في آسيا وأفريقية إلى أقصى بلاد أسبانيا والبرتغال من أوربا، ثم يزهد بكل ما تحت يده من نعيمها ومتعتها، كما فعل سيد الأرض وملك الشرق والمغرب عمر ابن عبدالعزيز، ولا يكتفي عظيم الدنيا بهذا بل يسترضي زوجته فاطمة بنت عبدالملك بن مروان وكان أمير المؤمنين، وأخت هشام والوليد وسليمان ويزيد وكانوا كلهم أمراء المؤمنين، فيأخذ منها حليها التي كانت من أثمن ما يتوارثه الملوك، ويردها إلى بيت مال المسلمين؛ إيثاراً منه لإخوانه في الدين على نفسه وزوجه وولده، وزهداً منه في حطام الدنيا وألاعيبها الصبيانية، ويعيش في بيته مع أسرته _ وهو خليفة الأرض _ عيشَة الشَّظَف والزهد والقناعة بأقل ما تقوم به الحياة.
وإنما استطاع عمر بن عبدالعزيز بن مروان أن يفعل هذا بفضيلة الإيثار التي آمن بها في جملة ما آمن به من فضائل الإسلام، وكان لهذه الفضيلة في مجرى الدماء من شرايينه ميراثٌ معدودٌ من سجايا العرب؛ فاستطاع _بما جمع من إيمان دينه إلى سجايا أصله_ أن يضرب للدنيا مثلاً في الزهد والإيثار قلما يستطيع أن يضربه للناس أحد ممن بلغ مبلغه في سعة الملك وقدرة التصرف بأكثر ما على وجه الأرض من ثروة ومتعة ونعيم، ولذلك قال فيه جرير:
أقول إذا أتينَ على قرورى ... وآل البيد يطَّرد اطِّرادا
عليكم ذا الندى عمر بن ليلى(1) ... جواداً سابقاً ورث الجيادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى ... ومروان الذي رفع العمادا
تزوَّدْ مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
__________
(1) ليلى: هي أم عمر بن عبدالعزيز، وهي أم عاصم بنت عاصم بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.(1/53)
فما كعب بن مامة وابن سعدى(1) ... بأجود منك يا عمر الجوادا
وأنت ابن الخضارم(2) من قريش ... هم نصروا النبوة والجهادا
وقادوا المؤمنين ولم تعوَّدْ ... غداة الروع خيلهم القيادا
إذا فاضلت مدك من قريش ... بحور عمّ زاخرها الثمادا
فأنت ترى أن سجية الإيثار والتضحية بالنفائس سجيةٌ جبل عليها العربي منذ كان ابن الصحاري والأودية والجبال، فتجلت في تصرُّف الأمير كعب ابن مامة الإيادي عندما آثر على نفسه ذلك الأعرابي من بني النمر بن قاسط بالماء، بل بالحياة.
ثم هذَّب الإسلام هذه السجيَّة الممتازة، ونظمها، وركز توجيهها إلى الخير الأعلى؛ فتجلت في تصرف سيد آخر من سادات العرب المتشبعين بالإسلام إلى أقصى مداه، وهو أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم الأموي، فضرب للتاريخ مثلاً لمن يحوز الدنيا بحذافيرها، ويقبض عليها بجميع ما في يد العربي القوي من أعصاب متينة، ويزهد _ مع ذلك _ بجميع ما استحوذ عليه من متع الدنيا ونعيمها.
وروى رجال دولته _ أمثال المهاجر بن يزيد ومحمد بن قيس _ أن فقراء البيوت المستورة الذين كانت تصرف لهم الصدقات من بيت مال المسلمين أَثْرَوا(3) في عهده، فصاروا هم يدفعون الزكاة عن أموالهم لبيت المال، وراح المزكون يبحثون عمن يستحق الزكاة؛ ليدفعوا إليه زكاتهم فلا يجدونه.
روى أبو محمد عبدالله بن الحكم المصري _ 150_214هـ _ عن يحيى بن سعيد قال: بعثني عمر بن عبدالعزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر ابن عبدالعزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين.
__________
(1) ابن سعدى: هو أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وهو ممن يضرب به المثل في الإيثار(م).
(2) الخضارم: جمع خِضْرم، وهو الكبير العطية، الحمول للعظائم(م).
(3) يعني صاروا أثرياء.(1/54)
هذا وعمر نفسه _ وهو أمير المؤمنين _ لم يكن له في بيته غير الثوب الذي على بدنه، فإذا أراد غسله انتظر حتى يجف، فيعود إلى لبسه، ويخرج به إلى الناس.
وروى معاصرُه سعيدُ بنُ سويد أن رجلاً من القوم لم يطق الصبر على هذا الحال فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك، فلو لبست وصنعت!...
فنكس عمر رأسه مليَّاً حتى عرفنا أن ذلك قد أساءه، ثم رفع رأسه وقال: =إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند القدرة+.
وزوجته السَّرِيَّةُ النبيلةُ التي كانت زوجة خليفة، وبنت خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، كانت راضية بعيشة الشظف مع زوجها بطيب نفس وعظيم اطمئنان؛ لأنها هي _أيضاً_ تنزع بِعِرْقٍ شريف إلى ذلك الأصل العظيم الذي كان الإيثار سجية فيهم زادها الإسلام تهذيباً.
وقد حدّثْتك بأن حُلِيَّها الثمينةَ النادرَة التي جاءت بها من بيت أبيها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان جرَّدها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من يديها وعنقها وأذنيها برضىً منها، ووضعها في بيت مال المسلمين؛ فلما كان بعد زمن طويل من وفاة زوجها عمر بن عبدالعزيز بن مروان وولاية أخيها الثالث يزيد ابن عبدالملك بن مروان قال لها أخوها الخليفة: إن حُليَّك الذي وضعت في بيت المال هي من مالك الحلال، ولا تزال محفوظة بعينها كما كانت، فهل تحبين أن أردها عليك؟
فأجابته: =إن أمير المؤمنين عمر قد استحسن أن تكون هذه الأشياء حيث هي الآن، وأنا قد وافقته على ما استحسن، وما كنت لأطيعه حيَّاً وأعصيه ميتاً+.
قالت هذا وهي وأولادها وبناتها أحوج الناس إلى هذه الحلي؛ لأن ما كان يملكه عمر بن عبد العزيز من ضياع وأملاك رده على بيت المال في الأسبوع الأول من خلافته، ومزَّق حجج ملكيته وهو على منبر مسجد بني أمية بدمشق على ملأ من ألوف الأعيان والأمراء ووجهاء الناس.(1/55)
وأرادت زوجته من بعده أن لا تكون أقل منه إيثاراً وتضحية، فاختارت أن تبقي عنقها وأذناها ويداها عاطلة من تلك الحلي والحلال، ولو كانت أخت الخليفة يزيد بن عبدالملك.
الوفاء في العربي(1) لفضيلة الأستاذ محمد الطيب حسن النجار
امتازت الأمة العربية من بين سائر الأمم بكثير من الفضائل قلَّما نجد من يتصف بشيء منها في أمة سواها، خصوصاً في هذا العصر الذي قام فيه معظم الناس على قدم وساق يحاربون الفضيلة، ويعملون على إزهاقها، ويسعون إلى إفناء معالمها وتعاليمها حتى تدهورت الأخلاق، وانحطت الآداب، وانتشر الفسق والفجور بين الناس، وانصرف المسلمون عن دينهم القويم الحنيف، وعن اتباع آدابه إلى تلك التُّرَّهات الكاذبة، والخزعبلات المزرية التي تتنافى مع أوامر الدين، ولا تتمشى مع ما جاء فيه، والتي يأباها العقل الصحيح، وتنفر منها النفوس العالية الكبيرة.
وأجل ما اختصت به الأمة العربية من الفضائل الوفاء الخلةُ الشريفة التي لم تجد جوَّاً صالحاً لخروجها، ولا مناخاً ملائماً لها غير تلك الصحراء المقفرة المجدبة، فنبتت بين الرمال، وغذَّاها العربي بدمه وماله حتى نمت، وترعرعت، وأرسلت عليهم ظلَّها الوارف الظليل.
وليس في هذا ما يدعو إلى الشدة أو يثير التعجب والاستغراب؛ فالعربي الذي يقضي جُلَّ أوقاته وحياته بين سفر وانتقال، وبين ظعن وترحال، والذي كثيراً ما تُعْوِزه الظروفُ، وتلجئه الضرورة إلى أن يتخذ طريقه وسط تلك الصحراء في جوف الليل البهيم وحيداً لا يأنس لمخلوق سوى ناقته، ولا يأنس إليه مخلوق سوى ناقته، هذا العربي بلا شك أحوج الناس إلى رجل وفيٍّ ينصره وقت الشدة، ويعينه إذا حَزَب الأمر، ويستجيب لدعائه حينما يستصرخه، ويلجأ إليه.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثاني، المجلد السابع، ص 103_ 107، شعبان 1353هـ.(1/56)
والعرب الذين لم تكن لهم قدم راسخة في المدنية، ولم يكن لهم حتى بعثة النبي "دستور يكفل لهم النظام، ويبين لهم الحلال من الحرام _ هم بلا شك أحوج الناس إلى أن يسود الوفاء بينهم، وينتشر لواؤه عليهم.
ولولا أن الله يسر هذا الخلق لتعطلت المتاجر، ووقف دولاب العمل، وتغلَّب القويُّ على الضعيف، وكثر العداء والجفاء، واشتعلت نيران الثورات والحروب؛ فما هي إلا أيام أو أعوام حتى تنقرض الأمة، وتخرب البلاد؛ فالوفاء هو الحجر الأساسي في بناء مستقبلهم، والمحور الوطيد الذي تدور عليه رحا عزِّهم وسعادتهم؛ لذلك كان العرب يَقْدُرون تلك الصفة حقَّ قدرها، ويرفعون مِنْ شَأْنِ مَنْ يشتهر بها، حتى كانوا يضربون بهم الأمثال، ويلهجون بذكرهم في الأندية والمجتمعات، ويترنمون بمدحهم والثناء عليهم في كل وقت وحين.
بل كانوا يترسمون طريقهم، ويدأبون في سبيلهم، وينقادون لأوامرهم انقياد العبد للسيد، والمرؤوس للرئيس.
وممن اشتهر بينهم بالوفاء السموأل بن عادياء، وكان من وفائه أن امرأ القيس ابن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعاً له، فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام، فتحرز منه السموأل؛ فأخذ الملك ابناً له خارج الحصن، وصاح يا سموأل هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي، وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إليَّ الدروع وإلا ذبحت ابنك.
فقال السموأل: أَجِّلْني، فأجله، فجمع أهل بيته فشاورهم، فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف عليه، وقال: ليس لي إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع!
فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه وكان يهوديَّاً، وانصرف الملك، ووافى السموأل بالدروع الموسم، فدفعها إلى ورثة امرئ القيس، وقال في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديِّ أني ... إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا عنده كنز رهيب ... فلا وأبيك أغدر ما مشيت
بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وبئراً كلما شئت استقيت(1/57)
فانظر كيف فرط، وتهاون في فلذة كبده، ومهجة قلبه، وتركه لذلك الملك الجائر الجبَّار حتى فجعه فيه، وذبحه أمامه، ولم يفرط أو يتهاون في هذه الدروع.!!
فلا عجب إذ طار صيته في كل فجٍّ وحدب، ولا عجب إذ كانوا يضربون به المثل فيقولون: أوفى من السموأل بن عادياء، وفي ذلك يقول الأعشى:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرَّار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدَّار
خَيَّرهُ خطتي خسفٍ فقال له ... مهما تَقولَنْ فإني سامع حار
فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
ومنهم الطائي صاحب النعمان بن المنذر، وكان من وفائه أن النعمان ركب في يوم بؤسه _ وكان له يومان يوم بؤس ويوم نعيم لم يلقه أحد في يوم بؤسه إلا قتله، ولا في يوم نعيمه إلا استبقى حياته وحباه وأعطاه_ فاستقبله في يوم بؤسه أعرابي من طيء فقال: حيا الله الملك إن لي صبية صغاراً لم أوص بهم أحداً فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم، وأعطيه عهد الله أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده، فرقَّ له النعمان، وقال له: لا إلا أن يضمنك رجل ممن معنا فإن لم تأت قتلناه، وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحيل فنظر إليه الطائي، وقال:
يا شريك بن عمرو ... هل من الموت محاله
يا أخا كل مضاف ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فكَّ اليـ ... ـوم عن شيخ غلاله
ابن شيبان قبيل ... أصلح الله فعاله
فقال شريك: هو عليَّ أصلح الله الملك؛ فمضى الطائي وأجَّلَ له أجلاً يأتي فيه.
فلما كان ذلك اليوم أحضر النعمان شريكاً، وجعل يقول له: إن صدر هذا اليوم قد ولَّى.(1/58)
وشريك يقول: ليس لك عليَّ سبيل حتى نمسي، فلما أمسوا أقبل شخص والنعمان ينظر إلى شريك، فقال شريك: ليس لك عليَّ سبيل حتى يدنو الشخص، فلعله صاحبي، فبينما هما كذلك إذ أقبل الطائي، فقال النعمان: والله ما رأيت أكرم منكما، وما أدري أيكما أكرم أهذا الذي ضمنك وهو الموت أم أنت وقد رجعت إلى القتل؟! والله لا أكون ألأم الثلاثة ثم أطلقه وأمر برفع يوم بؤسه.
وأنشد الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فأبيت عند تجهم الأقوال
إني امرؤ مني الوفاء سجية ... وفعال كل مهذَّب مبذال
قال النعمان: ما حملك على الوفاء؟ قال: ديني، قال: وما دينك؟ قال: النصرانية، قال: اعرضها عليَّ، فعرضها عليه؛ فتنصر النعمان.
وقد افتخر النعمان بن المنذر بالعرب أمام كسرى ملك الفرس، وميزهم على غيرهم من الأمم، وامتدحهم بكثير من الفضائل وكان منها الوفاء، فقال: وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة فهي وَلْتٌ(1) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق(2) رهنه، ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب، فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المُحْدِث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.. !!
والحق أن النعمان لم يكن مغالياً في كلامه، ولم يصف العرب بشيء ليس فيهم؛ فقد روي عن حاتم الطائي أنه خرج في الشهر الحرام في حاجة له فلما كان بأرض (عنزة) استجار به أسير وناداه يا أبا سفانة أهلكني الأسار، فقال: ويلك قد ظلمتني بتنويهك باسمي في غير بلاد قومي، ثم اشتراه من بني عنزة، وأقام في القيد مكان الأسير حتى فدى نفسه فأطلقوه.
__________
(1) عهد.
(2) غَلَقَ الرهن: استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط.(1/59)
وتلك لعمري مكرمة يتضاءل دونها كل مدح وثناء؛ فأين من هذه النفوس نفوس تفرُّ من المكارم، وتنفر من الفضائل والمحامد، بل تعمل على محاربتها، وتسعى في تقويض دعائمها؟.
وأين من أولئك الأقوام أناس يتظاهرون لغيرهم بالحب والوفاء، ويغرونهم بابتسامات صفراء ومجاملات زائفة، يخفون بها دخيلتهم وما تنطوي عليه نفوسهم، ويتخذون من ذلك ستاراً يعملون من ورائه على الكيد لهم حتى إذا ما حانت لهم الفرصة، وأمكنتهم المقادير أعملوا فيهم سيوف غدرهم، ومعاول خيانتهم لا يرقبون في ذلك إلاًّ ولا ذمة، ولا يرعون حرمة لعهد أو ميثاق..؟!
التضحية(1) للأستاذ أحمد أمين
لعل من أهم الفروق بين أمة راقية، وأمة غير راقية، أنَّ أفراد الأولى يشيع بينهم العمل لأنفسهم ولغيرهم، وأنَّ أفراد الثانية لا يعملون إلاَّ لأنفسهم.
هاهو الجو حولنا مشبع بالأنانية إلى أقصى حد، هذا موظف كل همه أن يرضى رؤساه في الحدود الضيقة؛ لينال درجة، ولا يهمه بعد ذلك قُضِيَت مصالح الناس أو لم تقض، وهذا موظف آخر لم يُمْنح من المرتب ما يشتهي؛ فهو يضن بمقدرته وكفايته على الناس، وكل ما يعمل أن يؤدي الأعمال الآلية التي تنجيه من العقوبة ومن التبعية القانونية، فهو يحضر في الميعاد، وينصرف في الميعاد، ثم لا روح في عمله، ولا شعور بواجبه.
وهذا غني لا ينظر في تصرفاته إلاَّ إلى شخصه مهما شقي الناس من حوله.
وهذا مزارع من كبار المزارعين لا ينظر في مشروع القطن والقمح إلاَّ بمقدار ما يحتمل أن يدخل جيوبه من مال، مهما جاعت الأمة، وعَدِمَت القوت.
وهذا ثري ذو جاه يستعمل جاهه ونفوذه في الهرب من ضريبة واجبة عليه، أو يتحايل في تخفيضها إلى أقصى حد ممكن؛ فتكون النتيجة أن يدفع الضريبة كاملة غير القادر، ويهرب منها، أو ينقص منها القادر .
__________
(1) فيض الخاطر 3/ 232 _ 236.(1/60)
وهذه هي الروح الشائعة التي نراها في البيت، وفي الشارع وفي المصلحة، وفي البيع والشراء، والأخذ والعطاء، أنانية مسرفة، في حدود ضيقة، لا ينظر منها الإنسان إلى نفسه، وإلى نفسه فقط، يدور في خلده أن ينهب من اللذائذ ما استطاع قبل فوات الوقت، ويهرب من الواجبات ما استطاع مع المحافظة على الشكل، حتى لا يقع في يد القانون، يردد قول أبي فراس: إذا مت ظمأناً فلا نزل القطر .
ويهزأ ببيت أبي العلاء:
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
...
... وبقول البارودي:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ ... أحق بالري لكني أخو الكرم
...
ليس مظهر التضحية مقصوراً على الجنود في مواقف القتال؛ فليس هذا إلا مثلاً عالياً من أمثلة التضحية، ولكن هناك أمثلتها العديدة في الحياة اليومية لكل فرد؛ فالذي يتنازل عن لذته الفردية الضيقة؛ للمصلحة العامة الواسعة يكون مُضَحِيَّاً على قدر ما بذل، والموظف ينال شيئاً من العناء؛ لراحة الجمهور مُضَحٍّ، والمدرس يبذل أقصى جهده في إعداد درسه وإيصاله إلى طلبته مَُضحٍّ، والغني يتنازل عن بعض لذائذه لخير الناس مَُضحٍّ، والمزارع يرعى حال فلاحيه مَُضحٍّ، وهكذا.
وعلى قدر انتشار هذه الروح في الأمة يكون مقدار رُقِيِّها ونجاحها ، ولا تفلح أمة يبحث أفرادها عن لذائذهم الشخصية فقط، مهما حسن تشريعها وصلح قادتها، فَشرِّع ما شئت لتنظيم التموين فلن ينجح، ما دام كل فرد لا ينظر إلا إلى شخصه، وشَرِّع ما شئت لتنظيم الضرائب فلن ينجح مع محاولة الأفراد الهرب منها، وشَرِّع ما شئت لإصلاح الفلاحين فسيظلون كما هم، مادام التشريع لا يلقى مجاوبة من نفوس القادرين.(1/61)
لقد أضاع علماء النفس المحدثون جمال التضحية بما أفرطوا من تحليل، وما أرجعوا من أعمال نبيلة إلى غرائز وضيعة، وما وصلوا إليه من أنَّ مظاهر إنكار الذات تعود في آخر الأمر إلى حب الذات، فقالوا _ مثلاً _: إن السياسي الكبير الذي يدل مظهره على أنه يؤدي واجبه، ويخدم أمته، ويتحمل أشق الأعباء في سبيل مَجْدِها ورُقِيِّها ونُهوضها لو حللت البواعث التي دفعته إلى عمله وسلوكه هذه السبيل لوجدتها ترجع في النهاية إلى غريزة حب الذات، وشعوره الكمين بأهمية ذاته وعظم شخصه، والواعظ الذي يعظ الناس ويذكرهم بالدين، ويخلص في سبيله، ويتحمل أشد العذاب في سبيل تحقيق دعوته وانتشار عقيدته إنما نصل إلى النهاية عند تحليل نفسه إلى حبه إظهار شخصه، وتمجيد ذاته، والتفات الناس إليه، واتجاههم نحوه، والزاهد الذي فَرَّ من الحياة ولذاتها، واعتكف في الأديار أو التكايا أو نحوها، وتجرد من الدنيا وشؤونها لم يكن في الحقيقة عند التأمل العميق في بواعثه إلا ناظراً لنفسه، هارباً من تبعات الحياة وتكاليفها، والطبيب الذي يعنى بمرضاه ولا يعنى بنفسه، ويتعرض للأخطار أيام الوباء؛ إنقاذاً للناس، ولو كان في ذلك حتفه قالوا: إنما يبحث وراء حسن سمعته وذيوع شهرته، والعالم الذي يقضي أوقاته في معمله أو في مكتبه باحثاً وراء حقيقة يكتشفها، أو نظرية يعثر عليها، أو اكتشاف يخدم به الإنسانية دواءاً لمرض، أو إمتاعاً للناس في ناحية من نواحي حياتهم ليس _ في نظرهم _ إلا مجيباً لما رُكِّب في طبيعته من حب الاستطلاعِ، والمصلحُ الذي يكدح ليله ونهاره في سبيل خدمة قومه وإصلاح عيوبهم، ومعالجة ما أصيبوا به من مرض اجتماعي، ليس يرجع ذلك _ في رأيهم _ إلاَّ إلى حب الظهور، وإشباع رغبته في إعظامِ نفسه، والدويِّ حول شخصه.(1/62)
بل أكثر من ذلك وأعنف، قالوا: إن الممرضة التي تهب نفسها لخدمة المرضى، وتعمل جهدها في الرحمة بهم، وتلطيف عذابهم، وتضميد جراحهم، وتجد من نفسها السعادة في تفريج كربهم وتخفيف لآلامهم _ ليست في الحقيقة مدفوعة إلى ذلك إلاَّ لداعي ما ركب في غريزتها من الاستطلاع الجنسي، قالوا: وإنما اختارت هذا الضرب من الإحسان؛ لأنه محفوف بما يغذي نفسها من مظاهر الإعجاب والمدح والثناء، والظهور بمظهر من يفني ذاته في نفع الناس، ويضحي بخيره لخير الناس.
وهكذا رجعوا كل البواعث النبيلة، ومظاهر التضحية الجميلة للغرائز الوضعية المتأصلة في النفس، وللبواعث الذاتية المتأصلة في الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض.
وقالوا: وما ذنبنا أن وجدنا الإنسان هكذا خلق، وعلى هذا طبع، وهو هو من بدايته إلى نهايته؟
ولكن أحق هذا؟ أيستطيعون أن يستمروا في تفسيرهم لكل أنواع التضحية من شخص لا يؤمن بدين، وهو _ مع هذا _ يرمي بنفسه في ميدان القتال دفاعاً عن أمته، وأمٍّ تُضَحِي براحتها ولذتها لابنها من غير أن تنتظر مثوبةً أو جزاءاً، ونحو ذلك من أمثلة لا تعد؟.
وهَبْ ذلك كله صحيحاً، فهل ذهب جمال التضحية، وقيمة التضحية؟.
لتكن كل هذه الأعمال النبيلة ناشئة عن غرائز شخصية وبواعث ذاتية؛ فهذه الغرائز في الحقيقة والواقع قد تتجه إلى أعمال خسيسة، فنكرهها ونشمئز منها، وهي هي قد تتجه إلى أعمال تنفع الناس؛ فنعجب بها، ونمجدها.(1/63)
إن حُبَّ الذات قد يدفع الشخص إلى أنْ يقتل استيلاءاً على مال القتيل، وقد يدفعه إلى أن يقتل دفاعاً عن أمته أو دفاعاً عن عرض فتاة، ومحب الظهور قد يغذي غريزته بتضليل الناس، وخلق المؤامرات، وتدبير الدسائس حتى يُعْتَرَف له بالمقدرة، وقد يغذي غريزته بالإحسان الكثير والإصلاح الكبير، والمرأة قد تدفعها غريزتها الجنسية إلى الاستهتار، وقد تدفعها الغريزة نفسها إلى التمريض؛ فالغريزة في كل هذه الحالات واحدة، ثم قد يصدر عنها الخير، وقد يصدر عنها الشر؛ فالعبرة بالنتائج لا بالتحليل إلى العناصر الأولية.
وخَطَأُ علماء النفس هؤلاء _ إن كان ما يقولون صحيحاً _ أنهم أفرطوا في التحليل، ولم ينظروا في التركيب، بالغوا في المقدمات، وأعرضوا عن النتائج.
لتكن كل الأعمال ناتجة عن حب الذات، فلا تزال هناك أعمال نبيلة وأعمال خسيسة، ولا يزال هناك من الأعمال ما يصح أن يسمى =أثرة +وأنانية، وما يصح أن يسمى إيثاراً وتضحية، وكل الفرق فرق في التعريف لا في المعرف، وفي العَرَض لا في الجوهر، فعلى قولهم تكون التضحية أن يجد المرء لذته الشخصية فيما يعود على الناس بالنفع، وعلى قول الآخرين هي أن يبعثه على عمله نفع الناس وخيرهم.
ولا عبرة بالمقدمات إذا تساوت النتائج، وليس يهمنا أن يكون الباعث له على إتيان الخير لذاتهِ الشخصيةَ، أو رغبتَه في الصالح العام مادام العمل ينتج هذا الخير.
ولا يزال الناس بعد هذا البحث السيكولوجي منقسمين إلى قسمين: قسمٍ لا ينظر إلا إلى شخصه في حدوده الضيقة، وقسم ينظر إلى شخصه في حدوده الواسعة.(1/64)
قسمٍ ينظر إلى ذاته كالحيوان، وقسمٍ ينظر إلى ذاته كفرد في أمة، وعضو في جسم، وفرع في شجرة، يوفق بين نفعه ونفع أمته، ونفعه ونفع شجرته، قسم بلغ به ضيق النظر أن يجد لذته في حرمان الناس، وسعادته في شقاء الناس، أو هو _ على الأقل _ لا يهتم بالناس، وقسمٍ قد بلغ من سعة نظره أن يجد لذته في لذة الناس، وسعادته في سعادتهم، وخيره في خيرهم، وهذا غاية الرقي.
وخير الناس من استطاع أن يوفق بين غرائزه وخير الناس، فإذا كان محباً للظهور فليظهر بما ينفع أمته، وإذا كان محباً للاستطلاع فلا يستطلع أخبار الناس وعيوبهم وخفاياهم، وإنما يستطلع حقيقة مجهولة في العلم أو قانوناً مجهولاً في الطبيعة؛ ومن كان طبعه الخوف فليخف من شر يلحق الناس، وأذى ينالهم، ولا يخف من أوهام من خَلْقِه، وعفاريت من خياله، وهكذا...
مهما قيل فالتضحية أنبل ما وصل إليه الإنسان، منظرها أجمل منظر وأروعه، ولا شيء يكسب الأمة قوة كما تكسبها التضحية؛ فالأمة المضحية تأكل غير المضحية في سهولة ويسر؛ لأن الأمة المضحية كتلة متماسكة، ووحدة واحدة، والأمة غير المضحية أفراد متفككة، وشهوات متعددة، تتحارب أجزاؤها، ويأكل النزاع والشهوات والأنانية قواها؛ فالأسرة التي يعمل فيها كل فرد لشخصه أسرة ميتة، والمصنع الذي يعمل فيه كل فرد لمصلحته الخاصة لا يبقى شهراً، والحزب الذي ينظر فيه كل عضو إلى نفسه فقط حزب مصطنع لا حول له ولا قوة، والأمة التي يحسب فيها كل فرد حساب لذته الخاصة هي أفراد لا أمة.
في الأمة التي تسودها التضحية كل أفرادها أقرباء، وفي الأمة التي تسودها الأنانية كل أفرادها غرباء.
لا تكون التضحية حتى يتعود القلب لذة العطاء كما يتعود لذة الأخذ، ولذة أن الناس يجدون ويسعدون، كما يتعود أن يتلذذ من أن يجد ويسعد.
التضحية إرادة القوي، ليقوى، وإرادة الضعيف، ليتخلى عن ضعفه، هي حجر المِسَنّ تشحذ عليه الإرادة؛ لتقطع الصعاب وتجتاز العقاب .(1/65)
التضحية أشرف الطرق تسير فيه الأمة لتحقيق ذاتيتها، وأنبل السبل تسير فيه الإنسانية؛ لتبلغ غايتها، وبدونها يصبح الإنسان حجراً لا روح فيه، أو بهيماً يعيش؛ ليأكل.
التضحية أفق واسع تنعم فيه النفس بجمال السعة، وبعد المدى، وجلال اللانهاية.
والأنانية أفق ضيق تألم فيه النفس بضيق المكان، وتنقبض فيه من كثرة السدود والحدود.
في التضحية حرارة وإيمان يسعد، وفي الأنانية جمود بارد وإلحاد مقبض.
في التضحية حياة كلية شاملة وفناء النفس فيما حولها ومن حولها، وفي الأنانية حياة جزئية محصورة، ودوران النفس حول ذاتها في خمود وركود .
في التضحية كرم وسماحة، وفي الأنانية شح وكزازة [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] الحشر:9 .
الحياء(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
هذا الخلق إذا غرز في النفس ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاء، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خيرات حسان، يعبر عنها عشاق الفضائل بصيغة الإنسانية.
وإذا انتزع من شخص فَقَدَ المروءةَ، وثكل الديانةَ التي هي الجناح المبلّغ لكل كمال.
والدليل على ما نقوله أن الحياء عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح، فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس اختلت هيئة الإنسانية بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
ويرشدنا إلى هذا قوله _ عليه الصلاة والسلام _: =لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء+ رواه مالك في الموطأ.
وفي الصحيح _ أيضاً _ أن رسول الله " مرّ على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله ": =دعه فإن الحياء من الإيمان+.
قال العلماء: وإنما صار الحياء من الإيمان المكتسب وهو جبلّة لما يفيد من الكف عما لا يحسن فعبر عنه بفائدته.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد3 _ غرة صفر 1322 المجلد الأول ص49_50.(1/66)
وأعجب ما عثرنا عليه في كتب الأخلاق أن الحياء مركب من جبن وعفة، ولذلك لا يكون المستحيي فاسقاً ولا الفاسق مستحيياً، وقلما يكون الشجاع مستحيياً والمستحيي شجاعاً؛ لتنافي اجتماع الجبن والشجاعة. اهـ.
أما قوله: =لا يكون المستحيي فاسقاً ولا الفاسق مستحيياً+ فَمُسَلَّمٌ؛ لأن الحياء متفرع عن العفة.
وأما قوله: =وقلما يكون الشجاع مستحيياً الخ+ فباطل؛ لأنه يؤدي إلى تنافي الكمالات، وما سمعنا بهذا من قبل ولا نسمعه من بعد، ويدعو إلى إماطة برقع الحياء؛ حيث كان فيه نوع مباينة للشجاعة التي هي أعز ما يتعاظم بها الرجال.
وكلمة الحق التي نقولها: أن الحياء من متممات الشجاعة ولا تستقيم بدونه، ثم إن الحياء وسط بين رذيلتين إحداهما الوقاحة، والأخرى الخجل، ويقال لها الخُرْق، أما الوقاحة فمذمومة بكل لسان بالنسبة لكل إنسان، وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح:
صَلابَةُ الوَجْه لم تغلِبْ على أحدٍ ... إلا تكامَلَ فيه الشرُّ واجتَمَعا
وأما الخرق وهو الدهشة من شدة الحياء فيذم به الرجل اتفاقاً لا سيما في المواطن التي تقتضي حدة وإقداماً، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بالحق، والقيام به، وأداء الشهادات على وجهها.
ثم إن الحياء ولو كان جبلياً قد يزيد بالكسب بواسطة مطالعة أخلاق الكمل، وهي إحدى فوائد علم التاريخ، أو كثرة الحضور بمجالسهم.
وقد يتولد الحياء من الله _ تعالى _ من التقلب في نعمه؛ فإذا شعر العاقل بذلك استحيى أن يستعين بها على معصيته، ولا ينشأ ذلك الشعور إلا عن عظم في النفس وسعة في العقل.
صدق اللهجة (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
في كل خصلة فاضلة شرف وخير, ولكل خصلة فاضلة أثر في سعادة الجماعة, وقد تتفاوت هذه الخصال بكثرة الحاجة إليها.
ومن الخصال التي تكثر مواضيع الاحتياج إليها صدق اللهجة؛ فلا غنى للجماعة عن أن يكون فيها صدق وحلم.
__________
(1) رسائل الإصلاح 2/ 95 _105 .(1/67)
والأحوال التي يحتاج فيها إلى الصدق أكثر من الأحوال التي يحتاج فيها إلى الحلم, ونحن لا نشعر بالحاجه إلى شجاعة السيدات والأطفال, وكل منا يشعر بالحاجة إلى صدق الطفل الآخذ في التردد على المدرسة، وصدق الصانع في مصنعه والأمير على كرسيه.
فالكلمة التي نلقيها في هذه الليلة إنما نصف بها فضيلةً شأنها رفيع، وأثرها في الاجتماع كبير، وهي صدق اللهجة.
ولا تثريب علينا إذا تناولنا في أثناء بحث هذه الفضيلة نبذة من الحديث عن ضدها وهو الكذب؛ فإن حقائق الفضائل تتجلى بمعرفة أضدادها.
ما هو الصدق؟
الصدق في لغة العرب: إلقاء الكلام على وجه يطابق الواقع والاعتقاد.
ومقتضى هذا الشرح أن الكلام الذي يخالف الواقع والاعتقاد معاً أو يخالف أحدهما لا يدخل في حقيقة الصدق, بل يندرج تحت اسم الكذبِ، والكذبُ ذو ضروب وألوان.
للصدق صورة واحدة: وهى أن تصوغ القول على نحو ما تعتقد, ويكون اعتقادك مطابقاً للواقع, كأن تقول وأنت الناصح الغيور: سلطة العدو أَمرُّ من الصبر, وأشدُّ مضاضة من وقع الحسام.
وللكذب ثلاث صور: (إحداها) ما يخالف الواقع والاعتقاد: كمن يتملق فاسقاً أو باغياً؛ فيصفه بالاستقامة, وهو على بينة من سيرته المغضوب عليها
(ثانيتها) ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع: كالزائغ المنافق ينطق على نحو مما ينطق به أولو الحكمة والهداية.
(ثالثها) ما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد: كالغبي يعتقد بعض صلاح الفجار, فيصفه بالولاية أو التقوى.
هذه صورة الكذب في مجاري كلام العرب, وقد رأيتموها ممثلة في المتملق, والمنافق, والغبي.
والذي يرجع عيبُه إلى الأخلاق العملية من هذه الصور ما جاء الحديث فيه مخالفاً للاعتقاد, وسواء بعد هذه أخالف الواقع _ أيضاً_ وهي الصورة الأولى أم كان مطابقاً للواقع وهي الصورة الثانية.(1/68)
وبيان هذا أن الباحث في الأخلاق العملية يوجه عنايته إلى نفس المتكلم حين إلقائه الحديث, وينظر إلى اعتقاده وما بينه وبين الحديث من مطابقة أو مخالفة, فإن وجد الرجل يسوق الحديث على غير ما يعتقد وضع عليه اسم الكذب وعده في حملة هذه الرذيلة الساقطة ولو اتفق لحديثه أن كان مطابقاً للواقع.
وإن وجده يتلقى الحديث على نحو ما يعتقد لا يعده في أصحاب رذيلة الكذب, وإن لم يجئ حديثه موافقاً للواقع.
وهذا الذي تَحَّدث عن اعتقاده,وجاء حديثه مخالفاً للواقع لا يرميه الباحثون في الأخلاق بِسُبِّة الكذب,وقد يؤاخذ من جهة أخرى، وهي انقياده إلى الظنون الواهيةِ، وحديثه عن الأمر قبل التثبت من أنه حقيقة واقعة.
فالكذب في إطلاق علماء الأخلاق ينصرف إلى من يحدثك بالأمر وهو يعتقد أنه غير واقعٍ, ومعظمُ ما ورد في الشريعة من ذم الكذب محمول على أولئك الذين تنطق عليك ألسنتهم بأشياء يزعمون أنها واقعة وقلوبهم تنكرها.
الاحتراس في صدق اللهجة:
يحدثك الرجل عن أشياء يحس بها في نفسه, كالحب والبغض والعطش والري, ويحدثك عن أمور يدركها بَمَحَّساته الخمس: البصر والسمع وغيرهما.
وهو_ فيما يدركه بإحساسه الباطن أو إحساسه الظاهر_ يستطيع أن لا يحدثك إلا بما يطابق الواقع والاعتقاد؛ فالرجل الصادق لا يقول: =أحببت+ وهو يبغض, ولا يقول: =سمعت+ أو =رأيت+ إلا إذا سمع أو رأى.
وقد يحدثك عن حادثة تلقَّى خبرها عن طريق الرواية، أو يحدثك عن أمر أدركه على وجه النظر والاستدلال.
وهذان الصنفان هما ما يعثران به في مخالفة الواقع أحياناً، وينزلان به إلى أن تحوم حوله الظنون؛ فعلى صادق اللهجة أن يحترس فيهما يتحدث به عن رواية, أو يتحدث به عن ظن واستنباط.
والاحتراس في الأخبار التي تجئ من طريق الرواية أن لا يحدث بها قبل أن ينقدها نقداً بالغاً, وإن بدا له أن يخبر بها على نحو ما سمعها فليذكر أسماء رواتها؛ حتى يبرأ من عُهدتها.(1/69)
والاحتراس في الحديث الذي يستند فيه إلى ظن وأمارة أن لا يطرحه إلى الناس في صورة المقطوع به,بل ينبه على أنه تحدث به على وجه الظن , كما يصنع كثير من الملأ الذين يعافون الكذب, ويريدون أن يجعلوا بينه وبين ألسنتهم حجاباً مستوراً.
فسياجُ صدقِ اللهجةِ الاحتراسُ في الحديث المستند إلى رواية أو ظن, ومن حدثك بما علم واحترس فيما روى أو ظن فقد قضى حق فضيلة الصدق, ووفّى.
صدق اللهجة والمجاز:
لا يخرج عن حدود الصدق ما يجرى على ألسنة البلغاء من ضروب الكناية وفنون المجاز, كأن تقول لشخص: جئتك ألف مرة, تكنى بالألف عن كثرة التردد، ولا تريد بها عدد المرار، وكأن تقول: رأيت أسداً مخلَبُهُ الحسامُ, وأنت تريد بطلاً لا يلوى جبينه عن منازلة الأقران.
وقد جاء في كتب الأصول أن قوماً منعوا أن يكون في القرآن مجاز, وهم الظاهرية, ولا شبهة لهؤلاء, إلا زعمهم أن المجاز من قبيل الكذب, والقرآن قول فصل وما هو بالهزل,وهذه الشبهة مدفوعة بقيام القرينة الدالة على أن المتكلم لا يقصد سوى معنى المجاز.
وإذا كان قوله _ تعالى _ [ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] يحتوى قرينة تنفي أن يكون المرادُ من الظلماتِ سوادَ الليل, ومن النور بياضَ الشمس والقمر والسراج _ لم يكن هناك إخبار بما يخالف الواقع أو الاعتقاد حتى يتناوله اسم الكذب الذي لا يحوم على كتاب الله في الحال, وإنما الكذب ذلك الإغراقُ أو الغلو الذي يضعه الشاعر خيالا بحتاً, كقول بعضهم:
ليس ذا الدمع دمع عيني ولكن ... هي نفسي تذيبها أنفاسي
وقول الآخر:
وأَخَفْتَ أهلَ الشركِ حتى أنه ... لتخافُك النطفُ التي لم تُخْلقِ
صدق اللهجة والقصص الخيالية ضروب:
القصص الخيالية ضروب:
أحدها: ما يحكى على ألسنة الجماد أو الحيوان كقصة كليلة ودمنة.(1/70)
ثانيها: ما يحكى على ألسنة ذوى نفوس ناطقة, ويدل المتكلم بالقرينة أو بالصريح من القول على أنه اخترعها؛ لتكون مأخذ عبرة أو أدب لغة, كما صنع أبو القاسم الحريري في مقاماته.
وهذان الضربان من قبيل الإخبار بما يخالف الواقع والاعتقاد, والذي يستر عيب الكذب هنا أن المتكلم لم يوقع المخاطب في غلط وسوء تصور, وإنما يعرض عليه حكمةً أو أدبَ لغةٍ في أسلوب طريف.
ثالثها: مايحكيه الرجل على ألسنة ذوى نفوس ناطقة, ولا ينبه على أن القصة غير واقعة, وهذه _ أيضاً _ خارجة عن حد الصدق إلى مكان بعيد, ولو كان الداعي إلى وضعها ماتحتويه من عبرة أو أدب لغة.
فالذين يزعمون أن في القرآن قصصاً غير واقعة، وأنها سبقت لما تحتويه من موعظة لا يريدون إلا أن يطعنوا في القرآن , ويخادعوا المؤمنين، والمؤمنون لا يخدعون.
صدق اللهجة وإخلاف الوعد:
الوعد أخبار عما ستفعله في المستقبل من إحسان, والصدق والكذب يحريان في الأخبار المستقبلة كما يجريان في الأخبار الماضية.
وقد وصف الله _ تعالى _ إسماعيل _ عليه السلام _ بصدق الوعد أوفائه بما يعد فقال: [إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً]
وإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقاً فإخلافه يجعله كاذباً لا محالة.
وقد اختلف أهل العلم بعد هذا في لزوم الوفاء بالوعد, فذهبت طائفة إلى أن من وعد شخصاً بإحسان وجب عليه إنجاز ما وعد, وقضى عليه بأدائه.
وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ÷ ورجحه أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي فقال =والصحيح لزوم الوعد, وُخْلفَه كذب ونفاق+
وذهب طائفة أخرى إلى أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق, وأن صاحبه يملك الرجوع عنه, وإذا بدا له أن يرجع فليس للقاضي عليه من سبيل.(1/71)
وذهب جماعة من فقهاء المالكية إلى تفصيل, وهو أن الوعد المطلق غير لازم, وأما الوعد المنوط بسبب فإنه يصير بمنزلة الدَّين الذي لا مناص له من قضائه, ومثال هذا أن تقول لشخص: تزوج وأنا أدفع المهر, فإذا تزوج كان للحاكم أن يقضي عليك بدفع المهر قضاءاً نافذاً.
صدق اللهجة وإخلاف الوعيد:
الوعيد إخبار عما ستفعله من شر؛ فإخلافه يجعله كالوعد المخلف قولاً كاذباً.
والرجل الذي يوعد آخر، ثم يضرب عنه عفواً إنما يمدح من جهة أن مصلحة إخلاف الوعيد أرجح من مصلحة إنفاذه؛ ففضيلة العفو تغمر عيب الكذب, وتجعله في نظر الأخلاق شيئاً منسياً.
ولتضاؤل نقص الكذب تحت عظم فضيلة العفو ساغ للإنسان أن يتمدح بإخلاف الوعيد الذي يقول:
وإني إن أوعدته أو وعدته ... لأخلف إيعادي وأنجز موعدي
ولا شك أن من يقرن الوعيد بنحو المشيئة يحميه أن يجعل إخلافه كذباً.
ولكن الوعيد شأنه أن يصدر في حال غضب لا يملك صاحبه النظر إلى العواقب؛ فهو لا يكاد يلفظ به إلا بعد عزم وتصميم.
صدق اللهجة والمعاريض:
في هذه الحياة بلاء، وأشد بلائها ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلة؛ فقد يلاقي الإنسان حالاً ترغمه على أن ينطق بما يكره, ويسلك في القول ما لم يألف.
ولو وقف علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلباً جامداً لضاقت سبيله, ووجد بعضُ النفوس للخروج على أمره عذراً بيناً.
وقد وجدنا علمَ مكارم الأخلاق _ الذي رفع الإسلام قواعده _ فسيحَ الصدرِ بمقدار ما يسع مقتضياتِ الحياةِ الفاضلة.
فصدق اللهجة يعد من الفضائل؛ نظراً إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح ودرء المفاسد, ولو عرضت على وجه الندرة حالٌ يكون حديثُ الرجل فيها على نحو ما يعلم جالباً عليه أو على غيره ضرراً فاحشاً_ لوجد في قانون الأخلاق مرونةً تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضرراً.(1/72)
فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمر واقع, ولم يكن بد من أن يقول في شأنه شيئاً_ فها هنا يفسح له بمقتضى قانون الأخلاق الذي أتقن الإسلام صنعه أن يأخذ بالمعاريض,وهي ألفاظ محتملة لمعنين يفهم السامع منها معنى, ويريد المتكلم منها معنى آخر.
وإذا شئت فقل: هي ألفاظ ذات وجهين: أحدهما: غير حقيقة وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب, وثانيهما: حقيقة وهو ما يقصد المتكلم, ويحق لك أن تسمى اللفظ من أجله حديثاً صادقاً.
وهذا ما يفعله الذين أُشْرِبوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجاً أو خطراً.
ومما يساق مثلاً لهذا أن أبا بكرٍ الصديقَ كان يُسْأَلُ عن النبي" في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة وهو يريد كتم أمره فيقول: =هذا يهديني السبيل+.
ويريد أبو بكر من السبيلِ سبيلَ الخير والسعادة, ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون.
وما كانوا يرضون عن الحديث ذي الوجهين إذا عمد إليه الرجل لغرض غير صالح, قال عبد الله بن عقبة: دخلت مع أبي على عمر بن عبدالعزيز، فخرجت وعلي ثوب, فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين, فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي: يا بني اتق الكذب وما أشبهه؛ نهاه عقبه عن إجابة السائلين بقوله: جزى الله أمير المؤمنين خيراً؛ لأنه يلقي في أذهانهم أن الخليفة هو الذي خلع عليه هذا الثوب, ولا داعي له إلى أن يجيبهم بهذه الجملة التي يتبادر منها غير الواقع سوى قصد الفخرِ, والفخرُ بإصابة حظوة عند الأمراء _ ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز _ لا يحسب في الأغراض المحمودة حتى يحل للرجل أن يرتكب له حديثاً ذا وجهين.(1/73)
عنى الإسلام بصدق اللهجة جهد العناية,ويريد مع هذا للأمة إخاء وائتلافاً يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضاً, ويريد لجيشها الفوز على الأعداء يهاجمون أن يتحفزوا, ويرغب في أن يكون الزوجان على وفاق وحياتهما في نظام؛ لهذا خفف المصطفى _ صلوات الله عليه _ في الكلمة يقولها الرجل ليطفئ عداوة استمرت بين طائفتين, أو يقولها في حرب؛ ليكفي قومه قارعةَ تسلطِ الأعداء, أو ليسكت غضب زوجته الصالحة.
وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في تأويل الحديث إلى أنه أذن في المعاريض, فذكر هذا الحديث الذي يروى في استثناء الحرب, والإصلاح, وإسكات غضب الزوجة, ثم قال =ولكن ذلك بالمعاريض وهي الألفاظ التي يفهم منها السامع خلاف ما يريد القائل, فهذا هو المأذون فيه+.
أثر صدق اللهجة في سعادة الفرد:
يتحلى الإنسان بأدب الصدق، فيشرف قدره, وتطيب حياته, ويصفو باله.
أما الشرف فلأن الصدق يدل على نقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل, كما أن الكذب عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية.
وقد جاء في حديثِ أكملِ الخليقةِ ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصحبها إلى حسنات وأن الكذب سيئة تنجر به إلى السيئات, قال المصطفى _صلوات الله عليه_ فيما رواه الإمام البخاري =إن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً, وإن الكذب يهدي إلى الفجور, وإن الفجور يهدي إلى النار, وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا+ .
ولا يستقيم لأحد سؤدد, أو يحرز في قلوب الناس مكانة إلا حيث يهبهُ الله لساناً صادقاً.
وإذا ابتغى بالكذب منزلة فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة, أو طائفة تؤثر اللهو على الجد ويشغلها الخداع عن النصيحة.(1/74)
وأما طيب العيش فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير وقع, وقد يحرص التاجار أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمه غير صادقة, فإذا هو يضيع سمعة طيبة, وربحاً وافراً.
ومن الشاهد: أن الصدق يكسب الرجل وقاراً، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين.
واحترامُ الناس للرجل مما يدعوهم إلى النصح في صحبته, وإذا وضع بين أيديهم شأناً من شؤونه الحيوية قاموا عليه بإخلاص.
وأما صفاء البال فمن ناحيتين:
أولاهما: أن مرتكب الرذيلة لابد أن يحس بوخز في ضميره، ويسمى توبيخ الضمير, والكذب من أفظع الرذائل؛ فوخزه في الضمير غير يسير, ومتى سار الإنسان في طرق الصدق، وأقام بينه وبين الكذب حصناً مانعاً عاش في صفاء خاطر, وراحة ضمير, ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل.
أخراهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب لابد من أن تبدوَ سريرته، ويجرَّ عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة, فلا يلاقي من الناس إلا ازدراءاً, وربما رموه بالتوبيخ في وجهه.
أما صادق القول فإنه يظل ضافي الكرامة آمناً من مثل هذا الخطاب المشين.
أثر صدق اللهجة في سعادة الجماعة:
تسعد الجماعة، وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق؛ فالمعاملات كالبيع, والإجارة, والقرض, والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.
والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق اللهجة حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور تتقدم حالتها الاقتصادية, ولا يجد عدوها الوسيلةَ إلى مزحمتها في نحو التجارة والصناعة.
والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق اللهجة.
وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة, ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقاً حميما.(1/75)
فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة يطلق بها لسانه, يؤذي نفسه, ويرهق المجتمع خللا وفساداً؛ فالكذاب لا يعد عضواً أشلَّ فقط, وإنما هو عضو يحمل دماً مسموماً لا يلبث أن يسريَ إلى الأعضاء المتصلة به، فيؤذِيَها.
أثر صدق اللهجة في العلم:
يمرق الرجل من فضيلة الصدق على طريق شتى, وأبعد هذه الطرق ضلالاً أن يتحدث في العلم بما ليس من العلم, أو يضيف إلى أحد قولاً لم يصدر عنه, يفعل هذا من يرغب في التفوق على قرين ينافسه, أو يرغب في أن تطير له سمعةً أعلى من منزلته.
ومن يحاول التفوق على قرينه بزخرف من الباطل فهو أخو الساحر, ولا يفلح الساحر حيث أتى.
ومن رضي بأن تكون سمعته فوق منزلته فإن وراء السمعة عقولاً تزن الرجال بالآثار؛ فلا يَدَعُون السمعةَ تغلو في طيرانها, بل يأخذون بناصيتها، ويهبطون بها إلى أن تكون مع منزلة صاحبها على سواء.
ولو أيقن أولئك الذين يدسون في العلم ما ليس من العلم أن من حولهم بصائرَ نافذةً وأقلاماً ناقدةً _ لما انسلخوا من لباس الصدق, ولكنهم قوم لا يوقنون.
يتحدث العالم في غير صدق, فتذهب الثقة به من القلوب، ويذهب معها شطر علمه وهو ما يرجع إلى النقل والرواية.
وكم من مُنتمٍ إلى العلم اطلعوا له على اصطناعه خبراً؛ فطرحوه من حساب الموثوق بنقلهم, وكذلك الرجل يخرج عن أدب الصدق مرة, فيتعدى شؤم الكذب إلى سائر أقواله, فتوشك أن تذهب كما يذهب هذيان المُبَرْسَمِين هزوًا.
كذبت ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يُصَدَّقا
علل التهاون بصدق اللهجة:
ينحرف الرجل في حديثه عن قصد السبيل لدواعٍ مقبوحةٍٍ, ومآربً دنيئة.
وليس في وسعنا ذكر هذه الدواعي والمآرب, وإنما نسوق منها أمثلة تريكم أن من لا يَقْدُر قيمة الصدق قد يبيعه بثمن بخسٍ, وكلُّ مايرضى به ثمناً للصدق فهو بخس ولو حثوا له من هذه الصفراء والبيضاء(1) ما لا يأتي عليه حساب.
__________
(1) يقصد بالصفراء: الذهب، وبالبيضاء: الفضة (م).(1/76)
ينحرف الرجل عن الصدق؛ ليتملق ذا مقام وجيه, ولايتزلف إلى ذوى المقام الوجيهة بقول الزور إلا من صَغُرتْ، نفسه وضاق عليه مجال القول الصائب الحكيم.
نحن نعلم أن بعض ذوى المناصب قد مُسِخَتْ فطرهم؛ فلا يرضون عمن يجلس إليهم إلا أن يدخل عليهم من باب التملق والنفاق, ونعلم مع هذا أن كرم الأخلاق يدعوك إلى أن ترعى حرية ضميرك, وتحافظ على صدق لهجتك؛ فأجب داعيَه، وذر الذين يحبون أن تشيع فاحشة في الأمة؛ فإنهم قوم لا يفقهون.
ينحرف الرجل عن الصدق؛ لَيُغْرِبَ عند الناس، ويريهم أنه صاحب سمر؛ حتى يخف عليهم ظله, ويرغبوا في منادمته.
وإنما يفعل هذا من يحرص على أن يغشى كل منزل، وتتمَّ به حلقة كل مجتمع. أما من يبتغي الحياة الزاهرة الشريفة فيتقلد فضيلة الصدق في كل حال، ثم لا يوالي إلا أولي الجد, ولا يبذل خطواتِه إلا حيث تحترم الحقيقة والفضيلة.
وقد ينطوي بعض الناس على عداوة الشخص، فيرميه بمساوىء؛ ليصرف عنه القلوب, ويُسْقِطَ مهابتَه من العيون.
ولا أشأم على الرجل من أن يناضل عدوه بالهتان.
ومن كانت له حاجه في أن يؤلم أعداءه فإنه لا يؤلمهم بأشد من احتفاظه بمكارم الأخلاق, ومن أعز هذه المكارم أن يكون حرَّ الضمير، عفيف اللسان.
وفي الناس من إذا أخذ يحدثك في شأنه أو شأن سلفه أذن لقريحته، فيخترع, وأطلق لسانه فيرتع في غير واقع.
والألمعية تشهد بأن الرجل لا يستطيع أن ينال بمثل هذا الحديث ذرة من فخر أو حمد.
وربما قام حديثه هذا شاهداً على أنه لم ينشأ في أدب متين؛ فيطرح نفسه في زراية من حيث يريد أن يرفعها إلى فخار.
ومن لا يؤمن بأن خالق الكون يجازي هذه الألسنة على ما تصنع من تحريف أو تزوير _ لا يبالي أن يلبس الحقيقة بالباطل, ويصور بلسانه أشياء ليس لها في الواقع من مثال.
ولا يكاد الملحد يحتفظ بصدق القول إلا حين يريد أن يتشبه بذوى المروءة, وحين يخشى افتضاح زوره, ويخشى من افتضاحه ضرراً.(1/77)
وانظر في قصة أبي سفيان حين استدعاه هرقل في ركب من قريش، وأخذ يسأله في شأن النبي " فإنكم تجدون أبا سفيان وهو زعيم قريش يومئذ يقول =فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عنى كذباً لكذبت عليه+.
قال أبو سفيان هذا أيام جاهليته وهو سيد قومه.
أما صدق اللهجة القائم على الإيمان فلا يختل نظمه, ولا يختلف غيب صاحبه عن حال علا نيته؛ فمن تصدى جماعة، وعني بأن يجعلهم المثل الأعلى لفضيلة الصدق _ فليسعَ لأن يكون إيمانهم بالله راسخاً, والإيمان الراسخ مطلع كل فضيلة.
من أخلاقنا(1) للشيخ علي الطنطاوي(2)
أعرف رجلاً أنعم الله عليه بسعة المال، وفطره على صدق الود، وبسط اليد؛ فأباح إخوانه ماله، يغترقون منه اغتراقاً، ويأخذون منه علاًّ ونهلاً، قرضاً حسناً لا يطالبون برده، وهدية لا يسألون المقابلة بمثلها، وهبة لا يُرتَقَبُ منهم عوضٌ عنها، ولا يسمعون كلمة منّ أو تذكير بها.
وفَتَحَ لهؤلاء الإخوان _ وما كان أكثرهم _ داره، وأفرد لهم جناحاً فيها لا يدخله أحد من حرمه وأهله، وأقام عليهم خادماً وطاهياً، وانقطع فيه لاستقبالهم قادمين بالبشاشة والترحيب، وإيناسهم مقيمين وخدمتهم، وتوديعهم راحلين مشيِّعاً إياهم بالكرامة، شاكرهم على تفضلهم بالزيارة، سائلهم التكرم بالعودة.
ولبث هذا الرجل على ذلك حتى أضاع ماله كله، فباع الدار وأثاثها، وغدا فقيراً يحتاج إلى الورقة السورية، فلا يجد في كل أولئك الإخوان من يدفعها إليه، لا وفاء دين، ولا مقابل هدية، ولا عوضاً من هبة، ولا قرضاً حسناً إلى أيام السعة، اللهم إلا قرضاً برباً، ولا يرضى المرابون أن يقرضوا مفلساً.
__________
(1) نشرت عام 1947م، وانظر كتاب =في سبيل الإصلاح+ ص95_100.
(2) سبقت فب المجموعة الأولى ترجمة له.(1/78)
ولعل الرجل أخطأ حين عمد إلى هذا الكرم الجاهلي فأخذ به، وترك التأدب بأدب القرآن الذي يقول: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً]؛ والذي جعل المبذرين إخوان الشياطين.
ولعله لقي جزاءه؛ فما سقت القصة للحكم عليه، وإنما قصصتها لأنها ذكرتني بطائفة من أخلاقنا، هي كالداء في جسم الأمة، لا يجمل بالكتَّاب وحملة الأقلام السكوت عنها والرضا بها، وهم أطباؤها وأساتها، وعندهم دواؤها.
ذكرتني بما نكاد نراه كل يوم من الحوادث وما يكاد يعرف له كل قارئ شبيهاً ومثيلاً، حين يأتيك الرجل من أصدقائك أو جيرانك متذللاً متواضعاً، مظهراً للتقى والأمانة، يسألك أن تقرضه مالاً قد تكون أنت في حاجة إليه في يومك أو غدك، ويذكرك الكرم والثواب؛ وربما استعان عليك بمن لا يُرَدُّ طلبُه عندك، فتعطيه ما يريد، تضعه في كفه خالياً به، تستحيي أن تشهد عليه شاهداً، أو تأخذ به كتاباً، مع أن الله أمر بكتابة الدين إلى الأجل المسمى أمر ندبٍ واستحبابٍ، لا أمر إيجاب وافتراض؛ فيأخذه منك ويذهب شاكراً فضلك، مثنياً عليك ثناءاً يخجلك ويضايقك، ثم لا تراه بعد ذلك، ولا تبصر له وجهاً، فتفتش عنه؛ لتسأله رد المال وقد انقضت مدة الدَّين، وتجددت حاجتك إليه، فيروغ منك، وينأى عنك، فتطرق بابه، فيقال لك: هو غائب عن الدار، فتعود إليه في الصباح فيقال: هو نائم، فترجع بعد ساعة فيقال: خرج، فتبتغي إليه الوسائل وتتشفع إليه بالأصدقاء، فيلقاك شامخ الأنف مصعّراً خده، يقول: يا أخي، أزعجتنا بهذا الدين، ما هذا الإلحاح الغريب؟ أتخاف أن آكله...؟!
وينتهرك وأنت تداريه، ثم إن كان رجلاً طيباً دفع إليك الدين، ولكن قرشاً بعد قرش، وورقة(1) بعد ورقة، فتريق في استيفاء دينك ماء وجهك، وتنفق فيه الثمين من وقتك، ثم لا تنتفع منه بشيء.
__________
(1) نحن في الشام نسمي الليرة السورية ورقة سورية.(1/79)
وإن لم يكن صاحب ذمة أكل الدين كله، وصرخ فيك حيثما لقيك: ما لك عندي شيء. اشتك للمحاكم!، وهو يعلم أنه لا سند في يدك، ولا بينة لك عليه.
وهبك أخذت منه كتاباً بدينك، أفتصبر على طول المحاكمة، ومتابعتها، وتأجيلها، وتسويفها، ورسومها، ومصارفها؟ إن ضياع المال أهون من إقامة الدعوى به(1).
ومثل هؤلاء المقترضين الأفاضل مستعيرو الكتب، أولئك الذين تركوا في قلبي غصصاً حلفت بعدها بموثقات الأيمان أني لا أعير أحداً كتاباً، ولم أنج مع ذلك منهم، ولم يردّ لي إلى الآن كتاب =كشف الظنون+ الذي نسيت من استعاره مني منذ إحدى عشرة سنة...
ولهؤلاء المستعيرين نوادر شهدت منها العجب، منها أن أستاذاً محترماً في قومه جاءني مرة يلتمس إعارته جزءاً من تفسير الخازن من خزانة كتبي؛ ليراجع فيه مسألة، ويرده إليَّ عاجلاً، ففعلت؛ وانتظرت أربع... أربع سنوات والله ثم ذكرته به؛ فغضب وقال: لإيش العجلة يا أستاذ؟ لم أراجع المسألة بعد...!
والذي يذكر منهم صاحب الكتاب، ويتنازل، فيرده إليه، يرده مخلوع الجلد ممزق الأوصال.
وأنكى منه المستعير المحقق المدقق الذي يرى في الكتاب موطناً يحتاج إلى تعليق، فيكتب التعليقة التي يفتح الله بها عليه، على هامش كتابك بالحبر الصيني الذي لا يمحى ولا يكشط، ويذيّلها باسمه الكريم!!
وشر من هؤلاء جميعاً الثقيل الذي يتظرف، ويتخفف، فيرى أن من الظرف سرقةَ الكتب، فإذا زارك وتركته في المكتبة وخرجت؛ لتأتيه بالقهوة والشاي أخذ كتاباً فدسَّه تحت إبطه، أو وضعه في جيبه ثم ذهب به وأنت لا تدري(2)..
__________
(1) ولو سألتني دليلاً لنبأتك أنها كانت لأسرتنا قضية بقيت في المحاكم ثلاثاً وثمانين سنة.
(2) وآخر ما وقع لي هنا أنه كان عندي دفتر كبير مكتوب كله بخطي فيه ما سمعته من الدروس في علم النفس لما كنت في شعبة الفلسفة سنة 1929، فقدته من غرفتي في داري في مكة التي لا أدخلها إلا خاصة أصدقائي، وكان ذلك نحو سنة 1401 أو 1402.(1/80)
وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت، وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى، وبدلوا معناه؛ فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام، والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه.
ولم يكن الرجل؛ ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفر، أو عامله في مال؛ فصار التقي اليوم من يكبِّر عمامته، ويطوّل لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد.
وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حُسْنَهُ ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أحبولة يصطاد بها الدنيا.
كذلك الذي كان وصيَّاً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلَّة والجُوع، ونشَّأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً].(1/81)
وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة، وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن؛ فيشرب بشماله، أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده؛ فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقى كيلا يعظموا اللص، ويجعلوه وليَّاً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً، بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس هؤلاء المشايخ _ لست أعني المشايخ كلهم _ شهوة المال، وأنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة ببذله المال...
لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خِضَمَّ الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة _ يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة يناله جزاء تمسكه بما علَّموه من الأخلاق.
حدثني صديق لي أنه انتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو أوفى من ذلك، وكان مقره في مخفر في ظاهر البلد، فمر عليه رَتْلٌ من السيارات في حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك الإذن فوقفهم، ومنعهم من المرور إلا به، قال: فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيديَّاً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول، وهذه الصرة ثمن فنجان قهوة رجاء السماح لهم... إلخ.(1/82)
قال: فلما سمعت ذلك قفَّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر، وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به يأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال، ليجري التحقيق.
قال صديقي: وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل، ولو أني بقيت لطرحت عن عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء، فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إليَّ خير.
وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر، والأساة عنه غافلون.
وأين أساته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهيِّ الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاءاً ونحيباً؛ لأن صاحبته أسهرته بعدِّ النجوم ولم تأته، أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه، أو أفسق فأعطته إياها، وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا همَّ له إلا مرتبه يقبضه من دائرة الأوقاف في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو حاشية يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع، ولا ينتقد، ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر مشكلة من مشاكل العصر؛ ليرى حكمها.
ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر.(1/83)
والشباب الناشئون؛ لجهلهم حقائق الإسلام، وبُعْدِ ما بينهم وبين المشايخ، وقَصَرِ أيديهم وأفهامهم عن نيل الكتب ذات الشروح والحواشي _ قد زهدوا في كل ما هو شرقي واستهانوا به، وعظموا ما يقابله من كل حماقة دعيت مذهباً اجتماعيَّاً، وكل سفسطة سميت فلسفة، وكل كفر بالدين والعرض دعي أدباً، وأعانهم على ذلك أن أكثر المدرسين من الذين لم يقدر لهم فهم علوم الإسلام والغوص على كنوز كتبه.
ولست أطلق القول وأجنح إلى التعميم؛ فإن في كل فئة من هؤلاء _ الطيبين والمصلحين، ولكن الكثرة على نحو ما ذكرت؛ فمن أين يرجى إصلاح أخلاقنا وأوضاعنا؟
ومن أين يرجى لأخلاقنا صلاح؟ ولم نتفق بعد على الأخلاق التي ينبغي أن نتخلق بها؛ فمنا من يرى المثل الأعلى في أخلاق الجاهلية: كرم إلى حدّ التبذير، وشجاعة إلى حدّ التهوُّر، كصاحبنا الذي استهللت بحديثه هذا المقال، وعامة طائفة الزكرت في الشام، وهي أشبه بالفتوة في مصر وأكثر البدو، ومنا من يميل إلى التخلق بأخلاق أجدادنا في القرن الماضي على ما كانت عليه بلا زيادة عليها ولا نقصان منها، ومن يخالفهم مخالفة الضدّ للضدّ فيرى أن نقتبس الأخلاق الغربية برمتها.
ويتشعب بهؤلاء الرأي فيميل كل إلى الأمة التي تعلم في مدارسها، أو رحل إلى أرضها، ومن يرى اقتباس الجيد النافع من كل أمة من غير أن يحدد أو يعين.
ولا دواء لهذه الفوضى في رأيي، ولا صلاح لأخلاقنا، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به سيدنا وسيد العالم محمد " لا الإسلام الذي يفهمه المتاجرون بالدين، ولا الذي تفهمه العامة؛ فإذا فعلنا فثمة كلُّ خيرٍ، ولا يكون ذلك إلا إذا شمر العلماء وحققوا المسائل، ودرسوا المشكلات، وألقوا عن المصنفين الأولين رداء التقديس، واستمدوا الأحكام من موردها، ثم ترجموا هذه الكتب القديمة إلى لغة العصر.(1/84)
إشاعة السوء وموقف الإسلام منها (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
إشاعات السوء عن شؤون الأمة وسير أعمالها، وأهداف إصلاحاتها، ومقاصد رجالها _ لا تقل ضرراً في كيان الأمة، وسلامة الوطن عن التجسس للعدو على دخائلها، ومواطن قوتها وضعفها؛ فكل ذلك خدمة للعدو، وموالاة له، وقد خاطب الله المسلمين بقوله:[لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ]الممتحنة:1.
بل إن موالاة العدو _ في حال عدوانه _ وترويج ما ينفعه في مضرة الإسلام وأهله تخرج الموالين له عن تبعيتهم لأمتهم، وتلحقهم بأمة عدوهم، وفي ذلك يقول الله _ عز وجل _:[وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] المائدة:51.
ترويج إشاعات السوء:
ومن أشد ما يوالي به المنافقون من يكيد للأمة من أعدائها ترويج إشاعات السوء والإصغاء إليها، وقد ورد في ذلك قول الله _ عز وجل _[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً]الأحزاب:60_61.
وكان مما كانوا يرجفون به ما ذكره الله عنهم في قوله _عز وجل_: [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً] الأحزاب:12.
__________
(1) من كتاب أحاديث في رحاب الأزهر، لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين، جمعها وحققها علي الرضا التونسي ص107_110، ومجلة =الأزهر+ الجزء الثاني _ المجلد الخامس والعشرون، صفر 1373.(1/85)
ولهؤلاء المنافقين خلفاء في كل عصر من عصور الإسلام، وفي كل وطن من أوطانه، يخذلون الناس عن أئمتهم وولاة أمرهم، ويشيعون السوء عن برامجهم وخططهم، وهذا مرض في القلوب كما وصفه الله _ عز وجل _ وعلى من يصاب بهذا المرض أن يعالج نفسه قبل أن يعالج بأحكام الله.
وفي هؤلاء _ أيضاً _ ورد قول الله _ سبحانه _: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ] النساء:83.
أي أفشوه حيث لا يكون من المصلحة العامة إذاعته وإفشاؤه، وقد يكون ما يذيعونه كذباً ومضراً بالمصلحة، فيكون ذلك من الإثم المزدوج الذي طهر الله قلوب المؤمنين منه.
واللائق بالمسلمين إذا سمعوا قالة السوء أن يكونوا كما أراد الله للمسلمين في قوله _عز وجل_:[لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] النور:12، إلى أن قال _ سبحانه _: [وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] النور: 15_16.
ولما عاد المسلمون من غزوة أحد كان فيهم من اختلفوا في الحكم على المنافقين والمرجفين، فقال فريق للنبي ": =اقتلهم+، وقال فريق: =لا تقتلهم+، فنزل في ذلك قول الله _ عز وجل _: [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا]النساء:88، وفي ذلك ورد الحديث النبوي: =إنها طيبة (أي المدينة) تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الحديد+ وفي رواية =خبث الفضة+.(1/86)
وأول فتنة في الإسلام، وهي الجرأة على خليفة رسول الله وصهره عثمان ÷ كان منشؤها إشاعاتِ السوءِ الكاذبةَ، وتضليلَ البسطاء وضعاف الأحلام، فجرّ ذلك على الأمة من الضرر ما لم تتوصل إلى مثله الدول المعادية بما لديها من جحافل وقوات حربية.
وفي الليلة الأخير ة قبل نشوب حرب الجمل توصل أصحاب رسول الله " من الفريقين إلى التفاهم على ما يرضي الله _عز وجل_ من إقامة الحدود الشرعية على من يثبت عليه أن له يداً في مصرع أمير المؤمنين عثمان، وبات أبناء كل فريق في معسكر الفريق الآخر بأنعم ليلة وأسعدها وأرضاها لله، فما كان من القتلة ومن يتبعهم من قبائلهم إلا أن أنشبوا القتال في الصباح الباكر، وأشاعوا في كل معسكر من المعسكرين بأن المعسكر الثاني هو المهاجم له على خلاف ما اتفقوا عليه بالأمس، وبذلك كانت الإشاعات بين الطرفين أفتك بهما، وأضرّ على الإسلام من أسلحة البغاة الفاتكة.
أيها المسلمون: إن إشاعات السوء سلاح العدو، والذي يصغي إليها يُمَكِّن العدو من الفتك بالأمة والوطن، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم؛ فاعملوا في ذلك وفقاً بهداية الله _ عز وجل _ وإرشاده حين يقول: [وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] النور:16.
وعلى ولاة الأمر أن يتصرفوا فيمن يثبت عليهم ذلك وفقاً لحكم الله _ تعالى _ حين يقول لنبيه: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً] الأحزاب:60_61.(1/87)
إن الأمة تجتاز اليوم مرحلة من أدق مراحلها في تاريخ نضالها العنيف، هي مرحلة تقرير المصير، وهذه المرحلة _ بما لها من الخطر والأثر في مستقبل الأمة وحاضرها _ تقتضي منَّا أن نتيقظ لكل ما يراد بنا، سواء من العدو الغاصب، أو من أعوانه، وأن نحذر دعاة الفتنة والذين يعملون على إشاعتها بين طبقات الأمة، ولنعلم أن هؤلاء وأولئك يستهدفون غرضاً واحداً، ويعملون لغاية واحدة، هي تمزيق الشمل، وتشتيت الجمع، وتفريق الكلمة، وإشاعة الكراهية بين الحاكم والمحكوم، وإلقاء العداوة بين المؤتمين والمأموم، وهم بهذا يعملون للفتنة ومن أجلها، فإذا ما تحققت غايتهم فإن الفتنة لا تصيبهم وحدهم، ولا تصيب طائفة دون أخرى، وإنما تصيب الأمة بأسرها، وقد حذرنا الله _تعالى_ منهم، ومن فتنتهم، فقال _ جل شأنه _: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] الأنفال:25.
واتقاء الفتنة يكون بدفعها وإدحاضها، وإنزال العقوبة الرادعة على كل من يثبت عليه أنه كان سبباً فيها، أو في عنصر من عناصرها.
ويرى علماء الشافعية أن تكون العقوبة هي =الإعدام+ لكل من يثبت عليه أنه أحدث بين المسلمين فتنة، وأما علماء المالكية فإنهم يتركون الحد على هذه الجريمة لاجتهاد الإمام _ أي الحاكم _.
ومن هنا نرى أنه لا سبيل إلى الهوادة أو المهادنة في إقامة الحد على هذه الجريمة النكراء، جريمة إحداث الفتنة بين الصفوف مناصرة لعدو البلاد الأكبر، وهو المستعمر الغاصب.
فلنتق الله في أمتنا ووطنا، وتقوى الله تدفع كل شيء، وتحول دون أي مكروه، والله يوفقنا، ويسدد خطانا إلى ما فيه النجاح والإرشاد.
البخيل(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي(2)
سألني سائل: ماذا يستفيد الإنسان من حتى بخله على نفسه؟ وأي غرض يرمي إليه من ذلك؟ فأجبته بهذا الجواب:
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص223_228.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/88)
البخل إحدى الملكات النفسية، والمَلَكَةُ صفةٌ راسخة في النفس تصدر عنها آثارها عفواً بدون روية ولا اختيار؛ فكما لا يُسأل المسرفُ عن سبب إسرافه، والغاضبُ عن غايته من غضبه، والحاسدُ عن غرضه من حسده _ كذلك لا يسأل البخيل عما يستفيده من بخله وحرصه؛ فكثيراً ما تعرض لأرباب هذه الملكات عوارضُ تنزع بهم إلى الرغبة عن التخلي عنها حيناً، فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً؛ لمكان تلك الملكات من نفوسهم، ونزولها منها منزلة لا تزعجها الرغبات، ولا تزعزعها الإرادات.
وربما عرض للبخيل ما يدفعه إلى بذل شيء من ماله؛ فإذا وضع يده في كيسه وحاول القبض على شيء مما فيه أحس كأنَّ تياراً كهربائياً قد سرى من نفسه إلى يده؛ فتشنَّجت أعصابُها، وتصلَّبت أناملُها، وأعيت على الالتواء والانثناء؛ فأخرجها صفراً كما أدخلها، وبودِّه أنْ لا يفعل لولا أنَّ للغريزة قوةً فوقَ الإرادة، وسلطاناً تخضع له الرغبات، وتنقاد إليه العقول، إلا إذا كان وراءها وازع من القانون يزعها؛ فإنه يكسر شرتها أحياناً، وإن لم ينتزعها انتزاعاً.
ويحكى أن شحيحاً تحركت في قلبه يوماً الشفقةُ على ابنته الجائعة العارية؛ فأراد نفسه على أن يبذل لها شيئاً من ماله فَتَأَبَّتْ عليه؛ فأذن لوكيله أن يختلس لها من ماله ما يسد خلَّتها من حيث لا يعلمه بذلك، ولا يدعه ينتبه لشيء منه، علماً بأنه لا يستطيع أن يكون كما يريد .
فالوجه في السؤال أن يقال: ما هي الأسباب التي غرست ملكةَ البخل في نفس البخيل؟ فيكون الجواب عن ذلك: أن الأسباب تختلف باختلاف الأشخاص، وأطوارهم، وأخلاقهم، وتربيتهم، ونحن نذكر أهم تلك الأسباب من حيثُ ذاتُها بقطع النظر عن افتراق ما يفترق منها، واجتماع ما يجتمع.(1/89)
الأول _ الوراثة: وهي _ وإن كانت سبباً ضعيفاً لما يعرض للأخلاق الموروثة أحياناً من التغير والانقلاب بمعاشرة المتصفين بأضدادها، والتأثر بمخالطتهم _ إلا أنها كثيراً ما تنمو، وتتجسَّم إذا أُغفلت ولم يعترضها ما يسد سبيلها، ويقف في طريق نمائها.
الثاني _ التربية: إذا نشأ الطفل بين أهل أشحَّاء، ولم يكن في فطرته ما يقاوم سلطان التربية على نفسه أخذ أخذهم في الحرص، وتخلَّق فيه بأخلاقهم كما يتخلق بها في العقائد والعادات من حيث لا يفكر في استحسان أو استهجان، كأنما هي عدوى الأمراض التي تسري إلى الإنسان من حيث لا يدري بها، ولا يشعر بسريانها.
ويُحْكَى أن رجلاً دخل منزلاً يُعْرَف أهلُه بالشح والحرص، فرأى طفلاً صغيراً في يده ليمونة؛ فطلب إليه أن يعطيه إياها، فأجابه الطفل: =إن يدك لا تسعها+!
الثالث _ سوء الظن بالله: ذلك أن المتدين إذا أخذت عقيدة القضاء والقدر من نفسه مأخذها رسخ في قلبه الإيمانُ بأن لله _سبحانه وتعالى_ عيناً ساهرة على عباده الضعفاء؛ فهو أرحم من أن يغفل شأنهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ويسلمهم لصروف الليالي وعاديات الأيام؛ فلا يَلِجُّ به الحرصُ على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل.
وعلى العكس منه ضعيف الإيمان، ضعيف الثقة بواهب الأرزاق، ومقسم الحظوظ والجدود؛ فهو لسوء ظنه لا يزال الخوف من الفقر نصبَ عينيه حتى يصير البخل ملكةً راسخة فيه.
الرابع _ النكبات: كثيراً ما تحلُّ بالإنسان نكباتٌ تصهر قلبه، وتزعج غريزته من مستقرها، ومن ذلك النكباتُ التي يكون مرجعُها قلةَ المال، كأنْ يقع الرجل في خصومة يرى أنه لولا ضيقُ ذات يده لما وقع في مثلها، فكلما تمثلت له نكبةٌ لجَّ به الحرصُ، وأغرق في المنع، حتى يصير ذلك غريزة فيه، وخلقاً ثابتاً له.(1/90)
ومن ذلك جديد النعمة الذي ذاق مرارة الفقر حِقْبَةً من الزمان، وكابد منه ما كابد من الآلام والأوجاع؛ فإنه مهما حسنت حاله، وانتعشت نفسه، وفاضت خزائنه بالفضة والذهب _ لا تذهب من فمه تلك المرارة، ولا تُضَيِّع ذاكرتُه آلامها، فلا يزال يتملك قلبه وسواس مقلق يُخَيِّل ما لا يُتَخَيَّل، ويريه ما لا يرى،كمن تمثل له خيال الشيطان مرة في أبشع صورة، وأفظع شكل؛ فهاله منظره، وذهب الخوف منه برشده؛ فلا يزال يراه في كل مكان وزمان، وفي حالتي الأمن والخوف، والوحشة والأنس.
الخامس _ اللؤم: فإن النفس إذا خبثت طينتُها، ولَؤُمَ طبعُها كان من أخص صفاتها الحقدُ على الوجود بأجمعه، وبغضُ الخير للناس قاطبة، فكيف يمنحهم من ذات يده ما يزيده ألماً على ألم، وحسرة فوق حسرة، وهو لو استطاع أن يمنع عنهم سارية السماء، ويعترض دونهم نابتة الأرض لفعل؟.
السادس _ سقوط الهمة: إذا نشأ الإنسان عاليَ الهمة طموحاً إلى المعالي، محباً للذكر الحسن، والثناء الجميل _ سهل عليه أن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع بذله من ذات يده أو ذات نفسه.
وحب المجد أسال الذهب من خزائن الأغنياء، وصيَّر نفوس الشجعان نهباً مقسماً بين شفرات السيوف، وأسنة الرماح؛ طلباً لسعادة الحياة بالذكر، وسعادة الممات بالخلود؛ فمن لساقط الهمة ضعيف النفس بدافع يدفعه إلى بذل المال على مكانته الراسخة في قلبه، وامتزاج حبه بلحمه ودمه؟ أيدفعه حبُّ الثناء، وهو لا يشعر بلذته؟ أو خوف المذمة، وهو لا يتألم منها، ولا يحس بمرارتها؟ أم سعادة الحياة وسعادة الممات؟ وهو لا يفهم للسعادة معنى غير ما فهمه الزبرقان بن بدر حينما قنع على لسان الحطيئة من المكارم بلقمة يمضغها، وحُلَّةٍ يلبسها(1).
__________
(1) يشير إلى ما قاله الحطيئة في الزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (م)(1/91)
السابع _ فساد المجتمع الإنساني: ذلك أن كثيراً من الناس قد بلغ بهم حبُّ المال، والتعبدُ له أن صاروا يعظمون صاحبه لا لفائدة يرجونها،أو خيرٍ يطمعون فيه، بل لأنه ذو مال، وذو المال في نظرهم أحق الناس بالمحبة والإكرام والإعظام، وإن لم يحصلوا منه على طائل؛ فلو أنهم عبدوا الله _سبحانه وتعالى_ بهذا النوع من العبادة لأصبحوا من عِبَاده المقربين، فمن ذا الذي لا يحب من البخلاء أن ينال هذه المنزلة في نفوس هؤلاء المتملقين وليس بينه وبينها إلا الحرص على ما في يده، وهو عمل يتكلفه(1)، ولا يتعمَّل له، بل هو أشهى الأشياء إليه، وأكثرها ملائمة لفطرته؛ ليزداد شرفاً وعزاً، كلما ازداد ثراءً ووفراً.
ومن هنا قال أحد البخلاء لأولاده: يا بني لأنْ يعلم الناس أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهما(2) من أن يقسمها فيهم.
وقال رجل آخر: يا بخيل؛ فقال له : لا أحرمني الله بركة هذا الاسم؛ فإني لا أكون بخيلاً إلا إذا كنت غنياً فَسمِّ لي المال، ولقبني بما تشاء.
__________
(1) لعلها: لا يتكلفه. (م)
(2) لعلها: أعينهم. (م)(1/92)
هذه هي أهم الأسباب التي تألفت منها رذيلة البخل؛ فإن أغفلنا النظر إليها، وسَلَّمْنا للسائل صحة سؤاله عما يستفيده البخيل من بخله، حتى على نفسه، وفرضنا البخيل مختاراً فيما يفعل غير مساق إلى هذا المورد الوبيل بسائق الغريزة الفاسدة _ كان منال النجم أقرب من تَطَبُّقِ حاله هذه على قاعدة من قواعد العقل؛ لأنَّ الله _تعالى_ خلق الإنسان، وَرَكَّبَ فيه رغباتِ الشهوات مختلفة، بعضها نفسي، والآخر جسدي؛ فهو لا يزال يتطلبها ما لم يعجز عنها؛ فصاحب المال الكثير الذي يقنع بالشملة والمضغة، والجرعة والظلة، ويحمل في كل لحظه أشد الآلام من مقاومة نزوات نفسه، ونزعاتها إلى ميولها ورغباتها _ لا يمكن أن يحمل حاله على محمل العجز؛ لأنه قادر، ولا على الزهد؛ لأنه ما زهد فيما لا ينفع؛ فيزهد فيما ينفع، ولا على الخوف من الفقر؛ لأن عنده من المال ما يفني الأعمار؛ فهيهات أن يفنيه عمر واحد، ولا على رغبة في سعادة الذرية؛ لأن محبة الأب لولده لا يمكن أن تزيد على رغبته في أن يراه شريكاً له في سعادته.
فأما أن يشقى في حياته، ليسعد ولده بعد مماته فما لا يقبله العقل، ولا يدخل في دائرة من دوائر الفهم، فلم يبق لنا إلا نتوسل إلى علماء النفس أن يأذنوا لنا بالتوسع في تفسير معنى الجنون؛ حتى لا يكون مقصوراً على المعربدين والهاذين، بل يكون شاملاً للعابثين الذين لا يدرون ما يأخذون وما يدعون، والذين يجلبون لأنفسهم بإرادتهم وباختيارهم آلاماً نفسية هي أشد مما يجلبه المجانين على أنفسهم بمناطحة الجدران، ومطاردة الصبيان، كما نتوسل إلى علماء الشرائع أن يضعوا قانوناً لاستخراج المال من خزائن المقترين كما وضعوا قانوناً لحفظ المال في صناديق المبذرين(1)؛ فإن تبذير المال يضر قوماً وينفع أقواماً، أما حبسه فيضر صاحبه، ويضر معه الناس أجمعين .
__________
(1) لقد تكفلت الشريعة بكل هذا(م).(1/93)
الآداب العامة(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
يتحدث كثير من الناس عن فئة من الشبان المصريين المتعلمين قد ظهروا في هذه الأيام، واتخذوا لأنفسهم في حياتهم العامة طريقاً غير الطريق اللائقة بهم، وبكرامتهم وبمنزلة العلم الذي يزاولونه؛ فأصبحوا متبذلين في شهواتهم، مستهترين في ميولهم وأهوائهم، ينتهكون حرمات الأعراض ما شاءوا وشاءت لهم نزعاتهم، ويعبثون بها في كل مكان عبث الفاتك الجريء الذي لا يخاف مغبة، ولا يخشى عاراً.
وأهول ما يتحدثون به عنهم في هذا الشأن أنهم يغرون الطالبات الصغيرات اللواتي لا يزلن يختلفن إلى مدارسهن، أو اللواتي انقطعن عنها منذ عهد قريب إلى منازلهن، ويَنصِبون لهن صنوف الحبائل، وأنواع الأشراك؛ لاصطيادهن، وإسقاطهن في هُوَّة الإثم والعار، وهذا ما أريد أن أتكلم عنه قليلاً.
أصحيح ما يقولون عنكم أيها الفتيان التعسون أنكم تتخذون صلة العلم التي هي أشرف الصلات، وأكرمها صلةَ فسادٍ بينكم وبين أولئك الفتيات الضعيفات، وأن الحِبَالَةَ التي تنصبونها لهن؛ لاصطيادهن إنما هي حبالة القلم الذي هو أفضل أداة للخير، وأعظم وسيلة للفضيلة، وخير واسطة للأدب والكمال؟
أصحيح ما يقولون عنكم أنكم تكتبون إليهن؛ ليكتبن إليكم، وتُهْدُون إليهن صوركم؛ ليهدين إليكم مثلها، فإذا امتلأت حقائبكم وجيوبكم بصورهن ورسائلهن أخذتم تنشرونها في كل مكان، وتعرضونها في كل معرض، وأخذ بعضكم يفاخر بكثرة ما يملك منها أو بجماله ورونقه، كما يفخر المرء بأفضل المزايا وأشرف الخصال؟
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص606_612.(1/94)
أصحيح أنكم تقفون لهن بكل طريق، وتأخذون عليهن كلَّ سبيل، وتضايقونهن في مَغداهن ومَرَاحِهن، وحيث ذهبن إلى عمل، أو خرجن لزيارة، أو برزن في مجتمع، فإذا عجزتم عنهن في الطريق أرسلتم وراءهن الرسل في منازلهن يخادعنهن ويخاتلنهن، وربما توسلتم إليهن بأخواتكم وبنات أعمامكم؛ ليسفرن بينكم وبينهن، ويداخلنهن مداخلة الأصدقاء حتى يجتذبنهن إلى منازلكم؟
أصحيح أنكم تقضون أكثر لياليكم مكبين على كتابة رسائل الغرام، وأكثر أيامكم حائمين حول المنازل تنتظرون خدمها الذين اصطنعتموهم؛ ليحملوا رسائلكم إلى ساكنيها، وربما جلستم على أبوابها بجانب البوابين والحوذيين ترقبون نوافذها وكُواها(1) علها تنفرج لكم عما تحبون؟
أصحيح أنكم أصبحتم لا تقنعون في أمر أولئك الفتيات البائسات اللواتي يقعن في مخالبكم بإفساد أخلاقهن، حتى تسجلوا عليهن ذلك الفساد تسجيلاً موقعاً عليه بتوقيعاتهن، مُسَتَشْهَداً عليهن بصورهن وخطوطهن؛ لتملكوا عليهن أمرهن بعد ذلك، وتحولوا بينهن وبين التفلُّت من أيديكم، والحياة بعيداً عنكم في جو غير جوكم، وجوار غير جواركم، عذارى أو متزوجات؟(2)
أصحيح أنكم لا تكتفون بإفساد نفوسهن وضمائرهن حتى تفسدوا عليهن عقولهن وصحتهن، فتشركوهن معكم في شرب الخمر، وتناول المخدرات سائلها وجامدها، فلا تلبث أن تنتهي حياتهن بما تنتهي به حياة النساء الساقطات اللواتي يلفظن أنفاسهن الأخيرة في أقبية الحانات، أو بين جدران المواخير؟
__________
(1) جمع كوَّة: وهي الفرجة في الجدار (م)
(2) الله المستعان! هذا الكلام يقوله المنفلوطي × قبل ثمانين عاماً، فكيف لو رأى الآن ما تفتقت عنه أذهان بعض من بُلوا بالمعاكسات، عن طريق المكالمات الهاتفية، ورسائل الجوال، والجوال المصور، والإنترنت؟(1/95)
أصحيح أنكم فقدتم في تلك السبيل التي تسلكونها خلق الرجولة والشهامة؛ فأصبحتم تتجملون للنساء بأخلاق النساء، وتزدلفون إليهن بمثل صفاتهن وشمائلهن، وأصبح الرجل منكم لا همَّ له في حياته إلا أن يتجمل في ملبسه، ويتكسر في مشيته، ويرقق من صوته، ويلون ابتساماته ونظراته بألوان التضعضع والفتور، ويقضي الساعات الطوال أمام مرآته متعهداً شعره بالترجيل، وبشرته بالتنضير، وثناياه بالصقل والجلاء، حتى صار ذلك عادة من عاداتكم التي لا تنفك عنكم، وحتى سرى التأنث من أجسامكم إلى نفوسكم، فلم يبق فيكم من صفات الرجولة وأخلاقها غير الأسماء والألقاب؟
إن كان حقاً ما يقولون كله أو بعضه فرحمة الله عليكم أيها الفتيان المساكين، وسلام على الفضيلة والشرف سلامَ مَنْ لا يرجو عودةً، ولا ينتظر إياباً.
إن هذه الفتاة التي تحتقرونها اليوم وتزدرونها، وتعبثون ما شئتم بنفسها وضميرها إنما هي في الغد أم أولادكم، وعماد منازلكم، ومستودع أعراضكم ومروءاتكم؛ فانظروا كيف يكون شأنكم معها غداً، وكيف يكون مستقبل أولادكم وأنفسكم على يدها؟
أين تجدون الزوجات الصالحات في مستقبل حياتكم إن أنتم أفسدتم الفتيات اليوم؟ وفي أي جو يعيش أولادكم ويستنشقون نسمات الحياة الطاهرة إن أنتم لوَّثتم الأجواء جميعها وملأتموها سموماً، وأكداراً؟
لا تتكون أخلاق الفتاة في عهد طفولتها، أو في عهد شيخوختها، بل في عهد شبابها، فإذا سَلِمَ لها ذلك العهدُ فَقَدْ سَلِمَ لها كلُّ عهدٍ بعد ذلك؛ فَدَعوها تَجْتَزْ هذه المرحلةَ الوحيدةَ من مراحل حياتها شريفةً طاهرةً تجدوا فيها بعد قليل من الزمن خيرَ زوجةٍ للزوج، وخيرَ أمٍ للولد، وخيرَ سيدة للمنزل.
لا تعجلوا عليها، وانتظروا بها قليلاً؛ لتستطيعوا أن تجدوها غداً زوجة طاهرة شريفة في منازلكم بدلاً من أن تجدوها فتاة ساقطة من دراةٍ مُطَّرحة على أعتاب المواخير والحانات.(1/96)
لا تزعموا بعد اليوم أنكم عاجزون عن العثور بزوجات صالحات شريفات يحفظن لكم أعراضكم، ويحرسن سعادتكم وسعادة منازلكم؛ فتلك جناية أنفسكم عليكم، وثمرة ما غرست أيديكم، ولو أنكم حفظتم لهن ماضيهن لحفظن لكم حاضركم ومستقبلكم، ولكنكم أفسدتموهن، وقتلتم نفوسهن؛ ففقدتموهن عند حاجتكم إليهن.
إنني لا أفزع في أمركم إلى القانون، فالقانون في هذا البلد مدني لا أدبي، ولا إلى الحكومة، فالحكومة مشغولة بشأن نفسها عن شأن غيرها، ولا إلى الدين فقد ضعف شأنه في نفوسكم حتى هان أمره عليكم، ولا إلى آبائكم وأولياء أموركم، فقد عجزوا عنكم، وأصبحوا يبكون مع الباكين عليكم، بل أفزع في أمركم إلى ضمائركم التي هي الأمل الباقي لنا بَعْدَ فَقْدِ جميع آمالنا فيكم؛ فأصغوا إلى صوتها ساعة تسمعوا منها هذا الرجاء الذي نرفعه إليكم، وصوت الضمير أقوى من كل صوت في العالم.
يجب أن لا يُفْتَحَ قلبُ الفتاةِ لأحد من الناس، قبل أن يفتح لزوجها؛ لتستطيع أن تعيش معه سعيدة هانئة لا تنغصها ذكرى الماضي، ولا تختلط في مخيلتها الصور والألوان، ولا أعرف فتاة في هذا البلد بدأت حياتها بغرام قط فاستطاعت أن تتمتع بعده بحب شريف.
ولا أزال أذكر حتى اليوم حادثة ذلك الفتى الذي أهدت إليه حبيبته رسمها موقعاً عليه بتوقيعها، فلما تزوجت _ وكان لا يحب ذلك منها _ أراد الانتقام منها فقطع رأس الصورة ووضعها على جسم عار بتلك الطريقة الفنية المعروفة، ثم أرسلها مع كتاب وشاية إلى زوجها ليلة عرسها، فما لبثت أن خسرت في لحظة واحدة سمعتها وسعادتها.(1/97)
وحدثني من أثق به أن كثيراً من الفتيات الفاسدات لا يتزوجن إلا بعد أن يأخذن على أنفسهن عهداً أمام أخلائهن أن يكن لهم بعد الزواج، أي بعد أن يصبحن مطلقات من قيود العذرة وروابطها، وقلما تتزوج فتاة ذات صلات فاسدة من رجل إلا وردت عليه ليلة البناء بها، أو في صبيحتها كُتُبَ الوشاية بها من الأشخاص الذين اتصلت بهم، وأخلصت إليهم، فانتهى أمرها في حياتها الجديدة بالشقاء والعار.
نحن في حاجة إلى أن نُعَلِّم بناتنا؛ لأننا لا نريد أن يعشن جاهلات متأخرات، فتنحوا عن طريقهن أيها الغواة المفسدون؛ ليستطعن أن يختلفن إلى مدارسهن آمنات مطمئنات على نفوسهن وأعراضهن، ولا تزعجوهن بفضولكم وإسفافكم؛ فإننا لم نبعث بهن في تلك السبيل؛ ليفسدن شرفهن وعفتهن، بل ليضفن إلى فضيلة الأدب والكمال فضيلة العلم والمعرفة.
أفسحوا الطريق لهن، وأفسحوا للعاملة الخارجة في طلب رزقها، والأرملة المسترزقة لبنيها، والفقيرة العاجزة عن قضاء حاجتها إلا بنفسها، والذاهبة لصلة رحمها، ولا تكونوا حجر عثرة في سبيل حرية المرأة في ذهابها وجيئتها، واضطرابها في مذاهب الأرض سعياً وراء رزقها، وقضاء مصالحها، فإن أبيتم عليها ذلك فاعترفوا أنكم أعداؤها القساة المتوحشون؛ لأنكم تأبون عليها إلا إحدى الخطتين القاتلتين: إما الجهل الدائم، أو السقوط العظيم.
الفضيلةَ الفضيلةَ أيها القوم؛ فهي العزاء الوحيد لهذه الأمة المسكينة عن جميع آلامها ومصائبها، والأمل الباقي لها إن ضاعت _ لا قدر الله _ جميع آمالها وأمانيها، والشرفَ الشرفَ فربما جاء يوم ندير فيه أعيننا من حولنا، فلا نجد مما تملك أيدينا شيئاً سواه.
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
20_ النجاح في الحياة: للأستاذ أحمد أمين
21_ العمل والبطالة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
22_ الواجب: للأستاذ عبدالسلام الشربيني
23_ الغني والفقير: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ متاعب الحياة: للأستاذ أحمد أمين(1/98)
25_ كبر الهمة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
النجاح في الحياة (1) للأستاذ أحمد أمين
كل إنسان في الوجود يأمل النجاح في الحياة، رجلاً أو امرأة، صانعاً، أو زارعاً، أو تاجراً، أو أديباً، أو عالماً، وإن اختلفت الصورة التي يرسمها كل لغايته في النجاح.
وهناك صفات كثيرة لابد منها في النجاح، بعضها خاص بنوع العمل الذي يعمله الشخص؛ فالتاجر تلزمه صفات خاصة لنجاحه قد لا يتطلبها نجاح العالم أو الأديب وهناك صفات عامة لابد أن يتصف بها كل مريد للنجاح.
وقد دلت التجارب على أن النجاح في الحياة _ على وجه العموم _ يعتمد على الأخلاق أكثر مما يعتمد على العلم، ومن أمثلة ذلك ما يشاهد من تجار كبار كانوا أميين أو شِبْهَ أميين بنوا لأنفسهم مجداً في التجارة، ونجحوا فيها نجاحاً باهراً؛ بجهدهم واستقامتهم، وحسن سمعتهم، ومعرفتهم _ بالسليقة _ نفسيةَ الجمهور ثم رزقوا أولاداً أرادوا أن يكونوا خيراً منهم في التجارة؛ فأرسلوهم إلى ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا، وعلموهم على آخر طراز، ونالوا الشهادات العالية في الاقتصاد وما إليه، ثم عادوا وحلَّوا محل آبائهم بعد وفاتهم، وكانت النتيجة أن خسرت تجارتهم، وأُقفلت محالُّهم بعد إفلاسهم، وأصابهم الفقر بعد الغنى.
وبين أن آباءهم الأميين، أو شبه الأميين كانوا خيراً منهم، وليس المسؤول عن نجاح الأولين، وفشل الآخرين هو الجهل أو العلم، ولكن الأخلاق، فالأب _على أميته_ كان يحسن الأخلاق التي تتطلبها التجارة، فنجح، والابن لم يحسنها، ففشل ولو كان الابن المتعلم في مثل أخلاق أبيه الجاهل لكُتب له من النجاح أكثر مما كتب لأبيه، وهكذا في كل نواحي الحياة.
__________
(1) فيض الخاطر 10/ 249 _ 252.(1/99)
قد يضرب الناس أمثلة كثيرة بقوم فاسدي الأخلاق نجحوا في الحياة برذائلهم حيث لم ينجح كثير من الناس بفضائلهم، ولديهم أمثلة كثيرة على ذلك وخاصة في أيام الحرب؛ فالتاجر المستقيم ربح بحساب أو لم يربح مطلقاً، والتاجر الذاعر(1) ربح من غير حساب، والموظف الأمين عاش على مرتبه الضئيل، والموظف الخائن حاز الأموال الطائلة حتى لم تعد تهمه الوظيفة، ثم الموظف المتملق لرؤسائه قد يرقى على أكتاف الموظف المستقيم وهكذا...
قد يكون هذا صحيحاً، ولكن لابد أن تحسب راحة الضمير للمستقيم وقلقه عند الخائن، وتحسب احتقار الرأي العام للخائن واحترامه للنزيه، وتحسب حساب المسؤولية أمام الله، وتحسب حساب أن المال الحرام قلما يفيد صاحبه، وأولاده؛ لأسباب دينية ونفسية واجتماعية، وتحسب حسابَ مَنْ ضُبِطوا في حياتهم، فعوقبوا، فخسروا الدنيا والآخرة؛ فلو حسبت حسابَ هذا كلِّه لترددت كثيراً في تسمية هذا نجاحاً.
وهَبْهُ صحيحاً؛ فأغنياء الحرب الذين اكتسبوا من طريق الرذائل استثناءٌ من الحياة العامة، ومن نجحوا في السلم عن طريق غشهم وخداعهم وملقهم استثناء من الحياة العامة.
أما القانون العام في كل زمان ومكان فهو أن النجاح في الحياة يتوقف كثيراً على الأخلاق التي يستلزمها العمل من صفات خاصة وعامة من اعتدال في الحياة، وضبط للنفس، وجدٍّ في العمل، وأمانةٍ واعتماد على النفس، وثقةٍ بها، وإخلاص في العمل، وإخلاص لنفسه، وللناس، وصدق في المعاملة إلى غير ذلك من فضائل.
وكلما رقيت الأمة كان من مظاهر رقيها نجاح الذين يعتمدون على أخلاقهم وفشل الذين يعتمدون على رذائلهم.
وهكذا الشأن في الأمم، تنجح الأمة في عالم التجارة إذا حسنت سمعتها، وحسنت معاملاتها، وحسن إنتاجها، وتفشل إذا انهارت هذه الأخلاق.
__________
(1) لعله: الداعر(م).(1/100)
وتنجح في السياسة إذا صدقت في وعودها، وشرفت في معاملاتها، وخَدَمَتِ الإنسانية بأغراضها؛ فإن نجحت بغير ذلك فنجاح مؤقت، ونجاحٌ كنجاح الموظف الخائن.
ومؤرخوا الدولة الرومانية _ مثلاً _ مجمعون على أن نجاحها في عصر ازدهارها كان مؤسساً على أخلاقها؛ فلما تدهورت أخلاقها تدهورت أملاكها.
ثم قد ينجح المرء في الحياة بسبب النبوغ العلمي النادر، أو الذكاء العقلي اللامع، أو القدرة الفائقة على إدراك الفرص، وانتهازها ولو لم تدعمها الأخلاق الفاضلة، ولكن حتى في هذه الأحوال النادرة لو كان لهذه المزايا الفائقة مستندٌ من أخلاق فاضلة لكان صاحبها أكثر نجاحاً؛ فالأخلاق الفاضلة تقويه وتقوي نجاحه، والأخلاق السيئة تضعفه وتضعف نجاحه.
إن الذكاء اللامع، والعقلية القوية، والقدرة على انتهاز الفرص، ونحو ذلك لو دعمتها أخلاق فاضلة لتوجهت إلى خير صاحبها وخير الناس، وإن هي لم ترتكز على الأخلاق الفاضلة كانت عرضة لأن تتجه للعمل لشر الناس.
وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى، والنابغ والذكي أقدر على الخير والشر من الرجل العادي.
وهناك أمر لابد من التنبيه إليه، ويقع في الخطأ فيه كثير من الناس، وهو أن الأخلاق الفاضلة التي تسبب النجاح يجب أن تصحبها اللباقة أو الأدب في المعاملة أو حسن المجاملة أو ما شئت من أسماء؛ فالأخلاق الفاضلة وحدها لا تكفي في النجاح إذا هي اصطحبت بجفاف في المعاملة، أو خشونة في الطباع، أو عدم ظرف ولباقة؛ قد يكون التاجر أميناً مستقيماً، ولكنه خشن غير لبق، وقد يكون الموظف مستقيماً أميناً جاداً في عمله قائماً بواجباته ولكنه جافٌّ غليظ سمج في معاملاته لرؤسائه وللناس، وقد يكون الأديب أو العالم مستقيماً في سلوكه مخلصاً لأدبه أو علمه، ولكنه غير لبق في معاملته لمن حوله، كل هؤلاء قد يفشلون في الحياة، ولا ينجحون ثم هم يخطؤون؛ إذ يظنون ويظن بعض الناس معهم أن فشلهم أتى من استقامتهم، وجدهم، وإخلاصهم.(1/101)
والحقيقة أن فشلهم أتى من قلة لباقتهم وعدم ظرفهم، لا من حسن أخلاقهم.
واللباقة، والأدب، والظرف في المعاملة لا تكرهه الأخلاق، بل تدعو إليه الأخلاق، وهذه اللباقة غير الكذب وغير الملق؛ فقد يكون الإنسان صادقاً، ومع ذلك فهو مؤدب لبق.
وقد يكون الإنسان صريحاً غير متملق ومع ذلك فهو غير مؤدب لبق.
وعدم اللباقة قد يهدم الصداقة وقد يسبب كثيراً من العداوة وقد يسيء إلى السمعة، وكل ذلك يعرض للفشل، وليس المسؤول هو الأخلاق الفاضلة، ترى هذا في التاجر، والعالم، والموظف، والمحامي، وعضو البرلمان، وجميع صنوف الناس إذا خلوا من اللباقة سببوا لأنفسهم وأهلهم ومن حولهم متاعب تؤدي إلى الفشل والخيبة مع ما قد يكون لهم من كفاية نادرة،وأخلاق فاضلة، على حين أن من دونهم كفاية قد يكونون أكثر نجاحاً للباقتهم وظرفهم.
وشأن المرأة من ذلك شأن الرجل فالمرأة الفاضلة اللبقة أكثر نجاحاً في الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية، وقد تكون الحياة جحيماً وليس لذلك من سبب إلا أن المرأة _ مع استقامتها وسمو أخلاقها _قد حرمت اللباقة والظُّرف، فهي تسبب بعدم لباقتها كل يوم مشكلة جديدة قد يصعب حلها.
وبعد: فالأخلاق الفاضلة مع اللباقة والظرف والكياسة عدة النجاح.
العمل والبطالة (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
لا يزال الذين ينظرون إلى ما أنزل الله بعيون حشوها التبصر، وقلوب ملؤها الاعتبار يؤمنون بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الإرشاد والتهذيب إلا حث عليها، ولا رذيلة ولا مفسدة إلا صد عن سبيلها.
وبذلك كان المعظِّمون لشأنه، المقيمون لشعائره في أعلى طبقة من أدب النفس وتربيتها على محاسن الشيم، وتمرينها على الأعمال النافعة.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد3 _ غرة صفر 1322 المجلد الأول ص64_67.(1/102)
وهذا مما يعرفه الذين آمنوا كما يعرفون أبناءهم، ولكن للهمم خمود، وللعزائم فترة لا يتيقظ من موتتها إلا من استفزَّته صروفُ الحوادث، وأَرَتْهُ كيف ترقى أمةٌ إلى مكانةِ العزِّ، وتنحط أخرى إلى وَهْدَةِ السقوط، ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمقَ حياةٍ لم يزل نبضُها خافقاً.
أما من سكنت إحساساته، حتى التحق عند أولي البصائر ببهيمة الأنعام_ فلا يحس لها وَجْبَة، ولا يسمع لها ركزاً.
وإن تعجب فعجب ما يتخيله بعض من رُبِّي في مهد الجمود من أن هذا الدينِ القيِّم لم يرشد إخوانه إلى إلا العبادات المحضة، وأنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية، وروج هذا التخيل الزائف على البسطاء وقوفهم عند ظواهر آيات وأحاديث واردة في ذم متاع الحياة الدنيا، ولو اتسعت خطواتهم في التدبر لأبصروا ما هو التحقيق.
وإيضاحه أن الشارع يفعل بالمكلف فعل الطبيب الرفيق، إذا أصابت المريض علةٌ بانحراف بعض الأخلاط قابله في معالجتها على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر؛ ليرجع إلى الاعتدال.
لما آمن الناس، وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبةً ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، قال _ عليه الصلاة والسلام _: =إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا+.
ولما لم يظهر ذلك منهم مظنته قال _ تعالى _: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ] الأعراف:32.
ولما ذمَّ الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة _ رضوان الله عليهم _ أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله " ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: [أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ] الأنفال:28.(1/103)
وأقر الصحابة على جمع الدنيا، والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم، ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص، أو وجود منع من حقه.
وقد كان المتعبدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها والعزلة عن أهلها وتَعمُّد مشاقها، فنفاها النبي " ونهى المسلمين عنها فقال: =لا رهبانية في الإسلام+.
ومن الآيات الشاهدة لهذا الغرض قوله _ تعالى _: [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ] القصص:77، لما وقع الأمر بصرف المال إلى الآخرة في قوله: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] بين الواعظ بعد بقوله: [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا] أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة، ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، قال مادح عمر بن عبدالعزيز:
فلا هو في الدنيا مُضيعٌ نصيبَه
... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وعلى نحو هذا جرى ذكر التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله _ تعالى _: [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً] الجمعة:11.
ولما فُقِد ذلك المعنى العارض ذكرت ولم يُهْضَم من جانبها شيء كما في قوله _تعالى_: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ] النور:37.
فقد أثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجارة وباعة،ولكنها لم تشغلهم ضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية.
أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجاراً أو باعةً أصلاً فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك؛ لكونها أغلب وقوعاً وأوفق لذوي المروءات.(1/104)
ومما يزداد به هذا المقصد بياناً قوله _ تعالى _: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] الأعراف:31.
فقد بيّن بهاته الآية أن الزينة من علائق العبادة، وأنها غير منافية لها، وأن العبادة تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة.
وبالجملة فإن الآيات التي تحث على العمل والكسب كثيرة قال _ تعالى _: [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] الجمعة:10، [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] الجاثية:12، [وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] المزمل:20.
فالحكيم الخبير مَنْ يَقْدُرُ الوقت حَقَّ قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء وأسخف الكلام، ويعلم أنه أجلُّ شيءٍ يصان عن الإهمال والإضاعة، ويَقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله وتنفع الناس، وبذلك ينتشر العمران في أطراف البلاد،وتتوفر مواد الصلاح، وتنقطع أسباب الفساد، وذلك هو معنى المدنية.
أما من كتب على نفسه البطالة، فقد رضي لها بأسوءِ الحرف وأخسها؛ إذ لا صُنْعَ لهذا المحترف غالباً إلا التَّمَضْمُضُ بكلمات التشنيع والتسخط على ما يفعله غيره وإن غَزُرَتْ فائدته، ولا تراه إلا متردداً على المجالس التي تساق إليها بضائع اللغو، ليكون أحد الحاملين لأسفارها.
ومما يعجب منه أنك تجد الرجل يحسن القراءة، وحواليه كتبٌ مفيدة يمكنه أن يقتبس منها فوائد يستضيء بها صدره من ظلمات الجهالة ولا يفعل، وتجد آخر يتقن صناعة أَوْ لَهُ استعداد لإتقانها وليس له حركة إلا الانتشار في الطرق كأنما أوجر على قيسها، ولا توفيق إلا بالله.(1/105)
الواجب(1) عبدالسلام الشربيني
لا يعرف الواجب من لا إرادة له، ولا يعرف الإرادة من لا ضمير له، ولا يعرف الضمير من لا عقل له، ولا فائدة في عقل لم تعمل فيه يد المعرفة.
وليست الإرادة أن يستبد الإنسان بسلطته إن كان من ذوي السلطات، أو يتمسك بكل شيء من غير أن يقدر أو يفهم هذا الشيء، فإن هذا يسمى جهلاً لا إرادة؛ لأنه إذا قيل: فلان له إرادة قوية كأنه قيل: فلان هذا له عقل مهذب، وضمير سليم؛ لأنه عرف كيف يستفيد منهما.
والضمير لا يكون إلا بوجود العقل المهذب، فإنَّ تركَ العقلِ بدون تربية وتهذيب يموت الضمير بموته، وينقطع الصوت الذي يؤنبنا على فعل السيئ، والذي يمدحنا ويشجعنا على فعل الحسن، أو بمعنى أصح تتنحى المحكمة المنظمة_التي تُنْشَأ لأنفسنا من أنفسنا _ عن إرشادنا.
والويل كل الويل لمن لا محكمة له من نفسه، فإن لم تكن هذا المحكمة الصالحة، أو إن لم يسع إلى وجودها فكأنه أقام الناس عليه حكاماً ينفذون عليه كل أحكامهم.
ومن هنا يموت ضميره، ويصدأ عقله، وتكون حياته بين الإنسانية والحيوانية.
إن الواجب هو الذي يلهمنا الثبات أمام ما هو مفروض علينا، وهو الذي يجعلنا نزداد ثباتاً أمام هذا الشيء الواجب علينا عمله، لا متطلعين إلى مطامع، ولا هائبين أيَّ إنسان ما دمنا في طريق الحق.
والإخلاص للواجب من شيم الأحرار، وهم أحرار؛ لأنهم يفعلون ما وجب فعله بإيحاء من ضمائرهم وعقولهم، وليسوا بعبيد يفعلون ما يؤمرون.
فإن كنا لا ننتظر من عمل الواجب شيئاً إلا أن نصل بفعله إلى ما نبتغي من آمال ومطامع فكأننا نخدع أنفسنا بأنفسنا؛ لأن من يقوم بعمل الواجب مخلصاً في عمله لا ينتظر شيئاً بعد ذلك اللهم إلا تشجيع ضميره، وهذا هو الذي يسمى بالرجل الفاضل.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثامن، المجلد التاسع ص505، صفر 1356هـ _ إبريل1937م.(1/106)
وليست الفضيلة قولاً خلاَّباً مزركشاً، ولكنها عمل وثبات وتضحية، تصحبها المعرفة والنزاهة والشرف.
كثيراً ما أجد الناس يرمون الحياة بالفساد والخبث، والحقيقة أنهم جدُّ خاطئين.
ما فسدت الحياة إلا بفساد الإنسان، وما فسد الإنسان إلا لعدم قيامه بالواجب؛ فلو هذَّب عقله لعمل هذا العقل على تربية ضميره، ولو رقى ضميره لأجبره هذا الضمير على عمل الواجب، ولو عمل كل إنسان ما عليه من واجبات لاتزنت الحياة، ولما رأينا فيها هذا الفساد ولا هذا الخبث، ولا شيئاً من هذه العادات التي يمقتها الناس، مع العلم بأن الناس هم الذين أوجدوا هذه العادات.
ومن الناس من لا يعرف من الواجب إلا ما يقوم به نحو نفسه؛ فهو يقوم بكل ما تتطلبه شهواته، وما سيطرت عليه شهواته إلا لموت ضميره، وأيضاً من يقوم بكل ما تطلبه نفسه من لذات هذه الحياة قد تسوقه هذه النفس إلى الخطايا، وهذا الحب للنفس هو الذي يجعله يرتكب أكبر الآثام، ويعميه عن معرفة الصالح والطالح، ويجعله عاجزاً عن تقدير الأمور؛ ولذا تجد آخرته منقلبة؛ فبعد أن كان محبَّاً لنفسه يصير عدوَّاً لها، وقد لا يشعر بهذه العداوة.
وهل هذا إلا من ضعف الإرادة، وموت الضمير، وفساد العقل؟
إن خير ما يقوم به الإنسان نحو نفسه هو أن يروِّضها على العمل، ويدربها على الشجاعة، وأن لا يجعلها ألعوبة تتقاذف بها الأهواء، وأن يضعها في المكان اللائق بها.
وقد يجد ذوو النفوس الضعيفة صعوبة في تدريب أنفسهم على هذه الفضائل؛ ولكن ليعلموا أنه لا سعادة لهم بغيرها، فإن كان ظاهرها العذاب فباطنها الرحمة.
وما السعادة إلا أن يعمل الإنسان ما عليه من واجبات، وأن يقوم بهذه الواجبات خير قيام.
الغني والفقير(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
__________
(1) مؤلفات المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص69_ 71.(1/107)
مررت ليلة أمس فإذا برجل بائس فرأيته واضعاً يده على بطنه كأنما يشكو ألماً، فرثيت لحاله وسألته: ما باله؟ فشكا إلي الجوع، ففثأته(1) عنه ببعض ما قدرت عليه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة، فأدهشني أني رأيته واضعاً يده على بطنه، وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عما به فشكا إليَّ البطنة، فقلت: يا للعجب! لو أعطى ذلك الغنيُّ ذلك الفقيرَ ما فَضَل عن حاجته من الطعام ما شكا واحدٌ منهما سقماً ولا ألماً.
لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته؛ ولكنه كان محباً لنفسه، مغالياً بها، فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير؛ فعاقبه الله على قسوته بالبطنة؛ حتى لا يهنئ للظالم ظلمُه، ولا يطيب عيشُه.
وهكذا يصدق المثل القائل بطنة الغني انتقام لجوع الفقير.
ما ظنت السماء بمائها، ولا شحت الأرض بنباتها، ولكن حسد القوي الضعيف عليهما فزواهما(2) واحتجنهما(3) دونه، فأصبح فقيراً معدماً، شاكياً متظلماً، غير ماؤه المياسير الأغنياء، لا الأرض والسماء.
__________
(1) يقال: فثأت فلاناً عن فلان إذا سكنت غيظه عليه.
(2) زوى عنه حقه: منعه إياه.
(3) احتجن الشيء: إذا جذبه بالمحجن إلى نفسه، والمحجن الصولجان، والمراد أنه استأثر به.(1/108)
ليتني أملك ذلك العقل الذي يملكه هؤلاء الناس؛ فأستطيع أن أتصور كما يتصورون حجة الأقوياء في أنهم أحق بإحراز المال، وأولى بامتلاكه من الضعفاء؛ إن كانت القوة حجتهم عليه، فلم لا يملكون بهذه الحجة سلب أرواحهم كما ملكوا سلب أموالهم؟ وما الحياة في نظر الحي بأثمن قيمة من اللقمة في يد الجائع. وإن كانت حجتهم أنهم ورثوا ذلك المال عن آبائهم قلنا لهم: إن كانت الأبوة غلة الميراث فلم ورثتم آبائكم في أموالهم ولم ترثوهم مظالمهم؟ فلقد كان آبائكم أقوياء فاغتصبوا ذلك المال من الضعفاء، وكان حقاً عليهم أن يردوا إليهم ما اغتصبوا منهم، فإن كنتم لابد ورثاءهم فاخلفوهم في رد المال إلى أربابه, لا في الاستمرار على اغتصابه.
ما أظلم الأقوياء في بني الإنسان، وما أقسى قلوبهم، ينام أحدهم ملء جفنيه على فراشه الوثير، ولا يقلقه في مضجعه أنه يسمع أنين جاره ، وهو يرعد برداً وقراً، ويجلس أمام مائدة حافلة بصنوف الطعام قَدِيدِه وشوائه حلوه وحامضه ولا ينغص عليه شهوته علمه أن بين أقربائه وذوي رحمه من تتواثب أحشاؤه شوقاً إلى فُتَات تلك المائدة ويسيل لعابه تلهفاً على فضلاتها، بل إن بينهم من لا تخالط الرحمة قلبه ولا يعقد الحياء لسانه، فيظل يسرد على مسمع الفقير أحاديث نعمته، وربما استعان به على عد ما تشتمل خزائنه من الذهب وصناديقه من الجوهر وغرفه من الأثاث والريش؛ ليكسر قلبه وينغص عليه عيشه ويبغض إليه حياته وكأنه يقول له في كل كلمة من كلماته وحركة من حركاته: أنا سعيد؛ لأني غني، وأنت شقي؛ لأنك فقير.
أحسب لولا أن الأقوياء في حاجة إلى الضعفاء يستخدمونهم في مرافقهم وحاجاتهم كما يستخدمون أدوات منازلهم، ويسخرون في مطالبهم كما يسخرون مراكبهم، ولولا أنهم يؤثرون الإبقاء عليهم؛ ليمتعوا أنفسهم بمشاهدة عبوديتهم لهم وسجودهم بين أيديهم _ لامتصوا دمائهم كما اختلسوا أرزاقهم، ولحرموهم الحياة كما حرموهم لذة العيش فيها.(1/109)
لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً؛ لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره؛ ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان؛ ورجل يحسن إلى نفسه ولا يحسن إلى غيره وهو الشَّرِه المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعاً؛ ورجل لا يحسن إلى نفسه ولا إلى غيره وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه؛ وأما الرابع: وهو الذي يحسن إلى غيره ، ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكاناً، ولا أجد إليه سبيلاً، وأحسب أنه هو الذي كان يفتش عنه الفيلسوف اليوناني =ديوجين الكلبي+ حينما سئل: ما يصنع بمصباحه؟ وكان يدور به في بياض النهار، فقال: =أفتش عن إنسان+.
متاعب الحياة (1) للأستاذ أحمد أمين
الحق أن هناك صنفين من المتاعب: متاعب حقيقية ومتاعب وهمية، وربما كانت الأخيرة أكثر من الأول؛ فمن كان فقيراً لا يجد ما يسد رمقه ورمق أسرته فهذا مصدر تعب حقيقي، ومن رزقت بزوج غير صالح فَتَعَبُها منه تعبٌ حقيقي.
ولكن هذا وأمثاله قليل بجانب المتاعب الوهمية التي يخلقها الإنسان خلقاً والتي تعود إلى حالة مرضية في نفسه أكثر مما تعود إلى سبب خارجي متعب حقاً.
ولنستعرض الآن نماذج من الناس يتعبون متاعب جمة، ومصدر تعبهم هم أنفسهم، وكان في إمكانهم أن لا يتعبوا إذا غيَّروا نفسيتهم، وأصلحوا من نظرتهم إلى الحياة.
هنالك الرجل الذي لا يعمل عملاً إلا وأغضب من حوله؛ فإذا وظف أتعب زملاءه بما يجرحهم من كلام، أو ما يصدر عنه من تصرف، وإذا ساق سيارة لم يبال بما يصنع في الطريق، وإذا أشرف على أسرته لم يعبأ بزوجته ولا ولده، وإذا تصرف أي تصرف في الحياة استطاع بقدرته العجيبة أن يحول تصرفه إلى معركة مهما كان نوع العمل بسيطاً.
__________
(1) فيض الخاطر، 10/ 193 _ 201.(1/110)
وهناك المرأة التي تخلق من كل شيء سبباً للنزاع حول ما تشتري، وحول ما تلبس، وحول ما تسكن، ولا يعجبها أي تصرف من تصرفات زوجها، ولا يعجبها أي عمل من أعمال أولادها؛ فهي ناقمة أبداً ساخطة أبداً متعبة لنفسها ولأسرتها أبداً.
وهناك الرجل الذي حطم أعصابه بسلوكه، وتوقع الفشل في كل شيء سيحدث فهو إذا تزوج اعتقد أنه سيفشل في الزواج، وإذا رزق أولاداً توقع أنهم لا ينجحون في مدارسهم، وإذا سار في الطريق توقع أنه ستصدمه سيارة أو ترام، وإذا عهد إليه عمل توقع أنه لن ينجح فيه وهكذا...
فنظرته إلى الدنيا نظرة تشاؤم مستمر، وهذه النظرة كفيلة بأن تنغص عليه، وعلى من حوله معيشتهم.
وهناك العيَّابون والظنَّانون الذين لا يعجبهم العجب، فلا أسرتهم تعجبهم ولا حكومتهم تعجبهم، ولا الجرائد إذا قرؤوها، ولا المجلات إذا تصفحوها، ولا التعليم إذا عرضت عليهم أساليبه، ولا أي نظام في بلدهم يعجبهم، ثم هم يعيبون ولا يقترحون، ويهدمون ولا يبنون، فاسودَّ العالم أمامهم، وسودوه من حولهم.
هذه بعض أمثلة من متاعب الحياة الوهمية التي أوجدها الإنسانُ بنفسه، وخَلَقَها بأوهامه أو أعصابه أو تشاؤمه، ثم رمى نفسه بها، وتعب منها، وأتعب من حوله بها.
والعالم مملوء بهذه المتاعب الوهمية التي ليس لها علاج خارجي، وإنما علاجها ليس إلا في إصلاح النفس ونظرتها إلى الحياة.
والناس في هذه المتاعب الوهمية كلابس المنظار؛ فمن لبَّس منظاراً أسود رأى الدنيا كلها سوداء، ومن لبس منظاراً أبيض رأى الدنيا كلها بيضاء.
وفي استطاعة الإنسان إذا ربى نفسه تربية صحيحة أن يتغلب على المتاعب الوهمية، بل وعلى كثير من المتاعب الحقيقية؛ نعم إن هناك متاعبَ خارجةً عن إرادته كمتاعب الغارات الجوية، وكوارث الحرب، وبعض ما أنتجته المدنية الحديثة من شرور، ولكن هذه نادرة الحصول في الحياة العامة للإنسان.(1/111)
أما المتاعب اليومية الكثيرة الوقوع فيمكن التغلب عليها بتسليح النفس وتقويتها، وأهم سلاح للنفس تستطيع به التغلب على المتاعب قدرتها على تعديل نفسها على وفق الصعاب التي تعترضها، فإذا كانت متاعب الحياة من قلة دخل البيت أمكن بالحكمة في الإنفاق التغلب على الصعاب، وإذا كان التعب من غضب الزوجة أو الزوج فالعلاج أن يتعود الحلم، ويقابل الإساءة بالإحسان.
وكلما استطاع الإنسان أن يعدِّل نفسه وفق الظروف التي حوله كان أسعد حالاً، وأقل متاعب.
يُروى أن ستة أشخاص قضت عليهم الظروف السيئة أن يُحبسوا في حجرة ضيقة مغلقة ستة أشهر ومعهم طعام قليل، وماء قليل، فأما اثنان منهم فتبرما أشد التبرم من هذه الحياة، ولم يريا بصيصاً من الأمل يسري عنهما؛ فأصيبا بالجنون.
وأما ثلاثة آخرون منهم فنظروا إلى هذه الحياة بمنظار أقل سواداً من الأولين؛ فأصيبوا بنوبات عصبية متقطعة، وأما السادس فأبعد عن ذهنه ما استطاع فكرة البؤس الذي هو فيه والتفكير فيما سيحدث، وشغل نفسه بتأليف كتاب يستمده من أفكاره وآرائه ومعلوماته؛ فلما فتح عليهم الباب ليطلق سراحهم كانت حالتهم ما شرحنا، ولا فرق بينهم إلا أن من نجا منهم عدَّل نفسه وفق ظروفه، وأما الخمسة الآخرون فلم يستطيعوا ذلك.
إن كثيراً من متاعبنا تنشأ من جُبننا واستسلامنا للمتاعب تطغى علينا، وتخيفنا، وتحاربنا؛ فتهزمنا.
أما من شجع قلبه، وصمم على أن يتغلب على المتاعب مهما كثرت، وكبرت فإنه يغلبها، ويظفر بها، وينجو من أضرارها.
إن موقف الإنسان أمام المتاعب كموقف الجنود في ميدان القتال، إن فروا هزموا وتغلب العدو عليهم، وإن صبروا واحتملوا وصمموا على أن يغلبوا العدو فازوا وظفروا.
من أراد أن يعالج نفسه علاجاً حقيقياً ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب، فليعرف نفسه أولاً.
_2_
حدثتكم في الحديث الماضي عن متاعب الحياة وأن كثيراً من هذه المتاعب وهمي، وبعضها حقيقي.(1/112)
واليوم أذكر لكم أن هذه المتاعب بعضها يكون مصدرها الشخص، وبعضها يكون مصدرها النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي الذي يحيط به مما له به علاقة.
فأبدأ بذكر المتاعب التي مصدرها الإنسان نفسه؛ فقد نرى ثلاثة أشخاص أو أكثر في ظروف واحدة أو متشابهة من حيث الدخل ومن حيث الوظيفة، ومن حيث الأسرة ونحو ذلك.
وأحدهم سعيد في حياته فرح مسرور مغتبط يحمد الله على ما هو فيه من خير، والثاني شقي منقبض الصدر كثير الشكوى متململ مضطرب، والثالث وسط بين هذا وذاك ليس بسعيد كالأول، ولا شقي كالثاني، يبكي ويضحك، ويحزن ويفرح، ولا فرق بينهم إلا حالتهم الشخصية.
ومن الحكايات الطريفة في ذلك أن دلوين كانا مربوطين بحبل ومعلقين في بكرة على بئر ورجل واقف على البئر يستقبل الدلو الملآن، ويفرغه في حوض ثم ينزله إلى البئر ثانية بواسطة البكرة، وفي العادة أن الدلوين يتقابلان في منتصف البئر أحدهما مملوء والآخر فارغ، فلما تقابلا سأل الدلو الفارغ الدلوَ المملوء: لماذا تبكي؟ فقال: وكيف لا أبكي، وقد ملئت ماء رائقاً وهأنذا أصعد ليفرغني الرجل ثم ينزلني إلى قاع البئر المظلم وأنت لِمَ ترقص؟
قال الدلو الفارغ: وكيف لا أرقص وأنا أنزل أمتلئ ماءً رائقاً ثم أصعد إلى الجو المضيء المشمس؟ وهكذا يعمل الدلوان عملاً واحداً وأحدهما يبكي منه، والآخر يرقص له.
وفي الناس كثير من أمثال هذين الدلوين يعملون عملاً واحداً وظروفهم واحدة، وبعضهم يبكي ويضحك بعضهم.
كل إنسان مهما صح جسمه، ومهما صح عقله فيه نقطة ضعف جسمي ونقطة ضعف عقلي، وليس إنسان سليم الجسم سليم العقل سلامة تامة، وكلنا نألم من هذا الضعف وهذا المرض إلى حد ما.(1/113)
والجسم والعقل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً؛ فالجسم يؤثر في النفس والعقل، والنفس أوالعقل يؤثر في الجسم؛ فالإنسان قد يحس قوة في جسمه؛ فَيَصِحُّ مزاجُه ويصح تفكيرُه، وقد يمرض جسمه؛ فيسوء مزاجه، ويسوء تفكيره، بل قد يأكل أكلة ثقيلة فيثقل ذهنه، ويأكل أكلة لطيفة فتنبسط نفسه، وينبسط تفكيره، وقد تخجل الفتاة فيحمر وجهها، وقد يغضب الرجل فتحمر عيناه، ويكاد ينقدح منهما الشرر، وتتوتر أعصابه، وقد يخاف الإنسان فترتعش أطرافه، ويقف شعر رأسه، وآلاف الأمثلة من هذا القبيل تُرينا أثر الجسم في العقل، وأثر النفس في الجسم.
وكثير من متاعب الحياة الشخصية سببه المرض الجسمي، أو العقلي، وعلى الخصوص هذا المرض العقلي أو النفسي.
وكثير من متاعب الحياة ترجع إلى مزاج الشخص، والمزاج هو أساس ما يصدر عن الإنسان من سلوك، وقد كان الأقدمون يقسمون الأمزجة إلى أربعة: دموي، وبلغمي، أو ليمفاوي وصفراوي، وسوداوي، وقد خصصوا لكل مزاج من هذه الأمزجة صفات خاصة؛ فالدمويون يمتازون بحب الحركة، والمرح، والخفة، وسعة الأمل، والطيش، وقلة الصبر.
والبلغميون يميزهم بطء الحركة والخمول، وقلة الجلد والوداعة، والميل إلى السكون.
والصفراويون يميزهم الطموح، والعناد، وحب العمل، والشجاعة.
والسوداويون يميزهم الانقباض، والحزن، والتشاؤم، والتأمل، والتواضع.
وقد قسموهم إلى هذه الأقسام بناء على أن في الجسم سوائل مخلوطة، إذا غلب سائل منها نسب المزاج إليه، والعلم الحديث لا ينكر أقسام الناس إلى هذه الأمزجة، ولكن يعللها بأسباب أخرى، ويرى أحد علماء النفس أن الناس كلهم يمرون في حياتهم بجميع الأمزجة؛ فهم يبدؤون دمويين في الطفولة، ثم سوداويين في الشباب، ثم صفراويين في الكهولة، ثم بلغميين في النهاية.
وأيَّاً ما كان فمزاج الإنسان، أو كيفية سلوكه في الحياة قد تكون مصدر سعادة له، وقد تكون هي مصدر المتاعب، والمسؤول عنها هو الشخص نفسه.(1/114)
استعرض كثيراً من الأسر، وابحث سبب متاعبها تجد أن أسرة مثلاً سبب متاعبها ما أصيب به الزوج أو الزوجة، أو هما معاً من حدة المزاج، وسرعة الغضب؛ فهي أو هو يغضب لأتفه الأسباب، يغضب من طبق كسر، أو قرش ضاع، أو طفل عمل عملاً لايرضاه أو كلمة نابية، أو غير نابية صدرت من أحد أفراد الأسرة فيغضب، فإذا غضب خرج عن وعيه، وأتى بأعمال جنونية أو شبه جنونية، وكثيراً ما تسبب هذه الأعمال متاعب متسلسلة يصعب حلها.
وهكذا تصبح الأسرة بين أعمال شاذة ومعالجة لنتائجها السيئة، ولا سبب لهذا كله إلا مزاج شاذ فالمرض في أصله مرض نفسي تسببت عنه أعمال مادية شاذة _ أيضاً _.
وهذه زوجة أصيبت بالإسراف؛ فهي تستولي على مرتب الزوج في أول الشهر، وتنفقه في كماليات من فستان فخم، أو أدوات زينة، ونحو ذلك، وتظل الأسرة بعد هذا التصرف في عذاب ونزاع وعتاب، ولوم بقية الشهر.
وهذا التبذير إذا دققت النظر فيه وجدته يرجع إلى مرض نفسي أو إلى مزاج خاص سببه إما غلبة حب الظهور عند الزوجة، أو حب التعالي على مثيلاتها، أو الاعتداد بالجمال، والاعتداد بالنفس، ويضاف إلى ذلك عدم الاكتراث بالنتائج، وعدم النظر في العواقب؛ فهي تنفعل انفعالاً وقتياً، وتتصرف حسب هذه الدوافع الوقتية من غير النظر إلى النتائج.
وهذا رجل يعذب الأسرة بسقوطه في (كيف) من الكيوف وإدمانه عليه، فهو ينفق على (كيفه) أكثر ماله، ويسطو على ما لزوجته وأولاده من حقوق في هذا المال، كما أنه يفقد بهذا (الكيف) الاستمتاع الصحيح بحياة الأسرة، وأداء واجبها وما عليه من التزامات نحو زوجته وأولاده، وهذا _أيضاً_ مرض نفسي، يرجع إما إلى وراثة ورثها عن أبيه، أو إلى تقليد لأصحاب صحبهم، أو انهيار أعصاب، حسَّن له بعدها أصدقاء السوء أن ينتشل أعصابه المحطمة (بكيف) من الكيوف فزادتها تحطماً.(1/115)
وهذه فتاة نغَّصت على الأسرة حياتها بمزاجها، فهي تريد أن تتزوج من لا يرضاه أهلها، أو هي متسامية جداً لا يعجبها كل من تقدم إليها، ورسمت لنفسها حياة خيالية لا يحققها الواقع، أو هي تأثرت بمناظر السينما فأرادت نوعاً من الحياة غريباً عن حياتنا الشرقية، وتقاليدنا الاجتماعية؛ فهي في نزاع دائم مع أسرتها لا تريد ما يريدون، ولا يريدون ما تريد، وهذا _أيضاً_ يرجع إلى مزاج الفتاة، وسرعة تأثره بالمحيط من غير نظر في النتائج، ومن غير تفكير عميق فيما يقلد وما لا يقلد وهكذا وهكذا من آلاف الأمثلة التي تدل على أنَّ كثيراً من متاعب الحياة سببه مرض نفسي، أو مزاج شاذ؛ فيسبب لنفسه ولمن حوله من أسرته، ومن يتصل به متاعب لا تنتهي، وقد يكفي تصرف واحد من هذه التصرفات الشاذة في متاعب سنين تستوجب من الألم المتعاقب المتسلسل ما لا يعد ولا يحصى.
ولا يمكن التغلب على المتاعب التي من هذا القبيل إلا إذا عرف السبب، ثم عولج علاجاً صحيحاً عميقاً لا علاجاً سطحياً ظاهراً.
وهذه هي نقطة الصعوبة في الموضوع؛ فكثير من الأمراض النفسية لا يمكن علاجه إلا إذا عرف أصله، وعرف تاريخه، وفي كثير من الأحوال يرجع المرض النفسي إلى حالة الشخص في طفولته، أو حادث قديم حدث له في شخصه أو حدث في أسرته، وعلى ذلك أمثلة كثيرة؛ فالأبوان اللذان لم يرزقا إلا طفلاً واحداً وهما على حالة جيدة من الثراء يعتادان أن يجيبا الطفل من صغره إلى كل مطالبه، فلا يذوق ألم الحرمان، ولا يتعود شيئاً من التضحية؛ وليس له أخ أو أخت يعلمانه في البيت درس الأخذ والعطاء والأثرة والإيثار؛ فينمو عنده الاعتداد بشخصه، وعدم النظر إلى شيء إلا إلى نفسه، فَمَالُ الأبوين له ولملذاته، وصحتهما ومتاعبهما لراحته، وينمو وهو مدلل، يغضب أشد الغضب إذا لم تحقق رغبته، هكذا هو في بيته وخارج بيته.(1/116)
مثل هذا الشاب يكون مصدراً لمتاعب لا تنتهي؛ متاعب في مدرسته عند تعلمه، ومتاعب في وظيفته إذا وظف، ومتاعب في زواجه إذا تزوج، فإذا أردنا أن نعرف السبب في متاعبه لا يمكن أن يتضح إلا بالرجوع إلى حالته في الطفولة، كما رأينا، وإذا أردنا العلاج فلا يصح علاج إلا بعد معرفة سبب المرض.
وهكذا لا يمكننا أن نعرف سبب المتاعب التي تصدر من بخل البخيل، وإسراف المسرف، وغضب الغضوب، وخوف الجبان، والوقوع في مصائب (الكيوف) ونحو ذلك إلا بالرجوع إلى أساسها الأول، كيف نشأ الطفل في بيته، وما هي الظروف التي أحاطت به، وما أصل هذه العادات السيئة، وكيف نمت، وإلام وصلت؟ وفي ضوء هذا كله يمكن معرفة العلاج إذا حسنت النية، وصدقت الإرادة.
أما غير ذلك فإنما يكون علاجاً كما يُعالج الصداع بحبة من الأسبرين من غير أن يعرف السبب الحقيقي للصداع، فقد يكون المعدة، وقد يكون الأمعاء، وقد يكون الأسنان، وهذا ما جعل قول سقراط باقياً على الدهر وهو =اعرف نفسك+.
فمن أراد أن يعالج نفسه علاجاً حقيقياً ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب فليعرف نفسه أولاً، في أي نقطة هو ضعيف، وبأي مرض هو مريض، ثم يبدأ بالعلاج.
وليس هذا بالأمر الهين، فمعرفة النفس لا بد لها من كشف ستائر تحيط بها، والدخول منها إلى قاعة مظلمة لابد من تسليط الضوء عليها، وكثيراً ما يعيقه غرور الإنسان واعتقاده الكمال في نفسه، أو يعوقه جبنه وعدم جرأته على كشف هذه الستائر عن الوصول إلى حقيقة المعرفة.
ولكن على كل حال هذا هو العلاج الوحيد للتغلب على متاعب الحياة التي مصدرها مزاج الشخص، أو حالته النفسية المرضية.
كبر الهمة (1) للشيخ محمد الخضر حسين
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد14، 16 رجب 1322هـ المجلد الأول، ص209_212.(1/117)
جرت سنّة الله في خلقه، أن لا ينهض بَأَصْر المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، التي يشد بها نطاق السيادة الكبرى _ غير النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تعلق إرادتها بسفاسف الآمال.
ولذلك لما بعث _عليه الصلاة والسلام_ لإسعاف الأمة بجميع وسائل الحياة الأدبية أنشأ يؤسس مبادئ العزة والكرامة، ويعبر عن مكانتها الرفيعة باليمين والشمال، فاجْتَثَّ من الأنفس شجرةَ الذلة من جذورها، وأعتق رقابَها من الاستكانة؛ مخافة أن تهوي بها إلى أدنى درجات الضعة والدناءة، ولم يأل جهداً في إجراء دم الشهامة وكبر الهمة في عروقها الميتة، حتى أخرجها في قالب الكمال، لا تتردد إلا على أبواب الفضائل، ولا تبسط ساعديها إلا لمهمات الأمور.
أليس من الإيماء إلى هذا الخلق العظيم النهي عن السؤال لمن وجد طريقاً عملياً للاكتساب؟
في الصحيح أن رسول الله " قال: =والذي نفسي بيده، ليأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه_ خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه+.
ومن أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء؛ لما في ذلك من المنة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة.
ومنها عدم إلزامه باستهابة ثوبٍ يستر عورته في الصلاة، وأبيح له أن يصلي عارياً؛ صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.
وليحذر الذين يحاولون الوصول إلى هذا الخلق الأسمى، أن يهرعوا إليه من طريق يدع التواضع دبر آذانهم، فيعودون كما بدؤوا.
ليس من كبر الهمة الترفع عن الرجل يبسط لك وجهاً رحباً، ويمنحك لساناً رطباً، وتشهد لك ألمعيتُك الوقَّادةُ بمطابقة ظاهره لما يُكِنُّه ضميره، بل ذلك نفور من النفس، وجموح إلى جهة العلو بغير انتظام، وهو ما نسميه كبراً.
ماذا يردع النفوس عن أنها تُرى حيثما نهى الله، ويغلق في وجوهها أبواب الفسوق والملاهي؟ كِبَرُ الهمة.(1/118)
ماذا يقبض من الأيدي ويسد اللهى عن ابتلاع ما يدلي به الظالمون ليأكلوا فريقاً من أموال الناس؟ كِبَرُ الهمة.
ماذا يوحي إلى الرجل أن يقيم لسائر تقلباته وزناً بالقسط، حتى إذا جَسَّتْها يد الناقد الحكيم لم تجد في حركاتها طيشاً عن الأغراض التي ترمي إليها ذوو العقول النيرة؟! كبر الهمة.
كبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملق والمداهنة، ويصفد الأقدام عن غشيان المنازل التي لا تطؤ فيها على بساط الاحترام والحفاوة.
كبر الهمة يصيِّر العالم الأمين عوداً مُرَّاً، ومكسراً صلباً يقف للمبتدعين المرجفين موقف الشجى بين الحلق والوريد، ويصارعهم بقول الحق الذي تشتد عراه على أكنتهم إبراماً.
كبر الهمة يستفز الموسر الكريم إلى أن يقول بمال الله الذي أتاه هكذا وهكذا، متحرياً به مصارف المبرات التي تقربه إلى الله زلفى.
يقف أحدٌ أمام بعض الكبراء؛ فيسترسل في مخاطبته بثبات جَأْشٍ، وسكون في الأعضاء ومَهَلٍ في القول، ويعقبه آخر؛ ليقوم مقامه؛ فيرجف فؤاده، وترتعد فرائصه، ويتعثر لسانه في أذيال الفهاهة؛ فهل يختلج في ضمير ذي عقل رشيد، أن الأول اتسم بالقحة المذمومة، والآخر طبع على الحياء المحمود؟
معاذ الله، إنما هو كبر الهمة وضعفها يمثلان لك الإنسانية بالسلك الذي ينظم خرزاً كثيراً تباينت معادنها شرفاً وحطة، واختلفت مناظرها سماجة وجمالاً؛ فمن الناس من تسمو بهم نفوسهم إلى الوقوف على أسرار الهداية، فيتقلبون في أبوابها، ويتمسكون بأسبابها إلى أن تعرج بهم إلى الأفق الأعلى، فَيحُلُّون من العلم بطرقها محل القطب من الرحى، وهذا الفريق هو الذي تستضيء الأمة بأنوار عقولهم، وتتوكؤ على كواهلهم القوية، ولا ينوء بهم عبؤها الرزين، فيخطون بها سراعاً إلى مجادة شامخة الذرى، ويوقدون في كل شعبة منها سراجاً منيراً.(1/119)
ومنهم من تتضاءل هممهم حتى يتمكن الذبول والخمول من نواصيهم، فيزلقان بهم إلى الحضيض الأسفل من الحطة والرذالة، وتُمحى من إحساساتهم آياتُ الشعور، ورسوم العواطف التي يكون بها الإنسان رجلاً حقيقياً، فينشرون الخبائث نشر الفريق الأول للأفعال المحمودة.
وَتَقهْقُر الأمة وشقاؤها بمقدار ما يتناسل فيها من مثل هؤلاء الأرذلين.
تجد الذين تربوا على مبدأ الإذلال والإهانة، يحبون أن تشيع فاحشة الذلة في إخوانهم الذين آمنوا، فيتغالون في إطراء كل مَنْ تزمل بثياب الهوان، وخفض لهم جناح المسكنة.
وإنها لأحدى العلل التي نخرت منها عظامنا من قبل أن يدركنا الموت الذي يجعلنا من أصحاب القبور.
أما الحر الذي رُبِّي في مهاد العز، وفُطِر على كرامة النفس فإنه لا يرفع إلا من شأن شريف الهمة، الناسج على مثال العزة التي هي من شعائر الإيمان.
وإذا استبنا أن كبر الهمة سجية من سجايا الدين، تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائل شتى _ فَلِمَ لا نعقل عليها نفوس أبنائنا، ونرشَحَهم بلبانها في أدوار تربيتهم الأولى؟ ليستشعروا بالآداب المضيئة، ويتجلببوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاء غير مجذوذ في الآجل.
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
26_ مدنية الإسلام والعلوم العصرية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
27_ مدنية الإسلام والخطابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
28_ تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات: للعلامة محمود شاكر
مدنية الإسلام والعلوم العصرية(1) الشيخ محمد الخضر حسين
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد12، 16 جمادى الثانية 1322 المجلد الأول ص177_180.(1/120)
خذ أيها الباحث الحكيم بمجامع نظرك السديد، وجُلْ به جولة بديعة الإحاطة في قوانين الشريعة المقدسة، التي نعت بها الكتاب العزيز، وأرشدت إليها السنَّة، ثم ارجع البصر كرتين إلى الأسباب أسبابِ ارتقاء الأمم الحية، وبسطها أجنحة الاستعمار في الأرض، ولتكن هكذا كل ذرة من ذرات جسمك عيناً تبصر، وأذناً تصغي، وفؤاداً يذكر، إلى أن تتأصل في صدرك شجرة الحكمة البارعة، وتتفرع أغصانها تحت طي لسانك.
وهلم إلينا من بعد نتجاذب أطراف الأحاديث بيننا بقسطاس صحيح، ولهجة صادقة لا تدخل على الأحكام إلا من باب الإنصاف؛ لكيما نعلم عين اليقين أَنْ لا سبيل على استيفاء لوازم الحياة الاجتماعية إلا بإقامة قواعد الدين على الوجه الذي اهتدى إليه الخلفاء الراشدون، ومن كان على شاكلتهم من السلف الصالح، وهو المثال الذي لابد لنا من محاذاته ولو بعد حين من الدهر؛ لأنهم أبناء العصر الذي نزل فيه القرآن، وأخوان اللغة التي ورد على أساليبها؛ فهم أعرف بمساقاته، وأعرق في فهم مغازيه ممن سواهم.
ما تسنى لهم انتهاج تلك الطريقة الواضحة إلا لخلو جامعتهم _على سعة دائرتها_ من طائفة تجهل ما هيَّةَ الحياة الصالحة وقفت عُرْضَةً في وجوه الخلف تسد عليهم طرق العلم بأسباب الانتظام في شؤونهم السياسية والمعاشية حتى توهم ذو بصيرة عشواء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان.
ولربما رجفت هذه الراجفة في صدور ضعفاء الأحلام من الناشئة الحديثة.
ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً أيُّ مدنية قويمة لم يكشف الإسلام غشاوتها؟ أو حضارة نافعة لم ينشر بين أخوانه لواءها؟
تسابقت الدول في طباق العمران بمعرفة العلوم الرياضية التي من فروعها الحساب، والمساحة، وعلم التكسير، وعلم رفع الأثقال، وعلم الحيل المائية، والهوائية، والمناظر، والحرب، والهيأة، والميقات، والفنون الطبيعية التي من فروعها علم الفلاحة، وعلم المعادن، وعلم الطب وفروعه.(1/121)
ومن كان على بينة من الشريعة القَيِّمة عارفاً بغايات هذه الفنون لا سيما في مثل هذا العصر الذي كشف عنا الغطاء، وأرانا من نتائجها ما أرى_لا يسعه إلا استلحاقها بالعلوم الإسلامية؛ لتستخدم في بعض الشعائر المفروضة، ويتطرق بها إلى اغتنام السعادة في الدنيا التي هي الكافل للسعادة الأبدية.
ولقد فعل ذلك ذوو الفطر السليمة من علمائنا الذين لم ينكثوا أيديهم من التأسّي بذلك السلف في التمتع بلذة النظر، وأخذ الأشياء النافعة من أي وجهة صدرت؛ فَمَحَّصوها بتطبيق أصول الديانة عليها، وغرسوها في معادن معارفهم العالية؛ فَرَبَتْ، وأنبتت من كل زوج بهيج.
ولقد أَعَجبَ مَنْ سوانا نباتُها، فاستمالوا إليهم غصونها؛ فاستحكمت جذورها عندهم، واجتنوا منها ثمراً لذيذاً.
شهد الله أن ليس الغرض من ترديد صدى هذه الجملة الأخيرة على الآذان نشر فضيلة كانت مطلوبة، أو الإعلان بمنة قوبلت بالكفران، كلا! ثم كلا؛ إن ذلك لا يجدي نفعاً، ولا يطفئ لوعة، بل المراد إيقاد نار الغيرة على استرجاع ما أَوْرَثَناه آباؤنا الأولون.
وليست العلة في تجافينا عن هذه الفنون، وعدم تعهدها بالتنمية إلى أن أصبحت بضاعتها لدينا مزجاة_ إلا ما خُيِّل إلى بعض الجاهلين بحقائقها من أنها حية تسعى، تساور الأفكار فتلسع عقائدها الصحيحة:
وإذا امرؤ لسعته أفعى مرة
... تركته حين يُجَرُّ حبلٌ يَفْرَقُ
ثم سرت عدوى ذلك الوهم إلى إحساسات كثير ممن يظن بهم القيام بأحمالها الخفيفة،ولربما تحاشى عن تعاليمها بعض العالمين بما فيها من المنافع؛ رهبة من إساءة الظن به، واتهامه بالإلحاد الذي تزعم العامة أنه منقوش على كل سطر من صحائفها.
هذا مع إخلادنا إلى الخمول إخلادَ مهيضِ الجناح إلى الأرض؛ فلا تتطاول أعناقنا، أو تشخص أبصارنا إلى الاستطلاع عن الوسائل التي تأخذ بساعد الأمة إلى التدرج في طبقات السؤدد والاستعلاء؛ فنسعى لها سعيها.(1/122)
ومن الناس مَنْ أشربوا في قلوبهم اليأس والقنوط، فلا يرجون للإسلام تقدماً، فيميتون في أنفسهم كل قوة واستعداد، ويثبطونها عن المجاراة في مثل هذه الفنون، مما يستجلب به مصلحة، أو يدرأ به مفسدة، فإذا سمعوا منادياً ينادي لمراجعة التفاتنا، واستدراك ما فاتنا نَغَضُوا إليه رؤوسهم سخرية، كأنما تَطَلَّب نشر الأموات، أو كلفهم البلوغ إلى أسباب السموات، سبحانك هذا ضلال مبين نُنْفِدُ له ماء الشؤون، ونأسف له أسفاً أليماً.
كما أن بعض المتدربين في هذه الفنون، قد يأخذهم التعاظم شأن المقلد الأعمى إلى أن يلقوا على أفواهم كلمات يهتفون بها جانب العلوم الدينية ومستتبعاتها، يرددونها بكل مكان، ويلوكونها لوك الخيل للشكائم صباحاً ومساءاً، غدواً ورواحاً، ويريدون أن تَرَدَّى الناس جميعاً في سواء الجهالة بها.
أبمثل هاته الإرادة ينفخون في عروق الأمة حياةً جديدة؟ أولم يشعر هؤلاء بأن علوم الديانة هي عنصر المدنية الكبرى؟ ولماذا لا يقتدون بأهل النجارة والحياكة والفلاحة وسائر الصنائع؟ فإنهم على عِلْم _أعانهم الله_ أن الهيأة الاجتماعية لا يستقيم أَوَدُها إلا بحركاتهم اليومية، ولا يحومون حول هذه الآراء العقيمة التي لا تصدر إلا ممن حرم نظره من التعلق بما وراء هذه الحياة الدنيا.
اللهم ألهمنا طريقة عادلة يستوي على ظهرها القيمِ السائرون في مضيق الإفراط، والخابطون في مهامه التفريط.
مدنية الإسلام والخطابة(1) للشيخ محمد الخضر حسين
أتى على هذا العالم حين من الدهر، ومعظمه تحت قبضة دولتي الفارسيين والرومانيين، لا يخشون فيه منازعاً ولا يهابون معارضاً، وذلك قبل بعثته _عليه الصلاة والسلام_ بنحو ثلاثة قرون.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد13، غرة رجب 1322هـ المجلد الأول، ص193_197.(1/123)
وانتشبت خلال هذه الأزمنة المستطيلة والآماد البعيدة بين هاتين الدولتين حروب دموية كان شررها مستطيراً، ولم تأخذهم بأبناء جنسهم المكرم رأفةٌ تغل أيديهم عما أرهقوهم به من الخسف والعدوان، وساموهم به من سوء العذاب الذي كانوا يصبون صواعقه على رؤوسهم صبّاً متوالياً.
انقسمت دولة الرومان سنة 395م إلى قسمين، قسم في الشرق وعاصمته القسطنطينية، وقسم في الغرب وعاصمته رومة، وبعد هذا التقسيم بنحو ثمانين سنة، منيت الدولة الرومانية الغربية بغارة شعواء شنتها عليهم البرابرة، اندفعوا عليهم من آسيا اندفاع السيل مِنْ عَلُ؛ فأيقظوا في قارة أوروبا فتنةً رمت بشواظها ذات اليمين وذات الشمال، وعاثوا فيها بأضرب الفساد وأنواع البغي، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعل المتوحشون.
كل ذلك يفصِّله لك التاريخُ بتبيان لا يشوبه غموض، ويذكرك بأيامه الخالية تذكرة نافعة.
ولم تزل تلك الفتن قائمة على سوقها، والجهالة المظلمة ضاربة أطنابها بمشارق الأرض ومغاربها، إلى أن انفتحت في الحجب المحدقة بأنوار الحضرة المحمدية كوةٌ نفذت منها بوارق لمعت في جزيرة العرب أولاً، ثم انبعثت منها أشعة إلى سائر أطراف المعمورة، فقشعت ببهرتها سحائب الهمجية الغالبة، وأخمدت نيران الضلالة المرهقة.
وإن المنصفين من مؤرخي الإفرنج على ذلك لمن الشاهدين، قال أحد فلاسفتهم وكتّابهم =شارل ميسمر+ في كتابه تذكار العالم الإسلامي: =الإسلام أفاد العالم، فيلزم أوروبا أن تحافظ على حياة أهله+.
وقال المسيو =دروي+ أحد وزراء معارف فرنسا السابقين في كلامه على الأمة العربية _نقلته إحدى المجلات المصرية_: =وبعد ظهور النبي "الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة تَقَصَّد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أمة كبيرة، مدَّت جناحها من نهر تاج في إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة+.(1/124)
ثم قال: =إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرة التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة، ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دائرتها، وفتحوا طرقاً جديدة لتأمل العقول في عجائبها+.
ولعلك بعد أن تصغي إلى هذه الشهادة التي لا تختلج بريبة تنفث في رُوْعك، ما لنا نرى إخوان الإسلام بمعزل عن سعادة الحياة وراحة العيش، يوم أصبح غيرهم يتقلب في سعة الملك وبسطة من الرفاهية. فنجيب: تأمّلْ جيداً _بصَّرك الله_ أن الوادي الذي يهيم فيه المسلمون لهذا العهد غير الطريقة التي سنّها كتاب الله، وشرحت وجهتها السنّة الصحيحة.
ما عليه غالب المسلمين الآن إنما هو مثال ينطبق عليه ما توسوس عليه الكتب المحشوة بالتُرَّهات الباطلة، والخرافات التي تؤثر في العقائد والأخلاق خَمةً وفساداً، ككتاب ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة، وقصة فتوح اليمن، وكتاب أعلام الناس، وكتاب قصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي، وكتاب مُجَّاني الأدب وبعض كتب المواعظ والتفاسير المملوءة بالأحاديث الموضوعة، وقصص الإسرائيليين.
هذه الكتب وأشكالها هي الآن أكثر انتشاراً بين عامة المسلمين من الكتب المعتمدة، ويحسبون أن ما فيها هو من التعاليم الدينية، ولا يدرون بأنها فتحت علينا باباً من الغواية وآخر من المعرة، لا يسدهما إلا البراءة منها وحرقها أينما وجدت.
ولو طهرنا أفكارنا مما اشتملت عليه هذه الأسفار من القاذورات، وأفرغنا فيها من التعاليم الثابتة والآداب الحقة وابلاً غزيراً _ لأثمرت في جوارحنا أعمالاً صالحة نستوفي أجورها مرتين.
من المسؤول أولاً عن هذا الانقلاب العظيم الذي أودى بالمسلمين قاطبة إلى مرارة العيش وكدر الأنفس وهم لا يشعرون؟(1/125)
هم سادتنا العلماء؛ فإنهم تنازلوا عن شيء كثير من خطتهم، وضيقوا في نطاقها إلى حد لا يسع إرشاد الأمة وإصلاحها، ولا ينكر ما حدث منذ أزمنة غير قريبة، وامتدت سلسلة تعسة وشقاية لهذا العصر من اتخاذ بعض المتردين برداء العلم اسم الدين شراكاً يقتنصون منه مآربهم الشخصية، ومنهم من تختم المطامع والجشع على أفواههم؛ فيكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمناً قليلاً، والذي يتولى كبر هذه المسؤولية خطباء المنابر، فإن كثيراً منهم غيّروا الخطب تغييراً فاحشاً كاد يخرج بها عن دائرة حكمتها التي شرعت لها.
شرعت الخطب للإرشاد إلى ما غايته راحة في الدارين، وسعادة في الحياتين، وما مثل الخطيب في قومه إلا كمثل الطبيب الحكيم يُسْلَم إليه شخصٌ؛ ليتكفل بالمحافظة على صحته، فلا يمكنه توفية هذه المحافظة حقها إلا بتفقد بدن ذلك الإنسان، وتعهده في جميع الأزمنة، فإن طرأ على بِنْيَتِه اعتلال، أو مزاجه انحراف بادر إلى معالجته بدوائه المناسب له، وإلا فشأنه التحذير مما تتولد منه العلل، وتتعفن به الأخلاط.
وكما أن الطبيب لا يخص مراقبته بالأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب مثلاً ويترك ما عداه غير مأسوف عليه_ كذلك الخطيب لا يقف بتذكرته النافعة عند حد العبادات المحضة؛ فإن التمكن من القيام بقواعدها له شروط ووسائل لا يتم إلا بها؛ فلا بد من استلفات الأنظار إلى استجماعها، والتنشيط إلى الاستعداد فيها، ومن هنا وجب أن يكون الخطيب بحاثاً عن أحوال الأمة، متفطناً لمصالحهم الدينية والدنيوية.(1/126)
إن أدرك الناسَ فتورٌ عن إقامة شعائر الدين استمالهم إليها ببواعث الترغيب تارة، وقرَّعهم بسيوف الترهيب تارة أخرى، وإن تخبطتهم شياطين التدابر والتخاذل عوَّذهم من شر عاقبتها الوخيمة بِرُقْيَةِ الآيات والأحاديث التي تحيي في نفوسهم عواطف المحبة والائتلاف، وإن آنس من أخلاقهم عوجاً وحيفاً كعدم الصدق في المعاملات والتظاهر بالمداهنة والنفاق بشبهة أنها دهاء وسياسة_ عالج استقامتها بمواعظه الحسنة وفي المواعظ شفاء الصدور، وإن خامر عزائمهم داء الفشل والتلذذ بالراحة الوقتية؛ فَقَيَّدا سواعدهم عن أعمالهم الصناعية التي بلغت بها الأمم التي يضرب بها المثل في القوة والسيادة مبلغاً عظيماً_ استنهضهم بلسان الشريعة السامية، للمسابقة في ميدانها والمزاحمة على إحراز غاياتها، وأنذرهم سوء المنقلب الذي يتقلب فيه البطالون.
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات(1)
للعلامة محمود محمد شاكر
لبثت في أسر =الوظيفة الحكومية+ عشر سنوات متواليات أعمل فيها ولها، ثم تنزل القدر فعافتني وعفتها، وانطلقت أطوي الأرض أنظر بعينيَّ إلى آفاق تترامى على مطرح البصر، وكأني آبدٌ قد حطَّم القيود، وانفلت من بين أعواد الحديد التي كانت تمسكه من ورائها، وملأت رئتيَّ من الهواء الحر، يا رب، أين كنت؟ إن طبيعتي التي فُطِرْتُ عليها تأبى أن تألف هذه الأنفاس المقتّرة المعطاة على المنة لصدور تنطوي على قلوب حية تنبض وتتحرك وتسمو بآمالها إلى الخير النبيل.
وبقيت أياماً، هي من حياتي كأنها ذكرى فرحة قديمة انبعثت على حين غفلة من كهوف النفس المهجورة التي يختبئ في ظلماتها ما يمضي من أفراح الحياة.
__________
(1) العصور العدد الثاني 9 ديسمبر 1938 ص37_39، وانظر جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، جمعها وقرأها وقدم لها د. عادل سليمان جمال 2/809.(1/127)
وتوالت الأيام تتسحب على ظلال العمر، وتجلت الأحلام العزيزة التي لا تفنى وسكنت االنفس إلى حريتها، وبدأت أبحث عن واجبي في الحياة، فمكثت على لبث أتأمل وأفكر، والروح في فترة من هدوء ورضاً، حتى اهتديت بحمد الله إلى الطريق والغاية.
نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سِنَةِ النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض.
أجل... وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يتقنها، ويستجيدها، ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر؛ فَلِمَ لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهى بها، وتبدو في زينتها؟
هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين كأنما نرى معجزة تحققها أيدي مردة من الجن ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب.
إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزاً وهلعاً واستكانة.
ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل.
إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفاً ظاهراً لمن يتأمل.
هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملأها حديداً، وناراً، وضجيجاً في الأرض، وصخباً طائراً في السماء.(1/128)
والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدة مهيأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَةٍ(1) متربصة تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.
إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كل ما يمس الاستعداد الحربي.
ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها مع الإسراع في تنفيذها سوف تؤدي حتماً إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشر جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوِّه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلاً في العالمين.
ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانيةُ بانهزام الباطل وانتصار الحق، وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به.
__________
(1) أقعى الكلبُ: جلس على مؤخرته مُفْتَرِشاً رجليه، وناصباً يديه.(1/129)
ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغيٌ؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه(1)، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يُستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!.
هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة =الحرية+ من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كل غاوٍ وحليم _ تثبتُ للناس أن =الحرية+كلمة ضامرة ضعيفة لا معنى لها، ولا حياة فيها.
ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصراً ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة مع كثرة دورانها على الألسنة مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كلّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السر، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي، وحرية الضمير.
في فرنسا _ باعثة هذه الفتنة في أوربا _ في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كل بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبد به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة =الحرية+.
__________
(1) يعني به العلم المادي (م).(1/130)
إن كل عمل، بل كل رأي، بل كل فكر، بل كل شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطاً فاسداً لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالحَ كلِّ شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوَّه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتد بها إلى وحشية الغرائز الدنيا التي تتحكم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا رويَّة.
هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمد كل هذه بأكبر أسباب الفساد إلا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سر الحقيقة في كل ما تتناوله بالبحث والتحليل.(1/131)
أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتز، ويمتد بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تُهَيِّئُهُ ضرورةُ الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتهيئه طبيعتُه الموروثةُ للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتهيئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى تقوى الله في عمل الدنيا وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يَسِمُ بها مدنيته الجديدة التي يتهيأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.
سادساً: مقالات في الشباب
29_ نهوض الشباب بعظائم الأمور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
30_ إلى شباب محمد: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
31_ كيف يتقي الشاب أخطار الشباب: للأستاذ علي سيد أحمد منصور
32_ إلى الشباب: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
نهوض الشباب بعظَائِم الأمُور(1)
للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
يسبق إلى الأذهان أن الفتى حديث السن؛ لقلّة ما مَرَّ عليه من التجارب، تخفى عليه عواقب الأمور ويقصر باعه عن حل المعضلات، وتصريف الأمور بحكمة، ومن هنا نرى الناس يحتملون أخطاء الشباب أكثر من احتمالهم أخطاء غيره، ويعتذرون عنه بحداثة سنة، كما قال عمر بن الخطاب ÷ لمن أنكر عليه عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش الفاتح للشام: =إنك حديث السن، مُغْضَبٌ في ابن عمك+.
وهذا حق بالنظر إلى الشباب الذين ينشأون نشأة عادية، فتنمو عقولهم على قدر ما يمر عليهم من السنين، وعلى قدر ما يلاقون من تجارب الحياة.
ما استقامت قناة ُفكري إلا ... بعد أن أعوج المشيب قناتي
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، وكتاب الدعوة إلى الإصلاح ص119.(1/132)
ولكنَّ التاريخ والمشاهدة يدلان على أن في الشباب من يبلغ في حصافة العقل، وحسن التدبير المنزلة الكافية لأن يُلْقَى على عاتقه ما يُلْقَى على عواتق الكهول أو الشيوخ من عظائم الأمور.
وفي مثل هذا الفتى يقول بعض الأدباء: =قد لبس شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل، حمدت عزائمه، قبل أن تحمل تمائمه +.
وفي مثل هذا يقول آخر: =وكان بارعاً في العلم أو السياسة إلى درجة تسمو على سنِّه+.
وفي مثل هذا الفتى يقولون: =كان حسن السيرة رفيقاً بالرعية، على حداثة سنِّه+.
وقد يقولون: لا تنظر إلى صغر سن فلان، وانظر إلى عظم ما بلغه من المجد، كما قال البحتري:
لا تنظرن إلى الفياض من صغر ... في السن وانظر إلى المجد الذي شادا
إن النجوم نجوم الأفق أصغرها ... في العين أذهبها في الجو إصعادا
وإذا قلَّبنا صفحات التاريخ دلَّتنا على رجال ظهرت عبقريتهم، وكفايتهم للقيام بأعمال جليلة وهم في أوائل عهد شبيبتهم.
نقرأ في السيرة النبوية أن النبي " ولّى عتاب بن أسيد مكة وقضاءها وهو في سن الحادية والعشرين، وولّى معاذ بن جبل على اليمن وهو دون سن العشرين، وولّى أسامة بن زيد إمارة جيش فيه الشيخان أبو بكر وعمر، وسنُّ أسامةَ يومئذ تسعَ عشرةَ سنةً.
وولّى عُمَر بنُ الخطاب ÷كعبَ بنَ صور قضاء البصرة وهو في سن العشرين، وكان يدعو ابن عباس في المعضلات، ويجلسه بين الأشياخ وهو دون سن العشرين، وقلّد عثمانُ ÷عَبد الله بن عامر ولاية البصرة و هو ابن خمس وعشرين سنة، قاد الجيوش، وفتح ما بقي من بلاد الفرس، حتى انقرضت على يده الدولة الساسانية.
وولَّى الحجاجُ محمدَ بنَ القاسمِ بنِ محمد بن الحكم الثقفي قيادة جيش أخمد ثورة في الفرس، وقيادة جيش افتتح السند، وكان عمر هذا القائد سبع عشرة سنة حتى قال فيه بعضهم:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجّة ... يا قربى ذلك سؤدداً من مولد(1/133)
وظهر نبوغ مخلد بن يزيد المهلبي في أوائل عهد شبابه، وفيه يقول حمزة ابن بيض الحنفي :
بلغت لعشر مضت من سنيـ ... ك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمّك فيها جسام الأمور ... وهمّ لداتك(1) أن يلعبوا
وكان مخلد هذا والياً على جرجان، وتوفي في عهد عمر بن عبد العزيز، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وقال عمر بن عبد العزيز: اليوم مات فتى العرب، وأنشد متمثلاً:
على مثل عمرو تذهب النفس حسرة حسرةً ... وتضحي وجوهُ القوم مغبرّةً سودا
وولىَّ المأمون يحيى بنَ الأكثم قضاء بغداد وهو في سن الحادية والعشرين، وتولى أبو شجاع بن نظام الدين الوزارة للمسترشد، وسنه دون العشرين، ولم
يل الوزارة أصغر منه .
وإذا انتقلنا إلى النظر في شباب الملوك وجدنا رجالاً تقلدوا الملك في سن العشرين أو فيما دونه أو فيما يزيد عليه بقليل، وأخص حديثي وما أسوقه من الأمثال بمن تولوا الملك في عهد الشباب، وظهرت لهم آثار تدل على كفايتهم للقيام بأعباء الملك، وأضع في أول سلسة هؤلاء الشباب من الملوك الخليفة هارون الرشيد فإنه تولى الخلافة وهو في سن الحادية أو الثانية والعشرين، وماذا أقول في هارون الرشيد وصحف التاريخ مملوءة بمآثره الحميدة، وبما بلغه الإسلام في عهده من العزة والعظمة؟
وإذا لم يكن بدٌّ من ذكر خصلة من خصاله الزاهرة، فإنه كان يدع القضاء يتمتع بحريته الكاملة، ومما حدثنا به التاريخ أن يهودياً كان قد رفع عليه قضية لدى القاضي أبي يوسف وحكم القاضي لليهودي، وكان هارون في المجلس فبادر إلى تنفيذ ما حكم به القاضي.
__________
(1) يعني: أقرانك.(1/134)
ومن عظماء شباب الملوك ملك شاه بن ألب أرسلان الملقب بالسلطان العادل، تولّى الملك وهو في سن التاسعة عشرة أو العشرين، وقد ملك من كاشغر _ أقصى مدينة في بلاد الترك _ إلى بيت المقدس، وكان مغرماً بالعمران، لهجاً بالصيد، مظفراً في الحروب، وكانت السبل في أيامه آمنة: تسافر القوافل أو الأفراد مما وراء النهر إلى أقصى الشام من غير خوف ولا رهبة.
وأصدق شاهد على إخلاصه في سياسة الأمة أنه خرج لقتال أخيه أبي سعيد بن ألب بن أرسلان؛ فقال في دعائه: =اللهم انصر أصلحنا للمسلمين، وأنفعنا للرعية +.
ومن عظمائهم محمد بن ملك شاه؛ فقد تولى السلطنة وهو في سن العشرين، وسار سيرة حسنة، وكانت له الآثار الجميلة من العدل الشامل، والبرّ بالفقراء والأيتام، وكان ساهراً على أن تكون عقيدة الأمة سليمة يخشى أن يدخلها الإلحاد؛ فتتزعزع قوتها المعنوية، وما تفشَّى الإلحاد والإباحية في قوم إلاَّ فقدت الرجولة من نفوسهم، ورَكِب العدو أعناقهم.
ومن عظمائهم محمود بن محمد بن ملك شاه فقد تولى السلطنة في خلافة المستظهر بالله، وخطب له في بغداد وهو في سن الحلم، وكان هذا السلطان متوقداً ذكاءاً، قوياً في العربية، عارفاً بالتواريخ، شديد الميل إلى أهل العلم والفضل، وهو الذي مدحه الشاعر حَيْصَ بَيْص بقصيدته التي يقول فيها:
يا ساري الليل لا جدب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود
قيلٌ تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء والسِّيْد(1)
__________
(1) السِّيد:الذئب، تقول العرب:سيد الغضا، كما قال طرفة في معلقته المشهورة:
وكرِّي إذا نادى المضاف مُحنباً كسيد الغضا نبَّهته المتوردِ
يقول: إن مما أفتخر به: أني أَكُرُّ وأنهض إذا استجد بي المهموم، وأركب فرساً محنباً _ وهو الذي تقوست رجلاه وهي خصلة محمودة في القوس _ .
وحالي هذه كسيد الغضا _ وهو أخبث أنواع الذئاب _إذا انتبه لورود الماء(م).(1/135)
ومن عظمائهم فنا خسرو عضد الدولة بن بويه فقد ولّي سلطنة فارس وعمره خمسة عشرة سنة، واستولى على العراق والجزيرة، وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام، وكان شهماً حازماً متيقظاً محباً لأهل الفضل، وقصده فحول الشعراء ومدحوه بأحسن المدائح، ومن هؤلاء المتنبي ومما قال فيه:
ومن أعتاض عنك إذا افترفتا ... وكل الناس زور ما خلاكا
ومنهم محمد بن عبد الله السلامي وهو الذي يقول فيه:
وبشرت آمالي بِملْكٍ هو الورى ... ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر
ومن عظماء شباب الملوك في الشام أو مصر، أبو الفتح غازي بن السلطان صلاح الدين المعروف بالملك الظاهر؛ فقد سَلَّم إليه والده مملكة حلب وسِنُّه أربعة عشر سنة، وكان ملكاً حازماً، عالي الهمة، حسن السياسة، كثير الاطلاع على حال الرعية وأخبار الملوك، باسطاً للعدل، مجّلاً للعلماء، مجيزاً للشعراء، ورثاه راجح بن إسماعيل الحلبي بقصيدة بديعة يقول في طالعها:
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه
ثم يقول:
أيا تاركي ألقى العدو مسالماً ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
ومن شباب ملوك مصر خمارويه بن أحمد بن طولون، فقد تولى ملك مصر وهو ابن عشرين سنة، وكان هذا الملك يمثل الثبات ومقارعة الخطوب، فقد أصابه في أوائل ولايته ما يكسر العزم، ولكنه مازال ينهض حتى ثبت لقتال الخارجين عن طاعته، ووصل أصحابه إلى =سر من رأى + بالعراق، وعظم أمره، واستولت الهيبة منه في القلوب.
وإذا نزل بِقَدْره شيء فهو أنه كان ينفق الأموال الطائلة في الملاهي والزينة، كما فعل في تجهيز ابنته =قطر الندى+.
وممن يذكر في هذا القبيل علي بن الحاكم العبيدي، الملقب بالظاهر، فقد تولّى ملك مصر وعمره ست عشرة سنة، وكان على خصال حميدة من نحو السخاء والحلم والتواضع والعدل في الرعية، والنظر في إصلاح البلاد، وكان لا يدَّعي ما كان يدَّعيه والده وجدُّه من المزاعم، وله كتاب يتبرأ فيه من الغلاة فيه وفي آبائه.(1/136)
ومن هؤلاء العظماء المظفّر موسى بن الملك العادل؛ فقد ملكه والده مدينة الرُّها وهو في سن العشرين، واتسع ملكه بعد، وكان سلطاناً واسع الصدر، كريم الأخلاق، ويقول المؤرخون: إنه أحسن إلى الناس إحساناً لم يعهدوه ممن كان قبله؛ فكان محبوباً إلى الناس مؤيداً في الحروب، ومن شعرائه أبو الحسن علي ابن محمد المعروف بابن النبيه، ويعجبني من مديحه له قوله:
قام بالدنيا وبالأخرى معاً ... فهي ضراتٌ به قد رضيت
حسن الظاهر للناس وللـ ... ـه منه حسناتٌ خفيت
ومن عظماء شباب الملوك في تونس أحمد بن محمد بن الأغلب؛ فقد ولي الملك بالقيروان وهو في سن العشرين، وكان حسن السيرة، رفيقاً بالرعية، كثير الصدقات، وكان مولعاً بالعمارة؛ فبنى بأفريقية حصوناً كثيرة بالحجارة، والكلس، وأبواب الحديد.
ومن هؤلاء العظماء باديس بن المنصور، فقد تولّى الملك بالقيروان وعمره إحدى عشرة سنة، وكان ملكاً كبيراً حازم الرأي شديد البأس، وأذكر من مآثره أن الفقيه الزاهد محرز بن خلف بعث إليه بكتاب يعظه فيه، ويطلب رفع مظلمة وقعت على أحد تلاميذه، ومما يقوله في الكتاب: =لا يغرنك توالي زخارف الدنيا عليك، وشاور في أمرك من يتقي الله، وخَفْ من لا يحتاج إلى عون عليك، أنت على رحيل؛ فخذ الزاد +.
ولما وصل الكتاب إلى باديس، أصدر أمراً بتحرير طلبة العلم كافة، ورفع الظلم عنهم جملة.
ومن هؤلاء العظماء المعزّ معد بن منصور العبيدي تولى الملك وهو في الثانية والعشرين من العمر، وثبَّت دعائم دولتهم بالمغرب، ثم أسس الدولة العبيدية بمصر، وكان عاقلاً حازماً أديباً.
ومنهم المعزّ بن باديس؛ فقد تولّى الملك وهو في السنة الثامنة من العمر، وكان ملكاً جليلاً، عالي الهمة، حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة الغراء، واجتمع بحضرته من أفاضل الشعراء ما لم يجتمع إلا بباب الصاحب بن عباد.(1/137)
ويدخل في صف هؤلاء المستنصر بالله محمد بن زكريا؛ فقد تقلّد الملك في تونس وعمره عشرون سنة، فنهض بأعباء الملك، وعلا صيته، وأبقى آثاراً علمية وأدبية وعمرانية أبقت له ذكراً جميلاً، وهو الذي قدم عليه حازم القرطاجني من الأندلس، فأكرم نزله، ومدحه بقصيدته الطائية المعروفة، وقصيدته الرائية التي يقول في نسيبها:
ولا تعجبوا يوماً لكسر جفونها ... فإن إناء الخمر في الشرع يكسر
ويقول في حال الأعداء:
وقد شابه الأعداء جمعاً مؤنثاً ... لذاك غدت في حالة الفتح تكسر
ومن عظماء شباب السلاطين بالمغرب الأقصى إدريس بن إدريس الحسني؛ فقد أخذت له البيعة بالمغرب الأقصى وعمره إحدى عشرة سنة؛ فقد نشأ في كفالة مولى أبيه راشد، فأقرأه القرآن الكريم، وعلمه السنّة، وروَّاه الشعر وأمثالَ العرب، وأطلعه على سير الملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، فلم يصل إلى السنة الحادية عشرة حتى ترشح للأمر، واستحق أن يبايع، وظهر من ذكائه ونبله ما أذهل العامة والخاصة.
صعد المنبر يوم بيعته وخطب، ومما قال في خطبته: =أيها الناس! إنا قد ولّينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الثواب، وللمسيء الوزر، ونحن _والحمد لله_ على قصد جميل، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا؛ فإن ما تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا+.
وكان عاملاً بكتاب الله قائماً بحدوده، وبذلك استقام له الملك وعظم أمره.
ومن هؤلاء العظماء علي بن محمد بن إدريس، أخذت له البيعة بعد وفاة أبيه، وكان يوم بويع في سن العاشرة من العمر، فظهر ذكاؤه ونبله، وسار بسيرة أبيه وجده في العدل، وإقامة الحق، وقمع الأعداء، وضبط البلاد والثغور، ويقول المؤرخون: كانت أيامه خير أيام.
ومن هؤلاء العظماء علي بن يوسف بن تاشفين، بويع وعمره ثلاث وعشرون سنة، وكان حليماً عادلاً وقوراً آخذاً بالحزم؛ فضبط الثغور، وملك من البلاد ما لم يملكه أبوه من قبله.(1/138)
ومن عظماء شباب الملوك بالأندلس عبد الرحمن الناصر، تولّى الملك غير متجاوز الثانية والعشرين من عمره، درس عبد الرحمن القرآن والسنّة، وأجاد النحو والتاريخ، وبرع في فنون الحرب والفروسية، وزهت في عصره العلوم والزراعة والصناعة، وساد الأمن في البلاد، وكان للعلماء في عصره الحرية المطلقة، يواجهونه بالأمر بالمعروف، ويتلقى منهم ذلك بصدر رحب.
ومواقف منذر بن سعيد في نصحه له معروفة في التاريخ، وهو الذي خطب على المنبر في بعض المجالس الحافلة منكراً عليه بالإسراف في تشييد المباني وزخرفتها، وهو الذي خاطبه في أحد المجالس بقوله:
يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل
وكان القضاة في عهده على استقلال لا يخشون معه لومة لائم، وكان القاضي ابن بشير يحكم عليه لخصمه، ويتوعده بالاستقالة إذا لم يتمثل ما حكم به عليه.
ومن هؤلاء العظماء أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج أحد ملوك غرناطة، تولّى الملك وهو في السادسة من العمر، وكان الغالب على أيامه الهدنة والصلاح والخير، وكان وزيره الأديب الكبير أبو الحسن بن الجياب، ثم توزَّر له لسان الدين بن الخطيب.
ومن هؤلاء العظماء ابنه محمد بن يوسف بن إسماعيل، بُويع له بعد وفاة أبيه يوسف وعمره تسع سنين، وكان وزيره لسان الدين بن الخطيب بعد أن توزر لأبيه من قبله، ووصفه ابن الخطيب فقال: مُتَحلٍّ بوقار وسكينة، وسافرٌ عن وسامة يكتنفها جلباب حياء وحشمة، كثير الأناة، ظاهر الشفقة، عطوف مخفوض الجناح، مائل إلى الخير بفضل السجية؛ فأنست العامة بقربه، وسكنت الخاصة إلى طيب نفسه، وحمد الناس فضل عفافه وكلفه بما يعنيه من أمره، وكان _ مع هذه المزايا _ مثلاً في الفروسية، قال بعض مادحيه:
إن ألمَّتْ هيعةٌ طا ... ر إليها غير وان
يصدع الليل بقلبٍ ... ليس بالقلب الجبان(1/139)
وأختم حديثي هذا بحديث ملوك تقلدوا في أوائل شبابهم ولايات كانوا فيها مظهر اليقظة والحزم، وتولوا الملك بعده، فساروا فيه سيرة عبقري زادته التجارب خبرة بطرق السياسة الرشيدة.
ومن هؤلاء الملوك هشام بن عبد الرحمن الداخل _ مؤسس الدولة الأموية بالأندلس _ فقد كان والده عبد الرحمن يوليه في صباه الأعمال، ويرشحه لولاية الملك، ولما توفي عبد الرحمن تولى هشام الخلافة وعمره ثلاثون سنة، وكان يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز ÷.
ويدخل في نظم هؤلاء الملوك عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكان أبوه الحكم يوليه قيادة الجيوش العظيمة في الأندلس وهو ابن خمس عشرة سنة، فيهزم الأعداء، ويعود ظافراً.
وأذكر من هذا القبيل تميم بن المعزّ بن باديس، فوض إليه والده المعزّ ولاية المهدية وهو في سن الثالثة والعشرين، وتولى الملك بعده وهو في سن الثانية والثلاثين، وكان حسن السيرة محمود الآثار، معظماً لأرباب الفضائل، وقصدته الشعراء من الآفاق، وكان هو نفسه معدوداً من طبقات الأدباء، ومن شعره:
فإما الملك في شرف وعزٍّ ... عليَّ التاج في أعلى السرير
وإما الموت بين ظُبا العوالي ... فلست بخالد أبد الدهور
والغرض من حديثنا عن أولئك الشباب الذين تولّوا أموراً جليلة القدر عظيمة الشأن، فقاموا بأعبائها خير قيام _ أن نستنهض همم أبنائنا للأخذ بأسباب قوة الفكر، وسعة الدراية لأول عهد التمييز، ولمواصلة السير في سبيل السيادة بجد وحزم؛ لكي نراهم وهم في ريعان الشباب قد بلغوا بجودة النظر واستقامة السيرة أن كانوا موضع آمال الأمة، يعملون لسلامتها، والاحتفاظ بعزتها.
وواجب على ولي أمر الناشئ أن يشعره بأن بلوغ الفتى المنزلة المحمودة في السيادة وهو في مقتبل العمر _ ليس بالأمر المتعذر أو المتعسر.
وليس من شك في أن هذا الشعور يريه السيادة قريبة التناول، فيشمر عن ساعد الجد، وسرعان ما يبلغ ذروتها.(1/140)
ومن أدرك السيادة في عنفوان شبابه، فإن مات مات سيداً، وإن عاش إلى زمن الكهولة أو الشيخوخة، كانت سيادته أطول عماداً، وأرفع ذكراً، وأطيب ثمراً .
إلى شباب محمد (1) للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
أيها الشباب الناهضون:
تعلم حق اليقين أنه دين الإسلام منبع العزة في الدنيا، ومرقاة السعادة في الأخرى، يدري هذا من درس أصول الدين، واطلع على أسرار أحكامه وآدابه، ولا يزال المسلمون في سلامة وسيادة، حتى حادوا عن سبيله، ونكثوا أيديهم عن عروته الوثقى، وكان عاقبة ذلك أن سقطت أوطانهم في أيدي أعدائهم، وأصبحوا لا يملكون لأنفسهم رأياً ولا نفاذاً.
وكان يهوِّن هذا الخطب أنَّ انحراف المسلمين عن شريعتهم الذي كان سبب ضعفهم _ لم يكن إلاَّ إهمال الواجبات العملية عن غفلة، أو تغلب شهوة، والغفلة تداوى بالتنبيه، والشهوات تقاوم بالموعظة الحسنة.
ولكن أمتنا بعد أن انحدرت بها الأهواء في تلك الحفرة من الذلة أصيبت بعلة أخرى هي أسوء أثراً، وأشأم عاقبة من علتهم الأولى، وهي ابتلاء كثير من أبنائنا بزيغ العقيدة، ومحاكاة المخالفين حتى في الآراء المخالفة لجوهر الدين.
وإذا كان خسران العقيدة _فيما سلف_ قد يبتلى به أشخاص متفرقون، ويبالغون في كتمانه، وإنما يظهر في لحن خطابهم، أو ينقله عنهم بعض من يسرون إليه به _ فإنه في هذا العصر قد تفشى حتى أصبح الملاحدة، والإباحيون، يصرخون في المجالس العامة، أو على صفحات المجلات أو الجرائد بما لا يختلف علماء الإسلام في أنه رِدَّة وخروج على الدين إلى حد بعيد.
وليس من العجب أن يُلْحِد أبناؤنا الذين نشأوا في بيئات لا تعرف من الدين إلا اسمه، ولم يلاقوا إلاَّ النفر الذين تصدوا لمحاربة الدين بجهالة أو بسوء قصد.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء الثاني من المجلد الثالث عشر، والدعوة إلى الإصلاح ص101_103.(1/141)
وإنما العجب أن تجد الإلحاد والإباحية في نفر نشأوا في معاهد إسلامية، ولكنهم يتسترون بتأويل القرآن المجيد، والحديث النبوي الشريف تأويلاً لو سلكناه في تأويل كلام أحدهم لغضب منه، وعدَّه رمياً له بالعيِّ أو العبث بأوضاع اللغة العربية.
إذن فالزائغون عن الرشد في أوطاننا صنفان:
1_ صِنْفٌ نشأوا في بيئات شأنها الطعن في الدين، ولا عمل لها إلاَّ إيراد الشبه مجردة من الحجج التي تدفعها، وتُقِرُّ الحقائق في مواضعها.
2_ وصِنْفٌ نشأوا في معاهد إسلامية، ولكنهم لم يدرسوا الدين دراسة جِدٍّ وتحقيق تجعلهم في حصانة من أنْ تأخذهم الشبه، وتخدعهم زخارف الحياة، ولم يملكوا من خشية الله _تعالى_ ما يمنعهم أنْ يقولوا على الله غير الحق.
وتقويم الصنف الأول من الملاحدة أيسر من تقويم الصنف الثاني؛ إذ الصنف الأول قد يجلس إليك بصفتك داعياً إلى الإصلاح، فيصغي إليك عندما تتصدى لدفع شبهة وإقامة حجة، فإذا بصر بالشبهة ذهبت، وبالحجة أضاءت لم يلبث أن يجيب دعوتك متأسفاً عما سبق له من الغواية، مغتبطاً بما وفقه الله إليه من هداية.
أما الصنف الثاني وهم الذين يلحدون بعد قطع مراحل من التعليم الديني _ ففي دعوتهم من ظلمات الزيغ إلى نور الرشد عُسْرٌ؛ إذ يُخَيِّل إليهم أنهم عرفوا ما يعرفه الدعاة، ولم يجدوا موصلا ًإلى حق، وهذا التخيل يصدهم عن الإصغاء إلى الدعوة، وإذا أصغوا إليها فإنما يقصدون في غالب أمرهم استكشاف موضع ضعف يهاجمونها منه.
وهذا الصنف أشد ضرراً على الأمة من الصنف الأول؛ إذ الصنف الأول قد يكون إلحاده مقصوراً عليه، وإن قام بدعاية إلى الإلحاد فإنَّ الناس لا يستمعون إليه؛ إذ هو محمول على الجهل بحقائق الدين وأصوله.(1/142)
أمَّا ذلك الذي يخرج لهم في زي رجال الدين، أو يذكر أنه درس الدين حتى انتهى إلى غاية بعيدة _ فكثيراً ما يغرّ الغافلين من الشباب أو العامة؛ إذ يسبق إلى أذهانهم أنَّه يتكلم على بينة، ولا ينتبهون لما يحمل في صدره من زيغ، ولا لما يضمر في نفسه من أغراض دنيئة.
أقول هذا أيها الشباب الناهضون؛ لأذكركم بأنكم ستلاقون شُبَّاناً سرى إليهم وباء الإلحاد والإباحية من اتصالهم بنفر أعرف بطرق المكر، أو أبرع في صناعة البيان، فخذوهم بالحكمة والرفق، وسعة الصدر عند المناقشة؛ فإنكم تدعون إلى الحق، وللحق ضياء ينكشف إزاءه كل باطل، وإن خرج في ثوب مستعار من الحق.
وأنكم ستلاقون فئة ممن يدّعون أنهم درسوا الدين وهم زائغون عن سبيله، وقد يجنحون بكم إلى طريقة التأويل الفاسد، فازدروا أقوالهم، وارموا في وجوههم بالحجة، ولا تهابوهم ولو لبسوا العمائم؛ فإنها قد تنصب على رؤوس لا تفكر إلاَّ في وسائل المكر بالدين الحنيف.
وهذه الخيانة تكسبهم ضعفاً، وتجعل مسالك القول أضيق عليهم من سَمِّ الخياط؛ فلا يقفون لجدالكم إلا بمقدار ما يعرفون قوة إيمانكم وثبات أقدامكم.
وإنكم ستلاقون فئة بَاضَ اليأَس من الإصلاح في قلوبهم وفَرَّخ، ويصارحونكم بأن الدعوة إلى الحق في هذا العصر من قبيل النقش في الماء، أو الضرب في حديد بارد، فإنْ تعذر عليكم اقتلاع هذا اليأس من نفوسهم فاعلموا أنَّ خلف يأسهم جبناً، ولا خير لكم في محادثة الجبناء.
وإنكم ستمرون بأشخاص مَردوا على التهكم والاستهزاء، فيهمسون في الآذان، ويتغامزون بالأعين، وكذلك كان أمثالهم يستهزؤون بالدعاة إلى الخير، فَيجِدُون من الدعاة إخلاصاً وثباتاً يذهب كل استهزاء من حولهما لاغية، فدعوا المتهكمين والمستهزئين في هزلهم، وامضوا في سبيل دعوتكم إلى الحق والفضيلة، فستجنون بتأييد الله _تعالى_ ثمرتها، وتحمدون عاقبتها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/143)
كيف يتقي الشاب أخطار الشباب(1) للأستاذ علي سيد منصور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيا أيها السادة، لما كانت مرحلة الشباب هي المرحلة الرهيبة في حياة الإنسان حيث تحفُّه أثناء قَطْعِها الأخطارُ، وتعترضه عقبات الأهواء، وتتفتح أمامه مهاوي الفساد، وتهجم عليه جيوشُ الشهوات، وكان قاطعُها في حاجة ماسة إلى سلاح قوي يتَذرَّع به لدفع غائلة أهوالها، ومرشدٍ يرشده لأفضل السبل وأبعدها عن أخطارها؛ حتى يتسنى له أن يسير إلى مراده في أمان ويبلغ غايته بسلام، ولما كنت أنا أحد المجتازين تلك المرحلة، الخبيرين بأحوالها_ أحببت أن أتحدث إليكم عما وصل إلى علمي من شؤونها، باذلاً قصارى وسعي في تشخيص ما وقعت عليه من أدوائها؛ كي تضموا ما أذكره لكم عنها إلى ما لديكم من معلومات تتعلق بها؛ فيتكون لديكم العلم الكافي للتخلص من آفاتها.
وقبل التعرض لذكر أخطارها ينبغي أن نذكر مقدمة نشرح فيها حقيقة الشباب ونبين مقدار أهميته في حياة الإنسان.
شرح حقيقته: هو نَضَارةُ الجسدِ، وقوته، وقدرته على مزاولة أعماله بخفة ونشاط، وهو اللمحة التي يكون فيها القلب ميداناً للأفكار المختلفة، والآمال المتضاربة، واللحظة التي إذا وُفِّق الشخص فيها لضبط نفسه، وإيقافها عند حدود الواجب _ عاش بقية حياته في سعادة وهناء، وإذا أطلق لنفسه العنان في متابعة الهوى قضى على عوامل سعادته، وعاش معيشة التعساء.
وهو الريح العاصفة التي تعصف بالألباب؛ فتميل بها عن جادة الصواب إن لم يتداركها لطف الكريم الوهاب، والتيارُ الكهربائي الذي يسحر العقولَ؛ فيجعلها تبصر الأشياء مصبوغة بغير صبغة الحقيقة، وتطيش في الآراء والأحكام.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء السادس، المجلد الرابع ص313، ذو القعدة 1350هـ.(1/144)
أما بيان أهميته: فقد أجدني في غنى عن ذلك؛ إذ كل ما نشاهده حولنا من المظاهر والآثار كالمباني الشاهقة والصروح العالية والمصنوعات المدهشة وقوة الدول، وانتصارها، وعزها وهيبتها _ كل هذا متوقف على الشباب وإن يكن لبعض الشيوخ أثر في ذلك فقدرته على إبراز هذا الأثر وليدة جِدِّه وعمله في عهد الشباب.
فالشباب هو الفرصة التي ينتهزها العاقل لبناء صرح مجده وسعادته فيها؛ فهو دعامة العز، وأساس العلى وسلم الرقي والفخار؛ فمن لم يُشَمِّر فيه عن ساعد الجد، ويستغله للعلم النافع لم يستطع بعده الحصولَ على شيء من أسباب الفلاح، وقضى ما بقي من حياته على أسوأ حال، ولقد أدرك ذلك الشاعر الحكيم فقال:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وإذا قد علمنا أنه على هذا الجانب العظيم من الأهمية ينبغي أن نذكر أخطاره بعد أن نبين السبب الذي جعله مثاراً لهذه الأخطار دون سواه، ثم نتبع كل خطر ببيان كيفية الوقاية منه.
أما السبب في ذلك هو توفر الدواعي المثيرة لغرائز الشرور التي جبل عليها الإنسان فيه؛ ولهذا كان أكثر ما يظهر من الشبان الأفعال السيئة، ومن أجل ذلك كانت الوسيلة الوحيدة التي يتوسل بها العاملون إلى إصلاح أخلاق الشبان هي إضعاف دواعي غرائز الشر، وتقوية غرائز الخير فيهم.
هذا هو السبب، ولنتكلم الآن عن المسببات وهي الأخطار مبتدئين بالأهم فالأهم.
الخطر الأول: يولد الشاب، ويترعرع، ويستمر في قطع أطوار الحياة ومراحلها؛ فأول خطر يستهدف له، ويحس به هو خطر الشهوة الجنسية، فيحتل هذا الخطر قَلْبَه، ويملك عليه أعصابه ولبَّه، وتتضاءل أمامه كل وسائل المقاومة، فيصبح من أجله في اضطراب شديد، وقلق عظيم؛ فإذا لم يُحَطْ بسياج يقيه عاقبته، ويحول بينه وبين أهواله أعمل فيه معاول الهدم، وانتزع من قلبه بذور الخير، وصيَّره مجرداً من عوامل الفلاح، وتَعَسّر إخراج أثر هذا الخطر من قلبه.(1/145)
ولو فرض إمكانُ إخراجه فلا يخرج حتى يترك قلبه خرقة بالية لا تصلح لشيء في الحياة، وأرضاً سبخة لا تنبت بها أشجار السعادة؛ فمن المُشَاهد أن من لم يتحصن منه بالوسائل المشروعة، وسلك سبل الفسوق _ يصاب بالأمراض الفتاكة التي تضعفه عن القيام بواجباته، ويتجرد من الغيرة والشهامة والعزة وكل الصفات العالية التي لا يكون الرجل كاملاً إلا بها، ويبدد أمواله فيما لا ينفع، فيغدو فقيراً معدماً، ولا يرجى له بحال أن يسلك سبل الهداية؛ فمن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه.
وإذا لم يسلك هذه السبل فلا بد من تأثره بالطوارئ الناجمة عن الاختلاط كالحب والغرام مما يعبث بالقلب، ويفعمه بالأماني الباطلة؛ فينصرف عن واجباته، وتضيع أوقاته فيما لا يجدي، وإن نجا من ذلك فلا ينجو من الذكريات الأثيمة، والأفكار الخبيثة التي تلعب بعقله، وتصرفه عن سبل السعادة.
أما السياج الذي ينبغي إحاطة الشاب به؛ لينجو من ذلك الخطر فهو يتركب من عدة أمور:
أولاً: على أولياء أمور الشبان أن يزودوهم في صغرهم بالأخلاق العالية، ويشوهوا لهم الرذيلة، ويشرحوا لهم آثارها الوخيمة في الدنيا والآخرة؛ فإنهم إذا علموهم ذلك في ذلك العهد الذي تكون فيه نفوسهم على استعداد عظيم لقبوله وتأثيره فيها، ثم سوَّلت لهم أنفسهم الفاحشة _ ردعتهم ضمائرهم عن ذلك، وخافوا تلك العواقب السيئة.
وعليهم أن يزوجوهم عند بلوغهم أشدَّهم، فيضعف في أنفسهم الداعي إلى الفساد.
وليعلم أولئك الأولياء أن هذين الأمرين من حقوق الأبناء عليهم التي أمر بها الشارع الشريف.(1/146)
ثانياً: على الشاب أن يتزوج عند بلوغه الحلم إذا كان في وسعه ذلك، ولا يسوِّف طمعاً في المآرب البعيدة من أنه سيتزوج في المستقبل فتاةً راقيةً ذات حسب ونسب وجمال؛ فإن ما يجنيه من وراء ذلك التسويف المنافي للدين على فرض حصوله وإن كان ذلك نادراً لا يقاس بجانب ما يعتري جسمه ودينه من الأمراض والعلل في تلك المدة، وإذا لم يستطع الزواج فليكثر من الصوم، وليتجنب ما استطاع أكلَ المواد المثيرة للشهوة؛ فإن ذلك يساعده على ضبط نفسه.
وقد أمرنا النبي "بذلك حيث قال: =يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء+.
ثالثاً: على الشاب أن يتجنب النظر إلى الأجنبيات؛ فالنظر بريد الزنا، وعدمه راحة للقلب، وفيه سعادة عظيمة كما قال _ تعالى _: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ].
ولقد أجاد بعض الشعراء في وصف أثر النظر حيث قال:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وعليه ألا يقرأ أحاديث الخلاعة والمجون، ولا الجرائد والمجلات التي تنشر صور السيدات على أشكال مثيرة للشهوة، أو تتعرض لِذِكْرِ الغرام؛ فإن ذلك يحرك بالقلب الهوى، ويقدح زناد العشق، ولا يذهب إلى دور الصور المتحركة والتمثيل الخليعة؛ فإنها تسوقه إلى هاوية الفجور، ولا يسكن بالأوساط التي لا احتشام فيها؛ فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
رابعاً: يجب على الشاب الذي يودُّ أن يعيش سعيداً أن لا يصحب الأشرار؛ فإن صحبتهم تقود إلى ملابسة الرذيلة، وتصرف المرء عن طريق الخير؛ وذلك لأنهم يحبذون شرورهم لمن صاحبهم، ويشجعونه على ارتكابها.(1/147)
بل إن طَبْعَهُ يسرق من طباعهم ولو لم يقصد ذلك؛ فكم شاهدنا من شبان كانوا على جانب عظيم من الهداية، فلما اصطحبوا بالأشرار أصبحوا مجردين من كل خير.
وهذا مصداق قوله ": =إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة+.
خامساً: يجب على الشاب إذا هاجت، وسولت له نفسه الفاحشة أن يبادر في الحال بالاشتغال بأمر آخر يكون صارفاً له عنها؛ وذلك كأن يقوم من مكانه الذي هو فيه، ويذهب للرياضة، أو لزيارة صديق صالح، وكأن يقرأ في كتاب، أو يتوضأ ويصلي؛ فإن اشتغاله بمثل هذه الأمور مما يكبح جماح النفس.
وخير الأمور التي تصرفه عنها هو مراقبته لله _ تعالى _ فإنه إذا أشعر نفسه أنه في حضرة الله _ تعالى _ وأنه يراه حيثما كان، وعلم أنه سيحاسبه على ذلك، ويجازيه عليه في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا بإذهاب بهاء الوجه، وبركةِ الرزق والعمر، وتسليطِ الفساق على عرضه، وابتلائه بالمصائب العديدة، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار الحامية.
إنه إذا أشعر نفسه ذلك كله وقت هياج الشهوة فلا بد من انطفاء لهيبها، ورجوع النفس إلى صوابها.
وهذه المراقبة هي معنى الإحسان الذي بينه النبي " بقوله: =أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك+.
سادساً: على أولياء أمور النساء ألا يسمحوا لهن بالخروج في الطرقات متبرجات متزينات؛ فإنهم إذا سمحوا لهن بذلك كانوا قاضين على أخلاق أبنائهم، وصارفين لهم عن واجباتهم الدينية والأخروية.(1/148)
وعلى الحكومة أن تسن القوانين لمنع هذا التبهرج الشنيع؛ فإنها إذا ظلت تاركة باب الحرية للنساء في التبرج مفتوحاً على مصراعيه كانت جانيةً بذلك على أخلاق رجال المستقبل، وسائقة لهم إلى بؤر الهلاك، ومانعة لهم من النهوض بأمتهم إلى العلى؛ وكيف يرجى للشبان النهوض بأمتهم وقد أضحت قلوبهم غرضاً تنتابه سهام النساء من كل صوب حتى مزقتها، وملأتها بالأفكار المقلقة، والأماني الباطلة؛ فأصبحت خراباً لا يوجد بها أثر لِلْفِكَر السامية والأماني المفيدة؟!.
وعلى الشاب المسكين في هذا العصر الذي أصبحت النساء فيه لا تقع العين إلا عليهن في كل مكان أن يجاهد نفسه، ويصرف نظره عنهن، وإن كان ذلك شاقَّاً عليه؛ فهو سهل بجانب الثمرة التي يجنيها من وراء ذلك، وليعلم بأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، وهو خير له من التقلب على جمر وخزات النفس، والاكتواء بمياسم الذكريات الأليمة.
هذه هي أهم الوسائل التي يتقي بها الشاب ذلك الخطر الداهم.
قد يقول قائل: إن تقيد الشاب بهذه الوسائل شاقٌّ جدَّاً، ومن المتعسر فعل واحدة منها عند ثوران النفس، فأقول له: نعم إن التقيد بها شاقٌّ، ولكن عند بدء استعمالها فقط، فإذا كان لدى الشخص إرادةٌ قويةٌ وعزيمةٌ صادقةٌ، ووطَّنَ نفسه على استعمال هذه الوسائل مدة من الزمن؛ فإنها تصبح عادة من عاداته لا يجد فيها أدنى مشقة.
وهذا أمر مقرر في علم التربية وقد ضربوا لذلك مثلاً بمن يريد أن يتعلم الكتابة، ويحسِّن خطه فإنه يجد ذلك في بدء الأمر شاقَّاً حتى إذا زاوله كثيراً صارت الكتابة وحسن الخط عادة لديه لا يجد فيها أدنى صعوبة.
إلى الشباب(1) للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 4/267_271.(1/149)
أوجّه طلائع الحديث في هذه الليلة إلى الشباب الذين هم الساق الجديد في بناء الأمة، والدم المجدِّد لحياتها، والامتداد الطبيعي لتاريخها، وهم الحلقات المحققة لمعنى الخلود الذي ينشده كل حيٍّ عاقل ويتمناه حتى إذا فاته في نفسه التمسه في نسله، وقربت له الأماني معنىً من معنىً، فتعلّل بالخيال عن الحقيقة، وتسلّى بشبه الشيء عن الشيء، ودأب جاهداً في تدنيته وتوفير الراحة والهناء والسعادة له، ويعلِّل نفسه بأنه سيرث اسمه وماله وهو لا يعلم أنه سيموت اسمه و يُبدَّد ماله، ومازالت التَعِلاَّت صارفة عن اليأس منذ طبع الله الطباع.
وأقول: الشباب، ولستُ أعني بهذا اللفظ معناه المصدري في عرف اللغة، ولا ذلك الطور الثالث من عمر هذا الصنف البشري في مقاييس الأعمار.
وإنما أعني بهذا اللفظ طائفة من الأناسي انتهوا في الحياة إلى ذلك الطور الثالث بعد الطفولة واليفاعة، فَجَمَعَتْهُم اللغة على شبيبة وشبّان، وَوَصَفَتْهُم بالمعنى في نحو لطيف من أنحائها فقالت: شباب وشبيبة، كما وصف القرآن محمداً بأنه رحمة، وكما وصفت الخنساء الظبية بأنها إقبال وإدبار، ثم جمعتهم سنَّة التكامل على القوة والفتوة، وجَمَعهم اتحاد السنِّ أو تقاربُه على التعاطف والأخوة، وجمعهم الدين على التكاليف والواجبات، ووقفت بهم الحياة على جددها(1)، تعرض عليهم السعادةَ في صور ملتبسة بالشقاءِ، والشقاءَ في صورٍ ملتبسة بالسعادة، واكتنفتهم الملائكة والشياطين، أولئك يدعونهم إلى الجنة محفوفةً بالمكاره، مسوقة بالصبر والألم، وهؤلاء يدعونهم إلى النار ملفوفة بالشهوات، مسوقةً بالإغراء والتزويق والتزيين .
__________
(1) جمع جادة.(1/150)
ووقفنا _ نحن معاشر الآباء _ من ورائهم، نتمنَّى لهم، ونتجنَّى عليهم، ونقترف في حقهم، ولا نعترف بظلمنا إياهم، ونُرخي في تربيتهم أو نشدِّد، ولكننا لا نقارب ولا نسدّد، ونعطيهم من أفعالنا ما نمنعهم منه بأقوالنا: ننهاهم عن الكذب ونكذب أمامهم الكذب الحريت، وننهاهم عن الرذائل جملة وتفصيلاً، ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه، فيأخذون الرذيلة عنا بالقدوة والتأسي، ويحتقروننا؛ لأننا قبحنا لهم الكذب بالقول، ثم أشهدناهم بالعمل على أننا كاذبون.
إلى هؤلاء الشباب الوارثين لحسناتنا وسيئاتنا، المهيئين لخيرنا وشرنا، الحاملين لخصائصنا وألواننا إلى مَنْ بعدهم من أبنائهم، المتبرمين هنا بحالة هم مقدمون عليها كرهاً، فقد كنا مثلهم شباباً وسيصبحون مثلنا شيوخاً، وسيلقون من أبناؤهم ما لقينا نحن منهم، وسيلقى منهم أبنائهم ما لقوه هم منا؛ جزاءً وفاقاً وقصاصاً عدلاً، وسنَّة أجراها الواحد القهار، وجرى بها الفَلَك الدوار .
إلى هذا الجيل الذي عودتنا الحياة المدبرة أن نشفق عليه، وعودته الحياة المقبِلة أن يشفق منا _ أتوجه، وإياه أعني، وإليه أسوق الحديث، داعياً له بما دعا له شوقي في قوله:
إن أسأنا لَكَمُ أو لم نُسئ
... نحن هلكى فَلكُمْ طول البقاء
متمنياً له ما تمنَّاه له شوقي في قوله:
هل يمدُّ الله لي العيشَ عَسَى
... أن أراكم في الفريق السعداء(1/151)
لا أخالف شوقي إلا في التخصص فقد خاطب بهذا شباب النيل، وأنا أهتف بشباب العرب، وبشباب الإسلام، أهتِفُ بشباب العرب أن يراعوا حق العروبة وأن يكونوا أوفياء لها، وأن يعلموا أنها ليست جنسية تميز، ولا نسبة تعرف، وأنها ليست جلدة تسمُّر أو تحمُّر، ولا بلدة تعمر وتقفر، وأنها ليست جزيرة يحيط بها البحر، ولا قلادة تحيط بالنحر، وأنها ليست متاعاً مما يرث الوارثون، ولا أرضاً مما يحرث الحارثون، وإنما هي خلال وخصال، وهمم تتشقَّقُ عن فعال، وإنما هي بناء مآثر، وتشييد أمجاد ومحامد، وإنما هي مساعٍ من الكرام إلى المكارم، ودواعٍ من العظماء إلى العظائم، وإنما هي عزائمُ، لا تعرف الهزائم، وإنما هي عزَّة وكرامة، وشدة في الحفاظ وصرامة، وإنما هي طموح وجموح: طموح إلى منازل العزِّ، وجموح عن مواطن الذلِّ، وإنما هي رجولة وبطولة، وأصالة وفحولة، وإنما هي طبع أصيل ورأي جليل، ولسان بالبيان بَلِيْل، وعقل على الحكمة دليل، فمجموع هؤلاء هو العروبة، وجامع هؤلاء هو العربي، وما عداه فهو تعلل بباطل، وتعلق بضلال، وتَخَلُّق يكذبه الخلق، وخيانة للعروبة في اسمها وفي وسمها، وعقوق للأجداد، كأنما عناهم المعري بقوله:
جَمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة و هُمْ
... بَعْد المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ(1/152)
ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أن الإسلام ليس لفظاً تلوكه الألسنة المنفصلة عن القلوب، وتتناوله قوانين التعريف بموازينها الحرفية، وتقلِّبه اشتقاقات اللغة على معانيها الوضعية، فينزل به إلى المعاني الوضعية من السلم إلى الاستسلام، إلاَّ أن في الإسلام الشرعي نوعاً من معنى الإسلام اللغوي، ولكنه أرفع تلك المعاني وأعلاها، هو معنى تتقطع دونه الأفهام والأوهام، معنى لو طاف طائفهُ بعقول العرب أهل اللغة قبل الإسلام لرفع هممهم عن عبادة الشجر والحجر، ولَسَما بهم حينما بُعثَ محمد " عن الجدل بالباطل ليدحضوا به الحق: هو إسلام الوجه لله عنواناً لإسلام القوى الباطنة له، هو المعنى الذي خالطت بشاشته قلب نبي التوحيد إبراهيم فقال: أسلمتُ وجهي، وتذوقته بلقيس حين هداها الله فقالت: وأسلمت.
ألاَ وإن في الاستسلام نوعاً من المعاني لم يتخيله وضع ولا عرف، ولم يتداوله نقل ولا استعمال حتى جاء محمد بالهدى ودين الحق، ونقل اللغة من طور إلى طور، هو استسلام الجوارح _ وسلطانها القلب _ لله ولعظمته وقدرته وعلمه حتى توحِّده وحده، وتعبده وحده، وتدعوه في النائبات وحده، وتنيب إليه وحده، وتذعن إلى سلطانه وحده، وتخشاه وحده، فتستقل عن الأغيار بقدر ذلك الاستسلام إليه، وتتحرر بقدر العبودية له، وتتوحد قواها بقدر إفراده بالألوهية، وتعتز بقدر التذلل لعظموته، وتنجح في لحياة بقدر اتِّباعها لسننه، وتصفو من الكُدُرات الحيوانية بقدر اتِّصالها به، وتتزكى سرائرها بقدر إيمانها به، وتبعد عن الشرور والآثام بقدر قربها منه، ثم تسود الكائنات بأمره، وتُخْضعُ الكون لسلطانها بسلطانه، وتكشف أسرار الوجود بصدق التأمل في آياته، والتفكر في بدائع ملكوته.(1/153)
هذه بعض معاني هذا الدين العظيم دين الله السماوي الذي بلّغه محمد " وفسره بأقواله، وشرحه بأفعاله، ووسعته لغة العرب، وحمله إلينا الأمناء الهداة، وعصمه القرآن آية الله الكبرى ومعجزة الدهر الخالدة وكتاب الكون الأبدي، وكنز الحكمة المعروض على العقول والأفكار، وعلى الأسماع والأنظار؛ لتأخذ منه كل جارحة حظها من الغذاء.
أيها الشباب: شاع بين الناس مبدأ فطري توارد عليه المُحْدَثون والقدماء، ونصره الحس، وهو أن الكبير قريب من الموت يغذّ إليه السير مكرهاً كمختار وعجلان كمتريث، ومن ثم فهو قريب من الله، والقرب من الله مدعاة عند العاقل المتأله إلى الاستعداد للقائه، والتزود للدار الآخرة بأهبها وليوم الفاقة العظمى بالأعمال الصالحة، وقد قال شاعر حكيم يصوّر هذا القرب:
وإن امرءًا قد سار خمسين حجَّة
... إلى منهل من وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
تواضعوا على هذا وأكثروا فيه القول، وأداروا عليه النصائح والمواعظ للجماعات المتدينة، يُزْجُونها للشيوخ المسرعين إلى الموت، الذين طووا المراحل ودنوا من الساحل _ حتى أوهموا الشبان أن الشباب عصمة لهم من الموت، وأنتج لهم القياس الفاسد أنهم بعيدون عن الله، ولا يبعد في نظر المتوسم في غرائب النفوس أن يكون تخصيص الشيوخ الهرمين بتلك المواعظ بعض السبب في اغترار الشبان وانهماكهم في الشهوات واسترسالهم مع النزوات، وبعض السبب في إبعادهم عن الله مضافاً إلى جنون الشباب، وسلطان الهوى، وتنبه الغرائز الحيوانية.
وأنا أرى أن الشبان أحق الناس بذلك الوعظ وبالتوجيه إلى الله، والتقريب منه، وبالتعهد المنظم، والحراسة اليقظة حتى تكون أقوى الملكات التي تتربى فيهم ملكة الخوف من الله، في وقت قابلية الملكات للثبوت والاستقرار في النفوس، وفي وقت تنازع الخير والشر للنفوس الجديدة.(1/154)
وإنها لكبيرة أن ينشأ الشاب على الخير والاتصال بالله من الصغر، ولكن جزاءها عند الله أكبر؛ لما يصحبها من مغالبة للهوى في لجاجه وطغيانه، ومجاهدة ٍ للغريزة في عنفوانها وسلطانها.
ولهذا السر عدَّ " الشابَّ الذي ينشأ في طاعة الله أحدَ السبعةِ الذين يظللِّهم الله بظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله، وعدَّ الشيخَ الزانيَ أحدَ الثلاثة الذين يلعنهم الله واللاعنون من عباده؛ لأن المعصية من مثله خالصة لوجه الشيطان؛ لم تصحبها داعية، ولم يخففها عذر، ولم تسبقها مغالبة ولا جهاد.
أيها الشباب: ساء مثلا ً مَنْ أوهمكم أن بينكم وبين الموت فسحةً وإمهالاً، لقد علمتم أن الموت لا يخاف الصغير، ولا يعاف الكبير.
وأسوء منه نظراً مَنْ تَوَهَّم أنكم لذلك أبعد عن الله من حيث المعاد؛ فإنكم أقرب إلى الله من حيث المبدأ، وأن أثر يد الله فيكم لأظهر، وأن المسحة الإلهية على شبابكم لأوضح، وإن أغصانكم الغضة المورقة لمطلولة بنداء السماء، وقد وخزتها خضرته من كل جانب، وإن نفحات الله لتشم من أعطافكم وشمائلكم؛ فلئن كنا قريباً من لقاء الله بالموت فلأنتم أقرب إليه بالحياة، ولئن صحبكم الاتصال به في جميع المراحل فيا بُشراكم، ولئن كنا نقبل عليه كارهين مُتَسَخِّطين على الموت فأنتم مقبلون من عنده فرحين بالحياة مستبشرين؛ فَصِلوا حبلكم بحبله واحفظوا عهده، وحذارِ أن تقطعكم عنه القواطع.
أيها الشباب: إن الشباب نسب بينكم ورحم وجامعة، ولا مؤثِّر في الشباب إلا الشباب؛ فليكن بعضكم لبعض إماماً، وليعلِّم المهتدون الضُّلالَ.
دينكم _ أيها الشباب _ لا يفتننكم عنه ناعق بإلحاد، ولا ناعٍ بتنقص.
وربّكم _ أيها الشباب _ لا يقطعنكم عنه خنَّاس من الجِّنة والناس.(1/155)
وكتاب ربّكم _ أيها الشباب _ هو البرهان والنور، وهو الفَلَج والظهور، وهو الحجة البالغة، والآية الدامغة؛ فلا يزهدنكم فيه زنديق يؤول، وجاهل يعطل، ومستشرق خبيث الدخلة، يتخذه عضين؛ ليفتن الغافلين، ويلبِّس على المستضعفين.
إن دينكم شَوَّهَتْه الأضاليل، وإن سيرة نبيكم غمرتها الأباطيل، وإن كتابكم ضيعته التآويل؛ فهل لكم يا شباب الإسلام أن تمحوا بأيديكم الطاهرة الزيف والزيغ عنها، وتكتبوه في نفوس الناس جديداً كما نزل، وكما فهمه أصحاب رسول الله عن رسول الله؟.
إنكم قد اهتديتم إلى سواء الصراط؛ فاهدوا إلى سواء الصراط، إنكم لو عبدتم الله الليل والنهار لكان خيراً من ذلك كله عند الله وأقرب زلفى إليه أن تجاهدوا في سبيله بهداية خلقه إليه.
إن تلك الفئة القليلة من أصحاب محمد " ما فتحوا الكون بقوة العَدد والعُدد، ولكن بقوة الروح؛ فانفخوا في هذه الأرواح الضعيفة التي أضعفها الضلال عن طريق الحق تنقلبْ ناراً متأجّجة.
حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للإسلام تذودون عن حياضه، وتوردون في رياضه، وللغة العرب تصلون أسبابها، وتردون عليها نضرتها وشبابها، ولمواطن الإسلام تصونون عرضها، وتردون قرضها، وتحفظون سماءها وأرضها، والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
سابعاً: مقالات في العبادات والعادات
33_ يوم عاشوراء وعادات الناس: للشيخ علي محفوظ
34_ الصيام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
35_ الحج المبرور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
36_ عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد: للعلامة محب الدين الخطيب
يوم عاشوراء وعادات الناس(1) للشيخ علي محفوظ
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثامن، المجلد الثاني ص443، محرم 1349هـ.(1/156)
إن لله _ تعالى _ نفحاتٍ يتعرض لها الموفقون من عباده ويغفل عنها المخذولون، ومن رحمته أَنِ اختص من الأيام والليالي والأشهر ما شاء، وتسمى المواسم، ثم أرشد عباده إليها طالباً منهم أن يَجِدِّوا في طاعته عسى أن يمسهم شيءٌ من رحمته وإحسانه؛ فالمواسم هي الأوقات التي رسمها الشارع؛ لطلب القرب منه فيها، والقيام بشكره على نعمه.
والمواسم معالمُ الخيرات، ومظانُّ التجارات التي بالغفلة عنها يفوت الربح العظيم؛ فإن البضائع لا تروج إلا في المواسم، والله _ تعالى _ إذا أحب عبداً شرح صدره للهداية، واستعمله في هذه الأوقات الفاضلة بأفضل الأعمال؛ ليثيبه أفضل الثواب ويجزيه أحسن الجزاء على ما قدم من خير العمل [وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً].
ولكن الشيطان _ لعنه الله _ قد آلى على نفسه أن يصد الناس عن سبل الخير، ويقعد لهم بكل صراط مستقيم؛ ليحول بينهم وبين إحسان الله ورحمته، ويقذف بهم في مهاوي الشقاء والخسران؛ فزين لهم في هذه المواسم أموراً بعيدة عن الهدى والرشد، ورسم لهم فيها من ضروب الهوى ما استمال به قلوبهم، ووضع لهم مكان كل سنة بدعة حتى تعرضوا لمقت الله، وغضبه بدل رضوانه وإحسانه.
الدين واضح، والحلال بيِّن، والحرام بيِّن، والسنة جليَّة نيِّرة، والبدعة خفيَّة مظلمة؛ فلا تكون السنة يوماً بدعة، ولا تكون البدعة يوماً سنة إلا إذا عميت البصائر، وانصرفت النفوس عن هدي رسول الله " وسار كلٌّ وراء شهوته وهواه، [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ].
فإن السير وراء الهوى يعمي باصرة القلب حتى لا تعرف للخير سبيلاً.(1/157)
وللإيمان الصحيح نورٌ يسطع في العقول، فيهديها في ظلمات الحيرة، ويضيء أمامها السبيل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، ويسهِّل عليها أن تتجنب كل أذىً يتعثر فيه السالك.
والإيمان الصحيح لا يبيح لصاحبه أن يعمل عملاً قبل أن يتبصر فيه، ويعلم أنه نافع له في دينه ودنياه، و=من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه+.
ولا يسمح له أن يترك أمراً حتى يشهد عنده البرهان أو العيان بأنه ليس مما يجب عليه أن يأتيه بحكم إيمانه.
الإيمان الصحيح يجعل من نفس صاحبه رقيباً عليها في كل خطرة تمر بباله، وكل نظرة تقع منه على ما بين يديه من آيات الله في خلقه.
ماذا يقع في يوم عاشوراء؟
يقع في هذا اليوم كثير من البدع، منها ما لا أصل له في الدين القويم، ومنها ما ينبني على أحاديث موضوعة أو ضعيفة كاتساع الناس في اتخاذ الأطعمة الخاصة بهذا اليوم، واعتبارهم له عيداً وموسماً من مواسم المسلمين.
وهذا من تلبيس الشيطان على العامة _ فإنه قد ثبت أن هذا اليوم تعده اليهود عيداً وكانت تصومه كما في مسلم: =كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم+ أي لباسهم الحسن الجميل.
فأمرنا الشارع الحكيم بمخالفتهم بصوم يوم قبله أو بعده، قال الإمام الشافعي× أخبرنا سفيان أنه سمع عبدالله بن أبي زيد يقول سمعت ابن عباس يقول: =صوموا التاسع والعاشر، ولا تشبهوا باليهود+.
وفي رواية له عنه: =صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً+.
ولم يشرع فيه توسعة في مطعم، ولا غيره؛ لهذه المخالفة.
وما ورد في صلاة ليلة عاشوراء ويومها وفي فضل الكحل فيه لم يصح عن الرسول "، ومن ذلك حديث عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ رفعه: =من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً+ وهو حديث موضوع وضعه قتلة الحسين ÷.
قال الإمام أحمد ×: =والاكتحال يوم عاشوراء لم يرد فيه عن رسول الله"فيه أثر وهو بدعة+.(1/158)
فلقد أحدث الشيطان بسبب قتل الحسين ÷ بدعتين:
الأولى: الحزن، والنوح، واللطم، والصراخ، والبكاء، والعطش، وإنشاد المراثي، وما إلى ذلك من سبِّ السلف، ولعنهم، وإدخال البريء مع المذنب، وقراءة أخبار مهيجة للعواطف، مثيرة للفتن كثير منها كذب.
وكان قصدُ مَنْ سنَّ هذه السنِّة السيئة في ذلك اليوم فتحَ باب الفتنة، والتفريق بين الأمة؛ فإن هذا ليس مستحبَّاً، ولا جائزاً باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أكبر المحرمات.
الثانية: بدعة السرور والفرح واعتبار هذا اليوم عيداً يلبسون فيه ثياب الزينة، وذلك أنه كان بالكوفة، وقوم من الشيعة ينتصرون للحسين، ويغلون في حبه رأسهم المختار بن عبيد الكذاب، وقومٌ من الناصبة يبغضون عليَّاً وأولاده ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي _ عليه الصلاة والسلام _ أنه قال: =سيكون في ثقيف كذاب ومبير+.
فكان ذلك الشيعي هو الكذاب، وهذا الناصبي هو المبير؛ فأحدث أولئك الحزن، وهؤلاء السرور، ورووا أن من وسَّع على عياله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه سائر سنته.
وقد سئل الإمام أحمد × عن هذا الحديث فقال: =لا أصل له وليس له سند إلا ما رواه ابن عيينة عن ابن المنتشر وهو كوفيٌّ سمعه ورواه عمن لا يعرف+.
ورووا أنه من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام؛ فصار قوم يستحبون في هذا اليوم الاكتحال والاغتسال والتوسعة على الأهل، وهذه بدعة أصلها من خصوم الحسين، كما أن بدعة الحزن من أحبابه.
والكل باطل، وبدعة وضلالة؛ ولذا قال العز بن العز الحنفي: =إنه لم يصح عن النبي _ عليه الصلاة والسلام _ في يوم عاشوراء غير صومه وإنما الروافض لما ابتدعوا المأتم وإظهار الحزن يوم عاشوراء ؛ لكون الحسين قُتِل فيه ابتدع أهل السنة إظهار السرور واتخاذ الحبوب والأطعمة والاكتحال، ورووا أحاديث موضوعة في الاكتحال والتوسعة على العيال+.(1/159)
وقد جزم الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة بوضع حديث الاكتحال، وتبعه غيره منهم مثلاً(1) علي القارئ في كتاب الموضوعات.
ونقل الحافظ السيوطي في الدرر المنتثرة عن الحاكم أنه منكر.
وقال الجراحي في كشف الخفاء ومزيل الإلباس: =قال الحاكم _أيضاً_: الاكتحال يوم عاشوراء لم يرد عن النبي فيه أثر وهو بدعة+. ا_هـ
ولم يستحب أحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم لا هذا ولا هذا؛ لعدم الدليل الشرعي بل المستحب يوم عاشوراء عند جمهور العلماء هو صومه مع صوم يوم قبله؛ فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: =قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح هذا يوم نجَّى الله _عز وجل_ بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى.
قال: فأنا أحق بالصوم منكم، فصامه، وأمر بصيامه+ متفق عليه.
أي أن موسى صامه؛ شكراً، ونحن نصومه تعظيماً له.
وعنه _ أيضاً _ قال: قال رسول الله ": =لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع+ رواه مسلم.
وعن أبي قتادة ÷ أن رسول الله "سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: =يكفر السنة الماضية+ رواه مسلم.
ومن بدع اليوم الشحذ على الأطفال باسم زكاة الفطر؛ رجاء أن يعيشوا، وهو شائع في مصر ويزعم بعض أرباب الأموال أن ذلك كاف عما وجب في زكاته، ولا يخفى أنه ضلال.
ومنها البخور الذي يطوف به على البيوت قومٌ من العاطلين الذين لا خلاق لهم، فيرقون الأطفال منه مع كلمات يقولونها بمحضر من أمهاتهم يوهمونهن أن ذلك وقاية لهم من العين وكلِّ مكروهٍ إلى السَّنَةِ القَابلة.
وهذا أمر يحتاج إلى توقيف من صاحب الشريعة "ولم يثبت إلا أنه بدعة وضلالة.
__________
(1) لعلها: مُلاَّ.(1/160)
ومن البدع السيئة في هذا الموسم طواف البنات بأطباق الحلوى ينادين عليها بقولهن: =يا سي على لوز+ فهذه ضلالة؛ فإن البنات قد بلغن حدَّ الشهوة، ويخرجن متبرجات بزينة على صورة الخلاعة تعبث بهن الكهول والشبان في الشوارع وعلى قارعة الطريق، ولا يخفى ما في ذلك من الفتنة وفساد الأخلاق نعوذ بالله من الشيطان وحزبه، ونسأله _ تعالى _ السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الصيام (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]البقرة:183.
هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بـ: يا أيها الناس؛ فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم، وكذلك جرت سنة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بـ: يا أيها الذين آمنوا، نحو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا] الحج:77، ونحو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] البقرة:254، وكقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ] المائدة:90،إلى غير ذلك.
ويصدر الأوامر الاعتقادية بـ: يا أيها الناس، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان؛ فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم، والمبالغة في التهييج إلى العمل؛ فكأنه يقول لهم: أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال.
ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه العدول عن يا أيها الناس في الأوامر الفرعية.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد14، 16 رجب 1322هـ المجلد الأول، ص268_271.(1/161)
[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الصيام في اللغة الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح.
وفي الشريعة الإمساك عن المفطرات بياض النهار.
وشرع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها وإمساكها عن خسيس عاداتها، وليذوق الموسرون لباس الجوع؛ فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء.
وللصوم عند من تنبهوا لأسرار العبادات ثلاث درجات: صوم العامة وهو كف البطن والفرج عن شهوتيهما، وصوم الخاصة وهو ما تقدم مع قصر الجوارح عن أفعال المخالفات، وصوم خاصة الخاصة وهو صوم القلب وترفعه عن الهمم الدنيَّة والأفكار الدنيوية التي لا تراد للدين وإلا فهي من زاد الآخرة ومطاياه، وهذه هي الدرجة الكاملة التي جمعت بين عمل الظاهر والباطن.
وينبئك على حطة الدرجة الأولى وقصور صاحبها عن الانخراط في زمرة الصائمين حقيقة، قوله ": =من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه+.
وقال أبو بكر العربي: كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب؛ فكانوا في حرج ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج؛ فوقعت في ارتكاب الزور، واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله _ سبحانه _ على لسان رسوله أن من اقترب زوراً، أو أتى من القول منكوراً، أن الله _ سبحانه _ في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه+.(1/162)
يسمع الناس بحديث: =لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك+، وحديث =كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به+، وحديث: =الصيام جُنّة+، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح؛ كيف تكون رائحة فم تَقَذَّر بتناول الأعراض والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟ وكيف يستاهل صيامٌ تَجهَّم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك _جلَّ جلاله_ ويتولى جزاءه بنفسه؟.
وكيف يكون الصيام جُنّة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه، وتدنس ذيلُه بقول الزور والتلبس بالآثام التي تهيء له في نار جهنم وطاءاً وغطاءاً؟.
نعم، لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم؛ فيستحقون هذه الكرامات.
ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل، والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس، ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغمات صبيّها عند ما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية.
وإنه ليعظم في عينك الرجل باديء الرأي حتى تحسبه واحداً من رجال الأمة، فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيآتها يحلِّلها لك تحليلاً كيماوياً ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى.
وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات، وتحسين العادات.
[كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، والمعنى أن الصوم لم يُفْرَض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم، بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم.(1/163)
وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره _أيضاً_ لا يلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته، وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت.
وفائدة هذا التشبيهِ تهوينُ هذه العبادةِ الشاقةِ، وتخفيفُ وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛ لأن الأمور الشاقة إذا عُمِلت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطوق بعدتها.
[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] تصيرون أتقياء؛ فإن الصوم يقهر النفس، ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، وقد فسرت =الجنّة+ في حديث =الصيام جنّة+ بالوقاية والسترة من المعاصي؛ رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث.
أولهما: ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنّى _ عليه الصلاة والسلام _ عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما كنّى عن تنزيل الرحمة، وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله: =إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة _ وللبخاري =أبواب السماء+_ وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين+ وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة _ أيضاً _.
الحج المبرور(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة ÷ أن رسول الله " سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله وبرسوله، قال السائل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور.
__________
(1) من كتاب أحاديث في رحاب الأزهر، لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين، جمعها وحققها علي الرضا التونسي ص96_98،و مجلة =الأزهر+ الجزء الأول _ المجلد الخامس والعشرون، غرة المحرم 1373.(1/164)
وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وأكثر كتب السنة المعتبرة أن النبي " قال: =الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة+.
والحج المبرور: هو الذي وفيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم.
والذي يستعرض أعمال الحج، وأحكامه يجدها ترجع إلى عناصر يكمل كل منها الآخر، ومدارها على أن يجدد المسلم حياته بالحج؛ فيقطع صلته بكل مكان يعلق بها من شوائب الإثم، أو الانحراف عن طريق الله ووسائل مرضاته، ويبدأ حياته جديدة نقية، بنفس راضية تقية، بعد توبة نصوح يشهد الله عليها في أطهر بقاع الأرض، مخاطباً ربه _ عز وجل _ قائلاً: =لبيك اللهم لبيك+ وملتزماً أن لا يعمل من ذلك الحين إلا ما يرضي الله من عمل، وأن لا يقول إلا ما يقربه إلى ربه من خير وحق، وأن لا يعود إلى أهله ووطنه إلا وهو إنسان آخر يؤثر مرضاة الله في كل ما يصدر عنه، ويكون في جانب الحق في كل ما يصطدم فيه الحق والباطل، ويحرص على أن يكون من أهل الخير، كلما دعته الظروف، وسنحت له الفرص لعمل الخير.
كما أن المدرسة مصنع يدخله غير العارفين ثم يتخرجون منه علماء عارفين كذلك الحج فرصة من فرص الحياة يتعرض لها المسلمون بما ارتكبوا في حياتهم من هفوات، وما وقع منهم مما لا يرضى الله عنه، فيجددوا توبتهم العظمى في البلد الحرام والشهر الحرام، ويهتفون من أعماق قلوبهم معاهدين ربهم على التزام أوامره واجتناب نواهيه قائلين: (لبيك اللهم لبيك) فلا ينتهون من مناسكهم إلا وهو على عهد مع الله _عز وجل_ بأن يكونوا من أهل الاستقامة في حياة جديدة قامت مناسك الحج حائلاً بينها وبين شوائب الماضي، فيعفو الله عما سلف على قدر ندم صاحبه عما فرط منه، وعلى قدر ثباته على عهده مع الله بأن يكون من أهل السلامة والاستقامة والتقوى.
إن عشرات الألوف من المسلمين يقفون بين يدي الله _عز وجل_ في عرفة، في البقعة المباركة التي وقف فيها رسول الله " وصفوة خلق الله من أصحابه الأكرمين والتابعين لهم بإحسان.(1/165)
وهذه الألوف التي لا تحصى، ترفع أصواتها بالدعاء إلى الله الرحمن الرحيم معلنة أنها أجابت دعوته، وأنها تعاهده _ عز وجل _ على أن تتوخى رضاه في أقوالها وأفعالها، ولن تكتفي هذه الجموع العظمى بهذا العهد العظيم مع الله، بل إنها بعد الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة تدفع من مزدلفة إلى منى قبل أن تطلع الشمس، وفي منى تعلن مقاطعتها للشيطان، وترمز لهذه المقاطعة برميه عند الجمرة الكبرى، ثم عند الجمرة الصغرى والوسطى، وجمرة العقبة في أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر.
هذه المقاطعة الرمزية للشيطان في كل ما ينتظر أن يسول به للمسلم في حياته من شر، أو إثم، يقوم بها الحجاج جميعاً بعد ذلك العهد الذي قطعوه لربهم كلما هتفوا له: (لبيك اللهم لبيك)، فتخرج نفوسهم نقية طاهرة مثيبة إلى الله، مستريحة من أوزار الماضي، ومستقبلة حياة جديدة صالحة، وأياماً سعيدة هنيئة.
هذا هو الحج المبرور؛ لأنه يرجع بالمسلم إلى الله، ويرجع المسلم إلى سعادته التي كفلها له الإسلام، ودله على طريقها، وضمن له الجنة إذا التزم هذا الطريق فلم يخرج عنه.
يا حجاج بيت الله الحرام، إن الله _ عز وجل _ قد هيأ لكم الفرصة الثمينة؛ لتجددوا أنفسكم، وترجعوا إلى ربكم، وتكونوا من خيرة أبناء بلادكم وأمتكم، فتسعدوا في الدنيا، وتكونوا من أهل الجنة في الآخرة.
وسبيل ذلك أن تكونوا من أهل الحج المبرور، ولا يكون حجكم مبروراً إلا بالتوبة الصادقة، ومقاطعة الشيطان إلى الأبد وفي كل شيء.
نسأل الله _ عز وجل _ أن يتم عليكم هذه النعمة، وأن يجعلكم من عباده الصالحين.
عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد(1) للعلامة محب الدين الخطيب
ما انفك هذا الشرق العربي يستقبل الأعياد بقلوب أبنائه دون عقولهم، إلى أن فاجأتنا أعياد أَفَقْنا فيها من رقادنا، فشعرنا بحاجتنا إلى استقبالها بعقولنا دون قلوبنا.
__________
(1) الحديقة 7/ 6 _ 10، عام 1349هـ، وقد كتبها × في 9 ذي الحجة 1337هـ.(1/166)
وتلك عادة من عاداتنا السيئة أن تكون نظرتنا الأولى إلى كل أمر من أمورنا منتزعةً من قلوبنا، وضلال مشاعرنا، وميول أنفسنا؛ مهملين كل الإهمال عقولنا التي بنورها يتبدد دَيْجور الليالي،وبمقياسها تقدر المنافع الحقيقية، وبقسطاسها يرجح جانب الصواب في كل حادث.
الأعياد السنوية عند الأمم هي الحد الفاصل بين عام مضى وعام أقبل؛ لذلك كان من شأن كل أمة أن تتفرغ في أيام عيدها لاستعراض حوادث العام المنصرم فتصفى حسابه، وتنظر في مبلغ ما نالته فيه من ربح، فتعده عيداً سعيداً يجدر بأفرادها أن يتبادلوا فيه عبارات التهاني،أو مقدار ما أصابها فيه من خسران فتفكر في أسباب تلافيه، ويتمنى بعضهم لبعض أن يعود عليهم أمثاله بخير مما عاد به عليهم في عامهم الذي هم فيه.
ولو كان أفراد جيلنا والجيل الذي تقدمنا قاموا بعملية هذا الجرد الاجتماعي في فرصة كل عيد سنوي لما كنا دون الأمم التي نهضت في تلك البرهة من الزمن، وأعني بها الأمة اليابانية، والأمة البلغارية، والأمة الفنلندية، وسائر الأمم التي سَرَتْ مسراهن، ونجحت نجاحهن.
ظللنا _ كما كانت تفعل طبقة آبائنا _ نستقبل الأعياد بسرور وغرور، غير شاعرين بمساعي اليابانيين والبلغاريين والفنلنديين في سبيل نهضتهم الوطنية والصناعية والتهذيبية، وما انقضى نحو خمسين عيداً حتى انجلت عنهم وعنا غيوم الأزمان،فظهروا للعالم بمظهر المغالب للطبيعة في الحصول على مقومات الحياة،وظهرنا بمظهر الذي عاند الطبيعة؛ ليمنع مقومات الحياة من أن تتسرب إليه؛ فحصلوا هم منها على القسم الوافر رغم الطبيعة، ونحن أخذنا منها بالقسم اليسير الذي أرغمتنا طبيعة الزمان على الأخذ به.(1/167)
وها نحن نرى الآن بأعيننا ما بيننا وبين اليابانيين من المسافات الشاسعة في ميدان الارتقاء ومعترك الحياة: هم يلبون داعي الوطنية بالألوف، ونحن نلبيه بالمئات، وهم يشعرون بحاجة الوطن إليهم في ساعة حاجته إليهم، ونحن نشعر بذلك متأخرين، هم يقدمون للوطن من رؤوس أموالهم علماً منهم بأن حياة أفراد الوطن متصلة بحياة الوطن نفسه ونحن نمن على الوطن إذا جدنا عليه بحثالة الكأس، وفضلات المائدة.
لقد كانت الحرب المنصرمة امتحاناً للأمم يُبتلى فيه مَضاء سلاحها التهذيبي، وكنا في جملة من دخل هذا الامتحان فعلمنا من نتيجة ذلك أننا بدأنا نشعر بالحياة، وأن فينا من قواها نسيساً لم يكن فينا قبل عشرين عاماً.
لذلك يمكننا أن نعلم من الجرد الاجتماعي الذي نجريه في عيدنا هذا أن ثروتنا الوطنية والتهذيبية في نماء وتقدم، ولكنهما_ ويا للأسف_ قد تسربا إلينا بضغط طبيعة الزمان علينا، وإرغامها إيانا على مجاراتها للتسلح بمقومات الحياة.
ولو أننا جاريناها بلا ضغط منها علينا، بل لو اندفعنا في طريق الترقي مقاومين ما قد يعترضنا من العقبات _كما يفعل اليابان_ لكنا اليوم بمنزلة اليابانيين صناعة، ووطنية، وتهذيباً.
إن هذا اليوم له ما بعده، ونحن واقفون في هذه الساعات على برزخ بين الحياة والموت؛ فإما أن يندفع كل فرد منا في سبيل الحياة بلا تردد، ويسارع إلى أن يكون قدوة لغيره قبل أن يكون غيره قدوة له، وإما أن يلبث كل واحد منا واقفاً يراقب كل ما يبدر من الآخرين ليفعل كما يفعلون؛ فتكون النتيجة بقاء الجميع وقوفاً أوشبه وقوف، وذلك هو الموت بعينه.
الواجبات الوطنية كثيرة، والسبيل التي سارت فيها الأمم الراقية واضحة أمامنا، فليكن حديثنا في هذا العيد دائراً حول هذا البحث شعارنا( إلى الأمام... دائماً إلى الأمام... ) وبهذا يكون عيدنا سعيداً، ونكون واثقين من أننا وأولادنا سنستقبل بعقولنا وقلوبنا بمنافعنا ومسراتنا أعياداً سعيدة إلى الأبد.(1/168)
ثامناً: مقالات في السياسة والإجتماع
37_ الشورى في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
38_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور
أكمل رسالاته: للعلامة محب الدين الخطيب
39_ معدن سليم كريم: للعلامة محب الدين الخطيب
40_ حقيقة المسلم: للأديب مصطفى صادق الرافعي
41_ حركة الإسلام في أوربا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
42_ داء المسلمين ودواؤهم: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
43_ حالة المسلمين: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
44_ الشعور السياسي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمدالخضرحسين
الشورى في الإسلام(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
أتى على العالم حينٌ من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم " بعزم لا يحوم عليه كلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض، فأخذ يضع مكان الباطل حقاً، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آداباً أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أصرح مظهر، وأحسن تقويم.
وضع الإسلام للسياسة نظاماً يقطع دابر الاستبداد، ولا يبقي للحيف في فصل القضايا أو الخلل في إدارة الشؤون منفذاً، أوصى الرعاة بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في قوله _ تعالى _: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]آل عمران:159، وقوله: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]الشورى:38، ثم التفت إلى الأمة وعهد إليها بالرقابة عليهم ومناقشتهم الحساب فيما لا تراه مطابقاً لشرط الاستقامة، فقال _تعالى_: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]آل عمران:104.
__________
(1) مجلة البدر الجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في منتصف جمادى الأولى 1340هـ تونس، وانظر (هدى ونور) ص39.(1/169)
ولم يكن الأمراء الراشدون احتراماً لهذا القانون الإلهي يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين.
وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر ابن الخطاب _ وهو يخطب على منبر المسجد الجامع _ فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأي عزم على أن يجعله قانوناً نافذاً، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق عن بينة =أصبت+ ويرد على من أخطأ في المناقشة رداً جميلاً.
وإن شئت مثلاً من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته بروداً ضافية فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتاً تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة، حتى اهْتَزَ طرباً، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها؛ فأطرق لحظة ثم قال:
يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل
فما زاد الناصر على أن قال: =إذا هب عليها نسيم التذكار، وسقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله+ فقال منذر: =اللهم اشهد فإني قد بثثت ما عندي+.
في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسفٍ عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خطبه التي كان يلقيها على منبر الجامع، ويتصدى فيها لنقد أعمال الدولة بلهجة قارصة.(1/170)
ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغَرَّاء، ودرس تاريخ الخلفاء قبله عن عبرة؛ فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة، حتى يمتطوا منصب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكونوا الصلة التي يظهر بها أولوا الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مثل ذلك الخليفة العادل أن الدولة لا تحرز مجداً خالداً وسمعة فاخرة إلا أن يعيش في ضلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيحاً.
يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادها بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحق، ومعلم البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء مَنْ وضع لطاعة الأمراء حداً فاصلاً؛ فقال: =إنما الطاعة في المعروف+ وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء فقال ": =أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها+.
كم ظهر في بلاد العرب من سيد بلغ في الرئاسة أن أحرز لقب ملك كآل جفنة وغسان، وربما وجد من بينهم من لا يَقِلُّ في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق÷ فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟.
لا عجب أن يمتطي ابن الخطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدول المستبدة وسيرة الخليفة الذي ينام في زاوية من المسجد متوسداً إحدى ذراعيه.
إنْ هو إلا الإسلام أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمد آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدع عند عشاق السياسة القيمة من مناظر الروضة الغناء.(1/171)
تدرب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول _عليه الصلاة والسلام_ من الحكم السامية كحديث =الحرب خدعة+أو ما يشهدونه من التدابير المحكمة كوسيلة التكتم في الأمور الجارية عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى أو يناوله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يسميه له.
وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أن حضرة صاحب الرسالة _ عليه الصلاة والسلام _ ناول عبد الله بن جحش _ وهو أمير نجد _ كتاباً وقال له: =لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا+.
فلما بلغ عبد الله ذلك المكان، قرأ الكتاب وأخبر الجند بما في ضمنه من الأمر.
إن اختلاف الأمم في عاداتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها ونظاماتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها، حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئاً، أو يردها على عقبها خاسرة.
وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، ويسير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصَّل بعضَ أحكامٍ لا يختلف أمرها باختلاف المواطن كآية: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]البقرة:179 وحديث: =البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه+.
ووكل البقية إلى أنظار الراسخ في العلم بمقاصد الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المفاسد والمصالح.(1/172)
وإن تعجب فعجب لبعض من لا يدري أن الإسلام نورٌ إذا نفذ في قلب لا ينطفئ منه حتى يكون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً (1)، فكتب في إحدى المجلات مقالة عقد فيها موازنة بين الإسلام والدين الذي يعتنقه إلى أن قال: =قد يقول البعض أن الإسلام تطور عما كان عليه، وقطع إلى الأمام شوطاً بعيداً، لأن الأتراك قد أعلنوا الدستور، ولأن الفرس أدخلوا الإصلاحات البرلمانية، ولأن معاهد العلم والجامعات منتشرة في كل نواحي العالم الإسلامي، ولكنا نحيل القارئ الكريم إلى ما جاء في تقارير المذابح الأرمنية والفضائع الوحشية التي أتاها الأتراك أنفسهم+.
وليس في وسع هذا المقام ولا من غرضه التعرض للروايات المصنفة في حوادث الأرمن كما أنني أنبش مقابر التاريخ الأندلسي، أو ألفت نظر ذلك الكاتب لفتة حقيقية إلى ما تقاسيه بعض الشعوب الإسلامية اليوم من أهل دين يقدسه، ويتقلد عقائده.
ولكني أذكره بأن الطرق المنطقية لا تبيح له الاحتجاج على عدم مطابقة التعاليم الإسلامية للإصلاحات المدنية بمذابح الأرمن، ولو انعقد الإجماع على صحة روايتها.
وإنما يرجع في الترجيح بين الأديان إن شاء إلى شرائعها، ونصوص الذين أوتوا العلم من أئمتها، وإن شريعة تقوم على قواعد: =الضرر يزال، المشقة تجلب التيسير، العادة مُحَكَّمَة+ويقول أحد العظماء من فقهائها: =تَحْدُثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسات+_ لا يحق لأحد أنْ يَرمِيَها بمجافاة الإصلاح والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله التعصب الجامد على جحودها.
بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله
وظهور أكمل رسالاته(2) للعلامة محب الدين الخطيب
بلدة لا كالبلاد، لجيل لا كالأجيال، من أمة لا كالأمم...
__________
(1) لعله يشير إلى بعض الكتاب النصارى(م).
(2) مع الرعيل الأول ص18 _ 24.(1/173)
بلدة اختارها الله _ في الدهر الأول _ لأول بيت قام في الأرض؛ لتوحيد الله والعبادة الخالصة والنسك السليم: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] آل عمران:96_ 97.
قال الحسن بن أبي الحسن البصري ×: =كان الرجل قبل الإسلام يَقتل، فيضع في عنقه صوفة ويدخل أرض الحرام، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج من حدود الحرم+.
وقد وصف الله في سورة (العنكبوت الآية: 67) هذه الميزة لبيت الله الحرام، ومنَّ بها على أهله فقال: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ].
وفي سورة (القصص: 57_ 59) _ وهي مكية _ نعى الله على الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف وأمثاله من رجالات قريش وشبابهم أنهم تخوَّفوا من إقامة الحق بالدخول في الإسلام يوم كانت مكة هي بيئةَ الإسلام الأولى ومشرقَ دعوته [وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ].(1/174)
ومما خاطب الله قريشاً _ فيما أنزله من القرآن بمكة _ ومنَّ عليهم بهذه الميزة الكبرى لبلدتهم دون بلاد الأرض كلها قوله _ جلَّ ثناؤه _: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)] قريش.
إن حرم مكة الآمن لا ينحصر في حرم الكعبة، ولا يقتصر على البلدة كلها، بل يعم أرض الحرم إلى مسافات بعيدة أقيمت لها أعلام في كل ناحية من نواحيها، فما كان خارج هذه الأعلام يسمى الحل، وما هو في داخل نطاقها يسمى الحرم، وفي الحرم تأمن الطير _أيضاً_ كما يأمن الإنسان؛ فلا تنفر عن أوكارها، ويأمن فيه حتى الوحش، فلا يحل اصطياده.
بل من جملة تحريمها تحريمُ قطع شجرها، وقلع حشيشها.
وقد خطب رسول الإنسانية الأعظم _ صلوات الله عليه _ يوم فتح الله عليه مكة، فقام على باب الكعبة يقول لقريش ومن وراءها من جماهير الناس، ولكتائب الفتح من المهاجرين والأنصار:
=إن الله حرَّم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا في ساعة من نهار؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يلتقط لقطته إلا من عَرّفها، ولا يختلى خلاه+.
فقال عمه العباس: يا رسول الله إلا الإذخر _ وهو نبات طيب الرائحة ينتفعون به _ فقال ": =إلا الإذخر+.
وقد حيل بين من يلجأ إلى الحرم من المجرمين وبين حقوق الله والناس بما رواه سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس أن القاتل إذا عاذ ببيت الله في مكة أعاذه البيت، ولكن ليس على أحد من ساكني الحرم أن يؤويه، أو يطعمه ويسقيه، حتى يضطر إلى الخروج من حدود الحرم فإذا خرج أخذ بذنبه.(1/175)
ومن أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً بين زمن مولد حامل أكمل رسالات الله وزمن هجرته_ أنها بلدة لم يشعر أهلها بحاجتهم إلى حكومة، ولم تمس حاجتهم إلى إقامة شرطة تحمي أهل العافية فيهم من أهل البغي والشر؛ لأنهم قلما عرفوا فيهم مُواطناً من أهل مكة تنزع نفسه إلى البغي والشر(1).
وأكثر ما كان يقع فيهم الباطل أن يمطل المدين دائنه في وفاء ما في ذمته له، فكان يستعين عليه بأهل العافية؛ فيحصل منه على حقه بلا حاجة إلى قضية أو محكمة.
ولأجل هذا انعقد في بيت وجيه من وجهاء مكة وشريف من أشرافها وهو عبدالله بن جدعان التيمي _ من أسرة أبي بكر الصديق _ حِلْفٌ اشترك فيه طائفة من أهل الفُتُوَّة والمروءة في قريش، وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على مَنْ ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته.
وكان رسول الله "لا يزال يومئذ فتى، روى طلحة الندى _ وهو طلحة ابن عبدالله عوف الزهري قاضي مكة في القرن الأول للإسلام _ أن رسول الله"قال: =لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حُمْرَ النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت+.
إن الناس هم الناس، وفيهم الطيب والوسط والخبيث، تشترك في ذلك الأمم كلها، غير أنها تتفاضل بنسبة أهل هذه الأصناف الثلاثة بعضهم إلى بعض؛ فمن الأمم من تطغى نسبة الخبيث من أهلها على من فيها من الطيبين والعنصر الوسط؛ فهي من شر الأمم، ومنها من يكثر فيها العنصر الطيب وتكون له الكلمة النافذة والتوجيه المطاع في المجتمع؛ فهي من أكرم الأمم معدناً، ومنها من تعظم فيها نسبة الطبقة الوسطى؛ فيعم فيها الخير ويستتب الاستقرار.
يقول النبي " فيما قرره من حقائق: =الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا+.
__________
(1) أين الكاتب × من الحال في هذه الأزمان والله المستعان (م).(1/176)
وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتابه منهاج السنة (2: 260_261) بقوله: =فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب، ومعدن فضة كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه؛ فإن قُدِّر أنه تعطل ولم يخرج ذهباً كان ما يخرج الفضة أفضل منه؛ فالعرب في الأجناس _ وقريش فيها، ثم هاشم من قريش _ مظنةُ أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم؛ ولهذا كان في بني هاشم النبي "الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب.
وكان في قريش الخلفاء الراشدون، وسائر العشرة، وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب.
وكان في العرب السابقين الأولين مَنْ لا يوجد له نظيٌر في سائر الأجناس؛ فلا بد أن يوجد في الجنس الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل، كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم؛ فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب، دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله _ تعالى _ يفضل الإنسان بنسبه على من هو أعظم إيماناً وتقوى منه؛ فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلةُ جُمْلَة، وفضيلةٌ لأجل المَظِنَّةِ والسببِ، والفضيلةُ بالإيمان والتقوى فضيلةُ تعيينٍ وتحقيق وغاية؛ فالأول يَفْضُل به؛ لأنه سببٌ وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد، والثاني يفضل به؛ لأنه الحقيقة والغاية، ولأن من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا؛ لأن الحقيقة قد وجدت فلا يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله يعلم بالأشياء على ما هي عليه فلا يستدل بالأسباب والعلامات+.(1/177)
بهذا فسر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث معادن الناس، وكان ينظر _ وهو يعالج هذا الموضوع الدقيق _ إلى آية الحجرات 13 [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]، كما ينظر إلى حديث عبدالله بن عمر قال: إنا لقعود بفناء رسول الله"إذ مرت امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة محمد " _ والحقيقة أنها كانت درة بنت أبي لهب، وكانت زوجة للحارث بن نوفل، ثم تزوجها دحية الكلبي _ فقال رجل: إن مثل محمد " في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن؛ فانطلقت المرأة فأخبرت النبي " فجاء _ عليه السلام _ يُعرَفُ في وجهه الغضب، ثم قام على القوم فقال: =ما بال أقوام تبلغني عن أقوام؟ إن الله _ عز وجل _ خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار؛ فمن أحب العرب فبحبي أَحَبَّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم+.
قال الحافظ العراقي: =وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ورواه من غير هذا الإسناد _أيضاً_ وروى نحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط وقال: حديث صحيح+.
فالتفاضل بالتقوى هو الأصل، وهو الحقيقة والغاية، وكرم المعدن فضيلةُ جملةٍ، ومظنة أن يوجد فيه الخير أكثر مما يوجد في غيره.
إن البيئة التي ولد فيها خاتم رسل الله، وهي قريش سكان شعاب مكة وبطاحها _ قد تفاوت رجالها ونساؤها في سرعة الاستجابة لدعوة الإسلام؛ فهذا عمر بن الخطاب كان من مشركي قريش يوم كان أبو بكر أول رجل من قريش استجاب لهذه الدعوة، وأخذ يحببها بحكمته ورجاحة عقله ودماثة خلقه إلى طائفة من أعز شباب قريش في بطحاء مكة، من أمثال عثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم من مسلمي الرعيل الأول؛ فهل أزرى بعمر أن تأخر إسلامه عن إسلام هؤلاء وعن إسلام أخته وصهره؟.(1/178)
وهذا خالد بن الوليد كان في وقعة أحد قائد خيل المشركين، وكان المفروض فيه لما عاد من غزوة أحد إلى مكة أن يكون ثملاً بخمرة ما اتفق له من فوز؛ فيكون ذلك أبعد له عن الاستجابة لنداء الحق.
لكننا رأيناه في أوائل السنة الثامنة للهجرة يزهد في عظيم الجاه الذي كان لأبيه وبيته في أم القرى، ويخرج متوجهاً إلى المدينة؛ ليلتحق بدعوة الحق؛ فالتقى في الطريق بين مكة والمدينة بعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة أحد بني عبدالدار سدنة الكعبة، قال عمرو: فقلت لخالد: إلى أين يا أبا سليمان؟
قال خالد: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبي، إني أذهب والله لأسلم، فحتى متى؟.
قال عمرو: وأنا والله ما جئت إلا لأسلم.
وقال صاحب مفتاح بيت الله الحرام مثل مقالتهما.
فلما دخلوا على رسول " ونظر إليهم من بعيد قال لأصحابه: =لقد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها+.
قال عمرو: فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي.
فقال ": يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله، وإن الهجرة تجبُّ ما قبلها.
ونقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار أن رجلاً سأل عمرو ابن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟
فأجابه: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّم، وكانوا ممن توازن حلومهم الجبال؛ فلما بعث النبي " فأنكروا عليه قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حقٌّ بَيِّنٌ؛ فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه؛ فبعثوا إليَّ فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربك ورب آباءك من قبلك ومن بعدك أنحن أهدى، أم فارس والروم؟
قال: بل نحن أهدى _ أي أعقل وأعظم بصيرة وإدراكاً لحقائق الأمور_.
معدن سليم كريم(1) للعلامة محب الدين الخطيب
شعب ظهر فجأة من بين تلك الصحاري التي لا يكاد يعرفها أحد.
__________
(1) مع الرعيل الأول ص4 _ 6.(1/179)
شعب جديد بدأ يمثل دوره على مسرح الحياة بعد أن ظل نهباً مقسماً، تناوئ كل قبيلة منه القبيلة الأخرى، فيحتدم النزاع، وتقع الحرب الطاحنة.
ها قد رأيناه يتَّحد، ويجمع شمله الشتيت، للمرة الأولى.
ذلكم هو الشعب الناهض الذي تملَّك نفسَه حبُّ الحرية، وساعدته على النجاح صفاتُه النبيلة؛ فقد كان متقشفاً في طعامه، مخشوشناً في لباسه، نبيلاً في أخلاقه، كما كان طروباً، سريع البديهة، حاضر النكتة.
كان شريف النفس، أرْيَحيَّاً؛ فإذا استثرته مرة فهو قاسٍ، غضوبٌ، شرس، لا يني عن أخذ ثأره، ولا يرده عن انتقامه شيء.
ذلكم هو الشعب الذي قلب _ في لحظة واحدة _ إمبراطورية الفرس، بعد أن ظل السوس ينخر في عظامها قروناً عدة.
وانتزع من خلفاء قسطنطين أجمل ضواحيهم، ثم سحق مملكةً جَرمانيةً حديثة العهد تحت قدميه، وشرع يهدِّد _ بعد ذلك _ بقية أوربا، بينما كان _ في ذلك الوقت نفسه _ يوالي فتوحه، وانتصاره في الجانب الآخر من المعمورة، حتى وصلت جيوشه الظافرة إلى الهملايا.
لم يكن ذلك الشعب فاتحاً فحسبُ _ كغيره من الشعوب الأخرى _ بل كان داعياً إلى دين جديد، ومبشراً به _أيضاً_.
كان داعياً إلى دين جديد؛ فقام يناوئ الثَّنَوية(1) الفارسية، والمسيحية التي أفسدتها الخرافات والبدع، حاملاً إلى الناس توحيداً خالصاً لم يلبث أن دان به الملايين من الناس.
إن ديانة العرب الأولى كانت واهية لا ترتكز على أساس متين، ومتى أقررنا ذلك سهل أن نفرض أنه كان من اليسير على العرب أن يقبلوا ديناً آخر؛ فيدينوا بالمسيحية أو اليهودية مثلاً.
هذا كلام صحيح؛ ولكن إلى حدٍّ ما...
إن المسيحية انتشرت لهذا السبب نفسه في جهتين: في الحبشة جنوباً، وفي سوريا شمالاً، حيث لقيت شيئاً من القبول.
وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية كما تنصر عرب سوريا.
__________
(1) يعني بها المجوسية التي يدين أهلها بإلهية اثنين: النور، والظلمة (م).(1/180)
على أن هذا النجاح لم يكن _ في أي مكان تقريباً _ إلا مظهراً من المظاهر، لا حقيقة من الحقائق.
أما في أواسط بلاد العرب، وفي قلب جزيرتهم، حيث نبتت جرثومة(1) العربي القُحّ وأُرومَتُه_ فلم تنجح الدعاية للدين المسيحي، ولم تكن لترى ثَمّ إلا أثراً ضعيفاً له إن لم نقل معدوماً.
كانت المسيحية في ذلك الزمن _ على وجه عام _ بما تحويه من معجزات، وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتصل من ذلك من رب مصلوب قليلة الجاذبية، بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساخر الذكي.
وآية ذلك ما نراه واضحاً فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة حوالي سنة 513 من الميلاد؛ فإن المنذر لَيُصغي إلى ما يقوله الأساقفة بانتباه إذ دخل عليه أحد قُوَّاده فأسرَّ إليه بضع كلمات، ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق؛ فتقدَّم عليه أحد القساوسة يسأله _ متأدِّباً متلطِّفاً _ عما أشجاه؛ فأجابه الملك:
يا له من خبر سيِّئ! لقد أعلمني قائدي أن رئيس الملائكة قد مات، فواحسرتا عليه!
فأجابه القسِّيس: هذا محال أيها الملك، فقد غشَّك من أخبرك بذلك، إن الملائكة خالدون، ويستحيل عليهم الفناء!
قال الملك: أحقٌّ ما تقول؟ وتريد مع ذلك أن تقنعني بأن الله ذاته يموت!
العربي رجل عمليٌّ مادِّيٌّ، لا يُعنى بغير الحقائق، حتى في شعره؛ فهو لا يسبح في الخيال والوهم، ولا يميل إلى الأخذ بتلك الألغاز والمعميات الدينية التي يعتمد الإنسان في استيعابها على التخيُّل أكثر من اعتماده على التعقل.
حقيقة المسلم(2) للأديب مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) جرثومته: أصله (م).
(2) وحي القلم 2/12(1/181)
لا يعرف التاريخُ غيرَ محمد " رجلاً أفرغَ الله وجودَه في الوجود الإنساني كلِّه، كما تنصبُّ المادة في المادة، لتمتزجَ بها، فتحوّلها، فتحدثَ منه الجديد، فإذا الإنسانية تتحوَّل به وتنمو، وإذا هو " وجودٌ سارٍ فيها؛ فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحوَّل.
كان المعنى الآدميُّ في هذه الإنسانية كأنما وَهَنَ من طول الدهر عليه، يتحَيَّفُه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد بدأتْ به الدنيا في تطوُّرِها الأعلى من حيث يرتفعُ الإنسانُ على ذاته، كما بدأتْ من حيثُ يُوجدُ الإنسانُ في ذاته، فكانت الإنسانية دهرَها بين اثنين: أحدهما فتحَ لها طريقَ المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريقَ العودةِ إليها: كان في آدم سرُّ وجودِ الإنسانية، وكان في محمدٍ سرُّ كمالها.
ولهذا سُمِّيَ الدينُ (بالإسلام)؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية، كأن المسلمَ يُنكر ذاته فيُسْلمها إلى الإنسانية تُصرِّفُها وتَعْتَمِلها في كمالها ومعاليها، فلا حظَّ له هو من نفسه يمسِكها على شهواته ومنافعه، ولكنْ للإنسانية بها الحظ.
وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ: مبدأ إنكار الذات و(إسلامها) طائعةً على المنْشط والمَكْره لفُروضها وواجباتها، وكلما نكَصَتْ إلى منْزعها الحيواني، أسلمها صاحبُها إلى وازعها الإلهي، وهو أبداً يرُوضُها على هذه الحركة ما دام حيّاً، فينتزعها كلَّ يوم من أوهام دنياها، ليضعَها ما بين يدي حقيقتها الإلهيَّة: يروضُها على ذلك كلَّ يوم وليلة خمسَ مرّات مُسماة في اللغة خمسَ صلوات، لا يكون الإسلام إسلاماً بغيرها، فلا غروَ كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي " هي عِمَادُ الدين.(1/182)
بين ساعات وساعات في كلِّ مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أيْ إسلامُ النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة(1)القائمة على الطاعة للفرضِ الإلهي، وإنكارٌ لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادةُ الشرِّ في الأرض، وإقرارُها لحظات في حيِّز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كلِّه تحقيقُ المسلم لوجود روحِه، إذ كانت أعمالُ الدنيا في جملتها طُرُقاً تتشَتَّتُ فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضلَّ روحُ الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها.
وهذا الوجود الروحيُّ هو مبعثُ الحالة العقلية التي جاء الإسلامُ ليَهديَ الإنسانيةَ إليها: حالة السلام الروحاني الذي يجعل حربَ الدنيا المهلكة حرباً في خارج النفس لا في داخلها، ويجعلُ ثروةَ الإنسان مقدَّرة بما يعامل الله والإنسانية عليه، فلا يكون ذهبُه وفضَّتُه ما كتبتْ عليه الدول: =ضُرِبَ في مملكة كذا+، ولكن ما يراه هو قد كُتبَ عليه =صُنِعَ في مملكة نفسي+، ومن ثمَّ لا يكون وجودُه الاجتماعيُّ للأخذ حَسْبُ، بل للعطاءِ أيضاً؛ فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل.
بالانصراف إلى الصلاة وجمْع النيَّةِ عليها يستشعر المسلمُ أنه قد حطَّمَ الحدودَ الأرضية المحيطةَ بنفسه من الزمان والمكان، وخرجَ منها إلى روحانية لا يحَدُّ فيها إلا بالله وحدَه.
وبالقيام في الصلاة يُحقِّقُ المسلمُ لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كلِّه؛ ليمتزجَ بجلالِ الكون ووقاره، كأنه كائنٌ منتَصبٌ مع الكائنات يسبِّحُ بحمده.
وبالتولِّي شطر القبلة في سَمْتِها الذي لا يتغيَّر على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلمُ حقيقةَ الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة، فيحملُ قلبُه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبيَّة الدنيا وقلقِها.
__________
(1) هذه هي حكمة صلاة الجماعة والحث عليها وكونها أفضل من غيرها وأن الثواب الأكبر فيها وحدها.(1/183)
وبالركوع والسجود بين يدي الله يُشعرُ المسلمُ نفسَه معنى السموّ والرِّفعةِ على كلِّ ما عدا الخالق من وجود الكون.
وبالجلسة في الصلاة وقراءةِ التحياتِ الطيبات، يكونُ المسلمُ جالساً فوقَ الدنيا يحمدُ اللهَ، ويُسلِّمُ على نبيِّه وملائكتِه، ويشهدُ(1)، ويدعو.
وبالتسليم الذي يخرجُ به من الصلاة، يُقْبِلُ المسلمُ على الدنيا وأهلها إقبالاً جديداً: من جهتي السلامِ والرحمة.
هي لحظاتٌ من الحياةِ كلَّ يوم في غير أشياء هذه الدنيا، لجمع الشهوات وتقييدها بين وقتٍ وآخرَ بسلاسلها وأغلالِها من حركات الصلاة، ولتمزيقِ الفنَاء خمسَ مرات كلَّ يومٍ عن النفس، فيرى المسلمُ من ورائه حقيقةَ الخلود، فتشعرُ الروحُ أنها تنمو وتتَّسع.
هي خمسُ صلوات، وهي كذلك خمسُ مرَّاتٍ يَفْرَغُ فيها القلبُ مما امتلأ به من الدنيا، فما أدقَّ وأبدعَ وأصدقَ قوله ":=جُعلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة+(2).
لم يكن الإسلامُ في حقيقته إلا إبداعاً للصيغةِ العمليَّة التي تنتظمُ الإنسانيةُ فيها، ولهذا كانت آدابُه كلُّها حرَّاساً على القلب المؤمن، كأنها ملائكةٌ من المعاني، وكان الإسلامُ بها عملاً إصلاحيّاً وقعَ به التطورُ في عالَمِ الغريزة، فنقلَه إلى عالم الخلُق، ثم ارتقى بالخُلُق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام، فهو سموٌّ فوق الحياة بثلاث طبقات، وتدرُّجٌ إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعادٌ عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
__________
(1) لعلها: ويتشهد (م)
(2) كان محمد " يستبطئ الصلاة وقد جاء وقتها، من شدة شوقه إليها فيقول:=أرحنا بها يا بلال+ ولا أفصح ولا أدق في تصوير نفسيته " وأشواق روحه العالية من قوله:=أرحنا بها+، فهذا كمال الاتصال بينه وبين خالقه.(1/184)
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المُسْلمةُ التي أسَّسها النبي " دنيا أسلمتْ طبيعتُها، فأصبحتْ على ما أراد المسلمون لا ما أرادتْ هي، وكأنها قائمةٌ بنواميسَ من أهليها، لا على أهليها، وكان الظاهرُ أن الإسلام يغزو الأممَ بالعرب ويفتتحها، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّ إقليماً من الدنيا كان يحاربُ سائرَ أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين.
وكأن الله _ تعالى _ ألقى في رمال الجزيرة روحَ البحر، وبَعثَها بعثَه الإلهيَّ لأمره، فكان النبي " هو نُقطةَ المدِّ التي يفورُ البحرُ منها، وكان المسلمون أمواجه التي غُسلتْ بها الدنيا.
لهذا سمع المسلمون الأولون كلامَ الله _ تعالى _ في كتابه، وكلامَ رسوله "، لا كما يسمعون القولَ، ولكن كما يتلقَّونَ الحكمَ النافذَ المقْضيّ، ولم يجدوا فيه البلاغةَ وحدَها، بل روعةَ أمرِ السماء في بلاغة، واتصلوا بنبيِّهم، ثم بعضُهم ببعض، لا كما يتصل إنسانٌ بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوةِ المد، ثم كما يُمدُّ بعضها بعضاً في قوة واحدة.
وحقَّقُوا في كماله " وجودَهم النفسي، فكانوا من زخارف الحياة وباطلِها في موضع الحقيقةِ التي يُرى فيه الشيءُ لا شَيء.
ورأوا في إرادته " النقطةَ الثابتةَ فيما يتضاربُ من خيالاتِ النفس، فكانوا أكبر علماء الأخلاقِ على الأرض، لا من كُتُبٍ ولا علم ولا فلسفة، بل من قلبِ نبيهم وحدَه.(1/185)
وعرفوا به " تمامَ الرجولة، ومتى تمَّتْ هذه الرجولةُ تمامَها في إنسان، رجعتْ له الطفولةُ في روحه، وامتلك تلك الطبيعةَ التي لا يملكُها إلا أعظمُ الفلاسفة والحكماء فأصبحَ كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخُطُوات مسدَّدة لا تزيغُ ولا تنحرف، فلا شرَّ ولا رذيلة، ودنياه هي الدنيا كلُّها بشمسها وقمرها، يملكُها وإن لم يملك منها شيئاً، ما دامت في قلبه طبيعةُ السرور، فلا فقرَ ولا غنى مما يشعرُ الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غنىً كاملٌ؛ إذ لم تَعُدْ القوةُ في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصها، بل القوةُ في الروح التي تتصرفُ بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولةِ الناميةِ المتغلِّبة، حتى لَتَجْعَلُ من النور والهواء ما يؤتَدَمُ به مع الخبز القَفَار، كما يؤتَدَمُ باللحم وأطايبِ الأطعمة.
وبذلك لا تتسلَّط ضرورةٌ على الجسم _ كالجوع والفقر والألم ونحوها _ إلا كان تسلُّطها كأنه أمرٌ من قوَّةٍ في الوجود إلى قوَّةٍ في هذا الجسم: أن تظهر لتعملَ عملَها المُعجزَ في إبطالِ هذه الضرورة.
وهذا الجنسُ من الناس كالأزهار على أغصانها الخضْر، لو قالت شيئاً لقالت: إنَّ ثروتي في الحياة هي الحياةُ نفسُها، فليس لي فقرٌ ولا غنى، بل طبيعةٌ أو لا طبيعة.
ولقد كان المسلم يُضربُ بالسيف في سبيل الله، فتقعُ ضرباتُ السيوف على جسمه فتمزِّقُه، فما يحسِّها إلا كأنها قُبَلُ أصدقاء من الملائكة يلْقَونه ويعانقونه.
وكان يُبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المُرَزَّأ المُبْتلى يُعرفُ فيه الحزن والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرةُ كما يظهرُ التاريخ الظافرُ في بطله العظيم أصيبَ في كلِّ موضع من جسمه بجراح، فهي جراحٌ وتشويهٌ وألم، وهي شهادة النصر.(1/186)
ولم تكن أثقال المسلم من دنياه أثقالاً على نفسه، بل كانت له أسبابَ قوة وسمو، كالنَّسر المخلوق لطبقات الجوِّ العليا، ويحمل دائماً من أجل هذه الطبقات ثِقْلَ جناحيه العظيمين.
وكانت الحقيقة التي جعلها النبي " مثلَهم الأعلى، وأقرَّها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله _ أن الفضائل كلَّها واجبةٌ على كل مسلم لنفسه؛ إذ إنها واجبةٌ بكل مسلم على غيره، فلا تكون في الأمة إلا إرادةٌ واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعمالَه وحدها.
المسلم إنسانٌ ممتدٌ بمنافعه في معناه الاجتماعي حولَ أمته كلِّها، لا إنسانٌ ضيِّقٌ مجتمعٌ حولَ نفسِه بهذه المنافع، وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر، تقول الأمانة لكليهما: لا قيمةَ لميزانك إلا أن يُصدِّقه ميزان أخيك.
ولن يكون الإسلامُ صحيحاً تاماً حتى يجعلَ حاملَه مثلاً من نبيِّه في أخلاق الله، فما هو بشخص يضْبِط طبيعتَه: يقْهرها مرةً وتقهره مراراً، ولكن طبيعة تضبِط شخصها فهي قانون وجوده.
لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟
لا يخاف من شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟
لا يخشى مخلوقاً، وكيف يخشى ومعه الله؟
أيها الأسد، هل أنت بجملتك إلا في طبيعةِ مخلبك وأنيابك...؟
حركة الإسلام في أوربا(1) للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
__________
(1) صحيفة البصائر التي كان يصدرها الشيخ، العدد 147، السنة الرابعة من السلسلة الثانية(19/مارس 1951م)، وانظر آثار الإمام البشير (2/385_386).(1/187)
الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين العقول وبين قبولها إلاَّ مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلاَّ إشراقها(1) عليها من مجاليها الأولى، لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل إفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوروبا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية، وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان، من غير استئذان.
وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكَّنت له؛ لأنَّ الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهاً على الدين؛ وإنما مكنت للإسلام طبيعته، ويسره، ولطف مدخله على النفوس، وملاءمته للفطر، والأذواق، والعقول.
ولو بقي الإسلام على روحانيته القويّة، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال _ لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزّة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله.
ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرّقوه شيعاً ومذاهب؛ فضعف تأثرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع.
لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغيّر ما به، فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهمها الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي، وإصابة الصواب ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.
ولو كان المسلم مسلماً حقَّاً لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قويَّاً به في المعنى، كثيراً به في المادة.
__________
(1) لعلها: إشرافها، كما في الطبعة الأولى للآثار(م).(1/188)
ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد، ونكون قد أضفنا إلى هذا العنصر المادي العصري الفوار عنصراً روحانياً فواراً يُلَطِّف من حدته، ويخفف من شدته، فيتكون منهما مزاج صالح يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم.
إنك لترى للمسلمين وجوداً في كل قطر، وتسمع عنهم نبأً في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطاً للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساساً للقوة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون، ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضيقة الآفاق من جنسية وإقليميه في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية.
وهناك في الأقاصي من شمالي أوروبا طوائف من إخواننا المسلمين المنحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جزيرة البلقان، ثم مدت مدها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في =فنلندا+.
ولا نشك في أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشك أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوته وجده، ولكنهم في حياتهم الدينية مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تُقَوِّي ضعفهم المادي، وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة، وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم.
داء المسلمين ودواؤهم(1) للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
__________
(1) مجلة (المسلمون)السنة الثالثة، العدد9، ذو القعدة 1373 هـ، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي.(1/189)
الباحث في أحوال المسلمين بحث تَقَصٍّ واستقراء رجل من اثنين: رجل من أنفسهم ورجل من غيرهم، وكلا الرجلين يجتمع بصاحبه في نقطة تبعث الحيرة وهي: كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم كل أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم، فأصول الدين من كتاب وسنة محفوظة لم يَضِعْ منها شيء، وأسباب التاريخ واصلة لم ينقطع منها شيء، واللغة إن لم ترتق لم تنحدر، والعرب الذين هم جذْمُ(1) الإسلام ما زالوا يحتفظون بكثير من الخصائص الجنسية ومعظمها من المكارم والفضائل، والأرحام العربية ما زالت تجد من بين العرب من يَبُلُّها بِبَلالها، فلم تجفُ الجفاء كله، وإن لم توصل الوصل كله، والتجاوب الروحاني الذي تردِّد صداه كلمة الشهادة في نفوس المسلمين وكلمة التلبية في جنبات عرفات لم يتلاشَ تماماً، والأرحام المتشابكة بين المسلمين لم تجف الجفاف الذي يقطع الصلة، ومن السنن الكونية المقرَّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوَّلها فينقطع التيَّار الدافع فيتعطل التقدم.
والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوَّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظاً بمآثر السلف وتدويناً لها، ولا يعرف بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك.
__________
(1) جذم: يعني أصل.(1/190)
والباحث الأجنبي معذور إذا تحير، وقد يخفف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وإن بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عودنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث، ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلاً عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال؛ ليهتدي، والمريض؛ ليسعى في الاستشفاء، والساقط؛ ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض، وإفهامه أن الأيام دول، وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمَّد إضلالنا في تعليل الأشياء؛ كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغتراً، أو يعالج داءه بداء أضر، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه، وإنَّ من يستطب لدائه بإشارة عدوه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة.
أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين _ بعد اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال _ فريقٍ منهم هُدِيَ إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلاَّ إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحَّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه؛ وذلك أنه أقام الدين؛ فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله؛ فانقاد له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة؛ فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين، وأرشده إلى أنَّ سعادة الدنيا عزٌّ وسلطان، وعدلٌ وإحسان، وأنَّ سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبر.(1/191)
وفريق منهم ضلَّ عن الحق في الدواء؛ لأنه ضلَّ قبل ذلك في تشخيص الداء، وضلَّ من قبل ذلك في طريقة البحث، فتلقَّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلَّ من قِبَل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمدة من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم، ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلاَّ القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئاً.
وقد علمنا من سنن الحب أنَّ أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل.
أمَّا هؤلاء العشاق المتيَّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق، وتحفظ لصاحبها خط الرجوع.
هذا الفريق المزوَّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه _ يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم، والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تَحَفُّظ، وهو يعمل لهذا جاهداً، يُسِرُّهُ المُسِرُّ كيداً، ويعلنه المعلن وقاحة، وإنك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم؛ فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأنَّ القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وأنَّ الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأنَّ الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفع.(1/192)
ولكن هذه الطائفة منَّا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو؛ لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر؛ لأن لها بريقاً هو حظ العين وإن لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق.
هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهو أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحاً ووجهاً لوجه، صراعاً في الحرب، وحكماً في السلم، فيمارسون منها خصماً شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق؛ فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلط على الماديات، أمَّا القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدَّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلاَّ لأنَّ هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية، وبقيت هي عليها محافظة.(1/193)
ولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبَّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها، وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إنَّ وراء هذه المدنية علماً هو أساسها، وإن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبواباً أمامية يدخلون منها، وأبواباً خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي، وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضاً، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها، وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار، وما زدنا بسفهنا على أن جهزنا له جيشاً من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا، وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمم العزم على التمكين له، وقد كنا لا نحترمه ولا نصادقه، ولا نصافيه، ولا ندمث له موضع الإقامة.
ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ إنهم بتعلمهم في الغرب بلغة الغرب، وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنوا أنهم أصبحوا كالغربيين؛ فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئاً، إذ لم يقع في تقديرهم أن جُلَّ الأحوال التي قلدوا فيها الأوربي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزه وقوته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلاَّ ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنوا غلطاً في الفهم أنَّ هذه الحضارة غريبة، وأخطأوا؛ فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة، فتبقى شاهدة له حتى تضمحل.(1/194)
إنَّ جُلَّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى؛ ففرعون التقط موسى؛ لينفعه، ويتخذه ولداً، وربَّاه صغيراً وأحسن إليه، فكان موسى له عدُّواً وحَزَنَاً وسخنة عين.
أمَّا أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلمتهم وربتهم فكانوا عدواً لدينهم، وحزناً لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلاً منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق.
والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا؛ لبعد عهدنا بالعزة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء؛ فَفَقْدُ الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية، وقوة الإحساس بالواجب هي التي أمْلَتْ على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو(1)، وهي التي حملت كثيراً من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهواتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم.
وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد، وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلل والذوبان.
إنَّ الغرب لا يعطينا إلاَّ جزءاً مما يأخذ منَّا، ولا يعطينا إلاَّ ما يعود علينا بالوبال، وقد أَعَنَّاه على أنفسنا، فأصبح المهاجر منَّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتينا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ.
حالة المسلمين(2) بقلم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
__________
(1) كما في قصة عبدالملك بن مروان مع إحدى جواريه عندما وقفت له بالباب لما أراد الغزو؛ فأعرض عنها وتذكر قول جرير:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار (م)
(2) مجلة الأخوة الإسلامية العدد السابع عشر بغداد شوال 1372هـ.(1/195)
تتردّدُ على أقلام الكُتَّاب العرب، وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب كلمات: الوعي، اليقظة، النهضة، منسوبة إلى الإسلام، أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، والوعي في معناه الاجتماعي الذي يعنيه هؤلاء الكُتَّاب والخطباء إدراك بعد جهل، واليقظة في قصدهم تنبُّه بعد غفلة، والنهضة معناها حركة بعد ركود.
فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة على هذه الكلمات تصف حقيقة، أم تصور خيالاً؟ فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع الذي لا يمارى فيه لها، والوعي الحقيقي يصحبه رعي، ويعقبه سعي، واليقظة الحقيقية يصحبها علم لا هوينا فيه، ويتبعها عمل لا تردد فيه.
والنهضة الحقيقة يَصْحَبُها حزم لا هوينا فيه، ويتبعها عزم، ويسوقها إقدام لا إحجام فيه إلى غاية لا اشتباه فيها.
وهل هذه الآثار وهذه الدوال موجودة حقيقة في المجتمعات الإسلامية؟
لا نثبت، فنكون متفائلين في موضوع لا ينفع فيه التفاؤل، ولا ننكر؛ فنكون مثبطين في مقام ينفر فيه التثبيط، إنما نقول _ مقرِّرين للواقع إن شاء الله_.
إنَّ المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات، أو أمارات، كما يسبق الفجر طلوع الشمس، وأدلُّها تقارب القلوب، وتعارف الشخوص، أو تجاوب الشعور، وتجانس الأفكار، وتعاطف الأرواح، وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات، ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلب على المضائق، وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعِيَ إليه، وخفَّة الإقدام إلى الأمام، وتلمس القيادة الرشيدة، والشعور بالحاجة إلى توحيدها، وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟(1/196)
نعم يوجد بعضها القليل، ولكن آفته الكبرى أنه مُتّجه إلى غير القبلة المشروعة، وإن الرياح تسوق سحبه إلى غير أرضنا.
لِنَخْرُجْ من النفاق الغرَّار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقولَ: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو الأسماء مفسَّرة في الغالب بغير معانيها، مصوَّرة بغير صورها الحقيقية.
وإذا فسد التصور فسد التصوير؛ لأننا ما زلنا نبني تصوراتها على أُسس من الأماني، ونزجُّها بالفأل ومعاني الفأل، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال، وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلاً: إنَّ اليقظة التي هي الصحو من النوم، ولو أن نائماً صحا من نومه صحواً كاملاً ولم يبق في أجفانه فتور ولا ترفيف، ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملاً ولم يأت شيئاً من مستلزمات الصحو، ونواقض النوم _ لكان هذا كافياً في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي بل يُعَدُّ كما لو كان يغط في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة.
تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحاً شاملاً للمفاسد النفسية، ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها، فيطهرها؛ ليبني العلاج على أصل صحيح وإلى عروق الشرِّ منها فيمتلخها، ليأْمَنَ النكسة.
ومردُّ ذلك كله إلى الأخلاق؛ فهي أول ما فسد بيننا؛ فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء.
فلتكن هي أولَ ما نُصْلِح إنْ كُنَّا جادِّين في تثبيت الوعي، واليقظة، والنهضة؛ لأن الأخلاق إذا استقامت تفتحت البصائر للوعي، وتهيأت الشواعر لليقظة، وانبعثت القوى للنهضة، فكان الوعي بصيراً، وكانت اليقظة عامّة وكانت النهضة شاملة، وكانت الحياة لذلك كله كاملة.
نعترف أن نومنا كان ثقيلاً، وبأنَّ عمر أمراضنا كان طويلاً.(1/197)
نعرف أنَّ النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوت يصخّ، أو بضرب يصكّ، وأنَّ المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلاَّ بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم، ومما كانوا به مثلاً في الآخرين.
ولكننا لم نصحُ من نوم إلاَّ لنستغرق في نوم، ولم ننفلت من قبضة مُنَوِّم إلا لنقع في قبضة مُنَوِّم.
صَحَوْنا من نوم الاتكال، فنقلنا إلى نوم التواكل، وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرة تدقُّ الأعناق، وانفلتنا من تنويم تُجَّار الدين فوقعنا في تَنْوِيم تجار السياسة.
أولئك يمنوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يُغَنُّون لنا بسعادة الدنيا دون أن يدلونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كله ما نرى وما نحس وما نشكو.
وما أضلنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون اللذين فرَّقوه إلى مذاهب وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشون الذين بَدَّلوا المشرب الواحد، فجعلوه مشارب.
فهل هَبَّة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت(1)، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق على الأُسس التي وضعها محمد".
ولا مَطْمَع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلاَّ إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع فلا يرى إلا أخاً يشارك في الآلام والآمال، فهو حقيق أن يشاركه في العمل.
__________
(1) هذا اقتباس من قول زهير: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم (م).(1/198)
إنَّ الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة، وأقربْها نفعاً، وأجداها أثراً أنْ تُربَّى الأحداث من الصبا على غير ما ربَّانا آباؤنا، وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطلعوا عليها سميناها باسمها، وأنها نقائص، وأنها سبب هلاكنا، وحذرناهم من التقليد لنا فيها، فإذا شبُّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة ووجهناهم بتلك القابلية إلى وجهة واحدة، وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم، ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم.
إنَّ شبابنا اليوم يتخبّط في ظلمات من الأفكار المتضاربة، والسبل المضلة، تتنازعه الدعايات المختلفة التي يقرأها في الجريدة والكتاب، ويسمعها في الشارع وفي المدرسة، ويرى مظاهرها في البيت وفي المسجد، وكل داعٍ إلى ضلالة فكرية أو إلى نحلة دينية مفرِّقة يرفع صوته ويجهر، ويزين ويغري، ويعد ويمني، ونحن ساكتون، كأنَّ أمر هؤلاء الشبان لا يعنينا، وكأنَّهم ليسوا منَّا ولسنا منهم، ولا عاصم من تربية صالحة موحدة يعصمهم من التأثر بهذه الدعايات، ولا حامي من مذكر أو معلم أو مدرسة أو قانون يحميهم من الوقوع في هذه الأشراك.
إن شبابنا هم هدف هذه الدعايات وهم ميدان الصراع، وموضوع النزاع بين دعاة الفكرة الجامعة وصوتهم ضعيف وعملهم ضئيل، وبين دعاة الشيوعية والإلحاد والوطنيات الضيقة والعنصريات المحدودة وأصواتهم عالية، وأسنادهم قوية، ومحرِّكهم الأول واحد، وإن لم يشعروا به أو غالطوا أنفسهم وغالطونا فيه.
وما هم إلاَّ أسلحة في يده موجهة إلى شبابنا، إنْ لم يصب بواحد منها أصاب بالآخر، وهو الظافر على كل حال إن لم تعالجه بما يبطل كيده، ويفلُّ أسلحته كلها، وهو حماية هذا الشباب وتحصينه بالمعوذات من فضائل الإسلام وأخلاقه وروحانيته، وإن فيه العوض المضاعف عن كل ما تمنيه به الدعايات الخارجية.(1/199)
إذا كان الشباب لا يفهم الدين من البيت ولا من المسجد ولا من المدرسة ولا من المجتمعات، فإن فهم شيئاً منه في شيء منها فهمه خلافاً وشعوذة وتخريفاً _ ففي أي موضوع يفهم الإسلام على حقيقته طهارة وسمواً واتحاداً وقوة وعزَّة وسيادة؟!
إنْ عاملناه بالإنصاف نقول له معذور إن زلَّ وضلَّ بالانسياق مع هذه التيارات الخاطئة التي تختلف بالأسماء والمبادئ، وتتفق في الغاية، وهي حرب الإسلام في أبنائه لتحاربه بعد ذلك بأبنائه.
وإذا كان الشاب يجلس إلى أبويه وذويه فلا يسمع إلا المذهب والخلاف، ولمز المخالفين بالمذهب قبل المخالفين بالدين، ثم يجلس إلى العالم الديني فلا يسمع إلا =عندنا وعندهم +ثم يجلس في المدرسة فلا يسمع ذكراً للإسلام، ولا تمجيداً لمبادئه وعظمائه وتاريخه، ولا يرى فيها شيئاً من مظاهره بل لا يسمع إلا تحقيراً لماضيه، وغضاً من أمجاده.
إذا كان لا يسمع في مضطربه إلاَّ هذا، ولا يرى إلاَّ هذا _ فكيف نطمع أن ينتصر مع هذه الدعايات الجارفة؟ إننا حين نطمع في هذا لفي غيٍّ بعيد.
إن شبابنا؛ لجهلهم بالإسلام أصبحوا لا يثقون بماضيه؛ وكيف يثقون بماض مجهول وهذا حاضره؟ أم كيف يدافعون عن هذا الماضي المجهول إذا عرض لهم الطعن فيه في الكتاب الطاعن؟ أم سمعوا اللعن له من الأستاذ اللاعن؟ أم كيف يفخرون بالمجهول إذا جليت المفاخر الأجنبية في كتاب يقرره قانون، ويزكيه أستاذ؟ اعذروا الشبان، ولا تبكوا على ضياعهم فأنتم الذين أضعتموهم، ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم.
أهملتموهم فذوقوا وبال الإهمال، وأنزلتموهم إلى اللجة، وقلتم لهم: إياكم أن تغرقوا، ثم استرعيتم عليهم الذئاب، ومن استرعى الذئب ظلم.
لا أحمق منَّا: نُلَقِّن أبنائنا الخلاف في الدين والدنيا بأعمالنا، ونقول لهم بألسنتنا اتّحدوا، وإنَّ صالحةً يأخذها الابن عن أبيه بطريق القدوة خير من ألف نصيحة باللسان.(1/200)
النهضات الصادقة تبدأ من الأخلاق وتنتهي إلى الأخلاق، وما زادت بحوث الفلسفة ماضيها وحاضرها في الأخلاق شيئاً على ما جاء به الإسلام، وأقرَّته الفطر السليمة، ويزيد الإسلام على هذه الفلسفات ويشقُّ بقوة العرض للفضيلة، والتشويق لها، وشرح آثارها في الفرد والجماعة، وبيان صلتها الوثيقة بالأقانيم الثلاثة: الحق، والخير، والجمال.
وإن شعراء العرب الفطريين لأَدَقُّ تصويراً للفضائل، وأصدق تعبيراً عليها، وتفسيراً لآثرها، وحثَّاً على التحلي بها من جميع الفلاسفة النظريين، وقد أثرت الماديات في هذا العصر على عقول فلاسفته، ورانت عليها العصبيات الجنسية والإقليمية حتى انعكس نظرهم في فهم الفضيلة؛ فسموها بغير اسمها، فأصبحت القوة فضيلة يدعى إليها بدل الرحمة، والظلم فضيلة يُتَمَجَّد بها بدل العدل، والاستعباد فضيلة يتغنى بها بدل الحرية.
وكل هذا يدل على أن الفضيلة في نظر الفلسفة العملية الجديدة هي لباس للعقل لا نبع منه، وأنها خاضعة للحكم لا للحكمة.
أمَّا الفضائل في نظر الإسلام وحكمه فإنها صبغة لا تتحول، وحقيقة لا تتغير ولا تتبدل؛ فالصدق في معناه الإسلامي هو الصدق لا تتصرف في معناه المصالح والمنافع، ولا تتلاعب به الأهواء والمطامع، والوفاء هو الوفاء، والعدل، والإحسان، والرفق، والعفو عند القادر، كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق لا تنال منها تصاريف الأيام، ولا يتصور أن يأتي على الناس يومٌ تُجْمِع فيه عقول العقلاء على أنَّ الصدق مثلاً رذيلة تَصِمُ صاحبها بالذم إلاَّ إذا جوزنا مجيء يوم يخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان ويكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: رضي الله عنه.
فالموازين القرآنية للفضائل هي التي يجب أن تحكم في العقول حتى تأْمَنَ على الفضيلة ما يجري بيننا على =الأوراق النقدية +.(1/201)
ونحن أهل القرآن أحق الناس بالدعوة إلى هذا، وتبيّنه ونشره في هذا العالم المضطرب الذي فقد الفضائل الإنسانية؛ فانحدر إلى حيوانية عارمة توشك أنْ تفضي به إلى الفناء.
نحن أهل القرآن _ الذي وضع الموازين القسط للفضائل، وحثَّ عليها وجعلها أساساً للسعادة، وسُلَّماً للسيادة _ أولى الناس بأنْ نَزِنَ النهضات بحظوظها من الفضائل، وأن نبني بأيدينا أساس نهضتنا على صخرة الفضائل طبقاً عن طبق، ونحن _ لو أجلنا بصائرنا في القرآن _ أبعد الناس عن فساد التصور في تسمية هذه الحركات المتهافتة في المجتمعات الإسلامية نهضة.
الشعور السياسي في الإسلام(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
بثَّ الإسلام في نفوس معتنقيه ديناً قيماً، وأدباً راقياً، وسَنَّ لهم قواعد ليقيموا عليها أحكام مدنيتهم، ويهتدوا بها في تدبير سياستهم، وبعد أن وقف ذوو البصائر منهم على كُنْه الروح الذي يتماسك به العمران، ولا ينهض شعب أو يملك حياة مستقلة إلاَّ إذا ضرب فيه بأشعته _ شعروا بحق القيام على تدبير شؤونهم بأنفسهم، وأخذوا ينشرون تلك المبادئَ الشريفةَ، والتعاليم المحكمة بين أمم كانت تعثو في الأرض فساداً، وتخوض في الباطل خوضاً إلى أنْ كان ما أدهش العقول عن فتوحات نسخت ليل الجهالة، وجعلت آية العلم الصحيح مُبْصَرَة.
كان الشعور السياسي منبثاً في نفوس الأمة قاطبة، حتى إذا نهض الرئيس الأعلى لقتال يحمي ذَمارهم، أو عمل يرفع شأنهم خَفُّوا إلى دعوته، وأسلموا أنفسهم وأموالهم إلى رأيه وتدبيره.
ما هي العوامل التي أحيت ذلك الشعور، وجعلته يتألق بين جوانحهم تألق القمر في سماء صاحية، فأَكْبَر هممهم، وشَدَّ عزائمهم، حتى تراءى لهم الجبل ذرة، واستهانوا بالموت الذي _ كما قال بعض الحكماء _ لا مرارة إلاَّ في الخوف منه؟.
__________
(1) مجلة الفجر، المجلد الثاني من السنة الثانية الصادر في شهري صفر وربيع الأول سنة 1340هـ تونس.(1/202)
أحيا ذلك الشعور تلقيهم للكتاب الحكيم عن تدبر وإنعام في مراميه الاجتماعية والسياسية.
ومما يبعثهم على تجريد النظر لاجتلاء حقائقه، والكشف عن مقاصده أنه القانون الأساسي الذي لا تخضع الأمة إلاَّ لسلطانه؛ فكان العلماء _ وهم بمنزلة نواب الأمة _ يرقبون سير الهيئة الحاكمة، وما عليهم سوى أن يزنوا أعمالها بذلك الميزان السماوي، فيصفوها للناس بأنها جادة أو هازلة.
فالشعور السياسي نورٌ يسطع في الشعوب على قدر ما ينتشر بينها من معرفة حقوقها، والطرق الكافلة لحفظ مصالحها.
ولقد كنَّا نتلقى عن تجربة أن السلطة القابضة على زمام شعب يسوء أن يتنبه لحياته الشريفة، وينهض للمطالبة بحقوقه العالية تَصْرِفُ دهاءها إلى منابع التعليم، فتسد مسالكه، فإن لم تستطع ضَيَّقت مجاريَه، أو خلطته بعناصر تفتك بالإحساسات السامية، وتقلب النفوس التي فطرها الله على الحرية إلى طاعة عمياء.
أحيا ذلك الشعور أنَّ الله قَيَّض لهم رؤساء ما كانوا ليعدوا أنفسهم سوى أنهم أفراد من الشعب يقومون بتدبير جانب من مصالحه، فطرحوا التعاظم جانباً، وجلسوا لذوي الحاجات على بساط المساواة.
وكذلك قلوب الرعية إنما تنجذب إلى رجال الدولة، وتلتف حولهم بعاطفة خالصة، على قدر ما يبعدون عن مظاهر الأُبَهَةِ، ويخففون من شعار العظمة.
أرسل سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل إليه حتى جلس معه على سريره، فوثب عليه أتباع رستم وأنزلوه، فقال المغيرة بصوت جهير: =إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وإن مُلْكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول+.(1/203)
أراد المغيرة أن يبثَّ في الجنود الفارسية النُفْرَة من قائدها، حتى ترتخي عزائمهم عن نجدته، فما كان إلاَّ أن أيقظهم لما خص به ذلك القائد نفسه من الميزة والاعتلاء بغير حق، وأَومَأَ إلى أن الإسلام قرر قاعدة المساواة على وجهها الصحيح، فلا فضل لرئيس على أدنى السوقة إلا بتقوى الله.
وقد نجح دهاؤه ونفذت فيهم مقالته، حتى صاحت طائفة منهم قائلة: =صدق والله العربي فيما قال+.
ومن مثل هذا القصة، نَفْقَهُ أن سقوط تلك الممالك تحت رايتهم لم يكن نتيجة البسالة والسيف وحدهما، بل كان الأثر الأعظم للدهاء في السياسة.
أحيا ذلك الشعور أن رأوا باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه، ولم يجدوا دون مناقشة أولي الأمر حاجباً، فكان اطمئنانهم في سيرهم ووثوقهم بسلامة مستقبلهم مما يذكرهم بالسكينة، ويعظهم بأن يكونوا كالكنانة بين يدي أميرهم العادل، يرمي بعيدانها الصلبة في وجه من يشاء.
ومن ألقى نظرة في التاريخ الإسلامي عرف أن الرجال الذين أسسوا ملكاً لا سلف لهم به كعبد الرحمن الداخل، أو جددوا نظامه بعد أن تقطعت أوصاله كعبد الرحمن الناصر _ إنما استقام الأمر بما كانوا ينحونه في سياستهم من العدل في القضية، وتَلَقِّي الدعوى إلى الإصلاح بإذن صاغية، وصدر رحيب.
ماذا يخيل إليك من حال الأمة لعهد المنصور بن أبي عامر حين تقرأ في تاريخ دولته أن أحد العامة رفع إليه الشكوى بأحد رجال حاشيته فالتفت إليه، وكان ممن انتظم بهم عقد مجلسه، وقال له: انزل صاغراً، وساوِ خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الظالم، وقدِّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم؛ لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره.(1/204)
وإن الذي يتحلى بمزية إنصاف الضعيف من القوي، وتتمتع رعيته بمثل هذا العدل _ لجدير بأن يبلغ من العز الشامخ والتأييد الراسخ حيث جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم، واستقل بالأمر، وغزا ستاً وخمسين غزوة، دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش.
ذاق المسلمون طعمَ سياسةٍ أعدلَ من القسطاس المستقيم، وعرفوا أن الدولة التي لا تقوم على قواعد المساواة، والشورى، وحرية التصريح بالرأي _ ليست هي الدولةَ التي أذنت لهم شريعتهم بأن يلقوا إليها أمرهم عن طاعة وإخلاص، والحركات التي قلبت الدول رأساً على عقب كنهضة أبي مسلم الخرساني في الشرق، والمهدي بن تومرت في الغرب إنما نجحت وكان لها ذلك الأثر الخطير؛ لأنها تقوم بجانب دولة نامت عينها عن الحقوق الموكلة إلى رعايتها، وهامت بها الأهواء في أودية السَرَف والتفنن في الملاذ، حتى سَئِمَ الناس تكاليفها، ومالأوا الثائرين على إبادتها.
ولكن الفتن التي ترفع رأسها في مثل إمارة عمر بن عبد العزيز، أو صلاح الدين الأيوبي، أو عبد المؤمن بن علي لا تلبث أن تتضاءل وتنطفئ، كما تنطفئ الذُّبالة إذا نفد الزيت من السراج، وما ذاك إلاّ أن العدل متماسك العُرَى، وجمال الشَرْعِ يلوح في مُحَيَّا الدولة؛ فلا تجد نار الفتنة من القلوب النافرة ما يذهب بلهبها يميناً ويساراً.
فالإحساس السياسي الذي يربيه الإسلام في نفوس من يتقلدونه، إنما يرمي بأشعته إلى مبادئ مقدسة، وغايات شريفة، فإذا ربطوا قلوبهم باحترام أمير أو وزير أو زعيم، وبسطوا أيديهم إلى مؤازرته؛ فلأنه يرعى مبادءهم، ويولي وجهه شطر غاياتهم.
تاسعاً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
45_ الدعوة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ الدعوة إلى الخير: للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
47_ عذاب المصلحين: للأستاذ أحمد أمين
48_ الدعوة الشاملة الخالدة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
49_ قرآن الفجر: للأديب محمود صادق الرافعي(1/205)
50_ كلمة الحق: للشيخ العلامة أحمد محمد شاكر
51_ أدب المناظرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
الدعوة(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعياً إلى ترك ضلالة من الضلالات، أو بدعة من البدع، إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها، ولا يخبو أوارها حتى تهلك، أو يهلك دونها.
ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة، وليس سلب الأجسام أرواحها بأقرب منالاً من سلب النفوس غرائزها.
ولا يَضَنُّ(2) الإنسان بشيء مما تملك يمينه ضَنَّه بما تنطوي عليه جوانحه من المعتقدات، وإنه ليبذل دمه صيانة لعقيدته، ولا يبذل عقيدته صيانة لدمه، وما سالت الدماء، ولا تمزقت الأشلاء في موقف الحروب البشرية من عهد آدم إلى اليوم إلا حماية للمذاهب، وذوداً عن العقائد.
لذلك كان الدعاة في كل أمة أعداءها وخصومها؛ لأنهم يحاولون أن يرزؤوها في ذخائر نفوسها، ويفجعونها في أعلاق قلوبها.
الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة، وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة، حتى يبلغوا الغاية التي يرونها، أو يموتوا في طريقها.
الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة، أو جهلة، أو زنادقة، أو ملحدين، أو ضالين، أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بدَّ أن يكون.
الدعاة الصادقون يعلمون أن محمداً " عاش بين أعدائه ساحراً كذاباً، ومات سيد المرسلين، وأن الإمام الغزالي عاش بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام، وابن رشد عاش ذليلاً مهاناً حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه، ومات فيلسوف الشرق؛ فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياءاً وأمواتاً.
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص295 _ 299.
(2) يضن: يبخل.(1/206)
سيقول كثير من الناس: وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظناً، ولا تسمع له قولاً؛ إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته، فيكون أجهل الناس وأحمق الناس.
هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا الداء الذي ألمَّ بنفوس كثير من العلماء؛ فأمسك ألسنتهم عن قول الحق، وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد، فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون، فجمدت الأذهان، وتبلدت المدارك، وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس، ولا ينفذ إليه الهواء.
الجهل غشاء سميك يَغْشى العقل، والعلم نار متأججة تلامس ذلك الغشاء فتحرقه رويداً رويداً؛ فلا يزال العقل يتألم لحرارتها ما دام الغشاء بينه وبينها، حتى إذا أتت عليه انكشف له الغطاء؛ فرأى النار نوراً، والألم لذة وسروراً.
لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدان؛ لأن الحق وجود، والباطل عدم، إنما يصرعه جهل العلماء بقوته، ويأسهم من غلبته، وإغفالهم النداء به، والدعاء إليه.
محال أن يهدم بناء الباطل فرد واحد في عصر واحد، وإنما يهدمه أفراد متعددون؛ في عصور متعددة، فيهزه الأول هزة تباعد ما بين أحجاره، ثم ينقض الثاني منه حجراً، والثالث آخر، وهكذا حتى لا يبقى منه حجراً على حجر.
الجهلاء مرضى، والعلماء أطباء، ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي؛ فراراً من إزعاج المريض، أو خوفاً من صياحه وعويله، أو اتقاءاً لسبه وشتمه؛ فإنه سيكون غداً أصدق أصدقائه، وأحب الناس إليه.
وبعد: فقليل أن يكون الداعي في الأمة الجاهلة حبيباً إليها، وقليل أن ينال حظه من إكرامها وإجلالها إلا بعد أن تتجرع مرارة الدواء، ثم تشعر بحلاوة الشفاء.
الدعاة في هذه الأمة كثيرون ملء الفضاء، وكظة(1) الأرض والسماء، ولكن لا يكاد يوجد بينهم داعٍ واحد؛ لأنه لا يوجد بينهم شجاع واحد.
__________
(1) الكظة: البطنة.(1/207)
أصحاب الصحف، وكتاب الرسائل، والمؤلفون، وخطباء المجامع، وخطباء المنابر كلهم يدعون إلى الحق، وكلهم يعظون وينصحون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضراً، أو يلاقي في طريقها شراً(1).
رأيت الدعاة في هذه الأمة أربعة: رجلاً يعرف الحق ويكتمه عجزاً وجبناً، فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر، ورجلاً يعرف الحق وينطق به ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته، فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيراً له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في =برشامة+ ليسهل تناوله وازدراده؛ ورجلاً لا يعرف حقاً ولا باطلاً، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها، فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل، والضار والنافع، في موقف واحد؛ فكأنه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه:
مكَرٍّ مفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً ...................................
ورجلاً يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المُجِّد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوُّها في ثياب صديقها؛ لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد؛ فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها؛ فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة، ينيرون لهم طريق الدعوة، ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها؛ فليت شعري متى يتعلمون، ثم يرشدون؟
الدعوة إلى الخير(2) للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
__________
(1) ليس هذا الكلام على إطلاقه (م).
(2) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الأول، ص 16_ 21، رجب 1343هـ.(1/208)
قال _ تعالى _: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)] فصلت.
أصدق الحديث كتاب الله _ تعالى _ لأنه كلام العليم الحكيم: العليم بالنفوس، وما يسعدها، وما يرقيها، وبالأمم وما يدنيها من السعادة والعزة وما يقصيها.
وهو الحكيم في أمره، ونهيه، ووصفه، وفعله؛ فلا يكون منه إلا ما يتفق مع مصلحة الأفراد والأسر والجماعات والأمم، وإذا وصف أدوية الأمراض والعلل فخير الأوصاف وصفه، وخير الأدوية دواؤه؛ فالشفاء من العلل مُعْقِبه لا محالة.
وإذا كان ذلك شأن الله وشأن كلامه فاستمع لإرشاده، وتمسك بقرآنه، وتدبر معناه ومرماه وفحواه ومغزاه، وكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين ظهرت آثار الموعظة الحسنة في قلوبهم وأخلاقهم وأعمالهم، ولا تكن من الذين قالوا: سمعنا وعصينا؛ فإن ذلك الشقاء بعينه والخسارة ليست بعدها خسارة.
ولا أظنك من هؤلاء وقد اتخذت الإسلام ديناً، وجعلت كتاب الله إماماً، فالظن بك أن تكون المستمع المنصت لما يلقيه عليك العليم الحكيم من النصائح، فاستمع أرشدني الله وإياك إلى الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه، ولا تلعب بعقله وفطرته الأهواء والشهوات.
الإنسان يتكلم كثيراً، ولكن النافع من كلامه قليل، والله _ جل شأنه وتعالت حكمته _ يرشدنا في هذه الآيات إلى خير الكلام، وأصدقه، وأحسنه، وأنفعه قال: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)] فصلت.(1/209)
فأعذب الناس لفظاً، وأحسنهم قولاً الذي يدعو إلى الله، وإلى دينه الحقِّ، وشريعته الحكيمة العادلة الكفيلة بسعادة الناس في دنياهم وأخراهم.
وكيف لا يكون أحسن الناس كلاماً وقد سلك مسلك الرسل في الدعوة إلى الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعمل على تطهير النفوس من رذائل الأخلاق، ومحدثات الأمور، وتكميلها بما يرفع شأنها، ويعلي أمرها.
واعلم أن الدعوة إلى الله لا تنفع ولا تجدي إلا إذا كانت صادرة عن نفس طيبة لله مخلصة قد امتلأت بحب الدين، ورسخت فيها أخلاقه وأعماله؛ فإن الكلمة منها تؤثر بالنفوس ما لا تؤثره السيوف، وتسوقها إلى الخير ما لا تسوقها القوة الغاشمة، وإن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، وإن خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.
وهل تظن بكلام لا يبرهن عليه عملك أن تكون له قيمة عند الناس؟
هيهات هيات؛ فقبل أن تنصب نفسك داعية إلى الخير هذبها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة من صدق، وكرم، وعزة، وشهامة، ونجدة، ومروءة، وصلاة، وزكاة، وحج، وصيام؛ فإن لهذه من التأثير في كمال النفوس، وسوقها إلى الخير أثراً كبيراً، وصلاحاً عظيماً.
ولهذا قرن الله الدعوة إليه بالعمل الصالح؛ لأنه عماد الدعوة، ووسيلتها التي تجعلها نافعة مفيدة؛ فكمِّل نفسك تستطعْ تكميل غيرك، وهذِّب خلقك يتأدبِ الناس بأدبك، وينهجوا مثل نهجك.
وإن الدعوة إلى الله كما تكون باللسان تكون بالأعمال، والناس يتأثرون بالأعمال أكثر مما يتأثرون بالأقوال.
فالحكومة التي يرأسها وزير قائم على رعاية المصالح، وإعطاء الحقوق، والضرب على أيدي الظالمين، والصلابة في الحق، وعدم التأثر بالأهواء والشهوات _ يغلب في أفراد حكومته وموظفيها تلك الشيم العالية، والمكارم الطيبة.
والبلد الذي استقام علماؤه، ونصبوا أنفسهم حراساً على الدين، ودعاة إليه يهتدي أهل البلد بهديهم، ويرتسمون طريقتهم.(1/210)
وناظر المدرسة وأساتذتها إذا كانوا مثالاً صالحاً في أخلاقهم وأعمالهم وإخلاصهم وقوة عزيمتهم _ نشأ تلامذتهم على شاكلتهم متأدبين بآدابهم، سالكين مسلكهم.
وكذلك رب الأسرة إذا كان ورعاً تقيَّاً نهاره في عمله، وليله في بيته، لا يقصر في واجب الله أو الناس، ولا تؤثر في نفسه الشهوات التي أضلت كثيراً، وظنوا أنها السعادة، وإنْ هي إلا الشقاوة.
هذا الشخص يتخلق بأخلاقه، ويعمل بأعماله زوجُهُ، وبنوه، وبناته، بل وأقرباؤه، وجيرانُه، ومن يختلط بهم في العمل؛ فاستقامة رب البيت مدعاة لاستقامة أهل البيت، وإن المنبت الطيب لا ينبت إلا طيباً، والبيئة الفاسدة لا تنشئ إلا فساداً.
فيا معشر الرؤساء كلكم راع ومسئول عن رعيته؛ فليتق الله كل فيما يرعاه، وليكن له مثالاً طيباً، وأسوة حسنة، وقدوة صالحة.
ولما كان الدعاة إلى الحق يتصدى لهم معارضون مفسدون يسيئون سمعتهم، ويعرقلون أعمالهم كما جرت سنة الله في خلقه كما نطق به القرآن [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] الأنعام:112.
ولما كانت سنة الله فيهم كذلك، وكان لا بد لهم من التصادم مع أنصار الباطل، وأعداء الحق _ ندبهم الله إلى أن يقابلوا قولهم وعملهم بلين من القول، وجميل من العبارة لا يدل على التراجع عن الحق، ولكن على التمسك به فيقول كل منهم: [إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)] فصلت، المنقادين لأوامر الله _ سبحانه وتعالى _ والمحافظين على حدوده؛ فإن أسأتم إليَّ فلي رب يحميني، وإله يدفع عنِّي، وما أنا ممن أتى منكراً، أو زوَّر قولاً إن هو الطريق مستقيم استبانت لي أعلامُه، ووضحت محجتُه، فسلكته على بصيرة، وإن الذي وفقني لسلوكه لسوف يوفقني لغايته، وما يضرني كيدكم شيئاً إن كان الله يريد نفعي ونصري.(1/211)
ثم بيَّن _ جلَّ جلاله _ أنه لا تستوي الحسنة ولا السيئة، بل لين القول مقدّم على جافِّه، ورقيقه مقدَّم على غليظه، ومقابلة الهفوة بالعفو، والإيذاء بالصفح أنجح في باب الدعوة، وأرجى للإجابة [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ] البقرة:237.
ولذلك قال _ جلَّ جلاله _:[فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)] فصلت:34، أي صديق قريب؛ فمقابلة السيئة بالحسنة، والرذيلة بالفضيلة تجعل الأعداء أصدقاء، والمشاغبين مسالمين، والمنافقين مخلصين، والبعيد عن حقك وعملك قريباً منك.
وذلك أهم ما تصبو إليه نفس الداعي أن يهتدي الناس بهديه، ويتأدبوا بأدبه، ويتخلقوا بخلقه أي أن يكونوا على الصراط المستقيم الذي سلكه _ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض؛ فالمسالمة في الدعوة _وإن طالت مدتها_ أولى من المعاداة والمشاكسة، ولنا برسول الله "أسوة حسنة؛ فإنه مكث أربع عشرة سنة يدعو إلى الله بقوله وعمله، ولم يجرد سيفاً، ولم يعلن حرباً إلا بعد أن خشيَ على دينه من أعمال الكفار، وبعد أن أخرج هو وأتباعه من ديارهم وأموالهم[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)] الحج.
واعلم أن مقابلة السيئة بالحسنة أمر شاقٌّ لا يقدر عليه إلا شخص وطَّن نفسه على الصبر، ومرَّنها عليه حتى صار عادة له.
وكذلك لا يقوم بها إلا شخص له حظٌّ عظيم من الكمال الخلقي، والتهذيب النفسي، والعمل الصالح ولذلك يقول _ جلَّ ثناؤه _: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)]السجدة.(1/212)
فأخبر _ جلَّ ثناؤه _ بأنهم لم يصيروا أئمة في الهداية، وقادة في الدعوة إلا بعد أن تحلوا بالصبر، وكانوا موقنين بآيات الله إيقاناً ظهرت آثاره في أعمالهم وأخلاقهم؛ فلما كانوا كاملين صابرين جعلهم الله أعلاماً للهداية، وأئمة في الخير.
فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة النفوس.
وإن رجلاً لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خلق إلى حقٍّ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقاً رشداً، ويصلح بك جماعات بل أمماً [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)] العنكبوت.
عذاب المصلحين(1) للأستاذ أحمد أمين
قرأتُ قوله _ تعالى _: [أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ]البقرة: 87.
وقرأت حديث ورقة بن نوفل مع رسول الله، إذ حدثه الرسول بما نزل عليه من وحي فقال له ورقة: =ليتني حياً إذ يخرجك قومك +قال رسول الله ": =أو مخرجي هم؟+.
قال: =نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي+.
وقرأت كثيراً من سير المصلحين المجددين، فرأيت أكثرهم_ في اضطهاد الناس لهم_ سواء، ورأيت تاريخهم يكاد يتشابه؛ دعوة حارة إلى الإصلاح يتبعها تألب العامة عليهم، واضطهادُ الرأي العام لهم، والتنكيل بالمصلح، ثم انتصار الأفكار الجديدة التي أتى بها هذا المصلح، بعد أن يكون قد انهدت قواه، أو انتقل إلى رحمة الله.
لماذا كل هذا؟ ولماذا يتشابه التاريخ حتى كأنه قانون طبيعي؟ ولماذا يتكرر هذا المنظر في الشرق والغرب وكل مكان حل به الإنسان؟
__________
(1) فيض الخاطر (3/141_144).(1/213)
السبب في هذا الفكرة الجديدة تأتي وقد التأمت أفكار الناس على نمط خاص، وتجمعت وشد بعضها بعضاً، وتماسكت حلقاتها.
وتأتي الفكرة الجديدة غريبة عن هذه الأفكار المألوفة فلا تجد مكاناً بينها، ولا تجد نفسها منسجمة مع الأفكار الموجودة، ويشعر الناس أَنَّ هذه الفكرة نابية عن أفكارهم، غير منسجمة مع النظام العلى(1) الذي استقر في أذهانهم، فيكرهونها، ويقفون في سبيلها، وكل ما كانت الفكرة الجديدة أبعد عن المألوف كانوا لها أكثرهم كراهية ومقتاً، وأشد تحمساً لمناهضتها وطردها أو القضاء عليها.
إنَّ أفكار كل إنسان تُبنى بنياناً مما رآه وسمعه وقرأه وصادفه في حياته، وهي مع تكونها في أزمان مختلفة تكون وحدة منسجمة، ولا تقبل أن يزيد عليها إلا ما لاءمها وانسجم معها، فإذا رأت فكرة جديدة لا تلتئم مع هذا النظام المحبوك، ولا تستطيع أن تكون حلقة في شبكة العقلية المنسوجة_ طوردت وأقصيت.
ثم إن هذا النسيج من الأفكار يشعر أنه أتت الفكرة الجديدة الغريبة عنه، ودخلت فيه، وأفسدت نظامه، وأقلقت راحته، فهو يَصُدُّها ويقف في سبيلها، ولا يسمح بالدخول، كطائفة من الدجاج مؤتلفة منسجمة نشأت في بيت واحد ثم دخلت عليها دجاجة جديدة لم تنشأ في بيئتها، ولم تعتد عاداتها؛ فهي تطَارَدُ وتُبْعَدَ عن الحَبِّ، وتُنْقَّر، وتُعَذَّب.
ثم إنَّ المخ يشعر أنه إن قَبِل هذه الفكرة اقتضته تعديلاً في نظامه، وتجديداً في أوضاعه، وتغييراً في نسيجه، ومجهوداً كبيراً في إعادة ترتيب القديم والمألوف. وهذه عملية شاقة لا يرتضيها العقل في سهولة ويسر، ولا سيما أنه يشعر أن الفكرة الجديدة ستكلفه إعادة تقويم الأشياء، ووزنها وزناً جديداً، وهو قد استنام إلى ما حدث، وألف ما كان.
__________
(1) هكذا في الأصل ولعله: العام، أو الكلي (م).(1/214)
ومخ الإنسان _ وهو مركز عقله _ أحدث الأعراض وجوداً في الإنسان، ومادته التي يتكون منها رخوة هينة لينة، لم تتصلب تصلب الأعضاء القديمة في أسلافنا من الحيوان كاليد والرجل ونحوهما.
ومن أجل هذا كان المخ أشد الأعضاء حساسية بالتعب وكراهية لمداومة العمل؛ وليس من الناس إلا القليل القادر على إعمال العقل، وتحريك المخ زمناً طويلاً.
والفكرة الجديدة تُكَلِّف المخ عناءً شديداً في قبولها، لما يترتب عليها من أعمال كثيرة؛ ولذلك هو يرفض كل هذا العناء؛ فيرفض الفكرة؛ ويستريح؛ ولذلك كان أكثر الناس يخافون التفكير؛ لأنه مؤلم لهم، فما يبدأ فيه حتى يشعر بانقباض في صدره، وصداع في رأسه، وما أقل من يجد في التفكير لَذَّتَهُ.
ومن أَجْلِ هذا كان دعاة التجديد والإصلاح في كل أمة وفي كل عصر نادرين جداً، وندرتُهم لم تأتِ من ندرة الذكاء، وإنما أتت _ في الأغلب _ من ندرة احتمال العقل الصبر على البحث وراء الحق، وندرةِ الشجاعة في اعتقاد الحق والجهر به؛ فالناس _ إلا في القليل النادر _ يألفون الحياة كما هي لا كما ينبغي أن تكون، وهم بين من لا يجد زمناً إلا لتحصيل قُوْتِه، ومن يجد الفراغ، ولكن لا يستطع عقله الصبر على البحث الحر، أو يجد كل ذلك ويستطيعه، ولكن لا يستطيع الجهر به؛ لما يتوقع من متاعب وآلام: مساسٍ بسمعته، وقدحٍ في ذمته، وتهكمٍ على عقله، وتجريحٍ لِخُلقه، ونيلٍ من دينه.(1/215)
والتاريخ يجري على نمط واحد منذ تكونت الجمعية البشرية إلى اليوم، يلمع فيها أفراد قلائل في كل عصر، يخرجون على إلف الناس، وما اعتادوه في أفكارهم وعقائدهم وعواطفهم؛ فيتألب عليهم الناس؛ لكسلهم العقلي، ولأن الدعوة الجديدة تقلق راحتهم وتدعوهم إلى قلب نظامهم العقلي والعاطفي، كالذي يدعو كسلاناً أن يغير نظام بيته أو نظام معيشته، وبدلاً من أن يوجه غضبه إلى نفسه؛ لكسلها أو جمودها، يحول غضبه على من سبب له هذا القلق؛ ثم لا يقتصر على محاربته بالأساليب الشريفة، بل يحاربه بكل سلاح، ولا يتورع عن أن يختلق عليه، و يتهمه بما يستطيع من تهم، ويرى أن كل وسيلة تقضي إلى قتل هذه الفكرة الجديدة جائزة ومشروعة؛ فإذا وصل إلى هذا الغرض بإعدام الفكرة أو إعدام قائلها، اطمأن واستراح؛ لأنها تتفق مع طبيعته في الكسل، واستنامته إلى ما ألف.
وقد اعتدنا أن نجد مسألتين تتصلان بهذه الظاهرة التاريخية:
الأولى _ أن أكثر من يناصر الفكرة الجديدة يكونون عادة من الشباب، أو من ينتفع بها من الطبقات والأفراد؛ وتعليل ذلك واضح؛ فالشباب لم تتجمد بعد شبكة أفكارهم، ولا يزال فيها مرونة تصلح لأن تتقبل شيئاً جديداً كما تصلح للتشكيل الجديد، ولأن عواطفهم الحارة ترحب بالشيء الجديد الذي يتطلب منهم عملاً وقوة ونزالاً.
وأما من ينتفعون بالفكرة فأمرهم واضح، فقد ارتبطت الفكرة بمصالحهم، فهم يؤيدونها لما وراءها من مغنم.(1/216)
والثانية _ أننا نرى _ في الغالب _ تأييد السلطات للفكرة القديمة ومناهضتهم للفكرة الجديدة، سواء كانت الفكرة الجديدة تمسهم مباشرة أو لا تمسهم؛ وسبب ذلك أن السلطات في الغالب تتطلب السلامة أكثر مما تتطلب التقدم، والرأي العام والسواد الأعظم من الناس يناصر الأفكار القديمة لما أسلفنا؛ فالسلطات يهمها _ محافظة على السلامة والطمأنينة والهدوء _أن تغضب على من يغضب الرأي العام، ويقلق راحته، لأن في راحة الجمهور راحة السلطات، ولأن السلطات كالأفراد أحب شيء إليها راحتها من التفكير، ومن وجع الدماغ، والفكرة تحمل في ثناياها حرباً، وحركة، واضطراباً، وانقساماً إلى معسكرات، وذلك يتطلب مجهوداً من السلطات كانت في غنى عنه؛ فهي_ أيضاً _ تغضب على من سبب لها هذا القلق والاضطراب، ودعاها إلى التفكير، ورسم الخطط.
لهذا كانت عظمة المصلحين في تحملهم هذه الصعاب كلها أكثر من عظمتهم في العثور على الحق؛ لأن عثورهم على الحق في هدوء بينهم وبين أنفسهم، أما تحقيق هذا الحق فلا يتم إلا بكل هذه المصاعب التي ألممنا بها.
ومع هذا فإنا نرى أن الأفكار الجديدة الصالحة تبقى على الرغم مما لاقت من صعاب، وعلى الرغم من موت دعاتها، بل إن موت دعاتها يخفف من غضب المعاندين للفكرة؛ لأن السواد الأعظم من الناس لا يستطيع الغضب على المعاني ما لم تُجَسَّم في شخص؛ فإذا مات هذا الشخص الحسي فترت قوة المعارضة للمعاني، ويأتي جيل الشباب الذي اعتنق الفكرة الجديدة، فيكتسح الجيل القديم المعارض، ويتبوأ مراكزه في الحكم وفي العمل، فتسود أفكاره، حتى تبلى أفكاره وهو أيضاً، و يمثل الدور من جديد.
هذا هو قانون الطبيعة منذ خُلِقَ الإنسان، يجري الناس شوطاً، فيلهم القادة فكرة أو أفكاراً يستلزمها الرقي، فيعارضها أعداء الرقي، ثم يموت الدعاة والمدعوون، ويموت النزاع، وتسود الفكرة، ثم يتجدد تمثيل الرواية.(1/217)
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان طبيعياً، ولكنَّ الناس بجهلهم يخلقون معسكرات غير طبيعية تدعو إلى النزاع غير الطبيعي، فيفتحون مدارس تعلم على أنماط مختلفة، فتخلق عقليات مختلفة، ويعددون النظم التي تخلق مطامع مختلفة، ويشرعون نظماً اقتصادية تكون طبقات متعادية، إلى أمثال ذلك، فيكثر العداء بين الأفكار، ويضيع جهد المصلحين في التقريب بين العقليات، مع أن عوامل التبعيد الأساسية لا تزال تعمل عملها.
والأمة العاقلة التي يدرك قادتها هذه الحقائق تقضي على عوامل هذه الاختلافات، ولا يبقى لديها حرب في الآراء إلا ما تقضي به الطبيعة مما يتفق وتقدم الزمان.
الدعوة الشاملة الخالدة(1) للعلاَّمة الشيخ محمد الخضر حسين
بينما العالم يتخبط في جهل وغواية فإذا بنور يلوح تحت سماء مكة، وتنبعث أشعته في اليمين واليسار، حتى أخذت بلاد العرب من أطرافها، وضربت في أقاصي الشرق والغرب، فانقلب الجهل إلى علم، والغواية إلى هدى، ذلك هو نور الدعوة التي قام بها أكمل الخليقة محمد بن عبد الله ".
ترمي هذه الدعوة الصادقة إلى أهداف سامية: إصلاح العقائد، والأخلاق والأعمال، وتنقية النفوس من المزاعم الباطلة، وتحرير العقول من أسر التقليد، حتى تحت ضياء الحجة(2)، وعلى ما يرسمه لها المنطق السليم.
جاء الرسول الأعظم بهذه الدعوة الشاملة، فكانت مصدر خير ومطلع حكمة، وقد أيدها الله _ تعالى _ بما يضعها في النفوس موضع القبول، ويجعلها قريبة من متناول العقول.
__________
(1) مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الأولى في أول ربيع سنة 1367هـ، وانظر كتاب:(هدى ونور) ص43_45، للشيخ محمد الخضر، عناية الأستاذ علي الرضا الحسيني.
(2) هكذا في الأصل، ولعل هناك سقطاً، ولعله: حتى صارت.... (م).(1/218)
ومن أقوى مؤيداتها الآيات القائمة على أنَّ المبلغ لها رسول من رب العالمين، وسيرته _ عليه الصلاة والسلام _ مملوءة بأرقى الفضائل وأَسنى الآداب وأجَلّ الأعمال، حتى إنَّ الباحث في السيرة على بصيرة ليجد في كل حلقة من سلسلة حياته معجزة، ولو استطعت ـ ولا إخالك تستطيع ـ أن تضعها في كفه، ثم تعمد إلى سيرة أعظم رجل تحدث عنه التاريخ، فتضعها في الكفة الأخرى، لعرفت الفرق بين من وقف في كماله عند حد هو أقصى ما يبلغه الناس بذكائهم وحزمهم، وبين من تجاوز ذلك الحد بمواهبه الفطرية، وبما خصه الله به من معارف غيبية، وحكم قدسية.
هي دعوة الحق اتجه إليها أقوام لا يؤمنون بأنها وحي سَمَاويّ، فاطلعوا على جملة من حقائقها، ووقفوا على جانب من أسرارها، فشهدوا لها بأنها محكمة الوضع، سامية الغاية، وألموا بأطراف من سيرة المبعوث بها، فاعترفوا بأنه أكبر مصلح أنقذ الإنسانية من غمرات الاستبداد، وعلمها بأقواله وسيرته العملية كيف تتمتع بحقوقها كاملة، وتحتفظ بحريتها وهي آمنة.
دعوة تأبى الخمول والإحجام، حيث ينبغي لها أنْ تظهر في شهامة وإقدام، توجه نصائحها إلى الأمم على اختلاف طبقاتها وتفاضل درجاتها؛ فتسدي النصيحة إلى الملوك فمن دونهم من ذوي المناصب السياسية، والقضائية، والتنفيذية، وتأخذ بأيدي العاملين من نحو التُّجَّار، والصُّنَّاع، والزُّرَّاع إلى أن يسيروا في الطريق الكافل للسلامة والنجاح، وأقبلت على الأسرة فرسمت لها نظماً تيسر لها أن تعيش في ألفة وهناءه، فقررت للزوجة والقرابة من نحو الأبوة والبنوة حقوقاً عادلة، وأوجبت على من يستطيع إسعاد ذوي الحاجات بمال أو جاه أن يسعدهم ما استطاع، وأوصت مع هذا برعاية حقوق الجوار.(1/219)
وراعت في معاملة المخالفين ما تستدعيه العزة من الحزم، ثم ما تستدعيه العاطفة الإنسانية من الرفق، ففرقت بين من يدخل تحت سلطانها، وبين من يناصبها العداء، فمنحت المسالمين من الحقوق ما تطمئن به نفوسهم، وتنعم به حياتهم، وأذنت في تقويم المناوئين بالقدر الكافي للنجاة من عدوانهم.
طلعت الدعوة المحمدية على الناس فصيحة البيان، قوية الحجة، حكيمة الأساليب، ولم تسلم مع هذا من طوائف يرمون أمامها أو وراءها عن قوس إلحاد وقح، أو جهل قاتم، ولولا أن الله _ تعالى _ تكفل بحفظها، وقيض لها في كل عصر أنصاراً رسخوا في فهم مقاصدها، وتصدوا للذود عن ساحتها بيقظة وحزم _ لتمكن أولئك المفسدون من إخفات صوتها، وطمس معالمها.
وليست دعوة الإسلام بالدعوة التي ترشد إلى مواطن الإصلاح، ثم تترك الناس وشأنهم كما يفعل وعاظ المساجد والجمعيات(1)، بل هي دعوة تحمل في مبادئها فرضاً على الأمة أن تقوم بتنفيذ ما تقرره من حقوق، أو تفرضه من واجبات؛ إذ لا ينفع تَكُلُّمٌ بحق لا نفاذ له.
قرآن الفجر (2) للأديب مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) لو قال: بعض وعاظ ... (م).
(2) وحي القلم 3/28_31 ...(1/220)
كنتُ في العاشرة من سنِّي وقد جمعتُ القرآنَ كلَّه حفظاً وجوَّدته بأحكام القراءة، ونحن يومئذٍ في مدينة =دمنهور+ عاصمة البحيرة، وكان أبي كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم، ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان يدخل المسجد، فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بإلهه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض؛ فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير، ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوعَ المرطَّبَ الروح بالوضوء، المدعوَّ إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحنيَ في ركوعه؛ ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجدَ بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلال الأعظم.
وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشريّ في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة.
وذهبت ليلة فبتُّ عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسَّحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته؛ فلما كان السَّحر الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد،أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق ومنك الحق.... إلى آخر الدعاء.(1/221)
وأقبل الناس ينتابون المسجد، فانحدرنا من تلك العِلْيَة التي يسمونها الدكة، وجلسنا ننتظر الصلاة، وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل ذبالة يرتعش النور فيها خافتاً ضئيلاً يبص بصيصاً كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه؛ فكانت هذه القناديل والظلام يرتج حولها ،تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه ولا يُبَيِّنُه، فما تشعر النفس إلا أن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور كأنها سرّ يشف عن سرّ .
وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشُّعل في أطرافه العليا، وإلباس الظلام زينته النورانية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد، وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكباً فيها روح المسجد ؛ فتعتريه حالةٌ روحانيةٌ يستكين فيها للقدر هادئاً وادعاً راجعاً إلى نفسه، مجتمعاً في حواسه، منفرداً بصفاته، منعكساً عليه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن تلك الظلمة قد طمست فيه على ألوان الأرض.
ثم يشعر بالفجر في ذلك الغَبَش عند اختلاط آخر الظلام بأول الضوء شعوراً نديَّاً كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه؛ ليتنضَّر من يُبْس، ويَرِقَّ من غلظه، وكأنما جاءوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبدوءاً بالرحمة مفتتحاً بالجمال؛ فإذا كان شاعرَ النفس التقى فيه النور السماويّ بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر.(1/222)
لا أنسى أبداً تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون عليهم وقار أرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه، وقد استبهمت الأشياء في نظر العين؛ ليلبسها الإحساس الروحاني في النفس؛ فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي ليس منه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر المتخيَّل.
لا أنسى أبداً تلك الساعة، وقد انبعث في المسجد صوت غِرد رخيم، يشقُّ سُدْفَةَ الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي وهو يردد هذه الآيات من آخر سورة النحل[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)].
وكان هذا القارئ يملك صوته أتمَّ ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرَّف به أحلى مما يتصرَّف القمري وهو ينوح في أنغامه، وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد.
كان صوته على ترتيبٍ عجيبٍ في نغماته؛ يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطراباً روحانياً كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتتردد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيَرفَضُّ عليها بمثل الندى؛ فإذا هي ترف رفيفاً، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطل.(1/223)
وسمعنا القرآن طريَّاً كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجر يتناول الماء ويكسوها منه .
واهتز المكان والزمان، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور!
وكنا نسمع قران الفجر، وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها ، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعاً على طبيعته الأرضية.
أما الطفل الذي كان فيَّ يومئذٍ فكأنما دُعيَ بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء في من بعد؛ فانا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك ؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله !
كلمة الحق(1) للعلاَّمة أحمد محمد شاكر(2)
ما أَقلَّ ما قلنا (كلمةَ الحق) في مواقف الرجال، وما أَكثر ما قصّرنا في ذلك، إن لم يكن خوفاً فضعفاً، ونستغفر الله، وأَرى أَنْ قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا؛ كفَّارةً عما سَلَف من تقصير، وعما أَسْلَفْتُ من الذنوب، ليس لها إلاَّ عفوُ الله ورحمته، والعمر يجري بنا سريعاً، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها .
وأَرى أنْ قد آنَ الأوانُ لنقولها ما استطعنا، وبلادُنا، وبلاد الإسلام تنحدر في مجرى السَّيْل، إلى هُوَّة لا قرار لها، هُوَّةِ الإلحاد والإباحية والانحلال، فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بحُجَزِهم عن النار انحدرنا معهم، وأصابنا من عَقَابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حُمِّلوا .
__________
(1) نشرت في مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس عشر، والسادس عشر، وهي في كتاب (كلمة الحق) الذي جمع مقالات الشيخ× وقدم له الأستاذ عبدالسلام هارون، وترجم للمؤلف محمود شاكر _ رحم الله الجميع _.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/224)
ذلك بأن الله أخذ علينا الميثاق [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ]آل عمران: 187.
وذلك بأن ضرب لنا المثل بأَشقى الأُمم [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)] المائدة.
وذلك بأن الله وصفنا _ معشرَ المسلمين _ بأننا خيرُ الأمم:[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]آل عمران:110.
فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأُمم، كنَّا كَمَثَل أشقاها، وليس من منزلة هناك بينهما.
وذلك بأن الله يقول[الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)]الأحزاب .
وذلك بأن الرسول " قال:=أَلاَ لا يمنعنَّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه الناس أو شَهِدَه؛ فإنه لا يُقرِّب من أَجَلٍ ذلك، ولا يُبَاعد من رِزْقٍ، أَنْ يقولَ بحقٍّ، أو يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ+.
وذلك بأن رسول الله "قال =لا يحقرنَّ أحدكم نفسه، قالوا:يا رسول الله، كيف يحقر أَحدنا نفسه؟قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، ثم لا يقولُ فيه؛ فيقولُ الله _ عز وجل _ له يوم القيامة: ما منعك أن تقولَ فيَّ كذا وكذا ؟فيقولُ خَشْيَة الناس، فيقول ُ:فإياي كنت أَحقَّ أن تَخْشَى+.
نريد أن نقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها، نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا، بالقول الفصل، والكلمة الصريحة، لا نخشى أحداً إلاَّ الله؛ إذ نقول ما نقول في حدود ما أنزل الله لنا به، بل ما أوجب عليه أن نقوله، بهدي كتاب ربنا، وسنة رسوله .(1/225)
نريد أَن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث، اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام، تقليداً لأُوربة الوثنية الملحدة، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة، والشرك القديم.
نريد أن ننافح عن القرآن، وقد اعتاد ناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أَظهرنا، فمن متأول لآياته غير ِمؤمن به، يريد أن يَقْسِرَها على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب، حتى يوافق ما آمن به، أو ما أُشْرِبتْهُ نفسه، من عقائد أُوربة ووثنيتها وإلحادها، أو يُقَرِّبه إلى عاداتهم وآدابهم _ إن كانت لهم آداب _ ليجعل الإسلام ديناً عصريَّاً في نظره ونظر ساداته الذين ارتضع لبانهم، أو رُبِّي في أحضانهم!!.
ومِنْ مُنكرٍ لكل شيء من عالم الغيب، فلا يفتأ يحاور ويداور؛ ليجعل عالم الغيب كله موافقاً لظواهر ما رأى من سنن الكون، إن كان يرى، أو على الأصح لما فهم أَن أُوربة ترى!! نعم، لا بأس عليه _ عنده _ أن يؤمن بشيء مما وراء المادة، إن أثبته السادة الأُوربيون، ولو كان من خرافات استحضار الأرواح!!
ومِنْ جاهلٍ لا يفقه في الإسلام شيئاً, ثم لا يستحي أن يتلاعب بقراءات القرآن وألفاظه المعجزة السامية ,فيكذب كل الأئمة والحفاظ فيما حفظوا ورووا؛ تقليداً لعصبية الإفرنج التي يريدون بها أن يهدموا هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ليجعلوه مثل ما لديهم من كتب.
وهكذا ما نرى وترون.
نريد أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن نحارب ما أحدث (النسوانُ) وأنصار (النسوانِ) من منكرات الإباحة والمجون والفجور والدعارة ,هؤلاء (النسوانُ) اللائي ليس لهن رجال, إلاَّ رجال (يُشْبِهْنَ) الرجال!! هذه الحركة النسائية الماجنة, التي يتزعمها المجددون وأشباه المجددين, والمخنثون من الرجال, والمترجلات من النساء, التي يهدمون بها كل خلق كريم, يتسابق أولئك وهؤلاء إلى الشهوات, وإلى الشهوات فقط.(1/226)
نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين ,والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة، واللاتي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصوُّن إلى العمل الجدِّي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي الموصون,إلى حجابها الذي أمر الله به؛ طوعاً أو كرهاً.
نريد أن نثابر على ما دَعَوْنَا وندعو إليه من العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله في قضائنا كله, في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت الإفرنجي الذي ضُرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين، والله _تعالى_ يقول:
[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) ] النساء، ثم يقول: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)]النساء.
نريد أن نتحدث في السياسةِ السياسةِ العليا للأمة الإسلامية، التي تجعلهم (أمة واحدة)، كما وصفهم الله في كتابه، نسمو بها على بدعة القومية,وعلى أهواء الأحزاب.
نريد أن نُبَصِّر المسلمين وزعماءَهم بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم، وتكالب الأمم عليهم بغياً وعَدْوَاً، وعصبية وكراهية الإسلام أولاً وقبل كل شيء.
نريد أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحية، ومن روح التمرد والإلحاد، وأن نريهم أثر ذلك في أوربة وأمريكا، اللتين يقلدانها تقليد القردة، وأن نريهم أثر ذلك في أنفسهم وأخلاقهم ودينهم.(1/227)
نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة، التي اصطنعها كُتَّاب هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون ! يظنون أن هذا من حسن السياسة، ومن الدعوة إلى الحق(بالحكمة والموعظة الحسنة) اللتين أمر الله بها !.
وما كان هذا منهما قط، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عَرَض الحياة الدنيا.
وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتاميين أو منفِّرين، معاذ الله، و(ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء) كما قال رسول الله ".
ولكنَّا نريد أن نقول الحق واضحاً غير ملتوٍ، وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة بأحسن عبارة نستطيعها، ولكنا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نصف رجلاً يعلن عداءه للإسلام، أو يرفض شريعة الله ورسوله _ مثلاً _ بأنه (صديقنا)، والله _ سبحانه _ نهانا عن ذلك نهياً حازماً في كتابه.
ونربأ بأنفسنا أن نضعف ونستخذي؛ فنصف أمةً من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار، وتهتك أعراضهم، وتنهب أموالهم، بأنها أمة (صديقة) أو بأنها أمة (الحرية والنور) إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار)! وأمثال ذلك مما يرى القارئ ويسمع كل يوم والله المستعان.
نريد أن نمهد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم ومن حقهم إذا اتصفوا بما وصفهم به:أن يكونوا (مؤمنين).
نريد أن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بهذا الصوت الضعيف، صوت مجلتنا هذه المتواضعة ولكننا نرجو أن يدوِّي هذا الصوت الضعيف يوماً ما؛ فيملأ العالم الإسلامي، ويبلغ أطراف الأرض، بما اعتزمنا من نية صادقة نرجو أن تكون خالصة لله وحده؛ جهاداً في سبيل الله، إن شاء الله.
فإن عجزنا أو ذهبنا، فلن يعدم الإسلام رجلاً أو رجالاً خيراً منا، يرفعون هذا اللواء، فلا يزال خَفَّاقاً إلى السماء، بإذن الله.
أدب المناظرة(1) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
__________
(1) الموضوعة مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة طبعة دار الجيل، بيروت(210_213) .(1/228)
أنا لا أقول إلا ما أعتقد، ولا أعتقد إلاَّ ما أسمع صداه من جوانب نفسي؛ فربما خالفت الناس في أشياء يعلمون منها غير ما أعلم ، ومعذرتي إليهم في ذلك أن الحق أولى بالمجاملة منهم، وأن في رأسي عقلاً أُجِلُّه عن أن أنزل به إلى أن أكون سيقة للعقول، وريشة في مهاب الأغراض، والأهواء.
فهل يجمل بعد ذلك بأحد من الناس أن يرميني بجارحة من القول، أو صاعقة من الغضب؛ لأني خالفت رأيه، أو ذهبت غير مذهبه، أو أن يرى أن له من الحق في حملي على مذهبه، أكثر مما يكون لي من الحق في حمله على مذهبي؟
لا بأس أن يُؤَيِّد الإنسان مذهبه بالحجة والبرهان، ولا بأس أن ينقض أدلة خصمه، ويزيفها مما يعتقد أنه مبطل لها، ولا ملامة عليه في أن يتذرع بكل ما يعرف من الوسائل إلى نشر الحقيقة التي يعتقدها إلا وسيلة واحدة لا أحبها له، ولا أعتقد أنها تنفعه، أو تغني عنه شيئاً، وهي وسيلة الشتم والسباب.
إن لإخلاص المتكلم تأثيراً عظيماً في قوة حجته، وحُلول كلامه المحلَّ الأعظم في القلوب والأفهام.
والشاتم يعلم عنه الناس جميعاً أنه غير مختص فيما يقول؛ فعبثاً يحاول أن يحمل الناس على رأيه، أو يقنعهم بصدقه، وإن كان أصدق الصادقين.
أتدري لِمَ يَسُبُّ الإنسانُ مناظرَه؟ لأنه جاهل وعاجز معاً، أما جهله؛ فلأنه يذهب في وادٍ غير وادي مُناظِرِه، وهو يظن أنه في واديه ولأنه ينتقل من موضوع المناظرة إلى البحث في شؤون المناظر، وأطواره وصفاته وطبائعه، كأن كل مبحث عنده مبحث =فسيولوجي+.
وأما عجزه فلأنه لو عرف إلى مناظره سبيلاً غير هذا السبيل لسلكه، وكفى نفسه مئونة ازدراء الناس إياه، وحماها الدخول في مأزق هو فيه من الخاسرين، محقاً كان أم مبطلاً.(1/229)
لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئاً غير خدمة الحقيقة وتأييدها، وأحسب أن لو سلك الكُتَّاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرة هم لا يزالون مختلفين فيها حتى اليوم، وما اختلفوا فيها إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون، يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه، ويعتقد أنها كلمة لا ريب فيها، ولكنه يبغضه؛ فيبغض الحق من أجله؛ فينهض للرد عليه بحجج واهية، وأساليب ضعيفة، وإن كان هو قوياً في ذاته؛لأن القلم لا يقوى إلا إذا استمد قوته من القلب، فإذا جيء بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة،فيقول لمناظره مثلاً: إنك جاهل لا يعتد برأيك، أو إنك مضطرب الرأي لا ثبات لك، تقول اليوم غير ما قلت بالأمس، وهناك يقول له الناس: رويداً، لا تخلط في كلامك، ولا ترواغ في مناظرتك، ولا شأن لك بعلم صاحبك أو جهله؛ فإنه يقول شيئاً، فإن كان صحيحاً فسلم به، أو باطلاً فبين لنا وجه بطلانه.
وهبه قولاً لا تعلم قائله، ولا شأن لك باضطراب صاحبه وثباته، فربما كان بالأمس على رأي تبين له خطؤه اليوم، والمرء يخطئ مرة ويصيب.
فإذا ضاق بمناظره وبالناس ذرعاً فرَّ إلى أضعف الوسائل وأوهنها، فَسَبَّ مناظره، وشتمه، وذهب في التمثيل به كل مذهب، فيسجل على نفسه الفرار من تلك المعركة، والخذلان في ذلك الميدان.
على أن أكثر الناس متفقون على ما يظنون أنهم مختلفون فيه، فإنَّ لكل شيء جهتين: جهةَ مدحٍ، وجهة ذم، فإما أن تتساويا، أو تكبر إحداهما الأخرى، فإنْ كان الأول فلا معنى للاختلاف، وإن كان الثاني وجب على المختلفين أن يعترف كل منهما لصاحبه ببعض الحق، لا أن يكون كل منهما من سلسلة الخلاف في طرفها الأخير.(1/230)
كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره خلاف في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع بينهما، وحتى لا يسلس أحدهما لصاحبه في طرف مما يخالفه فيه؛ فحضر حوارهما أحد الحكماء في إحدى الليالي وهما يتناظران في المرأة، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته، فلما علا صوتهما، واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم، وغاب عن المجلس ساعة، ثم عاد وبين أثوابه لوحٌ على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء، وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء، فقطع عليهما حديثهما وقال لهما: أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة؛ ليعطيني كل منكما رأيه فيها،ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ورجع إلى مكان الوزير، وقد قَلَّبَ اللوح خِلْسَةً من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل، وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء؛ فاستعاذ بالله من رؤيتها، وأخذ يذمها ذماً قبيحاً، فهاج الملك على الوزير، وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق، وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو، فلما عادا إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد استوقفهما الحكيم، وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثائرهما، وضحكا ضحكاً كثيراً، ثم قال لهما: هذا ما أنتما فيه منذ الليلة، وما أحضرت إليكما هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلاً؛ لتعلما أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه لو أنكما تنظران إلى المسائل التي تختلفان فيها من جهتيها، فشكرا له همته، وأثنيا على فضله وحكمته، وانتفعا بحيلته انتفاعاً كثيراً، فما كانا يختلفان بعد ذلك إلا قليلاً .
عاشراً: مقالات في العلم والتحقيق
52_ العلم والعقل: للشيخ عبدالقادر المغربي
53_ الإنسان على الأرض: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
54_ عمر الإنسان: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
55_ الفلسفة والعلم والدين: للشيخ عبدالباقي سرور نعيم
العلم والعقل(1) للشيخ عبدالقادر المغربي
__________
(1) الحديقة 8/ 40 _ 52، عام 1350هـ(1/231)
إن الإسلام دين علم وعقل قبل كل شيء؛ فهو قبل أن يكلف أتباعه تحصيل أي غرض من أغراض الدنيا يكلفهم بأن يكونوا عقلاء صحيحي الفهم، ثاقبي الفكر، جيدي البصيرة، يتدبرون الأمور قبل الشروع فيها، ويقلبون وجوه الرأي في مواردها ومصادرها، ومباديها ومصايرها؛ فلا تقع إلا على مقتضى الحق والعدل والمصلحة والواجب؛ كما يكلفهم أن يكونوا علماء عارفين بأسباب المصالح، وطرق المنافع، واقفين على الحقائق الكونية، ملمين بتفاصيل التجارب العملية التي اهتدى إليها البشر في سابق أدوارهم، ومختلف أطوارهم مما يتعلق بتصحيح العقائد والعبادات، وتقويم الأخلاق والملكات، وإتقان أمر المعايش والمعاملات، وترقية شأن الصناعات والتجارات، وتحسين سائر مقومات الحياة.
فالقرآن لما دعا الناس إلى الإسلام، وكلفهم قبول تعليمه وهدايته كان يقيم العقل حكماً بينه وبينهم، ويعجب من انصرافهم عنه، وإهمالهم له، وترك الاستضاءة بنوره؛ فكان يقول وهو يحاجهم: [ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ].
[فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ].
[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ].
[عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ].
[إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ].
و(الأبصار والألباب): العقول، وقد تكرر(أفلا تعقلون) في القرآن بضع عشرة مرة في صدد التوبيخ والتعجيب.
وكفى بهذا مزية ومنقبة للعقل مذ جُعِل للدين أصلاً، ولمصالح الدنيا عماداً.
وإنما حرم الخمر في الإسلام؛ خشية أن يسطو على العقل، فيفسده، أو يضعفه.
والعقل مِلاك سعادة الإنسان، وقوام حياته.
أما العلم فالقرآن رفع من شأنه ونوَّه بمنزلته بما لم يسبقه إليه سابق من الكتب السماوية، فقد قال _ تعالى _:[ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1/232)
بل إذا تدبرنا أول آيات القرآن نزولاً وجدناها تحض على العلم،وترفع من مكانة العلم، وهي قوله _ تعالى _:[ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)].
[ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ].
فقد نوَّه في الآيتين بشأن القلم والكتابة، والعلم والتعلم.
هذا الشأن من شؤون الحياة ومصالح الدنيا هو أول ما فاجأ به القرآن البشر المخاطبين، وأوقعه في أذهانهم؛ أفلا يكون معنى ذلك أن الإسلام دين علم، وأنه لا يرضى للمنتسبين إليه إلا العلم؟
ولا نظن أن كلمة من كلمات القرآن ـ عدا كلمة =الله+ ـ تكررت فيه بقدر ما تكررت فيه كلمة (العلم).
فالإسلام إذاً هو (دين العلم) كما أنه (دين التوحيد).
ولما أراد الله أن يلقن نبيه "دعاء يدعو به لقنه أن يطلب في دعائه المزيد من العلم إذ قال له:[ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً].
والعلم إذا أطلق في لسان الشرع كان المراد به العلم النافع الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة، ذلك العلم الذي يتعلق بمصالح البشر مباشرة، وله الأثر البيِّن والنفع الظاهر في إتقان تلك المصالح، وإحكام أمرها، وتوثيق عراها.
أما العلوم المبنية على الوهم والتدجيل فإن الشارع لا يقيم لها وزناً.
والعلم لا ينمو في نفس صاحبه إلا بالعمل، والممارسة والتطبيق؛ فإن العمل بالعلم على هذه الصورة يزيده ثباتاً ورسوخاً، ويؤدي إلى انكشاف أمور من ذلك العلم كانت مجهولة، وانفتاح أبواب إلى غوامضه، وأسراره كانت مسدودة.
وهذا الأصل في العلم مما قرره الإسلام أيضاً في جملة ما قرر من الأحكام.
فالعمل بالعلم يتسبب عنه ـ بتيسير الله ـ علم جديد، ومعرفة غضة لم تكن حاصلة من قبل.
قال أمير المؤمنين علي÷: =كل وعاء يضيق بما جُعِلَ فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع+.(1/233)
ووعاء العلم هو العقل، ولا جرم أن العقل يتسع وينمو كلما مُدَّ بالعلم وغذِّي بمسائله، ومن كلام جعفر الصادق: =يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل+.
والمسلمون في زمن سلفهم الصالح كانوا على غير ما هم عليه اليوم من أمر العلم والتعلم، وحب الاستطلاع، والحرص على تعرف الحقائق من غير لبس، والجهر بها من دون ما خشية، فلم يكن أحد من الصحابة ولا التابعين يقبل من آخر علماً إلا إذا عقله، وتدبره، وفهم السر فيه، ووجه المصلحة المتأتية عنه، ويقول لراويه انظر يا هذا ماذا تقول، وخف الله، واحذره فيما تروي من النقول.
أما في هذه العصور المتأخرة فقد اختلط الحابل بالنابل، واجترأ الراوي والناقل، وتراكمت على العقول الأبحاث والمسائل، وصار من مقتضى الورع أن يذعن المسلم لكل ما تنقله الرواة، وتتداوله الأفواه، وإن صادم أحياناً أصلاً من أصول الإسلام، ولم يقم عليه دليل ولا برهان.
وهذه الفوضى العلمية التي خالفنا فيها سلفنا الصالح هي من أكبر أسباب انحطاطنا عنهم، وانخزالنا عن مثل مواقفهم، وَفقْدِنا ما كان لهم من عزٍّ وصولة، وملك ودولة، حتى صدق علينا مضمون الآية الكريمة:[ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ].
ذكر السيد أمير علي الهندي في كتابه (تاريخ الإسلام) أنه كان يكتب على مدخل كل مدرسة في الأندلس هذه العبارة: =الدنيا تستند على أربع أركان: علم الأفاضل، وعدل الأكابر، ودعاء الصالحين، وجلال الشجعان+.
وكما حذَّر الشارع من العلم الوهمي الذي لا ينفع حذَّر من دعاته وحملته، ونبَّه الناس إلى غوائلهم.
وعلماء السوء أنواع: الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال، أو يتخذون العلم حِبَالة لحظوظهم ومنافعهم الخسيسة أو وسيلة للإضرار بالناس، أو يتعلمون من العلم أوهاماً ينافحون دونها؛ ليستفيدوا من ورائها جاهاً أو حطاماً، وغير هؤلاء ممن اتخذ العلم آلة شر وضر وإفساد.(1/234)
هؤلاء علماء السوء نعوذ بالله من شؤمهم.
الإنسان على الأرض(1) للعلاَّمة محمد الطاهر بن عاشور(2)
جرى بين التلاميذ في خلال زمان قريب كلام في تقدير عمر نوح _ عليه السلام _ فحدا بقلم بعض العلماء المحققين(3) إلى تبيان الحق، ذلك البحث الذي نشرته مجلة السعادة العظمى في عددها الرابع.
ولقد أجاد في دفعه وأقنع، ولكن أرى بقية تبيان هذه المسألة وتعضيداً للكاتب الأول بالتحقيق النظري، والسنة الطبيعية عادلاً عن توجيه إمكانه بفلتات الطبيعة؛ فإن الطبيعة إذا فلتت في عام أو عامين أو قرن أو قرنين، لا تذهب في فلتتها إلى حدّ آلاف سنة، ثم إن الآية تقضي أنه لبث في قومه تلك المدة، والقوم هم هم بحسب ما يعرف من بقاء قوم الرجل معه، وأنهم الذين استأصلهم الله تعالى بالطوفان، كما داموا على كفرهم والسخرية بشرعة ربهم.
ومن المحال أن تكون هاته كلها فلتات من الطبيعة، ونشر هاته المسائل بعد طيِّها هو الذي قضى علينا أن لا نتركها تلوح وما تلوح، وتناجي بسرها وما تبوح.
ستكون خطة بحثنا هنا في التحقيق: هل منح الإنسان بمائة وعشرين سنة من العمر موهبة طبيعية أم جعلية؟ وهل هي هبة قديمة تقارن نشأته أم طارئة على ذلك بحدثان ؟
يثبت علم الجيولوجيا _ وإن اختلفت آراء أصحابه في طرق الإثبات _ أن الأرض التي نحن عليها قد مرَّت عليها تقلبات مهولة معجبة في أحقاب طويلة جرَّأَ طولها العلامة =هتون+الجيولجي البركاني الشهير أن يقول =إني لم أجد في بنية العالم أثراً للبداية ولا أملاً بالنهاية+.
__________
(1) السعادة العظمى،العدد 6 ربيع الأنور 1322هـ،ص87_91، وقد كتبها× وعمره خمسة وعشرون عاماً.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.
(3) الشيخ محمد النخلي.(1/235)
وأثبت أن الأرض ما كانت في ابتداء نشأتها في الزمن الأول من الأزمان الكبرى التي تبدلت فيها أطوارها كما هي اليوم، ولا كانت في الزمن الثالث الذي خلقت فيه الحيوانات والإنسان كما كانت أولاً(1) ولا تكون غداً كما تكون اليوم، بل هي كأبنائها يَعْتَورها طفولة وشباب، وفتوة وهرم.
والذي أنبأهم بذلك ما وجدوا في البحث عن أعضاء الحيوان من جثث كائنات عضوية لا تعرف في كائنات العصر الذي دون فيه تاريخ العلوم، والذي ابتدأ البشر فيه كتابة مشاهداتهم، لا نقول قبل أن يكتب أرسطو كتاب نعت الحيوان، بل قبل أن ينقش سكان وادي النيل على مسلاتهم ونواويسهم صور حيواناتهم المعروفة، وقبل أن يرسمها مصورو قرطاجنة على الفسيفساء(2).
__________
(1) هذا شيء اصطلحوا عليه أنتجته الفلسفة الجيلوجية والنظر في تكوين الأرض بآثارها طبقاتها، قسموا أزمان الأرض باعتبار أطوار عظيمة مرَّت على خلقتها إلى أربعة أقسام:
الأول: زمن تكوين الأرضين الأصلية وهي الصخور العرية عن الحفريات =أي المسام التي يمكن أن تبرز نباتاً+.
الثاني: زمن رسوب الأرضين الثانوية المركبة من طفل وفحم وحجارة جيرية ورملية.
الثالث: الذي خلق فيه الحيوان والكائنات العضوية.
الرابع: ما نشأ بعد الاختلاط الطوفاني من نقل الماء أتربة المواضع بعضها إلى بعض وتسمى الأرضين الطوفانية.
(2) هي المسماة اليوم =موزاييك+وهي قطع صغيرة من الحجارة المنحوتة يحصل من التئامها صور وأشكال من تلوين أجزائها اللطيفة.(1/236)
ما أشبه الليلة بالبارحة، لم يزل التاريخ يعضد بعضه بعضاً، قد أثبت العلماء اليوم أن =الكركدن+(1)قد أخذ ينقطع تناسله منذ مدة، ولا يلبث معنا على الأرض غير زمن قليل حتى يبارحنا ملتحقاً بإخوانه من أصناف الحيوان التي أخنى عليها مرُّ الزمان، فإذا كان اليوم من يتنافس في قرنه يضع الإناء المنحوت منه في مواضع التباهي والفخر فما نحن ببعيد أن نصير نتنافس اقتناء عظامه من طبقات الأرض ومصارع الهلك؛ لنضعها بالمشاهدة العمومية والمكاتب الزولوجية؛ تعليماً لخلفنا، وتصديقاً لسلفنا .
__________
(1) وربما قيل الكركند حيوان يسميه العرب الحريش أخذاً من الأحرش، لخشن الظاهر من الحيوان وغيره لأن جلده شديد، وحسبه أنه لا تعمل فيه طعنة ناب الفيل إذا احتدما لخصام، ذكره صاحب القاموس وشدد داله، ونسب تشديد نونه إلى العامة، وذكره في (ح ر ش) من الصحاح ويسمى الحمار الهندي وهو عدو الفيل له قرن على رأسه يفتك به فتكاً شديداً، وله شبه بالفيل في جلده وبعض خرطومه، ولكن له شبه بالحمار؛ من أجل ذلك قيل في الخرافات أنه متولد بين الفيل والفرس، قضى ثقل قرنه عليه أن يكون مطأطئ الرأس لا عن حياء بل عن مكر ودهاء، ويقول البعض إن الحرش غيره، وهو غلط والبعض إنه ضرب منه.(1/237)
هذه الأطوار التي لحقت كرتنا، فصرعت أصنافاً من الحيوان شديدة القوى، ورمتها رمي الملتقف أيدي الزيال والنوى ما نالت من الإنسان ما نالت من غيره، كأن حيلة البشر قد أنجته من حيث لا يجد حيلة، وكأن هذا الضعف الذي كان قرينه _ وإن أضرَّ به عند ملاقاة الضواري _ فقد نفعه يوم تركه يتعظ بمصارعها، ويربع في مراتعها، كما اللين الصوفة حين تدقها المطارق، وأضرها حين ترمي بها الرياح فجاج المخارق، لكنها نالت منه شيئاً واحداً، هو عدم نسبي، وهو الأخذ من العمد؛ فقد كان البشر في أول العالم يبلغ بعيشه إلى ألف من السنين، دام على ذلك يبسط لها يداً، ثم ينفضُّ عنها وما يبعد أحداً حتى رمى الله هذا العالم بالطوفان الكبير في آخر حياة نوح _ عليه السلام _ فذلك كان الطور الرابع للأرض أنهك من قواها ما أنهك، وأبرد من حرارتها ما أبرد، يومئذٍ كتب الله على البشر، كما تقول التوراة، أن لا يعيش أكثر من مائة وعشرين سنة، ولكن التوراة أثبتت أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن عاصرهما من ذوي الأسماء قد جاوزوا بآجالهم هذا العمر المكتوب على البشر دام ذلك إلى زمن موسى.
وفي الحقيقة ما كان الطوفان إلا حائلاً للبشر دون العيش المديد، ولكنه ترك بقية تزيد على المائة والعشرين وإن كانت هي الغاية المقصودة غبَّاً على ما تذكر التوراة، ولكن الوصول إلى الغايات في ناموس الكون الذي سنه الله _ تعالى _ لا يكون إلاَّ على درج الوصول التدلي هبوطاً والارتقاء صعوداً [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] الأحزاب :62 .
ولقد أفضى ضعف الأرض بالإنسان إلى أن صيَّر عيشه إلى الأجل الموهوب له بعد النجاة من أهوال الطوفان شيئاً نادراً هو المعدود من فلتات الطبيعة، وما عيش مائة وعشرين سنة اليوم ومائة وثلاثين إلاَّ شيئاً واحداً في الوقوع من الندرة والتعجب الموقع المتطرف.(1/238)
وقد يعد كثير من العلماء العمر الطبيعي اليوم مائة سنة فقط، وهو المعضود بالتجربة التي هي آخر ملجأ نريد أن نثوب إليه في تحقيق العمر الطبيعي في كل عصر.
قد رأيت أن المائة والعشرين من السنين ما كانت إلا موهبة طبيعية باعتبار زمن معلوم ومبتدأ طور أخير من أطوار الأرض، هو خاتمة الأطوار المزعجة، والانتقالات المهولة.
وأما انتقالها بعد ذلك في مراتب الضعف ومتابعة كل من عليها لها في هذا الانتقال فشيء تدريجي خفي، كما ينتقل الرجل كل يوم إلى وهدة من وهدات السقوط بعد اكتهال، أو انتقال اليافع إلى ربوة من النهوض قبل الفتوة.
واستقراء أحوال عيش الأمم في كل عصر هو معدل العمر الطبيعي فيه.
لاشك أن وراءنا من أخبار العالم أعجب مما رأينا، وقد قال _ تعالى _:[وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً]الفرقان:38.
وكتاب آنسنا صدقه في غير موضع، وآمنّا به في كل عظيم، وبعد أن رأيناه والزمان ينصره في كل آونة، ويصدِّق وعد الله _ تعالى _ الذي وعد بقوله: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]فصلت: 53 ، ما كان ينبغي لنا أن نسرع إلى منابذته لنعق ناعق، أو نخنع فيه إلى سوق سائق، بل نجعله الشهيد وإن تمالأت على غيره الخلائق، وسنجد من معونة الله _ تعالى _ وَعِدتِه ما يصوّب أعمالنا إن كنا شبح اليوم أو هامة غد، والله يفتح بصائر المؤمنين إلى مقدرة قدر أمور أدركها منكروها، وعذر فيها بعد الخبرة واشوها.
عمر الإنسان(1) للعلاَّمة محمد الطاهر بن عاشور
كتبت في مجلة السعادة في عددها السادس شذرة في عمر الإنسان تحت عنوان =الإنسان على الأرض+ جعلتها تعضيداً لمن كتب في عددها الرابع كلمة =عمر الإنسان الطبيعي+.
__________
(1) مجلة السعادة العظمى عدد(8)، 16ربيع الثاني 1322هـ، ص119_122.(1/239)
ولكن اتحدت الوجهة واختلف الطريق، فإني عدلت عن اعتبار الفلتات الطبيعية في عمر الإنسان؛ لأني رأيته جواباً على تسليم الأصل الذي بنى عليهم الشاكون شكهم، وإنما أردت البحث في مستند الأصل الذي أصَّلوه أن عمر الإنسان لا يتجاوز المائة والعشرين سنة؛ من أجل ذلك بحثت في المسألة بحثاً فلسفياً ترديدياً؛ ليرى المبصرون أنْ لا دليل من العقل يجعل هذا الحد طبيعياً للبشر، وأنْ ليس المرجع في هاته التحديدات إلاَّ لاستقراء غالب عيش الأمم في كل عصر.
وإذا كان ما حددوه عمراً للإنسان منذ كتب البشر التاريخ، ونشهد أنه قد انحطَّ في عصرنا هذا عن ذلك الحد _ فلا بِدْعَ أن يكون قبل ذلك أطول، لاسيَّما وقد أثبت العلم يقيناً باختلاف أطوار مرت على الأرض، وأنها كأبنائها يعتورها طفولة وشباب وهرم، ذلك كله بَيَّنَّاه فيما كتبنا أولاً مع بسط وترديد.
ومما زاد بي عدولاً عن اعتبار الفلتة أنَّ الأطباء الذين إليهم المرجع في هذا التحديد يرون أنه لا يمكن أن يتعدى الإنسان ما حدّ له من العمر، بل يتحلل إن بلغه تحللاً، وما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف.
ولا ينقص من شجاعتنا على هدم هذا الأصل، أن يصادق عليه الشيخ ابن خلدون و الفخر ابن الخطيب _ رحمهما الله _ فإنا لا نعلم الأول إلا فيلسوفاً تاريخياً، ولا الثاني إلاَّ رجلاً عالماً له سعة اطلاع على كلام الحكماء لم يخوِّله مرتبة الحكم اليقيني أو يكسبه صوتاً معهم.
وما كان واحد منهما بالفيلسوف الطبيعي، وإنما ذكرا ذلك الكلام في كتابيهما كما تذكر الأصول الموضوعة في كتب العلوم.(1/240)
ثم أضفتُ إلى ذلك أدلةً ما تصل إلى إيثار اليقين، ولكنها لا تقصر بعد اجتماعها عن أن تكسب الحق قوة، منها: أن الأصل في الفلتات القلةُ، والفلتة _وإن لم يضعوا لها حداً تقف عنده _ إلاَّ أنَّ اسمها وحده كافٍ في اعتبار قدرتها كمَّا وكيفاً، ولو كثرت لانقلبت عادة؛ إذ ليس أصلها من الأحكام العقلية التي لا يخرج الشاذ منها عن شذوذه ما بلغت به الكثرة.
وظاهر القرآن والتاريخ يقتضي أن نوحاً _ عليه السلام _ عاش هذا الزمن وقومه هم هم، وأنهم الذين عاقبهم الله _ تعالى _ بالطوفان ومن الآيات التي تقتضي طبيعة سوقها ذلك قوله _ تعالى _ في سورة الشعراء: [كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ]الشعراء.
وأما احتمال أن المعاقبين خلفهم فشيء بعيد عن سنة الله في الخلق، وإذا كان طول عمر نوح معجزة فمن الضروري أن يقارنها القوم المتحدين بها ليشهدوا بآيات ربهم.(1/241)
ومن الأمثال التعجبية =الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون+.
ومنها أن الطوفان قد أبرد حرارة الأرض وأنهك قواها، وذلك لنجعل مناسبة لاقترانه بقِصر عمر البشر؛ تصحيحاً للتاريخ العتيق بالإمكان كما تقتضي مدارات هذا الزمان، ولا شك أنه إن أفقد شيئاً عظيماً من حرارة الأرض _ وحق له أن يفعل ذلك فإنه ما كان وادياً فائضاً أو مطراً وابلاً، ولكنه غمر ماء يعم الأرض كلها إلى قمم أشهق جبالها فماذا ترى مثل هذا الفعل _ فقد أعدمها شيئاً ما كان ليرجع إليها من بَعْد .
وإذا كان الطوفان قد أتى على جانب عظيم من الأرض فلا بِدْعَ إنْ هو أنهك بعض قواها، وأبرد من حرارتها جزءاً عظيماً تسري أدواؤه إلى كلها، كما يصاب الجسم الواحد في بعض مواضعه فيألم كله، إذا صح عدم عموم الطوفان.
وربما وجدنا الأمم التي لم يصلها على هذا التقدير أطول أعماراً من الأمم التي يسمونها طوفانية .
ومن العجائب التي تنافي ما ينتحله الشيخ ابن خلدون من الفلسفة، أن تسمعه يسند طول عمر نوح إلى قرانات كوكبية غريبة، ناسياً أن الكواكب التي اقترنت ما طلعت على نوح وحده، بل على العالم كله؛ فمن الواجب أن يعيش كل البشر الموجود يومئذ كما عاش نوح حذو النعل بالنعل؛ فلا معجزة ولا خصيصة.
وتأثير الكواكب في بعض الأشخاص دون بعض من تدجيلات الكهان، التي ما كان ينبغي أن تأخذ مكاناً من عقل الشيخ ابن خلدون حتى يشوه بها كتابه، ويموه صوابه.
ثم ماذا يصنع في أعمار غير نوح من الأنبياء وغيرهم الذين ذكرتهم التوراة =العهد القديم+ وهي الملجأ في التاريخ العتيق =المقدس+.
أنا لا أرى هذا التحديد المنسوب للحكماء إلاَّ شيئاً سرى لهم من قولها في سفر التكوين ص36: =فقال الرب لا يدين روحي لي الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة+.
وربما لوَّحْنا فيما كتبنا أولاً إلى الانزواء عن الحكم فيه بعد ما رأينا من ذكرها أعماراً أخرى من الطوفان أطول من الأجل المكتوب.(1/242)
نعم قد كان نوح أطول ذوي الأسماء التاريخية عمراً حسب ما يؤخذ من الأعمار المسرودة في التوراة، ولكن ذلك لا يوجب له خاصية ولا يقتضي قراناً أو طالعاً أو جواً خاصاً إنما هي اتفاقية لازمة في كل ما يقال عليه بالتشكيك، فكل أفراد تشككت في شيء مهما بلغت كثرتها فإن نسبة أقصر أفرادها إلى الذي يليه كنسبة أدناها إلى الذي فوقه، وتجد نسبة أطول رجل في العالم للذي يليه كنسبة آخر قصير لأقصر رجل، وما ذلك لقرانات أو معجزات وإلاَّ لكان لكل صنف قران خاص، وجو خاص إن شئت وطبع خاص، ولعل هذا يشوش الطبيعة ويكثر حركة الكون .
هذا هو المراد من المنع، ووجه العدول عن التسليم لأصلهم، حتى نخنع إلى الاعتراف بالفلتة، والله أعلم بصحة ما نقول .
الفلسفة والعلم والدين(1) للشيخ عبدالباقي سرور نعيم
الفلسفة عبارة عن نظريات محدودة تفسر بها ظواهر الكون، وهي مذاهب مختلفة تتجلى فيها شخصية أصحابها، وما كانت قط علماً خاصاً له موضوع وغاية، بل هي في الحقيقة مذاهب تقوم في كثير من نواحيها على الاستنتاج كما تقوم على الظن الشخصي تارة، والرغبة والميل تارة أخرى؛ فنظرياتها ليست وليدة الاستنتاج دائماً، ولا ناشئة عن التفكير المنطقي غالباً، بل كثيراً ما تكون ناتجة عن الميل الشخصي، أو حب المتابعة والتقليد لفيلسوف سابق؛ فالمذهب الجديد يضم بين جوانبه قضايا مسلمة كثيرة، بعضها مأخوذ بالحرف من مذهب سابق، وبعضها قائم على الهوى والميل الشخصي.
ومن أجل ذلك كثرت المذاهب الفلسفية، وتعددت وناقض بعضها بعضاً؛ ذلك بأنها غير قائمة على قواعد متفق عليها، ولا على بَدائِهَ معترفٍ بها، بل قائمةٌ على التقليد تارة، وعلى الهوى والميل تارة أخرى.
ومن هنا كانت المذاهب الفلسفية ضعيفة الأثر في هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية فضلاً عن سعادتهم الدينية.
__________
(1) الحديقة 5/ 156 _ 161، عام 1349هـ(1/243)
أما العلم فهو ينقسم إلى قسمين: قسم عملي أنتج الماكينات والآلات والأجهزة، وهذا بالطبيعة قد أنتج تقدماً دنيوياً، وساعد على رقي الحضارة.
والقسم الثاني: هو الفروض التي فرضها العلماء وسموها نظريات العلم، وهذه قابلة للتغيير والتبديل، وما وضع منها من مدة قرن لا يبقى منه في القرن التالي إلا نظرية أو نظريتان، والباقي له قيمة محدودة بالزمان.
لا يمضي على الفروض العلمية جيل أو جيلان حتى تأخذ العقول في وزنها، والبحث عن قيمتها، والفحص عن نصيبها من الصحة ومطابقة الواقع.
وينتج من هذا الوزن والبحث أساليب حديثة تكتسح طرق التفكير العتيقة؛ فينتابها التغير، وتخضع لمبادئ مستحدثة؛ فكل قرن له أساليبه وفروضه، وكل قرن يأتي بتبديل وتغيير في أساليب البحث وفروض العلم.
والجاهل الغبي يظن أن فروض العلم ثابتة لا تتغير، مع أن نظريات القرن السابع عشر قد أتت عليها نظريات القرن الثامن عشر، وفروض القرن الثامن عشر قد محتها فروض القرن التاسع عشر.
ذلك شأن العلم في سيره، وتلك سنته في حياته، لا يبقى منه سوى ما صلح للعمل، وأصبح ملك المعامل والمصانع.
أما ما في الكتب فهو عرضة للتغير وللتبدل؛ لأن حركة العقل في تقدم، والفروض ما وجدت إلا لتقنى، وقد كتبت على أنها فروض لا على أنها حقائق؛ فمن الجهل والظلم للعلم أن نظن أن فروضه ونظرياته حقائق ثابتة لا تقبل النقص.
من هنا يتبين لك أن الحقائق العلمية شيء والنظريات العلمية شيء آخر.
وهنا يأتي سؤال: هل بين العلم والدين تناقض؟ وهل بين الدين والفلسفة تنازع؟ وهل يمكن أن يتآخى العلم مع الدين؟(1/244)
قبل الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي أن يحدد معنى العلم تحديداً تامََّاً؛ فإن أرادوا من العلم المعنى الواقعي الحسي الذي أنتج الحضارة فليس بينه وبين الدين تناقض ألبته؛ لأنه عبارة عن تطبيقات تعمل في المعامل، وهذه الأمور لها دخل في إصلاح البشرية وتهذيب الحضارة، وهي بهذا الاعتبار غرض من أغراض الشارع يأمر ويحث عليه؛ فهي من مطالبه، وداخلةٌ في فروض الكفايات؛ فلها نصيب وافر من أوامره وتعاليمه.
أما إن أريد بالعلم تلك الفروض التي يفرضها العلماء وهي قابلة للتغير والتبدل _ فالأمر يحتاج إلى تفصيل: فتارة تكون تلك الفروض قريبة من المعنى العلمي أي بينها وبين المحسوسات درجة واحدة من الاستنتاج، وهذه لقربها من المحسوسات لا تصادم الدين؛ لأنها تبحث فيما يقرِّب من عمل المعامل، وغايتها ضبط الصور المتعددة، ووضعها تحت نظام كلي بقدر الإمكان.
وتارة تكون باحثة في أصل الكائنات، أو أصل الأنواع كفروض دارون، وهي في الواقع ليست حقائق علمية، بل مذهب فلسفي لا يجوز أن يطلق عليه اسم العلم، وإن ادُّعي فيه ذلك؛ لأن مواد الدليل غير موجودة، بل هو قائم في الحقيقة على قياس التمثيل، وهو لا يفيد إلا ظنَّاً ضعيفاً، خصوصاً إن كان قياس الغائب على الشاهد.
وهذا النوع إن وجد فيه ما يصادم الدين، أو يناقضه فلا يضر الدين في شيء؛ لأنه ليس من العلم القائم على الحس والمشاهدة، أي ليس من العلم الواقعي، بل هو محض فرض تُتَخَيَّل له علاقات منتزعة.
أما الفلسفة فلا تضر مخالفتها للدين؛ لأن مذاهبها متباينة متخاذلة، فإذا لم يُتَّفَقْ فيها على مذهب صحيح كانت المذاهب كلها عرضة للخطأ، وإذا كانت عرضة للخطأ لم تكن حسية واقعية فهي تحمل في كيانها عوامل انخذالها ودحضها.
هذا هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
حادي عشر: مقالات في اللغة والأدب
56_ طرق الترقي في الكتابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
57_ اللغة والأمة: للأستاذ محمد صادق عنبر(1/245)
58_ البيان: للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
59_ قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
طرق الترقي في الكتابة(1) الشيخ محمد الخضر حسين
ليست هذه الصناعة كغيرها من الفنون لها قواعد مضبوطة ومسائل مدونة يتدارسها الكتاب، فتنتهي بهم إلى معرفة إيراد الكلام في معاريض الفصاحة وحسن الاطراد في أنحائها، وإنما هي عبارة عن تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ، والتأنق في تحسين هيأتها التأليفية.
ولا نستفيق جهداً _ إن شاء الله _ في البحث عن تلك التنبيهات واستقصائها، والإيماء إلى الكيفيات التي ينبغي أن توضع التراكيب في قوالبها؛ عسى أن تبعث تذكرتها في أفئدة نصراء اللغة العربية من أبناء هذا العصر نشاطاً جديداً؛ فيجهدوا أنفسهم عصبة واحدة؛ ليلجوا بنا في حدائق ناضرة، ومروج خَضِرة مما تستبدعه الأنفس، وتلذه الأسماع.
الإجادةُ في وضع الأقاويل أحكم وضع لا يأخذ بناصيتها إلا من كانت له قوةٌ حافظة، وقوة مائزةٌ، وقوة صانعةٌ؛ فالقوة الحافظة يستوعب بها الكاتب من مواد اللغة ما يسعه لكل غرض يأخذ في تفصيله وتفهيمه، حتى يكون آمناً مطمئناً من أن يكبوَ لسانه عِيَّاً وفهاهةً عندما يدفع لوصف خيل، أو نظام جيش، أو حالة حصن، أو سلاح، أو معمل أو صورة حرب مثلاً.
والقوة المائزة يمتاز بها ما يحسن من الكلام بالنظر إلى ترصيف كَلِمِهِ، وتآلف حروفه، بالنسبة إلى المقامات التي يوجه إليه بسياقاته؛ فقد يتفق مِقْولان لشخص واحد، ويكون أحدهما أحسن في نفسه، والآخر أحسن بالنسبة إلى موقعه.
والقوة الصانعة هي التي تتولى العمل في ترتيب الألفاظ والمعاني، والتدرج من بعضها إلى بعض، فَتُصْدِرُها ملتئمة النسج غير متخاذلة النظم، بريئة من التمايز الذي يجعل كل جملة كأنها منحازة بنفسها.
__________
(1) السعادة العظمى _ عدد8، 16ربيع الثاني 1322 المجلد الأول، ص154_156.(1/246)
لا تكمل القوة المائزة إلا بالانصباب على مطالعة المنشآت البعيد الغور في بيانها، المنتمية إلى الطرف الأعلى في عذوبة ألفاظها ورشاقة معانيها، وبتوسم ما أُرْسِل في طيّها من الاعتبارات المناسبة بذوق جيّد ومَهَلٍ في النظر؛ فمعرفة الفنون البلاغية وحدها غير كافية لاستواء هذه القوة واستحكامها؛ فقد نجد في المتضلّعين من قوانينها الخبيرين بِلُحْمَتِها وسُدَاها مَنْ لا يفرِّق بين الأقاويل المتفاوتة في بلاغتها وصفاء ديباجتها، وإن ارتفع بعضها فوق بعض درجات.
ولا تبلغ القوة الصانعة مبلغ التمكن وسرعة الترسل إلا بعد ارتياضها بالتمرين، والاستخدام في كل غرض تحقق عليه إرادتها في أزمنة متوالية.
ومما يربط بالأسف والتحسر على قلب كل مسلم أينع في صدره غُصْن الغيرة على اللغة الفصحى_ أنك ترى في الذين أوسعوا العلوم الأدبية خبرةً، وساروا في التطلع على الإنشاءات الرفيعة عَنَقَاً فسيحاً (1)، حتى أدركوا مغامزها، وأشرفوا على ما وراء أَكَماتها _ يعجز عن التصرف في صوغ فقرات تَلُمُّ شقاقاً، أو تؤكد إخاءاً مثلاً؛ ذلك لفقده القوة الصانعة، التي لا يقيم صلبها إلا الإدمان على العمل، وهو القاعدة التي يجري عليه كل تقدم وارتقاء.
ومن الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير، وتساعد قوته الصانعة على الإجابة في طرفة عين، وتطبع في صحيفتها مَلَكَةَ الهجوم على المعاني وبثِّها في ألفاظ رصينة غير متوعرة_ انحيازه إلى دَرَيٍّ بشعاب هذه الصناعة يقف به على المنافذ التي يسري منها الخلل إلى التآليف، ويبصره بالمذاهب التي ارتقت من نحوها التحارير الفائقة.
__________
(1) هذا تضمين لقول الشاعر في الشاهد النحوي:
يا ناق سيري عنقاً فسيحاً
إلى سليمان فتستريحا
والشيخ الخضر × إمام في الاقتباس والتضمين.(1/247)
ولقد قال أئمة الصناعة الشعرية: لا تجد شاعراً إلا وقد لزم شاعراً آخر المدة الطويلة، وتَعَلَّم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدَّرَبة في أنحاء التصاريف البلاغية؛ فقد كان كثَيِّر أخذ علم الشعر عن جميل، وأخذه جميل عن هدبة ابن خشرم، وأخذه هدبةُ عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير، وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين، والشِّعر والكتابة أخوان.
اللغة والأمة(1) للأستاذ محمد صادق عنبر
اللغة من الأمة كالقلب من الجسم: كلاهما ألطف شيء وأدقه، وكلاهما لا تكون بدونه الحياة.
وما من أمة خلعت دهراً لبسته، فخرجت بذلك من ماضيها، وطفقت تعمل لحاضرها وتمهد لمستقبلها _ إلا كانت لغتها معقداً لهذه الأطراف الثلاثة من التاريخ؛ ذلك أن اللغة من مُشَخصات الأمة الناطقة بها؛ فما فرَّطت أمة في جانب لغتها إلا كان ذلك إيذاناً بفدح مصابها، أو إيذاناً بوشك ذهابها، بل ليس هذا التفريط إلا انقطاعاً من سلك التاريخ، وما انقطعت أمة من سِلْكه إلا جهلته، فكان مَََثَلُها مثلَ الرقيق الذي يألف من فقدان حريته أن يجهل حريته إذا مَلَكَ أمرَه؛ فهو إن لم يجد مالكاً يسخره كرهاً سخَّر نفسه طوعاً على أن يؤجر بمساك حياته؛ إذ تكون حريته مادة في معدته بعد أن كانت معنى روحانياً في فطرته.
أجل، إن اللغة وِصْلةٌ بين غابر وحاضر؛ فإذا ضاعت لغةُ أمةٍ انقطعت أواصر النسب بين السلف والخلف، وفقدت الأمة بفقدان لغتها سجلها الحي؛ فالتوى لسانها الناطق، وسكن قلبها الخافق، وفي بعض ذلك كل الموت.
__________
(1) الحديقة 5/ 108_ 111، عام 1349هـ(1/248)
وأنت ألست ترى إذا ذهبت توازن بين أخطار الأمم أن أهونها على الدهر خطراً هي التي جهلت لغتها، وما لغتها إلا لسان تاريخها؛ فلم تعد ترتبط من الزمان بصلة، وكان من الهيِّن على من يشاء أن يستلحقها وهان عليها _ أيضاً _ أن تلتحق بكل تاريخ كما يلحق الخادم بكل من يستخدمه لا يميز بين سيد وسيد إلا بمقدار الأجر الذي يبيع به كرامته، ويشتري به مهانته.
وهل تفرق بين أمة بليَ فيها لسانها، وأمة غابرة بليت عليها أكفانها، وكلتا الأمتين ميتة، إلا بأن الأولى لم يُشَقَّ لها قبر!
ألا إن اللغة تَرِكةُ الماضي، وغنى الحاضر، وميراث المستقبل، وهذه الثلاثة الأزمنة هي كل أعمار الأمم في التاريخ؛ فما أرى إذا أضاعت أمة لغتها بأي شيء يشار إليها، وبأي دلالة يُدَلُّ عليها، ولا أعرف إذا لم تتميز جنسية أمة بلغتها أي حد يفصل بينها وبين غيرها من الأمم.
ولقد علمنا أن لكل أمة شاهداً من لغتها على ما فطرت عليه من دِين، ودوّن لها من تاريخ، وعرف عنها من نسب ومدنية وفنون، ففقدان أمة لهذه الثورة المعنوية اعتراف منها بسفاهتها، وبأنها في حاجة إلى القوَّام.
ولقد أراق الكتَّابُ كثيراً من المداد في بيان أن اللغة هي الأساس الذي يقام عليه بنيان الوحدة في كل جنس، وأنها هي الصلة الحسية بين المتكلمين بها أفراداً، وصورة الحياة الاجتماعية عندهم تركيباً؛ وكفى في الدلالة على ما بين اللغة والأمة من علاقة وثيقة أنك لا تجد أمة في مكان من العزة مكين إلا حيث تجد لغة أهلها قائمة السلطان على الألسنة، ولا تجد لغة عرضة لغائلة الحوادث إلا حيث تجد أمة عرضة لعوادي المقادير.
ألا إن اللسان من حيث هو مضغة مرآة للصحة، ومن حيث هو لغة مرآة للأمة؛ فأخلق بأمة تُسلم لغتها للفناء أن نقرأ عليها منذ الآن قصائد التأبين والرثاء.
البيان(1) للأديب مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) وحي القلم 1/15(1/249)
لا وجُودَ للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملتْ عليها يُقيمها الكاتبُ على حُدود ويديرها على طريقة، مُصيباً بألفاظه مواقعَ الشعور، مثِيْراً بها مكامنَ الخيال، آخذاً بوزن، تاركاً بوزن؛ لتأخذَ النفس كما يشاء وتترك.
ونقلُ حقائق الدنيا نقلاً صحيحاً إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخرَ يكون أوفى وأدقَّ وأجملَ؛ لوضعه كلَّ شيءٍ في خاصِّ معناه، وكشْفِه حقائقَ الدنيا كَشْفَةً تحت ظاهرها الملْتبس، وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة، تستدرك النقص؛ فتتمه، وتتناول السرَّ؛ فتُعلنه، وتلمس المقيَّد؛ فتُطلقُه، وتأخذ المطلقَ؛ فتحُدُّه، وتكشف الجمال؛ فتظهره، وترفع الحياة درجةً في المعنى، وتجعل الكلامَ كأنه وجد لنفسه عقلاً يعيش به.
فالكاتبُ الحقُّ لا يكتب ليكتب، ولكنَّه أداة في يد(1) القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تُصوِّرُ به شيئاً من أعمالها فنّاً من التصوير، الحكمةُ الغامضةُ تريده على التفسير، تفسيرِ الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيينِ الصواب، والفوضى المائجةُ تسأله الإقرار، إقرارَ التناسب، وما وراء الحياة، يتخذ من فكره صلةً بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلةً نفسيةً لتعلوَ به أو تنزل، ومن ذلك لا يُخلق المُلْهم أبداً إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيقِ مواضعُ مهيَّأة للاحتراق تنفذ إليها الأشعةُ الروحانية، وتتساقط منها المعاني.
__________
(1) لعلها: في يده (م)(1/250)
وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسَها عليه، منها سِنادُ رأيه، ومنها إقامةُ برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنساناً لأعماله وأعمالها جميعاً، له بنفسه وجودٌ ولد بها وجودٌ آخر، ومن ثَمَّ يُصبح عالَماً بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه، ويُلقى فيه مثلُ السر الذي يُلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلاً كلَّ السهل حين يتمُّ، ولكنه صعبٌ أيُّ صعب حين يبدأ.
هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المُفْرَدةَ في ذهنه معنىً تاماً، وتحول الجملة القصيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليَحكُمَ عليها، وتُدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه، وهي هي التي تميز طريقته وأسلوبَه، وكما خُلقَ الكونُ من الإشعاع تضع الإشعاعَ في بيانه.
ولابد من البيان في الطبائع الملْهمة ليتَّسع به التَّصرف؛ إذ الحقائقُ أسمى وأدقُّ من أن تُعرفَ بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها، فلو حُدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّسَ الملائكةُ بهذا اللحم والدم لبطل أن يكونوا ملائكة، ومن ثَمَّ فكثرة الصور البيانية الجميلة، للحقيقة الجميلة هي كل ما يمكن أو يتَسَنَّى من طريقة تعريفها للإنسانية.
وأي بيان في خُضرة الربيع عند الحيوان من آكِلِ العُشب إلا بيانُ الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنضِّرها حسناً كما يُنضره.
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى _ كالإيمان والجمال، والحب، والخير والحق _ ستبقى محتاجةً في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة.(1/251)
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظُهم ومعانيهم فنّاً عقليّاً غايتُه صحةُ الأداء وسلامةُ النَّسق، فيكونُ البيانُ في كلامهم على نَدْرَة كوَخْزِ الخُضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا، ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوةُ الأداء مع الصحة، وسموُّ التعبير مع الدقة، وإبداعُ الصورة زائداً جمالَ الصورة، أولئك في الكتابة كالطير له جناحٌ يجري به ويَدِفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري.
ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيتَ المنطقَ في أحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معان وألفاظ، وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يُطالعُكَ أنه هنا في جلال وجمال وصور وألوان.
ودورةُ العبارة الفنية في نفس الكاتب دورةُ خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبرَ مما هي، كأنها شبَّتْ في نفسه شباباً، وأقوى مما هي، كأنما كسَبَتْ من روحه قوة، وأدلَّ مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة، فالكاتب العلمي تمرُّ اللغةُ منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابعُ واضعيها.
ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعُه هو، أولئك أزاحوا اللغةَ عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها، وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكرُ والنظرُ والحكم، غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي.
وللكتابة التامة المفيدة مثلُ الوجهين في خلْق الناس؛ ففي كل الوجوه تركيبٌ تامٌّ تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجهَ المنفردَ يجمع إلى تمام الخلْق جمالَ الخُلُق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة، وهو لذلك، وبذلك، يُرى، ويُؤْثَر ويُعشق.
وربما عابوا السمو الأدبيَّ بأنه قليل، ولكنَّ الخيرَ كذلك، وبأنه مخالف، ولكن الحقَّ كذلك، وبأنه محيِّر، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك.(1/252)
إن لم يكن البحرُ فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجمُ فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرةُ الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتبُ البيانيُّ فلا تنتظر الأدب.
قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية(1)
للعلامة الشيخ: محمد الخضر حسين
في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، وتجدد إحساس الإنسان للصورة المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيلاً.
ولِتَجَدُّدِ إحساس الصور المسمّى تخيلاً أو تصوراً، أسبابٌ، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس، المماثلة، ويليه التضاد، ثم الوحدة المكانية، ثم الوحدة الزمانية.
والتماثل أن يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة، فمن رأى الماء الصافي تذكر المرآة الصقيلة، ومن رأى القمر تذكر طلق المحيا، ومن رأى النرجس تذكر العيون، ومن جلس إلى كاذب تذكر مسيلمة الكذاب، ومن سمع أن معتوهاً ادّعى أنه نبي أو أن باطنياً حرف آيات الذكر الحكيم عن مواضعها تذكر زعيم طائفة القاديانية، أو زعيم طائفة البهائية.
وانظر إلى أبي الإصبع، كيف يخطر في باله ريق المرأة وثغرها فيذكر ما بين العذيب وبارق، ويخطر في باله قدها، ومدامعها تجري لفراقها، فيذكر مَجَرَّ الرماح، ومجرى الخيل، أخبر بذلك في قوله:
إذا الوهم أبدا لي لماها وثغرها
... تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية عدد 6، مجلد 8، الصادر في شهر المحرم 1355هـ، وانظر كتاب: هدى ونور للشيخ الخضر عناية الأستاذ علي الرضا الحسيني ص133 _ 137.(1/253)
والتضاد أن يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل، كالسرور والحزن، والضحك والبكاء، والشجاعة والجبن، والإخلاص والرياء، فإذا خطر في البال أمر تبعه ضده، فمن حضر في ذهنه الشتاء تذكر المصيف، ومن وقع في خاطره التقوى انتقل إلى معنى الفسوق، ومن هذا الباب ترى شخصاً، فتذكر خصمه المبين، وترى آخر في بلاء، فتذكر العافية، ولهذا عدَّ علماء البلاغة التضاد من علاقات المجاز.
والوحدة المكانية أن تحس الشيئين في مكان، وإن اختلف الإحساس، كأن ترى شخصاً في مكان صباحاً، وترى شخصاً آخر في المكان نفسه مساءاً، فمن كثرت مشاهدته لشخصين في مكان، ثم رأى أحدهما حضرت في ذهنه صورة الآخر.
ويتصل بهذا أن يجري ذكر الواقعة، فينتقل ذهنك إلى مكانها، أو تشاهد المكان فيحضر في ذهنك صورة الواقعة، ومما يجري على هذا قول ابن الرومي:
وحبّب أوطان الرجال إليهم
... مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرَتْهُمُ ... عهودَ الصبا فيها فحنوا لذلك
والوحدة الزمانية أن تحس الشيئين في زمن واحدة، فإذا وقع بصر الإنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بعدُ تذكر الآخر، بل إذا حدَّث عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورة في قوة الحافظة، ثم رأى أحدهما أو جرى ذكره في المجلس حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر.
ويدخل في هذا الباب تذكر الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند أسبابها، كتذكر النار عند ذكر الحرارة، أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عدّ علماء البلاغة من علاقات المجاز السببية والمسببية.
ومما ينبهك على أن اقتران الشيئين في الزمان يجعل حضور أحدهما داعياً إلى حضور صورة الآخر قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
... وأذكره بكل مغيب شمس(1/254)
فإنها تذكره عند طلوع الشمس؛ لأنها كانت تراه وقت الطلوع في مظهر الشجاعة والتهيؤ للغزو، وتذكره عند مغيب الشمس؛ لأن وقت المغيب وقت توارد الضيوف عليه، وإطعامه الطعام في الغالب.
وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط؛ ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة أخرى، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصور المتماثلة أو المتضادة أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد.
فإذا شاهدت مصادفة ثلجاً على شجرة حول رمل، وفي منتهى الرمل بحر_فقد يخطر ببالك الثلج في وقت آخر، فتنتقل منه إلى الشجرة، ومن الشجر إلى الرمل، ومن الرمل إلى البحر.
ولو كنت شاهدت في البحر سفينة لكنت تنتقل من الرمل إلى البحر، ومن البحر إلى السفينة.
ولو شاهدت الثلج مركوماً في الشارع، والشارع محاط بمبان ذات نوافذ مفتحة_لكان لك عندما يذكر الثلج سلسلة أفكار، حلقاتها الثلج والشارع والجدران والنوافذ المفتحة.
ولو اتفق لك أن كنت شاهدت في زمن آخر نوافذ يشرف منها وجوه بيض، لانتقلت من النوافذ إلى الوجوه البيض، ومن الوجوه البيض إلى الوجوه السود، ثم إلى البلاد التي يكثر فيها الوجوه السود، فتصل هذه السلسلة في التخيل للسلسلة الأولى.
فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليه، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقها في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.
ومثال هذا أن يجري في حضرة المولع بالخمر، والقائم على أدوات الطعام ذكر الكأس، فينتقل المولع بالخمر من الكأس إلى الخمر، ويذهب متنقلاً فيما يتبع الخمر من لهو وفسوق.(1/255)
أما القائم على أدوات الطعام، فإنه ينتقل من الكأس إلى الملعقة، إلى الشوكة، إلى الطبق، إلى المنديل، حتى يضع سلسلةً من هذه الأدوات وما يتصل بها غير السلسلة التي صنعتها مخيلة المولع بشرب الخمر.
وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء؛ فأفكار البدو لا يطول تسلسلها، لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور، بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلتُهُ مسارح بعيدة المدى.
فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل _ أيضاً _ من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات.
فالناشئ في مدينة كبيرة يفوق في التخيل الناشئ في بداوة أو ما يشبه البداوة، وما ذلك إلا لكثرة ما يجده في حافظته من الصور المساعدة له على تأليف المعاني الجيدة.
وإذا وجدت رجلين يعيشان في بيئة واحدة منذ المنشأة، ورأيت في أحدهما براعة في نحو الشعر والصناعة قد فاق بها صاحبه _ فإن وجه فضله عليه من جهة قوة الانتباه لما بين صور الأشياء من المناسبات.
وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تحس أحدهما ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر _ ما في ذلك الأمر الذي أحسته من معنى يجلب اهتماماً شديداً من حزن أو سرور.
وانظر إلى الشاعر حين أراد التنبيه على أن ذكر حبيبه لا يفارقه قط، كيف أخبر أنه يذكره في أشد حال من شأن الإنسان أن يذهل فيه عن كل غائب، فقال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
... مني وسيف الهند يقطر من دمي(1/256)
ثم إن المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى غير قصد إلى غرض، ومن غير أن تكون تحت رعاية العقل، فتسمى مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها صادراً عن إرادة ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقته، فتسمى مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة، فتسمى مخيلة إبداعية.
فالمخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلى جهة خاصة أو غرض معين، كأن يحصل للإنسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى إلى آخر، ويجول في جملة من صور الاشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام ولا قصد إلى استنتاج.
ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة؛ حيث يزول الانتباه ولا يبقى للإرادة سلطان، فتجري المخيلة طلقة من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبة أو لذيذة أو مؤلمة.
ومن المرائي ما هو إلهام إلهي، كما ثبت قي نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.
والمخيلة العلمية هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها على قانون المنطق إدراك حقيقتة كانت خافية.
ويقول المتحدثون عن العالم ( نيوتن) إن مخيلته العلمية قد انتقلت به من مشاهدة تفاحة قد سقطت على الأرض وانساقت إلى النظر في قانون الجاذبية.
والمخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة إما محسوسة كما يفعل الصانع الماهر، أو معنوية كما يفعل الشاعر المجيد، فالصانع يفسح المجال لمخيلته، فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء ويساعد ذوقه على أن ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صور جديدة.
وكذلك الشاعر يبعث مخيلته فيما عنده من صور الأشياء، وما زال على صورة بعد أخرى حتى يجتمع عنده ما يمكنه أن يركب منه صورة معنى لا عهد للأذهان به من قبل.(1/257)
أما أثر التخيل في التربية فإنك إذا لقنت الناشئ الأخلاق الحميدة، والأعمال الصالحة، وذكرت له ما يترتب عليها من خير وسعادة _ وجدته لا يذكر تلك الأخلاق والأعمال إلا وقد حضر في ذهنه ما يقع عَقِبَها من الخير والسعادة، فينهض لها بقوة، وهذا شأنه حين تذكر له السير القبيحة، وتبين له ما يتصل بها من عواقب تعود عليه بالضرر والتهلكة؛ فإنه لا يخطر بباله شيء من الخلق الرذيل أو العمل القبيح إلا وقد حضر في ذهنه ما يعقبه من ضرر، فيدعوه ذلك إلى الكف عنه.
ولا ريب أن من لم يلقن فوائد الآداب الفاضلة والأعمال الصالحة ويكون خالي الذهن مما يترتب على الأعمال المكروهة من فساد _ تجده يذكر الفعلة القبيحة، فلا ينتقل ذهنه إلى شيء يردعه عنها، فيأتيها إجابة لداعي الشهوة.
ومتى كان تعليم الأخلاق وتقويم السير من جهة الدين رأيت الناشئ يذكر جلال الله في كل وقت يهم فيه بأمر نهى عنه ذو الجلال، وفي ذلك عصمة أي عصمة.
ثاني عشر: مقالات في السيرة النبوية
60_ قدوتنا الأعظم: للعلامة محب الدين الخطيب
61_ من إلهامات الهجرة: للعلامة محب الدين الخطيب
62_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
قدوتنا الأعظم(1) للعلامة محب الدين الخطيب
في ضميري دائماً صوت النبي
آمراً: جاهدْ، وكابدْ، واتعبِ!
صائحاً: غالبْ، وطالبْ، وادأبِ صارخاً: كن أبداً حرَّاً أبيّ
كن سواء ما اختفى وما علن
كن قويَّاً بالضمير والبدن
كن عزيزاً بالعشير والوطن
كن عظيماً في الشعوب والزمن
مصطفى صادق الرافعي
كلما خارت قواي وظننت أن الاستسلام للتيار أجدى؛ رجعت بروحي وعقلي إلى سيرة القدوة الأعظم " فوقفت وقفة الخشوع والإجلال تجاه سنين من حياته الشريفة قضاها في معالجة أخلاق قومه العرب، وإعدادهم لحمل مَشْعَلِ الفضيلة والهدى، والسير به في أقطار الدنيا.
__________
(1) الحديقة 10/ 90 _ 96، عام 1353هـ(1/258)
وما هي إلا سنوات قلائل حتى كانت دعوة الإسلام أعز دعوة تتحرك به الألسنة، وحتى كانت الشعوب تتجرد من عقائدها وعباداتها، بل من ألسنتها وعاداتها؛ لتدخل تحت لواء الإسلام، وتنادي بكلمة =حي على الفلاح!+ في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
كان من أول ما اشتهيت أن أعرفه _ يوم دخلت مكة _ جبل حراء الذي خوطب عليه سيد الخلق " بوحي الحق جل سلطانه، ودار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي كانت مُخْتََبَأَ النبي " وأصحابه إلى أن بلغوا أربعين، فكان منهم صفُّ الجهاد الأول في سبيل إعلاء كلمة الله _عز وجل_.
وقفت من جبل النور على قُلَّة شامخة زَلُوج (1)، وأرسلت بصري في الآفاق، فإذا جبال خالية من الناس بعيدة عن ضوضائهم، مستريحة من دسائسهم وشرورهم، أمرها الله أن تكون فكانت، ولا تزال على ما أمرها الله به من غير تبديل أو تعديل إلى أن يأمرها الله بالزوال فتزول.
وتشرفت بدخول الغار المبارك، ثم خلوت بنفسي بعيداً عن أصحابي أتأمل كيف أن روح خاتم الأنبياء، وسيد أولي العزم كانت من السعة بحيث ترجو الله أن تعم كلمة =لا إله إلا الله+ جميع أقطار الدنيا، وأن تعلو أرواح سكان تلك الأقطار من حضيض العبودية للبشر أوالجمادات إلى مستوى التوحيد الخالص الذي لا يليق بعقولِ البشر ونفوسِهم غيره، وأن تتحول أمم الأرض عن خرافاتها وأكاذيبها وخساساتها وحِيَلِها، فتكون بالإسلام أمة صدق ورحمة، وإيثار وعمل، وجهاد وإصلاح.
في هذا الغار هبط الوحي الإلهي على قلب عبد الله ورسوله محمد " ومن هذا الغار انتشر نور الهدى، فاستنارت به قلوب أمم لا عِداد لها،وسيدخل هذا النور قلب كل ابن أنثى إذا استطاعت أمة محمد " أن تتأسى به، وتصغي إلى صوته فيما أمر به من معروف، وما نهى عنه من فساد.
__________
(1) القُلَّة: القِمَّة، وقوله: شامخة زلوج: أي مرتفعة زلقة (م).(1/259)
ودخلت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي الواقعة على يسار الصاعد إلى الصفا، فقلت في نفسي: لو شاء الله أن يُلَيِّن لدعوة عبده محمد قلوب أهل الأرض جميعاً لأجابوا نداءه في بضع سنين، بل في ليال قلائل، ولكنه دَرْسٌ من سيرة سيد الخلق " يجب على كل مسلم أن يتعلمه، فيعلم منه أن الحصاد لا يستحقه إلا الذي زرع، وأن النتائج لا يحصل عليها إلا من قام بمقدماتها.
وويل لمن يتقاعس عن الدعوة إلى الخير بحجة أن أهل هذا الزمان يصدون عن الاستجابة لها، وهو يتجاهل أن ما لقيه قدوتنا الأعظم " من العقبات في سبيل دعوته لا يُعَدُّ ما يلقاه دعاة هذا الزمان في جانبه شيئاً مذكوراً.
ألا فليحاسب ورثة الأنبياء أنفسهم، وليقولوا لنا: ما هو الأذى الذي لقوه في سبيل كلمة الله، وما هو البذل الذي بذلوه لإعلاء كلمة الله، وأيُّ خُلُقٍ من أخلاق محمد " وأصحابه تخلقوا به؛ ليكونوا مثالاً حسناً للإسلام يُغْرِي الأغيارَ بالإقبال عليه، والإذعان له؟
لم تسئ أمة إلى تاريخها، ولم تعْشَ أبصار شعب عن سيرة عظمائه كما أسأنا نحن إلى تاريخنا، وكما عميت أبصارنا وبصائرنا عن مواقف العظمة في سيرة نبينا" وحياة أكابر المهتدين بهديه من الصحابة والأئمة والمجاهدين.
ولعل هذه الثُّغْرة في سور قلعتنا أوسعُ مكان تسرَّبَ إلينا منه الضعف، وأصابنا منه الوهن والانحلال.
نشكو إدبار النصر عنا، ولا نحب أن يمر ببالنا شبح المسؤولية التي تتوجه علينا من هذا الجانب.
نذكر بالفخر والإعجاب انتشار الإسلام في الصدر الأول انتشاراً يكاد يكون معجزة، وإذا قال لنا إنكليزي مسلم كالمستر مَرْ مَدْيُوك بِكْتول: إن انتشار الإسلام بمثل تلك السرعة ممكن إذا دعوتم إليه بسيرتكم وأخلاقكم _ رجونا أن ينتهي كلامه بسرعة؛ ونهضنا معاهدين الشيطان على أن نبقى عند حسن ظنه فينا.(1/260)
كلنا نقول: إن محمداً " هو قدوتنا الأعظم، وكلنا نقرأ في كتاب الله _ عز وجل _ [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] وكلنا نعلم أن الموانع الواقفة اليوم في سبيل القرآن لا تعد شيئاً مذكوراً في جانب الموانع التي كانت واقفة في سبيله يوم كان محمد " وأصحابه يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي عند الصفا يعاهدون الله على الثبات حتى النهاية.
وأقرب ما نقارن به بين حال اليوم وحال الأمس أننا الآن خمسمائة مليون يتلون القرآن؛ وأنهم كانوا يومئذ أقل من أربعين...
ولكن أين الأخلاق؟!
من إلهامات الهجرة(1) للعلامة محب الدين الخطيب
في الإسلام ظاهرة يمتاز بها على غيره من الأديان التي تموج أقطار الأرض بأتباعها؛ فأهل الديانات الأخرى ينحصر معنى الدين عندهم في العقيدة والعبادة، فإذا ضُمنتا لهم في أي نظام لهم من أنظمة الحكم اكتفوا بهما، وأذعنوا إلى ذلك النظام مهما كان، ولا يعرفون دينهم إلا ساعة الاجتماع في المعابد.
أما الإسلام، فكما أنه دين عقيدة وعبادة، فإنه يشمل _ أيضاً _ الآداب في المنازل والمجتمعات، والتعاون بين الأفراد والجماعات، ويتناول العقود والمصالح والالتزامات، وتتسع دائرته فتحيط بنظام الحكم كله.
والمسلمون لا يعتبرون أنفسهم عائشين في بلد إسلامي إلا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم، وقامت فيه أحكامه وآدابه، كما تقوم فيه شعائره، وتسود عقائده.
وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه الخلقية والبيتية _ وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في العالمين.
__________
(1) مع الرعيل الأول ص42 _ 47.(1/261)
وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط وجب عليهم أن يتجمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تامَّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل؛ لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبها _ صلوات الله عليه _ وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان.
هذه هي حكمة الهجرة، وهذا هو الباعث عليها، والداعي لها.
فالإسلام يجب أن يكون له وطن تقام فيه معاني الإسلام كلها، ويُعمل فيه بأحكامه وأنظمته في دواوين الدولة، ومرافق الأمة، ومعاملات الأفراد، وآداب البيوت، بقدر ما يعمل فيه بشعائر العبادات، وبقدر ما تُحمى فيه حقائق العقيدة التي لا يكون الإسلام إسلاماً إلا بها.
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد رسول الله " فلبثوا في وطنهم مكة مستضعفين بها لا يستطيعون إعلاء كلمة الله؛ لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى المدينة، فيقوى بهم الإسلام؛ فنزل فيهم قول الله _ عز وجل _: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ _ أي بعد إقامة دينهم في بلدهم، وتخلفهم عن نصره وتأييده في دار هجرته _قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً].
وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا، وكانوا يؤدون صلواتهم على النهج الشرعي في منازلهم أو في الحرم إن استطاعوا، وكانوا صحيحي العقيدة، وغير مقصرين في العبادة، إلا أنهم كانوا سبب ضعف للإسلام، بإذعانهم لنظام غير نظامه، وإحجامهم عن تقوية الإسلام في وطنه ودار هجرته.(1/262)
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها _ كان من تمام الآيات السالفة قول الله _ عز وجل _: [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً _ أي مذهباً ومتحولاً _ كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].
إن النفس الإسلامية يريد لها الإسلام أن تعيش في جو من النظام والحكم يسهِّل لها فهم هداية الإسلام، ويحبب لها العمل بهذه الهداية في كل ضروب من ضروب الحياة، وتتوافر فيه حرية الدعوة إلى كل ما ينشده الإسلام من حقيقة وخير، فيتيسر القيام بها جهاراً في جميع أحوال الفرد المسلم والجماعة الإسلامية، ويكون فيه للحق قوة تقمع كل من يصد عن ذلك، أو يحول بين المسلمين وبين الدعوة إلى هدايتهم، والعمل بها في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجتمعاتهم.
فإذا نشأت النفس الإسلامية ونمت تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام، ويحمي دعوته، ويحمل الأمة على آدابه _ كانت هذه النفس قوة للإسلام تعمل على رفعته وتوسيع دائرته، غصناً في دوحة الإسلام تزهر وتورق وتثمر في جناته.
أما إذا نشأت ونمت تحت جناح يخالف الإسلام، ويخذل دعوته ولا يربي الأمة على آدابه _ فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام، وتعميم هدايته.(1/263)
إن الهجرة المحمدية من ديار الشرك إلى دار النصرة قد مضت بأهلها، ولكن الهداية المحمدية لا تزال في أمانة المسلمين، وهي في عصرنا أحوج ما كانت إلى تفكير المسلمين في صيانتها، والتماسهم الأسباب لازدهارها وتعميم العمل بها.
لما هاجر النبي " بأصحابه من ديار الشرك إلى دار النصرة، كان للإسلام _على قلة أهله يومئذ _ قوة بتلك القلة من أهله لا نكون صادقين لو زعمنا أن عندنا للإسلام مثلها اليوم مع كثرتنا واتساع آفاق أوطاننا.
فإذا كانت الهجرة مضت بأهلها فإن القوة التي توخاها النبي " للإسلام بالهجرة لا تزال أنظمة الإسلام وآدابه وأهدافه مفتقرةً اليومَ إلى مثلها، بل هي اليوم أشد افتقاراً إلى مثل تلك القوة مما كانت في زمن الهجرة.
نحن محتاجون اليوم _ من معاني الهجرة وأهدافها وحكمتها _ إلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والمحبة، والتعاون على الخير.
فالبيت الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية.
وقبل أن أتبجح؛ فأنتقد ما خرج عن دائرتي من بيئات لا يفيدها انتقادي شيئاً يجب عليَّ أن أبدأ بمملكتي التي هي بيتي، فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنات وبنين إلى ما يحبه الله من الصدق، هاربين من الكذب الذي يكرهه الله ويلعن أهله في صريح كتابه.
ويجب أن أنخلع أنا وأهل بيتي من رذيلتي الإفراط والتفريط؛ فنكون معتدلين في كل شيء؛ لأن الاعتدال ميزان الإسلام.
ويجب أن نحب أنظمة الإسلام وآدابه محبة تمازج دماءنا، فنتحرى هذه الأنظمة في أخلاقنا، وأحوالنا، وتصرفاتنا، ومعاملة بعضنا لبعض هاجرين كل ما خالفها مما اقتبسناه عن الأغيار، وخذلنا به مقاصد الإسلام، فضيعنا أغراضه الجوهرية.(1/264)
إذا تربينا في بيوتنا على محبة الأنظمة الإسلامية، وتأصل ذلك في أذواقنا وميولنا، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة _ فشا العمل به حينئذ من البيوت إلى الأسواق، والأندية، والمجتمعات، ودواوين الحكم، ولا يلبث الوطن كله بعد عشرات قليلة من السنين أن يتحول من وطن عاص لله إلى وطن مطيع لله، ومن وطن تسود فيه الأنظمة التي يسخطها الله إلى وطن تسود فيه الأنظمة التي أمر بها الله.
نحتفل بذكرى الهجرة في كل سنة، ونتكلم فيها عن الماضي ولا ننتفع بها في الحاضر.
ولو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله " كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة _ لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته، وآدابه في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجامعهم، ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين من البيت، وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنات وبنين، ومتعاونين عليه مع كل من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عمَّ هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل الآثار التي كانت لهجرة النبي " وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الأمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع ابن مسعود السلمي قال: جئت بأخي (أبي معبد) إلى رسول الله " بعد الفتح فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة، فقال ": =قد مضت الهجرة بأهلها+.
قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: =على الإسلام، والجهاد، والخير+.
قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع، فقال: صدق.(1/265)
وفي كتب السنن وبعضه في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي " قال: =المهاجر من هجر السيئات+.
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عبسة، وفي حديث عبدالله بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله ": =... فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله+.
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (6: 21) من حديث فضالة بن عبيد بن ناقد أن النبي " قال في حجة الوداع: =ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب+.
فإلى الهجرة أيها المسلمون...
إلى هجر الخطايا، والذنوب، في أعمالنا، وأخلاقنا، وتصرفاتنا.
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا.
إلى هجر الضعف، والعطالة، والإهمال، والسرف، والكذب، والرياء، ووضع الأشياء في غير مواضعها.
إلى هجر الأنانية، والصغائر، والسفاسف مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه نفوس أمته حتى تكون خير أمة أخرجت للناس كما أراد الله لها.
وهذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله الكريم.
أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة(1)
للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
...
المقام الأول
في الحرية والمساواة في الشريعة الإسلامية
وهو مقام يستدعى شيئاً من الإطالة؛ ليكون الحكم فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدوداً دقيقة بعضها محمود وبعضها ضارٌّ مذموم.
الحرية:
لا تجد لفظاً تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه _ مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه _ مثلَ لفظِ الحرية.
__________
(1) الهداية الإسلامية، الجزء التاسع والعاشر، المجلد السادس، ربيع الأول وربيع الثاني 1353هـ(1/266)
وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم.
فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبرراً لجرأته، ومحب الثورة يعد الحرية مسوغاً لدعوته، والمَفْتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حر العقيدة إلى غير هؤلاء.
فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن؟
والتحقيق أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة.
ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق، وقد شاع عند العرب أن يلصقوا مَذامَّ الصفات النفسانية بالرق؛ إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة:
إنك يا عمر وَتَرْكَ الندى ... كالعبد إذ قَيَّدَ أجمالَه(1)
ولما استصرخ شداد العبسي ابنه عنترة؛ ليرد غارات عدوهم _ وكان عنترة ابن أمة كما هو مشهور، وكان أبوه يأبى أن يعده في عداد بنيه بل جعله عبداً له على عادة أهل الجاهلية _ أجابه عنترة بقوله: =العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلاب والصر+(2).
فقال له شداد =كر وأنت حر+.
وبضد ذلك جعلوا الفضائل من سمات الأحرار قال جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال الراجز الجاهلي:
لن يُسْلِمَ ابنُ حرةٍ زَميلَه ... حتى يموت أو يرى سبيله
وقال مخيس بن أرطاة التميمي:
فقلت له تجنب كل شيء ... يعاب عليك إن الحرَّ حرُّ
قال المبرد: =يعني أن الحر على الأخلاق التي عهدت في الأحرار وكما كنت تعهد+. ا. هـ يعني وأنت حر فلا تخالف خلق الأحرار.
__________
(1) فإنه إذا قيَّد جِمَال سيده يرى أنه قد أتم واجبه كله.
(2) الصر: شد ضرع الناقة عند الحلب.(1/267)
حتى لقد احتاج بعض أصحاب الأخلاق الحميدة من عبيدهم إلى إعلان الاختلاف بين حال عبودية شخصه، وكرم نفسه كما قال حية النوبي الملقب بـ: سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون أني أبيض الخلق
دعوة الإسلام إلى الحرية:
الحرية وصف فطري في البشر؛ فإننا نرى المولود ييفع حرَّاً لا يعرف للتقييد شبحاً.
وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله _ تعالى _ بقوله: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] الروم:30
فكل ما هو من أصل الفطرة فهو من شعب الإسلام ما لم يمنعه مانع.
ويزيد إعراباً عن كون الحرية من أصول الإسلام قوله _ تعالى _ في وصف محمد " ووصف أتباعه: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] الأعراف: 157.
فالإصر: هو التكاليف الشاقة، والأغلال: غير الإصر؛ فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية وهي عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع(1).
ومما يزيد هذا بيانا قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: =متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً+.
__________
(1) المرابيع: جمع مرباع، وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيد القبيلة حين يُغير بها.(1/268)
طرأت على الحرية الفطرية وسائل الضغط من القوة والتسلط، فَسَخَّرت الضعيفَ للقوي، والبسيطَ للمحتال وزادت هذا التسخير تمكناً التعاليمُ المضللةُ وهي أساطير الوثنية، والشرك، والكهانة، فجاء محمد " يضع عنها الأغلال إلى الحد الذي تصير به نفعاً ورحمةً قال _ تعالى _: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)] الأنبياء:107
لا تتحقق حرية تامة في نظام البشر؛ لأن تمام الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود، وعن كل مراعاة للغير بأن يعيش المرء عيشة الوحوش، وذلك غير مستطاع إلا فيما تخيَّله الشنفري إذ يقول:
ولي دونكم أهلون سِيْدٌ عَمَلَّسٌ ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل(1)
هم الأهلُ لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما دان يعزل
فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون _ فالحرية المطلقة تنافي مدنيته؛ فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة.
فلننظر إلى القيود التي دخلت على الحرية في تاريخ الحضارة، فان كانت تحصل منها فائدة للمقيد بها في خاصته أو في حالته الاجتماعية العامة فهي المعبَّر عنها بالشرائع والقوانين، ودخولها على الحرية مقصود منه تعديلها؛ لتكون نافعة غير ضارة.
وإن كانت تلك القيود في فائدة غير المقيد بها لاستغلال حقوق المقيد بها فهي الاستعباد الذي قصد منه، أو آل إلى إفساد الحرية.
مظاهر الحرية:
تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل.
__________
(1) السِيْد: الذئب، والعملس: السريع السير، والأرقط: النمر؛ لأن فيه نقطاً بيضاً وسوداً، والزهلول: الأملس، والعرفاء: الضبع؛ لأن لها عرفاً من الشعر، والجيأل: اسم للضبع.(1/269)
فأما حرية الاعتقاد فقد أسس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فان محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا مالا قبل له بجولان الفكر فيه، أو ما يموه بتخيلات، وتكليف اعتقاد مالا يفهم ينافي الحرية.
فبَيَّن الإسلامُ الاعتقادَ الحقَّ، ونصبَ الأدلةَ عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة قال _ تعالى _: [قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] يونس:101.
وقد اختلف الصحابة، وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة كمسألة الإمامة، ومسألة القدر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة ترغم غيرها إلا إذا خرج المخالف عن حد المناظرة إلى المغالبة والإرهاق.
وانقسم المسلمون إلى طوائف مختلفة الاعتقاد من آخذين بما ورد في السنة دون تأويل، وآخذين بذلك مع التأويل، ومن خوارج، وقدرية، وجبرية، ومرجئة، ومعتزلة، وظاهرية، وصوفية؛ فلم يكن أهل حكومة الإسلام يجبرون الناس على اتباع معتقدهم، بل كان الفصل بينهم قائماً على صحة الحجة، وحسن المناظرة إلى أن ظهرت في القرن الثالث مسألة خلق القرآن، وإثبات الكلام النفسي القديم التي أيقظت عين الفتنة، وابتلي فيها أهل السنة ببغداد ومصر، وظهرت بالقيروان مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ومسألة العندية في الإيمان وهي قول المؤمن أنا مؤمن عند الله، وتبعت ذلك فتن تبدو وتخفى، وتلتهب تارة ثم تطفى.
لم يسمح الإسلام بتجاوز حرية الاعتقاد حد المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محموداً.
فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج عنه فهو المرتد؛ فارتداده إما أن يكون مع إظهار الحرابة للإسلام وهذا النوع قد حدث زمن النبي " من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب.(1/270)
وأما بدون حرابة فقد ارتد نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله "توبتهم.
ثم ارتدت قبائل من العرب بعد وفاة رسول الله " بإعلان الكفر، أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم؛ فكان إجماعهم أصلاً في قتل المرتد مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس _ رضي الله عنهم _ أن رسول الله " قال: =من بدل دينه فاقتلوه+، يعني الإسلام.
وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل؛ فإنه لا يتصور أن يجد بعد إيمانه ديناً آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه؛ لأن معظم الناس أغرار تغرهم الظواهر، ولا يغوصون إلى الحقائق.
وكما استدل هرقل على صدق نبوة محمد " بسؤاله أبا سفيان =هل يرتد أحد من أتباع محمد بغضة لدينه بعد أن يدخل فيه+ فأجابه أبو سفيان _ وهو يومئذ مشرك _ بأن لا، فقال هرقل: =وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب+.
فكذلك يعكس الكائد للإسلام وجه الاستدلال، فيجعل من ارتداد الداخل في الإسلام دليلاً وهميَّاً على صحته.
وقد يكون الارتداد لمجرد الاستخفاف والسخرية بالإسلام.
وحرمة الله توجب الذب عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة.
أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.(1/271)
ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقاً بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام، إذ الإسلام دينٌ قرينُ دولة؛ فكان من موجباتِ حفظِ بقائه تأمينُه من غوائل الناقمين على ظهوره.
قال بعض العلماء: كان رسول الله " لا يُكْرِه أحداً على اتباعه، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوه فنزل قوله _ تعالى _: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] الحج: 39، وقد قال الله _ تعالى _: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ](1) البقرة: 256.
وأما حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه ويصرح بما يراه صواباً مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه(2)، قال الله _ تعالى _: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] الأنعام: 152.
ولا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان قال الله _ تعالى _: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران: 104.
وقال: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران:110.
__________
(1) اختلف العلماء في المقصود من هذه الآية اختلافاً في إحكامها ونسخها والصحيح أنها محكمة، وأن المقصود منها أنْ لا يجبر غير المسلمين على التدين بالإسلام، ولم يُستثن من ذلك إلا مشركو قريش عند مالك، أو مشركو جميع العرب عند أبي حنيفة والشافعي.
(2) لأن تكلم الإنسان فيما لم يتعاطَ علمه، أو في الأمور التي يدق وجهُ الصواب فيها ليس من الحرية، بل ذلك يُعدُّ من التكلم فيما لا يعني، وقد قال _ تعالى _:[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْن].(1/272)
وفي الحديث الصحيح =من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان+.
فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعيف، فتعيَّن أن حظ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان.
ومن حرية القول بذل النصيحة قال الله _ تعالى _: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)]العصر.
وفي الحديث الصحيح: =الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم+.
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: =بايعت رسول الله " على الإسلام فشرط عليَّ =والنصح لكل مسلم+ فبايعته على ذلك+.
ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب =كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم؛ فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت عليها أن تراجعني قالت: ولِمَ تُنكر عليَّ أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وقد أخبر عمر بذلك رسول الله " فأقره+.
وقد راجع الصحابة رسول الله " في أشياء من غير التشريع، من ذلك لما نزل رسول الله " بالجيش أدنى ماء من بدر في وقعة بدر قال له الحباب بن المنذر: =أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة+؟
قال رسول الله ": =بل هو الرأي والحرب والمكيدة+.
فقال: =يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزلَه، ثم نعورَ ما وراءه من القُلُب(1) ثم نبنيَ عليه حوضاً، فنملأَه، فنشربَ ولا يشربوا+.
فقال رسول الله " =لقد أشرت بالرأي+.
__________
(1) نعور بالعين المهملة: أي نفسدها ونسدمها، شبَّه القلب بعيون الناس، فجعل إفسادها كالعور يقال: عور العين وعارها، والقُلُب: جمع قليب وهي البئر القريبة الماء.(1/273)
وقال عمر لرسول الله " يوم صلح القضية حين رأى عزم رسول الله"على إجابة شروط قريش: =ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فعلام نعطى الدنية في ديننا+
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين: الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة؛ فقد أمرنا ببث القرآن وتعليمه، وببث الآثار النبوية؛ ففي الحديث الصحيح: =نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه+.
=وفي خطبة حجة الوداع، ليبلغ الشاهد الغائب+.
وقد أمر الخليفة الثالث بنسخ المصاحف وأرسل بها إلى أقطار الإسلام، وجعل النبي " يوما في الأسبوع لتعليم النساء، وأُسِّست المكاتب لتعليم الصبيان من عهد أبي بكر أو عمر، ثم قد وردت أحاديث في فضل العبيد والإماء.
ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه.
قال علماؤنا: إنها من مشمولات أمر الوجوب في قوله _ تعالى _: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التغابن:16، وغيره من آيات القرآن.
وفي الحديث: =من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد+.
وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟.
الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلباً للحق؛ لأن الحق مشاع.
ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: =إني عزمت أن أكتب كتبك هذه _ يعني الموطأ باعتبار أبوابه _ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها+.(1/274)
فقال مالك: =لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله"وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه+.
ولقد كان في مدة الدولة العبيدية بالقيروان مذهبان متضادان تمام المضادة في أصول الدين وفروعه وهما مذهب المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة مذهب أهل الدولة، وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرسون مذاهبهم لا يصد أحدهم الآخر.
ثم كان نظير ذلك بمصر في عهد انتقال العبيديين إليها، وتأسيس دولتهم الملقبة بالفاطمية.
وشواهد هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.
لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله " يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة، وجاء رسول الله " إلى مدارسهم ودعاهم إلى الإسلام كما هو ثابت في الصحيح.
وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة أو ما فيه حفظ حياء الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة.
وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة.
وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعاً، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته.
وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن.
وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله.(1/275)
ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين وفي الحديث: =ولتخرج العواتق، وربات الخدور، وليشهدن الخيرَ ودعوة المسلمين+.
وكانت امرأة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنهما _ تخرج إلى صلاة الجماعة وتعرف منه الكراهية فتقول: =والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يستطيع منعها+.
ومعنى كراهته لذلك أنه يود أنها تترك فضيلة الجماعة؛ لما عرف به من شدة الغيرة، ومعنى قولها له: إلا أن تمنعني أي أن تصرح لي بالمنع وهو لا يستطيع ذلك؛ لأنه رأى أنه ليس من حقه عليها، وكان وقافاً عند كتاب الله.
وللمرأة حق مطالبة الزوج بحسن المعاشرة، وطلب عقوبته على ضد ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال الله _ تعالى _: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] (البقرة: 228).
وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملاً فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات.
وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
حرية العبيد:
سلط الإسلام حقيقة الحرية على حقيقة العبودية؛ قصداً لعلاجها، وإصلاح مزاجها.
إن الرق شيء قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف؛ فكان الرقيق معدودينَ كالحيوان يذيقهم سادتهم النكال؛ فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون، وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق، فعذبت قريش أَمَةً اتهموها بسرقة وشاح جويرية، ثم تبين أن الحدأة اختطفته، ثم ألقته بمكان فكان ذلك سبب إسلام هذه الأمة، وهجرتها إلى المدينة وكانت تقول:
ويومَ الوشاحِ من تعاجيبِ ربِّنا ... ألا إنَّه من دارةِ الكفرِ نَجَّاني(1/276)
وقتلت بنو الحسحاس من بني أسد عبدهم سُحيماً الشاعر بتهمة تغزله بابنة سيده.
فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق، ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:
1_ الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيره مملوكاً له، وكان هذا الاسترقاق مشروعاً في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين.
2_ والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقاً، وقد كان هذا مشروعاً حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر [قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ] إلى قوله:[لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ].
3_ والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعاً عند الرومان أن يأخذ الدائنُ مَدِيْنَهُ إذا عجز عن الدفع فيسترقه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سولون الحكيم.
4_ والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية: أعني الحروب بين المسلمين فهو ممنوع في الإسلام.
5_ واسترقاق السائبة: كما استرقت السيارة من الإسماعيليين يوسف _ عليه السلام _ حيث وجدوه في الجب [فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً].
وقد عزز الإسلام ذلك بروافع ترفع حكم الرق وهي كثيرة:
_ فمنها: أن جعل من مصارف أموال المسلمين اشتراء العبيد، وعتقهم، وإعانة المكاتبين بنص قوله _ تعالى _: [وَفِي الرِّقَابِ].
_ ومنها: أنْ جَعَلَ عتق العبيد من خصال الكفارات الواجبة ككفارة قتل الخطأ، وتعمد فطر رمضان، والظهار، والحنث.(1/277)
_ ومنها: أن أمر بمكاتبة العبيد وهي التعاقد معهم على مقدار من المال يؤديه العبد منجَّماً فإذا استوفاه صار حرَّاً قال _ تعالى _: [وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ] النور: 33، حمل كثير من علماء الصحابة ومن بعدهم الأمر في قوله: [فَكَاتِبُوهُمْ] على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب.
_ ومنها: أن من أعتق جزءاً من عبده أُجْبِرَ على إكمال عتقه إن كان بقيته له، وإن كان لغيره معه فيه شركة قوّم عليه نصيب شريكه، وألزم الشريك ببيع نصيبه للمعتق بالقيمة، وأعتق جميعه.
_ ومنها: أن من أولد أمته صارت في حكم الحرة بمعنى أنه لا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة ولا استغلال، وتعتق من رأس تركته بعد مماته.
_ ومنها: أن من عاقب عبده عقاباً شديداً، فمثل به أعتق عليه جبراً، أو وجب عليه عتقه دون جبر إذا لم يبلغ حد التمثيل كاللطمة؛ لأن عتقه كفارة الاعتداء عليه كما في الأحاديث الصحيحة وأقوال الأئمة.
_ ومنها: كثرة الترغيب في عتق العبيد والإماء.
_ ومنها: أَنْ جَعل الفقهاءُ دعوى العتق لا يعجَّز مدعيها، ولا يحكم عليه أن لم يجد بَيِّنة _ بحكم قاطع لدعواه، بل له أن يقوم بها متى وجد بينة.
ولقد استخلص فقهاء الإسلام من استقرائهم لأدلة الشريعة، وتصرفاتها في شأن العبيد قاعدة فقهية جليلة وهي قولهم =إن الشارع متشوف إلى الحرية+.
ويضاف إلى هذا تأكيد الوصاية بالعبيد، وفي حديث أبي ذر÷ قال رسول الله " =عبيدكم خَوَلُكم(1) إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن جعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فَلْيُعِنْه+.
__________
(1) الخول: بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو الذين يتخولون الأمور، ويصلحونها، وهذا الوصف؛ لبيان مزيتهم.(1/278)
وفي حديث آخر وأحسب أنه موجود في بعض روايات خطبة حجة الوداع =اتقوا الله في العبيد؛ فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم+.
وفي الصحيح نهى رسول الله " عن أن يقول العبد لمالكه: ربي أو سيدي وليقل: مولاي، ونهى المالك أن يقول: عبدي، وأمتي وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
فإن قال قائل: لماذا لم يبطل الإسلام أصل الاسترقاق، أو يبطل أسباب حدوثه بعد الإسلام فيكون أقطع ليجرثومته(1) وأنفع لتحقيق مقصد الشريعة من التشوف إلى الحرية؟
قلنا: تبين أن الاسترقاق قد بنيت عليه نظم المدنية يومئذ في الخدمة والعمل والزراعة، والفراسة، وأصبح من المتمولات الطائلة، والتجارة الواسعة المسماة بالنخاسة، وانعقدت بسبب ذلك أواصر عظيمة، وهي أواصر الأمومة بين العائلات، وأواصر الولاء في القبائل؛ فإبطاله إدخال اضطراب عظيم على الثروة العامة، والحياة الاجتماعية بأسرها، على أنه ربما يعرض العبيد إلى الهلاك، والذهاب على وجوههم في الأرض لا يجدون من يؤويهم.
ثم لو أبطل الإسلام أسباب الرق في نظامه لكان ذلك ذريعة إلى جرأة أعدائه من العرب وغيرهم على حربه؛ لأن أعظم ما يتوقعه المحاربون من الهزيمة هو الأسر والسبي، فإذا أمنوا منهما لم يعبئوا بالموت وما دونه، وعبر عن ذلك أبو فراس بنزعته العربية بقوله يخاطب سيف الدولة:
ولكنَّني أختار موت بني أبي ... على سروات الخيل غير موسَّد
وتأبى وآبى أن أموت موسَّدا ... بأيدي الأعادي موت أَكْبَدَ أكْمدِ
وقال النابغة في شأن الأسر والسبي:
حذار على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
سد ذرائع انخرام الحرية:
جرى الإسلام على عادته في التشريع وهي أن يشرع الوسائل، ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسد الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد، فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي المُلَقَّبة في أصول الفقه بسد الذريعة.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: لجرثومته، أي أصله(م).(1/279)
وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل؛ فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه، وترك الرياء، وسمي الرياء بالشرك الأصغر؛ وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة؛ فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري، ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يُحَتِّم على صاحبه الخوف من الانتقاد، وغضب الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا َحِمدوا ومجَّدوا أحداً حسبوا فعلهم مزية أنالوها إياه؛ فأصبحوا يمنُّون عليه، ويترقبون منه أن يطيعهم في قضاء ما يشتهون مما يظنونه مصلحة.
والفرض أنهم لا يفقهون؛ فإذا كان ناصحاً أميناً لم يستفزه ذلك إذا علم أن فيه لهم سيئَ العواقب، ولم يغترَّ منهم بتلك الظواهر الكواذب، ولم يَرُقْه السير في عراض المواكب(1).
وقد حكى الله _ تعالى _ من مواقف الرسل والناصحين من ذلك كثيراً: فحكى عن موسى _ عليه السلام _: [قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)] (الأعراف).
فأما إذا فتنته تلك الظواهر الخلاَّبة، فانتفخ عُجْباً، وخشي انحرافاً منهم وسلباً خَصَّ في إدراك الحقيقة، وخادعهم، وواربهم أضاع مصالحهم، وغلب سفههم على رشده، قال _ تعالى _:[وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى](الأنعام:152)، وقال: [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] (آل عمران:146).
وقد سقط في هذه المهواة كثير من زعماء الأمم.
__________
(1) هذا تضمين لقول الشاعر في الشاهد النحوي:
فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيراً في عراض المواكب (م)(1/280)
وسدَّ ذرائعَ قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث: =تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض+.
فلذا أبطل الإسلام الربا؛ لأنه طريق واسع لاستبعاد المضطرين، وأبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القراض، والإجارة، والمغارسة، والمساقاة، والمزارعة، وقد أمكن أن تُستخرج قاعدةٌ شرعية لهذه المسائل الممنوعة وهي منع أن يفترص(1) الغني احتياج الفقير إليه، فَيُعْنِتَه لأجل ذلك.
وذرائع فساد حرية القول تكون فيها تقدم، وتكون في حرية العلم بأن نحمل العلماء على تحريف الحقائق؛ لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل.
وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل فقال:[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً] البقرة: 79.
وقال _ تعالى _: [فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً] المائدة: 44.
وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة كما أوضحته الآثار وأئمة التفسير.
وتكون _ أيضاً _ في حرية القضاء؛ فلذلك حرَّم الإسلام الرشوة، وأوجب إجراء أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان.
قال ابن العربي في تفسير قوله _ تعالى _: [قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ] البقرة: 247: =ليس من شرط الخليفة ولا القاضي أن يكون غنيَّاً، ولكنه في حكم الإسلام لا يكون إلا غنيَّاً؛ لأنه يأخذ ما يكفيه من بيت المال؛ فغناه فيه+.
تحصيل:
__________
(1) يعني يغتنم الفرصة(م).(1/281)
إذا تبينت ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تَبَيُّنَ الحكيمِ البصير علمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في الشريعة جامعةً بين أنواع المصالح بحيث قد بلغ بها حدَّاً لو اجتازته لجر اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالاً قويَّاً أو قليلاً، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف؛ لتمزيق إهابها.
ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن لا عبرة بوجود يفضي إثباته إلى نفيه.
ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي: أن المناسبة التشريعية لا تعتبر مناسبة إلا إذا كانت غير عائدة على أصلها بالإبطال، وأنها تتخرم إذا لزمها مفسدة راجحة أو مساوية.
وبقول راجح أقول: إن ما يتجاوز الحدود التي حدد الشرع بها امتداد الحرية في الإسلام لا يخلو عن أن يكون سببَ فوضى، وخلعٍ للوازع بين الأمة، أو موجب وهنٍ ووقوع في إشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يُعْوِز صاحب الرأي الأصيل.
المساواة:
نُقَفِّي القول في الحرية ببيان المساواة: المساواة مصدر ساواه إذا كان سواءاً له أي مماثلاً؛ فالسَّواء المِثل.
ولا يتصور تمام المساواة بين شيئين، أو أشياء في البشر؛ لأن أصل الخلقة جاء على تفاوت في الصفات المقصودة ذاتية ونفسية، وذلك التفاوت يؤثر تمايزاً متقارباً، أو متباعداً في أخلاق البشر وآثارهم بتفاوت الحاجة إليهم، وترقب المنافع والمضار من تلقائهم، وذلك يقضي تفاوت معاملة الناس بعضهم لبعض في الاعتبار والجزاء.
فلو دعت شريعة إلى دحض هذه الفروق والمميزات لدعت إلى مالا يستطاع.
وتأبى الطباع على الناقل
فضلاً على ما في ذلك من حمل الناس على إهمال المواهب السامية، وذلك فساد قبيح، والله لا يحب الفساد.(1/282)
ويكون الاقتراب إلى الفساد يفيد الاقتراب إلى الإفراط في إلغاء المميزات الصالحة، ولا تستقيم شريعة ولا قانون لو جاء بهذا الإلغاء؛ فإن الذين تطرفوا في اعتبار المساواة لا يسيرون طويلاً حتى تجبههم سدود لا يستطيعون اقتحامها كالشيوعيين؛ فقد وقفوا في حدود عجزوا عن تحقيق مبدأ المساواة فيها كمساواة أبكم لفصيح، ومعتوه لذكي.
ومن هذا يتضح القياس، وتظهر المساواة الحقة بين الناس قال _ تعالى _: [وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20)]فاطر، وقال: [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] الفرقان: 44.
إذن فالمساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع؛ فالشريعة التي تبني المساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مساواتها ضعيفة.
والشريعة التي تبني مساواتها على انتفاء الموانع شريعةٌ مساواتُها واسعةٌ صالحةٌ، ويظهر أن الدعوة الإسلامية بنت قاعدة المساواة على انتفاء الموانع.
وشتان بين قوَّةِ تأثيرِ الشرط وتأثير المانع، والشريعةُ التي لا تقيد المساواة بشيء شريعةٌ مضلِّلَة.
فإذا عددنا المساواة في أصول شريعة الإسلام فإنما نعني بها المماثلة بين الناس في مقاديرَ معلومةٍ، وحقوق مضبوطة من نظام الأمة سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها أم كان بتعداد مواقع المساواة.
المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية:
الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات: وهي المُعَبَّر عنها بالعدل، وهو خصلة جليلة جاءت به جميع الشرائع، وبينت تفاصيله بما يناسب أحوال أتباعها.
وشريعة الإسلام أوسع الشرائع في اعتبار هذه المساواة، ففي خطبة الوداع: =وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب+.(1/283)
وفي الصحيح: أن الرُّبَيِّعَ بنت النَّضْر لطمت جارية، فكسرت ثنيَّتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله " بالقصاص، فجاء أنس بن النضر أخو الربيع وكان من خاصة الصحابة من الأنصار فقال: يا رسول الله والله لا تكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله ": =كتاب الله القصاص+.
ثم إن أهل الجارية رضوا بالأرش.
وقصة الفزاري الذي لطمه جبلة بن الأيهم معروفة(1).
الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة: بحيث تجري أحكامها على وتيرة واحدة ولو فيما ليس فيه حق للغير؛ مثل إقامة الحدود.
وقد سرقت امرأة من بني مخزوم من قريش حليَّاً، فأمر رسول الله " بإقامة الحد عليها، وعظم ذلك على قريش فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله "؟ فقال قائل: ومن يجترئ عليه غير أسامة بن زيد، فكلموا أسامة، فكلم رسول الله "في شأنها فغضب رسول الله "وقال: =أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها+.
__________
(1) جَبَلَة بنُ الأَيهم ملك غسان بدمشق أسلم بعد فتح الشام، وسكن المدينة، وحج مع عمر ابن الخطاب، فبينما هو يطوف إذ وطئ رجل من فزارة إزار جبلة فانحل إزاره، فلطمه جبلة، فهشم أنفه وكسر ثناياه؛ فاستعدى الفزاري عمر بن الخطاب على جبلة، فقال عمر لجبلة: إما أن يعفوَ عنك الفزاري وإما أن يقتص منك، فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة، قال عمر: شملك وإياه الإسلام؛ فما تفضله إلا بالعافية والتقوى، قال جبلة: ما كنت أظن ألا أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا، فلما رأى جبلة الجد من عمر قال له: أنظر في أمري الليلة، فرحل جبلة بخيله ورواحله ليلاً ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية، فتنصر، وبقي عند قيصر.(1/284)
أشار كلام رسول الله " إلى ما كان في الأمم السالفة من التفاضل في إقامة الشريعة، وقد كان ذلك في بني إسرائيل كما ثبت في بعض طرق هذا الحديث في الصحاح، وثبت أن الرومان كانت عقوبات الجنايات المتماثلة تختلف عندهم على حسب اختلاف حالات المجرمين ووسائلهم.
الثالثة: المساواة الأهلية أي في الصُّلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك: وهذه قد تكون بين جميع من هم داخلون تحت سلطة الإسلام، وتكون بين المسلمين خاصة، وتكون بين أصناف المسلمين من الرجال أو من الأحرار من النساء.
والأصل في هذه الأهلية في الإسلام هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم لقوله " في أهل الذمة: =لهم مالنا وعليهم ما علينا+.
ثم المساواة بين المسلمين خاصة في أحكام كثيرة بحكم قوله _ تعالى _: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] الحجرات:10.
قد جمع حكمُ الأخوةِ اطرادَ المساواةِ، فدخل الرجال والنساء والأحرار والعبيد إلا فيما دلت الأدلة على تخصيصه بصنف دون آخر لا تخصيصاً اقتضاه حال الفطرة، أو مصلحة عامة.
وفي الحديث: =الناس كأسنان المشط+ فلم يقصر المساواة على جنس أو قبيلة، ولم يقدم عربيَّاً على عجمي، ولا أبيض على أسود، ولا صريحاً على مولى، ولا لصيق، ولا معروف النسب على مجهوله، وفي خطبة حجة الوداع: =أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى+.
قد كان تمايز الأجناس أو القبائل في القوانين والشرائع السالفة أصلاً في الأحكام؛ ففي التوراة سفرٌ لِخَصَائصِ اللاويين(1)، وعند الرومان والفرس وبني إسرائيل لم يكن للدخيل في الأمة مثل ما للأصيل، وعند العرب لم يكن للصريح ما للصيق بَلْهَ الغريب عن القبيلة، والإسلام أبطل ذلك.
__________
(1) نسبة إلى لاوي بن يعقوب (م).(1/285)
أَمَّر النبيُّ " زيدَ بنَ حارثة وهو من موالي قريش، وأَمَّرَ ابنَه أسامة بن زيد على جيش؛ فتكلم في المرتين بعض العرب فخطب رسول الله " فقال: =إن تطعنوا في إمارته =يعني أسامة+ فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان =زيد+ لخليقاً بالإمارة وإن هذا =أسامة+ لمن أحب الناس إليَّ+.
فنبه بقوله إن كان لخليقاً بالإمارة على أن الاعتبار بالكفاءة، ونبه بقوله: =لمن أحب الناس إلي+ على أنه إنما اكتسب محبة الرسول " لفضله وكفاءته؛ إذ بذلك تكتسب محبة الرسول ".
كذلك لم يختص الإسلامُ بالمساواة طبقةً.
وقد كان نظام الطبقات فاشياً بين الأمم؛ فكانت الفرس والروم يعدون الناس أربع طبقات أشرافاً، وأوساطاً، وسفلةً، وعبيداً.
وكان العرب يعدون الناس طبقات ثلاثاً سادةً، وسوقةً، وعبيداً، فكان الفرس يخصون كل طبقة بخصائص لا تبلغ إليها الطبقة التي هي دونها.
سأل رستم قائد جيوش الفرس في حرب القادسية زهرة بن حوية عن الإسلام فكان من جملة ما قاله زهرة لرستم: =إن الناس بنو آدم إخوة لأب وأم.
فقال رستم: إنه منذ ولي أردشير لم يدع أهل فارس أحداً من السفلة يخرج من عمله، ورأوا أن الذي يخرج من عمله تعدى طوره، وعادى أشرافه.
قال زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقول، بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا.
وكان العرب يفرقون في الدية بين السادة والسُّوقة وفي الاقتصاص في الدماء، ويسمون ذلك بالتكايل، فَيُقَدَّر دمُ السيدِ أضعافَ دمِ السُّوقة، فجاء الإسلام بإبطال ذلك ففي الحديث: =المسلمون تتكافأ دماؤهم+.(1/286)
ولم يعتبر الإسلام للطبقات أحكاماً في الأهلية للكمال إلا في جعل الناس قسمين أهل الحل والعقد، والرعية؛ فأهل الحل والعقد هم ولاة الأمور، وأهل العلم، ورؤساء الأجناد، فهؤلاء طبقة إسلامية جُعل إليها النظر في إجراء مصالح الأمة، ومن خصائصها: انتخاب الخليفة، كما فعل عبد الرحمن بن عوف في تعيين الخليفة من الستة بعد عمر _ رضي الله عنهم _.
وأما المخالفون في الدين من أتباع حكومة الإسلام فقد منحهم الإسلام مساواة في معظم الحقوق عدا ما روعي لهم فيه احترام شرائعهم فيما بينهم، وعدا بعض الأحكام الراجعة إلى موانع المساواة.
وقد اختلف علماء الإسلام في القصاص بين المسلم والذمي، وجوز العلماءُ ولايةَ الذمي ولاياتٍ كالكتابة ونحوها.
وقد كان في الأمم الماضية يعد الاختلاف بين الحكومات ورعاياها في الدين حائلاً دون نيل الحقوق، وموجباً للاضطهاد.
وقد قص التاريخ علينا عدة اضطهادات من هذا القبيل كاضطهاد الآشوريين والرومان لليهود، واضطهاد التبابعة للنصارى في نجران، وهم أصحاب الأخدود، وتاريخ الإسلام مُبَرَّأ من ذلك.
موانع المساواة:
موانع المساواة في الإسلام كما أشرت إليه في أول مبحثها تكون: جِبِلِّية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية؛ فالموانع الجبلية كموانع مساواة المرأة للرجل، فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بخلقها؛ مثل قيادة الجيش، والقضاء عند جمهور المسلمين؛ لاحتياج هذه الخطط إلى رباطة الجأش، وكمنع مساواة الرجل للمرأة في كفالة الأبناء الصغار، وفي استحقاق النفقة.
والموانع الشرعية هي المعلولة لعلل أوجبتها، وهي مبينة في مواضعها من كتب الشريعة مثلاً عدم المساواة في إباحة تعدد الأزواج للمرأة، وفي مقدار الميراث، وفي عدد الشهادة، ومثل عدم مساواة العبد للحر في قبول الشهادة، وكذلك أهل الذمة عند من منع قبول شهادتهم، ومن منع القصاص لهم من المسلمين بالقتل .(1/287)
والموانع الاجتماعية تتعلق غالباً بالأخلاق، وبانتظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه كعدم مساواة الجاهل للعالم في الولايات المشروطة بالعلم كالقضاء والفتوى، وعدم مساواة العطاء بين أهل ديوان الجند، فقد أعطاهم عمر على حسب السابقية في الإسلام، وحفظ القرآن.
والموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام، وسد منافذ الوهن أن يصل إليها كمنع مساواة أهل الذمة للمسلمين في الأهلية للولايات التي يمنع منها التدين بغير الإسلام، ومنع مساواتهم للمسلمين في تزوج المسلمات، ومنع مساواة غير القرشيِّ القرشيَّ في الخلافة للوجه الذي نبه إليه أبو بكر ÷ يوم السقيفة؛ إذ قال: =إن العرب لا تدين لغير هذا الحي من قريش+.
قال إمام الحرمين في الإرشاد: =ومن شرائطها _ أي الخلافة _ عند أصحابنا أن يكون الإمام من قريش، وهذا مما يخالف فيه بعض الناس وللاحتمال فيه مجال+.
المقام الثاني:
أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام: أهابت دعوة الإسلام بالأمم، وقد كانوا غافلين مستسلمين، ففتحت أعينهم إلى ما في معاملة سادتهم وكبرائهم إياهم من الاعتداء والغض؛ فأخذ أولئك يقتربون إلى تقويم أَوَدِ جبابرتهم، والطموح إلى إصلاح أحوالهم، وأَخَذَ هؤلاء ينزلون عن صياصي الجبروت، ويخفضون من غلوائهم، فحدثت بذلك يقظة فكرية في العالم.
اخترقت دعوة الإسلام أفكار الحضارة العالمية بطرق شتى: منها تناقل الأخبار، ومنها الجوار، ومنها الدعوة بالكتب النبوية إلى ملوك الأمم المشهورة مثل الفرس، والروم والحبش، والقِبْط، وملوك أطراف بلاد العرب في العراق والشام والبحرين وحضرموت، ومنها: هجرة المسلمين الأولين إلى بلاد الحبشة، ومنها: الفتوح الإسلامية في بلاد الفرس، والروم، والجلالقة _ أسبانيا _ والإفرنج، والصقالبة، والبربر، والهند، والصين.(1/288)
قد كانت سيادة العالم حين ظهور الدعوة المحمدية منحصرةً في مملكتين الفرس والروم؛ فأما المملكة الفارسية فقد أوهنتها الحروب المادية بين الفرس والروم في زمن سابور الثاني وأبناء قسطنطين الروماني، وأعقبت تلك الحروب تنازعاً مستمرَّاً بين قواد الجيوش الفارسية إلى أن صار المُلك إلى أبرويز بن بهرام الذي أخذ يجدد ملك الدولة الفارسية، وهو الذي كان ملكه في وقت البعثة، وكتب إليه رسول الله " كتابه المشهور مع عبد الله بن حذافة السهمي.
وأما المملكة الرومانية فقد بلغت من الاختلال في الشرق والغرب أوائل القرن السادس مبلغاً أشرف بها على الفوضى بتنازع قواد الجيوش السلطة، ولم تأخذ في تدارك صلاح أحوالها إلا في زمن هرقل _ هيرا كليوس _.
وقد كان ملكه في عصر البعثة، وهو الذي جرى بينه وبين أبي سفيان المحاورة في شأن الإسلام كما تقدم، وهو الذي كتب إليه رسول الله " كتابه المشهور مع دحية الكلبي.
فكان لشيوع دعوته " في بلاد العالم أثران:
الأول: أنها سهلت لكثير من الأمم الدخول في دين الإسلام، أو في حكمه بما شاهدوا من آثار محامد سياسته لرعاياه مع عدم التشويش على أهل الأديان في عقائدهم؛ فتمكنوا بذلك خير تمكن من مخالطة المسلمين في معظم شئون الحياة مخالطةً خَوَّلَتْ لهم مزيد الاطلاع على محاسن الإسلام وتربية أهله، وربما كان ذلك هو السبب في إسلام كثير من المتدينين مثل نصارى نجران وتغلب وقضاعة وغسان، ومثل يهود اليمن، ومثل مجوس الفرس والبربر، ومثل نصارى القبط والجلالقة والبربر.
ومن لم يدخل منهم في دين الإسلام سهل عليه الدخول في ذمته.
الأثر الثاني: كان مِنْ تناقل تلك الحوادث، ومن تمازج الفرق من الأمة الواحدة، أو من تمازج الأمم سمعة حسنة للإسلام ومعاملته، فكان لتلك السمعة أثر جليل في بقية الممالك التي بقيت خارجة عن حكم الإسلام.(1/289)
ومن أمثلة ذلك ما تقدم من كلام زهرة بن حوية، وما جرى بين يدي النجاشي من كلام أفصح به جعفر بن أبي طالب عن حقيقة الإسلام ومن جملة ما قال له: =إنا كنا قبل الإسلام يأكل القوي الضعيف+.
ومعناه فقد الحرية والمساواة، فصمم النجاشي على حماية المهاجرين من المسلمين، ورد سفراء الإسلام أساليب جديدة في سياسة ممالكهم أفضت إلى تخفيف وطأة الاستبداد، وإلى حصول خير كثير للبشر، وشكلاً جديداً للمدنية كانت عاقبته ما نشاهده اليوم من رقيٍّ إلى معارج سامية؛ فإن للفضائل عدوى سريعة كما قال أبو تمام:
ولو لم يزعني عنك غيرك وازع ... لأعديتني بالحلم إن العلا تعدى
وحقت كلمة ربك: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء: 107.
ثالث عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
63_ تعاون العقل والعاطفة على الخير: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
64_ الخوف: للأستاذ أحمد أمين
65_ التعصب: للأستاذ أحمد أمين
66_ روح السماحة: للأستاذ أحمد أمين
67_ من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
68_ عبرة الموت: للأستاذ أحمد أمين
تعاون العقل والعاطفة على الخير(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
في النفس قوة النظر والفكر، وذلك ما نسميه بالعقل، وفي النفس قوة الميل إلى الشيء والرغبة فيه، وذلك ما نسميه بالعاطفة؛ فالعقل يدرك حسن الشيء أو قبحه، والعاطفة تجعل النفس محبة له راغبة فيه.
وإذا حدثناكم عن العقل، فإنما نريد العقل السليم، فإن هذا هو العقل الذي يدرك في أغلب أحواله الخير أو الشر على ما هو عليه.
ولا أسْلَمَ من عقل تربى في أحضان الدين الحق، وتغذَّى بلبان حكمته الغرَّاء.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزءان الثالث، والرابع من المجلد الرابع عشر ص148_157.(1/290)
أما العاطفة فقد تتجه إلى ما يألفه العقل، وتسير مع العقل جنباً لجنب، وهي العاطفة الشريفة المحمودة، وقد تتجه إلى ما ينكره العقل، ويكون العقل في وادٍ وهي في واد، وهي العواطف التي نسميها أهواءاً وشهواتٍ جامحةً.
اختلاف العقل والعاطفة
يدرك العقل الخير والشر، ولا سِيَّما عقلاً يزنهما بقسطاس الشريعة العادلة، ولكن العاطفة قد تنصرف عن الخير، وتأخذ بزمام النفس إلى ما هو شر، فتُعَدُّ مناوئة للعقل، خارجة عن سلطانه.
وقد نبه القرآن المجيد لهذا النزاع، وحذَّر من الانحطاط مع العواطف فقال _تعالى_: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] البقرة:216.
فالنفوس قد تحب الشيء وحقها أن تكرهه؛ لأنه شر، وقد تنفر منه وحقها أن ترغب فيه؛ لأنه خير.
وينبني على هذا التنبيه أن الإنسان لا ينبذ الشيء لأول ما تنقبض منه العاطفة، ولا يمد إليه يده لأول ما يحس تعلق العاطفة به، بل يرسل فكره في طلب الاستدلال على أنه خير حتى يتعاطاه، أو أنه شر حتى يتحاماه.
يختلف العقل والعاطفة، وإذا تعلقت العاطفة بما أنكره العقل كانت العاطفة هي الخاطئة، ومن جرى في عمله على إرضائها فقد ازدرى العقل، وضل سواء السبيل.
وليس من الممكن أن يدرك العقل الناشئ في مهد العلم الصحيح شيئاً ويذعن له، ثم تخالفه العاطفة، فتميل إلى غير ما أذعن له العقل، ويكون كل منها على هدى.
وقد زعمت طائفة من المناوئين للدين الحق أن قضايا الدين تتقبلها العواطف، وقضايا العلوم تتقبلها العقول، وأن العواطف قد تتقبل أشياء لا تسلمها العقول، ولم يَكْبُر عليهم أن يقولوا: إن قبول العاطفة للقضية الدينية وإنكار العقل لها لا يتنافيان، قالوا هذا حين قصدوا لصرف الناس عن وجهة الدين من طريق المداجاة والمخاتلة، فتسمعهم يقولون لمن أرادوا إغواءه:(1/291)
إن الدين لا يَلْزَم أن يكون مطابقاً للعلم؛ لأن العلم يجيء من ناحية العقل؛ فنقبله على أنه ثمرة الفكر، وإن الدين نتقبله بقلوبنا وعواطفنا ولا يضره عدم تسليم العقل.
وقد يأتي أولئك المخادعون إلى أشياء قررها الدين وهي في زعمهم مخالفة للعلم، ويتظاهرون بأنهم يؤمنون بما جاء به الدين فيقولون: هذا قرره العلم فنتقبله بعقولنا، وهذا قرره الدين فنتقبله بعواطفنا.
ونحن نفهم أن الدين الحق قد يقرر شيئاً من الأحكام يقصر العقل عن فهم حكمتها، ككون صلاة المغرب ثلاث ركعات، أو يخبر بشيء يعجز العقل أن يقيم الدليل على إثباته كبعض الأخبار الواردة في الجنة أو النار.
ولكنا ننفي نفياً قاطعاً أن يقرر الدين شيئاً فينكره العقل، أي أن العقل يستطيع أن يقيم الدليل المقبول على انتفائه.
فالحقيقة التي نصدع بها موقنين، ونخرج من مقام الدفاع عنها ظافرين هي أن كل ما يقرره الدين لا تجرؤ العقول على إنكاره، إلا عقولاً لا ترجع في إنكارها إلى منطق صحيح.
والذين يريدون استهواء أفراد أو جماعات إلى مذهب زائغ أو عمل فاسد يتجنبون أن يأتوهم من ناحية العقل والمنطق؛ لعلمهم أن العقل والمنطق إنما يقفان بجانب الحق والفضيلة، فتجدونهم يلجأون إلى أن يأتوهم من ناحية العواطف، حتى إذا وجدوها مستعدة لأن تنحدر في طريق غير طريق العقل أخذوا يجاذبونها، ويغذونها بما يزيد في عوجها، حتى تخرج عن سلطان الحكمة، وهذا ما يفعله الدعاة إلى غير هداية، من نحو إعداد مستشفيات أو ملاجئ ينصبونها حبائل؛ لاصطياد الغافلين من المسلمين.
وكذلك يفعل الملاحدة، والإباحيون؛ إذ يتخذون في وسائل إغواء فتياننا وفتياتنا، وإبعادهم عن حظيرة الدين، فتح باب الشهوات في وجوههم، من نحو استحسان التبرج واختلاط الجنسين، حتى يبلغ بعضهم أن يقول في غير استحياء: إن الدين لا يمنع من اختلاط الفتيان بالفتيات.(1/292)
وقد حذر بعض الحكماء من الطائفة التي تأتي الناس من ناحية أهوائهم، فقال: أخوك من صدقك، وأتاك من ناحية عقلك لا من ناحية هواك.
والظالمون المستبدون يعملون على هذه الشاكلة؛ حيث لا يجدون من ذوي العقول الراجحة أولياء؛ فيفتشون عمن ينقادون إلى عواطفهم _ أي أهوائهم _ دون عقولهم، فيتخذون منهم أعواناً، ويشبعون أطماعهم بالأموال والمناصب وغيرها، من الملاذ المادية.
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أكثر أعوان الظالمين هم من ذوي النفوس التي تجري مع العواطف السافلة، ولا تقيم لنصائح العقول وزناً.
وقد جاء القرآن الكريم إلى عواطفَ شأنها أن تجمح بالإنسان إلى حيف، أو تصده عن القيام بواجبه؛ فحذر من الإفراط في مسايرتها، مثل الأبوة والبنوة والزوجية والصداقة، قال _ تعالى _: [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ]التغابن:14.
وقال _ تعالى _:[قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]التوبة 24.
ونظر شارع الإسلام إلى عواطف يغلب عليها الخروج عن حد الاعتدال، وبنى الحكم على ما هو الغالب عليها من الإفراط والغلو، كما جعل الأبوة والبنوة والزوجية من وجوه الطعن في الشهادة، فلا تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا شهادة الأب لابنه، وإن كانا معروفين بالعدالة؛ ذلك أن عاطفة الأبوة أو البنوة قد تطغى؛ فتقع بصاحبها في شهادة غير صادقة.(1/293)
وقد يتنازع العقل والعاطفة إرادة الشخص إلى أن يتغلب سلطان أحدهما على سلطان آخر، وكثيراً ما تحذر الشريعة السمحة من الانقياد إلى العاطفة التي تثور على سلطان العقل، كما قال _ تعالى _:[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ]النور:2.
فالعقل يتجه إلى ما يوجهه إليه الدين من إنكار السفاح, واستحسان إقامة الحد على مرتكبه , ولكن عاطفة الشفقة قد تهز في القلب , فتجعله ينفر من إجراء العقوبة على الزاني , وهذا ما يحذر منه كتاب الله بقوله: [وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ].
والذين ينكرون بعض ما شرع الله من الحدود كقطع يد السارق، وجلد القاذف ورجم الزاني المحصن _ لا يرجعون في إنكارهم إلى رَوَيَّةٍ ونظرات في المصالح والمفاسد صحيحة، وإنما أخذوا إلى ما يقولون بعاطفة عمياء, أو ذوق غير سليم.
تقوى العواطف وتضعف, والتغلب على العاطفة القوية دليل قوة البصيرة, وإيثار الفضيلة على الرذيلة؛ فمن يخرج للحرب مثلاً, وقد ترك وراءه رزقاً واسعاً, وأهلاً يعز عليه فراقهم يفضل من خرج إلى الحرب ولم يترك من ورائه شيئاً يأسف عليه.
وأراد جرير أن يبالغ في مدح قوم بطموحهم إلى أقصى مراقي المجادة, فنبه على أن العواطف التي شأنها أن تصرفهم عن هذه الوجهة لا تنال من عزائمهم شيئاً, حيث قال:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
ونبه آخر على أن عاطفة المحبة لا تشغله عن واجب الدفاع, فقال:
وترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للغواني عبيدا
وإذا كانت الشجاعة درجات فإن هذه الدرجات ترتفع على قدر ما يقاوم الإنسان من العواطف الشخصية, ويرمي بها وراء ظهره.(1/294)
قال عبد الملك بن مروان لجلسائه: =من أشجع الناس؟ فأكثروا من ذكر الأبطال, فقال لهم: أشجع الناس مصعب بن الزبير, جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة الحميد بنت عبد الله بن عباس, وولي العراقين, ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان والمال والولاية, فأبى أن يقبل ذلك, واطرح كل مشغوف به في ماله وأهله وراء ظهره, وأقبل بسيفه قرماً يقاتل ما بقي سبعة نفر, حتى قتل كريماً+.
وعلى هذا المنوال يجري كثير من خصال الحمد كالكرم والإنصاف, قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يعدم والإقدام قتال
والمشقة التي تعرض لطالب السيادة هي التعب الذي يلاقيه في مخالفة ميول نفسه, من نحو حب الحياة, والحرص على الاستئثار بالمال، والتوسع في الاستمتاع به.
وشأن الإنسان حب الانتقام ممن ألحق به أذى, فإذا كان للأذى الذي لحقه وجه من حق, وكان الذي ألحق به الأذى على جانب من الفضل كان مدحه له بدل هجائه؛ تقديماً لداعي العقل على العاطفة الجامحة, وذلك هو الإنصاف.
كان سعيد بن الجودي عاقب المقدام بن المعافى وكان شاعراً, وشأن هذا العقاب أن يهيج في نفس المقدام بغض سعيد وحب الانتقام منه بما يقدر عليه من الهجاء, ولكن المقدام رثى سعيداً بعد موته, فقيل له أترثيه, وقد أصابك بالضرب؟ فقال: والله إنه نفعني حتى بذنوبه, ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي, أفلا أرعى له ذلك؟ والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي بعد موته؟
توافق العقل والعاطفة:
يدرك العقل حسن الشيء وصلاحه, وتسايره العاطفة.
والأمر الذي يستحسنه العقل، وتتجه إليه العاطفة تقبل عليه النفس بعزم صارم, وتسعى له بكل ما أوتيت من استطاعة وذلك معنى تعاون العقل والعاطفة على الخير .(1/295)
اتجاه العاطفة إلى ما يتجه إليه العقل, يجعل الأمر الصعب سهلاً, والغاية البعيدة قريبة, والطريق الوعر مُعَبَّداً؛ لهذا نرى القران الكريم بعد أن يدعو الناس إلى ما فيه خيرهم قد يأتي النفوس من ناحية العواطف؛ إذ يعقب الأمر بما شأنه أن يثير حماستها, وخذوا مثلاً أمره بدفاع العدو في قوله:[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ]البقرة:190.
فشأن المسلم أن يتلقى أمر الله بالامتثال لقيام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير, ولكن الأهواء قد تستولي على القلوب, وتعوقها عن امتثال أمر القتال؛ فأخذ القرآن يهز العواطف حتى تتضافر هي والعقل على العزم والثبات في مواقف الدفاع, إذ قال _ تعالى _: [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً+التوبة:8.
فذكرهم فرض القتال بأنهم إذا تهاونوا بأمر الدفاع عن أوطانهم بسط عليهم العدو سلطانه, واستبد فيهم لا يرعى لهم عهداً ولا ذمة.
وليس من شك في أن التذكير بهذه العاقبة المشؤومة يثير في نفوس الأمة رغبة شديدة في الاحتفاظ باستقلالها إن كانت مستقلة، أو في الأخذ بأسبابه إن كانت مستعبدة.
وإن شئتم أن تزدادوا خِبْرةً بأثر العاطفة من الإقدام على العمل الصالح بقوة _ فانظروا إلى رجلين اتحدا في مقدار ما تلقياه من العلوم الدينية، وأحدهما مُتَّقِدٌّ حماسة، مجدٌّ في الدعوة إلى سبيل الله، متفانٍ في الذود عن حياض الشريعة، والآخر منهما خِلْوٌ من هذه الحماسة، فلا يؤلمه أن يرى حرمة الدين منتهكة، وكلمته غير نافذة، ونفوس الناشئين عنه منصرفة؛ ذلك أن الأول متفقه في الدين، وتربَّتْ له مع هذا التفقه عاطفةٌ نحوه.
أما الآخر فتلقى علوم الدين، وإنما صارت لمسائله صورة قائمة في ذهنه، دون أن تكون بجانبها عاطفة.(1/296)
والعلماء الذين كانوا يواجهون ذوي السلطان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبالون بما يلاقونه في سبيل الدعوة من الأذى، مثل سعيد بن المسيب، وعز الدين بن عبد السلام، ومنذر بن سعيد البلوطي، إنما امتازوا عن غيرهم من أهل العلم بشدة العاطفة الدينية المتدفقة غيرةً وحماساً.
وقد تتعارض العاطفة الدينية والعاطفة الشخصية، والكيس من يقدم العاطفة الدينية، ويرمي بالعاطفة الشخصية إلى وراء، وأسوق إلى حضراتكم مثلاً لهذا هو أن الخليفة هارون الرشيد كان جالساً بجانب القاضي أبو يوسف، فدخل يهودي رافعاً إلى القاضي دعوى على الخليفة، ومراعاةً للتسوية بين الخصمين في مجلس الحكم قام أبو يوسف من مكانه وأشار إلى اليهودي بأن يجلس به حتى يكون بجانب خصمه الذي هو الخليفة، وقضى لليهودي على الخليفة، ولكن أبا يوسف ذكر أن قلبه كان يميل إلى أن يكون الخليفة هو المحق، واليهودي مبطلاً، وكان يتألم من هذا الميل القلبي، ويستغفر الله منه.
فانظر كيف كان في نفس أبي يوسف عاطفة شخصية نحو هارون الرشيد جعلته يحب انتصاره على اليهودي، وكان في نفسه عاطفة دينية تدعوه إلى أن يصدر الحكم على نحو ما أمر به الدين من العدل، فأجاب × داعي العاطفة الدينية فأصدر حكمه في القضية على ما أذن به الدين، وأعرض عن داعي العاطفة الشخصية جانباً.
وقد يتجاذب العاطفة الشخصية كعاطفة الصداقة ناحيتان تقتضي إحداهما مسلكاً، وتقتضي الأخرى مسلكاً غيره، والكيِّسُ يزن الناحيتين، ويقدم الناحية التي ينصح بها الدين ويرتضيها العقل.
قال السلطان صلاح الدين الأيوبي يوماً للقاضي الفاضل: لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب؛ فلعله مريض؛ امض إليه، وتفقد أحواله.
فلما دخل القاضي الفاضل دار العماد، وجد أشياءً أنكرها في نفسه مثل آثار مجالس الخمر، وآلات الطرب، فخاطبه منشداً:
ما ناصحتك خبايا الودِّ من رجل ... ما لم ينلك بمكروه من العَذَلِ(1/297)
محبتي فيك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيء من الخلل
فلما قام من عنده أقلع العماد عما كان فيه، ولم يعد إليه؛ فعاطفة المودة قد تدعو إلى الإغضاء عن معايب الصديق؛ لأنَّ تنبيهه إلى العيب قد يؤلمه، وربما أحدث جفاءاً بين الصديقين، وقد تدعو إلى تنبيهه لبعض ما يأخذه عليه الناس متى أبصروه، وهذا ما يدعوه إليه الدين، وتنادي به الفضيلة.
وكان ابن هبيرة يقول: =اللهم إني أعوذ بك مِنْ صحبة مَنْ غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره، ومن لا يتلمس خالص مودة أصدقائه إلا بالتأتي لموافقة شهواتهم+.
كيف تربى عاطفة الخير ؟:
عواطف الخير كثيرة، وتربى العاطفة الشريفة ببيان ما يترتب على العمل من فوائد عامة أو خاصة؛ فقد يعتقد الإنسان بصلاح عمل من جهة ثقته بحكمة من يأمره به؛ أو لأنه اطلع على فائدة من فوائده؛ فيجد داعية إلى إجابة الأمر، ولكن هذه الداعية قد تبدو ضعيفة حيث لم يكن بجانبها عاطفة قوية تسهل عندها الصعاب، وتتضاءل أمامها العقبات.
وتقوى العاطفة نحو الشيء بقدر ما تعرف النفس من فضله وحسن عواقبه، فصدور الأمر بالشيء من الشارع الحكيم مثلاً هو كاف لقبول الإنسان له واعتقاده بصلاحه، ولكنه ينهض للعمل بنشاط أوفى، وعزم أمضى، متى ازداد علماً بما يترتب عليه من الآثار الحميدة.
وتربى العاطفة الشريفة بالأساليب البارعة من نحو التشابيه والاستعارات، وضرب الأمثال، حيث يُعْرَضُ الشيء المطلوب فعله، في صورة شيء تألفه النفوس وترغب فيه، فقد تدرك النفس حسن الشيء المطلوب فعله، ولكن عرضه في صورة ما ألفته واتجهت إليه من قبل يجعلها تزداد ارتياحاً له، ورغبة فيه.
ومن هنا كان الشعر مثيراً للعواطف، وصح أن يستعان به في توجيه النفوس إلى كثير من أعمال الخير.
وقد سلك القرآن الكريم في تربية العواطف هذا المسلك البديع، وكان لضربه الأمثال أثر عظيم في تثبيت حكمه البالغة في النفوس، وتنمية العواطف الدافعة إلى عظائم الأمور.(1/298)
وخلاصة البحث: أن أطيب الناس حياةً، وأرفعهم في المجد مقاماً، وأوفرهم من خصال الحمد ثروة ذلك الرجل الذي رزق عقلاً سليماً، وديناً قيِّماً، ورزق بجانب ذلك عواطف شريفة تتوجه حيثما توجه العقل، ولا تنساق إلاَّ إلى ما يرتضيه الدين الحق.
الخوف(1) للأستاذ أحمد أمين
الخوف من الأمراض التي تنغِّص الحياة وتذهب بالسعادة .
هو مرض خطير قلَّ أن يسلم منه إنسان, وهو أشكال وألوان , يُشَكِّل أعمال الإنسان ويوجهها طوع إشارته, وحسب إيحائه , وفي كثير من الأحيان يصده عن العمل, ويسبب له اليأس, ويفقده الأمل.
فمن أول أنواعه الخوف من الفقر؛ وهو من أخطر أنواعه؛ لأنه يَشُلُّ قوة التفكير، ويقتل الثقة بالنفس, ويولد الشك, ويضعف اليقين, ويفقد الأمل والطموح.
وقد زاد هذا الخوف في عصرنا عن كل العصور السابقة؛ للتزاحم المالي الشديد، والتقاتل عليه مما لم يعرف له من قبل مثيل؛ فقد أعلت المدنية الحديثة شأن المال جداً, وتسابق الناس في مقاتلة بعضهم بعضاً لكسبه.
نعم إنه داء قديم في الإنسان، ولكنه لم يبلغ الخطر الذي بلغه الآن؛ فالفقير ليس له قيمة سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية, ومالك المال _ مهما كانت الوسائل التي اتخذها في جمعه _ هو الذي يسيطر، وهو الذي يُنتخَب، فيشارك في السياسة، وهو الذي تخضع له الرقاب.
من أجل هذا كانت تصور الفقر مرعباً، وكان الخوف منه شديداً, ومما زاده سوءاً أن حاجتنا في الحياة أصبحت معقدة مركبة, وما كان يكفي الرجل أسرته قديماً لا تكفي أضعافه الآن, وكان رب الأسرة يحتمل المعيشة الخشنة، والرضا بالكفاف، ولكنه الآن يرى أن ضرورات العيش لا عداد لها, فهو يخشى الفقر؛ لأنه هو وأسرته لا يستطيعون أن يصبروا على القليل, وهو _ إن افتقر _ كان أتعس ممن قبله عندما افتقروا .
__________
(1) فيض الخاطر 4/204 _ 209.(1/299)
ومما يزيد الإنسان خوفاً من الفقر شعوره الشديد أنه يَوْمَ يفقد ماله, ويومَ لا يستطيع أن يسد حاجاته وحاجات أسرته يفقد عزته, ويشعر بالمذلة، ويرى نفسه أحقر من إخوانه الذين يملكون المال ولو كان أشرف منهم نفساً، وأحسن خُلُقاً, كل ذلك يملأ قلبه رعباً من تصور الفقر وتوقعه.
ونوع آخر من الخوف, الخوف من النقد، ومن كلام الناس, وهذا الخوف يسيطر على أعمالنا لدرجة كبيرة .
وهو يتخذ أشكالاً لا عداد لها , فالناس يلبسون (الطربوش) في الصيف لا للحاجة إليه ولكن خوفاً من كلام الناس, ويعملون كثيراً مما يعملون، ويجتنبون كثيراً مما يجتنبون؛ خوفاً من كلامهم.
واختراع البِدع _ الموضة _ كل عام، وإقبال الناس عليه مبني على هذه النظرية؛ فالمصانع تخرج كل سنة بدع الملابس، فتلبسه طائفة ممن عرف بالأناقة ؛ فتهرع السيدات والآنسات للبسه؛ خشيةً من كلام الناس، وهكذا مصانع السيارات، ونحوها.
وكثيراً من العقلاء والمفكرين يجارون الناس في آرائهم، وأعمالهم، وإن اعتقدوا سخافاتها؛ خوفاً من كلام الناس.
ولو لاحظ الإنسان كل تصرفاته اليومية من أيام صغره إلى أيام كبره لرأى أن أكثرها صادر عن الخوف من نقد الناس.
وما مرض الفخفخة، وحب الظهور, ولا مرض الخجل، والمبالغة في الحياء, ولا مرض حب التقليد، وعدم الابتكار _ إلاَّ أعراض من أعراض الخوف من كلام الناس.
ثم الخوف من المرض، وهذا النوع من الخوف متصل بنوعين آخرين هما الخوف من الهرم، والخوف من الموت، والإنسان يخاف من المرض؛ لأنه يستحضر في ذهنه احتمال الموت منه, كما قد يستحضر صورة العجز عن كسب العيش.
وقد استغل هذا الخوف من المرض تجار الأدوية؛ فصنعوا منها ما أغرق الأسواق, وكثير منها ليس علاجاً حقيقيا, وإنما هو علاج وهمي لأمراض ناشئة من الخوف من المرض.(1/300)
وهذا الخوف قد ينتهي عند بعض الناس إلى مرض حقيقي؛ لأن الإيعاز المستمر بالمرض قد يسبب المرض, وكثيراً ما تحدث صاحبك بسوء صحته، أو تغير لونه, فيشعر عقب ذلك مباشرة بالضعف، والتخاذل، والمرض، ويكاد هذا المرض يكون عاماً عند الناس, وكثيراً ما يبعث عليه الفشل في الحياة, أو الفشل في الحب, أو اليأس من شيء مرجو, أو التعب الجسمي, فسرعان ما تظهر إذ ذاك أعراضه.
ومن أعراضه كثرة الكلام في المرض, واستفسار الأطباء عن المرض, وقراءة الإعلان عن الأدوية, وكثرة وزن الجسم في الموازين العامة في الطرق, وتوهم المريض عندما يسمع وصف مرض أنه مصاب به, وكثرة استعمال المسكنات, وهكذا...
وهناك الخوف من فقد حب من يحب، وهو خوف يلازم الحب غالباً, فيخاف المحب أن ينصرف عنه محبوبه إلى غيره, وهذا _ غالباً _ هو علة الألم من الصد، والهجران.
وهذا الخوف كان مظهره في الزمن القديم الاستيلاء على المرأة بالقوة، وحبسها، ومراقبتها مراقبة شديدة، ونحو ذلك, ثم حولته المدنية إلى محاولة كسب قلبها من طريق الإغراء بالتحبب إليها، والتظاهر بمظاهر العظمة، والجاه ونحو ذلك.
وهذا النوع من الخوف يحدث للمرأة كما يحدث للرجل, بل هو عند المرأة أشد ؛ لأن المرأة أقل ثقة بالرجل من الرجل بالمرأة.
ومن أعراضه شدة الغيرة غيرة الرجل على المرأة، و المرأة على الرجل؛ حتى يصل بالإنسان إلى درجة الهوس؛ فيكون الاتهام من غير أن تكون له أسباب معقولة.
كما أن من أعراضه كثرة مؤاخذة المحب حبيبته حتى على الأمور التافهة، والأمور الوهمية, وكثرة العتاب، وما إلى ذلك.
ثم الخوف من الهرم أو الشيخوخة, ويرجع سبب هذا الخوف إلى عاملين:
الأول: الخوف من أن الشيخوخة قد تعجز المرء عن الكسب؛ فيكون عالة على غيره, وأكثر ما يكون هذا عند العامل، والصانع، ومن يعيشون على كسبهم اليومي؛ فهم يعيشون على حساب صحتهم؛ فإذا عجزوا عن العمل حُرِموا وسائل العيش.(1/301)
والسبب الثاني: هو أن الشيخوخة نذير الموت, والموت بغيض مُخيفٌ, وقد يكون من أسبابه شعور المرء أنه إذا شاخ وهرم فقد جانباً كبيراً من استمتاعه بنعيم الحياة؛ إذ لا يعود يستطيع أن يجذب المرأة إليه, ولا المرأة أن تؤثر في الرجل, وربما كان هذا السبب الأخير عند المرأة أقوى منه عند الرجل؛ لأن جمال المرأة رأس مالها في الحياة, فهي تخشى الشيخوخة التي تضيع رأس مالها.
وأعراض هذا المرض تختلف اختلافاً متناقضاً؛ فأحياناً يظهر في شكل كثرة حديث المسنين عن الشيخوخة, وانتهاز كل مناسبة للتحدث عن شيخوختهم, وأنهم انتهوا من دور الشباب, واعتذارهم من حين لآخر عن كسلهم أو بأسهم أو فشلهم بشيخوختهم، وأحياناً يكون من أعراضه التظاهر بمظهر الشباب كصبغ الشعر، والتأنق في الملبس، ومحاربة تجاعيد الوجه، وتكلف اعتدال القامة، والكذب في السن الحقيقية.
وقلَّ أن يعزيه عن شيخوخته كِبَرُ عقله، ونضوجُ تفكيره.
وأخيراً _ ويجب أن يكون أخيراً _ الخوف من الموت، وهو عند أكثر الناس أشد أنواع الخوف، وسببه _ في الأغلب _ يرجع إلى أمرين:
الخوف مما بعد الموت؛ لأنهم يرون أنهم في حياتهم لم يرضوا الله بكثير من أعمالهم، والله حاكم عادل يثيب المحسن، ويعاقب المسيء، فهم يستحضرون في أذهانهم إساءتهم، ويستحضرون ما للإساءة من عقوبة، فهم بذلك يخشون الموت كما يخشى المجرم المحكمة.
والسبب الثاني: ما يشعرون به من لذعة إذا تصوروا فراق الأهل والخلان.
وهذا النوع من الخوف عند الشيوخ أكثر منه عند الشباب، وعند الفارغين من العمل أكثر منه عند العاملين، وعند ضعاف الأعصاب أكثر منه عند أقوياء الأعصاب.
وقد يبالغ فيه بعض الناس؛ فيظهر ذلك بمظاهر مختلفة، فمنهم من يزهد في الحياة، وينقطع للعبادة، ومنهم من ينغص عليه الحياة؛ فيصيح مهوش الفكر مضطرب العقل، لا يصلح لعمل دنيا، ولا عمل آخرة، إلى غير ذلك.(1/302)
هذه الأنواع من الخوف تملأ الحياة، وتلونها وتصبغها أصباغاً مختلفة؛ حتى لو قلنا إن أكثر أعمال الإنسان هي نتيجة الخوف لم نُبعد،بل هو كذلك أهم سبب للاتجاهات التي يتجهها الإنسان في حياته من فعل وترك، وفعل هذا دون فعل ذاك، والسير في هذه السبيل دون تلك.
والآن وقد فرغنا من وصف المرض، وأعراضه ومضاعفاته يحق لنا أن نتساءل: إذا كان هذا هو المرض؛ فما علاجه؟
لقد أَبَنَّا أن الخوف حالة نفسية تستولي على الفكر فتشله، فإذا نحن آمنا بأن للإنسان قوة على تفكيره كما أراد، كان هذا مفتاح العلاج.
احم نفسك من مؤثرات الخوف سواء في ذلك ما تثيره نفسك، وما يثيره من حولك، وكن شديد الإيمان بأن لإرادتك قوةً تستطيع بها أن تزيل هذه المخاوف، وأن تبني حاجزاً يحول بين نفسك، وبين مؤثرات الخوف.
اقرأ ما يبعث فيك القوة والشجاعة، ويملؤك أملاً وطموحاً ، ويقوي إرادتك على نفسك.
آمن بأن توقع الشر شر من الشر نفسه؛ فلا معنى أن يجمع الإنسان على نفسه شر الشر، وشر توقعه.
حلِّل نفسك وتبين سبب مخاوفها: هل أنت تكره عملك الذي تعمله، ولماذا ؟ هل أنت خاضع لمؤثرات تستوجب خوفك، فكيف الخلاص منها؟ هل فقدت الثقة بنفسك؛ ولماذا؟ هل أنت فارغ من العمل؛ فتستسلم من أجل ذلك للمخاوف، إذاً فكيف تملأ وقتك بالعمل؟
هل أنت تضعف أعصابك بالمسكرات أو كثرة التدخين؛ فتقع تحت تأثير الخوف من أجل ذلك، إذاً فكيف تتغلب على ذلك؟ أي أنواع الخوف الستة أكثر تأثيراً فيك؛ ولماذا؟ هل لديك الوسائل الروحية، والعقلية التي تستطيع أن تتغلب بها على الخوف؛ فإذا لم تكن؛ فكيف تحصل عليها؟ هل أنت واقع تحت تأثير أصحاب يسببون لك الخوف، فكيف تتخلص منهم؟ هل تصادق من هم أضعف منك عقلاً، وقلباً، وروحاً؟ إذاً فكيف تغيرهم بمن هم خير منهم؟(1/303)
ما أهم سبب لمتاعبك؟ كيف تعالجه؟ كيف تقسم زمنك، كم منه للنوم؟ وكم للعمل العقلي أو القراءة؟ وكم معملك(1) المعتاد؟ وكم للعبك وراحتك؟
فهذه الأسئلة ونحوها إذا أنت أجبت عنها في أمانة، وإخلاص تعرفت نفسك، وتعرفت مخاوفك، وتعرفت كيف تسلط إرادتك على أسباب الخوف؛ فتمحوها.
وأخيراً ردد على نفسك =لا تخف+ وردد قوله _ تعالى _:[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] التوبة:51.
التعصب (2) للأستاذ أحمد أمين
كانت ثلاثة أيام لطيفة قضيناها على شاطئ البحر، الجو معتدل يميل إلى البرودة، والسماء صافية، والشمس ساطعة، والبحر هادئ، وكل شيء حولنا جميل، ونزلت أنا وصاحبي في فندق على البحر في رمل الإسكندرية، ننعم فيه بالهدوء وجمال المنظر، والأناقة تبدو في كل ما حولنا.
ها نحن في الصباح في حديقة الفندق بعد أن تناولنا فطورنا نقرأ الجرائد، وبعد أن فرغ صاحبي من قراءتها، وضعها، وإذا هو يقول:=شرُّ ما نُبلى به اليوم التعصب+، ولا أدري ماذا بعثه على هذا القول مما قرأ؟
فقلت: إن التعصب كلمة مصطنعة أطلقها الإفرنج علينا ظلماً وعدواناً؛ ليصرفونا عن التمسك بديننا، والاحتفاظ بقوميتنا، فإذا قاومنا أعمال المبشرين قالوا: تعصب، وما هو إلا حماية ديننا من الاعتداء عليه، وإذا وقفنا في وجه الاستعمار وثرنا من أجل استغلالنا واستعبادنا قالوا: تعصب، وما هو إلا المحافظة على كياننا، والرغبة في التمتع بحرياتنا، وهم يتمسكون في بلادهم بأشد مما نتمسك به في المحافظة على دينهم وقوميتهم، ولا يخطر ببالهم أن يسموا هذا تعصباً.
وإذا صح إطلاق القول فهم أولى به منا؛ إذ يدعوهم تعصبهم لدينهم إلى نشره بيننا، وحماية التبشير بالقوة، ويدعوهم تعصبهم لقوميتهم إلى فرض الاستعمار علينا بالسلاح فهل نحن المتعصبون؟
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: وكم لمعملك، أو لعملك. (م)
(2) فيض الخاطر، 8/62_67.(1/304)
قال هو: قد يكون هذا القول صحيحاً، ولكن ليس هذا الذي أريد، إذ أريد التعصب الداخلي فيما بيننا، ويظهر ذلك في الجمعيات الدينية، والأحزاب السياسية، والهيئات الاجتماعية، فكل جمعية دينية ترى أنها هي التي على الحق ومن عداها فعلى الباطل، وتخاصم من عداها، وقد ترميه بالكفر والإلحاد، وقد تنفِّذ آراءها بقوة السلاح، وكل حزب سياسي يتعصب لحزبه، ويرى كل ما يصدر عنه حقَّاً، ولا يرى أي حق فيما يصدر عن الأحزاب الأخرى، ويتمثل ذلك في قول قائلهم:=الحماية على يدنا خير من الاستقلال على يد غيرنا+.
وكل هيئة اجتماعية ترى أنها الوحيدة في فعل الخير وفي الإصلاح، أما ما عداها من الهيئات فأداة فساد، هذا هو التعصب الذي أعنيه وأكرهه وأمقته، وأدعي أنه كارثة من أكبر كوارثنا.
أنا: ولكن علمني أستاذي سقراط أننا قبل أن ندخل في الحوار نحدد الموضوع؛ فما الذي تعني بالتعصب؟
هو: إنما أعني به الغيرة العمياء، وأعني بالعمياء أنها غيرة لا تصدر عن تفكير هادئ، ولا منطق سليم، وإنما تصدر عن تقليد من غير نظر، أو عقيدة من غير تفكير، أو تلقين من غير بحث، وهذا مرض نفسي له أعراض ككل الأمراض، وأهم هذه الأعراض ثلاثة تظهر مجتمعة لا متفرقة:
أولها: ضيق النظر؛ فليس يرى المتعصب إلا ما اعتقده، أو لقَّنه أو ألقي في روعه، أما ما عداه فهو يكرهه من غير تفكير، ويمقته من غير أن يصغي إلى حججه، قد وضع أمام عينيه ما اعتقد، وأبى أن يرى أيَّ شيء عداه؛ فمهما قال مخالفه فهو باطل قبل أن يدلي بحججه، ومهما قال مؤيده فهو حق ولو لم يأت ببرهان، قد عكس الوضع الطبيعي، فوضع العربة أمام الحصان، فهو يرى الرأي أولاً، ثم يلتمس البراهين لتأييده ثانياً، وهو يحب كلَّ شيء يقوي رأيَه، ويكره من صميم قلبه كل شيء يعاكسه، وقد يغلو في ذلك حتى يصبح أشبه ما يكون بالمجنون.(1/305)
وثاني الأعراض: حبه القوي لغلبة فكرته أو عقيدته وهزيمة الآراء المعارضة واندحارها؛ ليس عنده أي شيء من التسامح فيما يخالفه من آراء حتى كأن مخالفه قد قتل قتيلاً له، فهو يريد الأخذ بالثأر منه، فهو متحمس هائج يريد أن يقضي على من يخالفه بكل ما لديه من قوة، ويكون هذا في المعتقدات الدينية وفي الأحزاب السياسية، وفي النظريات الاجتماعية على السواء؛ فالمتعصب الديني كاره لمن خالفه، متحمس للقضاء عليه أو على فكرته، والمتعصب الحزبي لا يرى خيراً إلا ما أتى من حزبه، وأما ما أتى على يد الأحزاب الأخرى فشرٌّ محض يجب أن يقاوم بكل ما استطاع من قوة، ولو بإفساد النظام وإشاعة القلق والاضطراب، وهكذا الشأن في النظريات السياسية، كالنزاع بين الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية والنازية وأمثالها، يتحمس معتنقوها حتى يصل التحمس إلى سفك الدماء.
وثالث الأعراض: أن هذه الغيرة العمياء والحماسة الخرقاء تجعل صاحبها لا يقدِّر ما ينزل بالآخرين من آلام ولا ما يحل بهم من كوارث؛ فلا يرى إلا تحقيق فكرته مهما أَلِم الناس، تطغى رغبته في الفكرة على كل ما لديه من عواطف، فهو قاسٍ جبارٌ يتشفى بعذاب الناس وإيلامهم في سبيل تحقيق فكرته، ويظهر ذلك بأجلى مظهر من الناحية الدينية في محاكم التفتيش، ومن الناحية السياسية والاجتماعية في الثورة الفرنسية، ففي كل ذلك صار التعصب غيرة يلهبها الحقد.
وتركنا مقاعدنا، وسرنا على شاطئ البحر نتم حديثنا.(1/306)
أنا: ألست ترى أن هذا هو الجانب الأسود من التعصب وأن له جانباً آخر جميلاً؟ فكثير من ضروب الإصلاح أتت على أيدي المتعصبين، اعتنقوا فكرة وتعصبوا لها، ورأوا الخير فيها، وتحمسوا لها وتحملوا العذاب في تحقيقها، وكثر أشياعهم وأتباعهم حتى عمَّ الإصلاح؛ فالحكم على التعصب كما يؤخذ من كلامك بأنه شر محض، مبالغ فيه، والعقيدة ما لم تصهرها حرارة الإيمان لا قيمة لها، والفكرة ما لم يتحمس لها صاحبها وما لم تأخذه الحمية لها وما لم يدع إليها في غيرة واحتمال آلام لا تكون ذات قيمة، وهذا ضرب من التعصب الذي تبغضه.
هو: قد يكون في هذا شيء من الحق، ولم أدَّعِ أن التعصب شر محض، فليس في الدنيا شر محض، وكل ما في الحياة _ مادياً كان أو معنوياً _ مزيج من الخير والشر، ونتائجه كذلك، وإنما نكره الشيء، ونحكم عليه بالشر لأن مضاره أكثر من منافعه والعكس، والتعصب شر ما منيت به الإنسانية، والمتعصب لا يرى خيراً إلا ما لقنه من غير تفكير ولا برهان، وهو بذلك ينقلب وحشاً ضارياً، ويصبح وليس أمامه إلا تحقيق نفسه، وينقلب أنانياً بغيضاً يتحدى الأفكار المخالفة في عنف، ويريد أن يفرض على الناس رأيه بالقوة لا بالإقناع، وأي ضرر بعد هذا؟
إن المتعصب أبعد ما يكون عن معنى الإنسانية، إنما المصلح الحقيقي من اعتنق الفكرة بعد بحث وتمحيص، وتحمس لها في عقل واعتدال، وحاول بث دعوته عن طريق الإقناع والبرهان لا عن طريق القهر والغلبة.(1/307)
ويدلنا التاريخ على أن التعصب كثيراً ما يسير سيراً وبائيَّاً كالطاعون؛ فينشر المرض في سرعة عجيبة، وخاصة في الجامعات التي ليس لها رأي عام متنور، ويزيد في انتشار هذا الوباء أن يكون للجمعية الدينية أو الحزب السياسي شعائر ومظاهر تتفق وعقلية العامة في الشعوب الساذجة، وعندما تنتشر هذه الفكرة الناشئة عن التعصب يفقد جمهور المعتنقين لها الشعور بالمسئولية، فيأتون من الأعمال ما لا يأتيه الفرد العادي منفرداً في حالة وعيه، وقد ينضم إلى الفكرة أفراد مهذبون على درجةٍ ما من الرقي العقلي بسبب قوة التيار وما في الفكرة أحياناً من بريق ولمعان، وإذ ذاك يكون الخطر ويصبح الناس في حالة هسترية كالتي كانت في محاكم التفتيش وفي الحروب الصليبية، وأكرر القول بأن هذه هي الأعراض في الجمعيات الدينية والأحزاب السياسية على السواء.
أنا: هل تضع أمام عينك وأنت تتكلم هذا الكلام طوائف وأحزاباً خاصة تستلهم منها هذه الآراء؟
هو: قد يكون ذلك، وقد يكون مبعث هذا ما قرأته في جرائد اليوم، ولكني قد ارتفعت في تفكيري عن الجزئيات، وحلقت في سماء الكليات.
أنا: هذه هي عادتك دائماً، تفلسف كل شيء حتى تجعل من الحبة قبة، ومن القطرة مطراً، ولكن أترى أن هذا الأمر مقصور على الشرقيين؟
هو: كلا، إني أرى أن دور التعصب هذا دور طبيعي، تمر فيه كل جماعة كما يمر كل إنسان في دور الطفولة، فإذا اتسع أفقه، وزاد علمه، وتأصلت حريته، لم يعد التعصب يجد مجالاً لنموه ولا ميداناً يسبح فيه.(1/308)
أنا: ما دمت تتفلسف فلأتفلسف، ويخيل إليَّ أن فلسفتك كانت فلسفة نفسية أو سيكولوجية، فلأتفلسف أنا فلسفة اجتماعية، فأقول: إن هذا التعصب إنما يسير كما ذكرت سير الوباء في بيئة اجتماعية صالحة له كأن يشيع فيها الفقر، والبؤس، وسوء الحال، وكثرة الضغط، وقوة الاستبداد؛ فتكون هذه الأشياء كلها مرعى خصيباً تسود فيها الفكرة المتعصبة ويدخل الناس فيها أفواجاً، وقد يكون كثير ممن يدخلونها لا يؤمنون بها، ولكن لما رأوها تدعو إلى القلق والاضطراب، أحبوا القلق والاضطراب؛ لأنهم يمنون أنفسهم بإصلاح الحال بعد زوال الاضطراب؛ فيشتركون مع أصحاب الفكرة في النتيجة وإن لم يشتركوا في الأسباب والعقيدة، وإذا كان تشخيصك للمرض نفسياً وعلاجك له علاجاً نفسياً، فتشخيصي له تشخيص اجتماعي، وعلاجي له علاج اجتماعي؛ فلنتحرَّ أسباب القلق والاضطراب ونُزِلْها يترتبْ على ذلك حتماً حصر المرض في بقعة معينة، وعدم سيره سير الوباء.
إن كان منهج فلسفتك النفسية يرسم العلاج بنشر العلم الصحيح بين الأفراد وتأسيس منهج تربيتهم على البحث والتفكير والشك والتجريب وعدم سرعة التصديق _ فليكن منهج فلسفتي الاجتماعية نشر العدالة الاجتماعية، وتأمين الناس على مصالحهم، وحرياتهم، وتحقيق العدل بينهم؛ فإذ ذاك يتعاون الإصلاح النفسي الذي تذكره والإصلاح الاجتماعي الذي أنشده على قطع دابر التعصب، وإحلال التسامح اللطيف محل التعصب السخيف.
وشعرت بأن هناك عدم انسجام بين هذا الجو وهذا الحديث؛ فالجو فَرِحٌ مرح ونحن جادون، والبحر يضحك ونحن عابسون، والنسيم يداعبنا ونحن لا نجاوبه، وانتهزت فرصة رجوعنا إلى الفندق فحوَّلت الحديث إلى غزل في الجو وصفائه، وابتهاج بالمنظر وجماله.
روح السماحة (1) للأستاذ أحمد أمين
__________
(1) فيض الخاطر، 8/134 _ 137.(1/309)
قرأت اليوم وصفاً لناد في واشنطن إذا ترجمنا اسمه إلى العربية سمَّيناه =نادي السفود+(1) عدد أعضائه خمسون يُختارون على أساس مراكزهم الاجتماعية، ومقدرتهم الصحافية، ومهارتهم التهكمية.
ولهذا النادي تقاليد؛ فالأعضاء يلبسون في الاجتماع =الفراك+ وربطة الرقبة البيضاء، ولهم شارة هي عبارة عن صورة =سفود+ تعلق على السترة، فيعلم أن صاحبها عظيم من العظماء؛ إذ كان عضواً في هذا النادي.
وعمر النادي الآن خمس وستون سنة، يقيم أعضاؤه حفلتين كل عام، إحداهما في إبريل، والأخرى في ديسمبر، وفي كل حفلة يدعى رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب المعارض، وكبار موظفي الدولة، وقد لبى الدعوة رؤساء الجمهورية جميعاً، ما عدا الرئيس =كليفلاند+.
وفي كل اجتماع يعد برنامج حافل يشتمل على نقد الرئيس ورئيس المعارضة وكبار الموظفين نقداً تهكمياً لاذعاً، واستعراض المشاكل التي تشغل بالهم، وتشغل الرأي العام، وكيف تصرف فيها هؤلاء الكبار، ثم وضع ذلك كله في قالب فكه ساخر، وبعد أن ينتهي هذا البرنامج الذي يُشْوى فيه هؤلاء الكبار على السفود يقف رئيس الجمهورية ورئيس الحزب المعارض، فيخطب كلٌّ منهما عشر دقائق شاكراً للنادي تهكمه، مقابلاً السخرية بالسخرية، والتهكم بالتهكم، واللذع باللذع.
وبذلك ينتهي الاحتفال بعد أن يكونوا قد عرضوا للمشاكل والرؤساء من الجانب التهكمي، فأبانوا مثلاً كيف كبَّر هؤلاء الكبار صغار الأمور، وعدوها مشاكل عظمى وهي في ذاتها تافهة، وكيف تصرفوا فيها تصرفات مدوية، وكان يمكن أن يتصرف فيها على أبسط وجه وأخصر طريق، وكل ذلك في ثنايا الضحك اللطيف، والتهزيء الطريف.
__________
(1) السفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم.(1/310)
ويقول أحد رؤساء الجمهورية في مذكراته:=يزودنا نادي السفود بقدر كبير من المرح، وقد روضت نفسي على الابتسامة العريضة من النكات اللاذعة التي تقال عني، ويغريني على ذلك علمي أن كل رئيس غيري _ مهما بلغت منزلته _ سيلقى ما لقيت في سبيل المرح في هذا المساء+.
وقد حدثني من تخرج من جامعة أمريكية أنه فوجئ آخر العام الدراسي بورقة وزعت عليه وعلى سائر الفصل، تسأله فيها الجامعة عن رأيه في الأستاذ فلان من حيث كفايته العلمية ومن حيث طريقة تدريسه، ومن حيث معاملته الطلبة.... إلخ، والطلبة يجيبون في صراحة من غير ذكر أسمائهم، والجامعة والأساتذة يتقبلون هذا في سماحة.
هذا ما أسميه =روح السماحة+، وهي روح لا يمكن أن تسود في أمة إلا إذا ربي الأفراد فيها على الديمقراطية الحقة(1)، فلكلٍّ شخصيته، ولكلٍّ رأيه، ولكلٍّ أن ينقد ما يشاء، ومن يشاء، وعلى المنقود أن يكون واسع الصدر في سماع النقد.
ولكن على الناقد _ أيضاً _ أن يكون لديه من حسن التقدير، ودقة الذوق، ما يصوغ به نقده في أسلوب مؤدب، ولذلك عرف أعضاء نادي =السفود+ بأنهم يستطيعون أن يمزجوا الفكاهة والسخرية بالرزانة والذوق السليم.
وليست تستطيع أمة أن تعتنق =روح السماحة+ إلا إذا عودت سعة الأفق، وعدم التزمُّت، واحترام الفرد رأيَ غيره، كما يحترم رأيَ الآخرين، وإيمانه بأن رأيه _ وإن ظهر له صوابه _ قد يكون خطأ، ورأي غيره _ وإن ظهر خطؤه _ قد يكون صواباً، وإن من الصعب رؤيةَ الحق من جميع زواياه، فليس يرى الفرد الحق إلا من زاوية واحدة، وقد يراه الآخر من زاوية أخرى، ومن أجل ذلك فهو واسع الصدر للنقد، مقدر للناقد، محترم له؛ لأنه يزيده في رأيه ثروة.
__________
(1) لو قال: الحرية الحقة(م).(1/311)
أما المتعصب فضيق النظر، شديد الحقد على مخالفه، سادٌّ سمعه، ومغمضٌ بصره عن أي حجة لخصمه، لا يرى إلا أن تسير الدنيا على رأيه، وإلا استحقت الخراب؛ ولذلك كان فاقداً لروح الفكاهة، لا تصدر عنه، ولا يستسيغها من غيره؛ لأن روح الفكاهة وروح السماحة منزلة أسمى من منزلته.
في الأدب العربي كثير من الشعر والأخبار التي تمثل روح السماحة، كالذي يروى عن الأحنف بن قيس، ومعن بن زائدة وغيرهما، يُنْقَدون فيحلِمون، ويُتَهَكَّم عليهم فيسمحون، ويقابلون السخرية بالابتسامة، ولكن لسنا الآن بصدد أفراد، وإنما نحن بصدد روح عامة في الأمة.
والحق أن الأمم العربية اليوم في أشد الحاجة إلى روح السماحة، فهي تقربهم إلى التفاهم، وتبعدهم عن التقاطع، نحن أحوج إليه في علاقة الحاكم بالمحكوم؛ فالمحكوم ينفس عن نفسه بنقد ما لا يستصوبه من أعمال الحاكم، ولكنه نقد مؤدب، وقد يكون فكهاً فرحاً، وقد يكون فيه سخرية لطيفة، أو نكتة رائعة، والحاكم من جانبه واسع الصدر لسماع النقد، سمح في قبوله، يجيب عن نقده في رزانة، وقد يقابل التهكم بالتهكم، والسخرية بالسخرية، وروح الجميع سليمة من الحقد، لا تنطوي على الشر، وقد فرج ذلك كله على الحاكم والمحكوم، فبينهما _ برغم النقد والسخرية _ صفاء متبادل.
ونحن في حاجة كذلك إلى روح السماحة في العلاقة بين الدول العربية والشعوب العربية بعضها وبعض، ولو سادت هذه الروح ما رأيت ما يحدث بينها كل حين من سباب وغضب، وتهديد بقطع العلاقات، وسد الطرق، وانسحاب من الجامعة العربية، وما إلى ذلك، فمثل هذه الأمور كلها مظهر من مظاهر فقدان =روح السماحة+ ودليل على ضيق العطن، والانطواء على الحقد والضغينة، أو العزة الكاذبة.
لَكَمْ نرى في التاريخ الماضي وفي الحاضر من أزمات حادة، عولجت بكلمة سمحة فرجت الأزمة، أو نكتة بارعة أعادت إلى النفوس صفاءها، أو احتمال الرئيس للنقد اللاذع تحقيقاً للمصلحة العامة.(1/312)
إن روح السماحة هي أشبه ما تكون بالروح الرياضية، يلعب اللاعبون في ميدان اللعب، فيتبارون ويتسابقون، ولكن لا يحملون حقداً، ولا ينطوون على ضغينة، فإذا انتهى اللعب وضع المغلوب يده في يد الغالب مهنئاً له، وخرجوا جميعاً من الميدان بنفوس صافية وقلوب راضية.
يحكون أن المهدي أراد أن يغزو أهل الشام لخطأ ارتكبوه، فقال لهابن خريم: =يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو والتجاوز عن المسيء؛ فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف+.
من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار(1)
بقلم العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة السلفية الحقّة، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنة، واسع الاطّلاع على آراء المفسّرين والمحدثين، سديد البحث في تلك الآراء، أصوليّ النزعة في الموازنة والترجيح بينها، ثم له _بعدُ_ رأيه الخاص.
يوافق ما يوافق عن دليل، ويخالف ما يخالف إلى صواب؛ لأنه مستكمل للأدوات المؤهلة لذلك، ولأنه يفهم القرآن على أنه أصل ترجع إليه الآراء والمذاهب والفهوم، وأنه كتاب الكون، ودستور الإنسانية، لا كما يفهمه كثير ممن كتبوا في التفسير؛ فجرّدوا أقلامهم لتسطير أفهام غيرهم، وجرّدوا القرآن من خصائصه العليا، وقيّدوا هدايته العامة بمذاهبهم الخاصّة.
والأستاذ البيطار مجموعة فضائل، ما شئت أن تراه في عالم مسلم من خُلُق فاضل إلا رأيته فيه، مجاوز للحدود المذهبية والإقليمية، يزِن هذه المذاهب الشائعة بآثارها في الأمة، لا بأقدار الأئمة، ويعطي كُلاًّ ما يستحق، جريء على قولة الحق في العلميات، ولكن الجرأة منه يلطفها الوقار، والوقار فيه تُزَيِّنه الجرأة، فيأتي من ذلك مزاجٌ خُلقي لطيف، متساوي الأجزاء، مزدحم الخلايا، قلَّ أن تجده في أحد من علمائنا المعدودين.
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/564، وقد كتبها الإبراهيمي سنة 1949م.(1/313)
والأستاذ البيطار مفكر عميق التفكير، وخصوصاً في أحوال المسلمين، بصير بعللهم وأدوائهم، طَبٌّ بعلاجهم ودوائهم؛ يرى أن ذهاب ريحهم من ذهاب أخلاقهم، وأن معظم بلائهم آتٍ من كبرائهم وأمرائهم وعلمائهم، وهو يعني كبراء الدعوى، وأمراء السوء، وعلماء التقليد.
يرجع في ذلك كله إلى استقلال في الفهم والاستدلال، ومقارنات في التاريخ والاجتماع، وتطبيقات مصيبة للحقائق الدينية على السنن الكونية؛ وله في الإصلاح الديني سلف صدق، حققوه علماً، وطبّقوه عملاً.
يعتمد في تحصيله وتربيته على طودَيْن شامخين من أطواد العلم والعمل: أحدهما عبدالرزاق البيطار، والثاني الإمام المحدّث جمال الدين القاسمي، عنهما أخذ، وفي كنفهما نشأ، وعلى يديهما تخرّج؛ فجاء عالماً من ذلك الطراز الذي نقرؤه في التراجم، ولا نجده فيمن تقع عليه العين من هؤلاء العلماء الذين يقرأون ويحفظون وينقلون، ولكنهم لا يفقهون.
هذا العديد المتشابه الذي كأنه نُسخ من طبعة واحدة من كتاب، لا يقع التحريف في واحدة منها إلا وقع في جميعها، ولا يزيد واحد منهم في العدد إلا كما يزيد كتاب في مكتبة، لا كما يزيد فارس في كتيبة؛ بآية أنهم ما كثروا في الأمة إلا قلّت بهم الأمة، ولا ثقلوا في أنفسهم إلا خف وزنها في الأمم، ولا تغالوا في التعاظم إلا كان ذلك نقصاً من معاني العظمة فيها، وبآية أن علمهم لم يؤهّلهم لقيادة الأمة، فتركوا القيادة لغيرهم، وأصبحوا كأدوات التصدير التي يسبقها حرف الجر، فيدخل عليها ولا يعمل فيها؛ وبآية أن العالم في أوربا لا يعد عالماً إلا إذا زاد في العلم شيئاً، أو كشف من خفيِّه شيئاً، أو جلا من غامضه شيئاً، ونفض _ مع ذلك _ على العلم من روح زمنه شيئاً؛ ولا عجب! فالعلم عندهم ياقوتة في منجم، وعندنا لفظة في معجم، والأُولى تستخرج بالبحث والإلحاح، والثانية تستخرج بمعرفة الإصطلاح، والأولى حظ المجتهد العامل، والثانية حظ المقلّد الخامل.
بدء معرفتي به:(1/314)
خرجت من المدينة _ فيمن خرج _ إلى دمشق في أخريات سنة ست عشرة ميلادية(1)، وكنت أتمنى لو أن دواعي ذلك الخروج كانت تقدمت ببضع سنوات لأدرك الإمامين اللذين كانت لهما في نفسي مكانة، وهما عبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي.
وكنت _ وأنا بالمدينة _ قرأتُ للقاسمي عدة كتب عرفت منها قيمته ومنزلته، وقرأت عن البيطار، وسمعتُ ما دلني عليه، وأدناني منه.
وفي أول اندلاع الثورة الشريفية قدم المدينة من دمشق جندي شاب من آل المارديني، وتعرّف إليّ في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وتردّد على دروسي مرات في الحرم النبوي، فانعقدت بيننا ألفية روحية لا تأتي بمثلها الأسباب، وذلك الشاب شقيق الأستاذ جودت المارديني، ولأسرة المارديني بدمشق صلة متينة بأسرتَي القاسمي والبيطار.
فكنت أسأله عما يهمُّني من دمشق وأحوالها وعلمائها، وعن القاسمي والبيطار، كأن هاتفاً من وراء الغيب ألقى إليَّ أنني سأرحل إلى دمشق.
فأخبرني ذلك الشاب أن الله _ تعالى _ أبقى من بيت البيطار وارثاً لعلم الإمامين ومشربهما في الإصلاح، وهو الأستاذ محمد بهجة البيطار، وأن له من الشباب المصلح صحباً قليلاً عددهم، يوافقونه على الفكرة، ويلتقون معه على المبدأ؛ وأنه هو إمامهم ومرجعهم؛ فشوَّقني حديث الشاب إلى الأستاذ، وعلمت أن الروحين تعارفتا، فائتلفتا، ولم يبق إلا تعارف الأجساد.
ثم رجع الشاب إلى دمشق فأخبر الأستاذ عني بمثل ما أخبرني عنه، فتمّ التجاوب الروحاني بيننا، وتنادت الروابط الفكرية إلى الاجتماع فكان.
__________
(1) يعني سنة 1916م (م).(1/315)
ولما دخلت دمشق بعد ذلك بقليل، كان أول من زارني - بعد كرام الجالية الجزائرية _ من أصدقائي السوريين الذين عرفوني بالمدينة المنورة: الأستاذ عبدالقادر الخطيب المظفر، وذلك الشاب المارديني الذي أنساني الزمان اسمه وإن لم يُنسني ذكراه، فكاد يطير فرحاً بمقدمي، وطار إلى أبناء المشرب _ كما كان يسمّيهم _ يُؤذّن فيهم بزيارتي فزاروني لأول مرة في رهط أذكر منهم شيخ الجماعة الأستاذ البيطار، والأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، والأستاذ جودت المارديني، والأستاذان قاسم ورضا القاسميين، والأستاذ سعيد الغزي، والأستاذ عبد القادر المبارك، وكان بيننا في لحظة ما يكون بين إخوان الصفا وإخوان الصبا من تأكُّد المحبة وارتفاع الكلفة، وسقوط التحفّظ.
ثم تعاقبت الاجتماعات وانتظمت، واتّسقت أسباب اللقاء، واتسعت آفاق البحث في الأسمار، وكثُر الصحب، وما منهم إلا السابق الْمُغَبِّر، والكاتب الْمُحَبِّر؛ واللَّسِن المعبّر، فكنّا لا نفترق من اجتماع إلا على موعد لاجتماع، وكان واسطة العقد في تلك المجالس الأستاذ الجليل والأخ الوفي الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين مد الله في حياته.
ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً، فَأَشْهدُ صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر، في عمري الغامر، وأنني كنت فيها أقرّ عيناً وأسعد حالا ً من ذلك الذي نزل على آل المهلب شاتياً، فوجد الإدبار رائحاً والإقبال آتياً. (1)
__________
(1) يشير إلى قول أبي الهندي:
نزلت على آل المهلب شاتياً
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم
غريباً عن الأوطان في بلد مَحْلِ
وبرُّهم حتى حسبتهم أهلي
قال ابن عبدالبر × في بهجة المجالس 1 / 294: =تذاكر أهل البصرة من ذوي الأدب والأحساب في أحسن ما قاله المولَّدون في حسن الجوار من غير تعسُّف ولا تعجرف، فأجمعوا على بيتي أبي الهندي+(م).(1/316)
ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن ( الجزائر )، ولكن … من لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؟
إن نسيت فلن أنسى ساعات كنت قضيتها في مكتبة آل القاسمي ممتعاً عيني وذهني في مخطوطات جمال الدين، ومسودات مباحثه في التفسير والحديث، وفي ذلك المخطوط الحافل الذي ما رأت عيني مثله في موضوعه، وهو كتاب =بدائع الغرف، في الصنائع والحِرف+ لجدّه الشيخ محمد سعيد الحلاّق، أرّخ فيه لصناعات دمشق الجليلة التي أخنى الزمان على أكثرها، وجلا فيه صفحات من مجدها الصناعي البائد.
ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع(1) وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت.(2)
وخصّت بالمثقلات الدوالح(3) مجامع الأحباب، وأندية الأصحاب، من الصالحية والجسر والنَّيربين(4): المزة والربوة.
فكم كانت لنا فيها من مجالس، نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية، على ودٍّ أصفى من بردى تصفق بالرحيق السلسل(5)، ووفاء أثبت من أواسي قاسيون، وأرسى من ثهلان ذي الهضبات.
لا توبَن في مجالسنا حرمة، ولا يُكلم عرض، ولا يقارف مأثم.
وإنما هو الأدب بلا جدب، نهصر أفنانه؛ والعلم بلا ظلم، نطلق عنانه، والفن بلا ضن نروّق دنانه، والنادرة بلا بادرة نتلقفها، والنكتة بلا سكتة نتخطفها.
__________
(1) الهوامع: السحب الممطرة(م).
(2) ما وسقت: أي ما جمعت من ماء(م).
(3) الدوالح: جمع دلوح ودلوحة، وهي السحابة المثقلة بالماء(م).
(4) النَّيربان: هما جانبا دمشق الشمالي والجنوبي حول نهر بردى(م).
(5) قوله: على ود أصفى من بردى تصفق بالرحيق السلسل ، هذا تضمين لبيت حسان ابن ثابت÷ وهو ضمن قصيدته التي تسمى البتارة، التي مدح بها آل جفنة من الغساسنة، والتي مطلعها:
اسألتَ رسم الدار أم لم تسألِ
إلى أن يقول:
يَسقُون مَنْ وَرَدَ البريص عليهم
بين الجوابي فالبضيع فَحوقلِ
بردى يصفِّق بالرحيق السلسل(م)(1/317)
ويا تربة الدحداح، بوركت من تربة، لا يذوق فيها الغريب مرارة الغربة، ولا زلت مسقطاً لرحمات الله.
إنني أودعت ثراك أعزّ الناس عليّ: أبي وابني وجَدَّي أولادي؛ فاحفظي الودائع إلى يوم تُجزى الصنائع.
ويا جناتِ الغوطة، وقراها المغبوطة، لا زلت مجلى الفطر، والحد الفاصل بين البدو والحضر، أشهد ما عشوتِ من الغرب إلى نار، ولا عشيت منه بنور.
تبارك من رواك بسبعة أودية، وكساك من وشي آذار بخضر الأردية.
كم فُتنِْتُ بمناظرك الشعرية، وأخذت بمجاليك السحرية، وكم تزوّدتْ عيناي فيك بروضة وغدير، وكم تمتعت أذناي من جداولك وأشجارك بحفيف وهدير.
ويا يوم الوداع ما أقساك، وإن كنت لا أنساك.
لا أنسى بعد ثلاثين سنة ولن أنسى ما حييت موقف الوداع بمحطة البرامكة والأستاذ الخضر يكفكف العبرات، وتلامذتي الأوفياء: جميل صليبا، وبديع المؤيد، ونسيب السكري، والأيوبي، يقدّمون إلي بخطوطهم كلمات في ورقات، ما زلت محتفظاً بها احتفاظ الشحيح بماله.
عهود لم يبق إلا ذكراها في النفس، وصداها في الجوانح، والحنينُ إليها في مجامع الأهواء من الفؤاد.
ولولا أن السلوّ كالزمن يتقادم، وأن الهوى مع العقل يتصادم، لقلت مع المتنبي: أبوكم آدم!... (1)
ولقد راجعت = مذكراتي + المنقوشة في ذاكرتي فوجدُتها حافظة لتلك العهود بأيامها ولياليها وأحاديثها، فليت شعري أيذكر الأحياء من إخوان الصفا مثل ما أذكر؟
ذلك ما تكشف عنه رسالة الأخ الأستاذ محمد بهجة البيطار التي ننشر بعضها بعد هذه الكلمات.
__________
(1) يشير إلى قول المتنبي في قصيدة شِعب بَوَّانٍ :
يقول بشعب بوان حصاني
أبوكم آدم سن المعاصي
أعن هذا يُسار إلى الطعان
وعلمكم مفارقة الجنان(م)(1/318)
وهي التي أثارت هذه الذكريات في نفسي؛ فكتبتها، ليعلم هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أن في الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة كالتي بدت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة، فخلت من الإحسان والرحمة، فهوت بها المطامع، إلى ما يراه الرائي ويسمعه السامع.
وإن منبت الوفاء الشرقُ، وإن زارعه وساقيه والقيّم عليه هو الإسلام، وعسى أن تحمل = البصائر +(1) هذه الذكريات إلى الإخوان الأصفياء في دمشق فنتنادم على البعد، ونلتقي على الذكريات، ونتناشد:
إنا على البعاد والتفرق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
وعهداً لأولئك الإخوان أني ما جفوت ولا غفوت، وأني لم أزل- منذ افترقنا- أتسقّط أخبارهم من الصحف ومن السفار، ولولا الهزاهز والفتن ما انقطع بيننا للصلة حبل.
عبرة الموت (2) للأستاذ أحمد أمين
من قديم والإنسان أمام الموت مرتاع فَزِع، ومع أن الموت هو النتيجة الحتمية الطبيعية للحياة لم يتقدم الإنسان أي خطوة في سبيل تهوين أمره وتلطيف وقعه.
ومع أنا إذا نظرنا إليه من الناحية الاجتماعية لا من الناحية الفردية وجدناه أمراً لابد منه لحياة الجيل الحاضر والجيل المستقبل؛ إذ الأرض يستحيل البقاء عليها والعيش فيها، إذا لم يكن الموت _ مع كل ذلك _ فهذا التفكير المعقول لم يخفف الشعور بهول الموت، وعدَّه المصيبة الكبرى.
أمامه تنهار كل القيم؛ فالمال، والجاه، والمنصب، واللذائذ تتضاءل كلها أمامه، فَيَسْتَهْوِنُها واجدُها، ويستقلُّ شأنَها فاقدُها.
وفي كل يوم عبر، فهو لا يرحم شاباً لشبابه، ولا عظيماً لعظمته، ولا أباً لِحُنُوِّه، ولا صحيحاً لصحته سواء عنده كل شيء؛ فلو نظرتْ إليه الأرستقراطية لانقلبت شيوعية.
__________
(1) يعني صحيفة البصائر التي كان يرأسها(م).
(2) فيض الخاطر، 9/ 147 _ 152.(1/319)
وكلما كان الميت أعظم كانت العبرة به أعظم؛ ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة أمثال الإسكندر، ودارا، وتيمورلنك، ونيرون، ونابليون؛ إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت كما ينهار السائل الفقير، والمسكين الحقير، فإذا الدنيا كلها، والجبروت كله، والعظمة كلها فقاقيع منها(1) الهواء فزالت، وكأن الحياة لعبة في الهواء، أو كتابة على الماء.
وفي الأدب العربي قصة طريفة بُعْثِرَتْ فجمعناها، ورويت روايات مختلفة فاخترنا خيرها، وهي أن الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو، فقال عظيمهم: ليقل كل منكم قولاً يكون للخاصة معزِّياً، وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال: أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعْت موقع الصيد في الشرَك؟ مَن هذا الذي يقنصك؟
وقام ثان فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقال ثالث: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقمتك لا تُؤمَن، ومدائنك لا ترام، وعطاياك لا تبرح، وضياؤك لا يخبو، فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقمتك لا تخشى، وعطاياك لا تُرجى، وسيوفك لا تُنْتَضى، ومدائنك لا تُمنع.
وقال رابع: هذا الذي كان للملوك قاهراً، أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقال خامس: قد كان صوتك مرهوباً، وكان مُلْكُك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقال سادس: كنتَ كحلمِ نائمٍ قد انقضى، أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع: لئن كنتَ أمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة طُويت في ذراعين.
وقال تاسع: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر: قد حرَّكَنَا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر.
__________
(1) لعلها: من(م).(1/320)
وفشت هذه القصة، وهذه الأقوال في أوساط الفلاسفة من المسلمين، فلما مات عضد الدولة البُوَيْهي، وكان ما كان، ضخامةَ مُلْكٍ، وعزةَ جاهٍ، وهو الذي لُقب بشاهنشاه، ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فغمَّرها، وانبثَّ فيها اللصوص والمفسدون فأمَّنها، ونظَّم المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق، ورتَّب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته، والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين، وقاسٍ لا يرحم، ما أكثر من قَتَل وشرَّد لسبب يَسْتَوجِب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه _ مالك الأملاك، غلاَّب القَدَر _ وقصده المتنبي فرأى ملكاً كبيراً، ونعيماً عظيماً، وقدرة قادرة، وسطوة قاهرة، فصرخ:
وقد رأيتُ الملوك قاطبة ... وسِرْتُ حتى رأيتُ مولاها
ومَن مناياهم براحته ... يأمُرُها فيهم وينهاها
أبا شجاعٍ بفارسٍ عضد الدولـ ... ـة فَنَّاخُسْرُو شَهَنشَاها
أسامياً لم تزده معرفةً ... وإنما لذةً ذكرناها
إلى أن يقول:
وإن له شرقَها ومغربها
... ونفسُه تستقل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
وكان في ملكه كِرْمان، وفارس، وعمان، والعراق، والموصل، وديار بكر، وحرَّان، ومنبج، خضعت له، وخافت منه، واستكانت له، وفزع منه الصغير والكبير، ثم ماذا؟
أصابه المرض وهو في السابعة والأربعين، فأذل نفسه وأحقر شأنه، واستُدعي له مهرة الأطباء، فعجزُوا عجزه، وذلُّوا ذلَّه، فأخذ يقول الشعر ينعى نفسه:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوَّاً ولم أُمهل على ظِنَّةٍ خَلْقا
وأخليت دُورَ المُلْك من كل نازلٍ ... فشرَّدتهم غرباً وبدَّدتهم شرقا
فلما بلغت النجمَ عزَّاً ورفعةً ... وصارت ركاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنذا في حجرتي عاطلاً مُلْقى(1/321)
ثم جعل يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، إلى أن مات.
استرعى هذا المنظر عقول الناس، بناء شامخ سقط في لحظة، وقوة هائلة تحطمت في لمحة، واعتداد بالنفس ذهب مع الريح، ووقف القدر يسخر ممن زعم أنه غلاَّب القَدَر.
وإذ ذاك ذكر فلاسفة بغداد القصة التي رويت لهم عن موت الإسكندر، وما قاله تلاميذ أرسطو في العظة به.
وكان أبو سليمان المنطقي رأس الفلاسفة فيها، وبيته ندوة كل من تفلسف، يسألونه فيما أبهم عليهم، ويستفتونه في أعقد المسائل؛ فيجيب إجابة تدل على علم واسع، وعقل ناضج.
فاجتمع عنده طائفة منهم يوم مات عضد الدولة، واقترح عليهم أن يقولوا فيه كما قال تلاميذ أرسطو في الإسكندر.
وبدأ أبو سليمان فقال: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك أنه طلب الربح فيها فخسر روحه.
وقال ثان: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
وقال ثالث: ما رأيت غافلاً في غفلته، ولا عاقلاً في عقله مثله، لقد كان ينقض جانباً وهو يظن أنه مبرِم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال رابع: أما إنه لو كان معتبراً في حياته لما كان عبرة في مماته.
وقال خامس: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
وقال سادس: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغباً عنها جدت له، انظر إليه كيف انتهى أمره، ووضع شأنه، وإني لأظن أنَّ فلاناً الفقير الزاهد الذي مات بالأمس أعز ظهيراً من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال سابع: إن ماءاً أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوف.
وقال ثامن: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جُنَّة تقيك؟ ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود؟ من أين أُتيت وكنت قوياً صارماً؟ إن فيك لعبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين.
وعلَّق ظريف على الموقفين فقال: إن الفرق بين الكلامين كالفرق بين الملِكَين.(1/322)
إن كان هذا ففيم غرور المعتز، وطمع الطامع، وسطوة الظالم، وطغيان المستبد، وخيلاء المعجب؟
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: ما أكثر المعتبَرَ وأقل المعتبِر.
المقدمة ... 3
- مسرد بعنوانات الموضوعات والمقالات في هذه المجموعة ... 6
أولاً: مقالات في السعادة ... 13
1_ فن السرور: للأستاذ أحمد أمين ... 14
_ مفهوم خاطئ للسرور ... 14
_ أول درس في فن السرور =قوة الاحتمال+ ... 15
_ سبب قلة السرور في الشرق ... 15
_ في استطاعة الإنسان أن يتغلب على المصاعب ... 16
_ اختلاف الناس في القدرة على السرور ... 17
_ غلبة الحزن مرض ينشأ من عوامل كثيرة ... 17
_ ضيق الأفق من أهم أسباب الحزن ... 17
_ أكثر الناس فراغاً أشدهم ضيقاً ... 18
_ ثاني درس في فن السرور =القبض على زمام التفكير+ ... 18
_ ثالث درس في فن السرور =ألا تقدر الحياة فوق قيمتها+ ... 18
2_ الابتهاج بالحياة: للأستاذ أحمد أمين ... 20
_ أسباب انتشار طابع الحزن ... 21
_ عاملان للابتهاج في الحياة: تنظيم الحياة، والشجاعة ... 22
_ اختلاف الناس في القدرة على الابتهاج بالحياة ... 23
_ من الحكمة ألا يجمع الإنسان بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر ... 23
_ الحياة مرحلة علبرة لا تستحق أن ينغص الإنسان نفسه فيها ... 24
_ من أهم ما في الحياة معرفة طرق المعيشة ... 25
_ أهم سبب في الابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم مهذب ... 26
_ خطأ من ظن أن الابتهاج بالحياة معناه اللذة الجامحة ... 27
_ الابتهاج بالحياة موقف النفس إزاء الحياة ... 27
3_ الإيمان ينبوع السعادة: للأستاذ أحمد أمين ... 29
_ الإيمان بالدين مبني على أساسين: رغبة ورهبة ... 29
_ ما الحياة بلا إيمان بالله؟ ... 30
_ حكمة القرآن في مخاطبته للشعور ... 30
_ مقارنة بين أسرتين ... 31
_ راحة البال أهمُّ ركن في السعادة ... 32
_ من مزية الدين الإيمان باليوم الآخر ... 32(1/323)
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم ... 33
4_ التربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 34
5_ التربية الأخلاقية وأثرها في ارتقاء الأمم: للشيخ علي فكري ... 37
_ التربية الأخلاقية هي من أعظم أسباب رقي الأمم ... 37
_ أثر أمراض النفوس أشد فتكاً من أمراض الأجسام ... 38
_ أقوال مأثورة تدل على أن العلم لا يغني عن الأخلاق ... 38
6_ صحة التفكير: للعلامة محب الدين الخطيب ... 41
7_ أول درس ألقيته: للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات ... 45
8_ حقوق المعلمين الأحرار على الأمة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 51
9_ حقوق الجيل الناشئ علينا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 57
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك ... 63
10_ ثبات الأخلاق: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 64
11_ سجايا العرب في التراث الإسلامي: للعلامة محب الدين الخطيب ... 73
_ متى تكون الفضيلة فضيلة؟ ... 73
_ أقدر الأمم على العمل بالفضائل ... 73
_ الإيثار من أعظم الفضائل ... 74
_ العرب أعظم الأمم تحلياً بالإيثار ... 74
_ موقف يدل على الإيثار ... 74
_ معنيان من معاني الحياة الاجتماعية يتجليان في هذه الحادثة ... 75
_ نماذج من زهد عمر بن عبدالعزيز وإيثاره ... 76
_ إيثار فاطمة بنت عبدالملك ... 80
12_ الوفاء في العربي: للأستاذ محمد الطيب النجار ... 81
_ الوفاء من أجل خصائص العرب ... 81
_ قصة وفاء السمؤال بن عاديا / امرئ القيس ... 82
_ قصة وفاء الطائي صاحب النعمان بن المنذر ... 83
_ افتخار النعمان بن المنذر بالعرب أمام كسرى ... 85
13_ التضحية: للأستاذ أحمد أمين ... 87
_ فرق بين أمة راقية وأمة غير راقية ... 87
_ أمثلة للتضحية ... 87
_ جناية علماء النفس على جمال التضحية ... 89
_ متى تكون التضحية؟ ... 93
_ كلمات جميلة معبرة عن معنى التضحية ... 93
_ مقارنات بين التضحية والأنانية ... 93(1/324)
14_ الحياء: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 94
_ فضل التحلي بالحياء، وذم التخلي عنه ... 94
_ تصحيح مفهوم خاطئ في مفهوم الحياء ... 94
_ الحياء وسط بين رذيلتين: الوقاحة والخجل ... 95
_ الحياء جِبِلِّي ومكتسب ... 95
15_ صدق اللهجة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 96
_ ما الصدق؟ ... 96
_ للصدق صورة واحدة ... 97
_ للكذب ثلاث صور ... 97
_ الاحتراس في صدق اللهجة ... 98
_ صدق اللهجة والمجاز ... 99
_ صدق اللهجة والقصص الخيالية ضروب ... 100
_ القصص الخيالية ضروب ثلاثة ... 100
_ صدق اللهجة وإخلاف الوعد ... 101
_ صدق اللهجة وإخلاف الوعيد ... 102
_ صدق اللهجة والمعاريض ... 102
_ ما المعاريض ... 103
_ عناية الإسلام بصدق اللهجة ... 104
_ أثر صدق اللهجة في سعادة الفرد ... 104
_ الأثر الأول: الشرف ... 105
_ الأثر الثاني: طيب العيش ... 105
_ الأثر الثالث: صفاء البال، وهو من ناحيتين ... 106
_ أثر صدق اللهجة في سعادة الجماعة ... 106
_ أثر صدق اللهجة في العلم ... 107
_ علل التهاون بصدق اللهجة ... 108
16_ من أخلاقنا: للشيخ علي الطنطاوي ... 111
17_ إشاعة السوء وموقف الإسلام منها: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 119
_ ضرر إشاعات السوء على الأمة ... 119
_ ترويج إشاعات السوء ... 119
_ اللائق بالمسلمين إذا سمعوا قالة السوء ... 120
_ وأول فتنة في الإسلام كان منشؤها إشاعات السوء الكاذبة ... 121
_ أثر إشاعة السوء في حرب الجمل ... 121
_ التحذير من إشاعات السوء ومروجيها ... 121
_ عقوبة مثير الفتنة، ومشيع السوء ... 122
18_ البخيل: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 124
_ مفهوم البخل ... 124
_ الأسباب التي غرست ملكةَ البخل في نفس البخيل: ... 125
_ الأول: الوراثة ... 125
_ الثاني: التربية ... 125
_ الثالث: سوء الظن بالله ... 126
_ الرابع: النكبات ... 126
_ الخامس: اللؤم ... 127(1/325)
_ السادس: سقوط الهمة ... 127
_ السابع: فساد المجتمع الإنساني ... 127
19_ الآداب العامة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 130
رابعاً: مقالات في العمل والهمة ... 137
20_ النجاح في الحياة: للأستاذ أحمد أمين ... 138
_ النجاح مطلب مشترك ... 138
_ صفات كثيرة لا بد منها في النجاح ... 138
_ النجاح في الحياة يعتمد على الأخلاق أكثر من اعتماده على العلم ... 138
_ تصحيح خطأ في مفهوم النجاح ... 139
_ أثر اللباقة والأدب في النجاح ... 141
21_ العمل والبطالة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 143
22_ الواجب: للأستاذ عبدالسلام الشربيني ... 147
_ لا يعرف الواجب من لا إرادة له ... 147
_ ليست الإرادة هي الاستبداد ... 147
_ الضمير لا يكون إلا بوجود العقل المهذب ... 147
_ الويل لمن لا محكمة له من نفسه ... 147
_ الإخلاص للواجب من شيم الأحرار ... 148
_ ليست الفضيلة قولاً خلاباً ... 148
_ فساد الحياة سببه فساد الإنسان ... 148
_ من الناس من لا يعرف من الواجب إلا ما يقوم به نحو نفسه ... 148
_ ترويض النفس على العمل ... 149
_ السعادة أن يعمل الإنسان ما عليه من واجبات ... 149
23_ الغني والفقير: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 150
24_ متاعب الحياة: للأستاذ أحمد أمين ... 153
_ صنفان من المتاعب: متاعب وهمية ومتاعب حقيقية ... 153
_ نماذج لمتاعب وهمية مصدرها النفس ... 153
_ كيفية التغلب على المتاعب اليومية ... 155
_ حادثة في التغلب على المتاعب ... 155
_ حكاية طريفة ... 157
_ ارتباط الجسم والعقل ... 158
_ تقسيم الأمزجة ... 159
_ من أسباب المتاعب وعلاجها ... 161
25_ كبر الهمة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 163
_ فضل كبر الهمة، وعناية الشريعة بذلك ... 163
_ نماذج من كبر الهمة ... 163
_ من كبر الهمة الترفع عن الرجل يبسط لك وجهاً رحباً ... 164(1/326)
_ كبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملق والمداهنة ... 164
_ كبر الهمة يصيِّر العالم الأمين عوداً مُرَّاً ... 164
_ كبر الهمة يستفز الموسر الكريم إلى البذل ... 165
_ أثر المهانة والذلة على الأمة ... 165
خامساً: مقالات في المدنية والعمران ... 167
26_ مدنية الإسلام والعلوم العصرية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 168
27_ مدنية الإسلام والخطابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 172
28_ تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات: للعلامة محمود شاكر ... 177
سادساً: مقالات في الشباب ... 183
29_ نهوض الشباب بعظائم الأمور: للعلامة محمد الخضر حسين ... 184
_ يسبق إلى الأذهان أن الشاب تخفى عليه عواقب الأمور.... ... 184
_ من الشباب من يبلغ في حصافة الرأي مبلغ الشيوخ ... 184
_ نماذج من السيرة والتاريخ لشباب ظهرت عبقريتهم وكفايتهم ... 185
30_ إلى شباب محمد: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 196
_ الزائغون عن الرشد في أوطانان صنفان: ... 197
1_ صِنْفٌ نشأوا في بيئات شأنها الطعن في الدين ... 197
2_ وصِنْفٌ نشأوا في معاهد إسلامية ... 197
_ أي الصنفين أشد ضرراً على الأمة؟ ... 198
31_ كيف يتقي الشباب أخطار الشباب: للأستاذ علي سيد أحمد منصور ... 200
_ شرح حقيقة الشباب ... 200
_ سبب اختصاص مرحلة الشباب بالخطر ... 202
_ أخطار مرحلة الشباب ... 202
_ خطر الشهوة الجنسية ... 202
_ علاج ذلك الخطر: ... 203
1_ تزويد الشباب بالأخلاق العالية ... 203
2_ الزواج ... 203
3_ غض البصر ... 204
4_ البعد عن صحبة الأشرار ... 204
5_ إشغال الفراغ بما ينفع ... 205
6_ منع النساء من التبرج ... 206
32_ إلى الشباب: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 208
سابعاً: مقالات في العبادات والعادات ... 217
33_ يوم عاشوراء وعادات الناس: للشيخ علي محفوظ ... 218
_ المواسم معالمُ الخيرات ... 218
_ الدين واضح ... 219(1/327)
_ للإيمان الصحيح نورٌ يسطع في العقول ... 219
_ ماذا يقع في يوم عاشوراء؟ ... 219
_ بدعتان في مقتل الحسين: ... 220
الأول: بدعة الحزن، والنوح ... 220
الثانية: بدعة السر والفرح ... 221
34_ الصيام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 224
_ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ... 224
_ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ... 225
_ [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ... 227
_ [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ... 227
35_ الحج المبرور: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 229
36_ عيد الأمس، عيد اليوم، عيد الغد: للعلامة محب الدين الخطيب ... 232
ثامناً: مقالات في السياسة والإجتماع ... 235
37_ الشورى في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 236
_ تخبط العالم قبل الإسلام ... 236
_ نظام الإسلام السياسي يقطع دابر الاستبداد ... 236
_ أمثلة من التاريخ للنظام الشوري ... 237
_ الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات ... 239
38_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته: للعلامة محب الدين الخطيب ... 242
_ من خصائص مكة ... 242
_ من أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً ... 244
_ تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية على حديث =الناس معادن...+ ... 245
_ تفاوت أهله في الاستجابة لدعوة الإسلام ... 247
_ من أخبار خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ... 248
39_ معدن سليم كريم: للعلامة محب الدين الخطيب ... 250
40_ حقيقة المسلم: للأديب مصطفى صادق الرافعي ... 253
41_ حركة الإسلام في أوربا: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 260
_ الإسلام روح تجري، ونفحة تسري.... ... 260
_ مكَّنت للإسلام طبيعته ... 260
_ لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغير ما به ... 261
_ ضرورة اجتماع المسلمين ونبذهم الفرقة ... 261
42_ داء المسلمين ودواؤهم: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 263(1/328)
_ الباحثون في أحوال المسلمين ونقطة الالتقاء ... 263
_ رؤية الباحث الأجنبي ... 264
_ ينقسم الباحثون من المسلمين إلى فريقين: ... 264
_ فريق هدي إلى الحق ... 264
_ فريق ضل عن الحق ... 265
_ ما موقع الغلط في أبناء المسلمين الذين تعلموا في الغرب ... 267
_ الغرب لا يعطينا إلا جزءاً مما يأخذ منا ... 269
43_ حالة المسلمين: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ... 270
_ الوعي واليقظة والنهضة ... 270
_ النهضة الحقيقة يَصْحَبُها حزم لا هوينا فيه ... 270
_ متى تظهر المعاني الحقيقية للوعي واليقظة والنهضة ... 270
_ إذا فسد التصور فسد التصوير ... 271
_ النوم الثقيل لا يصحو صاحبه إلا بصوت يَصَخُّ ... 272
_ شبابنا هم ميدان الصراع ... 274
_ النهضات الصادقة تبدأ من الأخلاق وتنتهي إلى الأخلاق ... 276
_ الفضائل في نظر الإسلام وحكمه صبغة لا تتحول ... 277
44_ الشعور السياسي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمدالخضرحسين ... 278
_ العوامل التي أحيت الشعور السياسي لدى المسلمين: ... 278
_ أحيا ذلك الشعور تلقيهم للكتاب الحكيم عن تدبر ... 279
_ أحيا ذلك الشعور أن الله قَيَّض لهم رؤساء ما كانوا ليعدوا أنفسهم سوى أنهم أفراد من الشعب ... 279
_ أحيا ذلك الشعور أن رأوا باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه ... 280
تاسعاً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله ... 283
45_ الدعوة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 284
_ الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة ... 284
_ الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة ... 284
_ الدعاة الصادقون يعلمون أن محمداً " عاش بين أعدائه ساحراً كذاباً، ومات سيد المرسلين ... 285
_ لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدان ... 285
_ الجهلاء مرضى، والعلماء أطباء ... 286
_ الدعاة في هذه الأمة أربعة ... 286
46_ الدعوة إلى الخير: للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي ... 288(1/329)
47_ عذاب المصلحين: للأستاذ أحمد أمين ... 294
48_ الدعوة الشاملة الخالدة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 300
49_ قرآن الفجر: للأديب محمود صادق الرافعي ... 303
50_ كلمة الحق: للشيخ العلامة أحمد محمد شاكر ... 307
51_ أدب المناظرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ... 313
عاشراً: مقالات في العلم والتحقيق ... 317
52_ العلم والعقل: للشيخ عبدالقادر المغربي ... 318
_ العقل ملاك سعادة الإنسان ... 319
_ الإسلام دين علم وعقل ... 319
_ القرآن رفع من شأن العلم ... 319
_ العلم إذا أطلق في لسان الشرع كان المراد به العلم النافع ... 320
_ العلم لا ينمو في نفس صاحيه إلا بالعمل ... 320
_ مخالفة السلف من أعظم أسباب انحطاطنا ... 321
_ تحذير الشارع من العلم الوهمي ودعاته ... 321
_ علماء السوء أنواع ... 321
53_ الإنسان على الأرض: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 323
54_ عمر الإنسان: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 329
55_ الفلسفة والعلم والدين: للشيخ عبدالباقي سرور ... 334
_ ما الفلسفة؟ ... 334
_ العلم ينقسم إلى قسمين ... 334
_ هل بين العلم والدين تناقض؟ وهل بين الدين والفلسفة تنازع؟
وهل يمكن أن يتآخى العلم مع الدين؟ ... 335
حادي عشر: مقالات في اللغة والأدب ... 339
56_ طرق الترقي في الكتابة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 340
_ القوة الحافظة ... 340
_ القوة المائزة ... 340
_ القوة الصانعة ... 341
_ متى تكمل القوة المائزة؟ ... 341
_ متى تكمل القوة الصانعة؟ ... 341
_ الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير ... 342
57_ اللغة والأمة: للأستاذ محمد صادق عنبر ... 343
58_ البيان: للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ... 345
59_ قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 349
_ التماثل ... 349
_ التضاد ... 350
_ الوحدة المكانية ... 350(1/330)
_ الوحدة الزمانية ... 350
_ تسلسل الأفكار ... 351
_ الفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليه ... 352
_ تسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء ... 352
_ الناس يتفاضلون في التخيل ... 353
_ المخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلى جهة خاصة أو غرض معين ... 354
_ المخيلة العلمية هي التي توجه بإرادة صاحبها ... 354
_ المخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة ... 354
_ أثر التخيل في التربية ... 355
ثاني عشر: مقالات في السيرة النبوية ... 357
60_ قدوتنا الأعظم: للعلامة محب الدين الخطيب ... 358
61_ من إلهامات الهجرة: للعلامة محب الدين الخطيب ... 362
62_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 369
_ المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة الإسلامية ... 369
_ الحرية ... 369
_ الحرية الحقة ... 370
_ دعوة الإسلام إلى الحرية ... 371
_ مظاهر الحرية ... 373
_ حرية الاعتقاد وهي إبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر ... 373
_ حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه ... 376
_ لا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق ... 376
_ من حرية القول بذل النصيحة ... 377
_ من حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي ... 377
_ من حرية القول حرية العلم والتعليم وتتمثل في حالين: ... 378
_ الحالة الأولى ... 378
_ الحالة الثانية ... 379
_ حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته ... 380
_ حرية العبيد ... 382
_ إبطال الإسلام لأسباب الرق ... 382
1_ الاسترقاق الاختياري ... 383
2_ الاسترقاق في الجناية ... 383
3_ الاسترقاق في الدَّين ... 383
4_ الاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية ... 383
5_ استرقاق السائبة ... 383
_ روافع سنها الإسلام ترفع حكم الرق ... 383
_ سد ذرائع انخرام الحرية ... 386(1/331)
_ المساواة ... 390
_ المساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع ... 391
_ المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية ... 391
_ الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات ... 391
_ الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة ... 392
_ الثالثة: المساواة الأهلية أي في الصُّلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك ... 393
_ موانع المساواة ... 396
_ الموانع الشرعية هي المعلولة لعلل أوجبتها ... 396
_ الموانع الاجتماعية تتعلق غالباً بالأخلاق ... 396
_ الموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام ... 397
_ المقام الثاني: أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام ... 397
_ أثران لشيوع الدعوة المحمدية في بلاد العالم ... 398
_ الأول: أنها سهلت لكثير من الأمم الدخول في دين الإسلام ... 398
_ الأثر الثاني: كان مِنْ تناقل تلك الحوادث، ومن تمازج الفرق من الأمة الواحدة ... 399
ثالث عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية ... 401
63_ تعاون العقل والعاطفة على الخير: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 402
_ اختلاف العقل والعاطفة ... 402
_ تنازع العقل والعاطفة ... 406
_ توافق العقل والعاطفة ... 408
_ تعارض العاطفة الدينية والعاطفة الشخصية ... 410
_ كيف تربي عاطفة الخير؟ ... 411
64_ الخوف: للأستاذ أحمد أمين ... 413
_ الخوف من الفقر ... 413
_ الخوف من النقد ... 414
_ الخوف من المرض ... 415
_ الخوف من فَقْدِ حُبِّ من يحب ... 416
_ الخوف من الهرم أو الشيخوخة وله سببان: ... 416
_ الخوف من الموت ... 417
_ الخوف مما بعد الموت ... 417
_ علاج الخوف: ... 418
_ احم نفسك من مؤثرات الخوف ... 418
_ اقرأ ما يبعث فيك القوة والشجاعة ... 419
_ آمن بأن توقع الشر شر من الشر نفسه ... 419
_ حلِّل نفسك وتبين سبب مخاوفها ... 419(1/332)
65_ التعصب: للأستاذ أحمد أمين ... 421
_ حوار بين الكاتب وصاحبه حول التعصب ... 421
_ أعراض التعصب: ... 422
_ أولها: ضيق النظر ... 422
_ وثاني الأعراض: حبه القوي لغلبة فكرته أو عقيدته وهزيمة الآراء المعارضة واندحارها ... 423
_ وثالث الأعراض: عدم تقدير ما ينزل بالآخرين من آلام ولا ما يحل بهم من كوارث ... 423
_ مواصلة الحوار بين الكاتب وصاحبه ... 424
66_ روح السماحة: للأستاذ أحمد أمين ... 428
67_ من نفحات الشرق: الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي ... 433
_ الأستاذ البيطار مجموعة فضائل ... 433
_ والأستاذ البيطار مفكر عميق التفكير ... 433
_ اعتماده في تحصيله وتربيته على طودَيْن شامخين من أطواد العلم والعمل هما عبدالرزاق البيطار، والقاسمي ... 434
_ بدء معرفة الكاتب بالبيطار ... 435
_ رحلة الكاتب إلى دمشق ... 436
_ ذكريات الكاتب مع أهل العلم في دمشق ... 437
_ ذكرياته واشتياقه لأيامه في دمشق ... 440
68_ عبرة الموت: للأستاذ أحمد أمين ... 442
المحتويات ... 449
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الأولى
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري
8_ أخلاق الناس: د. زكي مبارك
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين(1/333)
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة محمد الخضر حسين
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
25_ لبيك اللهم لبيك: لمحب الدين الخطيب
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين
سابعاً: مقالات في السياسة والإجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد
35_ العلماء والإصلاح: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكيم: لأمير البيان شكيب أرسلان
37_ تصحيح الكتب: للعلامة الشيخ أحمد شاكر
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي(1/334)
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للشيخ محمد الخضر حسين
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
45_ مجلس رسول الله ": للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
ثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
49_ موت أم: مصطفى صادق الرافعي
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
عنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها المجموعة الثالثة
أولاً: مقالات في السعادة
1_ أسس الحياة الطيبة: للأستاذ أحمد أمين
2_ الحياة السعيدة: للأستاذ أحمد أمين
3_ البرنامج اليومي للسعادة: للأستاذ أحمد أمين
4_ المثقفون والسعادة: للأستاذ أحمد أمين
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
5_ العلم بين الأساتذة والطلاب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
6_ إلى أبنائنا المعلمين الأحرار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
7_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
8_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(2): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
9_ السمو الخلقي في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
10_ العزة والتواضع: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
11_ الأمانة: للشيخ علي الطنطاوي
12_ الأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
13_ الانتحار: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
14_ نداء مصدور: للأستاذ محمود محمود
15_ الحسد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
16_ جيل يؤمن بالأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
رابعاً: مقالات في العمل والهمة(1/335)
17_ صدق العزيمة أو قوة الإرادة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
18_ اعرف نفسك: للشيخ علي الطنطاوي
19_ الطموح: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
20_ تربية الإرادة: للأستاذ أحمد أمين
21_ اصنع حياتك: للأستاذ أحمد أمين
22_ موت الأمم وحياتها: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
23_ المدنية الغربية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ المدنية تحطم الأعصاب: للأستاذ أحمد أمين
25_ المدينة الفاضلة: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
سادساً: مقالات في الصداقة والعواطف الإنسانية
26_ طبقات الأصدقاء: للشيخ علي الطنطاوي
27_ العاطفة والتسامح في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
28_ التعب العصبي والخوف: للأستاذ أحمد أمين
29_ لماذا ولأن: للأستاذ أحمد أمين
30_ وحي القبور: للأديب مصطفى صادق الرافعي
سابعاً: مقالات في العادات والعبادات
31_ معنى الصوم: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
32_ صديقي رمضان: للشيخ علي الطنطاوي
33_ الإنسان في الشدة والرخاء: للشيخ علي محفوظ
34_ بساطة العيش: للأستاذ أحمد أمين
ثامناً: مقالات في الشباب
35_ كيف تكون رجلاً: للأستاذ عبدالوكيل جابر
36_ يا ابني: للشيخ علي الطنطاوي
37_ من هو الشاب المسلم: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
38_ يا شباب العرب: للأديب مصطفى صادق الرافعي
تاسعاً: مقالان في المرأة
39_ دفاع عن الفضيلة: للشيخ علي الطنطاوي
40_ بين الزوجين: للشيخ علي الطنطاوي
عاشراً: مقالات في السياسة والإجتماع
41_ الصراع بين الإسلام وأعدائه: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
42_ ذوق صحفي بارد: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
43_ العرب المسلمون في كراسي الحكم: لمحب الدين الخطيب
44_ ايها المسلمون: للأديب مصطفى صادق الرافعي
45_ الحرية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ العلماء وأولو الأمر: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/336)
47_ الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً: للأستاذ عبدالباقي نعيم سرور
حادي عشر: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
48_ ادع إلى سبيل ربك: للشيخ محمد النخلي
49_ الانتقاد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
50_ مقاصد الإسلام في إصلاح العام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
51_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (1): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
52_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (2): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
53_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
54_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
ثاني عشر: مقالات في العلم والتحقيق
55_ الإسلام والعلم: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
56_ العلم بالتأليف: للشيخ عبدالعزيز المسعودي
57_ العلم عند الله: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
ثالث عشر: مقالات في اللغة والأدب
58_ الاستشهاد بالحديث في اللغة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
59_ الأدب وأثره في الحياة: للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم
60_ الجملة القرآنية: للأديب مصطفى صادق الرافعي
61_ عمر بن عبدالعزيز والشعراء: للأستاذ محمود محمود
62_ فن الكلام: للشيخ علي الطنطاوي
63_ وقاحة الأدب =أدباء الطابور الخامس+: للأستاذ محمود شاكر
رابع عشر: مقالان في السيرة النبوية
64_ مولد الإنسانية: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
65_ محمد ": للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار
خامس عشر: مقالات في الطب
66_ كلمة في المسكرات: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
67_ الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
68_ طرق وضع المصطلحات الطبية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(1/337)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن المقالة _ أو المقال _ باب عظيم من أبواب العلم، وطريق واسع لنشر الفكر والتأثير في الناس.
ولا ريب أنَّ الفترة الذَّهبيَّة للمقالة كانت في النِّصف الأوَّل في القرن الرابع عشر إلى ما يقارب العقد السابع من ذلك القرن؛ حيث ازدهرت، وراج سوقها في كثير من البلاد العربيَّة خصوصاً في الشام ومصر، وظهر في ذلك الوقت كُتَّاب أفذاذ يضارعون الكُتَّاب الأوائل في أساليبهم الراقية، وتحريراتهم العالية.
وفي ذلك الوقت حرصت الصحفُ والمجلاَّت على استقطاب أكابر الكُتَّاب والعلماء؛ فصارت ميداناً فسيحاً لنشر الأدب، والعلم، والنَّقد، والرُّدود، وما جرى مجرى ذلك.
ولقد يسَّر الله لي فرصة الاطلاع على كثير من تلك المقالات، سواء عبر أعداد تلك الصحف والمجلات، أو عبر الكتب التي جمعت تلك المقالات.
ومهما يك من انتشار تلك المقالات، وشهرة أصحابها في ذلك الوقت _ فإنه يبقى محدوداً إذا ما قِيس بانتشارها وسهولة تداولها في عصرنا هذا.
ثمَّ إنَّ كثيراً مما نُشِر آنذاك قد انطوى، ودَرَس، ويُخشى أن تَطَالَهُ يدُ النِّسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع؛ فيُحرمَ هذا الجيلُ خيراً عظيماً من ذلك التُّراث، ومن تلك التَّجارب التي تسمو بهمَّة قارئها، وترتقي بأساليبه الكتابيَّة أو الخطابيَّة، وتكسبه خبرة ودراية، وتختصر عليه كثيراً من الوقت والجهد، وتوقفه على مدى ما وصلت إليه العقول في تلك الفترة، وتُقْصِره عن كثير من البحث في الأطروحات التي طرقت، وقتلت بحثاً، وأخذاً، ورداً.
كما أن بعض تلك المقالات قد خرجت في طباعة رديئة، ولم تراع فيها قواعد الترقيم؛ مما قد يغلق فهمها على كثير من القراء.(1/1)
ومن هنا نشأت فكرة جمع شيء من تلك المقالات، وانتقائها، وإعدادها للنَّشر إعداداً ملائماً؛ لعلَّها تحقِّق الأغراض السابقة، وتمد قارئها بقسط وافر من العلم والفكر، وتفتح له آفاقاً من المعرفة والتَّجربة، وتوقفه على شيء من تلك الأساليب البيانيَّة الرَّاقية، وتُعرِّف القارئ بكُتَّاب في بلاد لم تأخذ حظَّها الكافي من الدِّراسة والبحث، فيظن بعض الناس أنَّها خِلْوٌ من الفكر والكتابة، مع أنَّها قد بلغت الذُّروة في العلم، والأساليب، كما هو الحال في بلاد تونس، والجزائر _كما سيتبيَّن من قراءة بعض ما خطَّتْهُ أنامل بعضِ العلماء والكُتَّاب هناك _.
ولقد يسر الله إخراج المجموعة الأولى والثانية من هذه المقالات، وهذه هي المجموعة الثالثة من (مقالات لكبار كُتَّاب العربية في العصر الحديث).(1)
وهي تشتمل على أبواب متفرقة، وموضوعات متنوعة؛ في العلم والدعوة، وفي الإصلاح، وبيان أصول السَّعادة، وفي الأخلاق والتَّربية، وفي السِّياسة والاجتماع، وفي قضايا الشَّباب والمرأة، وفي أبواب الشِّعر والأدب، وفي العربيَّة وطرق التَّرقِّي في الكتابة، كما أنها تشتمل على مقالات في السِّيرة النبويَّة، وبيان محاسن الإسلام، ودحض المطاعن التي تثار حوله.
وسيجد القارئ فيها جِدَّة الطَّرح، وعمقه، وقوَّته، وطرافةَ بعض الموضوعات، ونُدرةَ طرقها.
وسينتقل من خلالها من روضة أنيقة إلى روضة أخرى، وسيجد الأساليب الرَّاقية المتنوِّعة؛ إذ بعضها يميل إلى الجزالة والشَّماسة، وبعضها يجنح إلى السُّهولة والسَّلاسة، وهكذا.
وقد يخطر ببال القارئ أن بعض المقالات يكفي قراءة عنوانها؛ فيقصره ذلك عن قراءة بقية المقال.
__________
(1) سبق في مقدمة المجموعة الأولى حديث عن المقالة من حيث مفهومها، ونشأتها، وتاريخها،وأنواعها، كما تضمنت المقدمة حديثاً عن الأسباب الداعية لنشر هذه المقالات، والأهداف المرجوة من ذلك، والطريقة التي ستسير عليها هذه المجموعات.(1/2)
ولو قرأ المقال لربما رأى فيه ما لم يكن يدور في خلده من نفيس العلم، ودقيق الفهم، وجمال العرض.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في المقالات التي سترد في هذا المجموع.
ولا يغيب عن فطنة القارئ الكريم أنَّ تلك الكتابات قد أنشئت في زمن مظلم؛ فالاحتلال كان ضارباً بجرانه في كثير من بلاد المسلمين، والشيوعيَّة كانت في عزِّ أوجها وبريقها، والجهل والهزيمة النَّفسيَّة كانا شائعين في ذلك الوقت.
وهذا يدفع إلى تقدير ما قام به أولئك الكُتَّاب، وإلى التماس العذر لهم فيما فاتهم، أو قصَّروا به إن وُجِد شيء من ذلك.
وقد ترجمت لأكثر أولئك الكتاب في المجموعة الأولى.
وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوَّة إلى مراجعها، ومُشَارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.
كما أنَّ بعضها قصير، وبعضها متوسِّط، وبعضها مطوَّل أقرب ما يكون إلى البحث العلمي.
وقد أبقيت تلك المقالات كما هي، وربَّما حَذَفْت من بعضها _وهو قليل_ ما قد يُستغنى عنه، وما لا يخلُّ بأصل الموضوع، خصوصاً إذا كان يحتاج إلى مناقشة، أو كان فيه إلباس على بعض القراء، أو ما كان مشتملاً على تسويغ بعض البدع، وما إلى ذلك.
وما كان الغرض هو محاكمة الكاتب، بل إنَّني أحاول جهدي ألا أتعرَّض لأيِّ مقال بانتقاد أو اعتراض إلا ما لا بدَّ منه من إيضاح معنى، أو إزالة إشكال، وهو قليل جدًّا؛ لأجل ألا أقطع على القارئ استرساله، ومتعته.
وأكثر الهوامش إنما هي من صنع الكُتَّاب، وأما ما أعلق به فسيكون مختوماً بحرف (م) حتى يتميز عن الأصل.
وإليك مسرداً بعنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها هذه المجموعة:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ أسس الحياة الطيبة: للأستاذ أحمد أمين
2_ الحياة السعيدة: للأستاذ أحمد أمين
3_ البرنامج اليومي للسعادة: للأستاذ أحمد أمين
4_ المثقفون والسعادة: للأستاذ أحمد أمين
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم(1/3)
5_ العلم بين الأساتذة والطلاب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
6_ إلى أبنائنا المعلمين الأحرار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
7_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
8_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(2): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
9_ السمو الخلقي في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
10_ العزة والتواضع: للعلامة محمد الخضر حسين
11_ الأمانة: للشيخ علي الطنطاوي
12_ الأخلاق: للعلامة محمد الخضر حسين
13_ الانتحار: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
14_ نداء مصدور: للأستاذ محمود محمود
15_ الحسد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
16_ جيل يؤمن بالأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
رابعاً: مقالات في العمل والهمة
17_ صدق العزيمة أو قوة الإرادة: للعلامة محمد الخضر حسين
18_ اعرف نفسك: للشيخ علي الطنطاوي
19_ الطموح: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
20_ تربية الإرادة: للأستاذ أحمد أمين
21_ اصنع حياتك: للأستاذ أحمد أمين
22_ موت الأمم وحياتها: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
خامساً: مقالات في المدنية والعمران
23_ المدنية الغربية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
24_ المدنية تحطم الأعصاب: للأستاذ أحمد أمين
25_ المدينة الفاضلة: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
سادساً: مقالات في الصداقة والعواطف الإنسانية
26_ طبقات الأصدقاء: للشيخ علي الطنطاوي
27_ العاطفة والتسامح في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ التعب العصبي والخوف: للأستاذ أحمد أمين
29_ لماذا ولأن: للأستاذ أحمد أمين
30_ وحي القبور: للأديب مصطفى صادق الرافعي
سابعاً: مقالات في العادات والعبادات
31_ معنى الصوم: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
32_ صديقي رمضان: للشيخ علي الطنطاوي
33_ الإنسان في الشدة والرخاء: للشيخ علي محفوظ
34_ بساطة العيش: للأستاذ أحمد أمين(1/4)
ثامناً: مقالات في الشباب
35_ كيف تكون رجلاً: للأستاذ عبدالوكيل جابر
36_ يا ابني: للشيخ علي الطنطاوي
37_ من هو الشاب المسلم: للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
38_ يا شباب العرب: للأديب مصطفى صادق الرافعي
تاسعاً: مقالان في المرأة
39_ دفاع عن الفضيلة: للشيخ علي الطنطاوي
40_ بين الزوجين: للشيخ علي الطنطاوي
عاشراً: مقالات في السياسة والإجتماع
41_ الصراع بين الإسلام وأعدائه: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
42_ ذوق صحفي بارد: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
43_ العرب المسلمون في كراسي الحكم: لمحب الدين الخطيب
44_ ايها المسلمون: للأديب مصطفى صادق الرافعي
45_ الحرية: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
46_ العلماء وأولو الأمر: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
47_ الأنظمة الإسلامية يؤيد بعضها بعضاً: للأستاذ عبدالباقي نعيم سرور
حادي عشر: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
48_ ادع إلى سبيل ربك: للشيخ محمد النخلي
49_ الانتقاد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
50_ مقاصد الإسلام في إصلاح العام: للعلامة محمد الخضر حسين
51_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (1): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
52_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (2): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
53_ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3): للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
54_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
ثاني عشر: مقالات في العلم والتحقيق
55_ الإسلام والعلم: للعلامة محمد الخضر حسين
56_ العلم بالتأليف: للشيخ عبدالعزيز المسعودي
57_ العلم عند الله: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
ثالث عشر: مقالات في اللغة والأدب
58_ الاستشهاد بالحديث في اللغة: للشيخ محمد الخضر حسين
59_ الأدب وأثره في الحياة: للأستاذ عبدالوهاب محمد سليم
60_ الجملة القرآنية: للأديب مصطفى صادق الرافعي
61_ عمر بن عبدالعزيز والشعراء: للأستاذ محمود محمود(1/5)
62_ فن الكلام: للشيخ علي الطنطاوي
63_وقاحة الأدب =أدباء الطابور الخامس+: للأستاذ محمود شاكر
رابع عشر: مقالان في السيرة النبوية
64_ مولد الإنسانية: للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
65_ محمد ": للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار
خامس عشر: مقالات في الطب
66_ كلمة في المسكرات: للشيخ محمد الخضر حسين
67_ الأدوية المفردة بين دسقوريدس وابن البيطار: للشيخ محمد الخضر حسين
68_ طرق وضع المصطلحات الطبية: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
وأخيراً لا يسعني إلا أن أسأل الله العليَّ القدير أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزيَ خير الجزاء من أعان على إخراجه كتابةً، ومراجعة، ومتابعة.
والله المستعان وعليه التكلان.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.
... ... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ...
أولاً: مقالات في السعادة
1_ أسس الحياة الطيبة: للأستاذ أحمد أمين
2_ الحياة السعيدة: للأستاذ أحمد أمين
3_ البرنامج اليومي للسعادة: للأستاذ أحمد أمين
4_ المثقفون والسعادة: للأستاذ أحمد أمين
أسس الحياة الطيبة(1) للأستاذ أحمد أمين(2)
كل الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة, ولكن أكثرهم لا يجدها؛ إما لأنه حرم وسائلها؛ وإما لأنه لم يعرف الطريق إليها.
__________
(1) فيض الخاطر 6/275 _ 278.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/6)
كتبت سيدة فاضلة تقول: إنها في رخاء في عيشها؛ فلديها المال الكافي للإنفاق في سخاء, وزوجها موظف كبير تُدِرُّ عليه وظيفتُه المالَ الكافي, وأولادها في صحة ناجحون في مدارسهم, ومع ذلك فليست سعيدة؛ لأنها تشعر بضيق لا تدري سبَبَهُ متوقعةً في كل لحظة الشر، وإن لم يكن؛ فابنها إذا غاب قليلاً أوجست خيفة من غيابه، وزوجها إذا سافر توقعت الشر في سفره، وابنها إذا دخل الامتحان اضطربت خوفاً من سقوطه, وهكذا لم ينفعها مالها، ولا غنى زوجها، ولا صحة أولادها, ولا وسائل الترف، والرفاهية من الشقاء الذي هي فيه, وتسأل بعد ذلك عن وسائل الحياة الطيبة السعيدة.
يا سيدتي ! أكثر الناس يخطئ؛ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة, نعم إن الفقر سبب من أسباب الشقاء؛ فمن لم يجد ما يعوله ويعول أولاده فهو في شقاء؛ فالقدر الكافي من المال لسد الحاجات الضرورية وسيلة من وسائل الحياة السعيدة, ولكن الغنى ليس كل شيء في الحياة السعيدة, بل كثيراً ما يكون عائقاً عن السعادة؛ لأسباب بسيطة واضحة كل الوضوح؛ فالمال لا نستطيع أن نشتري به الصحة، ولا الحب، ولا الطمأنينة.
ومن ركز غرضه في جمع المال لم يجد فرصة للترفيه عن نفسه في النواحي الأخرى, واللذائذُ التي تنال بالغنى سريعة الزوال، والنفسُ أسرعُ إلى الملل منها, والغِنَى المُفْرِطُ مشغلةٌ تجعل الغني خادماً للمال وليس المالُ خادمَه, وأكثر الناس يخطئ في حقيقة بديهية، وهي أنْ ليست السعادة أن تكون عندك شيء، ولكن أن تعمل شيئاً؛ فالسعادة ليست في المِلْكية، ولكن في العمل.
إن مَثَلَ مَنْ يجمع المال؛ قصداً للسعادة كمثل مَنْ يتسلح للعدو، فيلبس دروعاً ثقيلة، ويحمل أسلحة كثيرة؛ حتى يثقل ذلك عليه؛ فيمنعه من السير.
فغناك وغنى أسرتك ـ يا سيدتي ـ لا يخلق السعادة، ولكن يصلح أن يكون وسيلة من وسائلها.
تَسْأَلينني في آخر خطابك عن وسائل الحياة الطيبة، فأرى أنها تقوم على أسس أربعة:(1/7)
أولها: العمل ـ وهو قَدْرٌ لا بدَّ منه للغني والفقير,والرجل و المرأة, و بدونه تصبح الحياة عبئاً ثقيلاً لا يطاق .
إن العمل واجب من ناحية الأخلاق؛ فمن أكل من مال الأُمة وجب أن يقدم لها أجر ما أكل، ومن سوء الحظ في المدنية الحاضرة والسابقة أن الجزاء فيها ليس متكافئاً مع العمل؛ فالأمم كلها ـ مع الأسف ـ مملوءة بالأمثلة العديدة لأناس يعملون كثيراً, ويعملون عملاً نافعاً عظيماً, ثم لا يكافئون على عملهم إلا بالقليل الذي يسد رمقهم, وبجانبهم من يعمل قليلاً، أو لا يعمل أصلاً، أو يعمل شراً، ثمَّ هو يكافأ على ذلك من غير حساب.
وهذا عيب في المدنية يجب أن يعالج, ثم العمل واجب من الناحية النفسية؛ فمن لم يعمل عوقب بالسآمة، والملل، والضجر، وكلما كان العمل لنفع الناس كان الجزاءُ عليه أوفى.
وعبرة ذلك في التاريخ نفسه, فهو لم يحفظ لنا أسماء الأغنياء، والوزراء، والمترفين بقدر ما حفظ لنا أسماء كبار العاملين الخيِّرين.
بالأمس كنت أتحدث إلى صديق لي عن العالِمْ الشهير(ابن حزم الأندلسي) فكان مما قلته إنه كان عالماً كبيراً، وأخلاقياً عظيماً، وكان من بيت كبير فقد كان أبوه وزيراً .(1/8)
فقال: ما اسم أبيه؟ قلت نسيت ذلك، قال: إن في ذلك لعبرة لقد حفظت وحفظ أمثالك اسم العالم ونسيت ونسي أمثالك اسم الوزير الذي كان ذا جاه عريض؛ فالحياة بلا عمل حياة ميتة، و لست مخيراً أن تعمل؛ وكل اختيارك إنما هو في نوع العمل الذي يصلح لك، ويصلح له، وإني لا أشك في أن الأغنياء الذين لا عمل لهم من أشقى الناس, ولذلك يبحثون عن اللذائذ الرخيصة يضعون بها سأمهم ولكن سرعان ما تنقضي لذائذهم فخير أكلة ما أكلها الإنسان على جوع, وخير نوم ما نامه الإنسان بعد تعب، والراحة الدائمة في حاجة إلى إجازة أكثر من حاجة العمل إلى إجازة، ولعل سأم السيدات وخصوصاً المترفات اللائي اعتمدن في عمل البيت، وتربية الطفل على الخدم، والحشم سببه هذا, وهو الحياة بلا عمل، وتَلَمُّس السعادة من طريق اللذائذ التافهة.
الأساس الثاني للحياة الطبيعية: الطبع الراضي,أو المزاج الفرح, أو الطبيعة المتفائلة؛ فنرى في الحياة وجوهها الباسمة، وخيراتها الكثيرة؛ فكثير من أسباب الشقاء يرجع إلى الطبع الساخط, الطبع الذي لا يرى في الحياة إلاَّ مصائبها، وشرورها، وأحزانها, الطبع الذي يخلق من كل سرور بكاءاً، ومن كل لذة ألماً، ومن كل مسرة محزنة,الطبع الذي إذا أتيت له بعشرين تفاحة كلها جيدة ما عدا واحدة لا تقع عينه إلا على الفاسدة, وإذا كان في بيته كل ما يسر لم يلتفت إليه، وخَلَقَ الغضبَ من طبق كسر، أو كرسي في غير موضعه.
الطبع الراضي متسامح في الصغائر, خالق للسعادة، باشٌّ مستبشر,يتوقع الخير أكثر مما يتوقع الشر,يضحك حتى في الهزيمة، وحتى عند الخسارة المادية, يرى أن مسرح الحياة كميدان لعب الكرة, يكسب اللاعب فيضحك، ويخسر فينتظر الغلبة.(1/9)
الأساس الثالث: أن يكون للإنسان غرض نبيل في حياته الاجتماعية, يشعر بأن هناك بائسين من نواحيهم؛ فالدنيا مملوءة بآلام الناس من مرض، وفقر؛ فإذا استطاع أن يُشْعَر قَلْبَهَ الرحمة؛ فيعمل في جمعية تخفيف الفقر، أو تواسي المرضى، أو تسعف المنكوبين، أو نحو ذلك شعر بأنَّ حياته غنية بعمل الخير؛ فاغتبط وسعد؛ يَسْعدُ لمشاركة الخيرين في عملهم, ويسعد في شعوره بمحاولته إنقاذ البائسين من بؤسهم.
وهذا عمل في متناول الرجال، والنساء على السواء؛ فكلٌّ يستطيع أن يشترك في خدمة اجتماعية يقدمها؛ فيشعر بالغبطة والسرور، ولا شيء يبعث الضجر والسأم كمعيشة الإنسان لنفسه فقط.
إن الأنانية وحب الذات(1) خُلُقٌ طفليٌّ يصحب النفس الضيِّقة في دور الطفولة؛ فمن كبر ولا زال لا يحب إلا نفسه كان ذلك علامة طفولته، وصغر نفسه؛ الأناني كثير السأم لأنه لا يشعر إلا بنفسِه ونَفْسُهُ تدور حول نفسها، أما الذين يشعرون بغيرهم فيضيفون نفوساً إلى نفوسهم، وآفاقاً إلى آفاقهم، ويجدون لأنفسهم أغذية مختلفة من شعور الآخرين وآرائهم.
الأساس الرابع للحياة الطيبة: أن يكون لك غرض في الحياة محدود، ثم يكون لك اهتمامٌ في تحقيقه، وتعاون مع من يشاركك في برنامجه، توسع ثقافتك فيما حدَّدت من غرض وتتعشقه؛ حتى تتلذذ من العمل الذي يقرب من النجاح فيه؛ فحدد الغرض، وارسم برنامجه، ورتب خطواته، وأحبه، وأحب العمل للوصول إليه تشعر بسعادة لا تُقَدَّر.
__________
(1) لو قال: الغلو في حب الذات(م).(1/10)
إن كثيراً من البؤساء في الحياة سبب بؤسهم أنهم يعيشون ولا يدركون لِمَ يعيشون، وما وظيفتهم في الحياة وما غرضهم منها؛ فيكون كالسائر في الشارع بلا غرض, يتسكع هنا آناً وهنا آناً؛ فإذا رأيت رجلاً متبرماً من الحياة, ضَيِّقَ الصدر, ملولاً ضجراً يغلب عليه الحزن والكدر_ فاعلم أنه فقد عنصراً أو أساساً من عناصر الحياة الطيبة؛ فهو إما فارغ لا عمل له يعتمد على مال موروث، أو مال يأتي من عمل غيره، ويكتفي بهذا، ويركن إلى البطالة، أو هو إنسان تعوَّد أن يرى الحياة بمنظارٍ أسودَ دائماً ولم يقاومه, أو هو عاش لنفسه فقط؛ فلم يشترك في عمل اجتماعي يشعره بالرحمة، والشفقة، وهي من النعم الكبرى على الإنسان, أو عاش بلا غرض كالريشة في الهواء لا يتحمس لعمل، ولا ينظر غاية.
هذه ـ يا سيدتي ـ هي أسباب الحياة الطيبة, وفقدانها أو فقدان واحدة منْها يجعلها حياة تعسة بغيضة.
فليختبر كل نفسه؛ ليعرف موضع مرضه.
الحياة السعيدة(1) للأستاذ أحمد أمين
لو استعرضنا أنواع الناس، وكيف يحيون، وجدنا أنَّ كثيراً منهم يعيش عيشة جافة جامدة باردة، يستيقظ من النوم، فيفطر، ثم يلبس ملابسه، ويذهب إلى عمله كزارع، أو صانع أو تاجر، أو موظف، حتى إذا جاء وقت الغذاء عاد إلى بيته فَتَغَذَّى، ثم قد يزاول بعض عمله، ثم يجلس في مقهى يسمر مع أصدقائه، أو نحو ذلك، ثم يعود إلى بيته فَيُحَدِّث أهله بعض الحديث، ثم ينام، وهذا هو تاريخ حياته، يوم واحد متكرر، وحياة واحدة رَتِيْبَة...
هذه هي الحياة أشبه ما تكون بحياة آلة في مصنع ندورها فتدور، ونعطيها غذاءها من فحم، أو وقود فتسير على نمط واحد، ثم يوقفها القائم عليها فتقف، وهكذا حياتها كل يوم، بل هي _ أيضاً _ كحياة الأنعام تأكل، وتعمل، وتنام، وهكذا عادتها كل يوم، وإنَّ الإسلام لا يرضى عن هذه الحياة.
__________
(1) فيض الخاطر (9/298_302).(1/11)
وهناك قوم أضافوا إلى هذه الحياة الماديّة من أكلٍ، وشربٍ، ونومٍ، حياةً أخرى عقليةً، فهم يخصصون جزءاً كبيراً من وقتهم لاستخدام عقولهم في حياة علمية، أو أدبية كرجال الجامعات والباحثين في العلوم على اختلاف أنواعها، والفلاسفة الذين يجدون للبحث وراء كنه العالم والذين يقضون كثيراً من أوقاتهم في المعامل يبحثون ويجربون ويبتكرون...
وهذا النوع من الحياة أرقى من نوع الحياة الأولى؛ لأنها جمعت بين الحياة المادية والعقلية، وجمعت بين السعادة المادية والسعادة الفكرية، ولا شك أنَّ اللغة العقلية الفكرية.
أمتع وأنفع وأطول، ولكن مع كل هذا لا يرضى الإسلام عن هذه الحياة _أيضاً_ لأنه يرى فيها جفافاً؛ لخلوها من القلب والعاطفة؛ ولأن أصحابها كثيراً ما تلهيهم علومهم عن التفكير في إلههم، وإذا فكروا فيه فكروا بنوع من الإنكار، أو من الإلحاد أو الاستخفاف؛ أو عدم الاكتراث.
ومن هؤلاء العلماء من بلغ تقديسهم للعقل، وحصرهم أنفسهم في قوانينه أن ساروا في حياتهم على الأخلاق التي يرتضيها العقل وحده، فيعدلون مع الناس ومع أنفسهم؛ لأن هذا أنفع للمجتمع ولهم بحكم عقلهم، ويلتزمون الصدق ويقومون بالواجبات الفردية، والاجتماعية؛ لأنهم يرون فيها الخير لأنفسهم ولمجتمعهم بحكم العقل فهم فضلاء بالعقل، خيرون بالعقل، ولا يلتزمون بشيء ولا يسيرون على منهج إلاَّ إذا ارتضاه العقل وحتى هذا _ أيضاً _ لم يرتضِهِ الإسلام؛ لأن الفضائل إذا صدرت عن العقل وحده خلت من الحرارة، وخلت من القوة التي يتطلبها الدين.
ولذلك لما سئل رسول الله عن قوم في الجاهلية أتوا بأعمال فاضلة من كرم وشجاعة أبى أن يعترف لها بقيمة؛ لأنها لم تنبع من المنبع الذي يرتضيه الإسلام.
إنما يريد الإسلام حياة فيها مادة، وفيها عقل، وفيها روح، وبعبارة أخرى إنَّ الإسلام يلاحظ أنَّ الإنسان ركب من عناصر مختلفة، ولا يمكن أن يسعد إلاَّ إذا عاش عيشة تُغَذِّي كل عنصر من عناصره.(1/12)
ولتوضيح هذا نقول: إنَّ في الإنسان عنصراً من عناصر النبات في خواصه وطبائعه، فهو يبحث عن غذائه في الأرض كما يبحث النبات، وتؤثر فيه الفصول الأربعة كما تؤثر في النبات، ولا بُدَّله من هواء وماء كالنبات، فلا بُدَّ لسعادة الإنسان أن يُغَذِّي هذا العنصر النباتي فيه.
كذلك في الإنسان عنصر حيواني؛ فهو يتحرك بالإرادة كما يتحرك الحيوان، وله شهوات وغرائز، كما للحيوان شهوات وغرائز، يتشهى الأكل، ويشتهي الألفة، ويتشهى الاجتماع ببني جنسه، وفيه غرائز الخوف، وحفظ الذات، وحفظ النوع، ونحو ذلك؛ فلا بُدَّ لسعادته من أن يحيا هذه الحياة الحيوانية _أيضاً_.
وفي الإنسان عنصران امتاز بهما عن النبات والحيوان:
أحدهما عنصر العقل: والعقل _ وإن ظهر في شكل بدائي بسيط ساذج في الحيوان _ فهو في الإنسان أعلى وأرقى وأتم، وبه استطاع أن يَسُود الحيوان، ويسخِّره لمنفعته، وبالعقل استطاع أن تكون له قوةٌ أقوى من الأسد، ومكرٌ أقوى من الثعلب، كما استطاع أن يتغلب على الحيوانات التي هي أقوى منه جسماً، وأوفر حظاً، فتغلب به على الفيل بأنيابه، وعلى الجمل بضخامته ونحو ذلك؛ فلا بُدَّ له _ أيضاً _ من أنْ يعيش عيشة فيها غذاء هذا العنصر العقلي، فيفكر ويتأمل، ويقرأ، ويكتب.
والعنصر الآخر الذي يمتاز به عن النبات والحيوان هو عنصر الروح، وهو غير عنصر العقل.
هذا العنصر الروحي أساسه الدين والاعتقاد بإله واحد هو ربه، ورب العالمين، منه يستمد القوة، ومنه يستمد الحياة، ومنه يستمد وسائل الحياة.
وبهذين العنصرين عنصر العقل والروح استطاع الإنسان أنْ يُنَظِّم عنصر النبات والحيوان فيه، وأن يُنَظِّم، غرائزه، ويلطفها، ويهذبها، ويخضعها لأمرهما.(1/13)
السعادة _ في نظر الإسلام _ يجب أن تتوفر بالأخذ بحظ من كل عنصر من هذه العناصر الأربعة أخذاً معتدلاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لا يرضى عن تعذيب الجسم، وحرمانه من ملذاته، ولذلك كره التبتل وقال: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]الأعراف: 32.
وكره حياة حيوانية لا عقل فيها، وعَابَ على قوم أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، وحث على العلم وطلبه، والتفكير في خلق السموات والأرض وما فيها، وحرص على العنصر الرابع وهو عنصر الروح؛ فقرر أنَّ الحياة إذا خلت من العنصر الروحي كانت حياة تافهة لا قيمة لها.
والناس إزاء هذه العناصر مختلفون اختلافاً كبيراً، فمنهم من غلب عليه عنصر النبات والحيوان؛ فكان شهوانياً، ومنهم من غلب عليه عنصر العقل؛ فكان عالماً أو فيلسوفاً، ومنهم من غلب عليه عنصر الدين فكان متصوفاً، ولكن خير حياة رسمها الإسلام هي الحياة التي اعتدلت فيها كل هذه العناصر ولم تفقد واحداً منها.
والعلم لا يكفي في الإسعاد لا في إسعاد الفرد ولا في إسعاد المجموع، لقد مَلأَ العلم الدنيا آلات وأدوات واختراعات ونظريات في السياسة والاجتماع، ووصل في تقدمه إلى تحطيم الذرة، ولكن هل كفى هذا في إسعاد الناس؟
إن العلم وحده صالح لأن تستخدمه في الخير كما تستخدمه في الشر، فهو كالسكين تستخدمه في القتل فيضر، والذي يحدد استخدامه في المنفعة هو الروح التي يعبر عنها دائماً بالقلب.
إن العلم يستطيع أنْ يرقِّي وسائل الخير كما يستطيع أن يرقِّي وسائل الشر، قد كان الناس قديمًا يَقْتُلُون بالعصا والحجارة ونحو ذلك، فلمَّا تقدم العلم قتلوا بالكهرباء، والغازات الخانقة، والطائرات، والغواصات، والقنابل الذرية.(1/14)
إنما الذي يستطيع أن يحد من شر العلم هو الروح، وهو الدين، وهو الإيمان بإله يحاسب الناس على أعمالهم، ويطلع على ضمائرهم.
إنَّ الدين الصحيح يُغَذِّي الشعور بالتسامي، والطموح الدائم إلى الرقي، ويعالج الشعور بالنقص، ويحارب الميل إلى التدني.
والدين الصحيح ينقل النفس مما يعتريها من الحزن، والإحساس بالفراغ، والقلق الذي يعتري الإنسان إذا لم يجد سنداً يستند إليه، ينقلها من ذلك كله إلى شعور بالأمن، والطمأنينة، والاستناد إلى قوة ليس فوقها قوة.
إنَّ الدين الصحيح يُشْعِر الإنسان بالاتصال بعالم روحي واسع لا يقاس به عالم المادة؛ فإنْ كان العلم يحضر الإنسان في المادة وفروعها فالدين يضم إلى هذه المادة أكبر منها، وبذلك يتسع أفق صاحبه أضعافاً مضاعفة.
لقد أفهمتنا الحياة أن السير على قوانينها الطبيعية يكسب الراحة والسعادة، وأن كل سأم وقلق وملل واضطراب سببه مخالفة القوانين الطبيعية في جزء من أجزائه، وإذا كانت طبيعة الإنسان مكونة من هذه العناصر الأربعة: عنصر النبات والحيوان والعقل والروح _ فنقصان عنصر منها لا يمكن أن يحقق السعادة بالأخذ(1) بحظ وافر من كل عنصر من هذه العناصر وامتزاجها امتزاجاً متعادلاً لا يطغى فيه عنصر على عنصر.
وهذا نوع الحياة التي يرتضيها الإسلام.
البرنامج اليومي للسعادة (2) للأستاذ أحمد أمين
إذا صحوت من نومك، غسلت وجهك وأفطرت، وإني لأتمنى أن يكون لكل إنسان فطور روحي يهتم بالمحافظة عليه قدر اهتمامه بالفطور المَعِدِيّ؛ فليست الروح أقل شأناً من المعدة، فلماذا نحافظ على مطالب المعدة، ونحفل بها، ولا نحفل بمطالب الروح؟!
__________
(1) لعل فيه سقطاً وهو: (إلا) فيكون الكلام: (إلا بالأخذ ....)(م).
(2) فيض الخاطر، 9/ 146 _ 148.(1/15)
إن إفطارك كل يوم يزيد جسمك قوة، وإفطارك الروحي يزيدك قوة وسعادة، ونجاحك في الحياة اليومية وسعادتك فيها يتوقفان على هذا الغذاء الروحي؛ لأن السعادة تعتمد على إرادتك، وموقف عقلك أكثر مما تعتمد على الحوادث نفسها؛ فيجب أن نعدِّل أنفسنا حسب الأحداث التي تحدث كل يوم؛ لنبعد عنا الشقاء.
وإن إرادتي تستطيع أن تبعد التسممات التي تسممها الأفكار للعقل، والإرادة هي التي تستطيع _ أيضاً _ أن تضع حدَّاً للخوف، ولهياج الأعصاب اللذين يضايقان الإنسان.
والإرادة هي التي تستطيع أن تقف الغضب، وتضع حداً للكبر، والإرادة هي التي تلطف السلوك مع الذين تعاملهم، وتقضي على الخلافات التي بينك وبين عملائك؛ فإذا الذين بينك وبينهم صداقة حميمة.
وروحُك القوية التي تغذيها دائماً بالسوائل الروحية هي التي تمنعك من غش الناس وخداعهم، وروحك الصحيحة هي التي تتناغم مع معاملات الناس؛ فتُسْعِدُهم وتسعد نفسك، وهي التي تجعل حياتك مع أسرتك وجيرانك وعملائك ناعمة لطيفة، كأنها الماكينة المزيتة، وبدونها تكون ماكينة جعجاعة؛ لأنها من غير زيت.
ومن هذا الغذاء الروحي صرفُك كل يوم نحو نصف ساعة في آخر اليوم وتحاسب فيه نفسك ماذا صنعت، وكيف تتجنب الأغلاط التي كانت؟
إن كثيرين مغمورون إما بالعمل المتواصل في جمع العلم أو جمع المال، ولكنهم مع ذلك عبيد مطامعهم، وخير من ذلك كله أن يتفرغوا بعض الوقت إلى أنفسهم؛ فذلك يضمن لهم سعادة أكثر من عملهم ومالهم.
إن سكون الإنسان إلى نفسه غذاء روحي خير من العمل المتواصل، وخير من جمع المال.
وهذا الغذاءُ الروحيُّ إذا تغذيته صباح مساء حملك على أن تعفو عن المسيء وأن تنظر إلى إساءته كأنها نتيجة طبيعية لبيئته وحالته، وتقدر أنك لو كنت مكانه لك مزاجه ولك بيئته لفعلت فعلته.(1/16)
والغذاء الروحي يخفف من مطامعك، ويجعلك ترضى عما حدث في يومك في مأكلك ومشربك وعملك وما قابلت من أناس، ويجعلك تختم يومك عند محاسبتها بأنه كان يوماً سعيداً يضاف إلى حلقة الحياة السعيدة.
ويخطئ من ظن أن المال وحده يسبب السعادة؛ فإن كان المال عاملاً من عوامل السعادة يساوي عشرة في المائة _ فالحالة النفسية تسبب من السعادة التسعين في المائة الباقية، وكم من الناس نراهم يجدون(1) وراء الربح وقد بلغوا منه مبلغاً عظيماً، ومع ذلك هم أشقياء بروحهم ونفسهم!
ويحكون أن سليمان _ عليه السلام _ أوتيت له كنوز الأرض، وبنيت له قصور فخمة، ومع ذلك كتب يقول: =إن هذا كله عبث ولا قيمة إلا لسعادة الروح+.
وربما كان قلب الطفل أسعد حالاً من كثير من الناس؛ فإنه يبتهج لطلوع الشمس، ويبتهج للعبه الصغيرة يلعبها، ويبتهج للألعاب الرياضية، ويعجب من الطير تطير في السماء، ويفرح للمناظر الطبيعية الجميلة: من منظر بحر، ومنظر جبل، فإذا نحن كبرنا فقدنا هذه العواطف الجميلة، وجفَّت نفوسنا لعدم غذائها، وإذا حضرتنا الوفاة تبين لنا أننا كنا نعيش في أوهام.
ولا شيء يغذي الروح أحسن من الحب بمعناه الواسع، فحب الخير للناس، وحب المناظر الجميلة، وحب إسعاد الناس ما أمكن، كل هذا غذاء.
إن بعض الناس منحوا من الملكات ما يجدون معه في كل شيء غذاء لروحهم، في الزهر ونضرته، والماء وجريانه، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها.
وبعض الناس يرى أن هذا خيال فاسد لا يهمهم إلا المال وجمعه، أو الشهوات وإرواؤها، أولئك قد عميت قلوبهم، كما عميت في بعض الناس أبصارهم.
إن الحياة الروحية تجعل لكل شيء طعماً جديداً غير طعمه المادي، فتجعل للعلم طعماً، وللمناظر طعماً، وللعواطف طعماً، لا يدركه إلا من ذاقه.
__________
(1) لعلها: يَجْرُون (م).(1/17)
وهو بهذا الطعم يجد في الوحدة أحياناً لذة قد لا تقل عن لذة الاجتماع بالناس؛ لأن نفسه الروحانية ليست فارغة فراغ النفس المادية.
ومن الأسف أن العالم اليوم قد كسب كثيراً بمخترعاته وصناعاته، ولكنه _أيضاً_ خسر كثيراً في روحانيته ومعنوياته، ولو رقى قليلاً في روحانيته ما كان هذا الصراع العنيف بين الأمم، ولا كانت حروب قاسية، ولا قنابل ذرية غاشمة.
إن العالم لا يصح إلا إذا تعادلت فيه يدُه وقلبُه وعقلُه، فإذا اختل توازنه فيها زاد شقاؤه، وهو اليوم صَنَاعُ اليدين، قوي العقل، ضعيف القلب، وهذا ما سبَّب شقاءه، وليس له علاج إلا أن يبحث عن منهج تتعادل به هذه القوى الثلاث، ثم يسير عليه.
المثقفون والسعادة(1) للأستاذ أحمد أمين
قرأت قول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقرأت قول الآخر:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيت مذاهبه
... وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وَصَيَّر العالِم النحرير زنديقا
وقول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها
... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقول ابن نباته:
من لي بعيش الأغنياء(2) فإنه
... لا عيش إلا عيش من لم يعلم
وقرأت كثيراً مثل هذا في الشعر العربي يدور حول لعنة العالَم(3)؛ لأنه يعذب العالِم، ويسعد الجاهل.
فتساءلت: هل هذا صحيح؟ هل العلماء في جملتهم أشقى من الجهلاء؟ وهل العلم يسبب الشقاءَ، والجهلُ يسبب السعادةَ؟
إن كان هذا صحيحاً، وكان العالم إنما يسعى وراء السعادة فالنتيجة المنطقية لهذا أنه يجب علينا محاربة العلم، ونشر الجهل، وإغلاق المدارس، وعدُّ تأليف الكتب جريمة، وطبعها جريمة، والجامعة جريمة، وكل حركة علمية جريمة؛ لأنها تبعد من السعادة التي هي غاية الإنسان بطبعه، أو على الأقل يجب أن تكون غايته.
__________
(1) فيض الخاطر 3/76 _80.
(2) هكذا في الأصل ولعلها: الأغبياء.
(3) لعل المقصود: (العِلْم) (م).(1/18)
إذاً فلا بُدَّ أن يكون أحد الرأيين خطأً، أَمَا والناس يكادون يجمعون على فضل العلم، وأنه وسيلة من وسائل السعادة فوجب أن يكون الرأي الأول باطلاً، ولكن أين وجه البطلان؟
وجه البطلان من نواحٍ عدة:
أولها: سوء تصور الناس للسعادة: فالرأي السائد فيها أنها حياة كسل لا يكدرها عمل، وحياةُ حقوق لا واجب فيها، وحياةُ لذة مشتعلة لا خمود لها، وأكل شهي من غير عناء، وتنوعُ ملاذٍّ من غير انقطاع، وارتواء باللذات من غير جهد، وبُعْدُ الآلام من غير أن يتعب في إبعادها، وحضورٌ لكل ما يخطر بباله من مسرة من غير نصب في جلبها، ونحو ذلك.
وهو تصور فاشٍ بين الناس حتى عقلائهم، ومن لم يقله جهاراً اعتنقه سراً، ومن لم ينله طمع فيه، وتحرق شوقاً إليه، ومن حُرِمه في الدنيا أمَّله في الجنة، وجعل عبادته وسيلة لإدراكه.
وهو تصور لمعنى السعادة باطل، وفهم خاطئ؛ وإني لأتخيل حياة من هذا النوع أشبعت فيها كل الرغبات من غير جهد، وأتصور رجلاً أُجري عليه كل أنواع النعيم: من قصور فخمة، وحور، وولدان، وكل ما تشتهي الأعين، وتلذ الأنفس، فأجده بعد قليل قد صرخ من السعادة، واشتاق إلى الشقاء، وإن شئت فقل: إنه يبحث عن سعادته في شقائه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويطلب الفول، والعدس، والبصل بدلاً من المن والسلوى، ويفضل المرأة الشوهاء على المرأة الحسناء، ويشتهي جلسة على التراب بدل الأرائك والحرائر، ويتمنى ساعة عذاب يتقي بها شر هذا النعيم المقيم.
هذا هو الإنسان، وهذه طبيعته، ليست سعادته في هدوء متضامن، ولا في ركود مستمر، إنما هي كما قال القائل:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا(1/19)
والسعادة إنما هي في السعي للغرض أكثر منها في الغرض، والطريق إلى الغاية هو السعادة لا الغاية، وإنما يسعد الإنسان باستخدام قُواهُ وملكاتِهِ لبلوغ غايته؛ فإذا بلغها تفتحت له غايات جديدة، وبذل فيها جهوداً جديدة، وظهر في أثناء الطريق صعوباتٌ استخرجت أقصى الجهد في التغلب عليها، فشعر بلذة الجهد، ولذة الغلبة، ولذة اعتداده بشخصيته، واستخدامه ملكاتِه، واستكماله نَفْسَه أكثرَ من لذاته بالغاية نفسها.
فلما تصور الناس السعادة بمعناها الخامل الذي ذكرنا نظروا فوجدوا كثيراً من العقلاء والعلماء محرومين منها، فأفاض المحرومون في الشكوى، وصبوا على العالم(1) سخطهم، ولو حسبوا حساب لذاتهم في السعي، ولذتهم العقلية في فهم الكون؛ ولذتهم في الكد في الطريق، وإن لم يبلغوا الغاية، ولو وزنوا بالميزان الحقيقي سعادة الجهلاء، ولم يبالغوا في تقديرها، لو فعلوا كل ذلك لصححوا حكمهم، وأدركوا خطأهم، ولقللوا من سخطهم على الزمان، ولعنتهم للدهر، وعتبهم على القدر.
وهبْ أن العلماء أشقى من الجهلاء، وأن العالِمَ لم يسعد بعلمه، بل ساءت معيشته بعلمه، وأن علمه كان نقمة عليه، وأن العلم وسع نظره؛ فأدرك واجباته وتبعاته، وأرهف حسه؛ فجعله يألم مما لا يألم منه الجاهل، وأبعد طموحه؛ فصار لا يرضى بما يرضى به العامي، ووسع حوض لذته(كما عبر الفرنج) فأصبح لا يملؤه إلا الكثير، وقد كان _ وهو جاهل _ كالطفل، حوض لذته ضيق يملؤه القليل، وكبرت نفسه، وبعدت غايته، فأصبح يدرك أن ما ناله من اللذائذ ناقص مهما كان.
__________
(1) لعله: العلم (م).(1/20)
هبْ كل ذلك كذلك، فهناك الخطأ الثاني الخطير، وهو مقياس الأشياء بمقياس الفردية؛ فعلى مرِّ آلاف السنين وصل العقلاء، والعلماء، والنوابغ إلى نتيجة باهرة تِلْوَ نتيجة باهرة، وإلى مخترع لنفع الإنسانية تلو مخترع، حتى وصل العالَمُ بفضل هذه المجهودات والمخترعات إلى حضارته الحاضرة، ومدنيته الحديثة، وكان سعي العلماء في طريقهم شاقاً عسيراً، وقامت في وجوههم صعوبات يعجز القلم عن وصفها، وذهب كثير منهم ضحايا في سبيل غايتهم، ولم يكونوا يتحملون هذه المشقات، والتضحيات في سبيل فردهم، وذاتيتهم، إنما يتحملونها في سبيل الجمعية القومية، أو الإنسانية، وكانوا يتلذذون من تضحيتهم أكثر من تلذذ المادي بشهواته؛ فهب أن العلماء شقوا أكثر مما شقي الجهلاء، وسعدوا أقل مما سعد الجهلاء، فماذا يضيرنا ما دام العالم كان أسعد وكان أرقى، وكان في جملته أصلح؟
فلا يصح للعلماء أن يبكوا لشقائهم أفراداً ما دامت الجمعية الإنسانية تستفيد من جِدِّهم وشقائهم، كما لا يصح أن نسمع لشكوى فرد نزعت ملكيته لفتح شارع عام، أو جنود قتلوا في سبيل انتصار أمتهم، أو أطباء ماتوا في سبيل مكافحة وباء، بل لا يصح أن يتقدم أحد من هؤلاء بالشكوى؛ لأن العالم علمنا بطريق سيره أن العبرة بتقدم المجموع ولو فَنِيَ الأفراد في أثناء سيره، والفرق بين أمة منحطة، وأمة راقية نظرةُ الأولى إلى صالح بعض الأفراد، أو بعض الأحزاب، ونظرة(1) إلى الصالح العام.
__________
(1) لعل في الكلام سقطاً: وهو: كلمة (الثانية) بعد كلمة (نظرة) فيكون الكلام: (ونظرة الثانية..)(م).(1/21)
فغلط العلماء، والعقلاء، والمخترعين الذين يشكون من أنهم نظروا إلى أنفسهم كأنهم آلات مستقلة، ولم ينظروا إليها كأنهم تروس في الآلة الضخمة، أو آلة الإنسانية؛ وخطؤهم _أيضاً_ نشأ من اعتقادهم أن علمهم وثقافتهم وقوة عقلهم _ إنما ركبت فيهم لنفع أفرادهم، وأن غايتهم استفادتهم منها لنفع أشخاصهم، وليس ذلك بصحيح؛ فكل الملكات الممتازة في الأفراد، وكل قدرة على الاختراع، والتثقيف وبث المبادئ إنما منحت للأفراد لخدمة الجماعة وترقيتها؛ فمتى أدت هذا الغرض فلا يهمنا بعد عاش أفرادها في بؤس، أو رخاء، في نعيم، أو شقاء.
ولكن... من طبيعة الثقافة أنها ترقي العقل، وترقي المشاعر، ومتى رقى العقل، والمشاعر كان صاحبها أقدر على اللذة، كما يكون أكثر تعرضاً للألم؛ فمتى وجد في ظروف مناسبة كان أسعد من الجاهل، ومتى وجد في ظروفٍ غيرِ مناسبة كان أشقى من الجاهل، والمثقف بعقله الراقي كثير التساؤل: ما الحياة؟ وما الغرض منها؟ وما قيمتي فيها؟
ثم هو واسع الطموح كثير التطلع لحالة خير من حالته؛ وكلما أدرك حالة تطلع لما هو خير منها ثم هو جيد التقدير، يقدر نفسه، ويقدر من حوله؛ فيرى من حقه، ومن حق ثقافته، ومن حق سعة عقله _ أن ينعم في الحياة المادية بأكثر مما ينعم الجاهل؛ ويرى واجباً على المجتمع الذي يعيش فيه أن يكرمه نظير علمه الذي يخدمهم به، فتوفِّر له وسائل العيش، ووسائل السعادة حسب نظره؛ فلماذا تطلب منه التضحية فقط، ولا يطلب من الأمة أن تضحى بجزء من مادتها؛ ليضحي هو بأغلى من ذلك: بعقله، وصحته، ونفسه أحياناً؟(1/22)
هذه هي وجهة نظره، وهذا هو سبب شقائه، وهي _ إن كانت وجهة نظر صحيحة معقولة _ إلا أنها معقدة، وتعقيدها آتٍ من قلة الثقافة في العالم، لا من كثرة الثقافة، فغير المثقفين _ وهم السواد الأعظم _ لا يُقَدِّرُون عظم ما يبذله المثقف، وهم يقدرون على مقدار عقلهم القاصر، وهم الذين في يدهم السلطة والمال، فهم معذورون إذا لم يوفروا للعالم، والنابغة وسائل العيش حسب نظره وتقديره هو؛ ومن أجل هذا كلما انتشرت الثقافة في أمة، وتولَّى زمامهم مثقفوها كان علماؤها ونوابغها أسعدَ حالاً.
وكذلك من أسباب شقائهم عدم تنظيم قوى المجتمع على قواعد معقولة، والفوضى في تقديم الأشياء والمعاني، وتمسك من بيدهم السلطة بالتسعيرة القديمة.
ولكن العالم يسير إلى تنظيم كيانه، وإلى إصلاح عيوبه، وإلى ضبط فوضاه، وإذ ذاك _ ونرجو أن يكون قريباً _تكون ثقافة العالم، ونبوغ النابغ، وأدب الأديب، وعقل العاقل موضع التقدير.
ولكن إلى أن يتم هذا لا بدَّ أن ننظر لصالح المجتمع أكثر من صالح الأفراد، وأن ندعو إلى انتشار الثقافة لا انكماشها، وكثرة العلماء لا قلتهم، وألا نعبأ بمن يشقى من العلماء إذا كان في شقائهم سعادة في علمهم، وشعورهم برقيهم.
ثانياً: مقالات في التربية والتعليم
5_ العلم بين الأساتذة والطلاب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
6_ إلى أبنائنا المعلمين الأحرار: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
7_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
8_ كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(2): للعلامة محمد البشير الإبراهيمي(1/23)
العلم بين الأساتذة والطلاب(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين(2)
في هذه الفترة بين عام دراسي أوشك أن ينقضي، وبين عام جديد يستقبله المدرسون والطلبة بعد أشهر الاستجمام رأيت أن أتحدث إلى إخواني مدرسي المعاهد، وأبنائهم الطلبة بما ينبغي للفريقين أن يطيلوا التأمل فيه، عندما يفرغون من فترة الاستجمام؛ استعداداً لاستئناف عهد جيد في الحياة الدراسية.
إن من أجمل ما فهمه المسلمون من معاني =العلم+ قول أبي حامد الغزالي فيه: =إنه عبادة القلب، وصلاة السر، وقربة الباطن إلى الله، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر من الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن، وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته من خبائث الأخلاق+.
وهذا الفهم الجميل لمعنى العلم في الإسلام إذا كان ينبغي لمدرسي المعاهد الأزهرية وطلبتها أن يجعلوه دستوراً لهم في حياتهم الدراسية في جميع المعاهد؛ فإن أولى ما ينبغي لهم أن يتخذوه دستوراً في هذا المعهد الذي أخذ يتجدد فيه نظرُ الأمة إلى جميع أوضاعها استعداداً لاستئناف حياة سعيدة مباركة النتائج، ويانعة الثمرات إن شاء الله.
من المأثور عن رسول الرحمة "أنه كان يقول لأصحابه _ وهم الطبقة الأولى من طبقة العلم في تاريخ الإسلام _: =إنما أنا لكم مثل الوالد لولده+.
__________
(1) من كتاب أحاديث في رحاب الأزهر، لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين، جمعها وحققها علي الرضا التونسي ص92_ 95. ومجلة =الأزهر+ الجزء العاشر _ المجلد الرابع والعشرون، غرة ذي القعدة 1372، وقد كتبها الشيخ لما كان شيخاً للأزهر.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/24)
وإن المدرس في المعاهد الإسلامية ينبغي له أن يستقبل سنته الدراسية المقبلة بهذه الروح العالية، وبهذا الأدب الإسلامي الرحيم؛ فيكون لطلبته مثل الوالد مع الولد، روى الذين دوَّنوا ترجمة الإمامِ الفاتحِ أسدِ بن الفرات، أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة كان الإمام محمد بن الحسن إذا رأى تلميذه أسد ابن الفرات غلب عليه النوم وهو يسهر في تلقي العلم عنه نضح على وجهه رشاشاً من الماء؛ ليجدد له نشاطه؛ شفقة منه عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم.
ولولا أن محمد بن الحسن تأدب بأدب الإسلام، وعمل بالمبدأ المحمدي في أن يكون لتلميذه كما يكون الوالد لولده لانتهز فرصة غلبة النوم على تلميذه، وأرجأ الدرس على الليلة الثانية، هذا ما نعلمه من مقام الإمام محمد بن الحسن في الدولة وكثرة أعماله العلمية، لكنه لما كان يعلم أن من أدب الإسلام أن يكون التلميذ بمنزلة الولد من الوالد التزم مع أسد بن الفرات هذا الأدب الرحيم، وكان من نتيجة ذلك نبوغ أسد بن الفرات، وقيامه للملة الإسلامية بما لا يقوم بمثله إلا أفذاذ النوابغ من صفوة البشر.
وهذا الشيخ ابن التلمساني، أحد كبار علماء شمال أفريقيا سأله السلطان عن مسألة فقال: إن تلميذي فلاناً يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه وأحسن منزلته، وكان ابن التلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، لكنه؛ لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده أراد أن يُنَوِّه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقاً.(1/25)
والطلبة في دستور الإسلام عرفوا كيف يقابلون هذا العطف الأبوي من أساتذتهم بما يكافئه من حرمة ومحبة وإجلال، ومن أقدم الأمثلة على ذلك ما رواه الشعبي، أن زيد بن ثابت ÷، صلّى على جنازة، ثم قربت إليه بغلته ليركبها، فبادر إليه عبدالله بن عباس، فأخذ بزمام البغلة؛ ليساعده على الركوب، فقال له زيد: خل عنه يابن عم رسول الله، فأجابه ابن عباس _ رضي الله عنهما _: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
وقد حافظ ذرية ابن عباس على هذا الأدب من التلاميذ نحو أساتذتهم، بعد أن صار بنو العباس ملوك الدنيا، فقد نقل برهان الإسلام الزرنوجي، في كتاب تعليم المتعلم، وهذا الكتاب ترجمه =رولاند+ إلى اللغة اللاتينية وطبعه في مدينة =أوتراخت+ بألمانيا قبل نحو مائتين وخمسين سنة _ أن أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي، ليعلمه العلم والأدب، فرآه يوماً يتوضأ وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعتب الخليفة على الأصمعي؛ لأنه لم يأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل رجل أستاذه باليد الأخرى، ورأى أن تقصير ابنه في ذلك تقصير في أدب التلميذ مع أستاذه.
وروى الزرنوجي في هذا الكتاب _ أيضاً _ عن شيخه برهان الدين، صاحب الهداية أن أحد كبار أئمة بخارى وهو في حلقة درسه في المسجد رأى ابن أستاذه يمر أمام باب المسجد، فقام له؛ تعظيماً لحق أستاذه.
وقد علمنا من سيرة ابن خلدون، أنه لما رزئ بوفاة كبار شيوخه وكان منهم قاضي القضاة محمد بن عبدالسلام، والرئيس أبو محمد الحضرمي، والعلامة محمد بن إبراهيم الأبلي _ ضاق به وطنُه؛ فترك مقامه الوجيه الذي وصل إليه في قصر الإمارة، ورحل عن تونس إلى الجزائر والمغرب الأقصى؛ لأن مقام أساتذته كان في نفسه فوق كل مقام.
وهذه المحبة الصحيحة التي يكنها التلميذ لأستاذه هي التي حملت العالم أحمد بن القاضي على أن يقول في شيخه المنجوري: =وصارت الدنيا تصغر بين عيني، كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه+.(1/26)
ومن ذلك قول ابن عرفة:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة
... وإيضاح إشكال بأحسن صورة
الأبيات، فيجيبه تلميذه الأبي بقوله:
يميناً بمن أولاك في العلم رتبة
... وزان بك الدنيا بأحسن زينة
لمجلسك الأعلى كفيل بكلها
... على حينما عنه المجالس ولت
ووقعت خروج جنازة أستاذنا الشيخ عمر بن الشيخ من منزله ليصلى عليها في جامع الزيتونة، ذكرت خروجه منه لدرس كتاب المواقف، والشيوخ ينتظرونه بموضع الدرس، وذكرت قول أحد الأساتذة في قصيدة ألقاها عند ختم الكتاب:
إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه
... تعالَ التَقِطْ دُرَّاً بملء جفان
ففاضت عيناي بالدموع.
إن هذا الأدب الإسلامي الذي جعل من الطلبة أبناء للأساتذة كفلذات أكبادهم، وجعل من الأساتذة آباء لتلميذهم، يعطفون عليهم أكثر من عطف الآباء على أبناءهم _ هو الأدب اللائق بنا أن نرجع إليه لنجدد في تاريخنا عهداً سعيداً، فننعم به ونسعد بنعمته، والطلبة الذين يكتسبون من دراستهم مثل هذا الأدب ينالون به من السعادة أضعاف ما ينالون به من دراسة العلم مهما تقدموا فيه.
إلى أبنائنا المعلمين الأحرار(1)
للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي(2)
أيها الأبناء البررة!
__________
(1) نشرت في العدد 94 من جريدة =البصائر+، 7 نوفمبر سنة 1949م، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/ 562 _ 565، وقد وجهها × لمعلمي جمعية العلماء في الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي.
(2) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له.(1/27)
وصفناكم _ في العدد الخاص بالمدارس _ بما أنتم أهله، وذكرناكم _ ذكركم الله في الملأ الأعلى _ بالخير والجميل، وأرسلنا إليكم تلك التحية الأبوية الخالصة صادرةً عن قلب يُكِنُّ لكم الحب والتقدير والشفقة، راجين أن يكون رجعُ التحية منكم واجباً يُؤَدّى على أكمل وجوهه، وعملاً يُحَقَّق على أكمل حالاته، وغايةً توصَل بأسبابها من أقرب الطرق، وبأنفع الوسائل، لا كلاماً يذهب مع الريح، ولا قشوراً من الأعمال تضيِّع الوقت، وتُبعد الغاية، ولا أنيناً من الشكوى والتسخط يذهب بالصبر ويوهن العزيمة وهما حلية الأبطال.
ها أنتم هؤلاء تبوأتم من مدارسكم ميادين جهاد؛ فاحرصوا على أن يكون كل واحد منكم بطل ميدان وها أنتم هؤلاء خلفتم مرابطة الثغور من سلفكم الذين حموا الدين والدنيا، ووقفوا أنفسهم لإحدى خطتين: الدفاع المجيد، أو موت الشهيد؛ فاحذروا أن تؤتى أمتكم من ثغرة يقوم على حراستها واحد منكم، فيجلب العار والهزيمة لجميعكم، واعلموا أنكم عاملون، فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيُّون عنها من الله ومن الأمة ومن التاريخ ومن الجيل الذي تقومون على تربيته كيلاً بكيل، ووزناً بوزن.
إننا _ يا أبنائي _ كنا أوَّل من نام، وآخر من استيقظ؛ فمن الحزم أن لا نقطع الوقت في العتاب والملام، والحرب بالكلام؛ فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض.
ومن الحزم أن نتحاسب على الدقائق، إذا تحاسب غيرنا على الساعات، وعلى الأيام إذا تحاسب غيرنا على الأعوام.(1/28)
إنَّ وراءنا من الزمن سائقاً عنيفاً، وإنَّ معنا من العصر وروحه زاجراً مخيفاً، وإنَّ أمامنا سبلاً وعرة، وصراطاً أدقَّ من الشعرة، وإنَّ عن أيماننا وعن شمائلنا عوائقَ من الدهر، ومعوِّقين من البشر، وإنَّ في طيِّ الغيوب من القدر المحجوب بوائقَ في أكمامها لم تفتق، وإنْ أدري أقريب أم بعيد ما أوعد الله الظالمين، ولكنني أدري أن العاقبة للمتقين، وأننا لا نغلب العوائق، ولا نتقي البوائق إلا بإيماننا بالله، ثم بديننا، ثم بلغتنا، ثم بأنفسنا ثم بالحق الذي جعله الله ميزاناً للكون، وقيوماً على الكائنات، ترجع إليه صاغرة، وتقف عنده داخرة.
إن التقصير في الواجب يعدّ جريمة من جميع الناس، ولكنه في حقنا يضاعف مرتين، فيعدّ جريمتين؛ لأن المقصر من غيرنا لا يَعْدَمُ جابراً أو عاذراً؛ فقد يغطي على تقصيره عمل قومه أو حكومته، وقد يقوم له بالعذر حاله الجاري على كمال مقنع.
أما نحن فحالنا حال اليتيم الضائع الجائع، إذا لم يسْعَ لنفسه مات؛ فإذا قصرنا في العمل لأنفسنا ولما ينفع أمتنا ويرفعها؛ فمن ذا يعمل لها؟ آلحكومة؟ وقد رأينا من معاملتها لنا أنها تمنع الماعون، وتداوي الحمى بالطاعون، وتبارز الإسلام بالمنكرات، وتجاهر العربية بالعدوان؛ فمن ضل منا _ مع هذا _ فقد ضل على علم، ومن هلك فإنما هلك عن بينة.
وإن لِما يبوء به المقصرون من الندامة لمرارةً تجتمع في العقبى مع الخسارة، فيكون منها حال من الحسرة يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج.(1/29)
وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا ونعيذكم بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها؛ وقد نهى ديننا الإسلام عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبيّن آثاره وعواقبه، وحض على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل والتواكل والإضاعة، فشرع لنا بذلك كله من شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس ما لم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية؛ وما أخذنا بذلك إلا ليأخذ بحُجَزِنا عن التهور في الكسل والبطالة، ويقينا تجرع مرارة الندم، وحرارة الحسرة.
قصر آباؤنا وأجدادنا في واجبات اقتضاها زمانهم، وفرطوا في حقوق تقاضاها منهم مكانهم بعد ما لاحت لهم النذر، وقامت عليهم الحجج، ودمغتهم البينات، فغالطوا في الحقائق، وكذبوا بالنذر، وموهوا بالزيف، وغشوا أنفسهم بالأماني والأحلام، وغشونا بالضلالات والأوهام، حتى مات من استيقظت شواعرُه منهم بحسرات الندم، ومات الغافلون منهم كما يموت الغُفْل من النَّعم، فلا حسرةُ أولئك أجدَت علينا شيئاً، ولا غفلةُ هؤلاء أفادتنا نقيراً، وإنما أضاف تفريطهم المخجل واجباتهم إلى واجباتنا، فأصبحت حملاً ثقيلاً، هو هذا الذي ننوء به وينوء بنا، هو هذه الأعباء المركومة التي نحاول النهوض بها، فيقيمنا الإيمان والأمل، وتُقعدُنا الكثرةُ والثقل.
وإن من الظلم تكليفَ جيل بواجبات أجيال، وإن من الجور أن يحمل القرن الأخير أوزار القرون الماضية.
ولو أنهم _ سامحهم الله _ قاموا بواجباتهم أو ببعضها، لخففوا عنا الكثير، وهوّنوا علينا العسير، كما خففنا نحن وهوّنا على الجيل الآتي، ولو أنهم غرسوا الشجرة لقرّبوا منا جني الثمرة.
هذه هي حالتنا _ يا أبنائي _ نهدم ونرفع الأنقاض، ونبني ونعمر في آن واحد، ونؤدّي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت على غيرنا في آن واحد، ثم نؤدّي الكفارات على ذنوب لم نجترحها.(1/30)
كل ذلك مع محاربة من الجار، ومشاغبة من الشريك في الدار، ومع وَشَل من المال لا يتمّ به العمل، ومثبطات من سوء الحال يتضاءل معها _ لولا الإيمان _ الأمل.
وإنها لحالة لا يثبت معها إلا المؤمنون الصابرون الصادقون المخلصون المحتسبون، المؤيَّدون بروح من الله، ونحن وأنتم كل ذلك إن شاء الله.
ها أنتم هؤلاء تربعتم من مدارسكم عروش ممالك؛ رعاياها أبناء الأمة وأفلاذ أكبادها؛ تديرون نفوسهم على الدين وحقائقه، وألسنتهم على اللسان العربي ودقائقه، وتسكبون في آذانهم نغمات العربية، وفي أذهانهم سر العربية، وتدبرون أرواحهم بالفضيلة والخلق المتين، وتروضونهم على الاستعداد للحياة الشريفة بعد أن تجتثوا من نفوسهم بقايا آثار المنزل الجاهل، والأب الغافل، وتقودونهم بزمام التربية إلى مواقع العبر من تاريخهم، ومواطن القدوة الصالحة من سلفهم، ومنابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين؛ فقفوا عند هذه الحدود، واجعلوها مقدّمة على البرنامج الآلي في العمل والاعتبار، وفي السبر والاختبار؛ واحرصوا كل الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم، واجعلوا الحقيقة الآتية نصب أعينكم، واجعلوها حادِيَكم في تربية هذا الجيل الصغير، وهاديكم في تكوينه، وهي: أن هذا الجيل الذي أنتم منه لم يؤتَ في خيبته في الحياة من نقص في العلم، وإنما خاب أكثر ما خاب من نقص في الأخلاق، فمنها كانت الخيبة، ومنها كان الإخفاق.
ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال، منطبقاً على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَة إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قويُّ الإدراك للمعايب والكمالات؛ فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر، فكونوا من الصابرين.(1/31)
واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو _ لا محالة _ ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه؛ لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل.
ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة.
أوصيكم بتقوى الله فهي العدّة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الروح والطمأنينة، وهي متنزل الصبر والسكينة، وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن.
وأوصيكم بالرفق والأناة في أموركم كلها، وبخفض الجناح للناس كلهم، وباتقاء مواطن الشبه، واجتناب مصارع الفضيلة، وما أكثرها في وطنكم هذا، وبإجرار الألسنة عن مراتع الغيبة والنميمة، وفطمها عن مراضع اللغو واللجاج؛ فهي _ لعمري _ مفتاح باب الشر، وثقاب نار العداوة والبغضاء.
وأوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نجم بالشر ناجمها، وهجم _ليفتك بالعلم والخير_ هاجمها، وسجم على الوطن بالملح الأجاج ساجمها؛ إن هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كدراً، وفرّقه هدراً، فلا الزّلال جمع، ولا الأرض نفع.
وأوصيكم بحسن العشرة مع بعضكم إذا اجتمعتم؛ وبحفظ العهد والغيب لبعضكم إذا افترقتم؛ إن العامة التي ائتمنتكم على تربية أبنائها تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة؛ فالصغيرة من أعمالكم تعدها كبيرة، والخافتة من أقوالكم تسمعها جهيرة؛ فاحذروا ثم احذروا...(1/32)
أي أبنائي! إن هذا القلب الذي أحمله يحمل من الشفقة عليكم، والرحمة بكم، والاهتمام بشؤونكم ما تَنْبَتُّ منه الحبال، وتنوء بحمله الجبال، وهو يرثي لحالكم من الغربة، وإلحاح الأزمات ويودّ _ بقطع وتينه _ لو أزيحت عللكم، ورقع بالسداد خللكم، ولكنكم جنود، ومتى طمع الجندي في رَفْهَنِيَّة العيش؟ وأسود، ومتى عاش الأسد على التدليل؟ وهو يشعر أن التدليل تذليل.
إنكم _ يا أبنائي _ رجال حركة؛ فلا تشينوها بالسكون، وأبطال معركة؛ فلا يكن منكم إلى الهوينا ركون.
وإنكم رجال جمعية العلماء؛ فشرفوا جمعية العلماء.
كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1)
للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
(1)
أيها الأبناء الأعزة !
إن هذه الحركة العلمية المباركة أمانةٌ في أعناقنا جميعاً، وعهد إلهيٌّ محتم الوفاء علينا جميعاً، فنحن في تحمله وفي وجوب الوفاء به سواسية، ليس صغيرنا بأقل تبعةً ولا أخف حملاً من كبيرنا.
ونحن في تحمل هذه الأمانة وأدائها أمام ربٍّ يعلم ما نخفي من النيات وما نعلن من الأعمال، وأمام أمة تعين على الوسائل، وتنتظر النتائج، وتحاسب على ما بينهما، وأمام تاريخ لا يغادر سيئةً ولا حسنةً إلا أحصاها، وأمام خصوم أشداء يحصون الأنفاس؛ ليوقعوا العقوبة ويترقبون العثرة؛ ليعلنوا الشماتة؛ فلنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الناس، ولنقدِّر موقع أقدامنا قبل أن نضع الأقدام، ولنجعل من ضمائرنا علينا رقيباً لا يغفل ولا يتسامح.
__________
(1) نشرت في العدد 132 من جريدة =البصائر+، 9 أكتوبر سنة 1950م، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/ 266 _ 269.(1/33)
إننا نزيد عليكم _ بعد الاشتراك في حمل الأمانة العامة _ باستحكام التجربة، وعرك الأيام، وعجم الحوادث، والتَّمرُّس بالخصوم، والصبر على المكاره، والاستخفاف بالحساد الذين أكل الحسد أكبادهم، فما بالينا أطاروا أم وقعوا؛ وملابسة الأمة على البر والجفاء، وعلى الإحلاء والإمرار، وعلى الخشونة واللين، وبأننا الغرض المنصوب للسهام؛ لأننا _ دائماً _ في مكان القيادة في الصفوف، فلا تصل الرمية إلى أحدكم إلا بعد أن نُثْخَن، ولا يبقى فينا موضع لسهم؛ فإذا رأيتمونا نَمَسُّكم بالشدة أحياناً، ونقسو عليكم في التثقيف فذلك لكي يخلص لنا من عشراتكم آحادٌ يخلفوننا في هذه الخلال إذا خلتْ أمكنتنا في المراكز الأمامية بعد أن يقطعوا من مراحل العمر ومقامات التدريب ما يؤهلهم لذلك.
أنتم في ميادين التعليم فرسان سباق، منكم المبتدي، ومنكم الشادي، وفيكم المغبر، وفيكم المتخلف، ولا يكشف عن جواهر الأصالة والعتق فيكم إلا هذه الأعمال التي واجهتكم في أطوار الحداثة والاقتبال، خيرةً من الله، فيها الخير واليمن، وتوجيهات منه، فيها السداد والنجح، وامتحاناً من زمنكم، فيه التربية والتمحيص، وفيه التمرس والاحتكاك؛ فإذا تكشَّف هذا الامتحان عن نتيجة صادقة كنتم غريبةً في الأجيال، وفلتةً في السنن.
وعذركم الشفيع في هذا التفاوت أنكم لستم أبناء مدرسة واحدة، تجمع وتوحد، وتقارب وتسدُّد، وأنكم لا ترجعون جميعاً إلى تربية منزلية، أحكمتها العادات الرشيدة، وأقرتها المصطلحات المفيدة؛ ولا إلى توجيه حكومي؛ يهيئكم للحياة، ويسوسكم بالمصلحة، ويروضكم على الرجولة، ويجمعكم على المنفعة.
وإنما أنتم أبناء زمن عقَّه آباؤكم؛ فعقكم، وأضاعوا حقه؛ فأضاع حقكم، وتنكروا له فتنكر هو لكم؛ فما افترَّت شفاهكم له عن ابتسامة إلا قابلها بالتجهم، ولا أزلفتم إليه بتحقُّق إلا عاملكم بالتوهم، ولا مددتم إليه كفَّ رغبة إلا ردَّها بالحرمان.(1/34)
أنتم _ في وضعكم الاجتماعي _ أبناءُ حياة ليس لكم في تسييرها يد، ووطن ليس لكم في أرضه مستقرّ، وجيل ليس لكم في تكوينه أثر، وتاريخ ليس لكم في تسطيره قلم، وقانون ليس لكم في وضعه شرْك، وحاضر ليس لكم في تدبير مستقبله رأْيٌ؛ فجئتم على هذه الصورة التي لا تأتي إلا فترات من الزمن.
وأنتم _ في وضعكم العلمي _ أبناء مدارس(1)، وجودها في زمان، وروحها في زمان، فهي من يقظتها في حلم، وهي مع جدّة الزمان في قِدَم، وهي لا تعطي من الحياة إلا صورَها الميتة، وهياكلها العظمية، وألوانها الحائلة؛ هذه المدارس التي بنيت بإرشاد القرآن، فأصبحت وهي أبعد شيء عن القرآن، وهدْي القرآن، وخلق القرآن، بل لا يُبْعد من يقول: إنها أصبحتْ معاول لهدم القرآن؛ لأنها لم تخدم القرآن، بهذه العلوم التي قالوا: إنها خادمة للقرآن، فلم تزكِّ النفوس التي جاء القرآن لتزكيتها، ولم تهيئها لسعادة الدنيا، ولا لسعادة الآخرة، ولم ترفع العقل من درجة الحَجر إلى درجة الاستقلال في التعقل، ولم تصحح موازينه في إدراك الحياة وفِقْه أسرارها.
وليت شعري: هل صححت دراسةُ المنطق في هذه المدارس _ بهذه الطريقة اللفظية العقيمة _ إدراكات العقول ومقاييسها، كما صححت دراسته العلمية إدراكات القدماء أو كما صححت إدراكات المعاصرين لماضي الأمم الأخرى؟ وهل طابت هذه المدارس لأخلاق أبنائها الذين أذووْا زهرات أعمارهم فيها؟ وهل أفاضت البيان في قرائحهم وألسنتهم وأقلامهم؟
ليس الذنب في هذه الحالة الأليمة ذنبكم، وليست التبعة فيها واقعة عليكم.
بل أنتم فرائس هذه الأخلاط القاتلة، وأنتم المجني عليكم لا الجناة، وإنما التبعة على الذين يملكون القدرة على التغيير، ثم لا يغيرون، وتواتيهم الفرص إلى الإصلاح، ثم لا يصلحون.
__________
(1) يشير إلى الحالة السيئة التي كان عليها التعليم الديني والعربي لأوائل هذا العهد، وربما يشير إلى ماكانت عليه أيام الاستعمار.(1/35)
إن كثيراً منكم في حاجة إلى الاستزادة من التحصيل لو تيسرت لهم أسبابه، وانفتحت في وجوههم أبوابه، ولكنهم انقطعوا عن التعلم اضطراراً، فشغلناهم بالتعليم اضطراراً؛ لأن حالتنا جميعاً _ وأمتنا معنا _ حالةُ اضطرار لا اختيار معه، وحالة شذوذ لا قاعدةَ له، وإن التعليم لإحدى طرق العلم للمعلم قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرّف مواهبه، وكيف يستزيد وكيف يستفيد، وكيف يَنْفُذ من قضية من العلم إلى قضية، وكيف يخرج منه من باب إلى باب؛ فاعرفوا كيف تدخلون من باب التعليم إلى العلم، ومن مدخل القراءة إلى الفهم، وتوسعوا في المطالعة يتسع الاطلاع، ولا يصدنكم الغرور عن أن يستفيد القاصر منكم من الكامل، والكامل ممن هو أكمل منه.
إن حاجتنا إليكم هي أن تنقذوا هذا الجيل الناشئَ من الأمية التي ضربت بالشلل على مواهب آبائهم، وكانت نقصاً لا يعوَّض في إنسانيتهم، ثم كانت سبباً في كل ما يعانونه من بلاء وشقاء، وأن تحببوا إليهم العربية، وتزينونها في قلوبهم، وأن تطبعوهم على التآخي والتعاون على الخير، وأن تربوهم على الفضيلة الإسلامية التي هي مناط الشرف والكرامة والكمال، وأن تأخذوهم بممارسة الشعائر الدينية صغاراً، حتى نأمن تضييعهم لها كباراً، وأن تزرعوا في نفوسهم حب العلم والمعلم، وحب الأب والأم، وحب بعضهم بعضاً، وحبَّ الله ورسوله والإسلام قبل ذلك ومعه وبعده.
لا يضيركم ضعف حظكم من العلم إذا وفر حظُّكم من الأخلاق الفاضلة؛ فإن أمتكم في حاجة إلى الأخلاق والفضائل؛ إن حاجتها إلى الفضائل أشد وأوْكد من حاجتها إلى العلم؛ لأنها ما سقطت هذه السقطة الشنيعة من نقص في العلم، ولكن من نقص في الأخلاق.(1/36)
أخشى أن تغيب عن بصائركم حقيقة ثابتة، وهي أنكم معلمون للصغار، وأئمةٌ للكبار، أولئك يأخذون من أخلاقكم وعلمكم، وهؤلاء يأخذون من أخلاقكم؛ فإذا راعيتم الجانب الأول، واعتقدتم أنكم معلمون للصغار _ وحسبُ المعلم أن يؤدّي وظيفته أداءً آليّاً، وأغفلتم الجانب الثاني فلم تبالوا بما يأخذه منكم استقامةً واعوجاجاً _ كان ضركم أكثر من نفعكم؛ وإن الذي يلوح لي من تتبع أعمالكم، وتقصّي أحوالكم أن كثيراً منكم عن هذه الحقيقة غافلون.
يسوؤني أن أرى في كثير مما يرجع إليّ من شؤونكم هِنَاتٍ يهوّنها عليكم الترخص، واتساع مجال الإباحة، وتغضّون النظر عن عواقبها إذا استشرتْ، وسرَت عدواها من بعض إلى بعض، وأصبحت وسماً لكم وتعريفاً بكم، وتزنونها بمعانيها عندكم لا بآثارها في الأمة، مما يدخل في معنى =الاستهانة بشعور الأمة+.
كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار(1)
للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
(2)
إن هذه الأمة _ يا أبنائي _ هي أمتنا، وهي رأس مالنا شئنا أو أبينا، وهي عوننا على العلم، وهي مدَدُنا وملاذنا، وهي نصرتنا ومعاذنا، وهي مناط قوتنا(2)، ومظهر أعمالنا؛ فعلينا أن نراعي شعورها في غير واجب يترك، أو محرم يؤتى، وأن نسير بها إلى الغاية في رفق وأناة.
لا أقول لكم: سايروها على الباطل، وجاوروها في البدع، وواطئوها على الضلال؛ فذلك ميدانٌ وَقَفْنَا فيه قبلكم موقف المُنْكر المتشدّد، ونازلنا أبطال الباطل حتى زلزلنا أقدامهم، ونكسنا أعلامهم، وقد أرحناكم ومهدنا لكم السبيل.
وإنما حديثنا فيما دون ذلك، مما مرجعه العادة لا الدين، وسبيله العرف لا السنة، ودرجته الكمال لا الضرورة.
__________
(1) نشرت في العدد 133 من جريدة =البصائر+، 23 أكتوبر سنة 1950م، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/ 270 _ 272.
(2) لو قال: بعد الله (م).(1/37)
ولنا في نبينا "القدوة الحسنة؛ فقد كان يجاري العرف الجاري ما لم يناقض عقيدة دينية أو حكماً شرعيّاً، وإذا توقف إصلاح الأمة على هجر الشهوات، والإمساك عن بعض المباحات فمن الواجب أن يقدم حظ الأمة على حظ النفس.
أنتم جنود العلم، ولكلمة =جندي+ معنى يبعث الروعة، ويوحي بالاحترام، ويجلب الشرف، ويُغلي القيمة؛ لأنه في غاية معناه حارس مجد، وحافظ أمانة، وقيّم أمة؛ لذلك كان من واجبات الجندي الصبر على المكاره واللزبات، والثبات في الشدائد والأزمات، والسمع والطاعة فيما يغمض على الأذهان فهمه من العلل، ويعسر على العقول هضمه من الحكم؛ فإذا استرسل الجندي في الجزع والشكوى، أو خانه الصبر فلاذ بالضجر أخطأ النصر، وضاع الثغر.
وإنما أنتم حراس دروب، ومُرابِطَةُ ثغورٍ؛ فاصبروا واثبتوا، وقد كفيناكم سداد الرأي؛ فهاتوا سداد الإرادة، وسداد العمل.
وأنتم ممثلو جمعية العلماء في ناحية من أهم أعمالها، وهي التربية والتعليم، فكل واحد منكم صورة مصغرة من الجمعية في نظر الأمة، وجمعية العلماء هي رمز الدين الصحيح، وهي حارس الفضيلة الإسلامية، وهي المثال المفسر للحكمة المحمدية بأحسن تفسيراتها، وهي المثل المضروب في مقاومة الباطل والمبطلين، وهي مظهر القدوة الدينية اعتقاداً وعملاً؛ فهي _ لذلك كله _ ملءُ سمع الأمة وبصرها، وهي الأريج المتضوّع بسمعة الجزائر في العالم الإسلامي؛ فكونوا _ في مظهركم ومخبركم _ أمثلة صحيحة منها، واعلموا أن كل زلة منكم _وإن صغرت_ محسوبةٌ على جمعية العلماء، منسوبةٌ إليها.
وفي وطنكم موجة من الإلحاد، جاءت في ركاب الثقافة الغربية، ومكَّن لها القصد الصحيح من غايات الاستعمار، ومهد لها في نفوس هذا الجيل جهله بحقائق الإسلام، وضعف صلته بالله.(1/38)
وإنّ تساهلكم في إقامة شعائر الدين، أو استخفافكم بأحكامه معين على تفشي الإلحاد في الجيل الجديد الذي تقومون على تربيته؛ فاحذروا الظهور بمظهر المستخف بالدين، ولو في فلتات اللسان؛ فإن لكل فلتة، ولكل كلمة تصدر منكم أثراً في نفوس تلاميذكم؛ لأنكم محل القدوة عندهم، ولأن زمنهم يتبرع بالباقي، فإذا وجد العون منكم كان أجود بالشر من الريح المرسلة.
وفي زمنكم عارض من انحلال الأخلاق؛ بعض أسبابه في الواجدين الاسترسالُ في الشهوات، وبعض أسبابه في المعدمين التشوّفُ إليها، وأكبر أسبابه في الجميع الاستعمار وأساليبه في علاج المرض بالموت، وغسل النجيع بالرجيع؛ فعالجوا هذا الداء قبل حلوله في نفوس الصغار بتقوية العزائم والإرادات فيهم، وبتعويدهم الصوم عن الشهوات، وبتحبيب العمل إليهم، حتى إذا انتهوا إلى الحياة العملية اقتحموا ميادينها بنفوس غير نفوسنا، وهمم غير هممنا، وعزائم غير عزائمنا، وإرادات غير إراداتنا، وقدرة على كبح الغرائز الشهوانية غير قدرتنا.
أنتم حراس هذا الجيل الجديد، والمؤتمنون عليه، والقوَّامون على بنائه، وأنتم بناة عقوله ونفوسه؛ فابنوا عقوله على أساس من الحقيقة، وابنوا نفوسه على صخرة من الفضائل الإنسانية، وأشربوه عِرْفانَ قيمتها؛ فإن من لم يعرف قيمة الثمين أضاعه، وقد غُبِنَتْ هذه القيم في عصركم فكان ما ترون من فوضى واختلاط.
ربوهم على ما ينفعهم، وينفع الوطن بهم؛ فهم أمانة الوطن عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم.
ربوهم على التحاب في الخير، والتآخي في الحق، والتعاون على الإحسان، والصبر إلا على الضيم، والإقدام إلا على الشر، والإيثار إلا بالشرف، والتسامح إلا بالكرامة.
ربوهم على استخدام المواهب الفطرية من عقل وفكر وذهن، وعلى صدق التصور، وصحة الإدراك، ودقة الملاحظة، والوقوف عند حدود الواقع.(1/39)
هناك حدود مشتركة بين الضار والنافع من أعمالكم؛ فتبينوها ثم اعملوا على قدرها، ولا تجاوزوا حدَّاً إلى حد؛ فتضروا من حيث قصدتم إلى النفع؛ فمدح المجتهد من تلامذتكم مُذْكٍ للنشاط، كما هو مدعاة إلى الغرور، والفصل بينهما رهينُ لفظةِ مدحٍ مقدرة أو مبالغ فيها منكم؛ ولأن تخمدوا نشاطاً خيرٌ من أن تشعلوا غروراً في نفس التلميذ؛ إن النشاط قد يعاود، ولكن الغرور لا يزايل، وإن الغرور لأعضل داء في عصركم، وإن صنفكم لأكثر الأصناف قابلية لهذا الداء، لما فيه من إيهام بالكمال في موضع النقص، وتمويه للتخلف بالتقدم، وتغطية للسيِّئ بالحسن.
وهذه مَحسَّات الغرور في نفوس المغرورين، والغرائز ضارية، والتجارب فضّاحة، والصراع بينهما كان ولا زال ولا يزول؛ فاحذروا الزلة في هذا المزلق، وحذّروا تلامذتكم منها بالقول والعمل.
ربوهم على بناء الأمور على أسبابها، والنتائج على مقدماتها علماً وعملاً، واعلموا أن العلم يبدأ مرحلته الأولى من هذه البسائط التي تقع عليها حواسكم في الحياة كل لحظة؛ فتحتقرونها، ولا تلقون لها بالاً مع أن مجموعها هو العلم إذا وجد ذهناً مُحَلِّلاً، وهو الحياة إذا وجدت عقلاً مفصِّلاً.
بيِّنوا لهم الحقائق، واقرنوا الأشباه بالأشباه، واجمعوا النظائر إلى النظائر، وبيِّنوا لهم العلل والأسباب، حتى تنبت في نفوسهم من الصغر ملكة التعليل؛ فإن الغفلة عن الأسباب هي إحدى المهلكات لأمتكم، وهي التي جرّت لها هذه الحيرة المستولية على شواعرها، وهذا التردد الضارب على عزائمها، وهذا الالتباس بين المتضادات في نظرها.
امزجوا لهم العلم بالحياة، والحياة بالعلم يأتِ التركيبُ بعجيبة، ولا تعمروا أوقاتهم كلها بالقواعد؛ فإن العكوف على القواعد هو الذي صير علماءنا مثل =القواعد+، وإنما القواعد أساس، وإذا أنفقت الأعمار في القواعد فمتى يتمّ البناء؟(1/40)
ربوهم على أن يعيشوا بالروح في ذلك الجو المشرق بالإسلام وآدابه وتاريخه ورجاله، ذلك الجو الذي يستوي ماضيه ومستقبله في أنهما طرفا حقٍّ لا يشوبه الباطل، وحاشيتا جديدٍ لا يبليه الزمن، وعلى أن يعيشوا بالبدن في هذا الزمن الذي يدين بالقوة، ويُدِلّ بالبأس، وعلى أن يعيشوا بالروح في ذلك الزمن المشرق العامر بالحق والخير والفضيلة، وعلى أن يلبسوا لبوسَ عصرهم الذي يبني الحياة على قاعدتين: =إن لم تكن آكلاً كنت مأكولاً+! و=كن قويًّا تحترم+.
ثالثاً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
9_ السمو الخلقي في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
10_ العزة والتواضع: للعلامة محمد الخضر حسين
11_ الأمانة: للشيخ علي الطنطاوي
12_ الأخلاق: للعلامة محمد الخضر حسين
13_ الانتحار: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
14_ نداء مصدور: للأستاذ محمود محمود
15_ الحسد: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
16_ جيل يؤمن بالأخلاق: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
السمو الخلقي في الإسلام(1) للشيخ محمد الخضر حسين
جاء الإسلام ليحرز به الناس في الدنيا مدنية فاضلة، ويغنموا به في الآخرة سعادة خالصة، وكان من مقتضيات هذا المقصد الأسمى أن تشتمل تعاليمه على نظمٍ لصلة المخلوقين بالخالق _ جلَّ شأنه _ وهي أحكام العبادات، ونظمٍ لصلة الإنسان بأخيه الإنسان وهي أحكام المعاملات، ونريد من المعاملات ما يشمل القضاء وتدبير السياسة.
وحيث كانت العبادات والمعاملات لا تجري على وجه صحيح منتظم إلا أن تصدر عن آداب نفسية نبيلة راسخة _ كان من حكمة الدعوة أن تعنى بتهذيب الأخلاق، ولا تكتفي بتقرير أحكام الأفعال التي هي مناط التكليف.
وبهذا أخذ النظر في الأخلاق والآداب النفسية من علوم الشريعة مكاناً واسعاً.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزءان السادس والثامن من المجلد السابع عشر، وانظر محاضرات إسلامية ص168_ 176.(1/41)
وإذا نظرنا إلى الأخلاق التي تساعد على القيام بالواجبات العملية، وجدناها ترجع إلى الحلم، والسخاء، والشجاعة، والحياء، وصدق اللهجة، والصبر، وعزة النفس، والتواضع، وكبر الهمة، والوفاء بالعهد، والزهد، والعدل، والأمانة.
وليس من غرضنا الليلة أن نتحدث عن هذه الخصال مثلما يتحدث عنها علماء النفس بتفصيل، إذ يتعرضون للبحث عن حقائقها، ويقسمونها إلى أصول وفروع، ويذكرون ما بين فروعها من مناسبات أو فروق، ويدلون على الآثار المترتبة عليها، ويصلون حديثهم بالبحث عن كيفية تربية النشء عليها _ كان هذا التفصيل يستدعي تخصيص كل خصلة منها بمحاضرة على أقل تقدير.
والذي أستطيعه في هذا المقام إنما هو إلقاء نظرة على هذه الآداب، أقصر فيها القول على ناحية ارتباط الهداية الإسلامية بها، وتنبيهها على سمو مكانتها، وحثها الناسَّ على التجمل بِحِلْيتها؛ حتى يزداد شبابنا علماً بأن الدين الحنيف قد أتى إلى الأخلاق وهي الأساس الذي تقوم عليه سعادة الأمم؛ فهذبها وأرشد إليها على طريقة أقرب إلى العقول، وأدعى إلى العمل عليها من الطرق التي سلكها الفلاسفة.
أما الحلم الذي هو ضبط النفس عن أن يهيجها الغضب بسهولة وسرعة _ فقد ذكره القرآن المجيد في صفات المؤمنين بحق فقال _تعالى_: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] فإن عقب هذه الطمأنينة ترك المؤاخذة على الإساءة، فذلك العفو المشار إليه بقوله _تعالى_: [وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]آل عمران: 134.
فطمأنينة النفس عند الإساءة بحيث لا يحركها الغضب بسهولة كمال في نفسها، فإن انضم إليها ارتياح النفس لعدم المؤاخذة على الذنب كان الكمال مضاعفاً.
ووجه ارتباط خلق العفو بما دعا إليه الإسلام، هو أن من مقاصد الدعوة تكوين أمة مؤتلفة القلوب، متعاونة على البر والتقوى.
ولا يمكن تحقيق هذا القصد إلا أن تنتفي أسباب التجافي والتقاطع.(1/42)
وحيث كانت الجماعات الكبيرة لا تخلو من أن يتعرض طائفة لطائفة بمكروه من قول أو فعل _ كان من الآداب التي عنيت بها دعوة الإسلام الإغضاء عن أمثال هذه الهفوات، وشمولها بالعفو.
وللحلم بمعنى عدم إظهار الغضب أثر عظيم في نجاح السياسة:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حَرِّه يتأوه
وقد عد الحلم بمعنى الإغضاء عن بعض الزلات في مقتضيات السياسة الرشيدة، قال في وصف سياسة أميره:
أناةٌ فإن لم تُغْنِ عَقَّب بعدها ... وعيداً فإن لم يُغْنِ أغنت عزائمه
وفي عهد ذوي الحلم والأناة من رجال الدولة يجد المصلحون مجال الدعوة أمامهم فسيحاً؛ فيعملون في طمأنينة وثقة من إدراك أسمى المقاصد وأحمد العواقب.
وأما السخاء: فإن من مقاصد الشريعة سد حاجات الفقراء وإعانتهم على القيام بتكاليف الحياة، ومن أجل هذا فَرَضتْ الزكاة، ونَدَبَتْ إلى الصدقات، وقررت بعد هذا على الرجل حقوقاً مالية كالإنفاق على الزوجات والأبناء وبعض ذوي القربى؛ فلا جرم أن يعنى الإسلام بتطهير النفوس من رذيلة الشح وتَحْلِيَتِها بفضيلة السخاء، حتى إذا ورد الأمر بالإنفاق في وجه من الوجوه سارعت إلى امتثاله عن طيب خاطر، وجاءته كأنما تَنْحَطُّ من صَبَب.
ولا أكون مخطئاً إذا قلت إنّ من أسباب العاقبة السيئة التي سار إليها كثير من الشعوب الإسلامية انقباضَ الأيدي عن البذل في سبيل الله.
لم يكتف الشرع الحكيم من المسلم أن ينفق من فضل ماله، بل مدحه بأعلى مراتب السخاء وهو أن يؤثر غيره بالنوال وهو في حاجة إليه فقال _تعالى_: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ]الحشر: 9.
وأما الشجاعة فنوعان: شجاعة حربية: وهي بذل النفس في سبيل الدين أو العرض أو المال.
وشجاعة أدبية: وهو إقدام الرجل على إسماع ذي سلطان كلمة الحق من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، من غير مبالاة بما يلحقه من أذى السلطان، وكلتا الشجاعتين شملها الإسلام بعناية كبيرة.(1/43)
أما الشجاعة الحربية: فقد أمر الرجل الواحد من المسلمين بأن يقف في مشاهد القتال لرجلين اثنين من المخالفين المهاجمين، وجعل الفرار من الزحف كبيرة موجبة لغضب الله _تعالى_ وإنما جزاؤها يوم القيامة الحرق بالنار.
وأما الشجاعة الأدبية: فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ولا يختص هذا الواجب بعلماء الدين الرسميين، ولا بالعلماء المتميزين بزي خاص، بل هو فريضة في عنق كل مسلم تُرِكَ أمامه معروفٌ، وهو يعلم أنه معروف، أو فُعِل أمامه منكرٌ وهو يعلم أنه منكر.
وقد تكلم الفقهاء المحققون عن هذه الفريضة بما يشبه(1) غليل الباحث، وأذكر هنا أن الإمام عرفة أفتى بأن خوف العزل من الوظيفة ليس بعذر يجيز ترك النهي عن المنكرات.
فكل مسلم مطالب بأن يكون جامعاً للفضيلتين: الشجاعة الحربية، والشجاعة الأدبية ما استطاع.
ومن عرف أن الأمة لا تقع تحت سلطان أجنبي غاشم إلا بفقدها للشجاعة الحربية، وأن الفسوق والبغي لا ينتشران بين بيوتها إلا بفقدها للشجاعة الأدبية_ أدرك سر عناية الشرع الحكيم بهاتين الفضيلتين.
وأما الحياء: وهو انفعال في النفس يمنع من ارتكاب ما لا يليق فقد كانت عناية الدين به شديدة، حتى جعله _ عليه الصلاة والسلام_ شعار الإسلام، فقال كما ورد في الصحيح: =لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء+.
وفَضْلُه في أن يكون معتدلاً واعتداله في أن يمنع من ارتكاب ما لا يليق، ولا يتجاوزه إلى الإحجام عما يكون بعيداً.
وقد نبه _ عليه الصلاة والسلام _ إلى أن النفس التي تفقد هذا الخلق لا يُؤَمَّل منها أن تكون على رشد أو عفاف فقال: =إذا لم تستح فاصنع ما شئت+.
__________
(1) لعلها: يشفي(م).(1/44)
ولعلكم شعرتم كما شعرتُ أن كلمة الحرية تجري على ألسنة أشخاص لايدركون كنهها ولا يضعونها موضعها _ قد أنقصت جانباً من الحياء في نفوس بعض أبنائنا، فنجد في شبابنا من لا يبالي أن يقول أو يفعل بحضرة والديه أو المتقدمين في السن من أقاربه أو غيرهم ما لا يقبله الذوق الأدبي؛ بزعم أنه من مقتضيات الحرية في هذا العصر!.
والواقع أن الحياء حلية يزداد بها الشيخ وقاراً، والشاب كياسة، وإني لممن يرى للأب أن يفسح المجال لابنه في أن يتكلم بحضرته في شؤون دنيوية، أو مسائل علمية؛ حتى يتمرن تحت إشرافه على إبدائه الآراء الصائبة ومناقشتها، وله متى رآه قد حاد عن أدب الحياء بكلمة أو حركة أن ينبهه برفق، ويعظه بحكمة.
وأما صدق اللهجة: فله أثر كبير في شرف النفس، وانتظام الشؤون المدنية؛ فإن من جُرِّب عليه الكذب يكون محتقراً بين الناس، مزدرىً به في مجالسهم، ولا يمكنه أن يدرك بينهم ولو أدنى مرتبة من مراتب السيادة.
ثم إن ظهور هذا الخلق عليه يفسد عليه أمر المعاملات، ويجعل روايته وشهاداته مطروحة إلى وراء؛ فلا جَرَمَ أن يُعنى الدينُ الذي جاء لإصلاح حال الأفراد والجماعات بفضيلة الصدق، ويُحَرِّم الكذب تحريماً لا هوادة فيه، حتى أن النبي " قد جعل الكذب في الدرك الأسفل من الرذائل، ونبه على أنه لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في نفس واحدة.
روى مالك في كتاب الموطأ، أنه قيل لرسول الله ": =أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا+.
وأما الصبر: فيراد به طمأنينة النفس، والتزامها السكينة، عند حصول مكروه من نحو ضياع مال، أو فقد عزيز، ويراد منه الثبات في طلب الأمر المحمود، واحتمال المشاق التي تعترض في سبيله، ومنه الصبر على الطاعات، ويراد منه كف النفس عن اتباع الشهوات وارتكاب المحظورات، ومنه الصبر عن المعصية.(1/45)
وكل من هذه المعاني الثلاثة مبني على فضل وافر، وعقل رصين؛ إذ لا يصبر عند مفاجأة المصيبة، أو عند السعي إلى غاية حميدة، أو عند طغيان الشهوات _ إلاَّ الراسخون في العلم بمصادر الأمور وعواقبها، ومن هنا كان الصبر بمعانيه الثلاثة في مقدمة الأخلاق التي شملها الإسلام برعايته.
ومن مزايا الصبر أن يساعد الإنسان على الاقتصاد في معيشته، ويحميه من أن يقع في غم الدَّين ومذلته.
وأما العزة: وهي أن يعرف الإنسان قدر نفسه ولا يرضى لها أن تمس بإهانة_ فإن من مقاصد الشريعة أن تتمتع الأمة بحياة طيبة، ولا حياة طيبة مع احتمال الذلة؛ ومن مقاصدها أنْ تكون الأمة دولة قوية السلطان، مهيبة الجانب.
وخلق العزة هو الذي يمنعها من أنْ تخفض جناحها لمن يريد أن يسومها ضيماً، وخلق العزة يدعو الإنسان إلى تجنب كل ما قد يجره إلى مهانة؛ فقد ينبه الموظف لأن يقوم بالمهمة التي تناط به؛ كراهة أن يسمع عتاباً جافياً من رئيسه المسؤول عنه، وخلق العزة يتجه بالإنسان القادر على العمل إلى أن يعمل ويصرفه عن التشوف إلى ما في أيدي الناس.
وأما التواضع: فهو أن يكون الإنسان عارفاً بقيمة نفسه في فضل أو علم، ويسير مع الناس سيرة نقية من الكبر والإعجاب بالنفس.
وبمثل هذا تتأكد روابط الألفة بينه وبين الطبقات الكثيرة من الناس.
والقرآن الكريم يسمي التواضع بخفض الجناح، قال _تعالى_: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]الشعراء: 215.
وقال في التواضع للوالدين: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ].
وإنما يتواضع الإنسان لمن يَقْدُره قَدْرَه، ويَعُدُّ خفضَ جناحه له مِنْ سماحة نفسه:
تواضع لمن إن تواضعت له ... يرى ذاك للفضل لا لِلْبله
وجانب صداقةَ مَنْ لا يزالُ ... على الأصدقاء يرى الفضل له(1/46)
وأشار أحد الشعراء إلى أن في الناس من يخطئ في فهم بعض ما يتحلى به أهل الفضل من التواضع كما يخطؤون في فهم بعض ما يتجملون به من العزة فقال:
وفي الناس من عدَّ التواضع ذلة ... وعدَّ اعتزاز النفس من جهله كبرا
وأما كبر الهمة: فهو الخلق الذي يطمح به الإنسان إلى أغراض بعيدة المرمى، فيكون اتجاهه دائماً إلى أشرف الأعمال وأرفع المنازل، ولا يرضى صاحبه بأدنى الأعمال أو المراتب وهو قادر على ما فوقها:
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
والإسلام يحث على هذا الخلق النبيل؛ فإن الفتوحاتِ العظيمةَ والمشروعاتِ الجليلةَ والعبقريةَ والعلومَ إنما هي آثار الهمم الكبيرة؛ فابن حزم عندما ترك الوزارة حتى ينقطع للازدياد من العلم إنما فعل ما فعل منساقاً بكبر همته.
وأما الوفاء بالعهد: فمن أعز الأخلاق التي رفع الإسلام شأنها، وشدد الوعيد على الإخلال بها، فأوجبه على الأفراد لتهذيب نفوسهم وإصلاح معاملاتهم، وأوجبه على رجال الدولة؛ لتثق الدول بمعاهداتهم، ويستقيم أمر سياستهم، قال _ تعالى _: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ]النحل: 91.
وقال _ تعالى _: [فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] التوبة: 4.
وقد نهى الدين المسلم أن يقول قولاً ثم لا يعقبه بالنفاذ، وعدَّ هذا من موجبات المقت عند الله، قال _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ] الحشر: 2.
ويدخل في الوفاء بالعهد الوفاء بالوعد مع القدرة على الوفاء، وهذه الآية الكريمة شاهدة على وجوب الوفاء بالوعد؛ إذ أصبح الموعود به من الخير حقاً من حقوق الموعود، وإخلافه كأنه اعتداء عليه.(1/47)
ويتصل بالوفاء بالعهد أدب آخر يسمى حسن العهد، وهو أن يرعى الإنسان حقوق الصداقة والعشرة فيحافظ عليها، وإن حصلت بينه وبين صديقه فرقة أو تغيرت حاله من يسر إلى عسر.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في الموضع الخشن
وروي في الصحيح أن النبي " دخلت عليه امرأة فهشَّ إليها وأحسن السؤال عنها، ولما خرجت، قال: =إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان+.
وأما الزهد: فمعدود في آداب النفس التي استحبتها الشريعة، وأثنت على المتجملين بها، وهو استصغار شأن المال والملاذ والزينة، وعدم تعلق القلب بها تعلقاً يتساهل معه الإنسان في أن يصل إليها ولو من طريق غير مشروعة.
وهو بهذا المعنى يساعد على خلق العزة، وخلق السخاء، وخلق العفاف.
وقد أساء بعض الناس فهم الزهد الذي هو أدب رفيع، ووصفوا به الشخص الذي يترك العمل لكسب الرزق وهو قادر عليه، ويرضى أن يكون في زمرة الفقراء الذين يتناولون أقواتهم من أيدي الأغنياء.
وأما العدل: فهو خلق يدعو الإنسان إلى أن يعطي كل ذي حق حقه، وأكثر ما يظهر فضله في القضاء بين المتنازعين، وهو خلق لا يُحْكِمُه إلا من جمع فضائل شتى؛ من نحو الشجاعة الأدبية، وعزة النفس، وقلة الحرص على المنافع المادية.
وقد ورد الأمر بالعدل في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وعرض النبي " أصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، وذكر في صدرهم الإمام العادل.(1/48)